وذكر أنهم سيبعثون ويعرضون عليه سبحانه، فيسألهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ [الآية 30] فيقرّون به ولا ينكرونه، ويجازيهم على هذا بإذاقتهم عذاب النار ثمّ ذكر أنّهم قد خسروا بإنكارهم البعث، وأنهم سيندمون حين تأتيهم الساعة بغتة وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، وما أسوأها من أوزار لهم: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) .
ثم ذكر للنبي (ص) أنه يعلم أنه يحزنه الذي يقولون من أن ما أنزل عليه من أساطير الأولين وأنهم لا يكذبونه بهذا، وإنّما يكذبون الله، ويجحدون آياته، وأنه قد كذّب رسل من قبل، فصبروا على تكذيبهم حتى نصرهم الله عليهم وأنه إن كان كبر عليه إعراضهم واقتراحهم تلك الآيات، فليبتغ نفقا في الأرض أو سلما في السماء فيأتيهم بها إن استطاع وأنه سبحانه، لو شاء لجمعهم على الهدى من غير آية من الآيات ثم نهاه أن يكون من الجاهلين، فيحزن لإعراضهم، أو يطمع في استجابتهم: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) .
شبهتهم الثانية على التوحيد والنبوة الآيات [37- 90]
ثم قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) فذكر أنهم اقترحوا عليه بعد ذلك آية عذاب، وردّ عليهم بأنه قادر أن ينزل عليهم ذلك، ولكنه لا يريد أن يهلكهم لحكمة لا يعلمها أكثرهم ثم ذكر أنه ما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالهم، لينظروا في آياتها ويتركوا ما يقترحونه من ذلك تعنّتا ثم ذكر أن الذين يكذّبون بآياته في ذلك صمّ بكم، وأنه من يشأ يضلله فلا يهتدي بآية من الآيات، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ثم ذكر لهم أن العذاب الذي يقترحونه لو أتاهم أو أتتهم الساعة، فإنّهم لا يدعون غيره ليكشفه عنهم، وينسون هنالك آلهتهم، فليؤمنوا به من غير أن يقترحوا ذلك العذاب الذي لا يدعون فيه غيره ثم ذكر أن أمما قبلهم اقترحوا على رسلهم مثل ذلك، ولم يؤمنوا به بعد إجابتهم إليه، فأمهلهم ومدّ لهم حبل الطغيان، ثم أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون ثم ذكر أنه لو فعل بهم أكثر مما يقترحون(3/20)
فأخذ سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم، فإنه لا يقدر غيره على رد ذلك إليهم وأن ذلك العذاب لو نزل بهم فإنه لا يهلك به إلا القوم الظالمون، فليقلعوا عن ظلمهم ولا يقترحوا نزول العذاب عليهم ثم ذكر أنه لا يرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين، ليبين أنهم لا قدرة لهم على إنزال تلك الآيات، فمن آمن فلا خوف عليه، ومن كذّب بآياته يمسّه العذاب بفسقه ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لم يقل إن عنده خزائن الله، أو إنه يعلم الغيب، أو إنه ملك، حتى يصحّ لهم أن يتعنّتوا عليه باقتراح تلك الآيات، وإنّما هو رسول يتّبع ما يوحى إليه، هو من الوضوح كالفرق بين الأعمى والبصير ثم أمره أن ينذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، ونهاه أن يطردهم عنه إرضاء لأولئك المتعنّتين ثم ذكر أنه فتنهم بهم ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ والله أعلم حيث يضع هدايته، ثم أمره أن يكرمهم إذا جاءوه للسلام ونحوه، بعد أن نهاه عن طردهم وذكر أنه يفصّل الآيات في ذلك ليظهر الحق له في إيثارهم على الذين يريدون طردهم، ويستبين سبيل أولئك المجرمين المتعنّتين عليهم ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه نهي أن يعبد ما يدعون من دونه، وبأنه لا يتبع أهواءهم في اقتراح الآيات، وبأنه على بيّنة من ربّه، وقد كذبوا به مع قيام هذه البيّنة، وليس عنده ما يستعجلون به من نزول العذاب عليهم، وإنما الحكم له تعالى في أمر عذابهم، ولو أنّ عنده ما يستعجلون به لقضي بينه وبينهم بإهلاكهم، وعند الله وحده مفاتيح الغيب، فهو الذي يعلم وقت عذابهم ثمّ ذكر كمال علمه وقدرته سبحانه، وأنّه قادر على أنه يبعث عليهم عذابا من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، أو يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهم بأس بعض وأنهم كذبوا بهذا العذاب، وهو حقّ لا ريب فيه ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه ليس بوكيل عليهم، ولكلّ نبأ وقت يحصل فيه من غير خلف.
ثم أمر النبي (ص) إذا رآهم يخوضون في تكذيب آياته أن يعرض عنهم، حتى يخوضوا في حديث غيره وأخبره بأنّ الذين يتقونه من المؤمنين ليس عليهم شيء من حساب تكذيبهم، ولكنه يعظهم بذلك تنزيها لهم عن(3/21)
سماع باطلهم، ثم أمره أن يترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أو خوضا في تكذيب آياته، وأن يذكّر بها قبل أن ترتهن نفس بما كسبت، ولا ينفعها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يقبل منها فداء عن عذابها، ولأصحابها شراب من حميم وعذاب أليم، بما كانوا يكافرون.
ثمّ أمر سبحانه، النبي (ص) أن يذكر لهم أنه لا يصح له أن يدعو من دونه ما لا ينفع ولا يضر، فيردّ على عقبه بعد هدايته له، وأنّ هداه جلّ جلاله هو الهدى، وقد أمر هو وأتباعه أن يسلموا له، وأن يقيموا الصلاة ويتّقوه، وهو الذي يحشرون إليه، وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وإذا أراد تكوين شيء لا بد من أن يكون، وله المالك يوم ينفخ في الصّور، عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الخبير.
ثم نوّه بشأن إثبات التوحيد بالنظر، فذكر أنه طريق إبراهيم (ع) ، وساق ما جرى بين إبراهيم وبين أبيه آزر في إنكاره عليه أن يتخذ أصناما آلهة وذكر سبحانه أنه أراه ملكوت السماوات والأرض ليستدل به على توحيده، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي [الآية 76] ، فلمّا غاب علم أنه لا يصلح أن يكون ربا. وكذلك نظر في القمر والشمس، وكان قومه يعبدون هذه الكواكب ويتّخذون لها تماثيل من أصنامهم، فتبرّأ من عبادتها، وتوجّه بوجهه للّذي فطر السماوات والأرض ثم ذكر أن قومه حاجّوه في ذلك فأنكر عليهم أن يحاجّوه فيه بعد أن اهتدى إليه، ثم نوّه بشأن تلك الحجة النظرية التي اهتدى بها وذكر أنه رفع بها درجته، ووهب له ذرية صالحة قاموا بها بعده، من إسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء ثم ذكر أنّ أولئك الأنبياء هم الذين آتاهم الكتاب والحكمة والنبوة، فإن يكفر بها مشركو العرب فقد وكل بها قوما ليسوا بها بكافرين: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) .
شبهتهم الثالثة على التوحيد والنبوة الآيات [91- 108]
ثم قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] . فذكر شبهتهم الثالثة في(3/22)
إنكار التوحيد والنبوّة، وهي قولهم:
ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] وفي هذا إنكار للتوحيد أيضا، لأنهم لم يقدّروا الله فيها حقّ قدره، لأنه لا يليق به أن يخلقهم ويتركهم من غير أن يرشدهم، وقد أمر النبي (ص) أن يسألهم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الآية 91] وذكر أنهم جعلوه قراطيس يبدون بعضها، ويخفون منها ما فيه البشارة بالنبي (ص) ، وقد علموا من هذا ما لم يعلموه هم ولا آباؤهم ثم أمره أن يخبرهم بأن الذي أنزله هو الله، وحينئذ يبطل قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ثم ذكر أنه أنزل القرآن مصدقا لهذا الكتاب لينذر مكة ومن حولها، وأن الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الآية 92] لأنه يدعوهم إليها، ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا أو ادّعى أنه يوحى إليه، ولم يوح إليه شيء أو أنه يمكنه أن ينزل مثل ما أنزل الله، فكيف يفتري النبي (ص) مثل هذا الكتاب عليه؟ ثم ذكر أنهم في حال الموت يخبرهم الملائكة بأنهم سيجزون عذاب الهون بقولهم عليه غير الحقّ، واستكبارهم عن آياته، وأنهم يجيئونه فرادى كما خلقهم أوّل مرة، وليس معهم ما أعطاهم من المال وغيره في دنياهم، ولا شفعاؤهم الذين زعموا أنهم شركاء فيهم.
ثم أخذ في ذكر ما يبطل هذا الزعم، فذكر أنه فالق الحب والنوى، إلى غير هذا ممّا ذكره في إثبات قدرته وعلمه وحكمته، ولا يصح معه أن يكون هناك شريك له ثم ذكر أنهم مع هذا جعلوا له شركاء من الجن، وجعلوا له بنين وبنات من الملائكة وغيرهم، ورد عليهم بأنه بديع السماوات والأرض، فأنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟
إلى غير هذا مما ذكره في الرد عليهم ثم ذكر أنه قد جاءهم من هذا بصائر من ربهم، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها، وأنه كذلك يصرف الآيات حتى تصل إلى نهاية الكمال، ويزعموا أنها نتيجة دراسة وعلم، ثم أمر النبي (ص) أن يتبع ما أوحي إليه من تلك الآيات، ويعرض عن المشركين وما يقترحونه من الآيات على سبيل التعنّت وذكر أنه لو شاء ما أشركوا، وأنه لم يجعله حفيظا ولا وكيلا عليهم، فليس عليه إلا أن يبلغهم، ثم نهاهم أن يسبّوا آلهتهم، لئلا يسبّوه عدوا بغير علم:(3/23)
كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) .
شبهتهم الرابعة على التوحيد والنبوة الآيات [109- 117]
ثم قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) فذكر أنهم أقسموا به جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، ثم أجابهم بأنه يعلم أنهم لا يؤمنون بها إذا جاءتهم وإن وقع ذلك الحلف منهم، وأنه لو جاءهم بها تتحوّل أفئدتهم وأبصارهم عنها كما تحوّلت عن الآيات التي تتلى عليهم، وأنه لو أجابهم إلى ما يطلبون وزاد عليه بأن حشر عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلّا بمشيئته، فلا وجه لهم في تعليق إيمانهم على تلك الآيات التي يقترحونها ثم ذكر سبحانه أنه كذلك جعل لكل نبيّ عدوّا من شياطين الإنس والجن، يزخرف بعضهم إلى بعض بمثل ما زخرف المشركون بقسمهم، ليخدعوا بذلك من ينخدع بهم ثم ذكر أن الدليل على صدقه قد كمل بحكمه به، وهو الحكم الذي لا يطلب بعده حكم، كما كمل بشهادة المؤمنين من أهل الكتاب به، فلا يصحّ أن يلتفت بعد ذلك إلى ما يطلبونه من تلك الآيات، وقد تمّ حكم الله بذلك صدقا وعدلا ثم ذكر أنه لا يصح له بعد ذلك أن يطيعهم فيما يقترحون من طلب الآيات، وأنه إن أطاعهم في ذلك يضلّونه عن سبيل الحق ولا يصل إلى ما يريده من إيمانهم، لأنهم لا يتّبعون إلا الظنّ وإن هم إلّا يخرصون إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) .
إبطال بدعة لهم في الحلال والحرام الآيات [118- 123]
ثم قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) فانتقل إلى إبطال بدعة لهم في شركهم، وهي تحليل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة ونحوها تنويعا لضروب الكلام، وتصريفا لفنون الجدال، وكانوا يقولون للمسلمين:
إنكم تعبدون الله، فما قتله الله أحقّ أن تأكلوه ممّا قتلتموه أنتم. فأمر المسلمين أن يعرضوا عن قولهم ويأكلوا ممّا ذكر اسمه سبحانه عليه ثم ذكر لهم أنه قد(3/24)
فصّل لهم ما حرّم عليهم ولم يبح لهم الميتة إلّا عند الضرورة، وأنّ هؤلاء المشركين يريدون أن يضلّوهم عنه جلّ جلاله بأهوائهم وجهالاتهم ثم أمرهم أن يتركوا ذلك الإثم، ما ظهر منه وما بطن، ونهاهم أن يأكلوا ممّا لم يذكر اسمه عليه، وحذّرهم من الاستماع إلى ذلك الجدال الذي يوحي به شياطين المشركين إليهم ثم ضرب لهم مثلا ميّز به حال المؤمنين من الكافرين، وهو أنه لا يصحّ أن يجعل من كان ميتا بالشرك فأحياه الله تعالى بالإيمان كمن غرق في ظلمات الشرك، فصار بحيث لا يمكنه الخروج منها ثم ذكر أنه في هذه الظلمات زين للكافرين ما كانوا يعملون وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) .
شبهتهم الخامسة على التوحيد والنبوة الآيات [124- 135]
ثم قال تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الآية 124] فذكر شبهتهم الخامسة في إنكار التوحيد والنبوة، وعاد بهذا إلى السياق الأول وقد حكوا عن الوليد بن المغيرة أنه قال:
والله لو كانت النبوّة حقّا، لكنت أنا أحقّ بها من محمّد، فإنّي أكثر منه مالا وولدا. وحكوا عن غيره من المشركين، أنهم قالوا: لن نؤمن حتّى يحصل لنا مثل هذا المنصب. فأجابهم عن ذلك بأنه تعالى: أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الآية 124] ، ثمّ توعّدهم بأنهم سيصيبهم صغار عنده على ذلك التعالي، وذكر أن من يرد هدايته يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا، فيتعنّت بمثل ما يتعنّت به أولئك المشركون ثم ذكر جلّ جلاله أن صراطه مستقيم، قد فصّله لمن يتذكرون، وأن لهم دار السلام بما كانوا يعملون ثم ذكر أنه سيحشر أولئك المشركين من الجنّ والإنس، فيخبر الجنّ بأنهم قد أكثروا من الإضلال تبكيتا لهم، ويبكّت الإنس على قبول إغوائهم، فيجيب الإنس بأنه قد استمتاع بعضهم ببعض، وصاروا الآن إلى أجلهم الذي أجّله لهم، فيقضي عليهم بجعل النار مثواهم، وكذلك يجمع بينهم في النار، ويولي بعضهم بعضا فيها بما كانوا يكسبون. ثم ذكر أنه(3/25)
يسألهم أيضا: ألم يأتكم رسل يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ فيعترفون بذلك ويشهدون على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. ثم ذكر أن ذلك العذاب، إنّما كان بعد بعث الأنبياء، لأنه لا يليق بعد، له أن يهلك القرى قبل تنبيهها من غفلتها، وأنّ ثوابه وعقابه على درجات بقدر الأعمال، وأنه غنيّ ذو رحمة، لو شاء لعجّل لهم العذاب في الدنيا، واستخلف من بعدهم من يشاء من خلقه، وأن ما يوعدون من ذلك لآت، وما هم بمعجزين قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) .
إبطال بدع لهم في الحلال والحرام الآيات [136- 147]
ثم قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الآية 136] فذكر من بدعهم في شركهم، أنهم جعلوا له سبحانه نصيبا مما ذرأ من حرثهم وأنعامهم ونصيبا لآلهتهم، فإن نما نصيب آلهتهم دون نصيبه تركوا نصيبها لها، وقالوا لو شاء نمّى نصيب نفسه، وإن نما نصيبه دون نصيبها قالوا لا بد لها من نفقة، فأخذوا نصيبه، فأعطوه لسدنتها. ثم ذكر منها أنهم كانوا ينحرون أولادهم لآلهتهم، وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرنّ أحدهم ثم ذكر منها حجرهم لبعض أنعامهم، وتحريم ظهور بعضها، وتحريم ذكر اسم الله على بعضها، وجعل ما في بطون بعضها خالصة لذكورهم محرّما على أزواجهم، وقتلهم أولادهم سفها بغير علم، وتحريمهم ما رزقهم الله من الطيبات افتراء عليه: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) .
ثم بيّن حكمه في ذلك، فذكر أنه سبحانه هو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات، والنخل والزرع وغيرهما، وأمر الناس أن يأكلوا منها ويؤدوا حقه فيها يوم حصادها ثم ذكر أنه أنشأ من الأنعام حمولة تحمل أثقالنا، وأنشأ منها فرشا يفرش للذبح، وأمر الناس أن يأكلوا منها ولا يتّبعوا فيها الشيطان فيما زيّنه من تلك البدع، وذكر أنه أباح من ذلك ثمانية أزواج ذكر وأنثى من كل من الضأن والمعز(3/26)
والإبل والبقر، ثم توعّدهم على افتراء ما حرّموه منها، وأمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يجد فيما أوحى إليه محرّما من ذلك، إلّا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو غير ذلك مما ذكره ثم ذكر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر وغيره مما حرمه عليهم عقابا لهم على بغيهم، وتوعدهم إذا كذبوه في ذلك فقال فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) .
شبهتهم السادسة على التوحيد والنبوة الآيات [148- 158]
ثم قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الآية 148] فذكر شبهتهم السادسة على التوحيد والنبوة، وهي قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء، وإذا كان ذلك بإرادته كان راضيا عنه. ثم رد عليهم بأن من قبلهم اعتمد على مثل هذا في تكذيب الرسل حتى ذاق عذابه، فعلم أنه كان واهما. وبأنهم يزعمون ذلك من غير أن يكون عندهم به علم، وبأن الحجة البالغة لله عليهم بمعجزاته التي أيد بها رسله، وبأنه لا أحد يشهد لهم على زعمهم أن الله حرّم ما حرّموه على أنفسهم ثم أمر النبي (ص) أن يتلو ما حرّمه عليهم من الشرك به وما ذكر معه وذكر أن هذا هو صراطه المستقيم الذي يجب عليهم أن يتّبعوه ولا يتّبعوا غيره من السبل التي تفرّقهم عن سبيله، وأنه أنزل التوراة على موسى هدى ورحمة لقومه، وأنزل القرآن لئلّا يحتجّ من كفر بعد التوراة بأنه لم ينزل عليهم كتاب كما أنزل على اليهود والنصارى من قبلهم، وأنه لو أنزل عليهم كتاب لكانوا أهدى منهم ثم ذكر أنه قد جاءهم ذلك الكتاب الذي يقطع عذرهم، وأنه لا يوجد أظلم منهم إذ صدفوا عن آياته بعد أن ظهر صدقها لهم، وأوعدهم على ذلك بما أعده لهم من سوء العذاب وذكر أنهم إذا كانوا ينتظرون بإيمانهم أن تأتيهم الملائكة أو غير ذلك من اقتراحاتهم، فإن إيمانهم لا ينفع في ذلك الوقت يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)(3/27)
الخاتمة الآيات [159- 165]
ثمّ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) فذكر أن النبي (ص) ليس في شيء من أولئك المشركين الذين فرّقوا دينهم، لأنه بلّغهم رسالته، وكل إنسان لا يسأل إلّا عن عمله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الآية 160] ثم أمره أن يذكر لهم أنّ ما أتى به هو دين أبيهم إبراهيم الذي لم يكن من المشركين، وأنّ صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله الذي لا شريك له، وأنه لا يمكنه أن يطلب الى غيره وهو تعالى ربّ كل شيء، وأنّ الرسول (ص) يتحمل تبعة عمله في ذلك كما يتحملون تبعة عملهم، ثم إلى ربهم مرجعهم فيحكم بينهم في خلافهم ثم ذكر أنه جلّ وعلا خلقهم ليجعلهم خلائف الأرض، وأنه رفع بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم في ما آتاهم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) .(3/28)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنعام» «1»
قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد، وتلك ختمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان كما قال تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) [الزّمر] .
وقد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران: 14] . أنه لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة: 120] على سبيل الإجمال، افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله.
فبدأ بذكر: أنه خلق السماوات والأرض، وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه قوله تعالى: وَما فِيهِنَّ في آخر المائدة.
وضمن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد، وهو من بسط: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ (120) في آخر المائدة.
ثم ذكر سبحانه، أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلا مسمّى، وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جلّ جلاله، منشئ القرون قرنا بعد قرن، ثم قال: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 12] . فأثبت له ملك جميع المنظورات. ثم قال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الآية 13] فأثبت له ملك جميع المظروفات
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978.(3/29)
لظرفي الزمان. ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان، من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة، والموت والحياة، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن، من النيرين، والنجوم، وفلق الإصباح، وخلق الحب والنوى، وإنزال الماء، وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، والأنعام، ومنها حمولة وفرش. وكل ذلك تفصيل لملكه سبحانه، ما فيهن: وهذه مناسبة جليلة.
ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك، أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والكوني، والملكي والشيطاني، والحيواني والنباتي، وما تضمنته من الوصايا، فكلّها متعلّق بالقوام والمعاش الدنيوي، ثم أشار إلى أشراط الساعة.
فقد جمعت هذه السورة المخلوقات بأسرها، وما يتعلّق بها، وما يرجع إليها، فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها، وتقديمها على ما تقدم نزوله منها.
وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية، نظير سورة البقرة في جمعها العلوم والمصالح الدينية.
وما ذكر فيها من العبادات المحضة، فعلى سبيل الإيجاز والإيماء، كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه، فإنه على سبيل الاختصار والإشارة.
فإن قلت: فلم لم يفتتح القرآن بهذه السورة مقدّمة على سورة البقرة، مادام بدء الخلق مقدّما على الأحكام والتعبّدات؟.
قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والاخرة مقدّمة على مصالح المعاش والدنيا، وأن المقصود إنما هو العبادة، فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع «1» ، ولأن علم بدء الخلق كالفضلة، وعلوم الأحكام والتكاليف متعين على كل
__________
(1) . ولهذا جاء في البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21] وليس في القرآن غيره بلفظه. قال الكرماني:
العبادة في الآية: التوحيد. وهو أول ما يلزم العبد من المعارف. فكان هذا أول خطاب خاطب به العباد في القرآن، ثم ذكر سائر المعارف، وبنى عليها العبادات فيما بعدها من السور والآيات (أسرار التكرار في القرآن (22) .(3/30)
واحد. فلذلك ينبغي ألا ينظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ، إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه.
ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر، أكثر إتقانا مما تقدم. وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [الآية 87] إلى آخره، فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم، فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة «1» فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلا وبسطا، وإتماما، وإطنابا.
وافتتحت بذكر الخلق والملك «2» ، لأنّ الخالق والمالك هو الذي له التصرّف في ملكه، ومخلوقاته، إباحة ومنعا، تحريما وتحليلا، فيجب ألّا يتعدّى عليه بالتصرف في ملكه.
وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة، من وجه كونها شارحة لإجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ (2) . وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] .
وقوله جلّ وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] .
وبال عمران من جهة تفصيلها لقوله تعالى: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:
14] . وقوله جلّ وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] . وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق، والتقبيح لما حرموه على أزواجهم،
__________
(1) . وهذا البيان الكامل في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الآية 136] إلى سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) .
(2) . وذلك قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية الأولى] إلى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) .(3/31)
وقتل البنات بالوأد «1» .
وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها «2» .
وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة.
الأول: افتتاحها بالحمد.
والثاني: مشابهتها للبقرة، المفتتح بها السور المدنية، من حيث أن كلا منهما نزل مشيّعا. ففي حديث أحمد:
«البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا» «3» . وروى الطبراني وغيره من طرق: «أن الأنعام شيّعها سبعون ألف ملك» . وفي رواية:
«خمسمائة ملك» «4» .
ووجه آخر، وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد. وهذه للربع الثاني، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع.
وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة للقرآن كنقطة من بحر.
ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق، ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق، وهو قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الآية 54] .
ففي الصحيح: «لما فرغ الله من الخلق، وقضى القضية، كتب كتابا عنده فوق العرش: إنّ رحمتي سبقت غضبي» «5» .
__________
(1) . سبق ما يدل على بدء الخلق، وما حرموه على أزواجهم، أما تقبيح قتل البنات بالوأد فجاء عقبه في قوله تعالى:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الآية 140] .
(2) . الأطعمة ذكرت هنا مفصلة في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الآية 141] إلى قوله: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) .
(3) . أخرجه أحمد في المسند: 5: 26 عن معقل بن يسار. وأخرج أوله الترمذي: 8: 181 بتحفة الاحوذي.
والدارس في فضائل القرآن عن ابن مسعود: 2: 447، ونزول الملائكة معها أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد:
6: 311 وعزاه للطبراني.
(4) . أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر: 7: 19، 20 وفيه (أنزلت جملة واحدة) وفيه (لهم زجل بالتسبيح والتحميد) . وعزاه للطبراني وقال: فيه يوسف الصفار، وهو ضعيف. وقال ابن الجوزي: متروك.
(العلل المتناهية من اسمه يوسف) ونقل السيوطي عن ابن الصلاح في فتاواه رواية تخالف ذلك: أنها لم تنزل جملة، بل نزلت منها آيات بالمدينة، قيل: ثلاث، وقيل: غير ذلك (الإتقان: 1: 137) .
(5) . أخرجه البخاري في بدء الخلق: 4: 129، وفيه (كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش) .(3/32)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنعام» «1»
1- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الآية 8] .
سمّى ابن إسحاق من القائلين:
زمعة بن الأسود، والنّضر بن الحارث ابن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل.
أخرجه ابن أبي حاتم.
2- وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الآية 52] .
نزلت في نفر، سمّي منهم:
صهيب، وبلال، وعمّار، وخباب، وسعد بن أبي وقّاص، وابن مسعود، وسلمان الفارسي كما خرّجته في «أسباب النزول» «2» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . قال السيوطي في «لباب النقول في أسباب النزول» : 226- 227: «روى ابن حبان، والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا، وعبد الله بن مسعود، وأربعة قالوا لرسول الله (ص) : اطردهم، فإنّا نستحي أن نكون تبعا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي (ص) ما شاء الله فأنزل الله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
روى أحمد، والطبراني، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله (ص) وعنده خباب بن الأرت، وصهيب، وبلال، وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، لو طردت هؤلاء لا تبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن» .
قلت: في «صحيح مسلم» في كتاب الفضائل، أثر سعد الأول. الذي أورده السيوطي في «أسباب النزول» .
والخبر الثاني عن ابن مسعود، أخرج نحوه أبو يعلى وابن أبي شيبة عن خباب، بسند صحيح، كما في «المطالب العالية» : (3618) والبزار، كما في «كشف الأستار بزوائد البزار» 3: 48 رقم: 2209، وانظر «سيرة ابن هشام» 1: 392. [.....](3/33)
3- وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الآية 74] .
قال ابن عباس: اسمه تارح «1» .
أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق الضّحّاك عنه.
وأخرج عن السّدّي مثله «2» . 4- رَأى كَوْكَباً [الآية 76] .
قال زيد بن علي: هو الزّهرة.
وقال الزّهري «3» : هو المشتري.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
5- فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الآية 89] .
يعني: أهل مكة «4» .
__________
(1) . كذا في «الحاوي للفتاوي» .
(2) . ساق السيوطي الأدلة بأن (آزر) ليس أبا إبراهيم في رسالته «مسالك الحنفا في والدي المصطفى» : المتضمنة في كتابه «الحاوي للفتاوي» 2: 202- 223 وفي «الدر المنثور» 3: 23.
قال في «الحاوي للفتاوي» 2: 213- 214.
« ... وهذا القول، أعني أن آزر ليس أبا إبراهيم، ورد عن جماعة من السلف. أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قال: «ليس آزر بأبيه، إنما هو إبراهيم بن تيرح أو تارح» .
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن السدي أنه قيل له: اسم أبي إبراهيم آزر؟! فقال: بل اسمه تارح.
وقد وجه من حيث اللغة بأن العرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقا شائعا، وإن كان مجازا وفي التنزيل: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، وهو عم يعقوب، كما أطلق على إبراهيم وهو جده» .
غير أن من العلماء من يرى غير ذلك، فيقول ابن جرير الطبري في «تفسيره» 7: 159: «أولى القولين بالصواب منهما عندي قول من قال: هو اسم أبيه. لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الاخر الذي زعم قائله أنه نعت، فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح فكيف يكون آزر اسما له، والمعروف به من الاسم تارح؟ قيل له: غير محال أن يكون له اسمان كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم، وجائز أن يكون لقبا والله تعالى أعلم» .
وفي «البحر المحيط» 4: 164 لأبي حيّان: «قيل: إن آزر عم إبراهيم وليس اسم أبيه وهو قول [بعضهم] ، يزعمون أن آباء الأنبياء لا يكونون كفارا، وظواهر القرآن ترد عليهم، ولا سيما محاورة إبراهيم مع أبيه في غير ما آية» .
(3) . الزهري: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: فقيه حافظ، متفق على جلالته وإتقانه، ومن أوائل مدوني الحديث الشريف، توفي سنة (125) وقيل غير ذلك.
(4) . أخرجه ابن أبي حاتم، كما في الفقرة التالية.(3/34)
6- فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً [الآية 89] .
يعني: أهل المدينة، والأنصار.
أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس «1» .
وأخرج عن أبي رجاء العطاردي «2» :
فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً قال: هم الملائكة.
7- إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] .
قال ابن عباس: قال ذلك اليهود «3» .
وقال مجاهد: مشركو قريش. وقال السّدّي: فنحاص اليهودي.
وقال سعيد بن جبير: مالك بن الضّيف «4» .
أخرجهم ابن أبي حاتم «5» .
8- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الآية 93] . قال السّدّي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح.
9- أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الآية 93] .
قال قتادة: نزلت في مسيلمة، والأسود العنسي «6» .
10- وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآية 93] .
قال الشّعبي «7» : هو عبد الله بن أبيّ بن سلول. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
11- أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الآية 122] .
قال زيد بن أسلم وغيره: نزلت في عمر بن الخطاب.
وقال عكرمة: في عمّار بن ياسر.
12- كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الآية 122] .
__________
(1) . انظر «تفسير الطبري» 7: 174.
(2) . أبو رجاء العطاردي: عمران بن ملحان، مخضرم، ثقة، معمّر، مات سنة (105) هـ وله مائة وعشرون سنة.
(3) . أخرجه الطبري 8: 177، وابن المنذر، وأبو الشيخ. «الدر المنثور» 3: 29.
(4) . وقيل: «الصيف» بالصاد المهملة والوجهان جائزان كما في «سيرة ابن هشام» 1: 514.
(5) . انظر «تفسير الطبري» 5: 176.
(6) . توفي مسيلمة الكذاب بن ثمامة عام (12) هـ، وأما الأسود العنسي. فهو عيهلة بن كعب، وهو أول من ارتد عن الإسلام فقد توفي سنة (11) هـ.
(7) . الشّعبي: عامر بن شراحيل، أبو عمرو، ثقة مشهور، وفقيه فاضل، مات بعد المائة، وله نحو ثمانين من العمر.(3/35)
قال الضّحّاك وزيد: نزلت في أبي جهل.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم «1» .
13- لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الآية 127] .
قال قتادة: هي الجنّة. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
14- عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الآية 156] .
قال ابن عباس: هم اليهود، والنّصارى. أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 15- يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ [الآية 158] .
هو طلوع الشمس من مغربها كما ورد في حديث مرفوع عند «مسلم» وغيره «4» .
وقال ابن مسعود: طلوع الشمس، والقمر من مغربهما. أخرجه الفريابي «5» .
16- إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 159] .
قال النبي (ص) : «هم الخوارج» .
__________
(1) . انظر «تفسير الطبري» 8: 17. وفي «الإتقان» 2: 150 في قوله تعالى قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الآية 124] قال: سمي منهم: أبو جهل والوليد بن المغيرة.
(2) . انظر «تفسير الطبري» 8: 25.
(3) . و «الطبري» 8: 69. [.....]
(4) . أخرج البخاري: (6506) في الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت رآها الناس وآمنوا أجمعين، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا..» إلخ.
وقد أخرج نحوه: مسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وعبد الرزاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي، في «شعب الإيمان» كما في «الدر المنثور» 3: 57.
وروى الطبراني في «المعجم الصغير» 1: 64 رقم (164) عن أبي هريرة عن النبي (ص) في قوله عز وجل:
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ قال: طلوع الشمس من مغربها.
قال الحافظ في «فتح الباري» 11: 353: قال ابن عطية: في هذا الحديث- أي حديث البخاري دليل على أن المراد ب «بعض» في قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ طلوع الشمس من المغرب، وإلى ذلك ذهب الجمهور، انتهى.
وقد ذكر المحدّث السيد محمد بن جعفر الكتاني في كتابه «نظم المتناثر» : 147 أن أحاديث طلوع الشمس من المغرب وردت من طريق (14) صحابيا، فجعلها بذلك من قسم المتواتر.
(5) . وسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وعيد بن حميد. «الدر المنثور» .(3/36)
أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة «1» .
وأخرجه الطبراني «2» من حديث عائشة، بلفظ: «هم أصحاب البدع، والأهواء» . وقال قتادة: هم اليهود، والنّصارى.
أخرجه عبد الرزاق «3» .
وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن السّدّي.
__________
(1) . قال ابن كثير في «تفسيره» 2: 196: «لا يصح» .
(2) . في «المعجم الصغير» ونصه: عن عمر بن الخطاب أن رسول الله (ص) قال لعائشة: «يا عائشة إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة وأنا منهم بريء، وهم مني براء» . قال الهيثمي: إسناده جيد.
وأخرج نحوه أيضا الطبراني في «المعجم الأوسط» عن أبي هريرة كما في «مجمع الزوائد» 7: 22- 23.
(3) . و «الطبري» 8: 77.(3/37)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنعام» «1»
1- قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الآية 6] .
أقول: دلالة القرن على الزمان مشهورة وحدّه عشر سنين أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون أو مائة أو مائة وعشرون. والغالب هو مائة سنة.
والعدد الأخير هو المعروف في عصرنا، وليس شيئا من المقادير الأخرى، فيقال القرن الرابع عشر الهجري، وحدّه من 1301 إلى 1400.
ولكن للقرن دلالات أخرى في العربية القديمة، فهو الأمّة من الناس هلكت، ولم يبق منها أحد، وهذا متحقّق في الآية موضع بحثنا، كما هو متحقق في آيات أخرى منها: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس: 13] .
ولعل سبب إطلاق القرن على الأمّة، وعلى قدر من السنين في الوقت نفسه مردّه إلى علاقة أحدهما بالآخر بنوع من الاتّصال والملابسة.
2- وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية 25] .
أي: ومنهم من يستمع إليك حين تتلو القرآن. روي أنّه اجتمع أبو سفيان، والوليد، والنضر، وعتبة، وشيبة، وأبو جهل، وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله (ص) فقالوا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(3/39)
للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمّد؟
فقال: والذي جعلها بيته، يعني الكعبة، ما أدري ما يقول، إلّا أنّه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما حدّثكم عن القرون الماضية.
فقال أبو سفيان: إنّي لأراه حقّا. فقال أبو جهل: كلّا، فنزلت الآية. والأكنّة:
الأغطية، وهي جمع كنان.
والمعنى غطّيت قلوبهم بأغطية لئلّا يفقهوا آيات الله، أي: لكي لا يفقهوها أقول: حذفت لام التعليل كما حذفت أداة النفي «لا» قبل الفعل «يفقهوه» للعلم به من قرينة الحال، وهذا نمط من إيجاز لغة التنزيل، وهو معرض من معارض البلاغة.
3- وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الآية 27] .
والمعنى: ولو ترى إذ أروا النّار....
إن الفعل: «وقف» في الآية مبني للمفعول.
والفعل وقف، والمصدر وقف ووقوف، خلاف الجلوس وهو لازم، تقول: وقفت الدابّة تقف وقوفا. ووقفت الدابّة وقفا، أي: وقّفتها أو أوقفتها، وهو فعل متعدّ نعرفه كثيرا في الأدب القديم، قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
ومثل قول طرفة:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد
ومن ذلك قول النابغة:
وقفت فيها سراة اليوم أسألها ... عن حال نعم أمونا عبر أسفار
هذا هو «وقف» الفعل المتعدي، وهو ما لا وجود له في العربية المعاصرة، بل عدل عنه إلى المزيد فيقال: أوقفت السيّارة، ومثله المضاعف: وقّفها.
على أن الفعل في الآية موضع بحثنا «وقفوا» بمعنى أروا وأدخلوا النار فعرفوا مقدار عذابها، كما تقول:
وقفت على ما عند فلان، تريد قد فهمته وتبيّنته.
4- وقال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) .
إنّ الأداة «قد» في قَدْ نَعْلَمُ من(3/40)
الآية بمعنى «ربّما» ، الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، كقول زهير:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ولكنّه قد يهلك المال نائله وقد علق الشيخ أحمد بن المنير الإسكندري في حاشيته «الارتشاف» فقال: ومثلها، (أي: مسألة «قد» ) في قوله تعالى: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصّفّ: 5] فإنّه يكثر علمهم برسالته، ويؤكّده بظهور آياته، حتّى يقيم عليهم الحجّة في جمعهم بين متناقضين: أذيّته، ورسوخ علمهم برسالته.
ومنه أيضا قول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله أقول: هذه الفائدة من خصائص العربية في اللغة القديمة، أي: أن «قد» تدخل على الفعل المضارع، وتفيد التكثير، بعكس الشائع الكثير وهو التقليل.
أقول: قد يكون بقي شيء من إفادة التقليل ل «قد» مع المضارع في اللغة العربية المعاصرة، إلّا أن إفادة التكثير لا نجد له مكانا وذلك لأن المعربين من الأدباء وغيرهم قد أضاعوا الكثير من خصائص هذه وجهلوا مكانها.
ومن المفيد أن نقف عند قول الزمخشري: أن «قد» في «قد نعلم» بمعنى «ربّما» .
أود أن أقول: إن «ربّما» تفيد التقليل، وهي كذلك في العربية القديمة ولكنها تفيد التكثير أيضا. فماذا بقي منها في العربية المعاصرة؟ لم يبق من ذلك إلا إفادة التقليل وقد يضاف إلى التقليل، الشك والاحتمال الضعيف «1» .
وفي هذه الآية جاء: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ.
وهمزة «إن» مكسورة وقد جرينا في العربية على فتح الهمزة، إذا صحّ أن تؤوّل هي ومعمولاها بمصدر في موضع المفعول به للفعل «نعلم» .
غير أن القراءة جرت بالكسر: وهذه سنة متبعة وعلينا قبولها، ولا يصح سبكها بالمصدر ثم الفعل «يحزن» مثل «ينصر» ، وقرئ أيضا بضم الياء.
