المبحث الرابع مكنونات سورة «الكهف» «1»
1- أَصْحابَ الْكَهْفِ [الآية 9] .
قال أبو جعفر: كان أصحاب الكهف صيارفة.
قال مجاهد: كانوا أبناء عظماء أهل مدينتهم.
وقال ابن إسحاق: الكهف في جبل يقال له: بنجلوس.
وقال مجاهد: بين جبلين.
أخرج ذلك كلّه ابن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن الرّقيم واد [بين عسفان وأيلة وهو] «2» قريب من أيلة.
وأخرج عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف: «بنجلوس» «3» واسم الكهف: «حرم» «4» .
2- وَكَلْبُهُمْ [الآية 18] .
قال الحسن: اسمه قطمير.
وقال مجاهد: قطمورا.
وقال شعيب الجبائي: حمران «5» .
وقال كثير النّوّاء «6» : كان أصفر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . زيادة من «تفسير الطبري» 15: 131. وعسفان: قرية بين الجحفة ومكّة. انظر «معجم البلدان» 4: 122.
(3) . كذا في «تفسير الطبري» 15: 132.
(4) . كذا في الأصول، وفي «تفسير الطبري» و «تفسير ابن كثير» 3: 73: «حيزم» . وانظر مادة «الرقيم» في «معجم البلدان» .
(5) . وهو خطأ، ومخالف للطبري 15: 132. [.....]
(6) . هو كثير بن إسماعيل، أو ابن نافع، أبو إسماعيل التميمي، الكوفي ضعّفه حفّاظ الحديث، كأبي حاتم والنسائي. و «النّوّاء» نسبة الى بيع النّوى.(5/137)
وقال رجل يقال له عبيد: أحمر.
أخرج ذلك كلّه ابن أبي حاتم، إلّا قول شعيب فابن جرير.
وفي «العجائب» للكرماني: قيل: إن الرّقيم: اسم كلبهم.
قلت: أخرجه ابن أبي حاتم عن أنس.
3- فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الآية 19] .
هو تمليخا. قاله ابن إسحاق.
4- إِلَى الْمَدِينَةِ [الآية 19] .
قال مقاتل «1» : هي منبج. أخرجه ابن جرير.
5- سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الآية 22] .
قاله اليهود.
6- وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ [الآية 22] . قاله النّصارى، قاله السّدّيّ وغيره.
7- ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.
قال ابن عبّاس: أنا من أولئك القليل وهم سبعة «2» .
وفي رواية عنه: وهم ثمانية.
أخرجهما ابن أبي حاتم. وأخرج عن ابن مسعود أيضا قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وسمّاهم ابن إسحاق:
تمليخا، ومكسميلينا، ومحسملينا ومرطونس، وكسوطونس، وبيورس، وبكرنوس، ونطسوس، وقالوس «3» .
فائدة:
أكثر العلماء على أنّ أصحاب الكهف كانوا بعد عيسى (ع) . وذهب ابن قتيبة «4» إلى أنّهم كانوا قبله، وأنه أخبر قومه خبرهم، وأن يقظتهم بعد رفعه زمن الفترة. وحكى ابن أبي
__________
(1) . لم نجد هذا الأثر في تفسير ابن جرير.
(2) . وأخرجه الطبراني في «الأوسط» وفيه يحيى بن أبي روق، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7:
53.
(3) . هناك بعض الاختلاف في النسخ وابن كثير 3: 78 أهملنا ضبطها لقول ابن كثير: «وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم، نظر في صحته، والله أعلم. فإن غالب ذلك متلقّى من أهل الكتاب. وقال الله تعالى فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً [الآية 22] أي سهلا هينا، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة» .
(4) . ابن قتيبة (213- 276) هـ: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمّة الأدب والدين، ومن المصنّفين المكثرين، سمّوه فقيه الأدباء وأديب الفقهاء، ولد ببغداد وسكن الكوفة، صنّف: «تأويل مختلف الحديث» و «أدب الكاتب» و «المعارف» و «عيون الأخبار» و «غريب الحديث» ، وغيرها كثير.(5/138)
خيثمة «1» أنهم يبعثون «2» في أيام عيسى (ع) إذا نزل، ويحجّون البيت.
8- مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الآية 28] .
تقدّم بيانهم في سورة الأنعام.
9- مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ [الآية 28] .
قال خبّاب «3» : يعني عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس «4» .
وقال ابن بريدة «5» : هو عيينة. أخرج ذلك ابن أبي حاتم. وأخرج عن الرّبيع أنه أميّة بن خلف. وكذا أخرجه ابن مردويه «6» عن ابن عبّاس. 10- وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية 32] .
قال الكرماني في «العجائب» :
قيل: كانا من أهل مكة، أحدهما مؤمن وهو: أبو سلمة، زوج أم سلمة.
وقيل: كانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن اسمه: تمليخا.
وقيل: يهوّذا والاخر كافر اسمه:
فطروس وهما المذكوران في سورة الصافات «7» .
11- وَذُرِّيَّتَهُ [الآية 50] .
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ولد إبليس خمسة: ثبر، والأعور، وزلنبور، ومسوط «8» ،
__________
(1) . ابن أبي خيثمة (185- 279) هـ: أحمد بن زهير، أبو بكر، مؤرخ ومن حفاظ الحديث، كان ثقة، راوية للأدب. صنّف «التاريخ الكبير» وهو كتاب مخطوط، يكثر المصنفون من النقل عنه. قال الدارقطني: لا أعرف أغزر فوائد من تاريخه.
(2) . عند قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] .
(3) . يعني خبّاب بن الأرت الصحابي، رضي الله عنه.
(4) . أثر خبّاب هذا، أخرجه الحافظ بن حجر في «المطالب العالية» برقم: (3618) وعزاه لأبي يعلى وابن أبي شيبة، وأفاد الحافظ البوصيري، كما في هامش «المطالب العالية» ، أن سند أبي يعلى صحيح، وعزاه أيضا الى ابن ماجة مختصرا.
أقول: وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» : 224 عن سلمان الفارسي.
(5) . كما في «الدر المنثور» 4: 220.
(6) . والواحدي في «أسباب النزول» : 225.
(7) . في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) [الصافات] .
(8) . كذا في «الطبري» 15: 171 و «الدر المنثور» 4: 227 و «تاج العروس» مادة (سوط) .(5/139)
وداسم «1» . فمسوط: صاحب الصّخب. والأعور وداسم لا أدري ما يعملان. وثبر: صاحب المصائب.
وزلنبور: الذي يفرّق بين الناس، ويبصّر الرجل عيوب أهله «2» .
وأخرج ابن جرير «3» عنه قال:
زلنبور: صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق [ما بين السماء والأرض] «4» وثبر: صاحب المصائب.
والأعور: صاحب الزنا. ومسوط:
صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلا.
وداسم: الذي إذا دخل الرجل بيته، ولم يسلم، ولم يذكر الله بصّره من المتاع ما لم يرفع. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه.
12- وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الآية 60] .
قال ابن عبّاس وغيره: هو يوشع بن نون. أخرجه ابن أبي حاتم «5» . وفي «العجائب» للكرماني: كان أخا ليوشع.
13- مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الآية 60] .
قال قتادة: هما بحرا المشرق والمغرب بحرا فارس والروم. وكذا قال الرّبيع.
وقال السّدّي: هما الكرّ والرّس «6» حيث يصبّان في البحر.
وقال محمد بن كعب: مجمع البحرين بطنجة «7» .
وقال أبيّ بن كعب: بإفريقية. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
14- فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا [الآية 65] .
__________
(1) . كما ورد في «تفسير الطبري» و «تاج العروس» . [.....]
(2) . كذا في «تاج العروس» .
(3) . 15: 171.
(4) . زيادة من «الطبري» .
(5) . رواية ابن عبّاس هذه، جاءت مرفوعة في «صحيح البخاري» برقم (4726) في التفسير.
وجاء في «الإتقان» 2: 147: «وقيل: أخوه يثربي» .
(6) . كذا في «فتح الباري» 8: 410، و «معجم البلدان» 3: 44، وفيه أنهما يصبّان في بحر جرجان.
(7) . «طنجة» مدينة معروفة في المغرب تطلّ على البحر.(5/140)
هو الخضر، كما في «الصحيح» «1» وغيره.
واسمه: بليا. وقيل: اليسع. وقيل:
إلياس. حكاه الكرماني في «عجائبه» .
15- لَقِيا غُلاماً [الآية 74] .
قال شعيب الجبائي: اسمه:
جيسورا «2» أخرجه ابن أبي حاتم.
16- أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ [الآية 77] .
قال ابن سيرين: هي الأبلّة «3» .
وقال السّدّيّ: باجروان «4» . أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج من طريق قتادة عن ابن عبّاس، قال: هي أبرقة.
قال: وحدّثني رجل أنّها: أنطاكية.
وقيل: هي قرطبة. حكاه ابن عسكر. 17- وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الآية 79] .
اسمه هدد بن بدد. كما في «البخاري» «5» .
وقيل: الجلندا «6» . حكاه ابن عسكر.
18- أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ [الآية 80] .
اسم الأب: كازبرا، والأم:
سهوي «7» .
19- فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ [الآية 81] .
قال ابن عبّاس: أبدلا جارية ولدت نبيّا. أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ، قال: ولدت جارية، ولدت نبيّا وهو الذي كان بعد موسى، الذي قالت له
__________
(1) . البخاري برقم (4725) في التفسير، ومسلم في الفضائل (162) ، والترمذي (3148) في التفسير، والحميدي، في «مسنده» برقم (371) ، والخطيب البغدادي في «الرحلة في طلب الحديث» برقم (29) .
(2) . في «تفسير ابن كثير» 3: 98: «حيثور» ، وفي «الإتقان» 2: 147: «جيسون» ، بالجيم وقيل بالحاء» .
(3) . الأبلّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج، الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة. قال الأصمعي: جنّات الدنيا ثلاث: غوطة دمشق، ونهر بلخ، ونهر الأبلّة. «معجم البلدان» .
(4) . باجزوان: مدينة في نواحي الأبواب قرب شروان. «معجم البلدان» 1: 313.
(5) . برقم (4726) في التفسير.
(6) . ما ذكره المصنّف أعلاه منسوبا الى ابن عسكر، أسنده الحافظ في «فتح الباري» 8: 420 الى «تفسير مقاتل» وزاد: «وكان بجزيرة الأندلس» قال: «وقيل: منولة بن الجلندي بن سعيد الأزدي» .
(7) . في «فتح الباري» 7: 421: «وفي المبتدأ» لوهب بن منبّه: «كان اسم أبيه: ملامس، واسم أمه: رحما وقيل:
اسم أبيه: كادري، واسم أمه: سهوي» .(5/141)
بنو إسرائيل: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 246] وكان اسمه: شمعون، وكان اسمها: حنّة.
20- لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ [الآية 82] .
هما صريم، وأصرم، ابنا كاشح وأمّهما دنيا.
21- وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً [الآية 86] كافرين. 22- وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ [الآية 90] .
قال قتادة: يقال إنهم الزنج. أخرجه عبد الرزاق.
23- بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الآية 96] .
قال الضّحّاك: هما من قبل أرمينية وأذربيجان «1» . أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
__________
(1) . يجوز فيها فتح الراء، وسكون الذال وفتح الذال وسكون الراء. كما في «معجم البلدان» 1: 128. [.....]
(2) . والطبري: 16: 21.(5/142)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الكهف» «1»
1- وقال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) .
الباخع: القاتل المهلك، يقال: بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا، قال ذو الرمّة:
ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر أقول: والبخع من الكلم القديم الذي افتقدناه منذ عصور.
2- وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) .
قالوا: الرّقيم اسم كلبهم، قال أمية بن أبي الصّلت:
وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد وقيل: هو لوح من رصاص، رقمت فيه أسماؤهم، جعل في باب الكهف.
وقيل: إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل.
وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل: الجبل، وقيل: مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين.
أقول: الذي أراه أن «الرّقيم» هو «المرقوم» ، ولعله كتابهم أو كتابتهم، وما سطروه ونقشوه.
وما زال «الرّقم» في العربية يشير إلى الكتابة والنقش والإشارة.
3- وقال تعالى: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 14] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(5/143)
وقوله: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ، أي:
قوّيناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدّين إلى بعض الغيران «1» ، وجسّرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام.
أقول: والربط على القلوب، كناية جميلة عن تقويتها بالصبر والجلد على الصعاب.
4- وقال تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الآية 17] .
قوله تعالى: تَتَزاوَرُ أي: تتمايل، والأصل تتزاور.
وقرئ: تزورّ وتزوارّ بوزن تحمر وتحمارّ، وكلّها من الزّور وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه.
وهذا يدلنا على أن «الزيارة» من الزّور، وهو الميل الحسّي الذي تحوّل إلى زيارة، وذهاب فيهما ميل جسدي، وآخر معنويّ عاطفيّ.
5- وقال تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الآية 18] . انظر: [آل عمران: 9] . 6- وقال تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ [الآية 19] .
«الورق» : الفضّة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقرئ بسكون الراء والواو مكسورة أو مفتوحة، وكذلك الرّقة، وقالوا: إنها الدراهم.
أقول: وهذا من الكلم القديم الذي بقي في النصوص القديمة.
7- وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الآية 21] .
أي: وكذلك أعثرنا عليهم (أي:
أهل الكهف) أهل المدينة.
و «أعثر» في الآية فعل متعد، حذف مفعوله، تقديره: أهل المدينة.
وقد جاء هذا الفعل في الآية: 107 من المائدة، ببناء الثلاثي وهو قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما.
أقول: وعلى هذا، يكون استعمال المعاصرين صحيحا حين يقولون:
عثرنا على هذه المسألة، مثلا.
__________
(1) . الغيران، جمع الغار.(5/144)
وجاء في معجمات العربية: وعثر على الأمر: اطّلع عليه.
ولا حجّة لمن ذهب إلى خطأ هذا القول من المعاصرين.
8- وقال تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي [الآية 24] .
أقول: إن الاكتفاء بالحركة القصيرة بعد النون، يهيّئ مناسبة أن يجيء بعدها حركة طويلة في قوله تعالى:
رَبِّي، ولو أنك أطلت في الأولى وقرأت «يهديني» لما حسن الأداء من الناحية الصوتية، ألا ترى إلى قوله سبحانه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ [الآية 17] .
فإن الْمُهْتَدِ جاء بالكسر، والأصل «المهتدي» ، ولكن لمّا حسن الوقف عليه اجتزئ بالكسر، توقّعا للسكون، الذي يتطلبه الوقف.
9- وقال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) .
«الملتحد» بزنة اسم المفعول:
الملتجأ.
أقول: وليس لنا في عربيتنا المعاصرة إلّا الثلاثي، ومنه «اللّحد» . 10- وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) .
وقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، أي: احبسها معهم وثبّتها، قال أبو ذؤيب:
فصبرت عارفة لذلك حسرة ترسو إذا نفس الجبان تطلّع أقول: وهذا من معاني «الصبر» القديمة، التي عفا أثرها بسبب شيوع معنى «الصبر» المعروف، وهو الصبر على المحن والشدائد، وبهذا المعنى أصبح الفعل «صبر» من الأفعال اللازمة، وأصله التعدّي لأن المعنى هو الحبس في الأصل، فكأن «الصابر» على الشدّة من يحبس نفسه، فيحملها على الاحتمال.
قلت: لم يبق من هذا المعنى شيء إلّا ما اصطلح عليه أهل الشمال الإفريقي، الذين أخذوا المضاعف، وأطلقوه على ما يحبس من الفواكه والخضر واللحوم في الصفيح، وهو ما(5/145)
ندعوه في المشرق «المعلّبات» وعندهم يقال: «المصبّرات» .
أقول: وأهل إفريقية في هذه اللفظة، أفصح منا نحن عرب المشرق ذلك أن «المعلّبات» و «التعليب» قد جاء من «العلبة» ، وهي قدح ضخم من جلود الإبل، وقيل: العلبة من خشب، كالقدح الضخم يحلب فيها، وقيل:
إنها كهيئة القصعة من جلد، ولها طوق من خشب.
وهذه «العلبة» القديمة كان لنا في العراق شيء منها، ولا سيّما في بغداد، فهي وعاء من خشب، تضع فيه القرويات اللبن الخاثر، ويأتين به ليباع.
وجاء في الآية أيضا قوله تعالى:
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ.
والمعنى: ولا تتجاوزهم عيناك وتتعدّياهم، أي: لا تتجاوز عيناك الفقراء، وتزوّرا عنهم.
أقول: وهذا استعمال جميل للفعل «عدا يعدو» .
وجاء في الآية نفسها: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) .
والمعنى: كان أمره مجاوزا الحدّ. وهذا من الكلم الجميل الذي لا نعرفه الآن، وإن كنا نستعمل الإفراط والتفريط.
11- وقال تعالى: بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) .
وقال أيضا: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) .
والمعنى: المرتفق هو المتّكأ من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله سبحانه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) ، وإلّا فلا ارتفاق لأهل النار، ولا اتّكاء.
12- وقال تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الآية 33] .
أي: كلّ واحدة من الجنّتين آتت غلّتها، وأخرجت ثمرتها.
أقول: جاء الفعل مختوما بتاء التأنيث آتت، ولم يأت «آتتا» كما وردت في بعض القراآت.
فماذا يقال في هذه المسألة؟ قالوا:
إنّ «كلتا» مفرد، ولذلك حمل الفعل بعدها على اللفظ، ولو حمل على المعنى لقيل: آتتا.
كأن «كلتا» اسم مقصود مفرد، ولذلك فإنّ مراعاة لفظها أكثر وأفصح(5/146)
من مراعاة معناها، مثلها مثل «كلّ» فلفظها مفرد، وهو المحمول عليه أكثر مما يحمل على معناها ومثل هذا «من» و «ما» الموصوليّتان أو الشرطيّتان.
وقوله تعالى: وَلَمْ تَظْلِمْ، أي:
لم تنقص.
وإفادة «الظلم» لمعنى النقص معروف في العربية وهو كقول الشاعر:
أيظلمني مالي كذا ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أي: ينقصني مالي.
أقول: ولشيوع «الظلم» في دلالته المعروفة في عصرنا، أنسيت هذه الدلالة الأخرى التي وردت في الآية.
13- وقال تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 43] .
أقول: كنّا قد أشرنا إلى أن العربية قد تحمل على اللفظ كثيرا، فأشرنا إلى أن كلمة «كلّ» لفظها لفظ المفرد، وكذلك «ركب» ، و «وفد» ، و «قوم» ، و «شجر» ، و «طفل» وغير ذلك كثير.
وقد تحمل على المعنى في الكلمات التي أشرنا إليها، قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات:
11] .
وفي غير هذه الكلمات.
وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نقول:
إنّ هذا أفصح من ذاك.
وقد كنا عرضنا لكلمة «طائفة» ، وكيف وردت في الآيات الكريمة يراعى لفظها مرّة، كما يراعى معناها أخرى.
ومثل «طائفة» كلمة «فئة» ، ولنعرض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة:
قال تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:
249] .
فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [آل عمران: 13] .
وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ [الأنفال: 19] .
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ [القصص: 81] .
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا [آل عمران: 13] .
أقول: ومجيء كلمة «فئة» في جملة هذه الآيات نظير ما ورد في كلمة(5/147)
«طائفة» وغيرها في لغة التنزيل.
14- وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الآية 53] .
قوله تعالى: مُواقِعُوها أي:
مخالطوها واقعون فيها.
أقول: وهذا استعمال للفعل «واقع» يحقّ لنا أن نقف عليه.
15- وقال تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) .
أي: لقد جئت شيئا عظيما، وهو من أمر الأمر إذا عظم، قال داهية دهياء إدّا إمرا.
أقول: ما كان أحوجنا إلى أن تحتفظ عربيّتنا المعاصرة بهذا النوع من الكلم الثلاثي الجميل، وهو قريب منّا، ولا سيما أن مادة «أمر» كثيرة التداول.
16- وقال تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الآية 77] . قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها، أي: طلبا الطعام.
وقوله سبحانه: أَنْ يُضَيِّفُوهُما وقرئ يضيفوهما. ويقال: ضافه إذا كان ضيفا.
وحقيقته: مال إليه، من ضاف السهم عن الغرض، ونظيره: زاره من الازورار.
وأضافه وضيّفه: أنزله وجعله ضيفه.
وفي قوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة.
أقول: كأن القول: يوشك أن ينقضّ. واستعارة الإرادة للمداناة والمشارفة لا نعرفها في العربية المعاصرة، ولكننا نجدها في العامّية الدارجة في العراق، فنقول في المناسبة نفسها في الحديث عن جدار آيل للسقوط: «يريد يسقط» .(5/148)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الكهف» «1»
قال تعالى عِوَجاً (1) قَيِّماً [الآية 2] أي: أنزل على عبده الكتاب قيّما، ولم يجعل له عوجا.
وقال سبحانه ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) بالنصب على الحال، على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) [الآية 2] .
وقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَةً [الآية 5] في معنى: أكبر بها كلمة.
وقال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الآية 50] أي: «عن ردّ أمر ربّه» نحو قول العرب: «أتخم عن الطّعام» أي:
عن مأكله أتخم، ولما ردّ هذا الأمر فسق «2» .
وقال تعالى: مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) أي: شيئا يرتفقون به.
وفي قوله تعالى تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الآية 17] «ذات الشّمال» نصب على الظرف.
وفي قوله تعالى فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الآية 19] فلم يوصل «فلينظر» الى «أيّ» لأنه من الفعل الذي يقع بعده حرف الاستفهام تقول: «انظر أزيد أكرم أم عمرو» .
وقال تعالى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الآية 24] أي: إلّا أن تقول: «إن شاء الله» فأجزأ من ذلك هذا وكذلك إذا طال الكلام أجزأ فيه، وصار شبيها بالإيماء، لأنّ بعضه يدلّ على بعض.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في التهذيب 8: 414 فسق، والصحاح فسق، ونسبه في الجامع 10: 420 الى محمد بن مطرب.(5/149)
وقال سبحانه أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الآية 26] أي: ما أبصره وأسمعه، كما تقول: «أكرم به» أي: ما أكرمه. وذلك أن العرب تقول: «يا أمة الله أكرم بزيد» فهذا معنى ما أكرمه، ولو كان يأمرها أن تفعل، لقال «أكرمي زيدا» .
وقال تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] أي: ما يعلمهم من الناس إلّا قليل. والقليل يعلمونهم.
وقال سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 29] أي: قل هو الحقّ.
وقوله من الآية نفسها: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) أي: وساءت الدار مرتفقا.
وقال تعالى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية 32] ثم قال في الآية نفسها:
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ [الآية 34] وإنّما ذكر الرّجلين في المعنى وكان لأحدهما ثمر، فأجزأ ذلك من هذا «1» .
وقال تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها [الآية 33] بجعل الفعل واحدا، على اللفظ، لا على المعنى.
وقال تعالى وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الآية 59] يعني:
أهلها كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أجري اللفظ على القوم وأجري اللفظ في «القرية» عليها، الى قوله تعالى الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف:
82] وقال سبحانه أَهْلَكْناهُمْ [الآية 59] ولم يقل «أهلكناها» حمله على القوم، كما قال «وجاءت تميم» وجعل الفعل ل «بني تميم» ولم يجعله ل «تميم» ولو فعل ذلك لقال: «جاء تميم» وهذا لا يحسن في نحو هذا، لأنه قد أراد غير تميم في نحو هذا الموضوع، فجعله اسما، ولم يحتمل إذا اعتل ان يحذف ما قبله كله، يعني التاء من «جاءت» مع «بني» وترك الفعل على ما كان، ليدل على أنه قد حذف شيئا قبل «تميم» .
وقال لا أَبْرَحُ [الآية 60] أي: لا أزال. قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين] :
وما برحوا حتّى تهادت نساؤهم ... ببطحاء ذي قار عياب اللّطائم
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 2: 606.(5/150)
أي: ما زالوا.
وأمّا قوله تعالى فَخَشِينا [الآية 80] فمعناه: كرهنا، لأنّ الله جلّ جلاله لا يخشى «1» .
وفي قوله تعالى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [الآية 94] جعل الألف من الأصل، وجعل «يأجوج» من «يفعول» و «مأجوج» من «مفعول» » .
وفي قوله تعالى ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الآية 95] رفع خَيْرٌ لأن ما مَكَّنِّي اسم مستأنف.
وقوله تعالى فَمَا اسْطاعُوا [الآية 97] من «اسطاع» «يسطيع» أي «استطاع» «يستطيع» وهي لغة عند العرب «3» .
وفي قوله تعالى أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي [الآية 102] جعلت «أن» التي تعمل في الأفعال، فاستغني بها، كما في قوله سبحانه إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما [البقرة: 230] أو ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ [الآية 35] استغني هاهنا بمفعول واحد، لأنّ معنى ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ:
ما أظنها أن تبيد.
وقال تعالى: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) ف «النزل» من نزول بعض الناس على بعض «4» . أمّا «النزل» ف «الريع» تقول: «ما لطعامهم نزل» و «ما وجدنا عندهم نزلا» .
وقال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الآية 109] أي «مداد يكتب به» لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) كأن المعنى: «مدد لكم» وقال بعضهم أي:
جئنا بمثله مدادا تكتب به. ويعني بالمداد، أنه مدد للمداد يمدّ به ليكون معه.
__________
(1) . نقله في الصحاح «خشي» ، وزاد المسير 5: 179، وفيه أن الزّجّاج أفاده.
(2) . في معاني القرآن 2: 159 والسبعة 399 والكشف 2: 76 والتيسير 145 الى عاصم، وفي الطبري 16: 16 زا الأعرج، أما في البحر 6: 163 فزاد الأعمش ويعقوب في رواية، وكذلك في الأنبياء، وقال إنها لغة بني أسد وقد نقل ذلك في الصحاح «أجج» والبحر 6: 163 والجامع 11: 55.
(3) . نقله في الصحاح «طوع» و «هرق» . ونقله في إعراب القرآن 2: 620.
(4) . نقله في الصحاح «نزل» .(5/151)
وقال تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) وذلك نحو قولهم: «بئس في الدّار رجلا» .
وفي قوله تعالى حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الآية 74] قيل فَقَتَلَهُ لأن اللّقاء كان علّة للقتل.
وفي قوله تعالى: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الآية 98] أي: هذا الرّدم رحمة من ربي.(5/152)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الكهف» «1»
إن قيل: قوله تعالى: قَيِّماً [الآية 2] يعني مستقيما، وقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) مغن عن قوله قَيِّماً لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة، لأنّ العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد به هنا نفي الاختلاف والتناقض في معانيه، وأنه لا يخرج منه شيء عن الصواب والحكمة. وقيل في الآية تقديم وتأخير، تقديره: «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا» .
قلنا: قال الفراء: معنى قوله تعالى قَيِّماً قائما على الكتاب السماوية كلها، مصدّقا لها، شاهدا بصحّتها، ناسخا لبعض شرائعها. فعلى هذا لا تكرار فيه. وعلى القول المشهور، يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء أقدّر «قيّما» مقدّما أو أقر في مرتبته، ونصب بفعل مضمر تقديره: ولكن جعله قيّما.
ولا بد من هذا الإضمار، أو من التقديم والتأخير، وإلّا صار المعنى:
ولم يجعل له عوجا مستقيما، والعوج لا يكون مستقيما.
فإن قيل: اتّخاذ الله تعالى ولدا محال، فلم قال سبحانه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الآية 5] ؟ وإنما يستقيم أن يقال فلان ماله علم بكذا، إذا كان ذلك الشيء ممّا يعلمه غيره أو ممّا يصحّ أن يعلم، كقولنا زيد ما له علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر، ونحو ذلك.
قلنا: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس ممّا يعلم لاستحالته، وهذا لأنّ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/153)
انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وتارة يكون لاستحالة العلم به، لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلّق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن قيل: لم قال تعالى ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) وهو أعلم بذلك في الأزل؟
قلنا: معناه لنعلم ذلك علم المشاهدة، كما علمناه علم الغيب.
فإن قيل: لم قال تعالى فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الآية 19] ولم يقل «واحدكم» ؟
قلنا: لأنه أراد فردا منهم أيّهم كان، ولو قال «واحدكم» لدلّ على بعث رئيسهم ومقدّمهم، فإن العرب تقول:
رأيت أحد القوم: أي فردا منهم، ولا تقول: رأيت واحدا لقوم إلا إذا أرادت المقدّم المعظّم.
فإن قيل: لم جيء بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الآية 22] .
قلنا: أريد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأوّل بمقتضى العطف، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا، كما يقال: زيد قد يخرج ويركب، أي وقد يركب.
فإن قيل: لم دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين، وفي قوله تعالى:
وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية 22] .
قلنا: قال بعض المفسّرين: هي واو الثمانية، وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة. وقال الزجّاج: دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة، وجاء القرآن بهما. وقال غيره: الواو مرادة في الجملتين الأوليين، وإنما حذفت فيهما تخفيفا، وأتي بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما ويردّ على هذا القول: أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك كما سبق في سين الاستقبال. وقال الزمخشري وغيره: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة، تقول: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) [الحجر] ، وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتّصافه(5/154)
بها أمر ثابت مستقر وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الآية 22] وأتبع القول الثالث قوله سبحانه ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] . وقال ابن عباس: وقعت الواو لقطع العدد: أي لم يبق بعدها عدد يلتفت إليه، ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات. وقال الثعلبي: هذه واو الحكم والتحقيق، كأنّ الله تعالى حكى اختلافهم، فتمّ الكلام عند قوله سبعة، ثم حكى بأنّ ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام، فحقّق ثبوت العدد الأخير لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة، فعلى هذا يكون قوله وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية 22] من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرا. ويردّ على هذا، أن قوله تعالى بعد هذه الواو:
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الآية 22] وقوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 22] يدل على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو.
فإن قيل: لم قال تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ [الآية 27] وقال في موضع آخر وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 101] ويلزم من تبديل الآية بالآية، تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: معنى الأول لا مغيّر للقرآن من البشر، وهو جواب لقولهم للنبي (ص) : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. الثاني: أنّ معناه لا خلف لمواعيده ولا مغيّر لحكمه، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافي بينهما.
فإن قيل: قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الآية 29] إباحة وإطلاق للكفر؟
قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: معناه: فمن شاء ربكم فليؤمن ومن شاء ربكم فليكفر، يعني لا إيمان ولا كفر إلّا بمشيئته. الثاني: أنّه تهديد ووعيد. الثالث: أنّ معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرّونه بكفركم، فهو إظهار للغنى، لا إطلاق للكفر.
فإن قيل: لبس الأساور في الدنيا عيب للرجال، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال، فكيف وعدها الله سبحانه المؤمنين في(5/155)
الجنة، في قوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الآية 31] ؟
قلنا: كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين لأنهم ملوك الاخرة.
فإن قيل: لم أفرد لفظ الجنة بعد التثنية، في قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الآية 35] ؟
قلنا: أفردها ليدل على الحصر، معناه: ودخل ما هو جنته، لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد جنّة معينة منهما، بل جنس ما كان له.
فإن قيل: لم قال الأخ المؤمن لأخيه، كما ورد في التنزيل لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وهذا تعريض بأنّ أخاه مشرك، وليس في كلام أخيه ما يقتضي الشّرك، بل الكفر، وهو قوله، كما ورد في القرآن ذلك حكاية عنه وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الآية 36] ؟
قلنا: إشراك أخيه الذي عرض له به، هو اعتقاده أنّ زكاة جنّته ونماءها بحوله وقوّته، ولهذا قال له، كما ورد في التنزيل: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الآية 39] ولهذا قال هو أيضا لمّا أصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها، وهي خاوية على عروشها، كما ورد في القرآن:
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) فاعترف بالشرك.
فإن قيل: ما الحكمة في إيراد «أنا» في قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ [الآية 39] ؟
قلنا: «أنا» في مثل هذا الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه، ومنه قوله تعالى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 12] وقوله جلّ جلاله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] ونظائره كثيرة.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 43] وكذلك ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) [مريم] ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) [العنكبوت] الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ [العنكبوت: 41] ، وكيف تحقيق معناه؟(5/156)
قلنا: «دون» يستعمل في كلام العرب بمعنى «غير» كقولهم لفلان:
مال دون هذا، ومن دون هذا: أي غير هذا. ونظيره قوله تعالى وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ [المؤمنون: 63] أي من غيره، وتستعمل أيضا بمعنى «قبل» كقولهم:
المدينة دون مكّة: أي قبلها، ومن دونه خرط القتاد. ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي، وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى «قبل» بل بمعنى «غير» فقط؟
فإن قيل: لم قال تعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الآية 44] يعني في يوم الاخرة أو في يوم القيامة، والولاية بكسر الواو السلطان والملك، وبفتح الواو التولّي والنصرة، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والاخرة يعزّ من يشاء ويخذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، وبتولّى من يشاء بحراسته وحفظه، فما الحكمة في تخصيص يوم القيامة؟
قلنا: الحكمة فيه أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا ويوم القيامة تنقطع كلّها، ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام: 73] .
فإن قيل: لم قال تعالى هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) أي عاقبة، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله خيرا منه ثوابا؟
قلنا: هذا على الفرض والتقدير، معناه: لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيرا من طاعة غيره.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَحَشَرْناهُمْ [الآية 47] بلفظ الماضي وما قبله مضارعان، وهو قوله تعالى وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الآية 47] أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟
قلنا: للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير، وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنّ المعنى:
وحشرناهم قبل ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الآية 49] مع أنه أخبر أن الصغائر تكفّر باجتناب الكبائر، بقوله(5/157)
تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ( [النساء:
31] .
قلنا: الآية الأولى في حق الكافرين، بدليل قوله تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ [الآية 49] والمراد بهم هنا الكافرون، كذا قال مجاهد، وقال غيره: كل مجرم في القرآن. فالمراد به الكافر والآية الثانية، المراد بها المؤمنون لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحقّقا مع وجود الكفر. الثاني: لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق المذنب، لم يلزم التناقض، لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثم تكفّر عنه، فيعلم قدر نعمة العفو، فإن أكثر ذنوب العبد ينساها، خصوصا الصغائر.
فإن قيل: قوله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية 50] يدلّ على أنه من الجن، وقوله تعالى في موضع آخر وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الآية 50] يدلّ على أنه من الملائكة، فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: فيه قولان: أحدهما أنه من الجنّ حقيقة، عملا بظاهر هذه الآية، ولأن له ذرية قال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الآية 50] والملائكة لا ذرّيّة لهم، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة، والملائكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل الله، وعن المعاصي مطلقا، لأنهم عقول مجردة بغير شهوة، ولا معصية إلّا عن شهوة ويؤيّده قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) [التحريم] . وقال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) [الأنبياء] ، وفي قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع، فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود، لا من جنس الملائكة، ويكون التقدير:
وإذ قلنا للملائكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس كما تقول: أمرت إخوتي وعبدي بكذا، فأطاعوني إلا عبدي، والعبد ليس من الإخوة ولا داخلا فيهم إلّا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم، فهذا كذلك. القول الثاني: أنه كان من الملائكة قبل أن(5/158)
يعصي الله تعالى، فلمّا عصاه مسخه شيطانا. روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فيكون معنى قوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ [الآية 50] لمخالفته، فتكون «كان» بمعنى صار. وقيل معناه: أنه كان من الجن في سابق علم الله تعالى وهذان القولان يدلّان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية. وروي عنه أيضا أنه كان من خزّان الجنة، وهم جماعة من الملائكة يسمّون الجن فعلى هذا يكون قوله تعالى مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزّان الجنة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الآية 50] بمخالفته فيكون استثناء من الجنس. وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] : وهو استثناء متصل، لأنه كان جنّيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلّبوا عليه في قوله فَسَجَدُوا.
قلت: وفي هذا التعليل نظر، ثم قال بعده: ويجوز أن يجعل منقطعا.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الآية 50] والأولياء: الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء، ويؤيّده قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الآية 50] وليس من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟
قلنا: المراد بالموالاة هنا، إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، ويوسوسون في صدورهم وطاعتهم إيّاهم فالموالاة مجاز عن هذا، لأنه من لوازمها.
فإن قيل: قال تعالى هنا: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الآية 52] : أي فلم يجب الأصنام المشركين، فنفى عن الأصنام النطق، وقال تعالى في سورة النحل: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) [النحل] يعني فكذّبتهم الأصنام فيما قالوا، فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: المراد بقوله تعالى نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الآية 52] أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك، فنفى عنهم النطق بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم. وفي سورة(5/159)
النحل، أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم، فلا تناقض بين المنفي والمثبت.
فإن قيل: لم قال تعالى:
شُرَكائِيَ وقال في سورة النحل شُرَكاءَهُمْ؟
قلنا: قوله تعالى شُرَكائِيَ معناه: في زعمكم واعتقادكم، ولهذا قال شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وأخرجه مخرج التهكّم بهم، كما قال المشركون للنبي (ص) وفاقا، لما ورد في التنزيل يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) [الحجر] ، وقوله تعالى شُرَكاءَهُمْ يعني آلهتهم التي جعلوها شركاء، فإضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إيّاها شركاء والإضافة تصحّ بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية، فصحّت الإضافتان.
فإن قيل: لم قال تعالى نَسِيا حُوتَهُما [الآية 61] والناسي إنّما كان يوشع وحده، بدليل قوله تعالى فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الآية 63] أي قصّة الحوت وخبره وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الآية 63] ؟
قلنا: أضيف النسيان إليهما مجازا، والمراد أحدهما. قال الفرّاء: نظيره قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن] وإنما يخرج من الملح لا من العذب وقيل نسي موسى عليه السلام تفقّد الحوت ونسي يوشع أن يخبره خبره، وذلك أنه كان حوتا مملوحا في مكتل «1» قد تزوّداه فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيي وانسلّ وكان قد ذهب القضاء حاجة، فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت، فلما جاء موسى نسي أن يخبره، ونسي موسى تفقّد الحوت، والسؤال عنه.
فإن قيل: هذا التفسير يدلّ على أن النسيان من يوشع، أو منهما، كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر، وظاهر الآية يدل على أن النسيان كان سابقا على ذهابه في البحر، متّصلا ببلوغ مجمع البحرين، لقوله تعالى فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) .
قلنا: في الآية تقديم وتأخير تقديره:
__________
(1) . المكتل: القفّة.(5/160)
فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا، فنسيا حوتهما.
فإن قيل: كيف نسي يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة قي مدة يسيرة بل في لحظة، واستمر به النسيان يومه ذلك وليلته إلى وقت الغداء من اليوم الثاني، ومثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان كيف كان ذلك، وقد كان الله تعالى جعل فقدان الحوت علامة لهما على وجدان الخضر (ع) ، على ما نقل أن موسى (ع) سأل الله تعالى علامة على موضع وجدانه، فأوحى إليه أن خذ معك حوتا في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ؟
قلنا: سبب نسيانه أنه كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى (ع) واستأنس بها فكان إلفه لمثلها من خوارق العادات، سببا لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة، وعدم اكتراثه بها.
فإن قيل: لم قال تعالى حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الآية 71] بغير فاء وحَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الآية 74] بالفاء؟
قلنا: جعل خرقها جزاء للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك إذا ركب زيد الفرس عقره، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط فعطفه عليه بالفاء.
فإن قيل: لم خولف بين القصّتين؟
قلنا: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقتل الغلام تعقّب لقاءه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في قصّة الغلام لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) وفي قصة السفينة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) ؟
قلنا: قيل «إمرا» معناه «نكرا» ، فعلى هذا لا فرق في المعنى. لأن الإمر والنّكر بمعنى واحد. وقيل الإمر العجب أو الداهية وخرق السفينة كان أعظم من قتل نفس واحدة، لأن في الأول هلاك كثيرين. وقيل النّكر أعظم من الإمر فمعناه: جئت شيئا أنكر من الأول، لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا يمكن تداركه.
فإن قيل: لم قال تعالى في قصة السفينة أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الآية 72] وفي قصة الغلام أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الآية 75] ؟
قلنا: لقصد زيادة المواجهة بالعتاب على رفض الوصيّة مرّة ثانية، والتنبيه على تكرّر ترك الصبر والثبات.
فإن قيل: ما الحكمة في إعادة ذكر(5/161)
الأهل، في قوله تعالى اسْتَطْعَما أَهْلَها [الآية 77] بعد أن سبق ذكر الأهل مرّة؟
قلنا: الحكمة فيه، فائدته في إعادة التأكيد.
فإن قيل: لم قال تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الآية 77] نسب الإرادة إلى الجماد وهي من صفات من يعقل؟
قلنا: هذا مجاز بطريق المشاهدة، لأنّ الجدار بعد مشارفته ومداناته للانقضاض والسقوط شابه من يعقل، وفي تهيّئه للسقوط فظهر منه هيئة السقوط كما تظهر ممّن يعقل ويريد، فنسبت إليه الإرادة مجازا بطريق المشابهة في الصورة، وقد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل مجازا قال الشاعر:
يريد الرّمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وقال حسّان:
إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل لزمان يهمّ بالإحسان ومن أمثالهم «تمرّد مارد وعزّ الأبلق» ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:
154] وقوله جلّ شأنه فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد: 21] وقوله جلّ شأنه قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصلت] ونظائره كثيرة.
فإن قيل: لأي سبب لم يفارقه الخضر (ع) عند الاعتراض الأوّل والثاني، وفارقه عند الثالث؟
قلنا لوجهين: أحدهما أن موسى (ع) شرط على الخضر (ع) ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث، وقد وجد، فكان راضيا به. الثاني، أنّ اعتراض موسى (ع) في المرة الأولى والثانية كان تورّعا وصلابة في الدين واعتراضه في المرة الثالثة لم يكن كذلك.
فإن قيل: قوله تعالى فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الآية 79] علّته خوف الغصب، فكان حقّه أن يتأخّر عن علّته، فلم قدّم عليها؟
قلنا: هو متأخّر عنه، لأن علة تعييبها أو علّة إرادته تعييبها خوف الغصب وخوف الغصب سابق، لأنه الحامل للخضر (ع) على ما فعله.
فإن قيل: الشمس في السماء(5/162)
الرابعة، وهي بقدر كرة الأرض مائة وستين مرة، وقيل مائة وخمسين، وقيل مائة وعشرين، فكيف تسعها عين في الأرض، حتى أخبر الله تعالى عن ذي القرنين، أنه وجدها تغرب في عين حمئة؟
قلنا: المراد بقوله تعالى وجدها: أي في زعمه وظنّه كما يرى راكب البحر إذا لجّج فيه، وغابت عنه الأطراف والسواحل، أن الشمس تطلع من البحر، وتغرب فيه فذو القرنين انتهى إلى آخر البنيان في جهة المغرب فوجد عينا حمئة واسعة، عظيمة فظنّ أنّ الشمس تغرب فيها.
فإن قيل: ذو القرنين كان نبيّا أو تقيّا حكيما على اختلاف القولين، فكيف خفي عليه هذا، حتى وقع في الظنّ المستحيل الذي لا يقبله العقل؟
قلنا: الأنبياء والأولياء والحكماء ليسوا معصومين عن ظنّ الغلط أو الخطأ، وإن كانوا معصومين عن الكبائر. ألا ترى إلى ظن موسى (ع) فيما أنكره على الخضر (ع) في القضايا الثلاث وظنّه أنه يرى الله تعالى في الدنيا وهو من كبار الأنبياء، وكذلك يونس (ع) على ما أخبر الله تعالى عنه، بقوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:
87] وكان الواقع بخلاف ظنّه. الثاني:
أن الله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس، وتوسيع العين الحمئة وكرة الأرض، بحيث تسع عين الماء عين الشمس فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك ولم نعلم به لقصور علمنا عن الإحاطة بذلك؟
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) يدل على أنه كان نبيّا، لأن الله تعالى خاطبه.
قلنا: من قال إنه ليس نبيّا يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النبيّ الموجود في زمانه، كما في قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ وما أشبه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في حقّ الكفّار: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي فلا ننصب لهم ميزانا، لأنّ الميزان إنّما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة السيّئات، والكافر لا حسنة له، ولا طاعة، لقوله تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ(5/163)
هَباءً مَنْثُوراً
(23) [الفرقان] وقوله في موضع آخر وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) [القارعة] أي فمسكنه النار، فأثبت له ميزانا.
قلنا: معنى قوله تعالى فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا خطر لخسّتهم وحقارتهم ولو كان معناه ما ذكر، ثم يكون المراد بقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) من غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين، فإنه يستكين في النار، ولكن لا يخلد فيها، بل بقدر ما يمحّص عنه ذنوبه فلا تنافي بينهما.(5/164)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الكهف» «1»
قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ. وهذه استعارة. لأن حقيقة العوج، أن يكون فيما يصحّ عليه أن ينصاب أو يميل ويضطرب ويستقيم. وهذه من صفات الأجسام، لا من صفات الكلام.
فنقول: إنّما وصف القرآن- والله أعلم- بأنه قيّم لا عوج فيه، ذهابا إلى نفي الاختلاف عن معانيه، والتناقض في أوضاعه ومبانيه. وأنه غير ناكب عن المنهاج، ولا مستمرّ على الاعوجاج.
وقوله سبحانه: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) . ووصف الكلمة هاهنا بالكبر استعارة. والمراد أنّ معناها فظيع، وفحواها عظيم. وتقدير الكلام: كبرت الكلمة كلمة.
وللنصب هاهنا وجهان: أحدهما أن يكون على تفسير المضمر. مثل قولهم: نعم رجلا زيد، وبئس صاحبا عمرو. والوجه الاخر أن يكون على التمييز في الفعل المنقول، نحو:
وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) [الآية 29] ، وتصبّب عرقا.
وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) . وهذه استعارة. لأن المراد بالجرز هاهنا الأرض التي لا نبات فيها، وذلك مأخوذ من قولهم:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(5/165)
ناقة جروز، إذا كانت كثيرة الأكل، لا يكاد لحياها يسكنان من قضم الأعلاف، ونشط «1» الأعشاب. ومن ذلك قولهم: سيف جراز، إذا كان يبري المفاصل، ويقطّ الضرائب.
وإنما سمّيت تلك الأرض جرزا، إذ كانت كأنّها تأكل نبتها، فلا تدع منه نابغة، ولا تترك طالعة. ونظير ذلك قولهم: أرض جدّاء: لا ماء فيها.
تشبيها بالناقة التي لا لبن فيها، وهي الجدّاء «2» .
وقوله سبحانه: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) .
وهذه استعارة. لأن المراد بها منع آذانهم من استماع الأصوات، وهمس الحركات. قال بعضهم: وذلك كالضّرب على الكتاب لتشكّل حروفه، فتمتنع على القارئ قراءته.
وإنما دلّ تعالى على عدم الإحساس بالضّرب على الآذان، دون الضرب على الأبصار، لأن ذلك أبلغ في الغرض المقصود، من حيث كانت الأبصار قد يضرب عليها من غير عمى، ولا يبطل إدراك بقية الحواس جملة، وذلك عند تغميض الإنسان عينيه. وليس كذلك منع الاستماع من غير صمم، لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم، بالنوم الذي هو السهو على صفة، دل ذلك على عدم الإحساس من كل جارحة يصحّ بها الإدراك.
ولأنّ الأذن، لمّا كانت طريقا إلى الأنباء ثم ضرب عليها، لم يكن سبيل إلى الانتباه، فبطل استماعهم. وفي هذا القول بعض التخليط.
والذي أذهب اليه في ذلك، هو أن يكون المراد بقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ والله أعلم، أي أخذنا أسماعهم. ويكون ذلك من قول القائل: قد ضرب فلان على مالي. أي أخذه وحال بيني وبينه، فأما تشبيه ذلك بالضرب على الكتاب حتى تشكل حروفه على المتأمّل، ففيه بعد وتعسّف.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك: وضربناهم على آذانهم، من الضرب الحقيقي، تشبيها بمن ضرب
__________
(1) . نشطت الدابة العشب: إذا أكلته بسرعة وخفة. وقد نشطت الدابة: أي سمنت. [.....]
(2) . الناقة الجدّاء: هي الصغيرة الثدي، أو المقطوعة الأذن، أو التي ذهب لبنها. انظر الفيروزآبادي مادة «جدد» .(5/166)
على سماخه «1» ، فهو موقوذ «2» مأموم «3» ، ومشدوه «4» مغمور.
وقوله سبحانه: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 14] . وهذه استعارة:
لأنّ الربط هو الشدّ. يقال: ربطت الأسير. إذا شددته بالحبل والقدّ «5» .
والمراد بذلك: شددنا على قلوبهم كما تشدّ الأوعية بالأوكية «6» ، فتنضمّ على مكنونها، ويؤمن التبدّد على ما استودع فيها. أي فشددنا على قلوبهم لئلا تنحلّ معاقد صبرها وتهفو عزائم جلدها. ومن ذلك قول القائل لصاحبه: ربط الله على قلبك بالصبر.
وقوله سبحانه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . وفي هذه الآية استعارتان: إحداهما قوله تعالى:
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ والرحمة هاهنا بمعنى النعمة. ولم يكن هناك مطويّ فينشر، ولا مكنون فيظهر.
وإنّما المراد بذلك: يسبغ الله عليكم نعمته، على وجه الظهور والشّيوع، دون الإخفاء والإسرار. فيكون ذلك كنشر الثوب المطويّ وإظهار الشيء الخفي، في شيوع الأمر، وانتشار الذكر. والاستعارة الأخرى قوله تعالى: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . وأصل المرفق ما ارتفق به. وهو مأخوذ من المرفقة. وهي التي يرتفق عليها، أي يعتمد عليها بالمرفق.
ويقال مرفق، ومرفق بمعنى واحد.
وقد قرئ بهما جميعا بمعنى واحد.
فكأنّ السّياق: يهيئ لكم من أمركم ما تعتمدون عليه وتستندون إليه، ويكون لظهوركم عمادا، ولأعضادكم سنادا.
وقوله سبحانه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [الآية 17] . وفي هذه الآية
__________
(1) . السماخ والصماخ واحد. وهو خرق الأذن الباطن الماضي إلى تجويف الرأس.
(2) . الموقوذ: المضروب ضربا شديدا حتى أشرف على الموت.
(3) . أمّه: شجّه، فهو مأموم.
(4) . المشدوه: المشدوخ الرأس.
(5) . القدّ: السّير من الجلد.
(6) . الأوكية: جمع وكاء، وهو رباط القربة أو ما تشدّ به.(5/167)
استعارتان: أولاهما قوله تعالى في ذكر الشمس: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ لأنّ التزاور أصله الميل، وهو مأخوذ من الزّور، وهو الصدر. فكأنه سبحانه قال: إن الشمس تميل عن هذا الموضع، كما يميل المتزاور عن الشيء بصدره ووجهه.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ.
وفي ذلك قولان: أحدهما أن يكون المراد أنها تقرضهم في ذات الشمال، أي أنها تجوزهم عادلة بمطرح شعاعها عنهم. من قولهم: قرضت الشيء بالمقراض إذا قطعته به. والمقراض متجاوز لأجزائه أوّلا حتى ينتهي إلى آخره. والقول الثاني: أن يكون المراد أنها تعطيهم القليل من شعاعها عند مرّها بهم، ثم تسترجعه عند انصرافها عنهم تشبيها بقرض المال الذي يعطيه المعطي ليستردّه، ويقدمه ليرتجعه.
ومعنى قرض المال أيضا مأخوذ من القطع، لأن المقرض يعطي للمقترض شقة من ماله، وقطعة من حاله.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الآية 21] . وهذه استعارة. والمراد- والله أعلم- وكذلك أطلعنا عليهم. إلا أن في لفظ الإعثار فائدة، وهي مصادفة الشيء عن غير طلب له، ولا إحساس به، وهو «أفعلنا» من الإعثار.
وأصله أن الساعي في طريقه إذا صدّ قدمه، أو نكب إصبعه شيء، ففي الأغلب أنه يقف عليه متأمّلا له، وناظرا إليه. فكأنّه استفاد علم ذلك من غير أن تتقدم معرفته به. ومن ذلك قول القائل لغيره: لأعثرنّ عليك بخطيئة فأعاقبك. أي لأقفنّ على ذلك منك.
وعلى هذا قوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً [المائدة: 107] .
أي اطّلع على ذلك منهما، واستفيد العلم به من باطن أمرهما.
وقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ [الآية 22] .
وهذه استعارة لأنّ الرّجم هاهنا هو القذف بالظّنّ، والقول بغير علم. ومن عادة العرب أن تسمي القائل بالظّنّ راجما وقاذفا، و. تسمي السّابّ الشاتم، راميا راجما.
ويقولون: هذا الأمر غيب مرجّم.
أي يرمي الناس بظنونهم، ويقدرونه بحسابهم.(5/168)
ومرجّم إنما جاء لتكثير العمل، كأنه يرمي من هاهنا، ومن هاهنا. وإنما سمّي الظّانّ راجما، لأنه يوجّه الظّنّ إلى غير جهة مطلوبة، بل يظنّ هذا، ويظنّ هذا، كالراجم الذي لا يعلم مواقع أحجاره إذا رمى بها في الجهات. فتارة تقع يمينا، وتارة تقع شمالا.
وقوله سبحانه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وهذه استعارة. على أحد التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون المراد بذلك: أننا تركنا قلبه غفلا من السّمات التي تتّسم بها قلوب المؤمنين، فتدلّ على زكاء أعمالهم، وصلاح أحوالهم. كقوله سبحانه:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] وذلك تشبيه بالبعير إذا أغفل فترك بلا سمة يعرف بها، على عادة العرب في إقامة السّمات مقام العلامات المميّزة بين أموالهم، في الموارد والمراعي، وتعريف الضوالّ.
وفي هذه الآية أقوال أخر، والقول الذي قدمناه أدخلها في باب الاستعارة. منها أن معنى أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي نسبناه الى الغفلة كقول القائل:
أكفرت فلانا، إذا نسبته إلى الكفر، وأبخلته إذا نسبته إلى البخل.
ومنها أن يكون المراد: سمّيناه غافلا، بتعرّضه للغفلة، فكأن المعنى:
حكمنا عليه بأنه غافل. كما يقول القائل: قد حكمت على فلان بأنه جاهل. أي لمّا ظهر الجهل منه، وجب هذا القول فيه.
ومنها أن يكون ذلك من باب المصادفة. فيكون المعنى: صادفنا قلبه غافلا. كقول القائل أحمدت فلانا، أي وجدته محمودا. وذلك يؤول إلى معنى العلم. فكأنّه تعالى قال: علمناه غافلا.
وعلى هذا قول عمرو بن معد يكرب «1»
__________
(1) . عمرو بن معديكرب الزبيدي، كان فارسا من فرسان اليمن، وصاحب غارات مشهورة. وقد على النبي عليه السلام سنة 9 هـ فأسلم وقومه، ولما توفي النبي ارتدّ عن الإسلام، ثم رجع إليه فحسن إسلامه، وشهد واقعة القادسية وسائر الفتوح. ومن شعره قصيدته التي يقول فيها:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وتوفي سنة 21 هـ على مقربة من مدينة الرّيّ.(5/169)
لبني سليم: (لله درّكم يا بني سليم! والله لقد قاتلناكم فما أجبنّاكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم) أي لم نصادفكم على هذه الصفات، من الجبن عند النزال، والبخل عند السؤال، والعيّ عند المقال «1» .
وعلى ذلك قول نافع «2» بن خليفة الغنويّ:
سألنا فأحمدنا ابن كلّ مرزّأ جواد وأبخلنا ابن كلّ بخيل أي وجدنا هذا محمودا، ووجدنا هذا بخيلا مذموما.
وفيما علقته عن قاضي القضاة أبي الحسين عبد الجبّار «3» بن أحمد- أدام الله توفيقه- عند قراءتي عليه كتابه الموسوم «بتقريب الأصول» في أخريات من الكلام في التعديل والتحوير، أنه لو لم يكن الأمر على ما قلناه في إغفال القلب، من أنّ المراد بذلك مصادفته غافلا وكان على ما قاله الخصوم، من أنه تعالى صدف به عن أمره، وصرفه عن ذكره، لوجب أن يقول سبحانه: «فاتّبع هواه» . لقول القائل: أعطيته فأخذ، وبسطته فانبسط، وأكرهته فأذلّ. أي كانت هذه الأفعال منه مسببة عن أفعالي به.
لأن هذا وجه الكلام في الأغلب الأعرف. فلما جاء بالواو صار كأنه قال: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا، واتّبع هواه. لأنه إذا وجد غافلا فهو الذي غفل، والفعل حينئذ له، ومنسوب إليه.
وقوله سبحانه: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) .
__________
(1) . كان مقتضى الترتيب هنا أن يقول: من الجبن عند النزال، والعيّ عند المقال، والبخل عند السؤال، ليصح التقسيم.
(2) . نافع بن خليفة الغنوي شاعر روى القالي قطعة من شعره في «ذيل الأمالي» ص 116، كما ذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أبياتا من شعره ج 1 ص 176، وقد جهدت- بعد جهد العلامة عبد العزيز الميمني- في معرفة شيء عنه فلم أوفق. ويقول عنه في «سمط اللئالي» : (ونافع لم أعرفه، ولا ذكره الآمدي) ج 3 من السمط ص 55.
(3) . هو أبو الحسين الشافعي المعتزلي. وكان أحد شيوخ المؤلف. قرأ عليه في مجازات القرآن، وفي المجازات النبوية. وكان شيخ الاعتزال في عصره. ويلقب بقاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره. توفي بالرّيّ سنة 415. انظر الأعلام للزّركلي، والغدير ج 4 للأميني ص 163.(5/170)
وفي هذه الآية استعارتان: أولاهما قوله تعالى:
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها والسرداق هو الفسطاط المحيط به. فوصف- سبحانه- النار بالإحاطة والاشتمال فلا ينجو منها ناج، ولا يطلق منها عان. وذلك كقوله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) [الإسراء] أي حبسا تحصرهم، وطولا تقصرهم، ومثل قوله سبحانه أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها قوله: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) [الهمزة] والمؤصدة:
المغلقة المطبقة. من قولهم أوصدت الباب وأصّدته «1» . إذا أغلقته وأطبقته.
وقرئ: عمد وعمد. والمراد بقوله سبحانه: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) مثل المراد في قوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها تشبيها بتمديد الأخبية والسرادقات بالأطناب، وإقامتها على الأعماد.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) والمرفق:
المتّكأ، وهو ما يعتمد عليه بالمرفق، ومنه المرفقة وهي المخدّة. وذلك نظير قوله سبحانه: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) [الرعد: 18] «2» فلما جاء سبحانه بذكر السرادق جاء بذكر المرافق، ليتشابه الكلام.
وروي عن بعضهم أنه قال: معنى مرتفقا، أي مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى: وساءت مرافقه. والمرافقة لا تكون إلا بالاجتماع جماعة. وهذا القول يخرج الكلام عن حدّ الاستعارة، فيدخله في باب الحقيقة. والوجه الأول أقوى. ويشهد له قوله سبحانه:
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) فجاء بذكر الارتفاق لمّا قدّم ذكر الاتكاء. وهذا أوضح مشاهد.
وقوله سبحانه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الآية 33] .
وهذه استعارة. لأن الظلم هاهنا ليس على أصله في اللغة، ولا على عرفه في الشريعة. لأنه في اللغة اسم لوضع
__________
(1) . ويقال أيضا آصد الباب على وزن أفعل مثل أصّد بالتضعيف.
(2) . في سورة آل عمران، قوله تعالى ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) فالآيتان متشابهتان إلا في «ثم» بدلا من الواو.(5/171)
الشيء في غير موضعه. وفي الشريعة اسم للضرر المفعول، لا على وجه الاستحقاق، ولا فيه استجلاب نفع، ولا دفع ضرر.
والمراد بقوله تعالى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تمنع منه شيئا. وإنما حسن أن يعبّر عن هذا المعنى باسم الظلم، من حيث كان ثمر تلك الجنة التي هي البستان كالمستحقّ لمالكها.
فإذا أخذ حقه على كماله وتمامه حسن أن يقال: إنها لم تظلم منه شيئا. أي لم تمنع منه مستحقّا، فتكون في حكم الظالم إذ أضرّت بمالكها في نقصان زروعها، وإخلاف ثمارها. ومما يقوّي ذلك قوله سبحانه: آتَتْ أُكُلَها. أي أعطت أكلها. فلما جاء بلفظ الإعطاء حسن أن يجيء بلفظ الظلم. ومعناه هاهنا المنع. فكأنه تعالى قال: أعطت ما استحقّ عليها، ولم تمنع منه شيئا.
وقوله تعالى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الآية 56] وهذه استعارة. وأصل الدّحض الزّلق. ومكان دحض: أي مزلق. فكأنه سبحانه قال: ليزلّوا الحقّ بعد ثباته، ويزيلوه عن مستقرّاته.
فيكون كالكسير بعد قوته، والمائل بعد استقامته.
وقوله سبحانه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الآية 57] . وهذه استعارة. لأنّ المراد بذكر اليدين هاهنا ما كسبه الإنسان من العمل الذي يجرّ العقاب، ويوجب النّكال. ومثله في القرآن كثير.
كقوله سبحانه: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] . وذلك على طريقة للعرب معروفة. وهو أن يقولوا للجاني المعاقب: هذا ما جنت يداك.
وهذا ما كسبت يداك. وإن لم تكن جنايته عملا بيد، بل كانت قولا بفم.
لأن الغالب على أفعال الفاعلين أن يفعلوها بأيديهم، فحمل الأمر على الأعرف، وخرج على الأكثر وعلى هذا المعنى تسمّى النعمة يدا، لأن المنعم في الأغلب يعطي بيده ما ينعم به، وإن لم يقع ذلك في كل حال، وإنما الحكم للأظهر، والقول على الأكثر.
وقوله سبحانه: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الآية 77] وهذه استعارة. لأن الإرادة على حقيقتها لا تصح على الجماد. والمعنى: يكاد أن ينقضّ، أي يقارب أن ينقضّ. على(5/172)
التشبيه بحال من يريد أن يفعل في الباني، لأنه لما ظهرت فيه أمارات الانقضاض، من ميل بعد انتصاب، واضطراب بعد ثبات، حسن أن يطلق عليه إرادة الوقوع، على طريق الاتساع.
وترد في كلامهم «كاد» بمعنى «أراد» ، «وأراد» بمعنى «كاد» . وجاء في القرآن العظيم قوله تعالى:
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] أي أردنا ليوسف.
وقوله سبحانه. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] معناه- على أحد الأقوال- أريد أخفيها. ومما ورد في أشعارهم شاهدا على ذلك، قول عمر بن أبي ربيعة:
كادت وكدت، وتلك خيرا إرادة لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى «1» فقال: وتلك خير إرادة، والإشارة إلى كادت، وكدت.
وأوضح من هذا قول الأفوه الأودي «2» :
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا أي الذي أرادوا.
فأمّا قول الشاعر «3» :
يريد الرّمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل.
__________
(1) . هذا البيت لم ينسب لقائله في «شرح شواهد الكشاف» المسمى «تنزيل الآيات، على الشواهد من الأبيات» للعلامة محب الدين أفندي، ولم ينسبه القرطبي لأحد وإنما نقل عن الأنباري قوله: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر. انظر «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 184. [.....]
(2) . هو صلاءة بن عمرو بن مالك. وهو شاعر يماني جاهلي اشتهر بالسيادة والقيادة. وهذا البيت من قصيدة مشهورة يقول فيها:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا
وقبل بيت الشاهد هذا البيت:
والبيت لا يبتنى إلّا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وقد نسبه صاحب «شواهد الكشّاف» للراقدة الأودي، وهو تحريف مطبعي، لأن مثل هذا لا يخفى على العلامة محبّ الدين.
(3) . لم ينسب هذا البيت لقائله في «جامع أحكام القرآن» ج 11 ص 26، وكذلك لم ينسبه ابن مطرف الكناني في كتابه «القرطين» طبع الخانجي ص 269، واكتفى بما أنشده السجستاني عن أبي عبيدة. وكذلك لم ينسبه ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن» ولا «لسان العرب» . وأبو براء هو عامر بن مالك، ولقبه ملاعب الأسنّة. وترى أخباره في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة صفحات 231، 235، 295، 340، 341.(5/173)
فليس يصح حمله على مقاربة الفعل، كما قلنا في قوله سبحانه:
جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول: يكاد الرمح صدر أبي براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرّمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل:
في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفؤوس إذا أردن نصولا «1»
فإنه بمعنى مقاربة الفعل، لأنّ الفؤوس إذا فلقت في نصبها قاربت أن تسقط، فجعل ذلك كالإرادة منها.
والنّصول هاهنا مصدر نصل نصولا، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية.
وقوله سبحانه: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الآية 99] وهذه استعارة.
لأنّ أصل الموجان من صفات الماء الكثير وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم، ودخول بعضهم، في بعض لكثرة أضدادهم، تشبيها بموج البحر المتلاطم، والتفاف الدّبا «2» المتعاظل.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الآية 101] . وهذه استعارة. وليس المراد، أن عيونهم على الحقيقة كانت في غطاء يسترها، وحجاز يحجزها. وإنما المعنى: أنّهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِي لأن الأعين لا توصف بأنها في غطاء عن ذكر الله تعالى، لأن ذلك من صفات ذوي العيون. وإنما المراد، أنّ أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر، فلا يفكّرون فيها، ولا يعتبرون بها، فيذكرون الله سبحانه عند إجالة أفكارهم، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه، وغوامض هذا الكلام ومناسبه.
وقوله سبحانه:
__________
(1) . لم ينسب هذا البيت لقائله في القرطبي ج 11 ص 26.
(2) . الدّبا: الجراد الصغير، أو النمل. والمتعاظل: المتراكب بعضه في بعض وفي المعجم الوسيط: الدّبى بالألف المقصورة.(5/174)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) وهذه استعارة. أصل الضّلال ذهاب القاصد عن سنن طريقه.
فكأنّ سعيهم لمّا كان في غير الطريق المؤدّية إلى رضا الله سبحانه، حسن أن يوصف بالضّلال، والعدول عن سنن الرشاد.
وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) . وفي هذه الآية استعارتان إحداهما قوله سبحانه:
بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وتأويل لقائه هاهنا على وجهين: أحدهما أن يكون فيه مضاف محذوف. فكأنه تعالى قال:
ولقاء ثوابه وعقابه، أو جنّته وناره.
والوجه الاخر أن يكون معنى ذلك رجوعهم إلى دار لا أمر فيها لغير الله سبحانه. فيصيرون إليها، من غير أن يكون لهم عنها محيص، أو دونها محيد. وذلك مأخوذ من مقابلتك الشيء من غير أن تصرف عنه وجهك يمينا ولا شمالا. يقول القائل: لقيت فلانا. أي قابلته بجملتي. وتقول: داري تلقاء دار فلان. أي مقابلتها. فكانت كل واحدة منهما كالمقبلة على الأخرى. فلمّا كان لا أحد يوم القيامة يستطيع انصرافا عن الوجهة التي أمر الله سبحانه بجمع الناس إليها، وحشرهم نحوها، سمّي ذلك لقاء الله سبحانه على السّعة والمجاز.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) والمراد بذلك- والله أعلم- أنّا لا نجد لهم أعمالا صالحة تثقل بها موازينهم يوم القيامة. والميزان إذا كان ثقيلا سمّي مستقيما، وقائما. وإذا كان خفيفا سمّي عادلا، ومائلا.
وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أنهم لا اعتداد بهم، ولا نباهة لذكرهم في يوم القيامة. كما يقال في التحقير للشيء: هذا لا وزن له ولا قيمة.
وكما تقول: فلان عندي بالميزان الراجح، إذا كان كريما عليك، أو حبيبا إليك.(5/175)
سورة مريم 19(5/177)
المبحث الأول أهداف سورة «مريم» «1»
سورة مريم سورة مكية نزلت بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة وقبل الإسراء. وكانت الهجرة إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة، وكان الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة، قبل الهجرة إلى المدينة بسنة وشهرين.
أي أن سورة مريم نزلت بعد السنة السابعة من البعثة، وقبل السنة الحادية عشرة.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة مريم فيها، وعدد آياتها: 98 آية، وعدد كلماتها: 1192 كلمة.
أهداف السورة
الأهداف الأساسية لسورة مريم:
تنزيه الله عن الولد والشريك، وإثبات وحدانية الله، والإلمام بقضية البعث القائمة على التوحيد.
هذه هي الأهداف الأساسية للسورة.
كالشأن في السور المكّية غالبا، والقصص هو مادة هذه السورة. فهي تبدأ بقصّة زكريا ويحيى (ع) ، فقصّة مريم ومولد عيسى (ع) ، فطرف من قصة إبراهيم (ع) مع أبيه.. ثم تعقبها بإشارات إلى النبيّين: إسحاق ويعقوب، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس، وآدم، ونوح ويستغرق هذا القصص حوالى ثلثي السورة، ويستهدف إثبات الوحدانيّة والبعث، ونفي الولد والشريك وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(5/179)
ومن ثم بعض مشاهد القيامة، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث، واستنكار للشّرك ودعوى الولد، وعرض لمصارع المشركين والمكذّبين في الدنيا وفي الاخرة، وكلّه يتناسق مع اتجاه القصص في السورة، ويتجمّع حول محورها الأصيل.
«وللسورة كلّها جوّ خاصّ يظلّلها ويشيع فيها ويتمشّى في موضوعاتها» .
إنّ سياق هذه السّورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية، الانفعالات والمشاعر القوية، الانفعالات في النفس البشرية، وفي «نفس» الكون من حولها. فهذا الكون الذي نتصوّره جمادا لا حسّ له، يعرض في السياق ذا نفس وحسّ ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجوّ العامّ للسورة، حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل، حتى لتكاد تنفطر وتنشقّ وتنهدّ، استنكارا:
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) .
«أما الانفعالات في النفس البشرية، فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها. والقصص الرئيس فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة، وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى» (ع) .
القصص في سورة مريم
القصص في سورة مريم امتداد للقصص في سورة الكهف. فهناك ظهرت قدرة الله البالغة في حفظ أصحاب الكهف وإحيائهم بعد موتهم، وفي إعطاء الرحمة والعلم للخضر عليه السلام، وفي منح ذي القرنين أسباب الملك والسلطان والسيادة وهنا تظهر رحمة الله وفضله على زكريّا، إذ يمنحه يحيى على كبر وشيخوخة، وتظهر قدرة الله البالغة في خلق عيسى من أم دون أب، ثم نعمته السابغة على الأنبياء والرسل ورعاية الله لهم حتّى يؤدوا رسالتهم. ويظهر ذلك في قصة إبراهيم مع أبيه، وقصة موسى مع قومه، وقصة إسماعيل الصادق الوعد، وقصة إدريس الصّدّيق النبيّ.
ذكرت حلقة من هذه القصة في سورة آل عمران، ولكنها في سورة مريم تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها، وما فيها من زيادة ونقص.
إنّ السّمة الغالبة هنا، سمة الرحمة والرّضا والاتصال، فهي تبدأ بذكر(5/180)
رحمة الله لعبده زكريّا، وهو يناجي ربه نجاء خفيا.
فتصوّر أحاسيس ذلك الشيخ الهرم ورغبته في الذّرّيّة والولد ودعاءه لله خفية، بعيدا عن زوجته وعن الناس.
ثم ترسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضيّ. فالله ينادي عبده من الملأ الأعلى يا زَكَرِيَّا، ويعجّل له البشرى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ.
ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشّره به اسْمُهُ يَحْيى [الآية 7] . وهو اسم فذّ غير مسبوق:
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) .
وكأنما أفاق زكريّا، من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء، فإذا هو يواجه الواقع:
إنه رجل شيخ، بلغ من الكبر عتيّا، ووهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد في فتوّته وصباه: فكيف سيكون له غلام؟
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) .
ثم يأتيه الجواب عن سؤاله: بأنّ هذا أمر هيّن يسير أمام قدرة الله، فهو سبحانه الخالق الفعّال لما يريد. وهو سبحانه الذي جعل العاقر لا تلد.
وجعل الشيخ الفاني لا ينسل. وهو قادر على إصلاح العاقر، وإزالة سبب العقم، وتجديد قوّة الإخصاب في الرجل، وهو على كلّ شيء قدير.
وتمّت ولادة يحيى، وكبر وترعرع، وأحكم الله عقله، وهيّأه لرعاية ميراث أبيه في حزم وعزم ولم يكن هذا الميراث مالا أو عقارا، وإنما كان رسالة الهدى، ودعوة الإيمان وناداه الله سبحانه:
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [الآية 12] .
والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى (ع) ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم، يعملون به ويحكمون. وقد نودي يحيى (ع) ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم. لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة.
وقد زود الله يحيى بالحكمة في صباه، ووهبه الحنان والعطف لتأليف القلوب واجتذابها إلى الخير، وآتاه الطهارة والتقوى فكان موصولا بالله،(5/181)
عابدا له، مجاهدا في سبيله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولا يخشى في الله لومة لائم.
حكمة خلق عيسى (ع)
انتقلت السورة من قصّة ميلاد يحيى (ع) إلى قصّة ميلاد عيسى (ع) وقد تدرّج السياق من القصة الأولى، ووجه العجب فيها ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية، ووجه العجب فيها ولادة العذراء من غير بعل، وهي أعجب وأغرب.
وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا، وإنشائه على هذه الصورة فإن حادث ولادة عيسى بن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثا فذّا لا نظير له من قبله ولا من بعده.
والبشرية لم تشهد خلق نفسها. وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها.
إنها لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب ولا أم. وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث، فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية، في مولد عيسى من غير أب، على غير السّنّة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر، ثمّ تظلّ في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذّة، تتلفّت إليها الأجيال، إن عزّ عليها أن تتلفّت إلى العجيبة الأولى، التي لم يشهدها إنسان! لقد جرت سنّة الله في امتداد الحياة، بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل بلا استثناء.
حتى المخلوقات التي لا ذكر منها وأنثى، تتجمّع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث. جرت هذه السّنّة أحقابا طويلة حتى استقرّ في تصوّر البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأوّل.
حادث وجود الإنسان، لأنه خارج عن القياس. فأراد الله سبحانه أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم (ع) ليذكّرهم بحرّيّة القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها ولم يتكرر حادث عيسى (ع) ، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره.
وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرّيّة المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس:(5/182)
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [الآية 21] .
ونظرا لغرابة الحادث وضخامته، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوّره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه. فجعلت تضفي على عيسى بن مريم (ع) ، صفات الألوهية، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية المطلقة، تعكسها فتشوّه عقيدة التوحيد. والقرآن في هذه السورة، يقصّ كيف وقعت هذه العجيبة ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير.
قصة ميلاد عيسى (ع)
وهب الله مريم التقوى واليقين، ورزقها من فضله بغير حساب. وفي يوم مّا اعتكفت مريم كعادتها. وتوارت من أهلها، واحتجبت عن أنظارهم.
وبينما هي في خلوتها، مطمئنّة إلى انفرادها، ظهر أمامها رجل مكتمل سويّ الخلقة، فانتفضت انتفاضة العذراء المذعورة يفجأها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به، وتستنجد، وتستشير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله، والتحرّج من رقابته في هذا المكان الخالي. ولكنّ الرجل السّويّ هدّأ من روعها، وأعاد إليها طمأنينتها، وأخبرها أنه ملاك أرسله الله إليها، لحكمة إلهية، وفضل ربّاني:
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
(19) .
وتدرك مريم شجاعة الأنثى المهدّدة في عرضها! فتسأل في صراحة وحجّة:
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) .
فهي لم تخالط رجلا في نكاح ولا في سفاح. فأخبرها الملاك، أنّ هذا الحمل سيكون بقدرة الله وحده، وهو أمر هيّن أمام هذه القدرة التي تقول للشيء كن فيكون. وقد أراد الله سبحانه أن يجعل هذا الحادث آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرّيّة إرادته.
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) .
ثم مضى الملاك واختفى. وت الحمل بقدرة الله، وجلست مريم حائر(5/183)
تفكّر في أمر نفسها، وتخيّلت ما سيقوله الناس عن عذراء تحمل وتلد من غير أن يكون لها بعل وفي حدّة الألم ومرارة الخوف نظرت إلى الطفل في حسرة واكتئاب، وجعلت تتمنّى لو ضمّها القبر وفارقت العالم، قبل أن تصير أمّا من غير أن تتزوّج، فقالت كما ورد في التنزيل:
يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) .
ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت وليدها، فبدّد مخاوفها، وكفكف دموعها، وناداها من تحتها كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه:
أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) .
أي جدولا يجري ماؤه في تلك البقعة الجرداء، والأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع، أو تدفّق من مسيل ماء في الجبل. وهذه النخلة التي تستندين إليها هزّيها فتتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب، والطعام الحلو مناسب للنّفساء.
والرّطب والتّمر من أجود طعام النّفساء: فَكُلِي وَاشْرَبِي [الآية 26] هنيئا وَقَرِّي عَيْناً [الآية 26] .
واطمأني قلبا، لما ترين من قدرة الله التي اخضرّ بها جذع النخلة اليابسة.
وطيبي نفسا بما حباك الله من جريان الماء في تلك البقعة المقفرة.
واطمأنت مريم إلى فضل الله، وأنّه لن يتركها وحدها، أنّ حجّتها معها، هذا الطفل الذي ينطق في المهد.
ورجعت مريم إلى قومها وعشيرتها تحمل ولدها على كتفها، وسرعان ما شاع أمرها، وعرف خبرها. وجاء أقاربها يؤنّبونها بألسنة التقريع والتأنيب، ويلومونها على هذه الفعلة المنكرة، ويذكّرونها بشرف أسرتها وكرم أصلها. والتزمت مريم الصمت، وأشارت إليهم أن كلّموا هذا الوليد، إن أردتم الوقوف على حقيقة الأمر:
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) ؟
كيف نكلم وليدا، لم تكتمل أدوات نطقه. ولم تتحرّك شفته إلى ثدي أمّه؟
فانطلق الوليد يجيبهم في بيان وحجّة وبرهان:(5/184)
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
وهكذا يعلن عيسى (ع) عبوديّته لله سبحانه. فليس هو ابنه كما تقول فرقة، وليس هو إلها كما تقول فرقة، وليس هو ثالث ثلاثة كما تقول فرقة ثالثة ويعلن أن الله جعله نبيّا لا ولدا ولا شريكا، وأن الله أوصاه بالصلاة والزكاة مدّة حياته.
أسلوب القرآن
نحسّ في كلمات هذه السورة السهولة واليسر، والرضا واللطف، فهي كلمات معبّرة عن معانيها فمعاني السورة تدور حول فضل الله على زكريّا ومريم، وغيرهما من الأصفياء.
ويتمثّل الرّضا والسلاسة واليسر في معاني السورة، كما يتمثّل في ألفاظها وفواصلها، وهي: رضيّا، سريّا، حفيّا، نجيّا ...
فأمّا المواضع التي تقتضي الشدّة والعنف، فتجيء فيها الفاصلة مشدّدة على حرف الدال في الغالب: مدّا، ضدّا، إدّا، هدّا، أو زايا: عزّا، أزّا، ركزا.
ويتنوّع الإيقاع والفاصلة بتنوّع الجو والموضوع في هذه السورة، فهي تبدأ بقصّة زكريّا ويحيى، فتسير الفاصلة والقافية هكذا:
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) وتليها قصّة مريم وعيسى فتسير الفاصلة على النظام نفسه:
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا
(3) وتليها قصّة مريم وعيسى فتسير الفاصلة على النظام نفسه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) .
إلى أن ينتهي القصص، ويجيء التعقيب، لتقرير حقيقة عيسى بن مريم، وللفصل في قضية بنوّته، فيختلف نظام الفواصل. تطول الفاصلة وتنتهي بحرف الميم أو النون المستقرّ الساكن، وكأنّما الآيات تعبّر عن حكم بعد نهاية القصّة، مستمدّ منها ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا تعبيريّا غير أسلوب الاستعراض، وتقتضي ايقاعا قويّا رصينا، بدل إيقاع القصّة الرضيّ المسترسل، فيقول سبحانه:(5/185)
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) .
حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص، عاد الإيقاع الرّضي المديد:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) .
حتّى إذا جاء ذكر المكذّبين، وما ينتظرهم من عذاب وانتقام، تغيّر الإيقاع والجرس:
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) .
وفي موضع الاستنكار، يشتدّ الجرس والنّغم بتشديد الدّال:
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) .
وهكذا يسير الإيقاع في السورة وفق المعنى والجو، ويشارك في إبقاء الأسلوب الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة، وفق انتقالات السياق من فكرة إلى فكرة، ومن معنى إلى معنى.
المعالم الرئيسة في السورة
يمكننا أن نلمح ثلاث مجموعات رئيسة في سورة مريم:
المجموعة الأولى: تتضمّن قصّة زكريّا ويحيى، وقصّة مريم وعيسى، والتعقيب على هذه القصّة بالفصل في قضيّة عيسى التي كثر فيها الجدل، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى.
المجموعة الثانية: تتضمّن حلقة من قصّة إبراهيم مع أبيه وقومه، واعتزاله لملّة الشّرك، وما عوّضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك أمّة. ثمّ أشارت إلى قصص النبيّين، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة، ومصير هؤلاء وهؤلاء وتنتهي بإعلان الربوبية الواحدة التي تعبد بلا شريك:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) .
والمجموعة الثالثة والأخيرة: تبدأ بالجدل حول قضية البعث، وتستعرض(5/186)
بعض مشاهد القيامة، وتعرض صورة من استنكار الكون كلّه لدعوى الشرك.
وتنتهي بمشهد مؤثّر عميق، من مصارع القرون:
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [الآية 74] .
أي أمة من الأمم الماضية، بتكذيبهم الرسل.
هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) .
وقد جاء تفسير الطبري لهذه الآية الأخيرة من سورة مريم بما معناه:
يقول تعالى ذكره: وكثيرا أهلكنا يا محمّد، قبل قومك من مشركي قريش مِنْ قَرْنٍ يعني من جماعة من الناس، إذ سلكوا سبيل المعاصي والشرك: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ.
يقول فهل تحس أنت منهم أحدا يا محمّد، فتراه وتعاينه أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) .
يقول أو تسمع لهم صوتا، بل بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم، وأوحشت منهم منازلهم، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلّا صالح من عمل قدّموه فكذلك قومك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.
وهكذا تنتهي سورة مريم، بعد تقرير قدرة الله الفائقة، وحكمته البالغة في خلق يحيى وخلق عيسى (ع) ، وتقرير قدرته سبحانه على البعث والحشر والحساب والجزاء، ومكافأة المؤمنين ومعاقبة المعتدين.(5/187)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «مريم» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة مريم بعد سورة فاطر.
ونزلت سورة فاطر بعد تسع عشرة سورة من سورة النجم، وسيأتي أنّ سورة النجم نزلت عقب الهجرة الأولى للحبشة، وقد كانت الهجرة إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة، فتكون سورة مريم من السور التي نزلت بين هذه الهجرة وحادثة الإسراء.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر قصة مريم فيها، وتبلغ آياتها ثماني وتسعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، ذكر نتف من قصص بعض الرسل للعظة والقدوة، تتميما لما ورد من ذلك القصص العجيب في سورة الكهف، وتقريرا لما ورد في ختامها من أن كلمات الله في ذلك لا نفاد لها، ولهذا ذكرت سورة مريم بعد سورة الكهف.
وقد ذيّلت قصص أولئك الرسل ببيان انحراف أتباعهم عن سنّتهم، وما يستحقون من الجزاء على انحرافهم.
نتف من قصص بعض الرسل الآيات [1- 58]
قال الله تعالى: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) فذكر ست قصص من قصص الرسل:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/189)
الأولى قصّة زكريّا وابنه يحيى، وقد سبق ورودها في سورة آل عمران، وهي تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص، وقد ختمت بقوله تعالى في يحيى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
(15) .
والثانية قصّة مريم وابنها عيسى، وقد سبقت أيضا في سورة آل عمران، وهي تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها، وما فيها من زيادة ونقص وقد ذكر سبحانه أن ما قصّه فيها من أنّ عيسى عبده لا ابنه، هو الحقّ وأمرهم تعالى أن يعبدوه وحده ولا يتّخذوا له شريكا من ولد أو غيره، ثم أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) .
والثالثة قصة إبراهيم مع أبيه، وقد سبقت في سورة الأنعام، وهي تخالف ما سبق من جهة أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص، وقد ذكر في آخرها أنه حين اعتزل قومه وما يعبدون من دونه وهب له سبحانه، إسحاق ويعقوب، وكلّا جعله نبيّا: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) .
والرابعة قصّة موسى، وقد ذكر فيها أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيّا، وأنه ناداه من جانب الطور الأيمن، وقرّبه نجيّا: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) .
والخامسة قصّة إسماعيل، وقد ذكر فيها أنه كان صادق الوعد، وكان رسولا نبيّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) .
والسادسة قصّة إدريس، وقد ذكر فيها أنه كان صديقا نبيّا، وأنّه رفعه مكانا عليّا.
ثم أثنى عليهم عموما، بعد أن أثنى على كل واحد بخصوصه، فقال جلّ وعلا أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) .
انحراف خلفهم عن سننهم الآيات [59- 98]
ثم قال تعالى:(5/190)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) فذكر سبحانه، أنّه خلف من بعد هؤلاء الرسل خلف انحرفوا عن سننهم فأضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وأنّهم سوف يلقون جزاء غيهم، واستثنى من ثاب منهم وآمن بالنبي (ص) ووعدهم بأنهم يدخلون الجنة إلخ ثم ذكر جلّ جلاله أنهم لا يتنزّلون فيها إلّا بأمره، لأنه مالك كلّ شيء ممّا بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك، وما كان لينسى إحسان المحسن وإساءة المسيء فلا يجازيهما عليهما ثم ذكر بمناسبة هذا إنكارهم للمعاد الذي يكون فيه الثواب والعقاب، لاستبعادهم إحياء الإنسان بعد موته. وأجابهم بأنه خلق الإنسان من قبل موته ولم يك شيئا، فهو قادر على إعادته بعد موته من باب أولى ثم أقسم ليحشرنّهم والشياطين، وليحضرنّهم حول جهنّم باركين على ركبهم ولينزعنّ من بينهم من كان منهم أشدّ تمرّدا، ليذيقه عذابا أعظم من غيره، وهو أعلم بمن هو أولى بذلك من غيره، ولا بدّ من ورودهم لها جميعا على تفاوت عذابهم فيها ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) . ثم ذكر السبب في عدم إيمانهم بذلك، وهو اغترارهم بدنياهم، فذكر سبحانه أنهم إذا تتلى عليهم آياته في ذلك واضحات، ذكروا أنهم أحسن حالا من المؤمنين، ولو كانوا على الباطل لكانوا أسوأ حالا منهم ورد عليهم بأنه كم أهلك من قبلهم من قوم كانوا أحسن حالا منهم، وبأنه إنّما ينعم عليهم بذلك ليمدّ لهم في الضلالة ويقطع عنهم العذر، حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا أو الاخرة علموا أنهم شرّ مكانا وأضعف جندا وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) .
ثم خصّ شخصا منهم بلغ به الغرور مبلغه حتى قال استهزاء: لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) في المعاد كما أوتيت ذلك في الدنيا، وردّ عليه بأنه لم يطّلع على الغيب، ولم يتّخذ عنده بذلك عهدا ثم أوعده بأنه سيكتب ما قاله ويرث ماله وولده، حتى يأتيه يوم القيامة فردا.
ثم ذكر أنهم يعتمدون في ذلك على أنّ آلهتهم ستشفع لهم يوم القيامة، وردّ عليهم بأنهم سيكافرون فيه بعبادتهم(5/191)
ويكونون عليهم ضدّا ثم ذكر أن الشياطين استولت عليهم، فلا فائدة في نصحهم، ونهى النبي (ص) أن يعجّل عليهم العذاب، لأنه يعدّه لهم عدّا ثم ذكر أنه إذا أتى وقته يحشر المتّقين وفدا، ويسوق المجرمين إلى جهنّم، كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء، ولا يكون هناك شفاعة إلّا للمؤمنين الذين اتّخذوا عند الرحمن بذلك عهدا.
ثمّ ذكر أنّ فريقا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله، فيعبدها ويزعمون أنها تشفع لهم يوم القيامة وردّ عليهم بأنهم قد جاءوا بهذا شيئا إدّا، وبأنه ما ينبغي له سبحانه أن يتّخذ ولدا ثم ذكر أن كل من في السماوات والأرض يأتيه يوم القيامة عبدا وأن كل واحد منهم يأتيه فردا، لا شفيع له من الملائكة، وغيرهم.
ثم ختمت السورة بإثبات الشفاعة للمؤمنين بعد أن نفيت عن غيرهم، فذكر سبحانه أنه سيجعل لهم يوم القيامة ودّا يشفع به بعضهم لبعض، ولا يقطع ما بينهم من تواصل كما قطع بين الكفّار ومن اتّخذوه من شريك وولد ثم ذكر سبحانه أنه إنما يسّر القرآن بلسان الرسول (ص) ، لأجل هذا التبشير والإنذار فقال جلّ وعلا:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) .(5/192)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «مريم» «1»
أقول: ظهر لي في وجه مناسبتها لما قبلها: أنّ سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: قصّة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وما فيها من الخارقات، وقصّة ذي القرنين. وهذه السورة فيها أعجوبتان: قصّة ولادة يحيى بن زكريّا (ع) «2» ، وقصّة ولادة عيسى (ع) ، فناسب تتاليهما. وأيضا قيل: إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة، ويحجّون مع عيسى بن مريم حين ينزل «3» . ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك، إن ثبت، ما لا يخفى من المناسبة. وقد قيل أيضا: إنهم من قوم عيسى، وإنّ قصتهم كانت في الفترة، فناسب توالي قصتهم وقصة نبيّهم «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . ولادة يحيى كانت عجيبة، لأنّ أمه كانت قد بلغت سنّ اليأس، وأباه بلغ من الكبر عتيّا، فليس لمثلهما أن ينجب أبدا.
(3) . لم نعثر على هذا الرأي فيما بين أيدينا من مصادر.
(4) . قال ابن كثير: الظاهر أنهم كانوا قبل ملّة النصرانية، لأن اليهود أشاروا على قريش بسؤال النبي (ص) عنهم.
(تفسير ابن كثير: 5: 137) .(5/193)
المبحث الرابع مكنونات سورة «مريم» »
1- فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[الآية 17] .
قال قتادة، وعطاء، والضّحّاك:
جبريل أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
2- فَناداها مِنْ تَحْتِها [الآية 24] .
قال البراء: ملك.
وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير، والضّحّاك: جبريل، وقال مجاهد والحسن: عيسى «3» .
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
3- وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) . المكان العليّ، هو السماء الرابعة، كما في «الصحيح» «4» 4- وَيَقُولُ الْإِنْسانُ [الآية 66] .
هو: أبيّ بن خلف «5» .
وقيل: الوليد بن المغيرة.
وقيل: أميّة بن خلف.
5- أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) .
نزلت في العاصي بن وائل السّهمي كما أخرجه البخاري عن خبّاب بن الأرتّ «6» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر «تفسير الطبري» 16: 49.
(3) . هذا القول اختاره ابن زيد، كما في «تفسير ابن كثير» 3: 177، والطبري أيضا في «تفسيره» 16: 52.
(4) . «صحيح البخاري» في بدء الخلق برقم (3207) . [.....]
(5) . حكاه الواحدي في «أسباب النزول» 227، عن الكلبي وانظر «سيرة ابن هشام» 1: 361.
(6) . برقم (4732) في التفسير.(5/195)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «مريم» «1»
قال تعالى: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) .
قوله تعالى عِتِيًّا (8) أي: اليبس والجساوة في المفاصل والعظام، كالعود القاحل يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطّعن في السن العالية.
والفعل «عتا يعتو» مصدره عتوّ وعتيّ بمعنى استكبر وجاوز الحدّ وقرئ «عتيّا» بضم العين.
ومنه أيضا قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) .
أقول: وكأنّ بين اليبس والجساوة في المفاصل والعظام، وبين الاستكبار وتجاوز الحد قرابة وبشيء من اللطف، يصار من هذه الى تلك.
2- وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) .
قوله تعالى (ولم تك) حذف النون للتخفيف، وذلك إذا وليها حرف ذو حركة، فإن كان ساكنا امتنع الحذف وقد ورد في الشعر ضرورة، ومنه قول الشاعر:
إذا لم تك المرآة أبدت محاسنا فقد أبدت المرأة جبهة ضيغم ومثل الآية قوله تعالى أيضا:
وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) .
3- وقال تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ [الآية 23] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرخ.(5/197)
وقوله تعالى: فَأَجاءَهَا فعل مزيد بالهمزة، والثلاثي «جاء» إلّا أنّ استعمال المزيد قد تغيّر بعد الزيادة إلى معنى الإلجاء، تقول: جئت المكان، وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه.
ونظيره «آتي» ، حيث لم يستعمل إلّا في الإعطاء. ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان.
أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة الفعل المزيد «أجاء» .
4- وقال تعالى: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) .
وقرئ «نسيا» بكسر النون وفتحها، فمن قرأ بالكسر فمعناه: حيضة ملقاة، أي، خرقة الحيض، ومن قرأ بالفتح فمعناه شيئا منسيا.
والنّسي أيضا: ما نسي وما سقط في منازل المرتحلين من رذال أمتعتهم.
وتقول العرب إذا ارتحلوا من المنزل:
انظروا أنساءكم، جمع نسي وفي حديث عائشة- رضي الله عنها- «وددت أني كنت نسيا منسيا» أي شيئا حقيرا مطّرحا ولا يلتفت إليه. وقال تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) .
السّريّ: النهر، عن ثعلب، وهو الجدول الصغير يجري إلى النخل، والجمع أسرية وسريان.
وكذلك قال ابن عبّاس، وهو قول أهل اللغة.
وروي عن الحسن، أنّه كان يقول كان والله سريّا من الرجال، ويعني عيسى (ع) .
6- وقال تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) .
قال الفرّاء: الفريّ الأمر العظيم، أي: جئت شيئا عظيما.
وقيل: جئت شيئا فريّا، أي مصنوعا مختلقا.
وفلان يفري الفريّ، إذا كان يأتي بالعجب في عمله.
وقال النبي (ص) في عمر، رضي الله عنه، ورآه في منامه ينزع عن قليب «1» بغرب «2» : فلم أر عبقريّا يفري فريّه.
__________
(1) . القليب: البئر.
(2) . الغرب: الدّلو العظيمة.(5/198)
وأقول: وهذا من الكلم الجميل الذي أضعناه، وليس لنا منه شيء.
7- وقال تعالى: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) .
قال الفرّاء: أي: طويلا.
والمليّ: الهويّ من الدهر، يقال أقام مليا من الدّهر، ومضى مليّ من النهار، أي ساعة طويلة.
ومرّ مليّ من الليل، أي من أوّله إلى ثلثه.
8- وقال تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) .
الحفيّ: البليغ في البرّ والإلطاف، يقال حفي به وتحفّى به.
أقول: وليس لنا في هذا المعنى إلا الفعل «احتفى» يقال احتفى به، أي برّ وتلطّف وكرم.
9- وقال تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) .
قوله تعالى: وَبُكِيًّا (58) أي:
باكين، وهو جمع باك مثل قاعد وقعود، وساجد وسجود.
وفي بعض القراآت «بكيّا» بكسر الباء، وهي قراءة من آثر كسرة الكاف لمكان الياء بعدها، وهذا كقوله تعالى:
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) .
وقوله جلّ وعلا: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) .
وقوله تعالى: جِثِيًّا جمع جاث، وكان يمكن أن تقرأ «جثيّا» بضم الجيم على قراءة من قرأ (بكيّا) ، وهي القراءة المشهورة ولكن جِثِيًّا بالكسر هي القراءة الغالبة.
10- وقال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) .
والمعنى ثمّ لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصليّ من بين سائر الصالين.
والصّليّ: مصدر صلي. وصلي بالنار وصليها صليا وصليّا وصليّا وصلىّ وصلاء واصطلى بها وتصلّاها.
وقرئ: «صليّا» .
11- وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) .
الأثاث: متاع البيت، وما جدّ من الفرش، وليس منه الخرثيّ «1» .
__________
(1) . الخرثيّ: أردأ المتاع.(5/199)
أقول: والأثاث مفرد بخلاف ما يرد جمعا في لغة المعاصرين.
إن مادة «أثاث» تشير إلى ما يقابلها في اللغات السامية، وهي «ايث» كما في العبرانية، «ايت» في الآرامية، و «ايش» كما في العربية، ومنه أيضا «ايس» ، وكلها تشير إلى «شيء» المعروفة في العربية.
و «ايث» تعني الشيء والوجود والكينونة، ومن هنا كان من الحسن أن ننظر إلى «لات» التي قد تكون «لا أيت» أي لا شيء، ثم ركّبت على طريقة النحت فصارت «لات» النافية.
وقد أشرنا في غير هذا المختصر إلى مادة «ليس» وإنها «لا أيس» في الأصل، ضد الوجود وهو العدم.
ومن هنا كان «أيس» هو مادة «إنسان» كما في قولهم «إيسان» ثم إذا عرفنا أن «إيش» هو الرجل في العبرانية أدركنا القيم التاريخية لهذه الأصول العتيقة.
و (الرئي) : المنظر والهيئة، وهو على وزن «فعل» بمعنى مفعول نظير «ذبح» ، أي مذبوح أو كما أشرنا إلى هذا البناء الثلاثي في غير هذا المكان. 12- وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) .
الأزّ والاستفزاز متقاربان، والمعنى التهييج وشدّة الإزعاج.
أقول:
ليس شيئا من ذلك في اللغة المعاصرة، بل إن الفعل «أزّ» يفيد ضربا من الصوت، كأزيز القدر والمرجل ونحوهما.
13- وقال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) .
أي: يوم نحشرهم وافدين، والوفد في الآية الركبان المكرّمون.
وكما يكون «الوفد» اسم جمع للوافد، فهو مصدر أيضا.
والوفد، في لغتنا المعاصرة جماعة يوفدون إلى أمر من الأمور، ولكثرة استعماله في الحياة المعاصرة جمع على «وفود» .
14- وقال تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) .
الإدّ بالكسر والفتح: العجب، وقيل: العظيم المنكر، والإدّة: الشّدّة، وأدّني الأمر وآدني: أثقلني وعظم عليّ.(5/200)
15- وقال تعالى: أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) .
الرّكز: الصّوت الخفي. وكأنّ أصل المعنى في «الرّكز» هو الخفاء، ومنه ركز الرّمح إذا غيّب طرفه في الأرض، والرّكاز: المال المدفون.(5/201)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «مريم» «1»
قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) أي: «ممّا نقصّ عليك ذكر رحمة ربّك» «2» فانتصب العبد بالرحمة. وقد يقول الرجل «هذا ذكر ضرب زيد عمرا» «3» .
وقال سبحانه: نِداءً خَفِيًّا (3) بجعله من الإخفاء.
وقال: شَيْباً [الآية 4] لأنه مصدر في المعنى ناب عن فعله «4» . وليس هو مثل «امتلأت ماء» لأن ذلك ليس بمصدر.
وقوله تعالى: سَوِيًّا (10) على الحال «5» ، كأنه أمر في الكفّ عن الكلام سويّا.
وقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ [الآية 44] فإذا وقفت قلت:
«يا آبه» وهي هاء زيدت كنحو قولك «يا أمّه» ثم تقول «يا أمّ» إذا وصلت، ولكنّه لما كان «الأب» على حرفين كان كأنه قد أخلّ به، فصارت الهاء لازمة وصارت الياء كأنها بعدها، فلذلك قيل «يا أبت أقبل» وجعلت التاء للتأنيث.
ويجوز الترخيم لأنه يجوز أن تدعو ما تضيف الى نفسك في المعنى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . نقله في المشكل 2: 49، والجامع 11: 75.
(3) . نقله في إعراب القرآن 2: 624، ونقله في الجامع 11: 75.
(4) . نقله في الصحاح «شيب» ، وإعراب القرآن 2: 624، والجامع 11: 77.
(5) . نقله في إعراب القرآن 2: 627.(5/203)
مضموما، نحو قول العرب «يا ربّ اغفر لي» وتقف في القرآن يا أَبَتِ للكتاب وقد يقف بعض العرب على هاء التأنيث «1» .
وقال تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) نحو قولك «ملحفة جديد» «2» .
وقال تعالى: لِسانَ صِدْقٍ [الآية 50] نحو قولهم: «لساننا غير لسانكم» أي: لغتنا غير لغتكم. وإن شئت جعلت اللسان مقالهم كما تقول «فلان لساننا» .
وقال تعالى إِلَّا سَلاماً [الآية 62] فهذا كالاستثناء الذي ليس من أوّل الكلام «3» . وهذا على البدل، إن شئت كأنّه «لا يسمعون فيها إلّا سلاما» .
وقال تعالى: وَرِءْياً (74) فالرّئي من الرؤية، وفسّروه من المنظر، فذاك يدلّ على أنه من «رأيت» .
وقال تعالى: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ [الآية 64] أي، والله أعلم، ما بَيْنَ أَيْدِينا قبل أن نخلق وَما خَلْفَنا بعد الفناء وَما بَيْنَ ذلِكَ حين كنّا «4» .
وفي قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [الآية 25] زيدت الباء، وهي تزاد في كثير من الكلام، نحو قوله سبحانه: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي: تنبت الدهن.
وقال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائتين] :
بواد يمان ينبت السّدر صدره ... وأسفله بالمرخ والشّبهان «6»
__________
(1) . هي لغة قوم طيّئ. شرح المفصل 5: 89، وقيل بل لغة تميمية. اللهجات العربية 393 وما بعدها، والخصائص 1: 304، والمخصص 9: 7، والخزانة 2: 148، واللسان: «جحف» و «بلل» و «ما» .
(2) . نقله في الصحاح «بغي»
(3) . نقله في إعراب القرآن 2: 637. [.....]
(4) . نقله في زاد المسير 5: 250، والجامع 11: 129، والبحر 6: 203.
(5) . هو امرؤ القيس: الجمهرة 1: 45 وقيل رجل من عبد القيس اللسان «شبه» وقيل يعلى الأحول، الجمهرة 1:
45.
(6) . في أدب الكاتب 416، والجمهرة كما سبق و 3: 414، واللسان «شئث» ، وشبه مجاز القرآن 2: 48 ب «الشث» بدل «السدر» ، وفي الجمهرة كما سبق، وفي اللسان مادة «شثث» «فرعه» بدل «صدره» .(5/204)
يقول: «وأسفله ينبت المرخ والشبهان» ومثله: «زوجتك بفلانة» يريدون: «زوّجتكها» ويجوز أن يكون على معنى «هزّي رطبا بجذع النخلة» .
وفي قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [الآية 90] فالمعنى يردن «1» لأنهنّ لا يكون منهنّ أن يتفطّرن، ولا يدنون من ذلك، ولكنهنّ هممن به إعظاما لقول المشركين ولا يكون على من همّ بالشيء أن يدنو منه، ألا ترى أنّ رجلا لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك، وقد كانت منه إرادة.
وفي قوله تعالى: كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) «العصيّ» : العاصي، كما تقول: «عليم» و «عالم» و «عريف» و «عارف» قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين] :
أو كلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «3»
يقول: «عارفهم» وقال تعالى: أَطَّلَعَ [الآية 78] فهذه ألف الاستفهام، وذهبت ألف الوصل لمّا دخلت ألف الاستفهام.
وقال تعالى وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) لأنّ «الضدّ» يكون واحدا وجماعة، مثل «الرصد» و «الأرصاد» ، ويكون الرّصد أيضا اسما للجماعة «4» .
__________
(1) . نقله في البحر 6: 218.
(2) . هو طريف بن تميم العنبري: الكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 215، والفاخر 258، والأصمعيات 127 والبيت أيضا في المنصف 3: 66.
(3) . في الأصمعيات: رسولهم بدل عريفهم.
(4) . نقله في التهذيب 11: 455 «ضد» .(5/205)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «مريم» «1»
إن قيل: النداء هو الصوت والصياح، يقال ناداه نداء: أي صاح به، فلم وصف النداء بكونه خفيّا، كما جاء في الآية 3؟
قلنا: النداء هنا عبارة عن الدعاء، وإنما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص، أو لئلا يلام على طلبه الولد بعد الشيوخة، أو لئلا يعاديه بنو عمه، ويقولوا: كره أن نقوم مقامه بعده، فسأل ربّه الولد لذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [الآية 6] ، والنبي لا يورث لقوله (ص) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة» ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى يَرِثُنِي:
أي يرثني العلم والنبوّة، ويرث من آل يعقوب الملك، وقيل الأخلاق فأجابه الله تعالى إلى وراثته العلم والنبوّة والأخلاق، دون الملك، والمراد بقوله (ص) «لا نورث» المال ويؤيده قوله (ص) «ما تركناه صدقة» . ويعقوب هنا والد يوسف عليهما السلام، وقيل لا بل هو أخو زكريا، وقيل لا بل هو أخو عمران الذي هو أبو مريم.
فإن قيل لم قال تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بتعدية الفعل في الأول بنفسه والثاني بحرف الجر، وهو واحد؟
قلنا: يقال ورثه وورث منه، فجمع السياق بين اللغتين. وقيل «من» هنا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/207)
للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء.
فإن قيل: كيف طلب الولد بقوله، كما ورد في التنزيل فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) . أي ولدا صالحا، فلمّا بشره الله تعالى بقوله: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الآية 7] استبعد ذلك وتعجّب منه، وأنكره كما ذكر القرآن، بقوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [الآية 8] .
قلنا: لم يقل ذلك على طريق الإنكار والاستبعاد، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الولد، وهو قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى، فيزداد الموقنون إيقانا ويرتدع المبطلون، وإلّا فمعتقد زكريّا أولا وآخرا، كان على منهاج واحد في أنّ الله تعالى غنيّ عن الأسباب.
الثاني: أنه قال ذلك تعجّب فرح وسرور، لا تعجّب إنكار واستبعاد.
الثالث: قيل إنه قال ذلك استفهاما عن الحالة التي يهبه الله تعالى فيها الولد:
هل يهبه في حال الشيخوخة أم يردّه إلى حالة الشباب ثم يهبه، ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا (ع) بعد استفهامه. فإن قيل: لم قيل: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [الآية 10] والآية العلامة، فعلام طلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشّره الله تعالى به أكان عنده شكّ بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟
قلنا: إنّما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر ويتعجّل السرور فإن الحمل لا يظهر في أوّل العلوق بل بعد مدة، فأراد معرفته أوّل ما يوجد، فجعل الله آية وجود الحمل عجزه عن الكلام، وهو سويّ الجوارح ما به خرس ولا بكم.
فإن قيل: لم قالت مريم، كما ورد في التنزيل: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
(18) . وإنما يتعوّذ من الفاسق لا من التقيّ.
قلنا: معناه إن كنت ممّن يتقي الله ويخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك فمعنى أعوذ أحصل على ثمره التعوّذ.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أنه كان في زمانها رجل اسمه تقيّ، ولم يكن تقيّا بل كان فاجرا، فظنّته إيّاه فتعوّذت منه والقول الأول هو الذي عليه المحقّقون وقيل هو على المبالغة، معناه: إني أعوذ منك إن(5/208)
كنت تقيّا فكيف يكون حالي في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقيّا؟ قالوا: ونظير هذا ما جاء في الخبر «نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه» معناه: أنه إذا كان بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان، فكيف يكون حاله إذا خاف الله تعالى. وفي قراءة أبي رجاء وابن مسعود (إلا أن تكون تقيّا) .
فإن قيل: اتّفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة ولم يرسل جبريل (ع) برسالة إلى امرأة قطّ، ولهذا قالوا في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] أنه كان وحي إلهام، وقيل وحي منام فلم قال تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[الآية 17] وقال تعالى: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
[الآية 19] ؟
قلنا: لا نسلّم أنّ الوحي لم ينزل على امرأة قط، فإنّ مقاتلا قال في قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] أنّه كان وحيا بواسطة جبريل (ع) ، وإنّما المتفق عليه بين العلماء أنّ جبريل (ع) لم ينزل بوحي الرسالة على امرأة لا بمطلق الوحي. وهنا لم ينزل على مريم بوحي الرسالة بل بالبشارة بالولد، ولهذا جاء على صورة البشر فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
(17) .
فإن قيل: ما وجه قراءة الجمهور:
لِأَهَبَ لَكِ
[الآية 19] والواهب للولد الله تعالى لا جبريل (ع) ؟
قلنا: قال ابن الأنباري: معناه إنّما أنا رسول ربّك، بقوله لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك، فيكون حكاية عن الله تعالى لا عن قول جبريل (ع) ، فيكون فعل الهبة مسندا إلى الله تعالى لا إليه. الثاني: أنّ معناه لأكون سببا في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع، فالإضافة إليه بواسطة السببيّة.
فإن قيل: لم قالت كما ورد في القرآن: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) . ولم تقل بغيّة، مع أنه وصف مؤنث؟
قلنا: قال ابن الأنباري: لما كان هذا الوصف غالبا على النساء، وقلّما تقول العرب رجل بغي، لم يلحقوا به علامة التأنيث إجراء له مجرى حائض وعاقر وقال الأزهري: لا يقال رجل بغيّ، بل هو مختصّ بالمؤنّث، ولام الكلم ياء، يقال بغت تبغي وهو فعول عند المبرّد أصلها بغوي، قلبت الواو ياء وأدغمت، وكسرت الغين اتباعا، فهو(5/209)
كصبور وشكور في عدم دخول التاء وقال ابن جنّي في كتابه التمام: هي فعيل، ولو كان فعولا لقيل بغو، كما قيل هو نهو عن المنكر، ثم قيل هي فعيل بمعنى فاعل، فهي كقوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) [الأعراف] وقال الأخفش: هي مثل «ملحفة جديد» ، فجعلها بمعنى مفعول. وقيل إنما لم يقل بغيّة مراعاة لبقية رؤوس الآيات.
فإن قيل: ما كان حزن مريم في قوله تعالى: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) ألفقد الطعام والشراب حتى تسلّت بالسّريّ والرّطب، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟
قلنا: كان حزنها لمجموع الأمرين، وهو ما ذكرتم، وجدب مكانها الذي ولدت فيه، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء تتطهّر به وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن. أما دفع الجدب فظاهر، وأما دفع حزن التهمة، فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء، وأن الله تعالى قد خصّها بأمور إلهية خارجة عن العادة، خارقة لها فتبيّن لهم أنّ ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها، ولا بعيد في قدرة الله تعالى، المخرج في لحظة واحدة، الرّطب الجني من النخلة اليابسة، والمجري للماء بغتة، في مكان لم يعهد فيه.
فإن قيل: لم أمرها جبريل (ع) إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت، في قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) وذلك خلف في النذر؟
قلنا: إنّما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يتدرّج فيه الكفّ عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس، وإذا كان تمام نذرها كما ورد في قوله تعالى: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.
فإن قيل: لم قال تعالى فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) وكل أحد كان في المهد صبيا؟
قلنا: كان هنا زائدة، وصبيا منصوب(5/210)
على الحال لا على أنه خبر كان، تقديره: كيف نكلم من في المهد في حال صباه. وقيل كان بمعنى وقع ووجد وصبيّا منصوب على الوجه الذي مرّ.
فإن قيل، خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به، وعيسى عليه السلام كان رضيعا في المهد، فكيف خوطب بالصّلاة والزّكاة، في قوله تعالى: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) .
قلنا: تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ وغيرها، إنما كان ليحصل العقل والتمييز، وعيسى (ع) كان واحد العقل والتمييز التام في تلك الحالة، فتوجه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك، ولهذا قيل إنه أعطي النبوة في صباه أيضا.
فإن قيل الزّكاة إنّما تجب على الأغنياء، وعيسى عليه السلام لم يزل فقيرا لابس كساء مدة مقامه في الأرض، وعلم الله تعالى ذلك من حاله، فلم أوصاه بالزّكاة؟ قلنا: المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي، لا زكاة المال.
فإن قيل: لم جاء السلام في قصّة يحيى عليه السلام منكّرا، وفي قصة عيسى عليه السلام معرّفا؟
قلنا: قد قيل إنّ النكرة والمعرفة في مثل هذا سواء لا فرق، بينهما في المعنى. الثاني: أنه سبق ذكره في قصة يحيى عليه السلام مرّة، فلما أعيد ذكره أعيد معرفة، كقوله تعالى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزّمّل] كأنّ ذلك السلام الموجّه إلى يحيى عليه السلام، في المواطن الثلاثة، موجّه إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: كيف تكون الألف واللام في السلام للعهد، والأول سلام من الله تعالى على يحيى (ع) ، والثاني سلام من عيسى على نفسه؟
قلنا التعريف راجع إلى ماهيّة السلام ومواطنه، لا إلى كونه واردا من عند الله تعالى.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى وَاذْكُرْ(5/211)
فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ
[الآية 41] وما أشبهه.
ومثل هذا، إنّما يستعمل إذا كان المأمور مختارا في الذكر وعدمه كما تقول لصاحبك وهو يكتب كتابا:
اذكرني في الكتاب، أو اذكر فلانا في الكتاب والنبيّ (ص) ما كان على سبيل من الزيادة والنقصان في الكتابة، ليوصي بمثل ذلك؟
قلنا: هذا على طريق التأكيد في الأمر بالإبلاغ، كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة وتخصيصها بالأمر بالإبلاغ.
فإن قيل: الاستغفار للكافر لا يجوز، فلم وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له، في قوله تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [الآية 47] مع أنه كافر؟
قلنا معناه: سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها مغفرته، يعني الإسلام والاستغفار للكافر بهذا الطريق جائز، وهو أن يقال: اللهم وفّقه للإسلام، أو:
اللهم تب عليه واهده وأرشده، وما أشبه ذلك. الثاني: أنه وعده ذلك، بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام. الثالث: أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر فإنّ تحريم ذلك قضيّة شرعيّة، إنّما تعرف بالسمع، لا عقلية، فإن العقل لا يمنع ذلك.
فإن قيل: الطّور، وهو الجبل ليس له يمين ولا شمال، فلم قال تعالى:
مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [الآية 52] .
قلنا: خاطب الله تعالى العرب، بما هو معروف في استعمالهم، فإنهم يقولون عن يمين القبلة وشمالها، يعنون ما يلي يمين المستقبل لها وشماله، لأنّ القبلة لا يد لها لتكون لها يمين وشمال. وهذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللّبس، فالمراد بالأيمن هنا، ما عن يمين موسى (ع) من الطّور. لأنّ النداء جاءه من قبل يمينه، هذا إن كان الأيمن ضد الأيسر من اليمين. وإن كان من اليمن، وهو البركة، من قولهم: يمن فلان قومه فهو يامن: أي كان مباركا عليهم، فلا إشكال، لأنه يصير معناه: من جانب الطّور المبارك.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وهارون كان أكبر من موسى (ع) فما معنى هبته له؟(5/212)
قلنا: معناه أن الله سبحانه أنعم على موسى عليه الصلاة والسلام، بإجابة دعوته فيه، كما ورد في قوله تعالى:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) [طه] فكان الجواب: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] فالمراد إذا، بالهبة أنه سبحانه جعله عضدا له وناصرا ومعينا كذا فسّره ابن عبّاس رضي الله عنهما.
فإن قيل: لم وصف الله تعالى النبيّين المذكورين في قوله أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [الآية 58] بقوله تعالى إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) والمراد بآيات الرحمن القرآن، والقرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟
قلنا آيات الرحمن غير مخصوصة بالقرآن، بل كل كتاب أنزله الله تعالى ففيه آياته ولو سلمنا أنّ المراد بها القرآن، فنقول: إن المراد بقوله تعالى:
وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [الآية 58] محمد (ص) وأمّته.
فإن قيل: قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ يدل على أن ترك الصلاة وإضاعتها كفر، والإيمان شرط في توبة مضيعها؟
قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلّوا نكاح الأخت من الأب.
فان قيل: لم قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) ولم يقل آتيا، كما قال جلّ شأنه إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام: 134] .
قلنا المراد بوعده تعالى، هنا، موعده وهو الجنة، وهي مأتية يأتيها أولياؤه. الثاني: أن مفعولا هنا بمعنى فاعل، كما في قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً (45) [الإسراء] أي ساترا.
فإن قيل: قوله تعالى تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) ، وقوله تعالى وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) [آل عمران] يدلّان من حيث المفهوم، على أنّ غير المتقين لا يدخلون الجنة؟
قلنا: المراد بالتقوى هنا التقوى من(5/213)
الشرك، وكل المؤمنين في ذلك سواء.
فإن قيل: ما معنى انفطار السماوات، وانشقاق الأرض، وخرور الجبال، من دعوتهم الولد لله تعالى ومن أين تؤثّر هذه الكلمة في الجمادات؟
قلنا: معناه أنّ الله تعالى يقول، كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال، عند وجود هذه الكلمة غضبا على قائلها، لولا حلمي وإمهالي، وأن لا أعجّل العقوبة، كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] يعني أن تخر على المشركين وتنشقّ الأرض بهم، ويدلّ على هذا، قوله تعالى في آخر الآية إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) [فاطر] . الثاني: أن يكون استعظاما لقبح هذه الكلمة، وتصويرا لأثرها في الدّين، من حيث هدم أركانه وقواعده وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات، أن يصيب هذه الأجسام العظيمة التي هي قوام العالم، ما تنفطر منه، وتنشق، وتخرّ.
فإن قيل: لم قال تعالى، هنا في صفة الشرك: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) . وهذا يدل على قوّة كلمة الشرك وشدّتها، وقال تعالى في سورة إبراهيم، صلوات الله عليه في صفة كلمة الشرك وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) [ابراهيم] والمراد بالكلمة الخبيثة كلمة الشرك، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما وبالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل، كذا قاله رسول الله (ص) وهذا يدل على ضعف كلمة الشرك وتلاشيها واضمحلالها، فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا: وصفت كلمة الشرك في سورة إبراهيم (ع) بالضّعف، وهنا بالقبح، فهي في غاية الضّعف وفي غاية القبح والفظاعة، فلا تنافي بينهما.
فإن قيل: لم قال تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) والإحصاء العدّ على ما نقله الجوهري، أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير، كما سبق ذكره في سورة إبراهيم، صلوات الله عليه، في قوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [ابراهيم: 34] فإن كان الإحصاء العدّ فهو تكرار، وإن كان الحصر، فذكره مغن عن ذكر العدّ(5/214)
لأنّ الحصر لا يكون إلّا بعد معرفة العدد؟
قلنا: الإحصاء قد جاء بمعنى العلم أيضا، ومنه قوله تعالى وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) [الجن] أي علم عدد كلّ شيء قال الشاعر:
وكن للّذي لم تحصه متعلّما وأمّا الذي أحصيت منه فعلّم وهو المراد هنا فيصير المعنى لقد علمهم، أي علم أفعالهم وأقوالهم، وكل ما يتعلّق بذواتهم وصفاتهم وعددهم فلا تكرار، ولا استغناء عن ذكر العدّ.(5/215)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «مريم» «1»
قوله سبحانه: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [الآية 4] .
وهذه من الاستعارات العجيبة.
والمراد بذلك، التعبير عن تكاثر الشّيب في الرأس حتى يقهر بياضه، ويفصل سواده.
وفي هذا الكلام دليل على سرعة تضاعف الشيب وتزيّده وتلاحق مدده، حتى يصير في الإسراع والانتشار كاشتعال النار، يعجز مطفيه، ويغلب متلافيه.
وقوله سبحانه: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ [الآية 23] . وهذه استعارة، والمعنى: فجاء بها المخاض، إلى جذع النخلة، لتجعله سنادا لها، أو عمادا لظهرها. وهي التي لجأت إلى النخلة ولكن ضرب المخاض، لمّا كان سببا لذلك، حسن أن ينسب الفعل إليه في إلجائها، والمجيء بها.
وقوله سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) .
وهذه استعارة. والمراد بذكر اللسان هاهنا، والله أعلم، الثناء الجميل الباقي في أعقابهم، والخالف في آبائهم «2» والعرب تقول: جاءني لسان فلان،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الباقي في آبائهم.(5/217)
يريد مدحه أو ذمه. ولمّا كان مصدر المدح والذم عن اللّسان، عبروا عنهما باسم اللسان.
وإنمّا قال سبحانه: لِسانَ صِدْقٍ (50) ، بإضافة اللّسان إلى أفضل حالاته، وأشرف متصرّفاته لأن أفضل أحوال اللّسان أن يخبر صدقا، أو يقول حقّا.(5/218)
سورة طه 20(5/219)
المبحث الأول أهداف سورة «طه» «1»
نزلت سورة طه بعد سورة مريم، ونزلت سورة مريم فيما بين الهجرة إلى الحبشة وحادثة الإسراء، فيكون نزول سورة طه في ذلك التاريخ أيضا. أي بعد السنة السابعة من البعثة وقبل السنة الحادية عشرة من البعثة.
وفي المصاحف المطبوعة بالقاهرة، سورة طه مكّيّة إلّا الآيتين 130 و 131، فهما مدنيّتان وآياتها 135 آية نزلت بعد مريم.
وقال الفيروزآبادي «السورة مكّيّة إجماعا، وكلماتها 1341 كلمة، ولها اسمان «طه» لافتتاح السورة بها، و «سورة موسى» لاشتمالها على قصّته مفصّلة.
معنى طه
قيل معناها يا رجل، وقيل معناها يا إنسان، وقال آخرون هي اسم من أسماء الله تعالى وقد أقسم سبحانه به، وقال آخرون هي حروف مقطّعة مكوّنة من الطاء والهاء يدل كلّ حرف منها على معنى. واختلفوا في ذلك المعنى اختلافهم في المص. وقد ذكرنا ذلك في التعريف بسورة الأعراف، قال ابن جرير الطبري «والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال: معناها: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عك، فيما بلغني، وأنّ معناها يا رجل» .
«وقيل أصله طأها، على أنه أمر لرسول الله (ص) بأن يطأ الأرض
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(5/221)
بقدميه، فإنه كان يقوم الليل، حتّى ورمت قدماه من طول القيام. وقد أبدلت الألف من الهمزة، والهاء كناية عن الأرض» .
والمعنى طأ الأرض بقدميك يا محمد، وهوّن على نفسك في القيام، وارأف بنفسك ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به تعبا، بل لتسعد به، وتذكّر به الناس.
أهداف السورة من أهداف سورة طه:
تيسير الأمر على رسول الله (ص) وبيان فضل الله الواسع على رسله وأصفيائه وبيان وظيفة الرسول، وحصرها في الدعوة والتذكرة والتبشير والإنذار تم ترك أمر الخلق بعد ذلك الى الله الواحد الذي لا إله غيره، المهيمن على ظاهر الكون وباطنه، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها، الذي تعنو له الجباه، ويرجع إليه الناس:
طائعهم وعاصيهم.
ثم تعرض السورة قصة موسى (ع) ، من حلقة الرسالة إلى حلقة اتّخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر مفصّلة مطوّلة، وبخاصة موقف المناجاة بين الله سبحانه وكليمه موسى، وموقف الجدل بين موسى وفرعون وموقف المباراة بين موسى والسحرة. وتتجلّى في غضون القصّة، رعاية الله لموسى، الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه وقال له ولأخيه:
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) .
ثم تعرض السورة قصة آدم (ع) سريعة قصيرة تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته، وهدايته له، وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار.
وتحيط بقصة آدم مشاهد القيامة، وإنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من خلق آدم حيث يعود الطائعون من ذريته إلى الجنّة، ويذهب العصاة من ذريته إلى النار، تصديقا لما قيل لأبيهم آدم، وهو يهبط إلى الأرض بعد خروجه من الجنة.
ونلحظ أن السياق يمضي في هذه السورة في شوطين اثنين:(5/222)
الشوط الأول: يتضمّن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول (ص) .
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) .
ثم تتبعه قصّة موسى نموذجا كاملا لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته، فلا يشقون بها وهم في رعايته.
والشوط الثاني: يتضمّن مشاهد القيامة، وقصّة آدم، وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة، وقصّة موسى. ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها، ويتناسق معه ومع جو السّورة.
وللسّورة ظلّ خاصّ، يغمر جوّها كلّه. ظلّ علويّ جليل تخشع له القلوب، وتسكن له النفوس، وتعنو له الجباه. إنّه الظلّ الذي يخلعه تجلّي الرحمن على عبده موسى بالوادي المقدّس، في تلك المناجاة الطويلة، والليل ساكن وموسى وحيد، والوجود كلّه يتجاوب بذلك النّجاء الطويل.
وهو الظلّ الذي يخلعه تجلّي القيّوم في موقف الحشر العظيم:
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) . وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [الآية 111] .
وإيقاع السورة كلّها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها، رخيّا شجيّا نديّا، بذلك المدّ الذاهب مع الألف المقصورة، في أواخر الفواصل كلّها تقريبا.
قصة موسى (ع) في القرآن
بدأت سورة طه بمقدّمة مؤثّرة عن القرآن، وعن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى.
ثم قصّ الله على رسوله حديث موسى، نموذجا لرعايته للمختارين لحمل دعوته. وقصّة موسى، هي أكثر القصص ورودا في القرآن. وهي تعرض في حلقات تناسب السّورة التي تعرض فيها وجوّها وظلّها. وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى.
وما جاء منها في المائدة كان حلقة واحدة: حلقة وقوف بني إسرائيل أمام(5/223)
الأرض المقدّسة، لا يدخلون فيها لأنّ فيها قوما جبّارين.
وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة: حلقة لقاء موسى للعبد الصالح، وصحبته فترة. وقد سبق الحديث عنها في سورة الكهف، بعنوان قصّة موسى والخضر.
فأمّا في «البقرة» و «الأعراف» و «يونس» ، وفي هذه السورة، سورة طه، فقد وردت منها حلقات كثيرة، ولكن هذه الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى. تختلف الحلقات المعروضة، كما يختلف الجانب الذي تعرض منه، تنسيقا له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها.
في «البقرة» ، سبقتها قصّة آدم (ع) وخلقه وتكريمه في الملأ الأعلى.
فجاءت قصّة موسى وبني إسرائيل تذكيرا لبني إسرائيل بنعمة الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه، واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم، وإطعامهم المن والسلوى.
وذكرت عدوانهم في السبت، وقصّة البقرة، وفي «الأعراف» سبقها الإنذار وعواقب المكذّبين بالآيات قبل موسى عليه السلام، فجاءت قصّة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة، وتعرض فيها آيات العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع، وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل، وخاتمة فرعون وملئه المكذّبين وفي يونس، سبقها عرض مصارع المكذبين ثم عرض منها حلقات ثلاث:
حلقة الرسالة وحلقة السحرة وحلقة غرق فرعون.
أما هنا، في سورة طه، فقد كان مطلع السورة يشفّ عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ دعوته فجاءت القصّة مظلّلة بهذا الظلّ، تبدأ بمشهد المناجاة، وتتضمّن نماذج من رعاية الله لموسى في طفولته وشبابه ورجولته وتثبيته وتأييده وحراسته وتعهده.
قصة موسى في سورة طه
ولد موسى في مصر، ونما وترعرع في بيت فرعون، ثم قتل رجلا من طريق الخطأ، فخرج هاربا إلى أرض مدين وهناك تزوج بنت نبيّ الله شعيب (ع) ، ومكث في أرض مدين عشر سنين، ثمّ عاد بأهله إلى مصر.(5/224)
وفي الطريق أدركته عناية الله ومنّ الله عليه بالرسالة والعناية. وناداه:
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) .
وهذا الوحي يتعلّق بثلاثة أمور مترابطة: الاعتقاد بالوحدانيّة والتوجّه بالعبادة والإيمان بالسّاعة وهي أسس رسالة الله الواحدة. ومن نداء الله لموسى:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) .
وخص الله موسى بمعجزات ظاهرة، وآيات باهرة. أمره أن يلقي عصاه فألقاها، فإذا هي حية تسعى ثم نمّت وعظمت حتّى غدت في جلادة الثّعبان، وضخامة الجانّ. لمحها موسى، فاشتد خوفه، فناداه الله:
قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) ثم أدخل موسى يده تحت إبطه، فخرجت بيضاء بياضا يغلب نور الشمس، ليس فيها بهاق «1» أو برص «2» أو مرض وتمّت لموسى معجزتان هما اليد والعصا، فرأى آيات الله الكبرى. واطمأنّ للنهوض بالتّبعة العظمى.
أمر الله موسى، أن يذهب إلى فرعون رسولا وداعيا إلى الهدى، ومبشّرا بالجنة، لمن أطاع الله، وبالنار لمن عصاه.
فطلب موسى من ربه أن يشرح له صدره، وأن ييسّر له أمره، وأن يحلّ حبسة في لسانه ليفقه الناس قوله، وأن يمنّ الله عليه بمعين من أهله، هو أخوه هارون.
واستجاب الله دعاء موسى وحباه بفضل زائد، وذكّره بإفضاله عليه صغيرا وناشئا، حيث نجّاه عند ما قتل قتيلا خطأ، وألقى عليه المحبّة، وربّاه برعايته، وصنعه بعين عنايته. قال سبحانه:
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) .
__________
(1) . البهاق: مرض يذهب بلون الجلد، فتقع فيه بقع بيض.
(2) . البرص: بياض يقع في الجسد، لعلّة.(5/225)
وكانت عناية الله معه في شبابه حين نجّاه من كيد أتباع فرعون، وكانت عناية الله معه في رحلته إلى أرض مدين، ثم في عودته إلى أرض مصر، على موعد وتدبير إلهي. قال تعالى:
وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) .
وكلّف الله موسى أن يذهب مع أخيه هارون إلى فرعون، بعد أن طغى فرعون وتجبّر، ليقولا له قولا ليّنا، لا يهيّج الكبرياء الزائف ولا يثير العزّة بالإثم لعلّ قلبه، أن يتّعظ أو يتذكّر.
أدلّة موسى (ع) على وجود الله تعالى
توجه موسى وهارون إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله رب العالمين، فقال فرعون، كما ورد في التنزيل:
فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) .
فأجاب موسى، كما ورد في التنزيل أيضا:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) . وهي إجابة تلخّص أكمل آثار الألوهيّة الخالقة المدبّرة لهذا الوجود:
هبة الوجود لكل موجود، وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها، وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها.
وثنّى قرون بسؤال آخر:
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) .
ما شأن القرون التي مضت من النّاس؟ أين ذهبت؟ ومن كان ربّها؟
وما يكون شأنها، وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا؟
وأجاب موسى: إنّ علمها عند الله الذي لا تخفى عليه خافية، وقد سجل عملها في كتاب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.
وقد تفضّل الله على الناس بالنعم المتعدّدة فمهّد لهم الأرض، وذلّل سبلها، وأنزل الماء من السماء، فأجرى به نهر النيل وغيره من الأنهار، ليخرج الماء أزواجا متعدّدة من النباتات، يستفيد منها الإنسان والحيوان.
وقد خلق الإنسان من الأرض، ثم رزق من نباتها ومائها، ثم يعود إليها، ثم يبعث منها يوم القيامة.(5/226)
عرض موسى هذه الآيات الكونية أمام فرعون، وأراه المعجزات الظاهرة الملموسة، من اليد والعصا.
ولكنّ فرعون قابل هذه المعجزات الواضحة، والحجج البالغة، بالجحود والكنود «1» وأخذ فرعون يكيل التهم لموسى، ويسفّه دعوته، ويصفه بالطمع في الملك، ويصف معجزاته بأنها سحر ظاهر مبين.
موسى والسحرة
توعّد فرعون موسى بأن يجمع له السحرة من كلّ مكان، ليبطلوا سحره ويظهروا عجزه. وقبل موسى التحدّي، وحدّد يوم العيد واجتماع الناس في زينتها الجديدة موعدا للمبارزة، حتّى يشيع الحق ويظهر ظهور الشمس.
وجمع السحرة في يوم العيد، ولم يتخلّف واحد منهم فإذا بهم آلاف، مع كل واحد منهم حبل وعصا، وخيّروا موسى: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) .
فترك لهم موسى فرصة البدء، واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة. فتقدّم السحرة وألقوا ما في أيديهم من حبال فتحركت الحبال وماجت بها الساحة، وسحرت عيون المشاهدين، وملأتهم بالرهبة والإجلال لهذا العمل العظيم.
وخشي موسى أن يخدع الناس عن الحق، وأدركه خوف الداعية على دعوته، فذكّره الله سبحانه، بأنه معه، وبأنه على الحق وعدوّه على الباطل، وبأنه رسول مؤيّد بالمعجزة وعدوّه ساحر، مضلّل مخادع:
قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) .
وألقى موسى عصاه، فابتلعت أعمال السحرة في سرعة مذهلة، وأدرك السّحرة أنّ عمل موسى ليس سحرا، ولكنه معجزة وبرهان من الله على صدق رسالته فإذا بهم يخرّون لله ساجدين توبة عما صنعوا، وخشوعا لهيبة الحقّ، وإكبارا لذلك الأمر الخطير، وإيمانا بالله ربّ العالمين.
وعندئذ غلت مراجل الحقد
__________
(1) . الكنود: كفر النغمة وجحدها. [.....](5/227)
والحفيظة في صدر فرعون، ولام السحرة على إيمانهم بموسى، قبل أن يأذن لهم.
وقال: إنه أستاذكم وكبيركم الذي علّمكم السحر، فاتّفقتم معه على فعلكم ومؤامرتكم:
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) .
ولكن ذلك جاء بعد فوات الأوان.
بعد أن تخلل صدورهم نور الإيمان، فوصلهم بخالقهم فزهدوا في عرض الدنيا وسلطانها، وتطلّعت قلوبهم إلى مرضاة الله، وفضّلوا ثواب الاخرة على كل ما عداه:
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) .
غرق فرعون ونجاة موسى
استمرّ موسى في أداء رسالته وقيامه بواجب دعوته، وقد اشتد إيذاء فرعون وأتباعه للمؤمنين، فاستغاثوا بموسى، فخرج موسى بهم ليلا إلى الأرض المقدّسة، وقد سهّل الله إليها طريقهم، واعترض البحر سبيلهم، فاستغاثوا بموسى قائلين: البحر أمامنا وفرعون وراءنا. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بعصاه، فتولّت قدرة الله أن تيسّر لهم في البحر اثني عشر طريقا يابسا ممهّدا للسير، فسار كل فريق في طريق، وحفظتهم عناية الله من فرعون وحينما حاول فرعون اللحاق بهم، أطبقت عليه وعلى جنوده مياه البحر، وأدركهم الغرق والهلاك. ونجّى الله المؤمنين، وأذلّ الكافرين. وجعل من ذلك عظة وعبرة لمن اعتبر، فمن آمن بالله وجاهد في سبيله كان في كنف الله ورعايته، ومن كفر بآيات الله وخرج عن طريق هدايته أعد الله له العذاب والنّكال. ونظر بنو إسرائيل في دهشة إلى مصرع الجبابرة العتاة، ثم نجّى الله فرعون ببدنه، ليكون آية لمن خلفه، ودليلا على أنّ الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته.
موسى والسامري
ترك موسى قومه وذهب لميعاد ربّه عجلا مشتاقا لمناجاته، وانتهز السامريّ الفرصة، فصنع لبني إسرائيل عجلا من(5/228)
الذهب، بطريقة فنية، تجعل الريح تمرّ فيه، فتحدث صوتا وخوارا.
وقال لهم: إنّ موسى لن يعود إليكم. لقد ذهب لمقابلة ربّه فضلّ الطريق إليه، وهذا هو إلهكم وإله موسى.
وفتن بنو إسرائيل بعبادة العجل، فقد ألفوا الذل وطاعة فرعون.
وعاد موسى غضبان أسفا يلوم هارون على تباطئه عن إخماد هذه الفتنة، فاعتذر له بأنه صبر حتّى يعود، فيلتئم الشمل وتعود الوحدة إلى الجماعة.
وتوعّد موسى السامريّ بالعذاب والنّكال، وأمر بطرده من محلّة بني إسرائيل. فخرج طريدا هو وأهله إلى البراري، ثم أتى موسى بالعجل فحرقه بالنار، ونسف رماده في اليمّ، ليبيّن لقومه أنّ مثل هذا لا يصح أن يتّخذ إلها:
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) .
مشاهد القيامة وختام السورة
بدأت سورة طه بمقدّمة في بيان جلال الله وقدرته وعلمه الواسع في الآيات 1- 8.
ثمّ تحدّثت عن رسالة موسى وجهاده في مصر، وجهوده مع بني إسرائيل في الآيات 9- 98.
وبعد قصة موسى تجيء الآيات 99- 114 تعقيبا على هذه القصّة ببيان فضل القرآن، وعاقبة من يعرض عنه وترسم الآيات هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة، تتضاءل فيه أيام الحياة الدنيا، وتتكشّف الأرض من جبالها وتعرى، وتخشع الأصوات للرحمن، وتعنو الوجوه للحيّ القيّوم لعلّ هذا المشهد وما في القرآن من وعيد يثير مشاعر التقوى في النفوس، ويذكّرها بالله ويصلها به. وينتهي هذا المقطع، بإراحة بال الرسول (ص) من القلق من ناحية القرآن الذي ينزل عليه، فلا يعجل في ترديده خوف أن ينساه، ولا يشقى بذلك فالله ميسّره وحافظه، وإنّما يطلب من ربّه أن يزيده علما.
وفي مناسبة حرص الرسول (ص) على أن يردّد ما يوحى إليه قبل انتهاء الوحي خشية النسيان، تعرض الآيات 115- 123 نسيان آدم لعهد الله وتنتهي بإعلان العداوة بينه وبين(5/229)
إبليس، وعاقبة من يتذكّرون عهد الله ومن يعرضون عنه من ولد آدم. وترسم الآيات هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة، كأنّما هو نهاية الرحلة التي بدأت في الملأ الأعلى، ثم تنتهي إلى هناك مرّة أخرى ... وفي ختام السورة تسلية للرسول (ص) عن إعراض المعرضين وتكذيب المكذّبين فلا يشقى بهم، فلهم أجل معلوم. ولا يحفل بما أوتوه من متاع في الحياة الدنيا فهو فتنة لهم، وينصرف إلى عبادة الله وذكره فترضى نفسه وتطمئنّ، ولقد هلكت القرون من قبلهم، وشاء الله سبحانه أن يعذر إليهم بالرسول الأخير، ليعلن إليهم: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) .
وبذلك تختم السورة التي حددت وظيفة القرآن في بدايتها:
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) .
وأكّدت هذه الوظيفة في نهايتها، فهي التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة وليس بعد البلاغ إلّا انتظار العاقبة، والعاقبة بيد الله.
وقد كانت قصة موسى ونهاية فرعون، خلال السورة، تحقيقا لهذا المعنى وتأكيدا لفوز المؤمنين ومصرع المكذّبين وبذلك يتناسق المطلع والختام، وتكون السورة أشبه بموضوع، له مقدّمة، ثمّ قصّة تؤيّد المقدّمة، ثم خاتمة تؤكّد الموضوع.
وظهر أنّ بين أجزاء السورة وحدة فكرية خلاصتها:
شمول فضل الله ورحمته وعطفه، لأحبابه المؤمنين، وإيقاع نقمته وعذابه بالكافرين والمكذّبين.(5/230)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «طه» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة طه بعد سورة مريم، ونزلت سورة مريم فيما بين الهجرة إلى الحبشة وحادثة الإسراء فيكون نزول سورة طه في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها به، وتبلغ آياتها خمسا وثلاثين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، حثّ النبي (ص) على الصبر على ما يلقاه من إعراض قومه عن دعوته ولهذا افتتحت بأنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى إذا لم يؤمنوا به، لأنه ليس عليه إلا أن يذكّر به من يخشى، فإذا لم يؤمنوا به فلا شيء عليه من عدم إيمانهم ثم قصّ عليه بعد هذا قصّة موسى من أوّلها إلى آخرها، ليتأسّى بما كان من ثباته أمام فرعون، ومن صبره على عناد بني إسرائيل ثمّ قصّ عليه بعدها قصّة آدم، ليحذّره ممّا وقع فيه بسبب التعجّل، وعدم الصبر على الابتلاء والاختبار ثم ختمت السورة بحثّ النبيّ (ص) على الصبر كما افتتحت به.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة مريم، لأنّها تشبهها في غلبة الأسلوب القصصي عليها. فهي تعدّ من هذه الناحية كأنها تكميل لها ولسورة الكهف، وتقرير لما ورد في آخر سورة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/231)
الكهف، من أن كلمات الله في ذلك لا نفاد لها.
الحث على الصبر [الآيات 1- 8]
قال الله تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) فذكر سبحانه أنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى إذا كفروا به أسفا على كفرهم، لأنه لم ينزله عليه إلّا ليذكّر به من يخشى عقابه، فهو الذي يرجى إيمانه به ثم نوّه بشأن هذا القرآن الذي يعرضون عنه، فذكر أنه تنزيل ممّن خلق السماوات والأرض، إلى غير هذا من صفات العظمة التي ذكرها، وختمها تعالى بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) .
قصة موسى الآيات [9- 114]
ثم قال تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) فذكر قصّة موسى حين رجع من مدين إلى مصر، وأنه رأى نارا فذهب إليها، وهناك ناداه ربّه أنه اختاره لرسالته، وأنه أعطاه آيتين: آية عصاه يلقيها فتكون حيّة تسعى، وآية يده يضمّها إلى جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء. ثم أمره أن يذهب إلى فرعون، لأنه طغى وادّعى الألوهية فقبل الرسالة، ودعا الله أن يشرح له صدره حتى لا يضيق بما يلاقيه في تلك الدعوة، وأن يشرك معه أخاه هارون، فأجابه سبحانه إلى طلبه ثم أمرهما أن يذهبا إلى فرعون، وأن يقولا لا قولا ليّنا، لعلّه يتذكّر أو يخشى. فلمّا أتياه، قالا له إنّا رسولا ربّك إليك، وطلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل، ويكفّ عن عذابهم، وأخبراه بأنّهما قد جاءاه بآية من ربّه، تدلّ على صدقهما. ثم ذكر سبحانه أن فرعون سأل موسى عن ربّه، فأجابه بأنّه جلّ جلاله هو الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، وأنه سأله عن حال القرون الأولى كيف يحيط بها علمه مع تمادي كثرتها، فأجابه بأن كل ما سلف مثبت عنده في كتاب فلا يضل عنه ولا ينساه. ثم ذكر تعالى أن موسى أرى فرعون الآيتين السابقتين فكذّب وأبى، وزعم أنهما سحر يريد موسى أن يخرج به فرعون وقومه من أرضهم، وأخبره بأنهم سيأتونه بسحر مثله وطلب منه أن يجعل بينهم وبينه موعدا يجتمعون فيه، فضرب لهم موسى يوم(5/232)
الزينة موعدا، وهو يوم عيد لهم فجمع فرعون سحرته في هذا اليوم، وكانوا قد أتوا بحبال وعصيّ لطّخوها بالزّئبق، فألقوها في الشمس، فاضطربت واهتزّت، وخيّل إلى الناس أنها حيّات تسعى، فألقى موسى عصاه، فإذا هي أعظم من حيّاتهم، ثم أخذت تزداد عظما حتّى ملأت الوادي، وذهبت إلى حيّاتهم فأكلتها فعرف السّحرة أنّ هذا ليس بسحر، وآمنوا بربّ موسى وهارون وقد هدّدهم فرعون بما تهدّدهم به، فلم يرجعوا عن إيمانهم.
ثم ذكر سبحانه أنه أوحى الى موسى أن يسير ببني إسرائيل ليلا، وأنّ فرعون تبعهم بجنوده حينما علم بهربهم، وأنه جلّ وعلا، شق البحر لبني إسرائيل فاجتازوه، وأنّ فرعون أدركهم وهم يجتازونه، فتبعهم بجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) .
ثم انتقل الكلام إلى ما كان بعد ذلك من بني إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من فرعون عدوّهم، إلى غير هذا ممّا ذكره من نعمه عليهم ثم أمرهم أن يأكلوا من طيّبات ما رزقهم، ونهاهم أن يطغوا فيه لئلا يحلّ غضبه عليهم، ثم ذكر ما كان من فتنتهم بعبادة العجل بعد ذهاب موسى لميعاد ربه، وأنّ موسى حينما رجع إليهم لامهم على ما كان منهم، فذكروا له أن السامريّ هو الذي أغواهم بعبادة العجل، إذ صنع لهم من حليّهم عجلا جسدا له خوار، وزعم لهم أنه إلههم وإله موسى، فافتتنوا بذلك وصدّقوه في زعمه ثم ذكر أن هارون نهاهم عن ذلك، فذكروا له أنهم سيقيمون عليه إلى أن يرجع موسى إليهم. وأن موسى لام هارون على أنه لم يقاتلهم هو ومن لم يعبد العجل، فأجابه بأنه خشي أن يفرّق بينهم بالقتال، فاكتفى بنصحهم ووعظهم ثم ذكر أن موسى سأل السامري بعد ذلك عمّا دعاه إلى فتنة قومه، فأخبره بأنه كان قد أخذ بعضا من سنّته ودينه، ثم بدا له فنبذها ودعا إلى تلك العبادة، فأمر موسى بطرده من خلّة بني إسرائيل، فخرج طريدا هو وأهله إلى البراري. ثم أتى بالعجل فحرقه بالنار ونسف رماده في اليمّ، ليبيّن لهم أن مثل هذا لا يصح أن يتّخذ إلها إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) .(5/233)
ثم ذكر أنه يقصّ عليه ذلك ليكون عظة له ولقومه وأنه أنزل القرآن بمثل ذلك ليذكّرهم به، وانتقل السياق من ذلك إلى تهديد من يعرض عن سبيله تعالى بما هدّده به من العقاب الذي يثقل حمله عليهم، ومن حشرهم زرقا يوم ينفخ في الصّور، فيقومون من قبورهم، ويتساءلون بينهم عن مدة لبثهم قبل قيامهم، فيذكر بعضهم أنهم لم يلبثوا إلّا عشرة أيام ويذكر بعضهم أنهم لم يلبثوا إلّا يوما لأنّ شدة الأهوال، تنسيهم مدة لبثهم ثم ذكر أن الجبال تنسف بعد النفخ في الصّور، وأنّ الأرض تكون ملساء مستوية لا نبات فيها، وأنهم يدعون إلى الحشر فيسير الداعي بهم لا يعرّج هنا أو هناك، فإذا وقفوا للحساب خشعت الأصوات للرحمن، فلا يشفع عنده إلّا من أذن له ورضي قوله. ثم ذكر سبحانه أن وجوههم تعنو له جلّ جلاله وتخضع لحكمه، فيحرم من الثواب من حمل ظلما في الدنيا، وينال من عمل صالحا ثوابه، ولا يخاف ظلما ولا هضما، ثم ذكر أنه أنزل القرآن، وكرّر فيه هذا الوعيد، لعلهم يتّقون، أو يحدث لهم ذكرا: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) .
قصة آدم الآيات [115- 127]
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) فذكر سبحانه أنه عهد إلى آدم في الجنّة ألا يأكل من الشجرة فضاق صدره بذلك التكليف، وضعف عن تحمّله، فعوقب على ذلك بالخروج من الجنّة، وقد أتى السياق بذلك من أول الأمر، ليدل على موضع العبرة من ذكر قصة آدم ثم ذكر تفصيل ذلك من أمر الملائكة بالسجود له جلّ جلاله، وأنهم أطاعوه فسجدوا إلّا إبليس أبى، إلى أن ذكر ما كان من أمر آدم وحوّاء بالهبوط من الجنّة، وعهده إليهما وإلى ذرّيتهما، أنه إذا أتاهم منه هدّى فمن اتّبعه فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإنّه يقضي دنياه في ضنك وشدّة لأنّ الكفر لا اطمئنان معه، ثم يكون حاله في الاخرة أسوأ من الدنيا، ويحشر فيها أعمى فإذا سأل ربّه لم حشره أعمى وقد كان بصيرا، أجابه بأنه كذلك أتته آياته فنسيها وكذلك(5/234)
اليوم ينسى: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) .
الخاتمة الآيات (128- 135)
ثم قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) ، فحذّر كفار قريش أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الذين يمشون في مساكنهم، وذكر أنه لولا قضاء الله بأنه لا يهلكهم كما أهلك من كان قبلهم، لكان عذابه لزاما لهم، ثم أمر النبي (ص) بأن يصبر على تعنّتهم، وأن يستعين على هذا بالمثابرة على الصلوات في أوقاتها ونهاه أن يمدّ عينيه إلى ما متّع به بعضهم من زينة الدنيا، لأنّ ما عنده من الثواب خير وأبقى ثم ذكر أنّ من تعنّتهم، أنهم اقترحوا على النبيّ (ص) آية تدل على نبوّته، وأجابهم بأنهم قد أتاهم أخبار الأمم السابقة في الصحف الأولى، إذ طلبوا من الآيات مثل طلبهم ولم يؤمنوا بها، فأهلكهم الله وعجّل لهم عذابهم ولو أنه جلّ وعلا أهلكهم قبل أن يرسل إليهم رسلهم، ويجيبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) .(5/235)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «طه» «1»
أقول: روينا عن ابن عبّاس وجابر بن زيد، في ترتيب النزول: أن «طه» نزلت بعد سورة مريم، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف. وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع، مع التاخي بالافتتاح بالحروف المقطّعة.
وظهر لي وجه آخر، وهو: أنه لمّا ذكرت في سورة مريم قصص الأنبياء، زكريا، ويحيى، وعيسى، مبسوطة، وقصّة ابراهيم، وهي بين البسط والإيجاز، وقصّة موسى، وهي موجزة بجملة «2» ، فقد أشير إلى بقية النبيّين إجمالا «3» . وذكر في هذه السورة شرح قصّة موسى، التي أجملت هناك، فاستوعبت غاية الاستيعاب وبسّطت أبلغ بسط «4» ثم أشير إلى تفصيل قصّة آدم، الذي وقع مجرد اسمه هناك، «5» ثم ورد في سورة «الأنبياء» بقيّة قصص من لم يذكر في مريم، كنوح، ولوط، وداود، وسليمان وأيوب وذي الكفل،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وردت قصّة موسى في ثلاث آيات قصار من «مريم» [51 و 52 و 53] .
(3) . وذلك في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [مريم: 58] .
(4) . وذلك في قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إلى ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
(5) . وقع مجرد ذكر اسم آدم في «مريم» في قوله تعالى: مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [مريم: 58] . وذكرت قصّته مفصّلة في «طه» من قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الآية 116] إلى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الآية 123] .(5/237)
وذي النون، وأشير إلى قصّة من ذكرت قصّته إشارة وجيزة، كموسى، وهارون، وإسماعيل، وزكريا، ومريم، لتكون السورتان كالمتقابلتين.
وبسطت في سورة «الأنبياء» قصّة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم تذكر حاله مع أبيه إلّا إشارة «1» . كما أنّه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة، ومع أبيه مبسوطا «2» . فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب، وبديع هذا الترتيب.
__________
(1) . قصة ابراهيم (ع) في الأنبياء وردت في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء: 51] . الى: وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) [الأنبياء] . وكلّها في إبراهيم وقومه. أما عن إبراهيم وأبيه، فأشير إليها في قوله إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الأنبياء: 52] .
(2) . وردت قصّة إبراهيم وأبيه في «مريم» من قوله تعالى: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم:
42] . الى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) [مريم] . وجاءت الإشارة اليه مع قومه في قوله تعالى:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] .(5/238)
المبحث الرابع مكنونات سورة «طه» «1»
1- فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [الآية 40] قال قتادة: عشرا. أخرجه ابن أبي حاتم.
2- يَوْمُ الزِّينَةِ [الآية 59] .
قال ابن عبّاس: هو يوم عاشوراء.
أخرجه ابن أبي حاتم.
3- السَّامِرِيُّ [الآية 85] .
اسمه: موسى بن ظفر. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. وأخرج عنه:
أنه كان من أهل كرمان. ومن وجه آخر عنه: من أهل باجرقا «2» .
وعن قتادة: كان من قرية اسمها سامرة.
4- مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [الآية 96] .
هو جبريل، كما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عليّ، وابن عبّاس، وغيرهما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . ولعلها «باجرما» وهي قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة في شمال الشام، كما في «معجم البلدان» 1: 313. قال ابن كثير عن ابن عباس: وكان من قوم يعبدون البقر.(5/239)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «طه» «1»
1- وقال تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) .
ووصف السماوات ب (العلى) دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها، في علوّها وبعد مرتقاها.
أقول: وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) ، أي:
العالية وهو من باب الوصف بالمصدر، ومعناه اسم الفاعل، كقولهم: شاهد عدل، والمعنى عادل أو ذو عدل.
2- وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) .
(الحسنى) : تأنيث الأحسن.
أقول: وقد تحوّلت «الحسنى» إلى مصدر، كالتّقوى والبقيا والبلوى ونحو ذلك ومنه قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] .
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [النحل: 62] .
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصّلت: 50] .
وآيات أخرى، وكنا عرضنا إلى شيء من هذا في آية سابقة.
3- وقال تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) .
وقوله تعالى: طُوىً (12) بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة، وقيل: مرّتين نحو ثنّى، أي: نداءين، أو قدّس الوادي كرّة بعد كرّة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(5/241)
4- وقال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [الآية 15] .
أي: أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفائها، ولولا ما في الإخبار بإتيانها، مع تعمية وقتها من اللطف، لما أخبرت به.
وقيل: معناه أكاد أخفيها من نفسي.
5- وقال تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) .
وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) أي: لتربّى وتغذّى بمرأى منّي، أي يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك. والكلام على موسى (ع) .
6- وقال تعالى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) .
قرئ (سوى) بالكسر أيضا، وهو منوّن وغير منوّن ومعناه: منصفا بيننا وبينك عن مجاهد.
وهو من الاستواء، لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية، لا تفاوت فيها.
وقيل معناه مكان عدل بيننا وبينك عن قتادة. وهذا من الكلم الذي لولا القرآن لكان من الضائع من مادة العربية القديمة.
7- وقال تعالى: قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [الآية 61] .
وقوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ، أي:
يستأصلكم بعذاب، عن قتادة والسدّيّ.
وقيل: «يهلككم» عن ابن عبّاس، وغيره.
أقول: وأصل السّحت: استقصاء الحلق، يقال سحت شعره إذا استأصله. وسحته الله وأسحته إذا استأصله وأهلكه.
أقول أيضا: ومنه قول الفرزدق:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلّا مسحتا أو مجلّف قال الزمخشري:
والبيت لا تزال الرّكب تصطك في تسوية إعرابه.
أقول: وليس من هذا كلمة «السّحت» التي وردت في القرآن في سورة المائدة في قوله تعالى:(5/242)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42] .
8- وقال تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) .
وقوله تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ، أي: أنّهم تشاوروا في السّرّ، وتجاذبوا أهداب القول. وهذا معنى جميل لكلمة «التنازع» .
9- وقال تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) .
أقول: في الآية الكريمة ضرب من الإيجاز البليغ في قوله تعالى: ما غَشِيَهُمْ من باب الاختصار، وهذا من جوامع الكلم التي تستقلّ مع قلّتها بالمعاني الكثيرة.
أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلّا الله.
وإذا كانت البلاغة بالإيجاز، فإن ذلك واضح، كل الوضوح، في هذه الآية، التي جاء الإيجاز فيها مؤذنا بالكثير من المعاني، التي ينصرف إليها الذهن تصوّرا وتحقّقا.
10- وقال تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الآية 88] .
وقوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً أي:
عجلا جسما. أقول: وهذا من باب الوصف بالاسم الجامد، على التأويل والمعنى:
عجلا ذا جسد أو جسم، أو مجسّدا مجسّما كما نقول بلغة هذا العصر.
11- وقال تعالى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) .
أقول: هذا شاهد في أنّ (لن) النافية الناصبة لا تقتضي التأبيد، ذلك أن عدم البراح موقوت بالمدة التي هي قبل رجوع موسى.
وقد أردت التنبيه على هذه المسألة التي أشار إليها النّحاة، وأنكروا على الزمخشري في «مفصّله» أنها تفيد التأبيد، أقول: أردت التنبيه على هذه المسألة، لأوكّد ما درج عليه المعاصرون من استعمال هذه الأداة إرادة التأبيد، كقولهم: لم أقل هذا ولن أقوله.
12- وقال تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها [الآية 96] .
قرأ الحسن: (قبضة) بضم القاف، وهي اسم المقبوض كالغرفة والمضغة.
وأما (القبضة) بفتح القاف فهي المرّة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من باب تسمية المفعول بالمصدر.(5/243)
وقرئ أيضا: فقبصت قبصة بالصّاد المهملة.
وقيل: من قرأ بالضاد فهو بجميع الكفّ، ومن قرأ بالصّاد فبأطراف الأصابع. أقول: ليس هذا التفريق وجيها، وذلك لأنه لم يؤيد في كلام العرب، وأرى أن الفعل بالضاد كالفعل بالصاد، وتلك مسألة تتصل ب «اللهجات» .
ويؤيّد هذا ما ورد في الآية الكريمة:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] .
وقرئت حضب بالضاد المعجمة، كما قرئت: حطب بالطاء.
13- وقال تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) .
قوله تعالى: ظَلْتَ، والأصل «ظللت» ، فحذفت اللام الأولى، ونقلت حركتها إلى الظاء.
أقول: أرى أن اللام قد حذفت، وليس من نقل للحركة، والحذف للتخفيف ليس غير. ولم نجد نظير هذا الحذف، في نظائر الفعل من المضاعف.
وقوله تعالى: لَنَنْسِفَنَّهُ بمعنى لنذرّينّه.
وفي عربيتنا المعاصرة، يقال: نسف البناء، أي أزاله وأفناه.
14- وقال تعالى: قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) .
وقوله تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ بالنون المكسورة، وحقّها أن تكون «تتّبعني» بالياء.
أقول: وحذف الياء، يعني قصر المدّ قليلا والاجتزاء عنه بالكسرة القصيرة، ليس مسألة من مسائل رسم المصحف، بل إنّ هذا الرسم الذي يباح فيه حذف ما لا يحذف، يؤدّي غرضا صوتيا يتّصل بحسن الأداء وذاك أن المدّ القصير، أي: الكسرة أنسب إلى المدّ القصير بعدها، أي: الفتحة في قوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ، وهذا عند الوصل، الذي هو أولى في هذا الموضع الذي يباح فيه الوقف الجائز.(5/244)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «طه» «1»
قال تعالى: طه (1) منهم من يزعم أنها حرفان مثل حم (1) ومنهم من يقول طه (1) يعني: يا رجل في بعض لغات العرب.
وقوله تعالى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) بدل من قوله لِتَشْقى (2) أي «ما أنزلنا القرآن عليك إلّا تذكرة» «2» .
وقال تعالى: تَنْزِيلًا [الآية 4] أي:
أنزل الله ذلك تنزيلا.
وقال تعالى: الرَّحْمنُ [الآية 5] أي:
هو الرّحمن «3» . وقال سبحانه مَآرِبُ أُخْرى (18) [الآية 18] وواحدتها: «مأربة» .
وقال: آيَةً أُخْرى (22) [الآية 22] أي: أخرج آية أخرى بجعله بدلا من قوله بَيْضاءَ «4» [الآية 22] .
وقوله تعالى: وَلا تَنِيا [الآية 42] من «ونى» و «يني» «ونيا» و «ونيّا» .
وفي قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [الآية 63] «إن» خفيفة في معنى ثقيلة، وهي لغة لقوم يرفعون ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى «ما» «5» ، ونقرأها ثقيلة،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في زاد المسير 5: 270.
(3) . نقله في الجامع 11: 226. [.....]
(4) . نقله في إعراب القرآن 2: 647 والجامع 11: 191.
(5) . هي في السبعة 419 قراءة عاصم في رواية، وفي حجّة ابن خالويه 217 الى ابن كثير وحفص عن عاصم وفي الكشف 2: 99، والتيسير 151 الى ابن كثير وحفص، وفي الجامع 11: 126 زاد الزهري والخليل بن أحمد والمفضّل وأبان وابن محيصن، وزاد في البحر 6: 255 ابن سعيدان وأبا حياة، وأبا الحرية وحميد وابن سعدان.(5/245)
وهي لغة لبني الحارث بن كعب «1» .
وقوله تعالى الْمُثْلى (63) [الآية 63] تأنيث «الأمثل» «2» مثل: «القصوى» و «الأقصى» .
وقال تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) [الآية 69] وتقول العرب:
«جئتك من أين لا تعلم» و «من حيث لا تعلم» .
وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ [الآية 111] من: «عنت» «تعنو» «عنوّا» .
وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [الآية 129] كأنه يريد:
ولولا أَجَلٌ مُسَمًّى [الآية 129] لكان لزاما.
وقال تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) أي: والعاقبة لأهل التقوى.
وقال تعالى: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) أي قدر. ولم يزل قادرا، ولكن أخبر بقدرته.
وقال تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [الآية 44] نحو قول الرجل لصاحبه: «افرع لعلّنا نتغدّى» والمعنى: «لنتغدّى» و «حتّى نتغدّى» وتقول للرجل: «اعمل عملك لعلّك تأخذ أجرك» أي:
لتأخذه «3» .
وقال تعالى: أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) يريد: «أزواجا شتّى من نبات» أو يكون النبات هو شتى. كلّ ذلك مستقيم «4» .
وقال تعالى: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا [الآية 72] يقول: «لن نؤثرك على الّذي فطرنا» .
وقال تعالى: لا تَخافُ دَرَكاً [الآية 77] أي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً [الآية 77]
__________
(1) . في الطبري 16: 180 الى عامة قراء الأمصار، وفي السبعة 419 الى نافع وابن عامر وحمزة والكسائي، الى عاصم في رواية، وفي حجة ابن خالويه 217 الى غير ابن كثير وحفص، وكذلك في التيسير 151، وفي الجامع 11: 216 الى المدنيين والكوفيين، وفي البحر 6: 255 الى أبي جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبي عبيد وأبي حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوين والصاحبين من السبعة.
(2) . نقله في التهذيب 15: 98 «مثل» .
(3) . نقله في الأشموني 1: 280.
(4) . نقله في الجامع 1: 209.(5/246)
لا تَخافُ فيه دَرَكاً وحذف «فيه» كما تقول: «زيد أكرمت» تريد:
«أكرمته» وكما قال وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123] أي لا تجزي فيه.(5/247)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «طه» «1»
إن قيل: قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً.
لم حكى الله تعالى قول موسى (ع) لأهله عند رؤية النار في هذه السورة، وفي سورة النمل وفي سورة القصص، بعبارات مختلفة، وهذه القضية لم تقع إلّا مرّة واحدة؟
قلنا: قد سبق في سورة الأعراف، في قصّة موسى (ع) مثل هذا السؤال والجواب المذكور، ثمّ هو الجواب هنا.
فإن قيل: قوله تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها [الآية 16] ظاهر اللفظ نهي من لا يؤمن بالسّاعة عن صدّ موسى عن الإيمان بها. والمقصود هو نهي موسى عن التكذيب بها. فهل بوسعكم شرح ذلك؟.
قلنا: معناه كن شديد الشكيمة في الدين، صليب المعجم «2» لئلّا يطمع في صدّك عن الايمان بها من لا يؤمن بها، وهذا كقولهم: لا أرينّك هاهنا معناه لا تدن مني ولا تقرب من حضرتي لئلّا أراك ففي الصورتين النهي متوجه إلى المسبّب، والمراد به النهي عن السبب، وهو القرب منه والجلوس بحضرته، فإنه سبب رؤيته، وكذلك لين موسى (ع) في الدين وسلاسة قياده سبب لصدّهم إيّاه.
فإن قيل: ما الحكمة من السؤال في قوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
(2) . صليب المعجم والمعجمة: عزيز النفس إذا امتحن وجد عزيزا صلبا.(5/249)
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) ، وهو أعلم بما في يده جملة وتفصيلا؟
قلنا: الحكمة فيه، تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلّم معه كما يرى أحدنا طفلا قد داخلته هيبة وإجلال وخوف، وفي يده فاكهة أو غيرها، فيلاطفه ويؤانسه، بقوله ما هذا الذي في يدك؟ مع أنه عالم به. الثاني:
أنه تعالى أراد بذلك أن يقرّ موسى عليه السلام، ويعترف بكونها عصا، ويزداد علمه بكونها عصا رسوخا في قلبه، فلا يحوم حوله شكّ إذا قلبها ثعبانا أنها كانت عصا، ثمّ انقلبت ثعبانا، بقدرة الله تعالى. وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فيتنبه على القدرة الباهرة. ونظيره أن يريك الحدّاد قطعة من حديد ويقول لك ما هذه؟ فتقول زبرة من حديد، ثم يريك بعد أيام درعا واسعة مسرودة ويقول: هذه تلك القطعة صيّرتها إلى ما تراه من عجيب الصنعة، وأنيق السرد.
فإن قيل: قد ذكر الله تعالى عصا موسى (ع) بلفظ الحيّة والثعبان والجانّ وبين الثعبان والجانّ تناف، لأنّ الجانّ الحيّة الصغيرة كذا قاله ابن عرفة، والثعبان الحيّة العظيمة، كذا نقله الأزهري عن الزجّاج وقطرب.
قلنا: أراد سبحانه أنها في صورة الثعبان العظيم، وخفّة الحيّة الصغيرة وحركتها ويؤيّد ذلك قوله جلّ وعلا:
فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10] .
الثاني أنها كانت في أوّل انقلابها تنقلب حيّة صغيرة صفراء دقيقة، ثمّ تتورّم ويتزايد جرمها حتّى تصير ثعبانا فأريد بالجانّ أوّل حالها، وبالثعبان مالها.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) وهذا لا بيان فيه، لأنّه مجمل؟
قلنا: الحكمة هي الإشارة إلى أنه ليس كل الأمور ممّا يوحى إلى النساء، كالنبوّة ونحوها، بل بعضها. الثاني:
أنه للتأكيد، كقوله تعالى: فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) [النجم] كأنّه قال: إذ أوحينا إلى أمك إيحاء. الثالث: أنه أبهمه أوّلا للتفخيم والتعظيم، ثمّ بيّنه وأوضحه، بقوله تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ [الآية 39] .
فإن قيل: لم قدّم هارون على موسى عليهما السلام، في قوله تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)(5/250)
وهارون كان وزيرا لموسى (ع) وتبعا له قال الله تعالى:
وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) [الفرقان] ؟
قلنا: إنّما قدّمه ليقع موسى مؤخّرا في اللفظ فيناسب الفواصل، أعني رؤوس الآيات.
فإن قيل: ما المراد في قوله تعالى:
لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) ؟
قلنا: المراد: لا يموت فيها موتا يستريح به، ولا يحيا حياة تنفعه ويستلذّ بها. الثاني: أنّ المراد لا يموت فيها موتا متّصلا، ولا يحيا حياة متصلة بل كلّما مات من شدّة العذاب، أعيد حيّا ليذوق العذاب، هكذا سبعين مرة في مقدار كلّ يوم من أيام الدنيا.
فإن قيل: الخوف والخشية واحد في اللغة، فلم قال تعالى: لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) .
قلنا: معناه لا تخاف دركا: أي لحاقا من فرعون، ولا تخشى غرقا في البحر.
كما تقول: لا تخاف زيدا ولا تخشى عمرا، ولو قلت ولا عمرا صحّ وكان أوجز ولكن إذا أعدت الفعل، كان آكد وأما في الآية فلما لم يكن مفعول الخشية مذكورا، وذكر الفعل ثانيا ليكون دليلا عليه، وخولف بين اللفظين رعاية للبلاغة. وقيل معناه لا تخاف دركا على نفسك، ولا تخشى دركا على قومك والأوّل عندي أرجح.
فإن قيل: قوله تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ [الآية 79] يغني عن قوله تعالى:
وَما هَدى (79) ومفيد فوق فائدته فلم ذكر معه؟
قلنا: معناه: وما هداهم بعد ما أضلّهم، فإنّ المضلّ قد يهدي بعد إضلاله. الثاني: أنّ معناه: وأضلّ قومه وما هدى نفسه. الثالث: أن معناه:
وأضلّ فرعون قومه عن الدّين، وما هداهم طريقا في البحر. الرابع: أنّ قوله تعالى: وَما هَدى (79) تهكّم به في قوله لقومه، كما ورد في التنزيل:
وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (29) [غافر] .
فإن قيل: لم قال الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [الآية 80] أضاف المواعدة إليهم والمواعدة، إنّما كانت(5/251)
لموسى (ع) ، واعده الله تعالى جانب الطّور الأيمن لإتيانه التوراة؟
قلنا: المواعدة، وإن كانت لموسى (ع) ، ولكنّها، لمّا كانت لإنزال كتاب بسبب بني إسرائيل، وفيه بيان شريعتهم وأحكامهم وصلاح معاشهم ومعادهم، أضيفت إليهم المواعدة بهذه الملابسة والاتصال.
فإن قيل: قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) سؤال عن سبب العجلة، فإن موسى (ع) لمّا واعده الله تعالى بإنزال التوراة عليه بجانب الطور الأيمن، وأراد الخروج إلى ميعاد ربّه اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك المكان، ثمّ سبقهم شوقا إلى ربّه وأمرهم بلحاقه، فعوتب على ذلك، وكان الجواب المطابق أن يقول: طلبت زيادة رضاك أو الشوق إلى لقائك وتنجيز وعدك، فلم قدّم ما لا يطابق السؤال، وهو قوله تعالى: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [الآية 84] ؟
قلنا: ما واجهه ربّه به تضمّن شيئين:
إنكار العجلة في نفسها، والسؤال عن سببها فبدأ موسى (ع) بالاعتذار عمّا أنكره تعالى عليه، بأنه لم يوجد منه إلّا تقدّم يسير لا يعتدّ به في العادة، كما يتقدّم المقدّم جماعته وأتباعه ثم عقّب العذر بجواب السؤال عن السبب، بقوله كما ورد في التنزيل: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) .
فإن قيل: أليس أنّ أئمّة اللغة قالوا:
العوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان، ولهذا قال ثعلب: ونقول في الأمر والدين عوج، وفي العصا ونحوها عوج، كالجبال والأرض، فكيف صحّ فيها المكسور، في قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) ؟
قلنا: قال ابن السّكّيت: كل ما كان ممّا ينتصب كالحائط والعود، قيل فيه عوج بالفتح، والعوج بالكسر ما كان في أرض أو دين أو معاش، فعلى هذا لا إشكال. الثاني: أنه أريد به نفي الاعوجاج الذي يدرك بالقياس الهندسي ولا يدرك بحاسّة البصر، وذلك اعوجاج لاحق بالمعاني، فلذلك قال فيه عوج بالكسر ومما يوضح هذا أنك لو سوّيت قطعة أرض غاية التسوية، بمقتضى نظر العين، بموافقة جماعة من البصراء، واتفقتم على أنه لم يبق فيها عوج قط، ثم أمرت المهندس أن يعتبرها بالمقاييس(5/252)
الهندسية، وجد فيها عوجا في غير موضع، ولكنه عوج لا يدرك بحاسة البصر، فنفى الله تعالى ذلك العوج لما لطف ودقّ عن الإدراك، فكان لدقّته وخفائه ملحقا بالمعاني.
فإن قيل: إنّ الله تعالى أخبر أن آدم (ع) نسي عهد الله ووصيّته، وأكل من الشجرة، بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [الآية 115] وإذا كان فعل ذلك ناسيا، فكيف وصف بالعصيان والغواية، بقوله تعالى:
وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) فعاقبه عليه بأعظم أنواع العقوبة، وهو الإخراج من الجنّة؟
قلنا: النسيان هنا بمعنى الترك، كما في قوله تعالى: إِنَّا نَسِيناكُمْ [السجدة: 14] أي تركناكم في العذاب، وقوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:
67] فمعناه أنه ترك عهد الله ووصيته، فكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذّكر وقد جرى بينه وبين إبليس من المجادلة والمناظرة في أكل الشجرة، فصول كثيرة ما ذكره تعالى في قوله:
ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) فكيف يبقى مع هذا نسيان؟ فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) ولم يقل فتشقيا، والخطاب لآدم وحواء (ع) ؟
قلنا: لوجوه: أحدها أن الرجل قيّم أهله وأميرهم، فشقاؤه يتضمّن شقاءهم، كما أن معاداته تتضمن معاداتهم فاختصر الكلام بإسناد الشقاء إليه دونها، لمّا كان متضمّنا له. الثاني:
أنه إنما أسند إليه دونها للمحافظة على الفاصلة. الثالث: أنه أريد بالشقاء:
الشقاء في طلب القوت وإصلاح المعاش، وذلك وظيفة الرجل دون المرأة، قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم (ع) ثور أحمر، فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه.
فإن قيل: هل يجوز أن يقال: كان آدم عاصيا غاويا، أخذا من قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ؟
قلنا: يجوز أن يقال: عصى آدم، كما قال الله تعالى، ولا يجوز أن يقال كان آدم عاصيا، لأنه لا يلزم من جواز إطلاق الفعل جواز اطلاق اسم الفاعل ألا ترى أنه يجوز أن يقال تبارك الله ولا يجوز أن يقال الله تبارك،(5/253)
ويجوز أن يقال تاب الله على آدم، ولا يجوز أن يقال الله تائب ونظائره كثيرة.
فإن قيل: أسماء الله تعالى وصفاته توفيقيّة لا مدخل للقياس فيها ولهذا يقال الله عالم، ولا يقال علّامة، وإن كان هذا اللفظ أبلغ في الدلالة على معنى العلم فأما أسماء البشر وصفاتهم، فقياسية فلم لا يجرى فيها على القياس المطّرد؟
قلنا: هذا القياس ليس بمطّرد في صفات البشر أيضا، ألا ترى أنهم قالوا ذره ودعه بمعنى اتركه، وفلان يذر ويدع، ولم يقولوا منهما وذر ولا واذر، ولا ودع ولا وادع، فاستعملوا منهما الأمر والمضارع فقط. ولقائل أن يقول: هذا شاذّ في كلام العرب ونادر، فلا يترك لأجله القياس المطّرد، بل يجري على مقتضى القياس.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [الآية 124] أي عن موعظتي، أو عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [الآية 124] أي حياة في ضيق وشدّة، ونحن نرى المعرضين عن الإيمان والقرآن، في أخصب معيشة وأرغدها؟ قلنا: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: المراد بالمعيشة الضّنك الحياة في المعصية، وإن كان في رخاء ونعمة. وروي عن النبي (ص) أنّها عذاب القبر. الثاني: أنّ المراد بها عيشته في جهنّم في الاخرة. الثالث:
أن المراد بها عيشه مع الحرص الشديد على الدنيا وأسبابها وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] . فكلّ ما ذكرناه في تفسير الحياة الطيّبة، فضدّه وارد في المعيشة الضّنك.
فإن قيل: أيّ كلمة سبقت من الله سبحانه، فكانت مانعة من تعذيب هذه الأمة في الدنيا عذاب الاستئصال، حتى قال جلّ شأنه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [الآية 129] ؟
لا اختصاص لهذه الأمّة بهذه الكلمة، وقيل هي قوله تعالى للنبي (ص) : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] وقيل هي قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] يعني لعالمي أمّته بتأخير العذاب عنهم وقيل في الآية تقديم وتأخير تقديره: ولولا(5/254)
كلمة سبقت من ربّك وأجل مسمّى، وهو الأجل الذي قدّر الله تعالى بقاء العالم وأهله إلى انقضائه، لكان العذاب لزاما: أي لازما لهم كما لزم الأمم التي قبلهم.
فإن قيل: أصحاب الصراط السويّ والمهتدون واحد، فما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) ؟
قلنا: المراد بأصحاب الصراط السويّ، السالكون الصراط المستقيم، السائرون عليه والمراد بالمهتدين الواصلون إلى المنزل. وقيل أصحاب الصراط السويّ، هم الذين ما زالوا على الصراط المستقيم والمهتدون هم الذين لم يكونوا على الطريق المستقيم، ثمّ صاروا عليه. وقيل المراد بأصحاب الصراط السّويّ، أهل دين الحقّ في الدنيا والمراد بمن اهتدى، المهتدون إلى طريق الجنة في العقبي فكأنه سبحانه قال: فستعلمون من المحقّ في الدنيا، والفائز في الاخرة.(5/255)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «طه» «1»
قوله سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [الآية 15] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو مما سمعته من شيخنا أبي الفتح النحوي «2» ، عفا الله عنه. قال: الذي عليه حذّاق أصحابنا: أنّ «كاد» هاهنا على بابها من معنى المقاربة. إلا أن قوله تعالى:
أُخْفِيها يؤول إلى معنى الإظهار.
لأن المراد به: أكاد أسلبها خفاءها.
والخفاء الغشاء والغطاء مأخوذ من خفاء «3» القربة، وهو الغشاء الذي يكون عليها.
فإذا سلب عن الساعة غطاؤها المانع من تجلّيها، ظهرت للناس، فرأوها فكأنه تعالى قال: أكاد أظهرها. قال لي: وأنشدني أبو علي «4» منذ أيام بيتا هو من أنطق الشواهد على الغرض الذي رمينا. وكان سماعي ذلك من أبي الفتح رحمه الله، وأبو علي حينئذ باق لم يمت، وهو قول الشاعر «5» :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو أبو الفتح عثمان بن جنّي، إمام النحو المشهور، وأستاذ المؤلّف، وقد سبق تعريفنا به في هوامش مجازات سورة التوبة.
(3) . الخفاء: الغطاء وجمعه أخفية.
(4) . أبو علي، هو أبو علي الفارسي، واسمه الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار، كان إماما في العربيّة. وكان يسأل في كل بلد يحلّ فيه عن مسائل من اللغة والنحو والصرف، فيجيب إجابات سديدة. وصنّف في أسئلة كلّ بلد كتابا.
وقد تعاصر المؤلف وابن جنّي وأبو علي الفارسي. وكان المؤلّف شابّا ناشئا، حين تقدّمت السن بأبي علي الفارسي، الذي توفي سنة 377 هـ، على حين أن الشريف الرضي ولد سنة 359 هـ.
(5) . هذا البيت لم يذكر له قائل. وهو من أبيات الشواهد في «لسان العرب» ولم ينسب لقائله.(5/257)
لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى تزجّجها من حالك واكتحالها ومعناه لقد علم الأيقاظ عيونا.
فجعل العين للنوم في أنها مشتملة عليه، كالخفاء للقربة في أنه مشتمل عليها.
وقول الشاعر: «أخفية الكرى» من الاستعارات العجيبة، والبدائع الغريبة.
وقوله: «تزجّجها من حالك واكتحالها» ، يعود على العيون، كأنه قال تزجّج العيون واكتحالها من سواد الليل. وهذا لا يكون إلّا مع السهر وامتناع النوم، لأن العيون حينئذ بانفتاحها تكون كالمباشرة لسواد الظلماء، فيكون كالكحل لها.
والتزجّج: اسوداد العينين من الكحل. يقال زجّجت «1» المرأة عينها وحاجبها. إذا سودتهما بالإثمد.
وعلى التأويل الاخر يبعد الكلام عن طريق الاستعارة، وهو أن يكون أكاد هاهنا بمعنى أريد، كما قلنا فيما مضى «2» . ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر:
أمنخرم شعبان لم تقض حاجة من الحاج كنّا في الأصمّ «3» نكيدها أي كنا نريدها في رجب، ويكون أُخْفِيها على موضوعه، من غير أن يعكس عن وجهه. ويكون المعنى: إن الساعة آتية أريد أستر وقت مجيئها، لما في ذلك من المصلحة. لأنه إذا كان المراد بإقامتها المجازاة على الأفعال، والمؤاخذة بالأعمال، كانت الحكمة في إخفاء وقتها ليكون الخلق في كلّ حين وزمان على حذر من مجيئها، ووجل من بغتتها، فيستعدّوا قبل حلولها، ويمهّدوا قبل نزولها.
ويقوّي ذلك قوله سبحانه: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) .
__________
(1) . ومنه قول الشاعر الراعي النميري:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
وهذا البيت من شواهد النحو في باب المفعول معه. انظر «أوضح المسالك، إلى ألفية ابن مالك» الشاهد 259. [.....]
(2) . في الآية رقم 77 من سورة الكهف.
(3) . الأصمّ: شهر رجب، وسمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت السلاح، لكونه شهرا حراما. انظر لسان العرب. وقال الخليل: إنّما سمّي بذلك، لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال ولا قعقعة سلاح، لأنه من الأشهر الحرم.(5/258)
وقوله سبحانه: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وهذه استعارة. لأن المراد بالسيرة هاهنا الطريقة والعادة. وأصل السيرة مضيّ الإنسان في تدبير بعض الأمور، على طريقة حسنة أو قبيحة. يقال: سار فلان الأمير فينا سيرة جميلة. وسار بنا سيرة قبيحة. ولكن موسى (ع) لمّا كان يصرف عصاه- قبل أن تنقلب حيّة- في أشياء من مصالحه، كما حكى سبحانه عنه، بقوله: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) ثمّ قلبت حيّة، جاز أن يقال سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) أي إلى الحال التي كنت تصرفها معها في المصالح المذكورة، لأن تصرّفها في تلك الوجوه كالسيرة لها، والطريقة المعروفة منها والمراد سنعيدها إلى سيرتها الأولى، فانتصبت السيرة بإسقاط الجار.
وقوله سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [الآية 22] . وهذه استعارة، المراد بها، والله أعلم، وأدخل يدك في قميصك ممّا يلي إحدى جهتي يديك. وسميت تلك الجهتان جناحين، لأنهما في موضع الجناحين من الطائر. ويوضح ما ذكرنا قوله سبحانه في مكان آخر: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] ، والجيب في جهة إحدى اليدين.
قوله سبحانه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وهذه استعارة. والمراد بها إزالة لفف «1» كان في لسانه، فعبّر عنه بالعقدة. وعبّر عن مسألة إزالته بحلّ العقدة للملاءمة بين النظام، والمناسبة بين الكلام.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك، إزالة التقيّة عن لسانه، وكفايته سطوة فرعون وغواته، حتى يؤدي عن الله سبحانه آمنا، ويقول متمكّنا، فلا يكون معقود اللسان بالتقيّة، معكوم الفم بالخوف والمراقبة. وذلك كقول القائل: لسان فلان معقود، إذا كان خائفا من الكلام ولسان فلان منطلق، إذا كان مقداما على المقال.
وقوله سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) . وفي هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله
__________
(1) . اللّفف: التواء عصب في اللسان، يعطّله عن الكلام.(5/259)
سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وليس المراد أن هناك شيئا يلقى عليه في الحقيقة، ولكنّ المعنى أنني جعلتك بحيث لا يراك أحد إلّا أحبّك، ومال قلبه نحوك، حتّى أحبّك فرعون وامرأته، فتبنّياك وربّياك، واسترضعا لك، وكفلاك. وهذا كقول القائل:
على وجه فلان قبول. وليس هناك على الحقيقة شيء يومأ إليه. إلا أن كل ناظر ينظر إليه يقبله قلبه وتسرّ به نفسه.
والاستعارة الأخرى، قوله سبحانه:
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) والمراد بذلك، والله أعلم، أن تتربّى بحيث أرعاك وأراك. وليس أنّ هاهنا شيئا يغيب عن رؤية الله سبحانه، ولكنّ هذا الكلام يفيد الاختصاص بشدة الرعاية، وفرط الحفظ والكلاءة ولمّا كان الحافظ للشيء في الأغلب يديم مراعاته بعينه، جاء تعالى باسم العين بدلا من ذكر الحفظ والحراسة، على طريق المجاز والاستعارة.
ويقول العربي لغيره: أنت مني بمرأى ومسمع. يريد بذلك أنه متوفّر عليه برعايته، ومنصرف إليه بمراعاته.
وقوله سبحانه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) وهذه استعارة. والمراد بها: واصطنعتك لتبلّغ رسالتي، وتنصرف على إرادتي ومحبّتي وقال بعضهم: معنى لنفسي هاهنا، أي لمحبّتي وإنّما جاز أن يوقع النفس موقع المحبة، لأنّ المحبّة أخصّ شيء بالنفس، فحسن أن تسمّى بالنفس.
وقد يجوز أن يكون ذلك على معنى قول القائل: اتّخذت هذا الغلام لنفسي، أي جعلته خاصّا لخدمتي، لا يشاركني في استخدامه أحد غيري.
وسواء قال اتّخذته، أو اتّخذته لنفسي، في فائدة الاختصاص، ليس أن هناك شيئا يتعلّق بالنفس على الحقيقة.
وقوله سبحانه: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) وهذه استعارة على أحد التأويلين. والمراد بها، والله أعلم، أنه أكمل لكلّ شيء صورته، وأتقن خلقته، وهذا يعمّ كلّ مصوّر من حيوان وجماد وغير ذلك.
فلا معنى لحمل من حمله على الحيوان فقط.
وعندي في ذلك وجه آخر، وإن كان الكلام يخرج به من باب الاستعارة وهو أن يكون في الكلام تقدير وتأخير. فكأنه سبحانه قال: ربّنا الذي أعطى خلقه كلّ شيء، ثمّ هداهم إلى(5/260)
مطاعمهم ومشاربهم، ومناكحهم، ومساكنهم، وغير ذلك من مصالحهم.
ويكون ذلك نظير قوله تعالى:
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: 34] ويكون المراد أنه سبحانه أعطى خلقه في أوّل خلقهم كل ما تزاح به عللهم، ويتكامل معه خلقهم، من سلامة الأعضاء، واعتدال الأجزاء، وترتيب المشاعر والحواسّ، ومواقع الأسماع والأبصار، ثمّ هداهم من بعد لمصالحهم، ودلّهم على مناكحهم، وأجراهم في مضمار التكليف إلى غاياتهم.
وقوله سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [الآية 53] . وهذه استعارة. والمراد بها تشبيه الأرض بالمهاد المفترش، ليمكن الاستقرار عليها، والتقلّب فيها. وقد مضى نظير هذه الاستعارة فيما تقدم. ومعنى المهد والمهاد واحد. وهو مثل الفرش والفراش. إلّا أنّ المهد ربّما استعمل في رسم الآلة التي يجعل فيها الصبيّ الصغير ليحفظه، وهو يؤول إلى معنى الفراش. والمهد أيضا: مصدر مهد، يمهد، مهدا. إذا مكّن موضعا لقدمه، ومضجعا لجنبه.
وقوله سبحانه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وهذه استعارة. والمراد بها ما يظهر في الوجوه يوم القيامة من آثار الضّرع، وأعلام الجزع. وذلك مأخوذ من تسميتهم الأسير «العاني» ومنه ما جاء في بعض الكلام: النساء عوان عند أزواجهنّ، أي أسيرات في أيدي الأزواج. وعلى ذلك قول القائل: هذه المرأة في حبال فلان، لأنه بما عقده من نكاحها كالأسر لها، والمالك لرقّها. فكأنّ الوجوه خضعت من خشية الله تعالى، خضوع الأسير الذليل في يد الاسر العزيز.(5/261)
سورة الأنبياء 21(5/263)
المبحث الأول أهداف سورة «الأنبياء» «1»
سورة الأنبياء سورة مكّية بالاتّفاق وآياتها 112 آية، وقد نزلت قبيل الهجرة إلى المدينة، أي حوالي السنة الثانية عشرة من البعثة وسمّيت بسورة الأنبياء، لأنه اجتمع فيها، على قصرها، كثير من قصص الأنبياء، فسمّيت السّورة باسمهم.
الغرض منها وترتيبها
هي سورة مكّية، نزلت في آخر العهد المكّيّ، أي في ذروة تجبّر أهل مكّة، وعنتهم، وانصرافهم عن الإسلام.
فنزلت تنذر هؤلاء الكفّار باقتراب العذاب ففي بدايتها:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) .
ثمّ ساقت السورة الأدلّة، على الألوهية والتوحيد والرسالة والبعث.
وهي الموضوعات التي عنيت بها السور المكية، من أجل تقرير العقيدة والدفاع عنها.
ونلحظ، هنا، أنّ السورة قد عالجت الموضوعات، بعرض النواميس الكونية الكبرى، وربط العقيدة بها.
فالعقيدة، في سورة الأنبياء، جزء من بناء هذا الكون ونواميسه الكبرى.
وهذه العقيدة، تقوم على الحقّ الذي قامت عليه السماوات والأرض، وليست لعبا ولا باطلا كما أنّ هذا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(5/265)
الكون لم يخلق عبثا، ولن يترك سدّى:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) .
ويلفت السياق الناس إلى مظاهر الكون الكبرى، في السماء والأرض، والرواسي والفجاج، والليل والنهار، والشمس والقمر، موجّها الأنظار إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرّفها، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبّر المالك، الذي لا شريك له في الملك كما أنه سبحانه، لا شريك له في الخلق:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الآية 22] .
ثم تتحدّث السورة عن وحدة النواميس، التي تحكم الحياة في هذه الأرض، وعن وحدة مصدر الحياة:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الآية 30] .
وعن وحدة النهاية التي ينتهى إليها الأحياء:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [الآية 35] .
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية، فهي واحدة كذلك، وإن تعدّد الرّسل على مدار الزمان:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) .
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض.
فالسنّة التي لا تتخلّف: أن يغلب الحقّ في النهاية، وأن يزهق الباطل، لأنّ الحقّ قاعدة كونية، وغلبته سنّة إلهية:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الآية 18] .
وأن يحلّ الهلاك بالظالمين المكذّبين، وينجي الله الرسل والمؤمنين:
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) .
وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) .
ومن ثمّ يستعرض السياق أمّة الرّسل الواحدة، في سلسلة طويلة، استعراضا سريعا، يطول بعض الشيء، عند(5/266)
عرض حلقة من قصّة إبراهيم (ع) وعند الإشارة إلى داود وسليمان (ع) .
ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح، وموسى، وهارون، ولوط، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، ويحيى وعيسى (ع) .
وفي هذا الاستعراض تتجّلى المعاني التي سبقت في سياق السورة، تتجلّى في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات، بعد ما تجلّت في صورة قواعد عامة ونواميس.
كذلك يتضمّن سياق السورة بعض مشاهد القيامة، وتتمثّل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة.
وهكذا تتجمّع الأساليب المنوّعة في السورة على هدف واحد، هو استجاشة القلب البشريّ لإدراك الحق الأصيل في العقيدة، التي جاء بها خاتم الرّسل (ص) فلا يتلقّاها الناس غافلين، معرضين لاهين، كما تصفهم السورة في مطلعها.
إنّ هذه الرسالة حقّ، كما أن هذا الكون حقّ وجدّ. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة، ولا مجال لطلب الآيات الخارقة، وإنّ آيات الله في الكون، وسنن الكون كلّها توحي بأنه سبحانه الخالق القادر الواحد، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.
نظم السورة
النّظم في سورة الأنبياء، يختلف عن النظم في سورتي مريم وطه. هناك كان النظم سهلا، والختام رخيّا، يختم في الغالب بالألف اللينة.
أمّا في سورة الأنبياء، فالنّظم نظم التقرير، الذي يتناسق مع موضوعها، ومع جوّ السياق في عرض هذا الموضوع، ولذلك ختمت آياتها بالميم أو بالنون.
وإذا نظرنا الى الجانب الذي عرض من قصّة إبراهيم (ع) في سورة مريم، وجدنا أن الحلقة التي عرضت هناك، حلقة الحوار الرّخي بين إبراهيم وأبيه.
وقد ختمت آيات الحوار هناك، بالألف الليّنة مثل نبيّا، صفيّا، عليّا.
أمّا هنا، فجاءت حلقة تحطيم الأصنام، وإلقاء إبراهيم في النار.
ولكي يتحقّق التناسق في الموضوع،(5/267)
والجوّ والنظم، والإيقاع، فقد ختمت قصّة إبراهيم هنا، بالنون أو الميم، التي تفيد التقرير والتأكيد، أو ما يشبه أحكام القضاء بعد تفكّر وتأمّل وترتيب.
أشواط أربعة
يمكن أن نقسم سورة الأنبياء إلى أربعة أقسام، يمضي السياق خلالها من قسم إلى آخر، ويمهّد كلّ شوط للّذي يليه.
الشوط الأول
يبدأ الشوط الأول بمطلع قويّ الضربات، يهزّ القلوب هزّا وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق، وهي عنه غافلة لاهية:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) .
ثمّ يهزّها هزة أخرى، بمشهد من مصارع الغابرين، الذين كانوا عن آيات ربّهم غافلين:
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) .
ثمّ يربط بين الحقّ والجدّ في الدّعوة، نظام الكون، عقيدة التوحيد ونواميس الوجود، ووحدانيّة الخالق المدبّر ووحدة الرسالة والعقيدة، ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها، على النحو الذي أسلفناه، ويمتدّ هذا الشوط من أول السورة إلى الآية 35.
الشوط الثاني
أما الشوط الثاني، فيرجع السياق بالحديث إلى الكفّار، الذين يواجهون الرسول (ص) بالسخرية والاستهزاء، والأمر جدّ وحق، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام، وهم يستعجلون العذاب، والعذاب منهم قريب. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة، ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرّسل قبلهم ويقرّر أن ليس لهم من الله من عاصم، ويوجّه قلوبهم إلى تأمّل يد القدرة، وهي تنقص الأرض من أطرافها، وتزوي رقعتها وتطويها، فلعلّ هذا أن يوقظهم من غفلتهم، التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء.
وينتهي السياق في هذا الشوط بتوجيه الرسول (ص) إلى بيان وظيفته:
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الآية 45] .(5/268)
وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم:
وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) .
حتى تنصب الموازين القسط، وهم في غفلتهم سادرون. ويمتدّ هذا الشوط من الآية 36 إلى الآية 47.
الشوط الثالث
ويتضمّن الشوط الثالث استعراض أمّة النبيّين، وجهاد الرّسل، وبلاءهم في سبيل الحق. ويبدأ الشوط بموسى وهارون (ع) وقد أنعم الله عليهما بالفرقان، وهو التوراة، لأنّها تفرق بين الحق والباطل ثم ذكر إبراهيم (ع) وقد أعطاه الله الرشد والهداية، فأنكر على قومه عبادة الأصنام، ثمّ حطّمها، فألقي في النار، فجعلها الله بردا وسلاما عليه ثم ذكر نجاة لوط (ع) من قومه المعتدين، ونجاة نوح (ع) وأتباعه من الطوفان ثم ذكر حكم سليمان (ع) ودعاء يونس (ع) وسؤال زكريّا (ع) وصلاح مريم (ع) . ويعقب الشوط بأنّ هناك وحدة بين هذه الرسالات، في العقيدة والإيمان والهدف والقيم والسلوك: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) .
وتتجلّى في رسالة الأنبياء عناية الله بهم، ورعايته لأهل رسالته وتولّيهم بالعناية والرعاية، وأخذ المكذّبين والظالمين، أخذ عزيز مقتدر، ويمتدّ هذا الشوط من الآية 48 إلى الآية 95.
الشوط الرابع
أما الشوط الرابع والأخير، فيعرض النهاية والمصير، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة، حينما يفتح سدّ يأجوج ومأجوج، ويعرض ذلّ الكفار في عذاب جهنّم، ونعيم المؤمنين في الجنّة، ثمّ طيّ السماوات في ساعة القيامة. ثم توجّه السياق إلى الرسول (ص) بالخطاب، فذكر أن الله سبحانه أرسله بالرحمة والإحسان، لتبليغ رسالته إلى الناس. ثم ختمت السورة بمثل ما بدأت: إيقاعا قويا، وإنذارا صريحا. ويمتدّ هذا الشوط من الآية 96 إلى 112.
وفي آخر آية من السورة رنين يتحدّى الكفّار، ويتوعّدهم بحكم الله العادل:
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) .(5/269)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنبياء» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الأنبياء بعد سورة إبراهيم، وقد نزلت سورة إبراهيم بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الأنبياء في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنه اجتمع فيها على قصرها، كثير من قصص الأنبياء، فسمّيت سورة الأنبياء باسمهم، وتبلغ آياتها اثنتي عشرة ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، إثبات قرب ما أمروا بتربّصه من العذاب في آخر السورة السابقة، وبيان ما جاء فيه من ذلك الصراط السّويّ. ولهذا ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، وتصدّرها إنذارهم باقتراب حسابهم، فجاء أوّلها في هذا الإنذار، وجاء آخرها في ذكر قصص أولئك الأنبياء، وبيان اجتماعهم على دين التوحيد، وهو ذلك الصراط السويّ.
إنذارهم باقتراب حسابهم الآيات (1- 47)
قال الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) .
فأنذرهم بأنّ حسابهم قد اقترب بتسليط المسلمين عليهم وذكر أنهم، مع هذا، في غفلة معرضون، وأنهم ما يأتيهم من عظة جديدة من عظات
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/271)
القرآن، إلّا استمعوا إليها وهم يلعبون.
وتناجوا بالطّعن فيمن ينذرهم ويعظهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) وهدّدهم بأنه سبحانه يعلم القول في السماء والأرض، فلا يخفى عليه ما يتناجون به ثم ذكر أنهم عدلوا عن رمي القرآن بأنه سحر، وقالوا إنّه أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر، وأنهم طلبوا أن يأتيهم الرسول (ص) بآية مثل آيات الأنبياء الأولين، وأجاب عن هذا بأنه ما آمنت قبلهم من قرية أهلكها بتلك الآيات، فلا يؤمنون مثلهم إذا أجيبوا إلى طلبهم ثم أجاب عن اعتراضهم الأوّل، بأنّه جلّ جلاله، لم يرسل قبل الرسول (ص) إلّا رجالا من البشر، وبأنه لم يجعلهم ذوي جسد لا يأكلون الطّعام ولا يموتون، بل كانوا كغيرهم من بني الإنسان ثم ذكر أنّه صدقهم ما أنذروا به، فأنجاهم ومن شاء ممّن آمن بهم، وأهلك المسرفين وأنّه أنزل إليهم كتابا فيه ذكر وموعظة لهم، فهو خير ممّا يقترحونه من تلك الآيات ثم ذكر سبحانه أنه كم أهلك من تلك القرى التي أسرفت في تكذيب رسلها، وأنهم كانوا إذا أحسوا العذاب، يركضون منها، فيقال لهم لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، لتسألوا عن أعمالكم، فيقولون يا ويلنا ويعترفون بظلمهم، ويأخذهم الله بعذابه، وهم يشهدون على أنفسهم.
ثم ذكر تعالى أنّه عاقبهم بذلك عدلا لا ظلما، لأنّه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا، بل خلق من فيهما ليطيعوه ويدينوا بتوحيده، فإذا اتّبعوا الباطل قذف بالحق عليه فيدمغه ويبطله ثم ذكر أن كلّ من في السماوات والأرض مملوك له، وأنّ من عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، فإذا خرج هؤلاء الكفّار عن طاعته، أحلّ عليهم نقمته.
ثم ذكر أنّ من باطلهم، أنهم اتّخذوا آلهة من الأرض وأبطله، بأنّه لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، إلى غير هذا مما ذكره في إبطال تعدّد الالهة ثم ذكر، أنّ من باطلهم، أنهم قالوا إنّ الملائكة بنات الله وأبطله، بأنّهم عباد خاضعون له كغيرهم، ولو كانوا بنات له لكانوا آلهة مثله، إلى غير هذا ممّا ذكره في إبطال أنهم بنات له ثم ذكر لهم، من الأدلّة على وحدانيّته، أنّ السماوات والأرض(5/272)
كانتا رتقا ففتقهما، إلى غير هذا مما ذكره من الأدلة على هذه الوحدانيّة.
ثمّ رجع السياق إلى ما ذكروه، من أنه بشر مثلهم، فذكر سبحانه أنه لم يجعل لبشر من قبله الخلد حتّى يجعله بشرا لا يأكل الطعام ولا يموت فهو يموت كما يموتون، وكلّ نفس لا بدّ أن تذوق الموت. ثم ذكر ممّا يفعلونه في غفلتهم عن يوم حسابهم، أنهم كانوا حينما يرون النبيّ (ص) يقولون مستهزئين كما ورد في التنزيل: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الآية 36] ، ماضين في غفلتهم عمّا ينزّل عليهم من الذّكر، مغترّين بإمهال الله لهم، مستعجلين ما اقترب من يوم حسابهم ثمّ ذكر أنّ هذا الاستعجال شأن الإنسان، لأنه خلق من عجل، وأنه سيريهم آيات عذابه في وقت لا تتقدّم عليه ثم ذكر هذا الاستعجال المذموم، وهو قولهم على سبيل الاستهزاء كما ورد في التنزيل: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) .
ولو يعلمون أنّهم في ذلك اليوم، تحيط بهم النار من كلّ ناحية، لكفّوا عن استعجالهم ثم ذكر أنّه إنّما ينذرهم بالوحي الذي لا يكذّب، وأنّهم إذا مسّتهم نفحة من العذاب الذي ينذرون به ينادون بالويل، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين ثم ذكر أنّ ما ينزل بهم من ذلك يكون عدلا، لأنّه لا يكون إلّا بعد حساب توزن فيه الأعمال فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) .
قصص الأنبياء الآيات (48- 91)
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) فذكر من أولئك الأنبياء موسى وهارون (ع) وأنّه آتاهما الفرقان، وهو التّوراة لأنّها تفرق بين الحق والباطل وأنّه سبحانه أنزل القرآن، يزيد عليها في ذلك، فلا يصحّ أن ينكروه.
ثم ذكر أنه آتى إبراهيم (ع) الرّشد إلى الحق، قبل موسى وهارون (ع) فأنكر على قومه عبادة الأصنام، وبيّن لهم أنّ ربهم ربّ السماوات والأرض، لأنّه هو الذي خلقها ثم بيّن، بالعمل، أن هذه الأصنام ليست بالهة، فذهب في خفية إليها فكسّرها وترك صنما كبيرا لهم فلم يكسره. فلمّا ذهبوا(5/273)
إليها سأل بعضهم بعضا عمّن فعل هذا بها، واتّهموا إبراهيم فأحضروه وسألوه، كما ورد في التنزيل: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا [الآية 62] فقال لهم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) ، فكادوا يصدّقونه، لأنّه كان قد وضع فأسا بين يديه ولكنّهم عادوا فذكروا له أنّها لا تنطق، فكيف يسألونها عمّن كسّرها؟ وهنالك قامت له الحجّة عليهم بإقرارهم، فوبّخهم على أنهم يعبدون ما لا ينفعهم شيئا، ولا يضرّهم فعلموا أنه الذي كسّرها، وأوقدوا له نارا ليحرقوه فيها، فلمّا ألقوه فيها، جعلها الله بردا وسلاما عليه، ونجّاه ولوطا ابن أخيه إلى أرض فلسطين، ووهب الله جلّ جلاله له إسحاق ويعقوب نافلة، وجعلهم صالحين فكانوا أئمة يهدون بأمره تعالى، ويخلصون العبادة له.
ثم ذكر أنه آتى لوطا (ع) علما، ونجّاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث، وأدخله في رحمته لصلاحه واستقامته.
ثمّ ذكر سبحانه أنه استجاب لنوح (ع) حينما نجّاه وأهله من الغرق، ونصره على كفّار قومه فأغرقهم أجمعين.
ثم ذكر أنه آتى داود وسليمان (ع) العلم والفهم، وأنّ غنما دخلت كرما فأتلفته، فشكا صاحب الكرم صاحب الغنم إلى داود، فقضى بالغنم لصاحب الكرم، لأنه لم يكن هناك تفاوت بين ثمنهما وقضى سليمان بتسليم الغنم لصاحب الكرم، لينتفع بها إلى أن يصلح صاحبها كرمه وكان هذا الحكم هو الأرفق بهما ثم ذكر أنه سخّر لداود الجبال والطير، وعلّمه صنعة الدروع، وسخّر لسليمان الريح والشياطين.
ثمّ ذكر أنه استجاب لأيّوب (ع) حين ناداه أنّه قد مسّه الضرّ، فكشف عنه ضرّه، وآتاه أهله ومثلهم معهم.
ثمّ ذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل (ع) وأنهم كانوا من الصّابرين، وذكر ذا النون (ع) وأنّه ناداه وهو في بطن الحوت، فاستجاب له، ونجّاه من الغمّ الذي كان فيه.
ثم ذكر زكريّا (ع) حينما شكا إليه، أنه لا ولد له، فوهب له يحيى (ع) ، وأصلح له زوجه، لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا.
ثمّ ذكر مريم التي أحصنت فرجها، فنفخ فيها من روحه، وجعلها وابنها آية للعالمين.(5/274)
الخاتمة الآيات (92- 112)
ثم قال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) . فذكر لهم سبحانه، أنّ ملّتهم التي يدعوهم إليها، ملّة واحدة تتابع أولئك الأنبياء عليها، وأنّ ربّهم واحد يجب أن يعبدوه، وأنهم انحرفوا عن تلك الملّة، فتفرّقوا فرقا كثيرة، وأنه لا بدّ من يوم يرجعون فيه إليه سبحانه، فلا ينجو منهم إلّا من آمن به وعمل صالحا. وأمّا من أهلكهم من أهل القرى، فلا يمكن أن يرجعوا إلى دنياهم، ليستدركوا ما فاتهم وإذا فتحت يأجوج ومأجوج، يكونون أوّل الناس حضورا في محفل القيامة.
وهنالك ينادون بالويل، ويشهدون على أنفسهم، أنهم كانوا في غفلة عن هذا اليوم، فيقال لهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) ولو كانوا آلهة ما وردوها، لأنّ الالهة لا يصحّ تعذيبها. ثم ذكر سبحانه أن الذين سبقت لهم منه الحسنى، لا يردون جهنّم، وأنّهم يدخلون الجنّة فيدخلدون فيها، إلى غير هذا ممّا ذكره في أحوال هذا اليوم.
ثمّ ذكر تعالى أنه كتب في الزّبور من بعد التوراة، أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون، لينذر المشركين بتسليط المؤمنين عليهم في الدنيا، بعد أن أنذرهم بسوء حالهم في الاخرة، فيكون ما اقترب من حسابهم في الاخرة والدنيا معا ثمّ ذكر أن في هذا الإنذار كفاية لقوم عابدين، وأنه سبحانه لم يرسل النبي (ص) إلّا رحمة للعالمين، فلا بد من أن يظهر أمره ليكون فيه رحمتهم وصلاحهم ثمّ ختم السورة بإجمال ما ذكره فيها، فأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّ إلههم إله واحد لا شريك له، فيجب أن يؤمنوا به، وأمره أن يؤذنهم بيوم عذابهم، إن أعرضوا عنه، وأن يخبرهم بأنّه لا يدري أقريب أم بعيد ما يوعدون، لأنّه سبحانه هو الذي يعلم كلّ شيء من جهر القول وما يكتمون ثمّ ذكر أنّ تأخير ما يوعدهم به، إنّما هو فتنة لهم ومتاع إلى حين قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) .(5/275)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنبياء» «1»
ظهر لي من اتصالها باخر «طه» ، أنه سبحانه، لمّا قال في هذه: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا [طه: 135] . وقال قبله:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) [طه] . وقال في مطلع هذه، أي في سورة الأنبياء: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) إشارة إلى قرب الأجل، ودنوّ الأمل المنتظر. وفيه أيضا مناسبة لقوله تعالى هناك:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه: 131] . فإنّ قرب الساعة يقتضي الإعراض عن هذه الحياة الدنيا، لدنوّها من الزّوال والفناء ولهذا ورد في الحديث: أنّها لما نزلت قيل لبعض الصحابة: هلّا سألت النبي (ص) عنها؟ فقال «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا» «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . لم نعثر على هذا الحديث في ما بين أيدينا من مصادر.(5/277)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنبياء» «1»
1- وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ [الآية 29] .
قال قتادة، والضّحّاك: هو إبليس.
أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
2- وَنَضَعُ الْمَوازِينَ [الآية 47] .
أخرج ابن جرير عن حذيفة اليماني «3» قال: صاحب الميزان يوم القيامة: جبريل.
3- قالُوا حَرِّقُوهُ [الآية 68] . قيل: المقصود به: نمرود وقيل: رجل من أكراد فارس، يسمى هيزن. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي.
4- إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها [الآية 71] .
قال السّدّيّ: هي الشام أخرجه ابن أبي حاتم «4» وقيل: مكّة حكاه ابن عسكر «5»
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . انظر «تفسير الطبري» 17: 13.
(3) . لم نجد هذا الأثر في «تفسير الطبري» في هذا الموضع.
(4) . ورد في أحاديث مرفوعة صحيحة، مخرجة في السنن وغيرها، دعاء النبي (ص) للشام بالبركة، وأفرد في فضائلها الحافظ أبو الحسن الربعي المتوفّى سنة 444 هـ، وسمّاه «فضائل الشام ودمشق» وطبعه مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1370 هـ 1950 م، بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد مع ملاحق له وللشيخ ناصر الدين الألباني: «تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي» ، طبعه في دمشق المكتب الإسلامي سنة 1379 هـ.
(5) . روى الحافظ ضياء الدين المقدسي في «فضائل بيت المقدس» برقم (28) عن أبي العالية: في قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) قال: من بركتها: أنّ كلّ ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس.(5/279)
5- إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) .
قال (ص) : هم عيسى، وعزير، والملائكة.
أخرجه، هكذا مختصرا، ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة. وأخرج عن ابن عبّاس، قال: نزلت في عيسى، ومريم، وعزير «1» .
6- أَنَّ الْأَرْضَ [الآية 105] .
قال ابن عباس أرض الجنة. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . وأخرجه البزار، كما في «كشف الأستار» (2234) بلفظ: «يعني عيسى بن مريم (ع) ومن كان معه» . وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار وثّقه ابن حبّان، وضعّفه الجمهور، وبقيّة رجاله ثقاة. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 68.(5/280)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنبياء» «1»
1- وقال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الآية 3] .
أقول: أكثر النحويون في الكلام على هذه الآية فقالوا: «الواو» فاعل، و «الذين» بدل.
وقالوا: «الذين» فاعل، «والواو» ليس ضميرا.
وقالوا: هي لغة.
أقول: القول إنّها لغة مقبول، ولكنّي أقول أيضا: إنّ هذه المسألة ليست «لغة» ومعنى ذلك أنها شيء خاصّ، بل ربّما اتّجه القول اتّجاها حسنا، لو قلنا إنّ مجيء الفاعل اسما ظاهرا، مع تحمّل الفعل «إشارة» أو «علامة» لهذا الفاعل في أنه مثنّى أو جمع، أسلوب من أساليب العرب، أخذ في الزوال والنقص في عصر القرآن، فجاء منه شيء قليل، والآية شاهد على ذلك.
2- وقال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ [الآية 5] .
والمعنى: أنّ الكافرين قالوا: إنّ القرآن تخاليط أحلام، رآها النبيّ (ص) في المنام.
وأريد أن أقف وقفة قصيرة على قوله تعالى: أَضْغاثُ أَحْلامٍ فأقول:
«الضّغث» : قبضة حشيش مختلطة الرّطب باليابس، وهذا يعني أنّ «أضغاث الأحلام» رؤيا لا يصح تأويلها، لاختلاطها.
والقول البديع في هذا التركيب، إضافة المادي إلى المحسوس. وهو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](5/281)
«الأضغاث» إلى المعنويّ، وهو «الأحلام» بمعنى الرؤيا للشبه بينهما وهو الاختلاط.
3- وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) .
أريد ب «قرية» أهل القرية، ومن أجل ذلك وصفت بأنها «ظالمة» ، ثم قال تعالى: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) .
أقول: ودلالة «القرية» على «أهلها» كثير في القرآن، ومنه:
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) [الأعراف] .
وقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف: 82] .
وأمّا دلالة القرية على المكان فكثير أيضا، وقد ورد في آيات كثيرة.
4- وقال تعالى: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الآية 13] .
والمراد: وارجعوا إلى ما نعمتم فيه من العيش الرّافه، أي إلى نعمكم التي أترفتكم.
5- وقال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الآية 18] . أي: أنّنا ندحض الباطل بالحق، واستعار القذف والدمغ تصويرا لإبطاله، وإهداره، ومحقه.
وأصل الدّمغ الشّجّ، يقال دمغه حتى بلغت الشّجّة الدّماغ.
أقول: واستعارة «الدمغ» في هذا الخصوص استعارة جميلة، لإحكام تصوير حقيقة محق الباطل بالحقّ.
6- وقال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) .
وقوله تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) .
أي لا يعيون، عن قتادة والسّدّيّ.
وقيل: لا يملّون، وقيل: لا ينقطعون، مأخوذ من البعير الحسير، المنقطع بالإعياء.
7- وقال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الآية 22] .
أقول: الضمير في قوله تعالى:
فِيهِما ضمير الاثنين يعود إلى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في الآية 19:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
فقد عدّت «السماوات» أحد جزأي المثنّى نظير «الأرض» فجاء الضمير(5/282)
كناية عنهما، ولم يلتفت إلى أن «السماوات» جمع.
ومثل هذه المسألة ما ورد في الآية 30: من السورة نفسها، وهي:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما.
8- وقال تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الآية 31] .
أي: كراهة «أن تميد بهم» .
أقول: وحذف المصدر المبيّن للسبب، وهو المفعول له، ورد في لغة القرآن التماسا للإيجاز، وهو مطلب من مطالب البلاغة، وأنه يلمح في المعنى، ومن ذلك قوله تعالى:
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15 ولقمان: 10] .
أي: كراهة أن تميد بكم.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الإسراء: 46] .
والتقدير كراهة أن يفقهوه.
9- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) .
وفي قوله تعالى: يَسْبَحُونَ (33) . إضافة فعل العقلاء إليها، سوّغ مجيء الواو والنون، كما قال سبحانه:
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [يوسف] .
10- وقال تعالى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الآية 57] .
أي لأدبّرنّ في بابهم تدبيرا خفيّا يسوؤكم ذلك.
والفعل «كاد يكيد» فعل متعدّ، كما في الآية وقد يطوى المفعول به، كما في قوله تعالى:
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف:
76] .
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) [الطارق] .
والكيد التدبير بباطل أو حقّ.
والكيد الخبث والمكر.
1- وقال تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ [الآية 77] .
«السّوء» : بفتح السّين هو المصدر، أمّا الاسم فهو السّوء بالضّمّ.
12- وقال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ(5/283)
إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
[الآية 78] .
وقوله تعالى: نَفَشَتْ، أي:
تفرّقت ليلا. ونفشت الغنم والإبل:
رعت ليلا بلا راع وهذا معنى نادر للفعل «نفش» ، لأنّ النفش تشعيث الشيء بأصابعك حتّى ينتشر.
والنّفش، بالتحريك، الصوف والخصب.
13- وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الآية 87] .
أي: أنّه «مغاضب» لقومه، فقد أغضبهم بمفارقته، لخوفهم حلول العقاب عليهم.
أقول: والمزيد «غاضب» ممّا لم يتيسّر لي أن اقف عليه في غير لغة التنزيل.
14- وقال تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) .
الحدب: النشز من الأرض، أي:
المرتفع.
وقوله تعالى: يَنْسِلُونَ (96) ، أي: يظهرون ويسرعون. أقول: وفي لغة المعاصرين يقال:
جاءوا من كل حدب وصوب، أي:
جاءوا من كلّ جهة، وكثيرا ما يخطئون فيسكنون الدال من «حدب» .
وكأنّ أصل العبارة، أنّها قابلت بين «الحدب» وهو النشز المرتفع قليلا، وبين «الصّوب» الذي يدل على الانصباب والانحدار، وهو ضدّ التصعيد، وهو الإصابة والتصوّب أيضا.
15- وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) .
قلنا: قرأ ابن عبّاس: حضب جهنم بمعنى الحصب. وهو ما يحصب به، أي يرمى كالحصى، وهو المحصوب من باب فعل بمعنى مفعول مثل السّلب، والحلب ونحو هما.
وقرئ: «الحصب» بإسكان الصّاد، وهو من باب الوصف بالمصدر.
وقرئ: حطب بالطاء.
ومن المفيد أن نقول: إن «حضب» بالضاد المعجمة، هو الحطب في لغة اليمن.(5/284)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنبياء» «1»
قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الآية 3] كأنّه قال وَأَسَرُّوا ثم فسّره بعد فقال: هم الَّذِينَ ظَلَمُوا.
وقال تعالى: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) بتذكير الأصنام، وهي من الموات، لأنّها كانت عندهم ممّن يعقل أو ينطق.
وقال تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ [الآية 82] بتذكير الشياطين، الذين ليسوا من الإنس، إلّا أنهم مثلهم في الطّاعة والمعصية. ألا ترى أنك تقول «الشياطين يعصون» ولا تقول: «يعصين» وإنّما جمع يَغُوصُونَ ومِنَ في لفظ واحد لأن مِنَ في المعنى لجماعة. قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين] :
لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبّها أن يحصدا «3»
وقال «4» [من المتقارب، وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين] :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو الأعشى ميمون. ديوانه «الصبح المنير 154» واللسان «منن» . وقيل هو المتلمّس «الصحاح» «منن» .
(3) . في الصحاح واللسان، ومعاني القرآن 1: 428 و 403 و 3: 256 ب «حلّت» بدل «جعلت» وفي الخصائص 2:
402 و 3: 256 ب «ترقب» بدل «تنظر» وفي المخصّص 13: 189 ب «تمنع» بدل «تنظر» ، وفي الديوان «إياد» و «تمنع» .
(4) . نقله في البحر 6: 313، والجامع 11: 289.(5/285)
أطوف بها لا أرى غيرها ... كما طاف بالبيعة الرّاهب
فجعل «الراهب» بدلا من «ما» ، كأنّه قال «كالذي طاف» وتقول العرب:
«إنّ الحقّ من صدّق الله» أي: «الحقّ حقّ من صدّق الله» .
وقال تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) يقول:
«من تعجيل من الأمر، لأنّه سبحانه قال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] فهذا العجل كقوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل/ الآية الأولى] وقوله سبحانه فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) فإنّني سَأُرِيكُمْ آياتِي [الآية 37] .
وقال تعالى: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الآية 30] باعتبار أن السماوات والأرض صنفان، كنحو قول العرب «1» «هما لقاحان سودان» وفي كتاب الله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخمسون بعد المائتين] :
رأوا جبلا فوق الجبال إذا التقت ... رؤوس كبيريهنّ ينتطحان «2»
فقال «رؤوس» ثم قال «ينتطحان» وذا نحو قول العرب «الجزرات» و «الطرقات» فيجوز في ذا، أن تقول:
«طرقان» للاثنين «وجزران» للاثنين.
وقال الشاعر «3» [من الكامل وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد المائتين] :
وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكسي الأبصار
والعرب تقول: «مواليات» و «صواحبات يوسف» فهؤلاء قد كسروا فجمعوا «صواحب» ، وهذا المذهب يكون فيه المذكّر «صواحبون» ونظيره «نواكسي» . وقال بعضهم «نواكس» في موضع جرّ، كما تقول «جحر ضبّ خرب» .
وقال تعالى:
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 2: 671، والجامع 11: 282.
(2) . ورد عجزه في الخصائص 2: 421، والخزانة 2: 201 وورد بتمامه في 202 بلفظ «رأت» بدل «رأوا» .
(3) . هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه 1: 376، والخزانة 1: 99، والكتاب، وتحصيل عين الذهب 2: 207.(5/286)
إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الآية 87] أي: لن نقدر عليه العقوبة، لأنه قد أذنب بتركه قومه، وإنّما غاضب بعض الملوك، ولم يغاضب ربّه، كان بالله عزّ وجلّ، أعلم من ذلك «1» .
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 2: 677، والجامع 11: 330.(5/287)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنبياء» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الآية الأولى] ، وصفه بالقرب، وقد مضى من وقت هذا الإخبار زمن طويل، ولم يأزف يوم الحساب بعد؟
قلنا: معناه الأوّل: أنه قريب عند الله تعالى، وإن كان بعيدا عند الناس، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) [المعارج] وقال تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) [الحج] . الثاني: معناه أنه قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان.
كما قال (ص) «إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى، كمثل خيط في ثوب» . الثالث: أنّ المراد به قرب حساب كلّ واحد في قبره إذا مات، ويؤيّده قوله (ص) «من مات فقد قامت قيامته» . الرابع: أنّ كلّ آت قريب، وإن طالت أوقات استقباله وترقّبه، وإنّما البعيد الذي وجد وانقرض ولهذا يقول الناس إذا سافروا من بلد إلى بلد، بعد ما جعلوا البلد الأول وراء ظهورهم: البلد الثاني أقرب، وإن كان أبعد مسافة.
فإن قيل: لم قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الآية 2] والذكر الآتي من الله تعالى هو القرآن، وهو قديم لا محدث؟
قلنا: المراد أوّلا محدث إنزاله.
ثانيا: أنّ المراد به ذكر يكون غير القرآن، من مواعظ الرسول (ص)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/289)
وغيره ونسب إلى الله تعالى لأن موعظة كلّ واعظ بإلهامه وهدايته.
ثالثا: أنّ المراد بالذكر الذاكر، وهو الرسول (ص) ، ويؤيّده قوله تعالى في سياق الآية هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الآية 3] . وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ [الآية 2] أي إلّا استمعوا ذكره وموعظته.
فإن قيل: النّجوى المسارّة، فما معنى قوله تعالى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الآية 3] ؟
قلنا: معناه بالغوا في إخفاء المسارّة، بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم ومسارّتهم، تفصيلا ولا إجمالا فإنّ الإنسان قد يرى اثنين يتسارّان، فيعلم من حيث الإجمال أنّهما يتسارّان، وإن لم يعلم تفصيل ما يتسارّان به، وقد يتسارّان في مكان لا يراهما أحد.
فإن قيل: لم قال تعال لمشركي مكّة: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [الآية 7] يعني فاسألوا أهل الكتاب عمّن مضى من الرسل، أكانوا بشرا أم ملائكة؟ مع أنّ المشركين قالوا، كما ورد في التنزيل: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: 31] .
قلنا: هم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب، ولكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضيّة العقلية، يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم، ولمن لا يؤمن به.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) ، والاستحسار مبالغة في الحسور وهو الإعياء فكان الأبلغ في وصفهم، أن ينفي عنهم أدنى الحسور أو مطلقه، لا أقصاه؟
قلنا: إنما ذكر الاستحسار، إشارة إلى أنّ ما هم فيه، من التسبيح الدائم، والعبادة المتّصلة، يوجب غاية الحسور وأقصاه.
فإن قيل: قوله تعالى: في وصف الملائكة بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) .
إلى قوله تعالى: مُشْفِقُونَ (28) يدلّ على أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، فإذا كانوا لا يعصون الله تعالى، فلم يخافون حتّى قال سبحانه: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) ؟
قلنا: أولا: لمّا رأوا ما جرى على إبليس وعلى هاروت وماروت من القضاء والقدر، خافوا من مثل ذلك.
ثانيا: أنّ زيادة معرفتهم بالله، وقربهم في محلّ كرامته، يوجب مزيد خوفهم، ولهذا قال أهل التحقيق: من كان بالله أعرف، كان من الله أخوف ومن كان(5/290)
إلى الله أقرب، كان من الله أرهب.
وقال بعضهم يا عجبا من مطيع آمن، ومن عاص خائف.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الآية 30] وهم لم يروا ذلك؟
قلنا: معناه: أو لم يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم، أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، ونظيره قوله تعالى للنبي (ص) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور:
41] وقوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور: 43] ، ونظائره كثيرة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الآية 30] مع أن الملائكة أحياء والجنّ أحياء، وليسوا مخلوقين من الماء، بل من النور والنار، كما قال تعالى وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) [الرحمن] وكذا آدم مخلوق من التراب، وناقة صالح مخلوقة من الحجر؟
قلنا: المراد به البعض، وهو الحيوان، كما في قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] وقوله تعالى: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يونس: 22] ونظائره كثيرة. الثاني: أنّ الكلّ مخلوقون من الماء، ولكن البعض بواسطة، والبعض بغير واسطة.
ولهذا قيل إنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، وخلق الجنّ من نار خلقها من الماء، وخلق آدم من تراب خلقه من الماء.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) بعد قوله سبحانه:
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الآية 37] وكأنه تكليف بما لا يطاق؟
قلنا: هذا، لما ركب فيه الشهوة، وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة، التي يستطيع بها قمع الشهوة، وترك العجلة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) مع أن الصمّ لا يسمعون الدعاء إذا ما يبشّرون أيضا؟
قلنا: اللام في الصّمّ إشارة للمنذرين السابق ذكرهم، بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الآية 45] فهي لام العهد، لا لام الجنس.
فإن قيل: لم قال إبراهيم صلوات الله عليه، كما ورد في التنزيل: بَلْ فَعَلَهُ(5/291)
كَبِيرُهُمْ هذا
[الآية 63] أحال كسر الأصنام على الصنم الكبير، وكان إبراهيم هو الكاسر لها؟
قلنا: أوّلا: قاله على طريق الاستهزاء والتهكّم بهم، لا على طريق الجدّ. ثانيا: أنه لما كان الحامل له على كسرها، اغتياظه من رؤيتها مصفوفة مرتّبة للعبادة، مبجّلة معظّمة، وكان اغتياظه من كبيرها أعظم، لمزيد تعظيمهم له، أسند الفعل إليه، كما أسند إلى سببه، وإلى الحامل عليه.
ثالثا: أنه أسند إليه معلّقا بشرط منتف، لا مطلقا، تقديره: فعله كبيرهم هذا، إن كانوا ينطقون. فإن قيل: لم خاطب تعالى النار، بقوله: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) والخطاب، إنّما يكون لمن يعقل؟
قلنا: خطاب التحويل والتكوين لا يختصّ بمن يعقل، قال الله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] وقال تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت: 11] وقال تعالى:
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] .
فإن قيل: لم وصف الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بكونهم من الصالحين، بقوله تعالى وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ [الآية 85] ، مع أنّ أكثر المؤمنين صالحون، خصوصا في الزمن الأول؟
قلنا: معناه أنهم من الصالحين للإدخال في الرحمة، التي أريد بها النبوّة على ما فسّره مقاتل، أو الجنّة على ما فسّره ابن عبّاس رضي الله عنهما ويؤيّد ذلك قول سليمان صلوات الله عليه، كما ورد في التنزيل: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) [النمل] أي الصالحين للعمل المرضيّ، الذي سبق سؤاله.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الآية 91] وقال في سورة التحريم وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: 12] .
قلنا: حيث أنّث أراد النفخ في ذاتها، وإن كان مبدأ النفخ من الفرج الذي هو مخرج الولد، أو جيب درعها على اختلاف القولين، لأنه فرجة، وكل فرجة بين شيئين تسمى فرجا في اللغة، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها ممّا لا يحل،(5/292)
كانت لنفسها أمنع، وحيث ذكّر فظاهر.
فإن قيل: قوله تعالى وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) يدل على أنه يجب أن يرجعوا، لأنّ كل ما حرّم أن لا يوجد، وجب أن يوجد، فما معنى الآية؟
قلنا: معناه: واجب على أهل قرية، عزمنا على إهلاكهم، أو قدّرنا إهلاكهم، أنهم لا يرجعون على الكفر إلى الإيمان، أو أنهم لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا، فالحرام هنا بمعنى الواجب، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما، ويؤيّده قول الشاعر:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا ... على شجوة إلّا بكيت على عمرو
وقيل لفظ الحرام على ظاهره، و «لا» زائدة، والمعنى ما سبق ذكره، والحرمة هنا بمعنى المنع، كما في قوله تعالى:
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: 12] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) [الأعراف] .
فإن قيل: قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) وقال في موضع آخر: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] وواردها ليكون قريبا منها لا بعيدا.
قلنا معناه مبعدون عن ألمها وعذابها، مع كونهم وارديها، أو معناه مبعدون عنها بعد ورودها، بالإنجاء المذكور بعد الورود، فلا تنافي بينهما.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) مع أن النبي (ص) لم يكن رحمة للكافرين، الذين ماتوا على كفرهم، لأنّه لولا إرساله إليهم، لمّا عذّبوا بكفرهم، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء] .
قلنا: أوّلا: بل كان رحمة للكافرين أيضا، من حيث أنّ عذاب الاستئصال أخّر عنهم بسببه. ثانيا: أنّه كان رحمة عامّة، من حيث أنه جاء بما يسعدهم إن اتّبعوه، ومن لم يتّبعه فهو الذي قصّر في حق نفسه، وضيّع نصيبه من الرحمة ومثله (ص) كمثل عين ماء عذبة، فجّرها الله تعالى، فسقى ناس زروعهم ومواشيهم منها فأفلحوا وفرّط ناس في السقي منمها، فضيّعوا فالعين في نفسها نعمة من الله تعالى للفريقين ورحمة، وإن قصّر البعض وفرّطوا. ثالثا: أن المراد بالرحمة(5/293)
الرحيم، وهو (ص) كان رحيما للفريقين، ألا ترى أنهم لما شجّوه يوم أحد، وكسروا رباعيّته حتّى خرّ مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قال اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون؟
فإن قيل لم قال تعالى: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) مع إخباره تعالى إيّاهم بقرب الساعة، بقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل/ الآية الأولى] وقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر/ الآية الأولى] ونحو هما.
قلنا: معناه ما أدري أنّ العذاب الذي توعدونه وتهدّدون به، ينزل بكم عاجلا أو آجلا، وليس المراد به قيام الساعة.
ويردّ على هذا الجواب، أنّه قريب على كل تقدير لأنّه إن كان قبل قيام الساعة، فظاهر، وإن كان بعد قيام الساعة، فهو كالمتّصل بها، لسرعة زمن الحساب، فيكون قريبا أيضا. فإن قيل: إذا كان المؤمنون يعتقدون أنّ الله تعالى لا يحكم إلّا بالحقّ، فما فائدة الأمر والإخبار المتعلّق بهما، بقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الآية 112] ؟
قلنا: أوّلا ليس المراد بالحق هنا ما هو نقيض الباطل بل المراد به ما وعده الله تعالى إيّاه، من نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، ووعده لا يكون إلا حقّا. فكأنّ السّياق: عجّل لنا وعدك وأنجزه. ونظيره قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) [الأعراف] . الثاني: أنّه تأكيد لما في التصريح بالصفة من المبالغة، وإن كانت لازمة للفعل، ونظيره في عكسه من صفة الذّمّ، قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112] .(5/294)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنبياء» «1»
قوله سبحانه: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الآية 11] وحقيقة القصم، كسر الشيء الصّلب. وجعل هاهنا مستعارا، للتعبير عن إهلاك الجبّارين من أهل القرى، أصلب ما كانوا عيدانا، وأمنع أركانا.
وقوله سبحانه: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) . وفي هذه الآية استعارتان: لأنّه سبحانه جعل القوم الذين أهلكهم بعذابه، بمنزلة النبات المحصود، الذي أنيم بعد قيامه، وأهمد بعد اشتطاطه واهتزازه.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
خامِدِينَ (15) . والخمود من صفات النار، كما كان الحصيد من صفات النبات. فكأنه سبحانه، شبّه همود أجسامهم بعد حراكها، بخمود النار بعد اشتعالها. وقد يجوز أيضا، والله أعلم، أن يكون المراد تشبيههم بالنبات، الذي حصد، ثم أحرق.
فيكون ذلك أبلغ في صفتهم بالهلاك والبوار، وامّحاء المعالم والآثار، لاجتماع صفتي الحصد والإحراق.
وقال سبحانه: حَصِيداً خامِدِينَ (15) ، ولم يقل خامدا، كما قال تعالى:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) [الشعراء] ولم يقل خاضعة. لأنّه، سبحانه، ردّ معنى خاضعين على أصحاب الأعناق. وكذلك يجوز ردّ معنى خامدين على القوم الذين
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(5/295)
أهلكوا، لا على النبات الذي به شبّهوا.
وقيل معنى قوله تعالى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي سلّطنا عليهم السيف يختليهم، كما تختلى الزروع بالمنجل. وقد جاء في الكلام: جعله الله حصيد سيفك، وأسير خوفك.
وقوله سبحانه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) . وهذه استعارة. لأنّ حقيقة القذف من صفات الأشياء الثقيلة، التي يرجم بها، كالحجارة وغيرها. فجعل سبحانه، إيراد الحق على الباطل، بمنزلة الحجر الثقيل، الذي يرضّ ما صكّه، ويدمغ ما مسّه.
ولما بدأ تعالى بذكر قذف الحق على الباطل، وفّى الاستعارة حقّها، وأعطاها واجبها، فقال سبحانه: فَيَدْمَغُهُ ولم يقل فيذهبه ويبطله. لأن الدّمغ إنّما يكون عن وقوع الأشياء الثقال، وعلى طريق الغلبة والاستعلاء. فكأنّ الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه. والدماغ مقتل. ولذلك قال سبحانه من بعد: فَإِذا هُوَ زاهِقٌ والزاهق: الهالك.
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الآية 30] . وهذه استعارة.
لأن الرّتق هو سدّ خصاصة الشيء.
ويقال: رتق فلان الفتق، إذا سدّه.
ومنه قيل للمرأة: رتقاء، إذا كان موضع مرّها من الذّكر ملتحما. وأصل ذلك مأخوذ من قولهم: رتق فتق الخباء والفسطاط وما يجري مجراهما، إذا خاطه. فكأنّ السماوات والأرض كانتا كالشّيء المخيط الملتصق بعضه ببعض، ففتقهما سبحانه، بأن صدع ما بينهما بالهواء الرقيق، والجوّ الفسيح.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، معنى أن السماوات كانت لا تمطر، والأرض لا تنبت، ففتق الله سبحانه السماء بالأمطار، والأرض بالنبات «1» .
وقوله سبحانه: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الآية 32] وهذه استعارة. لأن حقيقة السّقف ما أظلّ الإنسان، من علوّ بيت أو خباء، أو ما
__________
(1) . نسب الشريف الرضي الكلام للإمام علي بن أبي طالب. وهذا التفسير منسوب لا بن عباس رضي الله عنهما انظر «مناهل العرفان في علوم القرآن» للزّرقاني ج 1 ص 483. ورواية الإمام السّيوطي في «الإتقان» تؤيّد قولنا، انظر ص 187 ج 2 من كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي.(5/296)
يجري مجرى ذلك. فلما كانت السماء تظلّ من تحتها، وتعلو على أرضها، حسن أن تسمّى سقفا لذلك. ومعنى «محفوظا» : أي تحفظ، مما لا يمكن أن تحفظ من مثله سائر السقوف، من الانفراج والانهدام والتشعّث والاسترمام. وقد قيل: معنى ذلك، حفظ السماء من مسارق السمع، وتحصينها بمقاذف الشهب.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) . وهذه استعارة، لأنّ أصل السّبح هو التقلّب والانتشار في الأرض. ومنه السّباحة في الماء. ولا يكون ذلك إلّا من حيوان يتصرّف.
ولكنّ الله سبحانه، لمّا جعل الليل والنهار والقمر والشمس مسخّرة للتقلّب في هذا الفلك الدائر والصفيح السائر، تتعاقب فيه وتتغاير، تتقارب وتتباعد، حسن أن يعبّر عنها بما يعبّر به عن الحيوان المتصرّف، وزيدت على ذلك شيئا، فعبّر عنها بما يعبّر به عن الحيوان المميّز. فقيل: «يسبحون» ، ولم يقل: تسبح، لأنها، في الجري على الترتيب المتقن والتقدير المحكم، أقوى تصرّفا من الحيوان غير المميّز. ولأن الله سبحانه أضاف إليها الفعل على تدبير ما يعقل، فحسن أن يعبّر عنها بما يعقل، مثل قوله تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [يوسف] . ومثل قوله سبحانه: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: 18] فقال سبحانه: ادْخُلُوا ولم يقل ادخلي.
لأن خطابها لمّا خرج على مخرج خطاب من يعقل، كان الأمر لها على مثال أمر من يعقل. وقد مضى الكلام على ذلك فيما تقدّم.
وقوله سبحانه: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الآية 37] . وهذه استعارة.
والمراد أنّ الإنسان خلق مستعجلا بطلب ما يؤثره، واستطراف ما يحذره.
والله سبحانه إنّما يعطيه ما طلب، ويصرف عنه ما رهب، على حسب ما يعلمه من مصالحه، لا على حسب ما يسنح من ماربه.
وقيل ذلك على طريق المبالغة في وصف الإنسان بالعجلة، كما يقال في الرجل الذكيّ: إنّما هو نار تتوقّد، وللإنسان البليد: إنّما هو حجر جامد.
فأمّا من قال من أصحاب التفسير:
إن العجل هاهنا اسم من أسماء الطين،(5/297)
وأورد عليه شاهدا من الشعر، فلا اعتبار بقوله، ولا التفات إلى شاهده، فإنه شعر مولّد وقول فاسد «1» .
وقوله سبحانه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) . ولفظ النفحة هاهنا مستعار. والمراد بها، إصابة الشيء اليسير من العذاب.
يقال: نفح فلان فلانا بيده. ونفح الفرس فلانا بحافره. إذا أصابه إصابة خفيفة، ولم يبلغ في إيلامه الغاية.
فكأنّ النّفحة هاهنا قدر يسير من العذاب، يدلّ واقعه على عظيم متوقعه، وشاهده على فظيع غائبه.
وقوله سبحانه: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) وهذه استعارة. والمراد بها وصف ما لحقهم من الخضوع والاستكانة والإطراق، عند لزوم الحجّة، فكأنّهم شبّهوا بالمتردّي على رأسه، تدويخا بنصوع البيان، وإبلاسا عند وضوح البرهان. وقوله سبحانه: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) . ولفظ القرية هاهنا مستعار. والمراد به، الجماعة التي كانت تعمل الخبائث، من أهل القرية. وكشف سبحانه عن ذلك بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) . وفي هذا الكلام خبر عجيب، لأنه تعالى جعل ما يلي لفظ القرية مؤنّثا، إذ كانت مؤنّثة، فقال:
الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ. وجعل بقية الكلام مذكّرا، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) لأنّ المراد به مذكّر، فصار الكلام في الآية على قسمين، قسم عائد إلى اللفظ، وقسم عائد على المعنى، وهذا من عجائب القرآن.
وقوله سبحانه: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) ويسبّح هاهنا استعارة.
وقد مضى من الكلام في «الرّعد» على قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرّعد: 13] ما هو بعينه تأويل تسبيح
__________
(1) . أمّا الشعر الذي أنشدوه، ليثبتوا به أن العجل هو الطين، فهو قول الشاعر:
والنبع في الصّخرة الصمّاء منبته ... والنّخل ينبت بين الماء والعجل
انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج 11 ص 289.(5/298)
الجبال هاهنا. وقد قيل في ذلك وجه آخر، يخرج به الكلام من حدّ الاستعارة. وهو أن يكون قوله تعالى:
يُسَبِّحْنَ هاهنا مأخوذا من التسبيح، وهو الإبعاد في السير، والتصرّف في الأرض. لا من التسبيح المعروف.
فكأنه تعالى قال: وسخّرنا مع داود الجبال يسرن في الأرض معه، ويتصرّفن على أمره، طاعة له. ونظير ذلك قوله سبحانه في «سبأ» : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] أي سيري معه. والتأويب السير.
وإنما قال تعالى: يُسَبِّحْنَ عبارة عنها، بتكثير الفعل من السّبح.
وقال سبحانه: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) [المزّمّل] أي تصرّفا ومتّسعا، ومجالا ومنفسحا.
وقوله سبحانه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الآية 91] . وهذه استعارة. والمراد هاهنا بالرّوح: إجراء روح المسيح (ع) ، في مريم (ع) ، كما يجري الهواء بالنّفخ.
لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر، ولا انتقال من طبق الى طبق. وأضاف تعالى الروح إلى نفسه، لمزيّة الاختصاص بالتعظيم، والاصطفاء بالتكريم. إذ كان خلقه المسيح (ع) ، من غير توسّط مناكحة، ولا تقدّم ملامسة.
وقوله سبحانه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) .
وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم تفرّقوا في الأهواء، واختلفوا في الآراء، وتقسّمتهم المذاهب، وتشعّبت بهم الولائج «1» . ومع ذلك فجميعهم راجعون إلى الله سبحانه، على أحد وجهين: إمّا أن يكون ذلك رجوعا في الدنيا، فيكون المعنى: أنهم، وإن اختلفوا في الاعتقادات، صائرون إلى الإقرار بأنّ الله سبحانه خالقهم ورازقهم، ومصرّفهم ومدبّرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الاخرة، فيكون المعنى: أنّهم راجعون إلى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال، وموفى الثواب والعقاب وإلى حيث لا يحكم فيهم، ولا يملك أمرهم، إلا الله سبحانه.
وشبّه تخالفهم في المذاهب،
__________
(1) . الولائج: جمع وليجة، وهي بطانة الإنسان، ومن يتّخذه معتمدا عليه من غير أهله.(5/299)
وتفرّقهم في الطرائق، مع أنّ أصلهم واحد، وخالقهم واحد، بقوم كانت بينهم وصائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثمّ تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق، وشذّب تلك الوصائل، فصاروا أخيافا «1» مختلفين، وأوزاعا «2» مفترقين.
وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) هذه استعارة، لأنّ الحصب هو ما يرمى به من الحصباء، وهي الحصى الصّغار.
يقال: حصب فلان فلانا، إذا قذفه بالحصى. ويقولون: حصبنا الجمار، أي قذفنا فيها بالحصبات، فشبّه، سبحانه، قذفهم في نار جهنم، بالحصباء التي يرمى بها من ذلّ مقاذفهم، وهوان مطارحهم.
وفي ذلك أيضا معنى لطيف، وهو أنّه سبحانه لما قال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ والمراد هاهنا، والله أعلم، ب وَما تَعْبُدُونَ: الأصنام، والأغلب عليها أن تكون من الحجارة، حسن أن يسمّى الرمي بها في نار جهنم حصبا وتسميتها حصبا إذ كانت حجارة، ومن جنس الحصباء، وجاز أن يسمّى قذف العابدين لها في النار أيضا بذلك، حملا على حكمها، وإدخالا في جملتها.
والفائدة في قذف الأصنام مع عابديها في نار جهنّم، أن يكون من زيادات عقابهم، ورجحانات عذابهم، لأنّهم إذا كثرت مشاهدتهم لها في أحوال العذاب، كان ذلك أعظم لحسرتهم على عبادتها، وندمهم على الدّعاء إليها.
وقد قيل أيضا: إنّها إذا حميت بوقود النار، نعوذ بالله منها، لصقت بأجسامهم، فكانت من أقوى أسباب الإيلام لهم. وعلى هذا التأويل، حمل جماعة من المفسّرين، قوله تعالى:
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) [البقرة] .
وقوله سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الآية 104] .
وهذه استعارة والمراد بها على أحد
__________
(1) . الأخياف: المختلفون: يقال: هم إخوة أخياف، أي أمّهم واحدة والآباء شتّى. [.....]
(2) . الأوزاع: الجماعات. ولا واحد لها.(5/300)
القولين: إبطال السماء ونقض بنيتها، وإعدام جملتها. من قولهم: طوى الدهر آل فلان، إذا أهلكهم وعفّى آثارهم. وعلى القول الاخر، يكون الطيّ هاهنا على حقيقته فيكون المعنى:
إنّ عرض السماوات يطوى حتى يجتمع بعد انتثاره، ويتقارب بعد تباعد أقطاره. فيصير كالسّجلّ المطويّ وهو ما يكتب فيه من جلد أو قرطاس، أو ثوب، أو ما يجري مجرى ذلك.
والكتاب، هاهنا، مصدر، نقول: كتبت كتابة، وكتابا، وكتبا، فيكون المعنى يوم نطوي السماء كطيّ السّجلّ ليكتب فيه، فكأنه تعالى قال: كطيّ السجل للكتابة، لأنّ الأغلب في هذه الأشياء التي أومأنا إليها أن تطوى، قبل أن تقع الكتابة فيها لأنّ ذلك الطيّ أبلغ في التمكّن منها.(5/301)
الجزء السادس
سورة الحج
المبحث الأول أهداف سورة «الحج» «1»
سورة الحج سورة مدنية، نزلت بعد سورة النور.
وقيل إن سورة الحج من السور المكية، وقد استثنى من ذهب إلى هذا الرأي الآيات [19- 24] .
وكان الأولى أن يستثني من قال إنها مكية آيات الإذن بالقتال من 38 إلى 41، ومنها قوله تعالى:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) .
وعند التأمل في سورة الحج، نجد أن أسلوبها وموضوعاتها وطريقتها أقرب إلى السور المكية.
فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة، وإثبات البعث وإنكار الشّرك، ومشاهد القيامة، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون، بارزة في السورة.
ويمكن أن يقال إن هذه السورة مشتركة بين مكة والمدينة كما يبدو من دلالة آياتها، وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال، وآيات العقاب بالمثل في قوله تعالى:
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) فهذه الآيات مدنيّة لأن المسلمين لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة، وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة. أما قبل ذلك، فقد قال رسول الله (ص) حين بايعه أهل يثرب،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/3)
وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم: «إني لم أومر بهذا» . حتى إذا صارت المدينة دار إسلام، شرّع الله القتال لردّ أذى المشركين عن المسلمين، والدفاع عن حرية العقيدة، وحرية العبادة للمؤمنين.
ومن الموضوعات المدنية في سورة الحج: حماية الشعائر، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي، وهو يردّ العدوان، والأمر بالجهاد في سبيل الله.
وفي السورة موضوعات أخرى عولجت بطريقة القرآن المكّي، وتغلب عليها السّمات المكية. وهذه السمات تجعل سورة الحج مما يشبه المكّيّ وهو مدني.
سمات القوة
تتضح في سورة الحج سمات القوة والعنف، وأساليب الرهبة والتحذير، واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والخوف من بأس الله.
وتبدو هذه المعاني في المشاهد والأمثال.
فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب، تذهل فيه الأم عن وليدها وهو بين يديها، وكذلك مشهد العذاب: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) .
ومشهد القرى المدمّرة بظلمها:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) .
تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف، وتبرير الدفع بالقوة، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين.
ووراء ذلك كلّه الدعوة إلى التقوى والوجل، واستجاشة مشاهد الرهبة والامتثال لأمر الله، تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) .
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) .(6/4)
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الآيات 34- 35] .
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الآية 37] .
ذلك إلى استعراض مشاهد الكون، ومشاهد القيامة، ومصارع الغابرين والأمثلة والعبر، والصور والتأملات، لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام. هذا هو الروح الساري في جو السورة كلها، والذي يطبعها ويميزها.
أقسام السورة وأفكارها
تشتمل سورة الحج على أربع مجموعات، أو أقسام رئيسية، يجري السياق فيها كالآتي:
القسم الأول:
يبدأ القسم الأول بالنداء العام: نداء الناس جميعا إلى تقوى الله، وتخويفهم من زلزلة الساعة، ووصف الهول المصاحب لها، وهو هول عنيف مرهوب. في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم، واتّباع كل شيطان محتوم على من يتّبعه الضلال، ثم يعرض دلائل البعث من أطوار في حياة الإنسان وحياة النبات، مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة، ويربط بين تلك الأطوار المطّردة الثابتة، وبين كون الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وكلها سنن مطّردة، وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود. ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم، ولا هدى ولا كتاب منير.
بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود، إلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضّرّاء، والالتجاء إلى غير حماه، واليأس من نصرة الله وعقباه ... وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب. وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين.
ويمتد هذا القسم من أول السورة إلى الآية 24.(6/5)
القسم الثاني:
يبدأ القسم الثاني بالحديث عن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام، ويستنكر هذا الصّدّ عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا، يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه. وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت، وتكليف إبراهيم (ع) أن يقيمه على التوحيد، وأن يطهّره من رجس الشرك، ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب، وهو الهدف المقصود، وينتهي هذا القسم بالإذن للمؤمنين في القتال، لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا: ربّنا الله. ويستغرق هذا القسم الآيات: [25- 41] .
القسم الثالث:
يبدأ القسم الثالث بعرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين. وذلك لبيان سنة الله في الدّعوات، وتسلية الرسول (ص) عما يلقاه من صدّ وإعراض، وتطمين المسلمين بالعاقبة التي لا بد من أن تكون، كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم، وتثبيت الله لدعوته، وإحكامه لآياته، حتى يستيقن بها المؤمنون، ويفتن بها الضّعاف والمستكبرون ويستغرق هذا القسم الآيات: [42- 59] .
القسم الرابع:
يتضمن القسم الرابع وعد الله بنصرة من وقع عليه البغي فقام يدفع عن نفسه العدوان، ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الالهة التي يركن إليها المشركون، وينتهي هذا القسم وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم، ويجاهدوا في الله حق جهاده، ويعتصموا بالله وحده، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل (ع) ، ويستغرق هذا القسم الآيات: [60- 78] .
ومن هذا العرض نجد تعاقب موضوعات السورة وتناسقها في حلقات متساوية، تسلم كل حلقة للتي تليها،(6/6)
ليكون في مجموعها سورة كاملة هي سورة الحج.
حكمة التسمية
سمّيت هذه السورة بسورة الحج لأنها اشتملت على الدعوة إلى الحج على لسان إبراهيم الخليل (ع) ، وفي الحج منافع دينية وعلمية وتجارية وسياحية.
قال تعالى:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ.
في الحج يتجمع المسلمون من كل بلد، للتعارف والتالف والتشاور والتعاون، وبذلك يصبحون يدا واحدة وقوة متالفة كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.
في الحج يشاهد الإنسان الأماكن المقدسة، التي شهدت ميلاد الإسلام، وولادة الرسول (ص) ورسالته وجهاده وهديه.
في الحج يتعرف المسلمون، من كل قطر، على إخوانهم، ويتدارسون شئونهم ويعرفون آلامهم وآمالهم. وربما تعاقدوا على شراء ما يلزمهم أو على عمل ما ينفعهم.
في الحج سياحة في أرض الله، وأداء لمناسك مقدسة في موطن إبراهيم الخليل وهاجر وإسماعيل، ورؤية الكعبة المقدسة وزمزم والصفا والمروة ومنى وعرفات. وبعد الحج زيارة للمسجد النبوي وصلاة بالروضة ووقوف أمام قبر النبي (ص) وزيارته، وزيارة قبور الصحابة والشهداء، ورؤية أمجاد الإسلام ومواقع المعارك.
وبذلك يستقر الايمان في القلب والشعور، ويصبح الحج عبادة ذات منافع متعددة، إذا فهم المسلمون حكمته ورسالته.
مقصود السورة اجمالا
إذا أردنا التعرف على الأفكار المنثورة في سورة الحج وجدناها تدور حول الأمور الآتية:
الوصية بالتقوى والطاعة، وبيان هول الساعة وزلزلة القيامة، والدليل على إثبات الحشر والنشر، وجدال أهل الباطل مع أهل الحق، وذمّ أهل النفاق وعبادة الأوثان، ومدح المؤمنين وبيان رعاية الله لرسوله، ونصره رغم أنف(6/7)
الكافرين، وسجود الكائنات لله، وقيام إبراهيم بالدعوة إلى الحج وبيان تعظيم الحرمات والشعائر، والمنّة على العباد بدفع فساد أهل الفساد، وإهلاك القرى بسبب ظلم أهلها، وذكر نسيان رسول الله (ص) ، وسهوه حال تلاوة القرآن، وتثبيت المؤمنين، وشقاق الكافرين حتى تفاجئهم الساعة، وبيان قدرة الله سبحانه، وعجز الأصنام وعبّادها، واصطفاء الرسل من الملائكة كجبريل (ع) ، ومن الإنس كمحمد (ص) ، وتكليف المؤمنين أنواعا من العبادة كالصلاة والجهاد والإحسان، وترغيبهم في الوحدة والجماعة والتمسك بحبل الله في قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الآية 78] .(6/8)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحج» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الحج بعد سورة النّور، ونزلت سورة النور بعد سورة الحشر، وكان نزول سورة الحشر فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك: فيكون نزول سورة الحج في ذلك التاريخ أيضا، وعلى هذا تكون من السور المدنية، وهو المشهور في تاريخ نزولها.
وقيل إن سورة الحج من السّور المكية، وقد استثنى من ذهب إلى ذلك، الآيات [19- 24] ، فذهب إلى أنها نزلت بالمدينة.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لما ورد فيها من الكلام على الحج، وتبلغ آياتها ثماني وسبعين آية.
الغرض منها وترتيبها
غرض هذه السورة بيان أهوال يوم القيامة، والإذن في قتال من يؤذي المسلمين من المشركين وغيرهم، ولهذا ذكرت بعد سورة الأنبياء، لأن في أواخر الأنبياء تهديدا للمشركين بالفزع الأكبر في القيامة، وبتسليط المسلمين عليهم في الدنيا، فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أولها بيان ذلك الفزع الأكبر، وفي آخرها الإذن بقتال المشركين، ليكون به تسليط المسلمين عليهم في الدنيا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/9)
بيان أهوال يوم القيامة الآيات [1- 24]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) ، فأمر الناس بتقواه، وحذّرهم من أهوال الساعة التي يبلغ من شدتها أن تذهل بها كل مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، ويرى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد.
ثم ذكر سبحانه، أن من الناس من يجادل في دين الله تقليدا من غير علم، فينكرون تلك الأهوال، ويرتابون في بعثهم بعد موتهم، وردّ عليهم بأنه خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة، إلى غير هذا مما ذكره في سلسلة خلقهم، ومن يقدر على هذا، يقدر على أن يبعثهم كما خلقهم، ولا يصح لهم معه أن يرتابوا في الساعة وأهوالها.
ثم ذكر، جلّ وعلا، أن من الناس من يجادل في ذلك عنادا وكبرا، وهم رؤساء الذين أنكروه فيما سبق تقليدا، وأن منهم منافقين لا يجادلون في ذلك، ولكنهم لا يعتقدون في الثواب والعقاب، فيعبدون الله على حرف، أي على قلق واضطراب. فإن أصابوا خيرا دنيويّا من الغنائم ونحوها اطمأنوا به، وإن أصابهم شر أظهروا ما عندهم من النفاق، فيخسرون دنياهم وآخرتهم، ويدعون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ثم ذكر سبحانه أنه يدخل الذين آمنوا بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنه ينصرهم في الاخرة والدنيا. وإذا كان أعداؤهم يظنون أنه لا ينصرهم فليفعلوا ما في وسعهم لمنع ذلك النصر، فإن كيدهم لا يذهب ما يغيظهم.
ثم انتقل السّياق إلى طريق آخر في إثبات ما ينكرونه من ذلك، فذكر اختلاف الناس في الدنيا إلى مؤمنين ويهود وصابئين ونصارى ومشركين، وأنه لا بد من أن يفصل الله سبحانه، بينهم في ذلك الخلاف، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيفصل بواسع علمه فصلا عادلا بينهم، ولأنه يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، وكثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب، فلا بد من الفصل في هذا بينهم. ثم ذكر ما يحكم به على فريقي المؤمنين والكافرين من الذين اختلفوا(6/10)
ذلك الاختلاف في دينهم، فالذين كفروا تقطّع لهم ثياب من نار إلى غير هذا مما ذكره في عقابهم، والذين آمنوا يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ... وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) .
الإذن في القتال الآيات [25- 78]
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) ، فمهّد للإذن في القتال بذكر ما يفعله المشركون من صدّ المسلمين عن المسجد الحرام، وقد جعله للناس سواء، فليس لهم أن يمنعوا أحدا منه، وهذا إلى أنهم يلحدون فيه بشركهم، وقد أمر إبراهيم ببنائه ليعبد الله فيه وحده، وليكون بيتا طاهرا للطائفين والقائمين والمصلّين، ويحجّ الناس إليه من كل فجّ ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله، ويطعموا البائس الفقير، إلى غير هذا مما ذكره من أمور الحج.
ثم ذكر جلّت قدرته، أنه لهذا يدافع عن المؤمنين ويأذن لهم أن يقاتلوا من ظلمهم وأخرجهم من ديارهم بغير حق، وأنه لو لم يأذن لهم في القتال لتسلط المشركون عليهم، وهدّموا بيوت عبادته من المساجد وغيرها، ثم وعدهم بالنصر والتمكين في الأرض، ليقوموا فيها بما أتى به الإسلام من صلاة وغيرها مما فيه صلاحها.
ثم ذكر سبحانه، أنهم إن يكذّبوا الرسول (ص) فيما وعده من النصر عليهم، فقد كذّب قبلهم قوم نوح وغيرهم، فأمل لهم ثم أخذهم فأهلك قراهم، وإنهم ليسيرون في الأرض فيرونها ولا يتّعظون بها، ولكنهم عمي القلوب فلا تؤثر فيهم تلك العظة ثم ذكر أنهم يستعجلون الرسول (ص) بذلك العذاب على سبيل الاستهزاء، وأنه تعالى لن يخلف وعده وإن أملى لهم، لأن اليوم عنده كألف سنة عندنا، وكثير من القرى قبلهم أملى لهم ثم أخذهم فأهلكهم، ثم أمر الرسول (ص) أن ينذرهم بذلك العذاب فيعد الذين يؤمنون بأن لهم مغفرة ورزقا كريما، ويوعد الذين يسعون في إبطال آيات الله بأنهم أصحاب الجحيم.
ثم انتقل السياق من ذلك إلى الكلام(6/11)
فيما لم يسلم منه نبي من الأنبياء من تمنّي التعجيل بالنصر على الأعداء، فذكر تعالى أن مثل هذا مما يلقيه الشيطان في أمنيّته، وأنه ينسخ ما يلقيه من هذا فلا يظهر أثره خارج القلب، ثم يحكم آياته، وينزل سبحانه نصره في الوقت الذي قدّره له ثم ذكر أنه لا يعجّل العذاب ليجعل ما يلقي الشيطان من طلب تعجيله أو تمنّيه فتنة لمرضى القلوب، فيمشوا وراء ما يلقي الشيطان. أما الذين أوتوا العلم، فيعلمون أنه الحق من ربهم، ولا يخرج بهم تمنّيه إلى طلب تعجيله، ثم ذكر أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في شك من ذلك حتى تأتيهم الساعة فجأة، أو يأتيهم عذاب في يوم حرب. وهنالك يحكم الله بينهم، فالذين آمنوا يدخلهم جناته، والذين كفروا لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقا حسنا، وليدخلنّهم مدخلا يرضونه، ولينصرنّهم على من بغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم، وهو العفوّ الغفور، الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، إلى غير هذا مما ذكره في تأييد قدرته على تحقيق وعده لهم. ثم انتقل السّياق من ذلك إلى تحريض الله سبحانه، لرسوله (ص) على الثبات في دعوته ليمضي في قتال المشركين، ويقطع أطماعهم في عدوله عنها، فذكر جلّ وعلا أن لكل أمة شريعة من الشرائع، فللمسلمين شريعتهم التي بعث بها، فليثبت عليها ولا يمكّن المشركين من أن يخدعوه عنها، وليثابر على الدعوة إليها، فإن جادلوه فيها بعد وضوح أدلتها فلينذرهم بأن الله يعلم ما لا يعلمون، وسيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم.
ثم انتقل السّياق من ذلك إلى بيان فساد طريقة المشركين بعد بيان استقامة الدعوة إلى الله، فذكر تعالى أنهم يعبدون من دونه ما لا دليل لهم عليه من نقل أو عقل، وينكرون ما يتلى عليهم من الأدلة الواضحة على أنه سبحانه لا شريك له، ثم ذكر من ذلك مثلا ضربه لهم، وهو أن الذين يدعونهم من دونه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ومن يكون أضعف من الذباب لا يمكن أن يكون إلها، ثم(6/12)
بيّن السياق أنّ المشركين لم يقدّروا الله حق قدره حين سوّوا به أولئك الذين يدعونهم آلهة، وأنه جلّ وعلا يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس على أنهم عباد له، فلا يمكن أن يصطفي أندادا له من تلك الالهة العاجزة، وهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهذه الالهة لا تعلم شيئا.
ثم ختمت السورة بأمر المسلمين بما يضمن لهم الفلاح في جهادهم، وهو أن يحافظوا على ما كلّفوا من الصلاة وغيرها، وأن يخلصوا في الجهاد الذي أذن الله لهم فيه، وأن يذكروا أنه سبحانه اختارهم لتلك الشريعة السّمحة التي هي ملة أبيهم إبراهيم وأنه سماهم المسلمين في الكتاب المنزلة قبل القرآن وفي القرآن لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) .(6/13)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحج» «1»
أقول: وجه اتصالها بسورة الأنبياء:
أنه سبحانه ختم الأنبياء بوصف الساعة في قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97] .
وافتتح الحج بذلك، فقال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(6/15)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحج» «1»
1- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ [الآيتان 3 و 8] .
قال أبو مالك «2» : نزلت في النّضر بن الحارث. أخرجه ابن أبي حاتم.
2- مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ [الآية 15] .
أي: محمّدا (ص) . أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
3- هذانِ خَصْمانِ [الآية 19] .
أخرج الشيخان «3» عن أبي ذرّ قال:
نزلت هذه الآية في حمزة، وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وأخرج الحاكم «4» عن علي قال:
نزلت في الذين بارزوا يوم بدر:
حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
4- وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الآية 25] .
قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أنيس «5» . أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . أبو مالك الأشجعي: سعد بن طارق الكوفي، ثقة عالم، مات في حدود (140) هـ.
(3) . البخاري (4743) في التفسير، ومسلم (33) في آخر صحيحه.
(4) . في «المستدرك» 2: 386، وصححه الذهبي.
(5) . وذلك لما بعثه رسول الله (ص) مع رجلين أحدهما مهاجري، والاخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري، ثم ارتدّ عن الإسلام. انظر الرواية في «الدر المنثور» 4: 351.(6/17)
5- فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الآية 28] .
قال ابن عباس: أيام العشر.
وقال زيد بن أسلم: يوم عرفة، ويوم النّحر، وأيام التشريق.
وقال ابن عمر: يوم النّحر، ويومان بعده. أخرجهما ابن أبي حاتم. 6- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الآية 55] .
قال أبيّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وعكرمة: يوم بدر.
وقال الحسن، ومجاهد، والضّحّاك:
يوم القيامة لا ليلة له. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.(6/18)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحج» «1»
1- قال تعالى: وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) .
أي: كل شيطان عات.
ومرد على الأمر، بالضم، يمرد مرودا ومرادة: أقبل وعتا وكذلك مرد بالفتح، ومنه قوله تعالى:
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة: 101] قال الفراء: يريد مرنوا عليه.
وشيطان مارد ومريد، أي: خبيث عات.
ومنه قولهم: تمرّد علينا، أي: عتا.
والتمرّد في لغة العصر: العصيان والعتوّ.
2- وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ [الآية 5] .
وقوله: مِنْ نُطْفَةٍ، أي: من ماء قليل. والعلقة: قطعة الدم الجامد، والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ.
والمخلّقة: المسوّاة الملساء من النقصان والعيب.
ويقال: «خلّق السواك» أو العود إذا سوّاه وملّسه، وذلك من قولهم:
«صخرة خلقاء» .
وكأنّ الله سبحانه يخلّق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/19)
في خلقهم، وصورهم، وطولهم، وقصرهم، وتمامهم، ونقصانهم.
3- وقال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الآية 5] .
قوله: طِفْلًا، أي: أطفالا، وقالوا: الطفل واحد وجمع.
وهذا مما سجّلته لغة التنزيل، فليس لنا أن نتأوّل فنقول كما قالوا: أي نخرج كل واحد منكم طفلا.
4- وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الآية 11] .
وقوله: عَلى حَرْفٍ، أي: على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه.
وهذا يدل على قلق واضطراب في دينهم.
أقول: والحرف طرف من كل شيء، وهذا الطرف قد يكون قطعة صغيرة. وعلى هذا يكون قول العامة «حرف من خبز» مقبول وصحيح.
5- وقال تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الآية 19] .
الخصم مفرد ويدل على جمع، كالجمع، والفريق، والفوج، ونحو ذلك، فكأن المعنى هذان جمعان اختصموا ...
والفعل «اختصموا» ، روعي فيه المعنى، كما روعي اللفظ في كلمة «خصمان» بدلالة تثنيتها.
5- وقال تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الآية 25] .
أي: «العاكف» المقيم فيه، «والباد» الذي ينتابه من غير أهله، مستويان في سكناه والنزول فيه، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل يكون فيه من الاخر.
أقول: ورسم «الباد» في المصحف بالدال مع الكسرة، ووجهها أن تكون بالياء لأنها اسم فاعل محلّى بالألف واللام، وقد اجتزئ بالكسرة عن المد (أي الياء) لمكان الوقف الجائز، بعد هذه الكلمة على أن وصلها أولى، فإذا وصلت فالكسرة تؤذن بذلك الوصل أيضا كالياء.
6- وقال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .(6/20)
قوله تعالى: «رجالا» ، جمع راجل، مثل قيام جمع قائم.
وهو مقابل لقوله: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ، أي: «الرجال» يقابلون «الركبان» كقوله أيضا: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] .
والراجل بهذا المعنى، أي:
الماشي، أخذ من «الرجل» ، عضو المشي في الإنسان، وهذا من باب الاشتقاق من أسماء الذات.
وقوله: يَأْتِينَ، وهو وصف لقوله كُلِّ ضامِرٍ وكأنه بمعنى الجمع وقرئ: «يأتون» صفة للرجال والركبان.
7- وقال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الآية 29] .
«التّفث» : نتف الشعر، وقصّ الأظفار، وتنكّب كلّ ما يحرم على المحرم، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
وقال الزجّاج: لا يعرف أهل اللغة التّفث إلّا من التفسير.
8- وقال تعالى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) . قوله: مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) .
أي: وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، وهذا شيء من مناسك الحج.
أما قوله: مَحِلُّها، بكسر الحاء فهو اسم مكان من حلّ يحلّ.
9- وقال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) .
«المخبتون» المتواضعون الخاشعون، وهو من الخبت، أي: المطمئنّ من الأرض.
أقول: وقد توسعت العربية، فأخذت الكثير من أسماء المعاني من أسماء الذات، أي: من المحسوسات، ومن الكلم الذي يتصل بالبيئة البدوية، ألا ترى أن الفعل «بدا» ذو صلة ب «البدو» ، وأن «الجمال» ، بمعنى الحسن، ذو صلة ب «الجمل» الحيوان، ومثل هذا لا يمكن أن يبلغه الحصر.
10- وقال تعالى: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الآية 36] .
أما قوله: الْقانِعَ، فهو السائل من قولك: قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا.(6/21)
وَالْمُعْتَرَّ: الذي يتعرّض بغير سؤال.
وقيل: القانع السائل أو المتعفف.
أقول: وهذا كله من الكلم الذي نفتقده كل الافتقاد في العربية المعاصرة.
11- وقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الآية 40] .
الصوامع للرهبان وكذلك البيع، والمفرد بيعة.
ويذهب أهل عصرنا هذا، وأعني أهل العلم من المختصين باللغات القديمة، أن «البيعة» فيها من آثار الآرامية شيء، وهو صوت العين الذي يقابله في العربية الضاد، وكان حقها أن تكون «بيضة» ، لأنها قبّة بيضاء، وعلى هذا فالعين إشارة للأصل.
وأما الصلوات فهي متعبّدات اليهود، وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنه يصلّى فيها.
12- وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الآية 42] .
وقوله: كَذَّبَتْ، إشارة إلى أن الفاعل مؤنث، والفاعل هنا كلمة «قوم» ، وهي ألصق بالتذكير ومعناها الجمع، ولكن في الآية مراعاة للمعنى، فالمراد ب «قوم» «الأمّة» .
ولو روعي اللفظ، لكان الفعل «كذّب» ، ويعضد هذا أن الفصل موجود في الآية بين الفعل والفاعل بالظرف «قبلهم» .
ومجيء «القوم» مذكّرا متحقق في عشرات الآيات بل المئات.
13- وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ [الآية 48] .
والإملاء: الإمهال والتأخير وإطالة العمر، والله يملي للظالم أي يمهله.
أما الكلام على «كأيّن» ، فهي لفظ من كنايات العدد مثل: «كم» و «كذا» ، وهي نظيرة «كم» في الاستفهام والخبر.
وفيها لغة أخرى هي «كائن» ، قال زهير:
وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلّم وقد جاءت «كايّن» في آيات عدة منها:(6/22)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: 146] .
والمعنى: وكم من نبيّ......
أقول: إن «كأيّن» هذه من الكلم الذي لم يبق له استعمال منذ عصور عدة.
14- وقال تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) . وقولنا: عاجزه بمعنى سابقه، والمعاجز من يسعى في طلب إعجاز الاخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل:
أعجزه.
أقول: وهذا من الكلم الذي يفتقده أصحاب ما يتصل بكل أنواع المسابقات في عصرنا.(6/23)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحج»
«1» قال تعالى: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
[الآية 2] وذلك أنه أراد، والله أعلم، الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى لقال «مرضع» . وكذلك كلّ «مفعل» و «فاعل» يكون للأنثى ولا يكون للذكر فهو بغير هاء نحو «مقرب» و «موقر» : نخلة موقر، و «مشدن» :
معها شادن و «حامل» و «حائض» و «فادك» و «طامث» و «طالق» «2» وقال تعالى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) [الآية 15] بحذف الهاء من (يغيظ) لأنها صلة «ما» لأنه إذا صار جميعا اسما واحدا كان الحذف أخف «3» .
وقال تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الآية 13] ف (يدعو) بمنزلة «يقول» . و (من) رفع وأضمر الخبر كأنّ السياق يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه. يقول: لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه «4» .
وقوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ [الآية 25] معناه: ومن يرد إلحادا. وزيدت الباء كما زيدت في قوله سبحانه تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون/]
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في التهذيب 1: 472 «رضع» وزاد المسير 5: 404.
(3) . نقله في الجامع 12: 22.
(4) . نقله في إيضاح الوقف، والابتداء 2: 781 والمشكل 2: 487 و 488، وإعراب القرآن 2: 687، والبحر 6:
356. [.....](6/25)
[20] وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائتين] :
أليس أميري في الأمور بأنتما ... بما لستما أهل الخيانة والغدر «2»
وقال تعالى: صَوافَّ [الآية 36] وواحدتها: «الصافّة» .
وقال تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الآية 40] فالصّلوات لا تهدّم، ولكن ينبغي حمله على فعل آخر كأنّ السياق «وتركت صلوات» ، وقال بعضهم: «إنّما يعني مواضع الصلوات» .
وفي قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الآية 40] بَعْضَهُمْ بدل من النَّاسَ.
وقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الآية 45] حمل على (كأيّن) والمشيد هو المفعول من «شدته» ف «أنا أشيده» مثل «عنته» ف «أنا أعينه» ف «هو معين» .
وقال تعالى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الآية 73] فإن قيل: «فأين المثل» قلت: «ليس هاهنا مثل، لأنّ معنى قوله تبارك وتعالى: «ضرب لي مثل فجعل مثلا عندهم لي فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي في قولهم واتخاذهم الالهة، وإنهم لن يقدروا على خلق ذباب ولو اجتمعوا له وهم أضعف، لو سلبهم الذباب شيئا فاجتمعوا كلهم ليستنقذوه منه، لم يقدروا على ذلك.
فكيف تضرب هذه الالهة مثلا لربّها وهو ربّ كلّ شيء، الواحد الذي ليس كمثله شيء وهو مع كل شيء، وأقرب من كل شيء، وليس له شبه ولا مثل ولا كفؤ، وهو العلي العظيم، الواحد الرب، الذي لم يزل ولا يزال» «3» .
وقال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الآية 30] وكلّها رجس، والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها أي: عبادتها «4» .
__________
(1) . لم تفد المراجع شيئا في القائل.
(2) . ورد الشاهد في المغني 1: 306، وشرح شواهده للسيوطي 344، والمقاصد النحوية 1: 422 على أنه من شواهد ابن أم قاسم، وقيّد بلفظ «فما» بدل «بما» .
(3) . نقله في زاد المسير 5: 451، والجامع 12: 96 والبحر 6: 390.
(4) . نقله في إعراب القرآن 2: 692.(6/26)
وقال تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) أي:
«هو في الثقل ومما يخاف منه كألف سنة» .
وقوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الآية 78] نصب على الأمر. وقال: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الآية 72] رفع على التفسير، أي: هي النار.
ولو جرّ على البدل كان جيدا «1» .
وقال تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا [الآية 19] لأنهما كانا حيّين.
و «الخصم» يكون واحدا وجماعة.
__________
(1) . الجر في البحر 6: 389 قراءة ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة. والرفع قراءة الجمهور.(6/27)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحج» «1»
إن قيل: قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الآية 1] يدل على أن المعدوم شيء.
قلنا: لا نسلّم، ومستنده أن المراد أنها إذا وجدت كانت شيئا لا أنها شيء الآن، ويؤيد هذا قوله تعالى:
عَظِيمٌ مع أن المعدوم لا يوصف بالعظم.
فإن قيل: لم قال تعالى أوّلا: يَوْمَ تَرَوْنَها
[الآية 2] بلفظ الجمع، ثم أفرد فقال في الآية نفسها: وَتَرَى النَّاسَ
؟
قلنا: لأن الرؤية أولا علّقت بالزّلزلة، فجعل الناس كلهم رائين لها، وعلقت آخرا بكون الناس على هيئة السكارى، فلا بد من أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
فإن قيل: لم قال تعالى في حق النضر بن الحارث: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ [الآية 3] إلى أن قال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 9] وهو ما كان غرضه في جداله الضلال عن سبيل الله، فكيف علل جداله به وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟
قلنا: هذه لام العاقبة والصيرورة، وقد سبق ذكرها غير مرة، ولما كان الهدى معرضا له، فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.
فإن قيل: النفع والضر منفيان عن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/29)
الأصنام مثبتان لها في الآيتين، فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا: معناه يعبد من دون الله ما لا يضره بنفسه إن لم يعبده، ولا ينفعه بنفسه إن عبده، ثم قال: يعبد من يضره الله بسبب عبادته، وإنما أضاف الضرر إليه لحصوله بسببه.
فإن قيل: قوله تعالى: أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الآية 13] يدل على أن في عبادة الصنم نفعا، وإن كان فيها ضرر؟
قلنا: معناه أقرب من النفع المنسوب إليه في زعمهم، وهو اعتقادهم أنه يشفع لهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الآية 39] أي بسبب كونهم مظلومين، ولم يبين ما الشيء الذي أذن لهم فيه؟
قلنا: تقديره: أذن للذين يقاتلون في القتال، وإنما حذف لدلالة «يقاتلون» عليه ولدلالة الحال أيضا، فإن كفار مكة يؤذون المؤمنين بأنواع الأذى وهم يستأذنون النبي (ص) في قتالهم، فيقول: «لم يؤذن لي في ذلك» . حتى هاجر إلى المدينة فنزلت هذه الآية، وهي أول آية نزلت في الإذن في القتال، فنسخت سبعين آية ناهية عن القتال، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، فكان المأذون فيه ظاهرا لكونه مترقّبا منتظرا.
فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الآية 40] ؟
قلنا: هو استثناء منقطع تقديره: لكن أخرجوا بقولهم: ربنا الله. الثاني أنه بمنزلة قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب تقديره: إن كان فيهم عيب فهو هذا، وليس بعيب فلا يكون فيهم عيب.
فإن قيل: أي منّة على المؤمنين في حفظ الصوامع والبيع والصلوات: أي الكنائس عن الهدم حتى امتن عليهم بذلك في قوله تعالى وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الآية 40] ؟
قلنا: المنّة في ذلك أن الصوامع والبيع والكنائس في حرم المسلمين وحراستهم وحفظهم، لأن أهلها ذمة للمسلمين. الثاني أن المراد به لهدّمت صوامع وبيع في زمن عيسى (ع) ،(6/30)
وصلوات: أي كنائس في زمن موسى (ع) ، ومساجد في زمن النبي (ص) ، فالامتنان على أهل الرسالات الثلاث.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَكُذِّبَ مُوسى [الآية 44] ولم يقل و «كذّب قوم موسى» ، كما قال الله تعالى فيما قبله؟
قلنا: لأن موسى (ع) ما كذّبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. الثاني: أن يكون التنكير والإبهام للتفخيم والتعظيم كأنه قال تعالى: بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ؟
قلنا: الحكمة فيه المبالغة في التأكيد كما في قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] وقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ [الفتح: 11] وما أشبه ذلك: أن القلب هنا يستعمل بمعنى العقل، ومنه قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] أي عقل في أحد القولين، فكان التقييد احترازا على قول من زعم أن العقل في الرأس.