والقراءة بالفتح هي المثبتة، وهي الشهيرة، على أن الفعل ثلاثي «حزن يحزن» والفعل متعدّ.
__________
(1) . انظر: مسألة «رب» ، ومسائل أخرى لابن السيد البطليوسي (نشر مجمع اللغة العربية في دمشق 1960) .(3/41)
أقول: وكون هذا الفعل متعدّيا، معروف مشهور في العربية القديمة، ولا وجود له في العربية المعاصرة فإذا أريد تجاوزه إلى المفعول به، قالوا «أحزن» مزيدا بالهمزة.
وجاء في «الصحاح» أنّ «حزن» لغة قريش، و «أحزن» لغة تميم. والمصدر الحزن. وأمّا الحزن فمصدر «حزن» اللازم.
أقول:
لم أهتد في استقرائي منذ زمان بعيد إلى استعمال «حزن» المتعدي بصيغة المضي، فكلّ الذي وجدته من نصوص هو استعمال «يحزن» ، ويؤيّد دعواي هذه ما ورد في لغة التنزيل، فقد جاء الفعل متعدّيا بصيغة «يفعل» في تسع آيات، منها قوله تعالى:
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) [يس] .
5- وقال تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الآية 59] .
أريد أن أقف على قوله تعالى: إِلَّا يَعْلَمُها فأقول: هذا هو أسلوب القرآن يأتي الفعل بعد أداة الاستثناء في الجملة الحالية، وليس من واو كما نجد عند المعربين، ولا سيما في عصرنا الحاضر، يقال:
ما رأيته إلا ووجدته مشغولا بمسألة مشكلة.
وكأن الأسلوب الفصيح القول: ما رأيته إلا وجدته مشغولا بمسألة مشكلة.
ومثل هذا قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) .
وقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) [الحجر] .
6- وقال تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الآية 65] .
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً بمعنى أن يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتّى، كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال.
وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي «1»
__________
(1) . «الكشاف» 2: 23.(3/42)
واللّبس واللّبس: اختلاط الأمر، ولبس عليه الأمر يلبسه لبسا فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته.
وعلى هذا، فرّق بالفعل بين معنى الخلط وبين قولهم: لبس الثوب فهذه الأخيرة مثل «علم» ، والتي تفيد الخلط مثل «ضرب» . كما فرّق بالمصدر، فمصدر قولهم: لبس الثوب «اللّبس» بضم اللام، أما ما يفيد الخلط فهو «اللّبس» بفتح اللام.
وقالوا: لا بس الرجل الأمر بمعنى خالطه ولا بست فلانا: عرفت باطنه.
أقول: هذه هي الملابسة، أمّا أن يراد بها الالتباس كما في اللغة المعاصرة، فهو أمر جديد حدث عن طريق الاتساع، لأنّ الكلمة تفيد المخالطة. وقد كنا عرضنا لشيء من مادة «لبس» .
7- وقال تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الآية 68] .
المراد بقوله تعالى: يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، أي: في الاستهزاء بها والطعن فيها.
أقول: جاءت مادة «الخوض» ، فعلا، ومصدرا، واسم فاعل في إحدى عشرة آية، وفي جميعها قد انصرف «الخوض» إلى الدخول في الباطل وما لا ينبغي، ومن ذلك قوله تعالى:
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) [الطور] .
غير أننا نجد «الخوض» ، مستعملا في العربية المعاصرة غير متصف بهذه الخصوصية المعنوية، فهو عام يكون في الخير والشر، والحق والباطل، يقال مثلا: «كنا نخوض في مختلف الشؤون» ، والشؤون تكون حقا وباطلا، وقد تكون كلها حقا. وهذا يعني أن المعربين قد جهلوا الكثير من خصائص هذه اللغة العريقة.
8- وقال تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها [الآية 70] .
قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ، أي:
بالقرآن، والمراد ب أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي: مخافة أن تسلم النفس إلى الهلكة والعذاب، وترتهن بسوء كسبها. وأصل الإبسال: المنع، لأن المسلم إليه يمنع(3/43)
المسلم، قال عوف بن الأحوص الباهلي:
وإبسالي بنىّ بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق «1»
ومنه: هذا عليك بسل، أي: حرام محظور.
وأبسلت فلانا: أسلمته للهلاك فهو مبسل.
ومثل هذا قوله تعالى من الأنعام:
أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا [الآية 70] .
أي: أسلموا بجرائمهم، وقيل:
ارتهنوا، وقيل أهلكوا «2» .
أقول: وهذا من الكلم الشريف الذي اشتملت عليه لغة القرآن، وليس لنا شيء منه في العربية المعاصرة.
إننا لم نعرف في عربيتنا المعاصرة من مادة «بسل» إلا الباسل والبسالة فنقول: الجيش الباسل، وأبدى المحارب بسالة، ولا نعرف الفعل «بسل» .
9- وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الآية 73] .
ورد «الصّور» في عشر من الآيات، وفي جميعها يرد الفعل «نفخ وينفخ» بالبناء للمفعول، فما الصّور هذا؟
وفي «الصّور» قولان أحدهما: أنه بفتح الواو جمعا لصورة، كما في قراءة لقوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) [طه] .
والثاني: أنه القرن الذي ينفخ فيه.
أقول: وأما من قال: إن الصّور «بفتح الواو» هو المراد، وهو جمع صورة، فهو أبو علي.
وقال أبو الهيثم: اعترض قوم فأنكروا أن يكون الصّور قرنا، كما أنكروا العرش والميزان والصّراط، وادّعوا أن الصّور جمع الصورة كما أن الصّوف جمع الصّوفة، والثّوم جمع الثّومة، ورووا ذلك عن أبي عبيدة.
قال أبو الهيثم وهذا خطأ فاحش، وتحريف لكلمات الله، عزّ وجلّ، عن مواضعها لأن الله، سبحانه، قال:
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:
64] ففتح الواو.
__________
(1) . الكشاف 2: 36.
(2) . اللسان (بسل) .(3/44)
قال: ولا نعلم أحدا من القرّاء قرأها: (فأحسن صوركم) ، وكذلك قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99] ، فمن قرأ: (ونفخ في الصّور) ، أو قرأ:
(فأحسن صوركم) فقد افترى الكذب وبدّل كتاب الله.
أقول: وأنا أميل إلى قول أبي علي عن أبي عبيدة وهو أن «الصور» جمع صورة كالصوف جمع صوفة، أو أنه «الصّور» جمع الصورة، وذلك يبعد عنا فكرة التجسيم والتمثيل التي تكون في «القرن» ينفخ فيه.
10- وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الآية 80] .
الكلام على وَقَدْ هَدانِ فالنون مكسورة، والأصل: «وقد هداني» والياء مطلوبة لأنها ضمير المتكلم وهي المفعول به، وقد حذفت هذه الياء واجتزئ عنها بكسرة قصيرة. أقول:
«قصيرة» لأنها حركة قصيرة بالقياس إلى الياء التي هي كسرة أو حركة طويلة.
ولماذا هذا الاجتزاء؟ سبب ذلك أن الوقف الجائز بعد هَدانِ يسوّغه وجود حركة قصيرة ولو كانت طويلة، لما حسن الوقف، لأن الوقف على النون الساكنة، أوقع على السمع من الوقف على الياء، أي: المدّ الطويل كما هو أحسن من الوقف على الكسر، وهذا من لطائف حسن الأداء، الذي تقتضيه قراءة القرآن، وإحسان تلك القراءة.
11- وقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الآية 90] .
الكلام على اقْتَدِهْ، والهاء فيها صوت اقتضاه الوقف الذي هو أولى من الوصل في هذه الآية، وذلك أن الوقف لو كان على «الدال» لوجب إسكان الدال، وبذلك يختلّ الفعل، ويلتبس معناه بالأمر من «اقتاد» ، فجيء بالهاء وهو صوت حلقي يحسن السكوت عليه ألا ترى أن العرب في باب النداء والندبة والاستغاثة، وقفوا على الهاء فقالوا يا غوثاه، ويا زيداه، ووا حرّ قلباه، وغير ذلك.
12- وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الآية 91] .
والمعنى: ما عظّموا الله حقّ تعظيمه.
وقال الخليل: ما وصفوه حقّ صفته.(3/45)
أقول: هذا هو «القدر» بمعنى التعظيم الذي تحوّل إلى «التقدير» في لغة المعاصرين، يقولون: فلان حظي بالتقدير والاحترام. على أن «التقدير» في فصيح العربية القديمة ليس من هذا، وتقدير الله الخلق، تيسيره كلّا منهم، لما علم أنهم صائرون إليه من السعادة والشقاء، كذا قال المفسّرون والتقدير أيضا تعيين المقدار والدرجة والحدّ.
قال تعالى: وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصلت: 10] .
وقال تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) [المدّثّر] .
وقال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] .
وقال تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) [الإنسان] .
13- وقال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الآية 93] .
أقول: واسم الفاعل «باسطو» مضاف إلى معموله، والمعنى يبسطون أيديهم، وهذا يعني أن الدلالة الزمنية هي حكاية الحال الماضية، ومن أجل ذلك وجبت الإضافة، ولم يجب النصب، وقد كنا أشرنا إلى هذا الموضوع وأوضحناه.
14- وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 94] .
أريد أن أقف على قوله تعالى أَوَّلَ مَرَّةٍ، والمضاف إلى المصدر حكمه حكم المصدر مفعولا مطلقا.
أقول: درج المعاصرون على جرّ «أوّل» باللام فيقولون: حدث لأوّل مرّة، والفصيح: حدث أوّل مرّة.
15- وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الآية 95] .
اسم الفاعل في الآية أضيف إلى معموله، وامتنع النّصب. وانظر الآية:
93.
16- وقال تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 101] .
قالوا: من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، كقولك: فلان بديع الشّعر، أي: بديع شعره. كقولك: فلان ثبت الغدر، أي: ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النّظير والمثل فيها.
وقيل: البديع بمعنى المبدع «1» .
__________
(1) . «الكشاف» 2: 53.(3/46)
أقول: إن قولهم: البديع بمعنى المبدع أكثر وجاهة، وذلك لأنّ المبدع هو الموجد، والخالق، والبادئ، وأن بدأ وبدع وبده واحد في الأصل والمعنى واحد. وعلى هذا فالمبدع، مقابلا للبديع في الآية، يعضده الاشتقاق.
17- وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) .
أقول القسم في غاية الإغلاظ.
وقد كنت عرضت للايات المصدّرة ب «لئن» وأشرنا إلى اللام أنها موطئة للقسم، ومن أجل ذلك فافعل بعدها جواب للقسم، وقد أكّد بالنون لأنه الجواب المتصل باللام، المثبت المستقبل في دلالته الزمنية.
وعلى هذا، فأسلوب المعاصرين ومن سبقهم ممن أشرنا إليهم من الشعراء، غير فصيح، في جعل الجواب للشرط، يدل عليه اقترانه بالفاء التي هي فاء الجزاء. وَما يُشْعِرُكُمْ، بمعنى (وما يدريكم) ، أن الآية التي تقترحونها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك.
وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنّون مجيئها. فكأنّه، عزّ وجلّ، قال وما يدريكم أنهم لا يؤمنون. على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به.
ألا ترى إلى قوله تعالى: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 110] .
وقيل: «أنّها» بمعنى «لعلّها» من قول العرب: ائت السوق أنّك تشتري لحما.
وقال امرؤ القيس:
عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا «1» ... نبكي الدّيار كما بكى ابن خذام
ويقوّيها قراءة أبيّ: (لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون) .
وقرئ بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم «2» .
__________
(1) . لأننا بفتح اللام والهمزة، بمعنى لعلّنا.
(2) . «الكشاف» 2: 57.(3/47)
18- وقال تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ [الآية 138] .
أقول: حجر بمعنى محجور مثل الذّبح والطّحن، وهذا باب كبير في العربية، وهو ما جاء على «فعل» بكسر فسكون ومعناه مفعول.
ولعل هذه الأبنية السماعية التي تؤدّي ما تؤدّيه الأبنية القياسية، قد سبقت الأبنية القياسية، ومن أجل ذلك احتفظت العربية ببقاياها. ألا ترى أن «فعلة» في كثير من الألفاظ تؤدّي معنى «مفعول» ، نحو اللّقمة والكسوة والضحكة ونحو ذلك، ومثل ذلك ما ورد على «فعل» بفتحتين كالحلب والسلب والجلب والعلل والنّهل.
19- وقال تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الآية 139] .
قال الزمخشري «1» : كانوا يقولون في أجنّة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيّا، فهو خالص للذكور، لا تأكل منه الإناث.
وأنّث لفظ (خالصة) للحمل على المعنى، لأنّ (ما) في معنى الأجنّة، وذكّر لفظ (محرّم) للحمل على اللفظ.
ويجوز أن تكون التاء في «خالصة» للمبالغة مثلها في راوية الشعر. وأن تكون مصدرا وقع موقع الخالص، كالعاقبة، أي: ذو خالصة.
أقول: ولا أرى قوله الثاني في أن التاء للمبالغة وجيها، والوجه الأول هو الحسن والصواب، وذلك أن لغة القرآن هي لغة العرب، وقد درج العرب على مراعاة اللفظ مرّة ومراعاة المعنى أخرى فإذا اقتضت الحال المراعاة مرّتين، حمل عليهما للتجانس وأظن أن هذه هي الحكمة اللطيفة، التي جرت عليها لغة القرآن، والله تعالى أعلم.
ويحسن أن نشير إلى قول الزمخشري «البحائر والسوائب» بشيء من الشرح فنقول:
أقول: البحيرة والسائبة من قوله تعالى:
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة: 103] .
__________
(1) . «الكشاف» 2: 71. [.....](3/48)
قيل: البحيرة من الإبل التي بحرت أذنها، أي: شقّت طولا، ويقال: هي التي خلّيت بلا راع.
وقال الأزهري، قال أبو إسحاق النحويّ: أثبت ما روينا عن أهل اللغة، في البحيرة، أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أي: شقّوها، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلّأ عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيي المنقطع به لم يركبها.
وقيل: البحيرة الشاة إذا ولدت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكرا، بحروا أذنها، أي: شقّوها وتركت فلا يمسّها أحد.
قال الأزهري: والقول هو الأوّل لما جاء في حديث أبي الأحوص الجشمي عن أبيه، أن النبيّ (ص) قال له: أربّ إبل أنت أم ربّ غنم؟ فقال: من كلّ قد آتاني الله فأكثر، فقال: هل تنتج إبلك وافية آذانها فتشقّ فيها وتقول:
بحر؟ يريد جمع البحيرة.
أقول: وهذا من عاداتهم ومعتقدهم الذي درجوا عليه بالباطل فجاء الإسلام وأبطله.
وأمّا «السائبة» فهي أن الرجل في الجاهلية كان إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علّة، أو نجته دابّة من مشقّة أو حرب قال: ناقتي سائبة، أي: تسيّب فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلّأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب.
وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما فتعرف بذلك فأغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة فركب سائبة، فقيل: أتركب حراما؟ فقال:
يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلا «1» .
وجاء في الصحاح: السائبة الناقة التي كانت تسيّب في الجاهلية، لنذر ونحوه «2» .
وهذه أيضا آبدة من أوابدهم التي درجوا عليها، وسنأتي إلى الوصيلة فنقول: الوصيلة كانت في الشّاء خاصّة، فكانت الشّاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهو
__________
(1) . «اللسان» (سيب) .
(2) . «الصحاح» (سيب) .(3/49)
لآلهتهم، فإذا ولدت ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذّكر لآلهتهم، هذا هو قول المفسّرين للاية.
وقال غيرهم:
الوصيلة الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، وهي من الشّاء التي ولدت سبعة أبطن عناقين عناقين، فإن ولدت في السابع عناقا، قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبن الأمّ إلّا الرجال دون النساء، وتجري مجرى السائبة.
وقال أبو عرفة: الوصيلة من الغنم كانوا إذا ولدت الشاة ستّة أبطن، نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح، وأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كانت أنثى وذكرا، قالوا: وصلت أخاها فلم يذبح، وكان لبنها حراما على النساء.
على أن في الوصيلة أقوالا أخرى ليست بعيدة عن هذه الرسوم الجاهلية.
وأما الحامي: فهو الفحل من الإبل يضرب الضّراب المعدود، قيل: عشرة أبطن، فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام، أي: حمى ظهره فيترك فلا ينتفع منه بشيء ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
وقد أبطل الإسلام هذه الرسوم الجاهلية، وجعلها حلالا كغيرها من الحلال، وبذلك صرّحت الآية.
20- وقال تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً [الآية 142] .
قال الفراء: «الحمولة» ما أطاق العمل والحمل. و «الفرش» : الصّغار.
وقال أبو إسحاق: أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل.
وقال بعض المفسّرين: «الفرش» صغار الإبل، وإن البقر والغنم من الفرش، والذي جاء في التفسير يدلّ عليه قوله عزّ وجل ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ [الآية 143] فلما جاء هذا بدلا من قوله تعالى:
حَمُولَةً وَفَرْشاً جعله للبقر والغنم مع الإبل «1» .
21- وقال تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) .
أريد أن أقف قليلا على «الدراسة» ، وينبغي أن أرجع إلى الآية 105 من هذه السورة، وهي:
__________
(1) . «اللسان» (فرش) .(3/50)
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) .
وقد قرئت هذه الآية: (وليقولوا دارست) . والمعنى كما قالوا: درست كتب أهل الكتاب وأمّا دارست أي:
ذاكرتهم. وقرئ: (درست) و (درست) ، أي: هذه أخبار قد عفت وامّحت.
أقول: وهذه القراءة الأخيرة لا تعدل قوّة القراءة الأولى ووضوحها، التي اتّفق أكثر القراء وأهل العلم عليها.
وقرأ ابن عباس ومجاهد:
(دارست) ، وفسّرها: قرأت على اليهود وقرءوا عليك.
وقرئ: (درست) أي: قرئت وتليت.
والمصدر في هذا الفعل بمعنى القراءة الدّرس كالمصدر في «درس» بمعنى «عفا وامّحى» . أما الدراسة بمعنى القراءة، فهي خاصة بهذه الدلالة. والدّرس بمعنى القراءة من الأصول القديمة في مجموعة اللغات السامية، ومن المعلوم أن المدراش عند العبرانيين هو البيت الذي يدرسون فيه، نظير «المدرسة» في العربية التي استحدثت للمكان في العصور الإسلامية.
ودلالة الدرس على القراءة لها شواهد من كلام الله العزيز، كقوله:
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) [القلم] .
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها [سبأ: 44] .(3/51)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنعام» «1»
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ [الآية 6] ثم قال في الآية نفسها ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ كأنه أخبر النبي (ص) ثم خاطبه معهم كما قال سبحانه حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب، لأنه هو المخاطب.
فأمّا قوله عزّ وجلّ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الآية 2] ف (أجل) على الابتداء وليس على قَضى.
وقال تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الآية 12] بنصب لام (ليجمعنّكم) لأن معنى (كتب) كأنه قال «والله ليجمعنّكم» ثم أبدل فقال تعالى في الآية نفسها: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: ليجمعنّ الذين خسروا أنفسهم «2» .
وقال تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ [الآية 14] على النعت. وقرأ بعضهم (فاطر) بالرفع على الابتداء أي: هو فاطر «3» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في المشكل 1: 247 وإعراب القرآن 1: 307 والبحر 4: 83 وشرح الرضي 147 ونقله في البيان 1: 315 والإملاء 1: 236 والجامع 6: 396.
(3) . في إعراب القرآن 1: 307 نقل وجهي النصب والرفع، والقراءة بالجرّ هي في البحر 4: 85 إلى الجمهور وفي معاني القرآن 1: 328 بلا نسبة، وفي الكشاف 2: 9 بلا نسبة، والإملاء 1: 236 بلا نسبة. والقراءة بالرفع، هي في البحر 4: 85 إلى ابن أبي عبلة وفي معاني القرآن 1: 328 بلا نسبة، وانظر ما سبق. وقراءة النصب في معاني القرآن 1: 236 و 1: 328 بلا نسبة، وعدّه في الإملاء شذوذا قرئ به وأورده في الجامع 6: 397 إعرابا لا قراءة.(3/53)
وقال تعالى إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ [الآية 14] أي: وقيل لي: «لا تكوننّ» .
وقال تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا [الآية 23] على الصفة «1» . وقرأ بعضهم (ربّنا) «2» على:
يا ربّنا. وأمّا (والله) فبالجرّ على القسم، ولو لم تكن فيه الواو نصبت فقلت «الله ربّنا» . ومنهم من يجرّ بغير واو لكثرة استعمال هذا الاسم وهذا في القياس رديء. وقد جاء مثله شاذّا قولهم «3» [من الرجز وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد المائة] :
وبلد عاميّة أعماؤه «4»
وإنّما هو: ربّ بلد وقال «5» : [من الوافر وهو الشاهد التسعون بعد المائة] :
نهيتك عن طلابك أمّ عمرو ... بعاقبة «6» وأنت إذ صحيح
يقول: «حينئذ» فالقى «حين» وأضمرها «7» . وصارت الواو عوضا من «ربّ» في «وبلد» . وقد يضعون «بل» في هذا الموضع. قال الشاعر «8» : [من الرجز وهو الشاهد الحادي والتسعون بعد المائة] :
ما بال عين عن كراها قد جفت ... مسبلة تستنّ لمّا عرفت
__________
(1) . في الطبري 11: 300 قراءة الخفض إلى عامّة قراء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين، وفي السبعة 255 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 427، والتيسير 102 إلى غير حمزة والكسائي، وفي البحر 4: 95 إلى السبعة ما عدا الأخوين، وفي معاني القرآن 1: 330 بلا نسبة.
(2) . في معاني القرآن 1: 330 إلى علقمة بن قيس النخعي، وفي الطبري 11: 300 إلى جماعة من التابعين وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 255، والكشف 1: 427، والتيسير 102 إلى حمزة والكسائي، وفي البحر 4: 95 إلى الأخوين. وانظر الخزانة 3: 148 و 149، وشرح المفصل 3: 29 و 9: 315، واللسان أذذ.
(3) . القائل هو رؤبة بن العجاج، مجموع أشعار العرب 3، والصحاح واللسان «عمي» ، وقيل هو العجاج، المقاييس «عمي» 4: 134.
(4) . في شذور الذهب 320، وأوضح المسالك 553: وبلد مغبرّة أرجاؤه.
(5) . هو أبو ذؤيب خويلد بن خالد بن محرث الهذلي ديوان الهذليين 1: 68، والخزانة 3: 147، ومختار الصحاح والصحاح واللسان أذذ.
(6) . في المرتجل 10 «بعافية» وكذلك في مختار الصحاح، والبيت بعد في الخصائص 2: 376.
(7) . نقله في الخزانة 3: 48 و 149، وشرح المفصل 3: 29 و 9/ هـ 31، واللسان أذذ.
(8) . هو سؤر الذئب أخي بني مالك بن كعب بن سعيد. اللسان «حجف» و «بلل» ، ومعجم ألقاب الشعراء 121. [.....](3/54)
دارا لليلى بعد حول قد عفت بل جوز تيهاء كظهر الحجفت «1» فيمن قال «طلحت» «2» وقال تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية 25] وواحد «الأكنّة» : الكنان. و «الوقر» في الأذن بالفتح، و «الوقر» على الظهر بالكسر. وقال يونس «3» «سألت رؤبة» «4» فقال: «وقرت أذنه» «توقر» إذا كان فيها «الوقر» . وقال أبو زيد «5» :
«سمعت العرب تقول: «أذن موقورة» فهذا يقول: «وقرت» . قال الشاعر «6» [من الرمل وهو الشاهد الثاني والتسعون بعد المائة] :
وكلام سيّئ قد وقرت ... أذني «7» منه وما بي من صمم
وقال تعالى إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) فبعضهم يزعم أنّ واحده «أسطورة» وبعضهم «إسطارة» «8» ، ولا أراه إلّا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو «عباديد» و «مذاكير» و «أبابيل» «9» .
وقال بعضهم: «واحد الأبابيل» : إبّيل، وقال بعضهم: إبّول» مثل: «عجّول» ولم أجد العرب تعرف له واحدا «10» .
فأمّا «الشّماطيط» فإنهم يزعمون أنّ واحده «شمطاط» . وكل هذه لها واحد
__________
(1) . وردت المصاريع الأربعة مسلسلة في الصحاح «حجف» ، ووردت حسب تسلسلها في اللسان «حجف» الأول والرابع والخامس والثاني عشر في أرجوزة، وورد المصراع الرابع وحده وهو موضع الشاهد في الإنصاف 1:
902، والخصائص 1: 304 و 2: 98، وشرح المفصّل لابن يعيش 2: 118 و 4: 67 و 8: 105 و 9: 81، والمخصص 9: 7 و 16: 84 و 96 و 120.
(2) . أفيدت المعاني عن «بل» ونطق هاء التأنيث تاء في المراجع السابقة، أو نقلت ومن قسم فيها، ومما جاء في «اللهجات» 393 و 394، يفاد ان نطق هاء التأنيث تاء لغة حمير وطيئ.
(3) . هو يونس بن حبيب النحوي، وقد مرت ترجمته قبل.
(4) . هو رؤبة بن العجّاج الراجز المشتهر، وترجمته وأخباره في الأغاني 21: 84، والشعر والشعراء 2: 594، وطبقات فحول الشعراء 2: 761.
(5) . هو أبو زيد الانصاري النحوي، وقد مرت ترجمته قبل.
(6) . هو المثقّب العبدي، راجع شعر المثقب العبدي 46، والخزانة 4: 431، واللسان «زعم» .
(7) . في شعر المثقّب ب «عنه أذناي» وفي المصادر الأخرى كلها ب «أذني عنه» .
(8) . نقله باجتزاء في الجامع 6: 405 وزاد المسير 3: 19.
(9) . نقله في زاد المسير 3: 19.
(10) . نقله في الصحاح «أبل» وعزاه في اللسان «أبل» إلى الجوهري.(3/55)
إلّا أنه ليس يستعمل، ولم يتكلّم به لأنّ هذا المثال لا يكون إلّا جميعا.
وسمعت العرب الفصحاء يقولون:
«أرسل إبله أبابيل «1» » يريدون «جماعات «فلم يتكلّم لها بواحد.
وأمّا قوله تعالى وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الآية 26] فانه من: «نأيت» «ينأى» نأيا» .
وقال تعالى وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) نصب لأنّه جواب للتمني «2» وما بعد الواو كما بعد الفاء، وإن شئت رفعت «3» وجعلته على مثل اليمين، كأن القول «ولا نكذّب والله بآيات ربّنا ونكون والله من المؤمنين» «4» . هذا إذا كان هذا الوجه منقطعا من الأول. والرفع وجه الكلام، وبه نقرأ الآية. وإذا نصب جعلها واو عطف، فكأنهم قد تمنّوا ألّا يكذبوا وأن يكونوا «5» . وهذا، والله أعلم، لا يكون، لأنهم لم يتمنّوا الإيمان، إنّما تمنّوا الردّ، وأخبروا أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.
وقال تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) من «وزر» «يزر» «وزرا» ويقال أيضا:
«وزر» ف «هو موزور» . وزعم يونس «6» أنّ الاثنين يقالان.
وقال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [الآية 33] بكسر «إنّ» لدخول اللام الزائدة بعدها.
وقال تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
__________
(1) . نقل في الصحاح واللسان «أبل» .
(2) . نقله في المحتسب 1: 192 و 252 والنصب في الطبري 11: 318 قراءة منسوبة إلى بعض قراء الكوفة وفي المصاحف 61 إلى عبد الله وفي السبعة 255 إلى حمزة وإلى عاصم وابن عامر في رواية وفي البحر 4: 101 أهمل عاصما وزاد حفصا، وفي الكشف 1: 427، والتيسير 102، والجامع 6: 409، اقتصر على حمزة وحفص وفي حجّة ابن خالويه 112 بلا نسبة. وفي الكتاب 1: 426 إلى عبد الله بن أبي إسحاق.
(3) . في الطبري 11: 318 إلى عامّة قراء الحجاز والمدينة والعراقيين، وأن بعض قراء أهل الشام قرأ برفع نكذب ونصب نكون. وفي السبعة 255 إلى ابن كثير وأبي عمرو والكسائي وإلى عاصم وابن عامر في رواية. وفي الكشف 1: 427 والتيسير 102 إلى غير حمزة وحفص، وفي الجامع 6: 409 إلى أهل المدينة والكسائي وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، وإلى ابن عامر وإلى عبد الله بن مسعود ب «فلا» وفي البحر 4: 102 إلى ابن عامر في رواية هشام، وإلى السبعة غير من ذكر.
(4) . نقله في زاد المسير 3: 23. [.....]
(5) . نقله بعبارة مغايرة في المحتسب 1: 192 و 193 و 252.
(6) . انظر ترجمته فيما سبق.(3/56)
قال العرب: «قد أصابنا من مطر» و «قد كان من حديث» «1» .
وقال تعالى: نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ [الآية 35] ف «النفق» ليس من «النفقة» ولكنه من «النّافقاء» ، يريد دخولا في الأرض.
وقال تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الآية 38] يريد: جماعة أمة.
وقال سبحانه: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ [الآية 35] ولم يقل «فافعل» بل أضمر. وقال الشاعر «2» [من الخفيف وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائة] :
فبحظّ ممّا نعيش ولا تذ ... هب بك التّرّهات في الأهوال
فأضمر فعش أو فعيشي.
وقال تعالى: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الآية 40] فهذا الذي بعد التاء من قوله تعالى: أَرَأَيْتَكُمْ إنما جاء للمخاطبة. وتركت التاء مفتوحة كما كانت للواحد، وهي مثل كاف «رويدك زيدا» إذا قلت: «أرود زيدا» . فهذه الكاف ليس لها موضع فتسمّى بجرّ ولا رفع ولا نصب، وانما هي من المخاطبة مثل كاف «ذاك» . ومثل ذلك قول العرب: «أبصرك زيدا» يدخلون الكاف للمخاطبة، وإنّما هي «أبصر زيدا» .
قال تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الآية 46] ثم قال يَأْتِيكُمْ بِهِ [الآية 46] بحمله على السمع، أو على ما أخذ منهم.
قال تعالى فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) بالنصب جوابا لقوله جلّ وعلا ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الآية 52] .
وفي الآية الرابعة والخمسين قراءتان الأولى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ [الآية 54] «3»
__________
(1) . نقله في الإملاء 1: 240 والبحر 4: 113 والبيان 1: 320.
(2) . هو عبيد بن الأبرص، وقد سبق الاستشهاد بهذا الشاهد والكلام عليه قبل.
(3) . في الطبري 11: 393 إلى بعض المكّيّين وعامة قراء أهل العراق من الكوفة والبصرة. وفي السبعة 258 إلى ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي وكذلك في الكشف 1: 433، والتيسير 102، والجامع 6: 436، والبحر 4: 141، وزاد فيه الأعرج برواية.(3/57)
وأَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) «1» ف (أنّه) بدل من (الرحمة) أي: كتب أنّه من عمل. وأمّا (فإنّه) «2» فعلى الابتداء أي: فله المغفرة والرّحمة فهو غفور رحيم «3» . وقرأ بعضهم (فإنّه) أراد به الاسم وأضمر الخبر. أراد «فإنّ» «4» .
وفي قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) ورد تأنيث السبيل، على لغة أهل الحجاز «5» وقرأ بعضهم وَلِتَسْتَبِينَ «6» يعني النبيّ (ص) . وقرأ بعضهم (وليستبين سبيل) «7» في لغة بني تميم «8» .
وفي قوله تعالى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً [الآية 56] قراءة أخرى هي ضللت «9» .
فمن قرأ ضَلَلْتُ فمن تضلّ «10» ومن قرأ «ضللت» فمن تضلّ «11» .
__________
(1) . في الطبري «كالسابق» إلى بعض الكوفيين، وفي السبعة، والكشف والتيسير، والجامع، والبحر «كالسابق» إلى عاصم وابن عامر، وزاد في البحر الأعرج في رواية، وعليها رسم المصحف.
(2) . وخرج عن هذا نافع وحده إذ قرأ بفتح الهمزة في «أنه» أولا وكسرها في «فانه» المراجع السابقة.
(3) . نقله في إعراب القرآن 1: 315.
(4) . عبارة غير بيّنة المعنى والتعليل وفي الأصل فإن.
(5) . في الطبري 11: 395 إلى بعض المكيين وبعض البصريين، وفي الكشف 1: 434 والتيسير 103 إلى غير ابي بكر وحمزة والكسائي، وفي البحر 4: 141 إلى العربيين وابن كثير وحفص.
(6) . وعلى هذه القراءة يجب فتح اللام، في «سبيل» وهي قراءة نافع كما في التيسير 103 والسبعة 258 والكشف 1:
434.
(7) . في الطبري 11: 395 إلى عامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 258 إلى حمزة والكسائي، وإلى عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 433، والتيسير 103 والبحر 4: 141، أهمل عاصما وأبدل به أبا بكر.
(8) . أشارت كتب اللغة الى التأنيث والتذكير في لفظ «السبيل» ولم تعزهما لغتين المذكر والمؤنث للفراء 87، والتذكير والتأنيث 16، والمذكر والمؤنث للمبرد 115، والبلغة 67، ونسبها كالأخفش في «لهجة تميم 317» .
(9) . في الطبري 11: 397 أنّ القراء بها قليلون، وفي الشواذ 37 نسبت إلى يحيى وابن أبي ليلى، وفي الجامع 6:
438 إلى يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، وروي عن أبي عمرو أنها لغة تميم. وفي البحر 4: 142 إلى السلمي وابن وثاب وطلحة. [.....]
(10) . في الطبري 11: 397 إلى عامة قراء أهل الأمصار، وفي الجامع 6: 438 إلى الجمهور وأنها لغة الحجاز.
(11) في الجامع أن باب «فرح» لغة تميم، وباب «ضرب» لغة الحجاز وفي الصحاح «ضلل» أن باب ضرب لغة نجد وهي الفصيحة وأن لأهل العالية لغة أخرى هي من باب «حسب» ، وما في اللسان «ضلل» عن كراع، أن باب «فرح» و «حسب» لغة تميم، وعن اللحياني أن باب «فرح» لغة أهل الحجاز، وأن باب «ضرب» لغة تميم. وفي «لهجة تميم 195» أن باب ضرب لغة نجد وباب فرح لغة أهل الحجاز والعالية، وأن باب ورث لغة تميم.(3/58)
وقال تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) بالجر على (من) أو بالرفع على (تسقط) «1» ، وإن شئت جعلته على الابتداء، وتقطعه من الأول.
وقال تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الآية 63] وقال أيضا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] . و «الخفية» : الإخفاء و «الخيفة» من الخوف والرّهبة.
وقال تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الآية 65] لأنها من «لبس» «يلبس» «لبسا» .
وقال تعالى: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الآية 70] وهي من «أبسل» «إبسالا» .
وقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا [الآية 70] .
حَيْرانَ في قوله تعالى: حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ [الآية 71] «فعلان» له «فعلى» فهو لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة.
وأمّا قوله تعالى: إِلَى الْهُدَى ائْتِنا [الآية 71] فإنّ الألف التي في (ائتنا) ألف وصل ولكن بعدها همزة من الأصل هي التي في «أتى» وهي الياء التي في قولك «ائتنا» ، ولكنها لم تهمز حينما ظهرت ألف الوصل. لأن ألف الوصل مهموزة إذا استؤنفت، فكرهوا اجتماع همزتين.
وقال تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) يقول: «إنّما أمرنا كي نسلم لربّ العالمين» كما قال وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) [الزّمر] أي:
إنما أمرت بذلك.
ثم قال تعالى وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ [الآية 72] أي: وأمرنا أن أقيموا الصّلاة واتّقوه. أو يكون وصل الفعل باللّام، والمعنى: أمرت أن أكون.
والوصل باللام أيضا في قوله تعالى:
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] .
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ [الآية 73] أضيف (يوم) إلى (كن فيكون) وهو نصب وليس له خبر ظاهر، والله أعلم. وهو على ما فسّرت لك.
وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
__________
(1) . في الشواذ 37 إلى ابن أبي إسحاق، وفي البحر 4: 146 أنّ رفع «رطب» و «يابس» قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميفع، وفي معاني القرآن 1: 338 بلا نسبة قراءة. وفي المشكل 1: 255 إلى الحسن وابن أبي إسحاق، وفي الكشاف 2: 31 بلا نسبة.(3/59)
[الآية 73] وقرأ بعضهم (ينفخ) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الآية 73] «1» .
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الآية 74] قرئ آزَرَ بالفتح بدلا من لِأَبِيهِ «2» . وقد قرئت رفعا على النداء «3» كأنه قال «يا آزر» . وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد المائة] :
إنّ عليّ الله أن تبايعا ... تقتل صبحا أو تجيء طائعا «4»
فأبدل «تقتل صبحا» من «تبايع» .
في قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الآية 76] قرأ «5» بعضهم:
(أجنّ) . وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الرابع والتسعون بعد المائة] :
فلمّا أجنّ اللّيل بتنا كأنّنا ... على كثرة الأعداء محترسان
وقال [من الرجز وهو الشاهد الخامس والتسعون بعد المائة] :
أجنّك اللّيل ولمّا تشتف
فجعل «الجنّ» مصدرا ل «جنّ» .
وقد يستقيم أن يكون «أجنّ» ويكون هذا مصدره، كما قال «العطاء» و «الإعطاء» . وأما قوله تعالى:
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 235] فإنهم يقولون في مفعولها: «مكنون» ويقول بعضهم «مكنّ» وتقول: «كننت الجارية» إذا صنتها و: «كننتها من الشّمس» و «أكننتها من الشّمس» أيضا.
ويقولون «هي مكنونة»
__________
(1) . إشارة إلى معنى كون الرفع في «عالم» على الفاعلية ل «ينفخ» بالبناء للمعلوم، انظر الجامع 7: 21.
(2) . وعليها في الطبري 11: 467 قراءة عامة قراء الأمصار، وفي البحر 4: 164 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 1:
340 بلا نسبة، وكذلك في البيان 1: 327، والإملاء 1: 248.