فإن قيل: المغفرة إنما تكون لمن يعمل السيئات، لا لمن يعمل الصالحات والحسنات، فلم قال تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [الآية 50] ؟
قلنا: المراد بالعمل الصالح هنا الإخلاص في الإيمان فيصير المعنى:
فالذين آمنوا عن إخلاص نغفر لهم سيئاتهم.
فإن قيل: ما الفرق بين الرسول والنبي، مع أن كليهما مرسل بدليل قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الآية 52] .
قلنا: الفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جمع له بين المعجزة وأنزل الكتاب عليه.
والنبي فقط: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو أمته إلى شريعة من قبله. وقيل الرسول من كانت له معجزة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والنبي من لم تكن له منهم معجزة، وفي هذا نظر. وقيل الرسول من كان مبعوثا إلى أمّة، والنبي فقط من لم يكن مبعوثا إلى أحد مع كونه نبيّا، والجواب(6/31)
عمّا في الآية من هذا القول أن فيه إضمارا تقديره: وما أرسلنا من رسول ولا نبأنا من نبيّ، أو ولا كان من نبيّ ويقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلّدا سيفا ورمحا أي ومتعلقا رمحا أو حاملا رمحا.
فإن قيل: أين المثل المضروب في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الآية 73] والمذكور بعده، وهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 73] إلى آخره ليس بمثل، بل هو كلام مبتدأ مستقل بنفسه؟
قلنا: الصفة والقصة الغريبة أو المستحسنة تسمى مثلا، ومنه قوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17] فالمعنى يثبت بصفة، وهي عجز الصنم عن خلق الذباب واستنقاذ ما يسلبه، وقيل هو إشارة إلى قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] وإنما أبهم هنا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الآية 78] مع أن قطع اليد بسبب سرقة عشرة دراهم حرج في الدين وكذا رجم المحصن بسبب الوطء مرة واحدة، ووجوب صوم شهرين متتابعين بسبب إفطار يوم واحد من رمضان بوطء، والمخاطرة بالنفس والمال في الحجّ والعمرة كل ذلك حرج بيّن؟
قلنا: المراد بالدين كلمة التوحيد، فإنها تكفّر شرك سبعين سنة، ولا يتوقف تأثيرها على الإيمان والإخلاص سبعين سنة، ولا على أن يكون الإثبات بها في بيت الله تعالى أو في زمان أو مكان معين. وقيل المراد به أن كل ما يقع فيه الإنسان من الذنوب والمعاصي يجد له مخرجا في الشرع بتوبة أو كفّارة أو رخصة. وقيل المراد به فتح باب التوبة للمذنبين، وفتح أبواب الرّخص للمعذورين، وشروع الكفارات والديات وقيل المراد به نفي الحرج الذي كان على بني إسرائيل من الإصر والتشديد.
فإن قيل: لم قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الآية 78] وإبراهيم صلوات الله عليه لم يكن أبا للأمة كلها؟
قلنا: هو أبو رسول الله (ص) ، فكان(6/32)
أبا لأمته، لأن أمّة الرسول بمنزلة أولاده من جهة العطف والشفقة، هذا إذا كان الخطاب لعامة المسلمين، وإن كان للعرب خاصة فإبراهيم أبو العرب قاطبة.
فإن قيل: متى سمّانا إبراهيم صلوات الله عليه المسلمين من قبل، كما ورد في قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الآية 78] ؟
قلنا: وقت دعائه عند بناء الكعبة حيث قال، كما ورد في التنزيل رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] فكل من أسلم من هذه الأمة فهو ببركة دعوة إبراهيم (ع) .(6/33)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحج» «1»
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) .
وهذه استعارة. لأن حقيقة الزلزلة هي حركة الأرض على الحال المفزعة. ومثل ذلك قولهم: زلزل الله قدمه. وكان الأصل: أزلّ الله قدمه.
بمعنى أزالها عن ثباتها واستقامتها، وأسرع تعثرها وتهافتها. ثم ضوعف «2» ذلك، فقيل: زلزل الله قدمه. كما قيل: دكّه الله، ودكدكه. فالمراد بزلزلة الساعة- والله أعلم- رجفان القلوب من الخوف ... وزلات الأقدام من روعة موقعها. ويشهد بذلك قوله سبحانه: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
[الآية 2] يريد تعالى من شدة الخوف والوجل، والذهول والوهل.
وفي قوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) استعارة. لأن المراد هاهنا باهتزاز الأرض، والله أعلم، تشبيهها بالحيوان الذي همد بعد حراكه، وخشع بعد إشرافه، لعلّة طرأت عليه، فأصارته إلى ذلك، ثم أفاق من تلك الغمرة، وصحا من تلك السّكرة، فتحرك بعد هموده وركوده. وكذلك حال الأرض إذا أماتها الجدب،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . التضعيف في تصريف الأفعال معروف مثل: زلزل في زل، وصلصل في صل.(6/35)
وأهمدها المحل ثم حالها إذا نضحها الغيث بسجاله، وبلّها القطر ببلاله، واهتزت بالنبات ناضرة، ورطبت بعد الجفوف متزيّنة «1» . ذلك تقدير العزيز العليم.
وقوله سبحانه: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 9] استعارة.
والمراد بها، والله أعلم، الصفة بالإعراض عن سماع الرشد، وليّ العنق عن اتباع الحق. لأن المستقبل لسماع الشيء الذي لا يلائمه في الأكثر يصرف دونه بصره، ويثني عنه عنقه.
والعطف: جانب القميص، وبه سمّي شق الإنسان عطفا، لأن منه يكون ابتداء انعطافه، وأول انحرافه. ومثل ذلك قوله سبحانه: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الإسراء: 83 وفصّلت: 51] .
وفي قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الآية 11] استعارة. والمراد بها، والله أعلم، صفة الإنسان المضطرب الدين، الضعيف اليقين، الذي لم تثبت في الحق قدمه، ولا استمرت عليه مريرته، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها، ويفارق دينه لها، تشبيها بالقائم على حرف مهواة. فأدنى عارض يزلقه، وأضعف دافع يطرحه.
وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الآية 18] استعارة.
والمراد، والله أعلم، بسجود الشمس والقمر والنجوم والشجر، وما ليس بحيوان مميز، ما يظهر فيه من آثار الخضوع لله سبحانه، وعلامات التدبير، ودلائل التصريف والتسخير، فيحسن لذلك أن يسمّى ساجدا على أصل السجود في اللغة، لأنه الخضوع والاستكانة. أو يكون ذلك على معنى آخر، وهو أن الذي يظهر في الأشياء التي عدّدها، من دلائل الصنعة، وأعلام القدرة، يدعو العارفين الموقنين إلى السجود، ويبعثهم على الخضوع، اعترافا له سبحانه بالاقتدار، وإخباتا له بالإقرار. وذلك كما تقدّم من قولنا في تسبيح الطير والجبال.
__________
(1) . في الأصل «متزيّلة» .(6/36)
وفي قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الآية 19] استعارة. والمراد بها أن النار، نعوذ بالله منها، تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم، ولا يغيب عنها شيء من أجسادهم.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك، والله أعلم، أن سرابيل القطران التي ذكرها سبحانه، فقال: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [ابراهيم: 50] إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار، لإحاطتها بهم واشتمالها عليهم.
وفي قوله سبحانه: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) استعارة. لأن المراد بها ذهول القلب عن التفكّر في الأدلّة التي تؤدي إلى العلم. وذلك في مقابلة قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) [النجم] فإذا وصف القلب عند تبيين الأشياء بالرؤية والإبصار، جاز أن يوصف عند الغفلة والذهول بالعمى والضلال. وإنما جعلت القلوب هاهنا بمنزلة العيون، لأن بالقلوب يكون تحصيل المعلومات، كما أن بالعيون يكون إدراك المرئيات. ولأن الرؤية ترد في كلامهم بمعنى العلم. ألا تراهم يقولون: هذا الشيء مني بمرأى ومسمع. أي بحيث أعرفه وأعلمه، ولا يريدون بذلك نظر العين، ولا سمع الأذن.
وفي قوله سبحانه: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ معنى عجيب، وسر لطيف.
وذلك أنه سبحانه لم يرد نفي العمى عن الأبصار جملة. وكيف يكون ذلك وما يعرض من عمى كثير منها أشهر من أن نؤمي إليه، وندل عليه؟ وإنما المراد، والله أعلم، أن الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق، واتصال الشعاعات لم يجز أن لا ترى ما لا مانع لها من رؤيته.
والقلوب بخلاف هذه الصفة بها، قد يكون فيها آلة التفكر والنظر من سلامة البنية، وصحة الروية وزوال الموانع العارضة، ثم هي مع ذلك لاهية عن النظر، ومتشاغلة عن التفكر. فلذلك أفردها الله سبحانه بصفة العمى عن الأبصار على الوجه الذي بيّناه مع الفائدة.
فأما الفائدة في قوله سبحانه: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ،(6/37)
والقلب لا يكون إلا في الصدور، فإن هذا الاسم الذي هو القلب لما كان فيه اشتراك بين مسمّيات كقلب الإنسان، وقلب النخلة، والقلب الذي هو الصميم والصريح. من قولهم هو عربيّ قلبا «1» ، والقلب الذي هو مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا، حسن أن يزال اللّبس بقوله تعالى: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ، احترازا من تجويز الاشتراك.
وقوله سبحانه: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) من أحسن الاستعارات. لأن العقيم المرأة التي لا تلد، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار، لأن الزمان قد مضى، والتكليف قد انقضى. فجعلت الأيام بمنزلة الولدان للّيالي، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيما، لأنه لا ينتج ليلا بعده، ولا يستخلف بدلا له. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد، والله أعلم، أن ذلك اليوم لا خير بعده، لمستحقّي العقاب، الذين قال الله سبحانه في ذكرهم:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الآية 55] فوصفه بالعقم لأنه لا ينتج لهم خيرا، ولا ينتج لهم فرحا.
وفي قوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الآية 72] استعارة، والمراد بها، والله أعلم، أن الكفار عند مرور الآيات بأسماعهم يظهر في وجوههم من الإنكار لسماعها والإعراض عن تأملها، ما لا يخفى على المخالط لهم، والناظر إليهم. وذلك كقول القائل: عرفت في وجه فلان الشّرّ. أي استدللت منه على اعتقاد المكروه، وإرادة فعل القبيح.
ويحتمل قوله تعالى: الْمُنْكَرَ هاهنا وجهين: أحدهما أن يكون المنكر ما ينكره الغير من أمرهم. والاخر أن يكون ما ينكرونه هم من الهجوم عليهم، بتلاوة القرآن، وصوادع البيان.
__________
(1) . في «الأساس» للزمخشري: هو أعرابي قلب، أي محض واسط في قومه.(6/38)
سورة المؤمنون 23(6/39)
المبحث الأول أهداف سورة «المؤمنون» «1»
سورة «المؤمنون» سورة مكية، آياتها 118 آية، نزلت بعد الأنبياء، وسميت سورة «المؤمنون» ، لافتتاحها بفلاح المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) .
المؤمنون والايمان
تبدأ السورة بذكر صفات المؤمنين، ويستطرد السياق منها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله، صلوات الله عليهم، من نوح (ع) ، الى محمد (ص) ، خاتم الرسل والنبيين، وشبهات المكذّبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها ووقوفهم في وجهها حتى يستنصر الرسل ربّهم، فيهلك المكذّبين وينجي المؤمنين. ثم يستطرد السياق إلى اختلاف الناس بعد الرسل، في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد. ومن هنا يتحدّث عن موقف المشركين من الرسول (ص) ، ويستنكر هذا الموقف، الذي ليس له مبرر، وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة، يلقون فيه عاقبة التكذيب، ويؤنّبون على ذلك الموقف المريب.
وتختم السورة بتعقيب يقرر التوحيد المطلق، والتوجّه إلى الله تعالى بطلب الرحمة والغفران ... ، فهي سورة المؤمنين، أو هي سورة الإيمان بكل قضاياه ودلائله وصفاته، والإيمان موضوع السورة ومحورها الأصيل.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/41)
الأقسام الرئيسية في السورة
يمضي سياق سورة «المؤمنون» في أربعة أقسام رئيسية، تتناول تاريخ الدعوة، وحاضرها، وتسوق الأدلة الحسية، والنفسية، على الإيمان بالله.
القسم الأول:
يبدأ القسم الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) .
ويبين السّياق صفات المؤمنين هؤلاء، الذين كتب لهم الفلاح، ويثنّي بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، فيعرض أطوار الحياة البشرية منذ نشأتها الأولى، إلى نهايتها في الحياة الدنيا، متوسّعا في عرض أطوار الجنين، مجملا في عرض المراحل الأخرى ... ثم يتابع خط الحياة البشرية، إلى البعث يوم القيامة، وبعد ذلك ينتقل من الحياة البشرية إلى الدلائل الكونية: في إنزال الماء، وفي إنبات الزرع والثمار، ثم إلى الأنعام المسخّرة للإنسان، والفلك التي يحمل عليها، وعلى الحيوان، ويمتدّ هذا القسم من أول السورة إلى الآية 22.
القسم الثاني:
يشير القسم الثاني الى قصة نوح (ع) ، وهلاك الكافرين، ثم يتبع ذلك بيان سنّة الله في إرسال الرسل، لهداية الناس، وإبلاغهم كلمة الحق والإيمان، ودعوتهم الى الله، فيقول نوح لقومه كما ورد في التنزيل:
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 23] .
ويقول هذه الحقيقة كلّ نبي ورسول: يقولها موسى (ع) ، ويقولها عيسى (ع) ، ويقولها محمد (ص) .
ويكون اعتراض المكذّبين دائما:
ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الآية 33] .
ويقدّم الكفار عددا من الحجج والأدلة على تكذيبهم. فيلجأ الرسل الى ربّهم يطلبون نصره، فيستجيب سبحانه، وينجي المؤمنين، ويهلك الكافرين قال تعالى:
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) .
وينتهي هذا القسم، ببيان وحدة الرسالات، ووحدة الأمم المؤمنة، فالربّ واحد، والإيمان بالله وملائكته(6/42)
وكتبه ورسله واليوم الاخر إيمان واحد، قال تعالى:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) .
ويستغرق هذا القسم الآيات [23- 52] .
القسم الثالث:
يتحدّث القسم الثالث، عن تفرّق الناس بعد وصول الرسل إليهم، وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة التي جاء بها الرسل:
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) .
ثم يتحدّث عن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة، واغترارهم بما هم فيه من متاع، بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم، يعبدونه ولا يشركون به، ويخشون غضبه، ويرجون رحمته.
وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين، يوم يأخذهم العذاب، فإذا بهم يجأرون، فيأخذهم التوبيخ والتأنيب: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) .
ويستنكر السياق، موقفهم العجيب من رسولهم الأمين، وهم يعرفونه ولا ينكرونه، وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا، فماذا ينكرون منه، ومن الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلّمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض، وربوبيته سبحانه للسماوات والأرض، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض وبعد هذا التسليم، هم ينكرون البعث، ويزعمون لله ولدا سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى:
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) .
ويستغرق هذا القسم الآيات [53- 92] .
القسم الرابع:
في القسم الرابع والأخير، حثّ للرسول (ص) أن يدعهم وشركهم وزعمهم، وأن يدفع السّيئة بالتي هي أحسن، وأن يستعيذ بالله من الشياطين، فلا يغضب ولا يضيق صدره بما(6/43)
يقولون. ثم يرسم السياق مشهدا من مشاهد القيامة، يصوّر ما ينتظرهم هناك، من عذاب ومهانة وتأنيب.
ويختم السورة بتنزيه الله سبحانه:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) .
وينفي الفلاح عن الكافرين، ليناسب ابتداءها بإثباته للمؤمنين. وفي آخر آية أمر للنبي (ص) أن يتوجّه إلى الله سبحانه بطلب المغفرة والرحمة:
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) .
ويستغرق هذا القسم الآيات [93- 118] ..
مظاهر عامة للسورة
جو السورة كلّها جو البيان والتقرير، وجو الجدل الهادئ، والمنطق الوجداني واللّمسات الموحية للفكر والضمير. والروح الساري في السورة روح الإيمان. ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة، وفي وسطها مدح للإيمان والإحسان:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) .
وفي اللمسات الوجدانية، تجد قوله سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) .
وكلّها، مظلّلة بذلك الظل الإيماني اللطيف.(6/44)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المؤمنون» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «المؤمنون» بعد سورة الأنبياء، ونزلت سورة الأنبياء بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «المؤمنون» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وتبلغ آياتها ثماني عشرة ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة بيان الشروط التي يفلح المؤمنون بها، وينصرون على أعدائهم، كما نصر الرسل وأتباعهم على أعدائهم من قبلهم. وقد اقتضى هذا ذكر أخبار بعض الرسل السابقين، وتذييلها بما يناسب الغرض من ذكرها. وقد جاء في سورة الحجّ الإذن في القتال للمؤمنين، ووعدهم بالنصر والفلاح في دنياهم وأخراهم، فجاءت هذه السورة بعدها، لبيان الشروط التي يتوقف عليها نصرهم وفلاحهم.
بيان شروط فلاح المؤمنين الآيات [1- 22]
قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/45)
فوعد بفلاح المؤمنين على سبيل التحقيق والتأكيد، وذكر، من الصفات التي يتوقف عليها فلاحهم، أنهم في صلاتهم خاشعون، إلى غير هذا مما ذكره من صفاتهم ثم ذكر سبحانه أنهم، بهذه الصفات، إنما يرثون جنّة الفردوس التي أعدّت لهم، فيفوزون بها في الدنيا والاخرة ثم ذكر من أدلة ألوهيّته، عز وجلّ، ما يثبت قدرته على تحقيق وعده بذلك في الدنيا، وقدرته على بعثهم بعد موتهم ليحقّ لهم ما وعدهم به في الاخرة فذكر سبحانه أنه خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة فعلقة، فمضغة، إلى أن أنشأه خلقا آخر يتكلّم ويعقل ثم ذكر أنه خلق فوقنا سبع سماوات، وأنزل من السماء ماء بقدر، إلى أن ذكر خلق الأنعام وقال فيها:
عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
(22) .
أخبار بعض الرسل الآيات [23- 118]
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) ، فذكر، من أخبار بعض الرسل، ما يثبت أيضا وعده بفلاح المؤمنين، فذكر خبر نوح مع قومه، وأنهم كذّبوه، وقالوا مرّة كما ورد في التنزيل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [الآية 24] . ومرة أخرى إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 25] ، فطلب منه أن ينصره عليهم، فأمره أن يصنع فلكا، ويحمل فيها أهله إلّا من سبق عليه القول منهم، ونهاه أن يخاطبه فيمن سيغرقه بالطوفان من أعدائه ثم ذكر أن في ذلك لآيات على نصره للمؤمنين، وأن من شأنه أن يعاقب المكذّبين.
ثم ذكر سبحانه أنه أنشأ من بعد قوم نوح قرنا آخرين، قيل هم عاد قوم هود، وقيل هم ثمود قوم صالح وأنه أرسل فيهم رسولا، ليأمرهم بعبادته وحده، فكذّبوه لأنه بشر مثلهم، وأنكروا ما أخبرهم به من بعثهم بعد موتهم ثم ذكر أنه طلب منه أن ينصره عليهم، فأخذهم بالصيحة فأهلكهم.
ثم ذكر، جلّ شأنه، أنه أنشأ من بعدهم قرونا آخرين، وأنه أرسل رسله تترى، رسولا بعد رسول، فكذّبت كلّ أمة رسولها، فأهلكهم أمّة بعد أمة. ثم ذكر سبحانه أنه أرسل موسى وهارون (ع) إلى فرعون وقومه، وأنهم(6/46)
كذّبوهما لأنهما بشر مثلهم، ومن قوم عابدين لهم، فأهلكهم كما أهلك من قبلهم من الأمم. ثم آتى موسى التوراة ليهتدي قومه بها، بعد أن نجّاهم من استعباد فرعون ثم ذكر أنه جعل منهم عيسى بن مريم وأمّه آية في ولادته منها بغير أب وأن آياته كانت خاتمة آياتهم.
ثم ذكر تعالى ما كان من أمر هؤلاء الرسل، بعد أن نصرهم على أعدائهم، وأنّه أمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من الطيبات في دنياهم، وأن يعملوا صالحا ينفعهم في آخرتهم، وأن يعبدوه وحده، لأنّ شرائعهم واحدة، قائمة على أساس التوحيد ثم ذكر أن أتباعهم لم يعملوا بهذا بعدهم، بل اختلفوا فيه اختلافا شديدا، واغتبط كلّ فريق منهم بما اتّخذه دينا له، وأمر النبيّ (ص) أن يتركهم في غفلتهم عما بعث به أولئك الرسل، إلى أن يحين عذابهم ثم ذكر أنهم إذا كانوا في نعم عظيمة، فإنها ليست ثوابا معجّلا لهم على أديانهم، وإنما هي استدراج لهم في المعاصي ليبلغوا ما يبلغون من زيادة الإثم ثم ذكر أنّ ما هم فيه من تلك النّعم والخيرات، ليس بخيرات على الحقيقة، وإنما الخيرات ما يسارع فيه المؤمنون من خشية ربّهم، إلى غير هذا مما ذكر من أعمالهم ثم ذكر سبحانه أنه لا يكلّف أحدا إلّا وسعه من تلك الأعمال، وأنّ لديه كتابا يسجّل تلك الأعمال، وينطق بالحق فيها، وأنّ المشركين في غفلة عنها، بما هم فيه من الكفر والضلال ثم ذكر أنه إذا أخذ أصحاب تلك النّعم منهم بالعذاب، جأروا من هوله، وأنه ينهاهم عن الجؤار، لأنّه أنذرهم بذلك، فيما يتلى عليهم من آياته، فكانوا ينكصون على أعقابهم، ويسمرون بالطّعن في القرآن الذي يتلو ذلك عليهم، ثم قطع عذرهم، بأنه قد مكّن لهم من التدبّر في القرآن، وما أنذرهم به فلم يتدبّروا، إلى غير ذلك مما ذكره في قطع عذرهم ثم ذكر أنه جاءهم بالحق، وأنه لا يحملهم على تكذيبه إلا كراهتهم له، وأنه لم يأت على أهوائهم، ولو اتّبع الحقّ أهواءهم، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهما ثم ذكر أنه قد أتاهم من ذلك بما فيه ذكرهم وشرفهم، وأن النبي (ص) لا يسألهم عليه أجرا، وأنّه يدعوهم إلى صراط مستقيم، وأنهم عن ذلك الصراط ناكبون، وأنّه لو سمع لجؤارهم، وكشف ما بهم من ضرّ،(6/47)
لاستمروا في طغيانهم. ولقد أخذهم بعذاب قبل هذا العذاب، ثم كشفه عنهم فما استكانوا له. فلما أخذهم بهذا العذاب يئسوا من كشفه عنهم ثم ذكر ما كان يكفي لصرفهم عن تلك المبالغة في الإعراض فذكر سبحانه أنه هو الذي أنشأ لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأنه هو الذي جعلهم يتناسلون في الأرض، ثم يحشرهم إليه وحده، وأنه، جلّ جلاله، هو الذي يحيي ويميت، ويخالف بين الليل والنهار ثم ذكر أنهم مع هذا مضوا في إعراضهم، وتقليد آبائهم في إنكار بعثهم بعد موتهم، وزعمهم أنهم قد وعدوا بذلك هم وآباؤهم، فلم يحصل شيء منه ثم ردّ عليهم بأنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن الله هو خالق الأرض ومن فيها، وهو ربّ السماوات السبع والعرش، وأنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء، ومن يكون هذا شأنه يكون قادرا على بعثهم ثم ذكر أنه أتاهم بالحق حين أثبت لهم أنه هو الذي خلقهم وحده، وأنهم إليه يحشرون، لا إلى غيره من ولد أو شريك، لأنه لم يتّخذ له ولدا ولا شريكا، ولو كان معه إله غيره، لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، سبحانه عما يصفون، وتعالى عما يشركون.
ثم أمر (ص) ، إذا أراه ما يوعدون من العذاب، أن يدعوه بأن ينجيه منه وذكر أنه قادر على أن يريه ما يعدهم من ذلك، ثم أمره أن يحتمل ما يكون منهم، قبل ذلك من ضروب الأذى، وأن يستعيذ به، مما يهمز به الشيطان، من دفعهم إلى إيذائه ثم ذكر تعالى أنه إذا جاء أحدهم الموت ندم على ذلك، وطلب من ربه أن يرجعه إلى الدنيا ليعمل صالحا، وأنه يجاب بزجره عن هذا الطلب، لأنه لا سبيل إلى رجوعه، إلى أن يبعث من قبره ثم ذكر أحوال يوم البعث وأنه ينفخ فيه في الصّور، فيبعثون من قبورهم، لا يعرف قريب قريبا، ولا يسأل شخص شخصا ثم يحاسبون، فمن ثقلت موازينه فهو من المفلحين، ومن خفّت موازينه فهو من الخالدين في جهنم. ثم ذكر أنهم ينادونه فيها، ويعتذرون بأن شقوتهم غلبت عليهم، ويطلبون أن يخرجهم منها، فإن عادوا إلى العصيان فهم ظالمون، فيأمرهم بأن يخسئوا فيها، ولا يكلّموه في الخروج منها، ويذكّرهم ما كان من سخريتهم بعباده(6/48)
المؤمنين ويخبرهم بأنه جزاهم بصبرهم على سخريتهم، وجعلهم من الفائزين ثم يسألهم، على سبيل التوبيخ، عن عدد السنين التي لبثوها في الأرض، لأنهم كانوا يعتقدون أنه لا لبث إلّا في الدنيا، فيجيبون بأنّهم لم يلبثوا فيها إلّا يوما أو بعض يوم، فيقرّهم على استقصارهم لمدة لبثهم فيها، لأنّها قليلة بالنسبة لما يلبثونه في الاخرة ثم يوبّخهم على ظنّهم أنه خلقهم عبثا، وأنهم لا يرجعون إليه، لأنه سبحانه الملك الحقّ الذي يتعالى عن العبث.
ثم ختمت السورة بنفي الفلاح عن الكافرين، ليناسب ابتداءها بإثباته للمؤمنين وأمر النبي (ص) أن يتوجّه إليه بطلب المغفرة والرحمة، بعد تفصيل ذلك العذاب للكافرين، فقال سبحانه وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) .(6/49)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المؤمنون» «1»
أقول: وجه اتصالها بسورة الحج:
أنه تعالى، لما ختمها بقوله: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وكان ذلك مجملا، فصّله في فاتحة هذه السورة، فذكر سبحانه خصال الخير التي من فعلها قد أفلح، فقال تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) . ولما قال سبحانه في أول الحج:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الآية 5] ، زاده هنا بيانا في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) . فكل جملة أوجزت هناك في القصد، أطنب فيها هنا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(6/51)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المؤمنون» «1»
1- وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ [الآية 20] .
قال الرّبيع: هي الزيتون، أخرجه ابن أبي حاتم.
2- إِلى رَبْوَةٍ [الآية 50] .
قال أبو هريرة: هي الرملة من فلسطين «2» . وقال الضّحّاك: هي بيت المقدس «3» .
وقال سعيد بن المسيّب: هي دمشق.
وقال ابن زيد: هي مصر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن مرة الزهري. قال الهيثمي في «معجم الزوائد» 7: 72: «وفيه من لم أعرفهم» . واستبعد الطبري في «تفسيره» 18: 21 هذا التفسير لأن الرملة لا معين بها والله تعالى ذكره، وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومعين.
(3) . هذا القول هو الأظهر عند ابن كثير في «تفسيره» 3: 346.(6/53)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المؤمنون» «1»
1- وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) .
والسلالة: الخلاصة لأنّها تسلّ من بين الكدر، و «فعالة» : بناء للقلّة، ولبقايا الأشياء كالقلامة، والقمامة، والصّبابة، والخشارة، وغير ذلك.
2- وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) .
والقرار المكين، أي: المستقر، ذو المكانة، والمراد به الرّحم.
والمكين فعيل اشتق من «المكان» ، وهذا يفيد أن العربية اشتقت الكثير من الأسماء الدالة على المعاني، أو على الذوات من الاسم، وهو «المكان» .
3- وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها [الآية 21] .
أقول: أنظر: الآية: 66، من سورة النحل.
4- وقال تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 27] .
وقوله تعالى: «بأعيننا» ، أي بحفظنا وكلاءتنا.
أقول: وما زال شيء من هذا التعبير في اللغة السائرة في العراق.
والذي أراه أن «العين» ، في هذا الاستعمال تفيد الحفظ والمساعدة.
ولعلّ من «العين» ، وهي عضو البصر في الأصل، أخذت العربية «العون» بمعنى المساعدة، ولمّا كان لكلمة «العين» معنى مجازي، وهو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/55)
الحفظ والرعاية، فقد حوّلت هذه اللفظة من الياء إلى الواو لهذا الغرض.
وكنا قد أشرنا إلى شيء من هذا في مادة «غيث» ، وكيف صارت «غوثا» .
وقوله تعالى: وَوَحْيِنا، أي:
نأمرك كيف تصنع ونعلمك.
5- وقال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الآية 27] .
قالوا: التنوّر: وجه الأرض.
6- وقال تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) .
أقول: ذكر النحاة أن بعد هيهات اسم يرتفع بها هو الفاعل، ومن شواهدهم:
فهيهات هيهات العقيق وأهله وهيهات خلّ بالعقيق نواصله وقال الزجاج في الآية: البعد لما توعدون.
وهذا التفسير في قول الزجّاج، يشعرنا أنهم حاروا في اللام، لأن الآية لم ترفع الاسم الظاهر، بل وليها الاسم مجرورا باللام.
7- وقال تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) .
أقول: باعتبار الفعل الأول، تسبق، كانت الكلمة مؤنثة، وهي مؤنثة لفظا، وباعتبار الفعل اللاحق لها، كانت الكلمة جمعا مذكّرا، وذلك مراعاة للمعنى.
8- وقال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الآية 44] .
«تترى» على «فعلى» ، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة.
وقرئ: (تترّى) بالتنوين.
أقول: والتاء بدل من الواو، والأصل وترى. ولعلّ الكلمة من الجموع التي أميت واحدها، فهو «وتير» ، مثل جريح وجرحى. ولكنّ «وتير» لم يرد في العربية، فهو مما أهمل وأنسي.
9- وقال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [الآية 46] .
والمراد ب «عالين» أنهم متكبّرون.
أقول: والذي رشّح هذا المعنى المراد: أن في الآية الكريمة قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا. والذي يقال في عربيتنا المعاصرة: «أنهم متعالون» ، أي: متكبّرون.(6/56)
10- وقال تعالى: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الآية 47] .
أقول: البشر واحد وجمع، فكونه مفردا هو في قوله تعالى:
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] .
وفي آيات أخرى.
وأما كونه جمعا، فكما في قوله تعالى:
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا [إبراهيم: 10] .
وفي آيات أخرى.
فأما الآية التي وقفنا عليها من هذه السورة، الآية 47، فدلالتها على المفرد، ومن أجل ذلك بني الكلام على التثنية.
ولا بد من الوقوف، من معنى كلمة «بشر» ، على شيء يدلّ في ظاهره على الإنسان، رجلا كان أو امرأة، فأقول:
لو استقرينا قدرا من الآيات التي وردت فيها كلمة «بشر» ، ومنها:
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: 11] .
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ [الحجر: 33] .
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) [الأنبياء] .
وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) .
أقول: لو استقرينا هذا القدر من آيات أخرى، لوقفنا على ما يحملنا على أن نقول: إن دلالة كلمة «بشر» على الكائن الهالك، الذي من شأنه أن يفنى ويموت.
ألا يحق لنا أن نقف على شيء من مادة «بشر» ، فنجد «البشرة» وهي ظاهر جلد الإنسان التي مصيرها الفناء، وهي قبل أن تفنى يصيبها التلف، وهي تتفسّخ بعد الموت! أليس هذا هو الفناء والهلاك؟
أقول: ومن هنا كان لي أن أذهب إلى أن «البشر» هو الفاني.
11- وقال تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) .
والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته فوجه من جعله مفعولا، أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، ووجه من جعله(6/57)
فعيلا أنه نفّاع بظهوره وجريه، من الماعون، وهو المنفعة. وأرى: أن «معين» من «العين» ، والميم زائدة على نحو المبيع والمدين وغيرهما، وذلك لأن دلالة «العين» على الماء معروفة، فالعين عين الماء في إحدى دلالاتها الكثيرة، ومنها قالوا: عانت البئر عينا، أي: كدر ماؤها.
وعان الماء والدمع يعين عينا وعينانا: جرى وسال.
12- وقال تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) .
و «الغمرة» : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا، لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم.
أقول: والغمر: الماء الكثير.
والغمرة أيضا: الشدّة، وغمرات الهمّ والموت أي شدّتهما.
والمغمور من الرجال: الذي ليس بمشهور.
والغامر من الأرض خلاف العامر.
وهكذا يذهب المعنى في مادة «غمر» .
13- وقال تعالى: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) . أي: تدبرون، وتستأخرون، وترجعون القهقرى مكذّبين.
أقول: وهذه الآية أورثت العربية قول القائل: فلان نكص على عقبيه، بهذا المعنى، والعبارة ما زالت جارية في عربية العصر.
14- وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 70] .
الجنّة: الجنون وهو المصدر.
وتأتي «الجنّة» بمعنى «الجنون» في آيات أخرى منها:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف: 184] .
كما تأتي بمعنى «الجن» كقوله تعالى:
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) [هود] .
وقوله سبحانه: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) [الناس] .
أقول: الجنّ أصل المادة اللغوية، والجنّ عالم خفيّ، جاء ذكره وشيء من أمره في آيات كثيرة وعلى رأس الجنّ إبليس اللعين الذي يغوي الناس، كما جاء في التنزيل العزيز.(6/58)
ولما كان «الجن» ، وهو جمهرة هذه المخلوقات قد خفي عن النظر، ولا يبصره الناس، أفادت العربية من هذه المادة، مواد كثيرة، تدلّ جميعها على الخفاء والتستّر، فجاء الفعل «جن» بمعنى أخفى وستر، ومن أجل ذلك قيل: جنّ عليه الليل، أي: أخفاه وستره.
ومن هذا الأمر، قيل للمخلوق بعد النطفة والمضغة والعلقة في بطن الأم، «جنينا» ، وذلك لخفائه أيضا.
ومن هذا قيل للقلب «جنان» بفتح الجيم، لأنه مستور.
وقيل: للدّرع، يستر به المحارب صدره، جنّة ومجنّ.
ثم اتسع الأمر أكثر من ذلك، فقيل لفاقد العقل «مجنون» ، أو به جنون أو جنّة، وذلك من تصوّر العرب أن «الجنّ» أغوته وأفقدته العقل.
والفعل مبنيّ للمفعول «جنّ» .
وبعد، فهذه المادة وجدت في غير العربية من اللغات السامية ولكن تلك اللغات، لم تتصرف في هذه المادة على النحو البديع، الذي ورد في العربية، وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة.
15- وقال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [الآية 72] .
وقرئ: خراجا فخراج، وخرجا فخرج ...
والخرج ما يخرجه الرجل إلى الإمام من زكاة الأرض، وإلى كلّ عامل من أجرته وجعله.
وقيل: الخرج ما تبرّعت به، والخراج ما لزمك أداؤه.
والوجه أن الخرج أخصّ من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، وزيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ:
«خرجا فخراج ربك» «1» .
أقول: وهذا شيء من تصرّف المعربين بمادة هذه اللغة فقد أفادوا من مادة «خرج» الدالة على الخروج ضد الدخول، في وضع هذه المصطلحات الفنية.
16- وقال تعالى:
__________
(1) . الزمخشري: الكشّاف 3: 196.(6/59)
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) .
وقوله تعالى: مُبْلِسُونَ (77) أي:
متحّيرون يائسون.
أقول: لعل الفعل «أبلس» ، ومادة «بلس» أيضا ذات علاقة ب «إبليس» ! 17- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الآية 78] .
أقول: لم يرد السمع إلّا مفردا، وهو مقترن ب «الأبصار» جمعا، في جميع آي القرآن، ما عدا قوله تعالى:
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) .
وهذا ما لاحظناه وليس لنا أن نتكلم فيه، ولكلام الله أسرار وفوائد كثيرة.
18- وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الآية 96] .
وقوله تعالى: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أي: الحسنى إرادة التفضيل، ومن أجل ذلك لا يتحقّق إحكام المعنى، لو يقال: ادفع بالحسنة السيئة.
19- وقال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
أريد ب «الموازين» الأعمال الصالحات، والاستعارة جميلة، فثقل الموازين يدل على سعة العمل الصالح، ووزنه وقيمته. وبعكسه من كان خفيف الموزون من العمل الصالح، وقد كنا عرضنا لشيء من هذا في آية سابقة.(6/60)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المؤمنون» «1»
قال تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الآية 52] بنصب أُمَّةً واحِدَةً على الحال. وقرأ بعضهم (أمّتكم أمّة واحدة) على البدل ورفع (أمّة واحدة) على الخبر «2» .
وقال تعالى إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الآية 64] من «جأر» «يجأر» «جؤارا» و «جأرا» .
وقال سبحانه: عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ [الآية 66] و (تنكصون) «3» وقال تعالى: اخْسَؤُا فِيها [الآية 108] من «خسأ» «يخسأ» تقول: «خسأته» ف «خسأ» .
وقال سبحانه: وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الآية 61] أي: من أجلها.
وقال تعالى: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الآية 14] والخالقون هم الصانعون «4» . وقال الشاعر «5» [من الكامل الأحذّ، وهو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . القراءة برفع أُمَّتُكُمْ ونصب أُمَّةً واحِدَةً هي في معاني القرآن، إلى اهل الحجاز والحسن، وفي الطبري 18: 29، الى عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وفي التيسير 159 الى غير الكوفيين وفي السبعة 446 الى ابن كثير، ونافع وأبي عمرو. أمّا القراءة بنصب أُمَّتُكُمْ، ورفع أُمَّةً واحِدَةً، فهي في معاني القرآن 2: 237 الى عاصم، والأعمش وفي الطبري 18: 29، الى عامة قراء الكوفيين وفي السبعة 446 الى عاصم، وحمزة، والكسائي وفي التيسير 159 الى الكوفيين.
(3) . في الجامع 12: 136، والبحر 412، الى الامام علي (ع) .
(4) . نقله في زاد المسير 5: 464.
(5) . هو زهير بن أبي سلمى المزني. ديوانه 94، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 289.(6/61)
الشاهد الثالث والخمسون بعد المائتين] :
وأراك تغري ما خلقت وبعد ... ض القوم يخلق ثم لا يغري «1»
وقال تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ [الآية 20] على فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ»
وَشَجَرَةً. وقال سبحانه إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الآية 114] أي: ما لبثتم إلّا قليلا. وفي حرف ابن مسعود (إن لبثتم لقليلا) .
وقال الشاعر «3» : [من الكامل وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد المائتين] :
هبلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... وجبت عليك عقوبة المتعمد «4»
__________
(1) . في الديوان: «ولأنت» بدل «وأراك» .
(2) . في الآية التاسعة عشرة وهي فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) .
(3) . البيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية، والبيت في رثاء زوجها الزبير بن العوام. الخزانة 4: 348، وشرح شواهد المغني 26، والدرر اللوامع 1: 119، والمقاصد النحوية 278.
(4) . في شرح المفصّل لابن يعيش 8: 71 ب «الله ربك» بدل «هبلتك أمك» ، وكذلك في 72. وفي الخزانة 4: 348 ب «تالله ربك» ، وفي الإنصاف 2: 336، والمقرب 1: 112 ومغني اللبيب 1: 24، والدرر 1: 199، والمقاصد النحوية 2: 278، وشرح شواهد المغني 26، وفي شرح المفصّل لابن يعيش 8: 76 ب «شلت يمينك» ، وفي الإنصاف 2: 336 ب «كتبت» بدل «وجدت» وفي سائر المصادر ب «حلت» .(6/62)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المؤمنون» «1»
إن قيل: لم قال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ. وحفظ الفرج إنما يعدى بعن لا بعلى، يقال فلان يحفظ فرجه عن الحرام، ولا يقال على الحرام؟
قلنا: «على» هنا بمعنى عن، كما في قول الشاعر:
إذا رضيت عليّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها الثاني: أنه متعلق بمحذوف تقديره:
فلا يرسلونها إلا على أزواجهم.
فإن قيل: قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) لم خصّ الإخبار عن الموت، الذي لم ينكره الكفار، بلام التأكيد دون الإخبار عن البعث الذي أنكروه، والظاهر يقتضي عكس ذلك؟
قلنا: لمّا كان العطف يقتضي الاشتراك في الحكم، استغني به عن إعادة لفظ اللام، الموجبة لزيادة التأكيد، فإنها ثابتة معنى بالعطف، ولا يلزم على هذا عدم إعادة إنّ، لأنها الأصل في التأكيد، ولأنها أقوى والحاجة إليها أمسّ.
فإن قيل: لم قال تعالى وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ [الآية 20] والمراد بها شجرة الزيتون، وهي تخرج من الجبل الذي يسمى طور سيناء ومن غيره؟
قلنا: قيل إن أصل شجرة الزيتون من طور سيناء ثم نقلت إلى سائر
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](6/63)
المواضع. وقيل إنما أضيفت إلى ذلك الجبل، لأنّ خروجها في غيره من المواضع.
فإن قيل: قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 70] ، خبر عن كفّار مكة، فلم قال تعالى في الآية نفسها:
بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أي بالتوحيد، أو بالقرآن وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ولم يقل وكلّهم، مع أنّهم كلّهم كانوا للتوحيد كارهين، بدليل قولهم، كما ورد في التنزيل بِهِ جِنَّةٌ؟
قلنا: كان فيهم من ترك الإيمان به أنفة واستنكافا، من توبيخ قومه، لئلّا يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق.
فإن قيل: لم جمع سبحانه فقال رَبِّ ارْجِعُونِ (99) ولم يقل «ارجعني» ، والمخاطب واحد، وهو الله تعالى؟
قلنا: هو جمع للتفخيم والتعظيم، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى [يس: 12] وأشباهه.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) وقال سبحانه في موضع آخر: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) [الصافات] ؟
قلنا: يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أحوال مختلفة، ففي بعضها يتساءلون، وفي بعضها لا ينطقون لشدة الهول والفزع.(6/64)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المؤمنون» «1»
في قوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) استعارة. لأن حقيقة السلالة هي أن تسلّ الشيء من الشيء. فكأن آدم (ع) ، لمّا خلق من أديم الأرض، كان كأنّه انسلّ منها، واستخرج من سرّها. وقد صار ذلك عبارة عن محصن الشيء ومصاصه «2» ، وصفوته ولبابه. ليس أن هناك شيئا، استلّ من شيء على الحقيقة. وقد تسمّى النطفة سلالة على هذا المعنى. ويسمى ولد الرّجل سلالة أيضا، على مثل ذلك.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) استعارة. لأن المراد بالطرائق هاهنا السماوات السبع، مشبّهة بطرائق النّعل، وواحدتها: طريقة. وقد يجمع أيضا على طريق. فهي قطع الجلود يجعل بعضها فوق بعض وينتظم بالخرز. ويقال: طارقت النعل. من ذلك.
وفي قوله سبحانه: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 27] استعارة.
والقول فيها كالقول في: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] «3» ، على حدّ سواء.
فكأنه سبحانه قال: واصنع الفلك
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . المصاص من الشيء: خالصه. يقال: فلان مصاص قومه. إذا كان أخلصهم نسبا. انظر القاموس المحيط واللسان.
(3) . قد تقدّم الكلام عن هذه الآية في سورة طه.(6/65)
بحيث نرعاك ونحفظك، ونمنع منك من يريدك.
أو يكون المعنى: واصنع الفلك بأعين أوليائنا من الملائكة، والمؤمنين، فإنّا نمنعك بهم، ونشدّك بمعاضدتهم، فلا يصل إليك من أرادك، ولا تبلغك مرامي من كادك.
وفي قوله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) استعارة.
والمراد بها، والله أعلم، أنه عاجلهم بالاستئصال والهلاك، فطاحوا كما يطيح الغثاء، إذا سال به السيل.
والغثاء: ما حملت السيول في ممرّها من أضغاث النبات، وهشيم الأوراق، وما يجري مجرى ذلك. فكأنّ أولئك القوم هلكوا، ولم يحسّ لهم أثر، كما لا يحسّ أثر ما طاح به السيل، من هذه الأشياء المذكورة.
والعرب يعبّرون عن هلاك القوم بقولهم: قد سال بهم السيل. فيجوز أن يكون قوله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً، كناية عن الهلاك، كما كنوا بقولهم: سال بهم السيل عن الهلاك. والمعنى: فجعلناهم كالغثاء الطافح في سرعة انجفاله «1» ، وهو ان فقدانه.
وفي قوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) استعارة.
والنطق لا يوصف به، إلّا من يتكلم بالة.
وكان قاضي القضاة «2» أبو الحسن يجيب بذلك من يسأله: هل يجوز أن يوصف القديم تعالى بأنه ناطق، كما يوصف بأنه يتكلّم؟ فمنع من ذلك، وقال: ما قدّمت ذكره. فوصف سبحانه القرآن بالنطق، مبالغة في وصفه بإظهار البيان. وإعلان البرهان، وتشبيها باللسان الناطق، في الإبانة عن ضميره، والكشف عن مستوره.
وفي قوله سبحانه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا [الآية 63] استعارة.
والمراد بها، أنّ القوم الذين قال سبحانه فيهم، أمام هذه الآية، هم الموصوفون بقوله تعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي في حيرة تغمرها، وغمّة تسترها. والغمر جمع غمرة.
وهو ما وقع الإنسان فيه من أمر
__________
(1) . الانجفال: الهرب في إسراع.
(2) . تقدمت ترجمتنا له عند الكلام في مجازات سورة الكهف.(6/66)
مذهل، وخطب جلل، مشبه بغمرات الماء التي تغمر الواقع فيها، وتأخذ بكظم «1» المغمور بها.
وفي قوله سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 71] استعارة. والمراد بها: ولو كان الحق موافقا لأهوائهم، لعاد كلّ إلى ضلاله، وأوقع كلّ في بطله، لأن الحق يدعو إلى المصالح والمحاسن والأهواء تدعو إلى المفاسد والمقابح. فلو اتبع الحقّ قائد الهوى لشمل الفساد، وعمّ الاختلاط، وخفضت أعلام الهداية، ورفع منار الغواية.
وفي قوله سبحانه: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون معنى الموازين هاهنا المعادلة بين الأعمال بالحق.
__________
(1) . الكظم بفتح الكاف والظاء: مخرج النفس. جمعه أكظام وكظام.(6/67)
سورة النّور 24(6/69)
المبحث الأول أهداف سورة «النور» «1»
سورة النور سورة مدنية، وآياتها 64 آية، نزلت بعد سورة الحشر، وسمّيت بهذا الاسم لكثرة ذكر النور فيها:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [الآية 35] .
نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [الآية 35] .
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [الآية 40] .
روح السورة
هذه سورة الآداب والأخلاق والتربية الإسلامية الهادفة، إنها الأخلاق والقيم المنبعثة عن إيمان المؤمن بالله، فإذا دخل نور الإيمان في القلب، اتّسع له الصدر، وانشرح له الفؤاد:
وإذا حلّت الهداية قلبا نشطت في العبادة الأعضاء وقد ذكر النور في هذه السورة بلفظه، كما ذكر بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح، ممثّلة هذه الآثار في بيان الفرائض والأحكام، التي يقوم عليها بناء السورة، وهي أحكام وآداب نفسية وعائلية وجماعية، تؤدي إلى طهارة الفرد وسلامة المجتمع. تبدأ سورة النور بإعلان قويّ حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها، بكل ما فيها من حدود وتكاليف، من آداب وأخلاق:
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/71)
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) .
فيدلّ هذا البدء الفريد، على مدى اهتمام القرآن، بالعنصر الأخلاقي في الحياة، ومدى عمق هذا العنصر، وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية ...
والمحور الذي تدور عليه السورة كلّها: محور التربية، التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود، وترقّ إلى درجة اللمسات الوجدانية الرقيقة، التي تصل القلب بنور الله.
والهدف واحد في الشدّة واللين:
تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر، ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وتتّصل بنور الله.
وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة، بوصفها نابعة كلّها من معين واحد، هو العقيدة في الله، متّصلة كلّها بنور واحد، هو نور الله.
فقرات السورة
يجري سياق سورة النور في خمس فقرات:
الفقرة الأولى:
تتضمّن الفقرة الأولى الإعلان الحاسم الذي تبدأ به، ويليه بيان حدّ الزنا، وتفظيع هذه الفعلة، وتقطيع ما بين الزّناة والجماعة المسلمة، فلا هي منهم ولا هم منها، ثم بيان حدّ القذف وعلّة التشديد فيه، واستثناء الأزواج من هذا الحدّ، مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة، ثم حديث الإفك وقصّته، وتنتهي هذه الفقرة، بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات، ومشاكلة الطيّبين للطيّبات، وبالعلاقة التي تربط هؤلاء بهؤلاء وتستغرق هذه الفقرة من أول السورة إلى الآية 26.
الفقرة الثانية:
تتناول الفقرة الثانية وسائل الوقاية من الجريمة، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية. فتبدأ بآداب البيوت، والاستئذان على أهلها، والأمر بغض البصر، والنهي عن إبداء الزّينة لغير المحارم، والحضّ على إنكاح الأيامى، والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء وكلها أسباب وقائية، لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور، ودفع المؤثرات،(6/72)
التي تهيج الميول الحيوانية، وترهق أعصاب المتحرّجين المتطهّرين، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية وتستغرق هذه الفقرة الآيات [27- 34] .
الفقرة الثالثة:
تتوسط هذه الفقرة، مجموعة الآداب التي تضمنتها السورة، فتربطها بنور الله، وتتحدث عن أطهر البيوت، عن الرجال المؤمنين الذين يعمرون بيوت الله.
وفي الجانب المقابل: الذين كفروا، وأعمالهم الشبيهة بسراب من اللّمعان الكاذب، أو بظلمات بعضها فوق بعض ثم تكشف الآيات عن فيوض من نور الله في الآفاق: في تسبيح الخلائق كلّها لله، وفي إزجاء السحاب، وفي تقليب الليل والنهار، وفي خلق كلّ دابة من ماء، ثم اختلاف أشكالها، ووظائفها، وأنواعها وأجناسها، ممّا هو معروض في صفحة الكون، للبصائر والأبصار وتستغرق هذه الفقرة الآيات [35- 46] .
الفقرة الرابعة:
تتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله (ص) ، في الطاعة والتحاكم، وتصوّر أدب المؤمنين الخالص، وطاعتهم وتعدهم، على هذا، الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والنصر على الكافرين وتستغرق هذه الفقرة الآيات [47- 57] .
الفقرة الخامسة:
تستأنف هذه الفقرة الحديث عن آداب الاستئذان والضيافة، في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء، وتتحدّث عن آداب الجماعة المسلمة كلّها، كأسرة واحدة، مع رئيسها ومربيها، رسول الله (ص) .
وتكتمل السورة، بإعلان ملكية الله سبحانه لما في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم، ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم، وهو بكل شيء عليم. وتستغرق هذه الفقرة الآيات [58- 64] .
أثر السورة في حفظ المجتمع
نلحظ أن سورة النور دعوة هادفة إلى إضاءة القلب بنور الله وذكره، وتذكّر(6/73)
جلاله وعظمته. وهي سياج للفرد والمجتمع، من الانحلال والتردي في الخطيئة، فقد أمرت بغضّ البصر، وحفظ الفرج، ونهت عن دخول البيوت بغير إذن وإيذان، ونهت عن قذف المحصنات، وبيّنت عقوبة البهتان، وإلصاق التهم الكاذبة بالمستقيمين، وذمّت إشاعة الفاحشة، وأظهرت عجائب صنع الله في إرسال المطر، وتفصيل أصناف الحيوان، وحثّت على التوبة والإنابة، وبذلك أخذت بيد الإنسان، إلى الطريق الصحيح، ورفعت عنه عوامل الإحباط والانتكاس، وبيّنت أن الله مطّلع على كل شيء فقد ختمت بهذه الآية أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) .(6/74)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النور» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النور بعد سورة الحشر، ونزلت سورة الحشر بين صلح الحديبية وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة النور في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية 35 منها: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وتبلغ آياتها أربعا وستين آية.
الغرض منها وترتيبها
غرض هذه السورة بيان بعض الأحكام العملية، التي تتعلق بحفظ الفروج والأعراض، كحكم الزنا والقذف والنظر، وغيره من الأحكام الآتية فيها، وقد جاء فيها، من الاستطراد، ما قصد به تنويع أسلوبها، على عادة القرآن، إذا أخذ في بيان هذه الأحكام.
وقد ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، لأنها ابتدئت بذكر بعض أحكام الإيمان العملية، على سبيل الإجمال، وكان من ضمنها حفظ الفروج إلا على الأزواج أو نحوهم فجاءت هذه السورة بعدها، لتفصيل الأحكام المتعلّقة بحفظ الفروج والأعراض.
حكم الزّنا الآيات [1- 3]
قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/75)
وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) فبيّن أنه أنزل هذه السورة وقدّر فيها ما قدر من الحدود والأحكام. وهذه الآية فيها براعة مطلع للغرض من السورة ثم ذكر تعالى حدّ الزنا، من جلد كل من الزاني والزانية مائة جلدة، وحرّم زواج الزاني على المؤمنة العفيفة، وزواج الزانية على المؤمن العفيف.
حكم القذف الآيات [4- 26]
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) فذكر حدّ القذف، وهو ثمانون جلدة، ثم ذكر أن من يقذفون أزواجهم بالزنا، وليس لديهم أربعة شهداء على زناهنّ، يلاعن كلّ منهم الاخر، فيدرأ لعانه حدّ القذف عنه، ويدرأ لعانها حدّ الزنا عنها، وهذا من فضله تعالى ورحمته بهما.
ثم ذكر، سبحانه، أنّ حديث الإفك كان شرا كبيرا، وأوعد الذي تولّى كبره بعذاب عظيم يوم القيامة، ولام من استمعه من المؤمنين ولم يزجر من قاله، ثم وعظهم ألّا يعودوا إلى مثله إن كانوا مؤمنين، وأنذر الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، بعذاب أليم في الدنيا والاخرة، ونهاهم عن اتّباع خطوات الشيطان، لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر وذكر لهم سبحانه، أنه، لولا فضله عليهم، لأوقعهم الشيطان في هتك أعراضهم، فلا يزكو أحد منهم أبدا ثم أمرهم أن يعاملوا القاذفين بعد إقامة الحدّ عليهم بالعفو والصفح، فمن كان منهم فقيرا أو كانت له قرابة بالمقذوف وأهله، فليمضوا في الإحسان إليه، ولا يقطعوه عنه ثم عاد إلى إنذار من يقذف المحصنات الغافلات، باللعن في الدنيا والاخرة، وبعذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، بما كانوا يعملون، ثم ختم ذلك بدليل قاطع في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو أن الخبيثات يكنّ أزواجا للخبيثين والعكس أيضا يكون، والطيبات يكن أزواجا للطيبين والعكس أيضا يكون، ولو كانت عائشة خبيثة ما اختيرت زوجا للنبي (ص) .(6/76)
حكم دخول البيوت الآيات [27- 29]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فنهاهم عن دخول بيوت غير بيوتهم، إلّا بعد الاستعلام والسلام على أهلها، وأباح لهم أن يدخلوا البيوت التي لا تتّخذ للسكنى، من غير استئذان، إذا كان فيها متاع لهم.
حكم النظر الآيتان [30- 31]
ثم قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) ، فأمر الرجال بغضّ البصر عن النساء، وحفظ فروجهم وأمر النساء بغض البصر عن الرجال، وحفظ فروجهن ونهاهنّ أن يظهرن زينتهن إلا ما ظهر منها وأمرهنّ أن يضربن بخمرهن على جيوبهنّ ونهاهنّ أن يظهرن زينتهنّ إلا لبعولتهنّ، أو غيرهم ممن ذكرهم سبحانه، وأن يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهنّ.
أحكام أخرى الآيات [32- 57]
ثم قال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) فأمرهم بإنكاح من تأيّم منهم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح للنكاح من الغلمان والجواري وأمر من لا يجد مهرا، أن يصون نفسه حتى يغنيه وأمر بمكاتبة الأرقاء إن علموا فيهم خيرا ونهاهم عمّا كانوا يفعلونه من إكراه فتياتهم على البغاء.
ثم التفت السياق إلى التنويه بشأن القرآن، الذي نزل بمثل تلك الأحكام، بجعله نورا من الله تعالى أضاء به السماوات والأرض وذكر جلّ وعلا أنّ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح موضوع في زجاجة، كأنها كوكب درّيّ، يوقد من زيتونة، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار وذكر أنه يهدي لهذا النور من يشاء، من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره ثم ضرب مثلا لظلمة الكفر به، فذكر أنه كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، أو(6/77)
كظلمات في بحر لجّي، يغشاه موج من فوقه موج، من فوقه سحاب إلخ.
ثم أتبع ذلك، بذكر بعض الآيات الكونية، التي تدلّ على صدق ما يدعو إليه من الإيمان به، فذكر سبحانه أنه يخضع له من في السماوات والأرض وما بينهما، إلى غير هذا ممّا ذكره من تلك الآيات.
ثم ذكر من ذلك الكفر أشدّه ظلمة، وهو النفاق الذي يصير بأهله إلى إظهار الإيمان والطاعة، فإذا دعوا إلى الله ورسوله، ليحكم بينهم أعرضوا عنه، إن لم يكن لهم الحق، وإن كان لهم الحق أتوا إليه مذعنين ثم ذكر أنهم يقسمون به، لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجنّ إليه ونهاهم عن ذلك، لأن المطلوب منهم طاعة معروفة، لا أيمان كاذبة ثم أمر الرسول (ص) أن يأمرهم بتلك الطاعة، فإن أعرضوا بعد ذلك، فقد أدّى رسالته، وليس عليه إلا أن يؤدّيها لهم ثم وعد من يطيعه، أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الطائعين قبلهم وأمرهم أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويطيعوا الرسول (ص) في كل ما يأمرهم به ونهاه أن يظنّ أن أولئك الكفار يعجزونه عن إدراكهم، ليحقّق وعده لمن آمن به: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) .
حكم دخول البيوت للغلمان ونحوهم الآيات [58- 61]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ [الآية 58] فأباح لمن ملكت أيمانهم، ومن لم يبلغ منهم أن يدخلوا عليهم بغير إذن إلا في ثلاثة أوقات: الوقت الذي يكون قبل صلاة الفجر، ووقت الظهيرة الذي يضعون فيه ثيابهم، والوقت الذي يكون بعد صلاة العشاء، فلا يدخلون عليهم فيها إلّا بإذن ثم ذكر سبحانه، أنه لا حرج على من انقطعت الرغبة في نكاحهن، لكبرهنّ، أن يضعن خمرهنّ عن رؤوسهن، ولكنّ التستّر خير لهن وذكر جلّ شأنه، أنه لا حرج على الأعمى، والأعرج، والمريض، في دخول البيوت، والأكل منها لحاجتهم، ولا حرج عليهم أن يأكلوا من بيوت أزواجهم، أو بيوت آبائهم، أو نحوهم(6/78)
ممّن ذكرهم ثم أمرهم إذا دخلوا بيوتا أن يسلّموا على أهلها: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
حكم الاجتماع في بيوت الندوة الآيات [62- 64]
ثم قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [الآية 62] .
فذكر أنه، إذا اجتمع النبيّ (ص) والمؤمنون، للتشاور في أمر يهمهم، لم يجز لهم أن يخرجوا حتى يستأذنوه، وأمره إذا استأذنوه في الخروج لبعض شأنهم، أن يأذن لمن يرى له عذرا منهم، ثم نهاهم أن يتخلّفوا عن دعوته إذا دعاهم للتشاور في أمر من الأمور، وحذّر الذين لا يجيبون دعوته أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) .(6/79)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النّور» «1»
أقول: وجه اتصالها بسورة «قد أفلح» ، أي سورة «المؤمنون» : أنه لما قال تعالى في الآية الخامسة منها:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) ، ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه، من الزانية والزاني، وما اتّصل بذلك من شأن القذف، وقصّة الإفك، والأمر بغضّ البصر «2» ، وأمر فيها بالنكاح حفظا للفروج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا «3» .
ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط، ولا تناسق أبدع من هذا النسق.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . الزانية والزاني في قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [الآية 2] . إلى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) .
وجاء القذف في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [الآية 4] الى وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) . وهو شامل لأحكام اللّعان.
وقصة الإفك هي التي أرجف بها المنافقون في حقّ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى برّأها الله تعالى، بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [الآية 11] الى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (19) .
وجاء غضّ البصر في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [الآية 30] إلى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) .
(3) . جاء الأمر بالنكاح، والاستعفاف لغير القادر، وعدم إكراه الفتيات على البغاء في الآيتين [32- 33] .(6/81)
المبحث الرابع مكنونات سورة «النور» «1»
1- الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [الآية 11] .
حسّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وعبد الله بن أبيّ وهو الذي تولى كبره. كما أخرجه الشيخان «2» وغير هما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . البخاري (4141) في المغازي من «صحيحه» ، ومسلم في التوبة باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم (2770) .(6/83)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النور» «1»
1- وقال تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) .
«كبره» قرئ بضم الكاف وكسرها، وكبر الشيء عظمه، أي: والذي تحمّل معظم الشر في حديث الإفك هو عبد الله بن أبيّ، رأس النفاق مع جماعته أقول: والكبر بالكسر على أنه العظم والمعظم من باب ما جاء على «فعل» بكسر الفاء من الأسماء الثلاثية، كالذّبح والنّقض والمسخ وغير ذلك.
2- وقال تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) .
وقوله تعالى: سُبْحانَكَ للتعجب من عظم الأمر.
أقول: إن «سبحان» ، مصدر أفاد التعجب في هذه الآية، كما أفاد معاني أخرى في غيرها.
وقولنا: «سبحان الله» معناه: تنزيها لله من الصحابة والولد، وقيل: تنزيه الله تعالى عن كل مالا ينبغي له أن يوصف به.
وقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء/ الآية الأولى] .
معناه: أسبّح الله تسبيحا.
أقول: فما معنى قول بعض النحويين إنه اسم فعل مضارع؟ لعلهم لم يذهبوا إلى هذا إلّا بسبب تفسير هم له، أي:
أنه بمعنى أسبّح. ولعل تفسير هم بالمصدر جرّأهم على ذلك.
3- وقال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ [الآية 17] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](6/85)
والمعنى: كراهة أن تعودوا لمثله.
وحذف المصدر هذا المبيّن للسبب والعلة كثير في القرآن، وقد مرّ بنا شيء منه.
4- وقال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [الآية 21] .
أقول: قوله تعالى أَبَداً، أي:
إلى الأبد، وهو الزمن الدائم المتصل، ونصبه على الظرفية. وذكر الظرف هنا أفاد تأبيد النفي ب «ما» . وقد ورثنا هذا الأسلوب في النفي في عربيتنا المعاصرة حتى كأن (أبدا) في استعمال المعاصرين شيء من حواشي النفي وضروراته.
وكما ترد «أبدا» في حشو النفي لإرادة التأبيد، ترد أيضا في الإثبات فيقال مثلا: أشتاقه أبدا.
5- وقال تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [الآية 31] .
الجيوب: جمع جيب، والجيب جيب القميص والدرع.
وجيّبت القميص: قوّرت جيبه.
أقول: والجيب له دلالة جديدة في عصرنا، واستعماله، بهذا المعنى الجديد، ربّما عرف قبل عصرنا هذا.
6- وقال تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [الآية 31] .
الطفل: اسم جمع ويكون للواحد.
وانظر [الحج: 5] .
7- وقال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [الآية 32] .
أقول: الأيامى: جمع أيّم، رجلا كان أو امرأة، وقد آم الرجل وآمت المرأة: إذا لم يتزوّجا، بكرين كانا أو ثيّبين.
والمراد أنكحوا من تأيّم منكم من الأحرار والحرائر، والخطاب للمذكر على وجه التغليب.
8- وقال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً [الآية 33] .
وقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ أي:
وليجتهد في العفّة وظلف النفس، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه.
وهذا من فوائد زيادة الهمزة والسين والتاء في الفعل.(6/86)
9- وقال تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [الآية 35] .
أقول: وينبغي أن ننظر إلى هذا الاستعمال البليغ في معناه الرشيق في خفة لفظه، ألا ترى أننا نقول في مثل هذا في العربية المعاصرة: ... حتى ولو لم يكن له حاجة، أو نقول: حتى وإن لم تكن له حاجة ...
10- وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [الآية 39] .
والقيعة: بمعنى القاع، ولعلها جمع القاع، وهو المنبسط المستوي من الأرض وهي مثل جيرة في جار.
أقول: وهذا الجمع في «قاع» من الجموع العزيزة: ذلك أن المشهور المعروف في جمعها: «قيعان» .
11- وقال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الآية 43] .
وقوله تعالى: مِنْ خِلالِهِ الخلال:
جمع خلل مثل جبال وجبل.
وقرئ: من خلله.
وقد جرّت «خلال» ب «من» لبيان الخروج وبدايته. ولتضمن «الخلل» ، و «الخلال» معنى المكانية، قربت «خلال» من الظرفية التي تقوّى بالحرف «في» فيقال: ومرّ في خلال أو من خلال ذلك، مثلا.
وقد شاع هذا الاستعمال الذي يومئ إلى الظرفية فاستغني عن الخافض، فصار المعربون يقولون: «حدث خلال ذلك» ، أي: «في خلال» . وقد جدّ في هذا الاستعمال المعاصر، شيء آخر، وهو أن الكلمة قد اتّسع فيها، فدلّت على الظرفية الزمانية، بعد أن كانت تفيد المكان، على أن المعاصرين ربما استعملوها للمكان أيضا، فقالوا مثلا:
يجري الماء في خلال الشجر، أو من خلاله.
ومثل «خلال» هذه، كلمة «أثناء» ، وهي جمع «ثني» ، وهو اسم يعني ما يثنى من أشياء مختلفة. وليس في «ثني» ولا في «أثناء» ما يفيد الظرفية الزمانية، ولكن هذه الظرفية استفيدت من استعمال الأداة «في» كقولنا: حدث في أثناء ذلك كيت وكيت.
وعلى عادة المعربين في كل العصور، يميلون إلى الإيجاز والتخفيف ممّا هو قد عرف واشتهر، فيقولون:
حدث أثناء ذلك كيت وكيت، فهم يسقطون الأداة «في» إيجازا لمعرفتها.
ومثل هاتين الكلمتين في إفادة(6/87)
الظرفية «خلال، أثناء» قولهم:
«غضون» والغضون: جمع «غضن» ، وهو ما تغضّن، أي: تكسّر في الجلد والثوب ونحوهما.
وكما قلنا: في كلمة «أثناء» ، نقول:
في هذه الكلمة، أي: أنها لا تدل على الظرفية الزمانية، إلا بعد استعمال الأداة «في» ، فنقول: وحدث في غضون ذلك، والمراد: وحدث في أثناء ذلك أو في خلال ذلك.
وقد نبّه أهل التصحيح، للخطأ اللغوي، فقالوا بخطإ قولهم: حدث خلال أو أثناء، والصحيح عندهم استعمال الأداة «في» قبلهما للدلالة على الظرفية.
والذي أراه: أن الكلمة أو التركيب «في خلال» ، «وفي أثناء» ، لما شاع فيها الدلالة على الظرف، وعرف حتى غلب على الدلالة في الأصل، جاز أن يستعمل ظرفين من غير أن يسبقا ب «في» ، التماسا للإيجاز.
وبعد، ألم نقل: دخل فلان الدار، والأصل: دخل فيها؟ «1» .
12- وقال تعالى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) .
أقول: في قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) ، جاءت «إذا» التي تفيد الفجاءة، ويتلوها جملة اسمية وهذا هو الأسلوب، الذي جرت عليه لغة التنزيل، فأمّا قول المعربين في عصرنا وقبله، بعدة قرون مثلا:
خرجت فإذا بي أمام حادثة مروّعة، فهو أسلوب آخر غير ما جاء في فصيح العربية، وأولها لغة التنزيل فقد جرّ الاسم بعدها بالباء، وقالوا في هذه الباء انها زائدة، والتقدير: فإذا أنا أمام ...
ومثل هذه الآية قوله تعالى:
__________
(1) . والردّ على من يقول إن «أثناء» لا يمكن أن تكون ظرفا إلا مع الخافض «في» : قوله تعالى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الإسراء: 5] .
وقوله سبحانه: وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً [النّمل: 61] .
و «خلال» هذه مثل «أثناء» ، في كونها جمعا لاسم، ولكنها رشّحت للظرفية بالخافض، ثم حذف هذا الخافض لشيوع الظرفية فيها.
ومما تجب ملاحظته، أن المعاصرين يستعملون «من خلال» بمعنى بوساطة كقولهم مثلا: نحن نتبيّن هذه المسألة من خلال دراستنا لنتائجها، وهذا القول ترجمة لشيء من الانكليزية.(6/88)
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس] .
13- وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
[الآية 53] .
وقد مرّ بنا مثل هذه الآية في [المائدة 53] ، وفي [الأنعام: 109] .
وفي [النحل: 38] .
وهي مفيدة أنهم بالغوا في اليمين وبلغوا الغاية.(6/89)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النور» «1»
قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً [الآية 17] فهذه ممّا يوصل باللام تقول: «إن عدت لمثله فإنّك ظالم» .
وقال سبحانه: مِنْ عِبادِكُمْ [الآية 32] أي «من عبيدكم» ، كما تقول: «هم عباد الله» و «عبيد الله» .
وقال تعالى: كَمِشْكاةٍ [الآية 35] أي: كمثل مشكاة. قال سبحانه:
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [الآية 35] ، بجعله من «الدّر» و (دريء) من «درأ» بالهمز وبجعلها «فعّيل» ، وذلك من تلألئه.
وأمّا مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [الآية 35] ، فالمصباح، في المعنى، أن مثل ما أنار من الحق في بيانه، كمثل المشكاة. ليس لله مثل تبارك وتعالى.
وقال تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا [الآية 31] بجعل (الطفل) جماعة، كما قال سبحانه: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(6/91)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النور» «1»
فإن قيل: لم قدّمت المرأة في آية حد الزنا، وقدّم الرجل في حدّ السرقة؟
قلنا: لأن الزنا، إنما يتولّد من شهوة الوقاع، وشهوة المرأة أقوى وأكثر والسّرقة إنما تتولد من الجسارة والجراءة والقوة، وذلك في الرجل أكثر وأقوى.
فإن قيل: لم قدّم الرجل في قوله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [الآية 3] ؟
قلنا: لأن الآية الأولى سبقت لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي الأصل في تلك الجناية، لما ذكرنا.
والآية الثانية سبقت لذكر النكاح، والرجل هو الأصل فيه عرفا، لأنه هو الراغب والخاطب والبادئ بالطلب بخلاف الزنا، فإن الأمر فيه بالعكس غالبا.
فإن قيل: لم قال تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [الآية 3] أي لا يتزوج وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [الآية 3] ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة والمسلمة، والزانية ينكحها العفيف والمسلم؟
قلنا: قال عكرمة نزلت هذه الآية في بغايا موسرات كنّ بمكة، وكان لا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد جماعة من فقراء المهاجرين أن ينكحوهن، فنزلت هذه الآية زجرا لهم عن ذلك.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/92)
فإن قيل: ما الحكمة في دخول «من» في غض البصر، دون حفظ الفرج في قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [الآية 30] ؟
قلنا: الحكمة فيه الدلالة على أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج، ولهذا يحل النظر في ذوات المحارم، والإماء المستعرضات، إلى عدّة من أعضائهن، ولا يحل شيء من فروجهن.
فإن قيل: ما حكمة ترك الله تعالى ذكر الأعمام والأخوال في قوله سبحانه وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [الآية 31] يعني الزينة الخفيّة إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [الآية 31] ، وهم من المحارم، وحكمهم حكم من استثني في الآية؟
قلنا: سئل الشعبي عن ذلك فقال:
لئلا يصفها العمّ لابنه، وهو ليس بمحرم لها، وكذا الخال فيفضي إلى الفتنة والمعنى فيه أنّ كلّ من استثني يشترك، هو وابنه في المحرمية، إلا العم والخال، وهذا من الدّلالة البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن.
ولقائل أن يقول: هذه المفسدة محتملة في آباء بعولتهن، لاحتمال أن يذكرها أبو البعل عند ابنه الاخر، وهو ليس بمحرم لها وأبو البعل أيضا نقض على قولهم: إن كل من استثني يشترك هو وابنه في المحرمية.
فإن قيل: لم قال تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [الآية 33] مع أن إكراههن على الزنا حرام في كل حال؟
قلنا: لأن سبب نزول الآية، أنهم في الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنا، مع إرادتهن التحصّن، فورد النهي على السبب، وإن لم يكن شرطا فيه. الثاني أنه تعالى إنما شرط إرادة التحصّن، لأنّ الإكراه لا يتصوّر إلا عند إرادة التحصّن، لأنّ الأمة، إذا لم ترد التحصّن، فإنها تزني بالطبع، لأن رغبتها في الجماع مستمرة في جميع الأحوال طبعا، ولا بدّ له من أحد الطريقين. الثالث أن «إن» ، بمعنى «إذ» ، كما في قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78) [البقرة] وقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (149) [آل عمران] . الرابع:
أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره:
وأنكحوا الأيامى منكم، الصالحين من عبادكم وإمائكم، إن أردن تحصّنا،(6/93)
ويبقى قوله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [الآية 33] مطلقا غير معلق.
فإن قيل: لم مثّل الله تعالى نوره، أي معرفته وهداه في قلب المؤمن، بنور المصباح، في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [الآية 35] ولم يمثّله بنور الشمس، مع أن نورها أتم وأكمل؟
قلنا: المراد تمثيل النور في القلب، والقلب في الصدر، والصدر في البدن بالمصباح: وهو الضوء أو الفتيلة في الزجاجة، والزجاجة في الكوّة التي لا منفذ لها، وهذا التمثيل لا يستقيم إلا في ما ذكر. الثاني: أن نور المعرفة له آلات، يتوقّف على اجتماعها، كالذهن والفهم والعقل واليقظة وانشراح القلب، وغير ذلك من الخصال الحميدة كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة، وغير ذلك. الثالث: أنّ نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي، لا إلى العالم العلوي ونور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي، كنور المصباح. الرابع: أن نور الشمس لا يشرق إلا بالنهار، ونور المعرفة يشرق بالليل والنهار، كنور المصباح. الخامس: أن نور الشمس يعمّ جميع الخلائق، ونور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم، كنور المصباح الموصوف.
فإن قيل: إنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم، فكيف لم يمثله بنور الشمع، مع أنّه أتم وأكمل وأشرق، من نور المصباح؟
قلنا: إنما لم يمثله بنور الشمع، لأن في الشمع غشا لا محالة، بخلاف الزيت الموصوف، ولو مثله تعالى بنور الشمع، لتطاول المنافق المغشوش، إلى استحقاق نصيب في المعرفة.
الثاني: أنه تعالى، إنما لم يمثله بنور الشمع، لأنه مخصوص بالأغنياء، بخلاف نور المعرفة فإنه في الفقراء أغلب.
فإن قيل: التجارة تشمل الشراء والبيع، فما الحكمة في عطف البيع عليها في قوله تعالى: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الآية 37] ؟
قلنا: التجارة هي الشراء والبيع، الذي يكون صناعة للإنسان مقصودا به الربح، وهو حرفة الشخص الذي يسمّى تاجرا، والبيع أعمّ من ذلك وقيل: المراد بالتجارة هنا، مبادلة الاخرة بالدنيا، كما في قوله تعالى:(6/95)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16] والمراد بالبيع مبادلة الدين بالدنيا، كما في قوله تعالى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة 9] . وقيل إنما عطف سبحانه البيع على التجارة، لأنه أراد بالتجارة الشراء، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقيل: إنما عطف عليها للتخصيص والتمييز، من حيث أنه أبلغ في الإلهاء لأن البيع الرابح يعقبه حصول الربح، بخلاف الشراء الرابح، فإن الربح فيه مظنون، مع كونه مترقّبا منتظرا. وقيل: التجارة مخصوصة بأهل الجلب، بخلاف البيع.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [الآية 45] ، وبعض الدواب ليس مخلوقا من الماء، كآدم عليه السلام، وناقة صالح وغير هما؟
قلنا: المراد بهذا الماء: الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات، وذلك أن الله تعالى- على حدّ قول بعضهم- خلق قبل خلق الإنسان جوهرة، ونظر إليها نظر هيبة، فاستحالت ماء، فخلق من ذلك الماء جميع الموجودات وقد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] .
فإن قيل: إذا كان الجواب هذا، فما الحكمة في تخصيص الدّابة بالذكر، أو تخصيص الشيء الحيّ؟
قلنا: إنّما خصّت الدّابة بالذكر، لأنّ القدرة فيها أظهر وأعجب منها في الجماد وغيره.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [الآية 45] وقال أيضا:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [الآية 45] وهي مما لا يعقل؟
قلنا: لمّا كان اسم الدابة، يتناول المميّز وغيره، غلب المميّز على غيره، وأجري عليه لفظه.
فإن قيل: لم قال تعالى: مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [الآية 45] وذلك إنّما يسمى زحفا لا مشيا، فلا يسمّى مشيا إلّا ما كان بالقوائم؟
قلنا: هو مجاز بطريق المشابهة، كما يقال: مشى هذا الأمر، وفلان لا يتمشّى له أمر، وفلان ما مشي له الحال.
فإن قيل: لم أمر الله تعالى(6/96)
بالاستئذان، للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [الآية 58] أي من الأحرار؟
قلنا: هو في المعنى، أمر للآباء والأمهات، بتأديب الأطفال وتهذيبهم، وليس أمر للأطفال.
فإن قيل: لم أباح تعالى، للقواعد من النساء، وهن العجائز، التجرّد من الثياب، بحضرة الرجال، بقوله تعالى:
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [الآية 60] .
قلنا: المراد بالثياب هنا، الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، لا جميع الثياب، وقوله تعالى غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ [الآية 60] أي غير قاصدات بوضع الثياب، الثياب الظاهرة، إظهار زينتهن ومحاسنهن، بل التخفيف ثم أعقبه بأن التعفّف بترك الوضع خير لهن.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [الآية 61] مع أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم، لا شك فيه ولا شبهة؟
قلنا: المراد بقوله تعالى مِنْ بُيُوتِكُمْ أي من بيوت أولادكم، لأنّ ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه، فلهذا عبّر عنه به، وفي الحديث: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» ويؤيد ذلك أنه تعالى قد ذكر بيوت جميع الأقارب، ولم يذكر بيوت الأولاد.
وقيل المراد بقوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي من مال أولادكم، وأزواجكم الذين هم في بيوتكم، ومن جملة عيالكم. وقيل المراد بقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ البيوت التي يسكنونها، وهم فيها عيال لغيرهم، كبيت ولد الرجل وزوجته وخادمه، ونحو ذلك.
فإن قيل: معنى السلام هو السلامة والأمن، فإذا قال الرجل لغيره: السلام عليك، كان معناه سلمت مني وأمنت، فما معنى قوله تعالى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [الآية 61] ؟
قلنا: المراد به فإذا دخلتم بيوتكم، فسلّموا على أهلكم وعيالكم. وقيل معناه إذا دخلتم المساجد، أو بيوتا ليس فيها أحد، فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، يعني من ربّنا.
فإن قيل: لم قال الله تعالى(6/97)
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [الآية 63] ، وإنّما يقال خالف أمره؟
قلنا: «عن» زائدة كذا قاله الأخفش. الثاني: أن فيه إضمار تقديره: فليحذر الذين يخالفون الله تعالى، ويعرضون عن أمره أو ضمن المخالفة، معنى الأعراض، فعدّي تعديته.(6/98)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النور» «1»
... وقوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) . وهذه استعارة على أحد التأويلات الثلاثة، وهو أنه سبحانه يجعل في الأيدي التي بسطت إلى المحظورات، والأرجل التي سعت إلى المحرمات، علامة تقوم مقام النطق المصرّح، واللسان المفصح، في الشهادة على أصحابها، والاعتراف بذنوبها.
فأما شهادة الألسنة، فقد قيل إن المراد بها إقرارهم على نفوسهم بما واقعوه من المعاصي، إذ علموا أن الكذب لا ينفعهم، والجحود لا يغني عنهم. وليس ذلك بمناقض لقوله سبحانه:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) [يس] ، لأنّه قد قيل في ذلك: إنه جائز أن تخرج ألسنتهم من أفواههم، فتنطق بمجرّدها، من غير اتصال بجوزاتها ولهواتها. فيكون ذلك أعجب لها، وأبلغ في معنى شهادتها. ويختم في تلك الحال على أفواههم.
وقيل: يجوز أن يكون الختم على الأفواه، إنما هو في حال شهادة الأيدي والأرجل، بعد ما تقدّم من شهادة الألسن.
وأمّا التأويلان الآخران، في معنى شهادة الأيدي والأرجل، فالكلام
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/99)
يخرج بهما عن حدّ الاستعارة إلى الحقيقة. وذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه يبني الأيدي والأرجل، بنية تكون هي الناطقة بما تشهد به عليهم، من غير أن يكون النطق منسوبا إليهم.
وقوله سبحانه: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [الآية 31] وهذه استعارة.
والمراد بها: إسبال الخمر، التي هي المقانع على فرجات الجيوب، لأنها خصاصات «1» إلى الترائب والصدور، والثدي والشعور. وأصل الضرب من قولهم: ضربت الفسطاط إذا أقمته بإقامة أعماده، وضرب أوتاده. فاستعير هاهنا كناية عن التناهي في إسبال الخمر، وإضفاء الأزر.
وقوله سبحانه: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 35] وهذه استعارة.
والمراد بذلك، عند بعض العلماء، أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه، ونواصع بيانه، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة، والشّهب اللامعة.
وقال بعضهم: المراد بذلك، والله أعلم، الله منوّر السماوات والأرض بمطالع نجومها، ومشارق أقمارها وشموسها.
وقوله سبحانه: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [الآية 35] وهذه مبالغة في وصف الزيت بالصفاء والخلاصة، على طريق المجاز والاستعارة، حتى يقارب أن يضيء، من غير أن يتصل بنار، ويناط بذلك.
وقوله سبحانه: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ [الآية 37] وهذه استعارة.
والمراد بتقلّب القلوب هاهنا: تغيّر الأحوال عليها، من الخوف والرجاء، والسرور والغمّ، إشفاقا من العقاب، ورجاء للثواب. والأولى صفة أعداء الله، والأخرى صفة أولياء الله.
وأمّا تقلّب الأبصار، فالمراد به تكرير لحظ المؤمنين إلى مطالع الثواب، وتكرير لحظ الكافرين إلى مطالع العقاب.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) .
__________
(1) . الخصاصات: جمع خصاصة وخصاص بفتح الخاء، وهو الخرق في الباب أو البرقع وغير هما.(6/100)
قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ استعارة ومجاز. والمعنى: فوجد وعيد الله سبحانه، عند انتهائه إلى منقطع عمله السيّئ، فكاله بصواعه، وجازاه بجزائه. وذلك يكون يوم المعاد، وعند انقطاع تكليف العباد.
وقد قيل أيضا: إنّ الضمير في قوله تعالى: عِنْدَهُ يعود إلى الكافر لا إلى عمله، فكأنّه تعالى قال: فوجد الله قريبا منه، أي وجد عقابه مرصدا له، فأخذه من كثب، وجازاه بما اكتسب.
وذلك كقول القائل: الله عند لسان كل قائل. أي يجازيه على قول الحق بالثواب، وعلى قول الباطل بالعقاب.
والقولان جميعا يؤولان إلى معنى واحد.
وقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ [الآية 43] .
وهذه استعارة على بعض التأويلات.
لأنّ الجبال هاهنا، يراد بها السحاب الثّقال، تشبيها لها بكثائف أطوادها، ومشارف هضابها. ويكون الضمير في قوله سبحانه: مِنْ جِبالٍ فِيها عائدا على السماء، لا على الجبال. فكأنّ التقدير: وينزّل من جبال من السماء من برد، يريد من السحاب المشبّهة بالجبال. وتكون الفائدة في قوله تعالى: مِنْ جِبالٍ في السماء، تخصيص تلك الجبال من جبال الأرض لأنّا لو جعلنا الضمير الذي فيها عائدا على الجبال، أوهم أنها جبال تنزل إلى الأرض من السماء.
فإذا جعلنا الضمير عائدا إلى السماء أمن الالتباس، وكان في ذلك أيضا تعجّب لنا، من وصف جبال في السماء على طريق التشبيه لأنّ الجبال على الحقيقة لا تكون إلا في قرارات الأرض، وصفحات التّرب.
وقوله سبحانه: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [الآية 44] وهذه استعارة.
والمراد بها طرد النهار بالليل، وطرد الليل بالنهار. فكنى عن ذلك سبحانه باسم التقليب. وليس المراد تقليب الأعيان «2» ، بل تغاير الأزمان.
__________
(2) . أي ليس المراد التقليب المادي للأشياء العينية الذاتية.(6/101)
سورة الفرقان
(25)(6/103)
المبحث الأول أهداف سورة «الفرقان» «1»
سورة الفرقان سورة مكية نزلت بعد سورة يس، ونزلت سورة يس بعد سورة الجن. وكان نزول سورة الجن عند رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد ذهب إليها سنة عشر من بعثته، فيكون نزول سورة الفرقان في السنة العاشرة من البعثة، وتكون من السور التي نزلت بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وهي فترة تميزت بقسوة مشركي مكة وعنفهم ورغبتهم في القضاء على الدعوة بكل سبيل، ولذلك تبدو سورة الفرقان وكأنها إيناس لرسول الله (ص) ، وتسرية له وتطمين وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم وتعنّتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدى، وصدّهم عنه.
سورة تشد أزر الرسول
تنوّعت جوانب هذه السورة وتعددت لكنها، في جملتها، كانت مؤازرة لرسول الله، تمنحه الثقة والاطمئنان، وتفضح شبهات المشركين، وتدافع عن الدعوة والداعية بالعديد من السبل.
فهي، في لمحة منها، تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله، وكأنّما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا، ويفيض عليه بالرعاية واللطف والمودة.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/105)
وهي، في لمحة، تصوّر المعركة العنيفة مع البشرية الضالّة الجاحدة، المشاقّة لله ورسوله، وتجادل في عنف، وتتعنت في عناد، وتجنح عن الهدى الواضح المبين.
إنها البشرية الضالّة التي تقول عن هذا القرآن العظيم، كما ورد في التنزيل:
إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] .
أو تقول:
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) .
والتي تقول عن محمد رسول الله:
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) .
أو تقول باستهزاء:
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) .
وهذا التكذيب كان سمة الناس من عهد نوح (ص) إلى عهد محمد (ص) .
لقد اعترض القوم على بشرية الرسول (ص) ، واعترضوا على حظه من المال، فقالوا، كما ورد في التنزيل:
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الآية 8] .
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن، فقالوا، كما ورد في التنزيل:
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الآية 32] .
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء، والافتراء والإيذاء. وعند ما يئس النبي (ص) من أهل مكة توجه إلى الطائف وفيها قبائل ثقيف، وفيها نعمة وغنى وزراعة وأعناب حتى كان العرب يعتقدون أن طائفة من الجن نقلتها من اليمن السعيد إلى جنوب الحجاز.
ولمّا ذهب إلى الطائف، دعا أهلها للإسلام فردوه أسوأ رد، وأغروا به السفهاء والعبيد يرجمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان وأغمي عليه، فلما أفاق مد يده لله داعيا متضرعا يقول:
«اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا ربّ العالمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو بعيد ملّكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات(6/106)
وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحلّ عليّ غضبك، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، عافيتك هي أوسع لي، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .
وقد نزلت سورة الفرقان في أعقاب رحلة الطائف، فكانت حنانا ورحمة من الله لنبيه، تمسح آلامه وتسرّي عنه، وتهوّن عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم، وسوء أدبهم وتطاولهم على من اختاره الله سبحانه، ليحمل رسالة الله إلى الناس وتعزّيه عن استهزائهم بتصوير المستوي الهابط الذي يتمرغون فيه:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) .
ويتكفل القرآن بالعون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجّة:
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) .
ثم تعرض السورة أهوال القيامة ومشاهد المجرمين تهديدا ووعيدا: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) .
وتصف ندم هؤلاء الكفار يوم القيامة فتقول:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) .
ثم تقدّم السورة مسيرة الأنبياء وجهادهم وبلاءهم، تسلية للرسول الأمين، ثم تحثّه على الصبر والمصابرة، وعلى جهاد الكفار بالحجة والبرهان:
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) .
وهكذا تمضي السورة: في جانب منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله، وفي جانب آخر مشاقّة وعنت من المشركين لرسول الله وتقدّم السورة جوانب القدرة الإلهية، وتصف عجائب صنع الله في مد الظلّ، وتسخير الشمس، وخلق الليل والنهار، والظلام والنور، وإنزال المطر وإنبات النبات، وخلق الإنسان والكواكب(6/107)
والبروج والأفلاك، وتتوعد المشركين بالعذاب والعقاب.
فإذا اقتربت السورة من نهايتها، وصفت عباد الرحمن بالتواضع، وقيام الليل، والاقتصاد في النفقة، والاحتراز من الشرك والزّنى، وقتل النفس وتذكر فضل التوبة ومنزلة التائبين عند الله، وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه:
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) .
موضوعات السورة
رغم أن الخط الأساسي لسورة الفرقان هو العناية بالرسول (ص) ، ومسح آلام الحزن عنه، وتثبيت قلبه، إلا انه يمكن أن نقسم هذه السورة إلى أربع فقرات أو أربعة موضوعات متمايزة:
الموضوع الأول:
بدأ الموضوع الأول من سورة الفرقان بتسبيح الله سبحانه وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض، المدبّر للكون بحكمة وتقدير، ونفي الولد والشريك. ثم شرع في ذكر ما أورده الكفار من شبه، فذكر شبهتهم الأولى:
إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] .
وردّ عليهم بأن ادّعاءهم ظلم وزور، لأنه تحداهم به فلم يمكنهم أن يأتوا بمثله.
ثم ذكر شبهتهم الثانية وهي زعمهم أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها. ورد عليهم بأن الذي أنزله هو خالق الإنسان، وهو العليم بأسراره وما يناسبه.
ثم ذكر اعتراضهم على بشرية الرسول (ص) ، وحاجته للطعام والمشي في الأسواق، واقتراحهم أن ينزّل عليه ملك، أو يلقى اليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها.
ورد عليهم بأن الله لو شاء لجعل لنبيه في الاخرة جنّات وقصورا، خيرا مما ذكروه من نعم الدنيا.
وكان الرسل جميعهم قبل محمد (ص) يأكلون الطعام ويمشون(6/108)
في الأسواق، لأنهم بشر وذلك شأن البشر.
ويستغرق الموضوع الأول من أول السورة إلى الآية 20 منها.
الموضوع الثاني:
بدأ الموضوع الثاني بذكر تطاول المشركين، وزعمهم بذكر تطاول المشركين، وزعمهم أنه كان يجب أن ينزل عليهم ملائكة تؤيد محمدا (ص) في دعواه، أو يروا ربّهم.
ثم عاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة لا تحمل البشرى، وإنما تحمل الإنذار والوعيد.
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) .
ليكون في ذلك تسلية للرسول (ص) ، وهم يهجرون القرآن وهو يشكو لربه هذا الهجران.
ثم ذكر اعتراضهم على عدم نزول القرآن جملة واحدة، وردّ عليهم بأنه نزل مفرّقا لتثبيت قلب الرسول وللإجابة عن استفهام المستفهمين، وتوضيح الحق أمام السائلين.
ثم ذكر أنهم في الاخرة يمشون مقلوبين، وجوههم إلى تحت، وأرجلهم إلى فوق، فيضلّون في أخراهم كما ضلّوا في دنياهم.
ثم شرع في تأييد ذلك بتصوير عاقبة المكذّبين من قبلهم من قوم موسى وقوم نوح، وعاد وثمود، وأصحاب الرّسّ والقرون الكثيرة بين ذلك، ويعجب من أمرهم وهم يمرّون على قرية لوط المدمّرة، ولا يعتبرون.
فيهوّن، بذلك كله، من وقع تطاولهم على الرسول (ص) ، وقولهم كما ذكر القرآن الكريم حكاية على لسانهم:
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) .
ثم عقّب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) .
ويستغرق هذا الموضوع الآيات [21- 44] .
الموضوع الثالث:
يبدأ الموضوع الثالث بعرض مظاهر القدرة الإلهية في نظام هذا الكون وإبداع صنعته ودقّة ناموسه، فيعرض مشهد الظل، ويستطرد إلى تعاقب الليل والنهار، والرياح المبشّرة بالماء المحيي، وخلقه البشر من الماء، ومع(6/109)
هذا فهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم، فينصرون الشيطان على ربهم الذي يريد أن يربّيهم ويهديهم، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الرحمن، وقد جعل الله الليل والنهار خلفة يخلف أحدهما الاخر، ويتعاقبان ليرى الإنسان الصباح المشرق والليل المظلم، فيتذكّر عظمة الله ويشكره، لكنهم لا يتذكّرون ولا يشكرون.
ويستغرق هذا الموضوع الآيات [45- 62] .
الموضوع الرابع:
يصف الموضوع الرابع عباد الرحمن الذين يسجدون له ويعبدونه ويسجل مقوّماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة، ويفتح باب التوبة على مصراعيه لمن يريد الإقبال على الله، ويصوّر جزاء المؤمنين الصابرين على تكاليف الإيمان والعبادة:
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) .
ويستغرق هذا الموضوع الآيات [63- 77] فتختم السورة ببيان هوان البشرية على الله سبحانه لولا دعاء المؤمنين، وعبادة المتقين.
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه الرسول (ص) من عنت المشركين، فهو يتفق مع ظل السورة وجوّها، ويتفق مع موضوعها وأهدافها.(6/110)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفرقان» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الفرقان بعد سورة يس، ونزلت سورة يس بعد سورة الجن، وكان نزول سورة الجن في رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد سافر إليها في السنة العاشرة من بعثته، فيكون نزول سورة الفرقان في السنة نفسها، وتكون من السّور التي نزلت بين الهجرة إلى الحبشة وبين الإسراء.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) .
الغرض منها وترتيبها
ترمي هذه السورة إلى بيان الغرض من نزول القرآن، وهو أن يكون نذيرا للعالمين، والكلام فيها على هذا الغرض ينقسم إلى قسمين: أوّلهما في دفع ما أوردوه عليه من شبه وتأييده بما وقع قبله من النّذر الأولى، وثانيهما في بيان عدم تأثّرهم بذلك لتكبّرهم وجهلهم.
وقد ختمت السورة السابقة بتحذير المخالفين أن يصيبهم فتنة أو عذاب أليم، وهذا يناسب ما ابتدئت به هذه السورة من الإنذار والتحذير.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/111)
تنزيل القرآن للإنذار الآيات [1- 40]
قال الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) ، فذكر أنه نزّل القرآن ليكون نذيرا للناس كافة، ووصف نفسه بأربعة أنواع من صفات الكبرياء، ليدل على قدرته على تحقيق إنذاره، فذكر ملكه للسماوات والأرض، وتنزّهه عن الولد والشريك، وخلقه كلّ شيء وتقديره له. ثم شرع في ذكر ما أوردوه على ذلك من شبه، فذكر شبهتهم الأولى وهي قولهم كما ورد في التنزيل: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] ، وردّ عليه بأنه ظلم وزور، لأنه تحدّاهم به فلم يمكنهم أن يأتوا بمثله، ولو كان من عنده لأمكنهم أن يأتوا به.
ثم ذكر شبهتهم الثانية وهي زعمهم بأنّه أساطير الأولين اكتتبها. ورد عليها بأن الذي أنزله هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ومثله ينزل الحقائق لا الأساطير.
ثم ذكر شبهتهم الثالثة وهي زعمهم بأن من يرسل للإنذار لا يكون بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه كان يجب أن ينزل إليه ملك ينذر معه، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها ودعواه الرسالة، من غير ذلك، تدلّ على أنه رجل مسحور لا يصحّ اتّباعه، وردّ سبحانه، على هذا بأنه إن شاء جعل له في الاخرة جنّات وقصورا خيرا مما ذكروه من نعم الدنيا، ولكنهم يكذّبون بالساعة فلا يرجون ثوابا ولا عقابا ثم ذكر ما أعد لهم فيها من العذاب، وما وعد المتقين فيها من نعيم وثواب، وما يكون من تبرّؤ آلهتهم منهم فيها، وعاد السياق بعد هذا إلى الرد على هذه الشبهة بأن الله سبحانه، لم يرسل قبل هذا إلا رسلا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
ثم ذكر شبهتهم الرابعة وهي زعمهم أنه كان يجب أن ينزل عليهم ملائكة تشهد بصدقه فيما ينذر به، أو يروا ربّهم فيخبرهم بأنه أرسله لإنذارهم.
ورد على هذا بأنه تعنّت ظاهر وعتوّ كبير، وبأن ما طلبوه من ذلك سيرونه يوم القيامة، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، ويلقى المؤمنون فيه ما يحبّون ثم ذكر ما يكون من ندمهم على كفرهم، ومن تمنّيهم أن لو كانوا اتّخذوا مع الرسول سبيلا، ولم يسمعوا(6/112)
لمن أضلّهم من خلّانهم، وذكر ما يكون من شكوى الرسول مما كان من طعنهم في القرآن، بأنه سحر وشعر وكذب وهذيان، ومن إجابته له بأن شأنهم في ذلك كشأن المجرمين قبلهم مع رسلهم.
ثم ذكر شبهتهم الخامسة وهي قولهم كما ورد في التنزيل لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الآية 32] . وردّ على هذا بأنه نزّله مفرّقا ليثبّت به فؤاده، ويرتله على تؤدة وتمهّل.
ثم عقّب على ذلك كله بأنهم لا يأتونه بمثل من جنس تلك الشبهات، إلا أتاهم بالحق الذي يدفعها ويبين وجه فسادها، وذكر أنهم في الاخرة يمشون مقلوبين وجوههم إلى تحت، وأرجلهم إلى فوق، فيضلّون في آخرتهم كما ضلّوا في دنياهم.
ثم شرع في تأييد ذلك بما حصل من النذر قبله، فذكر أنه آتى موسى التوراة وجعل معه أخاه هارون وزيرا له، وأنه أمرهما أن يذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياته فدمرهم تدميرا، ثم ذكر أنه أغرق قوم نوح لمّا كذّبوا رسله وأعدّ لهم عذابا أليما، إلى أن ذكر ما حصل لقرية سدوم التي يمرّون عليها في متاجرهم إلى الشام، وهي من قرى قوم لوط وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) .
عماية الكفار عن الإنذار الآيات [41- 77]
ثم قال تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) ، فذكر أنهم قابلوا ما أنذرهم به، وما ذكره في رد شبهاتهم بالسفاهة والاستهزاء بالنبي (ص) ، لأنهم عجزوا عن رد ما ذكره في دفع شبههم. وقد بلغ من قوته أن اعترفوا بأنه كاد يضلّهم عن آلهتهم لولا أن صبروا عليها، ثم ذكر له أنهم اتخذوا هواهم إلههم، وأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، ومن كان هذا شأنه لا يؤثّر دليل فيه. ثم ذكر له أن يرى كيف مدّ الظّلّ ولو شاء لجعله ساكنا، إلى غير هذا مما لا تخفى دلالته على من يسمع ويعقل، ليثبت له أنهم ليس لهم سمع ولا عقل. ثم ذكر أنه صرّف هذه الدلائل بينهم ليذّكّروا ولكنهم ينفرون من سماعها، وأنه لو شاء لبعث بها نذيرا في كل قرية، ولكنه اختاره وحده(6/113)
لذلك، فيجب أن يقابل هذا بالاجتهاد في الدعوة، ليقوم بأعبائها وحده ثم عاد إلى تلك الدلائل فذكر أنه هو الذي أجرى البحرين في مجاريهما بحيث يلتقيان، وأنه فصل بينهما بقدرته فبقي هذا عذبا وذلك ملحا، إلى غير هذا مما ذكره من دلائل عظمته وقدرته.
ثم أشار إلى أنهم لا يتأثّرون أيضا بهذه الأدلة الظاهرة على توحيده، فيعبدون من دونه ما لا ينفعهم ولا يضرّهم، ثم ذكر أنه لا شيء عليه من إعراضهم عنها، لأنه لم يرسله إلا مبشّرا ونذيرا، ولا يسألهم على ذلك من أجر، إلا من شاء أن يتقرّب بالإنفاق إلى ربه، ثم أمره أن يتوكل عليه في مجاهدتهم ودعوتهم، وذكر ما ذكر من عظمته وقدرته ليدل على أن من توكل عليه يكفيه عن غيره. ثم ذكر أنهم مع عبادتهم ما لا ينفعهم ولا يضرّهم، إذا قيل لهم:
اسجدوا للرحمن، قالوا وما الرحمن، عتوّا وتكبّرا، واستعظموا أن يسجدوا لما يأمرهم مثله بالسجود له، ثم ذكر سبحانه، من أدلة عظمته وقدرته، أنه جعل في السماء بروجا وهي منازل السيارات، إلى غير هذا مما لا يصح معه أن يتكبّروا عن السجود له، ثم ذكر أن للرحمن عبادا غيرهم لا يتكبّرون مثلهم، بل يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، إلى غير هذا من صفاتهم. ثمّ ختمت السورة بتحقير المتكبّرين وتهديدهم على تكذبيهم، فقال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) .(6/114)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفرقان» «1»
ظهر لي بفضل الله تعالى، أن نسبة هذه السورة الى سورة النور، كنسبة سورة الأنعام إلى «المائدة» .
من حيث أن «النور» قد ختمت بقوله سبحانه: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 64] ، كما ختمت «المائدة» بقوله جلّ وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [الآية 120] .
وكانت جملة «النور» أوجز من جملة «المائدة» ، ثم فصّلت هذه الجملة في سورة الفرقان، فافتتحت بقوله تعالى:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 2] ، إلى قوله سبحانه من الآية نفسها:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) . كما افتتحت «الأنعام» بمثل ذلك «2» .
وكان قوله تعالى عقبه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الآية 3] إلى آخره، نظير قوله هناك: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام] .
ثم ذكر في هذه السورة جملة من المخلوقات، كمدّ الظل، والليل، والنوم، والنهار، والرياح، والماء، والأنعام، والأناسي، ومرج البحرين، والإنسان، والنسب، والصّهر، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسّراج، والقمر، إلى غير ذلك، مما هو تفصيل لجملة: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» . كما فصّل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . افتتاح الأنعام قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
(3) . جميع هذه المعاني جاءت في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الى قوله جلّ وعلا: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) .(6/115)
آخر «المائدة» في «الأنعام» بمثل ذلك «1» . وكان البسط في «الأنعام» أكثر لطولها.
ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذّبة وإهلاكهم، كما أشار في «الأنعام» إلى ذلك «2» . ثم أفصح عن هذه الإشارة في السورة التي تليها وهي «الشعراء» بالبسط التام، والتفصيل البالغ «3» . كما أوضح تلك الإشارة التي في «الأنعام» ، وفصّلها في سورة الأعراف التي تليها «4» .
فكانت هاتان السورتان، الفرقان والشعراء، في المثاني، نظير تينك السورتين، الأنعام والأعراف، في الطوال، واتصالهما باخر النور، نظير اتصال تلك باخر المائدة، المشتملة على فصل القضاء «5» .
ثم ظهر لي لطيفة أخرى، وهي: أنه إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية، افتتح أولها بالثناء على الله، ك «الأنعام» بعد «المائدة» ، و «الإسراء» بعد «النحل» ، وهذه بعد «النور» ، و «سبأ» بعد «الأحزاب» ، و «الحديد» بعد «الواقعة» ، و «تبارك» بعد «التحريم» «6» ، لما في ذلك من الإشارة إلى نوع من الاستقلال، وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.
__________
(1) . هذا التفصيل جاء في الأنعام مفرقا في الآيات: 13، 18، 59، 60، 61، 65، 73، 95، 96، 97، 98، 99.
(2) . تفصيل أحوال القرون المكذبة وإهلاكهم في «الفرقان» في قوله تعالى: فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الآية 36] الى وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (29) . وفي الأنعام في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) .
(3) . جاء ذلك في الآيات 64- 189 حيث جاء عن قوم كل رسول تكذيبهم إياه، ووسيلة إهلاكهم. [.....]
(4) . تفصيل أحوال القرون المكذبة، جاء في «الأعراف» من قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الآية 59] الى فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) .
(5) . آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) وهو يشتمل على فضل القضاء ضمنا.
وأول الانعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية الأولى] .
(6) . قول المؤلف: و «الإسراء» بعد «النحل» ، لا يتفق مع قاعدته، فكلاهما مكّيّ، وقوله: و «الحديد» بعد «الواقعة» ، عكس قاعدته، فالواقعة مكية، والحديد مدنية، وهناك سور مكية جاءت بعد المدنية وافتتحت بالثناء على القرآن، ك «يونس» بعد «التوبة» ، و «إبراهيم» بعد «الرعد» ، و «النحل» بعد «الشعراء» ، و «ق» بعد «الرحمن» ، والثناء على القرآن ثناء على الله ضمنا.
وهناك مكيات بعد مدنيات لم تفتح بالثناء على الله، كالواقعة بعد الرحمن.(6/116)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفرقان» «1»
1- وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الآية 4] .
عنوا: يهود فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد.
وقيل: جبرا مولى الحضرمي. حكاه السّهيلي.
2- وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب ومجاهد، وقتادة، والسّدّي، وغيرهم أن المراد بالظالم:
عقبة بن أبي معيط وبفلان: أمية بن خلف «2» .
وقال عمرو بن ميمون «3» : أبيّ بن خلف.
3- الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الآية 40] .
أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال:
هي قرية لوط «4» .
وعن الحسن قال: هي بين الشام والمدينة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر «تفسير الطبري» 19: 6.
(3) . عمرو بن ميمون الأودي أبو عبد الله، مخضرم مشهور، وثقة عابد، نزل الكوفة، ومات سنة أربع وسبعين.
(4) . انظر «تفسير الطبري» 19: 11.(6/117)
4- وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الآية 53] .
قال الحسن: بحر فارس والروم.
وقال سعيد بن المسيب: بحر السماء، وبحر الأرض. أخرجها ابن أبي حاتم. 5- وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الآية 55] .
قال الشّعبي: هو أبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم.(6/118)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفرقان» «1»
1- وقال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) .
وقوله تعالى: اكْتَتَبَها، أي:
كتبها لنفسه وأخذها كما تقول:
استكب الماء واصطبّه، إذا سكبه وصبّه لنفسه.
أقول: والاكتتاب في عصرنا شيء آخر، يقال: اكتتبوا في بناء مدرسة، أي: جمعوا الأموال تبرّعا وكتبوها مخصصة لبناء المدرسة.
2- وقال تعالى: وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) .
البور: الهلاك يوصف به الواحد والجمع، ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ، وحائل وحول، وهو مصدر كالبور بالفتح والبوار أيضا.
3- وقال تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (33) .
أقول: وقوله تعالى: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، أي: بيّناه وحقّقناه، وأرسلنا بعضه إثر بعض.
وقالوا: الترتيل: هو الترسّل والتأنّي في القراءة، وإعطاء الأصوات حقها من البيان والصناعة.
ومن حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته (ص) «لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها» .
4- وقال تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الآية 40] .
مما تجب ملاحظته أن مادة «مطر» ،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/119)
قد استعملت في آي القرآن فعلا فريدا «أمطر» في سبع آيات، كما استعملت اسما في ثماني آيات، وفي هذه الآيات جميعها كان «المطر» شرّا وعذابا وحجارة من سجيل.
فإذا أريد الرحمة والحياة، جاءت كلمة «الغيث» ، قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: 28] .
5- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الآية 48] .
قرئ: الريح والرياح.
وقرئ: نشرا، أي: إحياء، ونشرا جمع نشور وهي المحيية. ونشرا تخفيف نشر.
و «بشرا» تخفيف بشر جمع بشور وبشرى.
وأرى أن «بشرى» تلائم بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أي: أن الرياح قدام المطر الذي عبر عنه ب «الرحمة» .
6- وقال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) .
أقول ويحسن بنا أن نعود قليلا لنرى مسألة قوله تعالى: حِجْراً مَحْجُوراً، في الآية الكريمة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) .
ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو: معاذ الله، وقعدك الله، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك، يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: أتفعل كذا وكذا، فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكأن المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا، ويحجره حجرا.
وقوله تعالى: مَحْجُوراً صفة لتأكيد الحجر، أي: المنع.
وأما في الآية: 53، فالمراد من قوله جلّ وعلا حِجْراً مَحْجُوراً، أي: أن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه في قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) .
7- وقال تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) .(6/120)
الظهير: بمعنى المظاهر، وهو من باب فعيل بمعنى مفاعل، كالعوين والمعاون، ويجوز أن يراد ب «ظهيرا» الجماعة، كقوله تعالى:
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] .
8- وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) .
قوله تعالى: ساءَتْ فعل بمعنى أصبحت سيئة.
وقالوا: إنها في حكم «بئست» ، وفيها ضمير مبهم يفسره مُسْتَقَرًّا والمخصوص بالذم محذوف.
أقول: أرادوا أن يلحقوا هذا الفعل بما أسموه أفعال المدح والذم، فيكون إعرابها ما يقتضيه إعراب تلك الأفعال.
وأرى أنّ الفعل «ساء» ليس، مثل «نعم» و «بئس» ، وإن كان معناه الذم.
وقوله تعالى: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا، أي ساءت جهنّم مستقرّا، كقولك:
حسن البيت مقاما، وذمّ السرداب سكنا، فهل نحمل هذين الفعلين على أفعال المدح والذم؟ والفاعل في الآية ساءَتْ مُسْتَقَرًّا يعود على «جهنّم» في الآية السابقة.(6/121)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفرقان» «1»
قال تعالى: قَوْماً بُوراً [الآية 18] أي جماعة «البائر» مثل «اليهود» وواحدهم «الهائد» وقال بعضهم: «هي لغة على غير واحد، كما يقال «أنت بشر» و «أنتم بشر» .
وقال تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً [الآية 19] فحذف «عن الكفّار» وقد يكون ذلك عن الملائكة، والدليل على وجه مخاطبة الكفار، أنه جلّ وعلا قال: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ [الآية 19] وقال بعضهم «يعني الملائكة» .
وقال تعالى: الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الآية 40] يقال «مطرنا» و «أمطرنا» . وقال سبحانه: إِلَّا مَنْ شاءَ [الآية 57] استثناء خارج من الكلام بمعنى «لكن» .
وقال تعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الآية 62] أي: «يختلفان» .
وقال سبحانه وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ [الآية 63] . فهذا ليس له خبر «2» إلّا في المعنى، والله أعلم.
وقال تعالى: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) ف «الإمام» هاهنا جماعة «3» كما في فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] ويكون على الحكاية كما يقول الرجل إذا قيل له: «من أميركم» : «هؤلاء أميرنا» وقال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في إعراب القرآن 2: 744 والمشكل 2: 524 والجامع 13: 68.
(3) . نقله في المحتسب 2: 317 والجامع 13: 83.(6/123)
الخامس والخمسون بعد المائتين] :
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي ... إنّ العواذل ليس لي بأمير «1»
وقال تعالى: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ [الآية 77] لأنّها من «عبأت به» ف «أنا أعبأ به» «عبئا» .
وقال تعالى: وَأَناسِيَّ كَثِيراً [الآية 49] مثقّلة لأنها جماعة «الإنسيّ» .
__________
(1) . البيت في الخصائص 3: 174 ب «لسن» بدل «ليس» ، وهو كذلك في الصحاح «ظهر» وعجزه كذلك في مختار الصحاح «ظهر» ، والبيت كذلك في مغني اللبيب 1: 211 والبيت بعد، في شرح شواهد المغني.(6/124)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفرقان» «1»
إن قيل: الخلق هو التقدير ومنه قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة: 110] أي تقدّر، فما معنى قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) فكأنه تعالى قال: «وقدّر كل شيء فقدره تقديرا» ؟
قلنا: الخلق من الله تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث، فمعناه: وأوجد كل شيء مقدّرا مسوّى مهيّأ لما يصلح له، لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولا ناقصا عن ذلك.
الثاني أن معناه: وقدّر له ما يقيمه ويصلحه أو قدّر رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الجنّة: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) ، وهي ما كانت بعد، وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟
قلنا: إنما قال: «كانت» : لأن ما وعده الله تعالى، فهو في تحققه كأنه قد كان، أو معناه: كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم ومصيرهم.
فإن قيل: ما الحكمة من تأخير الهوى، في قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الآية 43] والأصل اتّخذ الهوى إلها، كما تقول: «اتّخذ الصنم معبودا» ؟
قلنا: هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به، كما تقول علمت منطلقا زيدا لتظهر عنايتك بانطلاقه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/125)
فإن قيل: لم قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ [الآية 44] ؟
قلنا: قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) [المؤمنون] .
فإن قيل: لم شبّههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال، بقوله تعالى:
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الآية 44] مع أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبّحه بدليل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء/ الآية 44] وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 1] ؟
قلنا: المراد أولا تشبيههم بالأنعام في الضلال، عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى، بواسطة دعوة الرسول (ص) .
ثانيا: أن المراد تشبيههم، في الضلال والعمى عن أمر الدين، بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.
فإن قيل: إن كانوا كالأنعام في الضلال، فلم قال تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) ؟ وإن كانوا أضلّ من الأنعام، فلم قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ؟ وإن كانوا كالأنعام في الضلال، وأضل منها أيضا، فكيف يجتمع الوصفان؟
قلنا: المراد بقوله تعالى في الموضع الأول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ التشبيه في أصل الضلال لا مقداره. والثاني:
بيان لمقداره. وقيل: المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا، ولكن المراد بالأول طائفة، وبالثاني طائفة أخرى، ووجه كونهم أضلّ من الأنعام، أنّ الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهّدها، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتّقون العذاب الذي هو أشد المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنيّ والعذاب الروي «1» .
فإن قيل: في قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً
__________
(1) . انظر الكشاف ج 2 ص 410. [.....](6/126)
لم ذكّرت الصفة والموصوف مؤنث، ولم تؤنث الصفة كما أنّثت في قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ [يس: 33] ؟
قلنا: إنما التذكير نظرا إلى معنى البلدة، وهو البلد والمكان لا إلى اللفظ.
فإن قيل: قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) فإنزاله موصوفا بالطهورية، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي، يشعر بأن الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة، كما تقول:
حملني الأمير على فرس سابق، لأصيد عليه الوحش، وليس كذلك.
قلنا: وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسيّ الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء، وإتماما للمنّة والنعمة عليهم، لا لكونه شرطا في تحقيق تلك المصالح والمنافع، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية لأن صيد الوحش على الفرس لا يكون إلّا بها.
فإن قيل: لم خصّ تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟
قلنا: أولا لأن الوحش والطير تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام. ثانيا: أن الأنعام قنية الأناسيّ وعامة منافعهم متعلّقة بها.
فإن قيل: لم قدّم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟
قلنا: أولا لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم. ثانيا: أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.
فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) ؟
قلنا: هو استثناء منقطع تقديره: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، فأنا أدله على ذلك وأهديه إليه. وقيل تقديره: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، بإنفاق ماله في مرضاته تعالى، فليفعل ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: قُلْ ما(6/127)
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
أي أجرا، لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية أخرى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] فأثبت سؤال الأجر عليه؟
قلنا: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: 47] رواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة، بل هو استثناء من غير الجنس، تقديره: لكن أذكركم المودة في القربى.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) ولم يقل أئمة؟
قلنا: مراعاة لفواصل الآيات، وقيل تقديره: واجعل كل واحد منا إماما.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) وهما بمعنى واحد، ويؤيده قوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وقوله (ص) «تحيّة أهل الجنة في الجنة سلام» .
قلنا: قال مقاتل: المراد بالتحية سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، والمراد بالسلام أن الله تعالى سلّمهم ممّا يخافون وسلّم إليهم أمرهم.
وقيل: التحية من الملائكة أو من أهل الجنة، والسلام من الله تعالى عليهم، لقوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) [يس] . وقيل التحية من الله تعالى لهم بالهدايا والتحف والسلام بالقول. وقيل: التحية الدعاء بالتعمير، والسلام الدعاء بالسلامة، فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملائكة أو بعضهم من بعض، أو يلقون ذلك من الله تعالى، فيعطون البقاء والخلود مع السلامة من كل آفة.(6/128)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفرقان» «1»
في قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) استعارتان. إحداهما قوله سبحانه:
إِذا رَأَتْهُمْ وهو في صفة نار جهنّم، نعوذ بالله منها، ولا تصحّ صفة الرّؤية عليها. وإنما المراد، والله أعلم، إذا كانت منهم بمقدار مسافة لو كان بها من يوصف بالرؤية لرءاهم. وهذا من لطائف التأويل، وغرائب التفسير.
وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك: إذا قربت منهم، وظهرت لهم.
من قولهم: دور بني فلان تتراءى. أي تتقارب. وفي الحديث: (لا تتراءى ناراهما) «2» أي لا تتدانى.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الحديث بأكمله في «صحيح أبي داود» الجزء الأول، باب على ما يقاتل المشركون، كتاب الجهاد، ص 261، ونصه: «حدثنا هناد بن السرى ثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله. قال: بعث رسول الله (ص) سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل قال: فبلغ ذلك النبي (ص) ، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله لم؟ قال: لا تتراءى ناراهما» وفي سنن النسائي ج 2 ص 245، جاء هذا الحديث في باب القود بغير حديدة، كتاب القسامة. وقد أورد المؤلف هذا الحديث في كتابه «المجازات النبوية» ، وتحدث عما فيه من مجاز حديثا رائعا. صفحة 200 من المجازات النبوية، طبعة القاهرة سنة 1356 سنة 1937، وجاء هذا الحديث في «لسان العرب» وفسره صاحب اللسان ثم قال: وقال أبو عبيد: معنى الحديث أن المسلم لا يحل له أن يسكن بلاد المشركين، فيكون معهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه.(6/129)
سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وهاتان الصفات من صفات الحيوان، ويختص التغيظ بالإنسان، لأن الغيظ من أعلى منازل الغضب، والغضب لا يوصف بحقيقته إلا الناس. والزفير قد يشترك الإنسان وغير الإنسان في الصفة به.
وإنما المراد بهاتين الصفتين المبالغة في وصف النار بالاهتياج والاضطرام، على عادة المغيظ والغضبان.
وفي قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) استعارة، لأن صفة القدوم لا تصح إلّا على من تجوز عليه الغيبة، فتجوز منه الأوبة. والله سبحانه شاهد غير غائب، وقائم غير زائل. فالمعنى:
وقصدنا إلى ما عملوا، أو عمدنا إلى ما عملوا. وذلك كقول القائل: قام فلان بفلان في الناس، إذا أظهر ذمّه وعيبه، وليس يريد أنه نهض عن قعود، وتحفّز بعد استقرار وسكون، وإنما يريد أنه قصد إلى سبّه، وتظاهر بثلبه. وقال الشاعر «1» :
فإنّ أباكم تارك ما سألتم فمهما أتيتم فاقدموه على علم يقال: قدمت هذا الأمر، وأنا أقدمه:
إذا أتيته وقصدته. وقد ذكر بعض العلماء في ذلك وجها آخر. قال: إنما قال سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ: لأنه عاملهم معاملة القادم من غيبة. أو كان، بطول إمهاله لهم، كالغائب عنهم ثم قدم، فرآهم على خلاف ما أمرهم به، واستعملهم فيه، فأحبط أعمالهم الفاسدة، وعاقبهم عقاب العاند عن الطاعة، المرتكس في الضّلالة. والمعتمد القول الأول.
وفي قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) مجاز آخر. وذلك أنه لم يجعل عملهم على الحقيقة هباء منثورا، وهو الغبار الدقيق هاهنا. ومنه الهابي. وإنما أراد سبحانه أنه أبطل ذلك العلم فعفا رسمه، وسقط حكمه، وبطل بطلان الغبار الممحق، والغثاء المتفرق.
وفي قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) استعارة. لأن المقيل من صفات المواضع التي ينام فيها، ولا نوم في
__________
(1) . لم نعثر على اسم صاحب هذا البيت.(6/130)
الجنة. وتقدير الكلام: وأحسن موضع للقائلة. فكأن ذلك المكان من وثارة مهاده، وبرد أفيائه، يصلح أن ينام فيه لو كان ذلك جائزا. وهذا كقوله سبحانه في ذكر أصحاب الجنة: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) [مريم] أي مثل أوقات البكرة والعشيّ المعهودين في حال الدنيا. لأن الجنة لا يوصف زمانها بالأيام والليالي، لأن ذلك من صفات الزمان الذي تتعاقب عليه الشمس طالعة وغاربة، فيسمّى نهارا بطلوعها، ويسمّى ليلا بقبوعها «1» .
وفي قوله سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) استعارة. والمراد بها، والله أعلم، على أحد القولين، صفة السماء في ذلك اليوم بتعاظم الغمام فيها، وانتشاره في نواحيها. كما يقول القائل: قد تشققت الغمائم بالبرق، وتشققت السّحائب بالرعد، إذا كثر ذلك فيها، ليس أن هناك تشققا على الحقيقة، في قول أهل الشرع. وقيل أيضا: إن المراد بذلك انتقاض بنية السماء وتغيّرها إلى غير ما هي عليه الآن، كما تظهر في البناء آثار التداعي، وأعلام التهافت، من تثلّم أطراف، وتفطّر أقطار، فيكون ذلك مؤذنا بانقضاضه، ومنذرا بانتقاضه.
وقال سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: 48] .
وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «2» [الأنبياء: 104] .
ويكون انتقاض بنية السماء عن ظهور الغمام الذي آذننا سبحانه بمجيئه يوم القيامة، إذ يقول عزّ من قائل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) [البقرة] .
ومعنى تشقّق السماء بالغمام: أي عن الغمام، كما يقول القائل: رميت بالقوس، وعن القوس، بمعنى واحد.
وفي قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) استعارة على أحد التأويلين: وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير. فكأنه تعالى قال:
أرأيت من اتّخذ هواه إلهه. معنى ذلك أنه جعل هواه آمرا يطيعه، وقائدا
__________
(1) . القبوع: الاختفاء ومنه: قبع النجم أي ظهر ثم خفي.
(2) . وقد سبق الحديث عن قراءة «للكتب» و «للكتب» بالمفرد والجمع، في سورة الأنبياء.(6/131)
يتبعه، فكأنه قد عبده لفرط تعظيمه له.
ومن أمثالهم: الهوى إله معبود، على المعنى الذي ذكرنا. وذكر أحمد بن يحيى البلاذري «1» في كتاب (الأشراف) أن هذه الآية نزلت في الحارث بن قيس بن عديّ السّهمي، وهو من عبدة الأوثان لأنه كان كلما رأى حجرا أحسن من الذي اقتناه لعبادته، أخذه واطّرح ما عبده.
وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) . في الآية الأولى استعارتان، إحداهما قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ [الآية 45] ، أي ألم تر إلى فعل ربك، أو إلى حكمة ربك في مدّ الظل، فحذف هذه اللفظة لدلالة الكلام عليها، إذ كان الله سبحانه لا يدرك بالمشاعر، ولا يرى بالنواظر. وقد يجوز أن يكون معنى الرؤية هاهنا معنى العلم. فكأنه سبحانه قال: ألم تعلم حكمة ربّك في مدّ الظل؟ وإنما أقام سبحانه، الرؤية هاهنا مقام العلم، لتحقّق المخاطب الذي هو النبي (ص) وجهة الله تعالى في ذلك الفعل، فقامت معرفة قلبه مقام رؤية عينه، قطعا باليقين، وبعدا عن الظنون.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا وهي استعارة على القلب. لأن الظل في الشاهد يدل على الشمس، وذلك أن الظل لا يكون إلا وهناك شمس طالعة، فيوصف ما لم تطلع عليه لحاجز يحجز، أو مانع يمنع، بأنه ظل. وقد قيل: إن الظل ما كان بالغداة، والفيء ما كان بالعشيّ. وقيل: إن الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس، فعلى هذا القول يجوز أن يكون معنى قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي دائما لا ترد الشمس عليه فتزيله وتذهب به، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا. أي دللناها عليه، فهي تتحيّف من أقطاره، وتنتقص من أطرافه، حتى تستوفي أجمعه، وتكون
__________
(1) . هو المؤرّخ الجغرافي النسابة: جالس الخليفة المتوكل العباسي، ومدح المأمون، ومات في أيام المعتمد، سنة 279 هـ. ومن كتبه «فتوح البلدان» وهو مصدر وثيق للفتوحات الإسلامية: وقد طبع في أوروبا والقاهرة. وكتاب «الأشراف» .(6/132)
بدلا منه. فهذا معنى قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) .
ويجوز أن يكون معنى دلالة الشمس على الظل، أنه لولا الشمس لم يعرف الظل. ويجوز أن نقول: لولا الظل لم تعرف الشمس.
وفي قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) استعارتان. فإحداهما قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً. والمراد باللباس هاهنا، والله أعلم، تغطية ظلام الليل النّشوز والقيعان، وأشخاص الحيوان كما تغطّي الملابس الضّافية، وتستر الجنن الواقية. وهذه العبارة من أفصح العبارات عن هذا المعنى.
ومعنى السّبات: قطع الأعمال، والرّاحة من الأشغال. والسّبت في كلامهم: القطع.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً. والنشور في الحقيقة: الحياة بعد الموت. وهو هاهنا مستعار الاسم لتصرّف الحي وانبساطه، تشبيها للنوم بالممات، واليقظة بالحياة. وذلك من أوقع التشبيه، وأحسن التمثيل.
وفي قوله سبحانه: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الآية 49] استعارة. وقد مضت الإشارة إلى نظيرها في سورة «الأعراف» .
ووصف البلدة بالموت هاهنا محمول على أحد وجهين: إما أن تكون إنما شبّهت بالميت من فرط يبسها، لتسلّط المحل عليها، وتأخّر الغيث عنها. أو يكون فيها من النبات والشجر، لمّا مات لانقطاع الماء عنه، حسن أن توصف هي بالموت لموت بنيها، لأنها كالأم التي تكلفه، والظّئر التي ترضعه.
وفي قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الآية 53] استعارة. والمراد بذلك، والله أعلم، أنه خلّاهما من مذاهبهما، وأرسلهما في مجاريهما، كما تمرج الخيل أي تخلّى في المروج مع مراعيها.
فكان وجه الأعجوبة من ذلك، أنه سبحانه، مع التخلية بينهما في تقاطعهما، والتقائهما في مناقعهما، لا يختلط الملح بالعذب، ولا يلتبس العذب بالملح.(6/133)
ولغة أهل تهامة «مرجه» ، ولغة أهل نجد «أمرجه» . وقال أبو عبيدة «1» : إذا تركت الشيء وخلّيته فقد مرجته. ومنه قولهم: مرج الأمير الناس: إذا خلّاهم بعضهم على بعض. والأمر المريج:
المختلط الملتبس.
وقوله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) ، وقد قرئ: سرجا، على الجمع. وهي قراءة حمزة والكسائي من السبعة. والباقون يقرءون: سراجا على التوحيد.
فمن قرأ «سراجا» أراد النجوم، ومن قرأ «سراجا» أراد الشمس، ويقوّي ذلك قوله سبحانه في موضع آخر: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) [نوح] . ويقوّي قراءة من قرأ «سراجا» أن النجوم من شعائر الليل، والسّرج بأحوال الليل أشبه منها بأحوال النهار.
وإنما شبهت النجوم بالسّرج لاهتداء الناس بها في الظّلماء، كما تهتدي بالمصابيح الموضوعة، والنيران المرفوعة.
وفي قوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) استعارة، ومعنى خلفة، في بعض الأقوال، أي جعل الليل والنهار يتخالفان، فإذا أتى هذا ذهب هذا، وإذا أدبر هذا أقبل هذا.
وقيل: خلفة، أي يخلف أحدهما الاخر، فيكون ذلك من الخلافة لا من المخالفة.
وقيل: خلفة، أي أحدهما أسود، والاخر أبيض. وهو أيضا راجع إلى معنى المخالفة.
وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) استعارة. والمراد، والله أعلم، لا يصمّون عن قوارع النّذر، ولا يعشون عن مواقع العبر.
__________
(1) . هو معمر بن المثنّى النحوي البصري، كان إماما في اللغة والأدب. وقال فيه الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. واشتهر بحفظ حديث رسول الله. وقد استقدمه الرشيد إلى بغداد سنة 188 هـ- وقرأ عليه أشياء من كتبه. وتوفي سنة 209 هـ.(6/134)
سورة الشعراء
(26)(6/135)
المبحث الأول أهداف سورة «الشعراء» «1»
سورة الشعراء سورة مكية وآياتها 227، نزلت بعد سورة الواقعة، وسميت بهذا الاسم لذكر الشعراء فيها، في قوله تعالى.
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) .
موضوع السورة
موضوع سورة «الشعراء» هو موضوع السور المكية جميعا، وهو تثبيت العقيدة وتلخيص عناصرها الأساسية ويتوافق ذلك مع دعوة السورة إلى توحيد الله:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) .
وبيان قدرة الله الفائقة ونعمه السابغة على لسان إبراهيم الخليل (ع) حين يقول، كما ورد في التنزيل:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) .
وتتطرّق السورة إلى وعيد المكذّبين بعذاب الدنيا، أو بعذاب الاخرة.
حيث تقول:
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) وتقول:
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) .
ذلك إلى تسلية الرسول (ص)
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/137)
وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) .
وإلى طمأنينة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين، وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين، كما ثبّت من قبلهم من المؤمنين.
القصص في سورة الشعراء
القصص غالب على سورة الشعراء، يشغل معظم السورة: فمجموع آياتها 227 آية، منها 180 آية تحتوي على قصص هادف يمسّ شغاف القلوب، ويبين رعاية الله للأنبياء والمرسلين.
ذكرت قصة موسى وفرعون في الآيات [10- 68] .
وفيها سبعة مشاهد، أولها: مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى وربه وثانيها: مواجهة موسى لفرعون وملئه، وتأييد موسى بآيتي العصا واليد البيضاء وثالثها: مشهد التامر وجمع السّحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى ورابعها: مشهد إيمان السّحرة وتهديد فرعون ووعيده وخامسها: مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلا وسادسها: مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر، ونهاية القصّة بانفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين.
قصة ابراهيم
تستغرق قصة إبراهيم الآيات: [69- 104] ، والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم (ع) هي حلقة الرسالة إلى قومه، وحواره معهم حول العقيدة، وإنكار الالهة المدّعاة، والاتّجاه بالعبادة إلى الله، وبيان صفات الله وفضله وعظيم نعمائه، فهو الذي يخلق ويطعم ويسقي، ويشفي ويحيي ويميت، ويغفر الذنب ويحاسب الناس، ويكافئ المؤمنين ويعاقب الغاوين.
وفي أعقاب قصة إبراهيم، مشهد كامل من مشاهد القيامة، يتنكّر فيه المشركون لآلهتهم، ويندمون على الشّرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه، وكأنهم قد صاروا فعل في موقف الحساب والجزاء، وهنا عبرة القصة للمشركين.(6/138)
ومن ثمّ يتوسع السياق في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد، وفساد عقيدة الشرك، ومصير المشركين في يوم الدين، لأن التركيز متجه إليه، وتختصر السورة ما عدا ذلك مما يفصّل في سور أخرى.
قصة نوح
تستغرق قصة نوح (ع) الآيات [105- 122] ونلحظ أن القصص في سورة الشعراء لا يتّبع التسلسل التاريخي، فقد عرضت قصة موسى (ع) ، ثم قصة إبراهيم (ع) ، ثم قصة نوح (ع) . ولو أراد أن يتّبع التسلسل التاريخي لعرض قصة نوح أولا، ثم قصة إبراهيم، ثم قصة موسى.
لكنه، أي القصص، في هذه السورة، كان يذكر الأحدث ثم يرجع في الزمن من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. لأن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب.
وقصة نوح، ومن قبلها قصة موسى وقصة إبراهيم، قد عرضت في سور شتى سابقة.
لكن الجانب الذي يعرضه من القصة يأتي مناسبا لسياق السورة، وللعظة والعبرة المقصودة منها.
وتعرض قصة نوح، غالبا في سلسلة من قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين.
وأظهر ما في الحلقة المعروضة في سورة الشعراء هنا: دعوة نوح قومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء، وهذا ما كان يواجهه رسول الله (ص) في مكة سواء بسواء، ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه، واستجابة الله له بإغراق المكذّبين وإنجاء المؤمنين.
قصة هود
تستغرق قصة النبيّ هود (ع) الآيات [123- 140] وقبيلة عاد، وهم قوم هود، كانوا يسكنون الأحقاف وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة الطوفان، الذي طهّر الأرض من العصاة.
واتخذت عاد المساكن المرتفعة،(6/139)
والمصانع المشيدة، وبلغت شأوا بعيدا من الحضارة الصناعية، وزادتها القوة بطرا وقسوة، فكفرت بنعم الله وتطاولت وتجبّرت ونسيت الخالق الرزاق، وكذّبوا نبيّ الله هودا فأهلكهم الله ودمر مصانعهم ودورهم، وصبّ عليهم العذاب من فوقهم ومن تحتهم، وتركهم عبرة لكل طاغية:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (149) .
قصة ثمود
تستغرق قصة ثمود الآيات [141- 159] وقد دعاهم صالح (ع) إلى عبادة الله وذكرهم بما فيه من نعمة، وكانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز، وقد مر النبي (ص) بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك، فاستحث راحلته وحنى ظهره، وجلا وخشوعا لله، وقال للمسلمين: (لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم مشفقون، خشية أن يصيبكم ما أصابهم) .
لقد كانت ثمود في نعمة، فكفروا بنعمة الله عليهم، وذكّرهم صالح بقدرة الله، فطلبوا منه معجزة، فأعطاه الله الناقة على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم، وحذّرهم صالح أن ينالوا الناقة بسوء على الإطلاق، وإلّا أخذهم عذاب يوم عظيم.
ولكنّهم استمروا في عنادهم وظلمهم، فنحروا الناقة، وكذّبوا صالحا، وأحسّوا الندم بعد فوات الأوان، فأخذهم عذاب الله العادل:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) .
قصة لوط
تستغرق قصة لوط (ع) الآيات [160- 175] وقد كان قوم لوط يسكنون عدة قرى في وادي الأردن، واشتهر بينهم الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور وترك النساء، وهو انحراف شنيع مناف للفطرة. فقد برأ الله الذكر والأنثى، وفطر كلّا منهما على الميل الى صاحبه، لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة، من طريق النسل الذي يتحقق باجتماع الذكر والأنثى، فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام.
ولكنّ قوم لوط خرجوا على الفطرة،(6/140)
واستباحوا الفاحشة، وهدّدوا لوطا بالطّرد والنفي، فخسف الله قراهم وغطّاها الماء، ومنها قرية سدوم، ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميّت في الأردن.
أصحاب الأيكة
تستغرق قصة أصحاب الأيكة الآيات [176- 191] .
والأيكة: الشجر الكثيف الملتف، وهم أهل مدين ونبيّهم شعيب (ع) .
وكان شأنهم تطفيف الكيل والميزان.
وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط وحسن المعاملة، فكذّبوا نبيهم فأخذهم عذاب يوم عظيم في يوم حار خانق، يكتم الأنفاس ويثقل الصدور، ثم تراءت لهم سحابة فاستظلّوا بها، فوجدوا لها بردا، ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية تفزعهم وتدمّرهم تدميرا، وكان ذلك يوم الظلّة، فالظّلّة كانت سمة اليوم المعلوم.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) .
في أعقاب القصص
الآيات الأخيرة من سورة الشعراء تعقيب على قصص المرسلين فيها، وتأكيد على بعض أهداف الرسالة السماوية فقد ذكر الله في هذا القصص قضية الرسل والرسالات، وقصة التكذيب والإعراض، وقصة التحدي والعقاب. وتمثلت هذه المعاني في قصة موسى مع فرعون، وقصة ابراهيم مع أبيه وقومه، وقصة نوح مع قومه، وقصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وقصة لوط مع قومه، وقصة شعيب مع أصحاب الأيكة. فلما انتهى القصص عاد السياق إلى موضوع السورة، وهو العقيدة والإيمان بالله ورسله واليوم الاخر. وقد جاء التعقيب الأخير في السورة يتحدّث عن القرآن، فيؤكد أنه تنزيل من رب العالمين.
ويشير إلى أن علماء بني إسرائيل يعرفون خبر هذا الرسول وما معه من القرآن: لأنه مذكور في كتب الأوّلين، ولكن المشركين يعاندون الدلائل الظاهرة، ويزعمون أنه سحر أو شعر، ولو أن أعجميا لا يتكلّم العربية نزل عليه هذا القرآن فتلاه عليهم بلغتهم ما كانوا به مؤمنين، لأن العناد هو الذي يقعد بهم عن الإيمان، لا ضعف الدليل، وما تنزلت الشياطين بهذا(6/141)
القرآن على محمد (ص) ، كما تتنزل بالأخبار على الكهّان وما هو كذلك بشعر، فإن له منهجا ثابتا، والشعراء يهيمون في كل واد وفق الانفعالات والأهواء. إنما هو القرآن المنزل من عند الله تذكيرا للمشركين قبل أن يأخذهم الله بالعذاب، وقبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون:
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) . وقد استغرق هذا التعقيب الأخير على القصص الآيات [192- 227] ، وختم هذا التعقيب بهذا التهديد المخيف الذي يلخص موضوع السورة.
اشتملت تلك السورة على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم، واستهتارهم بالوعيد، واستعجالهم بالعذاب، كما شملت مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون.(6/142)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشعراء» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الشعراء بعد سورة الواقعة، ونزلت سورة الواقعة بعد سورة طه، وكان نزول سورة طه فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة الشعراء في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر الشعراء في قوله تعالى في الآية 224 منها: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) . وتبلغ آياتها سبعا وعشرين ومائتي آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة التنويه بشأن القرآن، وقد جاء أولها في تهديدهم على التكذيب به، وجاء آخرها في إثبات تنزيله، والتمييز بينه وبين ما تلقي الشياطين على الكهّان والشعراء.
وقد ختمت السورة السابقة بإنذارهم بأن عذابهم سيكون لزاما. فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أولها أنه سبحانه، إن يشأ ينزل عليهم آية عذاب تخضع لها أعناقهم.
التنويه بشأن القرآن الآيات [1- 191]
قال الله تعالى: طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) فنوّه بشأن القرآن وحسن بيانه، ونهى الرسول (ص) أن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/143)
يبالغ في الحزن على تكذيبهم به، وذكر أنه إن يشأ ينزل عليهم آية عذاب تخضع لها أعناقهم، وأنه سوف يأتيهم أنباء ما يستهزئون به من إنذارهم بوقوع العذاب عليهم، ثم أثبت ذلك بأمرين:
أولهما ما يرونه من إنباته في الأرض كلّ زوج كريم، ففي ذلك آية من آيات القدرة الإلهية على تحقيق إنذاره لهم، ثم ذكر أنه عزيز لا يعجز عن تعذيبهم، وأنه رحيم يملي برحمته لهم. وثانيهما ما حصل من ذلك، للأمم قبلهم، وقد ذكر في هذا السياق موسى مع فرعون، وقصة إبراهيم مع أبيه وقومه، وقصة نوح مع قومه، وقصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وقصة لوط مع قومه، وقصة شعيب مع أصحاب الأيكة، وقد ذكرت هذه القصص قبل هذه السورة، ولكنها هنا تخالف ما سبق منها في سياقها، وفي بعض زيادات فيها وتغييرات في أسلوبها، ومن هذا تذييل كل قصة منها بما يبيّن الغرض من ذكرها، وهو قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) .
إثبات تنزيل القرآن الآيات [192- 227]
ثم قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) فذكر بعد تهديدهم على تكذيبه أنه تنزيله، وأن جبريل روحه الأمين نزل به على رجل منهم لينذرهم بلسانهم، ثم أثبت ذلك بما جاء من البشارة به في كتب الأولين، وبشهادة علماء بني إسرائيل بصدقه، وذكر أنه لو نزّله على بعض الأعجمين فقرأه عليهم لم يؤمن به أحد منهم، لنزوله بغير لسانهم.
ثم ذكر تمكّن التكذيب به في قلوب المجرمين من المشركين، وأنهم لا يؤمنون به حتى يأتيهم ما ينذرهم به من العذاب الأليم، ثم وبّخهم على استعجالهم ذلك العذاب الأليم، وذكر أنه سيمتّعهم سنين قليلة، ثم يأخذهم به فما يغني عنهم شيئا ما تمتّعوا به، وأنه لا يهلك قرية إلا بعد إنذارهم، ليكون إهلاكها تذكرة وعبرة لغيرها.
ثم أبطل ما يذكرونه من أنه من إلقاء الشياطين كسائر ما يلقونه على الكهّان والشعراء، فذكر أنه لم تتنزّل به الشياطين، لأن مثله مما لا يستطيعه مثلهم، ولأنهم معزولون عن السمع فلا(6/144)
يمكنهم أن يتلقوه كما تتلقاه الملائكة، ثم ذيّل ذلك بنهي الرسول (ص) عن أن يدعو معه إلها آخر لئلّا يقع فيما ينذرون به من العذاب، ويأمره أن يكتفي بإنذار عشيرته الأقربين، وأن يخفض جناحه لمن اتّبعه من المؤمنين، فإن عصوه فليتبرّأ مما يعملون، وليتوكل على العزيز الرحيم، فإنه يرى قيامه وصلاته، ويسمع دعاءه ويعلم حاله.
ثم عاد السياق إلى إبطال زعمهم أنه من إلقاء الشياطين، فذكر أن الشياطين لا تتنزّل إلّا على كلّ كذّاب أثيم، فيلقون على الكهّان ما يزعمون أنهم سمعوه من السماء من أكاذيبهم. وذكر أن أمر أكثر الشعراء كأمر الكهان، فهم ضالون يهيمون في كل واد، ولا يتورعون عن الكذب في المدح والهجاء وغير هما من فنون الشعر، ولا يستحون أن يقولوا ما لا يفعلون: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) .(6/145)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشعراء» «1»
أقول: وجه اتصالها بسورة «الفرقان» أنه تعالى لما أشار فيها إلى قصص مجملة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) [الفرقان] .
شرح هذه القصص، وفصّلها أبلغ تفصيل في الشعراء التي تلي «الفرقان» ، ولذلك رتبت على ترتيب ذكرها في الآيات المذكورة، فبدئ بقصة موسى (ع) «2» ، ولو رتبت على الواقع لأخرت قصة موسى كما في «الأعراف» .
فانظر إلى هذا السر اللطيف الذي منّ الله بإلهامه.
ولما كان في الآيات المذكورة قوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الآية 38] ، زاد في «الشعراء» تفصيلا لذلك قصة قوم إبراهيم (ع) ، وقوم لوط (ع) ، وقوم شعيب (ع) .
ولما قال سبحانه في «الفرقان» :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . بدئ بقصة موسى من قوله تعالى: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى [الآية 10] وما بعدها.
ثم نوح (ع) في قوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) وما بعد هذه الآية. ثم قبيلة عاد في قوله جلّ وعلا:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) . وهكذا على ترتيب آيات الفرقان.(6/147)
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) ، ثم قال: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) [الفرقان] ، فختم هذه السورة بذكر الشعراء الذين هم بخلاف ذلك، واستثنى منهم من سلك سبيل أولئك، وبيّن ما يمدح من الشعر، ويدخل في قوله تعالى: سَلاماً. وما يذم منه، ويدخل في اللغو «1» .
__________
(1) . وذلك من قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) الى آخر السورة [الآية 227] .(6/148)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الشعراء» «1»
1- فَجُمِعَ السَّحَرَةُ [الآية 38] .
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان السّحرة سبعين رجلا.
وعن كعب قال: كانوا اثني عشر ألفا.
وعن أبي ثمامة قال: كانوا سبعة عشر ألفا.
وعن محمد بن كعب القرظي: كانوا ثمانين ألفا.
وعن السّدّي قال: كانوا بضعة وثلاثين ألفا.
وعن ابن جرير قال: ابن زيد «2» إن اجتماعهم كان في الإسكندرية.
وسمّى ابن إسحاق رؤساءهم: سابور، وعازور، وخطخط، ومصفي، وشمعون.
2- فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الآية 45] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: عصا موسى اسمها: ماشا.
وقيل: نبعة. حكاه في «الكشاف» .
3- لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الآية 54] .
أخرج ابن أبي حاتم، عن طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف. وأخرج مثله عن ابن مسعود وغيره.
وأخرج، من طريق آخر، عن ابن مسعود: أنهم ستّمائة ألف وسبعون ألفا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . زيادة من «تفسير الطبري» . [.....](6/149)
وعن قتادة: أنهم خمسمائة وثلاثة آلاف وخمسمائة.
وعن السّدّي: ستمائة ألف وعشرون ألفا.
4- أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 197] . أخرج ابن أبي حاتم، وابن سعد، عن عطية في هذه الآية قال: كانوا خمسة: أسد، وأسيد، وابن يامين، وثعلبة، وعبد الله بن سلام.(6/150)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشعراء» «1»
1- وقال تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) .
فقالوا: كيف صح مجيء «خاضعين» خبرا عن «الأعناق» ؟
الجواب: أصل الكلام: فظلّوا لها خاضعين فأقحمت «الأعناق» لبيان موضع الخضوع.
وقرئ: (فظلّت أعناقهم لها خاضعة) .
أقول: والقراءة الصحيحة التي توافق العربية القراءة الأخيرة، غير أني أرى أن في القراءة المثبتة في المصحف، وهي موضع درسنا، مراعاة للتناسب في فواصل الآيات، فقد بنيت هذه الفواصل على أن تنتهي بالنون في كلمات موزونة على بناء واحد أو متشابه وهي: مؤمنين، خاضعين، معرضين، يستهزئون، كريم، رحيم، مؤمنين، ظالمين.
أقول أيضا: إن مراعاة التناسب في الأصوات والأوزان متطلّبة في آي القرآن، ألا ترى أن قوله تعالى:
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) [البقرة] ، قد جاء في هذا السياق؟.
فتقديم المفعول على (تقتلون) ، يخدم ما أشرنا إليه لإحكام النظم وحسن الأداء، وإحداث الأثر في النفوس.
2- وقال تعالى: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الآية 24] .
أقول: إن احتساب السماوات
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/151)
والأرض مثنّى بدلالة الضمير في «بينهما» مثل قوله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء:
30] .
وقد كنا قلنا في هذه المسألة ما فيه الكفاية في الآية التي أشرنا إليها من سورة الأنبياء.
3- وقال تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) .
وقرئ: أرجئه وأرجه: بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخّرته. ومنه المرجئة أصحاب المقولة المعروفة.
وقوله تعالى: حاشِرِينَ، أي:
شرطا، جمع حاشر.
4- وقال تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) .
أي: أن السّحرة حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين. والمعنى خرّوا أو سقطوا وإنما عبّر بالإلقاء عن هذا المعنى، لأنه ذكر مع الإلقاءات التي وردت في الآيتين اللتين سبقتا:
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ.
5- وقال تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) .
وقوله تعالى: لَشِرْذِمَةٌ أي:
لجماعة قليلة، ومن ذلك قولهم، ثوب شراذم، أي: بلي وتقطّع قطعا.
أقول: لقد وصفت «الشرذمة» ، وهي الجماعة القليلة، بقوله تعالى قَلِيلُونَ مراعاة للمعنى، أي: أن الجماعة جماعة ذكور.
6- وقال تعالى: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) .
وقوله سبحانه: حاذِرُونَ: جمع حاذر وهو اليقظ والذي يجدّد حذره.
أقول: وقرئ: حادرون، بالدال المهملة، والحادر السمين القوي.
أي: أنهم أقوياء أشدّاء.
7- وقال تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) .
أقول: ومن المفيد أن نلاحظ أن «عين الماء» لم تجمع في القرآن إلا على «عيون» ، في حين أن العين الباصرة جمعت على «أعين» .(6/152)
8- وقال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الآية 63] .
الفرق: هو الجزء المتفرّق منه، وقرئ: «فلق» .
أقول: ومجيء «فرق» بالكسر فالسكون لكونه اسما، والمصدر على «فعل» بالفتح فالسكون، وكنا قد عرضنا لهذه المسألة غير مرة.
9- وقال تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) .
ومثل هذه الآية: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) .
وقوله سبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) .
وقوله جلّ وعلا: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) .
ومثله قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ.
أقول: لقد لحقت تاء التأنيث الفعل على أن الفاعل مؤنث، وعلى هذا تكون «عاد» ، بمعنى أمّة، وكذلك ثمود. أما «قوم» فمعناها قبيلة أو جماعة. ولو روعي اللفظ لعدّت مذكرة، كما ورد في آيات كثيرة، وكنا عرضنا لشيء من هذا. 10- وقال تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) .
وقرئ: الجبلة بوزن الخلقة، والجبلّة بوزن الأبلّة، والمعنى واحد.
أقول: ووصف الجبلّة، وهي مؤنث بالأولين، جاء لمراعاة المعنى، كما في قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) .
11- وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) [الآية 196] .
وقوله تعالى: وَإِنَّهُ، أي: القرآن في زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أي: في سائر الكتاب السماوية. والزبر جمع زبور وهو الكتاب المكتوب.
وكنا قد مررنا على هذه الكلمة في آية سابقة.
12- وقال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) .
أقول: وقوله سبحانه: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ أي، واحد من الأعجمين، وهنا أفادت كلمة (بعض) الواحد بدلالة قوله جلّ وعلا: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ.
13- وقال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) .(6/153)
أقول: قرأ الحسن: «الشياطون» ، ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخيّر بين أن يجري الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيّرت العرب بين أن يقولوا: هذه يبرون ويبرين، وفلسطون وفلسطين.
وحمل الفرّاء قراءة الحسن على الغلط.(6/154)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشعراء» «1»
قال تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الآية 4] . يزعمون انها على الجماعات نحو «هذا عنق من الناس» يعنون «الكثير» أو ذكّر كما يذكّر بعض المؤنث لمّا أضافه الى مذكّر. وقال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد السادس والخمسون بعد المائتين] :
باكرتها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا «3»
فجماعات هذا «أعناق» ، أو يكون ذكّره لإضافته إلى المذكّر كما يؤنّث لإضافته الى المؤنث نحو قوله «4» [من الطويل وهو الشاهد السابع والخمسون بعد المائتين] :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم
وقال آخر [من الرجز وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد المائتين] :
لما رأى متن السّماء انقدّت ... وقال «5» [من الطويل وهو الشاهد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو النابغة الجعدي. شعر النابغة الجعدي 4، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 240، وشرح المغني للسيوطي 265، واللسان «نعش» ، والصاحبي 250.
(3) . في الديوان «شربت بها» بدل «باكرتها» ، وكذلك في شرح شواهد المغني للسيوطي والمغني 2: 365، وفي مجاز القرآن 2: 83 و 93 ب «شربت» إذا ما الديك، وفي مجاز القرآن 1: 276 و 2: 38، و «اللسان» الصحاح» «نعش» ب «تمززتها» بدل «شربت بها» .
(4) . هو الأعشى ميمون. الصبح المنير 94، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 25.
(5) . هو الفرزدق. ديوانه 2: 552، والصحاح واللسان «قبض» .(6/155)
التاسع والخمسون بعد المائتين] :
إذا القنبضات السّود طوّفن بالضّحى ... رقدن عليهنّ الحجال المسجّف
و (القنبض) : القصير. وقال آخر «1» [من الطويل وهو الشاهد الستون بعد المائتين] :
وإنّ امرأ أهدى إليك ودونه ... من الأرض موماة وبيداء خيفق «2»
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته وأن تعلمي أنّ المعان موفّق «3» فأنّث. والمحقوق هو المرء. وانما أنث لقوله «أن تستجيبي لصوته» ويقولون: «بنات عرس» و «بنات نعش» و «بنو نعش» وقالت امرأة من العرب «أنا امرؤ لا أحبّ الشرّ» . وذكر لرؤبة رجل فقال «كان أحد بنات مساجد الله» كأنه جعله حصاة. وقال تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الآية 16] وهذا يشبه ان يكون مثل «العدوّ» وتقول «هما عدوّ لي» .
وقال تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الآية 22] فيقال هذا استفهام كأنّه قال «أو تلك نعمة» ، ثم جاء التفسير بقوله تعالى: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 22] وجعله بدلا من النعمة.
وقال: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ [الآية 72] أي: «هل يسمعون منكم» أو «هل يسمعون دعاءكم» . فحذف «الدعاء» كما قال الشاعر «4» [من البسيط وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائتين] :
القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القدّ والأبقا «5»
يريد: أحكمت حكمات الأبق.
فحذف «حكمات» وأقام «الأبق»
__________
(1) . هو الأعشى ميمون. الصبح المنير 149 ومجاز القرآن 1: 244 و 2: 39 و 47.
(2) . في الديوان «أسرى» بدل «أهدى» و «فياف تنوفات» بدل من «الأرض موماة» وفي الإنصاف 1: 43 «أسرى» أيضا.
وفي مجاز القرآن 1: 244 «بهماء» بدل «بيداء» . وفي مجاز القرآن 2: 47 «سملق» بدل «خيفق» .
(3) . في الإنصاف 1: 42 «دعاءه» بدل «لصوته» .
(4) . هو زهير بن ابي سلمى المزني. ديوانه 49، والتهذيب 9: 355 «ابق» ، والصحاح واللسان «أبق» و «حكم» .
«وزهم» .
(5) . البيت بهذه الصيغة في المصادر السابقة، وهناك بيت آخر لزهير أيضا في ديوانه 44 و 153، والكامل 2: 608، واللسان والصحاح «حكم» و «زهم» صدر كصدره أما عجزه فهو: «منها الشنون ومنها الزاهق الزهم» .(6/156)
مقامها. و «الأبق» : الكتّان «1» .
وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ [الآية 197] ، اسم في موضع رفع مثل ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الجاثية: 25] . ولكن هذا لا يكون فيه إلا النصب في الأول أَنْ يَعْلَمَهُ هو الذي يكون آية، وقد يجوز الرفع، وهو ضعيف «2» .
وقال تعالى: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ [الآية 198] واحدهم «الأعجم» وهو إضافة كالأشعرين. وقال تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ ليس بمعطوف على (حتّى) وإنّما هو جواب لقوله سبحانه لا يُؤْمِنُونَ بِهِ فلما كان جوابا للنفي انتصب، وكذلك فَيَقُولُوا [الآية 203] إنّما هو جواب للنفي.
وقال تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) [يس] «3» أي: فاسمعوا مني.
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 2: 755 و 756 والجامع 13: 109.
(2) . نصب (آية) قراءة نسبت في السبعة 973، والكشف 2: 152، والتيسير 166، والجامع 13: 129، إلى غير ابن عامر أمّا القراءة برفع (آية) فنسبت في المراجع السابقة كلّها الى ابن عامر وحده وفي البحر 7: 41 زاد الجحدري.
(3) . لا مسوّغ لا يراد هذه الآية في هذا الموضع. [.....](6/157)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشعراء» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الآية 4] والأعناق لا تخضع؟
قلنا: قيل أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله، كقولهم ذهبت أهل اليمامة، كأنّ كلمة أهل غير مذكورة. ومثله قول الشاعر:
رأت مرّ السّنين أخذن منّي كما أخذ السّرار من الهلال أو لمّا وصفت الأعناق بالخضوع، الذي هو من صفات العقلاء، جمعت جمع العقلاء كقوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] . وقيل: الأعناق رؤساء الناس ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق، كما قيل لهم الرؤوس والنواصي والوجوه، وقيل: الأعناق الجماعات يقال:
جاءني عنق من الناس أي جماعة، وقيل إن ذلك لمراعاة الفواصل.
فإن قيل: لم قال تعالى: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الآية 16] بالإفراد، وقال تعالى في موضع آخر: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: 47] بالتثنية؟
قلنا: الرسول يكون بمعنى المرسل فيلزم تثنيته، ويكون بمعنى الرسالة التي هي مصدر فيوصف به الواحد والاثنان والجماعة كما يوصف بسائر المصادر، والدليل على أنه يكون بمعنى الرسالة قول الشاعر:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/159)
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول أي برسالة. الثاني: أنهما، لاتّفاقهما في الأخوّة والشريعة والرسالة، جعلا كنفس واحدة. الثالث: أن تقديره: أن كل واحد منا رسول رب العالمين.
الرابع: أن موسى (ع) كان الأصل، وهارون (ع) كان تبعا له، فأفرد إشارة إلى ذلك.
فإن قيل: لم قال موسى (ع) ، كما ورد في التنزيل، معتذرا عن قتل القبطي: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) والنبيّ لا يكون ضالا؟
قلنا: أراد به وأنا من الجاهلين.
وقيل أراد من المخطئين، لأنه ما تعمد قتله. كما يقال: ضلّ عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ. وقيل من الناسين، كقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] .
فإن قيل: لم قال فرعون، كما ورد في التنزيل: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) ، ولم يقل ومن رب العالمين؟
قلنا: هو كان أعمى القلب عن معرفة الله سبحانه وتعالى، منكرا لوجوده فكيف ينكر عليه العدول عن «من» إلى «ما» . الثاني أن «ما» لا تختص بغير العاقل بل تطلق على العاقل وسواه، قال الله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] .
وقال الله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3 و 5] .
فإن قيل: لم قال موسى (ع) كما ورد في التنزيل: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) ، علق كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما، بشرط كون فرعون وقومه موقنين، وهذا الشرط منتف، والربوبية ثابتة فكيف صح التعليق؟
قلنا: معناه الأول إن كنتم موقنين أن السماوات والأرض وما بينهما موجودات، وهذا الشرط موجود.
الثاني: أن «إن» نافية لا شرطية.
فإن قيل: إنّ ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب ذكر المخلوقات كلها، فما الحكمة في قوله تعالى بعد ذلك: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الآية 28] ؟(6/160)
قلنا: أعاد ذكرها تخصيصا لها وتمييزا، لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والنقل من هيئة إلى هيئة، ومن حال إلى حال، من وقت ولادته إلى وقت وفاته ثم خص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في الاخر، على تقدير مستقيم في فصول السنة، وحساب مستو، من أظهر ما يستدلّ به على وجود الصانع.
ولظهوره انتقل خليل الله صلوات الله عليه وسلامه، إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة: 258] .
فإن قيل: لم قيل أوّلا: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) وقيل آخرا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) ؟
قلنا: كان اللين واللطف أوّلا، فلما برز عنادهم وإصرارهم كان قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) ردّا على افتراء فرعون، كما ورد في التنزيل حكاية على لسانه إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) .
فإن قيل: القول: «لأسجننك» أوجز من لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) فلم عدل عنه؟
قلنا: كان مراده تعريف العهد، فكأنه قال لأجعلنّك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني. وكان إذا سجن إنسانا طرحه في هوة عميقة جدّا مظلمة، وحده لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أوجع من القتل، وأشد نكاية.
فإن قيل: قصة موسى (ع) مع فرعون والسّحرة ذكرت في سورة الأعراف، ثم في سورة طه، ثم في هذه السورة، فما الحكمة من تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟
قلنا: أولا: تأكيد التحدي وإظهار الإعجاز، كما أن المبارز إذا خرج من الصف، قال «نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز» ، مكرّرا ذلك. يقال:
ولهذا سمّى الله تعالى القرآن مثاني لأنه ثنيت فيه الأخبار والقصص.
فإن قيل: لم كرر الله تعالى ذكر قصة موسى (ع) أكثر من قصص غيره من الأنبياء (ع) ؟
قلنا: لأن أحواله كانت أشبه بأحوال النبي (ص) من أحوال غيره من(6/161)
الأنبياء، في إقامته الحجج، وإظهاره المعجزات لأهل مصر وإصرارهم على تكذيبه والجفاء عليه، كما كان حال النبي (ص) مع أهل مكة.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ [الآية 61] والترائي «تفاعل» مشتقّ من الرؤية، فيقتضى وجود رؤية كل جمع للجمع الاخر، والمنقول أن بعضهم لم ير بعضا، فإن الله تعالى أرسل غيما أبيض، فحال بين العسكرين حتى منع رؤية بعضهم بعضا؟
قلنا: الترائي يستعمل بمعنى التداني والتقابل أيضا، كما قال (ص) :
«المؤمن والكافر لا يتراءيان» ، أي لا يتدانيان، ويقال: دورنا تتراءى: أي تتقارب وتتقابل.
فإن قيل: لم قال تعالى حكاية على لسان إبراهيم (ع) : وَإِذا مَرِضْتُ [الآية 80] ، ولم يقل: «وإذا أمرضني» ، كما قال قبله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) .
قلنا: لأنه كان في معرض الثناء على الله تعالى وتعديد نعمه، فأضاف إليه الخير المحض حفظا للأدب، وإن كان الكلّ مضافا إليه، ونظيره، كما ورد في التنزيل، قول الخضر (ع) فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: 79] وقوله: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف: 82] .
فإن قيل: هذا الجواب يبطل بقوله تعالى: وَالَّذِي يُمِيتُنِي [الآية 81] ويقوله: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما [الكهف:
81] .
قلنا: إنما أضاف الموت إلى الله تعالى لأنه سبب لقائه إياه وانتقاله إلى دار كرامته، فكان نعمة من هذا الوجه.
وقيل: إنما أضاف المرض إلى نفسه، لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه.
فإن قيل: لم قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) والمال الذي أنفق في طاعة الله تعالى وسبيله ينفع، والولد الصالح ينفع، والولد الذي مات صغيرا يشفع، وشواهد ذلك كثيرة من الكتاب والسّنّة، خصوصا قوله (ص) «إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلّا من ثلاث» ، الحديث؟
قلنا: المراد بالآية أنهما لا ينفعان غير المؤمن، فإنه هو الذي يأتي بقلب سليم من الكفر، أو المراد بهما مال لم ينفق في طاعة الله تعالى، وولد بالغ غير صالح.(6/162)
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) أي قربت، والجنة لا تنقل من مكانها ولا تحوّل؟
قلنا: فيه قلب معناه: وأزلف المتقون إلى الجنة، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا. وقيل معناه: أنها كانت محجوبة عنهم، فلما رفعت الحجب بينهم وبينها كان ذلك تقريبا لها.
فإن قيل: لم جمع الشافع، ووحّد الصديق في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) ؟
قلنا: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ولهذا روي أن أحد الحكماء سئل عن الصديق، فقال: هو اسم لا معنى له، أراد بذلك عزّة وجوده.
ويجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو.
فإن قيل: لم قرن بين الأنعام والبنين في قوله تعالى أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) ؟
قلنا: لأن الأنعام كانت من أعز أموالهم عندهم، وكان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها، فلهذا قرن بينهما. فإن قيل: القول أوعظت أم لم تعظ أوجز من: أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) ، فكيف عدل عنه؟
قلنا: المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا وهذا أبلغ في قلة الاعتداء بوعظه من القول أو لم تعظ.
فإن قيل: قوله تعالى: فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ لم أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم، وقد قال (ص) «الندم توبة» ؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ندموا حين رأوا العذاب، وذلك ليس وقت التوبة، كما قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] .
وقيل كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل، لا ندم توبة فلذلك لم ينفعهم.
فإن قيل: لم طلب لوط (ع) تنجيته من اللّواط، بقوله كما ورد في التنزيل:
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) واللّواط كبيرة من الكبائر، والأنبياء معصومون من الكبائر؟(6/163)
قلنا: مراده رب نجّني وأهلي من عقوبة عملهم أو من شؤمه، والدليل على ذلك ضمّه أهله إليه في الدعاء، واستثناء الله تعالى امرأته من قبول الدعوة.
فإن قيل: لم قال تعالى في قصة شعيب (ع) : إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الآية 177] ولم يقل أخوهم، كما قال تعالى في حق غيره هنا، وكما قال في حقه في موضع آخر؟
قلنا: لأنه هنا ذكر مع أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم، وإنما كان من نسل مدين، كذا قال مقاتل. وفي الحديث أن شعيبا (ع) أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة. وقال ابن جرير الطبري: أهل مدين هم أصحاب الأيكة، فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفا.
فإن قيل: ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح (ع) وإثباتها في قصة شعيب، في قولهم كما ورد في التنزيل: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الآية 154] ووَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الآية 186] ؟
قلنا: الفرق بينهما أنه، عند إثبات الواو، يكون المقصود معنيين كلاهما مناف للرسالة عندهم: التّسخير والبشرية. وعند حذف الواو، يكون المقصود معنى واحدا منافيا لها، وهو كونه مسخّرا ثم قرروا التسخير بالبشرية، كذا أجاب الزمخشري رحمه الله.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الكهنة والمتنبّئة كشقّ وسطيح ومسيلمة: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الآية 223] بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم، والأفّاك الكذّاب، والأثيم الفاجر، ويلزم من هذا أن يكونوا كلهم كذّابين؟
قلنا: الضمير في قوله تعالى:
وَأَكْثَرُهُمْ عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفّاك.(6/164)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الشعراء» «1»
قوله سبحانه: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) وهذه استعارة. والمراد بها: العبارة عن التقارب والتداني. وإنما قلنا إن اللفظ مستعار، لأنه قد يحسن أن يوصف به الجمعان، وإن لم ير بعضهم بعضا بالموانع، من مثار العجاج، ورهج الطراد. لأن المراد به تقارب الأشخاص، لا تلاحظ الأحداق، وذلك كقولهم في الحيّين المتقاربين:
تتراءى ناراهما. أي تتقابل وتتقارب، لكون النارين بحيث لو كان بدلا منهما إنسانان لرأى كل واحد منهما صاحبه.
وقد أومأنا إلى ذلك فيما مضى «2» .
ويقال أيضا: «قوم رئاء» ، على وزن فعال أي يقابل بعضهم بعضا. وكذلك «بيوتهم رئاء» إذا كانت متقابلة. ذكر ذلك أحمد بن يحيى ثعلب «3» .
ومن هذا الباب الحديث المشهور عن النبي (ص) ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك» . قيل: ولم يا رسول
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في الكلام في مجازات سورة الفرقان. الآية رقم 12.
(3) . لم نجد لذلك ذكرا في «مجالس ثعلب» التي نشرتها «دار المعارف» بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون.
ووجدنا ذلك في «الأساس» للزمخشري. وثعلب هو إمام الكوفيين في النحو واللغة. اشتهر بالرواية والحفظ والصدق، وكان ثقة. ومات بصدمة فرس سقط بسببها في هوة، فتوفي على الأثر سنة 291 هـ.(6/165)
الله؟ قال: «لا تتراءى ناراهما» . وقد استقصينا الكلام على معنى هذا الخبر في كتاب «مجازات الآثار النبوية» .
وقوله سبحانه: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) وهذه استعارة. والمراد بها، والله أعلم، فاحكم بيننا وبينهم حكما قاطعا، وأمرا فاصلا: بفتح الباب المبهم بعد ما استصعب رتاجه، وأعضل علاجه.
ويقال للحاكم: الفتّاح، لأنه يفتح وجه الأمر بعد اشتباهه واستبهام أبوابه.
وقال تعالى: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26] . وقال بعض بني ذهل بن زيد بن نهد:
وعمّي الّذي كانت فتاحة «1» قومه إلى بيته حتّى يجهّز غاديا أي كان الحكم بين قومه، فيه وفي أهل بيته، إلى حين وفاته. وقال فتاحة قومه بكسر الفاء، لأنها في معنى الولاية والزعامة وما يجري مجراهما. وقوله سبحانه: وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وهذه استعارة. والمراد «بالهضيم» هاهنا على بعض الأقوال، والله أعلم، الذي قد ضمن «2» بدخول بعضه في بعض، فكأنّ بعضه هضم بعضا لفرط تكاثفه، وشدة تشابكه.
وقيل: الهضيم اللطيف. وذلك أبلغ في صفة الطّلع الذي يراد للأكل.
وذلك مأخوذ من قولهم: فلان هضيم الحشا. أي لطيف البطن. وأصله النقصان من الشيء. كأنه نقص من انتفاخ بطنه، فلطفت معاقد خصره.
ومنه قوله تعالى: فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) [طه] أي نقصا وثلما.
وقيل الهضيم الذي قد أينع وبلغ.
وقيل أيضا هو الذي إذا مسّ تهافت من كثرة مائه، ورطوبة أجزائه.
والقولان الأخيران يخرجان الكلام عن حد الاستعارة.
وقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
__________
(1) . وفي «اللسان» الفتاحة بالضم: الحكم، والفتاحة والفتاحة أن تحكم بين خصمين. والفتاحة: الحكومة. قال الأشعر الجعفي:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ... فإني عن فتاحتكم غنيّ
والفتّاح: الحاكم. وأهل اليمن يقولون للقاضي: الفتّاح.
(2) . هكذا بالأصل. ولعلها ضمّ.(6/166)
وهذه استعارة. وليس هناك تقلّب منه على الحقيقة. وإنما المراد به تقلّب أحواله بين المصلّين وتصرّفه فيهم بالركوع والسجود، والقيام والقعود. وذهب بعض العلماء في تأويل هذه الآية مذهبا آخر، فقال:
المراد بذلك تقلّب الرسول (ص) في أصلاب الآباء المؤمنين. واستدل بذلك على أن آباءه إلى آدم (ع) مسلمون، لم تختلجهم خوالج الشرك، ولم تضرب فيهم أعراق الكفر، تكريما له عليه السلام عن أن يجري إلا في منزّهات الأصلاب، ومطهّرات الأرحام. وهذا الوجه يخرج به الكلام عن أن يكون مستعارا.
وقوله سبحانه: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المراد بها أنهم يشغلون أسماعهم، ويديمون إصغاءهم ليسمعوا من أخبار السماء ما يموّهون به على الضّلّال من أهل الأرض، وهم عن السمع بمعزل، وعن العلم بمزجر. وذلك كقول القائل لغيره: قد ألقيت إليك سمعي. أي صرفته إلى حديثك، ولم أشغله بشيء غير سماع كلامك. والتأويل الاخر أن يكون السّمع هاهنا بمعنى المسموع، كما يكون العلم بمعنى المعلوم، فيكون التأويل أن الشياطين يلقون ما يدّعون أنهم يستمعونه إلى كل أفّاك أثيم، من أعداء النبي (ص) ، على طريق الوسوسة واعتماد القدح في الشريعة. وهذا الوجه يخرج الكلام عن حد الاستعارة.
وقوله سبحانه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) . وهذه استعارة. والمراد بها، والله أعلم، أن الشعراء يذهبون في أقوالهم المذاهب المختلفة، ويسلكون الطرق المتشعّبة. وذلك كما يقول الرّجل لصاحبه إذا كان مخالفا له في رأي، أو مباعدا له في كلام: أنا في واد، وأنت في واد. أي أنت ذاهب في طريق وأنا ذاهب في طريق. ومثل ذلك قولهم: فلان يهبّ مع كل ريح، ويطير بكل جناح، إذا كان تابعا لكل قائد، ومجيبا لكل ناعق.
وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر في وجوه الكلام من مدح وذم، واستزادة، وعتب، وغزل، ونسيب، ورثاء، وتشبيب، فشبّهت هذه الأقسام(6/167)
من الكلام بالأودية المتشعبة، والسبل المختلفة.
ووصف الشعراء بالهيمان فيه فرط مبالغة في صفتهم بالذهاب في أقطارها، والإبعاد في غاياتها. لأن قوله سبحانه: يَهِيمُونَ (225) أبلغ في هذا المعنى من قوله: «يسعون» ، و «يسيرون» . ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ولا رجاحة معه، فهي مخالفة لصفات ذي الحلم الرزين، والعقل الرصين.(6/168)
سورة النّمل 27(6/169)
المبحث الأول أهداف سورة «النمل» «1»
سورة النمل سورة مكية، آياتها 93 آية، نزلت بعد سورة الشعراء. وسميت بسورة النمل، لاشتمالها على مناظرة النمل مع سليمان (ع) ، الواردة في قوله تعالى:
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) .
نظام السورة
هذه السورة مجاورة لسورة الشعراء، وهي تمضي على نسقها في الأداء:
مقدمة تمضي على نسقها في الأداء:
مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه، وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتّى الأمم، للعبرة والتدبّر في سنن الله وسنن الدعوات.
موضوع السورة
موضوع سورة النمل الرئيسي، كسائر السور المكية، هو العقيدة: الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، والإيمان بالوحي، وأن الغيب كلّه لله لا يعلمه سواه، والإيمان بأن الله هو الخالق الرزّاق واهب النعم وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/171)
والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلّا بالله.
القصص في سورة النمل
يأتي القصص في سورة النمل لتثبيت أهداف السورة، وتصوير عاقبة المكذّبين بها، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة موسى (ع) تلي مقدّمة السورة، حلقة رؤيته للنار، وذهابه إليها، وندائه من الملأ الأعلى، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله، وهم على يقين من صدقها، وعاقبة التكذيب مع اليقين:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) .
واستغرقت هذه الحلقة، من قصة موسى، من الآية 7 إلى الآية 14.
قصة داود وبلقيس
استغرقت الآيات [15- 44] في الحديث عن داود وسليمان وبلقيس.
وبدأت بالإشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان عليهما السلام ثم ذكرت قصة سليمان مع النملة، ومع الهدهد، ومع ملكة سبأ وقومها، وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة، وهي نعمة العلم والملك والنّبوّة مع تسخير الجن والطير لسليمان وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.
قصة بلقيس
تبدأ قصة بلقيس بأن يتفقّد سليمان الطير، ويبحث عن الهدهد فلا يجده، ثم يجيء الهدهد بعد ذلك، وهو هدهد عجيب صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض الأخبار، فيخبر سليمان أنه رأى ملكة ولها رعية كبيرة في بلاد سبأ، ورآهم في نعمة وغنّى، ولكنهم يسجدون للشمس من دون الله، فيكتب له سليمان رسالة ليلقيها إليهم، وفيها كما ورد في التنزيل:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) .
فلما ألقاها على الملكة، جمعت قومها لتستشيرهم فيها. فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد، وفوّضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة(6/172)
الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه، فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهدّدهم بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها، فلم تجد الملكة مفرّا من أن تذعن له وتسافر إلى مقرّ ملكه، فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن بأنه يمكنه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه بأنه يمكنه أن يأتيه به قبل مرور طرفة عين، فشكر سليمان ربه أن جعل في ملكه مثل هذا الرجل المؤمن المتصل بالله سبحانه.
وأمر سليمان قومه أن يغيّروا شيئا من شكل العرش ليختبر ذكاءها، فانتهت الملكة إلى جواب ذكي أريب:
قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ [الآية 42] .
فهي لا تنفي ولا تثبت، ودلّت على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة، ثم تعرّضت بلقيس لمفاجأة أخرى، في قصر من البلّور أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجّة.
فلما قيل لها ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض في لجة الماء وكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها، وقال: «إنه صرح مملّس من زجاج» .
ووقفت الملكة متعجبة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخّر له قوى أكبر من طاقة البشر، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان- لا لسليمان- ولكن لله رب العالمين.
لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(44) .
قصة صالح ولوط عليهما السلام
وفي أعقاب قصة بلقيس نجد الآيات [45- 53] تتحدث عن نبي الله صالح ومكر قومه في حقه. ونجد الآيات [54- 59] تتحدث عن نبي الله لوط وارتكاب قومه لفاحشة اللواط بالرجال، ومحاولة لوط تقديم النصيحة لهم دون جدوى، بل هددوه بالطرد والنفي، فأنجاه الله وأمطر قومه حجارة من السماء فأهلكتهم، فبئس مطر الهالكين الخاطئين.(6/173)
أدلة القرآن على وجود الله
في ختام سورة النمل نجد آيات قوية تتحدث عن قدرة الله ومظاهر العظمة والقدرة في هذا الوجود.
لقد استعرضت السورة في بدايتها حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط، عليهم السلام جميعا، استغرقت الآيات [7- 59] .
أما الآيات الأخيرة في السورة [60- 93] ، فإنها تجول جولة هادفة في تثبيت العقيدة، جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس وأطواء الغيب، وفي أشراط الساعة، ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات والأرض إلّا من شاء الله.
في هذه الجولة الأخيرة، يستعرض القرآن أمام الناس مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس، لا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبّر القدير.
ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثّرة، تأخذ عليهم أقطار النفس وأقطار المشاعر، وهو يطرح عليهم أسئلة متلاحقة: من خلق السماوات والأرض؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة؟
من جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ من يجعلكم خلفاء الأرض؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر؟ من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته من يبدأ الخلق ثم يعيده؟
من يرزقكم من السماء والأرض؟ وفي كل مرة يقرّعهم: أإله مع الله؟ وهم لا يملكون أن يقولوا: إن إلها مع الله يفعل شيئا من هذا كله، وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله! وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب، لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم، يستعرض تكذيبهم بالآخرة وتخبّطهم في أمرها، ويعقّب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.
ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول فزع، ويرجع(6/174)
بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر، وكأنما يهزّ قلوبهم هزّا ويرجّها رجّا.
وتختم السورة بحمد الله الذي يستحق الحمد وحده، وتكلهم إلى الله يريهم آياته، ويطّلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) .(6/175)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النمل» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النمل بعد سورة الشعراء، ونزلت سورة الشعراء فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة النمل في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لورود اسم النمل في قوله تعالى في الآية 18 منها: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، وتبلغ آياتها ثلاثا وتسعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة التنويه بشأن القرآن أيضا، ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة، لأنها تشبهها في غرضها، وقد جاء أوّلها في بيان ما فيه من الهداية والبشارة للمؤمنين، والترهيب للكافرين ثم انتقل السّياق منه إلى الترغيب والترهيب بذكر بعض قصص الأنبياء والصالحين، ثم انتقل منهما إلى التنويه بشأنها وشأن أصحابها، والموازنة بين من ينزّل مثلها وبين آلهتهم في عجزها وضعفها، إلى غير هذا مما ختمت به هذه السورة.
التنويه بشأن القرآن الآيات [1- 6]
قال الله تعالى: طس تِلْكَ آياتُ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/177)
الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) .
فنوّه بشأن القرآن وذكر جلّ شأنه، أنه هدّى وبشرى لمن يؤمن به، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويؤمن بالآخرة وأنه سبحانه زيّن للذين لا يؤمنون بالآخرة أعمالهم، فضلّوا عنه، ثم ذكر أن لهم سوء العذاب، وأنهم في الاخرة هم الأخسرون: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) .
الترغيب والترهيب بقصص الأنبياء والصالحين الآيات [7- 58]
ثم قال تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فذكر قصة موسى حينما أعطاه آية عصاه يلقيها فتهتزّ كأنها جانّ (حية صغيرة) ، وآية يده يدخلها في جيبه، فتخرج بيضاء من غير سوء ثم أرسله بهما إلى فرعون وقومه، لأنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءهم بآياته، زعموا أنها سحر مبين: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) .
ثم انتقل السياق منها إلى قصة داود وسليمان عليهما السلام، فذكر أنه سبحانه آتاهما علما فعملا به وحمداه عليه، وأنه كان مما آتاه سليمان علم منطق الطير وتسخير كثير من الأشياء له، وأن سليمان جمع جنوده من الجن والإنس والطير، فساروا حتى إذا أتوا على وادي النمل أمرت نملة جماعتها من النمل أن يدخلوا مساكنهم، لئلا يحطمهم سليمان بجنوده، ففهم سليمان أمرها وتبسّم سرورا من إدراكه له، وطلب من الله عزّ وجلّ أن يعينه في شكره على تلك النعمة العظيمة، ثم ذكر السياق أن سليمان تفقّد الطير فلم ير الهدهد فسأل عنه، وكان قد طار إلى سبأ باليمن فلم يمكث إلا قليلا حتى رجع منها، وأخبره بأنه وجد امرأة تملك سبأ، وأنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، فكتب له رسالة ليلقيها إليهم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) . فلمّا ألقاها على الملكة جمعت قومها لتستشيرهم فيها، فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد، وفوّضوا أمر ذلك إليها، فذكرت لهم أن عاقبة الحرب إفساد الديار، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه فلما جاءته الهدية لم يقبلها، وهدّدهم(6/178)
بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها، فلم تجد الملكة مفرّا من أن تذعن له، وتسافر إلى مقرّ ملكه فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها، فأخبره عفريت من الجن بأنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه، وأخبره عالم من علماء قومه بأنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يرتدّ إليه طرفه، فشكر الله أن جعل في ملكه من يستطيع إحضار ذلك العرش في هذا الزمن، وقد أمرهم أن يغيّروا شيئا من شكله ليعرضه عليها، وينظر: أتعرف أنه عرشها أم لا تعرفه، ليختبر بذلك عقلها فلما جاءت عرض عليها وقيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو، وذكرت أنها آمنت بالله وبقدرته من قبل هذه الآية ثم إنّ سليمان أمرها أن تدخل الصّرح، وكان قصرا من زجاج تحته ماء فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها، فأخبرها بأنه صرح ممرّد من قوارير، فعجبت من ذلك، وآمنت بقدرة الله الذي أعطاه هذا الملك: الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(44) .
ثم انتقل السّياق إلى قصة صالح وقومه ثمود، وقصة لوط وقومه، وهما هنا يخالفان ما سبق منهما في سياقهما وأسلوبهما، وفي ذكر بعض زيادات لم تسبق فيهما.
التنويه بهذه القصص وأصحابها الآيات [59- 93]
ثم قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) فأمر الله سبحانه، رسوله الأكرم (ص) أن يحمد الله على ما تلاه عليه من هذه القصص، وأن يسلم على من اصطفاه من أصحابها، وأن يسأل أولئك الذين لا يؤمنون بتنزيلها: آلله الذي ينزلها خير، أم آلهتهم التي لا تقدر على إنزال شيء منها؟ وقد ذكرت موازنات أخرى بعد هذه الموازنة، إلى أن أمروا، أمر تعجيز، بأن يأتوا ببرهان على أنها آلهة إن كانوا صادقين في زعمهم وذكر السياق أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، جلّ جلاله، ومن عداه من آلهتهم وغير هم لا يشعرون أيّان يبعثون. ومع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة، ولكنهم شاكّون جاهلون، ومن أسباب ذلك فيهم أنهم يستبعدون أن يبعثوا بعد(6/179)
أن يصيروا ترابا، ويزعمون أنهم قد وعدوا هذا هم وآباؤهم من قبلهم، فلم يحصل شيء منه، وقد أجاب تعالى عن هذا بأن أمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة المجرمين في الدنيا، فلا بدّ من أن يعاقبهم أيضا في الاخرة ثم ذكر استعجالهم ذلك على سبيل الاستهزاء، وأجاب عنه بأنه سيحصل لهم قريبا بعض منه في الدنيا، بتسليط المؤمنين عليهم، وأن رحمته هي التي اقتضت عدم تعجيله لهم، ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون، ثم هدّدهم على ذلك، بأنه يعلم ما يخفون وما يعلنون وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) .
ثم أعاد التنويه بشأن تلك القصص، فذكر أن القرآن يقصّ منها على بني إسرائيل أكثر ما يختلفون فيه، فيهديهم إلى ما غاب عنهم من الصواب فيها، ثم أمر الرسول (ص) أن يتوكّل عليه ولا يلتفت إلى أعدائه لأنه على الحق المبين وذكر تعالى أن الرسول لا يؤثّر فيهم لأنهم موتى لا يسمعون، وعمي لا يبصرون، وإنما يسمع من يؤمن بآياته فهم مسلمون ثم ذكر تعالى ما يكون قبل يوم القيامة من خروج دابّة تخبر الناس بما كان من جحودهم بتلك الآيات، فتؤمن بما لم يؤمنوا به، وهي من العجماوات، ثم ذكر أنهم يحشرون إلى ربهم فيوبّخهم على تكذيبهم بآياته، وأنهم لا يجدون ما يعتذرون به، فلا يمكنهم أن ينطقوا بعذر، وذكر لهم آية واحدة تقطع عذرهم، وهي ما يرونه من أنه جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، وجعل لهم النهار مبصرا وإنما آثر هذه الآية لأنهم يسكنون بالليل، ويبعثون بالنهار، كما يبعثون من الدنيا إلى الاخرة ثم ذكر ما يكون أيضا قبل يوم القيامة من النفخ في الصّور، وأنه يفزع به من في السماوات ومن في الأرض فيأتون صاغرين إليه، وأنه يجازيهم على أعمالهم، فيكون لمن جاء بالحسنة خير منها، ومن جاء بالسيّئة يكبّ في النار على وجهه.
ثم ختم السورة بأمر الرسول أن يخبرهم بأنه إنما أمر أن يعبد الله سبحانه، وحده وأن يتلو عليهم القرآن فمن اهتدى به، فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل، فليقل له إنما أنا من المنذرين وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) .(6/180)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النمل» «1»
أقول: وجه اتصالها بما قبلها، أنها كالتتمّة لها، في ذكر بقية القرون، فزاد سبحانه فيها ذكر سليمان وداود (ع) .
وبسط فيها قصة لوط (ع) أبسط ممّا هي في «الشعراء» «2» .
وقد روينا عن ابن عباس، وجابر بن زيد، في ترتيب السور: أن «الشعراء» أنزلت ثم «طه» ، ثم «القصص» ، ولذلك كان ترتيبها في المصحف هكذا.
وأيضا فقد وقع فيها: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 7] إلى آخره. وذلك تفصيل قوله تعالى في الشعراء: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) [الشعراء] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . قصة داود وسليمان (ع) في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً [الآية 15] الى أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
(44) وقصة لوط (ع) في قوله تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ [الآية 54] ، الى فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) .
وقول المؤلف: إن قصة لوط هنا أبسط منها في الشعراء مخالف للواقع، فهي في الشعراء أطول، ولكنها ذكرت في النمل مع بيان أقصى ما وصلوا إليه من الانحلال الخلقي والانتكاس العقلي إذ عدّوا طهارة لوط من الشذوذ الجنسيّ جريمة يستحق عليها النفي من البلاد. ولم يرد هذا التعليل في الشعراء. فلعلّ البسط في المعاني لا في المقدار.(6/181)
المبحث الرابع مكنونات سورة «النمل» «1»
1- وادِ النَّمْلِ [الآية 18] .
قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام «2» . أخرجه ابن أبي حاتم.
2- قالَتْ نَمْلَةٌ [الآية 18] .
قال السّهيلي: اسمها حرميا. وقيل:
طاخية حكاه الزمخشري. وقال صاحب «القاموس» : اسمها عيجلوف بالجيم.
قال ابن عسكر: حكي أن قتادة سئل عن نملة سليمان أذكر هي أم أنثى؟
فأفحم! وكان أبو حنيفة حاضرا فقال:
أنثى، لقوله تعالى: قالَتْ بالتاء «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . وادي النمل: الذي خاطب سليمان (ع) النمل فيه، قيل: هو بين جيرين وعسقلان، كما في «معجم البلدان» 5:
197.
(3) . ونقل هذه القصة الزمخشري في «الكشاف» 3: 137، وعلق عليها ابن المنير السّكندري في كتابه «الانتصاف من الكشّاف» قائلا: «لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة أن يثبت ذلك عنه وذلك أن النملة كالحمامة والشاة، تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس، يقال نملة ذكر، ونملة أنثى، كما يقولون: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وشاة ذكر، وشاة أنثى. فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر، بل هذا الفصيح المستعمل. ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام، «لا تضحي بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى:
قالَتْ نَمْلَةٌ روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء، إنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشّى عليه حكم، لأنه نسبه إلى الامام أبي حنيفة على بصيرته باللغة. ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان- أبي حنيفة- على غزارة علمة وتبصره بالمنقولات. ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له، فيا لله العجب العجاب والله الموفق للصواب» .(6/183)
3- وَعَلى والِدَيَّ [الآية 19] .
هما: داود، وأوريا ذكره الكرماني في «عجائبه» .
4- لا أَرَى الْهُدْهُدَ [الآية 20] .
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عنبر.
5- إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [الآية 23] .
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: هي بلقيس بنت شراحيل.
وأخرج مثله عن قتادة.
وأخرج عن زهير بن محمد قال:
هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، وأمّها فارعة، الجنية.
وأخرج عن ابن جريح قال: بلقيس بنت ذي سرح، وأمها بلقية «1» .
وقال ابن عسكر:
قيل: اسم أبيها اليشرح وقيل: إيلي شرخ وقيل: أمها بلمقة وقيل: يلمغة وقيل: يلمعة وقيل: رواحة.
6- قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي [الآية 32] .
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: أنّ أهل مشورتها، كانوا ثلاث مائة واثني عشر رجلا.
7- فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ [الآية 36] .
__________
(1) . في «الدر المنثور» 5: 105: «بلقته» وعن ابن عباس قال، سئل رسول الله (ص) من سبأ، أرجل هو، أم امرأة، أم أرض؟ فقال رسول الله (ص) : بل رجل ولد عشرة، سكن منهم اليمن ستة، والشام أربعة: فاليمانيون:
مذحج، وكندة، والأنمار، والأزد، والأشريون، وحمير وأما الشاميون: فلخم وجذام، وعاملة، وغسان.
وكانت بلقيس من أحسن نساء العالمين، وقال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك، وولده ملوك اليمن وتسمى بلقيس بلقمة، ويقال: إن مؤخّر قدمها كان يشبه حافر الدابة، لذلك اتخذ سليمان عليه السلام الصرح الممدد، وكان بيتا من زجاج، ويخيّل للرائي أنه يضطرب، فلما رأته كشفت عن ساقيها فلم ير غير شعر خفيف، ولذلك أمر بإحضار عرشها ليختبر عقلها ثم أسلمت وعزم سليمان على تزوّجها، فأمر الشياطين فاتخذوا الحمام والنورة، وهو أول من اتخذ ذلك ثم تزوجها، وأرادت منه ردها إلى ملكها، ففعل ذلك، وأمر الشياطين فبنوا لها باليمن الحصوة التي لم ير مثلها، وهي: غمدان وسون، وغيرهما، وأبقاها على ملكها، وكان يزورها في كل شهر مرة من الشام على البساط والريح، وبقي ملكها إلى أن توفي، فزال بملكه، والله تعالى أعلم» .
قلت: أفاد الزّركلي في «الأعلام» 2: 74 في ترجمة «بلقيس» أنها توفيت في عهد سليمان (ع) ، بخلاف ما ذكر في الحاشية السابقة. والله تعالى أعلم. [.....](6/184)
اسم الجائي: منذر. ذكره الكرماني في «عجائبه» .
8- قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ [الآية 39] .
اسمه كوزن. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي، ويزيد بن رومان.
9- قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ [الآية 40] .
قال ابن عباس وقتادة: هو آصف بن برخيا كاتبه.
وقال زهير بن محمد: هو رجل من الإنس، يقال له: ذو النّور.
وقال مجاهد: اسمه أسطوم.
وقال ابن لهيعة، هو الخضر.
أخرج كلّها ابن أبي حاتم.
وقيل، هو جبريل.
وقيل: هو ملك أيّد الله به سليمان.
وقيل: هو ضبّة أبو القبيلة.
وقيل: رجل زاهد، اسمه «مليخا» .
حكاها الكرماني في «عجائبه» .
وقيل: اسمه بلخ. حكاه ابن عسكر 10- وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [الآية 48] . أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السّدّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: كانت أسماؤهم رعمي، ورعيم، وهرمي، وهريم، وداب، وصواب، ورئاب، ومسطع، وقدار بن سالف:
عاقر الناقة.
وقد نظمهم بعضهم في بيتين فقال:
رئاب وغنم، والهذيل، ومصدع عمير، سبيط، عاصم، وقدار وسمعان، رهط الماكرين بصالح ألا إن عدوان النفوس بوار هكذا نقلته من خط الشيخ جمال الدين بن هشام في «تذكرته» وفيه مخالفة لقول ابن عبّاس «1» .
وذكر ابن هشام أن أسماء آبائهم على الترتيب: مهرع، وغنم، وعبد رب، ومهرج، وكردة، وصدقة، ومخرمة وسالف، وصيفي.
11- رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [الآية 91] .
قال ابن عباس: يعني مكة. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . ذكر السيوطي في «بغية الوعاة» أن هذا الكتاب في خمسة عشر مجلدا، قال الأستاذ عبد الغني الدقر في مقدمته ل «شرح شذور الذهب» لابن هشام ص 10: «ولم نطلع على شيء منه» .(6/185)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النمل» «1»
قال تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ [الآية 7] .
وقوله تعالى: آنَسْتُ، أي:
أبصرت ورأيت.
أقول: ويحسن بي أن أقف وقفة طويلة على: آنَسْتُ فأقول: هي من مادة «الأنس» .
وآنس الشيء: أحسّه. وآنس الشخص واستأنسه: رآه وأبصره.
وأنست بفلان: فرحت به.
وفي التنزيل العزيز: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [القصص: 29] يعني أبصر.
واستأنست: استعلمت. والاستئناس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] .
قال الفراء: هذا مقدّم ومؤخّر، إنّما هو حتى تسلّموا وتستأنسوا ...
وقال الزجاج: معنى تستأنسوا تستأذنوا.
أقول: وجميع معاني «أنس» من الأفعال والمصادر تتصل ب «الأنس» الذي هو جملة هذه المعاني من الإبصار والاستعلام والفرح والاستئذان، فلا بد من أن نجد لها أصلا في أنّ الإنسان يألف أخاه الإنسان بطبعه، فإذا اتصل به وألفه استلّ منه فعلا لهذه الحالة المعنوية من مادة «إنس» ، أي: الإنسان، والإنس
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/187)
مقابل الجن في طائفة من الآيات.
والإنس والإنسان شيء واحد، وزيادة الألف والنون لكمال صيغة جديدة.
ثم إذا وقفنا قليلا وجدنا لغة قديمة في «الإنسان» هي «إيسان» وهذه اللغة الأخيرة ذات صلة وثيقة بمادة «أيس» الذي يعني الوجود. ولم يرد هذا إلا في قول الخليل بن أحمد: أن العرب تقول جيء به من حيث «أيس، وليس» لم تستعمل «أيس» إلا في هذه الكلمة، وإنما معناها كمعنى حيث، هو في حال الكينونة والوجد مصدر «وجد» ، وقال: إنّ معنى «لا أيس» أي لا يوجد.
أقول: والذي يؤيّد هذا، ما نعرفه من أن في العبرانية من هذا شيئا هو أن إيش بمعنى رجل، ويقابله إيث في الآرامية.
ولنرجع إلى العربية فنجد أن كلمة «شيء» ، ومعناها معروف ليس بعيدا عن مادة «وجد» ، فالشيء موجود بطبعه وحقيقته، وكأن الأصل هو مقلوب «أيش» الذي يذكرنا ب «أيس» ، الذي يفيد الوجود والذي بقي شيء منه في مادة «ليس» ، أي «لا أيس» . وكان الفلاسفة على حق في التمسّك ب «الأيس» و «الليس» للدلالة على الوجود وعدمه.
2- وقال تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ [الآية 10] .
وقوله تعالى: وَلَمْ يُعَقِّبْ أي:
ولم يرجع، ويقال عقّب المقابل إذا كرّ بعد الفرار، قال:
فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا يصف قوما بالجبن وأنهم إن قيل:
هل من معقّب وراجع على عقبه للحرب؟ فما رجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب، منزلا من منازلها، أي:
لم يقدموا مرة على العدو.
أقول: وهذا من الكلم المفيد الذي كان ينبغي أن يكون له مكان في العربية المعاصرة، وذلك للحاجة إليه في أحوال مشابهة.
3- وقال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) .
المبصرة: الظاهرة البيّنة، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها، لأنهم لابسوها، وكانوا منها بنظرهم وتفكيرهم فيها.(6/188)
أقول: وهذا شيء من استعمالات لغة القرآن البديعة، التي تأتي بغير المألوف من إسناد الأفعال، وذلك يحقّق فوائد في إدراك المعاني وتصويرها، على نحو لم يلتفت إليه أهل النظر.
4- وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ [الآية 18] .
أقول جاء الفعل «يحطم» في هذه الآية فعلا ثلاثيا.
ومثله ما جاء في قوله تعالى:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) [القصص] .
والفعل «قبح» في قوله تعالى مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) ثلاثي أيضا.
أقول: والفعلان في العربية المعاصرة مزيدان بالتضعيف ولا نعرف صيغة الثلاثي فيهما فيقال: حطم القيد وحطّم الزّجاج، على الحقيقة وحطّم الأحوال، وفلان محطّم أي: متعب مريض، على سبيل المجاز.
ومثله يقال: قبّحه الله في الدعاء عليه. 5- وقال تعالى: وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [الآية 19] .
أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي: كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك، وكفّني عما يباعدني عنك.
أقول: وهذا من الأفعال ذات المعاني المفيدة.
6- وقال تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [الآية 36] .
حذفت الياء من قوله تعالى:
أَتُمِدُّونَنِ وحقها أن تثبت لأنها ضمير في موضع المفعول به، والاكتفاء بالكسرة من خط المصحف.
والاكتفاء بالكسرة ربما كان للاهتمام بالكلمة التالية، وهي بِمالٍ، فكأن قصر المد والاكتفاء بكسر النون يغري السماع، ويدفعه إلى الاهتمام بالكلمة اللاحقة.
7- وقال تعالى: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها [الآية 37] .
وقوله تعالى: لا قِبَلَ أي: لا طاقة.
أقول: لم يعرف أهل عصرنا المصدر «قبل» ، وقد استعاضوا منه المصدر الصناعي «القابلية» بمعنى(6/189)
الطاقة فهم يقولون: فلان يملك قابليات نادرة.
ولا بد من الإشارة إلى أن «القابلية» عند أهل العلوم تعني درجة القبول لعمل من الأعمال كقولهم: قابلية هذه الأرض لامتصاص الماء.
8- وقال تعالى: وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) .
«والصاغرون» جمع صاغر وهو الذليل.
والصّغار: أن يقعوا في الأسر والاستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
أقول: وقد فرّقت العربية في الأبنية باختلاف المعاني، فالمصدر صغر للدلالة على صغر الجسم طولا وعرضا. والصّغار كما أشرنا، والفعل فيهما صغر.
9- وقال تعالى: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) .
وقوله تعالى: نَكِّرُوا، أي:
اجعلوه متنكرا متغيّرا عن هيئته وشكله، كما يتنكّر الرجل للناس لئلا يعرفوه.
أقول: والتنكير بهذا المعنى مما نعرفه الآن في لغتنا المعاصرة، فيقال مثلا: جاء فلان متنكّرا، أي: متخفّيا مضلّلا من يراه لئلّا يعرفه.
10- وقال تعالى: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) .
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم: عَسى أَنْ يَكُونَ ردفكم بعضه، وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو:
دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدّي ب «من» قال:
فلما ردفنا من عمير وصحبه تولّوا سراعا والمنيّة تعنق يعني دنونا من عمير أقول: ومعنى «ردف» ، في هذه الآية من كلم القرآن الذي لا نعرفه في لغتنا المعاصرة. على أن استعماله كان في موضعه في الآية، قد أدّى المعنى أحسن الأداء.
11- وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) .
وقوله داخِرِينَ (87) أي: صاغرين.(6/190)
المبحث السادس المعاني الغوية في سورة «النمل» «1»
قال تعالى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ [الآية 8] أي: نودي بذلك.
وقال تعالى: بِشِهابٍ قَبَسٍ [الآية 7] بجعل «القبس» بدلا من «الشّهاب» وإن أضيف «الشّهاب» الى «القبس» لم ينوّن «الشهاب» وكلّ حسن.
وقال تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [الآية 11] لأن «إلّا» تدخل في مثل هذا الكلام كمثل قول العرب: «ما أشتكي إلّا خيرا» فلم يجعل قوله «إلّا خيرا» على الشكوى، ولكنه علم إذا قال لهم «ما أشتكي شيئا» أنه يذكر من نفسه خيرا. كأنه قال «ما أذكر إلّا خيرا» .
وقال تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [الآية 16] لأنها لما كانت تكلّمهم صار كالمنطق. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين] :
صدّها منطق الدجاج عن القصد
وقال [من الرجز وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :
فصبّحت والطير لم تكلّم
وقال تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا [الآية 25] يقول: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الآية 24] ل «أن لا يسجدوا» وقرأ بعضهم أَلَّا يَسْجُدُوا فجعله أمرا كأنه قيل لهم: «ألا يسجدوا» فجعله أمر كأنه قيل لهم: «ألا اسجدوا» وزيد بينهما «يا» التي تكون للتنبيه ثم أذهبت ألف الوصل التي في «اسجدوا» وأذهبت الالف التي في «يا» لأنها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(6/191)
ساكنة لقيت السين فصارت أَلَّا يَسْجُدُوا وفي الشعر»
[من الطويل وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائتين] ألا يا سلمي يا دارميّ على البلى ولا زال منهلّا بجرعائك القطر وإنّما هي: ألا يا اسلمي وقال تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ [الآية 30] على إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ [الآية 29] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ووَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ وبِسْمِ اللَّهِ مقدمة في المعنى.
وقال تعالى: لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [الآية 40] أي: لينظر أأشكر أم أكفر. كقولك: «جئت لأنظر أريد أفضل أم عمرو» .
وقال تعالى: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ [الآية 47] بإدغام التاء في الطاء، لأنها من مخرجها، وإذا استأنفت قلت:
«اطّيّرنا» .
وقال تعالى: تِسْعَةُ رَهْطٍ [الآية 48] والرهط جمع ليس له واحد من لفظه مثل «ذود» .
وقال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ [الآية 60] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ [الآية 64] حتى ينقضي الكلام. أَمَّنْ، هاهنا ليست باستفهام على قوله سبحانه:
خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) إنّما هي بمنزلة «الذي» .
وقال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 65] كما قال:
إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] وفي حرف ابن مسعود «قليلا» بدلا من الأول لأنك نفيته عنه وجعلته للآخر.
وقال تعالى: رَدِفَ لَكُمْ [الآية 72] أي «ردفكم» وأدخلت اللام فأضيف بها الفعل، كما قال لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) [يوسف] ولِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] وتقول العرب: «ردفه أمر» كما يقولون: «تبعه» و «أتبعه» .
وقال تعالى: أَنَّ النَّاسَ [الآية 82] أي: بأنّ النّاس، وبعضهم يقرأ (إنّ
__________
(1) . هو لذي الرمة غيلان، ديوانه: 559 ومجاز القرآن 2: 94 ومختار الصحاح «الياء» ، والإنصاف 1: 62، والصحاح، ولسان العرب «يا» ، وأمالي الشجري 2: 151، ومغني اللبيب 234، وشرح شواهد المغني للسيوطي 210، والمقاصد النحوية 2: 6، والدرر 1: 81 و 2: 23 و 86.(6/192)
النّاس) كما قال وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر: 3] انما معناه يقولون: «ما نعبدهم» .
قال: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) ف ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ مؤخّرة لأن المعنى «فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم» .
وقال تعالى: آياتُنا مُبْصِرَةً [الآية 13] أي: إنها تبصرهم حتّى أبصروا.
وإن شئت قرأت: (مبصرة) «1» بفتح الصاد، فقد قرأها بعض الناس، وهي جيدة يعني مبصرة مبيّنة.
__________
(1) . في البحر 7: 58 أنّ قتادة والإمام عليّ بن الحسين قرأ بفتح الميم والصاد، وكذلك في الكشاف 3: 352.(6/193)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النمل» «1»
إن قيل: ما الحكمة في تنكير الكتاب في قوله تعالى وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) .
قلنا: الحكمة في التفخيم والتعظيم كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) [القمر] .
فإن قيل: العطف يقتضى المغايرة، فلم عطف الكتاب المبين على القرآن، والمراد به القرآن؟
قلنا: قيل إن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ، فعلى هذا لا إشكال وعلى القول الاخر، فتقول العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا وإما معنى، بدليل قول الشاعر: فألفى قولها كذبا ومينا وقولهم: جاءني الفقيه والظريف والمغايرة لفظا أمر ثابت.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [الآية 4] .
وقال تعالى في موضع آخر: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال:
48] .
قلنا: تزيين الله تعالى لهم الأعمال بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء والغرور والنميمة، فصحّت الإضافتان.
فإن قيل: لم قيل هنا سَآتِيكُمْ [الآية 7] وقيل في سورة طه: لَعَلِّي آتِيكُمْ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/195)
[طه: 10] وأحدهما قطع، والاخر ترجّ، والقصة واحدة؟
قلنا: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [الآية 8] مع أنه لم يكن في النار أحد، بل لم يكن المرئي نارا، وإنما كان نورا في قول الجمهور، وقيل كان نارا ثم انقلب نورا؟
قلنا: قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهما: معناه قدّس من ناداه من النار وهو الله عزّ وجلّ، لا على معنى أن الله تعالى يحل في شيء، بل على معنى أنه أسمعه النداء من النار في زعمه. الثاني: أن «من» زائدة والتقدير بورك في النار وفيمن حولها، وهو موسى (ع) والملائكة. الثالث:
أن معناه بورك من في طلب النار وهو موسى (ع) .
فإن قيل: إنما يقال بارك الله على كذا، ولا يقال بارك الله كذا؟ قلنا: قال الفراء: العرب تقول باركه الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [الصافات: 113] . ولفظ التحيات: وبارك على محمد وعلى آل محمد.
فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [الآية 10] .
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه استثناء منقطع بمعنى لكن. الثاني: أنه استثناء متصل، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رحمهم الله، ومعناه: إلا من ظلم منهم بارتكاب الصغيرة كآدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف وموسى وغير هم صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه يخاف ممّا فعل مع علمه أني غفور رحيم، فيكون تقدير الكلام: «إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم» .
ولهذا قال بعضهم: إن هنا وقفا على قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا.
والثالث: أن «إلّا» بمعنى «ولا» ، كما في قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:
150] أي «ولا الذين ظلموا منهم» .
الرابع: أن تقديره: أني لا يخاف لدي المرسلون ولا غير المرسلين إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [الآية 11] .(6/196)
فإن قيل: لم قال سليمان (ع) كما ورد في التنزيل عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا [الآية 16] بنون العظمة، وهو من كلام المتكبّرين؟
قلنا: لم يرد به نون العظمة، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه.
الثاني: أنه كان ملكا مع كونه نبيّا فراعى سياسة الملك، وتكلم بكلام الملوك.
فإن قيل: كيف حلّ له تعذيب الهدهد، حتى قال كما ورد في التنزيل لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [الآية 21] .
قلنا: لعل ذلك أبيح له خاصّة، كما خصّ بفهم منطق الطير، وتسخيره له، وغير ذلك.
فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان (ع) حتى قال ولها عرش عظيم؟
قلنا: أولا: يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة الى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ثانيا: أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله، وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله. فإن قيل: لم ورد على لسان الهدهد قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الآية 23] مع قول سليمان صلوات الله وسلامه عليه كما ورد في التنزيل وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الآية 16] . فكأنه سوى بينهما؟
قلنا: بينهما فرق وهو أن الهدهد أراد به، وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا لأنه عطف على الملك، وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا، ويؤيّد ذلك عطفه على المعجزة، وهي منطق الطير.
فإن قيل: كيف سوّى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى في الوصف بالعظم، في قوله تعالى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ورَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) ؟
قلنا: بين الوصفين بون عظيم لأنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض وما بينهما.
فإن قيل: قوله تعالى: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) .(6/197)
إذا تولّى عنهم، فكيف يعلم جوابهم؟
قلنا: أوّلا: معناه ثم تولّ عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ماذا يرجعون. ثانيا: أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره: فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم.
فإن قيل: كيف استجاز سليمان (ع) تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى، حتّى كتب فيه، كما ورد في التنزيل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) .
قلنا: لأنه أدرك أنها لا تعرف الله تعالى وتعرف سليمان، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى.
وقيل: إن اسم سليمان كان على عنوانه، واسم الله تعالى كان في أول طيّه.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون آصف، وهو كاتب سليمان (ع) ووزيره، وليس بنبيّ يقدر على ما لا يقدر عليه النبيّ، وهو إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلنا: يجوز أن يخصّ غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول، كما خصّت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا عليه السلام لم يرزق منها وكما أن سليمان صلوات الله عليه خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي، فقال لقومه:
ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان.
وقد نقل أن النبي (ص) كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار: ادعوا لنا بالنصرة، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم. ولم يكونوا أفضل منه (ص) ، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع. قالوا: والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم، فدعا به فأجيب في الحال، وهو عند أكثر العلماء، كما قال البندنيجي، اسم الله، ثم قيل هو يا حيّ يا قيوم، وقيل يا ذا الجلال والإكرام، وقيل يا الله يا رحمن، وقيل يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت فمن أخلص النيّة، ودعا بهذه الكلمات مع استجماع شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.(6/198)
فإن قيل: لم قالت كما ورد في التنزيل أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
وهي إنّما أسلمت بعده على يده لا معه، لأنه كان مسلما قبلها؟
قلنا: إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له، بإسلامها على يده، وإن كان الواقع كذلك.
فإن قيل: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟
قلنا: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين، ثم قالوا: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [الآية 49] يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين، لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله.
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 65] ونحن نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة، وكلّها غيب؟
قلنا: معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا الله، أو بلا معلم إلا الله سبحانه، أو جميع الغيب إلا الله جلّ وعلا. وقيل معناه: لا يعلم ضمائر السماوات والأرض إلا الله.
فإن قيل قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 66] أو «أدرك» على اختلاف القراءتين، هل مرجع الضمير فيه وفي ما قبله واحد أم لا؟
وكيف مطابقة الإضراب لما قبله، ومطابقته لما بعده من الإضرابين؟
وكيف وصفوا بنفي الشعور ثم بكمال العلم، ثم بالشك، ثم بالعمى؟
قلنا: مرجع الضمير في قوله تعالى:
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ [الآية 66] هو الكفّار فقط، وفيما قبله جميع من في السماوات والأرض، وقوله تعالى:
بَلِ ادَّارَكَ معناه بل تتابع وتلا حق واجتمع كقوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً [الأعراف: 38] وأصله تدارك، فأدغم التاء في الدال، وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ معناه بل كمل وانتهى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الاخرة. وقال السعدي: يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل: يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها [الآية 66](6/199)
معناه بل هم اليوم في شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) جمع عم وهو أعمى القلب. ومطابقة الإضراب الأول لما قبله، أن الذين لا يشعرون وقت البعث، لما كانوا فريقين: فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة، وهم المؤمنون وفريق منهم لا يعلمون وقته، لإنكارهم أصل وجوده. أفرد الفريق الثاني بالذكر بقوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 66] تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا، كأنه تعالى قال: بل فريق منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا، ثم أضرب عن الإخبار بتتابع علمهم، وتلاحقه بحقيقة البعث في الاخرة، إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث والساعة، مع قيام الأدلّة الشرعية على وجودها لا محالة وأمّا وصفهم بنفي الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك، ثم بالعمى، فلا تناقض فيه، لاختلاف الأزمنة، أو لاختلاف متعلّقات تلك الأمور الأربعة، وهي الشعور والعلم والشك والعمى.
فإن قيل: قضاء الله تعالى وحكمه واحد، فما معنى قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ [الآية 78] وهو بمنزلة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ [الآية 78] بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه.
قلنا معناه بما يحكم به وهو عدله المعروف المألوف، لأنه لا يقضي إلا بالحق والعدل، فسمى المحكوم به حكما. وقيل معناه بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 86] ولم تراع المقابلة بقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 86] فيه؟
قلنا: روعيت المقابلة المعنوية دون اللفظية، لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى:
وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] .
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) مع أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟
قلنا: إنّما خصّهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غير هم.(6/200)
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ [الآية 87] ولم يقل فيفزع، وهو أظهر مناسبة؟
قلنا: أراد بذلك الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت والتحقّق قطعا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) أي صاغرين أذلاء بعد البعث، مع أن النبيّين والصّدّيقين والشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟
قلنا: المراد به صغار العبودية والرّق وذلّهما لا ذلّ الذنوب والمعاصي، وذلك يعم الخلق كلهم ونظيره قوله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) [مريم] .(6/201)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النمل» «1»
قوله تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 7] ، وهذه استعارة على القلب. والمراد بها، والله أعلم، إنّي رأيت نارا فآنستني فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى: وإنّي وجدت النار مؤنسة لي، كما سبق من قولنا في تأويل قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف: 28] أي وجدناه غافلا، على بعض الأقوال.
وقريب من ذلك قوله تعالى:
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأعراف: 51] ولم تغرّهم هي، وإنما اغتروا بها هم فلما كانت سببا للغرور، حسن أن ينسب إليها ويناط بها. وحقيقة الإيناس، هي الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها وما أنست به، فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.
وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبأ:
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) . وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر، والله أعلم، الرجوع بعد إجالة الآراء، ومخض الأقوال إلى رأي واحد يصحّ العزم على فعله، والعمل عليه دون غيره، تشبيها بالإسداء والإلحام في الثوب النسيج، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأي عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان (ع) لها إلى الإيمان به،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/203)
والاتباع له، فميّلت «1» بين الامتناع والإجابة، والمخاشنة والملاينة. فلما قوي في نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله، فحسن أن يعبّر بقطع الأمر، لما أشرنا إليه.
وعلى هذا قول الرجل لصاحبه: لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شيء حتّى أفاوضك فيه، وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر، تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدق كالحبل وغيره. ومنه قولهم: صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه.
وقوله سبحانه: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [الآية 40] .
وهذه استعارة: لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة. وليس هناك على الحقيقة شيء ذهب عنه، ثمّ رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق، أقام الانفتاح مقام الخروج، والانطباق مقام الرجوع. وقيل: في ذلك وجه آخر، وهو أنّ في مجرى عادة الناس، أن يقول القائل لغيره، إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته: أنا ممدود الطرف إليك، وشاخص البصر نحوك. فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال: أنا آتيك به قبل أن تتكلّف أمر انتظار، وتعدّ الأوقات.
والقول الأول أولى بالاعتماد، وأخلق بالصواب.
وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة، وإنّما يراد به التعامي عن الحق، والذهاب صفحا عن النظر والفكر، إمّا قصدا وتعمّدا، أو جهلا وعمّى.
وإنّما أجري الجهل مجرى العمى في هذا المعنى، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشيء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنّما قال
__________
(1) . ميّلت: أي شكّت، انظر القاموس المحيط، مادة ميل.(6/204)
سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ولم يقل: «عنها» ، لأن المراد أنهم يشكّون فيها، ويمترون في صحّتها، فهم في عمّى منها: ولا يصلح أن يكون، في هذا الموضع، «عنها» لأنه ليس المراد ذكر عماهم عن النظر إليها، وإنما القصد ذكر عماهم بالشك فيها. وهذا من لطائف المعاني.
وقوله سبحانه: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وهذه استعارة: لأن حقيقة الرّدف هي حمل الإنسان غيره مما يلي ظهره على مركوب.
فالمراد بقوله سبحانه: رَدِفَ لَكُمْ هاهنا، والله أعلم، أي عسى أن يكون العذاب الذي تتوقعونه قرب منكم، وهو في آثاركم ولا حق بكم.
وقد قيل أيضا إن المراد ب «ردف لكم» هو: ردفكم. فصار العذاب في الالتصاق بكم كالمرادف لكم.
والمعنى واحد.
وقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وهذه استعارة. لأن القصص كلام مخصوص، ولا يوصف به إلا الحيّ الناطق المميّز. ولكن القرآن لمّا تضمّن نبأ الأوّلين، ومصادر أمور الآخرين كان كأنّه يقصّ على من آمن به عند تلاوته له، قصص من تقدّمه.(6/205)
سورة القصص(6/207)
المبحث الأول أهداف سورة «القصص» «1»
سورة القصص سورة مكّيّة، وعدد آياتها 88. نزلت بعد سورة النّمل، وكان نزولها في الفترة المكّيّة الأخيرة، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.
وقد سمّيت بسورة القصص، لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى (ع) لنبي الله شعيب (ع) في قوله سبحانه:
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) .
قصة موسى
تستغرق قصة موسى (ع) ، حيّزا كبيرا من سورة القصص، فمن بداية السورة إلى الآية 48، نجد حديثا مستفيضا عنه.
وفي الآيات [75- 82] نجد حديثا عن قارون، أي أنّ معظم سورة القصص، يتناول قصة موسى (ع) ، ويتناول قصة قارون. والحكمة في ذلك، أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، في مرحلة قاسية، كان المسلمون فيها قلّة مستضعفة، والمشركون أصحاب الحول والطّول والجاه والسلطان فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم وتقرّر أنّ هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله سبحانه وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون، هي قيمة الإيمان فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/209)
ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة، ولو ساندته القوى جميعا.
ويقوم كيان سورة القصص على قصّة موسى (ع) وفرعون وتعرض السورة، من خلال هذه القصة، قوّة فرعون الطاغية المتجبّر اليقظ الحذر، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا، لا حول له ولا قوّة، ولا ملجأ له ولا وقاية.
وقد علا فرعون في الأرض، واتّخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، قابض على أعناقهم.
لكنّ قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا، بل لا تمكّن له من موسى الطفل الصغير المجرّد من كلّ قوّة وحيلة. وهو في حراسة القوّة الحقيقية الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمي عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده، تحدّيا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته، وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
لقد طمعت آسية (ع) ، أن يكون موسى (ع) وليدا لها، تتبنّاه مع زوجها فرعون، فقالت لفرعون كما ورد في التنزيل:
قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) .
وهكذا دبّر الله، سبحانه، أن يتربّى موسى (ع) في بيت فرعون، وأن يؤتى الحذر من مكمنه ولمّا حرّم الله تعالى المراضع على موسى، جاءت أمه كمرضع له، وأرضعته في بيت فرعون، وصار فرعون يجري عليها كلّ يوم دينارا من الذهب، وفي الحديث يقول النبي (ص) : «مثل المؤمن كأمّ موسى ترضع ولدها، وتأخذ أجرتها» «1» .
موسى في سنّ الرجولة
بلغ موسى (ع) أشدّه، واستكمل نيّفا
__________
(1) . أي: المؤمن يعبد الله، فيستفيد من العبادة نظافة القلب، وثقة النفس، وثبات اليقين، وهدوء البال، وصحة الجسم والروح. ثم ينال ثواب العبادة، في جنّة عرضها السماوات والأرض، يوم القيامة. وبذلك ينال أجره مضاعفا: مرّة في الدنيا، ومرّة في الاخرة.(6/210)
وثلاثين عاما، وقد صنعه الله سبحانه على عينه، فصار يتأمّل في هذا الكون، ويبتعد عن حاشية فرعون ودخل العاصمة في فترة الظهيرة، فرأى قبطيّا يعمل طبّاخا في قصر فرعون، يتشاجر مع إسرائيليّ «1» فاستغاث به الإسرائيلي، فضرب موسى القبطيّ بجمع يده، فوقع جثّة هامدة وندم موسى على ذلك، واستغفر الله وتاب إليه.
وتربّص قوم فرعون بموسى (ع) ليقتلوه، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم، يكتم إيمانه عنهم، وجاء لموسى، وقال له كما ورد في التنزيل:
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) .
خرج موسى (ع) هاربا، مهاجرا، متّجها إلى أرض مدين، وحيدا، فريدا، فآواه الله ورعاه وتعرّف هناك على نبي الله شعيب (ع) وتزوّج بابنته، ومكث هناك عشر سنين ثمّ عاوده الحنين إلى مصر، فجاء إليها عبر سيناء، وعند الشجرة المباركة، ناداه لله أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين، وامتنّ الله سبحانه عليه بالرسالة، وأيّده بالمعجزات.
موسى مع فرعون
عاد موسى إلى فرعون مرّة أخرى، يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدّم له الأدلّة العقلية، والمعجزات الظاهرة. ولكنّ فرعون طغى وتجبّر، وكذّب، وعصى، فأهلكه الله، وأخذه نكال الاخرة والأولى، إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى.
الحلقة الجديدة في القصة
عنيت سورة القصص، بإبراز حلقة ميلاد موسى (ع) وتربيته في بيت فرعون وهي حلقة جديدة في القصّة، تكشف عن تحدّي القدرة الإلهية للطغيان والظلم، وفيها يتجلّى عجز قوّة فرعون وحيلته وحذره، عن دفع القدر المحتوم، والقضاء النافذ.
لقد ولد موسى (ع) في ظروف قاسية في ظاهرها، فصاحبته رعاية الله وعنايته، في رضاعه وفي نشأته وفتوّته،
__________
(1) . نسبة إلى نبي إسرائيل في زمن موسى (ع) .(6/211)
وصنعه الله على عينه وهيّأه للرسالة وإذا أراد الله أمرا هيّأ له الأسباب، ثمّ قال له: كن فيكون.
قارون
ذكرت سورة القصص، قصة موسى (ع) في بدايتها، وقصة قارون في نهايتها، والهدف واحد: فقصة فرعون تمثّل طغيان الملك، وقصة قارون تمثّل طغيان المال.
كان قارون من قوم موسى (ع) ، وكان غنيّا ذا قدرة ومعرفة، وأوتي من المال ما إنّ مفاتحه لتنوء بها العصبة من الرجال الأقوياء، وخرج على قومه في زينته وأبّهته، ليكسر قلوب الفقراء ونصحه قومه بالاعتدال، وإخراج الزكاة، والإحسان إلى الناس، والابتعاد عن الفساد.
فزادته النصيحة تيها وعلوّا، وخرج يباهي النّاس بماله وكنوزه، ثمّ تدخّلت يد القدرة الإلهية، فخسفت به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.
وهكذا تكون عاقبة الظالمين. وكما غرق فرعون في البحر، هلك قارون خسفا في الأرض، ولا تزال بحيرة قارون، تذكّر الناس بنهاية الظالمين، قال تعالى:
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) [العنكبوت] .
أهداف السورة
تهدف سورة القصص، إلى إثبات قدرة الله تعالى، ورعايته للمؤمنين فهو، سبحانه، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، المتفرّد بالحكم والقضاء، قد آزر موسى وحيدا، فريدا، طريدا، ونجّاه من بطش فرعون، وأغرق فرعون وجنوده، كما أهلك قارون وقومه.
وبين القصّتين نجد الآيات [44- 75] تعقّب على قصة موسى (ع) ، وتبيّن أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة. وتجول مع المشركين، الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير، تجول معهم(6/212)
جولات شتّى في مشاهد الكون، وفي مشهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمر، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيم جاءهم به رسولهم (ص) ، وكيف يتلقّاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين، بينما هم يتلقّونه بالكفران والجحود، وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكّرون.
ختام السورة
في ختام السورة، نجد الآيات [85- 88] ، تعد الرسول (ص) بالرجوع إلى مكة، فاتحا، منتصرا، ينشر الهدى، ويقيم الحق والعدل ومن العجيب: أنّ هذا الوعد بالنصر، جاءه وهو يخرج من بلده، يطارده قومه، مهاجرا إلى المدينة، ولمّ يبلغها بعد فقد كان بالجحفة قريبا من مكّة، قريبا من الخطر، يتعلّق قلبه وبصره ببلده الذي يحبّه، ويقول عند فراقه مخاطبا مكّة: «والله إنّك لمن أحبّ البلاد إليّ، ومن أحبّ البلاد إلى الله، ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت» .
ويعده الله بالرجوع إلى مكة، فيقول تعالى:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الآية 85] .
ويبيّن سبحانه، أنّ كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال، وأنّ زمام الحكم بيده تعالى. وتختم السورة بهذه الآية، إثباتا للوحدانية، ولجلال القدرة الإلهية:
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) .(6/213)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القصص» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة القصص بعد سورة النمل، وقد نزلت سورة النمل فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة القصص في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنه جاء في قوله تعالى في الآية [25] منها: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ وتبلغ آياتها ثماني وثمانين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: التنويه بشأن القرآن أيضا، ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة، وقد فصّل في أولها ما أجمل في السورة السابقة من قصة موسى (ع) ، وجاء آخرها في الاحتجاج بها على أن القرآن من عند الله، وفي دفع ما عندهم من شبه عليه.
التنويه بشأن القرآن الآيات [1- 42]
قال الله تعالى طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) فنوّه بشأن القرآن وشأن ما يتلى فيه من هذه القصة ثمّ ذكر أنّ فرعون علا في الأرض، واستضعف بني إسرائيل، يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم وأنه تعالى أراد أن يمنّ عليهم، ويجعل منهم أنبياء
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/215)
وملوكا، ويري فرعون وقومه ما كانوا يخافونه منهم، فأظهر فيهم موسى (ع) ، وأوحى إلى أمّه أن ترضعه، وأمرها، إذا خافت عليه من الذبح، أن تضعه في تابوت، وتلقيه في اليمّ، وطمأنها بأنه سيحفظه، ويردّه إليها لتقوم برضاعه فلما ألقته في اليمّ، سار به إلى أن التقطه آل فرعون، ففرحت به امرأته ومنعتهم من قتله، وأرادت أن تربّيه، عسى أن ينفعهم أو يتّخذوه ولدا ثم ذكر سبحانه أنّ أمّ موسى حزنت عليه، وأرسلت أخته وراءه، فرأت عن بعد ما فعلوه به، وأنه لم يقبل الرّضاع من المراضع. فتقدّمت أخته لتدلّهم على مرضع تكفله وتنصح له، فدلّتهم على أمّه، فردّ إليها لتقرّ عينها به، ولتعلم أنّ وعد الله حق. ثم ذكر سبحانه أنه لما بلغ أشدّه آتاه حكمة وعلما، وأنّه دخل المدينة يوما فوجد رجلا من قوم فرعون يعتدي على رجل من بني إسرائيل، فاستغاثه الإسرائيليّ على عدوّه، فوكزه فقضى عليه. ولم يكن موسى يقصد قتله لكنه وقع خطأ منه، فندم عليه، وطلب من الله أن يغفر له.
ثم ذكر سبحانه أن موسى (ع) أصبح في المدينة خائفا أن يظهر أنه القاتل، فإذا الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يستغيثه على رجل آخر من قوم فرعون يعتدي عليه، فلما أراد أن يبطش به، قال له، كما ورد في التنزيل يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) ثمّ ذكرت السورة أنّ رجلا جاء من أقصى المدينة يسعى، فأخبر موسى بأن القوم يأتمرون به ليقتلوه، وأمره أن يخرج من المدينة قبل أن يقبضوا عليه.
فخرج موسى من المدينة، وتوجّه تلقاء مدين، إلى أن ورد ماءها، فوجد عليه ناسا يسقون أغنامهم، ووجد من دونهم امرأتين تذودان أغنامهما، فسألهما عن أمرهما، فأخبرتاه بأنهما لا يسقيان حتى يصدر الرّعاء لضعفهما، وأنّ أباهما شيخ كبير لا يقوى على رعي الغنم وسقيها، فسقى لهما، ثمّ ذهب إلى ظلّ شجرة، ودعا الله أن يرزقه خيرا من عنده ثم ذكر أنّ إحداهما جاءته بعد أن رجعتا بأغنامهما إلى أبيهما، تمشي على استحياء، فأخبرته بأنّ أباها يدعوه ليجزيه على ما فعله معهما، فذهب إليه، وقصّ عليه ما حصل منه في مدينة فرعون، فقال له، كما ورد في التنزيل:(6/216)
لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) ثم ذكر تعالى، أنّ إحدى ابنتيه طلبت منه أن يستأجره، لقوّته وأمانته، فأخبره بأنه يريد أن ينكحه إحدى ابنتيه، على أن يعمل له ثماني سنين، فإن أتمّها عشرا كان فضلا منه، فرضي موسى (ع) على أنه إذا قضى أحد الأجلين، لم يكن له أن يعتدي عليه بطلب الزيادة ثم ذكر سبحانه، أن موسى (ع) لما قضى الأجل، وسار بأهله إلى مصر، آنس نارا بجانب الطور حينما وصل إليه، فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إليها ثم ذكر أنه حين أتاها ناداه ربّه وأعطاه آيتين ليذهب بهما إلى فرعون وقومه، فذكر له موسى (ع) أنه قتل منهم نفسا، ويخاف أن يقتلوه بها، وطلب منه أن يرسل معه أخاه هارون، لأنه أفصح منه لسانا، فأرسل أخاه هارون معه، ووعده بالغلبة عليهم فلمّا جاءهم بآياته، زعموا أنها سحر مفترى، وأنهم لم يسمعوا ما يدعو إليه في آبائهم الأوّلين فذكر لهم أنّ ربّه أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ومن تكون له عاقبة الدنيا، فناداهم فرعون أنه لا يعلم لهم إلها غيره، وأمر هامان أن يوقد له على الطين، ويبني له صرحا لعلّه يطّلع إلى إله موسى، ليبيّن لهم- في زعمه- كذبه في دعواه أن له إلها غيره واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق، وظنّوا أنّهم لا يرجعون إليه تعالى فأخذهم، فأغرقهم في اليمّ، وجعلهم أئمّة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) .
إثبات تنزيل القرآن الآيات [43- 88]
ثمّ قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) فذكر، سبحانه، أنه آتى موسى التوراة، من بعد أن أهلك القرون الأولى، من قوم فرعون وغير هم، وأن النبي (ص) لم يكن حاضرا، حينما ألقى إلى موسى وحي التوراة بالجانب الغربي من الطّور، وأنه لم يكن ثاويا في أهل مدين، حينما كان فيها موسى، وأنه لم يكن بجانب الطور إذ نودي موسى به ولكنّه سبحانه، هو الذي أوحى إليه بما لم يشاهده من ذلك كلّه، لينذر به قومه الذين لم يأتهم نذير من قبله، حتى لا(6/217)
يكون لهم عذر، إذا أصابتهم مصيبة، بما قدّمته أيديهم.
ثم ذكر تعالى، أنّهم لمّا جاءهم القرآن بذلك آية لهم، طلبوا أن يؤتى النبي (ص) مثل آيات موسى (ع) وردّ عليهم، بأنّ أسلافهم كفروا بما أوتي موسى (ع) منها، وزعموا أنّه ساحر هو وأخوه هارون (ع) ، وأمرهم بأن يأتوا بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، ليتّبعه ويهدي به، فإذا لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا فهم قوم يتّبعون أهواءهم، ومن يتّبع هواه لا ترجى هدايته ثم ذكر سبحانه أن الذين أوتوا الكتاب من قبله، يؤمنون به، لأنّه يوافق ما كانوا عليه من الإيمان من قبله. ووعدهم بأن يؤتيهم أجرهم مرتين، على إيمانهم السابق واللاحق وذكر تعالى أن الرسول (ص) لا يمكنه أن يهدي من أحبّ من قومه، لأن الهداية بيده سبحانه، وحده.
ثم ذكر لهم سبحانه شبهة ثانية:
أنهم إن اتبعوا ما نزّل عليه من الهدى، يتخطّفهم الناس من أرضهم، وردّ عليهم بأنه لا خوف عليهم من ذلك، لأنه مكّن لهم في حرم يأمن فيه الخائف، يجبى إليه ثمرات كلّ شيء، وبأن عدم إيمانهم، هو الذي يخاف عليهم منه، لأنه يؤدّي إلى إهلاكه لهم، كما أهلك القرى التي بطرت معيشتها قبلهم، وبأنهم إذا فاتهم بإيمانهم شيء من الدنيا، فما عند الله خير وأبقى منه لأنه لا يمكن أن يكون من وعده وعدا حسنا في الاخرة، فهو لاقيه كمن يمتّعه متاع الدنيا، ثم يحضره يوم القيامة فيناديهم أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الآية 62] . ويأمرهم بأن يدعوهم فلا يستجيبون لهم، ثم يناديهم: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الآية 65] ، فيعيون بالكلام ولا ينطقون فأمّا من تاب من الكفر، وعمل صالحا، فإنه يكون من المفلحين. ثم ذكر جلّ وعلا أنه يفعل ذلك بقدرته واختياره فيثيب من يشاء، ويعذّب من يشاء، وليس لهم اختيار مع اختياره وأنه يعلم ما تكنّه صدورهم، وما يعلنونه، فيحاسبهم عليه حسابا عادلا إلى غير هذا ممّا ذكره من آثار قدرته وعظمته ورحمته، ثم عاد السّياق إلى ما ناداهم به تعالى، أوّلا: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وذكر سبحانه، أنه يحضر من كلّ أمة شهيدا عليهم من الرسل، الذين بلّغوهم رسالاتهم، وأنه يأمرهم أن يأتوا(6/218)
ببرهانهم على أنّ الشّركاء آلهة، وأنهم يعلمون حينئذ، أن الحق لله فلا يحاولون شيئا.
ثم أراد أن يهوّن عليهم ما يخافون عليه من دنياهم، إذا آمنوا به فذكر لهم أن قارون كان من قوم موسى (ع) ، فبغى عليهم، وأنه جلّ وعلا آتاه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بها العصبة أولو القوة، وأنّ قومه نهوه أن يفرح بذلك، ويغترّ به وأنّ قارون ذكر لهم، أنه أوتيه على علم عنده، ولا فضل لأحد عليه، إلى غير هذا ممّا دار بينه وبينهم، ثم ذكر أنه خسف به وبداره الأرض، فلم يغن عنه أحد شيئا، وذهب ما أوتيه في الدنيا، وكأن لم يكن ثم عظّم شأن الاخرة، وذكر سبحانه أنه يجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا وأنّه، جلّت قدرته، يحاسبهم فيها على الحسنة بخير منها، وعلى السيّئة بمثلها.
ثم ختم السورة بتبشير النبي (ص) ، وأمره بالصبر على تكذيبهم بالقرآن فذكر له أنه هو الذي فرض عليه أحكامه، وأنه سيردّه إلى معاد ينصره فيه عليهم، وهو أعلم بمن جاء بالهدى، ومن هو في ضلال، فيجازيهم على وفق علمه ثم ذكر له أنه ما كان يرجو أن ينزّل عليه القرآن، ولكنّ رحمته هي التي آثرته به، فيجب أن يشكره عليه، بعدم التأثّر بما يقترحه عليه المشركون من الآيات الأخرى:
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) .(6/219)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القصص» «1»
أقول: ظهر لي بعد الفكرة: أنه سبحانه، لما حكى في سورة «الشعراء» قول فرعون لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء] ، إلى قول موسى (ع) كما ورد في سورة نفسها:
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) ، ولما حكى، سبحانه، قول موسى لأهله، كما ورد في سورة «النمل» : إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النّمل: 7] ، وكان ذلك على سبيل الإشارة والإجمال، بسط في هذه السورة ما أو جزه في السورتين، وفصّل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما. فبدأ بشرح تربية فرعون لموسى، وبيّن: علوّ فرعون، وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم، خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته، وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي، والموجب لفراره إلى مدين «2» إلى ما وقع له مع شعيب (ع) ، وتزوّجه بابنته، إلى أن سار بأهله، وآنس من جانب الطور نارا، فقال لأهله كما ورد في التنزيل:
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 29] إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربّه،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . مدين: مدينة قوم شعيب (ع) ، وهي تجاه تبوك، على بحر القلزم، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (مراصد الاطّلاع 3: 1246) . [.....](6/221)
وبعثه إياه رسولا، وما استتبع ذلك، إلى آخر القصة.
فكانت السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا، على الترتيب. وبذلك عرف وجه الحكمة في تقديم سورة «النمل» على هذه، وتأخيرها عن سورة «الشعراء» ، فلله الحمد على ما ألهم.(6/222)
المبحث الرابع مكنونات سورة «القصص» «1»
1- فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [الآية 8] .
اسم الملتقط، قيل: طابوث «2» .
وقيل: هي امرأة فرعون.
وقيل: ابنته.
قلت أخرج ابن أبي حاتم الثالث عن أبي عبد الرحمن الحبلي «3» .
2- وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ [الآية 9] . اسمها: آسية بنت مزاحم. أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو.
3- أُمِّ مُوسى [الآية 10] قال البغوي: «أم موسى» : يوخابذ بنت لاوي بن يعقوب. وكذا قال ابن الجوزي في «التبصرة» «4» .
وقيل: ياوخا. وقيل: يارخت «5» .
4- وَقالَتْ لِأُخْتِهِ [الآية 11] .
قال ابن عساكر: اسمها مريم «6» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . في الإتقان 2: 147 «طابوس» بالسين.
(3) . أبو عبد الرحمن الحبلي، هو من تابعي أهل مصر، يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره. «الأنساب» للسمعاني 4: 50.
(4) . العبارة جاءت في «الإتقان» 2: 147 كما يلي: «أمّ موسى: يوحانذ بنت يصهر بن ولاوي» .
(5) . العبارة في «الإتقان» : وقيل: يوخا. وقيل: اباذخت» .
(6) . جاء ذلك في رواية أخرجها ابن عساكر عن أبي روّاد، وأخرى عن أبي أمامة رضي الله عنه، أخرجها ابن عساكر والطبراني كما في «الدر المنثور» 5: 121.(6/223)
وقيل: كلثوم «1» .
5- وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ [الآية 15] .
هي منف «2» ، من أرض مصر.
أخرجه ابن أبي حاتم «3» عن السّدّيّ.
6- عَلى حِينِ غَفْلَةٍ [الآية 15] .
قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة:
نصف النهار.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وأخرج من وجه آخر «4» عن ابن عبّاس قال: ما بين المغرب والعشاء.
7- فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ [الآية 15] .
الإسرائيلي: هو السامري.
والقبطي: هو فاتون. حكاه الزمخشري «5» .
8- وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ [الآية 20] . قال الضّحّاك: هو مؤمن آل فرعون.
وقال شعيب الجبائي: اسمه شمعون.
وقال ابن إسحاق: شمعان «6» .
أخرجهما ابن أبي حاتم.
قال السّهيلي: وشمعان أصحّ ما قيل فيه.
قال الدّارقطني: لا يعرف شمعان بالمعجمة، إلّا مؤمن آل فرعون.
وفي «تاريخ الطبري» أن اسمه:
جبر «7» ، وقال بعضهم: حبيب وقيل:
حزقيل.
9- وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ [الآية 23] .
هما: ليّا، وصفوريا «8» وهي التي نكحها. أخرجه ابن أبي حاتم، عن شعيب الجبائي. قال: وقيل: شرفا
__________
(1) . انظر «الإتقان» 2: 147.
(2) . كذا ضبطها ياقوت الحموي في «معجم البلدان» 5: 213.
(3) . وابن جرير في «تفسيره» 2: 28.
(4) . انظر «تفسير الطّبري» 20: 29.
(5) . في كتابه «الكشّاف» 3: 160.
(6) . في «تاج العروس» 5: 403 مادة: (شمع) نقلا عن شعيب الجبائي: «شمعان» .
(7) . في «تفسير الطّبري» 20: 40 «حبر» .
(8) . كذا في الأصول وفي «تفسير الطبري» 20: 39، 40: «صفورا» . [.....](6/224)
وأبو هما شعيب (ع) عند الأكثر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس: أنه بلغه أن شعيبا (ع) ، هو الذي قصّ عليه موسى القصص.
وأخرج عن الحسن قال: يقولون شعيب، وليس بشعيب ولكنه سيّد أهل «1» الماء يومئذ.
وأخرج عن أبي عبيدة قال: هو يثرون، ابن أخي «2» شعيب.
وأخرج ابن جرير «3» عن ابن عباس:
أن اسمه يثرى.
10- ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [الآية 24] .
هو ظل سمرة «4» . أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود «5» . 11- فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ «6» .
قيل: هو بحر يسمّى راسافا من وراء مصر. حكاه ابن عساكر.
12- وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الآية 57] .
قائل ذلك: الحارث بن عامر بن نوفل. أخرجه النّسائي عن ابن عبّاس.
13- أَفَمَنْ وَعَدْناهُ [الآية 61] .
أخرج ابن جرير عن مجاهد قال:
نزلت في حمزة وعلي «7» وأبي جهل.
14- ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الآية 76] .
أخرج الدّينوري»
في «المجالسة» عن خيثمة قال: قرأت في الإنجيل، أنّ
__________
(1) . زيادة من «تفسير الطّبري» 20: 40.
(2) . كذا في «تفسير الطّبري» 20: 40.
(3) . 20: 40.
(4) . سمرة: واحدة السّمر، وهو شجر الطلح، ينبت في البوادي ولا ثمر له.
(5) . «الطّبري» 20: 37 عن السّدّيّ لا ابن مسعود، وكذا في «الطّبري» ط الحلبي 20: 58. ولعل ما أثبته المؤلف جاء في نسخته من «الطّبري» والله أعلم.
(6) . لفظ: فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ من سورة الأعراف [الآية 136] . والذي هنا في سورة القصص: فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الآية 40] .
(7) . زيادة من «تفسير ابن جرير» 20: 62.
(8) . الدّينوري: هو أحمد بن مروان المالكي، أبو بكر، من رجال الحديث المتّهمين بوضع الحديث، ولي قضاء أسوان، وتوفي بالقاهرة سنة 333 هـ.(6/225)
مفاتيح كنوز قارون وقر «1» ستّين بغلا، كلّ مفتاح على قدر إصبع، لكل مفتاح منها كنز.
15- لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الآية 85] .
قال مجاهد والضّحّاك: يعني مكّة «2» .
وقال نعيم القاري: بيت المقدس.
وقال ابن عبّاس وغيره: القيامة.
أخرجها ابن أبي حاتم «3» .
__________
(1) . الوقر: الحمل أي ما يستطيع البعير حمله.
(2) . أخرجه البخاري (4773) في التفسير، عن ابن عبّاس موقوفا.
(3) . وفي «فتح الباري» 8: 510: «وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان ابن عبّاس يكتم تفسير هذه الآية وروى الطّبري من وجه آخر عن ابن عبّاس قال [قوله تعالى] : لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي: إلى الجنة، وإسناده ضعيف، ومن وجه آخر قال: «إلى الموت» ، وأخرجه ابن أبي حاتم وإسناده لا بأس به ومن طريق مجاهد قال: «يحييك يوم القيامة» ، ومن وجه آخر عنه: «إلى مكّة» . وقال عبد الرزاق، قال معمر: وأما الحسن والزّهري فقالا: هو يوم القيامة وروى أبو يعلى، من طريق أبي جعفر محمد بن علي، قال: سألت أبا سعيد عن هذه الآية، فقال: معاده آخرته. وفي إسناده جابر الجعفيّ، وهو ضعيف.(6/226)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القصص» «1»
1- وقال تعالى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [الآية 4] .
وقوله تعالى: يُذَبِّحُ فعل مضاعف، والغرض من التضعيف الاستفظاع، وقوله تعالى:
وَيَسْتَحْيِي، أي: يستبقي النساء على قيد الحياة، ولا يقتلهنّ.
أقول: والاستحياء على هذا معنى غريب، لا نعرفه الآن، ولم نعرفه إلا في هذه اللغة الشريفة.
2- وقال تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [الآية 12] .
والمراضع جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع.
وقالوا: جمع مرضع، وهو موضع الرضاع، أي: الثدي. والمرضع التي معها رضيع كالمرضعة، ومثلها المطفل وهي ذات الطّفل. وعلى هذا يصحّ أن يأتي «مفاعل» جمعا لمفعل ومفعلة، وبهذا يصحّ جمع مشكلة مشاكل، خلافا لأهل التصحيح في جعلهم «مشاكل» من الخطأ.
3- وقال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الآية 15] .
وقوله تعالى: فَوَكَزَهُ، أي دفعه بأطراف الأصابع، وقيل: بجمع الكف.
أقول: وينبغي أن ننظر إلى الأفعال:
لكز، ولقز، ونكز، ووكز فكلّها تتضمن معنى الدفع، بهيئة خاصة.
وإذا كان لنا أن نقرّب بين هذه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/227)
الأصوات، وتشابه الدلالات التي جاءت في الأفعال كان لنا أيضا أن ننظر في: نسق ووسق، ونفر وأفر ووفر.
4- وقال تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما [الآية 19] .
أقول: جاءت «أن» المفتوحة الهمزة زائدة بعد «لما» وهي كقوله تعالى:
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 96] .
وإذا زيدت «أن» بعد «لمّا» فقد زيدت «إن» المكسورة الهمزة بعد «ما» النافية، وهذا ما لم نقف على شاهد له في لغة التنزيل، وقد استدل عليه النحاة في قول النابغة:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي وقد زيدت، قبل الاسم، في بيت لفروة بن مسيك، أو لعمرو بن قعاس، ونسب إلى الكميت، وهو:
فما إن طبّنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا وقول الشاعر:
بني غدانة ما إن أنتم ذهبا ولا طريفا ولكن أنتم الخزف وهذه الأبيات من شواهدهم التي نجدها في عامّة كتبهم.
وتزاد «إن» المكسورة الحقيقية في مواضع أخرى، ذكرها ابن هشام في «المغني» ، وليس من همنا في هذا الموضع استيفاؤها.
وقد عرضت لزيادة «إن» هذه، وهي ليست موضعا في لغة التنزيل، بسبب الخطأ الذي يعرض للمعربين في عصرنا، فيجعلونها «أن» مفتوحة الهمزة، وهي زائدة زيادة «أن» بعد «لما» موضع بحثنا هذا فيقولون: وما أن حضر الرئيس حتى عزفت الموسيقى.
والصحيح الفصيح: وما إن حضر ... ، بكسر الهمزة.
5- وقال تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) .
أقول: جاءت «تلقاء» مصدرا في اللغة ليس على فعله، وذلك لأنّه مكسور التاء، والمصادر كلها المبدوءة بتاء تكون مفتوحة التاء، كالتجوال والتطواف وغير هما إلا تلقاء وتبيان فإنهما مكسوران.
أما تلقاء هذه التي وردت في الآية،(6/228)
فهي ظرف مكان، والمعنى: ولما توجّه نحو مدين ...
أقول: وليس لنا هذا الاستعمال في العربية المعاصرة، أي: كونها ظرفا.
والذي نعرفه من «تلقاء» أنها مصدر، يستعمل نحو قولهم مثلا: واعترف من تلقاء نفسه، أي: أنه اعترف من دون إكراه أو إجبار أو شيء آخر.
6- وقال تعالى: حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ [الآية 23] .
أقول: والرّعاء جمع راع، وهو من الجموع العزيزة في عصرنا، ذلك أنّنا لا نعرف إلا «الرّعاة» في العربية المعاصرة. ومفعول «يصدر» محذوف، تقديره: ماشيتهم.
7 وقال تعالى: قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [الآية 35] .
والمعنى: سنقوّيك به، ونعينك.
ويقال: شدّ الله في عضدك وضدّه:
فتّ الله في عضدك. والعضد: الساعد من المرفق إلى الكتف.
أقول: وقد أفادت العربية من العضد في هذا المعنى، فقالوا: عضد يعضد، بمعنى أعان وأيّد.
والإفادة من أعضاء الجسم في توليد المعاني كثيرة، فقالوا: أيّد من اليد، وأنف من «الأنف» ، وفاه من «فوه» ، وعاين من «العين» ، وغير ذلك كثير.
8- وقال تعالى: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ [الآية 47] .
أقول: جاءت «لولا» أداة تحضيض، مثل «هلّا» ، فاستحقّت الفعل بعدها.
وهذه من الأدوات التي افتقدناها في العربية المعاصرة، على أنّ استعمالها كثير على هذا النحو في القرآن.
9- وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً [الآية 57] .
أي: أن الله، جلّ وعلا، جعل لهم من الحرم مكانا آمنا.
وجاء قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، وقرئ: تجبى.
أما القراءة المشهورة المثبتة، فقد غلّب فيها التذكير، لأن «الثمرات» وإن كانت مؤنثة فهي عامة، تشمل أجناس النبات كلّها، وأصناف الخير كلّها، فضلا عن أنها مؤنث مجازي، وأنها مفصولة عن فعلها.
10- وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الآية 58] .(6/229)
وقوله تعالى: مَعِيشَتَها بالنصب، والمعنى: بطرت في معيشتها.
والأصل: بطر أهلها بمعيشتهم ولما دلّت القرية على أهلها، كما هو كثير في القرآن، جاز ذلك.
11- وقال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [الآية 66] .
والمراد: طمست، وغامت، فجهلوها.
أقول: واستعارة «العمى» للإنباء، من الكلم المجازيّ الجميل.
12- وقال تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الآية 76] .
قالوا: ناء بالحمل، إذا نهض به مثقلا، وناء به الحمل إذا أثقله.
والمعنى في الآية: أنّ المفاتح تنوء بالعصبة، أي: تميلهم من ثقلها.
أقول: والاستعمال في عصرنا على الوجه الاخر فيقال:
ناء فلان بالعبء أي: شقّ عليه وأثقله.
13- وقال تعالى: يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الآية 82] .
أقول: «وي» مفصولة عن «كأنّ» ، ولكن بسبب من خط المصحف اتصلت وهي كلمة تنبّه على الخطأ وتندّم، ومعناها أن القوم قد تنبّهوا على خطأهم في تمنّيهم.
وقد بقي شيء من هذه الأداة في المحكيات، ففي «لغة» النساء في العراق، تستعمل «وي» بكسر الواو في مقام التعجب والاستغراب، فكأنها شيء مما اصطلح عليه النحويون ب «أسماء الأفعال» . وهي في «لغة» الأعرابيات في الجنوب «بفتح الواو» أيضا.(6/230)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القصص» «1»
قال تعالى: فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [الآية 10] أي: فارغا من الوحي، إذ تخوّفت على موسى إن كادت لتبدي بالوحي.
أي: تظهره «2» .
قال تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [الآية 11] أي: قصّي أثره.
وقال سبحانه: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً [الآية 17] أي مقيما، يقال: «لن يكون فلان في الدّار مقيما» أي: «لا يكوننّ مقيما» . وقال تعالى: تَأْجُرَنِي [الآية 27] وفي لغة العرب منهم من يقول «أجر غلامي» ف «هو مأجور» و «أجرته» ف «هو مؤجر» يريد: «أفعلته» ف «هو مفعل» ، وقال بعضهم: «آجرته» ف «هو مؤاجر» أراد «فاعلته» .
وقال تعالى: مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [الآية 30] وجماعة «الشّاطئ» «الشواطئ» قرأ بعضهم «شطّ» ، والجماعة «شطوط» .
وقال تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ [الآية 32] ثقّل بعضهم «3» وهم الذين
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله الأنباري في الأضداد 298، ونسب في الجامع 13: 255 القول بالفراغ من الوحي، الى الحسن وابن أبي إسحاق وابن زيد. [.....]
(3) . تثقيل النون قراءة في الطّبري 20: 74 نسبت الى ابن كثير، وأبي عمرو وكذلك في السبعة 493، والتيسير 171، والبحر 7: 118، واقتصر في الجامع 13: 285، على ابن كثير أمّا تخفيف النون، فلغيرهما، كما جاء في المصادر السابقة.(6/231)
قرءوا (ذلك) فأدخلوا التثقيل للتأكيد، كما أدخلوا اللام في «ذلك» .
وقال تعالى: رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الآية 34] أي: عونا فيمنعني، ويكون في هذا الوجه: «ردأته» :
أعنته. (ويصدّقني) بالجزم إذا جعلته شرطا «1» ويُصَدِّقُنِي «2» إذا جعلته من صفة الردء.
وقال تعالى: وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الآية 46] بنصب رَحْمَةً على «ولكن رحمك ربّك رحمة» «3» .
وقال تعالى: أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الآية 63] لأنه من «غوى» «يغوي» مثل «رمى» «يرمي» .
وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [الآية 5] على قوله سبحانه يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ [الآية 4] أي: فعل هذا فرعون ونحن نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. وقال تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الآية 76] أي: إنّ الذي مفاتحه. وهذا موضع لا يبتدأ فيه ب «أنّ» وقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة: 8] وقوله سبحانه لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ معناه أنّ العصبة لتنوء بها وقد ورد السياق على سبيل المجاز.
وفي الشعر [وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة من مجزوء الوافر] :
تنوء بها فتثقلها ... عجيزتها ...
وليست العجيزة تنوء بها، ولكنّها هي تنوء بالعجيزة. وقال «4» [من الكامل وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائتين] :
ما كنت في الحرب العوان مغمّرا ... إذ شبّ حرّ وقودها أجزالها
وقال تعالى: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [الآية 82] المفسرون
__________
(1) . في معاني القرآن 2: 306، نسبت قراءة الجزم الى اهل المدينة وفي الطبري 20: 75 الى عامة قراء الحجاز والبصرة وفي السبعة 494، وحجّة ابن خالويه 253، والكشف 2: 173، والتيسير 171، والجامع 13: 287، والبحر 7: 118، الى غير عاصم وحمزة.
(2) . نسبت قراءة الرفع في المصادر السابقة كلّها، عدا معاني القرآن، إذ لم يشر الى نسبتها، الى عاصم وحمزة.
(3) . نقله في المشكل 2: 546، وإعراب القرآن 2: 797، والجامع 13: 292.
(4) . هو الأعشى ميمون. ديوانه 3.(6/232)
يفسّرونها: «ألم تر أنّ الله» وقال تعالى: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [الآية 82] وفي الشعر [من الخفيف وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين] :
سالتاني الطّلاق أن رأتا مالي [م] ... قليلا قد جئتماني بنكر
ويكأن من يكن له نشب يحبب [م] ... ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً [الآية 86] استثناء خارج من أوّل الكلام في معنى «لكن» .(6/233)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القصص» «1»
إن قيل: ما الحكمة في وحي الله تعالى، إلى أم موسى (ع) ، بإرضاعه وهي ترضعه طبعا، سواء أأمرت بذلك أم لا؟
قلنا: أمرها بإرضاعه ليألف لبنها، فلا يقبل ثديا غيرها، بعد وقوعه في يد فرعون فلو لم يأمرها بإرضاعه، لكان من المتوقّع أن تسترضع له مرضعة، فيفوت ذلك المقصود.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي [الآية 7] والشرط الواحد إذا تعلق به جزاءان صدّق مع كل واحد منهما وحده، فيؤول هذا إلى صدق قوله: فإذا خفت عليه فلا تخافي، وأنه يشبه التناقض. قلنا: معناه فإذا خفت عليه من القتل، فألقيه في اليمّ، ولا تخافي عليه من الغرق، ولا تناقض بينهما.
فإن قيل: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الاخر، في قوله تعالى: وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي [الآية 7] ؟
قلنا: الخوف غمّ يصيب الإنسان، لأمر يتوقّعه في المستقبل، والحزن غمّ يصيبه لأمر قد وقع ومضى.
فإن قيل: لم جعل موسى (ع) ، قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان، وسمّى نفسه ظالما، واستغفر منه؟
قلنا: إنّما جعله من عمل الشيطان، لأنّه قتله قبل أن يؤذن له في قتله،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/235)
فكان ذلك ذنبا يستغفر منه مثله. قال ابن جريج: ليس لنبيّ أن يقتل ما لم يؤمر.
فإن قيل: إنّ موسى (ع) ، ما سقى لابنتي شعيب (ع) ، طلبا للأجر، فكيف أجاب دعوة إحداهما، لمّا قالت كما ورد في التنزيل: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا [الآية 25] ؟
قلنا: يجوز أن يكون قد أجاب دعوتها، ودعوة أبيها لوجه الله تعالى، على سبيل البر والمعروف ابتداء، لا على سبيل الإجزاء، وإن سمّته هي جزاء ويؤيّد هذا، ما روي أنّه لما قدّم إليه الطعام امتنع، قال: «إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع «1» الأرض ذهبا، ولا نأخذ على المعروف أجرا» ، حتى قال له شعيب (ع) : «هذه عادتنا، مع كلّ من ينزل بنا» .
فإن قيل: لم قال له شعيب (ع) كما ورد في التنزيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ [الآية 27] ، ومثل هذا النكاح، لا يصحّ لجهالة المنكوح، والنبي (ع) لا ينكح نكاحا فاسدا، ولا يعد به؟ قلنا: إنّما كان ذلك وعدا بنكاح معيّنة عند الواعد، وإن كانت مجهولة عند الموعود، ومثله جائز، ويكون التعيين عند إنجاز الوعد، كما وقع منه.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا:
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الآية 32] فجعل الجناح هنا مضموما، وقال في سورة طه وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: 22] ، فجعل الجناح هناك مضموما إليه، والقصة واحدة؟
قلنا: المراد بالجناح المضموم هنا، هو اليد اليمنى، والمراد بالجناح المضموم إليه في سورة طه، ما بين العضد إلى الإبط من اليد اليسرى، فلا تناقض بينهما.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الآية 32] ؟
قلنا: لمّا رهب الحيّة، أمره الله تعالى، أن يضمّ إليه جناحه، ليذهب عنه الفزع، وإنما قال تعالى: مِنَ الرَّهْبِ، لأنه جعل الرهب الذي أصابه علّة وسببا، لما أمر به من ضمّ
__________
(1) . طلاع الأرض: مثلها.(6/236)
الجناح. قال مجاهد: كل من فزع من شيء، فضمّ جناحه إليه، ذهب عنه الفزع. وقيل حقيقة ضمّ الجناح غير مرادة بل هو مجاز، عن تسكين الروع وتثبيت الجأش. قال أبو علي: لم يرد به الضم بين شيئين، وإنما أمر بالعزم والجدّ في الإتيان بما طلب منه ومثله قولهم:
اشدد حيازيمك للموت فليس فيه شدّ حقيقة. وقيل في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولّى مدبرا من الرهب.
فإن قيل: ما الحكمة في تصديق هارون لموسى (ع) ، في قوله تعالى:
فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الآية 34] ؟
قلنا: ليس المراد بقوله تعالى:
رِدْءاً يُصَدِّقُنِي أن يقول هارون لموسى (ع) : صدقت في دعوى الرسالة، فإنّ ذلك لا يفيده عند فرعون وقومه، الذين كانوا لا يصدّقونه، مع وجود تلك الآية الباهرة والمعجزات الظاهرة، بل مراد موسى (ع) أن يلخّص حججه بلسانه، ويبسّط القول فيها ببيانه، ويجادل عنه بالحق، فيكون ذلك سببا لتصديقه. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [الآية 34] ؟ وفضل الفصاحة، إنما يحتاج إليه لما قلنا، لا لقوله صدقت، فإن سحبان وائل وباقلا في ذلك سواء.
فإن قيل: قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [الآية 44] ، أي أحكمنا إليه الوحي، مغن عن قوله تعالى: وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الآية 44] ، أي من الحاضرين عند ذلك؟
قلنا: معناه وما كنت من الشاهدين قصّته، مع شعيب (ع) فاختلفت القضيّتان.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الآية 50] ، وكم رأينا من الظالمين بالكفر والكبائر، من قد هداه الله للإسلام والتوبة؟
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة المائدة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ [الآية 64] ، وإنّما يرى العذاب من كان ضالًّا، لا مهتديا.
قلنا: جواب «لو» محذوف تقديره:
ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون،(6/237)
لما اتّبعوهم، أو لما رأوا العذاب.
فإن قيل: لم قال تعالى في آخر آية الليل: بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ [الآية 71] وقال في آخر آية النهار: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الآية 72] ؟
قلنا: السّماع والإبصار المذكوران، لا تعلّق لهما بظلمة الليل ولا بضياء النهار، فلذلك لم يقرن الإبصار بالضياء وبيانه أن معنى الآيتين: أفلا تسمعون القرآن سماع تأمّل وتدبّر، فتستدلّوا، بما فيه من الحجج، على توحيد الله تعالى؟ أفلا تبصرون ما أنتم عليه، من الخطأ والضلالة؟
فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الآية 86] ؟
قلنا: قال الفرّاء: هو استثناء منقطع، تقديره رحمة من ربك: أي للرحمة.(6/238)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القصص» «1»
قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الآية 10] .
وقد تقدّم الإيماء إلى معنى ذلك، بذكر نظيره في السورة التي يذكر فيها إبراهيم (ع) ومعنى «فارغا» ، أي: قد خلا من صبر، وثبات، وتماسك، ووقار، لفرط الجزع، والأسف، وشدّة الارتماض «2» والقلق وحسن وصف القلب بالفراغ من الأشياء التي ذكرنا، وإن كان مملوءا بأضدادها، لأنّ تلك الأشياء من المحمودات، وأضدادها من المذمومات والممتلئ من الأشياء المذمومة كالفارغ، إذا كان امتلاؤه ممّا لا فائدة فيه، ولا عائدة له. وقوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الآية 32] .
وهذه استعارة، والجناح هاهنا عبارة عن اليد وقد أشرنا إلى الكلام على نظيره فيما تقدّم، وقيل معنى ذلك، أي: سكّن روعك، وخفّض جأشك من الرهب الذي أصابك، والرعب الذي داخلك، عند انقلاب العصا في هيئة الجان ولمّا كان من شأن الخائف القلق والانزعاج والتململ والاضطراب، صار ضمّ الجناح عبارة عن السكون بعد القلق، والأمان بعد الغرق فأما قوله تعالى في صدر هذه الآية: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . من رمض: الرّمض: حرقة القيظ، ارتمض لفلان أي حزن له، الرّماضة: الحدّة وشدّة الوقع.(6/239)
فيقرب من أن يكون استعارة، لأن «اسلك» ، ان كان بمعنى أدخل، فإن أصلها مأخوذ من إدخال السلك، وهو الخيط المستدقّ، في خروق الخرز المنظومة، فهو، إذا، يفيد إدخال الشيء في الشيء المتضايق، أو إدخاله على الوجه الشاقّ المستصعب، وعلى هذا قوله تعالى:
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) [الشعراء] ، أي أدخلنا القرآن في قلوبهم، من جهة الأسماع على كره منها، إدخالا يشقّ وقد تقدم كلامنا على مثل هذا وكذلك قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) [المدثر] ، أي ما أدخلكم فيها على كره منكم، ومشقّة عليكم، وعلى هذا قول الشاعر:
وقد سلكوك في يوم عصيب أي أدخلوك وأنت كاره له فيكون معنى قوله تعالى لموسى (ع) : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ إن كنت على خوف وإشفاق عند مشاهدة ما قد راعك، من تلك الآيات القواهر، والأعلام البواهر.
وقوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [الآية 35] .
وهذه استعارة والمراد بها تقويته على إنفاذ الأمر، وتأدية الوحي بأخيه لأنّ اشتداد العضد والساعد في القول، عبارة عن القوّة، والجلد، والقدرة على العمل ألا ترى إلى قول الشاعر:
أعلّمه الرّماية كلّ يوم فلما اشتدّ ساعده رماني ويروى، فلما «استدّ ساعده» بالسّين، والأوّل أقوى وأظهر، ولأنّ اشتداد العضد بمعنى القوة، تمكّن اليد من السطوة، وتعينها على البسطة وهذا من عجيب الكلام.
وقوله تعالى: قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا [الآية 48] .
على قراءة أهل الكوفة وهذه استعارة، لأنّ التظاهر الذي معناه المعاونة والمضافرة إنّما هو من صفات الأجسام، والسّحر عرض من الأعراض، والمراد بذلك حكاية ما قاله المشركون، في الكلام الذي جاء به نبينا (ص) ، بعد ما جاء به موسى (ع) ، من الآيات الباهرة والأعلام الظاهرة ومعنى تظاهرا أي تعاونا من طريق الاشتباه والتماثل، وكان الثاني مصدّقا للأوّل والمتأخّر مقوّيا للمتقدّم.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) .(6/240)
وهذه استعارة، والمراد بتوصيل القول، والله أعلم، إرداف بعضه ببعض، وتكرير بعضه على أعقاب بعض، مظاهرة للحجّة على سامعيه، وإبعادا في منازع الاحتجاج على مخالفيه، ليتذكّروا بعد الغفلة، وينتبهوا من الرّقدة وذلك تشبيها بتوصيل الحبال بعضها ببعض، عند إدلاء الدلو إلى الطّويّ البعيدة، إلى أن يصل إلى الماء، ويفضي إلى الرواء، وهذا من دقيق المعاني.
وقوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الآية 54] .
وهذه استعارة لأنّ الحسنة والسّيئة ليستا بجسمين، يصح دفع أحدهما بالآخر وإنّما المراد، والله أعلم، أنهم يختارون الأفعال الحسنة على الأفعال القبيحة، فيكونون، بذلك الاختيار، كأنهم قد دفعوا السّيئات بالحسنات، عكسا لرقابها، وردّا على أعقابها وقد يجوز أن يكون أيضا معنى ذلك: أنهم يدفعون ضرر العقوبة بعاجلة التوبة، لأنّ التوبة حسنة، والعقوبة قد تسمّى سيّئة، لأنها جزاء على السيئة، ولأنها مضرّة وان لم تكن قبيحة.
وقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الآية 58] . وهذه استعارة، والمراد بها أهل القرية والبطر سوء احتمال النعمة، حتى يستقلع مغارسها، ويستنزع ملابسها وقد مضت الإشارة الى نظير ذلك، فيما تقدّم.
وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الآية 59] .
وهذه استعارة، والمراد هاهنا بأمّ القرى مكّة على الأغلب وقال بعضهم المراد معظمها، والمنظور إليها منها، لأنّ ما هو دونها جار مجرى التّبع لها، ومثل ذلك قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: 92 والشورى:
7] ، يريد مكّة، وإنما سمّيت مكة أمّ القرى، لما ضمّته من بيت الله، وحرمه، ومهابط وحيه، ومدارج أقدام رسله (ع) فصارت من أجل ما ذكرناه، كأنها كبيرة القرى، وصارت القرى بالإضافة إليها صغارا، كصغر البنات إذا أضيفت إلى الأمهات.
وقوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) .
وهذه استعارة والكلام وارد في وصف أحوال الاخرة، لأنه سبحانه يقول أمام هذه الآية:(6/241)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) ، ثم قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ [الآية 66] والمعنى أنهم إذا سئلوا في الاخرة عمّا أجابوا به أنبياءهم في الدنيا، لجلجلوا «1» المقال، وأخطئوا الجواب، ولم يعلموا ما يقولون، ولا عمّا يخبرون فكأنّ الأنباء التي هي الأخبار عميت عليهم، فكانوا لا يوجّهون كلاما إلّا ضلّ عن طريق الحقّ، ولا يخبرون خبرا إلّا كان قاصرا عن غرض الصّدق، كالأعمى الذي لا يهتدي لقصد، ولا يقوم على نهج، وكأنهم حادوا عن الجواب لانسداد طرق الأنباء عليهم ولم يتساءلوا، فيستخبر بعضهم بعضا عن ذلك، علما منهم بقيام الحجّة عليهم، وعموم الحيرة لجميعهم وقد يجوز أن يكون لقوله تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ وجه آخر، هو أن يكون ذلك على معنى قول القائل: خرّبت عليّ داري، وموّتّ عليّ إبلي. أي خربت هذه، وموّتّ هذه، وجاءت لفظة عليّ هاهنا لاختصاص الضرر بصاحب الدار والإبل فيكون المعنى: أن الأخبار عميت في نفوسها، أي لم تهتد إلى صدق، ولم تنفذ في حقّ، وقيل عليهم لاختصاص ضرر ذلك بهم، لأنّ الحجّة لزمتهم، والاحتجاج قعد بهم.
ومثل ذلك قوله سبحانه في هذه السورة: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [الآية 75] ، لأنّ ضلال افترائهم في معنى عمى أنبائهم. ومن الكنايات العجيبة عن الدعاء على قوم بعمى العيون، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، في كلام له يخاطب بعض أصحابه: «مالكم «2» لا سددتم لرشد، ولا هديتم لقصد» فكأنه (ع) ، قال لهم مالكم أعمى الله عيونكم، وقد ذكرنا هذا الكلام بتمامه، في كتابنا الموسوم (بنهج البلاغة) ، وهو المشتمل على المختار من كلام أمير المؤمنين (ع) ، في جميع أقسامه، ومرامي أغراضه.
وقوله تعالى: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الآية 76] .
وهذه الاستعارة على القلب، لأن
__________
(1) . من لجلج: تردّد في الكلام.
(2) . في النهج شرح الشيخ محمد عبده ج 1 ص 231 طبع مصر ما بالكم ... إلخ.(6/242)
المراد أنّ العصبة أولي القوة تنوء بتلك المفاتح، أي تنهض بها نهضا متثاقلا، لكثرة أعدادها، وثقل اعتمادها ولكن لما كانت هي السبب في نوء تلك العصبة بها، على التثاقل من نهضها، كانت كأنّها هي التي تنوء بالعصبة، أي تحوجها إلى النهوض، على تلك الحال من المشقّة.
وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الآية 88] .
وهذه استعارة والوجه هاهنا عبارة عن ذات الشيء، ونفسه وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) [الرحمن] ، أي ويبقى ذات ربك ومن الدليل على ذلك رفع «ذو» في قوله تعالى ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) : لأنه صفة للوجه، الذي هو الذات، ولو كان الوجه هاهنا بمعنى العضو المخصوص، على ما ظنّه الجهال، لكان وجه الكلام أن يكون:
«ويبقى وجه ربك «ذي» الجلال والإكرام» ، فيكون «ذي» صفة للجملة، لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة كما يقول القائل: «رأيت وجه الأمير ذي الطّول والإنعام» ، ولا يقول ذا لأنّ الطّول والإنعام من صفات جملته، لا من صفات وجهه. ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة:
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) [الرحمن] ، لمّا كان الاسم غير المسمّى، وصف سبحانه المضاف إليه ولمّا كان الوجه في الآية المتقدّمة، هو النفس والذات، قال تعالى ذُو الْجَلالِ ولم يقل «ذي الجلال والإكرام» ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو، وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يراد بالوجه هاهنا، ما قصد به من العمل الصالح، والمتجر الرابح، على طريق القربة وطلب الزلفة «1» .
وعلى ذلك قول الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ربّ العباد إليه الوجه والعمل أي اليه تعالى، قصد الفعل الذي يستنزل به فضله، ودرجات عفوه فأعلمنا سبحانه أنّ كل شيء هالك إلا وجه دينه، الذي يوصل إليه منه، ويستزلف عنده به، ويجعل وسيلة إلى رضوانه، وسببا لغفرانه.
__________
(1) . من زلف: درجة، منزلة قربة.(6/243)
سورة العنكبوت 29(6/245)
المبحث الأول أهداف سورة «العنكبوت» «1»
سورة العنكبوت سورة مكّية، نزلت بعد سورة الروم، وآياتها 69 آية. وقد نزلت سورة العنكبوت، في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة، قبل الهجرة وكانت هذه الفترة، من أقسى الفترات، ولذلك تعرّضت السورة لتثبيت المؤمنين على الإيمان، وبيان أن هناك ضريبة يدفعها المؤمن، هي الفتنة، والامتحان بالإيذاء، أو بالإغراء، أو بالوعد، أو بالوعيد.
وتناولت السورة قصص الأنبياء السابقين، وجهادهم، وبلاءهم، ثمّ إهلاك الكافرين، وانتصار المؤمنين وسمّيت سورة العنكبوت بهذا الاسم، لتكرّر ذكر العنكبوت فيها في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) .
وفي المصحف المطبوع بالقاهرة، المتداول بين الناس، نجد في عنوان السورة: سورة العنكبوت مكيّة، إلّا من الآية 1 إلى الآية 11، فمدنية.
وقد رجّحت اللجنة المشرفة على طبع المصحف الرأي القائل: بأنّ الإحدى عشرة آية الأولى مدنية، وذلك لذكر الجهاد فيها.... وذكر المنافقين.
وعند التأمّل يترجّح لدينا، أن السورة كلّها مكّية أما تفسير الجهاد فيها، فمرجعه أنها واردة بصدد الجهاد ضدّ الفتنة، أي جهاد النفس، لتصبر ولا
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(6/247)
تفتن وهذا واضح في السياق وكذلك ذكر النّفاق، فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.
ثلاثة فصول
الخط الأساسي لسورة العنكبوت، هو الحديث عن الإيمان والفتنة، وعن تكاليف الإيمان الحقة، التي تكشف عن معدنه في النفوس فليس الايمان كلمة تقال باللسان، وإنّما هو الصبر على المكاره، والثبات في المحن.
ومع أنّ موضوع السورة، هو تكاليف الإيمان والثبات في المحنة، إلّا أنه يمكن أن نقسّم سورة العنكبوت إلى ثلاثة عناصر، لهذا الموضوع، أو ثلاثة فصول.
الفصل الأول: من أوّل السورة إلى الآية 13:
يتناول هذا الفصل حقيقة الإيمان، وسنّة الابتلاء والفتنة، ومصير المؤمنين والكافرين ثم فرديّة التبعية، فلا يحمل أحد عن أحد شيئا، يوم القيامة.
وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) .
الفصل الثاني: الآيات [14- 45] : يتناول هذا الفصل قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (ع) وإشارة إلى قبيلة عاد وثمود ويصوّر هذا القصص، ما وجد من عقبات وفتن في طريق كلّ دعوة.
ويتحدّث عن التهوين من شأن هذه العقبات، أمام قوة الإيمان، والاعتماد على قدرة الله تعالى، والمضيّ في تبليغ رسالته، وتحمّل تبعات هذه الرسالة، إحقاقا للحق، وازهاقا للباطل. قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: 18] .
الفصل الثالث: من الآية 46 إلى آخر السورة:
يتناول هذا الفصل النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلّا بالحسنى ويتناول وحدة الدين والعقيدة والإيمان، واتحاد ذلك مع الدين الأخير، الذي يجحد به الكافرون، ويجادل فيه المشركون ويختم بالتثبيت والبشرى، والطمأنينة للمجاهدين في الله، المهديين إلى سبيله.
ويتخلّل السورة، من المطلع إلى الختام، إيقاعات قويّة عميقة، حول معنى الإيمان وحقيقته، تهزّ الوجدان(6/248)
هزّا. وتوقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة حازمة فإمّا النهوض بها، وإمّا النكوص عنها، وإلّا فهو النفاق الذي يفضحه الله.
القصص في سورة العنكبوت
استغرقت الآيات [14- 45] الحديث عن قصص الأنبياء والتعليق عليه، وبيان العظة والعبرة منه.
وبدأت بالحديث عن نوح (ع) ، فقد مكث في قومه ألف سنة، إلّا خمسين عاما، هي مدة الرسالة وجزء من حياته كان قبل الرسالة، وجزء منها كان بعد الطوفان وهو عمر مديد، ولكن نتيجته محدودة، فلم يؤمن به إلّا قليل من قومه.
ثم ثنّى بالحديث عن إبراهيم الخليل (ع) ، صاحب الرسالة الكبرى، إذ دعا قومه إلى عبادة الله الخالق الرزاق، ونبذ الأوثان والأصنام والتوجّه إلى الله، الإله الواحد:
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [الآية 24] .
وفي قصة لوط (ع) ، يتبدّى تبجّح الرذيلة وسفورها، بلا حياء ولا تحرّج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل، من الانحراف والشذوذ، مع الاستهتار بالنذير فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الآية 29] .
وفي قصّة شعيب (ع) مع مدين، يتبدّى الفساد، والتمرّد على الحق والعدل، فاستحقّوا عذاب الله:
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) .
وتذكر الإشارة، إلى عاد وثمود، بالاعتزاز بالقوّة، والبطر بالنعمة كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان، بطغيان المال، واستبداد الحكم، والتمرّد على أمر الله.