(3) . في معاني القرآن 1: 340، أنها قراءة بعضهم، وفي الطبري 11: 467 إلى أبي زيد المديني والحسن البصري وفي المحتسب 1: 223 إلى أبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد والضحّاك وابن يزيد المدني ويعقوب وسليمان التيمي، وفي الجامع 7: 23 إلى ابن عباس وأبي يعقوب وغيرهما، وفي البحر 4: 164 الى أبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، واقتصر في المشكل 1: 258 على يعقوب، وفي الكشاف 2: 39، والبيان 1: 327، والإملاء 1: 248.
(4) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 78 وشرح الأبيات للفارقي 94، وشرح ابن عقيل 2: 200، والخزانة 2:
373، والمقاصد النحوية 4: 199، ب «تؤخذ كسرها» بدل «تقتل صبحا» .
(5) . في معاني القرآن 1: 341 بلا نسبة قراءة، وفي الطبري 11: 478 و 479، والجامع 7: 25 أنه لغة ولم ينسب قراءة.(3/60)
و «مكنّة» «1» وقال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد السادس والتسعون بعد المائة] :
قد كنت أعطيهم مالي وأمنحهم ... عرضي وعندهم في الصّدر مكنون
لأنّ قيسا تقوله: «كننت العلم» فهو «مكنون» . وتقول بنو تميم «أكننت العلم» ف «هو مكنّ» ، و «كننت الجارية ف «هي مكنونة» . وفي كتاب الله عز وجل: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 235] وقال تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) [الصافات] وقال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع والتسعون بعد المائة] :
قد كنّ يكنن «3» الوجوه تستّرا ... فاليوم «4» حين بدون «5» للنّظّار
وقيس تنشد «قد كن يكنن» .
وقوله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَ [الآية 76] فهو من «يأفل» «أفولا» .
وأما قوله تعالى، كما ورد في التنزيل حكاية على لسان إبراهيم (ع) يقول للشمس: هذا رَبِّي [الآية 78] فقد يجوز على «هذا الشيء الطالع ربّي» «6» .
أو على أنّه ظهرت الشمس وقد كانوا يذكرون الربّ في كلامهم، قال لهم:
هذا رَبِّي. وإنما هذا مثل ضربه لهم ليعرفوا إذا هو زال أنه ينبغي ألّا يكون مثله إلها، وليدلّهم على وحدانية الله، وأنه ليس مثله سبحانه، شيء. وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة] :
مكثت حولا ثمّ جئت قاشرا ... لا حملت منك كراع حافرا
قال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الآية 84] يعني: وَوَهَبْنا لَهُ
__________
(1) . لم ينسب اللسان والصحاح «كنن» اللغتين، وإن أشار إليهما.
(2) . هو الربيع بن زياد الشاعر الجاهلي، أحد الكملة أولاد فاطمة بنت الخرشب، شعر الربيع بن زياد 393، والأغاني 16: 28.
(3) . في الخصائص 3: 300، والشعر والأغاني ب «يخبأن» ، وفي مجالس العلماء 144 ب «يكنن» ، المزيد بالهمزة.
(4) . في الخصائص ومجالس العلماء «فالآن» .
(5) . في الخصائص: «بدأن» وفي مجالس العلماء «بدين» .
(6) . نقله في زاد المسير 3: 76، والبحر 4: 167، وأشرك معه الكسائي في إعراب القرآن 1: 322، والجامع 7: 27 و 28. [.....](3/61)
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ «1» وكذلك وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى [الآية 85] .
ووَ الْيَسَعَ [الآية 86] «2» وقرأ بعضهم: (واللّيسع) «3» ونقرأ بالخفيفة.
وقال تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الآية 90] . بالوقف على هاء (اقتده) وكلّ شيء من بنات الياء والواو في موضع الجزم، فالوقف عليه بالهاء، ليلفظ به كما كان.
وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي [الآية 92] بالرفع على الصفة، أو بالنصب على الحالية ل أَنْزَلْناهُ.
وقال تعالى وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الآية 93] فنراه يريد: يقولون أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ والله أعلم. وكأن في قوله باسِطُوا أَيْدِيهِمْ دليلا على ذلك لأنه قد أخبر أنهم يريدون منهم شيئا.
قرئ قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ [الآية 96] بجعله مصدرا من «أصبح» «4» . وبعضهم يقرأ (فالق الأصباح) «5» على أنها جمع «الصّبح» .
وقال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً [الآية 96] أي: بحساب.
حذفت الباء، كما من قوله تعالى:
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 117] أي: أعلم بمن يضلّ.
و «الحسبان» جماعة «الحساب» مثل «شهاب» و «شهبان» «6» ، ومثله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) [الرحمن] أي:
بحساب.
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 324.
(2) . في الطبري 11: 510 قراءة عامة قراء الحجاز والعراق، وفي السبعة 362 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 438، والتيسير 104 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 7: 32 الى أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وفي البحر 4: 174 إلى الجمهور، وفي حجة ابن خالويه 119، بلا نسبة.
(3) . في معاني القرآن 1: 342 إلى أصحاب عبد الله، وفي الطبري 11: 511 إلى جماعة من قراء الكوفيين، وفي السبعة 262 والكشف 1: 438 والتيسير 104 إلى حمزة والكسائي، وفي البحر 4: 174 إلى الأخوين، وفي الجامع 7: 32 و 33 إلى الكوفيين، إلّا عاصما، وخص منهم الكسائي وفي حجة ابن خالويه 119، بلا نسبة.
(4) . في الجامع 7: 45 نسبها قراءة إلى ابراهيم النخعي برواية الأعمش، وفي الطبري 11: 555، إلى الضحّاك ومجاهد وقتادة وابن عباس وابن زيد، وفي معاني القرآن 1: 346 لم ينسب قراءة.
(5) . في الطبري 11: 556، والشواذ 39، والكشاف 2: 48، إلى الحسن البصري، وفي الجامع 7: 45 زاد عيسى بن عمرو، في البحر 4: 185 زاد أبا رجاء ولم ينسب هذا الوجه في معاني القرآن 1: 346 قراءة.
(6) . نقله في التهذيب «حسب» 4: 331- 333، والمشكل 1: 263، وإعراب القرآن 1: 328، والجامع 7: 445.(3/62)
وقال تعالى: أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الآية 98] فنراه يعني: فمنها مستقرّ ومنها مستودع والله أعلم.
وقال تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً [الآية 99] نراه يريد «الأخضر» كقول العرب: «أرنيها نمرة أركها مطرة» «1» .
وقال تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ [الآية 99] ثم قال:
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [الآية 99] أي:
«وأخرجنا به جنّات من أعناب» .
ثم قال وَالزَّيْتُونَ [الآية 99] وواحد: «القنوان» : قنو، وكذلك «الصّنوان» واحدها: «صنو» .
وقال تعالى: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 108] والأصل من «العدوان» . تقول: «عدا عدوا علينا» مثل «ضربه ضربا» «2» .
وقال تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وفسّر على «لعلّها» «3» كما تقول العرب: «اذهب إلى السوق أنّك تشتري لي شيئا» أي:
لعلّك. وقال الشاعر «4» [من الرجز وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة] :
قلت لشيبان ادن من لقائه ... أنّا نغذّي القوم من شوائه «5»
في معنى «لعلّنا» .
قال تعالى: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الآية 111] أي: قبيلا قبيلا، جماعة «القبيل» «القبل» . ويقال
__________
(1) . نقله في الصحاح «خضر» و «مطر» وإعراب القرآن 1: 328 و 329 والجامع 7: 47 والقول مثل: انظر مجمع الأمثال 1: 294 مثل 1556، والمستقصى 1: 144 مثل 567، والاشتقاق 184.
(2) . في الطبري 12: 35 أنها إجماع الحجة من قراء الأمصار، وفي الكشاف 2: 56، والإملاء 1: 257، والمراجع السابقة كلها كالسابق بلا نسبة.
(3) . في الطبري 12: 41 إلى أبيّ بن كعب، وعامة قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 365 الى نافع وحمزة والكسائي، وشكّ في ابن عامر وإلى عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 444، والتيسير 106 إلى أبي بكر في رواية والى غير أبي عمرو وابن كثير، وفي الجامع 7: 64 إلى أهل المدينة والأعمش وحمزة، وفي البحر 4: 201 الى السبعة غير من قرأ بالثانية، وفي الكتاب 1: 463 إلى أهل المدينة.
(4) . هو أبو النجم العجلي الراجز المشهور، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 460 والإنصاف 2: 311.
(5) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 460، «كما تغدي الناس» وفي مجالس ثعلب 154 ب «كما يغدي القوم» وفي الإنصاف 2: 311 «كما تغدي القوم» .(3/63)
«قبلا» «1» أي: عيانا. وتقول: «لا قبل لي بهذا» أي: لا طاقة. وتقول: «لي قبلك حق» أي: عندك.
وقال تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الآية 113] هي من «صغوت» «يصغا» مثل «محوت» «يمحا» .
وقال جل شأنه وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الآية 100] على البدل كما قال إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ [الشورى] . وقال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد المئتان] :
ذريني إنّ أمرك لن يطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا
وقال [من البسيط وهو الشاهد الحادي بعد المائتين] :
إنّي وجدتك يا جرثوم من نفر ... جرثومة اللّؤم لا جرثومة الكرم
وقال الاخر «3» [من البسيط وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة] :
إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم ... كساعد الضّبّ لا طول ولا عظم
وقال «4» [من الرجز وهو الشاهد الثاني بعد المائتين] :
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا
ويقال: ما للجمال مشيها وئيدا. كما قيل [من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المائتين] :
فكيف ترى عطيّة حين تلقى ... عظاما هامهنّ فراسيات
وقال تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الآية 119] أي،
__________
(1) . في الطبري 12: 48 الى قراء أهل المدينة، وفي السبعة 266، والكشف 1: 111، والتيسير 106، إلى نافع وابن عامر، وفي الجامع 7: 66، والبحر 4: 205 إلى ابن عباس وقتادة وابن زيد ونافع وابن عامر.
(2) . هو عدي بن زيد العبادي، ديوانه 35، ومعاني القرآن 2: 424، والخزانة 2: 368، والمقاصد النحوية 4: 192 أو هو رجل من خثعم: شرح الأبيات للفارقي 199، والكتاب 1: 77، وتحصيل عين الذهب 1: 78 أو رجل من بجيلة: الكتاب 1: 77.
(3) . قائل الشاهدين واحد، وكلاهما في الحيوان 6: 112، والقائل غير معروف، وقد سبق الاستشهاد قبل بالثاني منهما. [.....]
(4) . هو قصير صاحب جذيمة، الكامل 2: 428 وقيل الخنساء بنت عمرو بن الشهيد المقاصد النحوية 2: 448، وقيل هي الزبّاء ملكة تدمر، اللسان «واد» و «صرف» ، والمقاصد النحوية 2: 448، والخزانة 3: 272، وشرح سقط الزند للخوارزمي 1783، ومجمع الأمثال 1: 233، والدرر 1: 141، والبيت بعد في معاني القرآن 2: 73.(3/64)
والله أعلم، «وأيّ شيء لكم في ألّا تأكلوا» وكذلك وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ [البقرة: 246] يقول: «أيّ شيء لنا في ترك القتال» . ولو كانت (أن) زائدة لارتفع الفعل، ولو كانت في معنى «وما لنا وكذا» لكانت «وما لنا وألّا نقاتل» .
في قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ [الآية 119] أوقع السّياق (أنّ) على النكرة لأنّ الكلام إذا طال، احتمل، ودل بعضه على بعض.
وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الآية 123] فالبناء على «أفاعل» ، وذلك أنه يكون على وجهين يقول «هؤلاء الأكابر» و «الأكبرون» وقال نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا [الكهف: 103] وواحداهم «أخسر» مثل «الأكبر» .
وقال تعالى وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الآية 137] لأن الشركاء زيّنوا.
ثمّ قال سبحانه لِيُرْدُوهُمْ [الآية 137] من «أردى» «إرداء» .
وقال حِجْرٌ لا يَطْعَمُها [الآية 138] و «الحجر» «الحرام» وقد قرئت بالضم (حجر) «1» ، وقد يكون اللفظان في معنى واحد. وقد يكون «الحجر» :
العقل، قال الله تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) [الفجر] أي ذي عقل. وقال بعضهم: «لا يكون في قوله تعالى: وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الآية 138] إلا الكسر. وليس ذا بشيء لأنه حرام. وأما «حجر المرأة» ففيه الفتح والكسر، و «حجر اليمامة» «2» بالفتح، و «الحجر» ما حجرته، وهو قول أصحاب الحجر.
وقوله عز وجل: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ [الآية 139] . وقد يجوز الرفع لأنّ المؤنّث قد يذكّر فعله.
و (خالصة) أنثت لتحقيق الخلوص كأنه لما حقّق لهم الخلوص، أشبه
__________
(1) . الطبري 12: 142 الى الحسن وقتادة، واقتصر في الجامع 7: 94 على الحسن، وزاد عليهما في البحر 4: 231 الأعرج.
(2) . انظر معجم البلدان «حجر» .(3/65)
الكثرة، فجرى مجرى «راوية» و «نسّابة» «1» .
وقوله تعالى جَنَّاتٍ [الآية 141] بالجرّ لأن تاء الجميع في موضع النصب، مجرورة بالتنوين.
ثم قال تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً [الآية 142] أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا.
ثم قال تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الآية 143] أي: أنشأ حمولة وفرشا ثمانية أزواج. أي: أنشأ ثمانية أزواج، على البدل «2» أو التبيان أو على الحال «3» .
وقوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الآية 143] أي على تقدير (أنشأ) قبل الآية، والله أعلم. وإنّما قال ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ لأنّ كلّ واحد «زوج» . تقول للاثنين:
«هذان زوجان» وقال الله عز وجل وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات:
49] وتقول للمرأة، «هي زوج» «4» و «هي زوجة» «5» و: «هو زوجها» .
وقال تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف: 189] يعني المرأة وقال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] وقال بعضهم: «الزوجة» وقال الأخطل [من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة] :
زوجة أشمط مرهوب بوادره ... قد صار في رأسه التخويص والنزع
وقد يقال للاثنين أيضا: «هما زوج» و «الزوج» النّمط يطرح على الهودج.
قال لبيد [من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة] :
من كلّ محفوف يظلّ عصيّه ... زوج عليه كلّة وقرامها
وأمّا الضَّأْنِ [الآية 143] فمهموز وهو جماع على غير واحد. ويقال (الضئين) مثل «الشعير» وهو جماعة
__________
(1) . نقله في الجامع 7: 95، وأشرك معه الكسائي فيه.
(2) . نقله في المشكل 1: 275، وإعراب القرآن 1: 341، والجامع 7: 113.
(3) . نقله في إعراب القرآن 1: 341.
(4) . هي لغة أهل الحجاز، المخصص 17: 24، والبحر 1: 109، واللسان «زوج» وزاد المسير 1: 65، والمذكّر والمؤنث للفرّاء 95 و 108، ولهجة تميم 321، واللهجات العربية 503.
(5) . هي لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد المصادر السابقة، وفي المذكّر والمؤنث 95 الى أهل نجد، وفي 108 الى سائر العرب غير أهل الحجاز.(3/66)
«الضأن» والأنثى «ضائنة» والجماعة:
«الضوائن» .
والْمَعْزِ [الآية 143] جمع على غير واحد، وكذلك «المعزى» ، فأمّا «المواعز» فواحدتها «الماعز» و «الماعزة» والذكر الواحد «ضائن» فيكون «الضأن» جماعة «الضائن» مثل «صاحب» و «صحب» و «تاجر» و «تجر» وكذلك «ماعز» و «معز» . وقرأ بعضهم (ضأن) «1» و (معز) «2» جعله جماعة «الضائن» و «الماعز» مثل «خادم» و «خدم» ، و «حافد» و «حفدة» مثله، إلّا أنّه ألحق فيه الهاء.
وأمّا قوله تعالى آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ [الآية 143] فالنصب فيه ب «حرّم» .
وقال تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً [الآية 145] أي: «إلّا أن يكون ميتة أو فسقا فإنّه رجس» .
وقال تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا [الآية 146] فواحد «الحوايا» : «الحاوياء» «والحاوية» . ويريد تعالى بقوله، والله أعلم، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أي:
والبقر والغنم حرمنا عليهم. ولكنه أدخل فيها «من» والعرب تقول: «قد كان من حديث» يريدون: «قد كان حديث» وإن شئت قلت «ومن الغنم حرّمنا الشّحوم» كما تقول: «من الدّار أخذ النّصف والثلث» فأضفت على هذا المعنى كما تقول: «من الدّار أخذ نصفها» و «من عبد الله ضرب وجهه» .
وقال هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الآية 150] لأن «هلمّ» قد تكون للواحد والاثنين والجماعة «3» .
وكأنّ قوله تعالى
__________
(1) . قرأ بفتح الهمزة، كما جاء في الشواذ 41 والمحتسب 234 والجامع 7: 114، طلحة بن مصرف اليماني، وزاد في الجامع 4: 239 الحسن وعيسى ابن عمر، وفي الكشاف 2: 74، والإملا 1: 263 بلا نسبة. أمّا بسكون الهمزة، ففي الجامع 7: 114 أنها لأبان بن عثمان، وفي حجة ابن خالويه 127، والشواذ 41، والكشاف 2:
74، والإملا 1: 263، بلا نسبة.
(2) . نسب فتح العين كما في البحر 4: 239 الى الابنين وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 456، والتيسير 108، الى غير نافع والكوفيين، وفي الكشاف 2: 74 والإملا 1: 263 بلا نسبة. أمّا سكون العين، فقد قرأ به، كما في الكشف 1: 456، والتيسير 108 نافع وأهل الكوفة، وفي الجامع 7: 114، أن القارئ أبيّ. وفي حجّة ابن خالويه 127، والكشاف 2: 74، والإملا 1: 263 بلا نسبة.
(3) . نسبت في مجاز القرآن 1: 208 الى أهل العالية.(3/67)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الآية 156] على ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الآية 154] كراهية أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الآية 156] .
وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً [الآية 159] وقرأ بعضهم (فارقوا) «1» من «المفارقة» .
وقال تعالى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الآية 160] على العدد كما تقول: «عشر سود» فان قلت كيف قال (عشر) و «المثل» مذكر؟ فإنّما أنّث لأنه أضيف إلى مؤنث وهو في المعنى أيضا «حسنة» أو «درجة» ، فإن أنّث على ذلك فهو وجه. وقرأ بعضهم (عشر أمثالها) «2» جعل «الأمثال» من صفة «العشر» . وما كان من صفة لا تضاف الى العدد. ولكن يقال «هم عشرة قيام» لا يقال: «عشرة قيام» .
__________
(1) . نسبت في معاني القرآن 1: 366 إلى الإمام علي، وزاد الطبري 12: 268 قتادة، وأهمل في الكشف 1: 458 قتادة، وزاد النبي الكريم، وحمزة والكسائي، ولم يذكر في الجامع 7: 149، والبحر 4: 260 النبي الكريم، واقتصرت في السبعة 274 والتيسير 108 على حمزة والكسائي وفي الكشاف 2: 83 بلا نسبة، وكذلك في الإملاء 1: 267.
(2) . قرئ بهذا الوجه كما جاء ذلك منسوبا في الطبري 12: 281 الى الحسن، وكذلك في الشواذ 41، وزاد عليه في الجامع 7: 151 سعيد بن جبير والأعمش، وزاد عليه في البحر 4: 261 عيسى بن عمر ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث. وفي حجّة ابن خالويه 128 بلا نسبة. أمّا القراءة بالإضافة، فهي في الطبري 12: 281 إلى قراء الأمصار، وفي حجّة ابن خالويه 128 بلا نسبة.(3/68)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنعام» «1»
إن قيل: لم جمعت الظلمة دون النور في قوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ؟ [الآية الأولى] .
قلنا: ترك جمعه استغناء عنه بجمع الظلمة قبله فإنه يدل عليه، كما ترك جمع الأرض أيضا استغناء عنه بجمع السماء قبله في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية الأولى] . الثاني أن الظلمة اسم، والنور مصدر، والمصادر لا تجمع.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَجَهْرَكُمْ [الآية 3] بعد قوله سبحانه يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ومعلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟
قلنا: إنّما ذكره للمقابلة كما في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:
203] في بعض الوجوه.
فإن قيل: لم خصّ السكون بالذكر دون الحركة في قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الآية 13] على قول من فسره بما يقابل الحركة؟
قلنا: لأن السكون أغلب الحالتين على كل مخلوق من الحيوان والجماد، ولأن الساكن من المخلوقات أكثر عددا من المتحرك أو لأنّ كلّ متحرّك يصير إلى السكون من غير عكس أو لأنّ السكون هو الأصل والحركة حادثة عليه وطارئة. وقيل فيه إضمار تقديره:
ما سكن وتحرك، فاكتفى بأحدهما اختصارا لدلالته على مقابله، كما في قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي والبرد.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرخ. [.....](3/69)
فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الآية 14] ولم يقل وهو ينعم ولا ينعم عليه، وهذا أعمّ لتناوله الإطعام وغيره؟
قلنا لأن الحاجة إلى الرزق أمسّ فخصّ بالذكر. والثاني أن كون المطعم آكلا متغوّطا أقبح من كونه منعما عليه، فلذلك ذكره.
فإن قيل: في قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور، وقد بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) [العاديات] ؟
قلنا: المبتلى يوم القيامة ينطق بما ينفعه وبما يضرّه لعدم التمييز بسبب الحيرة والدهشة، كحال المبتلى المعذّب في الدنيا يكذب على نفسه وعلى غيره، ويتكلم بما يضرّه، ألا تراهم يقولون كما ورد في التنزيل رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [المؤمنون: 107] وقد أيقنوا بالخلود فيها، وقالوا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] وقد علموا أنه لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر: 36] .
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) [النساء] ؟
قلنا: القيامة مواقف مختلفة ففي بعضها لا يكتمون، وفي بعضها يحلفون كاذبين، كما قال عزّ وجلّ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر] وقال تعالى:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن] وقيل إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يكون بعد شهادتها عليهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الآية 32] وهو خير لغير المتّقين أيضا كالأطفال والمجانين؟
قلنا: إنّما خصّهم بالذكر، لأنهم الأصل فيها من حيث أنّ درجتهم أعلى، وغيرهم تبع لهم.
فإن قيل: ما الحكمة من التعبير في قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) مخاطبا الرسول محمدا (ص) ونحن نعلم أنه جلّ وعلا قد خاطب النبي نوحا (ص) بقوله:
إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) [هود] أي خاطبه بألين الخطابين، مع أن(3/70)
محمدا (ص) أعظم رتبة، وأعلى منزلة منه؟
قلنا: لأن نوحا عليه الصلاة والسلام، كان معذورا في جهله بمطلوبه، لأنه تمسّك بوعد الله تعالى في إنجاء أهله، وظنّ أن ابنه من أهله وأمّا محمد (ص) فما كان معذورا، لأنه كبر عليه كفرهم، مع علمه أن كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى، وأنهم لا يهتدون إلّا أن يهديهم الله.
فإن قيل: إذا بعث الله تعالى الموتى من قبورهم، فقد رجعوا إلى الله بالحياة بعد الموت، فما الحكمة من قوله تعالى: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) ؟
قلنا: المراد به وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء، وذلك غير البعث وهو إحياؤهم بعد الموت فلا تكرار فيه.
فإن قيل: قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الآية 37] لو صح من النبي (ص) هذا الجواب لصح لكل من ادّعى النبوة، وطولب بآية أن يقول إن الله قادر على أن ينزّل آية؟
قلنا: إذا ثبتت نبوته بما شاء الله من المعجزة، يصح له أن يقول ذلك، بخلاف ما إذا لم تثبت نبوته، والنبي (ص) كانت قد ثبتت نبوته بالقرآن، وانشقاق القمر، وغيرهما.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الآية 38] والدابّة لا تكون إلّا في الأرض، لأن الدابة في اللغة اسم لما يدبّ على وجه الأرض وما الحكمة في قوله تعالى وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الآية 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح؟
قلنا: فيه فوائد: الأولى للتأكيد كقولهم: هذه نعجة أنثى، وقولهم كلمته بلساني، ومشيت إليه برجلي، وكما قال الله تعالى لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: 51] وقال تعالى:
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] . الثانية نفي توهّم المجاز فإنه يقال: طار فلان في أمر كذا إذا أسرع فيه، وطار الفرس إذا أسرع الجري. الثالثة زيادة التعميم والإحاطة كأنه قال جميع الدواب الدابة وجميع الطيور الطائرة.
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ(3/71)
[الآية 40] إلى أن قال فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الآية 41] ومن جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة وهو لا يكشف عن المشركين؟
قلنا: لم يخبر عن الكشف مطلقا، بل مقيّدا بشرط المشيئة، وعذاب الساعة، لو شاء كشفه عن المشركين لكشفه.
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الآية 50] كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة، وترك ذكره في الجملة الثانية؟
قلنا: لما كان الإخبار بالغيب كثيرا ممّا يدّعيه البشر كالكهنة والمنجّمين وواضعي الملاحم، ثم إنّ كثيرا من الجهّال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم، بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الإلهية والملكية، فإن انتفاءهما عنه وعن غيره من البشر ظاهر. فاكتفي في نفيهما، بنفي القول، إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر ولا في زعم الناس، بخلاف علم الغيب فافترقا، والمراد بقوله تعالى قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ [الآية 50] أي لا أدّعي الإلهية، كذا قاله بعض المفسرين.
فإن قيل: قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) لم ذكر سبيل المجرمين ولم يذكر سبيل المؤمنين، وكلاهما محتاج إلى بيانه؟
قلنا: لأنه إذا ظهر سبيل المجرمين، ظهر سبيل المؤمنين أيضا بالضرورة إذ السبيل سبيلان لا غير.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الآية 60] أي ما كسبتم، وهو يعلم ما جرحوا ليلا ونهارا؟
قلنا: لأن الكسب أكثر ما يكون بالنهار لأنه زمان حركة الإنسان، والليل زمان سكونه، لقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] بعد قوله سبحانه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص: 72] .
فإن قيل: قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الآية 62] يعني مولى جميع الخلائق. وقال في موضع آخر وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) [محمّد] ؟
قلنا: المولى الأول بمعنى المالك أو(3/72)
الخالق أو المعبود، والمولى الثاني بمعنى الناصر فلا تنافي بينهما.
فإن قيل: لم خصّ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ [الآية 73] بيوم القيامة، فقال تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الآية 73] مع أن قوله الحق في كل وقت، وله الملك في كل زمان؟
قلنا: لأن ذلك اليوم، ليس لغيره فيه ملك، بوجه من الوجوه، وفي الدنيا لغيره ملك، خلافة عنه أو هبة منه وإنعاما، بدليل قوله تعالى في حق داود عليه السلام وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 251] وقوله وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 247] وقوله في ذلك اليوم هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد، ولا يشك فيه شاكّ من أهل العناد، لانكشاف الغطاء فيه للكل، وانقطاع الدعاوى والخصومات، ونظيره قوله تعالى وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) [الانفطار] وإن كان الأمر له في كل زمان، وكذا قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] ؟
فإن قيل: لم قال تعالى في معرض الامتنان وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الآية 84] ولم يذكر إسماعيل مع أنه كان هو الابن الأكبر؟
قلنا: لأن إسحاق وهب له من حرة وإسماعيل من أمة وإسحاق وهب له من عجوز عقيم، فكانت المنّة فيه أظهر.
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف القرآن وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الآية 92] وكثير ممّن يؤمن بالآخرة من اليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمن به؟
قلنا: معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا، هم الذين يؤمنون به إما تصديقا به قبل إنزاله لما بشّر به موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو اتّباعا له بعد إنزاله والأمر كذلك، فإن من لم يصدق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في بشارتهما بمحمد (ص) وبالقرآن أو كان بعد بعثه ولم يؤمن به، فإيمانه بالآخرة غير معتدّ به ولا معتبر.
فإن قيل: لم أفرد قوله سبحانه تعالى أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الآية 93] بعد قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الآية 93] وذلك أيضا افتراء؟
قلنا: لأنّ الأول عام، والثاني خاص، والمقصود الإنكار فيهما، ولا(3/73)
يلزم من وجود العام وجود الخاص، ولكن يلزم من الذمّ على العامّ وإنكاره، الذمّ على الخاصّ وإنكاره لا محالة وما نحن فيه من هذا القبيل، والجواب المحقّق أن يقال إن هذا الخاص لمّا كان مخصوصا بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خصّه بالذكر، تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 102] بعد قوله سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 101] ؟
قلنا: ذكره أوّلا استدلالا به على نفي الولد، ثم ذكره ثانيا توطئة وتمهيدا لقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ [الآية 102] فإن كونه خالق كل شيء يقتضي تخصيصه بالعبادة والطاعة، فكانت الإعادة لفائدة جديدة.
فإن قيل: في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الآية 103] كيف خص الأبصار بإدراكه لها، ولم يقل وهو يدرك كل شيء مع أنه أبلغ في التمدح؟
قلنا: لوجهين: أحدهما مراعاة المقابلة اللفظية، فإنه نوع من البلاغة.
الثاني أن هذه الصفة خاصة بينه وبين الأبصار أنه يدركها، بمعنى الإحاطة بها وهي لا تدركه، فأما غيره مما يدرك الأبصار فهي تدركه أيضا، فلهذا خصها بالذكر.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الآية 114] ولم يقل وهو الذي أنزل إليّ مع أنه سبحانه قال في موضع آخر:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] ؟
قلنا: لمّا كان إنزاله إلى النبي (ص) ليبلغه إلى الخلق ويهديهم به، كان في الحقيقة منزلا إليهم، لكن بواسطة النبي (ص) فصلح إضافة الإنزال إليه وإليهم.
فإن قيل: في قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) كيف علّق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمّى عليها، والكون من المؤمنين حاصل، وإن لم تؤكل الذبيحة أصلا؟
قلنا: المراد إعتقاد الحلّ لا نفس الأكل، فإن بعض من كان يعتقد حل الميتة من العرب كان يعتقد حرمة الذبيحة.(3/74)
فإن قيل: لم أبهم فاعل التزيين هنا فقال تعالى كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وقال سبحانه في آية أخرى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل: 4] وقال في آية أخرى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] فمن هو مزيّن الأعمال للكفار في الحقيقة؟
قلنا: التزيين من الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة وإيراد الشبه، ومن الله تعالى بخلق جميع ذلك، فصحّت الإضافتان.
فإن قيل: لم قال تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الآية 130] والرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟
قلنا: المراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبي (ص) وولّوا إلى قومهم منذرين، كما قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] . الثاني: أنه كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن] والمراد من أحدهما، لأنه إنّما يخرج من الملح.
والثالث: أنه بعث إليهم رسل منهم، قاله الضحّاك ومقاتل.
فإن قيل: لم ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
[الآية 130] ، والمعنى فيهما واحد؟
قلنا: المعنى المشهود به متعدّد وإن كان في الشهادة واحدا، إلا أنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ الرسل وإنذارهم، وفي الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر، وهما متغايران.
فإن قيل: كيف أقرّوا في هذه الآية بالكفر وشهدوا على أنفسهم به، وجحدوه في قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ؟
قلنا: مواقف القيامة ومواطنها مختلفة، ففي بعضها يقرّون وفي بعضها يجحدون، أو يكون المراد هنا شهادة أعضائهم عليهم حينما يختم على أفواههم، كما قال تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: 65] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 140] والسّفه لا يكون إلا عن جهل؟
قلنا: معنى قوله تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ بغير حجة، وقيل بغير علم، بمقدار(3/75)
قبحه ومقدار العقوبة فيه، وعلى الوجهين لا يكون مستفادا من الأوّل.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) بعد قوله سبحانه في الآية نفسها قَدْ ضَلُّوا؟
قلنا: الحكمة فيه الإعلام بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرّة أخرى، فإنّ من الناس من يضلّ ثمّ يهتدي بعد ضلاله.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى إِذا أَثْمَرَ [الآية 141] بعد قوله سبحانه كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [الآية 141] ومعلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟
قلنا: الحكمة فيه نفي توهّم توقف الإباحة على الإدراك والنضج، بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمر.
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الآية 145] ، وفي القرآن تحريم أكل الربا ومال اليتيم ومال الغير بالباطل وغير ذلك؟
قلنا: محرّما مما كانوا يحرمونه في الجاهلية.
فإن قيل: لم قال تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ [الآية 147] والموضع موضع العقوبة، فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة ونحو ذلك؟
قلنا: إنّما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغ في التهديد ومعناه- والله أعلم-: لا تغترّوا بسعة رحمته، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم. وقيل معناه: فقل ربّكم ذو رحمة واسعة للمطيعين، ولا يرد عذابه عن العاصين.
فإن قيل: لم قال تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الآية 151] ثم فسره بعشرة أحكام خمسة منها واجبة، والتلاوة وصف للفظ لا للمعنى، كي لا يقال أضدادها محرمة؟
قلنا: قوله تعالى: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لا ينفي تلاوة غيره فقد تلا ما حرم وتلا غيره أيضا. الثاني أن فيه إضمارا تقديره: أتل ما حرم ربكم عليكم وأوجب.
فإن قيل: لم خصّ مال اليتيم بالنهي عن قربانه بغير الأحسن، ومال البالغ أيضا كذلك؟
قلنا: إنّما خصه بالنهي لأن طمع الطامعين فيه أكثر، لضعف مالكه(3/76)
وعجزه، وقلة الحافظين له والناصرين، بخلاف مال البالغ. الثاني: أن التخصيص لمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن، ووجوب قربانه بالأحسن، أو جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه، ومجموع الحكمين مختص بمال اليتيم، وهذا هو الجواب عن كونه مغيّبا ببلوغ الأشد، لأن المجموع ينتفي ببلوغ الأشد لانتفاء الحكم الثاني وقيل إن الغاية لمحذوف، تقديره:
حتى يبلغ، فسلّموه إليه.
فإن قيل: لم خصّ العدل بقوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
[الآية 152] ولم يقل: وإذا فعلتم فاعدلوا، والحاجة إلى العدل في الفعل أمسّ، لأن الضرر الناشئ من الجور الفعلي، أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولي؟
قلنا: إنّما خصه بالقول ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى، كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] ولم يقل: ولا تشتمهما ولا تضربهما لما قلنا.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الآية 164] «1» وقوله سبحانه وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] وقوله عزّ وعلا لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] وقد جاء في الحديث المشهور «من عمل سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، إلى يوم القيامة» .
قلنا: المراد بالآية الأولى وزر لا يكون مضافا إليها بمباشرة أو تسبّب، لتحقيق إضافته إلى غيرها على الكمال.
أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره. وقيل معناه: لا تزره طوعا كما زعم المشركون بقولهم للنبي (ص) : ارجع إلى ديننا ونحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك.
وقول الذين كفروا للذين آمنوا كما ورد في التنزيل اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] إلى قوله تعالى: عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) [العنكبوت] ومعنى باقي النصوص أنها تحمله كرها، فلا تنافي بينهما.
__________
(1) . ورد القول الكريم نفسه في أكثر من موضع في القرآن الكريم.(3/77)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنعام» «1»
في قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) استعارة. لأن الأصل في هذه اللفظة:
دابرة الفرس، وجمعها دوابر، وهي ما يلي حافره من خلفه. ودابرة الطائر:
هي الشاخصة التي خلف رجله، وتدعى الصّيصيّة «2» أيضا.
فالمراد بقوله سبحانه: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا والله أعلم: أي قطعت عنهم الأمداد اللاحقة بهم من خلفهم، والتالون لهم في غيّهم وضلالهم. أو قطع خلفهم من نسلهم، فلم تثبت لهم ذرّيّة، ولم يبق لهم بقية.
وفي قوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ [الآية 46] استعارة. والمراد بالأخذ هاهنا، إبطال حواسّهم. وإذا بطلت، فكأنّها قد أخذت منهم، وغيّبت عنهم.
وفي قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الآية 59] واستعارة. والمراد: وعنده الوصلة إلى علم الغيب، فإذا شاء فتحه لأنبيائه وملائكته، وإن شاء أغلق عنهم علمه، ومنعهم فهمه. وعبّر تعالى عن ذلك بالمفاتح، وهي أحسن عبارة، وأوقع استعارة. لأنّ كل ما يتوصل به إلى فتح المبهم، وبيان المستعجم سمّي بذلك.
ألا ترى إلى قول الرجل لصاحبه إذا أشكل عليه أمر، أو اختلّ له حفظ:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الصيصية والصيصة: شوكة الحائك، وشوكة الديك أو الطائر. والجمع صياص.(3/79)
افتح عليّ، أي: بيّن لي، وفهّمني ما غرب عنّي.
وفي قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الآية 68] استعارة. والمراد بها إثارة أحاديث الآيات ليستشفّوا بواطنها، ويعلموا حقائقها، كالخابط في غمرة الماء، لأنه يثير قعرها، ويسبر غمرها. وقد مضى الكلام على نظير ذلك في (النساء) .
وفي قوله سبحانه: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الآية 80] استعارة. لأن صفة الشيء بأنه يسع غيره، لا يطلق إلّا على الأجسام التي فيها الضّيق والاتّساع، والحدود والأقطار. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فالمراد أن علمه سبحانه يحيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية، ولا تدقّ عنه غامضة.
وفي قوله سبحانه: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الآية 92] استعارة. والمراد بأمّ القرى مكّة، وإنّما سماها سبحانه بذلك، لأنها كالأصل للقرى، فكلّ قرية فإنما هي طارئة عليها، ومضافة إليها.
وفي قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الآية 93] استعارة عجيبة. لأنه سبحانه شبه الذين يعتورهم كرب الموت وغصصه، بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه.
وقد سميت الكربة غمرة لأنها تغمر قلب الإنسان، آخذة بكظمه، وخاتمة على متنفسه. والأصل في جميع ذلك غمرة الماء.
وفي قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الآية 95] استعارة على بعض الأقوال، ومعناها أنه سبحانه يشق الحبة الميتة، والنواة اليابسة، فيخرج منها ورقا خضرا «1» ، ونباتا ناضرا، ويخرج الحبّ اليابس الذاوي من النبت الحي النامي. وقال بعضهم: يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي موات، ويخرج النطفة الموات من الإنسان الحيّ. والله أعلم بالصواب.
وقوله سبحانه: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 100] استعارة.
__________
(1) . الورق الخضر هو الأخضر. ووزنها مثل فرح.(3/80)
والمراد أنهم دعوا له سبحانه بنين وبنات بغير علم، وذلك مأخوذ من «الخرق» وهي الأرض الواسعة، وجمعها خروق، لأنّ الريح تتخرّق فيها، أي تتسع. والخرق من الرجال:
الكثير العطاء، فكأنّه يتخرق.
«والخرقة» جماعة الجراد مثل الحرقة، والخريق: الريح الشديدة الهبوب.
فكأنّ معنى قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ أي اتّسعوا في دعوى البنين والبنات له، وهم كاذبون في ذلك.
والاختراق، والاختراع، والانتسال بمعنى واحد، وهو الادعاء للشيء على طريق الكذب والزور.
وفي قوله سبحانه: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الآية 112] استعارة. لأن الزخرف في لغة العرب:
الزينة. ومن ذلك قولهم: دار مزخرفة أي مزيّنة. فكأنه تعالى قال: يزيّنون لهم القول ليغترّوا به، وينخدعوا بظاهره، كما يستغرّ بظاهر جميل، على باطن مدخول.
وفي قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الآية 110] استعارة. لأن تقليب القلوب والأبصار على الحقيقة وإزالتها عن مواضعها، وإقلاقها عن مناصبها لا يصحّ، والبنية صحيحة والجملة حيّة متصرّفة. وإنما المراد، والله أعلم، أنّا نرميها بالحيرة والمخافة، جزاء على الكفر والضلالة. فتكون الأفئدة مسترجعة لتعاظم أسباب المخاوف، وتكون الأبصار منزعجة لتوقّع طلوع المكاره. وقد قيل: إنّ المراد بذلك تقليبها على قراميص «1» الجمر في نار جهنم، وذلك يخرج الكلام عن حيّز الاستعارة إلى حيز الحقيقة.
وفي قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الآية 113] . وهذه استعارة. والمعنى:
ولتميل إليه أفئدة هؤلاء المذكورين.
ويقال: صغى فلان إلى فلان. أي مال إليه. وصغوه معه: أي ميله. ومنه أصغى بسمعه إلى الكلام. إذا أماله إلى جهته، ليقرب من استماعه. وميل القلب إلى المعتقدات، كميل السمع إلى المسموعات.
وفي قوله تعالى:
__________
(1) . القراميص: جمع قرماص، وهو في الأصل الحفرة الواسعة الجوف الضيقة الرأس أو هي موضع خبز الملّة.(3/81)
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 127] . استعارة.
والمراد: لهم محل الأمنة والسلامة والمنجاة من المخافة. وتلك صفة الجنة. والسلام هاهنا: جمع سلامة «1» .
وفي قوله تعالى: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
[الآية 130] استعارة. لأنهم لمّا اغترّوا بالحياة الدنيا، حسن أن يقال إنها غرّتهم. ولما كان فيها ما تميل إليه شهواتهم، جاز أن يقال: إنّها استمالت شهواتهم.
وفي قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 153] استعارة. والسّبل التي هي الطرق لا تتفرّق بهم، وإنما هم الذين يفارقون نهجها، ويتّبعون عوجها.
وفي قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الآية 164] استعارة.
والمعنى: ولا تحمل حاملة حمل أخرى. يريد تعالى في يوم القيامة. أي لا يخفف أحد عن أحد ثقلا، ولا يشاطره حملا. لأنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومفدوح «2» بحمله. وليس أن هناك على الحقيقة أحمالا على الظهور، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب.
ونظير ذلك قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123] «3» .
__________
(1) . ويصح أن يكون السلام اسما من اسم الله تعالى. فتكون دار السلام دار الله. كما يقال للكعبة بيت الله.
(2) . المفدوح: الذي يحمل حملا فادحا، فيعيا به.
(3) . وهذه الآية من المتشابه.(3/82)
سورة الأعراف 7(3/83)
المبحث الأول أهداف سورة «الأعراف» «1»
سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي وهي إحدى السور التي بدئت ببعض حروف التهجي المص (1) ، ولم يتقدم عليها، من هذا النوع، سوى ثلاث سور سبقتها في تاريخ النزول وهي:
ن، ق، ص.
ويبلغ عدد السور التي بدئت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة، وكلّها سور مكية ما عدا البقرة وآل عمران.
وعدد آيات سورة الأعراف مائتان وست آيات، عدد كلماتها 3315 كلمة.
1- معنى فواتح السور
ليس لهذه الفواتح في اللغة العربية معان مستقلة، ولم يرد من طريق صحيح عن النبيّ (ص) ، بيان للمراد منها. بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف. وهذه الآراء، على كثرتها، ترجع إلى رأيين اثنين.
أحدهما: أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه أحد سواه، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين.
وثانيهما: أن لها معنى. وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى:
1- فمنهم من قال: إنها أسماء للسّور التي بدئت بها، أو أن كلّا منها علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(3/85)
2- ومنهم من قال: إنها «رموز» لبعض أسماء الله تعالى وصفاته.
3- ومنهم من قال: إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم، وسياسة النفوس المعرضة عن القرآن، واستدراجها للاستماع إليه، واستمالة العقول بشيء غريب على السمع للانتباه والإصغاء للقرآن.
وأشهر آراء علماء البلاغة والبيان:
أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مركّب من هذه الحروف المقطّعة التي يتخاطبون بها، وفي هذا دلالة على أنه ليس من صنع بشر، بل تنزيل من حكيم حميد.
ويرى ابن جرير الطبري أن أفضل الآراء في معنى فواتح السور هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها. فهي أسماء للسورة، وهي رموز، وهي حروف للتنبيه والتحدي ... إلخ.
وسورة الأعراف هي السورة المكية الثانية في ترتيب المصحف، وهي تتسم بتلك السمات العامة التي أسلفنا إليها في الحديث عن سورة الأنعام.
ثم تتميز بطابعها الخاص بعد ذلك من ناحية الموضوعات التي تعالجها والسياق الذي تسير فيه.
وموضوع السورة الرئيس هو الإنذار، إنذار من يتولون غير الله، ومن يكذبون بآيات الله، ومن يستكبرون عن طاعة الله، ومن ينسون الله، ومن لا يشكرون نعمته، إنذارهم بهلاك الدنيا وعذاب الاخرة، وذلك فوق الخزي والهوان والنسيان.
تبدأ السورة بالإنذار، ثم تسلك بهذا المعنى سبلا شتى وتتصرف فيه تصرفات كثيرة، وترسم له صورا متعددة، وتلمس به المشاعر لمسات مختلفة. فتارة يتّخذ السياق شكل القصة: قصة آدم مع إبليس، ثم قصص نوح وهود وصالح وشعيب وموسى، مع أقوامهم لتنتهي كل قصة بالعذاب والنكال لمن يخالفون أمر الله وتارة يتّخذ شكل مشهد من مشاهد القيامة أو مشاهد الاحتضار تنكشف فيه مصائر المكذّبين، والمتكبّرين، ومصائر الطائعين، لله ربّ العالمين.
ويتخلل القصص والمشاهد ما يتّسق مع الجو العام من توجيه الأنظار والقلوب، والدعوة إلى التوبة والإنابة،(3/86)
قبل أن يحلّ العقاب، ويتحقق الإنذار، والإشارة إلى عواقب المكذبين من الأمم الخالية التي حقّ عليها النذير.
كل ذلك يرد في تناسق مطلق، بين السياق والقصة، أو السياق والمشهد، أو السياق والتوجيهات، فتبدو القصص والمشاهد والتوجيهات كلها أجزاء من هذا السياق العام ملوّنة بلونه، مظلّلة بجوّه، محقّقة للغرض الذي يتجه إليه موضوع السورة الرئيس من البدء حتى الختام.
2- مقاصد السورة ومزاياها
مهّدت سورة الأعراف لمقاصدها ببيان عظمة الكتاب، وجلال هدايته، وقوة حجته في توضيح الدعوة، وإنذار المخالفين بها.
ثم تناولت أهداف الدعوة في مكة، وهي تقرير رسالة الإسلام وبيان أصول هذه الدعوة: توحيد الله في العبادة والتشريع، وتقرير البعث والجزاء، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام، وتقرير رسالة محمد (ص) بوجه خاص. وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية.
وقد سلكت السورة، في طريقة عرض هذه الحقائق، أسلوبين بارزين، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم، والاخر أسلوب التخويف من العذاب والنّقم.
أمّا أسلوب التذكير بالنعم، فتراه واضحا في لفتها أنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسّونه من نعمة تمكينهم في الأرض، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم، ونعمة تمتّع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات، سخّرها الله له.
أمّا أسلوب الإنذار والتخويف، فهو ظاهر في جو السورة، وفي قصص الأنبياء فيها. وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها، وقد ساقت لنا السورة ما دار بين الأنبياء وأقوامهم، وسجّلت السورة جزاء المكذبين بأمر الله الخارجين على دعوة رسله وهدايتهم، وهي ظاهرة تكررت الإشارة إليها في سور القرآن المكية، تحذيرا لأهل مكة أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم.
3- عرض إجمالي لأجزاء السورة
سورة الأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم، وهي أطول(3/87)
سورة في المكّيّ. وهي أول سورة عرضت لتفصيل في قصص الأنبياء مع أممهم. وقد نزلت بين جملتين من السور المكية: يكثر في الجملة التي نزلت قبلها السور القصيرة، التي تعرف بسور «المفصّل» «1» ويكثر في الجملة التي نزلت بعدها السور المتوسطة التي تعرف بسور «المئين» «2» .
وتطالعنا سورة الأعراف بالحديث عن عظمة القرآن. وتأمرنا باتّباعه وتحذّرنا من مخالفته. وتحثّنا على العمل الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة «3» في بداية تعدّ براعة استهلال أو عنوان لما تشتمل عليه السورة.
وهي سمة غالبة في سور القرآن حيث نجد الآيات الأولى منها عنوانا معبّرا عن أهدافها وسماتها.
وفي أول سورة الأعراف يقول سبحانه:
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) .
ثم ساقت لنا السورة بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس. وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرّمة. فلمّا أكل منها هو وزوجته، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الآية 22] .
ثمّ وجهت إلى بني آدم نداء، في أواخر هذا الرّبع، نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان. قال تعالى:
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) .
وفي الرّبع الثاني منها، نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد، وتخبرنا بأن الله- تعالى- قد أباح لنا أن نتمتّع بالطيّبات التي أحلّها لنا،
__________
(1) . تسمّى سور «المفصّل» لكثرة الفصل بينها بالبسملة مثل «الضحى» .
(2) . هي السور التي يكون عددها قرابة المائة آية.
(3) . تفسير سورة الأعراف، لفضيلة الدكتور أحمد السيد الكوفي والدكتور أحمد سيّد طنطاوي، صفحة 6 وما بعدها.(3/88)
وتبشّرنا بحسن العاقبة متى اتّبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ثمّ تسوق لنا، في بضع آيات، عاقبة المكذبين لرسل الله، وكيف أن كلّ أمّة من أمم الكفر، عند ما تقف بين يدي الله للحساب، فإنها تلعن أختها.
قال تعالى:
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
(39) .
ثم تبيّن السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) .
وفي أواخر هذا الرّبع، وأوائل الرّبع الثالث منها، نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل، كما ورد في التنزيل:
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) . فيجيبهم أصحاب الجنة كما ورد في التنزيل أيضا:
إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.
ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله.
وفي الرّبع الرابع منها، وفي أواخر الثالث تحدثنا عن قصة نوح مع قومه.
ثمّ عن قصّة هود مع قومه، ثمّ عن قصة صالح مع قومه. ثمّ عن قصة لوط مع قومه، ثمّ عن قصّة شعيب مع قومه، ولقد ساقت لنا، خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم، من العبر والعظات، ما يهدي القلوب، ويشفي الصدور، ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين.
أمّا في الرّبع الخامس منها، فقد(3/89)
بيّنت لنا سنن الله في خلقه، ومن مظاهر هذه السنن أنه- سبحانه- لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار وأنّ الناس لو آمنوا واتقوا لفتح- سبحانه- عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم، هم القوم الخاسرون.
قال تعالى:
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) .
ثم عقبت على ذلك، ببيان أن الله تعالى قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار.
ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى (ع) فقصّت علينا في زهاء سبعين آية، استغرقت الربع السادس والسابع والثامن، ما دار بينه وبين فرعون من محاولات ومناقشات، وما حصل بينه وبين السّحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة كما روى القرآن حكاية عنهم:
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) .
ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات، ممّا يدلّ على أصالتهم في التمرد والعصيان، وعراقتهم في الكفر والطغيان.
وفي الرّبع التاسع منها، حدّثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثمّ حدثتنا عن التفكير والتدبير في ملكوت السماوات والأرض، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علّام الغيوب، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
أما في الربع العاشر والأخير، فقد اهتمّت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله، وأنكرت على المشركين شركهم، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) .
وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء:(3/90)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) .
4- قصة آدم
ذكرت قصة آدم في سورة البقرة، ثم أكملت سورة الأعراف حلقات هذه القصة. وذكرت أنّ الله تعالى خلق آدم (ع) وأمر الملائكة بالسجود له إظهارا لفضله، وتنويها بما يكون له من شأن، بعد أن سألوا عن الحكمة في خلقه، وقد ركّبت فيه الشهوة والغضب، وبهما يفسد في الأرض ويسفك الدماء.
وذكرت السورة موقف إبليس وإباءه السجود والامتثال لأمر الله، كما ذكرت قصة تأثّر آدم بوسوسة الشيطان، وإغرائه إيّاه بالأكل من الشجرة، وكيف كانت عاقبة آدم في الهبوط من الراحة والاطمئنان إلى الكدّ والتعب، وإلى مكافحة عوامل الشر التي بنيت الحياة عليها، وعلى ما يقابلها من عوامل الخير ومطالبة الإنسان بأن يقف مع جانب العقل والرسالة الإلهية، اللذين يشدّان أزره في التغلب على عوامل الشر.
لقد كان آدم في نعيم الجنة يتمتّع بما فيها من كل ما تشتهي الأنفس، وتلذّ به الأعين، ويتنقّل بين أشجارها، ويتفيّأ ظلالها، ويتفكّه بثمارها، ويرتوي من عذب مياهها، وشاركته زوجته هذه المتعة. ولكنّ الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة وأقسم لهما بأنه من الناصحين. فلمّا أطاعا الشيطان، وأكلا من الشجرة، سلب الله عنهما نعمته وحرمهما جنته:
وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) .
وقد ندم آدم وحواء أشد الندم، وتابا إلى الله توبة نصوحا، فتاب الله عليهما وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض ليكدحا ويعملا، فتعمر الأرض وتنتشر الحياة في جنباتها. وقد حذّر الله آدم وذرّيّته من الشيطان وإغرائه وبيّن سبحانه أن على المؤمن أن يلجأ إلى ربه، وأن يستعين بهداه، وألّا يخلد الى الهوى وألا ييأس من رحمة الله. فقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه حتّى يتوب إليه التائبون ويلجأ إليه المؤمنون. فكلّ(3/91)
بني آدم خطّاؤون وخير الخطّائين التوّابون.
والمؤمن يتسامى بغرائزه، وينتصر على شهواته، وينهى نفسه عن الهوى، ويحملها على طريق الفلاح والاستقامة. قال تعالى:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) [الشمس] .
5- نعمة الثياب والزينة
تحدثت سورة الأعراف عن نعم الله تعالى على بني آدم، ومن هذه النعم نعمة الملبس الذي يستر الناس به عورتهم ويجمّلون به أنفسهم، هيّأ الله لهم مادّته من القطن والصوف والحرير وما إليها، وألهمهم، بما خلق فيهم من غرائز، طرق استنباتها، وطرق صناعتها، بالغزل والنسيج والخياطة ولفت أنظارهم إلى أن تقوى الله في الانتفاع بتلك النعمة، واستخدامها في طاعة الله وشكره. وبذلك تستر الثياب العورة، وتكون مصدر نعمة لا نقمة.
قال تعالى:
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) .
وفي هذا تنبيه إلى ان الحضارة الحقّة ليست في كشف المفاتن، ولا في إظهار العورات، وإنّما الحضارة الحقّة في السير على سنّة الله، وهدى رسله وتعاليم أنبيائه.
توسّط الإسلام في شأن الزينة
من الآيات المشهورة قوله تعالى:
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) .
ومن هذه الآية تلمح سماحة الإسلام ويسره، فهو يأمر بالنظافة، ويدعو إلى التجمّل والتزيّن، ويحث على التمتّع بالطيبات. وفي الحديث الشريف يقول النبي (ص) :
«إنّ الله نظيف يحبّ النّظافة، جميل يحبّ الجمال، طيّب يحبّ الطّيبين» .
وقد جاء الإسلام دينا وسطا، فقد نهى عن التبذير والإسراف، وحذّر من الشح والبخل، وأمر بالقصد والاعتدال قال تعالى:(3/92)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الآية 32] .
فهو سبحانه خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وفضّله على كثير من المخلوقات، وسخّر له الكون بما فيه من سماء مرفوعة، وأرض مبسوطة، وجبال راسية، وبحار جارية، وليل مظلم، ونهار مضيء وأمره أن يستمتاع بالطيّبات، وأن يبتعد عن المحرّمات فهناك حدود بيّنها الله، فالحلال بيّن، والحرام بيّن وظاهر، وبينهما أمور مشتبهات فيها شبهة وإثم فمن ابتعد عن الشبهات فقد سلم عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات، كانت الشبهات طريقا إلى الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وصدق الله العظيم:
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 33] .(3/93)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعراف» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الأعراف بعد سورة «ص» وقبل سورة «الجنّ» ، وكان نزول سورة «الجنّ» مع رجوع النبي (ص) من الطائف، وكان قد سافر إليها سنة عشر من بعثته ليعرض الإسلام على أهلها، فيكون نزول سورة الأعراف فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) وتبلغ آياتها ستّا ومائتي آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة الإنذار والاعتبار بقصص الأولين وأحوالهم، وقد أخذ المشركون في هذا الترهيب والترغيب، بعد أن أخذوا في سورة الأنعام بطريق النظر والدليل، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها، ولأنها أيضا تشبهها في الطول، وقد فصّل فيها من أخبار الأولين ما أجمل في سورة الأنعام.
وقد ابتدئت هذه السورة بمقدّمة في إنذار المشركين إجمالا بما حصل لأولئك الأولين، ثم أتبع هذا بتفصيل أخبارهم وبيان ما حصل لهم، ثم ختمت ببيان أنّ الهدى والإضلال بيد الله، فمن يهده ينتفع بهذا القصص،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(3/95)
ومن يضلله لا ينتفع به، إلى غير هذا مما يأتي في هذه الخاتمة.
المقدمة الآيات [1- 9]
قال الله تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) فذكر أن القرآن كتاب أنزل الى النبي (ص) ، ونهاه أن يضيق صدره من تكذيب المشركين له، لينذر به المشركين ويذكّر المؤمنين، وفي هذا براعة مطلع للغرض المقصود من هذه السورة، ثم أمرهم أن يتّبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ولا يتّبعوا غيره من أوليائهم، وأنذرهم إجمالا بأنه كم أهلك قبلهم من قرية بعذاب جاءهم بياتا أو هم قائلون، فلما جاءهم العذاب اعترفوا بظلمهم فلم ينفعهم اعترافهم، ثم ذكر أنه سيجمعهم ومن أرسلوا إليهم فيسألهم عن أمرهم، ويقصّ عليهم ما يعلمه من أعمالهم، ويزن أعمالهم بالحقّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) .
قصة آدم وإبليس الآيات [10- 58]
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) ، فذكر نعمته عليهم بالتمكين لهم في الأرض تمهيدا لقصة آدم. لأنه أول من مكّن له فيها، ثم ذكر أنه خلقه ثم صوّره ثمّ أمر الملائكة بالسّجود له تكريما لخلقه، وأن إبليس امتنع عن السجود له عنادا واستكبارا، وأنه جازاه على هذا باللعن والطرد من الجنة، وجعل وظيفته أقبح وظيفة وهي الوسوسة بالشر، ثم ذكر أنه أسكن آدم وزوجته الجنة ونهاهما، عن الأكل من شجرة منها عيّنها لهما، وأنّ إبليس احتال عليهما حتّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة حياء، ثم ذكر أنه ناداهما بنهيه لهما فاعترفا بذنبهما، فأمرهما بأن يهبطا من الجنة إلى الأرض، وأوقع العداوة فيها بين ذرّيتهم وبين إبليس، وجعل لهم فيها مستقرّا ومتاعا إلى أن يرجعهم إليه.
ثم ذكر أنه أنزل عليهما وعلى ذريتهما، بعد هبوطهما إلى الأرض، لباسا يواري سوآتهم، وأن لباس التقوى(3/96)
خير من ذلك اللباس، ثم حذرهم أن يفتنهم إبليس كما فتن أبويهم في الجنة، وذكر أنه، هو وقبيله، يأتونهم من حيث لا يرونهم، وأنه قد جعلهم أولياء للذين لا يؤمنون، وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا، وزعموا أن الله أمرهم بها، ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالقسط وأن يقيموا وجوههم عند كل مسجد ويدعوه مخلصين له، ثم ذكر أنه سيعيدهم كما بدأهم فريقين: فريقا هداه، وفريقا حقّت عليه الضّلالة لأنهم اتّخذوا الشياطين أولياء من دونه ويحسبون أنهم مهتدون، ثم أمرهم أن يأخذوا ما أنزل عليهم من اللباس عند كل مسجد، وأن يأكلوا ويشربوا ولا يسرفوا في لباسهم وأكلهم وشربهم، وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة بالبيت، الرجال بالنهار والنساء بالليل.
ويقولون لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، وكان منهم متنسكون لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما ثمّ أمر النبي (ص) أن يسألهم سؤال تعجيز عمّن حرّم عليهم الزينة والطيّبات من الرزق، وذكر لهم أنه إنما حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي والشرك والكذب عليه، في تحريم ما حرموه على أنفسهم، وهدّدهم بأنه إذا كان يمهلهم على ذلك فلأنّ كل أمّة لها أجل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) .
ثم ذكر أنه أوحى إلى آدم (ع) وذريته حين هبطوا الى الأرض، أنه إذا أتاهم رسل يقصّون عليهم آياته، فمن آمن بهم فلا خوف عليه، ومن كذّب واستكبر فجزاؤه الخلود في النار ثم فصّل وعيدهم، فذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه وكذّب بآياته، وأنهم ينالون نصيبهم في الحياة من العمر والرزق، ثم يتوفّاهم ملائكة الموت، ويسألونهم عن شركائهم ليدفعوا عنهم، فيجيبون بأنهم ضلّوا عنهم، ويعترفون بكفرهم وهناك يأمرهم بأن يدخلوا النار فيمن دخلها قبلهم من أمم الجن والإنس، فيتلاومون فيها بما ذكره من تلاومهم ثم ذكر أنهم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، والى غير هذا ممّا ذكر في وعيدهم.
ثم أخذ السياق في تفصيل وعد المؤمنين، فذكر من نعيمهم في الجنة ما ذكر، ثم ذكر أنهم ينادون أصحاب(3/97)
النار أنهم وجدوا ما وعدهم ربّهم حقّا، فهل وجدوا ما وعدوا به من العذاب حقّا؟ فيجيبونهم بأنهم وجدوه حقّا ثم ذكر أنه يوجد على الأعراف بين الجنة والنار رجال يعرفون كلّا من أهل الجنة والنار بسيماهم وينادونهم بما ذكره في ندائهم، وأن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء، أو بما رزقهم الله، فيجيبونهم بأن الله حرّمهما على الكافرين الذين اغترّوا بدنياهم، وأنه ينساهم في آخرتهم كما نسوا لقاءها ثم ذكر سبحانه أنه جاءهم بكتاب فصّله على علم وجعله هدى ورحمة فقطع به عذرهم، ووبّخهم على انتظارهم تأويل ما أنذرهم به من العذاب وذكر أنه يوم يأتي تأويله، يعترفون بأنّ ما أنذروا به حق، ثم يسألون عن شفعاء يشفعون لهم، أو أن يردّوا ليعملوا أعمالا غير أعمالهم.
ثم أخذ السّياق في إبطال اعتقادهم في أولئك الشفاء، فذكر أنه سبحانه ربّهم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام إلخ، وأمرهم أن يدعوه جلّ شأنه تضرّعا وخفية، ولا يفسدوا في الأرض بعد أن أصلحها ومكّن لهم فيها وأن يدعوه خائفين عذابه، راجين رحمته، لأن رحمته قريب من المحسنين ثم ذكر تعالى أنه هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، لتحمل السحاب الى البلد الميّت فتحييه، وأنه كذلك يحيي الموتى لعلهم يتذكرون وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) .
قصة نوح وقومه الآيات [59- 64]
ثم قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) فذكر أن نوحا أمر قومه بأن يعبدوا الله وحده وأنذرهم، إن لم يطيعوه، بعذاب يوم عظيم وأنهم أجابوه بأنهم يرونه في ضلال مبين، وأنه أجابهم بأنه لا ضلالة به، ولكنّه رسول من الله إليهم، وأنه ينصح لهم ويعلم من الله مالا يعلمون ثم ذكر أنهم أصرّوا على تكذيبه فأنجاه سبحانه، والذين معه في الفلك وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) .(3/98)
قصة هود وقومه الآيات [65- 72]
ثم قال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) ، فذكر أنّ هودا أمر قومه بعبادة الله وحده، وأنهم أجابوه عن ذلك بتسفيهه وتكذيبه، وأنه أجابهم بأنه ليس به سفاهة، ولكنه رسول من الله ناصح لهم أمين ثم وبخهم أن يعجبوا أن جاءهم ذكر من ربهم على رجل منهم لينذرهم ويذكّرهم بنعمته عليهم، إذ جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادهم في الخلق بسطة، ثم ذكر أنهم أصرّوا على تكذيبه فأنجاه سبحانه، والذين معه رحمة منه وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) .
قصة صالح وقومه الآيات [73- 79]
ثم قال تعالى وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 73] فذكر أن صالحا أمر قومه بعبادة الله وحده، وأنّه جاءهم بناقة الله آية لهم، وأنّه حذّرهم أن يمسّوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم، وأنه ذكّرهم بنعمة الله عليهم إذ جعلهم خلفاء من بعد عاد، ثم ذكر أنهم أصروا على تكذيبه، فأخذتهم الرجفة، فأهلكتهم فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) .
قصة لوط وقومه الآيات [80- 84]
ثم قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) ، فذكر أن لوطا استنكر من قومه الفاحشة التي لم يسبقهم أحد إليها وهي إتيانهم الرجال من دون النساء، وأنهم أجابوه بتامرهم على إخراجه هو وأهله من قريتهم، فأنجاهم الله إلّا امرأته كانت من الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) .
قصة شعيب وقومه الآيات (85- 112)
ثم قال تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 85] فذكر أن شعيبا أمر قومه أن يعبدوا الله وحده(3/99)
ويوفوا الكيل والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، ولا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ثم ذكر أن بعضهم استكبر، وأراد أن يخرج شعيبا هو ومن آمن به من قريتهم، وأنه سبحانه أخذهم بالرجفة فأهلكهم وكانوا هم الخاسرين فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) .
ثم عقّب على هذه القصص، ببيان أنّ هذا شأنه في كلّ قرية أرسل فيها نبيّا، فلا يأخذها بعذاب الاستئصال دفعة واحدة، بل يأخذها أوّلا بالشدائد والأمراض، ثم يزيل عنهم ذلك، ويأتيهم بالخصب والرخاء، فلا يؤثّر فيهم شيء من ذلك وينسبون ما أصابهم منه إلى عادة الزمان، فيأخذهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أنهم آمنوا، لفتح عليهم بركات السماء والأرض بالمطر والنبات.
ثمّ وبّخ أهل القرى الحاضرة على أمنهم أن يصيبهم ما أصاب تلك القرى من بأسه بياتا وهم نائمون، أو ضحًى وهم يلعبون وعلى أمنهم مكره بهم، فلا يأمنه إلا القوم الخاسرون وعلى أنه لم يتبيّن لهم بعد أن ورثوا أرضهم وقصّ عليهم أخبارهم، أنه لو يشاء أصابهم كما أصابهم، ولكنّه طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ثمّ ذكر أنه قصّ عليه من أنباء تلك القرى، وأنّهم كانوا سواء في أنهم يكذبون بعد نزول المعجزات كما كذبوا من قبلها، وينسون عهدهم أن يؤمنوا بعد نزولها وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) .
قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل الآيات [103- 174]
ثم قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) فذكر أنه بعث موسى إلى فرعون وقومه بآياته، وأنّهم كذّبوا بها فأهلكهم ثمّ فصّل ذلك، فذكر أن موسى أخبر فرعون بأنه رسوله إليه، وطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل إلى الأرض التي وعدوا بها وأنّ فرعون طلب منه آية تدل على صدقه، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، فلما رأى قومه ذلك زعموا أنه سحر، وطلبوا منه(3/100)
أن يجمع السحرة ليغلبوه بسحرهم ثمّ ذكر ما كان من السحرة وإيمانهم حين ظهر لهم عجزهم، وما كان من إصرار فرعون وقومه على الكفر بعد عجز سحرتهم، ومضيهم في الانتقام من بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم فأمر موسى بني إسرائيل أن يستعينوا على ذلك بالصبر، ووعدهم أن يهلك الله عدوّهم ويستخلفهم في الأرض ثمّ ذكر ما كان من أخذه قوم فرعون بالسنين، ونقص من الثمرات، وأنّهم كانوا إذا أصيبوا بذلك لا يتّعظون به، بل يشتدّ كفرهم، ويزعمون أنّه من شؤم موسى وقومه عليهم ثمّ ذكر أنه أرسل عليهم بعد ذلك الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فاستكبروا ولم يؤمنوا ثم أوقع عليهم الرّجز وهو الطاعون، فذهبوا إلى موسى ليدعو ربه أن يرفعه عنهم، ووعدوه عند رفعه أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل فلمّا كشف الرجز عنهم نكثوا عهدهم، فانتقم الله تعالى منهم بإغراقهم في البحر، وأورث بني إسرائيل الأرض التي بارك فيها، ودمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.
ثم ذكر ما كان من بني إسرائيل بعد أن أنجاهم وأغرق آل فرعون، وأنهم جاوزوا البحر، فأتوا على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها مثلهم، فجهّلهم وبيّن لهم بطلان عبادة الأصنام، وأنه لا يليق بهم بعد أن أنجاهم الله من آل فرعون أن يعبدوا غيره ثم ذكر أن موسى (ع) تغيّب عن قومه أربعين ليلة، ليتلقّى التوراة فيها عن ربّه، واستخلف أخاه هارون على قومه، وأنه لما جاء لميقات ربّه، وكلّمه، طلب منه أن يراه وأنه لم يجبه الى ذلك، وطلب منه أن ينظر إلى الجبل، وقد تجلّى له فاندكّ وتفرّق، وخرّ هو صعقا من هول ما رأى فلمّا أفاق أظهر له التوبة من طلب رؤيته، فقبل توبته وأنزل عليه التوراة مكتوبة في الألواح وأمره أن يأخذها بقوّة، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها إذا كان فيها تخيير بين حسن وأحسن ووعدهم بأنه سيدخلهم الأرض التي وعدهم بها، وذكر أنه سيصرف عن آياته أصحابها الذين يتكبّرون فيها ويؤثرون سبيل الغيّ على سبيل الرشد، لأنهم كذبوا بآياته وغفلوا عنها، فحبطت أعمالهم ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون ثم ذكر أن قوم موسى اتخذوا من بعده من حليّهم(3/101)
عجلا جسدا له خوار فعبدوه من دونه سبحانه، وأنّهم ندموا على ذلك، ورأوا أنهم قد ضلّوا وطلبوا رحمة الله ومغفرته لذنبهم، وأن موسى رجع إليهم غضبان أسفا لما فعلوا، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه هارون يجرّه إليه فاعتذر له بأنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، فطلب من ربه أن يغفر له ولأخيه ويرحمهم جميعا ولا يؤاخذهم بما فعلوا وقد أجيب بأنّ الذين اتخذوا العجل وزيّنوا عبادته لهم سينالهم غضب من ربهم وذلّة في الدنيا، لأنهم سيعودون إلى عصيان ربهم، وقد فعلوا ذلك، بعد أن فتحوا الأرض الموعودة لهم وبأنّ الذين لم يقعوا في العبادة مثلهم وأساؤوا بعدم مفارقتهم، ثمّ تابوا وآمنوا، ستغفر سيئاتهم. ثم ذكر سبحانه، أن موسى اختار سبعين رجلا منهم لميقاته ليعتذروا عن ذلك الفعل، وأنه أخذهم بالرجفة إظهارا لغضبه ممّا فعلوا، فتوجّه موسى إليه بالدعاء أن يغفر لهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم وأنه جلّ جلاله أجابه بأنه يعذّب من يشاء ولا يسأل عمّا يفعل، وأنّ رحمته وسعت كلّ شيء حتّى العاصين من عباده، وسيكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة ويؤمنون به، ويتّبعون الرسول النبي الأمي حين يبعث إليهم، وهو الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، إلى غير هذا مما ذكره في البشارة بمحمد (ص) ، ثم استطرد السّياق من ذلك إلى أمره سبحانه للرسول (ص) بعد هذه البشارة أن يذكر للناس أنه رسول الله إليهم جميعا وأن يأمرهم باتباعه لعلّهم يهتدون ثم ذكر تعالى أن من قوم موسى أمّة يهدون بالحق، فلا ينكرون تلك البشارة.
ثم عاد السياق إلى موسى وقومه، فذكر أن الله جلّ جلاله قطّعهم اثنتي عشرة أسباطا، وأنه أوحى إليه إذا استسقوه أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعددهم وأنه ظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأنّهم ما ظلموه سبحانه، إذ عصوه بعد هذا، ولكن ظلموا أنفسهم ثمّ ذكر من عصيانهم أنه أمرهم بسكنى القرية التي وعدهم بها، وهي بيت المقدس، وأن يقولوا حين دخولها حطّة ويدخلوا الباب سجّدا، فبدّلوا ذلك وقالوا حنطة،(3/102)
فطلبوا ذلك ولم يطلبوا حطّ الخطايا عنهم، ثم ذكر أيضا قصة الذين اعتدوا منهم في السبت، وأنهم أصرّوا على اعتدائهم ولم يسمعوا للذين وعظوهم، فأخذهم بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، وجعلهم في طباع القردة والخنازير من الشره والطمع، وبعث عليهم من يسومهم الذّل والصّغار إلى يوم القيامة، وبدّد شملهم في الأرض طوائف محكومة لأهلها، منهم الصالحون وهم الذين لم يصيروا في طباع القردة والخنازير، ومنهم دون ذلك وهم الذين صاروا في طباعها، وانحرفوا عمّا جاءت به التوراة من الأخلاق الفاضلة ثمّ ذكر أنه بلاهم بالحسنات والسّيئات لعلهم يرجعون إلى فضائل دينهم، فخلف من بعدهم خلف انحرفوا عنه أكثر منهم، يأخذون الرّشا على تحريف التوراة، ويزعمون أنه سيغفر ذلك لهم، مع أنهم يصرّون عليه ولا يقلعون عنه وقد أخذ عليهم عهد التوراة أن يحافظوا عليها ولا يحرّفوها، وهم يدرسون ذلك فيها ويعرفونه والدار الاخرة خير من تلك الرشوة التي يأخذونها على التحريف والذين يتمسّكون بالتوراة ولا يحرّفونها لا يضيع أجرهم فيها، ثمّ ذكر أنه أخذ هذا العهد عليهم حين رفع الجبل فوقهم، وأمرهم أن يأخذوا التوراة بقوّة ويحافظوا عليها، ثمّ ذكر أنه أخذ على بني آدم جميعا عهده يوم خلقهم، أن يعترفوا بأنه ربّهم ويطيعوه، وأنّهم شهدوا على أنفسهم يوم أخذه عليهم لئلّا يدّعوا يوم القيامة أنهم غفلوا عنه، أو أنهم أشركوا كما أشرك آباؤهم تقليدا لهم، فلا يصح أن يؤخذوا بما فعلوه قبلهم وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) .
قصة عالم لم يعمل بعلمه الآيات [175- 177]
ثم قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) فذكر نبأ عالم أتاه علم كتبه فلم يعمل به، فتولّاه الشيطان حتّى أضلّه وصار مثله كمثل الكلب في خسّته وذلّته. ثمّ ذكر أن هذا مثل الذين كذّبوا بآياته وأمر النبي (ص) أن يقصّ عليهم ذلك المثل لعلهم يتفكرون ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) .(3/103)
الخاتمة الآيات [178- 206]
ثمّ قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) فذكر ان الهداية والإضلال بيده وحده جلّ جلاله، فمن يهده فهو المهتدي ومن يضلله فأولئك هم الخاسرون ثمّ ذكر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس لا يعتبرون بما قصّه من ذلك، لأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون، فهم كالأنعام بل هم أضلّ ثمّ ذكر أن له سبحانه الأسماء الحسنى، وأمرهم أن يدعوه بها ولا يتّبعوا الذين يلحدون في أسمائه من أولئك الجهلاء وأنّ ممّن خلقه، أمة يهدون بالحق، فلا يلحدون في أسمائه وأنّ الذين كذّبوا بآياته، سيستدرجهم، ثمّ يأخذهم بغتة كما أخذ أولئك الأولين ثمّ وبّخهم على ترك التفكير في أمر النبي (ص) ليعلموا أنه ليس به جنّة، وإنما هو نذير مبين كما وبّخهم لأنّهم لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ليعرفوا خالقهم، وفيما ينذرهم به، ليعلموا أنه قد اقترب أجلهم ثمّ ذكر أن من يضلله فلا يهتدي بشيء من ذلك، ويتركهم في طغيانهم يعمهون.