وفي النهاية يلقى الظالم حتفه جزاء ظلمه وقد تكرر هذا المعنى في سور سابقة، وتأكّد هنا، ليستقر في الأذهان، أمام المشركين والظالمين.
قال تعالى:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) .
وتعقّب السورة على هذا القصص،(6/249)
بمثل ضربته، لهوان قوى الشرك والظلم فالباطل مهما علا، لا مستقبل له والحقّ مهما امتحن، مستقبله هنيء مريء قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) .
وينتهي هذا القصص بهوان الشرك، وعزّة الإيمان، وبيان قدرة الله تعالى، الذي يضرب الأمثال، ليتّعظ بها العقلاء، وليفهمها العلماء. قال تعالى:
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (43) .
الدرس الأخير في سورة العنكبوت
يستغرق الدرس الأخير في السورة، ربعا كاملا من الآية 46 إلى الآية 61.
والسورة بدأت، بإعلان ثقل تكاليف الإيمان، وتعرّض المؤمنين للبلاء والامتحان.
ثمّ ذكرت قصص الأنبياء وبلاءهم من عهد نوح (ع) .
وفي هذا الدرس الأخير، يبيّن القرآن الكريم، وحدة الرسالات في الهدف فالرسالات كلّها من عهد نوح (ع) والرسل من بعده، إلى عهد محمد (ص) ، دعوة واحدة، من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو إصلاح العقيدة، وتهذيب السلوك، وردّ البشرية الضالّة إلى قوانين الله العادلة وأنّ المؤمنين بكل رسالة، لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلهم أمّة واحدة، تعبد إلها واحدا وأنّ البشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله، وصنف المشاقّين وهم حزب الشيطان.
ولقد ختم الجزء العشرون في القرآن، بآية شهيرة، تدعو إلى تلاوة الكتاب، وقراءة القرآن، وإقامة الصلاة، هي قوله تعالى:
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) .
وبدأ الجزء الحادي والعشرون، بالحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتاب السابقة، وبأمر المسلمين، ألّا يجادلوا أهل الكتاب إلّا بالتي هي أحسن، لبيان حكمة مجيء(6/250)
الرسالة الجديدة، والكشف عمّا بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، إلّا الذين ظلموا منهم، وبدّلوا في كتبهم، وانحرفوا إلى الشرك والشرك ظلم عظيم. ودعت الآية المؤمنين، أن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلّها، وبالكتب المنزّلة جميعها، فهي حق من عند الله يصدّق ما معهم من القرآن والإسلام. قال تعالى:
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) .
ثم يحذّر القرآن المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهدّدهم بمجيئه بغتة، ويصوّر لهم قربه منهم، وإحاطة جهنّم بهم ويصف حالهم، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ثمّ يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقّون الفتنة والإيذاء في مكّة، يحضّهم على الهجرة بدينهم إلى الله، ليعبدوه وحده، يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كلّ هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكلّ معيق يقعد بهم، ويقلّب قلوبهم بين أصابع الرحمن، في لمسات تشهد بأن منزّل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب فما يعرف مساربها ومداخلها الخفيّة إلا خالقها اللطيف الخبير، الذي تكفّل برزق كلّ دابة في كلّ مكان وزمان.
وينتقل من هذا التعجّب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبّطون في تصوّراتهم، فيقرّون لله سبحانه بخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الموات وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين. ثمّ هم بعد ذلك يشركون بالله ويكافرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به. ويذكّر المشركين بنعمة الله عليهم، بهذا الحرم الأمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق، وهم يفترون على الله الكذب، ويشركون به آلهة مفتراة، ويعدهم على هذا جهنّم، وفيها مثوى للكافرين.
وتختم السورة، بوعد من الله سبحانه، بهداية المجاهدين ورعايتهم، فيقول سبحانه:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) .(6/251)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العنكبوت» «1»
تاريخ نزولها، ووجه تسميتها
نزلت سورة العنكبوت بعد سورة الروم، ونزلت سورة الروم في السنة التي انتصر الفرس فيها عليهم، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، فيكون نزول سورة العنكبوت في هذه السنة مثلها، وتكون من السّور التي نزلت فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود اسم العنكبوت في قوله تعالى في [الآية 41] منها مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وتبلغ آياتها تسعا وستين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، تهوين ما يلقاه المؤمنون من العذاب في سبيل دينهم وهي في ذلك تنقسم إلى قسمين: أوّلهما، في بيان الحكمة من فتنة المؤمنين في دينهم وثانيهما، في بيان ما يسلكونه مع من يفتنونهم في دينهم، من المضيّ في دعوتهم، وردّ شبههم، ومن الهجرة عنهم إلى من لا يفتنهم في دينهم وكانت المدينة توشك أن تفتح أبوابها لهجرتهم.
وقد جاء في السورة السابقة، أنّهم كانوا يخافون إذا آمنوا أن يتخطّفهم الناس من أرضهم، فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أوّلها تهوين ما يلقاه المؤمنون من الفتنة في دينهم، ووعدهم بالنصر على أعدائهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](6/253)
الحكمة في فتنة المؤمنين في دينهم الآيات [1- 44]
قال الله تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) فنهى تعالى المؤمنين، أن يظنوا أنهم يتركون من غير أن يفتنوا في دينهم وذكر سبحانه أن تلك سنّته في كلّ من آمن قبلهم، وأنه يفعل ذلك ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب فيه ثم هدّد الذين يفتنونهم، بأنهم لا يمكنهم أن يفلتوا من عقابه على فتنتهم وذكر، أنّ لذلك أجلا، يعلم من يرجو لقاءه أن لا يتخلّف عنه ثم ذكر عزّ وجل، أنّ من جاهد ما يلقاه في دينه من الفتنة بالصبر عليه، فإنّما يجاهد لنفسه، لأنّ الذين يعملون الصالحات يجازون عليها بأحسن منها ثمّ ذكر من الفتنة في الدّين ما كان يفعله الآباء من محاولة صرف أبنائهم عن دينهم، ووصّى الأبناء بطاعة الآباء، إلّا في محاولة ردّهم إلى الشرك ثمّ ذكر أنّ من الناس من يؤمن بلسانه ولا يصل الإيمان إلى قلبه، فإذا فتن في دينه لم يصبر على ما يصيبه فيه، واختار الاحتراز عمّا يوقعه في الأذى، فإذا جاء نصر الله ذكر للمؤمنين أنه كان معهم، والله أعلم منه بما كان يخفيه من نفاقه ثمّ ذكر من الفتنة في الدين، أنّ الكفّار كانوا يقولون لمن آمن منهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الآية 12] يريدون، بذلك، أنه لا خطيئة في رجوعهم إلى الكفر، وأنّه لا معاد يحاسبون فيه على ذلك وقد أجابهم سبحانه، بإثبات أن هناك معادا يحملون فيه خطاياهم، وخطايا من حملوهم على الكفر، ويسألون فيه عمّا يفترون، من إنكار المعاد والحساب.
ثمّ انتقل جلّ وعلا إلى ذكر من فتنوا قبلهم من المؤمنين، فصبروا، فنصرهم الله على من فتنوهم فذكر أنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، ثمّ أخذهم بالطوفان، ونجّاه ومن آمن به وأنّ إبراهيم (ع) ، أمر قومه أن يعبدوا الله ويتّقوه، وبيّن لهم فساد ما يعبدونه من الأوثان، إلى غير هذا ممّا ذكره في دعوتهم ثم ذكر سبحانه أنّ جوابهم له، كان أن أمروا بقتله أو تحريقه، فنجّاه الله من النار التي ألقوه فيها، وكان في ذلك دلالة على قدرته تعالى(6/254)
وقد سجّل عليهم به أنّهم يتّخذون من دونه أوثانا يقلّد فيها بعضهم بعضا، ويوم القيامة يتبرّأ بعضهم من بعض ويكون مأواهم النار فلا ينجّونهم منها ثم ذكر إيمان لوط (ع) بدعوة ابراهيم (ع) ، وهجرته معه من بلاد قومه وأنه سبحانه وهب لإبراهيم (ع) إسحاق ويعقوب (ع) ، وجعل في ذريّته النبوة والكتاب ثم ذكر لوطا (ع) ، وتوبيخه قومه على ما يأتونه من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد إليها، إلى غير هذا ممّا سبق في قصّته ثم ذكر شعيبا (ع) وما جرى له مع أهل مدين وذكر عادا وثمود وقارون وفرعون وهامان وما فعله بهم، وأنه لم يظلمهم بذلك، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ثم ضرب مثلا لظلمهم لأنفسهم بشركهم فذكر أنهم في اتّخاذهم آلهة من دونه، لا تنفعهم في دنياهم وأخراهم، كالعنكبوت التي تتّخذ لها بيتا هو أوهن البيوت فما يدعونه من دونه ليس بشيء أصلا ثم ذكر أنّه يضرب لهم هذا المثل وغيره من الأمثال، وما يعقلها إلا العالمون خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) .
ما يفعلونه في فتنتهم في دينهم الآيات [الآية 45- 69]
ثم قال تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) . فأمر النبي (ص) أن يتلو ما أوحي إليه من أخبار من فتنوا قبله في دينهم، ليكون له سلوة وأسوة بهم وأن يثابر على إقامة الصلاة ومداومة ذكره، لأنّ الصلاة تصلح من نفوسهم، وتعطيهم قوّة على احتمال ما يفتنون به ثمّ ذكر لهم آداب المجادلة على من يحاول أن يفتنهم بها في دينهم، فأمرهم سبحانه أن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وأن يذكروا لهم أنّهم يؤمنون بالكتب المنزّلة كلّها، ويؤمنون بالإله الذي يؤمنون به ثمّ ذكر أنّ من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما يؤمن بتلك الكتاب، ومن المشركين من يؤمن به أيضا، وما يجحد به إلّا المعاندون منهم، وذكر ما يثبت تنزيله من أمّيّة النبي (ص) ثم أورد، من شبهاتهم عليه، اقتراحهم أن تنزل عليه آيات أخرى، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء السابقين وردّ عليهم، بأنه(6/255)
سبحانه هو الذي ينزّل تلك الآيات كما يشاء، وليس النبي إلّا نذيرا لهم، ولا يملك أن يقترح على الله شيئا وبأنّ في إنزال القرآن عليه، وهو أمّيّ، ما يكفيهم في الإيمان به ولو تأمّلوا لعلموا أنّ آياته خير من آيات العذاب التي يقترحونها، لما فيها من الرحمة والذكرى لهم ثمّ ذكر سبحانه أنهم يستعجلونه بالعذاب بما يقترحونه من تلك الآيات، ولولا أنه جعل له أجلا مسمّى لجاءهم. إلى غير هذه ممّا ذكره في الردّ على استعجالهم.
ثمّ أرشدهم إلى الهجرة بدينهم، فرارا ممّن يفتنهم فذكر لهم أن أرضه (تبارك اسمه) واسعة، فإذا تعذّرت عبادته في أرض، فليهاجروا إلى غيرها، ولا يتركوا عبادته بحال من الأحوال وهوّن عليهم ذلك، بأنّهم لا بدّلهم من مفارقة أحبابهم بالموت، فليكن ذلك في سبيل الله، ليجازيهم عليه عند رجوعهم إليه، ويكافئهم على ما عملوا من صالحات، وما صبروا عليه من فتنة وأذى، ثمّ هوّن عليهم ذلك أيضا، بأنّه هو المتكفّل برزق كلّ دابّة في الأرض، وبرزقهم فلا يفوتهم شيء من رزقهم بهجرتهم. ثمّ ختم السورة، بتهديد أولئك الذين يفتنونهم، كما هدّدهم في أوّلها، فذكر لهم أنّهم لا يمكنهم أن ينكروا، أنه سبحانه هو خالق السماوات والأرض، ومسخّر الشمس والقمر، فلا يمكنهم أن يفلتوا من عقابه وذكر لهم أنّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ليبتلي بذلك عباده، فلا يصحّ أن يغترّوا بما بسط لهم من الرزق وذكر لهم أنه هو الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ليعلموا أنه هو الذي يرزقهم ثم ذكر لهم أنّ ما يغترّون به من هذه الحياة، وبسطة أرزاقهم فيها، إنّما هما لهو ولعب، وأنّ الاخرة هي الحياة التي يعتدّ بها، وأيّد ذلك بما يحصل لهم حينما يركبون الفلك في البحر، فإنهم ينسون الدنيا وزخارفها، ويتوجّهون إليه سبحانه بالدعاء وحده فإذا نجّاهم إلى البرّ، رجعوا إلى ما كانوا عليه من حبّ الدنيا، فأشركوا به ثم أمرهم أمر تهديد، أن يقابلوا ما بسط لهم من الرزق بالكفر، فسوف يعلمون ما أعدّ لهم من العذاب على كفرهم وذكر أنهم لا يمكنهم أن ينكروا أنه هو الذي أسكنهم في ذلك الحرم الأمن، فبسط لهم من الرزق ما لم يبسطه لغيرهم،(6/256)
ممّن يتخطّف من حولهم وأنكر عليهم بعد ذلك أن يؤمنوا، بما هم فيه من الباطل، ويكفروا بنعمته عليهم بذلك الحرم، ثمّ أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، ووعد المؤمنين، فقال جلّ شأنه وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) .(6/257)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العنكبوت» «1»
أقول: ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى، لما أخبر في أول السورة السابقة، عن فرعون أنه: عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: 4] ، افتتح هذه السورة، بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفّار، وعذّبوهم على الإيمان، بعذاب دون ما عذّب به قوم فرعون بني إسرائيل، تسلية لهم، بما وقع لمن قبلهم، وحثّا لهم على الصبر ولذلك قال تعالى في هذه السورة: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 3] . وهذه أيضا من حكم تأخير سورة العنكبوت على (طسم) .
وأيضا، فلمّا كان في خاتمة «القصص» إشارة إلى هجرة النبي (ص) «2» ، وفي خاتمة هذه الإشارة إشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
[الآية 56] ، ناسب تتاليهما.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] . والمعنى: لرادّك إلى مكّة، كما في البخاري. 6: 142. أي: كما خرجت منها. وبه قال ابن عبّاس، ويحيى بن الجزّار، وسعيد بن جبير والضّحّاك، واختاره ابن جرير (تفسير الطبري. 20: 80) .(6/259)
المبحث الرابع مكنونات سورة «العنكبوت» «1»
1- أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [الآية 2] .
هم المؤذون على الإسلام في مكّة، منهم عمّار بن ياسر «2» .
2- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا [الآية 12] قائل ذلك: الوليد بن المغيرة. حكاه المهدوي «3» .
3- هذِهِ الْقَرْيَةِ [الآيتان 31 و 34] .
هي سدوم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . كما جاء في آثار أخرجها الطّبري 20: 83، وابن أبي حاتم. انظر «الدر المنثور» 5: 141.
(3) . وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» ، وابن المنذر عن ابن الحنفيّة رضي الله عنه قال: كان أبو جهل، وصناديد قريش، يتلقّون الناس إذا جاءوا إلى النبي (ص) ، يسلمون، يقولون: إنه يحرّم الخمر، ويحرّم الزّنا، ويحرّم ما كانت تصنع العرب، فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الآية 13] «الدر المنثور» 5: 142. وانظر «تفسير الطبري» 20: 86.(6/261)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العنكبوت» «1»
1- وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [الآية 7] .
وتكفير السّيّئات، يعني إسقاط عقابها بثواب الحسنات.
أقول: ولعل استعمال التضعيف في الفعل فيه شيء من معنى السّلب، كقولنا: مرّض الطبيب المريض، أي:
شفاه: فأزال مرضه.
2- وقال تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [الآية 29] .
والنادي: مجتمع القوم ومجلسهم، ولا يسمّى ناديا حتى يكون فيه أهله.
أقول: وقد عاش النادي طوال العصور حتى أمسكنا به في عصرنا، فذهب «النّدي» ، وانصرفت «الندوة» إلى شيء آخر، فهي المجلس الخاص، المقيّد بزمن معيّن، كما في «ندوات أهل الحكم» «2» . ومثل هذه النّدوات المنتدى الذي لم يبق له مكان كبير في الاستعمال المعاصر.
3- وقال تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الآية 34] .
الرّجز والرّجس العذاب، وإن كان في مجيء الكلمة بالسين دلالات أخرى، وهذا من فوائد الإبدال في العربية.
4- وقال تعالى: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [الآية 38] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . وكان في مكّة، في عصر النبوّة وقبله، دار الندوة، وهي ناد يجتمع فيه أهل مكة.(6/263)
وقوله تعالى: مُسْتَبْصِرِينَ، يعني عقلاء، تمكّنوا من النظر والفكر.
5- وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) .
وقوله تعالى: إِذاً فيه إشارة إلى ما تقدم في الآية، ومعناه: لو كان شيء من ذلك، أي: من التلاوة والخطّ لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ.
أقول: وهذا ضرب من الإيجاز الجميل. 6- وقال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الآية 64] .
أي: ليس فيها إلّا حياة مستمرة، دائمة، خالدة، لا موت فيها، فكأنّها في ذاتها حياة. و «الحيوان» مصدر «حيي» ، وكان ينبغي أن يكون القياس حييان، فقلبت الثانية واوا خلافا للقياس كما قالوا: حياة في اسم رجل.(6/264)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العنكبوت» «1»
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [الآية 8] ، على «ووصّيناه حسنا» وقد يقول الرجل: «وصّيته خيرا» أي:
بخير.
وقال تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الآية 12] ، على الأمر «2» : كأنّهم أمروا أنفسهم.
وقال تعالى: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ [الآية 19] وقال: كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [الآية 20] ، فهما لغتان تقول: «بدأ الخلق» و «أبدأ» .
وقال تعالى وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [الآية 22] ، أي:
لا تعجّزوننا هربا في الأرض ولا في السّماء.
وقال تعالى إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [الآية 33] . فالأوّل كان في معنى التنوين لأنه لم يقع، ولذلك انتصب الثاني على هذا التقدير «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في زاد المسير 6: 260.
(3) . نقله في البحر 7: 151، والبيان 2: 244، والإملاء 2: 183.(6/265)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العنكبوت» «1»
إن قيل: قال تعالى: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الآية 12] ثم قال سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [الآية 13] ؟
قلنا: معناه: وما الكافرون بحاملين شيئا من خطايا المؤمنين، التي ضمنوا حملها، وليحملنّ الكافرون أثقال أنفسهم، وهي ذنوب ضلالهم، وأثقالا مع أثقالهم، وهي ذنوب إضلالهم غير هم من الكفار، لا خطايا المؤمنين التي نفى سبحانه عنهم حملها وقد سبق نظير هذا في قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] .
فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن القول «تسعمائة وخمسين عاما» إلى قوله سبحانه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً [الآية 14] مع أن عادة أهل الحساب هي اللفظ الأول؟
قلنا: لما كانت القصة مسوقة، لتسلية النبي (ص) بذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام، من أمته، وكابده من طول مصابرتهم، كان ذكر أقصى العدد، الذي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد، أفخم وأعظم إلى الغرض المقصود، وهو استطالة السامع مدة صبره. وفيه فائدة أخرى، وهي نفي وهم إرادة المجاز، بإطلاق لفظ التسعمائة والخمسين على أكثرها، فإنّ هذا الوهم هو مع ذكر الألف، والاستثناء منتف، أو هو أبعد.
فإن قيل: لم جاء المميّز أولا بلفظ «السنة» والثاني بلفظ «العام» ؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(6/267)
قلنا: لأن تكرار اللفظ الواحد، مجتنب في مذهب الفصحاء والبلغاء، إلّا أن يكون لغرض تفخيم، أو تهويل، أو تنويه، أو نحو ذلك.
فإن قيل: لم نكّر الرزق ثم عرّفه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [الآية 17] ؟
قلنا: لأنّه سبحانه أراد أنهم لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كلّه، فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره.
فإن قيل: لم أضمر اسمه تعالى في قوله عز وجل قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [الآية 20] ، ثمّ أظهره في قوله تعالى ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [الآية 20] ، وكان القياس «كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الاخرة» ؟
قلنا: إنّما عدل، سبحانه، إلى ما ذكر، لتأكيد الإخبار عن الإعادة التي كانت هي المنكرة عندهم، بالإفصاح باسمه تعالى في ذكرها، وجعله مبتدأ لزيادة الاهتمام بشأنها؟
فإن قيل: لم قال تعالى وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [الآية 27] ، في معرض المدح أو في معرض الامتنان عليه، وأجر الدنيا فان منقطع، بخلاف أجر الاخرة فإنه النعيم المقيم الباقي، فكان الأولى بالذكر؟
قلنا: المراد به: وآتيناه أجره في الدنيا، مضموما إلى أجره في الاخرة، من غير أن ينقص من أجر الاخرة شيء. قال ابن جرير: وإليه الإشارة بقوله تعالى وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [الآية 27] ، يعني له في الاخرة جزاء الصالحين وافيا وكاملا، وأجره في الدنيا. قيل: هو الثناء الحسن من الناس، والمحبّة من أهل الأديان. وقيل: هي البركة التي بارك الله فيه، وفي ذرّيته.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [الآية 31] ، يعني مدينة قوم لوط (ع) ، ولم يقل «تلك القرية» ، مع أن مدينة قوم لوط كانت بعيدة عن موضع إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، غائبة عند وقت هذا الخطاب؟
قلنا: إنّما قال سبحانه: هذِهِ الْقَرْيَةِ لأنها كانت قريبة حاضرة بالنسبة إليهم، وإن كانت بعيدة بالنسبة(6/268)
إلى إبراهيم (ع) .
فإن قيل: لم قال تعالى: أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [الآية 34] ولم يقل: أهل هذه القرى؟ مع أن مدائن قوم لوط كانت خمسا، فأهلكوا منها أربعا؟
قلنا: انّما اقتصر سبحانه في الذّكر على قرية واحدة، لأنها كانت أكبر وأقرب، وهي سدوم مدينة لوط (ع) ، فجعل ما وراءها تبعا لها في الذكر.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [الآية 38] ، أي ذوي بصائر؟
يقال: فلان مستبصر، إذا كان عاقلا لبيبا صحيح النظر. ولو كانوا كذلك، لما عدلوا عن طريق الهدى، إلى طريق الضلال؟
قلنا: معناه: وكانوا مستبصرين في أمور الدنيا، وقيل معناه: وكانوا عارفين الحق بوضوح الحجج والدلائل، ولكنهم كانوا ينكرونه متابعة للهوى، لقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] . وقيل:
معناه: وكانوا مستبصرين لو نظروا نظر تدبّر وتفكّر.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الآية 41] ، وكل أحد يعلم أن أضعف بيوت يتخذها الهوامّ بيت العنكبوت؟
قلنا: معناه لو كانوا يعلمون، أنّ اتخاذهم الأصنام أولياء من دون الله، مثل اتخاذ العنكبوت بيتا، لما اتّخذوها.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الآية 46] ، وأهل الكتاب كلهم ظالمون لأنهم كافرون، ولا ظلم أشدّ من الكفر، ويؤيده قوله تعالى وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ؟
قلنا: أوّلا المراد بالظلم هنا الامتناع عن قبول عقد الذّمّة، وأداء الجزية، أو نقض العهد بعد قبوله. ثانيا: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [الآية 48] ؟
قلنا: الحكمة فيه تأكيد لنفي، كما يقال في الإثبات للتأكيد: هذا الكتاب(6/269)
ممّا كتبه فلان بيده وبيمينه، ورأيت فلانا بعيني، وسمعت هذا الحديث بأذني، ونحو ذلك.
فإن قيل: لم لم يؤكّد سبحانه وتعالى في التلاوة، ولم يقل: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب بلسانك» ؟
قلنا: الأصل في الكلام عدم الزيادة، وكلّ ما جاء على الأصل لا يحتاج إلى العلّة، إنما يحتاج إلى العلة ما جاء على خلاف الأصل.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الآية 69] ، ومعلوم أنّ المجاهدة في دين الله تعالى، أو في حقّ الله تعالى، مع النفس الأمّارة بالسوء، أو مع الشيطان أو مع أعداء الدين، ذلك كله إنّما يكون بعد تقدّم الهداية من الله تعالى، فلم جعلت الهداية من ثمرات المجاهدة؟
قلنا: معناه: والذين جاهدوا في طلب التعلّم، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، بمعرفة الأحكام وحقائقها. وقيل معناه: لنهدينّهم طريق الجنة. وقيل معناه: والذين جاهدوا لتحصيل درجة لنهدينّهم إلى درجة أخرى أعلى منها، وحاصله لنزيدنّهم هداية وتوفيقا للخيرات، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] وقوله تعالى:
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76] . وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه: معناه: والذين جاهدوا فيما علموا، لنهدينّهم إلى ما لم يعلموا. وعن بعض الحكماء: من عمل بما علم، وفّق لما لا يعلم.
وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، هو من تقصيرنا فيما نعلم..(6/270)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العنكبوت» »
قوله سبحانه: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) .
وهذه استعارة لأن لقاء الله سبحانه على الحقيقة، لا يصحّ، وإنما المراد لقاء حسابه، ولقاء جزائه وثوابه، أو لقاء الوقت، الذي جعله سبحانه وقت توفية الجزاء، على أعمال العاملين، وتوفير الأعواض على المعوّضين، وعلى ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) [البقرة] . وكلّ ما ورد في القرآن من ذكر لقاء الله تعالى، فالمراد به المعنى الذي ذكرناه والله أعلم ومن كلام العرب:
لقينا خيرا ولقينا شرّا، وليس شيء من ذلك ممّا يرى بعين، ولا يواجه بوجه، وإنّما المراد أصابنا هذا، وأصابنا هذا.
وقوله سبحانه: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [الآية 17] .
وهذه استعارة، والمراد أنّكم خلقتم من الأصنام صورا، أي قدّرتموها على اختياراتكم وأصل الخلق التقدير، ثمّ جعلتموها آلهة تعبدونها والإله المعبود، إنّما هو الخالق لا المخلوق، والصانع لا المصنوع فكأنّه سبحانه قال: إنّكم جعلتم كذبا من الإله تعبدونه من دون الله، والإفك هاهنا هو الكذب، وقال بعضهم معنى تخلقون إفكا أي تصنعون الكذب، على مواقع
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(6/271)
إرادتكم، وتضعونه مواضع شهواتكم.
قوله سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [الآية 45] .
وهذه استعارة والمراد بها، أنّ الصلاة لطف في الامتناع عن المعاصي، فأقيمت مقام الزاجر الناهي، لأن فيها من ذكر الله تعالى، وتلاوة كلامه، وما فيه من بشائر ثوابه، ونذائر عقابه، ما هو أدعى الدواعي إلى الطاعات، وأقوى الصوارف عن المقبّحات.
وقوله سبحانه: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) .
وهذه استعارة والحيوان هاهنا مصدر كالحياة والدار التي هي دار الاخرة، لا يجوز وصفها على الحقيقة بأنها حياة وإنما المراد أن الخلق يحيون فيها حياة دائمة، لا موت بعدها ولا انفصال لها فلما كانت الحياة الدائمة فيها، حسن أن توصف بها على طريق المبالغة، لأن الصفات بالمصادر تفيد المبالغة في معاني تلك الأشياء الموصوفة.
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الآية 67] .
وهي في معنى الاستعارة التي تقدّمتها على حدّ سواء، لأنّ الحرم لا يصح وصفه بالأمن على الحقيقة، وإنما يأمن الناس فيه فلاتصال هذه الحال ودوامها، واختصاص الحرم بين المواضع بها، حسن أن يوصف بالأمن على طريق المبالغة، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن الكريم..(6/272)
الفهرس
سورة «الحج» المبحث الأول أهداف سورة «الحج» 3 سمات القوة 4 أقسام السورة وأفكارها 5 القسم الأول 5 القسم الثاني 6 القسم الثالث 6 القسم الرابع 6 حكمة التسمية 7 مقصود السورة اجمالا 7..
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحج» 9 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 9 الغرض منها وترتيبها 9 بيان أهوال يوم القيامة 10 الإذن في القتال 11..(6/273)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحج» 15..
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحج» 17..
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحج» 19..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحج» 25..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحج» 29..
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحج» 35.
سورة «المؤمنون» المبحث الأول أهداف سورة «المؤمنون» 41 المؤمنون والايمان 41 الأقسام الرئيسية في السورة 42 القسم الأول 42 القسم الثاني 42 القسم الثالث 43 القسم الرابع 43 مظاهر عامة للسورة 44..(6/274)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المؤمنون» 45 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 45 الغرض منها وترتيبها 45 بيان شروط فلاح المؤمنين 45 أخبار بعض الرسل 46..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المؤمنون» 51 ...
المبحث الرابع مكنونات سورة «المؤمنون» 53 ...
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المؤمنون» 55..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المؤمنون» 61..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المؤمنون» 63..
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المؤمنون» 65..
سورة «النور» المبحث الأول أهداف سورة «النور» 71 روح السورة 71(6/275)
فقرات السورة 72 الفقرة الأولى 72 الفقرة الثانية 72 الفقرة الثالثة 73 الفقرة الرابعة 73 الفقرة الخامسة 73 أثر السورة في حفظ المجتمع 73..
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النور» 75 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 75 الغرض منها وترتيبها 75 حكم الزّنا 75 حكم القذف 76 حكم دخول البيوت 77 حكم النظر 77 أحكام أخرى 77 حكم دخول البيوت للغلمان ونحوهم 78 حكم الاجتماع في بيوت الندوة 79..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النور» 81..
المبحث الرابع مكنونات سورة «النور» 83..
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النور» 85..(6/276)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النور» 91 ...
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النور» 93 ...
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النور» 99..
سورة «الفرقان» المبحث الأول أهداف سورة «الفرقان» 105 سورة تشد أزر الرسول 105 موضوعات السورة 108 الموضوع الأول 108 الموضوع الثاني 109 الموضوع الثالث 109 الموضوع الرابع 110..
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفرقان» 111 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 111 الغرض منها وترتيبها 111 تنزيل القرآن للإنذار 112 عماية الكفار عن الإنذار 113..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفرقان» 115..(6/277)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفرقان» 117..
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفرقان» 119..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفرقان» 123..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفرقان» 125..
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفرقان» 129..
سورة «الشعراء» المبحث الأول أهداف سورة «الشعراء» 137 موضوع السورة 137 القصص في سورة الشعراء 138 قصة ابراهيم 138 قصة نوح 139 قصة هود 139 قصة ثمود 140 قصة لوط 140 أصحاب الأيكة 141 في أعقاب القصص 141..(6/278)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشعراء» 143 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 143 الغرض منها وترتيبها 143 التنويه بشأن القرآن 143 إثبات تنزيل القرآن 144..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الشعراء» 147..
المبحث الرابع مكنونات سورة «الشعراء» 149..
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الشعراء» 151..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الشعراء» 155..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الشعراء» 159..
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الشعراء» 165..
سورة «النمل» المبحث الأول أهداف سورة «النمل» 171 نظام السورة 171(6/279)
موضوع السورة 171 القصص في سورة النمل 172 قصة داود وبلقيس 172 قصة بلقيس 172 قصة صالح ولوط عليهما السلام 173 أدلة القرآن على وجود الله 174..
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النمل» 177 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 177 الغرض منها وترتيبها 177 التنويه بشأن القرآن 177 الترغيب والترهيب بقصص الأنبياء والصالحين 178 التنويه بهذه القصص وأصحابها 179..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النمل» 181..
المبحث الرابع مكنونات سورة «النمل» 183..
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النمل» 187..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النمل» 191..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النمل» 195..(6/280)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النمل» 203..
سورة «القصص» المبحث الأول أهداف سورة «القصص» 209 قصة موسى 209 موسى في سنّ الرجولة 210 موسى مع فرعون 211 الحلقة الجديدة في القصة 211 قارون 212 أهداف السورة 212 ختام السورة 213..
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «القصص» 215 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 215 الغرض منها وترتيبها 215 التنويه بشأن القرآن 215 إثبات تنزيل القرآن 217..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «القصص» 221..
المبحث الرابع مكنونات سورة «القصص» 223..(6/281)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «القصص» 227..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «القصص» 231..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «القصص» 235..
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «القصص» 239..
سورة «العنكبوت» المبحث الأول أهداف سورة «العنكبوت» 247 ثلاثة فصول 248 القصص في سورة العنكبوت 249 الدرس الأخير في سورة العنكبوت 250 تاريخ نزولها، ووجه تسميتها 253 الغرض منها وترتيبها 253..
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «العنكبوت» 253 الحكمة في فتنة المؤمنين في دينهم 254 ما يفعلونه في فتنتهم في دينهم 255..
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «العنكبوت» 259..(6/282)
المبحث الرابع مكنونات سورة «العنكبوت» 261..
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «العنكبوت» 263..
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «العنكبوت» 265..
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «العنكبوت» 267..
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «العنكبوت» 271..(6/283)
الجزء السابع
سورة الرّوم(7/1)
المبحث الأول أهداف سورة «الروم» «1»
سورة الروم سورة مكّيّة نزلت بعد سورة الانشقاق، وآياتها 60 آية. وقد نزلت سورة الروم في السنة التي انتصر فيها الفرس على الروم، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة.
وسمّيت هذه السورة بسورة الروم لقوله تعالى في أولها: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) .
سبب نزول السورة
قال المفسّرون «2» : بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يسمّى شهريران، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم، فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر قد بعث رجلا يدعى يحنس، فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهما أدنى الشام إلى أرض العرب. فغلبت فارس الرّوم، وبلغ ذلك النبيّ (ص) وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم. وكان النبي (ص) يكره أن يظهر الأمّيّون من أهل المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكّة وشمتوا، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب، والنّصارى أهل كتاب ونحن أمّيّون.
وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، وإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم.
فأنزل الله تعالى سورة الروم. وفيها يفيد أنّ أهل فارس قد غلبوا الروم في
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . انظر تفسير الجلالين، والطبري، ومقاتل بن سليمان، وظلال القرآن في أسباب النزول للواحدي. [.....](7/3)
أرض الأردن وفلسطين وهي أقرب البلاد إلى جزيرة العرب. ثمّ وعد الله جلّ جلاله أن ينتصر الروم على الفرس في جولة أخرى خلال بضع سنين.
والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر. وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل، وغلبت الروم فارس.
وعن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتى المسلمين الخبر بعد ذلك- والنبيّ والمؤمنون بالحديبية- بأن الروم قد غلبوا أهل فارس ففرح المسلمون بذلك، لانتصار أهل الكتاب على عباد الأوثان، فذلك قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) .
فصلان مترابطان
يمضي سياق سورة الروم، في فصلين مترابطين:
الفصل الأول: يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما، ويرتبط به أمر الدنيا والاخرة. ويوجّه إلى سنّة الله فيمن مضى قبلهم من القرون، ويقيس عليها قضيّة البعث والإعادة. ثمّ يعرض عليهم مشهدا من مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في ثناياه، ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب، ويضرب لهم من أنفسهم وممّا ملكت أيمانهم أمثالا تكشف عن سخافة فكرة الشرك، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم. وينتهي هذا الموضوع بتوجيه الرسول (ص) إلى اتّباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح، طريق الفطرة التي فطر النّاس عليها، والتي لا تتبدّل ولا تدور مع الهوى، ولا يتفرّق متّبعوها شيعا وأحزابا، كما تفرّق الذين اتّبعوا الهوى. ويمتدّ هذا الفصل من أول السورة إلى الآية 32.
الفصل الثاني: يكشف الفصل الثاني من سورة الروم عمّا في طبيعة النّاس من تقلّب لا يصلح أن تقام عليه الحياة، ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء. ويصوّر حالهم في الرحمة والضّرّ، وعند بسط الرّزق وقبضه، ويستطرد السياق في هذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرّزق وتنميته، ويعود إلى قضية الشّرك والشّركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا(7/4)
الشركاء لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البرّ والبحر وعمل النّاس وكسبهم، ويوجّههم إلى السّير في الأرض، والنّظر في عواقب الناس المشركين من قبل، ومن ثمّ يذكر السياق توجيهه تعالى رسوله (ص) إلى الاستقامة على دين الفطرة من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كلّ بما كسبت يداه، ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون، كما عاد بهم في الفصل الأول. ويعقب على ذلك بأن الهدى هدى الله، وأن الرسول (ص) لا يملك إلا البلاغ فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم، ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكّرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها، ثمّ ينتهي هذا الموضوع، وتختم معه السورة بتوجيه الرسول (ص) إلى الصبر على دعوته، وما يلقاه من الناس فيها، والاطمئنان إلى أنّ وعد الله حقّ لا بدّ آت فلا يقلقه الذين لا يوقنون، ويمتد هذا الفصل من الآية 33 إلى آخر السورة.
الأفكار العامة للسورة
الفكرة الرئيسة في سورة الروم، هي الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس وأحداث الحياة، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها، وسنن الوجود ونواميس الكون، ومن خلال هذه الارتباطات، يبدو أنّ كلّ حركة وكلّ حالة وكلّ نصر وكلّ هزيمة مرتبطة جميعها برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق وأنّ مردّ الأمر فيها كلّه لله سبحانه: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الآية 4] . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكّدها القرآن كلّه بوصفها الحقيقة الموجّهة في هذه العقيدة.
الحقيقة التي تنشأ عنها التصوّرات جميعها والمشاعر والقيم والتقديرات، والتي بدونها لا يستقيم تصوّر ولا تقدير.
وهناك أفكار متعدّدة مبثوثة في ثنايا السورة منها:
ذكر أخبار القرون الماضية، وذكر قيام الساعة، وآيات التوحيد والحجج المترادفة الدّالة على الذّات والصّفات، وبيان البعث يوم القيامة وتمثيل حال المؤمنين والكافرين، وتقرير المؤمنين على الإيمان، والأمر بالمعروف(7/5)
والإحسان إلى ذوي القربى، ووعد الثواب على أداء الزكاة، والإخبار عن ظهور الفساد في البرّ والبحر، وعن آثار القيامة، وذكر عجائب الصنع في السّحاب والأمطار، وظهور آثار الرّحمة في إنبات النبات وظهور الربيع، وذكر إصرار الكفّار على الكفر، وتخليق الله الخلق مع الضّعف والعجز، وإحياء الخلق بعد الموت، والحشر والنشر، وتسلية الرسول (ص) .
عالمية الدعوة الاسلامية
لم يقف القرآن في سورة الرّوم عند حادث هزيمة الرّوم أمام الفرس، ثمّ الوعد بغلبة الرّوم للفرس. ولكنّه انطلق من ذكر هذه الحادثة ليربط بين سنّة الله تعالى في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما، وليصل بين ماضي البشريّة وحاضرها ومستقبلها.
ثمّ يستطرد السياق القرآني إلى الحياة الاخرة ومشاهدها، ثمّ يطوف بالمسلمين في مشاهد الكون ومشاهد النفس وأحوال البشر وعجائب الفطر، ومن ثمّ يرتفع تصوّرهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير، ويشعرون بدقّة السّنن التي تحكم هذا الكون وتصرّف أحداث الحياة وتحدّد مواضع النصر ومواضع الهزيمة.
وفي ظل ذلك التصوّر الواسع الشامل، تتكشّف عالميّة هذه الدعوة، وارتباطها بأوضاع العالم كلّه من حولها.
ويدرك المسلم موقفه وموقف أمّته في ذلك الخضم الهائل، ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله، فيؤدّي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.(7/6)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الروم» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الروم بعد سورة الانشقاق، وكان نزول سورة الروم في السنة التي هزمهم الفرس فيها، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، فتكون من السور التي نزلت فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة.
وقد سمّيت هذه السور بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) وتبلغ آياتها ستّين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تسلية المؤمنين فيما يصيبهم من أذى المشركين، كشماتتهم بهم حين انتصر الفرس على الرّوم، وذلك بوعدهم بنصر الرّوم على الفرس في الدّنيا، وبيان ما يكون من حالهم وحال أعدائهم في الاخرة وقد جاء هذا الغرض فيها على قسمين: أوّلهما في تسلية المؤمنين بوعدهم بنصر الروم على الفرس، وما إلى هذا ممّا ذكر فيه، وثانيهما في بيان بعض ما يثبّتهم ويهوّن عليهم ما يلقونه من أعدائهم.
وقد جاءت هذه السورة بعد سورة العنكبوت لأنّ المسلمين وعدوا فيها بالنصر على المشركين، فجاءت هذه السورة بعدها، وفي أولها وعده سبحانه بنصر الروم على الفرس، ليكون مقدّمة لتحقيق وعده جل جلاله للمسلمين، لأنّ الروم كانوا أهل كتاب، وكانوا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/7)
أقرب إلى المسلمين من الفرس، ولهذا حزن المسلمون لهزيمتهم وفرح مشركو قريش.
تسلية المؤمنين الآيات [1- 16]
قال الله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فذكر أن الروم غلبوا، ووعد بنصرهم على من غلبهم، ليفرح المؤمنون بنصرهم لأنّهم أهل كتاب مثلهم ثم ذكر سبحانه أنه إذا وعد لا يخلف وعده، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، لأنّ علمهم لا يتعدّى ظاهرا أمور الدنيا من ملاذّها وملاعبها، ولا يصل إلى باطنها وأسرارها، وهم إلى هذا غافلون عن الاخرة ولا يصلون إلى علمها، فهم لهذا كلّه ينكرون وعده بالنصر ولا يصدّقون به، وينكرون الحشر وما أعدّ لهم فيه ثمّ حثّهم على ما يوصلهم إلى العلم بذلك من الفكر والنظر، لأنهم لو فكّروا في خلق السماوات والأرض وما بينهما، لعلموا أن الله جلّ جلاله لم يخلقهم إلّا لحكمة وأجل معيّن، ثمّ يكون بعد ذلك ما ينكرونه من الحشر، ولو ساروا في الأرض لرأوا عاقبة من كذّب قبلهم من الأمم، وحملهم ذلك على التصديق بما وعد الله من النصر ثم ذكر أنه هو الذي بدأ الخلق فهو قادر على إعادته وعلى حشرهم إليه بعد موتهم، وأنّهم يوم يحشرون إليه لا يجدون إلى الخلاص طريقا، ولا يكون لهم شفيع من شركائهم، ويكافرون بهم بعد مشاهدة عجزهم ويومئذ يتفرّق كلّ من المؤمنين والكافرين إلى ما أعدّ لهم، فأمّا المؤمنون فهم في روضة يحبرون وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) .
وسائل تثبيتهم الآيات [17- 60]
ثمّ قال تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) فأمرهم بالمواظبة على الصلاة في أوقاتها من الصباح والمساء والعشيّ والظّهيرة، كما أمرهم بذلك في السّورة السابقة ثمّ ذكر بما يوجب عليهم القيام بتسبيحه وحمده فيها، أنّه هو الذي يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ،(7/8)
إلى غير هذا ممّا ذكره من آياته ونعمه ثمّ ذكر أنّه هو الذي يتفرّد بما ذكره من ذلك كلّه، ولا يصحّ أن يكون له فيه شركاء من خلقه يستحقّون العبادة مثله، كما لا يصحّ أن يكون لنا فيما يرزقنا شركاء ممّا ملكت أيماننا.
ثم أظهر لهم فضل ذلك الدّين الذي يلقون الأذى فيه، فذكر أنه دين الفطرة التي فطر النّاس عليها، فيجب أن يتمسّكوا به ولا يكونوا من المشركين الذين تركوه فتفرّقوا شيعا يعادي بعضهم بعضا ثمّ ذكر أنّ هؤلاء المشركين منهم من إذا مسّه ضرّ رجعوا إلى فطرتهم فدعوا ربّهم، فإذا كشف الضرّ عنهم رجع فريق منهم إلى شركهم، وكفروا بما آتاهم من كشف الضرّ عنهم ومنهم من هو على عكس هذا، فإذا أذاقه رحمة فرح بها، وإن أصابته سيّئة وقع في القنوط واليأس.
ثمّ أمرهم أن يواسي بعضهم بعضا، بأن يعطي القريب حقّ النّفقة لقريبه، ويعطي الغنيّ حقّ الزّكاة للمساكين وابن السبيل، ونهاهم أن يتعاملوا بالرّبا لأنّه لا يربو عنده كما تربو الزكاة.
ثمّ ذكر لهم أنه لا يترك أعداءهم من غير أن يعجّل لهم بعض العذاب على ما أظهروا من الفساد في البرّ والبحر، وأمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة الذين أشركوا من قبلهم، وأن يتمسّكوا بدينهم من قبل أن يأتيهم ذلك العذاب فيتفرّقوا فيه، فالكافرون يعاقبون على كفرهم، والمؤمنون يثابون على إيمانهم، ليجزيهم من فضله بما صبروا على أذاهم، فيرحمهم بذلك كما يرسل الرياح مبشّرات برحمته، وينتقم من أعدائهم كما انتقم من الذين أجرموا قبلهم ثمّ قرّب وعده لهم مع ضعف حالهم بأنه يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء ثم يخرج المطر من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده فرحوا به وإن كانوا قبله في يأس منه، ثم قرّبه أيضا بما يشاهد من آثار رحمته في إحيائه الأرض بعد موتها، فمن يفعل ذلك يقدر على تقويتهم بعد ضعفهم وهو على كل شيء قدير، ثمّ ذكر أن أولئك المشركين لو أرسل عليهم ريحا مصفرّا إنذارا لهم بما يوعدهم من ذلك العذاب لظلّوا من بعده على كفرهم، لأنهم بلغوا من الجهل مالا يتأثّرون معه بإنذار أو دعاء، فلا يصدّقون وعده بنصر هؤلاء الضعفاء عليهم، ثمّ ذكر ممّا يثبت(7/9)
قدرته على ذلك أنّه خلقهم من ضعف في حال طفولتهم، ثمّ جعل لهم من بعد ضعفهم قوّة في حال شبابهم، ثمّ جعل لهم من بعد قوّتهم ضعفا في حال شيخوختهم، فهو قادر على أن يضعفهم وينصر المؤمنين عليهم ثم ذكر عذابهم الأكبر بعد عذاب الدنيا، وذلك حين تقوم القيامة فتنسيهم شدّتها مقدار ما لبثوه في دنياهم، فيقسمون أنهم ما لبثوا فيها غير ساعة، ويردّ عليهم أهل العلم والإيمان بأنهم لبثوا الأجل الذي ضربه الله لهم إلى يوم البعث. ولكنّهم كانوا لا يؤمنون بذلك ففاتهم العلم به، ويومئذ يلقون عذابهم ولا ينفعهم معذرة ولا يكون لهم استعتاب، لأنّه لم يجعل لهم ما يعتذرون به بعد أن ضرب لهم في القرآن من كلّ مثل، فكانوا لا يؤمنون بما يأتيهم به من الآيات ثمّ ختمت السورة بالأمر بالصبر الى أن يتحقّق ذلك الوعد، فقال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) .(7/10)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الروم» «1»
أقول: ظهر لي في اتّصالها بما قبلها، أن سورة العنكبوت ختمت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت 69] .
فافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر، وفرح المؤمنين بذلك، وأنّ الدولة لأهل الجهاد فيه، ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة «2» .
هذا مع تأخيها بما قبلها في المطلع، فإنّ كلّا منهما افتتح ب (ألم) غير معقّب بذكر القرآن، وهو خلاف القاعدة الخاصة بالمفتتح بالحروف المقطّعة، فإنها كلّها عقّبت بذكر الكتاب أو وصفه، إلّا هاتين السّورتين وسورة القلم، لنكتة بيّنتها في «أسرار التنزيل» «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك في قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ (1) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الى قوله تعالى وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الآيات 2- 5] .
(3) . ذكر المؤلّف في المقدّمة: أنه ألّف هذا الكتاب الموسوعي، ولم نعثر عليه في قوائم المخطوطات، وأشار اليه في الإتقان: 1: 281، 3: 369.
والذي نراه في سبب عدم افتتاح العنكبوت والروم بالكتاب أو وصفه، والله أعلم: أنّه لمّا تكرّر الحديث عن الكتاب عقب الحروف المقطّعة، وأنه من عند الله، وهدى للمتقين، وتنزيل من رب العالمين، كان لا بد من ابتلاء المصدّقين به حتّى ينعزل المنافقون عن المؤمنين، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، وهذا بمثابة الاختبار العملي لاستجابة الناس لأمر الكتاب، ولا سيّما وأن ثمّة حملة تشكيك أثارها الكفّار ضد الايمان. ولذا قال تعالى في العنكبوت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ [العنكبوت: 10] الى أن قال جلّ وعلا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] .
أمّا في الروم، فقد عقبت الحروف المقطّعة باختبار ودليل على صدق وعد الكتاب، الذي صدّق الكتاب بالإخبار عن المستقبل، وما يجري فيه من وعد الروم بالنصر بعد الهزيمة. وهذا ابتلاء يميّز الله به المؤمنين من المنافقين عند هذا الوعد، وموقف الفريقين منه. ودليل على صدق الكتاب، وأنّه من الله سبحانه حينما تحقق النصر بالفعل.
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) .
أمّا سورة القلم، فكانت ثالثة السور نزولا بمكّة، وكان الكفّار قد أرجفوا بأنّ الرسول (ص) مجنون، أو به مسّ من الجن، فاقتضى الأمر تسليته وتثبيت فؤاده، وقدّم هذه التسلية على الدفاع عن القرآن الذي جاءه عقب ذلك في الآيات وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم] الى: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) [القلم] .(7/11)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الروم» «1»
1- فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الآية 3] .
قال ابن عبّاس: في طرف الشام «2» .
وقال مجاهد: في الجزيرة «3» ، وهي أقرب أرض الرّوم إلى فارس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
2- فِي بِضْعِ سِنِينَ [الآية 4] .
هي تسع فيما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود.
وسبع فيما أخرجه التّرمذيّ من حديث نيار الأسلمي «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مورخ.
(2) . في (أذرعات) كما في رواية عكرمة في «الطّبري» 21: 13 وهي المسمّاة الآن (درعا) في جنوب سورية.
(3) . الجزيرة: منطقة في سورية تقع بين نهري دجلة والفرات.
(4) . التّرمذيّ (3192) في التفسير، وقال: هذا حديث صحيح، حسن غريب.(7/13)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الروم» «1»
1- قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الآية 9] .
وقوله تعالى: وَعَمَرُوها معروف من العمارة. وقد استعمل الثلاثي.
وأمّا في عربيّتنا المعاصرة فقد دأب المعربون على استعمال المضاعف «عمّر» .
2- وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الآية 43] .
أي: يتصدّعون، أي: يتفرّقون.
أقول: ودلالة التصدّع في عصرنا اختصّت بالشيء يتكسّر، فتذهب منه أجزاء وليس في دلالاته هذا الدليل الذي ورد في الآية.
3- وقال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) .
يقال: استعتبني فلان فأعتبته، أي:
استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيا عليه، وحقيقة أعتبته: أزلت عتبة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/15)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الروم» «1»
قال تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) أي: من بعد ما غلبوا. وقرأ بعضهم (غلبت) و (سيغلبون) لأنهم كانوا حين جاء الإسلام غلبوا ثم غلبوا حين كثر الإسلام.
وقال سبحانه: أَساؤُا السُّواى [الآية 10] ف «السّوأى» مصدر هاهنا مثل «التقوى» .
وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الآية 24] فلم يذكر فيها (أن) لأنّ هذا يدل على المعنى. قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المائة] :
الا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي
أراد: أن أحضر الوغى.
وقال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ [الآية 30] بالنّصب على الفعل، كأنّ السّياق «فطر الله تلك فطرة» .
وقال سبحانه: مُنِيبِينَ [الآية 31] على الحال لأنّه حينما قال فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الآية 30] قد أمره وأمر قومه، حتّى كأنّ السياق «فأقيموا وجوهكم منيبين» .
وقال تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا [الآية 34] فمعناه، والله أعلم، فعلوا ذلك ليكفروا. وإنّما أقبل عليهم، فقال «تمتّعوا» فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) وقرأ بعضهم: (فتمتّعوا فسوف يعلمون)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(7/17)
كأنّه «فقد تمتّعوا فسوف يعلمون» .
وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) فقوله تعالى: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) هو الجواب لأنّ «إذا» معلّقة بالكلام الأوّل بمنزلة «الفاء» .
وفي قوله سبحانه: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) ورد مِنْ قَبْلِهِ للتوكيد نحو فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (40) [الحجر] .
وقال تعالى: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الآية 4] بالرفع لأن «قبل» و «بعد» مضمومتان، ما لم تضفهما لأنهما غير متمكّنتين، فإذا أضفتهما تمكّنتا.(7/18)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الروم» «1»
إن قيل: لم ذكر الضمير في قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] والمراد به الإعادة لسبق قوله جلّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الآية 27] .
قلنا: معناه: ورجعه، أو ردّه أهون عليه، فأعاد الضمير على المعنى لا على اللفظ، كما في قوله تعالى لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الفرقان: 49] أي بلدا أو مكانا.
فإن قيل: لم أخّرت الصلة في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] وقدمت في قوله تعالى هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9] ؟
قلنا: لأن هناك قصد الاختصاص، وهو يحسّن الكلام، فكأنّ السّياق:
هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وإن كان مستصعبا عندكم وأما هنا فلا معنى للاختصاص فجرى على أصله، والأمر مبني على ما يعقل الناس من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغيّر المعنى.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] والأفعال كلّها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى في السهولة سواء، وإنّما تتفاوت في السهولة والصعوبة بالنسبة إلى قدرتنا؟
قلنا: معناه «وهو هيّن عليه» ، وقد جاء في كلام العرب أفعل بمعنى اسم الفاعل من غير تفضيل، ومنه قولهم في الأذان: الله أكبر، أي: الله كبير في قول بعضهم، وقال الفرزدق:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/19)
إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا بيتا دعائمه أعزّ وأطول أي عزيزة طويلة، وقال معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل على أيّنا تعدو المنية أوّل أي وإنّي لوجل. وقال آخر:
أصبحت أمنحك الصّدود وإنّني قسما إليك مع الصّدود لأميل أي لمائل، وقال آخر:
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي بواحد. الثاني: أنّ معناه، وهو أهون عليه في تقديركم وحكمكم، لأنّكم تزعمون وتعتقدون فيما بينكم أنّ الإعادة أهون من الابتداء، كيف يكون ذلك، والابتداء من ماء، والإعادة من تراب، وتركيب الصورة من التراب أهون عندكم؟ الثالث: أن الضمير في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الآية 27] راجع إلى المخلوق لا إلى الله تعالى، معناه: أنه لا صعوبة على المخلوق فيه ولا إبطاء، لأنه يعاد دفعة واحدة، بقوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] وفي الابتداء خلق نطفة ثم نقل إلى مضغة ثمّ إلى عظام ثمّ إلى كسوة اللحم. الرابع: أنّ الابتداء من قبيل التفضّل الّذي لا مقتضى لوجوبه، والإعادة من قبيل الواجب لأنها لا بدّ منها لجزاء الأعمال، وجزاؤها واجب بحكم وعده سبحانه وتعالى.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً [الآية 39] على اختلاف القراءتين بالمد والقصر؟
قلنا: قال الحسن رحمه الله: المراد به الربا المحرم. والخطاب لدافعي الرّبا، لا لآخذيه. معناه: وما أعطيتم أكلة الربا من زيادة لتربو وتزكو في أموالهم فلا تزكو عند الله ولا يبارك فيها، ونظيره قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: 276] لا فرق بينهما. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور: المراد به أن يهب الرجل غيره هبة أو يهدي إليه هديّة على قصد أن يعوّضه أكثر منها.
وقالوا: وليس في ذلك أجر ولا وزر، وإنّما سماه لأنه مدفوع لاجتلاب الربا، وهو الزيادة، فكان سببا لها، فسمّي باسمها ومعنى قراءة المد ظاهر. وأما قراءة القصر فمعناها: وما جئتم: أي(7/20)
وما فعلتم من إعطاء ربا كما تقول أتيت خطأ وأتيت صوابا: أي فعلت، وقوله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) ، أي ذوو الأضعاف من الحسنات، وهو التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ [الآية 49] بعد قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ [الآية 49] .
قلنا: فائدته التأكيد كما في قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر] . وقيل الضمير لإرسال الرياح أو السحاب فلا تكرار.
فإن قيل: لم قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الآية 54] والضعف صفة الشيء الضعيف، فكيف يخلق الإنسان من تلك الصفة، مع علمنا أنه خلق من عين، وهو الماء أو التراب، لا من صفة.
قلنا: أطلق المصدر وهو الضعف، وأريد به اسم الفاعل وهو الضعيف كقولهم: رجل عدل، أي: عادل ونحوه فمعناه من ضعيف وهو النطفة. وقيل: معناه على ضعف، «فمن» بمعنى «على» كما في قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء: 77] والمراد به ضعف جثّة الطفل في طفولته.
فإن قيل: لم قال تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الآية 56] وهم إنّما لبثوا في الأرض في قبورهم؟
قلنا: معناه لقد لبثتم في قبوركم على ما في علم كتاب الله، أو في خبر كتاب الله. وقيل معناه: في قضاء الله. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره: وقال الّذين أوتوا العلم في كتاب الله الّذين عملوه وفهموه، وذلك كقوله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) [المؤمنون] .
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وقال في موضع آخر: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) [فصّلت] فجعلهم مرّة طالبي الإعتاب، ومرّة مطلوبا منهم الإعتاب؟
قلنا: معنى قوله تعالى: وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) أي ولا هم يقالون عثراتهم بالردّ إلى الدنيا، ومعنى قوله تعالى وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) [فصلت] أي: وإن يستقيلوا فما هم من المقالين، هذا ملخّص الجواب وحاصله.(7/21)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الروم» «1»
قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) «2» .
هذه استعارة والمراد بقيام الساعة حضور وقتها والأجل المضروب لها.
وعلى هذا قولهم: قد قامت السوق أي حضر وقتها الّذي يتحرّك فيه أصحابها ويستمرّ بيعها وشراؤها. وعلى هذا المعنى سمّيت القيامة. وقد يجوز أيضا أن تكون تسميتها بذلك لقيام الناس فيها على أقدامهم قال سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) [المطفّفين] :
فأمّا قوله تعالى في هذه السورة وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الآية 25] ، فمعناه أنها تتماسك بأمره في مناطاتها وتقف على مستقرّاتها، ومثل ذلك قول القائل: إنّما يقوم أمر فلان بكذا، يريد أنّه إنّما يتماسك به، وليس هناك في الحقيقة قيام يشار إليه. فأمّا قوله تعالى في هذه السورة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الآية 30] ، فالمراد به اتّبع طرائق الدين قاصدا إلى سمته غير منحرف عنه إلى غيره، ومنه قول العرب: قد استقام المنسم إذا سارت الإبل في طريق واضح لا جوانح له ولا معادل فيه والمعنى قوّم وجهك على الدين اللّاحب «3» ومنهج الحق الواضح وقوله تعالى في هذه الآية دليل على أنّ الدّين القيّم راجع في
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . من بلس: انكسر وحزن. قلّ خيره. تحيّر في أمره. يئس من رحمة الله.
(3) . من لحب، لحب الطريق: سلكه. أوضحه. [.....](7/23)
المعنى إلى ما ذكرناه، والمراد به أنه مستقيم بغير اعوجاج، ومنتصب بغير اضطراب، وقوله تعالى من بعد:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) قريب في المعنى ممّا تقدم، لأنّ المراد بذلك لا يخلو من أحد الأمرين: إمّا أن يكون أراد تعالى بإقامة الصلاة القيام لأوقاتها، لأنّ القيام من أعظم أركان الصلاة وإمّا أن يكون أراد تأديتها على واجبها وإخلاصها من كلّ ما يعود بفسادها، وذلك كقولهم:
أقام فلان قناة الدّين أي أظهر أمره، ووالى نصره، ورمى الأعداء عنه، ووقم «1» الأضداد دونه، وجميع هذه الألفاظ المذكورة نظائر، وهي بأجمعها استعارات لا حقائق، وإنّما أوردناها في نسق واحد، لاتّفاق ورودها في سورة واحدة.
2- قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 32] .
وهذه استعارة، لأن الدّين على الحقيقة لا يتأتّى فيه التفريق وإنّما المراد، والله أعلم، أنّهم لمّا افترقوا في دينهم بمذاهب مختلفة وطرائق متباينة، كانوا كأنّهم قد فرّقوه فرقا، وجعلوه شيعا، فحسن وصفهم بذلك.
3- قال تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) .
وهذه استعارة. والمراد بالسلطان هاهنا البرهان على أحد التأويلين وهو الحقّ الّذي يتسلّط به الإنسان على مخالفه، ويظهر على منازعه، وإنّما وصفه سبحانه بالكلام، لظهور حجّته وقوّة دعوته، فكأنه ناطق ومدافع مناضل.
4- قال سبحانه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الآية 39] .
وهذه استعارة والمراد بالرّبا هاهنا، المال الّذي يعطيه الإنسان غيره ليعطيه أكثر منه على الوجه المنهي عنه.
وأصل الرّبو الزيادة والكثرة، وإنّما سمّي المال المعطى الّذي يلتمسون به الزيادة ربا، لأنه جعل غرضه لطلب الزيادة، ووصلته إليها علّة لها، فحسن تسميته بذلك، للسبب الّذي ذكرناه، ومعنى قوله تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ
__________
(1) . من وقم، أوقم الرجل: قهره. وردّه عن حاجته أقبح الردّ.(7/24)
أي ليزيد في أموال الناس، وليس قوله سبحانه هاهنا بمعنى ليكون مددا لأموال الناس فتزيد به. وإنّما المعنى يزيد هو بدخوله في أموال الناس ودخوله فيها، هو أنّ صاحبه يعطيه الناس ليأخذ منهم أكثر منه فإذا ما كره وأراد التعويض عنه بالقدر الزائد عليه، كان كأنّه قد ربا أي كثر بحصوله في أموال الناس، لأنّ كثرته وإضعافه كان السبب فيهما، كونه في أموال الناس على الوجه الّذي بيّنّاه، وهذا من غوامض المعاني. ومن الشواهد على بيان ربا، بمعنى الزيادة والكثرة في كلامهم قول يزيد بن مفرغ الحميري:
وكم عطايا له ليست مكدّرة لا بل تفيض كفيض المسبل الرّابي يريد البحر، فسمّاه رابيا، لكثرة مائه وارتفاع أمواجه.
5- قال سبحانه: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) .
وهذه استعارة. ومعنى يمهدون هاهنا، أي يوطّئون لجنوبهم، ويمكّنون لأقدامهم عند مصارع الموت ومواقف البعث. وذلك كناية عن تقديم العمل الصالح والمتجر الرابح، تشبيها بمن وطّأ لمضجعه بالفرش الوثيرة والنمارق «1» الكثيرة.
6- قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الآية 46] .
وهذه استعارة. والمراد بها ما جرت به العادة من هبوب الرياح أمام الغيوث، وأنّ ذلك يقوم مقام النطق البشّار، والوعد بالأمطار المتوقعة بين يدي الرحمة. والرحمة في كثير من الآيات كناية عن الغيث، وعلى ذلك قوله تعالى في هذه السورة فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الآية 50] أي الى ما كان يعقب الغيوث، من منابت الأعشاب واكتساء القيعان.
7- قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 48] .
وهذه استعارة. والمراد بإثارتها السحاب أنها تلفق قطعه، وتوصل منقطعه، وتستخرجه من غيوبه، وتظهره بعد غيوضه تشبيها بالقانص أي ينهضه من مجاثمه، ويبرزه عن مكانه، لتراه عينه فيتأتّى لقنصه، ويتمكّن من فرصه.
__________
(1) . من النمرق: الوسادة الصغيرة يتّكأ عليها.(7/25)
سورة لقمان 31(7/27)
المبحث الأول أهداف سورة «لقمان» «1»
سورة لقمان سورة مكّيّة وعدد آياتها 34 آية. نزلت بعد سورة الصّافات، وسورة لقمان من أواخر ما نزل في مكة. فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وقد سمّيت بسورة لقمان لورود قصة لقمان فيها، الّذي كان من الحكماء الأقدمين، ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن.
وسورة لقمان رحلة بعيدة الاماد والآفاق، تطوف بالقلب في جولات متعدّدة، لتأكيد قضيّة العقيدة وترسيخها في النفوس، وهي القضيّة الّتي تعالجها السور المكّيّة بأساليب شتّى، ومن زوايا متنوّعة، تتناول القلب البشريّ من جميع أقطاره، وتلمس جوانبه بشتّى المؤثّرات الّتي تخاطب الفطرة وتوقظها.
هذه القضيّة الواحدة، قضية العقيدة، تتلخّص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده، وشكر آلائه، وفي اليقين بالآخرة، وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل، وفي اتّباع ما أنزل الله والتخلّي عمّا عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولّى عرض هذه القضيّة ثلاث مرّات في ثلاث جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري فتعرض عليه دعوة الهدى من جانب الوحي ومن جانب الحكمة ومن جانب الكون الكبير سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره وأجوائه وبحاره، وأمواجه
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/29)
وأمطاره، ونباته وأشجاره وأخيرا من جانب القدرة الإلهية المحيطة بكل شيء، صاحبة الملك في الأولى والاخرة.
فقرات السورة
يمكن أن نقسم سورة لقمان إلى ثلاث فقرات أو جولات:
الجولة الاولى:
تبدأ الجولة بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطّعة، فتقرّر أنّ هذه السورة من جنس تلك الأحرف، هي آيات الكتاب الحكيم، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) .
فتقرر قضيّة اليقين بالآخرة، وقضيّة العبادة لله، ومعها مؤثر نفسيّ ملحوظ:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) .
ومن ذا الّذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟ ... وفي الجانب الاخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم، ويتّخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثّر نفسيّ مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله.
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) .
ثمّ يمضي السّياق في وصف حركات هذا الفريق:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها [الآية 7] .
ومع الوصف مؤثّر نفسي منفّر من هذا الفريق:
كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [الآية 7] .
ومؤثّر آخر يخيفه مع التهكّم الواضح في التعبير:
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) .
والبشارة هنا فيها من التهكّم الملحوظ ... ثمّ يعود السّياق إلى المؤمنين يفصّل شيئا من فلاحهم الّذي أجمله في أوّل السورة، ويبيّن جزاءهم الحسن في الاخرة. ثمّ يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان القاطع الّذي يطالع الفطرة من كل جانب، ويخاطبها بكل لسان، ويواجهها بالحقّ الهائل الّذي يمرّ عليه النّاس غافلين ... وأمام هذه الأدلّة الكونيّة(7/30)
الّتي تهزّ الحسّ وتنبّه الشعور، وتأخذ بتلابيب القلوب الشاردة الّتي تجعل لله شركاء، وهي ترى خلقه العظيم:
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) .
وتمتد هذه الفقرة من أوّل السورة إلى الآية 11.
الجولة الثانية:
تبدأ الجولة الثانية من خلال نفوس آدميّة، وتتناول القضيّة ذاتها بأسلوب جديد ومؤثّرات جديدة: إنّها نصيحة من رجل حكيم يعظ ابنه، فيقدّم له خلاصة تجاربه وحكمته، فيأمره بالتوحيد وينهاه عن الشرك، ويحثّه على برّ الوالدين وطاعتهما فيما يأمران به، إلّا إذا أمرا بالشّرك ونحوه، وينبّه لقمان ولده إلى إحاطة علم الله بكل شيء، إحاطة يرتعش لها الوجدان البشري.
ثمّ يتابع لقمان وصيّته لابنه فيأمره أن يقوم بتكاليف العقيدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يصبر ويحتمل فإنّ الصبر من أمّهات الفضائل.
ويحثّ لقمان ولده على مكارم الأخلاق، وآداب النفس والسلوك فينهاه عن الكبر والبطر، ويأمره أن يعتدل في مشيته وأن يغضّ من صوته، وأن يلزم الرفق والهدوء والاعتدال.
وقد استغرقت هذه الجولة الآيات 12- 19.
الجولة الثالثة:
تستغرق الجولة الثالثة بقية السورة من الآية 20 إلى الآية 34، بعرض أدلة التوحيد في خلق السماء والأرض، وفي تسخير الكون، وإسباغ النعم الظاهرة والباطنة. وفي ظل النّعم الظاهرة والأدلّة الملموسة يبدو الجدل في الله مستنكرا للفطرة تمجّه القلوب المستقيمة.
ثمّ يتابع السّياق استنكار موقف الكفر والجمود، وتقليد الآباء دونما تبصّر ورويّة، ومن ثمّ يعرض قضيّة الجزاء في الاخرة مرتبطة بقضيّة الكفر والإيمان.
ثمّ يقف الكافرون وجها لوجه أمام منطق الفطرة، وهي تواجه هذا الكون فلا تملك إلّا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير. وتعرض الآيات مشهدا كونيا(7/31)
يهزّ القلب البشري، مشهد اللّيل وهو يطول فيدخل في جسم النّهار ويمتدّ، والنّهار وهو يطول فيدخل في جسم اللّيل ويمتدّ، ومشهد الشّمس والقمر مسخّرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلّا خالقهما. ويتّخذ من هذا المشهد الكونيّ دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة، وهي قضيّة التّوحيد.
ثمّ يلمس القلوب بمؤثّر آخر من نعمة الله على الناس، في صورة الفلك الّتي تجري في البحر، ثمّ يوقفهم أمام منطق الفطرة حينما تواجه هول البحر مجرّدة من غرور القدرة والعلم، الّذي يبعدها عن بارئها، ويتّخذ من هذا المنطق دليلا على قضيّة التوحيد.
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) .
وبمناسبة موج البحر وهوله، يذكّرهم بالهول الأكبر، وهو يقرّر قضيّة الاخرة، الهول الّذي يفرّ فيه الوالد من ولده، والولد من والده:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الآية 33] . وتختم السورة بآية تقرّ القضايا الّتي عالجتها في إيقاع قويّ عميق مرهوب، فتذكّر أن الله جلّ جلاله، استأثر بخمس لا يعلمهنّ سواه:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) .
هذه الجولات الثلاث بأساليبها ومؤثّراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب، هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب، العليم بمداخليها، الخبير بما يصلح لها، وما تصلح به من الأساليب.(7/32)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «لقمان» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة لقمان بعد سورة الصّافّات، وهي من السور الّتي نزلت في مكّة بعد الإسراء، فيكون نزول سورة لقمان بعد الإسراء وقبيل الهجرة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود قصّة لقمان فيها، وكان من الحكماء الأقدمين ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن الكريم، وتبلغ آياتها أربعا وثلاثين آية.
الغرض منه وترتيبها
الغرض من هذه السورة بيان الموافقة بين ما جاء به القرآن من الحكمة المنزلة، وما جاء به لقمان الحكيم من الحكمة المأثورة عنه، إذ كان يدعو فيها كما يدعو القرآن إلى الإيمان بالله وحده، ويأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن الفواحش، وقد جاء هذا الغرض في هذه السّورة على ثلاثة أقسام: أوّلها في التنويه بحكمة القرآن، وثانيها في بيان شيء من حكمة لقمان، وثالثها في دعوة المشركين إلى الإيمان بما اتّفقت عليه الحكمة المنزلة والحكمة المأثورة عن الحكماء.
والمقصود من هذا تسلية النبي (ص) ببيان فضل ما أنزل إليه من هذه النّاحية، ليعلم أنّ قومه لا يخالفون ما جاء به هو وغيره من الأنبياء فقط، بل يخالفون ما جاء به لقمان وغيره من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/33)
الحكماء أيضا، فيهون عليه أمر كفرهم، ولا يحزن لعنادهم وتعنّتهم، وهذا هو وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الروم.
التنويه بحكمة القرآن الآيات [1- 11]
قال الله تعالى: الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) فذكر أنّ القرآن يشتمل على آيات حكيمة يقصد منها الهداية والرّحمة، وأنه قد أصلح بذلك من حسنت طباعهم وأفعالهم ممّن يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويؤمنون بالآخرة، ولم ينكر فضله في ذلك إلّا من قبح طبعه فأثر الاشتغال بلهو الحديث على الاشتغال بحكمته، ثمّ أوعده على ذلك بما أوعده به من العذاب، ووعد من آمن به بنعيم الجنّات، وذكر أن وعده حقّ لا يتخلّف لأنه عزيز حكيم، يعذّب من يعرض عن حكمته ويثيب من يقبل عليها بكامل قدرته، ثم بيّن عزّته وقدرته بخلقه السماوات بغير عمد مشاهدة، إلى أن قال: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) .
بيان حكمة لقمان الآيات [12- 19]
ثمّ قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) . فذكر أنّه آتى لقمان الحكمة، وأنه كان يدعو فيها إلى ما يدعو إليه القرآن من الإيمان بالله، وطاعة الوالدين في ما يأمران به، إلّا إذا أمرا بالشّرك ونحوه، إلى غير هذا ممّا جاء في وصاياه لابنه، وقد ختمها بقوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) .
الدعوة إلى ما اتفقت عليه الحكمتان الآيات [20- 34]
ثمّ قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الآية 20] ، فدعاهم إلى ما اتّفقت عليه الحكمتان من الإيمان به. وعاب عليهم أن يجادلوا فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. والعلم إشارة إلى الحكمة المأثورة والكتاب إشارة إلى الحكمة(7/34)
المنزّلة وإنما هو تقليد لآبائهم من غير اعتماد على دليل.
ثمّ نهى النبي (ص) أن يحزن لهذا الكفر الصادر عن عناد وجهل، وأخبره بأنه سيرجعهم إليه بعد أن يمتّعهم قليلا، ثم يضطرّهم إلى عذاب غليظ، ثمّ أثبت له عنادهم وجهلهم في كفرهم بأنه إن سألهم من خلق السماوات والأرض فإنهم يعترفون بأن الّذي خلقهما هو الله، ولكنّهم جهلاء معاندون فلا يحملهم ذلك على الإقلاع عن شركهم ثم ذكر أنّ له سبحانه ما.
في السماوات والأرض فلا يقتصر أمره على خلقهما، وأنّ ملكه لا يقتصر على ذلك وحده لتناهيه، بل إن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [الآية 27] ، أي عجائبه، وما خلقنا وبعثنا إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها، فالقليل والكثير سواء في قدرته. ثمّ ذكر من عجائب قدرته وعلمه أنّه يولج النّهار في اللّيل، وأنّه سخّر الشمس والقمر كلّ يجري إلى أجل مسمّى، وأنّه سخّر الفلك تجرى في البحر بنعمته ليريهم ما في البحر من عجائبه وأهواله، فإذا غشيهم موجه كالظلّ دعوا الله ليخلّصهم منه، فإذا نجّاهم إلى البرّ رجعوا الى ما كانوا عليه من كفر، فمنهم من يقتصد فيه بتأثير ما شاهده، ومنهم من يجحد ما شاهده من العجائب لمبالغة في الكفر.
ثمّ ختم السورة بأمرهم بتقواه كما جاءت به الحكمة المنزلة والحكمة المأثورة، وبأن يخشوا يوم الاخرة الّذي لا ينفع الإنسان فيه إلّا عمله، وأخبرهم بأن وعده حق، فلا يغرّنّهم بالله الغرور إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) .(7/35)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «لقمان» «1»
أقول: ظهر لي، من اتّصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح ب الم، أن قوله تعالى هنا: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) متعلّق بقوله في آخر سورة الروم:
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: 56] .
فهذا عين إيقانهم بالآخرة، وهم المحسنون الموقنون بما ذكر.
وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الأديان وبدء الخلق «2» .
وذكر في الروم: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . ذكرت جملة الأديان في سورة الروم في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى قوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) [الروم] وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الروم: 32] وبدء الخلق في قوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الروم: 20] وما بعدها.
وذكرت جملة الأديان في سورة لقمان في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وما بعدها. وبدء الخلق في قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الآية 10] . وقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [الآية 28] .(7/37)
وقد فسّر بالسّماع «1» وفي لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] . وقد فسّر بالغناء، وآلات الملاهي «2» .
__________
(1) . هو قول يحيى بن أبي كثير. أنظر (تفسير ابن كثير 6: 313) .
(2) . هو قول ابن مسعود سمعه منه أبو الصهباء البكري (تفسير الطبري 21: 39) . وهو قول ابن عبّاس، وجابر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، والحسن. وانظر صحيح التّرمذي: 4: 502، 503 بتحفة الأحوذي.(7/38)
المبحث الرابع مكنونات سورة «لقمان» «1»
1- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] .
قال ابن عبّاس: نزل في النّضر بن الحارث «2» . أخرجه جويبر «3» .
2- وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ [الآية 10] .
قال ابن عبّاس هي الجبال الشّامخات، من أوتاد الأرض. وهي سبعة عشر جبلا، منها: قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وسينين، وثبير، وطور سيناء. أخرجه جويبر.
3- وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ [الآية 13] .
اسم الابن: تاران «4» .
وقيل: أنعم.
وقيل: مشلم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . كان النّضر يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها، ويحدّث فيها قريشا، ويقول لهم: إن محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وأسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون استماع القرآن فنزلت فيه. نقله الواحدي في «أسباب النزول» : 259 عن مقاتل والكلبي.
(3) . جويبر هو ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، ضعّفه الكثير من المحدثين، وعدّه يحيى القطّان ممّن لا يحمل عنهم الحديث، ويكتب التفاسير عنهم، وذكره السيوطي ممّن أسندوا التفسير إلى ابن عبّاس وهي غير مرضية ورواتها مجاهيل. انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر 2: 124 و «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي 2: 188، و «الدر المنثور» 5: 159.
(4) . كذا في الأصول وفي «الإتقان» 2: 147: «اسمه باران بالموحّدة، وقيل واران» .(7/39)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «لقمان» «1»
1- قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [الآية 22] .
قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ هو من باب جعل الوجه ذاته ونفسه سالما لله أي: خالصا له.
2- قال تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) .
الختر: أشدّ الغدر.
أقول: ولا نعرف «الختر» ولا «الختّار» في العربية المعاصرة. ومثل الختر «الختل» ، مع خصوصيّة معنويّة في نوع الغدر، وكذلك الختّال.
وهاتان الكلمتان باللام من الكلم المعروف في عصرنا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/41)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «لقمان» «1»
قال تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) لأن قوله تعالى:
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) معرفة، فهذا خبر المعرفة.
وقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [الآية 12] وهي «بأن اشكر الله» .
وقال تعالى: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ [الآية 16] أي: «إن تكن خطيئة مثقال حبّة» ورفع بعضهم فجعلها «كان» الّذي لا يحتاج الى خبر كأنه «بلغ مثقال حبّة» .
وقال تعالى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ [الآية 21] هنا ألف استفهام أدخلت على واو العطف.
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [الآية 27] رفع على الابتداء ونصب على القطع.
ورفع لفظ الأقلام على خبر «أنّ» .
وقال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [الآية 34] وقد تقول: «أيّ امرأة جاءتك» و «أيّة امرأة جاءتك» .
وقال تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [الآية 14] أي في انقضاء عامين ولم يذكر الانقضاء كما قال سبحانه:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] يعني أهل القرية.
وقال تعالى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [الآية 16] يقول «إن تكن المعصية مثقال حبّة من خردل» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](7/43)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «لقمان» «1»
إن قيل: كيف يحلّ الغناء بعد قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [الآية 6] ، وقد قال الواحدي في تفسير وسيطه: أكثر المفسّرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء. وروى هو أيضا عن النبي (ص) أنّه قال:
«والّذي نفسي بيده ما رفع رجل قط عقيرته يتغنّى إلّا ارتدّ فيه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتى يسكت» . وقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن مسعود رضي الله عنهم:
لهو الحديث هو والله الغناء واشتراء المغنّي والمغنّية بالمال. وروى أيضا حديثا آخر مسندا، عن النبي (ص) أنّه قال في هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اللعب والباطل كثير النفقة سمح فيه، لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به. وروى أيضا حديثا آخر مسندا عن النبي (ص) أنه قال:
«من ملأ سمعه من غناء، لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة. قيل: وما الروحانيّون؟ قال قرّاء أهل الجنة» . قال أهل المعاني:
ويدخل في هذا كلّ من اختار اللهو واللعب والمزامير والمعازف وآثرها على القرآن، وإن كان اللفظ ورد بالاشتراء، لأنّ هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا. وقال قتادة رحمه الله: حسب المرء من الضّلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق. هذا كله نقله الواحدي رحمه الله، وكان من كبار السلف في العلم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/45)
والعمل. وقال غيره: قال ابن عبّاس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة: المراد بلهو الحديث الغناء. وعن الحسن رحمه الله تعالى أنّه كلّ ما ألهى عن الله تعالى. وفي معنى يشتري قولان: أحدهما أنّه الشّراء بالمال والثاني أنّه الاختيار كما مرّ. وقيل الغناء منفدة للمال، مفسدة للقلب، مسخطة للربّ.
قلنا: جوابه أنّهم يؤوّلون هذه الآية ونظائرها، وهذه الأحاديث ونظائرها فيصرفونها عن ظاهرها متابعة للهوى وميلا إلى الشهوات ولو نظروا بعقولهم في ما ينشأ عن جمعيّات السّماع في زماننا هذا من المفاسد، لعلموا حرمته بلا خلاف بين المسلمين، فإنّ شروط إباحة السّماع عند من أباحه لا تجتمع في زماننا هذا، على ما هو مسطور في كتب المشايخ وأرباب الطريق، ولو اشتغلنا بتفصيل مفاسده وعدد شروطه عند من أباحه لخرجنا عن مقصود كتابنا هذا.
فإن قيل: لم وقع قوله تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [الآية 14] ، في أثناء وصيّة لقمان لابنه، وما الجامع بينهما؟
قلنا: هي جملة وقعت معترضة على سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصيّة لقمان من النهي عن الشرك.
فإن قيل: في قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [الآية 14] ، لم اعترض بين الوصيّة ومفعولها؟
قلنا: لمّا وصى سبحانه بالوالدين ذكر ما تكابده الأم خاصة، وتعانيه من المشاق والمتاعب تخصيصا لها بتأكيد الوصيّة، وتذكير تعظيم حقّها بإفرادها بالذكر ومن هنا قال رسول الله (ص) لمن قال له: من أبرّ؟ قال أمّك ثم أمّك ثم أمّك، ثم قال بعد ذلك: ثمّ أباك.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [الآية 19] فجمع الأصوات، وأفرد صوت الحمير.
قلنا: ليس المراد ذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتّى يجمع، وإنّما المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان الناطق وغيره له صوت، وأنكر الأصوات من هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب إفراده لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك.(7/46)
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [الآية 27] يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد، فلم عدل عنه إلى قوله: سبحانه وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [الآية 27] ؟
قلنا: استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى يَمُدُّهُ والفعل مأخوذ من مد الدواة وأمدها. أي: زادها مدادا.
فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مملوءة مدادا تصبّ فيه أبدا صبّا لا ينقطع، فصار نظير ما ذكرتم، ونظيره قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف:
109] .
فإن قيل: لم قال تعالى: مِنْ شَجَرَةٍ ولم يقل «من شجر» ؟
قلنا: لأن السّياق اقتضى تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلّا وقد بريت أقلاما.
فإن قيل: الكلمات جمع قلة والمقصود التفخيم والتعظيم، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟
قلنا: جمع القلّة هنا أبلغ فيما ذكرتم من المقصود. لأن جمع القلّة إذا لم يفن بتلك الأقلام وذلك المداد، فكيف يفنى جمع الكثرة.
فإن قيل: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الآية 34] . لم أضاف سبحانه العلم إلى نفسه في الأمور الثلاثة من الخمسة المغيّبات، ونفى العلم عن العباد في الأمرين الآخرين، مع أن الأمور الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها وانتفاء علم العباد بها؟
قلنا: إنما خصّ الأمور الثلاثة الأول بالإضافة إليه تعظيما لها وتفخيما لأنّها أجلّ وأعظم وإنّما خصّ الأمرين الآخرين بنفي علمهما عن العباد، لأنّهما من صفاتهم وأحوالهم، فإذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الأمور الخمسة أولى.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [الآية 34] ولم يقل بأي وقت تموت، وكلاهما غير معلوم، بل نفي العلم بالزمان أولى، لأنّ من الناس من يدّعي علمه وهم المنجّمون، بخلاف المكان فإن أحدا لا يدّعي علمه؟
قلنا: إنّما خصّ المكان بنفي علمه لوجهين: أحدهما أن الكون في مكان(7/47)
دون مكان في وسع الإنسان واختياره، فيكون اعتقاده علم مكان الموت أقرب بخلاف الزمان. الثاني: أنّ للمكان تأثيرا في جنب الصحة والسقم بخلاف الزمان، أو تأثير المكان في ذلك أكثر.(7/48)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «لقمان» «1»
1- قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 6] .
وهذه استعارة، والمراد بالاشتراء هاهنا استبدال الشيء من غيره، وكذلك البيع للشيء يكون بمعنى استبدال غيره منه. فكأنّ المذموم بهذا الكلام استبدال لهو الحديث من سماع القرآن، والتأدب بآدابه والاعتلاق بأسبابه.
ويدخل تحت لهو الحديث، سماع الغناء والحداء والإفاضة في الهزل والفحشاء، وما يجري هذا المجرى.
ويروى عن ابن عبّاس في قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو شراء القينات، وقيل إنّ ذلك نزل في النّضر بن الحارث بن كلدة بن عبد الدار بن قصيّ. وكان يبتاع الكتاب، وفيها أحاديث الأكاسرة وأنباء الأمم الخالية، ويقرأها على قريش إلهاء لهم عن سماع القرآن وتدبّره، بزعمه وحيدا لهم عن تأمّل قوارعه وزواجره.
2- قال سبحانه: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الآية 7] .
وهذه استعارة، لأن البشارة في العرف إنما تكون بالخير والسعادة والمسرّة لا بالشّرّ والمضرّة. لكنّ إبلاغهم الوعيد بالعقاب، لمّا كان كإبلاغهم الوعد بالثواب في تقدم الخبر به، جاز أن يسمّى لهذه العلّة باسمه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/49)
وكان أبو العبّاس المبرّد يذهب بذلك مذهبا حسنا، فيقول: إنّ لفظ البشارة مأخوذ من البشرة فكأنّ المخبر لغيره بخبر النفع والخير، أو خبر الشّرّ والضّرّ يلقي في قلبه من كلا الأمرين ما يظهر تأثيره في بشرة وجهه: فإن كان خيرا ظهرت تباشير المسرّة، وإن كان شرّا ظهرت فيه علامات المساءة، فحسن على هذا المعنى، أن تستعمل البشارة في الشّرّ والضّرّ، كما تستعمل في النفع والخير.
3- قال تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [الآية 18] .
وقرئ «ولا تصاعر» وهذه استعارة.
وأصل الصّعر داء يأخذ الإبل في رؤوسها حتّى تقلب أعناقها. فكأنّه أمره أن لا يشمخ بأنفه ويعرض بوجهه من الكبر، تشبيها بالبعير إذا أصابه ذلك الداء، ومن صفات الكبر رفع الطرف حتّى كأنه معقود بالسماء، وعلى ذلك قول كثيّر في صفة قوم بالكبر:
تراهم إذا ما جئتهم فكأنّما يشيمون أعلى عارض متراكب أي يرفعون رؤوسهم كبرا، ويطمحون بأبصارهم عجبا وقال شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي:
أنشدنا أبو علي الفارسي هذا البيت، وقال يصلح أن يجعل في مقابلة قوله تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] لأنّ البيت في صفة المتكبّرين بالغيرة، والآية في صفة الخاشعين بالذّلّة، وهما في طرفين وسبيلين مختلفين. والبيت المتقدم ذكره أنشدنا إياه أبو الفتح عن أبي علي، على ما ذكرته، وهو قوله:
يشيمون أعلى عارض متراكب والصحيح «أعلى عارض متنصّب» لأن هذه القصيدة مدح بها كثيّر عبد الملك بن مروان، وتالي البيت المذكور قوله:
يردون «1» شزرا والعيون طوامح بأبصارهم آفاق شرق ومغرب وأنشده منشد عمر بن عبد العزيز فقال هجانا ورب الكعبة، يريد أنّه وصفهم بالكبر المفرط والطّماح المشرف «2» .
__________
(1) . نرجح أن يكون الفعل يرودون.
(2) . نظن أن الأصل المسرف.(7/50)
4- قال سبحانه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [الآية 19] .
وهذه استعارة، لأن أصل «الغض» الحطّ من منزلة عليّة إلى منزلة دنيّة.
يقال غضّ فلان من فلان إذا فعل به ذلك قولا وفعلا، وغضّ طرفه إذا كسره وضعّفه، أي فكأنّه قال: «وحطّ صوتك من حال الارتفاع إلى حال الانخفاض، إخباتا لله وتطامنا لأولياء الله» .(7/51)
سورة السّجدة 32(7/53)
المبحث الأول أهداف سورة «السجدة» «1»
سورة السجدة مكّية، وآياتها 30، نزلت بعد سورة غافر، وقد نزلت سورة السجدة في المرحلة الأخيرة من حياة المسلمين بمكّة، إذ كان نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة.
أسماء السورة
لسورة السجدة ثلاثة أسماء، الاسم الأول سورة السجدة، لاشتمالها على سجدة التلاوة في قوله تعالى:
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) .
الاسم الثاني: «سجدة لقمان» ، للتمييز عن حم السجدة، وهي سورة «فصّلت» .
الاسم الثالث: «المضاجع» لقوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [الآية 16] .
مخاطبة القلوب
سورة السجدة نموذج متميّز، من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري، بالعقيدة الصحيحة الّتي جاء القرآن ليوقظها في الفطرة، ويركزها في القلوب عقيدة الدينونة لله الأحد، الفرد الصمد، خالق الكون والناس ومدبّر السماوات والأرض وما بينهما، وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلّا الله، والتصديق برسالة محمد (ص) ، الموحى إليه بهذا القرآن، لهداية البشر إلى الله، والاعتقاد بالبعث والقيامة،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/55)
والحساب والجزاء. هذه هي القضية الّتي تعالجها السورة، وهي القضية الّتي تعالجها سائر السور المكّيّة، كلّ منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثّرات خاصّة، تلتقي كلّها في أنّها تخاطب القلب البشري، خطاب العليم الخبير، المطّلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكنّ فيها من مشاعر، وما يعتريها من تأثّرات واستجابات. في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب، وبطريقة مغايرين لأسلوب سورة لقمان السابقة وطريقته. فهي تعرضها في آياتها الأولى، ثم تمضي بقيّتها، تقدّم مؤثّرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمّل والتّدبّر، كما تقدّم أدلّة وبراهين على تلك القضيّة، معروضة في صفحة الكون ومشاهده، وفي نشأة الإنسان وأطواره، وفي مشهد من مشاهد اليوم الاخر حافل بالحياة والحركة، وفي مصارع الغابرين، وآثارهم القاطعة الناطقة بالعبرة، لمن يسمع لها ويتدبّر منطقها.
«كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة، في خشوعها وتطلّعها إلى ربّها، وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها، وتعرض صورا للجزاء الّذي يتلقّاه هؤلاء وهؤلاء وكأنّها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كلّ قارئ لهذا القرآن.
وفي كلّ هذه المعارض والمشاهد، تواجه القلب البشريّ، ممّا يوقظه ويحرّكه ويقوده إلى التأمّل والتدبّر مرّة، وإلى الخوف والخشية مرّة، وإلى التطلّع والرّجال مرّة، وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالأطماع وتارة بالإقناع ... ثمّ تدعه في النّهاية تحت هذه المؤثّرات، وأمام تلك البراهين، تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور» «1» .
أفكار السورة ونظامها
تبدأ سورة السجدة بالحديث عن القرآن الكريم، وتبيّن أنّه حقّ من عند الله، وتبيّن قدرة الله وعظمته، فهو خالق السماوات والأرض، وهو
__________
(1) . في ظلال القرآن، بقلم سيّد قطب 21: 92.(7/56)
المهيمن على الكون، وهو المدبّر للأمر كلّه، وهو الخالق للإنسان، وهبه السمع والبصر والإدراك والنّاس بعد ذلك قليلا ما يشكرون. وبذلك عالجت قضية الألوهيّة وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين، وتستغرق هذه المجموعة، بما فيها صفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم وصفة الرحمة، تستغرق من أوّل السورة إلى الآية 9.
ثمّ تتحدّث الآيات عن إنكار الكافرين للبعث والحساب، وتجيبهم بأن البعث حقّ، وتعرض مشهدا من مشاهد القيامة، يقف فيه المجرمون أذلّاء يعلنون يقينهم بالآخرة، ويقينهم بالحقّ الّذي جاءتهم به الدعوة المحمّدية.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب تعرض السورة مشهد المؤمنين في الدنيا وهم يعبدون الله، ويسجدون لعظمته، ويقومون الليل بالصلاة والعبادة، ثمّ تبشّرهم بحسن الجزاء:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
ثم تشير الآيات، إلى أن منطق العدالة يأبى أن يستوي المؤمن والفاسق، فقد اختلفوا في العمل في الدنيا، فيجب أن يختلف الجزاء في الاخرة، فللمؤمنين جنّات المأوى، وللفاسقين «عذاب» جهنم وتستغرق هذه المجموعة الآيات [10- 12] .
وفي الآيات الأخيرة من السورة، ترد إشارة إلى موسى (ع) ، ووحدة رسالته ورسالة محمد (ص) والمهتدين من قومه.
وتعقب هذه الإشارة، جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين، ثم جولة في الأرض الميتة، ينزل عليها الماء بالحياة والنماء.(7/57)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «السجدة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة السجدة بعد سورة غافر، وقد نزلت سورة غافر بعد الإسراء قبيل الهجرة، فيكون نزول سورة السجدة في ذلك التاريخ أيضا.
وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية 15 منها: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) .
وهي من الآيات الّتي تحسن السجدة عند قراءتها، وتبلغ آياتها ثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، وهو قريب من الغرض الّذي يقصد من السورة السابقة، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها وهذا، إلى أنّها تشبهها في ما جاء فيها، من حثّ المؤمنين على الصبر على أذى المشركين، ومن وعدهم بأن يجازوا على صبرهم كما جوزي الصابرون من بنى إسرائيل قبلهم، وقد جاء ذلك الغرض فيها على قسمين: أوّلهما في إثبات تنزيل القرآن، وبيان عاقبة من آمن به، ومن كذّب به في الاخرة والدنيا وثانيهما في تأييد ذلك، بما لا يمكن إنكاره من فطرة العقل، وبما حصل لمن آمن بالتوراة من بني إسرائيل من رفعة شأنهم، وجعلهم أئمّة في الدنيا، يهدون بأمر الله تعالى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/59)
إثبات تنزيل القرآن الآيات [1- 7]
قال الله تعالى: الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) فذكر سبحانه، أنّه لا ريب في تنزيل الكتاب من عنده، وأنّهم يزعمون أنّ النبي (ص) افتراه وردّ ذلك بأنّه جاء بالحقّ لينذر به قومه الّذين لم يأتهم نذير قبله، ويهديهم إلى الإيمان بالله بعد أن ضلّوا عنه وهو الّذي خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستّة أيّام، إلى غير هذا ممّا ذكره سبحانه في الهداية إلى الإيمان به.
ثمّ ذكر لهم شبهة أخرى، وهي إنكارهم ما أتى به، من بعثهم بعد أن يصيروا ترابا، ويضلّوا في الأرض، ومن لقاء ربهم ليعاقبهم على كفرهم وردّ عليهم بأنّه لا بدّ من الموت، ومن لقاء جزائهم بالبعث بعده، فإذا حاسبهم سبحانه على كفرهم، نكسوا رؤوسهم، ودعوه أن يرجعهم إلى الدنيا ليؤمنوا فيها به، فيجيبهم تعالى بأنّه لو شاء لهداهم في الدنيا، ولكنه لم يشأ ذلك، فلا سبيل إلى تغييره برجوعهم إليها، ولا بدّ لهم من دخول جهنّم، ولا بدّ لهم أن يذوقوا عذابها بما نسوا لقاء يومهم هذا ثمّ ذكر جلّ وعلا أنّ الإيمان لا يكون من قوم متكبّرين مثلهم، وإنّما يكون من قوم إذا ذكّروا بآيات ربهم خرّوا سجدا، وتواضعوا لمن يذكّرهم، إلى غير هذا من صفاتهم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) .
أخذهم بالترغيب والترهيب إلى الايمان به الآيات [18- 30]
ثم قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) فذكر سبحانه أنه لا يمكن أن يكون جزاء من يصدّق به كجزاء من يكذّب به، لدليلين: أوّلهما: أنّه لا يمكن في العقل أن يستوي المؤمن والفاسق في الجزاء، فالمؤمنون لهم جنّات المأوى جزاء لهم، والفاسقون مأواهم النار في الاخرة، ولهم في الدنيا عذاب أدنى من ذلك، بتسليط المؤمنين عليهم وثانيهما، أنّه أتى موسى الكتاب فأظفر من آمن به على من كذّب به، فلا يصحّ للنبي (ص) أن يشكّ في أنّه سيلقى من ذلك، مثل ما لقي موسى (ع) ثمّ ذكر(7/60)
تعالى أنه جعل كتاب موسى (ع) هدى لبني إسرائيل، وأنّه سبحانه، هداهم به وجعل منهم أئمّة يهدون بأمره، وأنه كافأهم بذلك، لصبرهم على أذى أعدائهم.
ثمّ ذكر لأولئك المشركين، أنّ الأمر في هذا، لا يقتصر على موسى وقومه، بل هناك قرون كثيرة أهلكهم الله جلّ جلاله، على تكذيبهم رسلهم، وأنّهم يمشون في مساكنهم فيشاهدون ما حصل لهم بأعينهم ثمّ ذكر تعالى لهم، أنّ تلك النّقم آية لهم على قدرته، لو تأمّلوا فيها بعقولهم وحثّهم على التأمّل في نعمه (سبحانه) عليهم، بسوق الماء إلى الأرض الجرز «1» ، ليخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم فجمع بهذا بين ترهيبهم وترغيبهم.
ثمّ ختمت السورة بذكر سؤال المشركين، على سبيل الاستهزاء: متى هذا الفتح الّذي يكون للمؤمنين؟
وأجابهم جلّ شأنه، بأنّه إذا أتى يؤمنون بصدقه فلا ينفعهم إيمانهم، ولا يمهلون ليستدركوا ما فاتهم ثمّ أمر النبي (ص) أن يعرض عن استهزائهم، وينتظر وعده بهلاكهم، فقال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) .
__________
(1) . أي الأرض الجدبة.(7/61)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «السجدة» «1»
أقول: وجه اتّصالها بما قبلها: أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة الّتي ذكرت في خاتمة لقمان.
فقوله تعالى، هنا: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) .
شرح لقوله سبحانه هناك: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] . ولذلك عقّب تعالى هنا بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الآية 6] .
وقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [الآية 27] شرح لقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] .
وقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [الآية 7] شرح لقوله سبحانه:
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان: 34] .
وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 5] وقوله:
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [الآية 13] شرح لقوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان:
34] .
وقوله تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [الآية 10] إلى قوله تعالى:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) شرح لقوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] . فلله الحمد على ما ألهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(7/63)
المبحث الرابع مكنونات سورة «السجدة» «1»
1- مَلَكُ الْمَوْتِ [الآية 11] .
أخرج أبو الشيخ عن وهب: أنّ اسمه عزرائيل (ع) .
2- أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [الآية 18] .
أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن أبي ليلى والسّدّي: أنها نزلت في عليّ (ع) ، والوليد بن عقبة. وأخرجه الواحدي «2» عن ابن عبّاس.
3- الْأَرْضِ الْجُرُزِ [الآية 27] .
قال ابن عبّاس: أرض باليمن. وقال مجاهد: هي أبين «3» .
وقال الحسن: هي فيما بين «4» اليمن والشّام. أخرجها ابن أبي حاتم.
وقال قوم: هي مصر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . في «أسباب النزول» : 263 و (المؤمن) هو علي. و (الفاسق) هو الوليد بن عقبة.
(3) . نصّ رواية مجاهد، كما في «الدر المنثور» 5: 179: «هي الّتي لا تنبت، هي أبين ونحوها من الأرض» . وانظر نحوها في «تفسير الطّبري» 21: 72.
(4) . في «الدر المنثور» 5: 179: و «هي قرى» .(7/65)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «السجدة» «1»
1- قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [الآية 27] .
«الجرز» : الأرض الّتي جرز نباتها، أي قطع، إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنّه رعي وأزيل، ولا يقال للّتي لا تنبت كالسّباخ: جرز.
أقول: وقد جاء «الجرز» وصفا للصّعيد في قوله تعالى:
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) [الكهف] .
أقول: وإذا كان الجرز هذه صفته، «فالصعيد الجرز» هو «الصعيد» الموصوف ب «الطيّب» في قوله تعالى.
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء: 43] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](7/67)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «السجدة» «1»
قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [الآية 26] بالياء يعني «ألم يبيّن وقرأ بعضهم (أولم نهد) «2» أي: أولم نبيّن لهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . القراءة بالياء في الطّبري 21: 114، نسبت الى ابن عبّاس، وقتادة، وقرّاء الأمصار والقراءة بالنون نسبت في الشواذ 118، إلى الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ، وابن عبّاس (رض) ، والسّلمي وفي الجامع 14: 110 الى قتادة، والسّلمي، وأبي زيد، عن يعقوب.(7/69)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «السجدة» «1»
إن قيل: لم قال تعالى هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) وقال تعالى، في سورة المعارج: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج] ؟
قلنا: المراد بالأوّل، مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى السطح الأعلى من سماء الدنيا وذلك ألف سنة، خمسمائة سنة مسافة ما بين السماء والأرض، وخمسمائة سنة مسافة سمك سماء الدنيا والمراد بالثاني مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى العرش. الثاني: أنّ المراد به في الآيتين يوم القيامة، ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا، لقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ومعنى قوله تعالى: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي:
لو تولّى فيه حساب الخلق غير الله تعالى. الثالث: أنه كألف سنة في حقّ عوام المؤمنين، والخمسين ألف سنة في حقّ الكافرين، لشدّة ما يكابدون فيه من الأهوال والمحن وكساعة من أيّام الدنيا في حقّ خواصّ المؤمنين.
ويؤيّده ما روي أنّه قيل «يا رسول الله يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله، فقال: والّذي نفسي بيده ليخفّف على المؤمن، حتّى يكون عليه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ(7/71)
أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا» . وروي أن ابن عبّاس رضي الله عنهما سئل عن هاتين الآيتين؟ فقال:
يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه وإنّي أكره أن أقول في كتاب الله، بما لا أعلم.
فإن قيل: لم قال تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [الآية 7] على اختلاف القراءتين «1» ومقتضى القراءتين، أن لا يكون في مخلوقات الله تعالى شيء قبيح، والواقع خلافه ولو لم يكن إلّا الشّرور والمعاصي فإنها مخلوقة لله تعالى عند أهل السنة والجماعة، مع أنها قبيحة؟
قلنا:
كلمة «أحسن» بمعنى: أحكم وأتقن، وهذا الجواب يعمّ القراءتين.
الثاني: أنّ فيه إضمارا تقديره: أحسن إلى كل شيء خلقه. الثالث: أنّ «أحسن» بمعنى «علم» ، كما يقال فلان لا يحسن شيئا. أي: لا يعلم شيئا.
وقال عليّ كرّم الله وجهه: قيمة كلّ امرئ ما يحسنه: أي ما يعلمه فمعناه أنّه علم خلق كل شيء، أو علم كلّ شيء خلقه، ولم يتعلّمه من أحد، وهذان الجوابان يخصّان بقراءة فتح اللام.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) وقال في موضوع آخر مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون] ؟
قلنا: المذكور هنا صفة ذرّيّة آدم (ع) ، والمذكور هناك صفة آدم (ع) يعلم ذلك من أوّل الآيتين فلا تناف.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [الآية 9] والله تعالى منزّه عن الرّوح؟
قلنا: معناه: نفخ فيه من روح مضافة إلى الله تعالى، بالخلق والإيجاد، لا بوجه آخر. فإن قيل: لم قال تعالى هنا قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [الآية 11] وقال تعالى، في موضع آخر: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام: 61] ، وقال تعالى في موضع آخر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزّمر: 42] ؟
قلنا: الله تعالى هو المتوفّي بخلق الموت وأمر الوسائط بنزع الروح، والملائكة المتوفّون أعوان ملك
__________
(1) . أي بتحريك اللام أو تسكينها في قوله تعالى: خَلَقَهُ..(7/72)
الموت، وهم يجذبون الروح من الأظفار إلى الحلقوم وملك الموت يتناول الروح من الحلقوم، فصحّت الإضافات كلها.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً [الآية 15] الآية، وليس المؤمنون منحصرين فيمن هو موصوف بهذه الصفة، وليست هذه الصفة شرطا في تحقّق الإيمان؟
قلنا: المراد بقوله تعالى: ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا، والمراد بالسجود الخشوع والخضوع والتواضع، في قبول الموعظة بآيات الله تعالى، وهذه الصفة شرط في تحقق الإيمان. ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) [الإسراء] . الثاني: أنّ معناه إنّما يؤمن بآياتنا إيمانا كاملا، من اتّصف بهذه الصفة، وقيل المراد بالآيات فرائض الصلوات الخمس، والمراد التذكير بها بالأذان والإقامة.
فإن قيل: قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) يدل على أنّ الفاسق لا يكون مؤمنا؟
قلنا: الفاسق هنا بمعنى الكافر، بدليل قوله تعالى بعده: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) ، والتقسيم يقتضي كون الفاسق المذكور هنا كافرا، لا كون كل فاسق كافرا ونظيره قوله تعالى:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) [القلم] وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
[الجاثية: 21] ولم يلزم من ذلك، أنّ كلّ مجرم كافر، ولا أنّ كلّ مسيء كافر.
فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن قوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ [الآية 22] ؟
قلنا: لمّا جعله أظلم الظّلمة، ثم توعد كلّ المجرمين بالانتقام منه، دلّ على أن الأظلم يصيبه النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير، لم يفد هذه الفائدة.
فإن قيل: قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ [الآية 28] سؤال عن وقت الفتح، وهو يوم القضاء بين المؤمنين والكافرين، يعنى يوم القيامة، فكيف طابقه ما بعده جوابا؟
قلنا: لمّا كان سؤالهم سؤال تكذيب(7/73)
واستهزاء بيوم القيامة، لا سؤال استفهام، أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء، لا ببيان حقيقة الوقت.
فإن قيل: على قول من فسّر الفتح، بفتح مكّة أو بفتح يوم بدر، كيف وجّه الجواب عن قوله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ [الآية 29] ، وقد نفع بعض الكفار إيمانهم في ذينك اليومين، وهم الطلقاء الّذين آمنوا؟
قلنا: المراد أنّ المقتولين منهم، لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق.(7/74)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «السجدة» «1»
قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) .
وهذه استعارة، لأن المهين لا يكون بحقيقته إلّا الإنسان، قال الله تعالى حكاية على لسان فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) [الزخرف] ، وقال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم] ومهين فعيل من المهنة، وهي الخدمة، يقال مهن القوم يمهنهم مهنة إذا خدمهم والمهنة بكسر الميم خطأ، فيكون معنى من ماء مهين، على ما قدّمناه، أي من ماء مستذلّ، لأنّ ماهن القوم إذا خدمهم يكون ذليلا لهم، ومبتذلا بينهم.
- وقوله تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الآية 10] .
وهذه استعارة، لأنّها عبارة عن حال الموت والميت لا يوصف بالضلال، الّذي هو المتاه والضياع، فكأن المعن:
إذا دفنّا في الأرض، فكنّا كالشيء الضالّ، الضائع، لتفرّق أوصالنا، وتمزّق أعضائنا، تستأنف بعد هذه الحال، إعادتنا، وتستجدّ حياتنا كأنهم قالوا على سبيل الاستبعاد، وأخرجوه مخرج الاستطراف، والاستغراب فأعلمهم الله سبحانه، أنّهم لا يضلّون عن علمه، ولا يلطفون عن جمعه، وإن صاروا رميما وترابا، وفرقا وأوزاعا وفي عرف كلام العرب أنّ كل شيء غلب عليه شيء حتّى يغيّبه باشتماله عليه، فقد ضلّ فيه ويسمّون
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/75)
الدافنين للأموات مضلّين، لأنّهم يغيّبونهم في الأرض قال النابغة الذبياني في ذلك:
فآب مضلّوه بعين جليّة وغودر بالجولان حزم ونائل يريد دافنيه، وحكى الأصمعي أنه رواه مصلّوه بالصاد، وفتحها، والمصلّي الوارد بعد السابق، قال فكأنّ المعنى أنّ ناعيه الأوّل جاء بنعيه، فشكّ في قوله، ثمّ جاء الثاني بجملة الخبر، فوقع العلم وارتفع الشكّ، والعين الجليّة، الواضح الّذي يتجلّى بعد خفائه، أو يجلو الشك بعد التباسه وأنشد للمخبّل السعدي يمدح قيس بن عاصم المنقريّ:
أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدّهر قيس بن عاصم أي دفنته في التراب وغيبته في الأرض.
- وقوله سبحانه: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) .
وقد تقدّم مثل هذه اللفظة، في بعض السور المتقدّمة ولم نشر إليه إذ كان في الأشهر بيّن التأويل، خارجا عن الاستعارة، لأنّه عند عامّة المفسّرين، بمعنى المنزل والنزول، فكأنّه تعالى قال كانت لهم جنان الفردوس منزلا ينزلونه، وقرارا يستوطنونه، فلمّا بلغنا الى هذا الموضع من هذه السورة، نظرنا فإذا لهذه اللفظة مجاز آخر يدخلها في حيّز الاستعارة، فذكرناها لهذه العلّة، وهو أنّ لفظ النّزل عند بعضهم قد عبّر به عمّا يقرى به الضيف عند طروقه، ويعدّ له قبل نزوله، فيجوز أن يكون معنى قوله تعالى:
فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) أي أعدّ لهم في جنّات الله ما يعدّ للضّيوف لأنهم ضيفان الله تعالى في جنّاته، وجيرانه في داره ليس أنّ هناك قربا بمسافة، ولا وصفا في أداء إقامة، وإنما أوجب هذا الاختصاص، في قولنا: ضيفان الله، وجيران الله، لأنهم نزول في الدار، الّتي لا يملك الحكم فيها غيره، ولا يتسلّط عليها إلّا سلطانه، كما قيل إنّ قريشا كانوا يسمّون قطين الله، إذ كانوا جيران بيته الّذي اختصّه، وفرض على الناس حجّه، ومن الشاهد قول عبد الله بن قيس الرقيّات:
أتانا رسول من رقيّة ناصح بأنّ قطين الله بعدك سيّرا(7/76)
يريد أهل مكّة، وحكى ابن الزبير قال، سمعت حسّان بن ثابت ينشد هذا البيت، في جملة قصيدته الميميّة، على قوله:
لنا حاضر فخم وباد كأنّه قطين إله عزّة وتكرّما قال فغيّره الرواة فيما بعد، حسدا لقريش، فقالوا:
شماريخ رضوى عزّة وتكرّما وأيّ تكرّم للجبال؟! وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ [الآية 27] .
وقد أشرنا إلى هذه اللفظة أنها مستعارة، وأطلعنا خبيّها، ونشرنا مطويّها في سورة الكهف، فلا حاجة إلى إعادة ذلك.(7/77)
سورة الأحزاب 33(7/79)
المبحث الأول أهداف سورة «الأحزاب» «1»
سورة الأحزاب مدنيّة وآياتها 73 آية نزلت بعد سورة آل عمران. وتقع أحداث السورة فيما بين السنة الثانية والخامسة من الهجرة. وهي فترة حرجة لم يكن عود المسلمين قد اشتدّ فيها، إذ كانوا يتعرّضون لدسائس المنافقين واليهود.
وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر غزوة الأحزاب فيها، في قوله تعالى:
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الآية 20] .
أحداث السّورة
تتناول سورة الأحزاب قطاعا حقيقيّا من حياة الجماعة المسلمة، في فترة تمتدّ من بعد غزوة بدر الكبرى، إلى ما قبل صلح الحديبية، وتصوّر هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة، تصويرا واقعيّا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث الّتي تشير إليها في خلال هذه الفترة، والتنظيمات الّتي أنشأتها أو أقرّتها في المجتمع الإسلامي الناشئ.
ولهذه الفترة الّتي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة.
فهي الفترة الّتي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة. ولم يتمّ استقرارها بعد، ولا سيطرتها الكاملة، كالذي تمّ بعد فتح مكّة ودخول النّاس في دين الله أفواجا، واستتباب الأمر للدولة الاسلامية.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/81)
والسّورة تتولّى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة، وإبراز تلك الملامح، وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة، وبيان أصولها من العقيدة والتشريع. كما تتولّى تعديل الأوضاع والتقاليد، أو إبطالها وإخضاعها في هذا كلّه للتصوّر الإسلامي الجديد. وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم، يرد الحديث عن غزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف كما تعرض، بعدها، دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وبيوتهم ونسائهم.
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث، هي علاقة هذه وتلك بموقف الكافرين والمنافقين واليهود، وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة سواء من طريق الهجوم الحربي، والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة، أو من طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقيّة ... ثم ما نشأ في أعقاب الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة، تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة، وتماسك سياقها، وتناسق موضوعاتها المنوّعة إلى جانب وحدة الزمن تربط بين الأحداث والتنظيمات الّتي تتناولها السورة.
فصول السورة
يمكن أن نقسم سورة الأحزاب إلى خمسة فصول، يبدأ الفصل الأول منها بتوجيه الرسول (ص) إلى تقوى الله، وعدم الطاعة للكافرين والمنافقين، واتّباع ما يوحي إليه ربّه، والتوكّل عليه وحده سبحانه.
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية مبتدئا ببيان أن الإنسان لا يملك إلّا قلبا واحدا، ومن ثمّ يجب أن يتّجه إلى إله واحد، وأن يتّبع نهجا واحدا. ولذلك يأخذ في إبطال عادة الظّهار، وهو أن يحلف الرجل على(7/82)
امرأته أنّها عليه كظهر أمه، فتحرّم عليه حرمة أمه ويقرّر أن هذا الكلام يقال بالأفواه، ولا ينشئ حقيقة وراءه، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أمّا بهذا الكلام. ثم من هذا إلى إبطال التبني:
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الآية 4] .
والدعي هو المتبنّى يدّعي الإنسان بنوّته، وهو لا يصير ابنا بمجرّد القول، ثمّ يأمرهم أن يدعوا المتبنّى إلى أبيه، فإن ذلك أقسط وأعدل من دعوتهم لمن يتبنّونهم.
ثمّ ينشئ الولاية العامّة للرسول (ص) على المؤمنين جميعا، كما ينشئ صلة الأمومة الشعوريّة، بين أزواج النبي (ص) والمؤمنين ويعقّب على هذا التنظيم الجديد، بالإشارة إلى أنّ ذلك مسطور في كتاب الله القديم، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيّين وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة، على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات والمبادئ والتوجيهات، لتستقرّ في الضمائر والنفوس ويستغرق هذا الفصل من أول السورة إلى الآية 8.
غزوة الأحزاب وبني قريظة
نجد الفصل الثاني من السورة ممتدّا من الآية 9 إلى الآية 27، ويتناول هذا الفصل غزوة الأحزاب، ويصف مشاهدها وملابساتها، ويصوّر أحوال المسلمين فيها، وقد جاءتهم قريش من أسفل الوادي، وغطفان من أعلاه وأسقط في يد المسلمين: فالأحزاب أمام المدينة، ويهود بني قريظة نقضوا عهودهم، وأظهروا الخيانة والغدر للمسلمين وحفر المسلمون خندقا لحماية المدينة، وكان المسلمون غاية في الإجهاد والعسرة المادية، واشتدت الفتن، وفي وسط هذه المحن بشّر النبي (ص) المؤمنين بالنصر، ووعدهم كنوز كسرى وقيصر وظهر النفاق من بعض المنافقين فقالوا: إنّ محمّدا يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يستطيع الخروج إلى الخلاء وحده وفي ذلك يقول القرآن:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) .
واستنجد النبي (ص) ربّه سبحانه، ورفع يديه إلى السماء، وقال: «اللهم ربّ الأرباب ومسبّب الأسباب، اهزم(7/83)
الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم يا ربّ العالمين» . فأرسل الله جلّ جلاله ريحا عاتية، في ليلة شاتية مظلمة، خلعت خيام الكافرين، وكفأت قدورهم وانسحبت قريش وأحزابها، في ظلام الليل يجرّون أذيال الخوف والانكسار وسجّل الله عزّ وجل ذلك في القرآن الكريم، بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) .
وتصف الآيات صدق بعض المؤمنين وبلاءهم الحسن، وإخلاصهم لله في الجهاد حتى رؤي بعض الشهداء، وفيه أكثر من سبعين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم وفي مثل هؤلاء يقول عزّ وجلّ:
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) .
ثمّ تصف الآيات رحيل الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيرا، وحماية الله للمسلمين في هذه الموقعة، وهو سبحانه القويّ العزيز. ولمّا رحلت الأحزاب عن المدينة، نزل جبريل من السماء وقال: «يا محمد إن الملائكة لم تضع السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فإنّ الله ناصرك عليهم، جزاء خيانتهم وغدرهم» فقال (ص) : «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يصلينّ العصر إلّا في بني قريظة» . وهناك حاصر المسلمون بني قريظة، ثمّ أجلوهم عن ديارهم، وغنم المسلمون أرضهم ودورهم وأموالهم وحصونهم المنيعة، بقدرة الله، وهو على كل شيء قدير. قال تعالى:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ(7/84)
فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) .
زوجات الرسول (ص)
تتناول الآيات [28- 36] حديثا عن زوجات الرسول (ص) ، وكانت الغنائم قد جاءت للمسلمين، وأقبل المال بعد غزوة بني قريظة، فتطلّعت زوجات الرسول (ص) إلى المتعة والنفقة الواسعة، وقلن يا رسول الله نساء كسرى وقيصر بين الحلي والحلل، والإماء والخدم، ونساؤك على ما ترى من هذه الحال.
فنزلت الآيات تخيّرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها، وبين الله ورسوله والدار الاخرة. وخيّر النبي نساءه، وبدأ بعائشة، فقال لها: «سأعرض عليك أمرين، أرجو ألّا تقطعي في اختيار أحدهما، حتى تستشيري أبويك وقرأ عليها الآيتين» :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) .
فقالت عائشة: «أفيك أشاور أبويّ يا رسول الله؟ أختار الله ورسوله» ، وقالت نساؤه كلّهن مثل ذلك، فجعلهنّ الله أمّهات المؤمنين وأشارت الآيات التالية إلى جزائهنّ المضاعف في الأجر إن اتّقين، وإلى العذاب المضاعف إن ارتكبن فاحشة مبيّنة، لأنهنّ في بيت النبوّة والقدوة والأسوة، فلهنّ ضعف الأجر إن أحسنّ، وضعف العقوبة إن أسأن فزلّة العالم يقرع بها الطبل، وزلّة الجاهل يخفيها الجهل ثمّ أمرت الآيات زوجات الرسول (ص) بخفض الصوت، وجعله مستقيما بدون تكسّر، حتى لا يطمع الشباب المنافق فيهنّ، وحثّهنّ على الاستقرار في البيت، وعدم التبرّج، وتلاوة القرآن والتفقّه في أحكامه. واستطردت الآيات في بيان جزاء المؤمنين كافّة والمؤمنات، وكان هذا هو الفصل الثالث في سورة الأحزاب.
قصة زينب بنت جحش
أرسل الله محمّدا (ص) للنّاس كافّة، فحرّر العبيد، وعلّم الناس المساواة، وكرّم إنسانية الإنسان، وبيّن أن النّاس(7/85)
سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلّا بالتقوى.
وخطب النبي (ص) زينب بنت جحش، لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فاستنكفت وقالت: أنا خير منه حسبا، وكانت امرأة فيها حدّة، فأنزل الله تعالى:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36) .
فقالت زينب هل رضيته لي يا رسول الله زوجا؟ قال رسول الله: نعم، قالت: إذن لا أعصي الرسول (ص) قد أنكحته نفسي.
وتمّ هذا الزواج، ولأمر أراده الله سبحانه لم يدم طويلا، فقد كانت زينب تفخر على زيد بن حارثة بأنّها حرّة قرشيّة جميلة، وأنّه عبد لا يدانيها في نسبها وحسبها فلمّا تكرّر ذلك منها عزم زيد على طلاقها، وذكر ذلك لرسول الله (ص) ، فقال له النبي أمسك عليك زوجك واتّق الله، رغبة في إبقاء هذا الزواج وكان النبي (ص) يعلم بوحي من السماء أنّ زينب ستطلّق، وأنّها ستكون زوجة للرسول، ليبطل بهذا الزواج آثار التبنّي بسابقة عمليّة يختار لها رسول الله (ص) بشخصه، لشدّة عمق هذه العادة في البيئة العربيّة، وصعوبة الخروج عليها. ولمّا طلّقت زينب من زيد خطبها النبي (ص) لنفسه، ونزل الوحي من السماء بذلك، حتّى كانت زينب تفخر على أزواج النبي، فتقول زوّجكن أهاليكن، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات.
ولم تمرّ المسألة سهلة، فقد فوجئ بها المجتمع الإسلاميّ كله، كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول: «تزوّج حليلة ابنه» .
وكانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد، لأنّ العرف السائد كان يعدّ زينب مطلقة ابن لمحمّد (ص) لا تحلّ له، حتّى بعد إبطال عادة التبنّي في ذاتها، ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلّقات الأدعياء، إنّما كان حادث زواج النبي (ص) بزينب، هو الّذي قرّر القاعدة عمليّا، بعد ما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.
وفي هذا ما يهدم كلّ الروايات، الّتي رويت عن هذا الحادث، والّتي تشبّث(7/86)
بها أعداء الإسلام قديما وحديثا، وصاغوا حولها الأساطير المفتريات.
إنّما كان الأمر أمر الله سبحانه، تحمّله النبيّ (ص) وواجه به المجتمع الكاره لهذا الأمر كل الكراهية، حتّى ليتردّد النبي في تحمّله ومواجهة الناس به.
قال تعالى:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) .
واستمرّت الآيات توضح أنه لا حرج على النبي (ص) فيما فرض الله له، فقد فرض له أن يتزوّج زينب، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء وذكرت الآيات أنّ محمّدا لم يكن أبا أحد من رجال العرب، حتى يحرم عليه الزواج من مطلّقته، وإنّما محمد رسول الله وخاتم النبيين، فهو يشرّع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشريّة إلى يوم الدين ثمّ حثّت الآيات على ذكر الله وطاعته ...
وقد استغرق هذا الموضوع الرابع، [الآيات 36- 44] .
أدب بيت النبوة
يستغرق الموضوع الخامس الآيات الممتدّة من الآية 45 إلى آخر السورة، ويبدأ ببيان حكم المطلّقات قبل الدخول، ثمّ يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي (ص) ، فيبيّن من يحلّ له من النساء المؤمنات ومن يحرّم عليه ويستطرد السياق إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي، وزوجاته في حياته وبعد وفاته، وتقرير احتجابهنّ إلّا على آبائهنّ أو إخوانهنّ أو أبناء إخوانهنّ أو نسائهنّ، أو ما ملكت أيمانهنّ، وإلى بيان جزاء الّذين يؤذون رسول الله (ص) في أزواجه وبيوته وشعوره، وهدّدهم باللعن في الدنيا والاخرة، ممّا يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا.
ويعقّب السّياق على هذا بأمر أزواج النبي (ص) وبناته، ونساء المؤمنين كافّة، أن يدنين عليهن من جلابيبهن:
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الآية 59] .(7/87)
وبتهديد المنافقين والّذين في قلوبهم مرض، والمرجفين في المدينة، بتسليط النبي (ص) عليهم، وإخراجهم من المدينة كما خرج بنو قينقاع من قبل، وبنو النّضير بعدهم، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة وكل هذا يشير إلى أنّ هذه المجموعة كانت تؤذي المجتمع الإسلامي، بوسائل شرّيرة، خبيثة.
ثم ذكر السّياق من شرور هؤلاء الناس، أنّهم كانوا يسألون النبيّ متى تكون الساعة على سبيل الاستهزاء والاستخفاف، وأجابهم بأنّ علم الساعة عند الله، ولوّح بأنّها قد تكون قريبا، وأتبع هذا بمشهد من مشاهد القيامة حيث يتقلّب المجرمون في جهنّم، ويتمرّغون في العذاب والندامة.
ثم تعقّب السورة بنهي المؤمنين عن إيذاء النبي (ص) ، حتى لا يكونوا كالذين آذوا موسى (ع) بالطعن عليه، ثم برّأه الله وجعله نزيها وجيها.
تحمل الإنسان للأمانة
في آخر السورة نجد آية شهيرة تكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشريّة، وعلى عاتق الجماعة الإسلاميّة بصفة خاصة، وهي الّتي تنهض وحدها بعبء الأمانة الكبرى، أمانة العقيدة والاستقامة عليها.
لقد عرض الله جلّ جلاله حمل الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين حملها لخطر أمرها وحملها الإنسان الّذي خلق مزوّدا بالإرادة والكسب والاختيار، والقدرة على الطاعة والمعصية.
فالسماء والأرض والجبال والبحار والكون كلّه يخضع لله خضوع القهر والغلبة، ولا يتحمّل التكاليف، ولا يستطيع أن يتحمّل الأمانة والتكاليف الشرعية، فيثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية إنّما الإنسان وحده الّذي ميّزه الله بالعقل والإرادة، وكرّمه وفضّله بالكسب والاختيار، له قدرة على الطاعة وقدرة على الظلم والجهل، وقد استعمر الله الإنسان في الأرض واستخلفه فيها لعلمه، أنه وحده هو الّذي يصلح خليفة عنه، لما ركز في غرائزه وطبائعه من حبّ التّنافس، والتّسابق في عمارة الأرض فمن أطاع الله من طائفة الإنسان فله(7/88)
الجنّة وله التّوبة عند الخطأ، ومن كفر ونافق فله العذاب والعقاب، قال تعالى:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) .(7/89)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأحزاب» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الأحزاب بعد سورة آل عمران، وكان نزولها بعد غزوة الأحزاب، فيكون نزولها في أواخر السنة الخامسة من الهجرة، وتكون من السور الّتي نزلت فيما بين غزوة بدر وصلح الحديبية.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر غزوة الأحزاب فيها، وتبلغ آياتها ثلاثا وسبعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة ذكر أحكام تتعلق بالنبي (ص) ، ولهذا ابتدئت بندائه وأمره بالتقوى، ليكون هذا تمهيدا لما قصد تكليفه به وقد شرّعت الأحكام الّتي تضمّنتها هذه السورة في زمن غزوة الأحزاب، ولهذا جمع بينهما في هذه السورة ليسجّل فيها ما حصل في هذا الزمن من تشريع وغزو.
وقد ابتدئت السورة السابقة بإثبات تنزيل القرآن، وجاءت هذه السورة بعدها مبتدئة بالأمر باتّباعه وحده، والنهي عن خشية أحد في الأخذ بأحكامه، وهذا هو وجه المناسبة بينهما.
إبطال تبني زيد بن حارثة الآيات [1- 27]
قال الله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/91)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) . فمهّد بهذا، لأمره بإبطال تبنّيه لزيد بن حارثة، ليتّبعه المؤمنون في إبطال تبنّيهم وكان التبني عادة مستحكمة في العرب وفي سائر الشعوب، فلمّا أبطلها النبيّ (ص) شنّع عليه أعداؤه من الكافرين والمنافقين، فابتدأ هذه السورة بأمره بأن يتّقيه وحده ولا يطيع أعداءه، وبأن يتّبع ما يوحي إليه ويتوكّل عليه ثمّ أخبره بأنه لم يجعل لرجل قلبين في جوفه يجمع بهما بين خوفه وخوف غيره، وأنّه لم يجعل لرجل أمّين إذا قال لزوجته- أنت عليّ كظهر أمي- ليتخلّص بذلك إلى المقصود، وهو إبطال التبنّي فكأنّه قال: كما لم أجعل لرجل قلبين ولا أمّين لم أجعل لابن أبوين، فلا يصح أن يكون أدعياؤهم أبناءهم بمجرّد قولهم ذلك بأفواههم ثمّ أمرهم بأن يدعوهم لآبائهم لأنه أعدل عنده من دعوتهم لمن يتبنّونهم، فإن لم يعلموا آباءهم فهم إخوانهم في الدّين لا أبناؤهم ولا جناح عليهم إن سبق لسانهم إلى ذلك من غير قصد ثم ذكر أنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، فكلّهم سواء في أبوّته وأمومتهنّ لهم، ولا يصح أن يختصّ بذلك أحد منهم، والأقرباء بعضهم أولى ببعض في الإرث، فلا يصح أن يدخل في إرثهم بالتبنّي أجنبي عنهم ثم أكّد ذلك بتذكيره بأنّه أخذ منه ومن النبيّين قبله ميثاقهم أن يبلّغوا رسالتهم ولا يخشوا فيها أحدا، ليسأل الّذين يصدقون في تبليغها عن صدقهم، ويعدّ لمن يكفر بهم عذابا أليما.
ثمّ استطرد السّياق من ذلك إلى تذكيرهم بما حصل لهم في غزوة الأحزاب، ليؤكّد به ما أمر من تقواه وحده فيما يأمر به، فأمرهم أن يذكروا نعمته عليهم إذا اجتمعت عليهم جنود أعدائهم من الأحزاب، ونقضت بنو قريظة عهدها معهم وانضمّت إلى أعدائهم، وظهرت خيانة المنافقين ومحاولتهم صرفهم عن القتال، فاشتدّ الأمر بهم وزلزلوا زلزالا شديدا، ولكنّه سبحانه ثبّتهم فصبروا على قتالهم ولم يتأثروا بتثبيط المنافقين لهم، حتّى ردّ الأحزاب بغيظهم وكفاهم قتالهم، وأنزل بني قريظة من حصونهم بعد أن حاصروهم فيها، فقتلوا منهم فريقا وأسروا فريقا:(7/92)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) .
أمر النبي بتخيير نسائه الآيات [28- 36]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) . وقد كان أزواج النبيّ (ص) سألنه من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فأمره سبحانه أن يخيّرهنّ بين الطلاق إذا أبين إلّا ذلك، والبقاء في عصمته إذا أردن الله ورسوله والدّار والاخرة ثمّ وعظهنّ بأنّ شأنهنّ ليس كشأن غيرهنّ، فمن تأت منهنّ بفاحشة ظاهرة يضاعف لها العذاب ضعفين، ومن تطع الله ورسوله يؤتها أجرها مرّتين ثمّ أمرهنّ أن يقرن في بيوتهنّ ويتركن تبرّج الجاهليّة الأولى، إلى غير هذا ممّا أمرهنّ به ونهاهنّ عنه ثم عاد السّياق إلى تخييرهنّ، فذكر سبحانه أنه ليس لهنّ ولا لغيرهنّ خيرة مع ما اختاره من ذلك لهنّ فقال جلّ وعلا وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36) .
تزويج النبي مطلّقة زيد الآيات [37- 44]
ثمّ قال تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الآية 37] ، حكاية عن قول النبي (ص) لزيد بن حارثة وكان يتبنّاه:
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الآية 37] وهي زينب بنت جحش، وكان يريد طلاقها لأنّها كانت تفخر عليه بنسبها ثمّ ذكر تعالى أنّ الرسول يخفي في نفسه إرادة تزوّجها بعد طلاقها ليكون أقوى في إبطال تبنّيه زيدا، وأنّه يحمله على إخفاء ذلك خشية طعن الناس عليه بأنّه تزوّج امرأة متبنّاه، والله أحقّ منهم بأن يخشاه فلمّا طلّقها زيد زوّجها الله له لكيلا يكون على الناس حرج في أزواج من يتبنّونهم ثم ذكر سبحانه أنّه لا حرج عل الرسول (ص) في ذلك الزواج لأنه سنّة الله في الرسل قبله، وأنّه لم يكن أبا أحد منهم حتّى تحرّم عليه زوجه ثم أمرهم جلّ شأنه أن(7/93)
يذكروه ويسبّحوه سبحانه بكرة وأصيلا، لأنه يرحمهم بما يشرّع لهم من ذلك وغيره، ويخرجهم به من الظّلمات إلى النور، وهو رحيم بهم على الدوام تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) .
إرشاد النبي إلى آداب عامة الآيات [45- 49]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) فذكر سبحانه أنه أرسله شاهدا على الناس ومبشّرا ونذيرا. فإذا كانوا مؤمنين، فعليه أن يبشّرهم بما لهم من الفضل عنده وإذا كانوا كفّارا أو منافقين فإنّه لا يصحّ أن يطيعهم أو يخشاهم في شيء، وعليه أن يدع أذاهم ويتوكّل عليه سبحانه وحده ثم أمر المؤمنين إذا طلّقوا أزواجهم من قبل أن يمسّوهنّ أن يتركوا أذاهم، بمناسبة أمر النبي (ص) بترك أذى أعدائه، فقال تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) .
خصائص النبي في أزواجه الآيات [50- 58]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الآية 50] .
فذكر ما خصّه به من إحلال أزواجه له، وإن زاد عددهنّ على أربع. ومن عدم وجوب القسم عليه بينهنّ، لكي تقرّ أعينهن إذا سوّى بينهن من نفسه، ومن تحريم طلاقهنّ أو زواج غيرهنّ ليقصرهنّ عليه ويقصره عليهنّ ثمّ ذكر ما يستتبعه ذلك التشريع من فرض الحجاب عليهنّ وتحريم نكاحهنّ بعده على غيره واستثنى من فرض الحجاب عليهنّ آباءهنّ ونحوهم من محارمهنّ ثمّ ذكر ما يوجب احترامه في ذلك من صلاة الله عليه وملائكته، فيجب على المؤمنين أن يذكروا حرمته في كلّ وقت بالصّلاة عليه ثم هدّد من يؤذيه في ذلك باللّعن في الدّنيا والاخرة، وهدّد بمناسبة ذلك من يؤذي الناس عامة، فقال جلّ وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) .(7/94)
إرشاد النبي إلى ما يجب ستره من نسائه وغيرهن الآيات [59- 73]
ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الآية 59] .
فأمره سبحانه بأن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ، ليعرفن بالعفّة فلا يطمع الفسّاق من المنافقين فيهنّ ثمّ هدّد أولئك المنافقين إن لم ينتهوا عن تعرّضهم للنّساء في الطّرق وغير ذلك من شرورهم، بتسليط النبي (ص) عليهم، فلا يجاورونه في المدينة إلّا قليلا، ويحقّ عليهم التقتيل في كلّ مكان يصيرون إليه، كما فعل ذلك بالذين خلوا من قبلهم ثمّ ذكر من شرورهم أنهم يسألونه متى يكون ما يوعدون به على سبيل الاستهزاء، وأجابهم بأنّه سيكون قريبا وذكر ما يكون لهم من اللّعن والعذاب فيه.
ثمّ ختم السورة بنهي المؤمنين عامّة عن إيذاء النبيّ (ص) بمثل ما يؤذيه المنافقون به من الطّعن عليه، بنحو ما سبق فيها، حتّى لا يكونوا كالذين آذوا موسى (ع) بالطّعن عليه بما هو بريء منه ثمّ أمرهم بالتقوى والقول السّديد بدل الطّعن والفحش ونوّه بشأن الأمانة الّتي لا يراعيها أولئك الطاعنون بالزّور فذكر سبحانه أنّه عرض حملها على السماوات والأرض والجبال فأبين ذلك لخطر أمرها، وأنّ الإنسان لم يشفق على نفسه من حملها لأنّه ظلوم جهول فلا يبالي بالتّهاون في أمرها، ولأنّه يعاقب على تركها ويثاب على فعلها لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) .(7/95)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأحزاب» «1»
أقول: وجه اتّصالها بما قبلها، أي بسورة السّجدة: تشابه مطلع هذه، ومقطع تلك، فإنّ تلك ختمت بأمر النبي (ص) بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم «2» ومطلع هذه الأمر بتقوى الله سبحانه، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، فصارت كالتّتمّة لما ختمت به تلك، حتّى كأنّهما سورة واحدة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) [السّجدة] .(7/97)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الأحزاب» «1»
1- إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الآية 9] .
هم الأحزاب: أبو سفيان، وأصحابه، وقريظة، وعيينة بن بدر، أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد.
2- فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [الآية 9] .
هي الصّبا «2» . أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
3- وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الآية 9] .
قال مجاهد: هي الملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
4- إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ [الآية 10] .
قال مجاهد: عيينة بن بدر، من نجد.
5- وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الآية 10] .
أبو سفيان ومن معه، وقريظة.
أخرجه ابن أبي حاتم.
6- وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ [الآية 12] .
سمّى السّدّي منهم: قشير بن معتّب. أخرجه ابن أبي حاتم.
وفي «تفسير جويبر» عن ابن عبّاس:
هو معتّب بن قشير الأنصاري.
7- وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [الآية 13] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات القران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . الصّبا: الرّيح الّتي تهبّ من المشرق. وأخرج البخاري (1035) في الاستسقاء عن ابن عبّاس عن النبيّ (ص) قال: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» والدّبور: عكس الصّبا.
(3) . والطبري 21: 81.(7/99)
قال السّدّي: هم عبد الله بن أبيّ، وأصحابه. أخرجه ابن أبي حاتم.
8- وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ [الآية 13] .
قال السّدّي: هما رجلان من بني حارثة: أبو عرابة بن أوس، وأوس بن قيظيّ. أخرجه ابن أبي حاتم، أيضا.
9- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الآية 23] .
نزلت في أنس بن النّضر، وأصحابه. كما أخرجه مسلم وغيره، عن أنس بن مالك.
10- مَنْ قَضى نَحْبَهُ [الآية 23] .
أخرج التّرمذيّ، وغيره عن معاوية:
أن النبي (ص) قال: «طلحة ممّن قضى نحبه» .
11- الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 26] .
قال مجاهد: قريظة. أخرجه ابن أبي حاتم «1» .
12- وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الآية 27] .
قال السّدّيّ: هي خيبر، فتحت بعد بني قريظة.
وقال قتادة: كنا نحدّث أنّها مكّة.
وقال الحسن: هي أرض الرّوم وفارس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «2» .
13- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الآية 28] .
قال عكرمة: كان تحته يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة وكانت تحته: صفيّة بنت حيي الخيبريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
14- أَهْلَ الْبَيْتِ [الآية 33] .
أخرج التّرمذيّ حديثا: أنّها لمّا نزلت
__________
(1) . والطبري في «تفسيره» 21: 95.
(2) . قال ابن جرير رحمه الله: «والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص) أرض بني قريظة وديارهم، وأرضا لم يطئوها يومئذ، ولم تكن مكّة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن ممّا كانوا وطئوه يومئذ، ثمّ وطئوا ذلك بعد. وأورثهموه الله ذلك ذلك كلّه داخل في قوله تعالى: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها لأنه تعالى ذكره لم يخصّص من ذلك بعضا دون بعض» . ووقع اختلاف في «تفسير الطّبري» 21: 98 في نسبة الأقوال لأصحابها عمّا ذكره المؤلف هنا. [.....]
(3) . انظر أزواجه (ص) في «سيرة ابن هشام» 2: 643.(7/100)
دعا النبيّ (ص) فاطمة، وحسنا، وحسينا، وعليّا فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي» «1» .
وأخرج ابن أبي حاتم عن طريق عكرمة، عن ابن عبّاس قال: نزلت في نساء النبي (ص) خاصّة «2» .
قال عكرمة: من شاء باهلته «3» أنّها نزلت فيهنّ.
15- وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الآية 36] .
نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأخيها، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد «4» .
16- لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الآية 37] .
هو زيد بن حارثة «5» .
17- أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الآية 37] .
هي: زينب بنت جحش.
18- وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ [الآية 50] .
أخرج ابن أبي حاتم عن عائشة، قالت: «الّتي وهبت نفسها للنبيّ (ص) خولة بنت حكيم، وتكنّى: [أمّ شريك] » .
وأخرجه عن عروة بلفظ: كان يقال:
إن خولة بنت حكيم من اللّاتي وهبن أنفسهن. وأخرج عن محمّد بن كعب وغيره: أنّ ميمونة بنت الحارث هي الّتي وهبت نفسها.
__________
(1) . أخرجه التّرمذيّ (3203) في التفسير و (3789) في المناقب، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأورده الذهبي في «سير أعلام النبلاء» 2: 208 عن عكرمة، عن ابن عبّاس. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه عليه:
«إسناده حسن» وللحديث طرق أخرى، انظر تخريجها في «سير أعلام النبلاء» 2: 122، و 3: 254، 255.
(2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 3: 483: «فإن كان المراد أنّهن كن سبب النزول دون غيرهنّ فصحيح، وإن أريد أنهنّ المراد فقط دون غيرهنّ ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدلّ على أنّ المراد أعمّ من ذلك» ، ثم أورد الأحاديث في ذلك.
(3) . من المباهلة، وهي أن يدعو كلّ من المباهلين إلى الله تعالى، ويخلص إلى الله الدعاء، ويطلب منه سبحانه أن ينزل لعنته وعضبه على من يستحقه منهم.
(4) . ابن زيد: هو عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وروى آخرون منهم قتادة: أنّها نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله (ص) على فتاه زيد بن حارثة، فامتنعت من إنكاحه نفسها. انظر «تفسير الطّبري» 22: 9، و «مجمع الزوائد» 7: 92 وفيه: «رواه الطّبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح» .
(5) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 9، 10، «وتفسير ابن كثير» 3: 490.(7/101)
وحكى الكرماني: أنها زينب أمّ المساكين، امرأة من الأنصار «1» .
وقيل: أمّ شريك «2» بنت الحارث.
19- تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ [الآية 51] .
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي رزين مولى شقيق بن سلمة قال: كان ممّن أرجي: ميمونة، وجويريّة، وأمّ حبيبة «3» ، وصفيّة، وسودة وكان ممّن آوى: عائشة، وأمّ سلمة، وزينب، وحفصة.
وأخرج عن ابن شهاب قال: هذا أمر أباحه الله لنبيّه، ولم نعلم أنه أرجأ منهنّ شيئا. وهذان على أنّ ضمير منهنّ عائد لأمّهات المؤمنين، وهو الّذي أخرجه ابن أبي حاتم عن طريق العوفي، عن ابن عبّاس.
وأخرج عن الشّعبي قال: كنّ نساء وهبن أنفسهنّ للنبي (ص) ، فدخل ببعضهنّ، وأرجأ بعضهنّ، منهن أمّ شريك.
20- قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ [الآية 59] .
تقدّمت الأزواج «4» ، وأمّا البنات:
ففاطمة، وزينب زوج أبي العاص ورقيّة، وأمّ كلثوم، زوجا عثمان «5» .
21- وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الآية 72] .
قال ابن عبّاس: هو آدم. أخرجه ابن أبي حاتم «6» .
__________
(1) . هي زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية من أزواج النبي (ص) ، وسميت بأمّ المساكين لرحمتها إيّاهم، ورقّتها عليهم، وكان النبيّ (ص) قد تزوّجها سنة ثلاث للهجرة، ولبثت عنده ثمانية أشهر أو أقل، وماتت بالمدينة وعمرها نحو ثلاثين سنة. انظر «سيرة ابن هشام» 2: 647، و «سير أعلام النبلاء» 2: 218، و «تفسير الطبري» 22: 17.
(2) . واسمها: ميمونة كما في رواية ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في «الدرّ المنثور» 5: 208، وانظر ترجمتها في «سير أعلام النبلاء» 2: 255، 256.
(3) . في رواية ابن مردويه عن مجاهد، أنّ أم حبيبة كانت ممّن آواها النبي (ص) .
(4) . انظر الآية رقم (28) في هذه السورة.
(5) . انظر «سيرة ابن هشام» 1: 190.
(6) . الطّبري 22: 38.(7/102)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأحزاب» «1»
1- قال تعالى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ [الآية 4] .
يقال: ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهّر، وهو أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمّي. وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهليّة بهذا اللفظ، فلمّا جاء الإسلام نهوا عنه، وأوجبت الكفّارة على من ظاهر من امرأته.
أقول: وهذا شيء من إفادة العربية من أعضاء الجسم في توليد هذا المصطلح. ومن ذلك أيضا قوله تعالى:
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ [الآية 26] .
أي: أعانوهم.
أقول: وهذه «المظاهرة» الّتي تعني الإعانة والمساعدة، ليست بعيدة عن الأصل، الّذي ولّدت منه، وهو «الظهر» كأن الإعانة في هذا الفعل أن تكون «ظهيرا» ، أي: مساعدا لغيرك.
2- وقال تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) .
أقول: والوجه في العربية أن يقال:
وتظنّون بالله الظنون، لمكان الألف واللام في الكلام، ولا تأتي ألف الإطلاق إلّا مع النكرة.
ولم يلجأ إلى هذا إلّا لمراعاة الفواصل، لتجيء عدّة الآيات على نسق متجانس في الكلم وفي الأبنية.
3- وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الآية 18] .
والْمُعَوِّقِينَ في الآية هم المثبّطون
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/103)
عن رسول الله (ص) وهم المنافقون.
أقول: والمعوّق في عصرنا من كان به عاهة جسميّة، كالعرج والعضب في رجله ويده، وهو غير الأعمى والأبكم.
4- وقال تعالى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الآية 19] .
وقوله تعالى: سَلَقُوكُمْ، أي:
آذوكم بالكلام.
وأصل السّلق شدّة الصوت، وهو الصّلق أيضا.
أقول: والسّلق بالألسنة الحداد ممّا نعرفه في العربية الدّارجة بهذا المعنى، ولكنّ الكلام الحادّ يكون في غيبة الرّجل.
5- وقال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الآية 32] .
أي: لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النّساء، فجعلت الجماعة كأنّها واحد بإزاء الجماعات الأخرى، ومثله قوله تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء: 152] .
يريد بين جماعة واحدة منهم.
6- وقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الآية 33] .
وقوله تعالى: قَرْنَ وأصله أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها.
أقول: وفي العربيّة من هذا الحذف، ممّا يراد به التخفيف، ألا ترى أنّ الهمزة من «رأى» تحذف في المضارع فقالوا: «يرى» ؟
7- وقال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الآية 36] .
أقول: وليس للخيرة من فعل إلا المزيد «اختار» ، أمّا المجرد، «خار» ، فهو قليل الاستعمال بالقياس إلى المزيد «اختار» أو «تخيّر» .
8 قال تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الآية 53] .
أقول: والضمير في إِناهُ يعود على الطّعام في الآية نفسها:
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الآية 53] .
وإنى الطعام: إدراكه، يقال: أني الطعام إنّى، كقولك: قلاه قلى، ومنه قوله تعالى: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) [الرّحمن] ، أي: بالغ إناه.(7/104)
وقيل: إناه وقته، أي: غير ناظرين وقت الطّعام.
أقول: أني الطّعام، أي: بلغ إدراكه، فيه شيء من «آن» أي «حان» و «أنى» يأني، وهما بمعنى.
9- وقال تعالى: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) .
أقول: والتضعيف للاستفظاع.(7/105)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأحزاب» «1»
قال تعالى: مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الآية 4] إنّما هو «ما جعل الله لرجل قلبين في جوفه» وجاءت (من) توكيدا.
وقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا [الآية 6] في موضع نصب واستثناء خارج.
وقال تعالى: الظُّنُونَا (10) مراعاة للفواصل في رؤوس الآي.
وقال تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الآية 40] أي: «ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين» .
وقال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الآية 5] فأنت تقول «هو يدعى لفلان» .
وقال تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الآية 52] فمعناه- والله أعلم- «أن تبدّل بهنّ أزواجا» . وأدخلت (من) للتوكيد.
وقال تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ [الآية 53] بالعطف على غَيْرَ وجعله نصبا أو على ما بعد غَيْرَ بجعله جرّا.
وقال تعالى: إِلَّا قَلِيلًا (60) أي:
«لا يجاورونك إلّا قليلا» على المصدر.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) فصلاة النّاس عليه دعاؤهم له، وصلاة الله عزّ وجلّ إشاعة الخير عنه.
وقال تعالى: وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) برفع ما بعد وَإِذاً لمكان الواو وكذلك الفاء، وقال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](7/107)
فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) [النساء] وهي في بعض القراءة نصب أعملوها كما يعملونها بغير فاء، ولا واو «1» .
وقال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الآية 53] بالنصب على الحال أي: إلّا أن يؤذن لكم غير ناظرين. ولا يكون جرّا على الطعام إلّا أن يقال «أنتم» .
ألا ترى أنّك لو قلت: «ائذن لعبد الله على امرأة مبغضا لها» لم يكن فيه إلّا النصب، إلّا أن تقول «مبغض لها هو» : لأنّك إذا أجريت صفته عليها ولم تظهر الضمير الّذي يدلّ على أنّ الصفة له، لم يكن كلاما. لو قلت:
«هذا رجل مع امرأة ملازمها» كان لحنا حتى تقول «ملازمها» فترفع، أو تقول «ملازمها هو» فتجرّ.
__________
(1) . قراءة الرفع في آية الأحزاب هي للجمهور، وإجماع القرّاء للطّبري 21: 138، والبحر 7: 219.
وقراءة النصب فيها لم تذكر في كتاب إلّا الجامع 14: 151 ولم تنسب.
أمّا قراءة النصب في آية النساء، فقد نسبت في البحر 3: 273، إلى عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عبّاس.(7/108)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأحزاب» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الآية 1] ولم يقل يا محمّد كما قال تعالى: يا موسى، يا عيسى، يا داود ونحوه؟
قلنا: إنّما عدل عن ندائه باسمه إلى ندائه بالنبيّ والرّسول، إجلالا له وتعظيما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة: 67] .
فإن قيل: لو كان ذلك كما ذكرتم، لعدل عن اسمه إلى نعته في الإخبار عنه، كما عدل في النّداء في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] .
قلنا: إنّما عدل عن نعته في هذين الموضعين لتعليم النّاس أنه رسول الله، وتلقينهم أن يسمّوه بذلك، ويدعوه به ولذلك ذكره بنعته لا باسمه في غير هذين الموضعين من مواضع الإخبار، كما ذكره في النداء: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الآية 21] ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] ، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الآية: 6] ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الآية 56] ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ [المائدة: 81] ونظائره كثيره.
فإن قيل: ما الحكمة من ذكر الجوف في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الآية 4] ؟
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/109)
وجوابه في سورة الحجّ، في قوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (41) [الحج] .
فإن قيل: ما معنى قولهم. أنت عليّ كظهر أمّي؟
قلنا: أرادوا أن يقولوا أنت عليّ حرام كبطن أمّي، فكنّوا عن البطن بالظّهر لئلّا يذكروا البطن الّذي يقارب ذكره ذكر الفرج، وإنما كنّوا عن البطن بالظّهر لوجهين: أحدهما أنّه عمود البطن، ويؤيّده قول عمر رضي الله تعالى عنه: يجيء أحدهم على عمود بطنه: أي على ظهره. الثاني: أنّ إتيان المرأة من قبل ظهرها كان محرّما عندهم، وكانوا يعتقدون أنّها إذا أتيت من قبل ظهرها جاء الولد أحول، فكان المطلّق في الجاهلية، إذا قصد تغليظ الطلاق، قال: أنت عليّ كظهر أمي.
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الآية 6] . جعل أزواج النبي (ص) بمنزلة أمهات المؤمنين حكما: أي في الحرمة والاحترام وما جعل النبي (ص) بمنزلة أبيهم، حتى قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الآية 40] ؟
قلنا: أراد الله بقوله تبارك وتعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أوّلا: أنّ أمّته يدعون أزواجه بأشرف الأسماء، وأشرف أسماء النساء الأمّ، وأشرف أسماء النبي (ص) رسول الله، لا الأب. ثانيا: أنّه تعالى جعلهنّ أمّهات المؤمنين تحريما لهنّ وإجلالا وتعظيما له (ص) كيلا يطمع أحد في نكاحهنّ بعده فلو جعل النبي (ص) أبا المؤمنين لكان أبا للمؤمنات أيضا، فلم يجعل له نكاح امرأة من المؤمنات بل يحرّمن عليه (ع) ، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، وقد جعله أعظم من الأب في القرب والحرمة، بقوله تعالى:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الآية 6] فجعل (ص) أقرب إليهم من أنفسهم وكثير من الآباء يتبرّأ من ابنه ويتبرّأ منه ابنه أيضا، وليس أحد يتبرّأ من نفسه.
فإن قيل: لم قدّم النبي (ص) على نوح (ع) ومن بعده في قوله تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الآية 7] ؟
قلنا: لأنّ هذا العطف من باب عطف الخاصّ على العامّ الّذي هو جزء منه، لبيان التفضيل والتخصيص بذكر(7/110)
مشاهير الأنبياء وذراريهم، فلمّا كان النبي (ص) أفضل هؤلاء المفضّلين قدّم عليهم. وفي الميثاق المأخوذ قولان:
أحدهما أنه تعالى أخذ منهم الميثاق يوم أخذ الميثاق بأن يصدّق بعضهم بعضا والثاني أخذ منهم الميثاق أن يوحّدوا الله تعالى، ويدعوا إلى توحيده، ويصدّق بعضهم بعضا.
فإن قيل: فلم قدّم نوح (ع) في نظير هذه الآية، وهي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 13] ؟
قلنا: لأنّ تلك الآية سيقت لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، كأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الّذي بعث عليه نوح (ع) في العهد القديم، وبعث عليه محمّد (ص) في العهد الحديث، وبعث عليه من توسّطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح (ع) أشدّ مناسبة بالمقصود من سوق الآية.
فإن قيل: ما الحكمة من إعادة أخذ الميثاق في قوله تعالى: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) ؟
قلنا: فائدته التأكيد، ووصف الميثاق المذكور أوّلا بالجلالة والعظم استعاذة من وصف الأجرام به. وقيل إنّ المراد بالميثاق الغليظ، اليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا، فلا إعادة لاختلاف الميثاقين.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف حال المؤمنين الّتي امتنّ عليهم فيها:
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الآية 10] ولو بلغت القلوب الحناجر لماتوا ولم يبق للامتنان وجه؟
قلنا: قال ابن قتيبة: معناه كادت القلوب تبلغ الحناجر من الخوف، فهو مثل في اضطراب القلوب ووجيبها.
وردّه ابن الأنباري فقال: العرب لا تضمّن كاد ولا تعرف معناه ما لم تنطق به. وقال الفراء: معناه أنهم جبنوا وجزعوا، والجبان إذا اشتدّ خوفه انتفخت رئته فرفعت قلبه إلى حنجرته، وهي جوف الحلقوم وأقصاه، وكذلك إذا اشتدّ الغضب أو الغم وهذا المعنى مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ومن هنا قيل للجبان: انتفخ منخره.
فإن قيل: لم ساق الله تعالى عذاب المنافقين بمشيئته بقوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ [الآية 24] وعذابهم متيقّن مقطوع به، لقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ؟(7/111)
قلنا: إن شاء تعذيبهم بإماتتهم على النّفاق. وقيل معناه إن شاء ذلك، وقد شاءه.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الآية 21] ؟
قلنا: فيه وجهان. أحدهما أنّه (ص) نفسه أسوة حسنة: أي قدوة، والأسوة اسم للمتأسّى به: أي المقتدى به، كما نقول في البيضة عشرون منا حديدا:
أي هي في نفسها هذا المقدار. الثاني:
أنّ فيه خصلة من حقّها أن يؤتسى بها وتتبّع، وهي مواساته بنفسه أصحابه وصبره على الجهاد، وثباته يوم أحد حين كسرت رباعيته، وشجّ وجهه الشريف.
فإن قيل: لم أظهر تعالى الاسمين مع تقدّم ذكرهما في قوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الآية 22] ؟
قلنا: لئلّا يكون الضمير الواحد، عائدا على الله تعالى وغيره.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف بني قريظة: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الآية 27] والله تعالى إنّما ملّكهم أرضهم بعد ما وطئوها وظهروا عليها؟
قلنا: معناه أوّلا: ويورثكم بطريق وضع الماضي موضع المستقبل، مبالغة في تحقيق الموعود وتأكيده. ثانيا: أنّ فيه إضمارا تقديره: وأرضا لم تطئوها سيورثكم إيّاها، يعني أرض مكّة، وقيل أرض فارس والروم، وقيل أرض خيبر، وقيل كلّ أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة.
ثالثا: أنّ معناه، وأورثكم ذلك كلّه في الأزل، بكتابته لكم في اللّوح المحفوظ.
فإن قيل: لم خصّ الله تعالى نساء النبي (ص) بتضعيف العقوبة على الذّنب، والمثوبة على الطّاعة، في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الآية 30] ؟
قلنا: أمّا تضعيف العقوبة فلأنّهنّ أولا يشاهدن من الزّواجر الرّادعة عن الذنوب ما لا يشاهده غيرهنّ. ثانيا: أنّ في معصيتهنّ أذى لرسول الله (ص) أعظم من ذنب من آذى رسول الله (ص) أعظم من ذنب غيره والمراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق كذا قاله ابن(7/112)
عبّاس رضي الله تعالى عنهما. وأمّا تضعيف المثوبة فلأنّهنّ أشرف من سائر النساء بقربهنّ من رسول الله (ص) ، فكانت الطاعة منهنّ أشرف كما كانت المعصية منهنّ أقبح.
فإن قيل: لم قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ولم يقل «كواحدة من النساء» [الآية 32] ؟
قلنا: قد سبق نظير هذا مرّة في آخر سورة البقرة في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] .
فإن قيل: لم أمر الله تعالى نساء النبي (ص) بالزّكاة في قوله سبحانه وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ [الآية 33] ولم يملكن نصابا حولا كاملا؟
قلنا: المراد بالزّكاة هنا الصدقة النافلة، والأمر أمر ندب.
فإن قيل: ما الفرق بين المسلم والمؤمن، حتّى عطف أحدهما على الاخر، في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الآية 34] مع أنّهما متّحدان شرعا؟
قلنا: المراد بالمسلم الموحّد بلسانه، وبالمؤمن المصدّق بقلبه.
فإن قيل: لم قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الآية 40] مع أنه كان أبا للطّاهر والطّيّب والقاسم وإبراهيم (ع) ؟
قلنا: قوله تعالى مِنْ رِجالِكُمْ [الآية 40] يخرجهم من حكم النّفي من وجهين: أحدهما أنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال بل ماتوا صبيانا. والثاني: أنه أضاف الرجال إليهم. وهم كانوا رجاله لا رجالهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الآية 40] وعيسى (ع) ينزل بعده، وهو نبيّ؟
قلنا: معنى كونه خاتم النبيين، أنّه لا يتنبّأ أحد بعده، وعيسى (ع) ممّن نبّئ قبله، وحينما ينزل عاملا بشريعة محمد (ص) مصلّيا إلى قبلته، كأنّه بعض أمته؟
فإن قيل: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [الآية 43] معناه يرحمكم ويغفر لكم، فما معنى قوله تعالى:
وَمَلائِكَتُهُ [الآية 43] والرحمة والمغفرة منهم محال؟
قلنا: جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة بالرحمة والمغفرة، كأنّهم فاعلو(7/113)
الرحمة والمغفرة، كما يقولون: حيّاك الله: أي أحياك وأبقاك، وحيّا زيد عمرا: أي دعا له بأن يحييه الله اتّكالا منه على إجابة دعوته، ومثله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الآية 56] .
فإن قيل: قد فهم من قوله تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أنّه مأذون له في الدعاء إلى الله تعالى، فما الحكمة في قوله سبحانه بِإِذْنِهِ [الآية 46] ؟
قلنا: معناه بتسهيله وتيسيره، وقيل معناه بأمره لا أنك تدعوهم من تلقاء نفسك.
فإن قيل: لم شبّه الله تعالى النبي (ص) بالسّراج دون الشمس، والشمس أتمّ وأكمل في قوله تعالى:
وَسِراجاً مُنِيراً (46) ؟
قلنا: قيل إن المراد بالسّراج هنا الشمس كما في قوله تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) [نوح] وقيل إنما شبّه بالسّراج لأنّ السّراج يتفرّع ويتولّد منه سرج لا تعدّ ولا تحصى بخلاف الشمس، والنبي (ص) تفرّع منه بواسطة إرشاده وهدايته العلماء جميعهم من عصره إلى يومنا هذا، وهلم جرا إلى يوم القيامة وقيل إنّما شبّهه بالسّراج، لأنّه جلّ جلاله بعث النبي (ص) في زمان، يشبه الليل بظلمات الكفر والجهل والضلال.
فإن قيل: لم شبّهه بالسراج دون الشمع، والشمع أشرف، ونوره أتمّ وأكمل؟
قلنا: قد سبق الجواب عن مثل هذا، في قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] .
فإن قيل: لم خصّ تعالى المؤمنات بعدم وجوب العدّة في الطلاق قبل المسيس، في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الآية 49] ، مع أن حكم الكتابيّة كذلك أيضا؟
قلنا: هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، لا تخصيص.
فإن قيل: لم أفرد سبحانه العمّ وجمع العمّات، وأفرد الخال وجمع الخالات، في قوله تعالى: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ [الآية 50] والمعهود في كلام العرب مقابلة الجمع بالجمع؟
قلنا: لأنّ العمّ اسم على وزن(7/114)
المصدر الّذي هو الضم ونحوه، وكذا الخال على وزن القال ونحوه، فيستوي فيه المفرد والتثنية والجمع، بخلاف العمّة والخالة، ونظيره قوله تعالى:
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: 7] .
فإن قيل: هذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة النور أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ [النور:
61] .
قلنا: ليس العمّ والخال مصدرين حقيقة، بل على وزن المصدر، فاعتبر هنا شبههما بالمصدر وهناك حقيقتهما عملا بالجهتين، بخلاف السّمع فإنّه لو كان مصدرا حقيقة، ما جاء قط في الكتاب العزيز إلا مفردا.
فإن قيل: لم ذكر الأقارب في قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الآية 55] ، ولم يذكر العمّ والخال، وحكمهما حكم من ذكر في رفع الجناح؟
قلنا: سبق مثل هذا السؤال وجوابه، في سورة النور في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:
31] . فالأولى أن تستتر المرأة عن عمّها وخالها، لئلّا يصف محاسنها عند ابنه فيفضي إلى الفتنة.
فإن قيل: السادة والكبراء بمعنى واحد، فلم عطف أحدهما على الاخر، في قوله تعالى: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الآية 67] ؟
قلنا: هو من باب عطف اللفظ على اللفظ المغاير له، مع اتّحاد معنيهما، كقولهم: فلان عاقل لبيب، وهذا حسن جميل، وقول الشاعر:
معاذ الله من كذب ومين
فإن قيل: المراد بالإنسان آدم (ع) في قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الآية 72] فلم قال سبحانه: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) وفعول من أوزان المبالغة، فيقتضي تكرار الظلم والجهل منه، وأنّه منتف؟
قلنا: لمّا كان عظيم القدر، رفيع المحلّ، كان ظلمه وجهله لنفسه أقبح وأفحش، فقام عظم الوصف مقام الكثرة وقد سبق نظير هذا في سورة آل عمران في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران: 182] .(7/115)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأحزاب» «1»
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الآية 26] وهذه استعارة. والمراد بها: أنّه تعالى ألقى الرّعب في قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته. تشبيها بقذفة الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه. فإن ذلك يكون أملأ لقلبه، وأشدّ لروعه.
وقوله سبحانه: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الآية 30] وهذه استعارة.
فكأنّه تعالى جعل الفاحشة تبيّن حال صاحبها، وتشير إلى ما يستحقّه من العقاب عليها. وهذا من أحسن الأعراض، وأنفس جواهر الكلام.
وقوله سبحانه وتعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وهذه استعارة. والمراد بالسّراج المنير هاهنا:
أنّه (ص) يهتدى به في ضلال الكفر، وظلام الغي، كما يستصبح بالشّهاب في الظلماء، وتستوضح الغرّة في الدّهماء.
وقوله سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) . وهذه استعارة.
وللعلماء في ذلك أقوال، قال بعضهم:
المراد بذلك تفخيم شأن الأمانة، وأنّ منزلتها منزلة ما لو عرض على هذه الأشياء المذكورة مع عظمها، وكانت تعلم ما فيها، لأبت أن تحملها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/117)
وأشفقت كلّ الإشفاق منها. إلّا أنّ هذا الكلام خرج مخرج الواقع، لأنّه أبلغ من المقدّر. وقال بعضهم: عرض الشيء على الشيء ومعارضته سواء.
والمعارضة، والمقابلة، والمقايسة، والموازنة، بمعنى واحد. فأخبر الله سبحانه عن عظم أمر الأمانة وثقلها، وأنّها إذا قيست بالسماوات والأرض والجبال، ووزنت بها، لرجحت عليها. ولم تطق حملها، ضعفا عنها.
وذلك معنى قوله تعالى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ومن كلامهم:
فلان يأبى الضّيم، إذا كان لا يحتمله.
فالإباء هاهنا هو ألّا يقام بحمل الشيء.
والإشفاق في هذا الموضع هو الضّعف عن الشيء، ولذلك كنّي به عن الخوف الّذي هو ضعف القلب. فقالوا: فلان مشفق من كذا. أي خائف منه. ومعنى قوله سبحانه: فالسماوات والأرض والجبال لم تحمل الأمانة ضعفا عنها، وحملها الإنسان، أي تقلّدها وقارف المأثم فيها، للمعروف من كثرة جهله، وظلمه لنفسه.(7/118)
سورة سبأ 34(7/119)
المبحث الأول أهداف سورة «سبأ» «1»
سورة سبأ سورة مكّية، نزلت بعد سورة لقمان. وقد نزلت سورة سبأ في الفترة الواقعة بين السنة الحادية عشرة والثانية عشرة من حياة الرسول (ص) في مكّة بعد البعثة، فقد جاء الوحي إلى النبي وعمره أربعون سنة، ثم مكث في مكّة ثلاثة عشر عاما، وفي المدينة عشرة أعوام، ومات وعمره ثلاث وستّون سنة.
وكانت سورة سبأ ضمن مجموعة السور الّتي نزلت في السنوات الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة.
وعدد آيات سورة سبأ 54 آية، وسمّيت بهذا الاسم لاشتمالها على قصّة سبأ، وهي مدينة من المدن القديمة في اليمن، وكانت عاصمة دولة قديمة به، وقد خربت عند انهيار سد مأرب بسبب سيل العرم، قال تعالى:
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) .
موضوعات السورة
موضوعات سورة سبأ هي موضوعات العقيدة الرئيسة: توحيد الله والإيمان بالوحي، والاعتقاد بالبعث وإلى جوارها تصحيح بعض القيم
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/121)
الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسة، وبيان أنّ الإيمان والعمل الصالح، لا الأموال ولا الأولاد، هما قوام الحكم والجزاء عند الله، وأنّه ما من قوّة تعصم من بطش الله، وما من شفاعة عنده إلّا بإذنه.
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء، وعلى إحاطة علم الله وشموله، ودقّته ولطفه وتتركز الإشارة في السورة على هاتين القضيّتين بطرق منوّعة، وأساليب شتّى، وتظلّل جوّ السورة كلّه من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث تقول السورة:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [الآية 3] .
ويرد قرب ختام السورة:
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) .
وقد عرض الفيروزآبادي مقصود السورة فقال:
بيان حكمة التوحيد، وبرهان نبوّة الرسول (ص) ومعجزات داود وسليمان ووفاتهما، وهلاك سبأ، وشؤم الكفران، وعدم الشكر، وإلزام الحجّة على عبّاد الأصنام، ومناظرة أهل الضلالة وذكر معاملة الأمم الماضية مع النبيّين، ووعد المنافقين والمصدّقين بالإخلاف والعودة إلى إلزام الحجّة على منكري النبوّة، وتمنّي الكفّار في وقت الوفاة الرجوع إلى الدنيا.
ونلاحظ أن هذه القضايا الّتي تعالجها السورة، قد عالجتها السور المكّيّة في صور شتّى، ولكنّها تعرض في كلّ سورة مصحوبة بمؤثّرات منوّعة جديدة على القلب في كل مرّة ومجال عرضها في سورة سبأ يأتي مصحوبا بمؤثرات عدة، ممثّلة في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب، وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة، وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة، وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة، وفي كلّ منها مؤثّر موح للقلب البشريّ، موقظ له من الغفلة والضّيق والهمود.
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح العيون على هذا الكون الهائل، وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله، وعلى مجال علمه اللطيف الشامل، الدقيق الهائل.
وتستمرّ السورة في مناقشة(7/122)
المكذّبين، وإلزامهم بالحجّة، وإيقافهم أمام فطرتهم وأمام منطق قلوبهم، بعيدا عن الغواشي والمؤثّرات المصطنعة «1» .
قال تعالى:
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) .
وهكذا تطوف السورة بالقلب البشريّ في مجالات متنوّعة، وتواجهه بالحقائق والأدلّة والحجج، حتّى تنتهي بمشهد عنيف أخّاذ من مشاهد القيامة.
فصول السورة
يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة، يمكن تقسيمها إلى ستة فصول:
1- الألوهيّة وإثبات البعث
تحدّثت الآيات التسع الأولى من السّورة، عن عظمة الخالق المالك لما في السماوات والأرض، المحمود في الاخرة وهو الحكيم الخبير، وقررت شمول علمه الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ثمّ تطرّقت للحديث عن إنكار الكافرين لمجيء الساعة، وردّت عليهم بتأكيد إتيانها، لتتمّ إثابة المؤمنين، وعقوبة الكافرين، وليستيقن العلماء المؤمنون، أنّ القرآن حقّ وصدق، وهداية إلى صراط العزيز الحميد ثمّ تحدّثت عن عجب الكفّار من قضيّة البعث واستبعادهم لوقوعه، بعد أن يموتوا ويمزّقوا كلّ ممزّق وأجابت عن ذلك بأنّه لا وجه لاستبعادهم، وهم يرون من كمال قدرة الله ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وهدّدت المكذّبين بخسف الأرض من تحتهم، أو إسقاط السماء كسفا عليهم.
2- داود وسليمان
تتناول الآيات [10- 14] طرفا من قصة داود وسليمان (ع) ، وتذكر نعمة الله عليهما وفضله، فقد أعطي داود (ع) النبوّة، والزّبور والصوت الحسن وإذا سبّح الله سبحت معه الجبال والطير، وألان الله له الحديد، وأوحى إليه أن
__________
(1) . انظر في ظلال القرآن، بقلم سيّد قطب 22: 53- 56.(7/123)
يعمل دروعا سابغات للحرب، كما حثّه الله على العمل الصالح، فإنه سبحانه بصير خبير.
وقد سخّر الله تعالى لسليمان (ع) الريح ذهابها شهر ورجوعها شهر، تحمل بساطه هو وخاصّته إلى حيث يشاء، وقد ذلّل الله له الجنّ تعمل له أنواع المصنوعات. فلما انقضى أجله مات واقفا متّكئا على عصاه وما دل الجنّ على موته إلا أرضة قرضت عصاه، فسقط، فانطلقوا بعد أن كانوا مسجونين.
3- قصة سبأ
ضرب الله مثلا للشاكرين داود وسليمان. وقليل من الناس من يدرك فضل الله عليه، وعظيم نعمائه الّتي لا تعدّ ولا تحصى. ثم ضرب الله مثلا للبطر وجحود النعمة، مملكة سبأ.
فلمّا آمنت بلقيس، وكفر من جاء بعدها، وأعرضوا عن شكر الله، أصابهم الدمار.
وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبيّ اليمن، وكانوا في أرض مخصبة لا تزال منها بقيّة إلى اليوم، وقد ارتقوا في سلّم الحضارة، حتّى تحكّموا في مياه الأمطار الغزيرة الّتي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق. فأقاموا خزّانا طبيعيّا يتألّف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بينهما سدّا به عيون تفتح وتغلق، وخزنوا المياه بكمّيات عظيمة وراء السد، وتحكّموا فيها وفق حاجتهم، فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم، وقد عرف باسم «سدّ مأرب» .
وهاتان الجنّتان، عن اليمين والشمال، رمز لذلك الخصب والوفرة والرّخاء والمتاع الجميل. ولكنهم لم يشكروا نعمة الله ولم يذكروا آلاءه، فسلبهم هذا الرخاء، وأرسل السيل الجارف الّذي يحمل العرم في طريقه، وهي الحجارة، لشدّة تدفّقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفّت الجنّتان واحترقتا، وتبدّلتا، صحراء تتناثر فيها الأشجار البرّيّة الخشنة.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [الآية 17] بنعمة الله.
وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وقد استغرقت قصة سبأ الآيات [15- 21](7/124)
4- الشرك والتوحيد
يجد المتأمل في الآيات [22- 27] من سورة سبأ ظاهرة متميّزة: فقد تكرّرت لفظة «قل» في أول هذه الآيات، كما تضمّنت عددا من الأسئلة والحقائق بأسلوب رائع جزل.
لقد بدأت الآيات تتحدّى المشركين أن يدعوا الّذين يزعمون أنهم آلهة من دون الله، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرّا، ولا يملكون شفاعة عند الله، ولو كانوا من الملائكة. فالملائكة يتلقّون أمر الله بالخشوع الراجف، ولا يتحدّثون حتّى يزول منهم الفزع والارتجاف العميق. ويسألهم الله عمّن يرزقهم من السماوات والأرض، والله مالك السماوات والأرض، وهو الّذي يرزقهم بلا شريك ثمّ يفوّض أمر النبي وأمرهم إلى الله، وهو الّذي يفصل فيما هم فيه مختلفون، ويختم هذا الفصل بالتحدّي كما بدأه، في أن يروه الّذين يلحقونهم بالله شركاء.
كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) .
وهكذا تطوف الآيات بالقلب البشري في مجال الوجود كلّه: حاضره وغيبه، سمائه وأرضه، دنياه وآخرته، وتقف به أمام رزقه وكسبه وحسابه وجزائه ذلك كلّه في فواصل قوية، وضربات متلاحقة، وآيات تبدأ كلّ آية منها بفعل الأمر (قل) ، وكل قولة منها تدمغ بالحجّة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان.
وفي أعقاب هذه الآيات بيان لرسالة الرّسول (ص) ، وأنها عامّة للناس أجمعين:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) .
5- مشاهد القيامة والجزاء
يستغرق الفصل الخامس من السورة الآيات [29- 42] ويبدأ بسؤال يوجّهه الكفّار للنبيّ (ص) عن يوم القيامة، استبعادا لوقوعه، والجواب أنّ ميعاده لا يتقدّم ولا يتأخّر، وقد اعتزّ الكفار بالأموال والأولاد، وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السابقة له.
وهنا يعرض القرآن موقف الظّالمين أمام ربّهم يتحاورون فيراجع بعضهم بعضا كلّ منهم يحاول أن يلقي التّبعة على أخيه، فيقول الضعفاء للسّادة(7/125)
والكبراء: لقد تصدّيتم لنا بالإغراء، والمكر بنا ليلا ونهارا، حتّى أفسدتم علينا رأينا، وجعلتمونا نكفر بالله، ونجعل له نظراء من الالهة الخياليّة ويحتجّ الكبراء ويقولون أنحن منعناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين إذ أخذتم الكفر عنّا بالتقليد.
وعضّ الجميع بنان الندم حينما رأوا العذاب، والأغلال في أعناقهم. ثم نرى المترفين يقاومون كلّ إصلاح، ويكذّبون كلّ رسالة:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) .
وقد احتجّ المترفون بكثرة أموالهم وأولادهم، واعتقدوا أنّ فضلهم في الدنيا سيمنعهم من العذاب في الاخرة وهنا يضع القرآن موازين الحق والعدل، ويقرر القيم الحقيقية الّتي يكون عليها الجزاء والحساب، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد.
وفي مشاهد القيامة يتّضح أنه لا الملائكة ولا الجن الّذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، يملكون لهم في الاخرة شيئا.
كما توضح الآيات أنّ بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله سبحانه، وليسا دليلا على رضيّ أو غضب، ولا على قرب أو بعد. إنّما ذلك ابتلاء واختبار.
6- الدعوة الى التأمّل والتفكّر
في الآيات الأخيرة من السورة [43- 54] حديث عن عناد الكافرين وجحودهم، من غير برهان ولا دليل، وتنبيه من القرآن بما وقع لأمثالهم وعرض لمصارع الغابرين الّذين أخذهم النّكير في الدنيا، وهم كانوا أقوى منهم، وأعلم وأغنى.
ويعقب هذا عدّة إيقاعات عنيفة، كأنّما هي مطارق متوالية يدعوهم في أوّل إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجرّدين، ثمّ يتفكّروا غير متأثّرين بالحواجز الّتي تمنعهم من الهدى ومن النّظر الصحيح. وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث الّتي تجعل الرّسول (ص) يلاحقهم بالدعوة، وليس له من وراء ذلك نفع ولا هو يطلب على ذلك أجرا، فما لهم يتشكّكون في دعوته ويعرضون؟
وتوالت الآيات تبدأ بلفظ (قل) ...(7/126)
وكلّ منها يهزّ القلب هزّا، فمحمّد (ص) لم يسألهم أجرا بل أجره على الله، ومحمّد (ص) مؤيّد بالحقّ، والحقّ غالب والباطل مغلوب.
ثم تلطّف في وعظهم، فذكر سبحانه أنّ محمدا (ص) إن ضلّ فضلاله إنّما يعود عليه وحده، وإن اهتدى فبهدي الله له ثم بيّن سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة إلى ربّهم، فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنّهم يؤمنون به في ذلك الوقت، فلا ينفعهم إيمانهم وتختم السورة بمشهد هؤلاء الكفّار، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان في غير موعده، والإفلات من العذاب، والنّجاة من أهوال القيامة، كما فعل أشياعهم من كفرة الأمم الّتي قبلهم، إنهم كانوا في شكّ موقع في الارتياب.
وهكذا تختم السورة بمشهد يثبت قضيّة البعث والجزاء، وهي القضيّة الّتي ظهرت خلال السورة، من بدايتها، قال تعالى:
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) .(7/127)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «سبأ» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة سبأ بعد سورة لقمان، ونزلت سورة لقمان بين الإسراء والهجرة، فيكون نزول سورة سبأ في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود قصة أهل سبأ فيها. وكانت سبأ مدينة من المدن القديمة في اليمن، وكانت عاصمة دولة قديمة به، وقد خربت عند انهيار سدّ مأرب بسبب سيل العرم، وتبلغ آياتها أربعا وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات يوم الساعة، وكانوا قد تساءلوا عنه في آخر السورة السابقة سؤال استهزاء: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) [الأحزاب] ، ولهذا ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة، وقد افتتحت بحمد الله تمهيدا لذكر اعتراضاتهم على ذلك اليوم ثمّ دار الكلام فيها على ذكر الاعتراض والجواب عنه، إلى أن ختمت بإثبات عنادهم ومكابرتهم.
الاعتراض الأول على يوم القيامة الآيات [1- 6]
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/129)
فذكر سبحانه أنه يجب له الحمد في الدنيا على ما أنعم به علينا في السماوات والأرض، وأنّ حمدنا له في الدنيا نجازي عليه في الاخرة، فيكون له الحمد علينا فيها أيضا. وأخبر بأنّه حكيم خبير عالم رحيم غفور، فلا يصحّ أن يكون خلقه لنا عبثا من غير حكمة. ثم ذكر اعتراضهم الأوّل على يوم القيامة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [الآية 3] ، ورد عليهم بتأكيد إتيانها، ليثيب الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات، ويعذّب الّذين سعوا في آياته معاجزين: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) .
الاعتراض الثاني على يوم القيامة الآيات [7- 28]
ثمّ قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) ، فذكر استبعادهم لإعادتهم بعد أن يموتوا ويمزّقوا كلّ ممزّق، وأجاب عن ذلك بأنه لا وجه لاستبعادهم ذلك وهم يرون من كمال قدرته ما يرون فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، وهو الّذي سخّر الجبال والطير لداود، وسخّر الريح وأسال عين القطر لسليمان، وأرسل سيل العرم على أهل سبأ، فأهلكهم وخرّب ديارهم ثم ذكر عجز آلهتهم ليوازنوا بين هذا العجز وبين كمال قدرته سبحانه وأمر نبيّه بعد هذا، أن يتلطّف في جدالهم بعد ظهور الحقّ لهم، فيذكر لهم أنّه وإيّاهم إمّا على الهدى وإمّا على الضّلال، وأنّهم لا يسألون عن عمله كما لا يسأل عن عملهم، وأنّه لا بدّ من يوم يفصل فيه بينهم، ثمّ ختم ذلك بإثبات صدقه فيما يدعوهم إليه من الإيمان بيوم القيامة وغيره:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) .
الاعتراض الثالث والرابع على يوم القيامة الآيات [29- 42]
ثمّ قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) فذكر، سبحانه، أنّهم سألوا عن ميعاد يوم(7/130)
القيامة استبعادا له، وأجاب بأن له ميعادا لا يتأخّرون عنه ساعة ولا يتقدّمون عنه ثمّ ذكر أنهم قالوا: لن نؤمن بالقرآن ولا بما بين يديه من يوم القيامة، وأجاب بأنّه لا بدّ من وقوفهم أمامه رؤساء ومرؤوسين، فيلقي بعضهم الذنب على بعض، ويقول المرؤوسون لرؤسائهم لولا أنتم لكنّا مؤمنين، ويقول الرؤساء لهم أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ إلى أن قال:
وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) .
ثم ذكر أنّ هذا كان شأن أهل القرى قبلهم مع أنبيائهم، فكان مترفوها يكافرون بما جاء به الأنبياء عن يوم القيامة وغيره، ويفتخرون بكثرة أموالهم وأولادهم، ويعتقدون أنه لا عذاب يصيبهم في آخرتهم ثم أمره أن يخبرهم بأن الرزق يجري بيد الله، فكم من موسر شقيّ، وكم من معسر تقيّ، ولا تنفع الأموال والأولاد شيئا عند الله، وإنما ينفع عنده العمل الصالح، فيجازى أصحابه الضّعف بما عملوا، ويعاقب من يسعى في آياته معاجزا بعذاب محضر دائم ثمّ أمره أن يعيد إخبارهم بأن الرزق يجري بيده سبحانه، وأنّهم إذا أنفقوا منه في سبيله، فهو يخلفه عليهم ثمّ ذكر بأنّه سيحشر هؤلاء الكفّار جميعا سابقين ولا حقين، ثم يقول أمامهم للملائكة:
أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) فيتبرّأ الملائكة من عبادتهم، ويذكرون أنّهم كانوا يعبدون الجنّ، أكثرهم بهم مؤمنون: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) .
الخاتمة [الآيات 43- 54]
ثمّ قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) فذكر أنّ ما سبق لهم في هذه السورة آيات بيّنات لا ينكرونها إلّا عنادا من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم، ولا رسول أرسل إليهم، وقد عاند الّذين من قبلهم ولم يبلغوا معشار ما كان لهم من قوّة ونعمة، فأخذهم الله بعذابه ولم تنفعهم قوّتهم ونعمتهم. ثمّ وعظهم أن(7/131)
يتفكّروا في أمر النبي (ص) ليعلموا صدق ما ينذرهم به من عذاب يوم القيامة. وذكر من أدلّة صدقه أنّه لا يسألهم على ذلك أجرا، وأنّه يقذف به حقّا واضحا على باطلهم فيدمغه، وأنّه قد جاء به حقّا قويّا لا يبدئ الباطل معه ولا يعيد ثم تلطّف في وعظهم، فذكر سبحانه، حكاية عن الرسول (ص) ، أنّه إن ضلّ الرسول فضلاله إنّما يعود عليه وحده وإن اهتدى، فبهدي الله له ثمّ ختم السورة ببيان سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة الى ربّهم، فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنّهم يؤمنون به في ذلك الوقت، فلا ينفعهم إيمانهم، لأنهم كانوا يكافرون به من قبل، ويقذفون بالغيب من مكان بعيد:
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) .(7/132)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «سبأ» «1»
أقول: ظهر لي وجه اتّصالها بما قبلها، وهو أن تلك لمّا ختمت بقوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب: 73] ، افتتحت هذه بأن له ما في السماوات وما في الأرض «2» . وهذا الوصف لائق بذلك الحكم، فإن الملك العامّ، والقدرة التّامّة، يقتضيان ذلك.
وخاتمة سورة الأحزاب: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [الآية 1] .(7/133)
المبحث الرابع مكنونات سورة «سبأ» «1»
1- غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [الآية 12] .
قال الحسن: كان يغدو من دمشق، فيقيل بإصطخر «2» ، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل «3» أخرجه عبد الرزاق «4» .
2- وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [الآية 12] .
قال قتادة: كانت بأرض اليمن.
قال السّدّيّ: سيلت له ثلاثة أيام.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
3- دَابَّةُ الْأَرْضِ [الآية 14] .
قال ابن عباس: هي الأرضة.
أخرجه ابن أبي حاتم.
وفي «العجائب» للكرماني: الأرض:
مصدر أرض، أرضت الخشبة فهي مأروضة، والدّابة آرضة، والجمع:
أرضة كالكفرة والفجرة «5» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . إصطخر: مدينة في بلاد فارس. «معجم البلدان» 1: 210.
(3) . كابل هي عاصمة أفغانستان الآن.
(4) . جاءت الرواية في «الدر المنثور» 5: 227 كما يلي، مختلفة عمّا ذكر هنا، ففيه: «أخرج عبد الرّزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن رضي الله عنه، قال: إن سليمان (ع) لمّا شغلته الخيل فاتته صلاة العصر، غضب لله فعقر الخيل- أي ضرب قوائمها بالسيف- فأبدله الله مكانها خيرا منها وأسرع، الريح تجري بأمره كيف يشاء، فكان عدوّها شهرا، ورواحها شهرا. وكان يغدو من إيليا- أي بيت المقدس- فيقيل بقريرا، ويروح بقريرا، فيبيت بكابل» . والأثر أخرجه، كما هو أعلاه، الطّبري في «تفسيره» 22: 48.
(5) . انظر «تاج العروس» مادة (أرض) .(7/135)
4- لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ [الآية 15] .
قال سفيان: هي باليمن. أخرجه ابن أبي حاتم.
5- وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [الآية 19] .
قال الشّعبي: أمّا غسّان منهم، فلحقوا بالشام: وأمّا الأنصار، فلحقوا بيثرب: وأمّا خزاعة، فلحقوا بتهامة، وأمّا الأزد فلحقوا بعمان. أخرجه ابن أبي حاتم «1» .
6- قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ [الآية 23] .
هم الملائكة.
7- قالُوا الْحَقَّ [الآية 23] .
أوّل من يقوله جبريل فيتبعونه. كما أخرجه ابن جرير من حديث النّوّاس بن سمعان.
__________
(1) . والطّبري: 22: 59. [.....](7/136)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «سبأ» «1»
1- وقال تعالى: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [الآية 13] .
أقول: كان خط المصحف كَالْجَوابِ بالباء المكسورة، وحقّها أن تكون «الجوابي» وهذا القدر الّذي أثبتناه من الآية، يعادل من حيث الوزن بيتا من الرّمل، لو أن وقفة قصيرة على «الجواب» لتفصل الصدر عن العجز، ولو كانت هذه الوقفة لحسن أن تأتي الجوابي بالياء على الأصل، خلافا لخط المصحف.
فكأنّ خط المصحف، وعدم وجود الوقف كان اجتنابا لهذا الوزن، الّذي بعدت عنه لغة التنزيل. أقول: لعلّ شيئا من ذلك جعل «الجوابي» «الجواب» !! 2- وقال تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ [الآية 23] .
أقول: والتضعيف في قوله تعالى:
فُزِّعَ للسّلب، أي أزيل الفزع.
والسّلب، كما بيّنا، من المعاني الّتي تستفاد من التّضعيف.
3- وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [الآية 28] .
أقول: والمعنى: وما أرسلناك إلّا للناس كافّة ...
ومجيء الآية بتقديم كَافَّةً يفسد مذهب أهل التصحيح، الّذين يقولون بخطإ قول المعربين، كافة الناس، ويلزمونهم أن يقولوا: الناس كافة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/137)
4- وقال تعالى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها [الآية 44] .
لعلّ هذه الآية من أقدم الشواهد على دلالة «الدرس» ، وهي قراءة الكتاب ومعرفتها وحفظها ...
5- وقال تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الآية 52] .
والتَّناوُشُ: التناول، ويقال:
ناشه ينوشه وتناوشه.
أقول: وقد أميت هذا الفعل وجميع صوره في العربية المعاصرة، ولكننا نجده حيا معروفا بمعناه في العربية الدّارجة، ولا سيّما في العراق.(7/138)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «سبأ» «1»
في قوله تعالى: يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) .
لا إعمال «ينبّئكم» لأنّ (إنّكم) موضع ابتداء لمكان اللام، كما تقول:
«أشهد إنّك لظريف» .
وقوله تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ [الآية 15] أي على: هذه بلدة طيّبة.
وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [الآية 23] أي:
لا يشفع الا لمن أذن له.
وقوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ [الآية 21] على البدل، كأنّ السّياق: «ما كان ذلك الابتلاء إلّا لنعلم» .
وفي قوله تعالى: قالُوا الْحَقَّ [الآية 23] ، إن شئت نصبت الحقّ، وإن شئت رفعته.
وقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً [الآية 24] فليس هذا لأنّه شكّ، ولكنّ هذا في كلام العرب على أنّه هو المهتدي. وقد يقول الرجل لعبده:
«أحدنا ضارب صاحبه» فلا يكون فيه إشكال على السّامع، أنّ المولى هو الضّارب.
وقال تعالى: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [الآية 31] تقول «قد رجعت إليه القول» .
وقال تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الآية 33] أي: هذا مكر اللّيل والنّهار. واللّيل والنّهار لا يمكران
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(7/139)
بأحد، ولكن يمكر فيهما كقوله تعالى:
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] وهذا من سعة العربيّة.
وقال تعالى: تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [الآية 37] ، وزُلْفى هاهنا اسم المصدر، كأنّه أراد: بالّتي تقرّبكم عندنا إزلافا.
وقال تعالى: مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ [الآية 45] أي: عشرة. ولا يقولون هذا في سوى العشر.
وقال تعالى: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الآية 8] ، فالألف قطع، لأنّها ألف الاستفهام وكذلك ألف الوصل، إذا دخلت عليها ألف الاستفهام.(7/140)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «سبأ» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 9] ، ولم يقل: إلى ما فوقهم وما تحتهم من السماء والأرض؟
قلنا: ما بين يدي الإنسان هو كلّ شيء يقع نظره عليه من غير أن يحوّل وجهه إليه، وما خلفه هو كلّ شيء لا يقع نظره عليه حتّى يحوّل وجهه إليه، فكان اللفظ المذكور أتمّ ممّا ذكر.
فإن قيل: لماذا لم يذكر سبحانه الأيمان والشمائل هنا، كما ذكرها في قوله تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17] ؟
قلنا: لأنّه وجد هنا ما يغني عن ذكرها، وهو لفظ العموم، وذكر السماء والأرض، ولا كذلك ثمّة.
فإن قيل: كيف استجاز سليمان (ع) عمل التماثيل، وهي التصاوير؟
قلنا: قيل إن عمل الصورة لم يكن محرّما في شريعته، ويجوز أن تكون صور غير الحيوان كالأشجار ونحوها، وذلك غير محرّم في شريعتنا أيضا.
فإن قيل: لم قال تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ [الآية 15] ولم يقل آيتان جنّتان، وكل جنة كانت آية: أي علامة على توحيد الله تعالى؟
قلنا: لما تماثلتا في الدّلالة واتحدت جهتهما فيها، جعلتا آية
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/141)
واحدة، ونظيره قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] .
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 22] ، أي الّذين زعمتموهم آلهة من دون الله، مع أنّ المشركين ما زعموا غير الله إلها دون الله، بل مع الله على وجه الشّركة؟
قلنا: النّص لا يدل على زعمهم حصر الالهة في غير الله نصّا بل يوهم ذلك، ولو دلّ فنقول: فيه تقديم وتأخير تقديره: ادعوا الّذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء لله.
فإن قيل: ما معنى التشكيك في قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) ؟
قلنا: قيل إنّ (أو) هنا بمعنى الواو في الموضعين، فيصير المعنى: نحن على الهدى وأنتم في الضلال. وقيل معناه: وإنّا لضالّون أو مهتدون وإنّكم لكذلك، وهو من التعريض بضلالهم كما يقول الرّجل لصاحبه إذا أراد تكذيبه: والله إنّ أحدنا لكاذب، ويعني به صاحبه.
فإن قيل: لم قالت الملائكة (ع) في حق المشركين، كما ورد في التنزيل:
بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [الآية 41] ولم ينقل عن أحد من المشركين أنّه عبد الجن؟
قلنا: معناه كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به من عبادتنا:
أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) : أي أكثر المشركين مصدّقون بالشياطين فيما يخبرونهم به من الكذب، أنّ الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك فالمراد بالجنّ الشياطين.(7/142)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «سبأ» «1»
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ [الآية 23] .
هذه استعارة، فالمراد بقوله تعالى:
فُزِّعَ، أي أزيل الفزع عن قلوبهم.
كما تقول: قذّيت عينه: إذا أزلت القذى عنها. وهو كقولهم: رغب عنه:
إذا رفعت الرغبة عنه. خلافا لقولهم:
رغب فيه: إذا صرفت الرغبة إليه.
فالرغبة في أحد الأمرين منقطعة، وفي الاخر منصرفة.
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الآية 31] . وهذه استعارة.
والمراد بها ما تقدّم القرآن من الكتاب، فكأنّها كانت مشيرة إليه، ومصرّفة بين يديه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك فيما تقدّم.
وقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [الآية 33] . وهذه استعارة.
والمراد بمكر اللّيل والنّهار: ما يتوقّع من مكرهم في الليل والنهار، فأضاف تعالى المكر إليهما لوقوعه فيهما. وفيه أيضا زيادة فائدة، وهي دلالة الكلام على أنّ مكرهم كان متصلا غير منقطع في الليل والنهار، كما يقول القائل: ما زال بنا سير الليل والنهار حتّى وردنا أرض بني فلان. وهذا دليل على اتّصال سيرهم في الليل والنهار، من غير إغباب، ولا إراحة ركاب.
وقوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) . وهذه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/143)
استعارة. والمراد أنّه عليه الصّلاة والسّلام بعث ليقدّم الإنذار أمام وقوع العقاب، إزاحة للعلّة، وقطعا للمعذرة.
وقد تقدّمت إشارتنا إلى نظائر هذه الاستعارة في عدّة مواضع من هذا الكتاب.
وقوله سبحانه: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) . وهذه استعارة. لأن الإبداء والإعادة يكونان في القول، ويكونان في الفعل. فأمّا كونهما في الفعل فبقوله سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27] وأمّا كونهما في القول، فإنّ القائل يقول: سكت فلان فلم يعد ولم يبدئ. أيّ لم يتكلم ابتداء ولا أحار جوابا. وهاتان الصّفتان يستحيل أن يوصف بهما الباطل، الّذي هو عرض من الأعراض، إلّا على طريق الاتّساع والمجاز.
وإنّما المراد أنّ الحقّ قوي وظهر، والباطل ضعف واستتر، ولم يبق له بقيّة يقوى بها بعد ضعفه، ويجبر بعد وهنه. أي ما تقوم له قائمة في بدء ولا عود. والبدء: الحال الأولى، والعود:
الحال الأخرى. وكذلك الإبداء والإعادة.
ويجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون المعنى، أنّ الباطل كان عند غلبة الحقّ وظهوره، بمنزلة الواجم الساكت، والحائر الذاهل، الّذي لا قدرة له على الحجاج، ولا قوّة له على الانتصار. كقولهم: «سكت فما أعاد ولا أبدأ» عند وصف الإنسان بالحيرة أو غلبة الفكرة.
وقد قيل أيضا في ذلك وجه آخر، يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة، وهو أن يكون المراد أنّ صاحب الباطل لا يبدئ ولا يعيد عند حضور صاحب الحقّ، ضعفا عن حجاجه، وضلالا عن منهاجه. فجعل المضاف هاهنا في موضع المضاف إليه. وذلك كثير في كلامهم.
وقوله تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وهذه استعارة.
والمراد بذلك، والله أعلم، أنّهم يقولون ما لا يعلمون، ويظنّون ولا يتحقّقون. فهم بمنزلة الرّامي غرضا بينه وبينه مسافة متباعدة، فلا يكون سهمه أبدا إلّا قاصرا عن الغرض، وعادلا عن السّدد.(7/144)
سورة فاطر 35(7/145)
المبحث الأول أهداف سورة «فاطر» «1»
سورة فاطر سورة مكّية نزلت بعد سورة الفرقان، بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وإذا قسمنا حياة المسلمين بمكّة إلى ثلاث فترات: الفترة المبكرة للدعوة، والفترة المتوسّطة بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، والفترة الأخيرة بين الإسراء والهجرة إلى المدينة، رأينا أن سورة فاطر نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين بمكّة.
ولسورة فاطر اسمان: الاسم الأول فاطر، والاسم الثاني سورة الملائكة، لقوله تعالى في أول السورة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
موضوعات السورة
قال الفيروزآبادي: مقصود سورة فاطر هو: «بيان خلق الملائكة، وفتح أبواب الرحمة، وتذكير النعمة، والتحذير من إغراء الشياطين، وتسلية الرسول، وصعود كلمة الشهادة إلى الله، وذكر عجائب البحر، واستخراج الحلية منه، وسير الليل والنهار، وعجز الأصنام عن الرّبوبيّة، وفقر العباد إلى الله، وفضل القرآن وشرف تلاوته، وأصناف الخلق في وراثة القرآن، وخلود الجنّة لأهل الإيمان، وخلود النار لأهل الكفر والطغيان والمنّة على العباد بحفظ السماء والأرض من الخلل والاضطراب ... » .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/147)
سياق السورة
سورة فاطر لها نسق خاص في موضوعها وسياقها، أقرب ما يكون إلى نسق سورة الرعد. «فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها، وهي إيقاعات موحية مؤثّرة تهز القلب هزّا، وتوقظه من غفلته ليتأمّل عظمة هذا الوجود، وروعة هذا الكون، وليتدبّر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه، المتناثرة في صفحاته، وليتذكّر آلاء الله ويشعر برحمته ورعايته، وليتصوّر مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة، وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله، وآثار يده في أطواء الكون، وأغوار النفس وحياة البشر، وأحداث التاريخ. وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القادرة. ذلك كله بأسلوب وإيقاع لا يتماسك له قلب يحسّ ويدرك، ويتأثّر تأثّر الأحياء.
«والسّورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات، متتالية الإيقاعات يصعب تقسيمها إلى فصول متميّزة الموضوعات فهي كلّها موضوع، كلّها إيقاعات على أوتار القلب البشريّ، تستمدّ من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث، فتأخذ على النفس أقطارها، وتهتف بالقلب من كلّ مطلع إلى الإيمان والخشوع والإذعان.
«والسمة البارزة الملحوظة هي تجميع الخيوط كلّها في يد القدرة المبدعة، وإظهار هذه اليد تحرّك الخيوط كلّها وتجمعها، وتقبضها وتبسطها، وتشدّها وترخيها فلا معقّب ولا شريك ولا ظهير.»
فقرات السورة
رغم أن السّورة كلّها وحدة متماسكة إلّا أنه يمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات:
1- رحمة الله وفضله
إذا تأمّلنا الآيات: [1- 8] من سورة فاطر، نجد فيضا من أنعم الله الّتي لا تعدّ ولا تحصى على عباده، فهو خالق السماء والأرض وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده، ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [الآية 2] لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه، جعل النار(7/148)
بردا وسلاما على إبراهيم (ع) ، وأنقذ يوسف (ع) من الجبّ ومن السجن، واستجاب دعاء يونس (ع) في بطن الحوت، وآزر موسى (ع) في طريقه إلى فرعون، وأنزل رحمته بأصحاب الكهف وحفظهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، وشملت رحمة الله محمدا (ص) في الهجرة، وهو طريد:
ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] .
وإذا أمسك الله رحمته عن عبد، فلن ينفعه مال ولا رجال. وإذا استقرّ اليقين في القلب، تنبّه إلى كيد الشّيطان وفنّه فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدوّ لنا يزيّن لنا الشّرّ ليوقعنا في المعصية، فمن أطاع الشيطان زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، ووقع في الضلال، ومن يضلل الله فما له من هاد.
2- آيات الله في الكون
في الآيات [9- 15] نلحظ القدرة الإلهيّة، في نفس الإنسان وفي صفحة الكون، وفي الرياح يسوقها الله، ثمّ تثير السحب فتسوقها يد القدرة مطرا يحيي الأرض بعد موتها، وكذلك البعث والحياة بعد الموت. والله خالق الإنسان وبيده رعايته في مراحل تكوينه، وتخليقه في بطن أمّه، ثمّ رعايته وليدا وناشئا وزوجا، وهو عليم بمن يموت مبكرا، إنّ ذلك على الله يسير.
وتمتدّ قدرة الله سبحانه إلى كلّ مظهر من مظاهر الوجود، فتراها في مشهد البحرين المتميّزين أحدهما عذب فرات، والاخر ملح أجاج وفيهما من نعم الله على النّاس ما يقتضي الشكر والعرفان.
وفي مشهد الليل والنهار، يتداخلان ويطولان ويقصران، دليل على التقدير والتدبير، وكذلك مشهد الشمس والقمر، مسخّرين بهذا النظام الدقيق.
هذه آثار قدرة الله جلّ وعلا، والّذين يدعون من دونه لا يسمعون ولا يستجيبون، ويوم القيامة يتبوّءون من عبادهم الضّلال. ولا يخبر بهذه الحقائق مثل الإله الخبير.
3- الله غني عن عبادتنا
في الآيات [15- 26] بيان لحقيقة أساسيّة، هي أن الله جلّ جلاله غنيّ عن عبادتنا، فلا تنفعه طاعتنا، ولا(7/149)
تضرّه معصيتنا ولكننا نحن الفقراء المحتاجون إلى رضاه وعنايته، فمن اهتدى بهدى الله سبحانه، فقد اهتدى إلى كلّ خير، ووجد الهداية والسعادة والثقة بالنفس، والأمل في الغد ومن لم يهتد فقد خسر كل شيء. ولو شاء الله أن يذهب النّاس لأهلكهم، وأتى بخلق جديد يعرفون فضله عليهم.
ويشير القرآن إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال، وأنّ الاختلاف بين طبيعتيهما أصل عميق، كأصالة الاختلاف بين العمى والبصر، والظّلمات والنور، والظّلّ والحرور، والموت والحياة وأنّ بين الهدى والبصر والنور والظّلّ والحياة صلة وشبها كما أنّ بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة وشبها ثمّ تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذّبين للتنبيه والتحذير.
4- كتابان إلهيان
عند قراءة الآيات [27- 38] يتّضح أمامنا أن لله عز وجل كتابين يدلّان عليه، أحدهما كتاب الكون والثاني الكتاب المنزل. والمؤمن يقرأ دلائل القدرة في كتاب الكون: في صحائفه العجيبة الرائعة، المتنوّعة الألوان والأنواع والأجناس، والثمار المتنوّعة الألوان، والجبال الملوّنة الشّعاب، والنّاس والدّواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة. هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح.
والمؤمن يقرأ في الكتاب المنزل، ويستيقن بما فيه من الحقّ المصدّق لما بين يديه من الكتاب المنزلة، وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة، ودرجات الوارثين وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين، ومشهدهم في دار النعيم ومقابلهم مشهد الكافرين الأليم. وتختم الجولة العجيبة، المديدة، المنوّعة الألوان، بتقرير أنّ ذلك كلّه يكون وفقا لعلم الله، العليم بذات الصّدور.
5- دلائل الإيمان
تشتمل الآيات [39- 45] على الفقرة الأخيرة من السّورة، وفيها دلائل يقدّمها القرآن ليحرّك القلوب نحو الإيمان. وتجول الآيات جولات واسعة المدى، تشتمل على إيحاءات شتّى: جولة مع البشريّة في أجيالها(7/150)
المتعاقبة يخلف بعضها بعضا، «وجولة في الأرض والسّماوات للبحث عن أيّ أثر للشّركاء الّذين يدعونهم من دون الله وجولة في السّماوات والأرض، كذلك لرؤية يد الله القوية تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا، وجولة مع هؤلاء المكذّبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل: لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم، ثمّ نقضوا هذا العهد وخالفوه. فلمّا جاءهم نذير ما زادهم إلّا نفورا وجولة في مصارع المكذّبين من قبلهم، وهم يشهدون آثارهم الداثرة، ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة، وأن تمضي فيهم سنّة الله الجارية» «1» .
ثمّ الختام الموحي الموقظ للقلب، المبين فضل الله العظيم في إمهال العصاة: فإن تابوا قبل توبتهم، وإن أصرّوا على المعصية عاقبهم وحاسبهم قال تعالى:
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) .
__________
(1) . سيّد قطب: في ظلال القرآن 22: 136.(7/151)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «فاطر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة فاطر بعد سورة الفرقان، وقد نزلت سورة الفرقان بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزولها في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 1] فسمّيت باسم فاطر الّذي ابتدئت به بعد ذكر اسم الحمد، ومثل هذا يكفي في تسميتها به، وتبلغ آياتها خمسا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات اختصاص الله تعالى بالحمد، ولهذا يدور الكلام فيها على ذكر ما يوجب حمده على الناس، ليفوزوا برضاه وينجوا من عقابه، وقد افتتحت بإثبات اختصاصه تعالى بالحمد، وتبشير المؤمنين الحامدين بفتح أبواب الرحمة لهم فاتّصل أوّلها بما جاء في آخر السورة السابقة من قطع رجاء المشركين في ربهم، لأنّ الضّدّ يدعو إلى ذكر الضّدّ.
اختصاص الله تعالى بالحمد الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فذكر اختصاصه بالحمد لأنه مبدع السماوات
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/153)
والأرض، وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وصنعه فإذا أرسلهم إلى الناس برحمته فلا معارض له في إرسالها، وإذا أمسكها عنهم فلا مرسل لها من بعده ثمّ أمر الناس أن يذكروا ما رحمهم به من النعم، ليعلموا أنه لا خالق لها غيره، وأنه هو الرازق وحده، فإذا لم يؤمنوا بذلك فسوف يكون إليه جلّ وعلا مرجعهم، ليعاقبهم على كفرهم بما أنعم به عليهم ثم ذكر سبحانه أن ما وعد به من رجوعهم إليه حقّ لا يصحّ أن تغرّهم عنه أسباب دنياهم، أو الشيطان الّذي هو عدوّ لهم، ويزيّن ما يزيّنه لأتباعه ليوقعهم في عذاب ربّهم ثم ذكر استحقاقهم ذلك العذاب، وذكر استحقاق المؤمنين للمغفرة والأجر، وأيّد ذلك بقوله جلّ وعلا: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) .
آيات تدل على اختصاصه بالحمد الآيات [9- 45]
ثمّ قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) فذكر، ممّا يدل على اختصاصه بالحمد، إرساله الرياح بالمطر لإحياء الأرض بعد موتها، وأنّه كما يحيي الأرض بذلك ينشر الموتى من قبورهم، لأنّه المتفرّد وحده بالعزّة والقدرة، وإليه تصعد أعمال الناس فيحاسبهم عليها.
ثم ذكر من ذلك خلقه لنا من تراب، وجعله لنا أزواجا وتفرّده بعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تضع، وخلقه بحرين أحدهما عذب سائغ شرابه، وثانيهما ملح أجاج، ومن كلّ منهما نأكل لحما طريّا ونستخرج حلية نلبسها.
ثمّ ذكر من ذلك، أنّه هو الّذي يولج اللّيل في النّهار ويولج النّهار في اللّيل، ويسخّر الشّمس والقمر كلّ يجرى إلى أجل مسمّى، وأنّ من يكون هذا شأنه يكون هو المتفرّد بالملك والحمد وأمّا الّذين يدعونهم آلهة، فلا يملكون شيئا، لأنّهم جماد لا يسمعون شيئا، فإذا جاء يوم القيامة ظهر ضعفهم وكفروا بشرك من يعبدونهم. ثمّ ذكر لهم أنّهم فقراء إليه وهو سبحانه غنيّ عنهم، وإن يشأ يذهبهم ويأت بخلق غيرهم يعرفون فضله عليهم وأنّ ما(7/154)
يزرونه من شرك وغيره لا يحمل وزره غيرهم، كما أنّ من تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه، ولا يمكن أن يستويا في ذلك، كما لا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظّلّ ولا الحرور ولا الأحياء ولا الأموات ثم ذكر، جلّت قدرته، أنه لا شيء على النبي (ص) من تكذيبهم، وأنّهم إن يكذّبوه في ذلك فقد كذّب الّذين من قبلهم، فأهلكهم بآيات العذاب الّتي أرسلها عليهم.
ثمّ ذكر من ذلك إنزاله ماء المطر الّذي أخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، وتنويعه الجبال إلى جبال ذات طرائق بيض وحمر، وغير ذلك من ألوانها، وتنويعه الناس والدّوابّ والأنعام إلى أنواع مختلفة الألوان وأنّ ذلك إنّما يعرفه العلماء الّذين يخشونه، ويتلون كتابه فيتدبّرونه ويعملون به ثمّ ذكر فضل هذا الكتاب، وأنّه جاء مصدّقا لما قبله من الكتاب، وأنّه أورثه هذه الأمّة الّتي اصطفاها من عباده، فانقسمت فيه إلى ظالم لنفسه ترجّحت سيّئاته، وإلى مقتصد تساوت حسناته وسيّئاته، وإلى سابق بالخيرات ترجّحت حسناته، وبيّن ما أعدّ لهم من الثواب، وما أعدّ للكافرين من العقاب ثمّ أمر النبيّ (ص) أن يقول لهم: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [الآية 40] : ليسجّل عجزها عما يزعمونه من شفاعتها لهم، لأنّه، سبحانه، هو الّذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولا يمكن أن يمسكهما غيره إن زالتا.
ثمّ ختمت السورة ببيان أنهم يكافرون بذلك عنادا، لأنّهم كانوا يقسمون مجتهدين إن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من اليهود أو النّصارى الّذين كذّبوا رسلهم. فلمّا جاءهم نذير لم يزدهم إلّا نفورا، فاستكبروا في الأرض، ومكروا مكرا سيّئا، ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله، وتلك سنّته فيمن كذّب قبلهم برسله، لا تتبدّل ولا تتحوّل، فلينظروا كيف كانت عاقبتهم، وقد كانوا أشدّ منهم قوّة، وما كان الله ليعجزه شيء في السماوات والأرض، إنّه كان عليما قديرا: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) .(7/155)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «فاطر» »
أقول: مناسبة وضعها بعد سبأ:
تأخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار.
وقال بعضهم: افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها، من قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: 54] .
كما قال سبحانه: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) [الأنعام] ، فهو نظير اتصال أوّل الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . يعني قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] . وأمّا أوّل الأنعام، فهو قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.(7/157)
المبحث الرابع مكنونات سورة «فاطر» «1»
1- وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 14] .
أخرج ابن أبي حاتم عن القاسم بن الفضل الحدّاني «2» قال: أرسل الحجّاج الى عكرمة يسأله عن يوم القيامة، أمن الدنيا هو أم من الاخرة؟ فقال: صدر ذلك اليوم من الدنيا وآخره من الاخرة.
2- أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [الآية 37] .
فسّر في حديث مرفوع، بالسّتين.
أخرجه الطبراني «3» من حديث ابن عبّاس. وله شاهد من حديث أبي هريرة في «الصحيح» «4» .
وأخرجه ابن جرير من طريق عن ابن عباس موقوفا.
وأخرج من وجه آخر عنه أنه أربعون سنة.
3- وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [الآية 37] .
هو محمّد (ص) «5» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين، وفي آخرها نون، نسبة الى حدّان وهم من الأزد، أبو المغيرة البّصري، من رواة الحديث الثقات، رمي بالإرجاء، وتوفي سنة 167 هـ. انظر «الأنساب» للسمعاني 4: 76، 77.
(3) . في «المعجم الأوسط» وفيه إبراهيم بن الفضل المخزومي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7:
97.
(4) . البخاري في الرقاق باب: من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر برقم (6419) عن أبي هريرة، عن النبيّ (ص) قال: «أعذر الله الى امرئ أخّر أجله حتّى بلّغه ستين سنة» .
انظر «تفسير الطبري» 22: 93.
(5) . انظر «تفسير الطبري» 22: 93. [.....](7/159)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «فاطر» «1»
وقال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 4] .
أقول: قال النحاة: كلّ جمع مؤنّث، وهذا يعني أنّ الغالب على معنى الجمع هو التأنيث، إذا استثنينا جمع المذكّر السالم.
ويصدق قولهم: إنّ الجمع مؤنث في كثير من الألفاظ المذكّرة الدّالّة على العاقل، مثل كلمة، «رسل» فهي جمع رسول.
2- وقال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [الآية 9] .
أقول: الميّت بالتشديد «فيعل» ، وقد يخفف فيكون «ميت» ، «فعل» مثل «ضيّق» و «ضيق» .
وقد ورد «ميت» بالتخفيف في قوله تعالى:
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا [الفرقان: 49] .
كما ورد «ضيّق» بالتشديد، في قوله تعالى:
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] .
3- وقال تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [الآية 10] .
أي: ومكر أولئك يكسد ويفسد.
أقول: والبوار كثير استعماله في التجارة، فيقال تجارة بائرة أو بضاعة بائرة، هذا في العربية المعاصرة، ومثله ورد في قوله تعالى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [الآية 29] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/161)
4- وقال تعالى: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [الآية 13] .
أقول: لم يأت «قطميرا» في الآية، لتكون الآية على نمط الفواصل في السورة كلها، ذلك أنّ المعنى: ما يملكون شيئا.
إنّ قوله تعالى: ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أبلغ ممّا لو قيل:
«ما يملكون شيئا» ، من قبل أنّ القطمير شيء لا قيمة له البتّة، ولا يلتفت اليه فهو لفافة النّواة.
5- وقال تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [الآية: 27] .
أقول: وصف قوله تعالى: جُدَدٌ ب بِيضٌ، ووَ حُمْرٌ ثم قوله تعالى: وَغَرابِيبُ سُودٌ يدلّنا على أن الوصف للجمع لا يكون، ولا يصحّ ب «فعلاء» ، بل يكون ب «فعل» جمع أفعل فعلاء.
وعلى هذا، يكون من ذهب إلى خطأ قولنا: صحائف بيضاء على حقّ.
6- وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً [الآية 37] .
أقول: يَصْطَرِخُونَ، بمعنى:
يتصارخون.
لم نسمع في غير هذه الآية «افتعل» من الصراخ.
7- وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ [الآية 39] .
والخلائف جمع خليفة، فأما خلفاء فهي في الأصل جمع خليف، مثل شريف وشرفاء، ولكنّها شاعت في جمع خليفة، لوجود الخليفة مستعملا في العربية أكثر من الخليف.
8- وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [الآية 41] .
أقول: كنّا قد أشرنا إلى مثل هذه الآية في احتساب السَّماواتِ مفردا، بإزاء الْأَرْضَ الّتي هي مفرد فرجع الضمير إليهما ضمير الاثنين في قوله سبحانه: أَنْ تَزُولا، وهذا شيء من خصائص لغة القرآن.(7/162)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «فاطر» «1»
في قوله تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [الآية 1] لم تصرف «ثلاث» و «رباع» على تأويل «الثلاثة» و «الأربعة» . وهذا لا يستعمل إلّا في حال العدد. وقال سبحانه في مكان آخر أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى [سبأ:
46] ، وتقول «ادخلوا أحاد أحاد» كما تقول «ثلاث ثلاث» . وقال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائة] .
أحمّ الله ذلك من لقاء أحاد أحاد في شهر حلال وقال تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [الآية 2] بالتأنيث لذكر (الرحمة) وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ.. بالتذكير لأنّ لفظ (ما) يذكّر.
وقوله تعالى: وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [الآية 18] خبر.
وقال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها [الآية 18] فكأنّ المعنى «إن تدع إنسانا لا يحمل من ثقلها شيئا ولو كان الإنسان ذا قربى.
في قوله تعالى: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) يشبه أن تكون (لا) زائدة لأنك لو قلت: «لا يستوي عمرو ولا زيد» في هذا المعنى، لم يكن إلّا أن تكون (لا) زائدة.
وقال تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ [الآية 27] و «الجدد» واحدتها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(7/163)
«جدّة» و «الجدد» هي ألوان الطرائق الّتي فيها. مثل «الغدّة» وجماعتها «الغدد» ولو كانت جماعة «الجديد» لكانت «الجدد» . وإنّما قرئت مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [الآية 27] لأنّ كلّ صفة مقدّمة فهي تجري على الّذي قبلها، إذا كانت من سببه فالثّمرات في موضع نصب.
وقال تعالى: وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها [الآية 27] برفع «المختلف» لأنّ الّذي قبلها مرفوع.
وقال سبحانه: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [الآية 31] لأنّ «الحقّ» معرفة.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما [الآية 41] بالتثنية، وقد قال سبحانه: السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فهذه جماعة وأرى، والله أعلم، أنّ السياق جعل السماوات صنفا كالواحد.
وقال تعالى: لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [الآية 42] فجعلها السياق إحدى، لأنها أمّة.
وقال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [الآية 45] بإضمار الأرض من غير أن يكون ذكرها، لأنّ هذا الكلام قد كثر حتى عرف معناه تقول: «أخبرك ما على ظهرها أحد أحبّ إليّ منك وما بها أحد آثر عندي منك» .
وقال تعالى: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [الآية 36] وقد قال سبحانه:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) [الإسراء] أي: «لا يخفّف عنهم من العذاب الّذي هو هكذا» .(7/164)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «فاطر» «1»
إن قيل: قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الآية 9] . لم جاء فَتُثِيرُ مضارعا دون ما قبله وما بعده؟
قلنا: هو مضارع وضع موضع الماضي، كما في قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب:
37] .
فإن قيل ما معنى قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ [الآية 11] ؟
قلنا: معناه وما يعمّر من أحد، وإنّما سمّاه بما هو صائر إليه.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [الآية 24] ، وكم من أمة كانت في الفترة بين عيسى (ع) ومحمد (ص) ولم يخل فيها نذير؟
قلنا: إذا كان آثار النّذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى (ع) بعث محمد عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: لم اكتفى سبحانه وتعالى، بذكر النّذير عن البشير في آخر الآية، بعد سبق ذكرهما في أوّلها؟
قلنا: لمّا كانت النّذارة مشفوعة بالبشارة، لا محالة، استغني بذكر أحدهما عن الاخر بعد سبق ذكرهما.
فإن قيل: ما الفرق بين النّصب واللّغوب حتّى عطف أحدهما على الاخر؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/165)
قلنا: النّصب المشقّة والكلفة، واللّغوب الفتور الحاصل بسبب النّصب فهو نتيجة النّصب، كذا فرّق بينهما الزمخشري رحمه الله. ويردّ على هذا، أن يكون انتفاء الثاني معلوما من انتفاء الأول.
فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الآية 37] ، مع أنه قد يفيد أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الّذي عملوه، وهم ما عملوا صالحا قطّ، بل سيئا؟
قلنا: هم كانوا يحسبون أنّهم على سيرة صالحة، كما قال تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) [الكهف] فمعناه غير الّذي كنا نحسبه صالحا، فنعمله.(7/166)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «فاطر» «1»
قوله سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [الآية 10] هذه استعارة. وليس المراد أنّ هناك على الحقيقة شيئا يوصف بالصّعود، ويرتقي من سفال إلى علوّ. وإنّما المراد أنّ القول الطّيب والعمل الصالح متقبّلان عند الله تعالى، واصلان إليه سبحانه. بمعنى أنهما يبلغان رضاه، وينالان زلفاه. وأنّه تعالى لا يضيّعهما ولا يهمل الجزاء عليهما. وهذا كقول القائل لغيره: قد ترقّى الأمر إلى الأمير. أي بلغه ذلك على وجهه، وعرفه على حقيقته. وليس يريد به الارتقاء الّذي هو الارتفاع، وضده الانخفاض.
ووجه آخر: قيل إن معنى ذلك صعود الأقوال والأعمال إلى حيث لا يملك الحكم فيه إلّا الله سبحانه. كما يقال ارتفع أمر القوم إلى القاضي. إذا انتهوا إلى أن يحكم بينهم، ويفصل خصامهم. ووجه آخر: قيل إنّ الله سبحانه لمّا كان موصوفا بالعلوّ على طريق الجلال والعظمة، لا على طريق المدى والمسافة، فكلّ ما يتقرّب به إليه من قول زكيّ، وعمل مرضيّ فالإخبار عنه يقع بلفظ الصعود والارتفاع، على طريق المجاز والاتّساع.
وقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [الآية 18] .
وقد مضى نظير هذا الكلام في الأنعام، وفي بني إسرائيل، وتركنا الإشارة إليه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/167)
هناك لمّا جاءت في هذا الموضع زيادة حققت الكلام بالاستعارة، فاحتجنا إلى العبارة عنها أسوة بنظائرها. فنقول: إنّ قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة حمل غيرها يوم القيامة. يقال: وزر، يزر وزرا، إذا حمل. والاسم الوزر. ومن ذلك أخذ اسم الوزير، لأنه حامل الثّقل عن الأمير. والمعنى: ولا يحمل مذنب ذنب غيره، ولا يؤخذ بجرمه وجنايته.
والزيادة في هذا الموضوع قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى فشبّه تعالى استغاثة المثقّل من الآثام باستغاثته من الإعياء. لأنّ من عادة من تلك حاله أن يطلب من يشاطره الحمل، ويخفّف عنه الثّقل. فأمّا في ذلك اليوم فلا يهمّ كلّ امرئ إلّا نفسه، ولا يعنيه إلّا أمره، ولا يعين أحد أحدا، ولا يخفّف مدعوّ من داع ثقلا، ولو كان أولى الناس بأمره، وأقربهم التياطا به، وانتياطا «1» بنسبه.
وإنّما قال سبحانه: مُثْقَلَةٌ. ولم يقل: «مثقل» . لأنه ردّ ذلك إلى النفس، ولم يردده إلى الشخص.
وقوله سبحانه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [الآية 43] وهذه استعارة. والمراد أن الله سبحانه يعاقب المشركين على مكرهم بالمؤمنين، فكأنما مكروا بأنفسهم، ووجّهوا الضرر إليهم، لا إلى غيرهم، إذ كان المكر عائدا بالوبال عليهم. ومعنى لا يحيق أي لا يحلّ، ولا ينزل، ولا يحيط إلّا بهم.
وهذه الألفاظ كلها بمعنى واحد.
__________
(1) . انتاط به: أي تعلّق به. ولاحظ هنا الجناس الناقص بين التياط وانتياط وذلك من براعات الشريف الرضي.(7/168)
سورة يس 36(7/169)
المبحث الأول أهداف سورة «يس» «1»
سورة «يس» سورة مكّية، نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين في مكّة، أي فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وآياتها 83 آية نزلت بعد سورة الجن.
وللسورة اسمان: سورة «يس» لافتتاحها بها، وسورة «حبيب النجار» لاشتمالها على قصته، فقد جاء في تفسير قوله تعالى:
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) أنّ هذا الرجل يسمّى «حبيب النّجّار» .
مقصود السورة
قال الفيروزآبادي: «معظم مقصود سورة «يس» : تأكيد أمر القرآن والرسالة، وإلزام الحجة على أهل الضلالة، وضرب المثل بأهل قرية أنطاكية، في قوله تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) .
وذكر قصة «حبيب النجار» ، الّذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وبيان البراهين المختلفة في إحياء الأرض الميتة، وإبداء الليل والنهار، وسير الكواكب ودوران الأفلاك، وجري الجواري المنشئات في البحار، وذلّة الكفار عند الموت، وحيرتهم ساعة البعث، وسعادة المؤمنين المطيعين، وشغلهم في الجنّة، وتميّز المؤمن من الكافر في القيامة، وشهادة الجوارح على أهل المعاصي بمعاصيهم، والمنّة
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/171)
على الرسول (ص) بصيانته من الشعر ونظمه، وإقامة البرهان على البعث، ونفاذ أمر الحق في كُنْ فَيَكُونُ (82) ، وكمال ملك ذي الجلال على كل حال» «1» في قوله سبحانه:
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) .
ملامح السورة
لسورة يس وقع خاص في نفوس المسلمين، يردّدون قراءتها في الصباح والمساء، وتقرأ على المريض للشفاء، وعلى المحتضر لتيسير خروج الروح، وعلى المقابر لتنزل الرحمة على الموتى، وقد أخرج ابن حبّان في صحيحه مرفوعا:
«من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر الله له» «2» .
وتتميز سورة يس بقصر الآيات، وسهولة القراءة، وتتابع المشاهد وتنوّعها، من بدء السورة إلى نهايتها.
والموضوعات الرئيسة في السورة، هي موضوعات السورة المكّيّة، وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة، فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة، وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، لتحذّر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، وتعرض هذه العاقبة في القصّة على طريقة القرآن الكريم في استخدام القصص لتدعيم قضاياه وتعود السورة، قبيل نهايتها، إلى الموضوع ذاته، فتوضح أنّ ما يوحى إلى محمد (ص) ، ليس شعرا ولكنّه ذكر وقرآن مبين.
كذلك تتعرّض السّورة لقضيّة الألوهيّة والوحدانيّة، فيجيء استنكار الشّرك على لسان الرّجل المؤمن، الّذي جاء من أقصى المدينة ليعلن إيمانه بالمرسلين، وهو يقول كما ورد في التنزيل:
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) .
والقضيّة الّتي يشتدّ عليها التركيز في مواضع كثيرة من السورة، هي قضية البعث والنشور. وتحكي السورة قصّة
__________
(1) . بصائر ذوي التمييز 1: 310 بتصرف.
(2) . انظر المصدر نفسه 1: 392.(7/172)
أبيّ بن خلف، حين جاء بعظم قد رمّ وبلي وصار ترابا، ثمّ ضغط عليه بيديه، ونفخ فيه فطار في الفضاء، ثمّ قال: «يا محمّد تزعم أنّ ربّك يبعث هذا بعد ما رمّ وبلي وصار ترابا» ، فقال له: النبي (ص) «نعم ويبعثك ويدخلك النار» ، قال تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) .
«والقضايا المتعلّقة ببناء العقيدة، تتكرّر في السور المكّية، ولكنّها تعرض كلّ مرّة من زاوية معيّنة، تحت ضوء معيّن، مصحوبة بمؤثّرات تناسب جوّها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها.
«وهذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة، بصفة خاصة، ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها، ومن مصارع الغابرين على مدار القرون، ثمّ من المشاهد الكونية الكثيرة، المتفرعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة، ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام، ومشهد الشمس تجري لمستقرّ لها، ومشهد القمر يتدرّج في منازله حتّى يعود كالعرجون القديم، ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرّية البشر الأوّلين، ومشهد الأنعام مسخّرة للادميين، ومشهد النطفة وتحوّلها في النهاية إلى إنسان فإذا هو خصيم مبين، ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار الّتي يوقدون» «3» .
فصول السورة
يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة فصول:
1- رسالة ورسول
يستغرق الفصل الأول من السورة الآيات [1- 29] ، ويبدأ بالقسم بالحرفين «يا سين» وبالقرآن الحكيم على صدق رسالة النبي (ص) ، وأنّه على صراط مستقيم، ثم يبيّن أنّ القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى، لإنذار العرب الّذين لم ينذر آباؤهم من قبل فوقعوا فيما وقعوا من الغفلة، وحقّ العذاب على أكثرهم بسببها، وقد
__________
(3) . في ظلال القرآن 23: 7.(7/173)
جرت سنّة الله سبحانه ألّا يعذّب قوما إلّا بعد أن يرسل إليهم من ينذرهم، ثمّ وصف حرمانهم من الهداية وإمعانهم في الغواية، كأنّما وضعت أغلال في أعناقهم بلغت إلى أذقانهم، ووضعت سدود بين أيديهم ومن خلفهم فصاروا لا يبصرون وبيّن أنّ الإنذار إنّما ينفع من اتّبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب، فاستعدّ قلبه لاستقبال دلائل الهدى، وموحيات الإيمان. ثم يوجّه النبي (ص) إلى أن يضرب لهم مثلا أصحاب القرية.
(قصة أصحاب القرية) ضرب الله جلّ جلاله لأهل مكّة مثلا قصّة أهل أنطاكية بالشام، أرسل سبحانه إليهم رسولين، هما يوحنا وبولس من حواريّي عيسى (ع) ، فكذّبهما أهل القرية، فأرسل الله جلّ وعلا، ثالثا على درجة من الذكاء في توجيه الدّعوة، واستمرّ التّكذيب من الكافرين، وبيان الحجة وأدلّة الإيمان من المرسلين. ثمّ جاء رجل مؤمن يسمى «حبيب النجار» فدعا قومه إلى الإيمان بالرسل، فاتّهموه بأنه مؤمن، فأعلن إيمانه في ظروف حرجة، وتعرّض الرجل للإيذاء والقتل، فحظي بالشهادة والجنّة، وتمنّى لو أنّ قومه يعلمون منزلته الآن عند الله سبحانه.
أمّا القرية الظالمة فقد صاح بها الملك صيحة أهلكتها، أفلا يعتبر أهل مكّة بهذه القرية، وبالقرون الّتي هلكت جزاء كفرها؟ وسيجتمع الجميع أمام الله تعالى يوم القيامة، ويتميّز المؤمنون بحسن الثواب، ويحلّ بالكافرين سوء العقاب.
2- أدلة الايمان
بعد الحديث في الدرس الأول عن المشركين الّذين واجهوا دعوة الإسلام بالتكذيب، والمثل الّذي ضربه الله لهم في قصة أصحاب القرية المكذّبين، وما انتهى إليه أمرهم من الهلاك، بصيحة الملاك، فإذا هم خامدون تحدثت الآيات [30- 68] عن موقف المكذّبين بكل ملّة ودين، وعرضت صور البشرية الضالّة على مدار القرون، ثم أخذت في استعراض الآيات الكونية، الّتي يمرّون عليها معرضين غافلين، وهي مبثوثة في أنفسهم وفيما حولهم.
فالماء الّذي يحيي الأرض بأنواع(7/174)
الجنان والنخيل والأعناب، واللّيل والنّهار والشّمس والقمر، والنّبات والإنسان، وكلّ ما في الكون قد أبدع بنظام دقيق، فللشّمس مدارها، وللقمر مساره، ولليل وقته، وللنهار أوانه: لا يتأخر كوكب عن موعده، ولا يختلّ نظام، ولا تضطرب حركات الكون:
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) .
ثمّ تحدّثت الآيات عن عناد المشركين، واستعجالهم العذاب غير مصدّقين:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) .
وبمناسبة ذلك يستعرض مشهدا من مشاهد القيامة، يرون فيه مصيرهم الّذي به يستعجلون، كأنّه حاضر تراه العيون.
3- وحي لا شعر
يشتمل الدرس الثالث على الآيات الممتدة من الآية 69 الى آخر السّورة.
ويكاد هذا الفصل يلخّص موضوعات السورة كلّها، فينفي في أوّله أن ما جاء به محمد (ص) شعر، وينفي عن الرسول (ص) كلّ علاقة بالشّعر أصلا، ثمّ يعرض بعض المشاهد واللّمسات الدالّة على الألوهيّة المنفردة، وينعي عليهم اتّخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر، وهم الّذين يقومون بحماية تلك الالهة المدّعاة ويتناول قضية البعث والنشور، فيذكّرهم بالنشأة الأولى من نطفة، ليروا أنّ إحياء العظام وهي رميم، كتلك النشأة ولا غرابة، ويذكّرهم بالشجر الأخضر الّذي تكون فيه النار، وهما في الظاهر بعيدان، وبخلق السماوات والأرض، وهذا الخلق شاهد للقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والاخرة وفي ختام السورة نجد برهان القدرة الإلهية والإرادة الربّانيّة، فالله مالك كلّ شيء في الدّنيا والاخرة، وإليه المآب والمرجع قال تعالى:
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) .(7/175)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يس» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «يس» بعد سورة «الجنّ» ، وكان نزول سورة الجن في رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد سافر إليها سنة عشر من بعثته، ليعرض الإسلام على أهلها، فيكون نزول سورة «يس» فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بالقسم بهذين الحرفين اللذين سميت بهما، وتبلغ آياتها ثلاثا وثمانين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السّورة إثبات الرّسالة، وبيان الحاجة إليها، وهي إنذار العرب الّذين لم ينذروا من قبل النبي (ص) ، وقد حقّ عذاب الله عليهم بغفلتهم وفجورهم. ويدور السّياق في هذه السورة على ذكر ما يدلّ على قدرة الله على ذلك من الأمثلة والآيات، وقد ختمت السورة السابقة بإنذارهم بذلك العذاب، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض فجاءت هذه السورة لإثبات قدرة الله تعالى المطلقة، بتلك الأمثلة والآيات.
حاجتهم إلى رسول لإنذارهم الآيات [1- 12]
قال الله تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) ،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/177)
فأقسم بهذين الحرفين على أن محمّدا (ص) من المرسلين، ثم ذكر الحاجة الى رسالته، وهي إنذار العرب الّذين لم ينذر آباؤهم من قبل، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الغفلة، وحقّ العذاب على أكثرهم بسببها وقد جرت سنّة الله تعالى ألّا يعذّب قوما إلّا بعد أن يرسل إليهم من ينذرهم ثم ذكر سبحانه، أنه بلغ من استحكام غفلتهم، أنهم كانوا كأنّما كانت في أعناقهم أغلال بلغت إلى أذقانهم، فارتفعت بها رؤوسهم وصاروا لا يبصرون الطريق الّذي يخلّصهم منها ثم ذكر أن من وصلت بهم الغفلة إلى هذا الحدّ، وهم الأكثر عددا، لا فائدة في إنذارهم، وإنّما ينذر من كان عنده استعداد لاتّباع الذكر، وخشية من العذاب، وهؤلاء لهم البشرى بمغفرة وأجر كريم: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) .
إثبات قدرته على عذابهم الآيات [13- 83]
ثم قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) فذكر سبحانه، ممّا يدلّ على قدرته على عذابهم، مثل أصحاب تلك القرية مع رسلهم، وقد فصّله بما فصله به، إلى أن ذكر سبحانه، أنه لم يحتج في عذابهم إلى إنزال جند من السماء عليهم، وإنما كانت صيحة واحدة أخمدتهم، وجعلتهم يستحقّون التحسّر على ما أصابهم، بسبب استهزائهم بمن كان يأتيهم من الرسل، وعدم اتّعاظهم بما يرونه من الأمم الّتي أهلكت قبلهم، وأنّهم إليهم لا يرجعون: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) .
ثم ذكر تعالى من ذلك، آية إحياء الأرض بعد موتها، فأخرج منها حبّا وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب، إلى غير هذا ممّا ذكره في هذه الآية.
ثمّ ذكر سبحانه من ذلك آية سلخ النهار من الليل، وجري الشمس لمستقرّ لها، وتقدير القمر منازل، الى غير هذا ممّا ذكره في هذه الآية.
ثم ذكر جلّ جلاله، من ذلك آية حمل ذرّيتهم في الفلك الّتي تجري بهم في البحر، وأنه، جلّ شأنه، إن يشأ يغرقهم، فلا يقدر أحد على إنقاذهم، ولكنّ رحمته سبحانه هي الّتي اقتضت أن يمهلهم الى حين ثم ذكر أنهم مع(7/178)
هذا، إذا قيل لهم احذروا مثل هذا العذاب، لعلّ الله يرحمكم، ويمنعه عنكم، أعرضوا كما يعرضون عن كل آية تأتيهم، وأنهم إذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قالوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، ثم ذكر سبحانه أنهم يقولون مستهزئين متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأجاب عنه بأنهم لا ينظرون إلّا صيحة واحدة وهم يجادلون فيه، فلا يستطيعون توصية ولا رجوعا الى أهلهم ثم ذكر جلّ وعلا أنه بعد صيحة العذاب، تكون صيحة النفخ في الصور، فيبعثون من القبور وفصّل ما يكون بعد البعث من الثّواب والعقاب، إلى أن ذكر أنّ الكافرين ينكرون في ذلك اليوم كفرهم، فيختم على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وأنه لو يشاء سبحانه لطمس على أعينهم، ومسخ على مكانتهم، فأعجزهم عن الحركة كما أعجزهم عن النطق بالختم على أفواههم كما ينكّس من يعمّره في الخلق، فيردّه من القوة إلى الضعف والإعياء ثم ذكر أن ما يوعدون به من ذلك ليس بقول شاعر يلقي القول على عواهنه، وإنّما هو ذكر وقرآن مبين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) .
ثم ذكر من ذلك، أنّه سبحانه خلق لهم أنعاما، وذلّلها لركوبهم وأكلهم، وجعل لهم فيها منافع ومشارب توجب شكره عليهم ولكنّهم يتّخذون من دونه آلهة يزعمون أنها تنصرهم، وتدفع عنهم ما يوعدون به من العذاب، مع أنها لا تستطيع أن تدفع عنهم شيئا إذا جاء يوم عذابهم وتتبرّأ منهم ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لكفرهم بقوله تعالى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) .
ثمّ ذكر سبحانه، من ذلك، خلقه الإنسان من نطفة، فإذا هو خصيم مبين وذكر من خصامه أنه يضرب مثلا لإنكار بعثه فيقول كما ورد في التنزيل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) ، وأمر النبي (ص) أن يجيبه بأن الّذي أنشأها أوّل مرة، قادر على إحيائها وذكر من قدرته تعالى، على ذلك أنّه يجعل من الشجر الأخضر نارا، وأنّه هو الّذي خلق السماوات والأرض، وإذا أراد شيئا قال له:
كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) .(7/179)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يس» «1»
أقول: ظهر لي وجه اتّصالها بما قبلها: أنّه لمّا ذكر تعالى في سورة فاطر قوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37] ، وقوله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ [فاطر: 42] ، والمراد به محمد (ص) «2» وقد أعرضوا عنه وكذّبوه، فافتتح هذه السّورة بالإقسام على صحة رسالته، وأنّه على صراط مستقيم، لينذر قوما ما أنذر آباؤهم. وهذا وجه بيّن.
وفي فاطر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الآية 13] . وفي يس وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . وذلك أبسط وأوضح.
وفي فاطر: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [الآية 12] . وفي يس: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) ، فزاد القصّة بسطا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . هو قول السّدّيّ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم. انظر تفسير ابن كثير 6: 542.(7/181)
المبحث الرابع مكنونات سورة «يس» «1»
1- أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [الآية 13] .
قال بريدة «2» : أنطاكية. أخرجه ابن أبي حاتم.
2- إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [الآية 14] .
هما: شمعون ويوحنّا. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي، قال:
واسم الثالث: بولس «3» .
وأخرج عن كعب ووهب: أنّ الثلاثة: صادق، وصدوق، وشلوم.
وأخرج ابن سعد عن ابن عبّاس: أنّ الثالث الّذي عزّز به شمعون.
3- وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ [الآية 20] .
قال ابن عبّاس: هو حبيب النجّار.
أخرجه ابن أبي حاتم من طرق عنه، وعن قتادة، وكعب، ووهب، وغيرهم «4» .
وأخرج عن عمر بن الحكم: أنه كان إسكافا.
وعن السّدّيّ: أنه كان قصّارا.
4- لِمُسْتَقَرٍّ لَها [الآية 38] .
أخرج الأئمّة الخمسة «5» عن أبي ذرّ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 101. [.....]
(3) . انظر «الإتقان» 2: 148.
(4) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 102.
(5) . البخاري (4803) في التفسير، وفي التوحيد أيضا، ومسلم في الإيمان (159) ، والتّرمذي (3225) في التفسير، وأبو داود (4002) في الحروف والقراآت، والنّسائي.(7/183)
قال: سألت النبي (ص) عن قول الله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها.
قال: مستقرّها تحت العرش.
5- أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ [الآية 77] .
نزلت في العاصي بن وائل، كما أخرجه الحاكم «1» عن ابن عبّاس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، وعكرمة، وعروة، والسّدّيّ: في أبيّ بن خلف.
وأخرج ابن جرير «2» من طريق العوفي، عن ابن عبّاس: في عبد الله بن أبيّ. وقيل في أميّة بن خلف. حكاه ابن عساكر.
__________
(1) . في «المستدرك» 2: 429 وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» وأخرجه أيضا الطّبري في «تفسيره» 23: 30 ط الحلبي.
ووقع لفظ «الحاكم» : «ابن أبي حاتم» ، وذكر السّيوطي في «الدّرّ المنثور» 5: 269 أنّ «ابن أبي حاتم» قد أخرجه أيضا، ولكني لا أطمئن الى أن أثبتها أعلاه بجانب «الحاكم» ، إذ ليس ببعيد أن يدمج الروايات ذات المعنى الواحد في روايات أخر والله تعالى أعلم.
(2) . 23: 21. وسنده ضعيف، وقال ابن كثير، بعد ما ذكر أثر ابن عباس هذا في «تفسيره» 3: 581: «وهذا منكر، لأن السورة مكّيّة، وعبد الله بن أبيّ بن سلول، إنّما كان في المدينة» .(7/184)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يس» «1»
1- وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) .
والمقمح: الّذي يرفع رأسه ويغضّ بصره، يقال: قمح البعير فهو قامح إذا روي، فرفع رأسه.
ومنه شهرا قماح، سمّيا بذلك، لأنّ الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء، فقامحت.
أقول: ليقف دارس العربية وقفة طويلة على هذه الأصول البدويّة القديمة، الّتي أحالها المعربون إلى مواد أخرى، تبدو كأنّها قطعت الصلة بأصولها القديمة.
2- وقال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) .
قرئ: بإدغام التّاء في الصّاد، مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر، والأصل: يختصمون، وبها قراءة أيضا.
أقول: وقد تعجب أن القراآت المشهورة تبدو أحيانا غريبة، وقد تتجاوز المألوف الشائع الّذي درجت عليه العربيّة، فتأتي أبنية غريبة كهذه الكلمة، في حين يبتعد عن الأصل الشائع.
3- وقال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/185)
وقرئ: «فكهون» بكسر الكاف وضمّها، مثل حدث وحدث ونطس ونطس وغير ذلك.
وقرئ فاكهين وفكهين، بالنصب على الحال.
أقول: وقوله تعالى: فاكِهُونَ، وهو اسم فاعل ووصف أخذ من الاسم «فاكهة» ، فهي مادة الاشتقاق وأصله، لشهرتها ومعرفتها، وقد جاء الفعل وما يتبعه منها.
4- وقال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) .
وقوله تعالى: وَامْتازُوا، أي:
وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنّة.
أقول: إن الفعل «امتاز» ، من الأفعال المهمّة في العربية المعاصرة، فهو كثير الاستعمال، يقال: امتاز هذا الشيء بجودته عن سائر الأشياء، أي: انفرد.
غير أن استعماله يقتصر على الإيجاب، فإذا امتاز الشيء بشيء ما، فذلك الشيء الّذي امتاز به من صفات الحسن والجودة، ولهذا كان «الممتاز» هو الحسن من كلّ شيء، فالبضاعة «الممتازة» هي العالية في نوعها مثلا.
ولا يقال في الصّفات السلبية «امتازت» فلا نقول:
امتاز الكتاب بسوء تأليفه، بل العكس هو الغالب المستعمل.
5- وقال تعالى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً [الآية 62] .
وقرئ: «جبلّا» ، بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديد، وكسرتين، وكسرة وسكون، مع التشديد. وكلها بمعنى الخلق.
وفي قراءة عليّ رضي الله عنه: جيلا واحدا بالياء.
6- وقال تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) .
وقرئ: (ركوبتهم) ، وهو ما يركب كالحلوب والحلوبة.
وقيل: «الرّكوبة» جمع.
وقرئ: (ركوبهم) ، أي: ذو ركوبهم.(7/186)
أقول: وقد ورد «فعول» للاسم كثيرا في العربيّة، كالوقود والوضوء والغسول والوجور والسّفوف، وغير ذلك.
7- وقال تعالى: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [الآية 77] .
والمعنى وإذا هو، أي الإنسان، بعد ما كان نطفة، صار رجلا مميّزا قادرا على الخصام.
فالخصيم نعت، يفيد أنّه يعرف الخصام، ويحسنه.(7/187)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يس» «1»
قال تعالى: يس (1) ، يقال معناها يا إنسان، كأنّه سبحانه يعني النبيّ (ص) ، فلذلك قال: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) لأنه يعني النبي (ص) .
وقال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) [الآية 6] أي:
قوم لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا في الفترة. وقرأ بعضهم (ما أنذره آباؤهم فهم غافلون) . فدخول الفاء في هذا المعنى، كأنّه لا يجوز، والله أعلم، وهو على الأوّل أحسن.
وقال تعالى: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ [الآية 19] أي: إن ذكّرتم فمعكم طائركم.
وقال سبحانه: لَا الشَّمْسُ [الآية 40] بإدخال «لا» لمعنى النفي، ولكن لا ينصب ما بعدها إلّا أن يكون نكرة، فهذا مثل قوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ [الكافرون: 3 و 5] .
وقال تعالى: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ [الآية 72] أي: «منها ما يركبون» لأنّك تقول: «هذه دابّة ركوب» .
و «الرّكوب» : هو فعلهم.
وقال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا [الآية 58] فانتصب «قولا» على البدل من اللفظ بالفعل، كأنّه قال «أقول قولا» وقرأه ابن مسعود (سلاما) وعيسى «2» وابن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو عيسى بن عمر الثّقفي، وقد مرّت ترجمته.(7/189)
أبي إسحاق «1» كذلك نصباها على خبر المعرفة، على قوله تعالى وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) «2» .
__________
(1) . هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، أحد أوائل النّحاة، وترجم له في أخبار النحويين البصريين 19، ومراتب النحويين 12، ونزهة الألباء 10، وطبقات اللغويين 31، وإنباه الرّواة 3: 104.
(2) . القراءة بالنصب، هي في معاني القرآن 2: 380 الى عبد الله وفي المصاحف 69، والطبري 23: 21، والجامع 15: 45 كذلك، وفي البحر 7: 343 الى أبيّ وعبد الله، وعيسى، والغنوي.(7/190)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يس» «1»
إن قيل: لم قال تعالى أولا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) وقال سبحانه ثانيا:
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) ؟
قلنا: لأن الأوّل ابتداء إخبار، فلم يحتج إلى التّأكيد باللّام، بخلاف الثاني فإنّه جواب بعد الإنكار والتّكذيب، فاحتاج إلى التّأكيد.
فإن قيل: لم أضاف الرجل الّذي جاء من أقصى المدينة الفطر إلى نفسه، بقوله كما ورد في التنزيل: فَطَرَنِي [الآية 22] وأضاف البعث إليهم بقوله، كما ذكر القرآن ذلك وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الآية 22] ، مع علمه أنّ الله تعالى فطره وفطرهم، وسوف يبعثه ويبعثهم، فلم لم يقل فطرنا وإليه نرجع، أو فطركم وإليه ترجعون؟
قلنا: لأنّ الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى توجب الشّكر والبعث بعد الموت وعيد وتهديد يوجب الزّجر، فكان إضافته النعمة إلى نفسه أظهر في الشّكر، وإضافته البعث إليهم أبلغ في الزّجر.
فإن قيل: لم قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [الآية 30] والتحسّر على الله تعالى محال؟
قلنا: هو تحسير للخلق، معناه قولوا يا حسرتنا على أنفسنا، لا تحسّرا من الله تعالى.
فإن قيل: لم نفى الله سبحانه وتعالى عن الشمس أن تدرك القمر دون عكسه وهو: ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/191)
قلنا: لأنّ سير القمر أسرع، فإنّه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلّا في سنة، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، والقمر خليقا بأن يوصف بالسّبق لسرعة سيره هذا سؤال الزّمخشري رحمه الله وجوابه. ويردّ عليه أن سرعة سير القمر يناسب أن ينفى الإدراك عنه، لأنّه إذا قيل لا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس مع سرعة سيره، علم بالطريق الأولى أنّ الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر مع بطء سيرها: فإذا قيل: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أمكن أن يقال إنّما لم تدركه لبطء سيرها، فأمّا القمر فيجوز أن يدركها لسرعة سيره.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَآيَةٌ لَهُمْ [الآية 41] ، أي لأهل مكّة، أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ (41) أي ذرّيّة أهل مكّة، أو ذرّيّة قوم نوح (ع) فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الآية 41] ، والذّرّية اسم للأولاد، والمحمول في سفينة نوح (ع) آباء أهل مكّة، لا أولادهم؟
قلنا: الذّريّة من أسماء الأضداد تطلق على الآباء والأولاد بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران] . وصف جميع المذكورين بكونهم ذرّية وبعضهم آباء وبعضهم أبناء، فمعناه حملنا آباء أهل مكّة، أو حملنا أبناءهم، لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) يعنون الوعد بالبعث والجزاء، والوعد كان واقعا لا منتظرا؟
قلنا: معناه إنجاز هذا الوعد وصدقه، بحذف المضاف أو بإطلاق اسم الوعد على الموعود، كضرب الأمير ونسيج اليمن.
فان قيل: قولهم، كما ورد في التنزيل: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [الآية 52] ، سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ما بعده جوابا.
قلنا: معناه بعثكم الرّحمن الّذي وعدكم البعث، وأنبأكم به الرّسل، إلا أنه جيء به على هذه الطريقة، تبكيتا لهم وتوبيخا.(7/192)
فإن قيل: لم قال تعالى في صفة أهل الجنة: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [الآية 56] والظلّ إنّما يكون حيث تكون الشمس، ولهذا لا يقال لما في الليل ظلّ، والجنّة لا يكون فيها شمس، لقوله تعالى: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) [الإنسان] ؟
قلنا: ظل أشجار الجنة من نور العرش، لئلّا تبهر أبصار أهل الجنة، فإنه أعظم من نور الشمس، وقيل من نور قناديل العرش.
فإن قيل: لم سمّى سبحانه وتعالى، نطق اليد كلاما، ونطق الرجل شهادة، في قوله سبحانه: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [الآية 65] ؟
قلنا: لأن اليد كانت مباشرة، والرّجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه ليس بشهادة، بل إقرار بما فعل.
قلت: وفي الجواب نظر.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [الآية 69] مع أنه (ص) قد روي عنه ما هو شعر، وهو قوله (ص) :
أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب وقوله (ص) :
هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت قلنا: هذا ليس بشعر، لأن الخليل لم يعدّ مشطور الرّجز شعرا، وقوله (ص) «هل أنت إلا إصبع دميت» من مشطور بحر الرجز، كيف وقد روي أنه (ص) قال: «دميت ولقيت» بفتح الياء وسكون التاء، وعلى هذا لا يكون شعرا، وإنّما الرّاوي حرّفه فصار شعرا الثاني أن حدّ الشعر قول موزون مقفّى مقصود به الشعر والقصد منتف فيما روي عنه (ص) ، فكان كما يتّفق وجوده في كلّ كلام منثور من الخطب والرسائل ومحاورات الناس، ولا يعدّه أحد شعرا.
فإن قيل: لم قال تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [الآية 71] والله تعالى منزّه عن الجارحة؟
قلنا: هو كناية عن الانفراد بخلق الأنعام، والاستبداد به بغير شريك كما يقال في الحبّ وغيره من أعمال القلب، هذا ممّا عملته يداك ويقال لمن لا يد له يداك أو يديك، وكذا(7/193)
قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:
75] .
فإن قيل: لم سمّى تعالى قوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [الآية 78] مثلا، وهو ليس بمثل، وإنّما هو استفهام إنكار؟
قلنا: سمّاه، سبحانه، مثلا، لما دلّ عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهو إنكار الإنسان قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، مع أنّ العقل والنّقل كليهما يشهدان بقدرة الله، جل جلاله، على ذلك.(7/194)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يس» «1»
قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) .
وهاتان استعارتان. ومن أوضح الأدلّة على ذلك، أنّ الكلام كلّه في أوصاف القوم المذمومين. وهم في أحوال الدّنيا دون أحوال الاخرة.
ألا ترى قوله تعالى بعد ذلك:
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) . وإذا كان الكلام محمولا على أحوال الدّنيا دون أحوال الاخرة، وقد علمنا أنّ هؤلاء القوم الّذين ذهب الكلام إليهم، كان النّاس يشاهدونهم غير مقمحين بالأغلال، ولا مضروبا عليهم بالأسداد، علمنا أنّ الكلام خرج مخرج قوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] وكأنّ ذلك وصف لما كان عليه الكفّار عند سماع القرآن، من تنكيس الأذقان، وليّ الأعناق، ذهابا عن الرّشد، واستكبار عن الانقياد للحقّ، وضيق صدر بما يرد عليهم من مواقع البيان، وقوارع القرآن. وقد اختلف في معنى الإقماح. فقال قوم:
هو غضّ الأبصار واستشهدوا بقول بشر بن أبي «2» خازم في ذكر السفينة:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . البيت في «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج 15 ص 8 منسوبا إلى بشر، فقط من غير ذكر لأبيه. وفي كتاب «القرطين» لابن مطرّف ج 2 ص 87 لم ينسب لقائله. ولكن مصحّح الكتاب نسبه في الهامش إلى بشر بن أبي حازم بالحاء المهملة كما جاء مثل ذلك في كتاب «الحماسة» لابن الشّجري طبع حيدر أباد ص 5، 304 أما في صفحة 103، 269 فجاء بغير ذلك. والصواب بالحاء المعجمة والزّاي. وله ترجمة في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص 227، والخزانة ج 2 ص 261- 264، ومختارات ابن الشجري ج 2 ص 19- 33، والمفضّليّات بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون.(7/195)
ونحن على جوانبها قعود نغضّ الطّرف كالإبل القماح وقال قوم: المقمح: الرافع رأسه متعمّدا. فكأنّ هؤلاء المذمومين شبّهوا على المبالغة في وصف تكارههم للإيمان، وتضايق صدورهم لسماع القرآن، بقوم عوقبوا فجذبت أذقانهم بالأغلال إلى صدورهم مضمومة إليها أيمانهم، ثمّ رفعت رؤوسهم، ليكون ذلك أشدّ لإيلامهم، وأبلغ في عذابهم.
وقيل: إنّ المقمح الغاضّ بصره بعد رفع رأسه، فكأنّه جامع بين الصّفتين جميعا.
وقيل: إنّ قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ يعني به أيمانهم المجموعة بالأغلال إلى أعناقهم، فاكتفي بذكر الأعناق من الأيمان، لأن الأغلال تجمع بين الأيمان والأعناق.
وكذلك معنى السّدّ المجعول بين أيديهم ومن خلفهم، إنّما هو تشبيه بمن قصر خطوه وأخذت عليه طرقه.
ولما كان ما يصيبهم من هذه المشاقّ المذكورة والأحوال المذمومة، إنّما هو عقيب تلاوة القرآن عليهم، ونفث قوارعه في أسماعهم، حسن أن يضيف سبحانه ذلك إلى نفسه، فيقول: إنّا جعلناهم على تلك الصفات.
وقد قرئ «سدّا» بالفتح، و «سدّا» بالضم. وقيل إن السّدّ بالفتح ما يصنعه الناس، والسّدّ بالضمّ ما يصنعه الله تعالى.
وقال بعضهم: المراد بذكر السّدّ هاهنا: الإخبار عن خذلان الله سبحانه إيّاهم، وتركه نصرهم ومعونتهم، كما تقول العرب في صفة الضّالّ المتحيّر:
فلان لا ينفذ في طريق يسلكه، ولا يعلم أمامه أم وراءه خير له. وعلى ذلك قول الشاعر:
فأصبح لا يدري وإن كان حازما أقدّامه خير له أم وراءه وأمّا قوله سبحانه: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الآية 9] ، فهو أيضا في معنى الختم والطّبع، وواقع على الوجه الّذي يقعان عليه. وقد تقدّم إيماؤنا إليه.(7/196)
وقوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) .
وهذه استعارة. والمراد نخرج منه النّهار، ونستقصي تخليص أجزائه، حتّى لا يبقى من ضوء النهار شيء مع ظلمة الليل، فإذا النّاس قد دخلوا في الظلام. وهذا معنى قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ كما يقال: أفجروا، إذا دخلوا في الفجر، وأنجدوا، وأتهموا، إذا دخلوا نجدا وتهامة.
والسّلخ: إخراج الشيء ممّا لابسه، والتحم به. فكلّ واحد من اللّيل والنّهار، متّصل بصاحبه اتّصال الملابس بأبدانها، والجلود بحيوانها.
ففي تخليص أحدهما من الاخر، حتّى لا يبقى معه منه طرف، ولا عليه منه أثر، آية باهرة، ودلالة ظاهرة. فسبحان الله ربّ العالمين.
وقوله سبحانه في ذكر البعث: قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) وهذه استعارة. لأن المرقد هاهنا عبارة عن الممات، فشبّهوا حال موتهم بحال نومهم، لأنها أشبه الأشياء بها. وكذلك قوة شبه حال الاستيقاظ بحال الأحياء والإنشار، وعلى ذلك قوله (ص) :
«إنّكم تموتون كما تنامون، وتبعثون كما تستيقظون» «1» . وقال بعضهم:
الاستعارة هاهنا أبلغ من الحقيقة. لأنّ النوم أكثر من الموت، والاستيقاظ أكثر من الإحياء بعد الموت. لأن الإنسان الواحد يتكرّر عليه النوم واليقظة مرات، وليس كذلك حال الموت والحياة.
وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) . وهذه استعارة.
والمراد بالطّمس هاهنا: إذهاب نور الأبصار حتّى يبطل إدراكها، تشبيها بطمس حروف الكتاب، حتّى تشكل قراءتها.
وفيه أيضا زيادة معنى، لأنه يدلّ على محو آثار عيونهم، مع إذهاب أبصارها، وكسف أنوارها. وقيل معنى الطّمس إلحام الشّقوق الّتي بين الأجفان حتّى تكون مبهمة، لا شقّ فيها، ولا
__________
(1) . هذا الحديث من خطبة له (ص) ، وهي أوّل خطبة بمكّة حينما دعا قومه إلى الإسلام. وهي في كتاب «جمهرة خطب العرب» ج 1 ص 51. وقد نقلها عن «السيرة الحلبية» ج 1 ص 272، وعن «الكامل» لابن الأثير ج 2 ص 27. [.....](7/197)
شفر لها. يقولون: أعمى مطموس وطميس، إذا كان كذلك.
وقوله سبحانه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وقرئ: ننكسه بالتخفيف، وهذه استعارة. والمراد، والله أعلم، أنّا نعيد الشّيخ الكبير، إلى حال الطّفل الصّغير، في الضّعف بعد القوّة، والتّثاقل بعد النّهضة، والأخلاق «1» بعد الجدّة.
تشبيها بمن انتكس على رأسه، فصار أعلاه سفلا، وأسفله علوا.
وقوله سبحانه: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) وهذه استعارة. والمراد بالحيّ هاهنا: الغافل الّذي يستيقظ إذا أوقظ، ويتّعظ إذا وعظ.
فسمّى سبحانه المؤمن الّذي ينتفع بالإنذار حيّا لنجاته، وسمّى الكافر الّذي لا يصغي إلى الزّواجر ميتا لهلكه.
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وهذه استعارة. والمراد بذكر الأيدي هاهنا، قسمان من أقسام اليد في اللغة العربية. إمّا أن تكون بمعنى القوّة، وبمعنى تحقيق الإضافة.
فكأنّه سبحانه قال: أولم يروا أنّا خلقنا لهم أنعاما، اخترعناها بقوّة تقديرنا، ومتقن تدبيرنا.
أو يكون المعنى أنّ هذه الأنعام، ممّا تولّينا خلقه، من غير أن يشاركنا فيه أحد من المخلوقين لأنّ المخلوقين قد يعملون سفائن البحر، ولا يعملون سفائن البرّ، الّتي هي الأنعام المذلّلة ظهورها، والمحلّلة لحومها. فهذا وجه فائدة الإضافة في قوله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا والله أعلم.
__________
(1) . الأخلاق: كون الشيء خلقا باليا بعد جدّته.(7/198)
سورة الصّافات 37(7/199)
المبحث الأول أهداف سورة «الصافات» «1»
سورة «الصّافات» سورة مكّية، وآياتها [182] آية. نزلت بعد سورة «الأنعام» في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكّة، فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة إلى المدينة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بالقسم بالصّافات. والمراد بها الملائكة الّتي تقف صفوفا للعبادة، أو تصفّ أجنحتها في الهواء امتثالا للطّاعة، وانتظارا لوصول أمر الله إليها.
مقصود السورة
قال الفيروزآبادي: معظم ما تقصد إليه السورة هو: الإخبار عن صفّ الملائكة والمصلّين للعبادة، ودلائل الوحدانيّة، ورجم الشياطين، وذلّ الظّالمين، وعزّ المطيعين في الجنان، وقهر المجرمين في النّيران، ومعجزة نوح وحديث إبراهيم وفداء إسماعيل في جزاء الانقياد، وبشارة إبراهيم بإسحاق، والمنة على موسى وهارون بإيتاء الكتاب، وحكاية الناس في حال الدّعوة، وهلاك قوم لوط، وحبس يونس في بطن الحوت، وبيان فساد عقيدة المشركين في إثبات النسبة، ودرجات الملائكة في مقام العبادة، وما منح الله الأنبياء من النصر والتأييد، وتنزيه حضرة الجلال عن الأنداد والأضداد في قوله سبحانه:
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/201)
سياق السورة
تميّزت سورة «الصافات» بقصر الآيات، وسرعة الإيقاع، وكثرة المشاهد والمواقف، وتنوّع الصور والمؤثّرات.
وهي تستهدف، كسائر السور المكّيّة، بناء العقيدة في النفوس، وتخليصها من شوائب الشّرك في كلّ صوره وأشكاله، ولكنّها بصفة خاصّة تعالج صورة معيّنة من صور الشّرك، الّتي كانت سائدة في البيئة العربيّة الأولى، وتقف أمام هذه الصورة طويلا، وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتّى. تلك هي الصورة الّتي كانت جاهليّة العرب تستسيغها، وهي تزعم أنّ هناك قرابة بين الله سبحانه والجنّ وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنّه من التّزاوج بين الله، سبحانه، والجن، ولدت الملائكة. ثمّ تزعم أنّ الملائكة إناث، وأنهنّ بنات الله! هذه الأسطورة تتعرض لحملة قويّة في هذه السّورة، تكشف عن تفاهتها وسخفها، ونظرا لأنّها هي الموضوع البارز الّذي تعالجه السّورة، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة:
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) .
ويتلوها حديث عن الشّياطين المردة، وتعرّضهم للرّجم بالشّهب الثاقبة، كي لا يقربوا من الملأ الأعلى، ولا يتسمّعوا لما يدور فيه، ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة.
وبمناسبة ضلال الكافرين وتكذيبهم، تعرض السورة سلسلة من قصص الرّسل: نوح وإبراهيم وابنه، وموسى وهارون، وإلياس ولوط ويونس صلوات الله عليهم جميعا، تتكشّف فيها رحمة الله ونصره لرسله، وأخذه للمكذّبين بالعذاب والتنكيل. ويمكننا أن نقسم سورة الصّافّات إلى ثلاثة موضوعات رئيسة:
1- وصف الملائكة ومشاهد الاخرة
يستغرق الموضوع الأوّل من السورة الآيات [1- 70] .
ويتضمّن افتتاح السّورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة:(7/202)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) ، على وحدانية الله ربّ المشارق والمغارب، مزيّن السّماء بالكواكب، ثمّ تجيء مسألة الشّياطين، وتسمّعهم للملأ الأعلى، ورجمهم بالشّهب الثاقبة، يتلوها سؤال لهم:
أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الآية 11] ، من الملائكة والكواكب والشّياطين والشّهب؟، للتوصّل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزءون بوقوعه ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطوّل للبعث والحساب والنعيم والعذاب، وهو مشهد فريد، حافل بالصورة والحركة، والمقابلة بينه وبين منازل الأبرار، وآلام الفجار.
2- قصص الأنبياء
تتعرّض الآيات [71- 148] لبيان أن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السّابقين، الّذين جاءتهم النّذر فكان أكثرهم من الضالّين، ويستطرد السّياق في قصص أولئك المنذرين، من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس (ع) ، وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين.
ومن الظواهر المؤثّرة في هذا القصص، تجرّد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لربهم جلّ وعلا، وإخلاصهم له، فيونس (ع) يسبّح بحمد ربه ويناجيه في بطن الحوت، وإبراهيم (ع) يطيع الله ويستسلم لأمره، في قصة الذبح والفداء ونشاهد من الذابح والذبيح التجرّد والامتثال لأمر الله تعالى، في أعمق صورة، وأروعها، وأرفعها.
وقد كانت الإشارة إلى قصص الأنبياء لمحات سريعة في آيات قصيرة، تحتوي على عبرة القصة، والتذكير بمضمونها.
3- أسطورة تعقبها الحقيقة
تناولت الآيات الممتدّة من 149 إلى الآية 182، حيث آخر السورة، الحديث عن الأسطورة الكاذبة، أسطورة نسبة الجنّ والملائكة إلى الله سبحانه، ثمّ فنّدت هذه الأسطورة، ونزّهت الله سبحانه عنها، وبيّنت أنّ الملائكة خلق من خلق الله، ملتزم بطاعته.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) .(7/203)
وقرّرت الآيات وعد الله لرسله بالظفر والغلبة:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) .
وتنتهي السورة بتنزيه الله سبحانه، والتسليم على رسله عليهم الصلاة والسلام، والاعتراف بربوبيّته وهي القضايا الّتي تناولتها السورة في الصميم.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.(7/204)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الصافات» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الصافّات» بعد سورة «الأنعام» ، وقد نزلت سورة الأنعام بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الصافّات» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم به، والمراد به الملائكة الّتي تقف صفوفا للعبادة، أو تصفّ أجنحتها في الهواء، منتظرة وصول أمر الله إليها وتبلغ آيات هذه السورة اثنتين وثمانين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة إبطال الشرك، وقد كانوا يعبدون الملائكة ويزعمون أنّها بنات الله، ويتّخذون من الشّياطين قرناء يطيعونهم، ويزعمون أنّ بينهم وبين الله نسبا، وأنّهم يصعدون إلى السماء فيطّلعون على أسرارها ويخبرونهم بها، فابتدأت السّورة بإثبات وحدانيته تعالى، وأشارت إلى أن الملائكة عباد مسخّرون للعبادة وحراسة السماء من الشياطين وذكر السّياق أنّ الشياطين عباد مدحورون لا يعرفون شيئا من أخبار السماء، وأنّ الله تعالى أمر النبيّ (ص) أن يستفتيهم فيما يكون من أمرهم، وهم أضعف منهم خلقا، لينذرهم بقدرته على بعثهم وحسابهم مع شياطينهم وآلهتهم، وبما قصّ عليهم من أخبار الماضين ليكون فيها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/205)
عبرة لهم ثم أمره جلّ جلاله أن يستفتيهم ثانيا في صحّة ما زعموه من أن الملائكة بنات الله، ومن أنّ بينه وبين الجنّة نسبا وبهذا يدور السياق في هذه السورة على هذا الترتيب، وقد ختمت السّورة السابقة بالاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرته سبحانه على بعثهم وقد جاء في أوّل هذه السّورة أنهم أضعف من غيرهم خلقا، فيكون بعثهم أهون عليه جلّ وعلا من غيرهم، وهذا هو وجه ذكر هذه السّورة بعد سابقتها، إلى ما بينهما من الشّبه في الإنذار بعذاب الله تعالى.
إبطال الشرك الآيات [1- 10]
قال الله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) فأقسم بالملائكة الّتي تصطفّ لعبادته، وتزجر الشياطين عن معرفة أسرار سمائه على وحدانيّته وأشار بهذا إلى عبوديّتها له عزّ وجل ثمّ وصف نفسه بما يدل على تفرّده بالألوهية، فذكر سبحانه، أنّه ربّ السماوات والأرض، وأنه زيّن السماء الدنيا بالكواكب، وحفظها من الشّياطين الّتي يزعمون أنّها تصعد إليها، فتعرف أسرارها وتلقيها إليهم، فهم يدحرون عنها كلّما اقتربوا منها، ولهم عذاب يترقّبهم دائما كلّما حاولوا ذلك: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) .
أخذ المشركين بالترهيب والترغيب الآيات [11- 148]
ثمّ قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) فأمر النبي (ص) أن يستفتيهم في أمرهم، وقد سخّر لعبادته وطرد من رحمته من هو أشدّ منهم خلقا، ومن اتّخذوهم قرناء وآلهة، فلا يعجزه أن يبعثهم ويحشرهم مع قرنائهم وآلهتهم ثم ذكر جلّ وعلا أنهم عند بعثهم لا يتناصرون كما يزعمون، بل يلقي بعضهم التّبعة على بعض، ويشتركون في العذاب جميعا ثمّ ذكر ما أعدّه للمؤمنين بعد ذكر عذابهم، وذكر ما كان من عصيانهم لقرنائهم حينما كانوا يغوونهم بالكفر وإنكار البعث والجزاء، ووازن بين ما أعدّه للفريقين، إلى أن ذكر أن السبب في ضلال المشركين أنهم ألفوا آباءهم(7/206)
ضالّين: فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) .
ثمّ أخذ السّياق في ذكر حال من يقلّدونهم ليعتبروا بما حصل لهم، ويوازنوا بين من كفر ومن آمن منهم فذكر أخبار نوح وقومه، وأنّ الله تعالى ناداه فأجابه هو ومن آمن معه، فنجّاهم وجعل ذرّيّتهم هم الباقين، وترك على نوح سلاما في العالمين، وأغرق من كفر به فبادوا وذهبت آثارهم ثمّ ذكر السّياق أخبار إبراهيم وقومه، وأنّه جلّ وعلا رفع شأنه على من كفر به منهم، ورزقه ذرّية صالحة مباركة، وترك عليه سلاما باقيا في الآخرين ثم ذكر السّياق أخبار موسى وهارون، وأنّه جلّ وعلا نجّاهما وقومهما من ظلم فرعون، وترك عليهما سلاما باقيا في الآخرين ثم ذكر السّياق أخبار إلياس وقومه، وأنّ إلياس دعاهم إلى عبادة ربّهم وترك عبادة صنمهم بعل، فكذّبوه فاستحقّوا العذاب إلّا من آمن منهم، فإنّ الله سبحانه نجّاهم وترك عليهم سلاما في الآخرين ثم ذكر السّياق أخبار لوط وقومه، وأخبار يونس وقومه وذكر في يونس أنّ الله سبحانه أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون:
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) .
إبطال نبوة الملائكة والجن الآيات [149- 182]
ثم قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) فأنكر عليهم أن يكون له بنات من الملائكة، وهم إنّما يرضون البنين لأنفسهم ويكرهون البنات وذكر جلّ وعلا أنهم لم يشهدوا خلق الملائكة إناثا حتّى يصحّ لهم أن يذهبوا إليه، وإنّما هو إفك لا دليل لهم عليه، ثمّ ذكر أنهم جعلوا بينه وبين الجنّة نسبا، وهم المجوس من العرب والفرس، وكانوا يقولون بإلهين، إله للخير، وإله للشّرّ، وأنّ إله الخير هو الله، وإله الشّرّ هو إبليس ثم ردّ عليهم بأنّ الجنّة يعلمون أنهم عباد محضرون للعذاب، ونزّه نفسه سبحانه عمّا يصفونه به من النّسب بينه وبين الجنّة، وبيّن بطلان جعلهم الجن آلهة وذكر سبحانه أنهم يعجزون عن إغواء المخلصين من عباده، ولا يغوون إلا من سبق في علم الله أن يكون من أهل الجحيم ومن يكن هذا شأنه لا يكون إلها ثم ذكر سبحانه تفرّده بعلوّ الشأن فقال: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) .(7/207)
ثم ختمت السّورة بتوبيخهم على شركهم، مع أنّهم كانوا يقولون لو أنّ عندنا كتابا منزّلا مثل الكتاب المنزّلة على الأوّلين لأخلصنا العبادة لله ثم ذكر السياق تهديده سبحانه الكفّار على كفرهم بعد أن أجيبوا إلى قولهم وذكر أنه جلّ شأنه كتب النصر لرسله وأتباعهم، وأمر النبي (ص) أن يعرض عنهم إلى أن يحين عذابهم، فسوف يبصرون منه ما يبصرون: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) .(7/208)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الصافات» «1»
أقول: هذه السورة بعد «يس» ك «الأعراف» بعد «الأنعام» ، وك «الشعراء» بعد «الفرقان» ، في تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكهم، كما أنّ تينك السّورتين تفصيل لمثل ذلك، كما تقدّم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(7/209)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الصافات» «1»
1- وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) ..
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: أنّ المراد بالثلاثة الملائكة «2» .
2- قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) .
قال السّدّيّ: هما شريكان في بني إسرائيل: أحدهما مؤمن، والاخر كافر. أخرجه ابن أبي حاتم.
وفي «العجائب» للكرماني: أنّهما يهوذا، وفطروس.
3- فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) .
إلى آخر القصة: فيه قولان شهيران:
إسماعيل أو إسحاق، وقد أفردت في ذلك تأليفا ضمّنته حجج كلّ من القولين «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . ورواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 98.
(3) . الّذي عليه علماء السلف أنّ الذبيح هو إسماعيل ويكفي دليلا أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أنهى قصة الذبيح قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الآية 112] ، فهذا يدلّ على أن إسحاق هو غير الّذي انتهت قصته لتوّها، وقد أشار ابن كثير إلى هذا في «تفسيره» 4: 14.
وفي «زاد المعاد» لابن قيّم الجوزيّة 1: 71: «وأما القول بأنّه إسحاق فباطل، بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة قدس الله روحه، يقول: هذا القول إنما هو متلقّى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنصّ كتابهم، فإنّ فيه: إنّ الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده: والّذي غرّ أصحاب هذا القول أنّ في التوراة الّتي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق قال [أي ابن تيمية] : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم» . ثمّ قال أيضا: «وكيف يسوّغ أن يقال: «إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشّر أمّ إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة: إنّهم قالوا لإبراهيم لمّا أتوه بالبشرى:
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) [هود] ، فمحال أن يبشّرها بأنه يكون لها ولد، ثمّ يأمر بذبحه، ولا ريب في أن يعقوب (ع) داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللّفظ الواحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه» . وأما مصنّف السّيوطي الّذي أورد فيه حجج كلّ من القولين، فهو: «القول الفصيح في تعيين الذبيح» ، وقد ضمّنه في كتابه «الحاوي للفتاوي» 1:
318، 322 وقال فيه بعد أن أورد حجج كلّ من القولين: «وكنت ملت إليه- يقصد أنّه مال إلى القول بأنّ الذبيح هو إسحاق- في علم التفسير، وأنا الآن متوقّف في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم» . انظر للوقوف على مزيد من التحقيق في هذه المسألة، إضافة للمراجع المذكورة أعلاه: «كشف الخفاء» للعجلوني في حديث رقم (606) ، و «جنى الجنتين في تمييز نوع المثنيين» للمحبيّ ص 50.(7/211)
بِذِبْحٍ [الآية 107] .
هو الكبش الّذي قرّبه ابن آدم فتقبّل منه. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. وأخرج عن الحسن: أن اسمه حرير.
إِلْ ياسِينَ (130) .
هو محمّد (ص) ، وآله: أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطّلب.
وقيل: كلّ مؤمن تقيّ.
وقيل: «ياسين» اسم كتاب من كتب الله. حكاه الكرماني في «عجائبه» .
4- فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ [الآية 142] .
قال قتادة: يقال له لخم. أخرجه ابن أبي حاتم.
5- فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ [الآية 145] .
قال جعفر: بشاطئ دجلة. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقيل: بأرض اليمن. حكاه ابن كثير.
6- إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) .
في حديث مرفوع:
يَزِيدُونَ (147) : عشرين ألفا «1» .
أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبيّ بن كعب.
وأخرج عن ابن عبّاس: ثلاثين ألفا.
وفي رواية: أربعين ألفا «2» .
__________
(1) . والتّرمذي في «سننه» رقم (3227) في التفسير، وقال: هذا حديث غريب، والطّبري في «تفسيره» 22: 67.