ثمّ ذكر سبحانه أنهم سألوا النبيّ (ص) عن ساعة ذلك العذاب أيّان مرساها؟ فأجابهم النبيّ (ص) بأنّ علمها عند الله وحده، وهي لا تأتيهم إلّا بغتة من غير سابق علم، وبأنه لم يدّع لهم أنه يملك لنفسه نفعا أو ضرّا، أو يعلم الغيب حتى يكون إليه ذلك الأمر وإنما يرجع ذلك إلى مشيئة الله وإرادته، وما هو إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
ثم أخذ السّياق يبين لهم فساد شركهم، فذكر سبحانه أنه هو الذي خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها، فلمّا حملت منه دعوا الله لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فلمّا آتاهما ما طلبا جعل أولادهما له شركاء فيما آتاهما ثمّ وبخهم على أن يشركوا به مالا يخلق شيئا وهم يخلقون، إلى غير هذا مما ذكره في إبطال شركهم، ثم أمر النبي (ص) أن يأمرهم بدعوة شركائهم لكيده، تعجيزا لهم، وأن يذكر لهم أن وليّه الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين وأنّ هؤلاء الشركاء لا يستطيعون نصرهم ولا نصر أنفسهم، ثمّ ذكر سبحانه أن(3/104)
النبي (ص) إن يدعهم إلى الهدى لا يسمعوا ينظرون إليه وهم لا يبصرون وأمره أن يأخذ بما شرعه له من العفو والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين، وأن يستعيذ به جلّ جلاله إذا اعتراه من الشيطان نزغ، لأن هذا هو سبيل المتّقين إذا مسّهم الشيطان بطائف منه ثمّ ذكر أنه إذا لم يأتهم بآية ممّا يقترحونه، قالوا لولا اقترحتها على الله، وأمره أن يجيبهم بأنه لا يتّبع إلا ما يوحى إليه، فلا يقترح شيئا عليه وبأنه، قد أتاهم بصائر من القرآن تغني عن غيره من المعجزات ثمّ أمرهم أن يستمعوا له وينصتوا إذا قرئ عليهم لعلّهم يرحمون وأمر النبي (ص) أن يذكره تضرّعا وخيفة، ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ونهاه أن يكون من الغافلين إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) .(3/105)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعراف» «1»
أقول: مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه: أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق، وقال فيها: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] وقال في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: 6] ، وأشير فيها إلى ذكر المرسلين، وتعداد كثير منهم، وكانت الأمور الثلاثة على وجه الإجمال، لا التفصيل، ذكرت هذه السورة عقبها، لأنها مشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها.
فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط، بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها «2» . وذلك تفصيل إجمال قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية إهلاكهم، تفصيلا تامّا شافيا مستوعبا، لم يقع نظيره في سورة غيرها «3» ، وذلك بسط حال القرون المهلكة ورسلهم، فكانت هذه السورة شرحا لتلك الآيات الثلاث.
وأيضا، فذلك تفصيل قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] . ولهذا صدّر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]
(2) . انظر في قوله تعالى من وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الآية 11] .
الى: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) .
(3) . انظر من قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الآية 59] الى فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) .(3/107)
خليفة «1» وقال في قصة عاد: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الآية 69] وفي قصة ثمود: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الآية 74] .
وأيضا فقد قال تعالى في الأنعام:
كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:
12] . وهو موجز، وبسطه هنا بقوله:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الآية 156] . إلى آخره.
فبيّن من كتبها لهم.
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة باخر الأنعام فهو: أنه تقدم هناك:
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وقوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: 155] فافتتح هذه السورة أيضا باتباع الكتاب في قوله جل شأنه: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 2] إلى اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 3] .
وأيضا لمّا تقدم تعالى في الأنعام: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) . قال في مفتتح هذه السورة: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) . فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الآية 7] . وذلك شرح التنبئة المذكورة.
وأيضا فلمّا قال سبحانه في الأنعام:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] . وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه السورة بذكر الوزن، فقال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الآية 8] ثمّ ذكر من ثقلت موازينه، وهو من زادت حسناته على سيّئاته، ثمّ من خفّت موازينه، وهو من زادت سيّئاته على حسناته ثمّ ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف، وهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم.
__________
(1) . انظر من الآية رقم (11) الى آخر الآية رقم (25) .(3/108)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الأعراف» «1»
1- فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ [الآية 44] .
في «تفسير أبي حيّان «2» » . قيل: هو إسرافيل. وقيل: جبريل. وقيل ملك غير معيّن.
2- وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الآية 46] .
ورد في أحاديث مرفوعة أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم «3» .
أخرجه ابن مردويه، وأبو الشيخ من حديث جابر بن عبد الله، والبيهقي في «البعث» من حديث حذيفة.
وأخرجه سعيد بن منصور، وعبد الرزاق «4» ، وغيرهما عن حذيفة موقوفا «5» .
وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا.
وأخرج الطبراني «6» من حديث أبي سعيد الخدري، والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا، أنهم قوم قتلوا في سبيل الله، وهم عصاة لآبائهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . «البحر المحيط» 4: 103.
(3) . وهو قول جمهور المفسّرين. انظر «تفسير ابن كثير» 2: 216.
(4) . والحاكم في «المستدرك» 2: 320.
(5) . الموقوف: هو ما أضيف الى الصحابة رضوان الله عليهم ولم يتجاوز به الى رسول الله (ص) . انظر: «منهج النقد في علوم الحديث» : 326.
(6) . في «المعجم الأوسط» و «الصغير» ، وفيه محمد بن مخلد الرعيني، وهو ضعيف. «مجمع الزوائد» 7: 23. وابن عساكر في «تاريخ دمشق» في ترجمة الوليد بن موسى. كما في «تفسير ابن كثير» 2: 217.(3/109)
وأخرج البيهقي عن أنس مرفوعا:
أنهم مؤمنو الجنة. وأخرج هو، وأبو الشيخ من طريق سليمان التيمي، عن أبي مجلز «1» : أنهم من الملائكة. قال سليمان: قلت لأبي مجلز: الله يقول:
(رجال) ، وأنت تقول: (الملائكة) ! قال هم ذكور، ليسوا بإناث «2» .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: هم قوم صالحون، فقهاء، علماء.
وأخرج أيضا عن الحسن قال: هم قوم كان فيهم عجب.
وأخرج عن مسلم بن يسار قال: هم قوم كان عليهم دين.
وفي «العجائب» للكرماني: قيل:
هم الأنبياء.
وقيل: الملائكة.
وقيل: العلماء.
وقيل: الصّالحون.
وقيل: الشّهداء، وهم عدول الاخرة.
وقيل: قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم.
وقيل قوم قتلوا في الجهاد عصاة لآبائهم «3» .
وقيل: قوم رضي عنهم آباؤهم، دون أمّهاتهم وأمّهاتهم دون آبائهم.
وقيل: هم الذين ماتوا في الفترة، ولم يبدّلوا دينهم.
وقيل: أولاد الزنا.
وقيل: أولاد المشركين.
وقيل: المشركون. انتهى.
3- فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الآية 138] .
__________
(1) . سليمان التيمي: هو ابن طرخان، من عبّاد أهل البصرة وصالحيهم، ثقة وإتقانا وحفظا وسنّة، توفي سنة (143) .
وأما أبو مجلز فهو: لاحق بن حميد السدوسي البصري، ثقة توفي نحو عام (109) هـ.
(2) . قال ابن كثير في «تفسيره» 2: 217: وهذا صحيح الى أبي مجلز، لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله، وخلاف الظاهر من السياق، وقول الجمهور مقدّم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا عليه وكذا قول مجاهد: إنهم قوم صالحون علماء فقهاء، فيه غرابة أيضا والله أعلم.
(3) . في خبر أخرجه أحمد بن منيع، كما في «المطالب العالية» : (3623) .(3/110)
قال قتادة: أتوا على لخم وجذام «1» .
أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج عن أبي قدامة قال: سمعت أبا عمران الجوني، قال: هل تدري من القوم الذين مرّ بهم بنو إسرائيل يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ؟ قلت: لا أدري! قال: هم قومك: لخم وجذام.
4- وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الآية 142] .
قال ابن عباس: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة. أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه، وأخرج مثله عن أبي العالية، وغيره.
5- سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) .
قال مجاهد: مصيرهم في الاخرة.
وقال الحسن: جهنّم. أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقد تصفّحت الرواية الأولى على بعض الكبار، فقال: مصر. ذكره الحافظ أبو الفضل العراقي في «شرح ألفية الحديث» «2» .
6- وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الآية 163] .
قال ابن عباس: هي «أيلة» «3» .
أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق عكرمة عنه.
وأخرج من وجه آخر عن عكرمة عنه قال: هي قرية يقال لها: «مدين» «4» بين أيلة والطّور.
__________
(1) . كان قوم «لخم» يعبدون المشتري، ويحجون الى صنم في مشارف الشام، يقال له: الأقيصر، ويحلقون رؤوسهم.
وأما «جذام» - وهم أول من سكن مصر من العرب، حين جاءوا في الفتح مع عمرو بن العاص- فكانوا يعبدون أوثان قوم لخم نفسها.
انظر «معجم قبائل العرب» لكحّالة: 174، 1012.
(2) . والحافظ السخاوي في «فتح المغيث شرح ألفيّة الحديث» 3: 71، وقول المؤلّف: «على بعض الكبار» : هو يحيى بن سلام، البصري، ثمّ الإفريقي، المفسّر الفقيه، المولود سنة 124، والمتوفى سنة 200، أدرك نحو عشرين من التابعين، له «تفسير القرآن» قال ابن الجوزي: «ليس لأحد من المتقدّمين مثله» وتفسيره ذاك توجد منه أجزاء خطيّة في تونس والقيروان. انظر «الأعلام» للزّركلي 8: 148. [.....]
(3) . أيلة: مدينة إيلات في جنوب فلسطين. انظر وصفها في «معجم البلدان» .
(4) . مدين: على البحر الأحمر محاذية لتبوك.(3/111)
وأخرج عن ابن شهاب قال: هي طبرية.
وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أيلم قال: هي قرية يقال لها: «مقنا» بين مدين وعينونا «1» .
7- وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الآية 175] .
قال ابن مسعود: هو بلعم بن أبراء «2» . أخرجه الطبراني وغيره «3» .
وقال ابن عباس: بلعم. وفي رواية:
بلعام بن باعر «4» ، من بني إسرائيل.
أخرجه أبو الشيخ من طرق عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه قال: هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية بن أبي الصّلت «5» .
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق قتادة، عن ابن عباس قال: هو صيفي بن الراهب.
وأخرج عن الشعبي قال: ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء. وتقول ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت. وتقول
__________
(1) . عينونا: قيل: هي من قرى بيت المقدس. وقيل: قرية من وراء البثنية من دون القلزم في طرف الشام وقال البكري: قرية يطأها طريق المصريين إذا حجوا. «معجم البلدان» .
(2) . كذا في «الدر المنثور» و «الطبري» : «أبر» ، ولفظ الحاكم في «المستدرك» : «باعوراء» . وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر 10: 256: «ويقال: بلعام بن باعوراء. ويقال: ابن أبر ويقال: ابن اور، ويقال: ابن باعر، كان يسكن قرية من قرى البلقان، وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه له ذكر في القرآن» .
(3) . قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 25: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» . وأخرجه أيضا: الطبري في «تفسيره» 9: 81، والحاكم في «المستدرك» 2: 325، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» 10: 266، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه. كما في «الدر المنثور» .
(4) . انظر «الدر المنثور» 3: 145.
(5) . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. كما في «مجمع الزوائد» 7: 25، وصحّح نسبته ابن كثير في «تفسيره» 2:
265، وقال «وكأنه إنّما أراد أن أمية بن أبي الصّلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله (ص) ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار الى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ورثى اهل بدر من المشركين، بمرثاة بليغة، قبّحه الله، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممّن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه، فإن له أشعارا ربّانية، وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام» .(3/112)
الأنصار: هو الراهب الذي بني له مسجد الشقاق.
وأخرج عن قتادة قال: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى، فأبى أن يقبله وتركه.
وفي «العجائب» للكرماني: قيل: إنه فرعون. والآيات: آيات موسى.
8- وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) .
هي هذه الأمّة. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة من قوله، وعن الربيع بن أنس «1» مرفوعا إلى النبي (ص) مرسلا «2» .
وأخرجه أبو الشيخ عن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي (ص) قال:
«هذه أمتي» .
9- يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الآية 187] .
سمّي منهم: حمل بن قشير، وشمويل بن زيد «3» .
10- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الآية 189] .
الآية كلّها في آدم وحواء. كما أخرجه التّرمذي، والحاكم من حديث سمرة مرفوعا «4» . وأخرجه ابن أبيّ عن ابن عباس، وغيره.
__________
(1) . الربيع بن أنس البكري، أو الحنفي، بصري، له أوهام في روايته الحديث، مات سنة (140) هـ.
(2) . المرسل: ما رفعه التابعي، كقول التابعي: قال رسول الله (ص) .
(3) . أخرجه ابن جرير 9: 93، وابن إسحاق، وابو الشيخ، عن ابن عباس.
(4) . التّرمذي (3079) في التفسير، وقال: هذا حديث حسن غريب. ورواه التّرمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وعنه أخرجه الحاكم في «المستدرك» 2: 325 وصحّحه على شرط مسلم، وأقره الذهبي عليه، ولم أر رواية سمرة في «المستدرك» ، كما عزاها المؤلف اليه، والله أعلم.(3/113)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأعراف» «1»
1- قال تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الآية 2] .
قالوا: الحرج الشكّ منه، كقوله:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس: 94] .
وسمي الشكّ حرجا، لأنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه، كما أنّ المتيقّن منشرح الصدر منفسحه. أي: لا تشكّ في أنّه منزّل من الله، ولا تحرج من تبليغه «2» .
أقول: والأصل في «الحرج» الضّيق، ولنتسع قليلا في «الحرج» فنقول الحرج والحرج الإثم، والحارج الإثم. والحرج والحرج والمتحرّج:
الكافّ عن الإثم.
ورجل متحرّج، كقولهم: رجل متأثّم ومتحوّب ومتحنّث، يلقي الحرج والحوب والإثم عن نفسه.
قال الأزهري: وهذه حروف جاءت معانيها مخالفة لألفاظها.
وأحرجه، أي: آثمه، والتحريج:
التضييق.
وفي الحديث: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» .
قال ابن الأثير: الحرج في الأصل الضيق، ويقع على الإثم والحرام، وقيل: الحرج أضيق الضيق، ومعناه أي لا بأس عليكم ولا إثم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . «الكشاف» 2: 85- 86.(3/115)
وحرج صدره يحرج حرجا: ضاق فلم ينشرح لخير، فهو حرج وحرج فمن قال: حرج، ثنّى وجمع، ومن قال: حرج، أفرد لأنه مصدر.
وقوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] وحرجا.
قال الفرّاء: قرأها عمر وابن عبّاس، حرجا، وقرأ الناس: حرجا.
أقول: فإذا فسّرنا الآية موضع بحثنا على «الشكّ» ، فذلك من كون أن الشاكّ ضيّق الصدر متحرّج غير منشرح، ومثل هذا كثير في العربية، ومنه الإصر، وغيره.
2- وقال تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) .
والمعنى فجاءها بأسنا وهم بائتون، أو هم قائلون، فالمصدر بتأويل الحال، أي: بائتين.
ومثل هذه الآية، قوله تعالى:
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) .
والبيات: البيتوتة مصدر الفعل بات يبيت، وقالوا يبات.
والبيتوتة مثل مصادر أخرى وهي الغيبوبة، والصيرورة، والسيرورة، والشيعوعة والقيمومة، والحيلولة، والطيرورة، وكذلك القيلولة.
وكنت لحظت في أن هذه المصادر، تلمح إلى أن أصل الفعل الأجوف هو المضاعف الثلاثي ألا ترى أنّنا نقول ضير وضرّ وضرر، وغبّ وغيب، وجبّ وجيب ولو استقريت سائر هذه المواد بشيء من لطف الصنعة، لوصلت الى هذه النتيجة التي لمحناها.
ثم ماذا عن القيلولة التي ترجع إليها كلمة «قائلون» في الآية؟ القائلة:
الظهيرة، يقال: أتانا عند القائلة، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضا، وهي النّوم في الظهيرة.
وفي «المحكم» : أن القائلة نصف النهار، والقيلولة نصف النهار، وقال يقيل قيلا ومقالا ومقيلا، الأخيرة عن سيبويه.
وكأن المعاصرين قد ابتعدوا قليلا حينما أضافوا كلمة «نوم» الى «القيلولة» ، فقالوا: نوم القيلولة، ويريدون بذلك نوم الظهيرة.
3- وقال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ(3/116)
الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ
(9) .
والمراد: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، والمعنى: والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحقّ، أي: العدل.
ومن ثقلت موازينه، أي: من رجحت أعماله الموزونة، وهي الحسنات فهو من المفلحين، ومن خفّت موازينه إشارة الى سيئاته، فقد خسر نفسه.
أقول: وصف الحسنات وأعمال الخير بالثّقل حينما توزن تعبير جميل، ما زال أهل عصرنا يستخدمون شيئا منه فيقولون رجل ذو وزن، أي: ذو قدر عظيم ومكانة، ويقولون في دارجتهم العامّية، فلان موزون بالمعنى نفسه، ويقال في طائفة من الألسن الدارجة:
هو ثقيل بإبدال القاف كافا ثقيلة «ثكيل» وبكسر الثاء، وهي لغة قديمة في فعيل، إنها لغة تميم.
على أن الفصيحة تأبى الوصف ب «الثقيل» ، لهذا المعنى وهو: من رجحت موازينه، والثقيل في الفصيحة القديمة والمعاصرة البليد الجامد الحسّ. على أن الفصيحة قد شاع فيها «ثقل الموازين» ، لمن كثرت حسناته ورجحت أعماله الحسنة، ويحسن بنا أن نشير إلى أن «الخفيف» قد يكون صفة إيجابية في العربية الفصيحة، فيقال: فلان خفيف الظل، ويكون صفة غير مقبولة في الألسن الدارجة.
فالرجل الخفيف هو غير الرزين العاقل المستحي، وهو الشعشاع غير المتأدّب المتحرّج.
4- وقال تعالى: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) .
المعنى: فما يصحّ لك ان تتكبّر فيها وتعصي.
وهذا من لطيف استعمال الفعل «يكون» وهو شيء آخر غير «كان» ذات العمل الخاص، وهو رفع المسند إليه ونصب المسند.
والمراد ب «الصاغرين» أهل الصّغار والهوان.
والصّغار: الذّلّ والضّيم وكذلك الصّغر، والمصدر الصّغر بالتحريك وصغر فلان يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر، إذا رضي بالضيم.(3/117)
قال تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) [التوبة] .
أي: أذلّاء.
أقول: فرّق في العربية بين الفعل ذي الدلالة المحسوسة، والفعل ذي الدلالة المجرّدة أو المعنوية، فالصّغر ضد الكبر، وهو في الجسم والسن، والصّغر والصّغار، الذل والهوان، والفعل صغر في الأول، وصغر في الثاني.
5- وقال تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الآية 17] .
الأيمان جمع يمين وهو الجهة اليمنى، والشّمائل جمع شمال وهو الجهة اليسرى.
وكذلك اليد اليمين، واليد الشّمال وفلان ينعم بيمينه، ويقبض بشماله.
والشّمال: الطّبع، والجمع شمائل أيضا، والشّمال: الخلق.
وقلّما نجد كلمة «الشمال» في كلامهم بل نجدها مفردة.
على أن الشّمال قد وردت في الشعر، قال عبد يغوث بن وقاص:
ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل، وما لومي أخي من شماليا وقال صخر بن عمرو الشريد أخو الخنساء:
أبى الشّتم أنّي قد أصابوا كريمتي وأن ليس إهداء الخنى من شماليا وقال آخر:
هم قومي وقد أنكرت منهم شمائل بدّلوها من شمالي أمّا الريح التي تهبّ من جهة الشمال فهي شمال، وشمأل وشأمل.
6- وقال تعالى: قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الآية 18] .
وقوله تعالى: «مذءوما» من ذأمه إذا ذمّه.
أقول: والذأم، مهموزا: الذّمّ ومثله الذّام.
ومن هنا نلمح القرابة بين المهموز والأجوف والمضاعف، وكنا قد أشرنا إلى الصلة بين المضاعف والأجوف، ومنه الذّامّ والذّم.
7- وقال تعالى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) .
أي: وأقسم لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) .(3/118)
فإن قلت: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك، تقول: قاسمت فلانا: حالفته، وتقاسما، تحالفا، ومنه قوله تعالى:
قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النّمل: 49] «1» .
وأقسمت: حلفت: وأصله من القسامة.
وقال ابن عرفة في قوله تعالى:
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) [الحجر] .
هم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول (ص) والقسامة: الذين يحلفون على حقّهم ويأخذون.
وفي الحديث: «نحن نازلون بخيف «2» بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» .
وتقاسموا من القسم اليمين، أي تحالفوا، يريد لمّا تعاهدت قريش على مقاطعة بني هاشم وترك مخالطتهم «3» .
أقول: لم يبق لنا من هذه الذخيرة اللغوية في العربية المعاصرة إلّا أقسم من الحلف، أي: اليمين أمّا اقتسم، وقاسم، وتقاسم فكلّه يرجع الى القسم، وهو القطع والقصّ، والقسم:
الجزء.
8- وقال تعالى: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الآية 22] .
أي: وجعلا يخصفان. وقد ورد الفعل طفق في قوله تعالى: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:
121] .
وفي قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) [ص] .
هذا كلّ ما نعرف عن استعمال «طفق» في العربية فلم يؤثر استعمالها في غير هذه الآيات الكريمة.
وقالوا: طفق بالفتح لغة رديئة، وهي ملازمة لحالة المضيّ فلم يرد يطفق ولا المصدر، فهو نظير كرب، وحرى، وعسى، في أنها وردت جامدة على هذه الهيئة، وليس من أبنية أخرى.
9- وقال تعالى
__________
(1) . «الكشاف» 2: 95. [.....]
(2) . الخيف: ما انحدر من غلظ الجبل، وارتفع عن مسيل الماء.
(3) . «اللسان» (قسم) .(3/119)
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً [الآية 26] .
و «الريش» : لباس الزينة استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أي:
أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يواري سوآتكم، ولباسا يزينكم.
قرأ عثمان، رضي الله عنه: ورياشا، جمع ريش.
أقول: والرّيش والرّياش: الخصب والمعاش والمال والأثاث واللباس الحسن الفاخر. وأكبر الظن، أنّ هذه المعاني قد جاءت من «الريش» في الآية الكريمة التي تفيد الزينة.
والرّياش في عصرنا، تفيد ما يفرش من البسط والزرابيّ، ونحو ذلك.
10- وقال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الآية 27] .
المراد ب «قبيله» جنوده من الشياطين.
والقبيل: الجماعة من الناس، يكونون من الثلاثة فصاعدا، من قوم شتّى كالزّنج والرّوم والعرب وقد يكونون من نحو واحد وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وللقبيل دلالات أخرى هي: يقال: ما يعرف قبيلا من دبير: يريد القبل والدّبر.
والقبيل: طاعة الرّبّ تعالى، والدبير معصيته.
والقبيل: باطن الفتل والدبير ظاهره، أو ما أقبل به على الصدر، والدبير: ما أدبر به عنه.
والقبيل: فوز القدح في القمار، والدبير: خيبة القدح.
والقبيل: الكفيل والعريف.
على أنّنا لا نملك من كلّ هذه المادّة في هذه الدّلالات إلّا شيئا واحدا، لا نجد له أصلا واضحا قديما وذلك قولهم مثلا: اجتمعت أشياء كثيرة في البيت، من أثاث ورياش ولباس وغير ذلك من هذا القبيل، أي من هذه الأشياء وما يشبهها.
11- وقال تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الآية 40] .
الجمل معروف وهو الحيوان.
ولنرجع إلى القراآت، فقد ذكر أنّ ابن عباس قرأ: (حتى يلج الجمّل) ، بضم فتشديد، وهي الحبال المجموعة.
وروي عن أبي طالب أنه قال: رواه القرّاء (الجمّل) بتشديد الميم، قال:
ونحن نظن أنه أراد التخفيف.(3/120)
قال أبو طالب: وهذا لأن الأسماء إنما تأتي على فعل مخفّف، والجماعة تجيء على فعّل مثل صوّم وقوّم.
قال أبو الهيثم: قرأ أبو عمرو والحسن وهي قراءة ابن مسعود: حتى يلج الجمل، مثل النّغر في التقدير.
فأما الجمل بالتخفيف فهو الحبل الغليظ، وكذلك (الجمّل) مشدّد، وهما قراءتان لابن عبّاس.
قال ابن جني: هو الجمل على مثال نغر، والجمل على مثال قفل، والجمل على مثال طنب، والجمل على مثال مثل.
قال ابن برّي: وعليه فسّر قوله تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ، فأمّا الجمل فجمع جمل، كأسد وأسد.
والجمل: الجماعة من الناس.
وحكي عن عبد الله وأبيّ: حتى يلج الجمّل.
أقول: لقد عدل عن الجمل، وهو الحيوان إلى الجمل والجمّل وهو الحبل الغليظ والعدول وجه مقبول.
وأما الخياط فهو المخيط، والخياط بوزن فعال، من أوزان الآلة والأداة نحو الصّمام، والقناع، والعفاص، والوكاء، والسّداد واللّثام وكثير غير ذلك. ولعل هذا من الأبنية القديمة قبل أن يكون للالة أبنية قياسية هي: مفعل، ومفعلة، ومفعال نحو مبرد، ومجرفة، ومكسار.
12- وقال تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا [الآية 44] .
قالوا: «أن» ، في قوله تعالى أَنْ قَدْ وَجَدْنا يحتمل أن تكون مخفّفة من الثقيلة، وأن تكون مفسّرة كالتي في الآية السابقة.
وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الآية 43] .
أقول: أن تكون مفسّرة أوجه، ذلك أنها تتصدّر الكلام الذي نودي به ولعلّهم جعلوها مخفّفة من الثقيلة، لأن الجملة التي جاءت بعدها قد صدّرت ب «قد» ، وعندهم أنّ المخففة إن وقع خبرها جملة فعلية، فلا يخلو: إما أن يكون الفعل متصرّفا أو غير متصرف، فإن كان غير متصرف لم يؤت بفاصل وإن كان متصرّفا غير دعاء، فصل بفاصل في الأكثر، والفاصل هو «قد» أو حرف التنفيس، أو حرف نفي، أو لو.(3/121)
أقول: فلمّا سبق الفعل في الآية المذكورة «قد» ، ذهبوا إلى أنّ «أن» مخفّفة من الثقيلة. والذي يعضد أنها مفسّرة، ما ورد من الآيات التي صدرت بفعل النداء وهو: نادى، ونودوا، كما في الآية الثالثة والأربعين من هذه السورة، وقد أشرنا إلى ذلك، والآية السادسة والأربعين، من هذه السورة أيضا، وفيها قوله تعالى:
وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ والآية الخمسين من السورة نفسها، وفيها قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ.
13- وقال تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [الآية 46] .
«الأعراف» ، أعراف الحجاب، وهو السور المضروب بين الجنّة والنار، وهي أعاليه، جمع عرف، استعير من عرف الفرس وعرف الديك.
أقول: وهذا من معالم الاخرة التي أثبتتها لغة التنزيل كالصّراط وعلّيّين، وغيرهما.
14- وقال تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ [الآية 46] .
السيما: هي العلامة التي أعلمهم الله تعالى بها.
وقد جاءت «السيما» في ست آيات من سور مختلفة بهذا المعنى الذي ذكرناه، ومنها: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29] .
ولقد أدرج أهل المعجمات «السيما» في «سوم» وقالوا فيها:
والسّومة والسّيمة والسّيماء والسّيمياء: العلامة، وسوّم الفرس:
جعل عليه السيّمة، أي: العلامة، وقالوا: إنّ «السّيما» ياؤها واو.
وللكلمة عدّة صيغ، ومنها المدّ «سيماء» وهي لغة.
قلت: أدرج أهل المعجمات هذه الكلمة في «سوم» ، وهي ألصق ب «الوسم» وليس شيئا أن يحدث القلب في الأصوات في الكلمات العربية، ألا ترى أنهم قالوا: ساوى وواسى مثلا «1» .
15- وقال تعالى:
__________
(1) . لقد لمح الغربيون المستعربون أن «سيما» قد تكون من «» اليونانية، وتعني العلامة، ومنها أخذ وو يراد بالأولى علم الدلالة، وبالثانية علم دلالة الألفاظ.(3/122)
حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ [الآية 57] .
قال الزمخشري «1» : سحائب ثقالا بالماء جمع سحابة.
والضمير في «سقناه» يرجع للسحاب على اللفظ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلا.
أقول: السّحاب في العربية يراعى فيه اللفظ في الغالب، أي: أنه مفرد كالماء والهواء، وإن كان في الحقيقة شيئا لا يتبيّن فيه الإفراد من الجمع، وهو شيء كثير كالغمام والماء والهواء، ولكثرته روعي المعنى في الآية، فجاء الوصف «ثقالا» ، بصيغة الجمع.
ثم جاء الضمير فعاد على السحاب في لفظه المفرد، فبدا هذا النمط الخاص في الآية من المراعاة.
أقول: هذه من خصائص لغة القرآن التي احتفظت بخصائص العربية القديمة.
16- وقال تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) .
«الملأ» في الآية تعني: الأشراف والسادة، وقيل: الرجال ليس معهم نساء. وسمّوا بذلك لأنهم ملاء بما يحتاج إليه.
أقول: ولنا أن نقول إن الفعل ملؤ يملؤ ملاءة فهو مليء، أي: صار مليئا، أي: ثقة.
هذا هو المليء وهو ليس بعيدا من جماعة «الملأ» ، ولكن المعاصرين استعملوه بمعنى «ملئان» و «مملوء» .
17- قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الآية 61] .
أقول إن كلمة «قوم» منادى مضاف إلى ياء المتكلم، فهو «يا قومي» ، غير أن العربية في أدائها السليم، تفرض أن يجتزأ بالكسرة عن المدّ الطويل وهو الياء، وأرى أن ذلك بسبب طول الكلمة، فأداة النداء «يا» ، تشتمل على مدّ طويل، يكون هو والمنادى تركيبا طويلا لا يحتمل الياء الأخيرة، فقصر المدّ، واكتفي بالكسرة، ومثله: يا ربّ، ثم استحسن هذا الحذف فبقيت «ربّ» في لغة الدعاء مع حذف «يا» منها.
__________
(1) . «الكشاف» 2: 111.(3/123)
18- وقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) .
لم يجئ الجمع «عميا» جمع أعمى، ولا عميانا، وإنما جاء «عمين» جمعا ل «عم» ، وهو الصفة على «فعل» ، لتجمع بالياء والنون على شاكلة أواخر الآيات (الفواصل) ، مختومة بالنون.
فقد جاءت الفواصل بالنون فهي ترحمون، وتعلمون، وتفلحون وغيرها. وقالوا: وقرئ عامين، وقالوا: إن «العمي» يدلّ على عمى ثابت، والعامي على عمى حادث.
ومن النادر أن يأتي الوصف على «فاعل» من الفعل اللازم على «فعل» مثل «فرح» فهو ضجر ولا يقال ضاجر، وهو طرب ولا يقال طارب، وهو حزن ولا يقال حازن، ولكنهم قالوا: عام وعم على السواء وهذا من لطائف العربية.
19- وقال تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) .
الآلاء: النّعم، والمفرد ألى وإلى وإلي.
والعجيب أن الكلمة لا نراها إلا جمعا فأمّا قول الأعشى:
أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما، ولا يخون إلا فنادر، لا نجد له شاهدا آخر، وقال فيه ابن سيده: يجوز أن يكون «إلا» هنا واحد آلاء الله، ويجوز ان يكون مخفّفا من الإلّ الذي هو العهد.
أقول: وقد يشيع في العربية الجمع، وينسى المفرد نحو «أرجاء» ، وقلّما يوجد «رجا» مستعملا، ومثله «آناء» كآناء الليل، وقلما نجد «إنّى» وهو المفرد.
20- وقال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الآية 65] .
قال الزمخشري: و «أخاهم» عطف على «نوحا» .
أقول: كيف يجوز عطف على معطوف عليه قبله بكلام طويل، أي في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ (59) .
والذي أراه أن «أخاهم» في الآية الخامسة والستين، منصوب بفعل محذوف للعلم به، وهو «أرسلنا» ، فكأننا نقرأ: وإلى عاد أرسلنا أخاهم هودا. ونستطيع أن نقول مثل هذا في قوله تعالى:(3/124)
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الآية 73] أي: أرسلنا أخاهم صالحا.
21- وقال تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) .
قرأ جميع القراء «تعثوا» بفتح الثاء من عثي يعثى عثوّا، وهو أشدّ الفساد.
وفي الفعل «عثي» لغتان: هما عثا يعثو عثوّا، وعاث يعيث عيثا، ولم يقرأ بهما.
أقول: وليس لنا من هذا الفعل في العربية المعاصرة إلّا عاث يعيث.
وحقيقة عثي يعثى، مقلوب عاث يعيث، كما قال كراع.
ولكنهم قالوا: إن اللغة الجيدة عثي يعثى. وقد كنا عرضنا لهذا الفعل في آية سابقة.
22- وقال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) .
أي: من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث.
وغبر الشيء يغبر غبورا: مكث وذهب وغبر الشيء: بقي. والغابر:
الباقي، والغابر: الماضي. ومن هنا قالوا: هو من الأضداد.
أقول: ولعلّ هذا كلّه جاء من أنّ الغابر، باقيا أو ماضيا، إنّما يكون سائرا عابرا: أي: متحرّكا.
ومن هنا كانت العلاقة بين غبر، وعبر علاقة أصيلة.
23- وقال تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) .
أي: ربّنا احكم بيننا، والفتاحة الحكومة، أي الحكم بين المتخاصمين، أو أظهر أمرنا حتّى يتفتّح ما بيننا وبين قومنا.
أقول: وهذا من الكلم الشريف الذي اشتملت عليه لغة القرآن، والفتّاح، من صفة الله، هو الحاكم. وهو الفتّاح العليم. والفتّاح من أسماء الله تعالى الحسنى. وفي حديث ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله- عزّ وجلّ-:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها:
تعال أفاتحك، أي: أحاكمك، ومنه: «لا تفاتحوا أهل القدر» ، أي:
لا تحاكموهم.
أقول: وليس في عربيّتنا المعاصرة(3/125)
شيء من هذا، فهل أدركنا ضعف هذه اللغة التي صرنا إليها؟ فكيف يراد لها أن تكون لغة العصر والحضارة الجديدة، بغير الجد والعمل الدائب والرجوع الى الأصول! 24- وقال تعالى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الآية 105] .
قال الزمخشري «1» : حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، فيه أربع قراءات: المشهورة، وحقيق عليّ أن لا أقول، وهي قراءة نافع، وحقيق أن لا أقول، وهي قراءة عبد الله، وحقيق بأن لا أقول، وهي قراءة أبيّ.
وفي القراءة المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوه: أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس كقوله:
نزلت بخيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر
ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرّماح.
والثاني: أن ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقا عليه، كان هو حقيقا على قول الحق، أي: لازما له.
والثالث: أن يضمّن «حقيق» معنى حريص كما ضمّن «هيّجني» معنى «ذكّرني» في بيت الكتاب «2» .
والرابع: وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن: أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، ولا سيما وقد روي أن عدو الله فرعون قال له لما قال: «إني رسول من ربّ العالمين» : كذبت، فيقول: أنا حقيق على قول الحق، أي: واجب علي قول الحق، أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلّا بمثلي ناطقا به.
25- وقال تعالى: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الآية 124] .
«من خلاف» ، أي من كل شقّ طرفا، وهذا يعني قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى.
فكلمة «الخلاف» مصطلح تاريخي خاص.
__________
(1) . «الكشاف» 2: 137- 138.
(2) . البيت هو:
إذا تغنّى الحمام الوزق هيّجني، ... وإن تغيّبت عنها، أمّ عمّار(3/126)
26- وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الآية 130] .
المراد ب «السنين» سنين القحط.
والسنة من الأسماء الغالبة كالدّابّة والنجم، ونحو ذلك وقد اشتقوا منها، فقالوا: أسنت القوم، بمعنى أقحطوا.
أقول:
إن دلالة «السنة» على القحط، وصيرورتها من الأسماء الغالبة كالدّابة والنّجم، إنما جاءت في الأصل من الوصف أو الإضافة، كأن يقال: سنة شديدة أو سنة قحط، ثم جرّدت من الوصف أو الإضافة للعلم بها وشيوعها، فصارت «سنة» ، وقد يشير الى صحة هذا التعليل ما يقال لدى العامة من أن «السنة سنة» ، يريدون بها سنة شديدة تأخذ بخناقهم.
قال، وقد اشتقوا منها: أسنت القوم بمعنى أقحطوا وقد كنا أشرنا إلى هذا.
قلت: ومن ذلك قول ابن الزّبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكّة مسنتون عجاف ولنسرّح الطرف في سعة هذه المفردة الغنية، فماذا فيها؟:
قالوا: أسنى القوم إذا أقاموا سنة في موضع.
ويقال: تسنّت فلان كريمة آل فلان، إذا تزوّجها في سنة القحط.
وجاء في «الصحاح» : يقال تسنّتها إذا تزوّج رجل لئيم امرأة كريمة لقلّة مالها، وكثرة ماله.
والسّنتة والمسنتة: الأرض التي لم يصبها مطر فلم تنبت.
قال أبو حنيفة: فإن كان بها يبيس من يبيس عام أوّل، فليست بمسنتة ولا تكون مسنتة حتى لا يكون بها شيء.
وعام سنيت ومسنت: جدب.
وسانتوا الأرض: تتبّعوا نباتها.
أقول: وإذا كانت العربية قد أفادت من التاء في «السنة» فولدت هذه الفوائد الكثيرة، فقد أفادت من «الهاء» «1» ،
__________
(1) . أقول: إن الفوائد اللغوية التي عرضنا لها، قد جاءت استفادة من هاء التأنيث لا من «الهاء» ، التي زعم اللغويون أنها من أصل «سنة» الذي هو «سنهة» فكما استفيد من التاء فجاءت «أسنت» وغيرها من الفوائد، كذلك استفيد من الهاء، علامة التأنيث في توليد فوائد أخرى.(3/127)
وهي نظيرة التاء، وكلاهما علامة تأنيث فولّدت فوائد أخرى هي هذه:
قالوا: سنهت النخلة وتسنّهت إذا أتى عليها السّنون.
ولقد ابتعد اللغويون المتقدّمون في النظر الى المواد الثنائية، مثل شفة وسنة وعضة وغيرها وزعموا أنها ثلاثية حذفت لامها، واللام إما هاء وإما واو على خلاف بينهم، ولذلك قالوا: تسنّهت فجعلوا اللام هاء، وقالوا تسنّيت عنده إذا أقمت عنده سنة، وكأن اللام واو لقولهم في التصغير سنيّة، وفي الجمع سنوات، والذي ذهب الى الهاء قال: سنيهة في التصغير وسنهات في الجمع.
وعندي، أنّ الفوائد اللغوية التي جاءت فيها الهاء، قامت على اعتبار هاء التأنيث أصلا، كما عدّت التاء أصلا، وهي للتأنيث.