(2) . انظر «تفسير الطّبري» 22: 66.(7/212)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الصافات» «1»
1- وقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) .
والاستسخار: المبالغة في السّخرية.
أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.
2- وقال تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) .
الغول: مصدر غاله يغوله، إذا أهلكه وأفسده.
أقول: لعلّ الغول، وهو المصدر، قد أخذ من كلمة «الغول» ، وهي من أوهام العرب وأباطيلهم! والغريب أن جماعة من العرب في عصرنا، أطلقت «الغول» على ما يسمّى في العلم الحديث المادة «الرّوحية» في المخدّرات، الّتي أسموها: «الكحول» ، وذلك توهّما وخطأ. وكان ذلك بسبب أن كلمة «الغول» قد وردت في هذه الآية، توصف بها الخمر في الجنّة، أي: أنّ خمرة الجنة لا تهلك ولا تفسد العقول، كخمرة الدنيا.
وقوله تعالى: يُنْزَفُونَ (47) بالبناء للمفعول من: نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسّكران: نزيف ومنزوف.
3- وقال تعالى: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) .
وقوله تعالى: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ، أي: فذهب إليها في خفية «2» ، والأصل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . ويقال أيضا: «خفية» بضمّ الخاء.(7/213)
روغ الثعلب. وكذلك قوله سبحانه:
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) ، أي:
فأقبل عليهم مستخفيا.
واستعمال «الجار والمجرور» :
«عليهم» بعد «راغ» يشعرنا أنّ الفعل تضمّن معنى «ضربهم» ، أو فراغ عليهم يضربهم ضربا قويّا.
4- وقال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) .
وقوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، أي:
صرعه على شقّه، فوقع أحد جبينيه على الأرض، تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرّحمن ويخزيا الشّيطان.
أقول: والفعل «تلّ» يؤدّي في عصرنا معنى جذب بقوّة.
5- وقال تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) .
والمليم: الداخل في الملامة، ويقال: ربّ لائم مليم، أي: يلوم غيره، وهو أحق منه باللوم.
أقول: ونحن محتاجون الى الفعل «ألام» في عربيّتنا المعاصرة، لأننا نعبر عن معناه بجملة لإيضاح ما نريد: أن فلانا مثلا، أحقّ باللوم قبل أن يلوم غيره.(7/214)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الصافات» «1»
قال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 5] على «إنّ إلهكم ربّ» ونصب بعضهم رَبُّ السَّماواتِ [الآية 5] وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) فجعله صفة للاسم الّذي وقعت عليه «إنّ» ، والأوّل أجود، لأنّ الأوّل في هذا المعنى، وهو متناول بعيد في التفسير.
وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الآية 6] بجعل «الكواكب» بدلا من «الزّينة» وبعضهم قرأ: (بزينة الكواكب) وليس يعني بعضها، ولكن زينتها حسنها.
وورد قوله تعالى: وَحِفْظاً [الآية 7] بالنصب، باعتباره بدلا من اللفظ بالفعل، كأنّ السّياق: «وحفظناها حفظا» .
وقال تعالى: لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) وثقّل بعضهم، وليس للتثقيل معنى، إنّما معنى التثقيل «المتصدّقين» وليس هذا بذاك المعنى. انّما معنى هذا من «التّصديق» وليس من «التصدّق» ، وإنّما تضعّف هذه ويخفّف ما سواها، «والصّدقة» تضعّف صادها، وتلك غير هذه. إنّما سئل رجل: من صاحبه؟
فحكى عن قرينه في الدّنيا، فقال كما ورد في التنزيل: كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) إنّا لنبعث بعد الموت. أي: أتؤمن بهذا؟ أي:
تصدّق بهذا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(7/215)
وقال تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) تقول: «أكبّه لوجهه» و «أكببته لوجهه» لأنّه في المعنى شبه «أقصيته» .
وقال تعالى: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147 يقول: كانوا كذلك عندكم.(7/216)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الصافات» «1»
إن قيل: لم جمع تعالى لفظ «المشارق» هنا، وثنّاهما في سورة الرّحمن، ولم اقتصر هنا على ذكر «المشارق» ، وذكر ثمّة المغربين أيضا، وذكر المغارب مع المشارق، مجموعين في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] وذكرهما مفردين في قوله تعالى قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) [الشعراء] ؟
قلنا: لأنّ القرآن نزل بلغة العرب على المعهود من أساليب كلامهم وفنونه، ومن أساليب كلامهم وفنونه:
الإجمال والتفصيل والبسط والإيجاز، فأجمل تارة بقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) [الرّحمن] أراد مشرقي الصّيف والشتاء، ومغربيهما على الإجمال وفصّل تارة بقوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج:
40] أراد جمع مشارق السنة ومغاربها، وهي تزيد على سبعمائة وبسّط مرّة، بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] ، وأوجز واختصر مرّة بقوله تعالى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ [الآية 5] لدلالة المذكور، وهي المشارق، على المحذوف، وهي المغارب، وكانت المشارق أولى بالذكر لأنها أشرف إمّا لكون الشروق سابقا في الوجود على الغروب، أو لأنّ المشارق منبع الأنوار والأضواء.
فإن قيل: لم خصّ سبحانه وتعالى سماء الدنيا، بقوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/217)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) مع أنّ غير سماء الدنيا مزيّنة بالكواكب أيضا؟
قلنا: إنّما خصّها بالذّكر لأنّا نحن نرى سماء الدنيا لا غير.
فإن قيل: لم مدح سبحانه نوحا (ع) بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) مع أنّ مرتبة الرّسل فوق مرتبة المؤمنين؟
قلنا: إنّما مدحه بذلك، تنبيها لنا على جلالة محلّ الإيمان وشرفه، وترغيبا في تحصيله والثبات عليه، والازدياد منه، كما قال تعالى في مدح إبراهيم (ع) : وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) .
فإن قيل: لم قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) والنّظر إنّما يعدّى بإلى، قال الله تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] وقال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ [الروم: 50] .
قلنا: «في» هنا بمعنى «إلى» كما في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم: 9] الثاني: أنّ المراد به، نظر الفكر لا نظر العين، ونظر الفكر إنّما يعدّى بفي قال الله تعالى:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] فصار المعنى ففكّر في علم النجوم أو في حال النجوم.
فإن قيل: لم استجاز إبراهيم (ع) أن يقول، كما ورد في التنزيل: إِنِّي سَقِيمٌ (89) ولم يكن سقيما؟
قلنا: معناه سأسقم، كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: 30] فهو من معاريض الكلام، قاله ليتخلّف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم، فيكيد أصنامهم.
وقال ابن الأنباري: أعلمه الله تعالى أنّه يمتحنه بالسّقم إذا طلع نجم كذا، فلمّا رآه علم أنه سيسقم. وقيل معناه: إنّي سقيم القلب عليكم، إذا عبدتم الأصنام، وتكهّنتم بنجوم لا تضرّ ولا تنفع. وقيل إنّه عرض له مرض، وكان سقيما حقيقة. وقال الزّمخشري: قد جوّز بعض الناس الكذب في المكيدة في الحرب، والتقيّة، وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. قال: والصحيح أن الكذب حرام إلّا إذا عرّض وورّى وإبراهيم صلوات الله عليه، عرّض بقوله وورّى، فإنه أراد أنّ من في عنقه الموت سقيم، كما قيل في المثل «كفى بالسلامة داء» وقال لبيد:
ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا(7/218)
ليصحّني فإذا السلامة داء وروي أن رجلا مات فجأة، فاجتمع عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح، فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟
فإن قيل: لم لا يجوز النظر في علم النجوم، مع أنّ إبراهيم (ع) قد نظر فيه، وحكم منه؟
قلنا: ليس المنجّم كإبراهيم (ع) ، في أن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض فأبيح له النظر في علم النجوم والحكم منه.
فإن قيل: قوله تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) أي يسرعون، يدلّ على أنهم عرفوا أنّه هو الكاسر لها وقوله تعالى في سورة الأنبياء قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: 59] ، وما بعده يدلّ على أنّهم ما عرفوا أنّه الكاسر، فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا: يجوز أن يكون الّذي عرفه وزفّ إليه بعضهم، والّذي جهله وسأل عنه بعض آخر ويجوز أن الكلّ جهلوه وسألوا عنه، فلما عرفوا أنه الكاسر لها زفّوا إليه كلّهم.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى على لسان ابراهيم صلوات الله عليه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الآية 99] .
قلنا: معناه إلى حيث أمرني ربّي بالمهاجرة، وهو الشّام. وقيل: إلى طاعة ربّي ورضاه. وقيل: إلى أرض ربّي وإنّما خصّها بالإضافة إلى الله تعالى، تشريفا لها وتفضيلا، لأنّها أرض مقدّسة مبارك فيها للعالمين، كما في قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجنّ: 18] ، وقوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63] .
فإن قيل: ما المقصود بقوله تعالى:
سَيَهْدِينِ (99) وهو كان مهتديا؟
قلنا: المقصود: سيثبّتني على ما أنا عليه من الهدى، ويزيدني هدى. وقيل: سَيَهْدِينِ (99) إلى الجنّة. وقيل إلى الصّواب في جميع أحوالي. ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام، كما ورد في التنزيل: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) [الشعراء] .
فإن قيل: كيف شاور إبراهيم ولده، عليهما السلام، في ذبحه بقوله كما نصّ القرآن: فَانْظُرْ ماذا تَرى [الآية 102] ، مع أنّه كان حتما على إبراهيم،(7/219)
لأنه أمر به، لأنّ معنى قول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الآية 102] : أنّه أمر بذبحه في المنام، ورؤيا الأنبياء حقّ فإذا رأوا شيئا في المنام، فعلوه في اليقظة، كذا قاله قتادة والدليل على أنّ منامه كان وحيا بالأمر بالذبح، قوله تعالى حكاية على لسان ولد ابراهيم (ع) :
يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ [الآية 102] ؟
قلنا: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه في ذلك، ولكن ليعلم ما عنده من الصّبر، فيما نزل به من بلاء الله تعالى، فيثبّت قدمه إن جزع، ويأمن عليه الزّلل إن صبر وسلّم، وليعلم القصّة فيوطن نفسه على الذّبح، ويهوّنه عليها، فيلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب الثواب بالانقياد والصبر لأمر الله تعالى قبل نزوله، وليكون سنّة في المشاورة فقد قيل لو شاور آدم الملائكة في أكل الشجرة، لما فرط منه ذلك.
فإن قيل: لم قيل له: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الآية 105] وإنّما يكون مصدّقا لها، لو وجد منه الذّبح، ولم يوجد؟
قلنا: معناه قد فعلت غاية ما في وسعك، ممّا يفعله الذابح، من إلقاء ولدك، وإمرار الشفرة على حلقه ولكنّ الله تعالى منع الشفرة أن تقطع.
وقيل: إنّ الّذي رآه في المنام معالجة الذبح فقط، لا إراقة الدم وقد فعل ذلك في اليقظة، فكان مصدّقا للرؤيا.
فإن قيل: أين جواب «لمّا» في قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما [الآية 103] ؟
قلنا: قيل هو محذوف تقديره:
استبشرا، واغتبطا، وشكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء أو تقديره: سعدا، أو أجزل ثوابهما.
وقيل الجواب هو قوله تعالى:
وَنادَيْناهُ [الآية 104] والواو زائدة كما في قول امرئ القيس:
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل أي فلمّا أجزنا ساحة الحي انتحى، كذا نقله ابن الأنباري في شرحه.
فإن قيل: لم قال تعالى في قصة إبراهيم (ع) : كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) وفي غيرها من القصص قبلها وبعدها: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) .
قلنا: لمّا سبق في قصة إبراهيم (ع) مرة: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) طرحه في الثاني تخفيفا واختصارا(7/220)
، واكتفاء بذكره مرّة، بخلاف سائر القصص.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) وهو كان من المرسلين، قبل زمان التنجية؟
قلنا: قوله تعالى إِذْ نَجَّيْناهُ [الآية 134] لا يتعلّق بما قبله، بل يتعلّق بمحذوف تقديره: واذكر لهم يا محمّد، إذ نجّيناه أو أنعمنا عليه إذ نجّيناه، وكذا السؤال في قوله تعالى:
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) .
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) و «أو» كلمة شكّ، والشّكّ على الله محال؟
قلنا: قيل «أو» هنا بمعنى «بل» ، فلا شكّ وقيل بمعنى «الواو» كما في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] وقوله تعالى: عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) [المرسلات] وقيل معناه، أو يزيدون في تقديركم، فلو رآهم أحد منكم لقال:
هم مائة ألف أو يزيدون، فالشّكّ إنّما دخل في حكاية قول المخلوقين، ونظيره قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النجم] .
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار الأمر بالتولية والإبصار، في قوله تعالى:
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) .
قلنا: الحكمة تأكيد التهديد والوعيد.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ [الآية 175] ثمّ قال ثانيا: وَأَبْصِرْ [الآية 179] ؟
قلنا: طرح ضمير المفعول تخفيفا واختصارا واكتفاء بسبق ذكره مرّة وقيل معنى الأوّل: وأبصارهم إذا نزل بهم العذاب، ومعنى الثاني: وأبصر العذاب إذا نزل بهم، فلا فرق بينهما في المعنى.(7/221)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الصافات» «1»
قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) هذه استعارة. والمراد بالقاصرات الطّرف هاهنا: اللواتي جعلن نظرهنّ مقصورا على أزواجهنّ. أي حبسن النّظر عليهم، فلا يتعدّينهم إلى غيرهم.
وجيء بذكر الطّرف على طريق المجاز. وإلّا فحقيقة المعنى أنهنّ حبسن الأنفس على الأزواج عفّة ودينا، وخلقا وصونا.
وإنّما وقعت الكناية عن هذا المعنى بقصر الطّرف، لأنّ طماح الأعين في الأكثر يكون سببا لتتبّع النفوس وتطرّب القلوب، وعلى هذا قول الشاعر:
وإنّك إن أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر «2» والطّرف هاهنا واحد في تأويل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]
(2) . البيت هو أحد بيتين أنشدتهما امرأة أمام أبي الغصن الأعرابي، وكان قد خرج حاجّا، فمرّ بقباء، وإذا جارية كأنّ وجهها سيف صقيل. والقصة كاملة في الجزء الرابع من «عيون الأخبار» لابن قتيبة، ص 22. وفي «شرح شواهد الكشّاف» للعلامة محبّ الدّين ص 134 أنّه من أبيات «الحماسة» وفي «شرح الحماسة» للمرزوقي ج 3 ص 1238، لم يذكر اسم قائله وإنما اكتفى بقوله: وقال آخر. ولم يتعرّض العلّامة المرزوقي لتحقيق اسم هذا الشاعر أو الشاعرة، وإنما اكتفى بشرح البيتين شرحا أدبيا. وهما:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الّذي لا كلّه أنت قادر ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر(7/223)
الجميع، ونظيره قوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] .
أي على أسماعهم، أو مواضع استماعهم.
.(7/224)
سورة ص
المبحث الأول أهداف سورة «ص» «1»
سورة ص سورة مكية نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين بمكة، بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، وآياتها 88 آية، وسميت ص لابتدائها بهذا الحرف.
مقاصد السورة
قال الفيروزآبادي: «معظم المقصود من سورة ص: بيان تعجّب الكفّار من نبوّة المصطفى (ص) ووصف الكافرين لرسول الله بالاختلاق والافتراء، واختصاص الحق تعالى بملك الأرض والسماء، وظهور أحوال يوم القضاء، وعجائب حديث داود وأوريا، وقصة سليمان، وذكر أيوب في الابتلاء والشفاء، وذكر إبراهيم وأولاده من الأنبياء، وحكاية أحوال ساكني جنة المأوى، وعجز حال الأشقياء في سقر ولظى، وواقعة إبليس مع آدم وحواء، وتهديد الكفار على تكذيبهم للمجتبى» قال تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) .
قضايا السورة
أثارت سورة ص عددا من القضايا أهمها قضية التوحيد، وقضية الوحي، وقضية الحساب في الاخرة، وقد عرضت هذه القضايا الثلاث في مطلعها، الّذي يمثل الدهشة والاستغراب من كبار المشركين في مكة، حين جاءهم محمد (ص)
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/227)
يدعوهم إلى التوحيد، وساقت السورة شبهات الكافرين حول قضية الوحي.
فقد استكثروا أن يختار الله سبحانه رجلا منهم لينزل عليه الذكر من بينهم، وأن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله الّذي لم تسبق له رئاسة فيهم، ولا إمارة فقالوا كما ورد في التنزيل:
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [الآية 8] .
وبيّنت السورة لهم، أنّ رحمة الله لا يمسكها شيء، إذا أراد أن يفتحها على من يشاء، وأنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنّما يفتح الله رزقه ورحمته على من يشاء، وأنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات، بلا قيد ولا حدّ ولا حساب. في هذا السياق جاء تسخير الجبال والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع، وجاء مع القصّتين توجيه النبي (ص) إلى الصبر على ما يلقاه من المكذّبين:
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) .
كذلك جاءت قصة أيوب (ع) تصور ابتلاء الله سبحانه للمخلصين من عباده بالضّرّاء، وصبر أيوب (ع) مثل في الصبر رفيع وتصور السورة حسن العاقبة للصابرين.
ونلاحظ أن السياق، في سورة ص، يربط بين أربعة موضوعات رئيسة: هي شبهات الكافرين، وقصص الأنبياء، والمقابلة بين نعيم المتقين وعذاب الكافرين، ثم قصة خلق آدم (ع) وسجود الملائكة له وإباء إبليس.
1- شبهات الكافرين
تشتمل الآيات [1- 16] على شبهات الكافرين حول بشريّة الرسول، واختصاصه بالوحي، وإنكار توحيد الالهة في إله واحد، والرد على هذه المفتريات، وبيان جزاء المكذّبين، من قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) .
2- قصص الأنبياء
تشتمل الآيات [17- 48] على قصص وأمثلة من حياة الرسل صلوات الله عليهم.
وفي هذا القصص بيان لآثار رحمة(7/228)
الله بالرسل من قبل، وتذكير بما أغدق الله عليهم من نعمة وفضل، وبما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام، وذلك ردا على عجب الكافرين من اختيار الله لمحمد (ص) رسولا من بينهم، وما هو ببدع من الرسل، وفيهم من آتاه الله سبحانه إلى جانب الرسالة الملك والسلطان، وفيهم من سخّر له الجبال يسبّحن معه والطير، وفيهم من سخّر الله تعالى له الريح والشياطين، كداود وسليمان (ع) . فما وجه العجب أن يختار الله جلّ وعلا محمدا (ص) الصادق، لينزل عليه الذكر من بين قريش في آخر الزمان.
كذلك يصور هذا القصص رعاية الله تعالى الدائمة لرسله، وإحاطتهم بتوجيهه وتأديبه فقد كانوا بشرا، كما أن محمد (ص) بشر، وكان فيهم ضعف البشر، وكان الله سبحانه يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم ولكن يبين لهم ويوجههم، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم، وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول إلى رعاية ربه له، وحمايته له من أذى المشركين وفي تلك القصص سلوى ومواساة لما لقيه النبي من تكذيب واتهام وافتراء، وفيه دعوة إلى الصبر حتى ينال رضوان الله، كما ناله السابقون من الأنبياء.
3- النعيم والجحيم
تعرض الآيات [49- 64] مشهد المؤمنين في الجنة، وقد فتحت أبوابها، وجرت أنهارها، وكثر حورها وولدانها، وتنوّعت أرزاقها:
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) .
كما تعرض مشهد الطاغين في النار، وقد اشتد لهيبها وتنوّع عذابها، واختصم الأتباع والرؤساء فيها، وأخذوا يبحثون عن ضعفاء المؤمنين بينهم فلا يجدونهم في النار، لأن هؤلاء الضعفاء في الجنة والرضوان.
4- سجود الملائكة لآدم
تشتمل الآيات الممتدة من الآية 65 إلى آخر السورة، على تأكيد وحدانية الله تعالى، وشمول قدرته وملكه في السماوات والأرض.
وتستعرض قصة آدم (ع) وسجود الملائكة له، كدليل على أن هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون كما تتضمّن القصة لونا من الحسد في نفس(7/229)
الشيطان، وهو الّذي أبعده الله عن رحمته، وطرده من جنّته، حينما استكثر على آدم فضل الله الّذي أعطاه وفي هذا إيحاء لهم ألا يستكثروا على محمد (ص) فضل الرسالة وتبليغ وحي السماء. كذلك تصوّر الآيات المعركة المستمرة بين الشيطان وأبناء آدم، والّتي لا يهدأ أوارها، ولا تضع أوزارها، والّتي يهدف من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد منهم في حبائله، لإيرادهم النار معه، انتقاما من أبيهم آدم. وقد كان طرد إبليس من الجنة بسبب امتناعه عن السجود له، فالمعركة بين إبليس وذرية آدم معروفة الأهداف، ولكن أبناء آدم يستسلمون لعدوهم القديم.
وتختم السورة بتوكيد قضية الوحي، وإخلاص الرسول في تبليغ الرسالة، لا يبتغي أجرا ولا يتكلّف قولا وإنّما يبلّغ القرآن، وسيكون لهذا القرآن أبلغ الأثر في حياة البشرية.(7/230)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «ص» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «ص» بعد سورة «القمر» وقبل سورة «الأعراف» ، ونزلت سورة «الأعراف» بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء، فيكون نزول سورة «ص» في هذا التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بالقسم به، وتبلغ آياتها ثماني وثمانين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار الكافرين بعذاب الدنيا والاخرة، وقد ابتدأت بإثباته بالقسم عليه، وبالقياس على من أهلك قبلهم من الأمم ثم أمر النبي (ص) بالصبر على طلبهم تعجيله استهزاء به، وقصّ عليه في ذلك قصص من صبر قبله من الأنبياء، ثم ذكر ما يكون إليه المآب بعد هلاكهم ثمّ ختمت السورة بالعود إلى تأكيد ذلك الإنذار، ليكون ختامها مناسبا لابتدائها فيرتبط آخرها بأولها وهي، في هذا، تشبه السورة السابقة فيما أنذر به فيها، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.
إنذار الكفار بعقاب الدنيا والاخرة الآيات [1- 70]
قال الله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/231)
فأقسم بذلك أنهم سيعاقبون على كفرهم في الدنيا والاخرة، ولكنّهم في غفلة عن هذا وشقاق، وكم أهلك من قبلهم من الكفّار، فنادوا ولات حين مناص ثم ذكر سبحانه أنهم تعجبوا من أن ينذرهم بذلك واحد منهم، ومن أن يدعو إلى التوحيد وإبطال الالهة، وهذا يخالف الملّة الاخرة (النصرانية) الّتي تجعل الالهة ثلاثة ثم ذكر إنكارهم أن يختص بذلك دونهم وهو لا يمتاز بشيء عليهم ورد عليهم بأن ذلك يرجع إلى اختياره بمقتضى رحمته، ولا شريك له فيما يملكه من أمر سماواته وأرضه، فإن ادّعوا لهم ملكا في ذلك فليرتقوا في الأسباب: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) .
ثم ذكر جلّ وعلا أنه قد كذّب قبلهم من كان أقوى منهم من قوم نوح وعاد وفرعون فعاقبهم وأهلكهم، وسيكون مصيرهم مثلهم. ثم ذكر أنهم طلبوا تعجيل هذا العذاب استهزاء، وأمر النبي (ص) أن يصبر على استهزائهم، ويذكر ما كان من أمر الرسل قبله ليعتبر بما كان منهم وقد ذكر له في ذلك أخبار داود وسليمان وأيّوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل (عليهم السلام) ، وفصّل في بعضهم ما فصّله من أخبارهم، وأجمل في بعضهم ما أجمله من أمرهم، ليحمله على ما أمره به من الصبر على قومه. ثم لفت إلى أمر آخر يحمله أيضا على الصبر عليهم، وهو ما أعدّه سبحانه للمتقين والطاغين من حسن المآب للأولين وشرّه للاخرين، وقد فصّل فيهما ما فصل من أحوالهما، وذكر في الثاني ما يكون من التخاصم بين أهل النار وخزنتها، ثم ختم ذلك كله بتأكيد ما بدأ به من الإنذار، فقال جلّ وعلا: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) فإذا أراد إهلاكهم لم يمنعه غيره من آلهتهم ثم ذكر السياق على لسان الرسول أن ما ينذرهم به نبأ عظيم لا كذب فيه، وأيّد ذلك بأن ما ذكره من ذلك التخاصم بين أهل النار وخزنتهم، لم يكن للرسول به علم إذ يختصمون: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) .
العهد القديم بعقاب الكافرين الآيات [71- 88]
ثم قال تعالى:(7/232)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) ، فذكر قصة خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له، وأنهم أطاعوه إلا إبليس لعنه الله وأنه عاقبه على ذلك بإخراجه من الجنة، وأنه عهد، وعهده الحقّ، أن يملأ جهنّم منه وممّن تبعه من الكافرين ثم ختم السورة بأنه لا يسألهم على هذا الإنذار من أجر، ولا يكلّفهم منه ما لا يطيقون: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) .(7/233)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «ص» «1»
أقول: هذه السورة بعد «الصافات» ، ك «طس» بعد «الشعراء» ، وك «طه» و «الأنبياء» بعد «مريم» ، وك «يوسف» بعد «هود» ، في كونها متمّمة لها بذكر من بقي من الأنبياء، ممّن لم يذكروا فيها فإنه سبحانه ذكر، في الصافات، نوحا، وإبراهيم والذبيح، وموسى، وهارون ولوطا، وإلياس، ويونس.
وذكر، هنا، داود، وسليمان، وأيوب، وأشار إلى بقية من ذكر، فهي بعدها أشبه شيء «بالأنبياء» ، و «طس» بعد «مريم» و «الشعراء» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.(7/235)
المبحث الرابع مكنونات سورة «ص» «1»
1- وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [الآية 6] .
قال مجاهد: أي عقبة بن أبي معيط.
زاد السّدّي: وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطّلب، والأسود بن يغوث.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
2- ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [الآية 7] .
قال محمد بن كعب: يعني ملّة عيسى (ع) .
وقال مجاهد: ملّة قريش «2» .
وأخرجهما ابن أبي حاتم «3» .
3- وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [الآية 16] .
قال قتادة: قال ذلك أبو جهل.
أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
وقال عطاء: النّضر بن الحارث.
أخرجه عبد بن حميد.
4- وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [الآية 21] .
هما ملكان. أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أنس بن مالك مرفوعا بسند ضعيف، ومن حديث ابن عبّاس
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . وفي رواية مسدّد، كما في «المطالب العالية» 3: 363، عن مجاهد أن الملّة هي النصرانية. وانظر «تفسير ابن كثير» 4: 28، و «سنن الترمذي» 8: 361.
(3) . والطبري في «تفسيره» 23: 80.
(4) . و «الطبري» 23: 85. ونقلا عن «غريب القرآن» أن القط واحد القطوط وهي الكتاب بالجوائز.(7/237)
موقوفا، وسمّاهما: جبريل، وميكائيل.
5- الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) .
أخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التّيمي «1» : أنها عشرون ألف فرس.
6- وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [الآية 34] .
قال ابن عباس: هو الشّيطان.
أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج عن قتادة: أنه مارد يقال له:
أسيد.
وأخرج من طريق علي، عن ابن عباس: أنّه صخر الجنّي وعن السّدّي:
أنه شيطان اسمه: حقيق.
وروى عبد الرزاق، عن مجاهد: أنّ اسمه آصف.
وروى ابن جرير عنه: أن اسمه آصر.
7- أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ [الآية 41] .
قال نوف البكالي «2» . الشيطان الّذي مسّ أيّوب يقال له: مسعط. أخرجه ابن أبي حاتم.
8- وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا [الآية 62] .
قائل ذلك: أبو جهل، وسمّي من الرّجال: عمار بن [ياسر] وبلال، وصهيب، وخبّاب. أخرج ذلك ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد.
__________
(1) . إبراهيم بن يزيد التيمي، عابد، صابر،. ثقة روى عن أنس رضي الله عنه، وتوفي نحو (94) هـ.
(2) . نوف البكالي بكسر الباء وفتحها نسبة الى بكال بطن من حمير، تابعيّ من أهل دمشق فاضل، عالم، لا سيّما بالقصص والإسرائيليات. ترجمه الحافظ في «التهذيب» ، وانظر تعليق الدكتور نور الدين عتر على كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للخطيب البغدادي ص 97.(7/238)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «ص» «1»
1- وقال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) .
قالوا في «لات» :
هي لا المشبهة ب «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث، كما زيدت على «ربّ» و «ثمّ» للتوكيد.
وتغيّر بذلك حكمها حيث لم تدخل إلّا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد مقتضييها، إمّا الاسم وإمّا الخبر، وامتنع بروزهما جميعا.
هذا مذهب الخليل، وتبعه سيبويه.
وعند الأخفش أنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصّت بنفي الأحيان.
هذا مجمل كلام ليس لنا أن نقبله بيسر، فما معنى قولهم إنّ «التاء» للتأنيث، وتاء التأنيث ساكنة مع الفعل، ومحركة بالحركات مع الاسم. وما معنى قولهم: إنها للتوكيد؟ وهل كل زيادة توكيد؟ وما معنى التوكيد؟
وما المؤكّد في ذلك؟ وإذا كانت للتأنيث فكيف يراد التوكيد؟ وما رأينا تاء للتأنيث تفيد التوكيد! وهل التاء في «ربّت» و «ثمّت» المفتوحتان للتأنيث والتوكيد؟
وأما اختصاصها بنفي الأحيان، فهذا قائم لأنها سمعت كذلك في لغة العرب.
ولعلّنا نستطيع أن نقول شيئا آخر في هذه التاء.
ومن ذلك تصوّرنا أن هذه «التاء» هي شيء من «ايت» السريانية. و «ايت»
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/239)
السريانية هذه تعني «ايش» أي: الشيء في العربية. وقد ركبت مع «لا» فصارت «لا ايت» ، ثم خفّفت فصار «لات» ، واستعملت استعمالا خاصّا.
وهي نظير «ليس» الّتي قال الخليل بتركيبها من «لا أيس» أي: لا وجود.
وكنا قد شرحنا هذا الشيء بتفصيل في الكلام على قوله تعالى: إِنِّي آنَسْتُ ناراً [طه: 10] .
ولنعد إلى «لات» لنقول: إن «ايت» بمعنى «شيء» بقي شيء منها في العربية، وذلك في مادة «أثث» . وإذا رجعنا إلى «أثاث» و «أثاثة» في المعجم، وجدنا أن عموم الدلالة فيهما يشير إلى أنها مطلق الشيء، ومن غير تخصيص، ثم جاء الاستعمال فقيّد وخصّص وصرفها إلى أشياء معيّنة.
وقد بقي لنا أن نقول: إن العرب ربما أدخلوا على «حين» التاء وقالوا:
لات حين بمعنى ليس حين.
وأما قول أبي وجزة:
العاطفون تحين ما من عاطف والمفضلون يدا إذا ما أنعموا فقال ابن سيده: قيل إنه أراد «العاطفون» مثل «القائمون» و «القاعدون» ، ثم زاد التاء في «حين» كما زادها الاخر في قوله:
نولّي قبل نأي داري جمانا وصلينا كما زعمت تلانا أراد الآن، فزاد التاء، وألقى حركة الهمزة على ما قبلها.
أقول: هذا قول المتقدّمين في كلمة «حين» ، وزيادة التاء في أولها. وعلى هذا يكون قولنا: «لات حين» من باب نفي «تحين» ب «لا» قبلها.
وأرى أن هذا المنقول من كلامهم قد يشعرنا أن «للتاء» ، في لغة قديمة، ما للألف واللام في أول الاسم، ولعل هذا شيء مما ورثته العربية من اللغات الّتي سبقتها! 2- وقال تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) .
والقطّ: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه.
أقول: القطّ هو القسم، أي:
القطعة، وهو من الفعل، قطّ يقطّ أي:
قطع يقطع. والمصدر القطّ على فعل.
وقد أشرنا إلى كثير من المصادر الثلاثية على «فعل» ، أن الاسم منها يكون بكسر الفاء كالسّقط والنّقض(7/240)
والكسر والمسخ، وكله بكسر الفاء وسكون العين. وعلى هذا يكون «القطّ» القسم، أي القسط الّذي أرادوه.
3- وقال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [الآية 17] .
قلنا: إن العربية قد أفادت من أعضاء الجسم في توليد المواد المفيدة، وفي هذه الآية «الأيد» ، وهو مصدر بمعنى القوة من «اليد» عضو الإنسان، وهكذا أخذ من الضلع والعظم والسن وغيرها فوائد عدة.
4- وقال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ.
أريد أن أنبه إلى أن الخصم، وإن كان مفردا في لفظه، فإنه يدل على الجمع في معناه، والآية شاهد.
وانظر: الآية التاسعة عشرة من سورة الحج.
5- وقال تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) .
والمعنى: وغلبني.
أقول: وهذا من معاني «عزّ» النادرة الّتي لا نعرفها في عصرنا.
6- وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ [الآية 24] .
وقوله تعالى: وَقَلِيلٌ ما هُمْ للإبهام، وفيه تعجب من قلّتهم، و «ما» زائدة.
أقول وزيادة «ما» هذه رشّحت للتركيب الجميل للإبهام والتعجب من قلّتهم.
7- وقال تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) .
والنصب قد يقرأ بفتح النون مع سكون الصاد، وبفتحهما وضمهما كالرّشد والرّشد. والنصب هو البلاء والشرّ.
وقد نبّهت على هذا، لأننا لا نعرف من هذه الكلمة إلا النصب، بفتحتين وهو التعب.
8- وقال تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [الآية 42] .
والمعنى: وادفع برجلك الأرض.
9- وقال تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا [الآية 63] .
أقول: والسّخريّة والسخريّ والسّخريّ كله بمعنى مصدر سخر كالسّخر.(7/241)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «ص» «1»
قال تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) فيزعمون أنّ موضع القسم هو في قوله سبحانه: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) .
وقال تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) فشبهوا (لات) ب (ليس) وأضمروا فيها اسم الفاعل ولا تكون (لات) إلّا مع «حين» وقرأ بعضهم بالرفع وَلاتَ حِينَ مَناصٍ فجعله في قوله مثل (ليس) كأن السياق «ليس أحد» وبإضمار الخبر.
وفي الشعر [من الخفيف وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائتين] :
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
فجرّ «أوان» وحذف وأضمر «الحين» وأضاف الى «أوان» لأنّ (لات) لا تكون إلّا مع «الحين» .
وقال تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [الآية 5] تقول «أتجعل مائة شاهد شاهدا واحدا» .
وقال تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً [الآية 33] أي: يمسح مسحا.
وقال تعالى: رُخاءً [الآية 36] والله أعلم، على «رخّيناها رخاء» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(7/243)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «ص» «1»
إن قيل: أين جواب القسم في قوله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ؟.
قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه لما ذكر سبحانه حرفا من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، كما قيل في كل سورة مفتتحة بحرف أتبعه القسم، محذوف الجواب، لدلالة التحدي عليه، كأنّ السياق: والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز وكذلك إذا كان الحرف مقسما به، كأنّ السياق:
أقسمت ب «ص» والقرآن ذي الذكر، إن هذا الكلام معجز.
الثاني: أن «ص» خبر مبتدأ محذوف، على أنه اسم للسورة، كأن السياق يقول: هذه «ص» ، يعني: هذه السورة الّتي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله.
الثالث: أن جواب القسم: كم أهلكنا، وأصله لكم أهلكنا، فلمّا طال الكلام حذفت اللام تخفيفا كما في قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] الرابع: أنّه قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) وهو قول الكسائي. وقال الفرّاء: وهذا لا يستقيم في العربية لتأخّره جدا عن القسم.
فإن قيل: ما وجه المناسبة والارتباط بين قوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/245)
[الآية 17] وقوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [الآية 17] ؟
قلنا: وجه المناسبة بينهما: أنه أمر أن يتقوّى على الصبر، بذكر قوة داود عليه السلام على العبادة والطاعة.
الثاني: أن المعنى عرّفهم أن داود (عليه السلام) ، مع كرامته وشهرة طاعته وعبادته، الّتي منها صوم يوم دون يوم، وقيام نصف الليل، كان شديد الخوف من عذابي، لا يزال باكيا مستغفرا.
فكيف حال هؤلاء مع أفعالهم؟
فإن قيل: لم قال الملكان لمّا دخلا على داود (عليه السلام) كما ورد في التنزيل: خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [الآية 22] والملائكة لا يوجد منهم البغي والظلم، ولم قال تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [الآية 23] إلى آخره، ولم يكن كما قال؟
قلنا: إنّما قالا ذلك على سبيل الفرض والتصوير للمسألة، ومثل ذلك لا يعدّ كذبا كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول كم يجب فيها وليس لهما شيء، وتقول لي أربعون شاة، ولك أربعون، فخلطناها وما لكم شيء.
فإن قيل: لم حكم داود (عليه السلام) على المدعى عليه بكونه ظالما قبل أن يسمع كلامه؟
قلنا: لم يحكم عليه إلا بعد اعترافه، كذا نقله السّدّي إلا أنه حذف ذكر الاعتراف في القصة، اختصارا لدلالة الحال عليه، كما تقول العرب: أمرته بالتجارة فكسب الأموال: أي فاتّجر، فكسب الأموال.
فإن قيل: ما معنى تكرار الحب في قوله تعالى: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [الآية 32] . وما معنى تعديته ب «عن» وظاهره أحببت حبّا مثل حب الخير، كما تقول أحببت حبّ زيد: أي أحببت حبّا مثل حبّ زيد؟
قلنا: أحببت في الآية بمعنى آثرت، كما يقول المخيّر بين شيئين: أحببت هذا: أي آثرته، وقد جاء استحب بمعنى آثر، قال الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] . أي آثروه: لأنّ من أحبّ شيئا فقد آثره على غيره، و «عن» بمعنى «على» كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ(7/246)
[محمد: 38] فيصير المعنى أي آثرت حب الخير على ذكر ربي. الثاني:
وهو اختيار الجرجاني صاحب معاني القرآن، أن «أحببت» بمعنى قعدت وتأخرت، مأخوذ من أحب الجمل إذا برك، ومنه قول الشاعر:
دعتك إليها مقلتاها وجيدها فملت كما مال المحبّ على عمد فالمحبّ هنا الجمل، والعمد علّة تكون في سنام الجمل، وكل من ترك شيئا وتجنّب أن يفعله فقد قعد عنه، فتأويل الآية: إنّي قعدت عن ربي لحبّ الخير، فيكون انتصاب حب على أنه مفعول له.
فإن قيل: لم قال سليمان عليه السلام، كما ورد في التنزيل: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [الآية 35] وهذا أشبه بالحسد والبخل بنعم الله تعالى على عبيده، بما لا يضرّ سليمان عليه السلام؟
قلنا: قال الحسن وقتادة رحمهما الله: المراد به لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعله الشيطان الّذي لبس خاتمه وجلس على كرسيه الثاني: أن الله تعالى علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك، فاقتضت حكمته سبحانه تخصيصه به، فألهمه أن يسأله تخصيصه به. الثالث:
أنه أراد بذلك ملكا عظيما، فعبر عنه بتلك العبارة، ولم يقصد بذلك إلّا عظم الملك وسعته، كما تقول لفلان:
ليس لأحد مثله من الفضل أو من المال، وتريد بذلك عظم فضله أو ماله، وإن كان في الناس أمثاله.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً [الآية 44] مع أن الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى، على ما قيل، وهو قد شكا؟
قلنا: الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، ولا تسمّى جزعا لما فيها من إظهار الخضوع والعبودية لله تعالى، والافتقار إليه ويؤيده قول يعقوب عليه السلام، كما ورد في التنزيل: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: 86] مع قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 83] وقولهم: الصبر ترك الشكوى، يعني إلى العباد. الثاني: أنه (ع) ، إنما طلب الشفاء من الله تعالى، بعد ما لم يبق منه إلا قلبه ولسانه، خيفة على قومه أن يفتنهم الشيطان بما كان يوسوس لهم(7/247)
به. ويقول إنه لو كان أيوب نبيّا لما ابتلي بما هو فيه، ولدعا الله تعالى بكشف ضرّه. وروي أنه عليه السلام قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان، فكشف الله تعالى ضرّه.
فإن قيل: قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) يدل على أن غاية لعنة الله لإبليس يوم القيامة ثم تنقطع؟
قلنا: كيف تنقطع، وقد قال تعالى:
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ [الأعراف: 44] يعني يوم القيامة أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) [الأعراف] وإبليس أظلم الظلمة ولكن مراده، في الآية، أن عليه اللعنة في طول مدة الدنيا فإذا كان يوم القيامة اقترن له باللعنة من أنواع العذاب، ما تنسى عنده اللعنة، وكأنها انقطعت.(7/248)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «ص» »
قوله تعالى: وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) هذه استعارة على بعض الأقوال، وهو أن قوله تعالى ذُو الْأَوْتادِ معناه ذو الملك الثابت، والأمر الواطد، والأسباب الّتي بها يثبت السلطان، كما يثبت الخباء بأوتاده، ويقوم على عماده.
وقد يجوز أيضا أن ذُو الْأَوْتادِ معناه ذو الأبنية المشيّدة، والقواعد الممهّدة، الّتي تشبّه بالجبال في ارتفاع الرؤوس ورسوخ الأصول. لأن الجبال تسمى أوتاد الأرض. قال سبحانه:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النّبأ] .
وقوله سبحانه: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) .
وقرئ: من فواق «2» بالضم. وقد قيل إنهما لغتان، وذلك قول الكسائي.
وقال أبو عبيدة: من فتح أراد ما لها من راحة، ومن ضمّ أراد ما لها في إهلاكهم من مهلة، بمقدار فواق الناقة، وهي الوقفة الّتي بين الحلبتين.
والموضع الّذي يحقق الكلام بالاستعارة على قراءة من قرأ من فواق بالفتح، أن يكون سبحانه وصف تلك الصيحة بأنها لا إفاقة من سكرتها، ولا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]
(2) . الضم هو قراءة حمزة والكسائي. وبقية القرّاء قرءوها بفتح الفاء. وقال الجوهري: الفواق بالفتح والفوق بالضم ما بين الحلبتين من الوقت. وفي الحديث الشريف (العيادة قدر فواق الناقة) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج 15 ص 156.(7/249)
استراحة من كربتها، كما يفيق المريض من علّته، والسكران من نشوته.
والمراد أنه لا راحة للقوم منها. فجعل سبحانه الراحة لها على طريق المجاز والاتساع. ومثله كثير في الكلام.
وقوله سبحانه: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) . وهذا الكلام داخل في حيّز الاستعارة. لأن النعاج هاهنا كناية عن النساء. وقد جاءت في أشعارهم الكناية عن المرأة بالشاة.
وعلى ذلك قول الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها «1» أي: عن امرأته. وقال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت عليّ وليتها لم تحرم «2» وربما سمّوا الظّبية نعجة، والظبية شبيهة بالمرأة، فتكون اللفظة مستعارة على هذا التركيب.
وإنما شبّهت النساء بالنعاج، لأنّ النعاج يرتبطن للاحتلاب والاستنتاج، والنساء يصطفين للاستمتاع والاستيلاد.
وقوله تعالى في ذكر الخيل حاكيا عن سليمان عليه السلام لمّا عرضت عليه فكاد أن يفوته، للشغل بها، وقت صلاة كان يصلّيها، فضرب رؤوسها وعراقيبها بالسيف، على ما وردت به الأخبار: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وهذه استعارة. لأن المسح هاهنا- في أكثر أقوال أهل التأويل- كناية عن الضّرب بالسيف.
وامتسح رأسه: إذا فعل به ذلك. وهذه الباء هاهنا للإلصاق فكأنّ السّياق:
وألصق السيف بسوقها وأعناقها. كما يقول القائل: مسحت يدي بالمنديل.
__________
(1) . هذا البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها قيس بن معد يكرب. ومطلعها:
رحلت سميّة غدوة أجمالها ... غضبى عليك، فما تقول بدا لها
وتبلغ أبياتها 54 بيتا، كما في ديوانه الكبير الّذي نشرته مكتبة الآداب بتحقيق الدكتور م. محمد حسين- ص 27. والعرب تكني بالشاة عن المرأة والزوجة. والأعشى من شعراء العصر الجاهلي الّذين اشتهروا بشعر الخمر، ووصف مجالسها وآلاتها، ما كان له أثر في الشعراء بعده كالأخطل وأبي نواس.
(2) . قال ابن مطرف الكناني في شرح هذا البيت: (يعرّض بجارية يقول: أيّ صيد أنت لمن حل له أن يصيدك، فأما أنا فإن حرمة الجوار قد حرّمتك عليّ) . وتجد شرحه في «شرح القصائد العشر» للإمام التبريزي ص 200 وقال بعض النحاة: إن «ما» زائدة والأصل يا شاة قنص.(7/250)
أي ألصقتها به. وعلى ذلك قول الشاعر «1» .
نمشّ «2» بأعراف الجياد أكفّنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب أي نلصق أيدينا بأعرافها، كما نلصقها بالمناديل الّتي تمسح بها الأيدي. وقد صرّح بذلك الشاعر الاخر «3» فقال:
أعرافهنّ لأيدينا مناديل
والشاهد الأعظم على ذلك ما ورد في التنزيل من قوله سبحانه:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] على قراءة من قرأ: (وأرجلكم) جرّا. أي ألصقوا المسح بهذه المواضع. وهذه الآية يستدل بها أهل العراق على أنّ استيعاب الرأس بالمسح ليس بواجب، خلافا لقول مالك. وقال لي الشيخ أبو بكر محمد بن موسى «4» الخوارزمي- أدام الله توفيقه- عند بلوغي عليه في القراءة، من مختصر أبي جعفر الطّحاوي «5» إلى هذه المسألة: سألت أبا علي الفارسي النحوي «6» وأبا
__________
(1) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، أمير شعراء الجاهلية.
(2) . في الأصل «نمس» بالسين المهملة وهو تحريف من الناسخ، كما أنه ترك كلمة مضهب بدون نقط على الضاد المعجمة. والبيت من بائية امرئ القيس الّتي يقول في مطلعها:
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذّب
انظر ديوان امرئ القيس (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم) ص 54.
(3) . هو عبدة بن الطبيب الشاعر الجاهلي. والبيت كاملا هو.
ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة ... أعرافهنّ لأيدينا مناديل
ويقول ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» : إنّه أخذه من قول امرئ القيس:
نمش بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب
(4) . كدت أيأس من الحصول على ترجمة له إلى أن وجدته «في تاريخ بغداد» ج 3 ص 247. قالوا: ما شاهد الناس مثله في حسن الفتوى والإصابة فيها وحسن التدريس، وقد دعي إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع منه. توفي سنة 403 هـ- أي قبل وفاة الشريف الرضي بثلاث سنوات.
(5) . هو الإمام أبو جعفر الطّحاوي المصري، برع في الفقه والحديث، وإليه انتهت رئاسة الحنفية بمصر، وتفقّه في مذهب الإمام أبي حنيفة حتى صار إماما. توفي سنة 321 هـ-.
(6) . هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، كان إماما في النحو والعربية. وتقدّمت ترجمته في الهامش عند الكلام على سورة طه.(7/251)
الحسن علي بن عيسى الرّمّاني «1» : هل يقتضي ظاهر الآية إلصاق الفعل بجميع المحل أو بالبعض؟ فقالا جميعا: إذا ألصق الفعل ببعض المحل تناوله الاسم. قال: وهذا يدل على الاقتصار، على مسح بعض الرأس كما يقوله أصحابنا.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) وهذه استعارة. والمراد بها- والله أعلم- أولي القوى في العبادة، والبصائر في الطاعة.
ولا يجوز أن يكون المراد بالأبصار هاهنا الجوارح والحواس، لأن سائر الناس يشاركون الأنبياء عليهم السلام في خلق ذلك لهم. ولا يحسن مدح الإنسان بأن له يدا وقدما وعينا وفما.
وإنّما يحسن أن يمدح بأن له نفسا شريفة، وهمّة منيفة، وأفعالا جميلة.
وخلالا محمودة.
وقيل أيضا معنى أُولِي الْأَيْدِي: أي أولي النّعم في الدّين، لأن ورود اليد بمعنى النعمة مشهور في كلامهم، فإنهم أسدوا إلى الناس أيديا بدعايتهم إلى الإيمان، وافتلاتهم من حبائل الضّلال.
وأما قوله سبحانه وتعالى في هذه السورة: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [الآية 75] فقد مضى، من الكلام على قوله تعالى في يس: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) [يس] ، ما هو بعينه الكلام على هذا الموضع، فلا فائدة في إعادته. وجملته أنّ المراد بقوله تعالى:
لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ مزيّة الاختصاص بخلق آدم عليه السلام من غير معونة معين، ولا مظاهرة ظهير.
__________
(1) . هو مفسّر ونحوي كبير، ولد ببغداد وتوفي بها سنة 384 هـ وله كتب «التفسير» و «شرح أصول ابن السّرّاج» و «شرح سيبويه» و «معاني الحروف» وترجمته في بغية الوعاة» .(7/252)
سورة الزّمر 39(7/253)
المبحث الأول أهداف سورة «الزّمر» «1»
سورة «الزّمر» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة وآياتها 75 آية.
نزلت بعد سورة «سبأ» ، وقد سميت سورة «الزّمر» بذلك الاسم، لقوله تعالى في آخرها:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الآية 71] .
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الآية 73] .
وللسورة اسمان: سورة الزمر، وسورة «الغرف» ، لقوله تعالى:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الآية 20] .
أدلّة التوحيد
سورة الزمر تهزّ القلب هزّا، وتسكب فيه مؤثرات الإيمان بالله، وتستعرض أمامه أدلّة القدرة الإلهية، والجزاء العادل في الدنيا والاخرة، وتفتح باب الرجاء الأمل في رحمة الله ورضوانه، ومن آياتها الشهيرة قوله تعالى:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) .
ومنذ افتتاح السورة إلى نهايتها وهي تؤكد قضية التوحيد الخالص. ففي مطلع السورة:
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ [الآية 3] .
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(7/255)
وفي خلال السورة نجد لمسات متوالية للقلوب والأفئدة، تعرض عليها أدلّة القدرة ومشاهد الكون، وخلق الليل والنهار، وإنزال المطر وإنبات النبات، وبدء الخليقة، ومراحل خلق الجنين، وطبيعة النفس في اللجوء إلى الله سبحانه في الضّرّاء، والإعراض عنه في السّرّاء، مع أن الموت قائم على رؤوس العباد.
ظل الاخرة
مشاهد الاخرة تظلل السورة وتسيطر على ختامها، حيث نجد الملائكة حافّين من حول العرش، ونرى المؤمنين يساقون إلى الجنة أفواجا وجماعات في تكريم إلهي، وسلام ونعيم في الخلود، ونرى الكفّار يساقون إلى جهنّم زمرا في مهانة وإذلال.
«وظل الاخرة في السورة يتناسق مع جوّها، وأهداف اللّمسات الّتي تأخذ القلب البشري بها، فهذه اللمسات أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش، ومن ثمّ نجد الحالات الّتي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشة وانتفاضة وخشية، نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه، وفي صورة الّذين يخشون ربهم، حيث تقشعر جلودهم لهذا القرآن، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما نجده في التوجيه إلى التقوى، والخوف من العذاب والتخفيف منه، ثم نجده في مشاهد القيامة، وما فيها من فزع ومن خشية، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع» .
فقرات السورة
1- التوحيد
في الآيات الأولى من السّورة المكوّنة لفقرتها الأولى، حثّ على إخلاص العبادة لله سبحانه، ثم نهي عن اتخاذ الأنداد والأولياء ثم نجد القرآن يلمس القلوب فيبين قدرة الله جلّ جلاله في خلق الناس من نفس واحدة، وتزويجها من جنسها، وخلق الأنعام أزواجا كذلك، وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث، ومنحهم خصائص جنسهم البشري أوّل مرة، ثم منحهم خصائص البقاء والارتقاء. وقد استغرقت هذه الفقرة الآيات [1- 7] .(7/256)
2- أنواع الإنسان وحالته
في الفقرة الثانية نجد أن الآيات [8- 20] قد لمست القلوب لمسة أخرى، وهي تعرض على الناس صورتهم في الضّرّاء وصورتهم في البأساء، وتريهم تقلّبهم وضعفهم وقلّة ثباتهم على نهج إلّا حين يتصلون بربهم ويتطلّعون إليه، ويقنتون له، فيعرفون الطريق، ويعلمون الحقيقة وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان.
ثم وجّهت الآيات النبيّ (ص) إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة، وإعلان خوفه من معصية الله، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه، وتركهم هم لمنهجهم وطريقهم، وبيان عاقبة هذا الطريق وذلك يوم يكون الحساب.
3- في مظاهر القدرة
في الآيات [21- 25] لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء، ثم نهاية النبات في فترة وجيزة، وكذلك شأن الدنيا. ثم تشير الآيات إلى الكتاب المنزل من السماء، لتحيا به القلوب وتنشرح له الصدور مع تصوير لعاقبة المستجيبين لذكر الله، والقاسية قلوبهم من ذكر الله.
ثم تضرب الآيات مثالا لمن يعبد إلها واحدا، ومن يعبد آلهة متعددة، وهما لا يستويان مثلا، ولا يتّفقان حالا، كما لا يستوي العبد الّذي يملكه سادة متنازعون، والعبد الّذي يعمل لسيد واحد لا يتنازع أحد فيه.
ثم تضع حقيقة واقعة، وهي تعرّض الناس جميعا للموت والفناء، الرسول والمرسل إليهم وسيتنوع الجزاء يوم القيامة، فيجازى الكافرون في جهنم، ويجازى الصادقون المصدّقون جزاء المحسنين.
4- نقاش متنوع
في الآيات [36- 61] نلمس قدرة القرآن الفائقة على إقامة الحجّة، وإقناع الإنسان، وأخذ السبيل على النفس البشرية حتى لا تجد بدّا من الإذعان والانقياد. وقد تناولت هذه الفقرة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة، تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن، وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة، واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية، ويكل أمره وأمر(7/257)
المجادلين له إلى يوم القيامة، ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستقيما بالمصير.
يتلو هذا بيان الرسول (ص) وأنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم، وإنما الله سبحانه هو المسيطر عليهم، الأخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم، وليس لهم من دونه شفيع فإن الشفاعة لله جميعا، وإليه سبحانه ملك السماوات والأرض، وإليه المرجع والمصير.
ثم تتعرّض الآيات لوصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد، وانبساطها عند ذكر كلمة الشّرك وتعقّب على هذا بدعوة الرسول (ص) إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة وترك أمور المشركين لله، وتصوّرهم يوم القيامة يودّون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه، وقد تكشّف لهم من الأمر ما يذهل ويخيف! وتعرض الآيات وضع الإنسان في حال الهلع والجزع، ثم في حال النعمة والرخاء فهو إذا أصابه الضّرّ دعا الله وحده، فإذا وهبه الله النّعم والرّخاء ادعى دعاوى عريضة، وقال: إنما أوتيته على علم عندي هذه الكلمة الّتي قالها من سبق من المتبطّرين والمتكبّرين، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وهو قادر على أن يبطش بكلّ جبّار عنيد، وما كان بسط الرزق وقبضه إلّا سنّة من سنن الله تجري وفق حكمته وتقديره، وهو وحده الباسط القابض بيده الخلق والأمر.
والله سبحانه قد فتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة، ودعا العصاة إلى الإنابة والاستقامة، واتّباع منهج الحق والعدل من قبل أن يأتي يوم الحساب فتندم كل نفس ظالمة، وتتمنى أن تعود إلى الدنيا لتستدرك ما فاتها. وفي هذا اليوم تظهر الكآبة في وجوه الكافرين، ويظهر الفوز والسرور في وجوه المؤمنين.
5- الله مستحق للعبادة دون سواه
تعرض الآيات الأخيرة في السورة [62- 75] ألوان قدرة الله وجلاله وتفرّده بالملك والتصرف في كل شيء. وإذا تبيّن لنا آثار هذه القدرة، ظهرت أمامنا دعوة المشركين للنبي (ص) إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه، مستغربة مستنكرة، فكيف يعبد معه(7/258)
سبحانه غيره؟ وله وحده مقاليد السماوات والأرض.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (67) [الآية 67] .
وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر.
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 67] .
فهي في تصرفه وملكه كما يتصرف الإنسان فيما هو داخل قبضته.
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
[الآية 67] .
وستطوى هذه السماوات وتبدل بقدرته سبحانه. وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة، يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة، ينتهي بموقف الملائكة حافّين من حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) .(7/259)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزّمر» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الزّمر» بعد سورة «سبأ» ، ونزلت سورة «سبأ» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الزّمر» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في آخرها: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الآية 71] إلى قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الآية 73] . وتبلغ آياتها خمسا وسبعين آية.
الغرض منها وترتيبها
ما يبرز لنا من أغراض هذه السورة الحثّ على إخلاص العبادة لله تعالى، والنهي عن اتخاذ الوسائل من الأولياء والأولاد ونحوهم، ولهذا يدور السياق فيها على إقامة الأدلة والآيات على بطلان هذا الاعتقاد. ووجه ارتباطها بسورة «ص» أنه ذكر فيها أن مشركي مكة اعتمدوا على ما جاء في النصرانية من التثليث واتخاذ الولد، فجاءت هذه السورة بعدها لإبطال ما اعتمدوا عليه من ذلك، والحث على إخلاص العبادة لله وحده.
إبطال الوسائل من الأولياء والأولاد الآيات [1- 75]
قال الله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) فذكر سبحانه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/261)
وتعالى، من قدرته وحكمته، ما يستغنى معه عن الأولياء والأولاد. ثم أمر النبي (ص) أن يخلص العبادة له، وأوعد من يتّخذون من دونه أولياء يعبدونهم ليقربوهم إليه بحكمه بينهم يوم القيامة ثم ذكر جلّ وعلا، أن كل ما عداه مخلوق له فيستحيل أن يكون له ولد منهم، لأن الولد يجب أن يجانس والده في الألوهية، فهو خالق السماوات والأرض، ومكوّر الليل على النهار والنهار على الليل، إلى غير هذا مما ذكره من خلقه ثم ذكر أنهم، إن يكفروا بعد ذلك، فهو غني عنهم، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فلا شفاعة لولي أو ولد أو غيرهما مما يعبدونهم.
ثم ذكر، سبحانه، أنه إذا مسّ الإنسان ضرّ لجأ إليه وحده، ونسي أولياءه وشفعاءه إليه، فإذا كشف الضّر عنه وصار في نعمة، نسيه واتّخذ له أندادا من الأولياء والشفعاء، ثم هدّد هذا الإنسان الجاحد الكافر بأنه سيتمتّع بكفره ثم يكون من أصحاب النار، لأنه لا يصح أن يستوي هو ومن يقنت إلى ربه ويعمل لآخرته، ولا يصح أن يستوي من يعلم أن العبادة لله وحده بمن لا يعلم ذلك، فيجب على المؤمنين أن يتّقوا ربهم وحده، وأن يكونوا أول المسلمين له، وليعبد غيرهم ما يشاءون من دونه، فسيكون لهم من العقاب ما يكون، وسيكون للّذين يخلصون العبادة له من الثواب ما يكون.
ثم ذكر أنه، جلّت قدرته، هو الّذي أنزل المطر فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفرّا، ثم يجعله حطاما ففي ذلك دليل أيضا على تفرّده سبحانه بالألوهية، وأنه لا يشاركه في ألوهيّته ما يتخذونه من الشفعاء والأولاد، ثم ذكر أنه لا يعرف هذا إلا من استنار قلبه بالإسلام ثم نوّه السياق بشأن القرآن الّذي يأتي بمثل هذا البيان، مما تقشعرّ منه الجلود، وتلين منه القلوب، وجمع في هذا بين الوعد والوعيد على نحو ما سبق.
ثم ضرب مثلا لمن يتّخذ معه آلهة من الأولاد والأولياء بعبد فيه شركاء متشاكسون، فلا يمكنه أن يرضيهم كلهم وضرب مثلا لمن يعبد الله وحده بعبد خالص لرجل واحد،(7/262)
فيسهل عليه أن يرضيه وذكر أن ما ضربه مثلا في الحالين يفهمه كل من عنده حظ من العلم، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون. ثم أكمل السياق، بعد هذا، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق.
ثم ذكر سبحانه أنه فيه وحده الكفاية لعبيده، فلا يصح أن يخاف من الشفعاء الّذين يخوّف المشركون بهم، وذكر أنهم لو سئلوا عن خالق السماوات والأرض لأجابوا بأنه هو الّذي خلقها، وإذا كان هذا شأنه فإنه إذا أراد أحدا بضرّ لا يكشفه شفعاؤهم، وإذا أراد أحدا برحمة لا يمكنهم أن يمسكوها عنه. ثم أكمل السياق، بعد هذا، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق.
ثم ذكر جلّ وعلا أنهم يتخذون هؤلاء الشفعاء من الأصنام، لأنها تماثيل لأشخاص كانوا من المقربين عنده، لينفعوا بشفاعتها وشفاعة أصحابها لهم ورد عليهم بأن أولئك المقربين عبيد لا يملكون من أمره شيئا، وتلك الأصنام من الجماد الّذي لا يعقل، فلا شفاعة إلا لله وحده. ثم ذكر أنهم، مع هذا، إذا ذكر سبحانه وحده اشمأزّت قلوبهم، وإذا ذكر الّذين يتخذونهم شفعاء من دونه فرحوا واستبشروا، وهذا تناقض عجيب منهم، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، وبيّن أنهم يفعلون ذلك في حال النعمة والرخاء، فإذا مسّهم ضرّ توجّهوا إليه جلّ جلاله وحده بالدعاء، ولا يلبثون، إذا كشفه عنهم، أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فينسبوا ما أوتوه من نعمة إلى علمهم بالأفلاك.
ولا يعلمون أنه سبحانه هو الّذي يبسط الرزق لمن يشاء، ويقبضه عمّن يشاء.
ثم تلطف في دعوتهم، فذكر أنهم أسرفوا بذلك على أنفسهم، ونهاهم أن يقنطوا مع ذلك من رحمته، لأنه يغفر الذنوب جميعا بالتوبة عنها، إلى غير هذا مما ذكره في ذلك الأسلوب من دعوتهم.
ثم ذكر سبحانه أنه خالق كل شيء وله مقاليد السماوات والأرض، وأمر النبيّ (ص) أن يخبرهم بأنه لا يصحّ مع هذا أن يطيعهم فيما يأمرونه به من عبادة أوليائهم وشفعائهم. ثم أكمل السياق، بعد هذا، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق، إلى أن ذكر سبحانه(7/263)
أن الّذين كفروا يساقون إلى جهنم زمرا فيقابلهم خزنتها بما يقابلونهم به، وأن الّذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمرا، فيقابلهم خزنتها بما يقابلونهم به، ويحمدون الله الّذي صدقهم وعده، وأورثهم الأرض يتبوّءون من الجنّة حيث يشاءون، فنعم أجر العاملين وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) .(7/264)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الزّمر» «1»
لا يخفى وجه اتصال أولها باخر «ص» ، حيث قال سبحانه في «ص» : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) ثم قال هنا: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الآية 1] فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل.
وهذا تلاؤم شديد، بحيث أنه لو أسقطت البسملة لالتأمت الآيتان في السورتين كالآية الواحدة.
وقد ذكر الله تعالى في آخر «ص» قصة خلق آدم (ع) «2» ، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه، وخلق الناس كلّهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميّتون، ثم ذكر وفاة النوم والموت، ثم ذكر القيامة، والحساب، والجزاء، والنار، والجنة «3» . وقال جلّ وعلا: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) .
فذكر أحوال الخلق، من المبدأ إلى المعاد، متّصلا بخلق آدم المذكور في السورة الّتي قبلها.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . قصّة خلق آدم في ص في قوله تعالى:
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) [ص] إلى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) [ص] . [.....]
(3) . بدأ ذكر هذه الموضوعات في الزمر، بقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الآية 6] ، وقوله سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) وقوله جلّ وعلا: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الآية 42] . وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الآية 71] ، الى آخر السورة. فلو قدّمت الزمر على «ص» ، لاختل النسق القرآني الّذي أحكمه الله تعالى.(7/265)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الزّمر» «1»
1- وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الآية 33] .
قال قتادة: هو النبي (ص) .
وقال السّدّي: هو جبريل.
2- وَصَدَّقَ بِهِ [الآية 33] .
هو النبيّ (ص) أخرجهما ابن أبي حاتم.
3- أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الآية 36] .
قال السّدّي: هو محمد (ص) أخرجه ابن أبي حاتم.
4- إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الآية 68] .
قال كعب الأحبار: هم اثنا عشر:
جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وحملة العرش ثمانية.
أخرجه ابن أبي حاتم. ورد ذلك من حديث أنس مرفوعا أخرجه الفريابي.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(7/267)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الزّمر» «1»
قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الآية 23] .
قوله تعالى: مَثانِيَ جمع مثنى، وهو بيان لكونه متشابها، لأنّ القصص المكرّرة لا تكون إلّا متشابهة، فكأن المراد: مردّدة ومكررة.
2- وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الآية 29] .
أي: متنازعون.
أقول: والتشاكس والمشاكسة في لغة العصر ضرب من الشّغب والشّقاق والفتنة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(7/269)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الزّمر» «1»
قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ [الآية 12] أي: وبذلك أمرت.
وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الآية 17] لأنّ (الطاغوت) في معنى جماعة. وقال أيضا: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (257) [البقرة] وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا.
وقال سبحانه: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الآية 19] أي: أفأنت تنقذه.
وقال أيضا: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الآية 22] بجعل قوله سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الآية 22] مكان الخبر.
وقال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ [الآية 24] فهذا لم يظهر له خبر في اللفظ، ولكنه في المعنى، والله أعلم، كأن السياق «أفمن يتّقي بوجهه أفضل أم من لا يتّقي» .
وقال تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الآية 28] لأن قوله سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الآية 27] معرفة فانتصب خبره.
وقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الآية 33] ثم قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) بجعل (الّذي) في معنى جماعة بمنزلة «من» .
وقال تعالى: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الآية 60] بالرفع على الابتداء، ونصب بعضهم على البدل. وكذلك
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.(7/271)
وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ [الأنفال 37] بجعله بدلا من (الخبيث) ومنهم من قرأ (بعضه على بعض) فرفع على الابتداء.
أو شغل الفعل بالأول. وقرأ بعضهم:
(مسوادّة) وهي لغة لأهل الحجاز يقولون: «اسوادّ وجهه» و «احمارّ» يجعلونه «افعالّ» كما تقول للأشهب «قد اشهابّ» وللازرق «قد ازراقّ» .
وقال بعضهم لا يكون «افعالّ» في ذي اللون الواحد، وإنّما يكون في نحو الأشهب، ولا يكون في نحو الأحمر، وهما لغتان.
وقال تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الآية 64] أي «أفغير الله أعبد تأمرونني» كأن السياق أراد الإلغاء، والله أعلم، كما تقول «هل ذهب فلان. تدري» جعله على معنى «ما تدري» .
وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الآية 65] .
وقال: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الآية 75] ف مِنْ أدخلت هاهنا توكيدا، والله أعلم، نحو قولك: «ما جاءني من أحد» وثقّلت حَافِّينَ لأنها من «حففت» .
وقال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية 73] فيقال إن قوله سبحانه وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الآية 73] في معنى «قال لهم» كأن السياق يلقي الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة فيه. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمّة حالم بخيال
فيشبه أن يكون يريد «فإذا ذلك لم يكن» . وقال بعضهم: «أضمر الخبر» وإضمار الخبر أحسن في الآية أيضا، وهو في الكلام.
وقال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الآية 67] أي: «في قدرته» نحو قوله جلّ وعلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (25) [النساء] أي: وما كانت لكم عليه قدرة، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر البدن. وأما قوله سبحانه قَبْضَتُهُ فنحو قولك للرجل: «هذا في يدك وفي قبضتك» .(7/272)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الزّمر» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) وكم من كاذب كفّار قد هداه الله تعالى فأسلم وصدق؟
قلنا: معناه لا يهديه إلى الإيمان مادام على كفره وكذبه. وقيل معناه:
لا يهديه إلى حجّة يلزم بها المؤمنين.
فإن قيل: كيف نستنتج أن في قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ (4) [الآية 4] ردّا لقول من ادّعى أن له ولدا، وإبطالا لذلك، مع أنّ كل من نسب إليه سبحانه ولدا قال إنه اصطفاه من خلقه بجعله ولدا فاليهود يدّعون أنه عزير، والنصارى يدّعون أنه المسيح بن مريم عليهما السلام، وطائفة من مشركي العرب يدعون أن الملائكة بنات الله تعالى؟
قلنا: هذا إن جعل ردّا على اليهود والنصارى كان معناه لاصطفى الولد من الملائكة لا من البشر، لأنّ الملائكة أشرف من البشر بلا خلاف بين اليهود ولا بين النصارى وإن كان ردّا على مشركي العرب كان معناه لاصطفى له ولدا من جنس يخلق كل شيء يريده ليكون ولدا موصوفا لصفته، ولم يصطف من الملائكة الّذين لا يقدرون على إيجاد جناح بعوضة ولا يردّ على هذا خلق عيسى (ع) الطير لأنه ليس بعام، أو لأن معنى خلقه التقدير من الطين، ثم إنّ الله تعالى يخلقه حيوانا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(7/273)
بنفخ عيسى عليه السلام وإظهارا لمعجزته.
فإن قيل: لم قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الآية 6] وخلق حواء من آدم (ع) سابق على خلقنا منه، فكيف عطفه عليه بكلمة «ثمّ» ؟
قلنا: «ثم» هنا للترتيب في الإخبار لا في الإيجاد، كما تقول لصاحبك أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس أكثر منه: أي ثم أخبرك بكذا، ومنه قول الشاعر:
إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه الثاني: أن «ثم» متعلقة بمعنى واحِدَةٍ وعاطفة عليه لا على خَلَقَكُمْ، فمعناه خلقكم من نفس واحدة، وأفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج. الثالث: أن «ثم» على ظاهرها، لأن الله تعالى خلق آدم ثم أخرج أولاده من ظهره كالذّر، وأخذ عليهم الميثاق ثم ردهم إلى ظهره، ثم خلق منه حواء فالمراد بقوله تعالى خلقكم خلقا يوم أخذ الميثاق دفعة واحدة، لأن هذا الخلق الّذي نحن فيه بالتوالد والتناسل.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الآية 6] مع أن الأنعام مخلوقة في الأرض لا منزلة من السماء؟
قلنا: قيل إن الله تعالى خلق الأزواج الثمانية في الجنّة ثم أنزلها على آدم (ع) بعد إنزاله. الثاني: أن الله تعالى أنزل الماء من السماء، والأنعام لا توجد إلا بوجود النبات، والنبات لا يوجد إلا بوجود الماء، فكأن الأنعام منزلة من السماء، ونظيره قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف: 26] وإنما أنزل الماء الّذي لا يوجد القطن والكتان والصوف إلّا به.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الّذي جاء بالصدق وصدق به: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) مع أنه سبحانه وتعالى يكفّر عنهم سيّئ أعمالهم ويجزيهم بحسنها أيضا؟
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة التوبة.
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الآية 44] مع أنه جاء في الأخبار أن للأنبياء والعلماء(7/274)
والشهداء والأطفال شفاعة يوم القيامة؟
قلنا: معناه أن أحدا لا يملكها إلّا بتمليكه، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (28) [الأنبياء: 28] .
فإن قيل: لم ذكّر الضمير في أوتيته وهو للنعمة في قوله تعالى: ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [الآية 49] ؟
قلنا: إنما ذكّره نظرا إلى المعنى، لأن معنى «نعمة» : «شيئا من النعمة وقسما منها» ، أو لأن النعمة والإنعام بمعنى واحد.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 55] والقرآن كلّه حسن؟
قلنا: معناه اتّبعوا أحسن وحي أو كتاب أنزل إليكم من ربّكم، وهو القرآن كله. وقيل أحسن القرآن الآيات المحكمات. وقيل أحسنه كل آية تضمنت أمرا بطاعة أو إحسان وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف في قوله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف: 145] والأجوبة المذكورة ثمّة تصلح هنا، وكذا الأجوبة المذكورة هنا تصلح ثمّة، إلا الجواب الأول.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الآية 65] مع أن الموحى إليهم جماعة، ولما أوحي إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟
قلنا: معناه الأول: ولقد أوحي إلى كل واحد منك ومنهم: لئن أشركت.
الثاني: أن فيه إضمارا تقديره: ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك التوحيد، ثم ابتدئ فقيل لئن أشركت.
والثالث: أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره: ولقد أوحي إليك لئن أشركت، وكذلك أوحي إلى الّذين من قبلك.
فإن قيل: لم عبّر سبحانه عن الذهاب بأهل الجنة والنار بلفظ السّوق في قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 71] وفي قوله سبحانه وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الآية 73] والتعبير في الآيتين يحمل ضربا من الإهانة؟
قلنا: المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يفعل(7/275)
بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم حثّا وإسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرّف ويكرم من الوافدين على السلطان، فشتان ما بين السّوقين.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف النار: فُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية 71] بغير واو، وقال في صفة الجنة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية 73] بالواو؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنها زائدة، قاله الفرّاء وغيره. الثاني: أنها واو الثمانية وأبواب الجنة ثمانية. الثالث:
أنها واو الحال، معناه: جاءوها وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم، بخلاف أبواب النار فإنها إنّما تفتح عند مجيئهم. والحكمة في ذلك من وجوه:
أحدها أن يستعجل أهل الجنة الفرح والسرور إذا رأوا الأبواب مفتّحة، وأهل النار يأتون النار وأبوابها مغلّقة ليكون أشدّ لحرّها. الثاني أنّ الوقوف على الباب المغلق نوع ذل وهوان، فصين عنه أهل الجنة لا أهل النار.
الثالث: أن الكريم يعجّل المثوبة ويؤخّر العقوبة، فلو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثّر انتظار فتحه في كمال الكريم، بخلاف أهل النار.(7/276)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الزّمر» «1»
قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الآية 5] .
هذه استعارة. والمعنى يعلي هذا على هذا. وذلك مأخوذ من قولهم:
كار العمامة على رأسه يكورها: إذا أدارها عليه. وقد قالوا: طعنه فكوّره، أي صرعه. ومنه قول أبي كبير الهذلي: «2» متكوّرين على المعاري بينهم ضرب كتعطاط المزاد الأنجل ومنه الحديث المأثور: (نعوذ بالله من الحور بعد الكور) «3» أي من الإدبار بعد الإقبال. وقيل من القلة بعد الكثرة. لأنهم يسمّون القطيع الكثير من البقر وغيرها كورا. ومنه قول أبي ذؤيب «4» في صفة الثور:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . أبو كبير الهذلي هو عامر بن الحليس. وهو شاعر جاهلي. وله ترجمة في «الشعر والشعراء» و «الإصابة» والخزانة» واللئالي» . وزعموا أنه تزوج أم الشاعر «تأبّط شرّا» ، وكان هذا غلاما صغيرا، فلمّا رآه يكثر الدخول على أمه تنكّر له. والقصة كاملة في كتاب «ديوان الهذليين» ج 2 ص 88 ومتكوّرين أي بعضهم على بعض، والمعاري السوآت. والتعطاط من العط، وهو الشق، والأنجل الواسع.
(3) . في «أساس البلاغة» : «وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» . والباطل في حور- بالضم- وهما النقصان، كالهون والهون. والحديث كاملا في «المجازات النبوية» طبع القاهرة. صفحة 113، ونصه: «اللهمّ إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر. وكابة المنقلب، والحور بعد الكور. وسوء المنظر في الأهل والمال» .
(4) . هو أبو ذؤيب الهذلي خويلد بن خالد، جاهلي إسلامي، وكان راوية للشاعر الهذلي ساعدة بن جؤيّة. وقالوا: إنه خرج مع عبد الله بن الزّبير في مغزى نحو المغرب فمات. وهو صاحب العينية المشهورة الّتي يرثي بها سبعة من أبنائه ماتوا في يوم واحد، ومطلعها:
أمن المنون وريبها نتوجع ... والدّهر ليس بمعتب من يجزع
وشعره في «ديوان الهذليين» طبع دار الكتاب المصرية.(7/277)
ولا شبوب من الثيران أفرده عن كوره كثرة الإغراء والطّرد أي عن سربه الكثير.
فيجوز أن يكون معنى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ على قول من يقول: طعنه فكوّره، يريد: فصرعه. أي يلقي الليل على النهار، ويلقي النهار على الليل.
ويكون المعنى على قول من يذهب إلى أن الكور اسم للكثرة، أي يكثر أجزاء الليل على أجزاء النهار، حتى يخفي ضوء النهار وتغلب ظلمة الليل.
ويكوّر النهار على الليل: أي يكثر أجزاء النهار، حتى تظهر وتنتشر وتتلاشى فيها أجزاء الليل وتضمحل.
وقوله سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الآية 42] وفي هذا الكلام استعارة خفيّة. وذلك أنّ قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ 2 مَوْتِها أي يقبضها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها منسوق تعبير. فظاهر الخطاب يقتضى أنه سبحانه يتوفّى الأنفس الّتي لم تمت في منامها أيضا.
ونحن نجد أمارة بقاء نفس النائم في جسده بأشياء كثيرة. منها ظهور التنفس والحركة وحذف لسانه بالكلمة بعد الكلمة، وغير ذلك مما يجري مجراه.
فيكون معنى توفّي النفس النائمة هاهنا اقتطاعها عن الأفعال التمييزية، والحركات الإرادية، كالعزوم «1» والقصود وترتيب القيام والقعود، إلى غير ذلك ممّا في معناه.
وقال بعضهم: الفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضادّ اليقظة وقبض الموت يضادّ الحياة.
وقبض النوم تكون الروح معه في البدن، وقبض الموت تخرج الروح معه من البدن.
وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) وهذه
__________
(1) . جمع عزم وهو ما يعزم الإنسان عليه من قصد ونيّة.(7/278)
استعارة. وقد اختلف في المراد بالجنب هاهنا. فقال قوم: معناه في ذات الله.
وقال قوم: معناه في طاعة الله، وفي أمر الله. لأنه ذكر الجنب على مجرى العادة في قولهم: هذا الأمر مغال في جنب ذلك الأمر أي في جهته. لأنه إذا عبّر عنه بهذه العبارة دل على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته.
وقال بعضهم: معنى فِي جَنْبِ اللَّهِ أي في سبيل الله، أو في الجانب الأقرب إلى مرضاته، بل الأوصل إلى طاعاته.
ولمّا كان الأمر كلّه يتشعّب إلى طريقين: إحداهما هدى ورشاد، والأخرى غيّ وضلال، وكلّ واحد منهما مجانب لصاحبه، أو هو في جانب، والاخر في جانب، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد، حسنت العبارة هاهنا عن سبيل الله بجنب الله، على النحو الّذي ذكرناه.
وقوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 63] وهذه استعارة.
والمقاليد: المفاتيح. قال أبو عبيدة:
واحدها مقليد، وواحد الأقاليد إقليد.
وهما بمعنى واحد وقال غيره: واحدها قلد على غير قياس.
وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : وجهه في العربية أن يكون الواحد على لفظ مقلد، ثم تجمع على «مقالد» فمن شاء أن يشبع كسرة اللام قال: «مقاليد» كما قالوا: درهم ودراهيم.
قال: وسمعت أبا المنذر يقول:
واحد المفاتيح مفتاح. وواحد المفاتح مفتح والمعنيان جميعا واحد.
والمراد بمقاليد السماوات والأرض هاهنا، والله أعلم، أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتهما، من إدرار الأمطار، وإيراق الأشجار، وسائر وجوه المنافع، وعوائد المصالح.
وقد وصف سبحانه السماء في عدة مواضع بأنّ لها خزائن وأبوابا، فحسن على مقتضى الكلام أن توصف بأن لها مقاليد وأغلاقا.
قال سبحانه: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الأعراف: 40] وقال تعالى:
__________
(1) . هو زبّان بن عمار التميمي البصري. كان إماما في اللغة والأدب والشعر ورواية الأخبار. وقد تلقى أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية. توفي بالكوفة سنة 154 هـ.(7/279)
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) [القمر] وقال عزّ من قائل: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [المنافقون: 7] .
وقالوا: خزائن السماوات الأمطار، وخزائن الأرض النبات. وقد يجوز أن يكون معنى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي طاعة السماوات والأرض ومن فيهن. كما يقال: ألقى فلان إلى فلان مقاليده، أي: أطاعه، وفوّض إليه أمره.
وعلى ذلك قول الأعشى: «1» فتى لو ينادي الشّمس ألقت قناعها أو القمر السّاري لألقى المقالدا أي لسلّم العلوّ إليه، واعتراف له به.
وقال بعض العلماء: ليس قول الشاعر هاهنا: ينادي الشمس، من النداء الّذي هو رفع الصوت، وإنّما هو من المجالسة. تقول: ناديت فلانا، إذا جالسته في النادي. فكأنه قال: لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به، وتبرّجا له. وهذا من غريب القول.
وقوله سبحانه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الآية 67] وهاتان استعارتان.
ومعنى قبضته هاهنا أي ملك له خالص، قد ارتفعت عنه أيدي المالكين من بريّته، والمتصرّفين فيه من خليقته.
وقد ورث تعالى من عباده ما كان ملّكهم في دار الدنيا من ذلك، فلم يبق ملك إلّا انتقل، ولا مالك إلّا بطل.
وقيل أيضا: معنى ذلك أن الأرض في مقدوره، كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفّه، ويحوزه ملكه، ولا يشاركه فيه غيره.
ومعنى قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي مجموعات في ملكه، ومضمومات بقدرته. واليمين هاهنا بمعنى الملك. يقول القائل: هذا ملك يميني. وليس يريد اليمين الّتي هي الجارحة. وقد يعبّرون عن القوة أيضا باليمين. فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله سبحانه:
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي يجمع أقطارها ويطوي انتشارها بقوته، كما قال سبحانه:
__________
(1) . البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها «هوذة بن علي الحنفي» ويذم «الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي» .
ومطلعها:
أجدّك ودّعت الصّبا والولائدا ... وأصبحت بعد الجور فيهنّ قاصدا(7/280)
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل في اليمين هاهنا وجه آخر. وهو أن تكون بمعنى القسم. لأنه سبحانه لما قال: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) [الأنبياء] كان التزامه تعالى فعل ما أوجبه على نفسه بهذا الوعد، كأنه قسم أقسم به، ليفعلنّ ذلك. فأخبر سبحانه في هذا الموضع من السورة الأخرى أن السّماوات مطويّات بيمينه، أي بذلك الوعد الّذي ألزم به نفسه سبحانه.
وجرى مجرى القسم الّذي لا بد من أن يقع الوفاء به، والخروج منه.
والاعتماد على القولين المتقدمين أولى.(7/281)
الفهرس
سورة الروم
المبحث الأول 3 أهداف سورة «الروم» 3 سبب نزول السورة 3 فصلان مترابطان 4 الأفكار العامة للسورة 5 عالمية الدعوة الاسلامية 6 المبحث الثاني 7 ترابط الآيات في سورة «الروم» 7 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 7 الغرض منها وترتيبها 7 تسلية المؤمنين 8 وسائل تثبيتهم 8 المبحث الثالث 11 أسرار ترتيب سورة «الروم» 11 المبحث الرابع 13 مكنونات سورة «الروم» 13(7/283)
المبحث الخامس 15 لغة التنزيل في سورة «الروم» 15 المبحث السادس 17 المعاني اللغوية في سورة «الروم» 17 المبحث السابع 19 لكل سؤال جواب في سورة «الروم» 19 المبحث الثامن 23 المعاني المجازية في سورة «الروم» 23
سورة «لقمان»
المبحث الأول 29 أهداف سورة «لقمان» 29 فقرات السورة 30 الجولة الاولى 30 الجولة الثانية 31 الجولة الثالثة 31 المبحث الثاني 33 ترابط الآيات في سورة «لقمان» 33 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 33 الغرض منه وترتيبها 33 التنويه بحكمة القرآن 34 بيان حكمة لقمان 34 الدعوة إلى ما اتفقت عليه الحكمتان 34(7/284)
المبحث الثالث 37 أسرار ترتيب سورة «لقمان» 37 المبحث الرابع 39 مكنونات سورة «لقمان» 39 المبحث الخامس 41 لغة التنزيل في سورة «لقمان» 41 المبحث السادس 43 المعاني اللغوية في سورة «لقمان» 43 المبحث السابع 45 لكل سؤال جواب في سورة «لقمان» 45 المبحث الثامن 49 المعاني المجازية في سورة «لقمان» 49
سورة «السجدة»
المبحث الأول 55 أهداف سورة «السجدة» 55 أسماء السورة 55 مخاطبة القلوب 55 أفكار السورة ونظامها 56 المبحث الثاني 59 ترابط الآيات في سورة «السجدة» 59 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 59 الغرض منها وترتيبها 59(7/285)
إثبات تنزيل القرآن 60 أخذهم بالترغيب والترهيب إلى الايمان به 60 المبحث الثالث 63 أسرار ترتيب سورة «السجدة» 63 المبحث الرابع 65 مكنونات سورة «السجدة» 65 المبحث الخامس 67 لغة التنزيل في سورة «السجدة» 67 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «السجدة» 69 المبحث السابع 71 لكل سؤال جواب في سورة «السجدة» 71 المبحث الثامن 75 المعاني المجازية في سورة «السجدة» 75
سورة «الأحزاب»
المبحث الأول 81 أهداف سورة «الأحزاب» 81 أحداث السّورة 81 فصول السورة 82 غزوة الأحزاب وبني قريظة 83 زوجات الرسول (ص) 85 قصة زينب بنت جحش 85(7/286)
أدب بيت النبوة 87 تحمل الإنسان للأمانة 88 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 91 المبحث الثاني 91 ترابط الآيات في سورة «الأحزاب» 91 الغرض منها وترتيبها 91 إبطال تبني زيد بن حارثة 91 أمر النبي بتخيير نسائه 93 تزويج النبي مطلّقة زيد 93 إرشاد النبي إلى آداب عامة 94 خصائص النبي في أزواجه 94 إرشاد النبي إلى ما يجب ستره من نسائه وغير هن 95 المبحث الثالث 97 أسرار ترتيب سورة «الأحزاب» 97 المبحث الرابع 99 مكنونات سورة «الأحزاب» 99 المبحث الخامس 103 لغة التنزيل في سورة «الأحزاب» 103 المبحث السادس 107 المعاني اللغوية في سورة «الأحزاب» 107 المبحث السابع 109 لكل سؤال جواب في سورة «الأحزاب» 109 المبحث الثامن 117 المعاني المجازية في سورة «الأحزاب» 117(7/287)
سورة «سبأ»
المبحث الأول 121 أهداف سورة «سبأ» 121 موضوعات السورة 121 فصول السورة 123 1- الألوهيّة وإثبات البعث 123 2- داود وسليمان 123 3- قصة سبأ 124 4- الشرك والتوحيد 125 5- مشاهد القيامة والجزاء 125 6- الدعوة الى التأمّل والتفكّر 126 المبحث الثاني 129 ترابط الآيات في سورة «سبأ» 129 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 129 الغرض منها وترتيبها 129 الاعتراض الأول على يوم القيامة 129 الاعتراض الثاني على يوم القيامة 130 الاعتراض الثالث والرابع على يوم القيامة 130 الخاتمة 131 المبحث الثالث 133 أسرار ترتيب سورة «سبأ» 133 المبحث الرابع 135 مكنونات سورة «سبأ» 135 المبحث الخامس 137 لغة التنزيل في سورة «سبأ» 137(7/288)
المبحث السادس 139 المعاني اللغوية في سورة «سبأ» 139 المبحث السابع 141 لكل سؤال جواب في سورة «سبأ» 141 المبحث الثامن 143 المعاني المجازية في سورة «سبأ» 143
سورة «فاطر»
المبحث الأول 147 أهداف سورة «فاطر» 147 موضوعات السورة 147 سياق السورة 148 فقرات السورة 148 1- رحمة الله وفضله 148 2- آيات الله في الكون 149 3- الله غني عن عبادتنا 149 4- كتابان إلهيان 150 5- دلائل الإيمان 150 المبحث الثاني 153 ترابط الآيات في سورة «فاطر» 153 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 153 الغرض منها وترتيبها 153 اختصاص الله تعالى بالحمد 153 آيات تدل على اختصاصه بالحمد 154(7/289)
المبحث الثالث 157 أسرار ترتيب سورة «فاطر» 157 المبحث الرابع 159 مكنونات سورة «فاطر» 159 المبحث الخامس 161 لغة التنزيل في سورة «فاطر» 161 المبحث السادس 163 المعاني اللغوية في سورة «فاطر» 163 المبحث السابع 165 لكل سؤال جواب في سورة «فاطر» 165 المبحث الثامن 167 المعاني المجازية في سورة «فاطر» 167
سورة «يس»
المبحث الأول 171 أهداف سورة «يس» 171 مقصود السورة 171 ملامح السورة 172 فصول السورة 173 1- رسالة ورسول 173 قصة أصحاب القرية 174 2- أدلة الايمان 174 3- وحي لا شعر 175(7/290)
المبحث الثاني 177 ترابط الآيات في سورة «يس» 177 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 177 الغرض منها وترتيبها 177 حاجتهم إلى رسول لإنذارهم 177 إثبات قدرته على عذابهم 178 المبحث الثالث 181 أسرار ترتيب سورة «يس» 181 المبحث الرابع 183 مكنونات سورة «يس» 183 المبحث الخامس 185 لغة التنزيل في سورة «يس» 185 المبحث السادس 189 المعاني اللغوية في سورة «يس» 189 المبحث السابع 191 لكل سؤال جواب في سورة «يس» 191 المبحث الثامن 195 المعاني المجازية في سورة «يس» 195
سورة «الصافات»
المبحث الأول 201 أهداف سورة «الصافات» 201 مقصود السورة 201(7/291)
سياق السورة 202 1- وصف الملائكة ومشاهد الاخرة 202 2- قصص الأنبياء 203 3- أسطورة تعقبها الحقيقة 203 المبحث الثاني 205 ترابط الآيات في سورة «الصافات» 205 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 205 الغرض منها وترتيبها 205 إبطال الشرك 206 أخذ المشركين بالترهيب والترغيب 206 إبطال نبوة الملائكة والجن 207 المبحث الثالث 209 أسرار ترتيب سورة «الصافات» 209 المبحث الرابع 211 مكنونات سورة «الصافات» 211 المبحث الخامس 213 لغة التنزيل في سورة «الصافات» 213 المبحث السادس 215 المعاني اللغوية في سورة «الصافات» 215 المبحث السابع 217 لكل سؤال جواب في سورة «الصافات» 217 المبحث الثامن 223 المعاني المجازية في سورة «الصافات» 223(7/292)
سورة «ص»
المبحث الأول 227 أهداف سورة «ص» 227 مقاصد السورة 227 قضايا السورة 227 1- شبهات الكافرين 228 2- قصص الأنبياء 228 3- النعيم والجحيم 229 سجود الملائكة لآدم 229 المبحث الثاني 231 ترابط الآيات في سورة «ص» 231 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 231 الغرض منها وترتيبها 231 إنذار الكفار بعقاب الدنيا والاخرة 231 العهد القديم بعقاب الكافرين 232 المبحث الثالث 235 أسرار ترتيب سورة «ص» 235 المبحث الرابع 237 مكنونات سورة «ص» 237 المبحث الخامس 239 لغة التنزيل في سورة «ص» 239 المبحث السادس 243 المعاني اللغوية في سورة «ص» 243(7/293)
المبحث السابع 245 لكل سؤال جواب في سورة «ص» 245 المبحث الثامن 249 المعاني المجازية في سورة «ص» 249
سورة «الزّمر»
المبحث الأول 255 أهداف سورة «الزّمر» 255 أدلّة التوحيد 255 ظل الاخرة 256 فقرات السورة 256 1- التوحيد 256 2- أنواع الإنسان وحالته 257 3- في مظاهر القدرة 257 4- نقاش متنوع 257 5- الله مستحق للعبادة دون سواه 258 المبحث الثاني 261 ترابط الآيات في سورة «الزّمر» 261 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 261 الغرض منها وترتيبها 261 إبطال الوسائل من الأولياء والأولاد 261 المبحث الثالث 265 أسرار ترتيب سورة «الزّمر» 265(7/294)
المبحث الرابع 267 مكنونات سورة «الزّمر» 267 المبحث الخامس 269 لغة التنزيل في سورة «الزّمر» 269 المبحث السادس 271 المعاني اللغوية في سورة «الزّمر» 271 المبحث السابع 273 لكل سؤال جواب في سورة «الزّمر» 273 المبحث الثامن 277 المعاني المجازية في سورة «الزّمر» 277(7/295)
الجزء الثامن
سورة غافر 40
المبحث الأول أهداف سورة «غافر» «1»
سورة «غافر» سورة مكية، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة.
وآياتها 85 آية نزلت بعد سورة «الزمر» .
أربعة أسماء: تسمى هذه السورة سورة «غافر» ، لقوله تعالى في أوّلها:
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [الآية 3] .
وتسمى سورة «المؤمن» لاشتمالها على حديث مؤمن آل فرعون «واسمه خربيل» في قوله تعالى:
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 28] .
وسورة «الطّول» ، لقوله تعالى:
ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) .
وتسمى «حم الأولى» لأنها السورة الأولى في الحواميم.
روح السورة
الروح الساري في سورة «غافر» هو الصراع الدائر بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والدعوة والتكذيب، وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبّر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ المتجبّرين. وفي ثنايا أهداف السورة الأصلية نجد أنها تلمّ بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين، ونضر الله إيّاهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/3)
لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.
وجو السورة كله، من ثمّ، كأنه جو معركة، وهي المعركة بين الإيمان والطغيان، بين الهدى والضلال، بين المتكبرين المتجبّرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل.
وتتنسّم، خلال هذا الجو، نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين.
ويتمثّل روح السورة في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة، وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر، وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة. ومنذ بداية السورة إلى نهايتها نجد آيات تلمس القلب، وتهزّ الوجدان، وتعصف بكيان المكذّبين، وقد ترقّ آيات السورة فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق، وهي تعرض صفات الله تعالى، غافر الذنب وقابل التوب، ثم تصف حملة العرش، وهم يدعون ربّهم ليتكرّم على عباده المؤمنين ثم تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.
موضوعات السورة
يمكننا أن نقسم سورة غافر بحسب موضوعاتها إلى أربعة فصول:
الفصل الأول: صفات الله
تبدأ الآيات، من 4 إلى 20، بعرض افتتاحية السورة، وبيان أن الكتاب منزّل من عند الله سبحانه.
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ للمؤمنين التائبين، وهو: شَدِيدِ الْعِقابِ للعصاة المذنبين.
ثم تقرر أن الوجود كلّه مسلّم مستسلم لله جلّ وعلا، وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذّون عن سائر الوجود بهذا الجدال، ومن ثمّ فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله (ص) ، مهما تقلّبوا في الخير والمتاع، فإنّما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذّبين قبلهم وقد أخذهم الله أخذا، بعقاب يستحق العجب والإعجاب، ومع الأخذ في الدنيا، فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربّهم، ويتوجهون(8/4)
إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح. وفي الوقت ذاته تعرض مشهد الكافرين وهم ينادون:
لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) .
وهم في موقف المذلة والانكسار يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة، يعود السياق ليعرض أمام الناس مظاهر أنعم الله عليهم، ليأخذ بأيديهم إلى طريق الإيمان بالله.
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) .
ويعرض السياق مشهد ذلك اليوم في صورة حية مؤثرة: فقد برز الجميع أمام الله جلّ وعلا، العالم بالظواهر والبواطن وفي المشهد تبلغ الروح الحلقوم، وتذهب صولة الظالمين والطغاة، فلا يجدون حميما ولا شفيعا يطاع في شفاعته لقد أصبح الملك والأمر والقضاء لله الواحد القهار.
الفصل الثاني: رجل مؤمن يجاهد بالكلمة
يستغرق الفصل الثاني الآيات [21- 55] .
ويبدأ بلفت المشركين إلى ما أصاب المكذّبين قبلهم ثم يعرض، من قصة موسى (ع) مع فرعون وهامان وقارون، جانبا يمثل موقف الطغاة من دعوة الحق، ويعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة، وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، يدافع عن موسى (ع) ، ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطّف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية، ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه القوية الناصعة، ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر، ويذكّرهم بموقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف (ع) ورسالته ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة فإذا هم هناك، وإذا هم(8/5)
يتحاجّون في النار، وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنّم يطلبون فيه الخلاص، ولات حين خلاص وفي ظل هذا المشهد يوضح الحق سبحانه أن العاقبة للمرسلين في الدنيا ويوم القيامة، فقد نصر الله موسى رغم جبروت فرعون ثم يدعو الرسول الأمين إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى الله بالتسبيح والحمد والاستغفار.
الفصل الثالث: الترغيب والترهيب
يستغرق الفصل الثالث من الآية [56- 77] ويبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر ويوجّه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله جلت قدرته وهذا الوجود أكبر من الناس جميعا، لعلّ المتكبّرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله، وتتفتّح بصيرتهم فلا يكونون عميا:
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) .
ويذكّر هذا الفصل الناس بمجيء الساعة، ثم يفتح الباب أمامهم إلى دعاء الله سبحانه والاستجابة لأمره ويبيّن لهم أنّ الذين يستكبرون عن عبادته تعالى سيدخلون جهنّم أذلاء صاغرين. ويعرض هذا القسم في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين، يعرض عليهم الليل وقد جعله الله سكنا، والنهار مبصرا، والأرض قرارا والسماء بناء، ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم، ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. وفي هذا القسم عينه، يأمر الله تعالى رسوله (ص) أن يبرأ من عبادة الذين يدعون من دون الله سبحانه، وأن يعلن إسلامه لرب العالمين ثم يؤكّد السياق أنّ الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة، وهو الذي يحيي ويميت. ثم يلفت الحقّ تعالى رسوله (ص) إلى أمر الذين يجادلون في الله، وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف، تعلق فيه الأغلال في أعناقهم، ويسحبون في الحميم، ويحرقون في النار جزاء كفرهم(8/6)
وشركهم بالله وفي ضوء هذا المشهد يوجّه الله رسوله إلى الصبر والثقة بأن وعد الله حق، سواء أأبقاه حتى يشهد ما يعدهم، أم توفاه قبل أن يراه، فسيتحقق الوعد هناك.
الفصل الرابع: نهاية الظالمين
يشتمل الفصل الرابع على الآيات الأخيرة من السورة [78- 85] ، ويذكر أن الله أرسل رسلا وأنبياء كثيرين لهداية الناس، منهم من ذكر في القرآن، ومنهم من لم يذكر:
وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ [الآية 78] ، وأن يقدم معجزة لقومه:
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الآية 78] .
على أن في الكون آيات قائمة وبين أيديهم آيات قريبة، ولكنهم يغفلون عن تدبّرها ... هذه الأنعام المسخّرة لهم من سخّرها؟ وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها؟ ومصارع الغابرين، ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟! وتختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين وهم يرون بأس الله فيؤمنون، حيث لا ينفعهم الإيمان:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) .(8/7)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «غافر»
«1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «غافر» بعد سورة «الزّمر» ، وقد نزلت سورة «الزمر» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «غافر» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [الآية 3] وتبلغ آياتها خمسا وثمانين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة كالغرض من السورة السابقة، وهو الحث على إخلاص العبادة لله. ولهذا ذكرت بعدها، والفرق بينهما في ذلك أنّ المشركين أخذوا في السورة السابقة بطريق الدليل على فساد اعتقادهم في شفعائهم، وإن جاء فيه شيء من الترغيب والترهيب، وأخذوا في هذه السورة بطريق الترغيب والترهيب، وإن جاء فيه شيء من الطريق الأول.
التمهيد بالترهيب والترغيب الآيات [1- 12]
قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) فذكر، سبحانه، من صفاته أنه عزيز عليم يغفر الذنب ويقبل التوب، ويأخذ بالعقاب الشديد، وإليه المصير. وذكر أنه لا يجادل في ذلك إلا الذين كفروا به، ونهى النبي (ص) أن يغترّ في ذلك
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ. [.....](8/9)
بما اغترّوا به من تقلّبهم في البلاد، فقد سبقهم إلى هذا الغرور من كان أشدّ منهم من قوم نوح والأحزاب من بعدهم، فكذّبوا رسلهم وهمّوا بهم ليأخذوهم فأخذهم الله بعقابه وأهلكهم. ثم شرع السياق في الترغيب بعد الترهيب، وذلك بالتذكير أن الملائكة يستغفرون لمن آمن به جلّ وعلا، ويطلبون منه أن يدخلهم ما وعدهم به من جناته. ثم عاد السياق إلى ترهيب الكافرين بعذاب الآخرة بعد ترهيبهم بعذاب الدنيا، إلى قوله تعالى في بيان السّبب: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) .
الأمر بإخلاص العبادة لله الآيات [13- 54]
ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فذكر الدليل على تفرّده بالألوهية، وأمر بإخلاص العبادة له، ثم وصف نفسه، جلّ وعلا، بأنه رفيع الدرجات يختار لرسالته من يشاء لينذر يوم التّلاقي.
ومضى في ترهيبهم بهذا اليوم إلى أن ذكر أنه ليس للظالمين فيه حميم ولا شفيع ممّا يعدّونه من دونه، وأنه هو الذي يقضي فيه بالحق، والذين يعبدون من دونه لا يقضون بشيء. ثم أخذ السياق في ترهيبهم بما حصل لمن كفر قبلهم، وكانوا أشدّ منهم قوّة وآثارا في الأرض فلم تغن عنهم قوّتهم شيئا ولا آلهتهم وذكر من أخبار هؤلاء الكفّار خبر فرعون وهامان وقارون مع موسى. وتمتاز قصتهم هنا بتفصيل ما كان فيها من مؤمن آل فرعون، إلى أن ذكر ما حاق بهم من سوء العذاب في دنياهم وأخراهم. وختم ذلك بما كان من نصر موسى وقومه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) .
ختم السورة بالترهيب والترغيب الآيات [55- 85]
ثم قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) فأمر النبي (ص) بالصبر على هؤلاء المشركين المغترين بدنياهم، ووعده(8/10)
بالنصر عليهم، كما نصر موسى وقومه على فرعون وهامان وقارون وذكر سبحانه أن الذي يحملهم على الجدال في آياته بغير دليل تكبّرهم أن يكونوا مرؤوسين، وما هم ببالغي ما يريدون من ذلك، فلا بدّ من تحقّق وعد الله عليهم، ومهما بلغوا فإنهم لا يعجزون الذي خلق السماوات والأرض وخلق ذلك أكبر من خلق الناس. ثم ذكر سبحانه، أنه لا يستوي أمر المؤمنين وأولئك المتكبّرين، وأن الساعة التي يفصل فيها بين الفريقين آتية لا ريب فيها وأمر المؤمنين أن يستمرّوا على الإخلاص في عبادته ليستجيب لهم، ويقيهم ممّا أعدّه لمن يستكبر عن عبادته. ثمّ ذكر ممّا يوجب عبادته عليهم أنه، جلّ وعلا، هو الذي جعل لهم الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا، إلى غير هذا مما ذكره من الآيات الدّالّة على قدرته وعظمته وتفضّله وإنعامه.
ثم بيّن السّياق العجب، بعد هذا، من أولئك المتكبّرين الذين يجادلون في آيات الله. ومضى في تهديدهم على ذلك إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) .
ثم أمر تعالى النبي (ص) بالصبر ووعده بالنصر عليهم، وذكر أنه سيريه في الدنيا بعض الذي يعدهم، ثمّ يرجعهم إليه فينتقم منهم أشدّ انتقام، ولكلّ من ذلك أجل يأتي فيه، وشأنه في ذلك شأن الرسل قبله، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، فإذا جاء أمره حلّ وعده عليهم. وفي سياق ترغيبهم وترهيبهم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لهم الأنعام لركوبهم وأكلهم، إلى غير هذا مما ذكره من نعمه عليهم، ثم أمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا عاقبة الذين كفروا من قبلهم، وقد اغترّوا بقوّتهم فاستهزأوا برسلهم وفرحوا بما عندهم من العلم، فلمّا أخذهم الله بعذابه قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) .(8/11)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «غافر»
«1» أقول: وجه إيلاء الحواميم السبع»
سورة «الزمر» : تآخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف أبيّ بن كعب: أول الزمر (حم) وتلك مناسبة جليلة.
ثم إنّ الحواميم ترتّبت لاشتراكها في الافتتاح ب (حم) ، وبذكر الكتاب بعد (حم) ، وأنها مكية، بل ورد في الحديث أنها نزلت جملة.
وفيها شبه من ترتيب ذوات (الر) الست «3» .
فانظر إلى ثانية الحواميم، وهي «فصّلت» ، كيف شابهت ثانية ذوات (الر) ، أي «هود» في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب. في «هود» :
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ (1) [الآية 1] ، وفي فصّلت: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ [الآية 3] . وفي سائر ذوات (الر) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ «4» ، وفي سائر الحواميم: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أو وَالْكِتابِ «5» .
وروينا عن جابر بن زيد وابن عباس في ترتيب نزول السور: أن الحواميم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . الحواميم السبع هي: غافر، وفصلت والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.
(3) . ذوات (الر) الست هي يونس، وهود، ويوسف، والرعد، (وأولها: المر) وابراهيم، والحجر.
(4) . ولكن في إبراهيم كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [الآية 1] .
(5) . ولكن في فصّلت: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) ، وفي الشورى كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ [الآية 3] .(8/13)
نزلت عقب «الزمر» ، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف:
«المؤمن» ، ثم «السجدة» ، ثم «الشورى» ، ثم «الزخرف» ، ثم «الدخان» ، ثم «الجاثية» ، ثم «الأحقاف» . ولم يتخلّلها نزول غيرها.
وتلك مناسبة جليّة واضحة في وضعها هذا.
ثم ظهر لي لطيفة أخرى، وهي: أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. فهذه السبع مصدرة ب (حم) وسبع في الربع الذي قبله ذوات (الر) الست متوالية، و (المص) الأعراف، فإنها متّصلة ب «يونس» على ما تقدمت الإشارة إليه. وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك، وأول النصف الثاني بسورتين «1» .
وقال الكرماني في «العجائب» «2» :
ترتيب الحواميم السبع لما بينها من التشاكل الذي خصت به، وهو: أن كل سورة منها استفتحت بالكتاب أو وصفه، مع تفاوت المقادير في الطول والقصر، وتشاكل الكلام في النظام.
قلت وانظر إلى مناسبة ترتيبها، فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر، ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود، التي هي ثانية ذوات (الر) ومطلع الزخرف مؤاخ لمطلع الدخان، وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف «3» .
__________
(1) . كان حق الكلام (بسبع سور) فنصف القرآن بالآيات في سورة الشعراء (الإتقان: 1/ 243) . وعليه يكون نصف القرآن مفتتحا بالشعراء، وأولها (طسم) ، والنمل، (طس) ، والقصص (طسم) ، والعنكبوت (الم) ، والروم (الم) ، ولقمان (الم) ، والسجدة (الم) . وإذا اعتبرنا النصف المعروف لنا فالسورتان هما (مريم، وطه) .
(2) . هو كتاب «لباب التفسير وعجائب التأويل» لتاج القراء محمود بن حمزة بن نصر الكرماني (خط) . ولم نعثر عليه مخطوطا ولا مطبوعا، انظر (معجم الأدباء 19/ 125) . وقد ذكره الكرماني في (أسرار التكرار في القرآن ص 18) .
(3) . مطلع الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ومطلع غافر: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) . ومطلع هود كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود/ 1] . ومطلع فصّلت: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [فصّلت/ 3] . وهكذا جميع المطالع التي ذكرها المؤلف.(8/14)
المبحث الرابع مكنونات سورة «غافر» «1»
1- وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 28] أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي: أنه ابن عم فرعون. وتقدّم الخلاف في اسمه في الآية 20 من سورة القصص.
2- وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) .
قال زيد بن أسلم: هم النّبيون، والملائكة، والمؤمنون.
وقال السّدّي: الملائكة فقط.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(8/15)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «غافر» «1»
قال تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) .
أقول: ربما استطعنا أن نضع إشارات نقف عندها، فنقطّع هذه الآية على النحو الآتي:
غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير.
أقول: يتبين لنا من هذه التجزئة جمال هذا النظم البديع، الذي اتصفت به لغة القرآن، وعلى هذا يتّفق إحسان النظم مع إحكام المعاني والأغراض.
ألا ترى أنه حين جاء قوله تعالى:
غافِرِ الذَّنْبِ جاء بعده التَّوْبِ وليس «التوبة» ، ليتوفر هذا النحو من المماثلة في الأبنية، فيحسن بذلك النّظم.
ثم قال: ذِي الطَّوْلِ فتمّ بذلك ما ذهبنا إليه من حسن هذه الديباجة العامرة.
2- وقال تعالى: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ [الآية 8] .
أردت أن أشير إلى أنّ الفصيح «صلح» مثل كتب، الذي ورد في الآية، قد عدل عنه في اللغة المعاصرة خطأ إلى «فعل» مثل «عظم» .
3- وقال تعالى: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [الآية 21] .
المراد بقوله تعالى: وَآثاراً
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/17)
الحصون والقصور..
أقول: وهذا يؤيّد قول المعاصرين في الكلام على مصنّفات أحدهم من الكتب وغيرها: آثاره.
4- وقال تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) .
وهو من قولهم: «سجر التنوّر» إذا ملأه بالوقود.
أقول: وما زال هذا الفعل معروفا في العامية الدارجة في العراق، وهو بالسين فيقولون سجر التنور، مرة، وبالشين، شجر التنوّر أخرى.
وهم يتوسعون فيه فتقول الخبّازة:
خبزت «شجارا» واحدا أو «شجارين» أي: ما يعدل إيقاد التنوّر بالوقود خبزا في كل مرة.(8/18)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «غافر» «1»
قال تعالى: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ فهذا على البدل.
وأما غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ فقد يكون معرفة لأنك تقول: «هذا ضارب زيد مقبلا» إذا لم ترد به التنوين. ثم قال سبحانه ذِي الطَّوْلِ [الآية 3] فيكون على البدل وعلى الصفة، ويجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب على خبر المعرفة إلا في ذِي الطَّوْلِ فإنّه لا يكون فيه النصب على خبر المعرفة لأنه معرفة. و «التوب» هو جماعة التوبة ويقال «عومة» و «عوم» في «عوم السّفينة» . قال الشاعر: [من البسيط وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائتين] .
عوم السّفين فلمّا حال دونهم فيد القريّات فالفتكان فالكرم قال تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ [الآية 5] بالجمع على «الكلّ» لأن الكلّ مذكّر معناه معنى الجماعة.
وقال سبحانه: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) أي: لأنّهم أو بأنّهم وليس أَنَّهُمْ في موضع مفعول. ليس مثل قولك «أحقّت أنهم» .
وقال جلّ وعلا: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [الآية 7] فانتصابه كانتصاب: «لك مثله عبدا» بجعل وَسِعْتَ ل كُلَّ شَيْءٍ وهو مفعول به، والفاعل التاء، وجعل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(8/19)
(الرّحمة) و (العلم) تفسيرا قد شغل عنهما الفعل، كما شغل «المثل» بالهاء، فلذلك نصب تشبيها بالمفعول بعد الفاعل.
وقال تعالى: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ [الآية 10] . فهذه اللام هي لام الابتداء: كأنه: يُنادَوْنَ فيقال لهم، لأنّ النداء قول. ومثله في الإعراب يقال: «لزيد أفضل من عمرو» .
وقال تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ [الآية 16] بإضافة المعنى، فلذلك لا ينون «اليوم» كما: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) [الذاريات] وهذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) [المرسلات] . معناه: هذا يوم فتنتهم. ولكن لما ابتدأ الاسم وبقي عليه، صار الجرّ أولى. وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة، وهذا إنّما يكون إذا كان «اليوم» في معنى «إذ» ، وإلّا فهو قبيح.
ألا ترى أنك تقول «لقيتك زمن زيد أمير» أي: إذ زيد أمير. ولو قلت:
«ألقاك زمن زيد أمير» ، لم يحسن.
وقال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ [الآية 15] على الابتداء.
والنصب جائز لو كان في الكلام على المدح.
وقال سبحانه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [الآية 16] . فهذا على ضمير «يقول» .
وقال تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ [الآية 18] . فانتصاب كاظِمِينَ على الحال، كأنّ المعنى:
«القلوب لدى الحناجر في هذه الحال» .
وقال تعالى: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) . فمن نوّن جعل (المتكبّر الجبار) من صفته، ومن لم ينوّن أضاف (القلب) الى (المتكبر) .
وقال تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي [الآية 36] . بعضهم يضم النون كأنه أتبعها ضمة النون التي في (هامان) كما قالوا:
«منتن» فكسروا الميم للكسرة التي في التاء، وبينها حرف ساكن فلم يحل.
وكذلك لم تحل الباء في قوله تعالى:
ابْنِ لِي.
وقال تعالى: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ [الآية 46] . فإن شئت جعلت النَّارُ بدلا من سُوءُ الْعَذابِ (45) ورفعتها على وَحاقَ، وإن شئت جعلتها تفسيرا ورفعتها على(8/20)
الابتداء كأنك تقول: «هي النار» وإن شئت جررت على أن تجعل النَّارُ بدلا من الْعَذابِ كأنّ المراد: «سوء النار» .
وقال تعالى: غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وفيه ضمير «يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون» : غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ (46) فإنّما هو مصدر كما تقول: «آتيه ظلاما» تجعله ظرفا وهو مصدر جعل ظرفا، ولو قلت «موعدك غدرة» أو «موعدك ظلام» فرفعته كما تقول: «موعدك يوم الجمعة» ، لم يحسن لأنّ هذه المصادر وما أشبهها من نحو «سحر» لا تجعل إلا ظرفا، والظرف كلّه ليس بمتمكّن.
وقال تعالى: إِنَّا كُلٌّ فِيها [الآية 48] بجعل كُلٌّ اسما مبتدأ، كما تقول: «إنّا كلّنا فيها» .
وقال سبحانه: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) و (تقوم) «1» كلّ جائز، وكذلك كل جماعة مذكّر أو مؤنّث من الإنس، فالتذكير والتأنيث في فعله جائز.
وقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) أي «في الإبكار» . وقد تقول «بالدار زيد» تريد «زيد في الدّار» .
وقال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [الآية 60] فقوله سبحانه: أَسْتَجِبْ إنّما هو «أفعل» [وما] هذه الألف سوى ألف الوصل. ألا ترى أنّك تقول:
«بعت» «تبيع» ثم تقول «أبيع» فتجيء فيها ألف ل «أفعل» فهي نظير الياء والتاء في «يفعل» و «تفعل» تقطع كل شيء كان على «أفعل» ، في وصل كان أو قطع.
وقال تعالى: كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً [الآية 47] «فالتبع» يكون واحدا وجماعة، ويجمع فيقال «أتباع» .
وقال تعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْها [الآية 79] فكأن السياق أضمر «شيئا» .
وقال سبحانه: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وقال جلّ وعلا:
__________
(1) . في الطبري 24/ 75 نسبت القراءة بالتاء على التأنيث إلى بعض أهل مكة، وبعض قراء البصرة وفي البحر 7/ 470 إلى ابن هرمز وإسماعيل والمنقري، عن أبي عمرو.(8/21)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) [النساء] .
فيجوز أن يكون آل فرعون أدخلوا مع المنافقين في الدرك الأسفل، وهو أشدّ العذاب.
وأمّا قوله تعالى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) [المائدة] . فقوله جلّ شأنه: لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً من عالم أهل زمانه.(8/22)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «غافر» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 4] .
مع أن الذين آمنوا يجادلون أيضا فيها، أمنسوخة هي أم محكمة؟ أفيها مجاز أم كلها حقيقة؟ أمخلوقة هي أم قديمة؟ وغير ذلك.
قلنا: المراد الجدال فيها بالتكذيب، ودفعها بالباطل والطعن بقصد إدحاض الحق وإطفاء نور الله تعالى، ويدل عليه قوله تعالى عقيبه: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الآية 5] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في وصف حملة العرش: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [الآية 7] ولا يخفى على أحد أن حملة العرش يؤمنون بالله تعالى؟
قلنا: الحكمة إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء (ع) بالصلاح والإيمان في غير موضع من كتابه.
فإن قيل: في قوله تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [الآية 11] كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة؟
قلنا: هذا كما تقول: سبحان من صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل، وكما تقول للحفّار: ضيّق فم الركيّة ووسّع أسفلها، وليس فيهما نقل من كبر إلى صغر ومن صغر إلى كبر، ولا من سعة إلى ضيق ولا من ضيق إلى سعة وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الصّغر
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/23)
والكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة وإذا اختار الصانع أحد الجائزين، وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه.
فإن قيل: قوله تعالى: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [الآية 16] بيان وتقرير لبروزهم في قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ [الآية 16] والله تعالى لا يخفى عليه شيء، برزوا أو لم يبرزوا؟
قلنا: معناه لا يخفى على الله منهم شيء في اعتقادهم أيضا، فإنهم كانوا في الدنيا يتوهّمون إذا تستّروا بالحيطان والحجب أنّ الله لا يراهم، ويؤيده قوله تعالى: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) [فصلت] .
فإن قيل: لم قال المؤمن في حق موسى (ع) كما ورد في التنزيل: وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [الآية 28] مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول، وفي نفس الأمر أيضا، ويلزم من ذلك أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟
قلنا: فيه وجوه: أحدها أن لفظة بعض صلة. الثاني: أنها بمعنى «كل» كما في قول الشاعر:
إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا ومنه قول لبيد:
أولم تكن تدري نوار بأنني ... وصّال عقد حبائل جذّامها
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النّفوس حمامها
قلنا: ولقائل أن يقول: إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها، وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه، كأنه قال: أتركها إلى أن أموت، وكذا فسّره ابن الأنباري على أنّ أبا عبيدة قال:
إن لفظة «بعض» في الآية بمعنى كل، واستدل ببيت لبيد وأنكر الزمخشري على أبي عبيدة هذا التفسير على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى حكاية عن عيسى (ع) لأمّته: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف/ 63] أن لفظة «بعض» فيه بمعنى كل.
الثالث: أنها على أصلها. ثم في ذلك وجهان: أحدهما أنه وعدهم النجاة إن آمنوا، والهلاك إن كفروا، فذكر لفظة بعض لأنهم على إحدى الحالتين لا(8/24)
محالة. الثاني أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، وكان هلاكهم في الدنيا بعضا، فمراده:
يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم.
الرابع: أنه ذكر البعض بطريق التنزّل والتلطّف وإمحاض النصيحة من غير مبالغة ولا تأكيد، ليسمعوا منه ولا يتّهموه، فيردوا عليه وينسبوه إلى ميل إلى موسى (ع) ومحاباة فكأنه قال:
أقلّ ما يصيبكم البعض وفيه كفاية قال الشاعر:
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته وقد يكون من المستعجل الزّلل كأنه يقول أقلّ ما يكون في التأني إدراك بعض المطلوب، وأقلّ ما يكون في الاستعجال الزلل، فقد بان فضل التأني على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه وردّه. والوجه الرابع هو اختيار الزمخشري رحمة الله عليه.
فإن قيل: التولّي والإدبار واحد، فما الحكمة في قوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [الآية 33] ؟
قلنا: هو تأكيد، كقوله تعالى:
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل/ 26] ونظائره كثيرة. الثاني: أنه استثارة لحميّتهم، واستجلاب لأنفتهم، لما في لفظ «مدبرين» من التعريض بذكر الدبر، فيصير نظير قوله تعالى:
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر] .
فإن قيل: ما الحكمة في التكرار في قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ ولم لم يقل: أبلغ أسباب السماوات؟ أي أبوابها وطرقها.
قلنا: إذا أبهم الشيء ثمّ أوضح كان تفخيما لشأنه وتعظيما لمكانه، فلما أريد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمت ثمّ أوضحت.
فإن قيل: مثل السيئة سيئة، فما المقصود في قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الآية 40] ؟
قلنا: معناه أنّ جزاء السيئة له حساب وتقدير لا يزيد على المقدار المستحق، وأمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير حساب كما قال تعالى في آخر الآية.
فإن قيل: قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام/ 160] ينافي ذلك.
قلنا: ذلك لمنع النقصان لا لمنع الزيادة، كما قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس/ 26] .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَقالَ(8/25)
الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ
[الآية 49] ولم يقل: وقال الذين في النار لخزنتها مع أنه أوجز؟
قلنا: لأن في ذكر جهنّم تهويلا وتفظيعا. وقيل إن جهنّم هي أبعد النار قعرا، وخزنتها أعلى الملائكة الموكلين بالنار مرتبة، فإنّما قصدهم أهل النار بطلب الدعاء منهم لذلك.
فإن قيل: لم قال المشركون كما ورد في التنزيل: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [الآية 74] مع قولهم كما ورد في التنزيل أيضا: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [النحل/ 86] ؟
قلنا: معناه أن الأصنام التي كنا نعبدها لم تكن شيئا لأنّها لا تنفع ولا تضرّ. الثاني أنهم قالوا كذبا وجحودا، كقولهم كما ورد في التنزيل: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام] .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) ولم يقل: وفي الفلك تحملون، كما قال سبحانه:
قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود/ 40] .؟
قلنا: معنى الوعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك، لأنه وعاء لمن يكون فيه وحمولة لمن يستعليه فلما صحّ المعنيان استقامت العبارتان معا.(8/26)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «غافر» «1»
في قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [الآية 7] . استعارة:
لأن حقيقة السعة إنّما توصف بها الأوعية والظروف التي هي أجسام، ولها أقدار ومساحات، والله سبحانه يتعالى عن ذلك.
والمراد، والله أعلم، أنّ رحمتك وعلمك وسعا كلّ شيء، فنقل الفعل إلى الموصوف على جهة المبالغة كقولهم: طبت بهذا الأمر نفسا، وضقت به ذرعا. أي طابت نفسي، وضاق ذرعي. وجعل العلم موضع المعلوم كما جاء قوله سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة/ 255] أي بشيء من معلومه.
وفي قوله سبحانه: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) استعارتان. إحداهما قوله تعالى:
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ والمعنى: أن منازل العز، ومراتب الفضل التي يخصّ بها عباده الصالحين، وأولياءه المخلصين رفيعة الأقدار، مشرفة المنار.
فالدرجات المذكورة هي التي يرفع عباده إليها، لا التي يرتفع هو بها، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والرّوح هاهنا كناية عن الوحي كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى/ 52]
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](8/27)
وإنما سمّي روحا لأن الناس يحيون به من موت الضلالة، وينشرون من مدافن الغفلة.
وذلك أحسن تشبيه، وأوضح تمثيل.
وفي قوله سبحانه: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) استعارة. والمراد بخائنة الأعين، والله أعلم، الرّيب في كسر الجفون، ومرامز العيون.
وسمّى سبحانه ذلك خيانة، لأنه أمارة للرّيبة، ومجانب للعفّة.
وقد يجوز أن تكون خائنة الأعين هاهنا صفة لبعض الأعين بالمبالغة في الخيانة، على المعنى الذي أشرنا إليه.
كما يقال علّامة، ونسّابة.
وأنشدوا قول الشاعر في مثل ذلك:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع
أي لم تكن موصوفا بالمبالغة في الخيانة. ومعنى مغلّ الإصبع: سارق مختلس.
وأضاف الأغلال إلى الإصبع، كما أضاف الآخر «1» الخيانة إلى اليد في قوله:
أولّيت العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص
أي خفيف اليد في السرقة والأحذّ الخفيف السريع. وعنى برافديه: دجلة والفرات.
وإنما ذكرت اليد والإصبع في هذين الموضعين، لأنّ فعل السارق والمختلس في الأكثر إنّما يكون باستعمال يده، واستخدام أصابعه.
__________
(1) . هو الشاعر الفرزدق. والبيت من أبيات في ديوانه، وقد أشار إليه ابن قتيبة في مقدمته لكتابه «الشعر والشعراء» ص 34، وهو يتحدّث عن التكلّف وضرورات القافية. والفرزدق يخاطب الخليفة يزيد بن عبد الملك شاكيا عمر بن هبيرة.
وفي «أساس البلاغة» للزمخشري، روي هذا البيت هكذا:
بعثت على العراق ورافديه ... فزاريّا أحذّ يد القميص(8/28)
سورة فصّلت(8/29)
المبحث الأول أهداف سورة «فصّلت» «1»
سورة «فصّلت» سورة مكية نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة وآياتها 54 آية نزلت بعد سورة «غافر» .
أسماؤها: تسمى سورة «فصّلت» لقوله تعالى في أوائلها:
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) .
وتسمى سورة «حم السجدة» لاشتمالها على السجدة، وسورة «المصابيح» لقوله تعالى:
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) .
روح السورة
الروح الساري بين آيات سورة «فصلت» ، هو عرض أهداف الدعوة الجديدة، وأركانها وحقائقها الأساسية، وهذه الحقائق هي:
الإيمان بالله وحده، وبالحياة الآخرة، وبالوحي والرّسالة، ويضاف إلى ذلك طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية.
وكلّ ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق، واستدلال عليها، وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق، وتحذير من التكذيب بها، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة، وعرض لمشاهد المكذّبين يوم القيامة، وبيان أن المكذّبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق، ولا يستسلمون لله وحده،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/31)
بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة ... كلهم يسجدون لله، ويخضعون لأمره، ويسلمون ويستسلمون.
موضوعات السورة
في سورة «فصلت» موضوعان اثنان:
الموضوع الأول
يستغرق نصف السورة الأول الآيات [1- 36] ، ويبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته، وموقف المشركين منه، وتليها قصّة خلق السماء والأرض، فقصّة عاد وثمود، فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد السياق إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلّوا هذا الضلال، فيذكر أن الله سبحانه قيّض لهم قرناء سوء من الجن والإنس، يزيّنون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم، ومن آثار هذا قولهم، كما ورد في التنزيل: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) .
ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس. وفي الجهة الأخرى نجد الذين قالوا: ربّنا الله، ثم استقاموا.
وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة، لا قرناء السوء، يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية، وبذلك ينتهي الموضوع الأول.
الموضوع الثاني
تتحدّث الآيات [37- 54] عن آيات الله من الليل والنهار، والشمس والقمر، والملائكة العابدة، والأرض الخاشعة، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه.
وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب، ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه، وأنه لولا سبق حكمه بإمهالهم لعجّل بقضائه بينهم.
وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها، وعلمه بما تكنّه الأكمام من ثمرات، وما تكنّه الأرحام من أنسال، ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء.
يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها، ومع حرص(8/32)
الإنسان على نفسه هكذا، فإنه لا يحتاط لها، فيكذب ويكفر، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.
وتختم السورة بوعد من الله سبحانه، أن يكشف للناس عن آياته، في الآفاق وفي أنفسهم. وقد صدق الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق خلال الأربعة عشر قرنا، التي تلت هذا الوعد، فعرفوا كثيرا عن مادة هذا الكون، وعرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرّة، وأدركوا أن الذّرة تتحول إلى الإشعاع، كما فهموا أن الكون كله من الإشعاع.
وعرفوا الكثير عن كروية الأرض، وحركتها حول نفسها، وحول الشمس وعرفوا الكثير عن المحيطات والأنهار، والمخبوء في جوف الأرض من الأرزاق.
وفي آفاق النفس اهتدى الإنسان إلى معرفة الكثير عن خصائص الجسم البشري وأسراره، ووظائفه وأمراضه، وغذائه وتمثيله، وأسرار عمله وحركته، ثم عن تطوّر المعرفة حول ذكاء الإنسان، ونفسية الأفراد والجماعات، وقياس السلوك، ولا يزال الإنسان في الطريق إلى اكتشاف نفسه، واكتشاف الكون من حوله، حتّى يحقّ وعد الله بأن كلماته حقّ، وآياته صدق، وكتابه منزل، وهو على كل شيء شهيد ... قال تعالى:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) .(8/33)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «فصّلت» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «فصّلت» بعد سورة «غافر» ، ونزلت سورة «غافر» بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة فصلت في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) وتبلغ آياتها أربعا وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
ترمي من هذه السورة إلى بيان الغرض من نزول القرآن، وهو التبشير بالثواب والإنذار بالعقاب، وهي بهذا تكاد تتّفق في الغرض مع السورة السابقة، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.
وقد جمع فيها بين الأخذ بالترغيب والترهيب، والأخذ بالدليل أيضا.
بيان الغرض من نزول القرآن الآيات [1- 32]
قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) فذكر، سبحانه، أن القرآن تنزيل منه، وأنه كتاب فصّلت آياته ليكون بشيرا ونذيرا للناس، فأعرض أكثرهم عنه وقالوا استهزاء بوعيده، كما ورد في التنزيل: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم عن هذا بأنه بشر مثلهم، فليس له شيء من أمر عقابهم، وما
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/35)
عليه إلا أن يبلغهم ما يوحى إليه من دعوتهم إلى وحدانية الله، وإنذارهم بالويل والهلاك إن لم يؤمنوا به، وتبشير المؤمنين بأن لهم أجرا غير ممنون. ثم أخذ السياق يبيّن لهم قبح كفرهم به، فذكر أنهم يكفرون بالذي خلق الأرض في يومين. ومضى هذا السياق في ترتيب أيام خلق الأرض والسماوات، ثم أنذرهم إن أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى، بعد ذلك، بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. وأخذ في تفصيل ما حصل لهم من ذلك في دنياهم، ثم ذكر ما يحصل لهم بعد حشرهم من شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم، إلى غير هذا ممّا ذكره من أمر آخرتهم، ثم عاد إلى ذكر إعراضهم عن إنذار القرآن لهم، فذكر أنهم قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) . ثم هدّدهم جلّ جلاله على ذلك بما أعده لهم من العذاب الشديد، وذكر ما أعدّه للمؤمنين من حسن لقاء الملائكة لهم، إلى قولهم في لقائهم لهم نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) .
شرف الغرض الذي تدعو إليه الآيات [33- 54]
ثم قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) فذكر شرف الغرض في الدعوة إلى الله، وأمر رسوله (ص) أن يقابل في دعوته إساءتهم بالحسنة، وأن يستعيذ بالله جلّ وعلا إذا نزغه من الشيطان نزغ من الغضب ثم ذكر سبحانه أن من آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ونهاهم جلّ شأنه أن يسجدوا للشمس والقمر، وأمرهم بالسجود له تعالى، فإن استكبروا فلا ينقص ذلك شيئا من سلطانه وتسبيح الملائكة له سبحانه لا ينقطع إقرارا وإذعانا. ثم ذكر السياق أن من آيات الله إحياء الأرض بالمطر، ليبيّن لهم أنّ الذي يحيي الأرض قادر على إحياء الموتى، وانتقل السياق من ذلك الى تهديدهم على إلحادهم في آياته بعد إحيائهم.
ثم عاد هذا السياق إلى تهوين أمر إساءتهم للرسول (ص) ليؤكّد ما أمره من مقابلتها بالحسنة، فذكر أنّه لا يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله، فلا يصحّ أن يضيق صدره بما قالوه في أول(8/36)
السورة من أن في قلوبهم أكنّة ممّا يدعوهم إليه، إلى غير هذا مما حكى عنهم، وعليه أن يشتغل بالتبليغ ويفوّض أمره إلى الله سبحانه فهو ذو مغفرة وذو عقاب أليم. ثم ذكر السياق أنه سبحانه لو جعله قرآنا أعجميّا، ولم يفصّل آياته بالعربية كما فصّله، لقالوا:
لولا فصّلت آياته، لأنهم متعنّتون لا يرضيهم شيء. وذكر أنه هدى وشفاء للمؤمنين، وأنّ غيرهم في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، فلا عيب فيه وإنما العيب فيهم. ثمّ ذكر تعالى أنه آتى موسى التوراة قبله فاختلف فيها كما اختلف هؤلاء المشركون في القرآن بين مصدّق ومكذّب، وأنه لولا سبق حكمه بإمهالهم لعجّل بقضائه بينهم، فذكر أن من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها. وذكر أن موعد ذلك ممّا اختص هو جل جلاله بعلمه، فإذا أتى يومه ناداهم أين شركائي؟ فيتبرءون من إثبات الشركاء له. ثم بيّن أن إنكارهم لهم في الآخرة بعد إقرارهم بهم في الدنيا هو شأن الإنسان لا يثبت على حال، فإن أقبلت عليه الدنيا لا ينتهي إلى درجة إلّا ويطلب أزيد منها، وإن أدبرت عنه بالغ في اليأس والقنوط، وإن عاودته النعمة، اغترّ بها، وظنّ أنها حق له لا يزول عنه وأنه لا ساعة قائمة ولئن كان هناك ساعة ورجع إلى ربه ليحسننّ إليه. ثم يمضي في إعراضه وينأى بجانبه، فإذا مسّه الشر بعد ذلك عاد إلى الإكثار من دعائه.
ثم ختم بذكر ما يوجب عليهم أن يحتاطوا في أمرهم، فأخبرهم بأنه على تقدير أن يكون القرآن من عنده، يكون كفرهم به من أعظم موجبات العقاب.
ثم ذكر أنه سيريهم ما أوعدهم به في الآفاق وفي أنفسهم. ويراد بالآفاق، والله أعلم، فتح البلاد المحيطة بهم، وبأنفسهم فتح مكة، وبهذا يتبين لهم أنه الحق: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) .(8/37)
المبحث الثالث مكنونات سورة «فصّلت» «1»
1- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [الآية 26] .
قيل: إنّ قائلها أبو جهل. ذكره ابن عسكر.
2- رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الآية 29] .
قال عليّ بن أبي طالب: هما إبليس، وابن آدم، الذي قتل أخاه.
أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
3- وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [الآية 33] .
قال الحسن: هو النبي (ص) أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . والطبري 24/ 72.
(3) . والطبري 24/ 75.(8/39)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «فصّلت» «1»
1- قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) .
أقول: لمّا أنزلت السماء والأرض منزلة الآدميّين، وذلك ظاهر من الآية في إسناد القول لهما، وصفتا بصفة العقلاء فقيل: طائِعِينَ، وهذه الصفة جمع مذكر للعاقل وهي منصوبة على الحال، وصاحبها مثنّى، وهذا موطن هذه المسألة اللطيفة، ولا أستطيع أن أقول إلا أنّ هذا من أسلوب القرآن الذي اقتضت حكمته أن يأتي على هذه الصورة خدمة لهذا النظم البديع.
2- وقال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) [الآية 24] .
والمعنى: وإن يسألوا العتبى، وهي الرجوع بهم إلى ما يحبّون، جزعا ممّا هم فيه لم يعتبوا، أي، لم يعطوا العتبى، ولم يجابوا إليها.
3- وقال تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الآية 51] .
وقوله تعالى: وَنَأى بِجانِبِهِ، أي:
ثنى عطفه، وازورّ وتولّى بركنه.
أقول: وفي قوله تعالى وَنَأى بِجانِبِهِ، تصوير لحاله، وهو يتنكّر ويزور فيبتعد بجنبه إشارة إلى رفضه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/41)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «فصّلت» «1»
قال تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ [الآية 3] فالكتاب خبر المبتدأ، أخبر به أن التنزيل كتاب ثم قال سبحانه:
فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الآية 3] بشغل الفعل بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب «القرآن» .
وقوله تعالى: بَشِيراً وَنَذِيراً [الآية 4] حين شغل عنه. وإن شئت جعلته نصبا على المدح، كأنه حينما أقبل سبحانه على مدحه فقال: «ذكرنا قرآنا عربيّا بشيرا ونذيرا» أو «ذكرناه قرآنا عربيّا» وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر، وقال تعالى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [الآية 5] معناه، والله أعلم، «وبيننا وبينك حجاب» ، ولكن دخلت «من» للتوكيد «2» .
وأمّا نصب سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) فبجعله مصدرا كأنه قال «استواء» «3» وقد قرئ بالجرّ «4» وجعل اسما للمستويات أي: في أربعة أيّام تامّة.
وأما قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [الآية 9] ثم قال: أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [الآية 10] فإنما يعني أن هذا مع الأول،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في زاد المسير 7/ 241.
(3) . النصب قراءة عاصم وحمزة كما في معاني القرآن 3/ 12 وفي الطبري 24/ 98 الى عامة قراء الأمصار، إلّا أبا جعفر، والحسن البصري، وأبا جعفر القارئ، وفي البحر 7/ 486.
(4) . في معاني القرآن 3/ 12 نسبت الى الحسن، وفي الطبري 24/ 98 كذلك، وزاد في الجامع 15/ 343 يعقوب الحضرمي، وفي البحر 7/ 486 زاد زيد بن علي، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد وعيسى.(8/43)
أربعة أيام، كما تقول «تزوّجت أمس امرأة، واليوم اثنتين» وإحداهما التي تزوجتها أمس «1» .
وقال تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً [الآية 12] كأنه سبحانه قد قال «وحفظناها حفظا» ، لأنه حين قال سبحانه:
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قد أخبر أنه نظر في أمرها، وتعاهدها، فهذا يدل على الحفظ كأن السياق:
«وحفظناها حفظا» .
وقال تعالى: قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 21] فجاء اللفظ بهم، مثل اللفظ في الإنس، لما خبّر عنهم بالنطق والفعل، كما قال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل/ 18] لمّا عقلن وتكلّمن صرن بمنزلة الإنس في لفظهم، قال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :
فصبّحت والطّير لم تكلّم ... جابية طمّت بسيل مفعم «2»
وقال تعالى، حكاية على لسان الذين كفروا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [الآية 26] أي: لا تطيعوه. كما تقول «سمعت لك» وهو، والله أعلم، على وجه «لا تسمعوا القرآن» . وقال تعالى وَالْغَوْا فِيهِ (26) «3» من «لغوت» «يلغا» مثل «محوت» «يمحا» «4» وقرأ بعضهم (والغوا فيه) «5» من «لغوت» «تلغو» مثل «محوت» «تمحو» وبعض العرب تقول: «لغي» «يلغى» وهي قبيحة قليلة «6» ولكن «لغي بكذا وكذا»
__________
(1) . نقله في زاد المسير 7/ 244.