وكما قالوا تسنّهت عنده، قالوا تسنّيت إذا أقمت عنده سنة.
وقالوا: سانهه مسانهة وسناها، أي:
عامله بالسنة أو استأجره لها.
وسانهت النخلة، وهي سنهاء:
حملت سنة ولم تحمل أخرى، قال سويد بن الصامت:
فليست بسنهاء ولا رجّبيّة ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
والسّنهاء: التي أصابتها السنة المجدبة، وقد تكون النخلة التي حملت عاما ولم تحمل آخر، وقد تكون التي أصابها الجدب، وأضرّ بها فنفى ذلك عنها.
وقالوا: طعام سنه وسن إذا أتت عليه السّنون وسنه الطعام والشراب سنها وتسنّة: تغيّر، وقال تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:
259] .
والتّسنّه: التّكرّج الذي يقع على الخبز، والشّراب وغيره.
وقرئت الآية: (لم يتسنّ) لمن نظر الى أنّ الواو هي لام الكلمة في الأصل.
وكثير من هذا قد كنا أشرنا إليه في آيات سابقة.
27- وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الآية 131] .(3/128)
يطّيّروا، أي: يتطيّروا، أي:
يتشاءموا.
و «طائرهم عند الله» أي: سبب خيرهم وشرّهم عند الله.
وأصل الطائر: ما تيمّنت به أو تشاءمت، وأصله في الجناح.
وقالوا للشيء يتطيّر به من الإنسان وغيره: طائر الله لا طائرك. فرفعوه على إرادة: هذا طائر الله، وفيه معنى الدعاء، وإن شئت نصبت أيضا.
وقال ابن الأنباري: معناه فعل الله لا فعلك وما تتخوّفه.
وقال اللّحياني: يقال: طير الله لا طيرك، وطائر الله لا طائرك، وصباح الله لا صباحك.
قال: يقولون هذا كلّه إذا تطيّروا من الإنسان، والنصب على معنى: نحبّ طائر الله، وقيل بنصبهما على معنى أسأل الله طائر الله لا طائرك.
والمصدر: الطّيرة.
وجرى له الطائر بأمر كذا، وقال عزّ وجلّ: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الآية 131] المعنى ألا إنّما الشؤم الذي يلحقهم، هو الذي وعدوا به في الاخرة، لا ما ينالهم في الدنيا.
ومن هنا كان الطائر الحظّ، وطائر الإنسان عمله الذي قلّده، وقيل:
رزقه وهذا يعني، أن الطائر يكون الحظّ في الخير والشر.
وفي حديث أمّ العلاء الأنصارية:
اقتسمنا المهاجرين، فطار لنا عثمان بن مظعون، أي: حصل نصيبنا منهم عثمان.
ومنه حديث رويفع: إن كان أحدنا في زمان رسول الله (ص) ، ليطير له النصل، وللآخر القدح. معناه: إن الرّجلين كانا يقتسمان السّهم فيقع لأحدهما نصله، وللآخر قدحه.
وطائر الإنسان: ما حصل له في علم الله مما قدّر له ومنه الحديث:
«بالميمون طائره» ، أي: بالمبارك حظّه.
ويجوز أن يكون أصله من الطير السانح والبارح.
وقوله- عز وجل- وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] .
قيل: حظّه، وقيل: عمله.
أقول: ولقد أمدّ «الطير» ، وهو من المخلوقات المعروفة العربية بقدر من الفوائد، ذلك أنّهم قرنوا بعضها بالخير(3/129)
وبعضها بالشر، فكان السانح منها وكان البارح، والسانح ما أتى عن يمينك من ظبي أو طائر، وهو أمارة يمن وخير والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك، وهو أمارة شؤم وشر.
28- وقال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) .
«إذا هم ينكثون» جواب «لمّا» ، يعني فلما كشفناه عنهم فأجاءوا «1» النكث، وبادروا لم يؤخّروه، ولكن لمّا كشف عنهم نكثوا.
أقول: جاءت الجملة الاسمية من المبتدأ والخبر بعد «إذا» الفجائية، وعلى هذا جرى أسلوب لغة التنزيل.
ثم جدّ في العربية منذ أزمان قولهم:
خرجت فإذا به ماش في الطريق، والجديد المولّد هو خفض الضمير بالباء وهذا هو الأسلوب المتّبع في العربية المعاصرة.
ومثل هذه الآية، قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) .
29- وقال تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) .
«إنّ هؤلاء» ، أي: عبدة الأصنام الذين مرّ بهم بنو إسرائيل، ورأوهم يعكفون على أصنام لهم فسألوا موسى (ع) أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء آلهة، فقال كما ورد في التنزيل:
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ، أي: مدمّر مكسّر ما هم فيه، من قولهم: إناء متبرّ إذا كان فضاضا، أي: فتاتا، أو يقال لكسار الذهب: تبر. والمعنى: يتبّر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه.
وفي حديث علي (ع) عجز حاضر ورأي متبرّ، أي: مهلك، والتّبار الهلاك.
وقال- عزّ وجلّ- وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) [الفرقان] .
30- وقال تعالى: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الآية 144] .
والمعنى اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم برسالاتي وبكلامي.
والاصطفاء: الاختيار، واصطفاه اختاره، وهو افتعال من الصّفوة، ومنه النبيّ المصطفى- صلوات الله عليه- أي: اصطفاه ربّه، أي: اختاره.
__________
(1) . أجاءوا: جاءوا به.(3/130)
والصفوة، مثلثة الصاد، خيار كل شيء.
وقد كان مع الاختيار في الآية الإيثار، وما أرى ذلك إلا من استعمال الخافض «على» . وقد جاء الاصطفاء بمعنى الاختيار مع الإيثار، باستعمال الخافض في عدة آيات هي:
قال تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) [الصافات] .
وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) [آل عمران] .
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 247] .
ونجد هذا الفعل بمعنى الاختيار دون الإيثار، وذلك لخلوّ الآيات من حرف الخفض «على» كما في قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران: 42] .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:
132] .
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] .
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: 4] .
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] .
وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا [البقرة:
130] .
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] .
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) [ص] .
31- وقال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) .
والمعنى: ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأنّ من اشتدّ ندمه وحسرته، يعضّ يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها.
أقول: وسقط في أيديهم بمعنى وقع البلاء في أيديهم، أي: وجدوه وجدان من يده فيه، يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه، ويقال:
سقط في يده وأسقط، وبغير الألف أفصح.
وقيل، معناه: صار الذي كان يضربه، ملقّى في يده.
أقول: وهذا من جملة أفعال جاءت(3/131)
على بناء المفعول مثل: حمّ وغمّ وهرع وهزل وغيرها، وهي مسندة إلى الفاعل في الحقيقة.
32- وقال تعالى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الآية 150] .
«ابن أمّ» ، منادى حذفت منه أداة النداء، وقرئ بالفتح تشبيها بخمسة عشر، وبالكسر على طرح ياء الإضافة وابن أمي بالياء، وابن إمّ بكسر الهمزة والميم.
أقول: قولهم تشبيها بخمسة عشر، أرادوا بها أن «ابن» و «أم» ، قد اتّحدا بالإضافة، فكأنّهما ركّبا تركيبا لازما وقد جرت العربية في المركّبات على تحريكهما بالفتح نحو: بين بين، وصباح مساء، وبيت بيت، وبابا بابا، وهرج مرج، وشذر مذر وغير ذلك.
ولا أريد أن أقول كما قال الأقدمون: إنّهم اختاروا الفتحة لخفّتها، ولكن أقول: كذا درجوا عليه، وكذا وردت لغتهم.
33- وقال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ [الآية 154] .
قال أهل اللغة المراد ب «سكت الغضب» سكن الغضب، وهو قول الزجّاج.
وقال المفسّرون يجوز أن يكون المعنى على القلب، أي: سكت موسى عن الغضب كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة.
أقول: إطلاق السكوت على هدوء الغضب من الاستعارات الجميلة التي حفلت بها لغة التنزيل، فلا حاجة إلى هذا التخريج.
34- وقال تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الآية 155] .
والمعنى: من قومه سبعين رجلا، فحذف الجار، فأوصل الفعل إلى الاسم، كقوله:
ومنّا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبّ الرّياح الزعازع أي: ومنّا الذي اختاره الناس من بين الرجال، ف «الرجال» نصب على نزع الخافض. أقول: إن مسألة نزع الخافض يمكن أن نفسر بها مجيء الأفعال اللازمة التي تأتي متعدية أيضا، فقولهم: التقاه لا بد أن يكون أصله(3/132)
التقى به. ثم نزع الخافض فأوصل الفعل الى الضمير. ولعل الكثير من الأفعال المتعدية كانت لازمة في الأصل، ثم صير الى هذه الطريقة التماسا للخفة التي آلت إلى الإيجاز.
35- وقال تعالى وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الآية 156] .
والمعنى لقوله تعالى هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك، وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم.
قال ابن سيدة: عدّاه بإلى لأنّ فيه معنى «رجعنا» ، وقيل: معناه تبنا ورجعنا وقربنا من المغفرة، وكذلك قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [البقرة: 54] .
أقول: وليس لأهل اللغة أن يعقدوا صلة بين هذا الفعل وبين الفعل «هادوا» في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [البقرة: 62، والمائدة: 69، والحج: 17] ، ذلك بأن هذا الفعل الأخير يرجع الى «يهود» ، وهو اسم قبيلة نسب إليها اليهود.
ولنعد الى مادة «هاد يهود» التي وردت في الآية في كلامنا عليها فنقول: المتهوّد: المتوصّل بهوادة إليه، وهو المتقرّب.
والتهويد والتّهواد والتهوّد: الإبطاء في السّير واللين والترفّق.
والتهويد: المشي الرّويد كالدّبيب ونحوه، وهو السّير الرفيق.
وفي حديث ابن مسعود: «إذا كنت في الجدب، فأسرع السير ولا تهوّد» .
أي: لا تفتر، وكذلك التهويد في المنطق، وهو الساكن، يقال: غناء مهوّد، قال الراعي:
وخود من اللائي تسمّعن بالضّحى ... قريض الرّدافى بالغناء المهود
والتهويد أيضا النوم.
وتهويد الشراب: إسكاره. وهوّده الشراب إذا فتّره فأنامه، وقال الأخطل:
ودافع عنّي يوم جلّق غمزه ... وصمّاء تنسيني الشراب المهوّدا
أقول: إن معنى «هاد» في الآية بمعنى التوبة أو الرجوع في قوله تعالى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ، واستفيد هذا المعنى من التضمين، الذي دلّ عليه الخافض «إلى» ، فقد نقل من «السير» وهو المعنى القديم، إلى «التوبة» وهي(3/133)
«الرجوع» أيضا، فاقتضى استعمال «إلى» .
ولمّا كان أصل المعنى السير والترفق، فهو قريب من الفتور، فقالوا: «هوّد الشراب» . ألا ترى أن في ذلك شيئا من مقلوب «هدأ» مثلا؟
ثم من المفيد أن نذكر أن العامة في الحواضر العراقية يقولون: «هوّد الألم» ، في الكلام على الجراحات والأوجاع.
36- وقال تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الآية 160] .
والمراد ب «الأسباط» القبائل، ومن أجل ذلك قيل: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مطابقة. وحقيقة الأسباط أولاد الولد جمع سبط، والسبط مذكر، ولكنه أريد به القبيلة، وهم أسباط اليهود من ولد يعقوب (ع) .
37- وَقُولُوا حِطَّةٌ [الآية 161] .
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: 58] .
وقال الزجّاج: معناه قولوا مسألتنا حطّة، أي: حطّ ذنوبنا عنّا، أو أمرنا حطّة، قال: ولو قرئت (حطّة) بالنصب كان وجها في العربية، كأنه قيل لهم:
قولوا احطط عنّا ذنوبنا حطّة، فحرّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي أمروا بها، وجملة ما قالوا أنّه أمر عظيم، سمّاهم الله به فاسقين.
وقال الفرّاء: قولوا ما أمرتم به حطّة، أي: هي حطّة، فخالفوا إلى كلام بالنّبطية، فذلك قوله تعالى:
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 59] .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنهم قالوا «حنطة» حينما بدّلوا.
38- وقال تعالى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [الآية 163] .
والمعنى إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه، وأمروا بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة.
والسّبت: مصدر سبت اليهود، إذا عظّموا سبتهم بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد.
أقول: السبت من الكلم السامي(3/134)
القديم، الذي أفادت منه العربية، ودخل في عداد الكلمات المتصرّفة، فكان منه الفعل والمصدر.
39- وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الآية 167] .
قوله تعالى: تَأَذَّنَ رَبُّكَ بمعنى عزم ربّك، وهو «تفعّل» من الإيذان وهو الإعلام، لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به، ويوذنها بفعله، وأجري مجرى فعل القسم، كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، وهو قوله تعالى لَيَبْعَثَنَّ، والمعنى: وإذ حتم ربّك، وكتب على نفسه، ليبعثنّ على اليهود إلى يوم القيامة «1» .
40- وقال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) .
قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ بمعنى قلعناه ورفعناه، كقوله سبحانه: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة: 63] .
ومنه نتق السّقاء، إذا نفضه ليقتلع الزّبدة منه «2» .
أقول: وهذا من الكلم العربي القديم الذي حفظته لغة القرآن.
قالوا: نتقت الغرب من البئر، أي:
جذبته بمرّة.
وفي الحديث في صفة مكّة والكعبة:
أقلّ نتائق الدنيا مدرا. والنّتائق جمع نتيقة، فعيلة بمعنى مفعولة من النّتق، وهو أن يقلع الشيء فيرفعه من مكانه ليرمي به. هذا هو الأصل، وأراد بها هاهنا البلاد لرفع بنائها وشهرتها في موضعها.
41- وقال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) .
قوله تعالى: فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمل على اللفظ، وقوله سبحانه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، حمل على المعنى.
أقول: يريد أن لفظ «من» مفرد في وضعه، جمع في معناه.
__________
(1) . «الكشاف» 2: 173.
(2) . المصدر نفسه 2: 175.(3/135)
والحقيقة أن لفظ «من» يكون مفردا وجمعا في المعنى. وكأن الآية حين حمل الجزء الأخير منها على المعنى، فجاء قوله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، كان ذلك مراعاة للسياق الذي درجت عليه السورة، فالفواصل كلها بالنون، ومن أجل ذلك حمل على المعنى.
42- وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الآية 180] .
قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، أي واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها، فيسمّونه بغير الأسماء الحسنى.
أقول: اشتهر الإلحاد بأنه الكفر بالله، والإشراك به والشك فيه، وهذا مجاز، حقيقته الميل والعدول عن الشيء، وقد جاء في الآية على الحقيقة.
ويعرض للألفاظ ان يشتهر فيها المجاز، وتترك الحقيقة هذا كثير، نتبيّنه في جمهرة كبيرة من الكلم.
43- وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) .
قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، أي سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم، ونضاعف عقابهم.
أقول: و «الاستدراج» من الكلم المعروف في اللغة المعاصرة، ويراد به استدناء المرء بضرب من الحيلة والمخادعة، لأخذه بشيء، والإفادة منه.
44- وقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الآية 187] .
السؤال عن الساعة وعن موعدها، وقوله تعالى كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها معناه:
كأنك عالم بها.
وحقيقته: كأنك بليغ في السؤال عنها، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم علمه فيه ورصن وهذا التركيب، معناه المبالغة. ومنه إحفاء الشارب، واحتفاء البقل: استئصاله.
وأحفى في المسألة إذا ألحف.
وحفى بفلان وتحفّى به: بالغ في البرّ به «1» وجاء في «الانتصاف» «2» : وفي
__________
(1) . «الكشاف» 2: 184.
(2) . «الانتصاف» لأحمد المنير الإسكندري، حاشية على «الكشاف» 2: 184.(3/136)
هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلّا في الكتاب العزيز ... وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بني على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طرّي بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدّم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وهذا منها، فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، ثم، اعترض ذكر الجواب المضمّن في قوله سبحانه:
قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، إلى قوله بَغْتَةً، أريد تتميم سؤالها عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمّن في قوله جلّ وعلا: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده فطرّي ذكره تطرية عامة ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأوّل مستغنى عن تفصيله بما تقدّم، فمن ثمّ قيل: يَسْئَلُونَكَ، ولم يذكر المسؤول عنه وهو الساعة، اكتفاء بما تقدم، فلما كرّر السؤال لهذه الفائدة، كرّر الجواب أيضا مجملا، فقيل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ.
أقول: واستعمال «حفيّ» في العربية المعاصرة يكون بتطلّبه الباء حرف جر بعده، فيقال: هو حفيّ بما فاز به.
45- وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) .
قوله تعالى: فَلا تُنْظِرُونِ بكسر النون، اجتزئ بالكسرة عن الياء.
لم يكن ذلك من خطّ المصحف الذي جرى على نمط خاص، وإنما كان ذلك لسبب صوتي، هو أنّ أواخر الآيات قد ختمت بالنون في الأسماء والأفعال نحو الشاكرين وصامتين والصالحين ويؤمنون ويشركون وغيرها وإنما حرّكت النون في هذه الآية بالكسرة، كي يستغنى عنها عند الوقف على آخر الآية، فتكون كسائر الفواصل الأخرى ولا يتأتّى ذلك، لو أثبتت الياء. وإذا كان هذا هو السبب في حذف الياء والاستغناء عنها بالكسرة، فما السبب في حذف الياء في الذي يسبق قوله تعالى: فَلا تُنْظِرُونِ، وهو قوله سبحانه:
كِيدُونِ؟ الجواب عن هذا: أن الياء حذفت استحسانا لتأتي الكلمة مشاكلة للكلمة الأخرى التي ختمت بها الآية قوله: فَلا تُنْظِرُونِ.
والمشاكلة في الأصوات كثيرة في لغة التنزيل، وهي تؤدي غرضا صوتيا(3/137)
يرمي الى حسن الأداء والتلاوة.
46- وقال تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) قال الزمخشري «1» :
«العفو» ضد الجهد، أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس، وأخلاقهم، وما أتي منهم، وتسهّل من غير كلفة، ولا تداقّهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشقّ عليهم حتى لا ينفروا كقوله (ص) : يسّروا ولا تعسّروا.
قال الشاعر:
خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقيل: خذ الفضل وما تسهّل من صدقاتهم.
أقول: والعفو بهذه الخصوصية المعنوية أصل المعنى، وقولنا: عفو الخاطر، ما جاء سهلا على البديهة من غير قصد ولا رويّة.
47- وقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الآية 200] .
والمعنى وإما ينخسنّك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به، فاستعذ بالله.
أقول: النزغ والنخس والنّسغ واحد، وكذلك الندغ. ونزغه: طعنه بيد أو رمح. ونسغت الواشمة بالإبرة.
والنغز في الألسن الدراجة كالنسغ بالإبرة، وهو منه على القلب والإبدال.
48- وقال تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الآية 203] .
واجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه، أي: جمعه، أو جبي إليه فاجتباه، أي: أخذه.
ومعنى قوله تعالى لَوْلا اجْتَبَيْتَها: هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً [سبأ: 43] أو هلّا أخذتها منزلة عليك مقترحة؟ «2» .
وقال ثعلب: معناه: جئت بها من نفسك.
وقال الفرّاء: هلّا اجتبيتها، بمعنى هلا اختلقتها وافتعلتها من قبل نفسك.
__________
(1) . «الكشاف» ، 2: 189- 190.
(2) . المصدر نفسه، 2: 192. [.....](3/138)
وقال الزّجّاج في قوله تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ [يوسف: 6] . معناه وكذلك يختارك ويصطفيك.
وهذا المعنى يرد في ثماني آيات.
أقول: لم يبق شيء من هذا الفعل المفيد في العربية المعاصرة، وكان خليقا بالكتّاب أن يعودوا إليه.
49- وقال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الآية 204] .
توجب الآية الاستماع والإنصات، عند قراءة القرآن في الصلاة وغير الصلاة.
وقيل: كانوا يتكلّمون في الصلاة، فنزلت.
أقول: ألا ترى أن المجرّد من أنصت وهو «نصت» غير وارد في الاستعمال وهو والفعل «صمت» شيء واحد، ثم جاء القلب المكاني ليحدث خصوصية معنوية في أنصت.(3/139)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأعراف» «1»
قال تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 2] على الابتداء «2» .
وقال: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الآية 2] على النهي كما قال:
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ [الكهف: 28] أي: «الحرج فلا يكن في صدرك» ، و: «عيناك فلا تعدوا عنهم» .
وقال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الآية 6] أي «لنسألنّ القوم الذين بعث إليهم وأنذروا» . وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) .
فَلَنَقُصَّنَّ [الآية 7] بالنون واللام، لأنّ قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ على القسم.
وقال تعالى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ [الآية 10] فالياء غير مهموزة وقد همز بعض القراء «3» وهو رديء لأنها ليست بزائدة.
وانما يهمز ما كان على مثال «مفاعل» إذا جاءت الياء زائدة في الواحد والألف والواو التي تكون الهمزة مكانها نحو «مدائن» لأنها «فعايل» . ومن جعل «المدائن» من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . نقل رأي الأخفش في زاد المسير 3: 135.
(3) . في الطبري 2: 316 و 317 الى عبد الرحمن، وفي السبعة الى نافع، وغلطها نقلا عن أبي بكر، وفي الشواذ 42 الى خارجة عن نافع والأعرج، وفي الجامع 7: 167 الى الأعرج ونافع، وفي البحر 4: 271 الى الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة، عن نافع وابن عامر في رواية.(3/141)
«دان» «يدين» لم يهمز لأن الياء حينئذ من الأصل. وأمّا «قطائع» و «رسائل» و «عجائز» و «كبائر» فإنّ هذا كلّه مهموز، لأنّ واو «عجوز» زائدة، ألا ترى أنك تقول: «عجز» وألف «رسالة» زائدة إذ تقول «أرسلت» فتذهب الألف منها. وتقول في «كبيرة» «كبرت» فتذهب الياء منها. وأما «مصايب» فكان أصلها «مصاوب» لأن الياء إذا كانت أصلها الواو، فجاءت في موضع لا بد من أن تحرك فيه، قلبت الواو في ذلك الموضع إذا كان الأصل من الواو، فلمّا قلبت صارت كأنها قد أفسدت حتى صارت كأنها الياء الزائدة، فلذلك همزت، ولم يكن القياس أن تهمز. وناس من العرب يقولون «المصاوب» وهي قياس» .
وقال تعالى: صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [الآية 11] . «ثمّ» في معنى الواو «2» ويجوز أن يكون معناه (لآدم) كما تقول للقوم:
«قد ضربناكم» وإنّما ضربت سيدهم.
وقال تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الآية 12] ومعناه: ما منعك أن تسجد، و (لا) هاهنا زائدة. وقال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد الرابع بعد المائتين] :
أبى جوده «لا» البخل واستعجلت به ... «نعم» من فتى لا يمنع الجوع «4» قاتله «5»
وفسرته العرب: أبى جوده البخل «وجعلوا (لا) زائدة حشوا هاهنا وصلوا بها الكلام. وزعم يونس أنّ أبا عمرو، كان يجرّ «البخل» ولا يجعل «لا» مضافة إليه أراد: أبى جوده (لا) التي هي للبخل لأن (لا) قد تكون للجود والبخل. لأنه لو قال له: «امنع الحقّ»
__________
(1) . وقد نقلت من هذه الآراء جذاذات في التهذيب 12: 253 «صاب» وإعراب القرآن 1: 351 و 352 والجامع 7:
167 و 168.
(2) . نقله في الجامع 7: 168.
(3) . لم تفد المصادر والمراجع شيئا في الشاعر.
(4) . في ما عدا الصحاح واللسان «لا» وردت ب «الجود» .
(5) . البيت في الخصائص 2: 35 و 283، ومغني اللبيب 1: 249 و 217، وأمالي ابن الشجري 2: 228، واللسان «لا» ، وفيه نقلت عبارات الأخفش من غير نسبة، وكذلك في الصحاح «لا» .(3/142)
او «لا تعط المساكين» فقال «لا» كان هذا جودا منه.
وقال تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) أي: على صراطك. كما تقول: «توجّه مكّة» أي: إلى مكة.
وقال الشاعر (من الطويل وهو الشاهد الخامس بعد المائتين) :
كأنّي إذ أسعى لأظفر طائرا ... مع النّجم في جوّ السّماء يصوب
يريد: لأظفر بطائر. فألقى الباء ونحوه أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الآية 150] يريد: عن أمر ربكم.
وقال تعالى قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً [الآية 18] لأنه من «الذّأم» تقول «ذأمته» ف «هو مذءوم» والوجه الاخر من «الذم» : «ذممته» ف «هو مذموم» تقول: «ذأمته» و «ذممته» و «ذمته» كلّه في معنى واحد ومصدر: «ذمته» «الذّيم» .
وقال تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الآية 18] فاللام الاولى للابتداء والثانية للقسم.
وقال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الآية 20] والمعنى: فوسوس إليهما الشيطان «1» . ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلّها الفعل، ومنهم من يقول: «غرضت» في معنى: اشتقت اليه. وتفسيرها: غرضت من هؤلاء إليه.
وقال تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الآية 20] كأنه يقول: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا كراهة أَنْ تَكُونا «2» كما تقول: «إيّاك أن تفعل» أي: كراهة أن تفعل.
وقال تعالى: وَطَفِقا [الآية 22] وقرأ بعضهم (وطفقا) «3» فمن قال «طفق» قال: «يطفق» «4» ومن قال «طفق» قال «يطفق» .
وقرأ قوله تعالى: يَخْصِفانِ [الآية 22] قرأه (يخصّفان) جعلها من «يختصفان» فأدغم التاء في الصاد
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 353.
(2) . نقله في زاد المسير 3: 179، وأشرك معه الزجاج.
(3) . في الشواذ 42، والبحر 4: 280 نسبت القراءة بالفعل من باب «ضرب» الى ابي السمال، وكذلك في الكشاف 2: 96.
(4) . نقله في الجامع 7: 180، وإعراب القرآن 1: 354، والصحاح «طفق» .(3/143)
فسكنت، وبقيت الخاء ساكنة، فحرّكت الخاء بالكسر، لاجتماع الساكنين «1» .
ومنهم من يفتح الخاء ويحوّل عليها حركة التاء «2» .
وقال تعالى: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فكأنه على القسم، والله أعلم، كأنه قال:
«والله لنكوننّ من الخاسرين إن لم تغفر لنا وترحمنا» .
وقال تعالى: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الآية 26] برفع قوله سبحانه وَلِباسُ التَّقْوى على الابتداء، وجعل خبره في قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ «3» وقد نصب بعضهم (ولباس التّقوى) «4» .
وقال تعالى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الآية 30] بتذكير الفعل بسبب الفصل كما في قوله تعالى لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الحديد: 15] .
وقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الآية 35] كأنّ المعنى (فأطيعوهم) .
وقال تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الآية 40] من «ولج» «يلج» «ولوجا» .
وقال سبحانه: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الآية 41] بكسر (غواش) لأن هذه الشين في موضع عين «فواعل» فهي مكسورة.
وأما موضع اللام منه فالياء، والياء والواو إذا كانتا بعد كسرة وهما في موضع تحرك برفع أو جرّ، صارتا ياء ساكنة في الرفع، وجرتا ونصبتا في النصب. فلمّا صارتا ياء ساكنة وأدخلت
__________
(1) . في المحتسب 245، والجامع 7: 180، والكشّاف 2: 96 أنها قراءة الحسن، وزاد في البحر 4: 280 الأعرج ومجاهدا وابن وثاب.
(2) . في الشواذ 42 الى الزهري، وفي المحتسب 245 بلا نسبة. وفي الجامع 7: 181 الى ابن بريدة ويعقوب، وفي البحر 4: 280 الى الحسن في رواية محبوب وابن بريدة ويعقوب. وقد نقل هذا عنه في الصحاح «خصف» . [.....]
(3) . في السبعة 280 الى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة، وزاد في الوقف 2: 652 مجاهدا والأعمش، وفي الكشف 1: 460 والتيسير 109/ إلى غير من أخذ بالأخرى.
(4) . في معاني القرآن 1: 375 الى الكوفيين، وفي الجامع 1: 375 إلى أهل المدينة والكسائي، وفي السبعة 280 والكشف 1: 460 والتيسير 109 الى نافع وابن عامر والكسائي، وفي الوقف 2: 653 أهمل ابن عامر، وزاد أبا جعفر وشبية.(3/144)
عليها التنوين وهو ساكن ذهبت الياء لاجتماع الساكنين.
وقال تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الآية 43] وهو ما يكون في الصدور. وأما الذي يغلّ به الموثق فهو «الغلّ» .
وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الآية 43] كما قال سبحانه:
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس: 35] وتقول العرب: «هو لا يهتدي لهذا» أي: لا يعرفه. وتقول: «هديت العروس إلى بعلها» . وتقول أيضا: أهديتها إليه» و «هديت له» وتقول: «أهديت له هديّة» . وبنو تميم يقولون «هديت العروس إلى زوجها» جعلوه في معنى «دللتها» وقيس تقول: «أهديتها» جعلوها بمنزلة الهدية.
وقال تعالى وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ (44) وأَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الآية 44] وقال أيضا في موضع آخر:
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: 10] وأَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الآية 44] فهذه «أنّ» الثقيلة خفّفت وأضمر فيها، ولا يستقيم أن تجعلها الخفيفة لأنّ بعدها اسما. والخفيفة لا يليها الأسماء. وقال الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد السادس بعد المائتين] :
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يخفى وينتعل «2»
وقال الشاعر «3» [من الوافر وهو الشاهد السابع بعد المائتين] :
أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص.
وتكون أَنْ قَدْ وَجَدْنا في معنى «أي» .
وقوله تعالى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الآية 50] تكون «أي أفيضوا»
__________
(1) . هو الأعشى ميمون بن قيس، الصبح المنير والإنصاف 1: 113، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 282 و 440 و 480 و 2: 123، والخزانة 3: 547.
(2) . عجزه في الصبح المنير «أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل» وفي تحصيل عين الذهب 2: 123 ب «من فتية» .
والبيت بعد في الخصائص 2: 441، والمنصف 3: 129، والخزانة 4: 356، والمقاصد النحوية 2: 287، والدرر 1: 119.
(3) . هو عديّ بن زيد معجم شواهد العربية 203، وليس في ديوانه، وذلك ما أشار اليه مؤلف المعجم، ولكنه ليس كما ذكر موجودا في الخصائص 1: 126 و 261، وهو في شرح المفصل 1: 54 وفيه «شاء» بالمعجمة المثلثة.
وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 440 والإنصاف 1: 113 و 236 وأمالي ابن الشجري 1: 188.(3/145)
وتكون على «أن» التي تعمل في الأفعال لأنك تقول: «غاظني أن قام» و «غاظني أن ذهب» فتقع على الأفعال، وإن كانت لا تعمل فيها وفي كتاب الله وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] معناها: أي امشوا.
وقال تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الآية 53] بنصب ما بعد الفاء، لأنه جواب استفهام.
وقوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الآية 54] عطف على قوله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الآية 54] «1» .
وقال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) بتذكير (قريب) وهي صفة «الرحمة» وذلك كقول العرب «ريح خريق» و «ملحفة جديد» و «شاة سديس» . وإن شئت قلت:
تفسير «الرحمة» هاهنا: المطر، ونحوه «2» . فلذلك ذكّر. كما في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا [الآية 87] بالتذكير على إرادة «الناس» . وإن شئت جعلته كبعض ما يذكّرون من المؤنث «3» كقول الشاعر «4» [من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون] :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقال تعالى في أول هذه السورة:
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 2] لِتُنْذِرَ بِهِ [الآية 2] فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الآية 2] هكذا تأويلها على التقديم والتأخير. وفي كتاب الله مثل ذلك كثير، قال تعالى: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) [النمل] والمعنى- والله أعلم- فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ وفي كتاب الله
__________
(1) . نقله في اعراب القرآن 1: 363، والجامع 7: 221.
(2) . نقله في التهذيب 9: 125 «قرب» ، والمشكل 1: 294، والبحر 4: 313، وزاد المسير 3: 216، والتصريح 2:
32، واعراب القرآن 1: 365، والجامع 7: 228.
(3) . نقله مع الشاهد في اعراب القرآن 1: 364، والجامع 7: 228.
(4) . هو عامر بن جوين الطائي، او الخنساء، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 240، ومجاز القرآن 2: 67، والصحاح واللسان «بقل» ، والبيت بعد في معاني القرآن 1: 137.(3/146)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [النحل] والمعنى- والله أعلم- وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وفي غافر فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] .
والمعنى- والله أعلم- فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنَ الْعِلْمِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ. وقال بعضهم فَرِحُوا بِما هو عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي:
كان عندهم العلم وهو جهل ومثل هذا في كلام العرب وفي الشعر كثير من التقديم والتأخير. يكتب الرجل:
«أمّا بعد، حفظك الله وعافاك، فإنّي كتبت إليك» فقوله «فإنّي» محمول على «أمّا بعد» وانما هو «أمّا بعد فإنّي» وبينهما كما ترى كلام. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الثامن بعد المائتين] :
خير من القوم العصاة أميرهم ... يا قوم فاستحيوا النساء الجلّس
والمعنى: خير من القوم العصاة أميرهم النّساء الجلّس يا قوم فاستحيوا.
قال الاخر «1» [من البسيط وهو الشاهد التاسع بعد المائتين] :
الشّمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم اللّيل والقمرا «2»
ومعناه: الشمس طالعة لم تكسف نجوم الليل والقمر لحزنها على «عمر» «3» وذلك أنّ الشمس كلما طلعت كسفت القمر والنجوم فلم تترك لها ضوا.
وقوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258] ثم قال أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [البقرة: 259] ف «الكاف» تزاد في الكلام.
والمعنى: «ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أو الّذي مرّ على قرية» .
ومثلها في القرآن. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] والمعنى ليس
__________
(1) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. ديوانه 2: 736، والكامل 2: 652.
(2) . في الديوان «فالشمس كاسفة ليست بطالعة» ، وكذلك شرح الأبيات للفارقي 118، وفي الكامل ب «فالشمس» والشاهد بعد في الصحاح «بكى» .
(3) . هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الخليفة الأموي، ترجمته وأخباره في مروج الذهب 3: 192- 205، والأغاني 8: 151.(3/147)
مثله شيء. لأنه ليس لله مثل «1» . وقال الشاعر «2» [من الرجز وهو الشاهد العاشر بعد المائتين] :
فصيّروا مثل كعصف مأكول «3»
والمعنى: فصيّروا مثل عصف، والكاف زائدة. وقال الاخر «4» (من الرجز وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائتين) :
وصالبات ككما يؤثفين ... فإحدى الكافين زائدة
وقوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً [النساء: 56] يعني غيرها في النضج، لأنّ الله عز وجل يجدّدها فيكون أشدّ للعذاب عليهم. وهي تلك الجلود بعينها التي عصت الله تعالى، ولكن أذهب عنها النضج، كما يقول الرجل للرجل: «أنت اليوم غيرك أمس» وهو ذلك بعينه إلا أنه نقص منه شيء أو زاد فيه. وفي كتاب الله عز وجل وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
(28) [الأنعام] فيسأل السائل فيقول كيف كانوا كاذبين ولم يعودوا بعد. وإنما يكونون كاذبين إذا عادوا.
وقد قلتم إنه لا يقال له كافر، قبل أن يكفر، إذا علم أنه كافر. وهذا يجوز أن يكون أنّهم الكاذبون بعد اليوم كما يقول: «أنا قائم» وهو قاعد، يريد «إني سأقوم» . أو يقول تعالى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني ما وافوا به القيامة من كذبهم وكفرهم، لأنّ الذين دخلوا النار كانوا كاذبين كافرين.
وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة] يقول «تنظر في رزقها وما يأتيها من الله» . يقول الرجل: «ما أنظر إلّا إليك» ولو كان نظر البصر، كما يقول بعض الناس، كان في الآية التي بعدها بيان ذلك. ألا ترى أنه قال وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) [القيامة] ولم يقل:
«ووجوه لا تنظر ولا ترى» وقوله تعالى: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) يدلّ
__________
(1) . سبق للأخفش أن ذكر هذه الآراء، في كلامه على الآيتين 258 و 259 في سورة البقرة، بعبارة لا تكاد تختلف.
(2) . هو رؤبة بن العجّاج. ديوانه 181، والخزانة 4: 270، وقيل هو حميد الأرقط الكتاب 1: 203. [.....]
(3) . في الخزانة «فأصبحوا» . والبيت بعد في شرح الأبيات للفارقي 180.
(4) . هو خطام المجاشعي، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 13، والكتاب 1: 203 و 2: 331، والخزانة 1: 367، والشاهد أيضا في الخزانة 2: 354 و 4: 273.(3/148)
«الظن» هاهنا على النظر ثم الثقة بالله وحسن اليقين، ولا يدل على ما قالوا.
وكيف يكون ذلك والله سبحانه يقول لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] وقوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان:
30] يعني ما تشاؤون من الخير شيئا إلّا أن يشاء الله أن تشاؤوه.
وقوله تعالى إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40] حمل على المعنى، وذلك أنه لا يراها وذلك أنّك إذا قلت: «كاد يفعل إنما تعني قارب الفعل ولم يفعل» فإذا قلت «لم يكد يفعل» كان المعنى أنه لم يقارب الفعل ولم يفعل على صحة الكلام. وهكذا معنى هذه الآية. إلّا أنّ اللّغة قد أجازت «لم يكد يفعل» في معنى: فعل بعد شدة، وليس هذا صحة الكلام أنه إذا قال: «كاد يفعل» فإنما يعني قارب الفعل. وإذا قال: «لم يكد يفعل» يقول: «لم يقارب الفعل» إلا أنّ اللغة جاءت على ما فسرت لك، وليس هو على صحة الكلمة.
وقال تعالى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 69] كأنه قال:
«صنعوا كذا كذا وعجبوا» فقال «صنعتم كذا وكذا أو عجبتم» فهذه واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام.
وقال تعالى وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الآية 65] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الآية 73] فكلّ هذا- والله أعلم- نصبه على الكلام الأول على قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الآية 59] وكذلك وَلُوطاً [الآية 80] ، وقال بعضهم: «واذكر لوطا» . وإنما يجيء هذا النصب على هذين الوجهين، أو يجيء على أن يكون الفعل قد عمل فيما قبله، وقد سقط بعده فعل على شيء من سببه، فيضمر له فعلا. فإنّما يكون على أحد هذه الثلاثة، وهو في القرآن كثير.