(2) . سبق للأخفش إيراد هذا الرأي، والكلام عليه فيما سبق مع ذكر هذا الشاهد.
(3) . هي قراءة نسبت في الجامع 15/ 356 الى الجماعة، وفي البحر 7/ 494 الى جمهور القراء. [.....]
(4) . هي لهجة عقيل كما في اللهجات 455، وقيل هي لهجة دوس، وهي بطن من شنوءة الأزد «كالسابق 456» .
(5) . في المحتسب 2/ 246 نسبت الى ابي بكر بن حبيب السهمي، وفي الشواذ 133 الى عبد الله بن بكير الساعي، وابن أبي إسحاق وعيسى، وفي الجامع 15/ 356 الى عيسى بن عمر، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وابن حيوة، وبكر بن حبيب السهمي، وفي البحر 7/ 494 إلى بكر بن حبيب السهمي، أو عبد الله بن بكر السهمي، وقتادة، وأبي حيوة، والزعفراني، وابن أبي إسحاق، وعيسى، بخلاف عنهما.
(6) . لعلّها لهجة أهل العالية قياسا على قولهم «لهيت» في لهوت اللهجات 455.(8/44)
أي: أغري به، فهو يقوله ويصنعه.
وقال تعالى: ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ [الآية 28] بالرفع على الابتداء كأنه تفسير للجزاء.
وقال سبحانه: أَلَّا تَخافُوا [الآية 30] أي بأن لا تخافوا.
وقال تعالى: نُزُلًا [الآية 32] على تقدير أن السياق قد شغل وَلَكُمْ
ب ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
[الآية 31] حتّى صارت بمنزلة الفاعل، وهو معرفة، وقوله تعالى: نُزُلًا ينتصب على «نزّلنا نزلا» «1» نحو قوله سبحانه:
رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الإسراء/ 87] و [الكهف/ 82] و [القصص/ 46] و [الدخان/ 6] .
وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [الآية 34] يقال: «لا يستوي عبد الله ولا زيد» إذا أردت: لا يستوي عبد الله وزيد» لأنهما جميعا لا يستويان. وان شئت قلت إن الثانية زائدة تريد: لا يستوي عبد الله وزيد.
فزيدت «لا» توكيدا كما قال سبحانه:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد/ 29] أي لأن يعلم. وكما قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) [القيامة] .
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [الآية 41] فزعم بعض المفسّرين أن خبره أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وقد يجوز أن يكون على الأخبار التي في القرآن، يستغنى بها كما استغنت أشياء عن الخبر، إذا طال الكلام وعرف المعنى، نحو قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد/ 31] وما أشبهه.
وحدّثني شيخ من أهل العلم قال:
«سمعت عيسى بن عمر «2» يسأل عمرو ابن عبيد «3» » : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ أين خبره؟» فقال عمرو:
«معناه في التفسير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ كفروا به وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) فقال عيسى: «جاءت يا أبا عثمان» .
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 3/ 1022.
(2) . هو عيسى بن عمر الثقفي، وقد مرت ترجمته.
(3) . هو عمرو بن عبيد، أبو عثمان البصري المتوفى سنة 144، وهو أحد العباد الزهّاد، ترجم له في طبقات القراء 1/ 602.(8/45)
وقال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [الآية 44] أي هلّا فصّلت آياتهءَ أَعْجَمِيٌّ «1» يعني القرآن ووَ عَرَبِيٌّ يعني الرسول (ص) ، وقد قرئت من غير استفهام، وكلّ جائز في معنى واحد.
وقال تعالى: وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) أي: فاستيقنوا، لأن «ما» هاهنا حرف، وليس باسم، والفعل لا يعمل في مثل هذا، فلذلك جعل الفعل ملغى «2» .
__________
(1) . في معاني القرآن 3/ 19 والكشاف 4/ 202 الى الحسن وفي التيسير 193 الى هشام وزاد عليهما في الجامع 1/ 369 أبا العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وابن عامر. ولعل ما جاء من الكتابة همزة واحدة في الأصل مقام على ما جاء في المحتسب 2/ 248 منسوبا إلى عمرو بن ميمون من القراءة بالاستفهام وفتح العين نسبة الى العجم.
(2) . نقله في إعراب القرآن 3/ 1028.(8/46)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «فصّلت» «1»
إن قيل ما الحكمة في زيادة «من» في قوله تعالى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [الآية 5] مع أن المعنى حاصل بالقول «وبيننا وبينك حجاب» ؟
قلنا: لو قيل كذلك، لكان المعنى أن الحجاب حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة «من» فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا ومنك، فالمسافة المتوسطة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
فإن قيل: قوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [الآية 9] ، إلى قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [الآية 12] يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام، وقال تعالى في سورة الفرقان الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الفرقان/ 59] فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا: معنى قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ (10) [الآية 10] في تتمة أربعة أيام، لأن اليومين اللذين خلق سبحانه فيهما الأرض من جملة الأربعة، أو معناه:
كل ذلك في أربعة أيام يعني خلق الأرض، وما ذكر بعدها، فصار المجموع ستة وهذا لا اختلاف فيه بين المفسّرين.
فإن قيل: السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها، بأضعاف
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/47)
مضاعفة، فما الحكمة في أن الله سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، والسموات وما فيها في يومين؟
قلنا لأن السموات وما فيها من عالم الغيب، ومن عالم الملكوت، ومن عالم الأمر، والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك، وخلق الأول أسرع من الثاني. ووجه آخر، وهو أنه فعل ذلك ليعلم أن الخلق على سبيل التدريج والتمهيل في الأرض، وما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة واحدة، بل كان لمصالح لا تحصل إلّا بذلك، ولهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة أيام، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أهل النار: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (24) [الآية 24] مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار، وجزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: فإن يصبروا أولا يصبروا، فالنار مثوى لهم، على كل حال ولا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا ولهذا قيل الصبر مفتاح الفرج، وقيل من صبر ظفر. الثاني: أنّ هذا جواب لقول المشركين، في حثّ بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص/ 6] فقال الله تعالى: فإن يصبروا على عبادة الأصنام في الدنيا، فالنار مثوى لهم في العقبى.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الكفّار: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) أي بأسوأ أعمالهم، مع أنهم يجزون بسيّئ أعمالهم أيضا؟
قلنا: قد سبق نظير هذا السؤال في آخر سورة التوبة، والجواب الأول هناك يصلح جوابا هنا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا لِلْقَمَرِ [الآية 37] بعد قوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ [الآية 37] وهو مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟
قلنا: فائدته ثبوت الحكم بأقوى الدليلين، وهو النص، والله أعلم.(8/48)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «فصّلت» «1»
في قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [الآية 5] استعارة: فالأكنّة جمع كنان، وهو الستر والغطاء، مثل: عنان، وأعنّة. وسنان، وأسنّة.
وليس هناك على الحقيقة شيء ممّا أشاروا إليه. وإنّما أخرجوا هذا الكلام، مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن، وبواقع البيان. فكأنهم، من قوة الزّهادة فيه، وشدّة الكراهية له، قد وقرت أسماعهم عن فهمه، وأكنّت قلوبهم دون علمه.
وذلك معروف في عادات الناس، أن يقول القائل منهم لمن يشنأ كلامه، ويستثقل خطابه: ما أسمع قولك، ولا أعي لفظك. وإن كان صحيح حاسّة السمع. إلا أنه حمل الكلام على الاستثقال والمقت.
وعلى هذا قول الشاعر «2» :
وكلام سيّئ قد وقرت ... أذني عنه، وما بي من صمم
وفي قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) استعارة. فليس هناك، على الحقيقة، قول ولا جواب، وإنما ذلك عبارة عن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر، وقد ورد هذا البيت في «أساس البلاغة» للزمخشري مادة «وقر» ولم يذكر قائله.
وروايته في الأساس هكذا:
كم كلام سيّئ قد وقرت ... أذني عنه، وما بي من صمم(8/49)
سرعة تكوين السماوات والأرض. كما قال تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل] ولو لم يكن المراد ما ذكرنا لكان في هذا الكلام أمر للمعدوم، وخطاب لغير الموجود. وذلك يستحيل أن يكون من فعل الحكيم سبحانه.
ومعنى قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) أنهما جرتا على المراد، ووقفتا عند الحدود والأقدار، من غير معاناة طويلة، ولا مشقّة شديدة، فكانت في ذلك جارية مجرى الطائع المميّز، إذا انقاد إلى ما أمر به، ووقف عند الذي وقف عنده.
وقال بعضهم: معنى قوله سبحانه:
ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي: كونا على ما أريد منكم من لين وشدّة، وسهل وحزونة، وصعب وذلول، ومبرم وسحيل «1» .
والكره والشّدّة بمعنى واحد في اللغة العربية. يقول القائل منهم لغيره:
أنا أكره فراقك. أي يصعب عليّ أن أفارقك.
وقال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (216) [البقرة/ 216] أي شديد عليكم. ومعنى الطوع هاهنا:
التّسهّل والانقياد من غير إبطاء ولا اعتياص.
وإنما قال سبحانه: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) بجعل السماوات والأرض كلّها كالواحدة، والأرض جميعا كذلك، فحسن أن يعبّر عنهما بعبارة الاثنين دون عبارة الجميع.
وأمّا قوله سبحانه: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فكان وجه الكلام أن يكون طائعتين، أو طائعات ردّا على معنى التأنيث. فالمراد به، والله أعلم، عند بعضهم: قالتا أتينا بمن فينا من الخلق طائعين. فكانت كلمة «طائعين» وصفا للخلق المميّزين، لا وصفا للسماوات والأرض.
وقال بعضهم: لمّا تضمّن الكلام ذكر السماوات والأرض في الخطاب لهما، والكناية عنهما بما يخاطب به أهل التمييز، ويكنى به عن السامعين الناطقين، أجريتا في ردّ الفعل إليهما مجرى العاقل اللبيب، والسامع المجيب. وذلك مثل قوله تعالى:
__________
(1) . المبرم: الخيط أو الحبل الذي فتل فتلتين، والسّحيل: الحبل الذي فتل فتلا واحدا.(8/50)
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [يوسف] . ولو أجري اللفظ على حقيقته، وحمل على محجّته لقيل ساجدات. ولكن المراد بذلك: أنه، لما كان ما أشرنا إليه، حسن أن يقال ساجدين، وطائعين.
وقوله سبحانه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [الآية 17] استعارة. والمراد بالعمى هاهنا ظلام البصيرة، والمتاه في الغواية. فإن ذلك أخفّ على الإنسان، وأشد ملاءمة للطباع، من تحمّل مشاقّ النظر، والتلجيج في غمار الفكر.
وفي قوله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) استعارة: لأنّ الظن الذي ظنّوه على الحقيقة لم يردهم بمعنى:
يهلكهم، وإنّما أهلكهم الله سبحانه جزاء على ما ظنّوه به من الظنون السّيئة، ونسبوه إليه من الأفعال القبيحة. فلمّا كان ذلك الظنّ سببا في هلاكهم، جاز أن ينسب إليه الهلاك الواقع بهم.
وفي قوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الآية 39] استعارة، وقد مضى الكلام على نظيرها في سورة «الحج» . إلا أن هاهنا زيادة هي صفة الأرض بالخشوع، كما وصفت هناك بالهمود. واللفظان جميعا يرجعان إلى معنى واحد، وهو ما يظهر على الأرض من آثار الجدب، وأعلام المحل، فتكون كالإنسان الخاشع الذي قد سكنت أطرافه، وتطأطأ استشرافه.
وفي قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) استعارة. وقد قيل فيها أقوال: منها أن يكون المراد بذلك أن هذا الكتاب العزيز، لا يشبهه شيء من الكلام المتقدم له، ولا يشبهه شيء من الكلام الوارد بعده. فهذا معنى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ لأنه لو أشبهه شيء من الكلام المتقدّم، أو الكلام المتأخّر، لأبطل معجزته وفصم حجّته. فكأنّ الباطل، قد أتاه من إحدى الجهتين المذكورتين، إمّا من جهة أمامه، وإمّا من جهة ورائه. وهذا معنى عجيب.
وقال بعضهم: معنى ذلك أنّه لا تعلق به الشّبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من جهة المناقضة، فهو(8/51)
الحقّ الخالص الذي لا يشوبه شائب، ولا يلحقه طالب.
وقال بعضهم: معنى ذلك أن الشيطان والإنسان لا يقدران على أن ينتقصا منه حقّا، أو أن يزيدا فيه باطلا.
وقال بعضهم: معنى ذلك، أنه لا باطل فيه، من الإخبار عمّا كان وما يكون. فكأنّ المراد بقوله سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور الواقعة. وبقوله تعالى: وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور المتوقعة.
وفي قوله سبحانه: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) استعارة.
والمراد بها، والله أعلم، صفتهم بالتباعد عن طريق الرشد، والإعراض عن دعاء الحق. كأنهم من شدة الذهاب بأسماعهم، والانصراف بقلوبهم ينادون من مكان بعيد. فالنداء غير مسمع لهم، ولا واصل إليهم. ولو سمعوه لضلّ عنهم فهمه للصدّ «1» المنفرج بينهم وبينه.
وفي قوله سبحانه وتعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) استعارة. والمراد بها صفة الدعاء بالسّعة والكثرة، وليس يراد العرض الذي هو ضدّ للطّول. وذلك أن صفة الشيء بالعرض تفيد فيه معنى الطول لأنه لو لم يكن مع العرض طول لكان العرض هو الطّول. ألا ترى أنهم يصفون الرّمح بالطول، ولا يصفونه بالعرض إذا كان طوله أضعاف عرضه، ويصفون الإزار بأنه عريض إذ كان عرضه مقاربا لطوله.
وقد استقصينا شرح ذلك في كتابنا الكبير واقتصرنا منه هاهنا على البلغة الكافية، والنكتة الشافية.
__________
(1) . غير واضحة بالأصل، ولعلها للبعد.(8/52)
سورة الشورى(8/53)
المبحث الأول أهداف سورة «الشورى» «1»
سورة «الشورى» سورة مكّية، نزلت بعد «الإسراء» ، وقبيل الهجرة.
وآياتها 53 آية نزلت بعد سورة «فصلت» .
ولها اسمان: «عسق» لافتتاحها بها، وسورة «الشورى» لقوله سبحانه:
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الآية 38] .
روح السورة
هذه السورة، تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية، ولكنها تركّز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة حتى ليصحّ أن يقال إن هذه الحقيقة، هي المحور الرئيس، الذي ترتبط به السورة كلّها.
وتأتي سائر الموضوعات فيها، تبعا لتلك الحقيقة الرئيسة فيها.
هذا، مع أن السّورة تتوسّع في الحديث عن حقيقة الوحدانية وتعرض لها من جوانب متعدّدة كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين، وأخلاقهم التي يمتازون بها كما تلمّ بقضية الرزق، بسطه وقبضه، وصفة الإنسان في السّرّاء والضّرّاء. ولكنّ حقيقة الوحي والرسالة وما يتصل بها، تظل مع ذلك هي الحقيقة البارزة في محيط السورة، والتي تطبعها وتظلّلها، وكأنّ سائر الموضوعات الأخرى، مسوقة
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](8/55)
لتقوية تلك الحقيقة الأولى، وتوكيدها.
ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة، وما يصاحبها من موضوعات أخرى، بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبّر والملاحظة، «فهي تعرض من جوانب متعددة، يفترق بعضها عن بعض، ببضع آيات، تتحدث عن وحدانية الخالق، أو وحدانية الرازق، أو وحدانيّة المتصرّف في القلوب، أو وحدانيّة المتصرّف في المصير، في حين أنّ الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة يتّجه إلى تقرير وحدانية الموحي، سبحانه، ووحدة الوحي، ووحدة العقيدة، ووحدة المنهج والطريق وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة.
ومن ثمّ يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا بشتّى معانيه وشتى إيحاءاته من وراء موضوعات السورة جميعها» «1» .
موضوع السورة
يمكن أن نقسم سورة الشورى إلى فصلين رئيسين. يتناول الفصل الأول وحدة الأهداف الرئيسية للرسالات السماوية، ويتناول الفصل الثاني بعض صفات المؤمنين ودلائل الإيمان.
الفصل الأول: وحدة أهداف الرسالات
يتناول النصف الأول من السورة الآيات [1- 24] ، ويبدأ بالتحدّث عن الوحي، ثم يعالج قصّة الوحي منذ النبوّات الأولى، ليقرّر وحدة الدّين ووحدة المنهج، ووحدة الطريق، وليعلن القيادة الجديدة للبشريّة ممثلّة في رسالة محمد (ص) ، وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة.
وتشير السورة إلى هذه الوحدة في مطلعها:
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ، لتقرّر أن الله سبحانه هو الموحي بالرسالات جميعها للرسل جميعهم، وأنّ الرّسالة الأخيرة، هي امتداد لأمر مقرّر مطّرد من قديم.
وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل:
__________
(1) . في ظلال القرآن بقلم سيد قطب 24/ 7.(8/56)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الآية 7] ، لتقرر مركز القيادة الجديد، فقد اختار الله جلّ جلاله بلاد العرب، لتكون مقر الرسالة الأخيرة، التي جاءت للبشرية جمعاء، والتي تتضح عالميّتها منذ أيامها الأولى.
كانت الأرض المعمورة، عند مولد الرسالة الأخيرة، تكاد تتقاسمها إمبراطوريات أربع هي:
الرومانية، والفارسية، والهندية، والصينية.
وفي هذا الوقت، جاء الإسلام لينقذ البشرية كلّها، ممّا انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد، وجاهلية عمياء في كل مكان من المعمورة.
جاء ليهيمن على حياة البشرية، ويقودها في الطريق الى الله، على هدى ونور.
ولم يكن هنالك بدّ من أن يبدأ الإسلام رحلته من أرض حرّة، لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات، وكانت الجزيرة العربية وأمّ القرى وما حولها بالذات، أصلح مكان على وجه الأرض، لنشأة الإسلام يومئذ، وأصلح نقطة، يبدأ منها رحلته العالميّة.
لم تكن في بلاد العرب حكومات منظّمة، ولا ديانة ثابتة واضحة المعالم، وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة، إلى جانب خلخلة النظام الديني، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد، متحرر من كل سلطان عليه في نشأته.
وهكذا جاء القرآن الكريم بلسان عربيّ مبين، لينذر أم القرى ومن حولها فلمّا خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام، حملت الراية وشرّقت بها وغرّبت، وقدّمت الرسالة للبشرية جميعها، وكان الذين حملوها أصلح خلق الله لحملها، وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام/ 124] .
وفي آية مشهورة من سورة الشورى، تطالعنا وحدة الرسالات جميعها، ووحدة الرسل، ووحدة الدين، ووحدة الهدف للجميع، وهو توحيد الله سبحانه، وتدعيم القيم والأخلاق،(8/57)
ومحاربة الرذائل والانحراف. قال تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ
(13) .
وتقرّر الآيات بعد ذلك أن التفرّق قد وقع مخالفا لهذه التوصية، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام، ولكن عن علم. وقع بغيا وحسدا:
وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية 14] .
وتصف أتباع الأديان، وحملة الكتب السماوية بأنّهم في حيرة وشكّ، لاضطراب أحوال الديانات، وخروجها عن الهدف الذي جاءت له:
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) .
وعند هذا الحدّ يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم.
ثمّ يعلن القرآن الكريم انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها (ص) ، لهذه القيادة:
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) .
الفصل الثاني: صفات الجماعة المسلمة
يشتمل النصف الثاني من السورة، على الآيات [25- 53] . ويتحدّث عن صفات الجماعة المسلمة، التي انتدبها الله تعالى لحمل هذه الرسالة ويبدأ هذا الفصل باستعراض آيات الله في بسط الرزق وقبضه، وفي تنزيل الغيث برحمته، وفي خلق السماوات والأرض، وما بثّ فيهما من دابّة، وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام، ويستطرد السياق من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم، ومع أن سورة الشورى سورة مكّية، نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة، إلا أنها تذكر أن الشورى من صفات المؤمنين، في قوله تعالى:
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الآية 38] .
مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق،(8/58)
في حياة المسلمين، من مجرّد أن يكون نظاما سياسيّا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم على أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها ممثّلة للجماعة.
والتأمّل في صفات المؤمنين، يوحي بأن الإسلام دين القيم، دين يهتم بالجوهر لا بالعرض، وبتكوين النفس البشرية لا بالقيم الزائلة.
فما قيم الجماعة المؤمنة؟
إنها الإيمان، والتوكل، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والمغفرة عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والشورى الشاملة، والإنفاق ممّا رزق الله، والانتصار من البغي، والعفو والإصلاح والصبر.
وبهذه القيم تحوّل العرب من أشتات مختلفين إلى أمّة متماسكة، متراحمة مؤمنة بالله مستقيمة على هداه وتعاليمه، فوطّأ الله لهم أكناف الأرض، وصاروا خير أمة أخرجت للناس.
وبعد تقرير صفة المؤمنين، وما ينتظرهم من عون وإنعام تعرض الآيات في الصفحة المقابلة، صورة الظالمين الضّالّين، وما ينتظرهم من ذلّ وخسران في يوم القيامة:
يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ.
وفي ظل هذا المشهد، نجد القرآن الكريم، يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف، قبل فوات الأوان:
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الآية 47] .
ويمضي سياق السورة حتى ختامها، يدور حول محور الوحي والرسالة، وأثرهما في صفات المؤمنين، مع بعض الاستطراد إلى وصف الكافرين، وبيان صفات الله الخالق الوهّاب، القابض الباسط، قال تعالى:
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) .
ويعود السياق في نهاية السورة، إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته.
وهناك ارتباط ظاهر بين الحديث عن(8/59)
الوحي في القسم الأول من السورة، والحديث عن صفات المؤمنين، ودلائل الإيمان في القسم الثاني منها فإنّ الهداية والإيمان من آثار الوحي، وبركات الرسالة أي أن القسم الثاني، وهو السلوك، مترتّب عن القسم الأول، وهو العقيدة والوحي.(8/60)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الشورى» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الشّورى» بعد سورة «فصّلت» ، ونزلت سورة «فصلت» بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الشورى» في هذا التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وتبلغ آياتها ثلاثا وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة: بيان اتفاق الرّسل على شرع الإسلام من أوّلهم إلى آخرهم، وإنذار من يخالفه بعذاب الدنيا والآخرة، وتبشير من يؤمن به بحسن الثواب فيهما. وبهذا تتّفق، هي والسورة السابقة، في ما جاء فيهما من الترهيب والترغيب، مع ما فيها من أخذهم بشيء من طريق الدليل، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.
اتفاق الرّسل على شرع الإسلام الآيات [1- 53]
قال الله تعالى: حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) فمهّد لذلك بأن الذي يوحي إلى الرسول (ص) وإلى الرسل قبله، إله واحد، هو العزيز الحكيم وذكر ما ذكر من سعة ملكه سبحانه، وعلوّه وعظمته جلّ جلاله،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/61)
وأنّ السماوات تكاد تتفطّر من خشيته، والملائكة يسبّحون بحمده وهدّد من يتخذ من دونه أولياء بأنه رقيب عليهم، وسيحاسبهم على شركهم ثم ذكر سبحانه أنه أوحى إليه قرآنا عربيا لينذر به أهل مكة، ومن حولهم بعذاب يوم القيامة، وهو اليوم الذي يجتمعون فيه، فيكون فريق منهم في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله تعالى، لجعلهم أمّة واحدة، ولكن مشيئته، سبحانه، اقتضت أن يدخل من يشاء في رحمته، وأن يحرم من يشاء منها ومن يحرمه منها لا يمكن أن يدخله فيها، ما يتخذه من وليّ أو نصير ثم أنكر عليهم أن يتّخذوا من دونه أولياء لا يمكنهم نصرهم: لأنه سبحانه هو الوليّ وحده وذكر أن ما اختلفوا فيه من ذلك، فحكمه إليه في يوم القيامة، وليس لأحد من خلقه الحكم فيه، بل يجب تفويض كل شيء إليه، لأنه فاطر السماوات والأرض إلى غير هذا مما استدلّ به على وجوب تفويض الأمر إليه.
ثم انتقل السياق من ذلك التمهيد إلى المقصود، وهو أنه سبحانه شرع لهم، من الدين، ما وصّى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) وذلك ما اتفقت عليه شرائعهم، من الإيمان بالله واليوم الآخر، ونحوهما مما لا اختلاف فيه بينهم. وذكر السياق توبيخ المشركين أن يستبعدوا ما يدعوهم الله إليه من هذا الدين، الذي اتفق الرسل عليه، ثم ذكر أنّ أتباع أولئك الرّسل لم يتفرّقوا في ذلك الدين إلّا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا حكم الله بتأخير الفصل بينهم إلى يوم القيامة، لفصل بينهم في الدنيا ثم أمر الله سبحانه النبي (ص) أن يستمر في دعوته إلى هذا الدين، فلا يتّبع أهواءهم المتفرّقة، ولا يؤمن ببعض الكتاب دون بعض.
وليعدل بينهم في الحكم لأنّ إلهه وإلههم واحد، وكلّ واحد مسؤول عن عمله، والله هو الذي سيحكم بينهم، ثم ذكر أن الذين يحاجّون في دين الله من بعد اتفاق أولئك الرسل عليه، حجّتهم داحضة، وعليهم غضب منه جلّ جلاله، ولهم عذاب شديد وأنه، سبحانه، أنزل الكتاب بهذا الدين الحق، وأنزل الميزان، وهو العقل الذي يميّز بين الحق والباطل، فلا عذر لهم في تباطئهم عن الإيمان به، ولعلّ السّاعة تفاجئهم وهم على كفرهم، فيندمون حينما لا ينفع الندم ثم ذكر(8/62)
أن الذين لا يؤمنون بها يستعجلون بها على سبيل الاستهزاء، وأن الذين يؤمنون بها مشفقون أن تفاجئهم، وأنّه لا يؤخّرها إلّا لأنّه لطيف بعباده، يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. فمن كان يريد حرث الآخرة يزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا يؤته منها ويمهله ولا يعجّله، وما له في الآخرة من نصيب.
ثم انتقل السياق إلى توبيخهم، على ما شرّعوا لأنفسهم من الشرك وإنكار البعث، ونحو ذلك، مما زيّنه لهم شركاؤهم من الشياطين وهدّدهم سبحانه بأنّه لولا حكمه بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لعجّل بالقضاء بينهم وأنذرهم بأن لهم عذابا أليما على ما شرعوه من ذلك لأنفسهم، وبشّر المؤمنين بروضات الجنات التي أعدّها جلّت قدرته لهم، وانتقل السياق من هذا إلى توبيخهم، على أن ينسبوا الى النبي (ص) افتراء هذا الدين عليه، وذكر سبحانه أنّه لو يشاء ختم على قلبه، وتولّى هو محو الباطل وإحقاق الحق بآياته ولكنّه أراد أن يعذرهم بإرساله إليهم، رحمة بهم، ليتوب عن شركه من يتوب فيقبل توبته، ويستجيب دعاء المؤمنين ويزيدهم من فضله ومن يستمرّ على كفره بعد ذلك، فلهم عذاب شديد في دنياهم وآخرتهم ثم ذكر أنه في رحمته بهم يرزقهم بقدر، لأنّه، لو بسط لهم الرزق، لبغوا في الأرض وبيّن أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه، فينزل الغيث عليهم من بعد يأسهم منه، وينشر عليهم رحمته. وقد ذكر بعد هذا آياته ونعمه عليهم، وذكر ما يصيبهم في دنياهم، أو في ما ينعم به عليهم، ليبيّن أن ذلك قد يكون بما كسبت أيديهم ثم ذكر سبحانه أن ما يعطونه من الرزق في الدنيا لا قيمة له، وأن ما عنده خير وأبقى للمؤمنين الذين يتوكّلون عليه، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ويعفون عند غضبهم، إلى غير هذا مما ذكره سبحانه من صفاتهم ثم انتقل السياق من هذا إلى وعيد من يضلّ عن ذلك الدين القديم، فذكر سبحانه أنهم حين يرون العذاب، يتمنّون أن يردّوا ليؤمنوا به، إلى غير هذا مما ذكره من أحوالهم.
ثم ختم السورة بأمرهم أن يستجيبوا لربّهم فيما شرع لهم من ذلك الدين، من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له منه، ولا(8/63)
يكون لهم ملجأ من عذابه. فإن أعرضوا عن ذلك فليس على النبي (ص) شيء من إعراضهم، لأنه قام بما كلّف به من تبليغهم ثم ذكر السياق أن السبب في إعراضهم ما هم فيه من غرور وجهل. فإذا أصابتهم رحمة فرحوا بها وأبطرتهم، وإذا أصابتهم سيّئة بلغ الكفر مبلغه منهم ثم خطّأهم في غرورهم بما يملكون في دنياهم، لأن كلّ شيء ملك لله جلّ جلاله، وكل ما في أيدينا هبة منه وحده سبحانه يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً.
ثم انتقل السياق من ذلك إلى إثبات ما أنكروه من الوحي، بأنه ما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحيا أو من وراء حجاب، أو بوساطة ملك، وأنّه تعالى أوحى إلى الرسول (ص) روحا من أمره، وما كان الرسول (ص) يدري قبله ما الكتاب ولا الإيمان، وأنّه يهدي من ذلك إلى صراط مستقيم صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) .(8/64)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الشورى» «1»
1- يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً [الآية 49] .
قال البغوي «2» : كلوط (ع) .
2- وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) .
قال: كإبراهيم (ع) لم يولد له أنثى.
3- أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الآية 50] .
قال: كمحمّد (ص) 4- وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً [الآية 50] .
قال: كيحيى وعيسى (ع) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . في «معالم التنزيل» 7/ 383. بهامش «ابن كثير» .(8/65)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الشورى» «1»
1- قال تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الآية 34] .
أي: يهلكهنّ.
أقول: آثرت أن أقف على هذا الفعل الذي لا نعرف منه في اللغة المعاصرة إلّا الوصف وهو «الموبقات» ، والموبقات في استعمال المعاصرين الأعمال الشائنة كالزّنى ونحوه.
2- وقال تعالى: وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) .
والنكير: الإنكار، أي: ما لكم من مخلّص من العذاب.
والغالب في المصدر على «فعيل» أن يدل على صوت نحو الصريخ والعويل والهديل، وغير ذلك كثير.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/67)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الشورى» «1»
قال تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الآية 13] .
على التفسير كأنه سبحانه قال «هو أن أقيموا الدين» على البدل.
وقال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الآية 15] أي: أمرت كي أعدل.
وقال سبحانه: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الآية 23] استثناء خارج. يريد، والله أعلم، إلّا أن أذكر مودة قرابتي.
وأمّا يُبَشِّرُ [الآية 23] من «بشّرته» و «أبشرته» ، وقال بعضهم «أبشره» خفيفة، فذا من «بشرت» «2» وهو في الشعر. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد السادس والستون بعد المائتين] :
وقد أروح إلى الحانوت أبشره بالرّحل فوق ذرى العيرانة الأجد قال أبو الحسن «3» «أنشدني يونس «4» هذا البيت هكذا. لذلك ف (الذي يبشر) اسما للفعل كأنه «التبشير» ، كما قال تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر/ 94] أي اصدع بالأمر. ولا يكون أن تضمر فيها الباء، وتحذفها لأنك لا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في التيسير 195 الى غير نافع، وعاصم، وابن عامر، وفي البحر 7/ 515 إلى عبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجحدري، والأعمش، وطلحة، في رواية، والكسائي وحمزة أمّا قراءة التضعيف «يبشر» وعليها رسم المصحف، فهي في التيسير إلى نافع، وعاصم، وابن عامر، وفي البحر إلى الجمهور.
(3) . هو الأخفش المؤلف.
(4) . هو يونس بن حبيب، وقد مرت ترجمته.(8/69)
تقول: «كلّم الذي مررت» وأنت تريد «به» .
وقوله تعالى:
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 26] أي: استجاب فجعلوا الفاعلين.
وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) .
أمّا اللام التي في وَلَمَنْ صَبَرَ (43) فلام الابتداء، وأمّا ذلك فمعناه، والله أعلم، إن ذلك منه لمن عزم الأمور.
وقد تقول: «مررت بدار الذراع بدرهم» أي: «الذراع منها بدرهم» ، و «مررت ببرّ قفيز بدرهم» أي: «قفيز منه» وأمّا ابتداء «إنّ» في هذا الموضوع فكمثل قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة/ 8] .
وقال تعالى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ (45) [الآية 45] بجعل (الطرف) العين كأنه سبحانه قال «ونظرهم من عين ضعيفة» ، والله أعلم. وقال يونس: إنّ مِنْ طَرْفٍ مثل: «بطرف» كما تقول العرب: «ضربته في السّيف» و «بالسّيف» «1» .
وقال تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) لأن الله تبارك وتعالى، يتولّى الأشياء دون خلقه يوم القيامة، وهو سبحانه في الدنيا قد جعل بعض الأمور إليهم، من الفقهاء والسلطان وأشباه ذلك «2» .
__________
(1) . نقله في الجامع 16/ 46.
(2) . نقله في إعراب القرآن 3/ 1049.(8/70)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الشورى» «1»
قال سبحانه: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) .
- ما الحكمة من قوله تعالى يُوحِي والوجه الظاهر أن يقال:
«أوحى» ؟
إنما قال ذلك ليدل على أن إيحاء مثل القرآن الكريم من عادته سبحانه.
وقال: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 16] .
- الوجه المعهود ان يقال «حجتهم مدحوضة» ، أي ضعيفة وزالقة وزالّة وغير متماسكة، وأن يقال: «شبهتهم داحضة» ، فلم قال تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ.
إنما قال تعالى: داحِضَةٌ ليكون أبلغ في ضعف سنادها، ووهاء عمادها، فكأنها هي المبطلة لنفسها من غير مبطل أبطلها، لظهور أعلام الكذب فيها، وقيام شواهد التهافت عليها.
وإنما قال سبحانه: حُجَّتُهُمْ ولم يقل: «شبهتهم» لاعتقادهم أنّ ما أدلوا به حجّة، ولتسميتهم لها بذلك في حال النزاع والمناقلة.
وقال جلّ من قائل: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) .
- لم عبر سبحانه بالحرث عن نفع الدنيا ونفع الآخرة؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أضواء على متشابهات القرآن» ، للشيخ خليل ياسين، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1980 م.(8/71)
لأن حرث الآخرة والدنيا كدح الكادح لثواب الآجلة، وحطام العاجلة، وذلك لأن الحارث المزدرع إنّما يتوقع عاقبة حرثه فيجني ثمرة غراسه، ويفوز بعوائد ازدراعه، كما قال الشريف الرضي.
ولم قال سبحانه: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الآية 20] ولم يقل، منه؟
إنما صح تأنيث الضمير لأن لفظة «حرث» في معرض الحذف، ويصح حلول ما بعدها محلها، فيكون الضمير عائدا على الجزء الثاني وهو «الدنيا» فكأنه سبحانه قال «من كان يريد الدنيا نؤته منها» ويدل عليه قول ابن مالك في منظومته:
وربما أكسب ثان أوّلا ... تأنيثه إن كان حذف موهلا
وكما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) [الأعراف] أي إن الله قريب.
وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) .
- ما هي كلمة الفصل التي منعت من القضاء بينهم؟
كلمة الفصل هي القضاء السابق، بتأجيل العقوبة لهذه الأمة، الى الآخرة، وهي الكلمة الواردة في [يونس/ 19] و [هود/ 110] ، و [طه/ 129] : وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ.
وقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الآية 23] .
- من هم هؤلاء وما هي مودتهم، وما معنى فِي الْقُرْبى؟
أما قوله تعالى فِي الْقُرْبى فمعناه أنهم جعلوا مكانا للمودّة ومقرّا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، ولي فيهم هوى وحبّ. وأما أهل القربى، فهم عليّ وأبناؤه الميامين عليهم السلام، وفي ذلك تواترت الأحاديث عن الرسول (ص) نذكر بعضا منها تيمّنا، عن الكشاف، والصواعق المحرقة وغيرهما.
روي أنه لما نزلت، قيل يا رسول الله: من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم، قال هم علي وفاطمة وابناهما.
وورد عنه (ص) أنّه قال: ألا ومن(8/72)
مات على حبّ آل محمّد فتح له الى الجنة بابان ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنّة. يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
يا آل بيت رسول الله حبّكم ... فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفخر أنّكم ... من لم يصلّ عليكم لا صلاة له
وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الآية 25] .
- ما موقع كلمة عَنْ هنا؟
كلمة عَنْ هنا بمعنى «من» أي من عباده، تقول أخذ فلان العلم عن فلان أي منه.
وقال: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ [الآية 29] .
وقال جل وعلا: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) .
- ما وجه نصب وَيَعْلَمَ مع أنّ ما قبلها مجزوم؟
إنّما كان النصب للعطف على تعليل محذوف، فكأنه سبحانه قال لينتقم منهم، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا.
وقال سبحانه: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الآية 40] .
- لم سمّي الجزاء سيئة وهو ليس بسيّئة؟
- ذلك من باب الازدواج، كما في قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة/ 194] . وقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل/ 126] .
وقال: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الآية 51] .
- ما المراد بالحجاب في هذه الآية الكريمة؟
المراد بالحجاب البعد والخفاء وعدم الظهور، والعرب تستعمل لفظ الحجاب في ما ذكرناه، فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه واستبطأ فطنته، بيني وبينك حجاب، وتقول للأمر الذي تستبعده وتستصعب طريقه، بيني وبينه حجاب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك وعليه يكون معنى الآية:
أنه تعالى لم يكلّم البشر إلّا وحيا بأن(8/73)
يخطر في قلوبهم، أو من وراء حجاب بأن ينصب لهم أدلّة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه، فيكون من حيث نصبه للدلالة على ذلك، والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما للعباد بما يدل عليه وجعله تعالى من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا، كما يسمع الخاطر، فالحجاب كناية عن الخفاء.
وقال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الآية 52] .
- ما المراد بالكتاب والإيمان في هذه الآية الكريمة؟
المراد بالكتاب القرآن، وبالإيمان التصديق بالله سبحانه وبرسوله معا، فالنبي (ص) مخاطب بالإيمان أي بالتصديق بالله وبرسالة نفسه، كما أنّ أمّته مخاطبة بتصديقه، ولا شكّ في أنّه، قبل البعث، لم يكن يعلم أنه رسول الله، وما علم ذلك إلا بالوحي، ويستقيم نفي الإيمان بالمعنى المركّب من التصديق بالله وبرسالة نفسه، وليس المراد بالإيمان التصديق بالله فقط.
- ولم قال تعالى: مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ (52) والوجه الظاهر أن يقال «وما الإيمان» ؟
تقدير الآية: ما كنت قبل البعث تدري ما الكتاب، ولا ما الإيمان.(8/74)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الشورى» «1»
في قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الآية 13] استعارة. والمراد بإقامة الدين إعلان شعاره، وإعلاء مناره، والدّوام على اعتقاده، والثبات على العمل بواجباته.
وقد مضى الكلام على نظائر هذه الاستعارة في ما تقدم.
وفي قوله سبحانه: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 16] استعارة.
و «الدحض» : الزّلق. فكأنه تعالى قال:
حجّتهم ضعيفة غير ثابتة، وزالّة غير متماسكة، كالواطئ الذي تضعف قدمه، فيزلق عن مستوى الأرض، ولا يستمر على الوطء. وداحضة هاهنا بمعنى مدحوضة. وإذا نسب الفعل إليها في الدّحوض كان أبلغ في ضعف سنادها، ووهاء عمادها، فكأنها هي المبطلة لنفسها، من غير مبطل أبطلها، لظهور أعلام الكذب فيها، وقيام شواهد التهافت عليها. وأطلق تعالى اسم الحجّة عليها، وهي شبهة، لاعتقاد المدلي بها أنّها حجّة، وتسميته لها بذلك في حال النزاع والمناقلة.
وأيضا، فإنّ المتكلّم بها، لمّا أوردها مورد الحجة، وأسلكها طريقها، وأقامها مقامها، جاز أن يطلق عليها اسمها.
وفي قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) استعارة.
والمراد بحرث الآخرة والدنيا، كدح
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/75)
الكادح لثواب الآجلة، وحطام العاجلة، فهذا من التشبيه العجيب، والتمثيل المصيب. لأنّ الحارث المزدرع، إنّما يتوقع عاقبة حرثه، فيجني ثمرة غراسه، ويفوز بعوائد ازدراعه.
وقيل معنى: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي نعطيه بالحسنة عشرا، إلى ما شئنا من الزيادة على ذلك. ومن عمل للدنيا دون الآخرة، أعطيناه نصيبا من الدّنيا دون الآخرة.
وفي قوله سبحانه: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) استعارة. وليس المراد أن هناك رحمة كانت مطويّة فنشرت، وخفيّة فأظهرت.
وإنما معنى الرحمة، هاهنا، الغيث المنزّل لإحياء الأرض، وإخراج النّبت. ونشره عبارة عن إظهار النفع به، وتعريف الخلق عواقب المصالح بموقعه.
وفي قوله تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الآية 45] استعارة. وقد أشرنا إليها فيما تقدّم، لمعنى جرّ إلى ذكرها. والمراد بذلك، أنّ نظرهم نظر الخائف الذليل، والمرتاب الظّنين. فهو لا ينظر إلا مسترقا، ولا يغضي إلا مشفقا. وهذا معنى قولهم: فلان لا يملأ عينيه من فلان. إذا وصفوه بعظم الهيبة له، وشدّة المخافة منه. فكأنّهم لا ينظرون بمتّسعات عيونهم، وإنّما ينظرون بشفافاتها «1»
من ذلّهم ومخافتهم.
وقد يجوز أن يكون الطّرف، هاهنا، بمعنى العين نفسها. فكأنه تعالى وصفهم بالنظر من عين ضعيفة، على المعنى الذي أشرنا إليه، أو يكون الطرف مصدر قولك: طرفت، أطرف، طرفا. إذا لحظت. فيكون المعنى أنّ لحظهم خفيّ، لأنّ نظرهم استراق، كما قلنا أوّلا، من عظيم الخيفة وتوقّع العقوبة.
__________
(1) . لعلها جمع شفافة، وهي بقيّة الشيء. [.....](8/76)
سورة الزّخرف(8/77)
المبحث الأول أهداف سورة «الزخرف» «1»
سورة الزخرف سورة مكيّة نزلت بعد سورة «الشورى» . وقد نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وقد سمّيت بسورة «الزخرف» ، لقوله تعالى فيها:
وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) .
أفكار السورة
تعرض هذه السورة جانبا ممّا كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات، ومن جدال واعتراضات، وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس، وكيف يقرّر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مواجهة الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلة الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كلّ زمان ومكان.
وقال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «الشورى» هو: «بيان إثبات القرآن في اللوح المحفوظ، وإثبات الحجّة والبرهان على وجود الصانع، والردّ على عبّاد الأصنام الذين قالوا:
الملائكة بنات الله سبحانه، والمنّة على الخليل إبراهيم (ع) بإبقاء كلمة التوحيد في عقبه، وبيان قسمة الأرزاق، والإخبار عن حسرة الكفار وندامتهم يوم القيامة، ومناظرة فرعون وموسى، ومجادلة عبد الله بن الزبعري للمؤمنين بحديث عيسى (ع) ، وادعاؤه أن
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/79)
الملائكة أحق بالعبادة من عيسى، ثم بيان شرف الموحّدين في القيامة، وعجز الكفار في جهنّم، وإثبات ألوهية الحق سبحانه في السماء والأرض، وأمر الرسول (ص) بالإعراض عن مكافأة الكفار» «1»
في قوله تعالى:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) .
فصول السورة
إذا تأملنا سورة الزخرف، وجدنا أنّه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- شبهات الكافرين
يشمل الفصل الأول الآيات [1- 25] . ويبدأ بالتنويه بشأن القرآن والوحي، وبيان أنّ من سنّة الله، جلّ جلاله، إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم، ولكنّ البشرية قابلت الرسل بالاستهزاء والسخرية، فأهلك الله المكذّبين.
والعجيب أن كفّار مكة كانوا يعترفون بوجود الله، ثم لا يرتّبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية، من توحيد الله وإخلاص التوجّه إليه، فكانوا يجعلون له شركاء يخصّونهم ببعض ما خلق من الأنعام.
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية، وردّ النفوس الى الفطرة، وإلى الحقائق الأولى فالأنعام من خلق الله، وهي طرف من آية الحياة، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا، وقد خلقها الله وسخّرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها، لا ليجعلوا له شركاء، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله، بينما هم يعترفون بأن الله، جل جلاله، هو الخالق المبدع، ثم هم ينحرفون عن هذه الحقيقة، ويتّبعون الخرافات والأساطير:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) .
وكانت الوثنية الجاهلية تقول: إنّ الملائكة بنات الله. ومع أنهم يكرهون مولد البنات لأنفسهم، فإنّهم كانوا يختارون لله البنات ويعبدونهنّ من
__________
(1) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1/ 421، مع تعديل يسير.(8/80)
دونه، ويقولون إنّنا نعبدهنّ بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهنّ. وكانت مجرد أسطورة ناشئة عن انحراف في العقيدة.
وفي هذه السورة يناقشهم القرآن بمنطقهم هم، ويحاجّهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح حول هذه الأسطورة التي لا تستند الى شيء على الإطلاق:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) .
ثم يكشف القرآن الكريم عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة، وهو المحاكاة والتقليد، وهي صورة زريّة، تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو، منساقا بدون تفكير.
ثم يبيّن القرآن، أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجّتهم مكرورة بدون تدبّر لما يلقى إليهم، ولو كان أهدى وأجدى، ومن ثمّ لا تكون عاقبتهم إلّا التدمير والتنكيل، انتقاما منهم وعقابا لهم:
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) .
2- مناقشة ومحاجة
تشتمل الآيات [26- 56] على القسم الثاني من السورة، وهو استمرار لمناقشة قريش في دعاويها. فقد كانت قريش تقول: إنها من ذريّة إبراهيم (ع) - وهذا حق- وإنها على ملّة إبراهيم (ع) - وهذا ادّعاء باطل- فقد أعلن إبراهيم (ع) كلمة التوحيد قوية واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، ومن أجلها هجر أباه وقومه، بعد أن تعرّض للقتل والتحريق، وعلى التوحيد قامت شريعة إبراهيم (ع) ، ثم أوصى بها ذريّته وعقبه، فلم يكن للشرك فيها أي خيط رفيع.
وفي هذا القسم من السورة يردّهم(8/81)
الى هذه الحقيقة التاريخية، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدّعون. ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي (ص) وقولهم كما ورد في التنزيل لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ، ويناقش قولتهم هذه، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصلية التي أقام الله عليها الحياة، والقيم الزائفة التي تتراءى لهم، وتصدّهم عن الحقّ والهدى. وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضيّة، يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله، بعد أن يطلعهم على علّة هذا العمى، وهو من وسوسة الشيطان.
ويلتفت السياق في نهاية هذا الدرس الى الرسول (ص) فيذكر تسلية الله تعالى له ومواساته إيّاه عن إعراضهم وعماهم، بأن الرسول (ص) ليس بهادي العمي أو مسمع الصّمّ، وسيلقون جزاءهم، سواء أشهد انتقام الله منهم، أم أخّره الله عنهم، ويوجّهه تعالى الى الاستمساك بما أوحى إليه فإنّه الحق الذي جاء به الرسل أجمعون فكلّهم جاءوا بكلمة التوحيد ثم يعرض، من قصة موسى (ع) ، حلقة تمثّل واقع العرب هذا مع رسولهم، وكأنّما هي نسخة مكررة تحوي الاعتراضات ذاتها التي يبدونها، وتحكي اعتزاز فرعون وملته بالقيم ذاتها، التي يعتز بها المشركون:
المال، الملك، الجاه، السلطان، مظاهر البذخ. وقد بيّن القرآن الكريم، فيما سبق، أنّها لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو شاء الله لأعطى هذه الأموال للكافر في الدنيا لهوانها على الله من جهة، ولأنّ هذا الكافر لا حظّ له في نعيم الآخرة، من جهة أخرى ولكنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك خشية أن يفتن الناس، وهو العليم بضعفهم، ولولا خوف الفتنة لجعل للكافر بيوتا سقفها من فضة، وسلالمها من ذهب، بيوتا ذات أبواب كثيرة، وقصورا فيها سرر للاتكاء، وفيها زخرف للزينة ...
رمزا لهوان هذه الفضة والذهب، والزخرف والمتاع، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن.
وهذا المتاع الزائل لا يتجاوز حدود الدنيا، ولكن الله يدّخر نعيم الآخرة للمتقين.
3- من أساطير المشركين
تشتمل الآيات [57- 89] على(8/82)
الدرس الأخير من سورة الزخرف، وفيها يستطرد السياق الى حكاية أساطير المشركين حول عبادة الملائكة، ويحكي حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية، لا بقصد الوصول الى الحق، ولكن مراء ومحالا.
فلما قيل: إنكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم، وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة، ثم عبدوها بذاتها وقيل لهم إنّ كل عابد وما يعبد من دون الله في النار ... لما قيل لهم هذا، ضرب بعضهم المثل بعيسى بن مريم (ع) ، وقد عبده المنحرفون من قومه، أهو في النار؟ وكان هذا مجرد جدل، ومجرد مراء.
ثم قالوا: إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى (ع) ، وهو بشر، فنحن أهدى منهم إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله، وكان هذا باطلا يقوم على باطل.
وبهذه المناسبة، يذكر السياق طرفا من قصة عيسى بن مريم (ع) ، يكشف حقيقته وحقيقة دعوته، واختلاف قومه من قبله ومن بعده.
ثم يهدّد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة. وهنا يعرض مشهدا مطوّلا من مشاهد القيامة، يتضمّن صفحة من النعيم للمتّقين، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين، ثم يبيّن إحاطة الله سبحانه بجميع ما يصدر عنهم، وتسجيل ذلك عليهم.
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) .
ثم تلطّف القرآن الكريم في تنزيه الله تعالى عمّا يصفون، فأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّه لو كان للرحمن ولد، لكان النبي (ص) أوّل العابدين له، ولكن الله جلّ جلاله منزّه عن اتّخاذ الولد، فهو سبحانه له الملكية المطلقة، للسماء والأرض، والدنيا والآخرة.
ثم يواجههم القرآن الكريم بمنطق فطرتهم، فهم يؤمنون بالله، فكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم، ويحيدون عن مقتضاه:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) .
وفي ختام السورة يتبدّى اتجاه الرسول (ص) لربّه، يشكو إليه كفرهم، وعدم إيمانهم:(8/83)
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) .
ويجيب عليه سبحانه في رعاية، فيدعوه الى الصفح والإعراض، فسيلقون جزاءهم المحتوم:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) .(8/84)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الزخرف» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الزخرف» بعد سورة «الشورى» ، ونزلت سورة «الشورى» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الزخرف» ، في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى منها: وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وتبلغ آياتها تسعا وثمانين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تنزيه الله تعالى عن الأولاد، وقد ذكر في السورة السابقة اتفاق الرسل على شريعة التوحيد، ولكنّ بعض أتباعهم أدخل عقيدة الولد في شرائعهم، فذكرت هذه السورة بعدها لتنزيه الله سبحانه عنها، وتبرئة هذه الشرائع منها هذا إلى ما فيها من أخذهم بالترهيب والترغيب وغيرهما مما تشبه به السورة السابقة أيضا.
التمهيد لتنزيه الله سبحانه عن الأولاد الآيات [1- 14]
قال الله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) فمهّد لذلك بالتنويه بشأن ما يتلى عليهم فيه، وذكر سبحانه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/85)
أنّه لا يصح أن يعرض عن إنذارهم لإسرافهم في شركهم، وأنه كم أرسل من نبي في الأولين، وأنهم كانوا أشدّ منهم بطشا، فلمّا استهزءوا بالرسل أهلكهم وجعلهم مثلا لمن بعدهم ثم انتقل السياق من ذلك الى إثبات ما ذكره من إسرافهم وعنادهم، فذكر سبحانه أنهم لو سئلوا: من خلق السماوات والأرض لقالوا: خلقهنّ العزيز العليم وذكر بعد هذا بعض ما أنعم به عليهم، ليعرفوا فضله، وينزّهوه عمّا لا يليق به، ويعتقدوا أنهم لا بد من رجوعهم إليه وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) .
إبطال بنوة الملائكة الآيات [15- 56]
ثم قال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) فذكر، جلّ وعلا، أنهم، بدل شكره سبحانه، وتنزيهه عمّا لا يليق به، قالوا عن الملائكة إنهم بناته، مع أنهم لا يرضون البنات لأنفسهم، وإذا بشّر أحدهم بما يضربه لله مثلا من البنات ظلّ وجهه مسودا من الحزن والغم ثم ذكر أنهم لا دليل لهم على عبادتها إلّا قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، وقولهم: إنّا وجدنا آباءنا يعبدونهم ونحن مقتدون بهم وردّ عليهم بأنّ من قبلهم من المشركين ذكر مثل هذا لرسلهم، فلم يفدهم شيئا وانتقم الله منهم فأهلكهم ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم براءة إبراهيم (ع) ممّا يشركون، وهو الأب الأعلى لهم، والإمام الذي يجب أن يكون قدوتهم، وكان قومه يعبدون الكواكب وسكّانها من الملائكة، فتبرّأ من عبادتهم، وشرع دين التوحيد لذريّته، ليرجعوا إليه جيلا بعد جيل ثم ذكر تعالى أنه متّع العرب من ذرّيّته حين انصرفوا عن شرعه، الى تلك العبادة الباطلة، فأمهلهم وأمدّ لهم، إلى أن أرسل إليهم رسولا منهم، وأنزل عليه القرآن ليدعوهم الى عبادته، فاستخفّوا به لأنه لم يكن من ذوي الرياسة فيهم، وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم من مكة أو الطائف وردّ عليهم سبحانه بأن ذلك فضله ورحمته يقسمهما كما يريد، وهو الذي قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، واقتضت حكمته أن يكون فيهم الأغنياء والفقراء لتنتظم بهذا أمور(8/86)
حياتهم، ورحمته خير من تلك الأموال التي يجعلونها مقياس الفضل بينهم.
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر، لجعل لمن يكفر به بيوتا سقفها من فضة، إلى غير هذا من زخرف الدنيا وزينتها: وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) ثم ذكر تعالى أن ذلك من إغواء الشيطان الذي اتخذوه قرينا لهم، وأنّهم سيندمون على استماعهم له، حين يرجعون الى ربّهم، ويتمنّون أن لو كان بينهم وبينه بعد المشرقين ثم ذكر سبحانه للنبي (ص) استحكام الجهل فيهم، وأنهم لا ترجى هدايتهم، وأنه إن ذهب به قبلهم فإنه سينتقم منهم في آخرتهم، وإن أراه ما يوعدون من العذاب في دنياهم فهو مقتدر عليهم.
ثم أمره أن يستمسك بما أوحي إليه من الإسلام والتوحيد وذكر أنه هو الدين الذي أرسل به الرسل قبله ثم خصّ موسى (ع) بالذكر من بينهم، لبقاء ظهور التوحيد في شريعته، أعظم من ظهوره في سواها فذكر ما كان من إرساله الى فرعون وقومه، وذكر ما كان من اغترار فرعون بملكه، واستهزائه بموسى (ع) لأنه لا يبلغ ما بلغه من المجد والسلطان في الحياة الدنيا، وأنه استخفّ قومه فأطاعوه فأغرقهم أجمعين: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) .
إبطال بنوة عيسى الآيات [57- 89]
ثم قال تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) فذكر أنهم اعتمدوا على النصرانية في عبادتهم الملائكة، فقالوا إن النصارى عبدوا عيسى (ع) واتخذوه ولدا لله، والملائكة خير منه بزعمهم الباطل وردّ عليهم سبحانه بأن عيسى ما هو إلا عبد مثلهم، وأنه لو يشاء سبحانه لجعلهم خلفا في الأرض منهم، ولم يسكنهم السماوات التي جعلتهم يبالغون في أمرهم ثم ذكر أن عيسى (ع) إنما ولد من غير أب، ليكون علامة على الساعة، ونهاهم عن الشكّ فيها، وأمرهم أن يتّبعوه ولا يسمعوا للشيطان فيما يزيّن لهم من عبادة غيره ثم ذكر أن عيسى (ع) جاء بما جاء به غيره من الرسل، فأمر بتقوى الله وعبادته، ولكنّ أتباعه(8/87)
اختلفوا بعده الى أحزاب في شريعته، وزعموا أنه ابن له، ثم هدّدهم على هذا بعذاب يوم القيامة، وبيّن أنها توشك أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، ويومئذ يعادي الأخلاء بعضهم بعضا إلا المتّقين ثم ذكر ما يحصل للمتّقين في ذلك اليوم، وذكر بعده ما يحصل للمجرمين فيه، الى أن ذكر في بيان استحقاقهم لما يحصل لهم: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) .
ثم ختمت السورة بالتلطّف في إبطال اتّخاذ الأولاد له تعالى، فأمر الله نبيّه أن يذكر أنه لو كان لله سبحانه ولد، كما يزعمون باطلا، لكان أوّل العابدين سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) . وأمره أن يتركهم في لهوهم ولعبهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ثم ذكر سبحانه أنه هو الذي ثبتت ألوهيته في السماء والأرض، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما، ولا يملك الذين يدعون، من الملائكة ونحوهم، الشفاعة لأحد، إلّا من شهد بالحق، فلا يصحّ أن يكونوا مع هذا العجز أولادا له ثم استبعد منهم أن يذهبوا إلى عبادتهم، مع علمهم بأنه جل جلاله، هو الذي خلقهم ثم ذكر أن مثل هؤلاء قوم لا يؤمنون: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) .(8/88)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الزخرف» «1»
1- وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) .
قال الضّحّاك، عن ابن عباس:
يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي من مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله الثقفي من الطائف، أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج عن قتادة: وعروة بن مسعود «2» .
ومن طريق العوفي، عن ابن عباس:
حبيب بن عمر بن عثمان «3»
الثقفي.
وأخرج عن مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل الثّقفي من الطائف «4» .
2- أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الآية 51] .
قال مجاهد: الإسكندرية. أخرجه ابن أبي حاتم.
3- وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الآية 57] .
الضارب له عبد الله بن الزّبعرى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطّباع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . انظر «تفسير الطبري» 25/ 40.
(3) . «تفسير الطبري» : «عمير» ، وكذا في «سيرة ابن هشام» 1/ 419.
(4) . رواه ابن إسحاق في «السيرة» 359- 360.(8/89)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الزخرف» «1»
1- قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) .
وقوله تعالى: مقرنين، أي:
مطيقين، يقال: أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة:
وأقرنت ما حمّلتني ولقلّما ... يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر
أقول: ومع استعمالنا للفعل «قرن» و «قارن» فإننا لا نعرف «أقرن» ولا نعرف هذا الاستعمال في العربية المعاصرة.
2- وقال تعالى: وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا.
والزخرف: زينة من كل شيء، والزخرف: الزينة والذهب.
أقول: وقد خصّص الزخرف في لغتنا، فصارت دلالته على الأشكال المنسّقة، المتقابلة، والمتقاطعة، في حفر الخشب وقطعه، وكذلك في المعادن.
3- وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً [الآية 36] .
وقرئ: ومن يعش بضم الشين وفتحها، والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشي. وإذا نظر نظر العشيّ ولا آفة به قيل: عشا، ونظيره: عرج، لمن به الآفة، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج.
4- وقال تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/91)
وقرئ سَلَفاً: جمع سالف كخدم جمع خادم، و (سلفا) ، بضمتين، جمع سليف، أي: فريق قد سلف، و (سلفا) جمع سلفة أي ثلّة قد سلفت.
والمعنى: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفّار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم، ونزولهم به لإتيانهم بمثل أفعالهم.
5- وقال تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) .
وقوله تعالى: يَصِدُّونَ، أي ترتفع لهم جلبة وضجيج، أي من الصديد وهو الجلبة، وقرئ: يصدّون من الصدود والتفسير واضح.
6- وقال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) .
وقوله تعالى: تُحْبَرُونَ، أي:
تكرمون وتسرّون.(8/92)
المبحث الخامس المعاني الغوية في سورة «الزخرف» »
قال تعالى: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) أي: «لأن كنتم» .
وقال تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الآية 13] فتذكيره متعلّق ب ما تَرْكَبُونَ (12) و (ما) هو مذكر، كما تقول: «عندي من النساء ما يوافقك ويسرك» وقد تذكّر «الأنعام» وتؤنث.
وقد قال تعالى في موضع: مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل/ 66] ، وقال جلّ شأنه في موضع آخر بُطُونِها [المؤمنون/ 21] .
وقال تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) تقول العرب «أنا براء منك» «2» .
وقال تعالى: وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) تقول العرب «مفاتح» و «مفاتيح» و «معاط» في «المعطاء» و «أثاف» من «الأثفيّة» . وواحد «المعارج» «المعراج» ولو شئت قلت في جمعه «المعاريج» .
وقرأ بعضهم قوله تعالى: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الآية 35] خفيفة منصوبة اللام «3»
وقرأ آخرون
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في مجاز القرآن 2/ 23، أنّها لغة أهل العالية وفي اللهجات 475 أنّها لغة حجازيّة.
(3) . هي في السبعة 586، الى القراء، عدا عاصما، وحمزة، وابن عامر، في رواية وفي التيسير 196 أبدل هشاما، بابن عامر وفي البحر 8/ 15 الى الجمهور.(8/93)
لَمَّا بتثقيل اللام ونصبها، وتضعيف الميم «1»
وزعم أنها في التفسير الأول «إلّا» وأنّها من كلام العرب.
وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الآية 36] وهو ليس من «أعشى» و «عشو» ، إنّما هو في معنى قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد السابع والستون بعد المائتين] :
إلى مالك أعشو الى مثل مالك كأنّ «أعشو» : أضعف، لأنه حين قال «أعشو الى مثل مالك» كان «العشو» : الضعف وحين قال: «أعشو إلى مثل مالك» أخبر أنه يأتيه غير بصير، ولا قوي. كما قال [من الطويل وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائتين] :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا «2» .
أي: متى ما تفتقر، فتقصد الى ضوء ناره، يغنك.
وقال تعالى: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الآية 53] بجمع «أساور» و «أسورة» وقرأ بعضهم (أساورة) «3»
__________
(1) . هي في السبعة 586 الى عاصم، وحمزة وابن عامر في رواية، وأبدل في التيسير 196 هشاما بابن عامر وأهمل في البحر 8/ 15 هشاما وابن عامر، وذكر زيادة الحسن وطلحة والأعمش وعيسى، وعلى هذه القراءة، رسم المصحف الشريف.
(2) . البيت ملفق من صدر للحطيئة عجزه هو:
تجد خير نار عندها خير موقد وعجز بيت لعبد الله بن الحر صدره هو:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 445 و 446 ومجالس ثعلب 467، والإنصاف 2/ 309 وشرح المفصل 7/ 53، و 10/ 20، و 2/ 66، و 4/ 478، و 7/ 45، و 53 والخزانة 3/ 660 والدرر 2/ 166 والمقاصد النحوية 4/ 439 ومجالس العلماء 220 وأمالي ابن الشجري 2/ 278 وديوان الحطيئة 161،
(3) . هي قراءة نسبت في معاني القرآن 3/ 35 الى يحيى بن وثاب، وفي الطبري 25/ 82، الى عامة قراء المدينة، والبصرة، والكوفة وفي حجّة ابن خالويه 295 الى القرّاء، إلّا عاصما، في رواية حفص، وفي الكشف 2/ 259، والتيسير 197، الى غير حفص وزاد عليه في الجامع 16/ 100 ابن مسعود، وأبيّا وفي البحر 8/ 23 الى الجمهور.
أمّا قراء أسورة، ففي معاني القرآن 3/ 35 الى أهل المدينة، والحسن واقتصر في الطبري 25/ 82 على الحسن وفي السبعة 587 الى عاصم، وفي حجّة ابن خالويه 295 الى عاصم، في رواية حفص وفي الكشف 2/ 259، والتيسير 197، والجامع 16/ 100، الى حفص وفي البحر 8/ 23، الى الحسن، وقتادة، وأبي رجاء، والأعرج، ومجاهد، وابن حيوة، وحفص. [.....](8/94)
بجعله جمعا للأسورة فكأنّه أراد:
«أساوير» ، والله أعلم، بجعل الهاء عوضا من الياء كما في «زنادقة» «1»
، بجعل الهاء عوضا من الياء التي في «زناديق» .
__________
(1) . نقله في الصحاح 2/ 690.(8/95)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الزخرف» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الآية 3] ولم يقل قلناه أو أنزلناه، والقرآن ليس بمجعول، لأنّ الجعل هو الخلق، ومنه قوله تعالى:
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام/ 1] وقوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) [القيامة] .
قلنا: الجعل أيضا يأتي بمعنى القول، ومنه قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [النحل/ 57] وقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [إبراهيم/ 30] أي قالوا ووصفوا، لا أنهم خلقوا كذلك هنا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الآية 45] والنبي (ص) ما لقيهم حتّى يسألهم؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: واسأل أتباع من، أو أمّة من أرسلنا من قبلك.
الثاني: أنه مجاز عن النظر في أديانهم، والبحث عن مللهم، هل فيها ذلك.
الثالث: أن النبي (ص) حشر له الأنبياء عليهم السلام ليلة المعراج، فلقيهم، وأمّهم في مسجد بيت المقدس، فلمّا فرغ من الصلاة نزلت عليه هذه الآية، والأنبياء حاضرون، فقال لا أسال قد كفيت، وقيل إنه خطاب له، والمراد به أمّته.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الآية 48] يعني الآيات التسع
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/97)
التي جاء بها موسى (ع) . فإن كان المراد به أن كلّ واحدة منهن أكبر من سواها، لزم أن يكون كل واحدة فاضلة ومفضولة وإن كان المراد به أنّ كلّ واحدة منهن أكبر من أخت معنية لها، فأيّتها هي الكبرى، وأيتها هي الصغرى؟
قلنا: المراد بذلك- والله أعلم- أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، ونظيره بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم مثل النّجوم التي يسري بها الساري فإن قيل: لم قال عيسى (ع) لأمّته كما ورد في التنزيل: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الآية 63] .
قلنا: كانوا يختلفون في ما يعنيهم من أمر الديانات، وفي ما لا يعنيهم من أمور أخرى، فكان يبيّن لهم الشرائع والأحكام خاصة. وقيل إن البعض هنا بمعنى الكل، كما سبق في سورة غافر في قوله تعالى: وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر/ 28] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) بعد قوله تعالى بَغْتَةً أي فجأة.
قلنا: الحكمة أنّ الساعة تأتيهم، وهم غافلون، مشغولون بأمور دنياهم، كما قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) [يس] فلولا قوله تعالى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) ، لجاز أن تأتيهم بغتة، وهم فطنون، حذرون، مستعدّون لها.
فإن قيل: لم وصف تعالى أهل النار فيها بكونهم مبلسين، والمبلس هو الآيس من الرحمة والفرج، ثم قال تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الآية 77] فطلبوا الفرج بالموت.
قلنا: تلك أزمنة متطاولة، وأحقاب ممتدة، فتختلف فيها أحوالهم، فيغلب عليهم اليأس تارة فيسكنون، ويشتدّ ما بهم من ألم العذاب تارة فيستغيثون.
فإن قيل: قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الآية 84] ظاهره يقتضي تعدّد الآلهة، لأنّ النكرة إذا أعيدت تعدّدت كقول القائل: له عليّ درهم ودرهم، وأنت طالق وطالق، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين؟
قلنا: الإله هنا بمعنى المعبود(8/98)
بالنقل، كما في قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام/ 3] فصار المعنى: وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود. والمغايرة ثابتة بين معبوديّته في السّماء، ومعبوديّته في الأرض، لأن العبوديّة من الأمور الإضافية، فيكفي في تغايرهما التغاير من أحد الطرفين، فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض، صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض، مع أن المعبود واحد.(8/99)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الزخرف» «1»
في قوله سبحانه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) استعارة. ويقال:
ضربت عنه وأضربت عنه بمعنى واحد.
وسواء قولك ذهبت عنه صفحا، وأعرضت عنه صفحا، وضربت وأضربت عنه صفحا، ومعنى صفحا هاهنا أي أعرضت عنه بصفحة وجهي.
والمراد، والله اعلم، أفنعرض عنكم بالذّكر، فيكون الذّكر مرورا بصفحه عنكم، من أجل إسرافكم وبغيكم؟ أي لسنا نفعل ذلك، بل نوالي تذكيركم لتتذكّروا، ونتابع زجركم لتنزجروا.
ولمّا كان سبحانه يستحيل أن يصف نفسه بإعراض الصفحة، كان الكلام محمولا على وصف الذّكر بذلك، على طريق الاستعارة.
وفي قوله سبحانه: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) استعارة. وقد مضى مثلها في ما تقدم، إلا أن هاهنا إبدال لفظة مكان لفظة. لأن ما مضى من نظائر هذه الاستعارة، إنما يرد بلفظ إحياء الأرض بعد موتها. وورد ذلك هاهنا، بلفظ الإنشار بعد الموت وهو أبلغ. لأن الإنشار صفة تختصّ بها الإعادة بعد الموت، والإحياء قد يشترك فيه ما يعاد من الحيوان بعد موته، وما يعاد من النبات والأشجار بعد تلبّده وجفوفه. يقال: قد أحيا الله الشجر.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/101)
كما يقال: قد أحيا البشر. ولا يقال: أنشر الله النبات، كما يقال:
أنشر الأموات.
وفي قوله سبحانه: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) استعارة: لأنّ الكلام الذي هو الأصوات المقطّعة، والحروف المنظومة، لا يجوز عليه البقاء. إنما المراد، والله اعلم، أن إبراهيم (ع) جعل الكلمة التي قالها لأبيه وقومه وهي قوله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) باقية في عقبه، بأن وصّى بها ولده، وأمرهم أن يتواصوا بها ما تناقلتهم الأصلاب، وتناسختهم الأدوار. وهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص والتوحيد. والله اعلم.
وقوله سبحان: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وهذا الكلام أيضا داخل في قبيل الاستعارة. لأن مسألة الرسل الذين درجت قرونهم، وخلت أزمانهم غير ممكنة. إنّما المراد، والله اعلم، واسأل أصحاب من أرسلنا من قبلك من رسلنا، أو استعلم ما في كتبهم، وتعرّف حقائق سننهم. وذلك على مثال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (82) [يوسف/ 82] .
وقال بعضهم: مسألة الرسل هاهنا بمعنى المسألة عنهم، عليهم السلام، وعمّا أتوا به من شريعة، وأقاموه من عماد سنّة. وقد يأتي في كلامهم:
اسأل كذا، أي اطلبه، واسأل عنه.
قال سبحانه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) [الإسراء/ 34] أي مسؤولا عنه.
وقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) أي سئل عن قتلها، وطلب بدمها. فكأنه تعالى قال لنبيه (ع) : واسأل عن سنن الأنبياء قبلك، وشرائع الرسل الماضين أمامك، فإنك لا تجد فيها إطلاقا عبادة لمعبود إلا الله سبحانه. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير.(8/102)
سورة الدّخان(8/103)
المبحث الأول أهداف سورة «الدخان» «1»
سورة «الدخان» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكة، بعد الإسراء، وقبيل الهجرة، وآياتها 59 آية، نزلت بعد سورة «الزخرف» . وقد سميت سورة «الدخان» لقوله تعالى فيها:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) .
أفكار السورة
قال الفيروزآبادي: معظم ما ترمي إليه سورة الدخان هو:
نزول القرآن في ليلة القدر، وآيات التوحيد، والشكاية من الكفار، وحديث موسى (ع) وبني إسرائيل وفرعون، والرد على منكري البعث، وذلّ الكفار في العقوبة، وعز المؤمنين في الجنة، والمنّة على الرسول (ص) بتيسير القرآن على لسانه، في قوله تعالى:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) .
فضل السورة
سورة الدخان سورة يكثر المسلمون قراءتها، خصوصا ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر في رمضان، وليلة الجمعة. وهي تبدأ ببيان أن القرآن أنزل من السماء في ليلة مباركة، يحمل الرحمة والهدى من رب العالمين ثم تنذر المشركين بالعذاب، وتذكر طرفا من قصة موسى (ع) مع فرعون، يعقبه
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/105)
مشاهد القيامة، وفيها نعيم المتقين، وعقاب المشركين.
ومن السنّة قراءة سورة الدخان ليلة الجمعة لتثبيت الإيمان وتقوية اليقين بقدرة الله رب العالمين. قال رسول الله (ص) : «من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له» «1» .
سياق السورة
سورة الدخان سريعة الإيقاع، قصيرة الفواصل، لها سمات السور المكية، إذ تشتمل على صور عنيفة متقاربة، ونذر متكررة، تشبه المطارق التي تقع على أوتار القلب البشري. «ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تشد إليه خيوطها جميعا، سواء في ذلك القصة، ومشهد القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة، فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري، واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة، كما يبثها هذا القرآن في القلوب» «2» .
تبدأ السورة بهذه الآيات القصيرة المتلاحقة، المتعلقة بالكتاب والإنذار والرسالة والهداية:
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) .
ثم تعريف للناس بربهم: رب السماوات والأرض وما بينهما، وإثبات الوحدانية لله المحيي المميت، ربّ الأولين والآخرين.
ثم أعرض السياق عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) .
ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) .
ثم ذكر ما يكون من دعائهم لله أن يكشف عنهم العذاب، وإعلانهم
__________
(1) . في حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي 148 «هذا الحديث أخرجه الترمذي، وليس موضوعا» .
(2) . في ظلال القرآن، بقلم سيد قطب 24/ 105.(8/106)
الاستعداد للإيمان في وقت لا يقبل منهم فيه إيمان.
وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد، وهو الآن عنهم مكشوف فلينتهزوا الفرصة، قبل أن يعودوا الى ربهم، فيكون ذلك العذاب المخيف.
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) .
ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب، ومشهد البطشة الكبرى والانتقام، ينتقل بهم السياق الى مصرع فرعون وملّته، يوم جاءهم رسول كريم، يدعوهم الى الإيمان بالله تعالى، فأبوا أن يستجيبوا لدعوته، وهمّوا بالانتقام من موسى (ع) فأغرقهم سبحانه، وتركوا وراءهم الجنات والزروع، والفاكهة والمقام الكريم، يستمتع بها سواهم، ويذوقون هم عذاب السعير.
وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود السياق الى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة، وإنكارهم للبعث وقولهم، كما ورد في التنزيل:
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) .
ليذكّرهم، بأنهم ليسوا أقوى من قوم تبّع الذين هلكوا لإجرامهم. ويربط السّياق بين البعث، وحكمة الله، جلّ وعلا، في خلق السماوات والأرض، فلم يخلقهما عبثا، وإنما لحكمة سامية، هي أن تكون الدنيا للعمل والابتلاء، والآخرة للبعث والجزاء.
ثم يحدثهم عن يوم الفصل الذي هو مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. وهنا يعرض السياق مشهدا عنيفا لعذاب المكذّبين:
إنهم يأكلون من شجرة مؤلمة طعامها مثل درديّ «1»
الزيت المغلي- وهو المهل- يغلي في البطون كغلي الجحيم، ويشدّ المجرم شدّا في جفوة وإهانة، ويصبّ فوق رأسه من الحميم الذي يكوي ويشوي.
ومع الشدّ والجذب، والدفع والعتل والكيّ، التأنيب والإهانة، جزاء الشكّ والتكذيب بالبعث والجزاء:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) .
وفي الجانب الآخر من ساحة
__________
(1) . درديّ الزيت: ما رسب أسفل الزيت.(8/107)
القيامة، نجد المتّقين في مقام أمين، يلبسون الحرير الرقيق وهو السندس، والحرير السميك وهو الإستبرق، ويجلسون متقابلين يسمرون ويتمتعون بالحور العين، وبالخلود في دار النعيم.
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) .
ثم يأتي الختام يذكّرهم بنعمة الله سبحانه في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي، الذي يفهمون كلامه ويدركون معانيه، ويخوّفهم العاقبة والمصير، في تعبير ملفوف، ولكنه مخيف.
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) .(8/108)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الدخان» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الدخان» بعد سورة «الزخرف» ، ونزلت سورة «الزخرف» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الدخان» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وتبلغ آياتها تسعا وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة، بيان أن ما أنذر به المشركون، في آخر السورة السابقة، قد صار قريبا، وأصبح وقوعه مرتقبا، وأوشك دخانه أن يملأ آفاق السماء ولهذا جاءت هذه السورة بعد سورة الزخرف، لما بينهما من هذه المناسبة الظاهرة.
إنزال يوم العذاب الآيات [1- 59]
قال الله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فذكر سبحانه أنه أنزل يوم عذابهم إلى سماء الدنيا، في الليلة التي اختارها من السنة لتقدير الحوادث فيها، وإعلان ملائكته بها لتنفيذها. ثم انتقل السياق من هذا الى أمر النبي (ص) بارتقاب يوم تأتي السماء
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/109)
بدخانه. وهذا كناية عن ظهور شرّه، لأن الإنسان إذا اشتد خوفه أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كأنها مملوءة من الدخان. ثم ذكر السياق ما يكون من دعائهم له، سبحانه، أن يكشفه عنهم وإعلان استعدادهم للإيمان، وما يكون من استبعاده إيمانهم إذا كشفه عنهم، وقد جاءهم رسول مبين فأعرضوا عنه وقالوا: معلّم مجنون. ثم ذكر السياق أيضا أنه، سبحانه، يكشفه قليلا، ليظهر كذبهم في دعوى استعدادهم للإيمان، إذا كشفه عنهم، وأنه، جلّت قدرته، يبطش بهم بعد هذا بطشته الكبرى، وينتقم منهم. ثم أتبع ذلك بذكر ما حصل لفرعون وقومه لبيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم، وأن تلك سنته فيمن يكذّب رسله ولا يؤمن به. ثم عاد السياق إليهم فذكر أنهم ينكرون ذلك ويزعمون أنهم لا يبعثون ويطلبون، ممن يعتقد ذلك، أن يبعث لهم آباءهم إن كان صادقا في دعواه.
وأورد السياق ردّه سبحانه عليهم بأنهم ليسوا أقوى من قوم تبّع الذين أهلكهم لإجرامهم، وبأنه، جلّ وعلا، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما عبثا، وإنما خلق ذلك لحكمة لا تظهر إلّا بأن يكون هناك بعث بعد الموت، لأنه لا بدّ من يوم يفصل فيه بينهم أجمعين، فلا يغني فيه مولى عن مولى شيئا، وتكون شجرة الزّقّوم طعام الأثيم، ويكون المتّقون في مقام أمين.
ثم ختمت السورة بمثل ما بدأت به، فقال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) .(8/110)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الدخان» «1»
1- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الآية 3] .
قال عكرمة: ليلة القدر. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقيل: ليلة النّصف من شعبان «2» .
حكاه ابن عسكر «3» .
2- طَعامُ الْأَثِيمِ (44) .
قال سعيد بن جبير: هو أبو جهل.
أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 4/ 137: «ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روي عن عكرمة، فقد أبعد النّجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان» أي في سورة القدر.
(3) . والطبري في «تفسيره» 25/ 64، وصوّب أنها في ليلة القدر.
(4) . وأخرجه الطبري 25/ 78 عن ابن زيد.(8/111)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الدخان» «1»
1- وقال تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) .
أي: لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا الى وقت آخر، ولم يمهلوا إلى الآخرة. والإنظار: الإمهال.
2- وقال تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) .
أي: فقودوه بعنف وغلظة، وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل، فيجرّ الى حبس أو قتل. ومنه العتلّ، أي: الغليظ الجافي.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/113)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الدخان» «1»
قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً وقال: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الآية 6] بانتصابه على «إنّا أنزلناه أمرا ورحمة» في الحال.
وقال تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ [الآية 42] بجعله بدلا من الاسم المضمر في يُنْصَرُونَ (41) وإن شئت جعلته مبتدأ. وأضمرت خبره تريد «إلّا من رحم الله فيغني عنه» .
وقال تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) أي، والله أعلم، «جعلناهم أزواجا بالحور» ، ومن العرب من يقول «عين حير» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](8/116)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الدخان» «1»
إن قيل: الخلاف بين النبي (ص) ومنكري البعث إنما كان في الحياة بعد الموت لا في الموت، فلم قال تبارك وتعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى، ولم يقل إلا حياتنا، كما قال تعالى في موضع آخر: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [المؤمنون/ 37] وما معنى وصف الموتة بالأولى، كأنهم وعدوا موتة أخرى، حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الموتة الأولى؟
قلنا: لمّا وعدوا موتة تكون بعدها حياة نفوا ذلك، كأنهم قالوا: لا تقع في الوجود موتة تكون بعدها حياة، إلّا ما كنا فيه من موتة العدم، وبعثنا منه الى حياة الوجود. وقيل إنهم نفوا بذلك الموتة الثانية في القبر، بعد إحيائهم لسؤال منكر ونكير.
فإن قيل لم قال تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) والعذاب لا يصب، وإنما يصب الحميم، كما في قوله تعالى في موضع آخر: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) [الحج] ؟
قلنا: هو استعارة ليكون الوعد أهول وأهيب، ونظيره قوله تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) [الفجر] وقوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [البقرة/ 250] ، وقول الشاعر:
صبّت عليهم صروف الدّهر من صبب فإن قيل: لم وعد الله أهل الجنة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/117)
بلبس الإستبرق وهو غليظ الديباج في قوله تعالى: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مع أن لبس الغليظ من الديباج عند السعداء من أهل الدنيا عيب ونقص؟
قلنا: كما أن رقيق ديباج الجنة وهو السندس، ولا يماثل رقيق ديباج الدنيا إلا في الاسم فقط، فكذلك غليظ ديباج الجنة. وقيل السندس لباس السادة من أهل الجنة، والإستبرق لباس العبيد والخدم إظهارا لتفاوت المراتب.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف أهل الجنة: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الآية 56] مع أن الموتة الأولى لم يذوقوها في الجنة؟
قلنا: قال الزجاج والفراء «إلّا» هنا بمعنى سوى كما في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء/ 22] وقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود/ 108] .
الثاني: أن «إلّا» بمعنى بعد كما قال بعضهم في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. الثالث: أنّ السعداء، إذا حضرتهم الوفاة، كشف لهم الغطاء، وعرضت عليهم منازلهم ومقاماتهم في الجنة، وتلذّذوا في حال النزع بروحها وريحانها، فكأنهم ماتوا في الجنة، وهذا قول ابن قتيبة رحمه الله.(8/118)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الدخان» «1»
في قوله سبحانه: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) استعارة، وقد مضى الكلام على مثلها في بني إسرائيل. والمراد، والله أعلم، تبيين كل أمر حكيم في هذه الليلة، حتى يصير كفرق الصبح في بيانه، أو مفرق الطريق في اتضاحه. ومنه قولهم: فرقت الشّعر.
إذا خلّصت بعضه من بعض، وبيّنت مخطّ وسطه بالمدرى «2» أو بالإصبع.
وفي قوله سبحانه: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) استعارة. والمراد بالعلوّ هاهنا:
الاستكبار على الله سبحانه، وعلى أوليائه.
ويوصف المستكبر في كلامهم بأن يقال: قد شمخ بأنفه. وهذه الصفة مثل وصفه بالعلوّ. لأنّ الشامخ: العالي.
وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص/ 4] أي تجبّر فيها، واستكبر على أهلها. وليس يراد بذلك العلوّ الذي هو الصعود. وإنما يراد به العلوّ الذي هو الاستكبار والعتوّ. وضدّ وصفهم المستكبر بالعلوّ والتطاول، وصفهم المتواضع بالخشوع والتضاؤل.
وفي قوله سبحانه: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) .
استعارة. وقد قيل في معناها أقوال:
أحدها أن البكاء هاهنا بمعنى الحزن، فكأنه تعالى قال: فلم تحزن عليهم السماء والأرض بعد هلاكهم، وانقطاع
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . المدرى: المشط الذي يدرى به الرأس، ويمشط.(8/119)
آثارهم. وإنما عبّر سبحانه عن الحزن بالبكاء، لأن البكاء يصدر عن الحزن، في أكثر الأحوال. ومن عادة العرب أن يصفوا الدّار إذا ظعن عنها سكّانها، وفارقها قطّانها بأنها باكية عليهم، ومتوجعة لهم، على طريق المجاز والاتساع، بمعنى ظهور علامات الخشوع والوحشة عليها، وانقطاع أسباب النعمة والأنسة عنها.
ووجه آخر هو أن يكون المعنى: لو كانت السماوات والأرض من الجنس الذي يصح منه البكاء لم تبكيا عليهم، ولم تتوجّعا لهم، إذ كان الله سبحانه عليهم ساخطا، ولهم ماقتا.
ووجه آخر: قيل معنى ذلك: ما بكى عليهم من السماوات والأرض، ما يبكي على المؤمن عند وفاته، من مواضع صلواته، ومصاعد أعماله، على ما ورد الخبر به «1» .
وفي ذلك وجهان آخران يخرج بهما الكلام عن طريق الاستعارة، فأحدهما أن يكون المعنى: فما بكى عليهم أهل السماء والأرض، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة. والآخر أن يكون المعنى أنه لم ينتصر أحد لهم، ولم يطلب طالب بثأرهم.
ومضى في أشعار العرب: بكينا فلانا بأطراف الرماح، وبمضارب الصفاح.
أي طلبنا دمه، وأدركنا ثأره.
__________
(1) . روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) : «ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان: باب ينزل منه رزقه، وباب يدخل منه كلامه وعمله، فإذا مات فقداه، فبكيا عليه. ثم تلا قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ. انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج 16 ص 140 وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء. (المصدر نفسه) .(8/120)
سورة الجاثية(8/121)
المبحث الأول أهداف سورة «الجاثية» «1»
سورة «الجاثية» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة، بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وآياتها 37 آية نزلت بعد سورة «الدخان» ، ولهذه السورة اسمان:
سورة «الجاثية» لقوله تعالى:
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ.
وسورة «الشريعة» لقوله:
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) .
الغرض من السورة
تحمل سورة الجاثية الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به، وينكرون البعث بعد الموت، وقد دعت السورة إلى هذا تارة بالدليل، وتارة بالترهيب والترغيب، شأنها في ذلك شأن السورة السابقة، وشأن السورة التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض، كما وافقتها في الحروف التي ابتدأت بها، ولهذا ذكرت هذه السورة معها، وسميت مجموعة هذه السور بالحواميم، نسبة إلى بدايتها بقوله تعالى: حم (1) .
وقال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «الجاثية» هو: بيان حجة التوحيد، والشكاية من الكفار والمنكرين، وبيان النفع والضر
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/123)
والإساءة والإحسان «1» وبيان شريعة الإسلام والإيمان، وتهديد العصاة والخائنين من أهل الإيمان، وذم متابعي الهوى، وذل الناس في المحشر، ونسخ كتب الأعمال من اللوح المحفوظ، وتأبيد الكفار في النار وتحميد الرب المتعال بأوجز لفظ وأفصح مقال «2» ، في قوله جلّ وعلا:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) .
سمات السورة
لاحظنا أن سورة الدخان تتميز بقصر الآيات، وعنف الإيقاع فيها كأنه مطارق تقرع القلوب. وسورة الجاثية بجوارها تسير في يسر وهوادة وإيضاح هادئ وبيان دقيق عميق.
والله سبحانه خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق، وتارة باللمس الناعم الرفيق، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق، حسب تنوّعها هي وأخلافها. فمن الناس من ينفع معه الزجر والوعيد، ومنهم من يأسره التوجيه الهادي الرشيد، والقلب الواحد يتقلّب على حالات متعدّدة، والله يختار له ما يناسب، وهو سبحانه اللطيف الخبير، السميع البصير. وقد كان من دعاء النبي (ص) : «اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار، ثبّت قلبي على دينك» ، فقالت عائشة: يا رسول الله أراك تكثر من هذا الدعاء ... فقال النبي: يا عائشة، إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء.
منهج السورة
تصوّر سورة الجاثية جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنّتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتّباعهم للهوى اتّباعا كاملا، في غير ما تحرّج من حقّ واضح، أو برهان ظاهر. كذلك تصوّر كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة، الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى. وهو يواجهها بآيات الله القاطعة، العميقة التأثير والدلالة، ويذكّرهم بعذابه،
__________
(1) . لعلّه يقصد الإشارة إلى آيات الله الكونية في نفع العباد في الدنيا ثم في عقوبة الكفّار في الآخرة.
(2) . بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1/ 426.(8/124)
ويصوّر لهم ثوابه، ويقرّر لهم سننه، ويعرّفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.
درسان في السورة
سورة الجاثية وحدة في علاج موضوعها، وهذه الوحدة تشتمل على درسين:
الدرس الأول: يتناول أدلّة الشرك بالتفنيد، وأدلة الإيمان بالتوضيح والتأييد.
والدرس الثاني: يعرض عناد الكافرين في الدنيا، ثم يذكر أحوالهم في مشاهد القيامة.
شبهات الكفر وأدلة الإيمان
تبدأ سورة الجاثية بهذين الحرفين حم. والملاحظ أن هذه الأحرف التي تفتتح بها السور يتبعها عادة الحديث عن القرآن، مما يشير إلى أنها نزلت للتنويه به، وتلفت الأنظار إلى خصائصه المتميّزة، وتبرهن بذلك على أنه ليس من صنع البشر، وإنّما هو من عند الله:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) .
وتعرض أدلة الإيمان والتوحيد، وتلفت الأنظار إلى جلال الله سبحانه، ودلائل قدرته جلّ وعلا في السماء والأرض، والخلق والدوابّ، والليل والنهار، والمطر والزرع والرياح، حتى تأخذ على النفس أقطارها، وتواجهها بالحجج والبراهين ساطعة واضحة فتقول:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) .
ومن خلال الآيات التالية، نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة مكابرا في الحق، شديد العناد، سيّئ الأدب في حق الله وحق كلامه.
ْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(8) .
ونرى جماعة من الناس، ربما كانوا من أهل الكتاب، سيّئي التصوير والتقدير، لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة، ولا يحسّون الفارق(8/125)
الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات، وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
(21) .
ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه إلّا هواه فهو إلهه الذي يعبده، ويطيع كل ما يراه نرى هذا الفريق مصوّرا تصويرا فذا في هذه الآية التي تبدي العجب من أمره، وتشهّر بغفلته وعماه.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) .
أرأيت كيف تناولت هذه السورة الهادئة، أصناف المشركين وفرقهم المناوئة للدعوة؟ وربما كان هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك، كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة.
وعلى أي حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث، كذلك واجههم الله تعالى بآياته في الآفاق، وفي أنفسهم، وفي البر والبحر يقول سبحانه:
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) .
ويستغرق الدرس الأول من السورة الآيات [1- 23] .
عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين
يشمل الدرس الثاني من السورة الآيات [24- 37] .
ويبدأ بعرض أقوال المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب، ودعواهم أنّ الأيام تمضي، والدهر ينطوي، فإذا هم أموات، والدهر في ظنهم هو الذي ينهي آجالهم، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون وقد فنّد القرآن هذه الدعوى وبيّن أنّها لا تستند إلى حقيقة أو يقين، وإذا قرعتهم(8/126)
الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجة إلا أن يقولوا:
ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) .
والله سبحانه له حكمة في خلق الناس، فقد خلقهم للاختبار والابتلاء في الدنيا قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا.
والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت فلا عجب، إذا، في أن يحيي الناس ويجمعهم الى يوم القيامة، وهو سبحانه مالك السماوات والأرض، وهو القادر على الإنشاء والإعادة.
مشاهد القيامة
تعرض الآيات الأخيرة من سورة «الجاثية» مشاهد الآخرة ظاهرة ملموسة للعين، ومن خلال الآيات ترى المشركين وقد جثوا على الرّكب متميّزين أمّة أمّة في ارتقاب الحساب المرهوب.
ثم يأخذون كتابهم وقد سجّل كلّ شيء فيه، ونسخت فيه كلّ أعمالهم.
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) .
ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة على مدى الأجيال إلى فريقين اثنين: الذين آمنوا، وهؤلاء يدخلهم ربهم في رحمته والذين كفروا، وهؤلاء يلقون التشهير والتوبيخ جزاء عنادهم وعندئذ يظهر أمام الذين كفروا سيئات ما عملوا، ويحيق بهم المهانة والعذاب، ويسدل الستار عليهم، وقد أوصدت عليهم أبواب النار:
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) .
وهنا ينطلق صوت التحميد يعلن وحدة الربوبية في هذا الكون سمائه وأرضه، إنسه وجنّه، طيره ووحشة، وسائر ما فيه ومن فيه فكلّهم في رعاية رب واحد، له الكبرياء المطلقة في هذا الوجود، وله العزة القادرة والحكمة المدبرة:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) .(8/127)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الجاثية» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الجاثية» بعد سورة «الدّخان» ، ونزلت سورة «الدخان» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «الجاثية» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) وتبلغ آياتها سبعا وثلاثين آية
. الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به، وينكرون البعث بعد الموت. وقد دعي فيها إلى هذا تارة بالدليل، وتارة بالترهيب والترغيب، وشأنها في ذلك شأن السورة السابقة، وشأن السّور التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض، كما وافقتها في الحروف التي ابتدئت بها، ولهذا ذكرت هذه السورة معها.
إثبات وجود الله تعالى الآيات [1- 23]
قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) فاستدل سبحانه على وجوده بآياته في السماوات والأرض، وفي خلق الإنسان والدوابّ إلى غير هذا مما ذكره
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/129)
من الآيات، ثم أنذر بالهلاك من لا يؤمن بها، ويصرّ على الكفر مستكبرا بعد سماعها، وأخذ السياق في هذا إلى قوله تعالى: هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) .
ثم عاد السياق إلى الاستدلال على وجوده تعالى بتسخيره لنا البحر تجري الفلك فيه بأمره، ولنبتغي من فضله ونشكره على تسخيره ذلك لنا. وترقى السورة من تسخير ذلك لنا إلى تسخيره، جلّ وعلا، لنا كل ما في السماوات وما في الأرض جميعا، ثم أمر الذين آمنوا بهذا أن يغفروا للذين يكفرون به ولا يرجون أيام الله، فأخذهم في هذا بالترغيب بعد ذلك الترهيب، وهوّن عليهم أمر كفرهم بأنّ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ثم إلى ربهم مرجعهم فيحكم بينهم، وأتبعه ببيان مشابهة طريقتهم في ذلك لطريقة بني إسرائيل قبلهم، ليهوّن عليهم أيضا بذلك أمرهم، فذكر سبحانه أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة، إلى غير هذا مما أنعم به عليهم، فاختلفوا فيما آتاهم من ذلك بغيا وظلما، ثم ذكر للنبي (ص) أنه آتاه مثلهم شريعة من أمر الدين، وحذّره أن يختلف فيها كما اختلفوا باتّباع أهواء الجاهلين، فلا يغنوا عنه من عذابه شيئا، لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض، وهو وليّ المتقين وحدهم، وهذا تبصرة لمن يتبصّر، وهدى ورحمة لقوم يوقنون. ثم عاد السياق إلى تفصيل ما أجمله من الحكم بينهم، فذكر سبحانه أنه لا يسوّي في الحكم بين الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنه خلق السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) .
الرد على الدهرية الآيات [24- 37]
ثم قال تعالى: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) فذكر أنهم لا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا، ويزعمون أن الدهر هو الذي يهلكهم، وينكرون وجود إله يحييهم بعد موتهم(8/130)
ويحاسبهم. ورد عليهم بأنهم لا يستندون في ذلك إلى علم ودليل. فإذا قرعتهم الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجّة إلا أن يقولوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن الله يحييهم ثم يميتهم ثم يجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ثم ذكر، سبحانه، أنه يوم تقوم الساعة يخسر المبطلون، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم في رحمته، وأنّ الذين كفروا يقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) إلى غير هذا ممّا يقال لهم، وحينئذ تبدو لهم سيئات ما عملوا، ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ثم ذكر، جلّ جلاله، استحقاقه الحمد على ذلك، وختم السورة به: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) .(8/131)
المبحث الثالث لغة التنزيل في سورة «الجاثية» «1»
قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) .
أي: إنّا كنّا نستكتب الملائكة أعمالكم.
فالاستنساخ: طلب النسخ، أي:
الكتابة، لا كما هو شائع في اللغة المعاصرة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/133)
المبحث الرابع المعاني اللغوية في سورة «الجاثية» «1»
قال تعالى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
، [الآية 21] . من فسر «المحيا» و «الممات» للكفّار والمؤمنين فقد يجوز في هذا المعنى نصب «السواء» ورفعه: لأن من جعل «السواء» مستويا فينبغي له أن يرفعه:
لأنه الاسم، إلّا أن ينصب المحيا والممات على البدل. ونصب «السواء» على الاستواء.
وقال: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً [الآية 9] ثم قال: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً [الآية 10] .
فجمع لأنه قد قال: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) فهو في معنى جماعة مثل الأشياء التي تجيء في لفظ واحد، ومعناها معنى جماعة وقد جعل «الذي» بمنزلة «من» في قوله تعالى:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزمر] ف «الذي» في لفظ واحد. ثم قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزّمر] .
وقال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ [الآية 31] أي:
فيقال لهم: «ألم تكن آياتي تتلى عليكم» ودخلت الفاء لمكان «أمّا» .
وقال تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا (32) [الآية 32] أي: ما نظنّ إلّا ظنّا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(8/135)
المبحث الخامس لكل سؤال جواب في سورة «الجاثية» «1»
إن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
قلنا: وجه المطابقة أنهم ألزموا بما هم مقرّون به من أنّ الله تعالى هو الذي أحياهم أوّلا ثمّ يميتهم ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على جمعهم يوم القيامة، فيكون قادرا على إحياء آبائهم.
فإن قيل: لم أضيف الكتاب إلى الأمّة ثم أضيف إليه سبحانه، في قوله:
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا [الآية 28] وقوله: هذا كِتابُنا [الآية 29] .
قلنا: الإضافة تصح بأدنى ملابسة.
وقد صحت إضافة الكتاب إليهم، بكون أعمالهم مثبتة فيه. وصحت إضافة الكتاب إليه تعالى، بكونه مالكه الحقّ وكونه آمر الملائكة أن يكتبوا فيه أعمالهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/137)
المبحث السادس المعاني المجازية في سورة «الجاثية» «1»
في قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [الآية 18] استعارة، لأن الشريعة في أصل اللغة اسم للطريق المفضية إلى الماء المورود، وإنما سمّيت الأديان شرائع لأنها الطرق الموصلة إلى موارد الثواب، ومنافع العباد، تشبيها بشرائع المناهل التي هي مدرجة إلى الماء وموصلة إلى الرّواء.
وفي قوله سبحانه: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الآية 29] ، استعارة، وقد مضت الإشارة إلى نظيرها فيما تقدم.
والمعنى: الكتاب ناطق من جهة البيان، كما يكون الناطق من جهة اللّسان. وشهادة الكتاب ببيانه، أقوى من شهادة الإنسان بلسانه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/139)
سورة الأحقاف(8/141)
المبحث الأول أهداف سورة «الأحقاف» «1»
سورة الأحقاف سورة مكية، آياتها 35 آية، نزلت بعد سورة «الجاثية» .
سورة الإيمان والتوحيد
تعرض سورة الأحقاف قضية الإيمان بوحدانية الله، وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه، والإيمان بالوحي والرسالة، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب، من إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله، ومن ثمّ عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيّا، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما همّ بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وبعثة محمد (ص) والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء، هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط، فتبقى حية حارّة تبعث تأثّرا دائما بذلك الايمان.
وتسلك السورة بهذه القضية الى القلوب كلّ سبيل، وتوقّع فيها على كلّ وتر، وتعرضها في مجالات شتّى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله، لا قضية البشر وحدهم، فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/143)
القرآن، كما تذكر موقف بعض بني إسرائيل منه، وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا، كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا سواء بسواء.
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة، كما تطوف بهم في مصرع قوم «هود» ، وفي مصارع القرى حول مكة، وتجعل من السموات والأرض كتبا تنطق بالحق، كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء.
أربعة مقاطع
تشتمل سورة الأحقاف على أربعة عناصر متماسكة، كأنها عنصر واحد ذو أربعة مقاطع:
1- نقاش المشركين
يبدأ المقطع الأول بالحرفين حاء وميم، في قوله تعالى: حم (1) .
وهي بداية تكررت في ست سور سابقة تسمى بالحواميم. وهي: «غافر» ، و «فصّلت» ، و «الشورى» ، و «الزخرف» ، و «الدّخان» ، و «الجاثية» والسورة السابعة هي «الأحقاف» .
ونلحظ أن هذه السور السبع تبدأ بالحرفين حاء وميم، ثم تعقب بذكر الكتاب، مما يؤيد أن هذه الأحرف نزلت على سبيل التحدي لأهل مكة أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
وتشير سورة الأحقاف في بدايتها الى القرآن فتقول: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) . وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون وقيامه على الحق وعلى التقدير والتدبير. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الآية 3] فيتوافى كتاب القرآن المتلوّ، وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير.
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع، يأخذ السياق في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يا قوم على أساس من واقع الكون، ولا يستند الى حق من القول ولا مأثور من العلم. ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله (ص) قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) .
ثم يسوق، عز وجل، إنكارهم للحق وتطاولهم على الوحي، واتهامهم(8/144)
النبي (ص) بالكذب والافتراء. ويرد عليهم سبحانه بأن الأمر أجلّ من مقولاتهم الهازلة، وادّعاءاتهم العابثة.
إذ هو أمر الله العليم الخبير، يشهد ويقضي، وفي شهادته وقضائه الكفاية:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) .
ثم يبيّن أن محمدا (ص) ليس بدعا من الرسل فقد سبقه رسل كثيرون، فهو مبلغ عن الله سبحانه، وملتزم بوحي السماء. ويسوق حجة أخرى على صدق رسالته، تتمثل في موقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل، حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى (ع) . ويستطرد السياق في عرض تعلّاتهم ومعاذيرهم الواهية على هذا الإصرار، وهم يقولون عن المؤمنين، كما ورد في التنزيل: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الآية 11] .
ويشير إلى كتاب موسى (ع) من قبله، والى تصديق هذا القرآن له، والى وظيفته ومهمته: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) .
وفي نهاية المقطع الأول يصوّر لهم جزاء المحسنين، ويفسّر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم بشرطها، وهو الاعتراف بربوبيّة الله وحده، والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) ، فقد آمنوا بالله سبحانه، وأعلنوا ذلك، واستقاموا على منهج الايمان، فاستحقوا حياة كريمة في الدنيا ونعيما خالدا في الآخرة.
2- الفطرة السليمة والفطرة السقيمة
يحتوي المقطع الثاني على ست آيات هي الآيات [15- 20] ، وفيها حديث عن الفطرة في استقامتها وفي انحرافها، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم، وما تنتهي إليه حين تنحرف.
يبدأ بالوصيّة بالوالدين، وكثيرا ما ترد الوصيّة بالوالدين لاحقة للكلام عن العقيدة، لبيان أهمية الأسرة والعمل على ترابطها، وتذكير الإنسان بأصل نعمته ورعايته.(8/145)
وتذكّرنا الآيات بجهود الأم وفضلها في الحمل والولادة والرضاع.
«إنّ البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية، تسعى للالتصاق بجدار الرحم وهي مزوّدة بخاصّية تمزيق جدار الرحم الذي تلتصق به، فيتوارد دم الأم الى موضعها حيث تسبح هذه البويضة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات، وتمتصّه لتحيا به وتنمو وهي دائمة الأكل لجدار الرحم، دائمة الامتصاص لمادة الحياة، والأم المسكينة تأكل وتشرب، وتهضم وتمتص، لتصبّ هذا كلّه دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول.
وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر الى الجير، ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير، وهذا كله قليل من كثير.
ثم الوضع وهو عملية شاقة، ممزّقة، ولكن آلامها الهائلة كلّها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تنسى الأم حلاوة الثمرة، ثمرة تلبية الفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تفيض وتمتدّ، بينما هي تذوي وتموت.
ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية، وهي، مع هذا وذلك، فرحة سعيدة، رحيمة ودود. لا تملّ أبدا، ولا تراها كارهة لتعب هذا الوليد، وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء: أن تراه يسلم وينمو، فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد» «1» .
وقد تكررت وصية القرآن للأبناء ببرّ الآباء، لأنّ الوالدين قدّما كل شيء، كالنبتة التي ينمو بها النبات فإذا هي قشّة، وكالبيضة التي ينمو منها الكتكوت فإذا هي قشرة.
ومن الواجب رد الجميل والعرفان بالفضل لأهله، وأن يحسن الإنسان الى أصله وأن يدعو لهما، وهو نوع من تكافل الأجيال.
__________
(1) . في ظلال القرآن 26/ 21. [.....](8/146)
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) .
وهذا النموذج، الذي نشاهده في الآية، نموذج للفطرة المستقيمة التي ترعى أصلها وتتعهد ذريتها، وهذا النموذج يقبل الله عمله ويحشره في أصحاب الجنة.
أما النموذج الثاني، فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال، نموذج ولد عاق يجحد معروف والديه وينكر البعث والجزاء ويقول ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) .
وهذا النموذج جدير بالخسران: لقد خسر اليقين والإيمان في الدنيا، ثم خسر النّعيم والرّضوان في الآخرة.
وينتهي هذا المقطع من السورة بعرض هذين النموذجين ومصيرهما في النهاية ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة حيث يعرض المتكبّرون على النار وفي ذلك المشهد نرى الغائب شاهدا ماثلا يستحثّ النّفوس على الهدى، ويستجيش الفطر السليمة القوية لارتياد الطريق الواصل المأمون.
3- قصة عاد
يتناول المقطع الثالث من السورة قصة عاد وهم قوم نبي الله هود (ع) ، ويشمل الآيات [20- 28] .
والقصة هنا تخدم الفكرة وتؤيّدها:
فقد أنكر أهل مكة رسالة النبي محمد (ص) ، وأعرضوا عن دعوته.
فجاء هذا المقطع يذكّرهم بأشباههم، وينذرهم أن يصيبهم ما أصاب السابقين.
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الآية 21] . وأخو عاد هو هود عليه السلام، دعا قومه إلى التوحيد وحذّرهم من عذاب الله.
والأحقاف جمع حقف، وهو الكثيب المرتفع من الرّمال، وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرّقة في جنوب الجزيرة، يقال في حضرموت.
وقد أنذر أخو عاد قومه ودعاهم الى عبادة الله وحده، وحذرهم بطشه وانتقامه. ولم تؤمن عاد برسالة هود (ع) ، وقابلت دعوته بسوء الظن وعدم الفهم والتحدي والاستهزاء، واستعجال العذاب الذي ينذرهم به.
فلما رأوا العذاب، في صورة سحابة،(8/147)
ظنّوه مطرا مفيدا لهم: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) .
وتقول الروايات إنه أصاب القوم حرّ شديد، واحتبس عنهم المطر، ودخن الجوّ حولهم من الحرّ والجفاف، ثم ساق الله جلّ جلاله إليهم سحابة ففرحوا بها فرحا شديدا وخرجوا يستقبلونها في الأودية وهم يحسبون فيها الماء قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.
وجاءهم الرد بلسان الواقع بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها.. وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى كما جاء في صفتها: ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) [الذاريات/ 42] .
لقد اندفعت الريح تحقّق أمر الله، وتدمر كل شيء بأمر الله، فهلك القوم بجميع ما يملكون من أنعام ومتاع وأشياء، وبقيت مساكنهم خالية موحشة لا ديّار فيها ولا نافخ نار.
ويلتفت السياق الى أهل مكة يلمس قلوبهم، ويحرك وجدانهم، ويذكّرهم بأنّ الهالكين كانوا أكثر منهم تمكّنا في الأرض، وأكثر مالا ومتاعا وقوّة وعلما. فلم تغن عنهم قدرتهم ولا قوتهم، ولم يغن عنهم ثراؤهم. ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، بل أصمّوا قلوبهم عن سماع الحق، ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتّخذوها تقرّبا إلى الله.
وكذلك يقف المشركون في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم، فيقفون أمام مصيرهم هم أنفسهم، ثمّ أمام الخطّ الثّابت المطّرد المتّصل، خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغيّر، وخط السنّة الإلهيّة التي لا تتحوّل ولا تتبدّل. وتبدو شجرة العقيدة عميقة الجذور، ممتدّة الفروع، ضاربة في أعماق الزمان، سنّة واحدة، على اختلاف القرون واختلاف المكان.
لقد أهلك الله القرى التي كذّبت رسلها في الجزيرة، كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة، وثمود بالحجر في شمالها، وسبأ وكانوا باليمن، ومدين، وكانت في طريقهم الى الشام، وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف الى الشمال.(8/148)
وقد نوّع الله جلّ جلاله في آياته، لعلّ المكذّبين يرجعون إلى ربّهم، ويثوبون الى رشدهم.
قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) .
4- إيمان الجن
يتناول المقطع الرابع الحديث عن إيمان الجن ويشمل الآيات الأخيرة من سورة «الأحقاف» .
وقد تحدث القرآن عن الجن فذكر أنّ أصلهم من نار، وأنّ منهم الصالحين ومنهم الظالمين، وأن لهم تجمّعات معيّنة تشبه تجمّعات البشر في قبائل وأجناس، وأن لهم قدرة على الحياة على هذا الكوكب الأرضي، ولهم قدرة على الحياة خارج هذا الكوكب. وللجن قدرة على التأثير في إدراك البشر، والإيعاز بالشّرّ. قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) . ومن خصائص الجنّ أن يروا النّاس ولا يراهم النّاس، لقوله تعالى عن إبليس، وهو من الجن: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف/ 27] .
وقد تحدّثت الآيات الأخيرة من السورة عن إيمان الجن الذين استمعوا لهذا القرآن، فتنادوا بالإنصات، واطمأنّت قلوبهم إلى الإيمان، وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم الى الله سبحانه، ويبشّرونهم بالغفران والنجاة، ويحذّرونهم الإعراض والضلال.
وهذا الأمر في ظاهره الخبر عن إيمان الجن، ومع ذلك، فهو يصوّر أثر هذا القرآن في القلوب. فعند ما سمع الجن تلاوة القرآن قالوا: أنصتوا.
وعند ما تأثرت قلوبهم، انطلقوا الى قومهم يتحدثون عن القرآن والإيمان، ويعرضون دعوة الإسلام على قومهم.
وبفضل القرآن صاروا دعاة هداة، ملك القرآن عليهم نفوسهم، فانطلقوا يحملون الهداية والرحمة لقومهم، ثم يتحدثون عن الصلة الوثيقة بين القرآن والتوراة، بين محمد وموسى، صلوات الله وسلامه عليهما، وعلى الأنبياء والمرسلين كافّة، فالجميع من عند الله لهداية خلق الله:(8/149)
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) .
وهذا القول على لسان الجنّ يفيد ما بين الرسل جميعا من آصرة الأخوّة.
فربهم واحد، ودعوتهم واحدة، وفكرتهم أساسها هداية الناس ومحاربة الرذائل، والتعاون على الخير والمعروف. والعداء بين الأديان إنما جاء من سوء الفهم أو من تحريف الإنسان للوحي.
كذلك وردت على لسان الجن إشارة الى كتاب الكون المفتوح، ودلالته على قدرة الله الظاهرة في خلق السموات والأرض، الشاهدة لقدرته على الإحياء والبعث، وهي القضية التي يجادل فيها البشر، وبها يجحدون.
وبمناسبة البعث، يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يبدو فيه الكفار وهم يعترفون بالإيمان، بعد أن كانوا ينكرونه في الدنيا، ثم يقال لهم:
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) .
وفي ختام السورة توجيه للرسول (ص) بالصبر والمصابرة فإنها طريق الرسل، وما ينبغي للدّعاة إلّا الصبر والاحتمال.
مقصود السورة اجمالا
ذكر الفيروزآبادي أن معظم سورة الأحقاف هو:
«إلزام الحجّة على عبادة الأصنام، والإخبار عن تناقض كلام المتكبّرين، وبيان نبوّة سيّد المرسلين محمّد (ص) ، وتأكيد ذلك بحديث موسى (ع) ، والوصيّة بتعظيم الوالدين، وتهديد المتنعّمين والمترفين، والإشادة بإهلاك عاد، والإشارة إلى الدعوة، وإسلام الجن، وإتيان يوم القيامة فجأة» واستقلال لبث اللّابثين في قوله تعالى:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) .(8/150)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأحقاف» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الأحقاف» بعد سورة «الجاثية» ، ونزلت سورة «الجاثية» بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الأحقاف في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية [21] منها وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ.
وتبلغ آياتها خمسا وثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بالعذاب، وأخذهم مع هذا الدليل الى التصديق بالتوحيد والرسالة، وبهذا جمع فيها بين الأخذ بالترهيب والترغيب والأخذ بالدليل، كما جمع بين ذلك في السّور السّابقة، وهذا هو وجه المناسبة بينها وبين هذه السور.
إنذار الكفار بالعذاب الآيات [1- 35]
قال الله تعالى حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) فذكر سبحانه أنه خلق السماوات والأرض لحكمة وأجل ينتهي أمرهما بعد ذلك وليس خلقهما عبثا، فلا بدّ بعد انتهائهما من الحساب والعقاب، ولا بدّ من رسول ينذرهم بهذا المآل،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/151)
ولكنهم، لجهلهم وعنادهم، يعرضون عن هذا الإنذار، ويتمسّكون بما هم فيه من الشرك والضلال. ثم انتقل السياق من هذا الى تسجيل الجهل والعناد عليهم في شركهم وإعراضهم عما أنذروا به، فطلب منهم، سبحانه، أن يخبروه عمّا خلق شركاؤهم من الأرض، أو يأتوه بكتاب منزل أو دليل من العقل. وذكر، عزّ وجلّ، أنه لا أضلّ ممّن يدعو من دونه جمادا لا يستجيب له الى يوم القيامة، وإذا حشر الناس تبرّأ من عبادتهم له. ثم انتقل السياق من هذا الى إعراضهم عمّا أنذروا به وزعمهم أنه سحر أو كذب مفترى، فأمر الله تعالى نبيّه (ص) بأن يجيبهم بأنه لو كان قد افتراه لعاجله الله بعقربته، ولم يملكوا أن يدفعوا عنه شيئا. ثم ذكر شبهة أخرى لهم فيه، وهي قولهم في الذين آمنوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الآية 11] ، وأجاب عنها بأنه أنزل التوراة قبله إماما ورحمة لبني إسرائيل، وهذا كتاب أنزله لهم بلسان عربيّ إنذارا للذين ظلموا وبشرى للمحسنين، ثم بيّن عزّ وجلّ وجه كونه بشرى لهم بأنهم إذا قالوا: ربّنا الله ثمّ استقاموا، فلا خوف عليهم، وسيكونون من أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون. وذكر من أعظم ما يجزون عليه هذا الجزاء استجابتهم لوصيّته بالإحسان الى الوالدين، وقيامهم بشكره على ما أنعم به عليهم. ثم ذكر، سبحانه، حديث الذي أساء إلى والديه، وقد أنذراه بعذاب الآخرة إن لم يؤمن بالله تعالى، لأن ذكر الضد يدعو الى ذكر ضده، وليأخذ في الوعيد بعد الأخذ في الوعد، فذكر أن مثل هذا قد حقّ عليه القول بالعذاب في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، وسلكوا في الضلال مسلكهم وأن من هؤلاء الأمم قوم عاد بالأحقاف، فقد أنذرهم أخوهم هود فكذّبوه فأخذوا بريح دمّرت عليهم مساكنهم وكذلك ما حول مكة من القرى التي دمّرت باليمن والشام، فلم ينصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) .
ثم ذكر سبحانه من استجاب للإنذار من الجن، بعد أن ذكر من أعرض عنه من الإنس، ليحملهم على الاستجابة للإنذار مثلهم، فذكر حديث استماع نفر من الجن للقرآن وإيمانهم به، وأنهم انصرفوا الى قومهم منذرين،(8/152)
فأخبروهم بما سمعوا منه، ورغّبوهم في الإيمان وحذّروهم من الكفر: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) .
ثم ختم تعالى السورة بمثل ما بدأها به من الإنذار، فذكر قدرته جلّ وعلا على إحياء الموتى وحسابهم، وأنذر الكفار بعرضهم على النار، وأنه يطلب منهم أن يعترفوا بأنها الحق فيعترفون، فيقال لهم ذوقوا العذاب بما كنتم.
تكفرون: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) .(8/153)
المبحث الثالث مكنونات سورة «الأحقاف» «1»
1- وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 10] .
هو عبد الله بن سلام. أخرجه الطّبراني من حديث عوف بن مالك الأشجعي «2» بسند صحيح.
وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث سعد بن أبي وقّاص. ومن طريق العوفي، عن ابن عبّاس «3» .
وقاله مجاهد، وعكرمة، وآخرون.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . ونص الحديث كما في «مجمع الزوائد» 7/ 105 نورده لما له من الفوائد في الكشف عن عناد بني إسرائيل ورفضهم الانصياع لحكم الحق.
«عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي (ص) ، وأنا معه، حتى إذا دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله (ص) : «يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه» فأسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد، ثم ثلث، فلم يجبه أحد. فقال: «أبيتم، فو الله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفّي آمنتم أو كذّبتم ثمّ انصرف، وأنا معه، حتّى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد. فأقبل، فقال ذاك الرجل: أي رجل تعلمونني منكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدّك قبل أبيك. قال: فإنّي أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدون في التوراة. قالوا: كذبت ثمّ ردّوا عليه، وقالوا فيه شرّا. فقال رسول الله (ص) : «كذبتم لن نقبل منكم قولكم» . قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله (ص) ، وأنا، وابن سلام.
فأنزل الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(3) . انظر «تفسير الطبري» 26/ 7.(8/155)
2- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الآية 11] .
قال ابن عسكر: قيل: قائل ذلك بنو عامر وغطفان، والسّابقون: أسلم، وغفار، وجهينة، ومزينة.
وقيل: قاله مشركو قريش، حين أسلمت غفار.
وقيل: المراد بالسابقين: بلال، وعمار، وصهيب.
3- وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الآية 17] .
قال السّدّي: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدّيق، وأبيه أبي بكر، وأمّه أمّ رومان. أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج مثله عن ابن جريج.
وأخرج عن مجاهد أنه عبد الله بن أبي بكر، وأنكرت ذلك عائشة، كما أخرجه البخاري عنها وقالت: نزلت في فلان بن فلان. كذا في «الصحيح» «1» مكنيا.
4- قالُوا هذا عارِضٌ [الآية 24] .
قال ذلك: بكر بن معاوية، من قوم عاد. ذكره ابن عسكر، عن ابن جريج.
5- وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الآية 29] .
أخرج ابن أبي حاتم «2» عن ابن عباس قال: هم جنّ نصيبين.
وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا سبعة من أهل نصيبين.
ومن طريق سعيد بن جبير عنه قال:
كانوا تسعة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال:
__________
(1) . أخرجه البخاري في التفسير (4827) ، ونصه: «كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري» ، أي في سورة النور والتي فيها قصة الإفك وبراءة عائشة رضي الله عنها، وقول عائشة: نزلت في فلان بن فلان، جاءت، كما نص عليها الحافظ في «فتح الباري» 8/ 577 من رواية الإسماعيلي: للصحيح وفيه، وفي رواية الإسماعيلي «فقالت عائشة: كذب والله، ما نزلت فيه، والله ما أنزلت إلا في فلان بن فلان الفلاني. وفي رواية له: لو شئت أن أسمّيه لسمّيته، ولكن رسول الله (ص) لعن أبا مروان ومروان في صلبه» .
(2) . والطبري في «تسيره» 26/ 20.(8/156)
الجنّ الذين صرفوا الى النبيّ (ص) من الموصل، وكان أشرافهم من نصيبين.
وعن زرّ بن حبيش قال: كانوا تسعة أحدهم: زوبعة.
وعن مجاهد: أنهم كانوا سبعة:
ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين.
وذكر السّهيلي: أنّ ابن دريد ذكرهم خمسة.
وفي «تفسير إسماعيل بن أبي زياد» :
هم تسعة.
وقد أخرج ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل.
وأخرجه ابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة.
6- أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 35] .
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كلّ الرسل كانوا أولي عزم «1» .
وأخرج عن الحسن قال: هم من لم تصبه فتنة من الأنبياء.
وعن أبي العالية قال: هم نوح (ع) ، وهود (ع) ، وإبراهيم (ع) ، ومحمد (ص) رابعهم.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: هم نوح، وهود، وإبراهيم، وموسى، وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
وعن السّدّي قال: هم الذين أمروا بالقتال من الأنبياء وبلغنا أنّهم ستة:
إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.
وعن ابن جريج قال: ليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، ولكن إسماعيل، ويعقوب، وأيّوب.
وعن الضّحّاك، عن ابن عباس قال:
هم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمد (ص) .
__________
(1) . وأخرجه أيضا الطبري في «تفسيره» 26/ 24.(8/157)
المبحث الرابع لغة التنزيل في سورة «الأحقاف» «1»
1- قال تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الآية 4] .
الأثارة: البقيّة.
أقول: وهي قريبة من «الأثر» ، الذي فيه معنى ما بقي من الشيء.
2- وقال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الآية 9] .
البدع: البديع كالخفّ بمعنى الخفيف.
والمعنى: ما كنت بدعا من الرسل فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيّبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلّا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلّا بما أوحي إليهم.
3- وقال تعالى: قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [الآية 15] .
أي: ألهمني وأولعني به.
وتأويله في اللغة: كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك، وكفّني عمّا يباعدني عنك.
أقول: وهذا يدفعنا الى ان نقرأ قوله تعالى:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) [فصّلت] .
والمعنى: أن يحبس أوّلهم على آخرهم، وقيل يكفّون.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(8/159)
المبحث الخامس المعاني اللغوية في سورة «الأحقاف» «1»
قال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الآية 9] والبدع: البديع وهو:
الأوّل.
وقال وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [الآية 12] بالنّصب لأنه خبر معرفة.
وقال سبحانه: وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا [الآية 12] . بنصب اللسان والعربي لأنه ليس من صفة الكتاب، فانتصب على الحال أو على فعل مضمر، كأنّ السياق: «أعني لسانا عربيّا» وقال بعضهم: إن انتصابه على «مصدّق» جعل الكتاب مصدّق اللسان.
وقال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ [الآية 35] أي: ذاك بلاغ. وقال بعضهم: «إنّ البلاغ هو القرآن» وإنّما يوعظ بالقرآن. ثم قال بَلاغٌ أي:
هو بلاغ.
وأما قوله تعالى: وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الآية 33] فهو بالباء كالباء في قوله عزّ وجلّ وَكَفى بِاللَّهِ «2» وهي مثل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون/ 20] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . ورد هذا التعبير القرآني في سبعة عشر موضعا من الكتاب الكريم، أوّلها سورة النساء، الآية 6 وآخرها سورة الفتح، الآية 28.(8/161)
المبحث السادس لكل سؤال جواب في سورة «الأحقاف» «1»
لم يقول تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا [الآية 16] ، مع أن حسن ما عملوا يتقبّل عنهم أيضا؟
قلنا: أحسن بمعنى حسن، وقد سبق نظيره في سورة الروم.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الفريقين وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الآية 19] مع أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟
قلنا: الدّرجات الطبقات من المراتب مطلقا من غير اختصاص. الثاني أن فيه إضمارا تقديره: ولكل فريق درجات أو دركات مما عملوا، إلا أنه حذف اختصارا لدلالة المذكور عليه.
فان قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ؟
قلنا: طابقه من حيث إن قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعّدهم به، بدليل قوله تعالى بعده: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الآية 24] فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم، بل الله تعالى هو العالم به وحده.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف الريح: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الآية 25] وكم من شيء لم تدمّره؟
قلنا: معناه تدمّر كلّ شيء مرّت به
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(8/163)
من أموال قوم عاد وأملاكهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 31] ولم يقل يغفر لكم ذنوبكم؟
قلنا: لأنّ من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد ونحوها.(8/164)
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «الأحقاف» «1»
في قوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) . استعارة على أحد التأويلات. وهو أن يكون معنى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي شيء يستخرج من العلم بالكشف والبحث، والطّلب والفحص، فتثور حقيقته، وتظهر خبيئته، كما تستثار الأرض بالمحافر، فيخرج نباتها، وتظهر نثائلها «2» . أو كما يستثار القنيص من مجاثمه، ويستطلع من مكامنه.
وسائر التأويلات في الآية تخرج الكلام عن حيّز الاستعارة. مثل تأوّلهم ذلك على معنى خاصّة «3» من علم. أي بقيّة من علم، وما يجري هذا المجرى.
وأنشد أبو عبيدة للراعي «4» في صفة ناقة:
وذات أثارة أكلت عليها نباتا في أكمّته قفارا أي ذات بقيّة من شحم رعت عليها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . النثائل: جمع نثيلة ونثالة، وهي التراب المستخرج من الحفر.
(3) . الخاصة: البقيّة من الشيء. [.....]
(4) . هو الراعي النميري حصين بن معاوية. ولقب بهذا اللقب لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره، وكان معاصرا للشاعر جرير في العصر الأموي، ودخل معه في مهاجاة لأنه اتهمه بالميل الى الفرزدق. والبيت في «مقاييس اللغة» لأحمد بن فارس ج- 1 ص 56 بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. وقد ورد في المقاييس هكذا:
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتا في أكمّته تؤاما(8/165)
هذا النبات المذكور. وقوله قفارا أي خاليا من الناس، ليس به راعية غيرها، فهو أهنأ لها، وأرفق بها.
وقال صاحب «الغريب المصنف «1» » : يقال سمنت الناقة على أثارة، أي على سمن متقدّم قد كان قبل ذلك.
__________
(1) . هو أبو عبيد القاسم بن سلام، اشتغل بالحديث والفقه واللغة والأدب، وهو صاحب كتاب «غريب الحديث» وكتاب «غريب المصنف» المشار إليه هنا بالتعريف. وقد اشتغل في تأليفه أربعين عاما وتوفي سنة 223 هـ.
وأخباره في «وفيات الأعيان» و «الفهرست» و «طبقات الأدباء» و «تاريخ آداب اللغة العربية» وهناك «الغريب المصنف» أيضا لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني، كما في «كشف الظنون» والمقصود هنا كتاب أبي عبيد، كما في «المجازات النبوية» للمؤلف.(8/166)
سورة محمّد (ص)(8/167)
المبحث الأول
أهداف سورة «محمّد» (ص) «1»
هي سورة مدنية، نزلت بعد سورة «الحديد» ولها اسمان: سورة «محمد» (ص) ، وسورة «القتال» .
والقتال عنصر بارز في السورة، بل هو موضوعها الرئيس، فقد نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب، أي في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة، حيث كان المؤمنون يتعرّضون لعنت المشركين، وكيد المنافقين، ودسائس اليهود.
يمكن أن نقسم سورة «محمد» (ص) الى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يحرّض على قتال المشركين ويحثّ عليه، ويشمل الآيات [1- 15] .
القسم الثاني: يفضح المنافقين ويكشف نفاقهم، ويشمل الآيات [16- 30] القسم الثالث: يدعو المسلمين الى مواصلة الجهاد بالنفس والمال، ويشمل الآيات [31- 38] .
1- التحريض على قتال المشركين
تبدأ السورة بالهجوم على المشركين، وتبيّن هلاكهم وضياعهم وضلالهم. لقد سلب الله عنهم الهدى والتوفيق، فاتّبعوا الباطل وانحرفوا الى الضلال. أمّا المؤمنون، فقد آمنوا بالله ورسوله، فكفّر الله ذنوبهم ورزقهم صلاح البال وهدوء النفس ونعمة الرّضا واليقين.
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(8/169)
وشتان ما بين مؤمن راسخ الإيمان، صادق اليقين، معتمد على ربّ كريم حليم وبين كافر ضالّ يبيع الحق، ويشتري الباطل، ويفرّط في الإيمان والهدى، ويتبع الشرك والضلال.
ثم تحثّ السورة المسلمين على قتال المشركين، وقطع شوكتهم وهدم جبروتهم، وإزالة قوّتهم من طريق المسلمين: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ وهذا الضرب بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ. والإثخان شدّة التقتيل حتّى تتحطّم قوّة العدوّ وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع وعندئذ يؤسر من استأسر ويشدّ وثاقه، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً (4) ، أي إمّا أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل، وإمّا أن يطلق سراحهم مقابل فدية من مال أو عمل، أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له.
ولو شاء الله لانتقم من المشركين وأهلكهم كما أهلك من سبقهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم، ولكن الله أراد أن يختبر قوة المؤمنين وأن يجعلهم سبيلا لإعزاز الدين وإهلاك الكافرين. والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضيع أعمالهم فهم شهداء، عند الله يتمتّعون بجنات خالدة ونعيم مقيم، وأرواحهم في حواصل طير خضر، تسبح حول الجنة، وتأكل من ثمارها، وتقيم في ألوان النعيم.
وقد وعد الله الشهداء بحسن المثوبة والكرامة والهداية وصلاح البال ودخول الجنة، لأنهم نصروا دين الله فسينصرهم الله ويثبّت أقدامهم، كما توعّد الكافرين بالتعاسة والضلال والهلاك جزاء كفرهم وعنادهم.
وتسوق السورة ألوانا من التهديد للمشركين، فتأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا ماذا أصاب المكذّبين من الهلاك والدمار. ثم تمضي السورة في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان فتصف المؤمنين بأنهم في ولاية الله ورعايته، والكفّار بأنهم محرومون من هذه الولاية.
وتفرّق السورة بين متاع المؤمنين بالطيبات، وتمتّع الكافرين بلذائذ الأرض، كالحيوانات:(8/170)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) .
ان الفارق الرئيس بين الإنسان والحيوان: أن للإنسان إرادة وهدفا، وتصوّرا خاصّا للحياة يا قوم على أصولها الصحيحة المتلقّاة من الله خالق الحياة.
فإذا فقد الإنسان هذا التصوّر، فقد أهم الخصائص المميّزة لجنسه، وأهم المزايا التي من أجلها كرّمه الله جلّ جلاله.
ثم تمضي السورة في سلسلة من الموازنات بين المؤمن المتيقّن، والكافر الذي اتّبع هواه وشيطانه، وزيّن له سوء العمل: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) .
كما تصف الآيات متاع المؤمنين في الجنّة بشتّى الأشربة الشهيّة، من ماء غير آسن، ولبن لم يتغيّر طعمه، وخمر لذة للشّاربين، وعسل مصفّى، في وفر وفيض، في صورة أنهار جارية. ذلك مع شتى الثمرات ومع المغفرة والرّضوان ثم سؤال: هل هؤلاء المتمتعون بالجنة والرّضوان كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) ؟
2- خصال المنافقين
تشمل الآيات [16- 30] المقطع الثاني من هذه السورة، وفيها حديث عن المنافقين وصفاتهم، وحركة النفاق حركة مدنيّة لم يكن لها وجود في مكة نظرا لضعف المسلمين فيها وتفوّق أعدائهم. فلما هاجر المسلمون الى المدينة وبدأ شأن الإسلام في الظهور والاستعلاء، بدأت حركة النفاق في الظهور والنموّ، وساعدها على الظهور وجود اليهود في المدينة، بما لهم من قوّة مادّيّة وفكريّة، وبما يضمرونه للدّين الجديد من كراهية. وسرعان ما اجتمع اليهود مع المنافقين على هدف واحد، ودبّروا أمرهم بليل، فأخذ المنافقون في حبك المؤامرات ودسّ الدسائس في كلّ مناسبة تعرض، فإن كان المسلمون في شدّة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم وإذا كانوا في رخاء ظلّت الدسائس سرّيّة، والمكايد في الظلام وكانوا، الى منتصف العهد المدني، يشكّلون خطرا حقيقيّا على الإسلام والمسلمين. وقد تواتر ذكر المنافقين ووصف دسائسهم، والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدنية كما تكرّر ذكر اتصالهم(8/171)
باليهود، وتلقّيهم عنهم، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة.
والحديث عن المنافقين في سورة «محمد» (ص) يحمل فكرة السورة ويصوّر شدّتها في مواجهة المشركين والمنافقين. بل إن المنافقين هم فرع من الكافرين، أظهروا الملاينة وأبطنوا الكفر والخداع أو هم فرع من اليهود يعمل بأمرهم، وينفّذ كيدهم ومكرهم.
فمن هؤلاء المنافقين من يستمع الى النبي (ص) بأذنه ويغيب عنه بوعيه وقلبه. فإذا خرج من مجلس النبي (ص) تظاهر بالحرص على الدين، فسأل الصحابة عما قاله النبي (ص) سؤال سخرية واستهزاء، أو سؤال تظاهر ورياء.
أولئك المنافقون قد طمس الله سبحانه على أفئدتهم فلا تفقه، وقد اتّبعوا أهواءهم، فقادهم الهوى إلى الهلاك.
أمّا المتقون المهتدون، فيزيدهم الله هدى ويمنحهم التقوى والرشاد، ثم يتهدّد القرآن المنافقين بالساعة، فإذا جاءت، فلا يملكون الهداية ولا تنفعهم الندامة:
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) .
ثم تصوّر الآيات جبن المنافقين وهلعهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلّفهم القتال، فهم يتظاهرون بالإيمان، فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها، وذكرت الجهاد، رأيت المنافقين ينظرون إليك يا محمد نظرة من هو في النّزع الأخير تشخص أبصارهم لذلك كانوا جديرين بأن يهدّدهم الله جل جلاله بالويل والهلاك.
وتحثهم الآيات على الطاعة والصدق والثبات: فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) .
وبذلك يفتح القرآن الباب لمن يريد الطهارة الحسية والنفسية من المنافقين ومن المخاطبين جميعهم ثمّ يحثّهم عزّ وجلّ على تدبّر القرآن وتأمّله، لأن ذلك يحرّك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلّص الضمير.
وتمضي الآيات في تصوير حال المنافقين، وبيان سبب تولّيهم عن الإيمان بعد أن شارفوه، فتبيّن أنه تآمرهم مع اليهود، ووعدهم لهم(8/172)
بالطاعة فيما يدبّرون.
لقد كره اليهود الإسلام وتألّبوا عليه، فلمّا هاجر النبيّ (ص) الى المدينة شنّوا عليه حرب الدّسّ والمكر والكيد، وانضمّ المنافقون لليهود يقولون لهم سرا، كما ورد في التنزيل: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) .
ثم يتهدّد القرآن المنافقين، بملائكة العذاب لأنهم تركوا طريق الإسلام، وانضمّوا إلى دسائس الحاقدين عليه.
وفي نهاية المقطع يتهدّدهم جلّ جلاله بكشف أمرهم لرسول الله (ص) وللمسلمين الذين يعيشون بينهم متخفّين قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) .
3- حديث عن المشركين والمؤمنين
المقطع الأخير من السورة يشمل الآيات [32- 38] ، ويبيّن في بدايته أنّ المشركين منعوا الناس من الإيمان بالله تعالى، وأعلنوا الشقاق والعداوة لرسول الله (ص) ، وهؤلاء لن يضرّوا الله بكفرهم، وسيحبط الله أعمالهم.
وتتجه الآيات الى المؤمنين فتأمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، وتأمرهم بالثبات على الحق حتى يأتي نصر الله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) .
وهذا التوجيه يوحي بأنّه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يظهر الطاعة الكاملة، أو من تثقل عليه بعض التكاليف، وتشقّ عليه بعض التضحيات التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام، تناوشه من كل جانب، والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى، يصعب فصمها والتخلي عنها نهائيّا، كما تقتضي العقيدة ذلك.
ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفا عميقا في نفوس المسلمين الصادقين، فارتعشت له قلوبهم، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ويذهب بحسناتهم.
وتستمر الآيات في خطاب المؤمنين، تدعوهم الى مواصلة الجهاد بالنفس والمال دونما تراخ أو دعوة الى مهادنة الكافر المعتدي الظالم، تحت(8/173)
أيّ مؤثّر من ضعف أو مراعاة قرابة أو رعاية مصلحة، ودونما بخل بالمال الذي لا يكلّفهم الله أن ينفقوا منه إلا في حدود مستطاعة، مراعيا الشّحّ الفطريّ في النفوس. وإذا لم ينهضوا بتكاليف هذه الدعوة، فإنّ الله يحرمهم كرامة حملها والانتداب لها، ويستبدل بهم قوما غيرهم ينهضون بتكاليفها، ويعرفون قدرها، وهو تهديد عنيف مخيف يناسب جوّ السورة، كما يشي بأنه كان علاجا لحالات نفسية قائمة في صفوف المسلمين إذ ذاك، من غير المنافقين وذلك الى جانب حالات التفاني والتجرد والشجاعة والفداء التي اشتهرت بها الروايات، فقد كان في الجماعة المسلمة هؤلاء وهؤلاء. وكان القرآن يعالج ويربّي لينهض بالمتخلفين الى المستوي العالي الكريم.
مقصود السورة اجمالا
قال الفيروزآبادي: معظم مقصود سورة «محمد» (ص) : «الشكاية من الكفّار في إعراضهم عن الحق، وذكر آداب الحرب والأسرى وحكمهم، والأمر بالنصرة والإيمان، وابتلاء الكفّار في العذاب، وذكر أنهار الجنة:
من ماء ولبن وخمر وعسل وذكر طعام الكفار وشرابهم وظهور علامة القيامة والشكاية من المنافقين وتفصيل ذميمات خصالهم وأمر المؤمنين بالطاعة والإحسان وذم البخلاء في الإنفاق وبيان استغناء الحق تعالى وفقر الخلق، في قوله جلّ وعلا وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [الآية 38] .(8/174)