وقال تعالى خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام:
165] وقال خُلَفاءَ [الآية 69] و [الآية 74] وكلّ جائز، وهو جماعة «الخليفة» .
وقال تعالى وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الآية 69] أي: انبساطا.
وقال في موضع آخر بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة: 247] وهو مثل الأول.
وتقرأ فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الآية 73] بالجزم إذا جعلته جوابا،(3/149)
وبالرفع إذا أردت (فذروها آكلة) . وقال تعالى وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الآية 145] وقال قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ [الجاثية: 14] وفَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [الزخرف: 83] فصار جوابا في اللفظ، وليس كذلك في المعنى.
وقال تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ [الآية 85] .
ثم قال تعالى: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ [الآية 86] تقول: «هم في البصرة» و «بالبصرة» و «قعدت له في الطّريق» و «بالطّريق» .
وقال تعالى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الآية 92] وهي من «غنيت» «تغنى» «1» «غنى» .
وقال تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الآية 98] فهذه الواو للعطف دخلت عليها ألف الاستفهام.
وقال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الآية 100] أي: (أو لم يتبيّن لهم) وقرأ بعضهم (نهد) «2» بالنون أي: «أو لم نبيّن لهم» أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وقال تعالى: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها [الآية 101] «من» زائدة وأراد «قصصنا» كما تقول «هل لك في ذا» وتحذف «حاجة» .
وقال تعالى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 101] فقوله سبحانه بِما كَذَّبُوا والله أعلم يعني: «بتكذيبهم» باعتبار (ما كذّبوا) اسما للفعل والمعنى: «لم يكونوا ليؤمنوا بالتكذيب» أي لا نسمّيهم بالإيمان بالتكذيب «3» .
وقال تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا [الآية 126] «4» وقرأ بعضهم (وما تنقم منّا) «5»
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 369.
(2) . في الشواذ 45 إلى ابن عباس والسلمي، وفي المشكل 1: 297 الى مجاهد، وفي البحر 4: 350، والكشاف 2:
134، والبيان 1: 369، والإملاء 1: 280، بلا نسبة.
(3) . نقله في إعراب القرآن 1: 371.
(4) . هي قراءة الجمهور، كما في البحر 4: 366.
(5) . في الشواذ 45، الى يحيى وإبراهيم وأبي حياة، وفي البحر 4: 366، إلى أبي حياة وأبي اليسر هاشم وابن أبي عبلة، وفي الجامع 7: 261، الى الحسن، وكذلك في إعراب القرآن 1: 374.(3/150)
وهما لغتان «1» (نقم) ، «نقم» ، «ينقم» و «ينقم» وبالأولى نقرأ.
وقال تعالى وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ [الآية 132] لأن (مهما) من حروف المجازاة وجوابها (فما نحن) .
وقال تعالى وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) «2» «ويعرشون» «3» لغتان وكذلك (نبطش) و (نبطش) «4» ، و «يحشر» و «يحشر» ، و «يكفّ» و «يكفّ» ، و «ينفر» و «ينفر» .
وقال تعالى: الطُّوفانَ [الآية 133] وواحدتها في القياس «الطوفانة» «5» .
وقال الشاعر «6» [من الرمل وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائتين] :
غيّر الجدّة من آياتها «7» ... خرق الرّيح وطوفان المطر
وهي من «طاف» «يطوف» .
وقال تعالى: جَعَلَهُ دَكًّا [الآية 143] وهو سبحانه حين قال «جعله» كان كأنه قال «دكّه» وقرأ بعضهم (دكّاء) وإذا أراد هذا فقد أجري مجرى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] لأنه يقال: «ناقة دكّاء» إذا ذهب سنامها.
وقال تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الآية 143] على معنى «تجلّى أمره» نحو ما يقول الناس: «برز فلان لفلان» وإنّما برز جنده.
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 374، والجامع 7: 261.
(2) . في الطبري 9: 44، أنها قراءة عامة قراء الحجاز والعراق، إلّا عاصما، وهي إحدى لغتين مشهورتين عند العرب، وفي السبعة 292، إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وإلى عاصم في رواية. وفي البحر 4: 377، إلى الحسن ومجاهد وأبي رجاء، وفي السبعة إلى غير ابن عامر، وأبي بكر، وفي الكشف 1:
475، والتيسير 113، إلى غير أبي بكر، وابن عامر.
(3) . في الطبري 9: 44، الى عاصم بن أبي النجود، وفي السبعة 292، إلى ابن عامر، وإلى عاصم في رواية، وفي الجامع 7: 272، إلى ابن عامر وأبي بكر عن عاصم، وفي الكشف 1: 475، والتيسير 113، والبحر 4: 377 الى ابن عامر وأبي بكر.
(4) . نصر لتميم، وضرب للحجاز، اللهجات العربية 444، ولهجة تميم 193، والمزهر 2: 275. وكذلك الأمر في «عرش» .
(5) . نقله في إعراب القرآن 1: 375، والجامع 7: 267، والبحر 4: 372.
(6) . هو حسيل بن عرفطة. نوادر أبي زيد 77.
(7) . في نوادر أبي زيد 77، والمنصف 2: 228، ب «عرفانه» بدل «آياتها» . [.....](3/151)
وأمّا قوله تعالى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الآية 143] فإنما أراد علما لا يدرك مثله إلّا في الاخرة فأعلم الله سبحانه موسى (ع) أن ذلك لا يكون في الدنيا. وقرأها بعضهم «دكّاء» «1» جعله «فعلاء» وهذا لا يشبه أن يكون.
وهو في كلام العرب: «ناقة دكّاء» أي: ليس لها سنام. والجبل مذكّر، إلّا أن يكون «جعله مثل دكّاء» وحذف «مثل» .
وقال تعالى: مِنْ حُلِيِّهِمْ [الآية 148] «2» وقرأ بعضهم «حليّهم» «3» و «حليّهم» «4» عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الآية 148] وقرأ بعضهم «جؤار» «5» وكلّ من لغات العرب.
وقال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الآية 149] وقرأ بعضهم «سقط» «6» وكلّ جائز، والعرب تقول:
«سقط في يديه» و «أسقط في أيديهم» «7» .
وأمّا قوله تعالى: مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء فانه «فعول» وهي جماعة «الحلي» ومن قرأ «حليّهم» في اللغة
__________
(1) . هذه القراءة في الطبري 9: 54، الى عامة الكوفيّين وعكرمة، وفي الجامع 7: 278 إلى أهل الكوفة، وفي السبعة 293، والكشف 1: 475، والتيسير 113، والبحر 4: 384، الى حمزة والكسائي. أمّا قراءة «دكّا» ، ففي الطبري 9: 54، الى عامة قراء أهل المدينة والبصرة، وفي الشواذ 45، الى يحيى بن وثاب، وفي السبعة 293 الى ابن كثير ونافع وابن عمرو وابن عامر وعاصم، وفي الجامع 7: 278 إلى أهل المدينة وأهل البصرة، وفي الكشف 1: 475، والتيسير 113، إلى غير حمزة والكسائي.
(2) . في الطبري 9: 62 أنها قراءة مستفيضة، وفي السبعة 294 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وفي البحر 4: 392 إلى السبعة غير من أخذ بسواها، وإلى الحسن وأبي جعفر وشيبة. وفي الجامع 7: 284، إلى أهل المدينة وأهل البصرة، وفي الكشف 1: 477، والتيسير 113، إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 7: 284، إلى أهل الكوفة إلّا عاصما، وفي البحر 4: 392 الى الأخوين وأصحاب عبد الله، ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش.
(3) . في السبعة 294 إلى حمزة والكسائي، وإلى عاصم في رواية. وفي الكشف 1: 477، والتيسير 133.
(4) . في البحر 4: 392 إلى يعقوب.
(5) . في الشواذ 46، الى أبي السمال، وفي البحر 4: 392 الى الإمام علي وأبي السمال، وقد نقل هذا في الصحاح «جأر» .
(6) . في الشواذ 46، الى اليماني، وفي البحر 4: 394، الى فرقة منهم ابن السميفع.
(7) . في البحر 4: 394، إلى ابن أبي عبلة. ويبدو مما جاء في اللهجات العربية، أنّ الزيادة لغة تميم، والتجريد لغة الحجاز 494 وما بعدها، ولهجة تميم 203 وما بعدها.(3/152)
الأخرى فالمكان الياء كما قالوا:
«قسيّ» و «عصيّ» .
وقال تعالى وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الآية 150] بإثبات نونين، واحدة للفعل والأخرى للاسم المضمر وإنّما ثبتت في الفعل، لأنه رفع ورفع الفعل إذا كان للجميع، والاثنين بثبات النون، إلّا أن نون الجميع مفتوحة ونون الاثنين مكسورة، وقد قال تعالى: أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [الأحقاف: 17] وقد يجوز في هذا الإدغام والإخفاء.
وقال تعالى: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً [الآية 160] على تقدير اثنتي عشرة فرقة، ثمّ أخبر أن الفرق أسباط، ولم يجعل العدد على الأسباط.
وقال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الآية 154] وقرأ بعضهم (سكن) «1» إلّا أنّها ليست على الكتاب، فنقرأ سَكَتَ وكلّ من كلام العرب.
وقال تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الآية 155] أي: اختار من قومه، فلما نزعت «من» عمل الفعل. وقال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر] :
منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا «3» إذا هبّ الرّياح الزعازع
وقال آخر «4» [من البسيط وهو الشاهد الخامس عشر] :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وقال النابغة «5» : [من الكامل وهو الشاهد السادس عشر] :
نبّئت زرعة والسّفاهة كاسمها ... يهدي إليّ أوابد الأشعار «6»
وقال تعالى:
__________
(1) . في الشواذ 46، والجامع 7: 292، والبحر 4: 398، أنها قراءة معاوية بن قرة.
(2) . هو الفرزدق همّام بن غالب: ديوانه 2: 516، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 18.
(3) . في الديوان ب «وخيرا» .
(4) . هو عمرو بن معدي كرب الزّبيدي، ديوانه 35، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 17، والخزانة 1: 164، وفيها منسوب أيضا إلى أعشى طرود إياس بن عامر، أو العباس بن مرداس، أو زرعة بن السائب، أو خفاف بن ندبة، وفي الكامل 1: 32، منسوبا إلى أعشى طرود إياس بن عامر.
(5) . هو زياد بن معاوية، وقد سبقت ترجمته.
(6) . البيت في ديوانه 97، والمقاصد النحوية 2: 439.(3/153)
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) كما قال إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) [يوسف] بوصل الفعل باللام.
وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الآية 156] أي: وسعت كلّ من يدخل فيها، لا تعجز عمّن دخل فيها أو يكون يعني الرحمة التي قسّمها بين الخلائق، يعطف بها بعضهم على بعض، حتى عطف البهيمة على ولدها.
وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الآية 169] إذا قلت «خلف سوء» و «خلف صدق» فهما سواء. و «الخلف» إنّما يريد به الذي بعد ما مضى خلفا كان منه، أو لم يكن خلفا إنّما يكون يعني به القرن الذي يكون بعد القرن، و «الخلف» الذي هو بدل ممّا كان قبله، قد قام مقامه وأغنى غناه. تقول «أصبت منك خلفا» «1» .
وقال تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى [الآية 169] بإضافة «العرض» الى «هذا» وفسر «هذا» ب «الأدنى» وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير فإنها عين. وأما «العرض» فهو كلّ شيء عرض لك تقول: «قد عرض له بعدي عرض» أي: «أصابته بليّة وشرّ» وتقول: «هذا عرضة للشرّ» و «عرضة للخير» كلّ هذا تقوله العرب.
وقال تعالى وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] وتقول:
«أعرض لك الخير» و «عرض لك الخير» وقال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع عشر بعد المائتين] :
لا أعرفنّك معرضا لرماحنا ... في جفّ تغلب وارد الأمرار «3»
و «العارض» من السحاب: ما استقبلك وهو ما ورد في قول الله عزّ وجلّ فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً [الأحقاف: 24]
__________
(1) . جاء في الصحاح: «الخلف والخلف: ما جاء من بعد. يقال: «هو خلف سوء من أبيه وخلف صدق من أبيه» بالتحريك إذا قام مقامه. قال الأخفش: هما سواء منهم من يحرّك ومنهم من يسكّن فيهما جميعا إذا أضاف.
ومنهم من يقول «خلف صدق» بالتحريك ويسكّن الاخر. ويريد بذلك الفرق بينهما قال الراجز:
إنّا وجدنا خلفا بئس الخلف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل خفف
«الصحاح» «خلف» . [.....]
(2) . هو النابغة الذبياني زياد بن معاوية، «ديوانه 128» . اللسان «جفف» و «مرر» والصحاح كذلك.
(3) . في الصحاح واللسان كما مر، «عارضا» بدل «معرضا» ، و «وارد» بدل «واردي» كما هو في الأصل.(3/154)
وأما «الحبيّ» : فما كان من كل ناحية وتقول: «خذوه من عرض الناس» أي:
ممّا وليك منهم، وكذلك «اضرب به عرض الحائط» أي، ما وليك منه.
وأما «العرض» و «الطول» فإنه ساكن.
وأما قوله «1» [من الطويل وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائتين] :
لهنّ عليهم عادة قد عرفنها «2» ... إذا عرضوا الخطّيّ فوق الكواثب «3»
وأعرضوا، فهذا لأنّ: عرض عرضا. و: «عرضت عليه المنزل عرضا» و «عرض لي أمر عرضا» هذا مصدره. و «العرض من الخير والشرّ» :
ما أصبت عرضا من الدنيا فانتفعت به تعني به الخير، و «عرض لك عرض سوء» .
وقال تعالى: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ [الآية 168] لا أعلم أحدا يقرأها إلّا نصبا.
وقال تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الآية 177] فجعل «القوم» هم «المثل» في اللفظ أي: مثل القوم، كما في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.
وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الآية 179] من: «ذرأ» «يذرأ» «ذرءا» .
وقال تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الآية 180] «4» وقرأ بعضهم (يلحدون) «5» جعله من «لحد» «يلحد» وهي لغة «6» . وقال في موضع آخر
__________
(1) . هو النابغة الذبياني، زياد بن معاوية، ديوانه 58، واللسان «كثب» .
(2) . الصدر من الديوان واللسان.
(3) . في الديوان واللسان «عرض» والديوان «عرّض» .
(4) . في الطبري 9: 134، أنّها قراءة عامة قراء أهل المدينة، وبعض البصريّين والكوفيّين، وفي السبعة 298 إلى ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 4: 430 إلى السبعة، إلّا من أخذ بالأخرى، وفي الكشف 1: 484، والتيسير 114، إلى غير حمزة.
(5) . في الطبري 9: 134 الى عامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 298، والتيسير 114، والكشف 1: 484، إلى حمزة، وفي البحر 4: 430، إلى حمزة وابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى.
(6) . لغة المجرّد هي للحجاز، وبعض قرى العالية، وقريش، ولغة المزيد هي لتميم وقيس ومنطقة نجد ودبير وعقيل، اللهجات العربية 492- 498.(3/155)
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ [النحل:
103] «1» وقرأ بعضهم (يلحدون) »
وهما لغتان ويُلْحِدُونَ أكثر، وبها نقرأ ويقوّيها وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج: 25] «3» .
وقال تعالى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 176] ولا نعلم أحدا يقول (خلد) . وقوله (أخلد) أي: لجأ إليها.
وقال تعالى حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً [الآية 189] لأنّ «الحمل» ما كان في الجوف و «الحمل» ما كان على الظهر.
وقال وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
[الحج: 2] وأمّا قوله تعالى أَثْقَلَتْ [الآية 189] أي: «صارت ذات ثقل» كما تقول «أتمرنا» «4» أي: «صرنا ذوي تمر» «5» و «ألبنّا» أي: صرنا ذوي لبن» و «أعشبت الأرض» و «أكمأت» وقرأ بعضهم: (فلمّا أثقلت) «6» .
وقال تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الآية 190] وقرأ بعضهم (شركا) «7» لأنّ «الشرك» إنّما هو «الشركة» وكان ينبغي في قول من قال هذا، أن يقول «فجعلا لغيره شركا فيما آتاهما» «8» .
وقال تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ [الآية 201] و «الطّيف» أكثر
__________
(1) . في الطبري 14: 179 هي قراءة عامة قراء المدينة والبصرة، وفي السبعة 375 إلى ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبي عمرو، وفي المحتسب 2: 12 إلى الحسن، وفي البحر 5: 236 إلى غير من أخذ بالأخرى، وفي السبعة وفي التيسير 138 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 484 اقتصر على حمزة.
(2) . في الطبري 14: 180 أنّها قراءة أهل الكوفة، وفي الكشف 1: 484، والجامع 10: 178، إلى حمزة، وزاد في السبعة 298 و 375، والتيسير 138، الكسائي، وفي البحر 5: 536 زاد عبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش ومجاهدا.
(3) . نقل هذا في زاد المسير 3: 293.
(4) . نقله بعبارة أخرى في إعراب القرآن 1: 391.
(5) . نقله في الصحاح «نقل» وزاد المسير 3: 301.
(6) . في الشواذ 48، نسبت إلى اليماني، وفي البحر 4: 440 بلا نسبة. [.....]
(7) . في الطبري 9: 148 و 149 إلى عامة قراء أهل المدينة، وبعض المكيين والكوفيين، وفي السبعة 299 إلى نافع وإلى عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 485 والتيسير 115 أبدل أبا بكر بعاصم، وفي البحر 4: 440 زاد ابن عباس وأبا جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهدا وأبان بن ثعلب.
(8) . نقل هذا في إعراب القرآن 1: 391، والجامع 7: 190.(3/156)
في كلام العرب. وقال الشاعر «1» [من المتقارب وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائتين] :
ألا يا لقوم لطيف الخيال ... أرقّ من نازح ذي دلال «2»
ونقرأها (طائف) لأنّ عامة القراء عليها.
وقال تعالى بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الآية 205] وتفسيرها «بالغدوات» كما تقول:
«آتيك طلوع الشمس» أي: في وقت طلوع الشمس كما قال تعالى بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ [آل عمران: 41 وغافر: 55] وهو مثل «آتيك في الصّباح وبالمساء» وأما «الآصال» فواحدها: «أصيل» «3» مثل: «الأشرار» واحدها: «الشّرير» و «الأيمان» واحدتها: «اليمين» .
__________
(1) . هو أميّة بن أبي عائذ الهذلي: ديوان الهذليين 2: 172، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 319.
(2) . في ديوان الهذليين والصاحبي 114 ب «يؤرق» بدل «أرّق» وقد نقله في زاد المسير 3: 309 و 310.
(3) . نقله في إعراب القرآن 1: 396، ونقله في الجامع 7: 356.(3/157)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعراف» «1»
إن قيل: النهي في قوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الآية 2] متوجّه الى الحرج فما وجهه؟
قلنا: هو من باب القول لا أرينّك هنا، معناه: لا تقم هنا فإنّك إن أقمت رأيتك، فمعنى الآية، فكن على يقين منه ولا تشكّ فيه، لأنّ المراد بالحرج الشكّ.
فإن قيل: لم قال الله تعالى أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الآية 4] ، والإهلاك، إنّما هو بعد مجيء البأس وهو العذاب؟
قلنا: معناه أردنا إهلاكها، كقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] وقوله تعالى:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:
98] .
فإن قيل: ميزان القيامة واحد، فلم قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [الآية 8] ووَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الآية 9] ؟
قلنا: إنما جمع، لأنّ السّياق أراد بالميزان الموزونات من الأعمال. وقيل إنما جمعه، لأنه ميزان يقوم مقام موازين، ويفيد فائدتها، لأنه يوزن به ذرّات الأعمال، وما كان منها في عظم الجبال.
فإن قيل: كيف توزن الأعمال وهي أعراض لا ثقل لها ولا جسم، والوزن من خواص الأجسام؟
قلنا: الموزون صحائف الأعمال.
الثاني أنه قد ورد أن الله تعالى يحيلها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، الناشر: مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(3/159)
في جواهر وأجسام، فتتصور أعمال المطيعين في صورة حسنة، وأعمال العاصين في صورة قبيحة، ثم يزنها والله على كل شيء قدير.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الآية 11] وكلمة ثم للترتيب، وخطاب الملائكة، عليهم السلام، بالسجود، سابق على خلقنا وتصويرنا؟
قلنا: المراد ولقد خلقنا أباكم، ثم صوّرناه بطريق حذف المضاف. وقيل المراد: ولقد خلقنا أباكم، ثمّ صوّرناكم في ظهره. والقول الأول أظهر.
فإن قيل: لم قال تعالى لإبليس فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الآية 13] أي في السماء، وليس له ولا لغيره أن يتكبر في الأرض أيضا.
قلنا: لما كانت السماء مقرّ الملائكة المطيعين، الذين لا توجد منهم معصية أصلا، كان وجود المعصية منهم أقبح، فلذلك خصّ مقرهم بالذكر.
فإن قيل: لم أجيب إبليس الى الإنظار، وإنّما طلب الإنظار ليفسد أحوال عباد الله تعالى، ويغويهم؟
قلنا: لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من عظم الثواب، ونظير ذلك ما خلقه الله تعالى في الدنيا من أصناف الزخارف، وأنواع الملاذّ والملاهي، وما ركّبه في الأنفس من الشهوات، ليمتحن بها عباده.
فإن قيل: لم قال تعالى فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الآية 20] ولم يكن غرضه من الوسوسة كشف عورتهما، بل إخراجهما من الجنة، ويؤيّده قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ [الآية 36] ؟
قلنا: اللام في لِيُبْدِيَ لام العاقبة والصيرورة، لا لام كي، كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وقول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلّكم يصير إلى التّراب
فإن قيل: أيّ آية لله تعالى، في اللباس والكسوة، حتى قال تعالى في آية اللباس والكسوة ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ [الآية 26] ؟(3/160)
قلنا: معناه أنّ اللباس والكسوة للإنسان خاصة، علامة من العلامات الدالّة على أن الله تعالى فضّله على سائر الحيوانات، وقيل معناه: ذلك من نعم الله.
فإن قيل: لم قال تعالى في حقّ إبليس يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما [الآية 27] ونازع لباسهما هو الله تعالى؟
قلنا: لمّا كان ذلك السبب، بسبب وسوسته وإغوائه أضيف النزع إليه، كما يقال: أشبعني الطعام وأرواني الشراب، والمشبع والمروي في الحقيقة، إنّما هو الله تعالى، وهما سبب.
فإن قيل: لم قال تعالى كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) وهو بدأنا أوّلا نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاما، ثمّ لحما كما ذكر، ونحن لا نعود عند الموت، ولا عند البعث بعد الموت، على ذلك الترتيب؟
قلنا: معناه كما بدأكم أوّلا من تراب، كذلك تعودون ترابا. وقيل معناه: كما أوجدكم أوّلا بعد العدم، كذلك يعيدكم بعد العدم، فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق، لا في الكيفيّة والترتيب. وقيل معناه: كما بدأكم سعداء وأشقياء، كذلك تعودون، ويؤيّده تمام الآية، وقيل معناه: كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون، كما قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام: 94] .
فإن قيل: لم قال تعالى مخبرا عن الزينة والطيّبات قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الآية 32] مع أن الواقع المشاهد، أنّها لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟
قلنا: فيه إضمار، تقديره: قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا، لأن المشركين شاركوهم فيها خالصة للمؤمنين في الاخرة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) والميراث عبارة عمّا ينتقل من ميت إلى ميت، وهو مفقود هنا؟
قلنا: هو على تشبيه أهل الجنة وأهل النار، بالوارث وبالموروث عنه. وذلك أن الله تعالى، خلق في الجنة منازل للكفار على تقدير الايمان، فمن لم يؤمن منهم، جعل منزله لأهل الجنّة.
الثاني أنّ نفس دخول الجنة بفضل الله(3/161)
ورحمته، من غير عوض، فأشبه الميراث، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الآية 54] أمّا الخلق بمعنى الإيجاد والإحداث، فظاهر أنه مختص به سبحانه وتعالى، وأمّا الأمر فلغيره أيضا، بدليل قوله تعالى وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران: 104 و 114 التوبة: 71] وقوله تعالى وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الآية 199] وقوله تعالى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه: 132] ؟
قلنا: المراد بالأمر هنا، قوله تعالى كُنْ عند خلق الأشياء، وهذا الأمر الذي به الخلق مخصوص به كالخلق.
الثاني أن المراد بالخلق والأمر ما سبق ذكرهما في هذه الآية، وهو خلق السماوات والأرض، وأمر تسخير الشمس والقمر والنجوم كما ذكر، وذلك مخصوص به عزّ وجلّ.
فإن قيل: لم قال تعالى على لسان نوح (ع) لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الآية 61] بالتاء، ولم يقل ليس بي ضلال كما وصفه قومه به، وذلك أشدّ مناسبة ليكون نافيا ما أثبتوه عينه؟
قلنا: الضلالة أقل من الضلال، فكان نفيها أبلغ في نفي الضلال عنه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل ألك ثمر فقلت مالي ثمرة؟
كان ذلك أبلغ في النفي من قولك مالي ثمر.
فإن قيل: لم وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود، دون قصة نوح (ع) ؟
قلنا: لأنه كان في أشراف قوم هود، من آمن به منهم عند هذا القول، فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين له إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الآية 66] بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن منهم من آمن به عند قولهم كما ورد في التنزيل إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) فكان كل الملأ قائلين ذلك، هكذا أجاب بعض العلماء وهذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة هود في قصة نوح (ع) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا [هود: 27] ، وجواب هذا النقض، أنه يجوز أن القول كان وقع مرتين، والمرة الثانية بعد إيمان بعضهم.
فإن قيل: لم ورد على لسان صالح عليه السلام، قوله لقومه بعد ما أخذتهم الرجفة وماتوا يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)(3/162)
ولا يحسن من الحي مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟
قلنا: هذا مستعمل في العرف، فإن من نصح إنسانا فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب ومرّ به ناصحه، فإنه يقول له: كم نصحتك يا أخي فلم تقبل حتّى أصابك هذا. وفائدة هذا القول، حثّ السامعين له على قبول النصيحة ممّن ينصحهم، لئلّا يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم يقبل النصيحة، حتّى هلك.
فإن قيل: لم قال شعيب (ع) كما ورد في التنزيل وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الآية 85] وهم ما زالوا كافرين مفسدين لا مصلحين؟
قلنا: بعد أن أصلحها الله تعالى، بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل. وقيل معناه بعد أن أصلح الله تعالى أهلها، بحذف المضاف. وقيل معناه بعد الإصلاح فيها: أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء، وأتباعهم العاملين بشرائعهم، فإضافته كاضافة قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] يعني بل مكرهم في الليل والنهار.
فإن قيل: كيف خاطبوا شعيبا (ع) بالعود في الكفر بقولهم كما ورد في التنزيل: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الآية 88] وهو أجابهم إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [الآية 89] وهو لم يكن في ملّتهم قط، لأن الأنبياء (ع) لا يجوز عليهم شيء من الكبائر خصوصا الكفر؟
قلنا: العرب تستعمل عاد بمعنى صار ابتداء، ومنه قوله تعالى حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) . الثاني، أنه قيل ذلك على طريق تغليب الجماعة على الواحد، باشتمال الكلام على الذين آمنوا منهم بعد كفرهم، وبجعلهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب وعلى ذلك أجرى شعيب (ع) جوابه.
فإن قيل: لم ورد على لسان فرعون فَأْتِ بِها بعد إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ [الآية 106] ؟
قلنا: معناه إن كنت جئت بآية من عند الله، فأتني بها: أي أحضرها عندي.
فإن قيل: لم قال تعالى قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) وفي سورة الشعراء(3/163)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) [الشعراء] فنسب هذا القول الى فرعون؟
قلنا: قاله هو وقالوه هم فحكى تعالى قوله، ثمّ قولهم هنا.
فإن قيل: السحرة إنّما سجدوا لله تعالى طوعا، لمّا تحقّقوا معجزة موسى (ع) ، فلم قال تعالى وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) .
قلنا: لمّا زالت كلّ شبهة لهم بما عاينوا من آيات الله تعالى على يد نبيّه، اضطرهم ذلك الى مبادرة السجود فصاروا من غاية المبادرة، كأنّهم ألقوا الى السجود تصديقا لله ولرسوله.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) الى قوله سبحانه وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) ثمّ حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه، وسورة الشعراء، بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرّة واحدة، فلم اختلفت عبارتهم فيها؟
قلنا: الجواب عنه، أنهم إنما تكلموا بذلك بلغتهم لا باللغة العربية، وحكى الله ذلك عنهم باللغة العربية مرارا لحكمة اقتضت التكرار والإعادة، نبيّنها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى، فمرّة حكاه مطابقا للفظهم في الترجمة رعاية للفظ وبعد ذلك حكاه بالمعنى جريا على عادة العرب في التفنّن في الكلام، والمخالفة بين أساليبه، لئلّا يملّ إذا تمحّض تكراره.
فإن قيل: في قوله تعالى مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها [الآية 132] لم سموها آية، ثم قالوا لتسحرنا بها؟
قلنا: ما سموها آية لاعتقاد أنها آية، بل حكاية لتسمية موسى (ع) على طريق الاستهزاء والسخرية.
فإن قيل: لم قال تعالى وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي أهلكنا، وقال سبحانه في موضع آخر:
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) [الشعراء] ؟
قلنا: معناه: ودمرنا، أي أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المكر والمكيدة في حق موسى (ع) وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته الى السماء. وقيل هو(3/164)
على ظاهره، لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدّة، ثم دمّره جميعه.
فإن قيل: في قوله تعالى وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَفِي ذلِكُمْ: إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء، بل هو محض نعمة، وإن كان إشارة إلى القتل والأسر، فإضافته إلى آل فرعون بقوله تعالى وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أشدّ مناسبة لسياق الآية، وهو الامتنان: ولهذا قيل:
يقتّلون ويستحيون، فأضاف إليهم الفعلين.
قلنا: البلاء مشترك بين النعمة والمحنة، لأنه من الابتلاء وهو الاختبار يقال بلاه وابتلاه: أي اختبره، والله تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة، ويختبر صبرهم بالمحنة، يؤيّده قوله تعالى وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الآية 168] وقوله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:
35] فمعنى الآية، وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم عليكم.
فإن قيل: في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الآية 142] المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد، فلم ذكرت الليالي مع أنها ليست محلّا للصوم، بل يقع في القلب أنّ ذكر الأيام أولى، لأنها محل الصوم الذي وقعت به المواعدة؟
قلنا: العرب في أغلب تواريخها إنّما تذكر الليالي وإن كان مرادها الأيام لأن الليل هو الأصل في الزمان، والنهار عارض لأن الظلمة سابقة في الوجود على النور. وقيل إنه كان في شريعة موسى (ع) جواز صوم الليل.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية 142] وقد علم مجموع الميقات من قوله تعالى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الآية 142] ؟
قلنا: فيه فوائد: إحداها التأكيد.
الثانية أن يعلم أن العشر ليال لا ساعات. الثالثة أن لا يتوهم أنّ العشر التي وقع بها الإتمام كانت داخلة في الثلاثين، يعني كانت عشرين وأتمّت بعشر، كما في قوله تعالى: وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصّلت:
10] على ما نذكره مشروحا في حم السجدة.(3/165)
فإن قيل: لم قال موسى (ع) وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) وقد كان قبله كثير من المؤمنين، وهم الأنبياء ومن آمن بهم؟
قلنا: معناه، وأنا أوّل المؤمنين بأنّك يا الله، لا ترى بالحاسّة الفانية من الجسد الفاني، في دار الفناء. وقيل معناه: وأنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل في زماني. وقيل أريد بالأوّل الأقوى والأكمل في الإيمان، يعني كأنّ القول: لم يكن طلبي للرؤية لشكّ عندي في وجودك أو لضعف في إيماني، بل لطلب مزيد الكرامة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الآية 145] أي التوراة، وهم مأمورون بالعمل بكلّ ما في التوراة؟
قلنا: معناه بحسنها وكلّها حسن.
الثاني أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر، ففعل الخير أحسن من ترك الشر. الثالث أن فيها حسنا وأحسن كالاقتصاص والعفو، والانتصار والصبر، والواجب والمندوب والمباح، فأمروا بالأخذ بالعزائم والفضائل، وما هو أكثر ثوابا.
فإن قيل: لم قال تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الآية 148] واتّخاذهم العجل كان في زمن موسى (ع) بالنقل، وفي سياق الآية ما يدلّ على ذلك.
قلنا: معناه من ذهابه إلى الجبل.
وقيل من بعد الأخذ عليهم أن لا يعبدوا غير الله.
فإن قيل: لم عبّر عن الندم بالسقوط في اليد، في قوله تعالى وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الآية 149] وأي مناسبة بينهما؟
قلنا: لأنّ من عادة من اشتدّ ندمه وحسرته على فائت، أن يعضّ يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها، لأنّ فاه قد رفع فيها و «سقط» مسند إلى «في أيديهم» ، وهو من كنايات العرب كقولهم للنائم: ضرب على أذنه.
فإن قيل: لم قال تعالى غَضْبانَ أَسِفاً [الآية 150] وهما متقاربان في المعنى؟
قلنا: لأن الأسف الحزين، وقيل الشديد الغضب ففيه فائدة جديدة.
فإن قيل: لم قال تعالى أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ [الآية 154] ولم يقل وفيها، وإنّما يقال(3/166)
نسختها لشيء كتب مرة ثم نقل فأما أوّل مكتوب فلا يسمّى نسخة، والألواح لم تكتب من مكتوب آخر؟
قلنا: لما ألقى الألواح، قيل إنّه انكسر منها لوحان، فنسخ ما فيهما في لوح ذهب، وكان فيهما الهدى والرحمة، وفي باقي الألواح تفصيل كل شيء وقيل إنما قيل وَفِي نُسْخَتِها لأن الله تعالى لقّن موسى (ع) التوراة، ثمّ أمره فنقلها بكتابتها من صدره إلى الألواح، فسمّاها نسخة.
فإن قيل لم قال تعالى وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الآية 157] أي مع النبي (ص) يعني القرآن، والقرآن إنما أنزل مع جبريل (ع) على النبي (ص) ، لا مع النبي (ص) ؟
قلنا: معه: أي مقارنا لزمانه. وقيل معه: أي عليه، وقيل معه: أي إليه، ويجوز ان يتعلّق معه باتّبعوا لا بأنزل معناه: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي (ص) والعمل بسنّته، أو واتّبعوا القرآن كما اتّبعه هو، مصاحبين له في اتّباعه.
فإن قيل: لم قال تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الآية 162] وهم إنّما بدّلوا القول الذي قيل لهم، لأنهم قيل لهم وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] فقالوا حنطة؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة.
فإن قيل: لم قال تعالى قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الآية 166] وانتقالهم من صورة البشر الى صورة القردة، ليس في وسعهم؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة.
فإن قيل: الحلم من صفات الله تعالى، فلماذا قال عزّ وعلا إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ [الآية 167] وسرعة العقاب تنافي صفة الحلم، لأن الحليم هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على العصاة؟
قلنا: معناه شديد العقاب. وقيل معناه سريع العقاب إذا جاء وقت عقابه، لا يردّه عنه أحد.
فإن قيل: التمسّك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فلماذا قال تعالى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ [الآية 170] .
قلنا: إنّما خصّها بالذكر، إظهارا(3/167)
لمزيتها، لكونها عماد الدين بالحديث، وناهية عن الفحشاء والمنكر بالآية.
فإن قيل: قوله تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [الآية 176] تمثيل لحال بلعام «1» ، فلماذا ورد بعده قوله عز وجل ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الآية 177] والمثل لم يضرب إلّا لواحد؟
قلنا: المثل في الصورة، وإن ضرب لبلعام، ولكن أريد به كفّار مكّة كلّهم لأنهم صنعوا مع النبي (ص) ، بسبب ميلهم الى الدنيا وشهواتها، من الكيد والمكر، ما يشبه فعل بلعام مع موسى (ع) . الثاني أنّ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ راجع إلى قوله تعالى مَثَلُ الْقَوْمِ لا إلى أول الآية.
فإن قيل: لم ورد على لسان النبي (ص) إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) وهو (ص) ، كان بشيرا ونذيرا للنّاس كافّة كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ؟
قلنا: المراد بقوله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لقوم كتب عليهم في الأزل أنهم يؤمنون، وإنّما خصّهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والبشارة دون غيرهم، فكأنه نذير وبشير لهم خاصّة، كما قال تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات] ويجوز أن يكون متعلق النذير محذوفا تقديره: إن أنا إلّا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون فاستغنى بذكر أحدهما عن الاخر، كما استغنى بالجملة عن التفصيل، في تلك الآية لأن المعنى:
وما أرسلناك إلا كافّة بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين.
فإن قيل: لم قال الله تعالى حكاية عن آدم (ع) وحوّاء رضي الله عنها جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الآية 190] وقال عزّ وجلّ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) والأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر، فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟
قلنا: المراد بقوله تعالى جَعَلا لَهُ أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف، وكذا قوله تعالى فِيما آتاهُما أي فيما آتى أولادهما، ويؤيّد هذا قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
__________
(1) . بلعام: عرّاف في بني إسرائيل.(3/168)
حيث ذكر ضمير الجمع، ولم يقل يشركان ومعنى اشتراك أولادهما فيما آتاهم الله تعالى، تسميتهم أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف، وعبد شمس، ونحو ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم.
وقيل الضمير في «جعلا» للولد الصالح، وهو السليم الخلق، وإنّما قيل «جعلا» لأنّ حواء كانت تلد في بطن ذكرا وأنثى. وقيل المراد بذلك تسميتها إياه عبد الحارث، والحارث اسم إبليس في الملائكة، وسبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية، وإنما قيل «شركاء» إقامة للواحد مقام الجمع، ولم يذهب آدم وحواء إلى أن الحارث ربه، بل قصد أنه كان سبب نجاته. وقال جمهور المفسّرين: قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ في مشركي العرب خاصّة، وهو منقطع عن قصّة آدم وحواء عليهما السلام.(3/169)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأعراف» «1»
في قوله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) . استعارة. لأن الخسران في التعارف إنّما هو النقص في أثمان المبيعات. وذلك يخصّ الأموال لا النفوس. إلّا أنه سبحانه لمّا جاء بذكر الموازين وثقلها وخفّتها، جاء بذكر الخسران بعدها، ليكون الكلام متّفقا، وقصص الحال متطابقا.
وكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم.
وذكر خسرانهم لها، لأنهم عرّضوها للخسار، وأوجبوا لها عذاب النار.
فصارت في حكم العروض المتلفات، وتجاوزوا حدّ الخسران في الأثمان، إلى حد الخسران في الأعيان.
وفي قوله سبحانه حاكيا عن إبليس:
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) استعارة، والصراط هنا كناية عن الدين، جعله الله سبحانه طريقا للنجاة والمفاز، وفي داري القرار والمجاز وإنما قال صراطك، لمّا كان الدين كالطريق المؤدية إلى رضا الله سبحانه ومثوبته، الموصلة إلى نعيمه وجنته. فكان إبليس- لعنه الله- إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ليضلّ عنه كلّ قاصد، ويردّ عنه كلّ وارد، بمكره وخدائعه، وتلبيسه ووساوسه.
تشبيها بالقاعد على مدرجة بعض السّبل ليخوّف السالكين منها، ويعدل
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(3/171)
بالقاصدين عنها. والمراد: لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فلمّا حذف الجارّ انتصب الصراط.
والحذف هنها أبلغ في الفصاحة، وأعرق في أصول العربية. ونظيره قول الشاعر «1» .
كما عسل الطريق الثعلب
أي عسل في الطريق.
وكلّ ما في القرآن من ذكر سبيل الله سبحانه، فالمراد به الطريق المفضية إلى طاعته عاجلا، وإلى جنّته آجلا.
وقوله سبحانه: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الآية 22] . استعارة. والمراد أنه أوقعهما في أهوائه بغروره لهما. وكل واقع في مثل ذلك فإنه نازل من علو إلى استفال، ومن كرامة إلى إذلال.
فلذلك قال تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ.
وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير، عند القول فيما اختلف العلماء فيه من ذنوب الأنبياء (ع) .
وقول تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الآية 26] وقد قرئ:
ورياشا «2» ، وهما جميعا استعارة هنا «3» . لأنّ المراد بهما اللباس.
وسمي اللباس ريشا ورياشا تشبيها بريش الطائر الذي يستر جملته. ومن كلام العرب: أعطيته رجلا بريشه. أي بكسوته.
وقال المفسّرون: معنى لباس التّقوى، ما كان من الملابس يستر العورة، لأنّ ستر العورة من أسباب التّقوى. وقرئ: «ولباس التّقوى» .
نصبا بأنزلنا عليكم. والرفع فيه على معنى الابتداء. ويكون «خير» خبرا له. فيكون المعنى: ولباس التقوى المشار إليه خير. وهذا أسدّ القولين في هذا المعنى.
وفي قوله تعالى:
__________
(1) . هو الشاعر ساعدة بن جؤبة يصف رمحا. والبيت كاملا هو:
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه، كما عسل الطريق الثّعلب
انظر ابن هشام في «أوضح المسالك» ج 2 من 16.
(2) . قرأ ذلك الحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي، كما قرأه ابو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي.
(3) . الاستعارة في قوله تعالى قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً لا تتّضح إلا إذا كان اللباس هو المطر الذي به ينبت القطن والكتان. أي أنزلنا عليكم مطرا ينتج القطن والنبات الذي تتخذون منه ملابسكم- انظر القرطبي ج 7 من 184.(3/172)
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الآية 29] استعارة.
لأن الوجه لا يصحّ عليه القيام.
والمعنى: «فوجّهوا وجوهكم عند كل مسجد» . ويجوز أن يكون معنى ذلك: «فتوجّهوا بجملتكم نحو كل مسجد» . لأن وجه الشيء عبارة عن جملته.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الآية 40] استعارة. والمراد لا يصلون إلى الجنة ولا يتسهّل لهم السبيل إليها، ولا يستحقّون بأعمالهم الدخول إليها. ومثل ذلك قوله سبحانه: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) [القمر] أي سهّلنا خروجه من السماء إلى الأرض، ورفعنا الحواجز بينه وبين الخلق.
وقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الآية 41] وهذه استعارة. وقد مضى في (آل عمران) إلّا أنّ الزيادة هاهنا قوله سبحانه: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ فكأنه جعل لهم من النار أمهدة مفترشة وأغشية مشتملة، فيكون استظلالهم بحرها، كاستقرارهم على جمرها. نعوذ بالله من ذلك.
وقوله سبحانه: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الآية 43] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء يتأتّى نزعه على الحقيقة. والمعنى: أزلنا ما في صدورهم من الغلّ بإنسائهم إيّاه، وبإحداث أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم، وتشفع مواقعه من صدورهم.
وقال بعض المفسّرين: معنى ذلك:
أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضا على علوّ المنزلة فيها، والبلوغ إلى مشارف رتبها. والحسد: الغلّ.
وقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وهذه استعارة خفيّة. وقد تكون استعارة خفيّة، واستعارة جليّة. وذلك أن حقيقة الميراث في الشرع، هو ما انتقل إلى الإنسان من ملك الغير بعد موته على جهة الاستحقاق.
فأما صفة الله تعالى بأنه الوارث لخلقه، كقوله سبحانه: وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) [القصص] وكقوله:
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 180 الحديد: 10] فهو مجاز.
والمراد: أنه سبحانه الباقي بعد فناء الخلق، وتقوّض السماء والأرض.
وقد استعمل ذلك أيضا في نزول قوم ديار قوم بعدهم، وأخذ قوم أموال(3/173)
قوم بعد إجلائهم وحربهم. فقال سبحانه في هذه السورة: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الآية 137] .
وقال تعالى في موضع آخر: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الأحزاب: 27] وليس يصحّ في ميراث الجنّة مثل هذه المعاني التي ذكرت، لأن الجنة لا يسكنها قوم بعد قوم قد فارقوها وانتقلوا عنها. فقوله سبحانه:
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها على الأصل الذي قدّمناه استعارة. ويكون المعنى الذي يسوّغ هذه الاستعارة، أنّ هؤلاء المؤمنين لمّا عملوا في الدار الدنيا أعمالا استحقّوا عليها الجزاء والثواب، ولم يصحّ أن يوفّر عليهم ذلك إلا في الجنّة، وهي من الدار الاخرة فكأنّهم استحقّوا دخولها.
فحسن من هذا الوجه أن يوصفوا بأنهم أورثوها، وإن لم يكن سكناهم لها بعد سكنى قوم آخرين انتقلوا عنها.
وسوّغ ذلك أيضا اختلاف حال الدّارين، وانتقالهم من الأولى إلى الآخرة. فكأنّ ما عملوه في الدار الأولى كان سببا لما وصلوا إليه في الدار الاخرة، كما يستحقّ الميراث بالسبب.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [الآية 45] وهذه استعارة، فإن، سبيل الله سبحانه:
دينه. ومعنى وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يبتغون عنها المتحاول، ويطلبون منها الفسح والمخارج، ويوهمون بالشّبهات أنّها معوجّة غير قويمة، ومضطربة غير مستقيمة.
وقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) وقد مضى نظير ذلك في أوّل السورة.
وقوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ [الآية 54] وهذه استعارة.(3/174)
سورة الأنفال 8(3/175)
المبحث الأول أهداف سورة «الأنفال» «1»
أهداف السورة
من الأسباب المباشرة لنزول سورة الأنفال معالجة شؤون حدثت بين المسلمين في غزوة بدر منها كراهتهم للخروج إلى بدر حينما دعاهم الرسول إلى الخروج، وكراهتهم للقتال حينما وصلوا إلى بدر وتحتّم عليهم أن يقاتلوا.
ومنها اختلافهم بعد تمام النصر في قسمة الغنائم.
ومنها اختلاف الرأي في معاملة الأسرى أيقبلون منهم الفداء أم يقتلونهم؟
وفي جو هذه الشؤون عرضت السورة لما يجب أن يكون عليه المسلمون في خاصة أنفسهم، من جهة امتثال الأمر، والإخلاص، والحيطة والحذر من الأعداء، وتذكّر نعم الله عليهم، والآداب التي يجب مراعاتها في أثناء القتال، وفيما يتصل به، من إعداد العدّة، والمحافظة على العهود، وعلاقة بعضهم ببعض، حتى يكونوا أهلا لما وعدهم الله من النصر والتأييد وحتى يفوزوا بدرجات المغفرة والرضا عند الله.
ولا يفهم من ذلك أن كراهة القتال كانت طابعا عاما بل كانت رغبة فريق قليل ونفر محدود، كان يفضّل الغنيمة والحصول على التجارة على القتال، لكن بقية الجيش كان على استعداد للتضحية والفداء، وكان القرآن يوحّد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(3/177)
الهدف، ويرشد الجميع إلى أن القتال أفضل لأن فيه انتصافا للمؤمنين، وإعلاء لكلمة الله، ودحرا للطغيان، وتحطيما لطواغيت الكفر، وردعا للمشركين، وقد استشار النبي (ص) المسلمين قبل بدء المعركة: هل يقدم على القتال؟ أم يعود إلى المدينة؟
فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة] ولكن نقول:
اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ثم قال النبي (ص) «أشيروا عليّ أيها الناس» ، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال: يا رسول الله، آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق نبيّا، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا إنّا لصبر في الحرب وصدق في اللقاء، لعل الله يريك منّا ما تقرّ به عينك. وعندئذ أشرق وجه الرسول (ص) بالمسرّة، وقال لأصحابه سيروا وابشروا، فإن الله وعدني إحدى الحسنيين العير أو النفير، وقد فرّت العير فلم يبق إلا النفير فسار المسلمون، وكلهم أمل في النصر وتأييد الله.
صور من معركة بدر
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر، وهي الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين. الموقعة التي قدّر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين، وقدّر رب المسلمين أن تكون فاصلا بين الحق والباطل، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام، ثم تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام، وفيها ظهرت الاماد البعيدة، بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير، وتدبير رب البشر لهم، ولو كرهوه في أول الأمر.
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر، فتضمّنت الكثير من دستور السلم(3/178)
والحرب، ودستور الغنائم والأسرى، ودستور المعاهدات والمواثيق وتضمنت بعد ذلك، الكثير من دستور النصر والهزيمة، وبتضمّنها لأسباب النصر والهزيمة، ولواجبات المجاهدين في الإعداد والاستعداد، ثم ترك الأمر بعد ذلك لله، وما النصر إلا من عند الله. ثم إنها تضمنت بعد ذلك، مشاهد من الموقعة ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة، وفي ثناياها وبعدها. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة، وصورها وسماتها، كأن القارئ يراها. وإلى جوار المعركة استطراد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول (ص) وحياة أصحابه في مكة، حينما كانوا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس وصور من حياة المشركين قبل هجرة الرسول (ص) من بين ظهرانيهم ومن بعدها وأمثلة من مصائر الكافرين من قبل- كدأب آل فرعون والذين من قبلهم- والدأب معناه الصفة والشأن، أي إن شأن الكافرين واحد في تكذيب الرسل، واستحقاق العقاب وبذلك تقرر السورة سنّة الله، التي لا تتخلّف في نصر المؤمنين وهزيمة المكذبين.
الغنائم
لقد افتتحت السورة بالحديث عن الأنفال. وهي الغنائم التي يغنمها المسلمون في جهادهم لإعلاء كلمة الله. وقد ثار بين أهل بدر جدال حول تقسيمها بعد النصر في المعركة، فردهم الله إلى كلمته وحكمه فيها، ردهم إلى تقواه وطاعته، وطاعة رسوله، واستجاش فيهم وجدان التقوى والإيمان، ثم ذكّرهم بما أرادوا هم لأنفسهم من الغنيمة وما أراد الله لهم من النصر، وكيف سارت المعركة وهم قلة لا عدد لهم ولا عدة، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد، وكيف ثبتهم الله سبحانه بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه، ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال، وبالنعاس يغشاهم، فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم، وينزل بهم شديد العقاب. قال تعالى:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) .(3/179)
الحرب والسلام
تضمنت سورة الأنفال دراسة كاشفة وتصويرا ملموسا، للمواقف الناجحة والحروب الهادفة كما رسمت السورة، مع سورة أخرى في القرآن الكريم، أسباب النصر في الميدان، ومن هذه الأسباب ما يأتي:
1- إخلاص النية، والرغبة في الشهادة، وإيثار الاخرة على الدنيا، وتحمّل تبعات الحرب وآلام القتال.
2- الثبات في اللقاء، وتذكّر الله سبحانه في العسر واليسر، وعدم الفرار من الميدان، وبذل النفس والنفيس في سبيل الله.
3- إعداد العدّة، وتجهيز أدوات القتال والتدريب عليها، مع وحدة الصف، وتماسك القوى، وترابط المقاتلين.
4- التوكل على الله، والالتجاء إليه بعد الأخذ في الأسباب، وطاعة القائد وتنفيذ الأوامر، والمحافظة على النظام وأخذ الحذر.
5- البعد عن التنازع والاختلاف في حال القتال وما يتعلق به، فإن النزاع والخلاف من أكبر الأسباب في إذهاب القوة وتمكين الأعداء: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] .
أي لا تختلفوا، فإنّ الخلاف يؤدي الى الضعف والهزيمة، وضياع القوة والدولة.
6- عدم تصديق الخلافات والأراجيف، ومصاولة اليأس والقنوط، والقضاء على أساليب العدو وعلى الحرب النفسية التي يشنها، رغبة منه في تثبيط الهمم والتيئيس من النصر.
ثم يأمر الله المؤمنين في سورة الأنفال، أن يثبتوا في كل قتال، مهما خيّل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم. فإن الله هو الذي يقتل، وهو الذي يرمي، وهو الذي يدبّر، وما هم إلا أسباب ظاهرة لتنفيذ إرادة الله.
وسخر القرآن من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، فيقول:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الآية 19] .
ويحذر المسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمنافقين الذين يسمعون(3/180)
بآذانهم، ولكنهم لا يسمعون بقلوبهم، لأنهم لا يستجيبون ولا يهتدون.
ثم تدعو السورة إلى الاستجابة لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، ولو خيّل إليهم أن فيه القتل والموت، وتذكّرهم كيف كانوا قليلا مستضعفين يخافون أن يتخطّفهم الناس، فأعزّهم الله ونصرهم، وأنهم، إذا اتقوا الله جعل لهم فرقانا من النصر الكامل، ذلك فوق تكفير السيئات وغفران الذنوب، وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه المغانم والأموال.
وكما وضعت سورة الأنفال صفحة في كتاب الإسلام عن الجهاد، فإنها قابلتها بصفحة أخرى عن السلم لمن يجنح إليه ويختار الهدنة. ويتّضح لنا من السورة، أن السلم هو القاعدة في الإسلام، أما الحرب فطارئة لدفع الباطل وإقرار الحق ثم يدعو الإسلام إلى السلم دعوته إلى الجهاد، ويحافظ على العهد ما وفي به المعاهدون، ويؤمّن المخالفين للإسلام في العقيدة من كل اعتداء غادر، ويحصر الحروب في أضيق نطاق تقضي به ضرورة تأمين السلم والحق والعدل.
يقول سبحانه وتعالى:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) .
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق، فهي حركة جناح يميل إلى السلم، ويرخي ريشه في وداعة واطمئنان، فإذا الجوّ من حوله طمأنينة وسلام.
وهناك حالة استثنائية واحدة، هي حالة جزيرة العرب، التي سيجيء في سورة براءة، نبذ عهود المشركين فيها جميعا، وتخليصها من الشرك كافّة، لتكون موطنا خالصا للإسلام.
صفات المؤمنين
تعرّضت سورة الأنفال لبيان صفات المؤمنين، كما ورد تحديد هذه الصفات في أول سورة «البقرة» وأول سورة «المؤمنون» ، وفي سورة «الفرقان» وفي كثير من السور.
وإذا استوعبنا هذه الآيات، وجدناها تدور حول تحديد المؤمن- الذي يريده الله- بمن يجمع بين سلامة العقيدة وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وبمن يكون في ذلك كله، مثالا صادقا، وصورة صحيحة لأوامر الله وإرشاداته.(3/181)
وقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بخمس صفات هي: وجل القلوب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة آياته، والتوكل على الله وحده، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله. ثم بيّن أنهم بهذه الصفات يكونون أهل الإيمان حقا، ويكون لهم عند الله درجات عالية في الجنة.
فالمؤمن حقّا يراقب مولاه، ويرجو رحمته، ويخشى عقابه، ويخشع عند تذكّر آياته وهو في خشوعه وخضوعه وعبادته، مخلص القلب، ثابت اليقين.
ومن صفات المؤمن، زيادة إيمانه ورسوخ عقيدته عند تلاوة القرآن وتدبر آياته، ومعرفة أحكامه وأسراره كما أن إقامته للصلاة وأداءه للزكاة، تقتضيان هذا الإيمان سلوكا وتطبيقا، ممّا يزيّن الإيمان في القلب ويزيده ثقة ويقينا.
فالصلاة في حقيقتها، مناجاة، ومناداة، وخشوع، وخضوع، وقراءة، ودعاء. ومن ثمرتها، طهارة المؤمن من الفحشاء والمنكر، وتهذيب الغرائز، وتقويم السلوك، وتربية الضمير. والزكاة فيها تكافل المجتمع، وترابط الأغنياء والفقراء.
وفي سورة الأنفال، حثّ على الإنفاق من كل ما رزق الله، وهو يشمل، كما فصّل الفقهاء، زكاة الأموال، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة الماشية، وزكاة الرّكاز وكل ما يستخرج من باطن الأرض، وزكاة التجارة. ولا نكاد نجد آية عرضت للصلاة، إلا وتذكر الإنفاق في سبيل الله. كما أنا لا نكاد نجد آية تعرضت لأوصاف المؤمنين، وتهملهما أو تهمل أحدهما.
فقد جعل الله إقامة الصلاة، مثالا لبذل النفس في سبيله، وجعل الإنفاق مثالا لبذل المال في سبيله.
وبذلك يتّسم الإيمان بطابع تهذيب النفس وطهارة القلب، كما يتّسم بأنه دافع عملي إلى السلوك النافع، والعمل الصالح الذي يؤدي إلى إصلاح المجتمع، وتماسك الأمة، وتقوية روابط المودة والرحمة والألفة بين الناس.
نداءات إلهية للمؤمنين
أخذت سورة الأنفال تنادي المؤمنين ست مرات بوصف الإيمان. في النداء الأول: تأمرهم بالثبات في الميدان، والشجاعة في القتال وتنهاهم عن الفرار من المعركة، وتتوعد الفارّ من(3/182)
ميدان القتال بعذاب السعير، وغضب الله العليّ القدير. والنداء الثاني:
يشتمل على الأمر بطاعة الله ورسوله وقد امتثل المسلمون لذلك الأمر فانقادوا لأحكام الله، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه. وهذا الطريق هو طريق النصر للسابقين واللاحقين:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 20] .
والنداء الثالث: الاستجابة لله وللرسول، وتغليب أمرهما على كل ما سواهما، من أوامر، وفي الحديث الشريف:
«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» .
النداء الرابع: دعوة إلى ترك الخيانة، والبعد عن إفشاء أسرار الأمة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) .
النداء الخامس: دعوى إلى تقوى الله في أحكامه وسننه، وبيان أن التقوى شجرة مثمرة، وأعظم ثمارها النور الذي يبصّر صاحبه بالحق، والعدل، وطريق الصلاح والهدى.
النداء السادس: يأمر بذكر الله، وتلاوة كتابه، وينهى عن الفرقة والتنازع والاختلاف، ويحثّ على الصبر والتمسّك بالوحدة والجماعة، حيث يقول سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) .(3/183)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنفال» «1»
تاريخ نزول السورة ووجه تسميتها
نزلت سورة الأنفال بعد سورة البقرة، وكان نزولها بعد غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فتكون سورة الأنفال من السّور التي نزلت بين غزوة بدر وصلح الحديبية.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في أوّلها: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ والأنفال هي الغنائم، وتبلغ آياتها خمسا وسبعين آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر لتشرح وقائعها، وتستخلص وجوه العبر منها، وكانوا قد تنازعوا بعدها في قسمة الأنفال، لأن النبي (ص) قسم على من حضرها وبعض من لم يحضرها، فأعطى ممن لم يحضرها عثمان بن عفان، لأنه تركه على ابنته رقيّة زوجه وكانت مريضة، وأعطى طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، وكان قد بعثهما للتجسس على العير، وثلاثتهم من المهاجرين، وكذلك أعطى خمسة من الأنصار، وقيل إن من باشر القتال فقتل وأسر نازع من كان يقف مع النبي (ص) ، فقال الأولون:
الغنائم لنا لأننا قتلنا وهزمنا. وقال الآخرون كنا ردءا لكم، ولو انهزمتم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكميّة الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(3/185)
لا نحزتم إلينا، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا.
فسألوا النبي (ص) عن حكمها، فنزلت هذه السورة تجيبهم في أولها بأن قسمة الأنفال لله ورسوله، لأن الله هو الذي نصرهم ومكّنهم منها، فدبّر لهم ما دبّر في هذه الغزوة، وأمدّهم بما أمدّهم به من الملائكة، إلى غير هذا ممّا ذكره في هذا السياق ثم تجيبهم بعد هذا ببيان مصرف الأنفال، وقد فصلت في هذا قسمتها، وبيّن السياق أنّ خمسها لله وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأيد حقهم في خمسها بمثل ما أيد به حق الله والرسول في قسمتها، ومضى السياق في هذا إلى آخر السورة.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة «الأعراف» ، لأن فيها تحقيق ما أنذر به المشركون في هذه السورة، ولأنها تعدّ هي وسورة التوبة، كسورة واحدة متممة للسبع الطوال.
تفويض قسمة الأنفال لله والرسول الآيات (1- 40)
قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) فذكر جلّ وعلا أن قسمة الأنفال من حقه وحق رسوله، وأمرهم أن يتقوه ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا ما يؤمرون به، إن كانوا مؤمنين، لأن المؤمنين هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، إلى غير هذا مما ذكره من صفاتهم.
ثم ذكر سبحانه أنه لا يفعل في تقسيم الأنفال إلا ما فيه مصلحتهم، وإن خفيت عليهم. كما أخرجه من بيته يوم بدر بوعده الحق من النصر على المشركين، وإنّ فريقا منهم لكارهون لقتالهم، ثم ذكر إذ يعدهم إحدى الطائفتين وهي النفير أنّها لهم، وأنهم ودّوا أن غير ذات الشوكة وهي العير تكون لهم، وأنه يريد أن يحق الحق بتسليطهم على ذات النفير، وأن يقطع دابر الكافرين.
ثم ذكر إذ يستغيثونه فأمدّهم بألف من الملائكة مردفين، وأنه لم يجعل هذا الإمداد إلا بشرى لهم، ولتطمئن به قلوبهم، وما النصر إلا من عنده وحده سبحانه، وليس بالملائكة ولا بغيرهم،(3/186)
ثم ذكر إذ يغشّيهم النوم ليحصل لهم به الأمن، وما أنزل عليهم من المطر ليطهّرهم به ويذهب عنهم وسوسة الشيطان، وكان المشركون قد سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه، وطمعوا أن تكون لهم الغلبة به، وقد عطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة.
ثم ذكر إذ يوحي إلى الملائكة أنه معهم، وأمره لهم بتثبيت المؤمنين، وإخباره لهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب المشركين، وأمره لهم بأن يضربوهم فوق الأعناق ويضربوا منهم كل بنان، لأنهم شاقّوا الله ورسوله، والله شديد العقاب، فليذوقوا هذا العذاب في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار، ثم ذكر نهيه للمؤمنين أن يولّوهم الأدبار عند لقائهم، ووعيده لمن يفعل هذا منهم.
ثم ذكر أنه مع هذا لا يكون المؤمنون هم الذين قتلوهم، ولكنه هو الذي قتلهم بتدبيره لهم، وقد أراد ذلك ليبلي المؤمنين بلاء حسنا على ما أصابهم من المشركين قبل هذه الغزوة، ويوهن كيدهم بمن قتل من صناديدهم، ثم ذكر للمشركين أنهم إن يستنصروا بالهتهم فقد جاءهم استنصارهم بنصر المؤمنين عليهم، وإن ينتهوا عن القتال فهو خير لهم، وإن يعودوا إليه يعد إليهم بمثل ذلك النصر، ولن تغني عنهم فئتهم شيئا ولو كثرت.
ثم أخذ السياق في وعظهم بما يناسب مقام هذه الوقائع، فأمرهم سبحانه أن يستجيبوا له ولرسوله، ولا يتنازعوا فيما يدعوهم إليه، كما تنازعوا في تقسيم الأنفال، وفي دعوتهم إلى القتال، ثم حذّرهم أن يصيبهم بالخلاف والتنازع فتنة تعمّ الظالم وغيره منهم، وأمرهم أن يذكروا وهم قليل مستضعفون بمكة، فاواهم في المدينة ونصرهم بفضل طاعتهم، وإذعانهم له ولرسوله.
ثم نهاهم أن يخونوا الله ورسوله بالتّجسّس للأعداء وغيره، وأمرهم أن يعلموا أن أموالهم وأولادهم فتنة لهم، فلا يقاتلوا لأجل الغنائم، ولا يفتتنوا بها، كما افتتنوا في غنائم بدر، ثم ذكر لهم أنهم إن يتقوه ينصرهم على الكفار، ويغفر لهم ما حصل منهم.
ثمّ ذكر ما كان من مكر المشركين(3/187)
بالنبي (ص) في ليلة الهجرة، وأنه سبحانه مكر بهم فدبّر أمره حتى نجّاه منهم. وأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته في إنذارهم ووعيدهم، لم يؤمنوا بها، وسألوه أن يمطرهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم إن كانت من عنده، وأنه ما كان ليعذّبهم والنبي معهم في مكة، وهم يستغفرونه، ويتوبون إليه، واحدا بعد واحد.
ثم ذكر أنهم يستحقون ما طلبوه من العذاب، لأنهم يصدّون عن المسجد الحرام، ولم تكن صلاتهم فيه إلا صفيرا وتصفيقا، ثم ذكر أنه أذاقهم ما طلبوه من العذاب يوم بدر، وأنهم سيغلبون بعد هذا، ثم يحشرون إلى جهنّم، فيذوقون عذابها بعد عذاب الدنيا، ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم، أنهم إن ينتهوا عن كفرهم يغفر لهم ما سلف منهم، وإن يعودوا إلى القتال فسيصيبهم ما أصاب أمم الكفر قبلهم وأمر المؤمنين أن يستمرّوا في قتالهم حتى لا يفتنوهم في دينهم، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا عن الكفر والقتال فإن الله بما يعلمون بصير وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) .
مصرف الأنفال الآيات (41- 75)
ثم قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الآية 41] ، فذكر أن خمس الأنفال يصرف لمن ذكرهم، والباقي، وهو أربعة أخماسها، يصرف للغانمين ثم أيد حقه وحق المذكورين في الخمس، بأنه جلّ وعلا الذي أنزل النصر يوم بدر، وقد نزلوا بالعدوة الدّنيا بعيدين عن الماء، ونزل المشركون بالعدوة القصوى قريبين منه، ولو تواعد الفريقان على القتال لاختلفوا في الميعاد، لقلّة المسلمين وكثرة المشركين، ولكنّ الله جمع بينهم على هذا الحال ليكون النصر معجزة من المعجزات لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] ثم أيده أيضا بأنه الذي أراهم للنبي (ص) في منامه قليلا ليقدموا على قتالهم، ثم قلّلهم في أعين المؤمنين بعد التقائهم بهم لتقوى قلوبهم، ثم ذكر ما كان من أمره لهم أن يثبتوا ويستعينوا به ويطيعوا رسوله، وما كان من نهيه لهم أن يتنازعوا ويخرجوا كالمشركين بطرا(3/188)
ورئاء الناس، وقد غرّهم الشيطان وأخبرهم بأنه جار لهم، فلما تراءت الفئتان للقتال فرّ منهم، لأنه رأى ما لم يروه من مدد الملائكة للمؤمنين ثم ذكر ما كان من استحقار المنافقين واليهود، لقلّة عددهم ورميهم لهم بالغرور لخروجهم بهذا العدد القليل، مع أن من يتوكل على الله ينصره ولو كان قليل العدد، ثم ذكر ما كان من الملائكة الذين سلّطهم على المشركين يتوفّونهم ويضربون وجوههم وأدبارهم، ويأمرونهم أن يذوقوا عذاب الحريق بما قدمت أيديهم ثم ذكر أنه أخذهم بهذا أخذ آل فرعون والذين كفروا من قبلهم بذنوبهم، لأنه لا يغيّر نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
ثم ذكر أن أولئك المنافقين واليهود الذين رموا المؤمنين بالغرور لقلة عددهم شر الدوابّ عنده، لجهلهم ونقضهم عهودهم عهدا بعد عهد ثم أمر النبي (ص) إذا وجدهم في الحرب، أن يفعل بهم ما يشرد به من خلفهم من أعدائه، وإذا خاف منهم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم نبذا ظاهرا، بألّا يبادرهم بالحرب قبل علمهم بنبذ العهد.
ثم أوعد الكفار جميعا، بأنه لا يعجزه أن يصيبهم بمثل ما أصابهم يوم بدر، وأمر المؤمنين أن يعدّوا لقتالهم ما استطاعوا من آلات الحرب ليرهبوهم بذلك، ويرهبوا من يبطن لهم العداوة من المنافقين واليهود، ثم أمره إذا جنحوا بعد ذلك للسلم أن يجنح لها وذكر أنهم إن يريدوا خداعه بها فإنه هو حسبه، وهو الذي أيّده بنصره وبالمؤمنين، ثم أمره أن يحرّضهم دائما على القتال، ووعدهم بأنهم إن يكن منهم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منهم مائة صابرة تغلب ألفا، ثم خفف عنهم وأمرهم أن يثبتوا المائة منهم لمائتين، والألف لألفين.
ثم عاتب النبي (ص) والمسلمين على اتخاذهم الأسرى في غزوة بدر، لأنه لا يصح له اتخاذ الأسرى من الكفار إلا بعد أن يثخن فيهم بالقتل، ليضعف جمعهم، ويقلّ عددهم ثم ذكر أنهم آثروا الأسر طمعا في الفداء، ولولا أنه لا يعذب إلّا بعد الإنذار لمسّهم فيما أخذوا عذاب عظيم ثم أباح لهم بأن يأكلوا ممّا أخذوه من الفداء، لئلّا يفهموا من ذلك أنه محرّم عليهم ثم أمره أن يذكر لمن قاتل مع(3/189)
المشركين من مسلمي مكة وأسر معهم، أنه إن يعلم في قلوبهم خيرا يؤتهم خيرا ممّا أخذ منهم، وأنهم إن يريدوا خيانته بعد إطلاقهم فقد خانوه من قبل فأمكن منهم ثمّ رغّبهم في الهجرة، فجعل ولاية الإسلام للمهاجرين والأنصار، وقطع الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر منهم، وأجاز للمهاجرين والأنصار إن استنصروهم أن ينصروهم إلا على من عاهدوهم من المشركين وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، فلا يصح للمسلمين أن يوالوهم ويقاتلوا معهم وذكر أن المهاجرين والأنصار، هم المؤمنون حقّا لا غيرهم ممّن لم يهاجر، وأن الذين آمنوا من بعد ذلك وهاجروا، فهم من المؤمنين حقّا أيضا ثم أبطل الإرث بسبب الهجرة والنصرة، وجعله لذوي القرابة، فقال جلّ شأنه وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الآية 75] .(3/190)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنفال» «1»
اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة هنا، ليس بتوقيف من الرسول (ص) والصحابة، كما هو الراجح في سائر السور، بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه.
وقد كان يظهر في بادئ الرأي: أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود، لاشتراك كل منها في اشتمالها على قصص الأنبياء، وأنها مكية النزول، خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال، وعدّوا السابعة يونس، وكانت تسمّى بذلك، كما أخرجه البيهقي في الدلائل «2» . ففي فصلها من الأعراف، بسورتين هما الأنفال وبراءة، فصل للنظير عن سائر نظائره، هذا مع قصر سورة الأنفال، بالنسبة إلى الأعراف وبراءة.
وقد استشكل ابن عباس حبر الأمة قديما ذلك. فأخرج أحمد وأبو داود والتّرمذي والنّسائي وابن حبّان والحاكم، عن ابن عباس، قال، قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني «3» ، وإلى براءة وهي من المئين «4» ، فقرنتم بينهما، ولم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م. [.....]
(2) . السبع الطوال كما أخرج النسائي: 1: 114 عن ابن عباس: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والانعام، والأعراف. وأورد السيوطي نقلا عن ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير: أن السابعة يونس (الإتقان: 1:
220) .
(3) . المثاني: إما أنها من الثناء. أو فيها الثناء والدعاء. أو لأنها تثنى بغيرها. (الإتقان: 1: 190) وقيل: لأنها ثانية للمئين، تالية لها وقبل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر. حكاه السيوطي عن النّكزاوي (الإتقان: 1: 220) .
(4) . المئين: ما زادت آياتها على المائة أو قاربتها، وهي ما وليت الطول (الإتقان: 1: 220) .(3/191)
تكتبوا بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله (ص) ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصّتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله (ص) ولم يبيّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم «1» ، ووضعتها في السبع الطوال «2» .
فانظر إلى ابن عباس رضي الله عنه، كيف استشكل على عثمان رضي الله عنه أمرين: وضع «الأنفال» و «براءة» في أثناء السبع الطوال، مفصولا بهما بين السادسة والسابعة، ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة. وانظر كيف أجاب عثمان رضي الله عنه، أولا بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف، فإنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين «الأنفال» و «براءة» لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال، ونبذ العهود، وهذا وجه بيّن المناسبة جليّ، فرضي الله عن الصحابة، ما أدقّ أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! وأقول: يتم بيان مقصد عثمان رضي الله عنه في ذلك بأمور فتح الله بها:
الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها، لكونها مشتملة على البسملة، فقدّمها لتكون لفظة منها، وتكون «براءة» بخلوّها من البسملة كتتمّتها وبقيّتها، ولهذا قال جماعة من السلف: إن «الأنفال» و «براءة» سورة
__________
(1) . قال الباقلاني: إنّما لم تكتب البسملة أول براءة، لأن النبي (ص) أراد أن يعلم من بعده أن كاتبي فواتح السور لم يكتبوها برأيهم، وإنّما اتبعوا ما سنّ وشرع، وإلّا فلا فرق بين براءة وغيرها لو كان من طرق الرأي. وأيضا فإن براءة نزلت بالسيف وبعض العهود، وفي البسملة رأفة ورحمة وأمان، فتركت لأجل ذلك (نكت الانتصار لنقل القرآن: 77، 78) .
(2) . أخرجه احمد في المسند: 1: 57 وأبو داود في الصلاة: 1: 208، والترمذي في التفسير: 8: 477- 478، والحاكم في المستدرك: 2: 330، وانظر الدر المنثور: 2: 207، وعزاه السيوطي لابن أبي شبية والنسائي، ولم أجده في النسائي.(3/192)
واحدة، لا سورتان «1» . الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول، فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ل «يونس» منها، وذلك كاف في المناسبة.
الثالث: أنه خلّل بالسورتين (الأنفال وبراءة) أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول، للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله (ص) قبض قبل أن يبيّن محلهما، فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذا الوهم «2» .
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلّا غوّاص.
الرابع: أنه لو أخّرهما وقدّم «يونس» ، وأتى بعد «براءة» ب «هود» ، كما في مصحف أبيّ بن كعب، لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضا، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة. فإنّ الأولى بسورة يونس أن تولّى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بالذكر، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكّيات، ومن تناسب- ما عدا «الحجر» في المقدار- وبالتسمية باسم نبي، و «الرعد» اسم «3» ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء.
فهذه ستة وجوه في مناسبة الاتصال بين «يونس» وما بعدها، وهي آكد من ذلك الوجه السابق في تقديم «يونس» بعد «الأعراف» .
ولبعض هذه الأمور، قدّمت «سورة الحجر» على «النحل» ، مع كونها أقصر منها، ولو أخرت «براءة» عن هذه السور الست المناسبة جدا بطولها، لجاءت بعد عشر سور أقصر منها، بخلاف وضع «سورة النحل» بعد
__________
(1) . أخرجه أبو الشيخ عن أبي روق، وابن أبي حاتم عن سفيان، وابن اشتة عن ابن لهيمة (الإتقان: 1: 225) .
(2) . أي: وهم أن يكون وضعهما بين السبع الطوال بتوقيف. وقد جاء ترتيب السبع الطوال متواليات.
(3) . أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس: 8: 145 أن اليهود قالوا للنبي (ص) : أخبرنا عن الرعد. فقال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب» . وذكر السيوطي في الإتقان: 4: 79: أن ابن أبي حاتم أخرجه عن عكرمة، وأن مجاهدا سئل عن الرعد، فقال: ملك. ألم تر الله يقول وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرعد: 13] .(3/193)
«الحجر» ، فإنها ليست ك «براءة» في الطول.
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم «الحجر» على «النحل» ، لمناسبة ذوات (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم «آل عمران» على «النساء» ، وإن كانت أقصر منها لمناسبة «البقرة» ، مع الافتتاح ب (الم) ، وتوالي الطواسين والحواميم، وتوالي «العنكبوت» و «الروم» و «القمر» و «السجدة» ، لافتتاح كلّ منها ب (الم) ، ولهذا قدّمت «السجدة» على الأحزاب، التي هي أطول منها.
هذا ما فتح الله به.
وأما ابن مسعود، فقدّم في مصحفه «البقرة» على «النساء» ، و «آل عمران» ، و «الأعراف» ، و «الأنعام» ، و «المائدة» ، و «يونس» ، فراعى الطوال، وقدم الأطول فالأطول. ثم ثنّى بالمئين، فقدّم «براءة» ، ثم «النحل» ، ثم «هود» ، ثم «يوسف» ، ثم «الكهف» . وهكذا الأطول فالأطول، وذكر «الأنفال» بعد «النور» «1» .
ووجه مناسبتها لها: أنّ كلّا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في «النور» وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] .
وفي الأنفال: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ [الآية 26] .
ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة، فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وفي الثانية تذكير به.
__________
(1) . انظر الإتقان: 1: 224 نقلا عن ابن أشتة في المصاحف، من رواية جرير بن عبد الحميد.(3/194)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنفال» «1»
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الآية 1] .
سمّي من السائلين: سعد بن أبي وقّاص. كما أخرجه أحمد وغيره «2» .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن السّائلين قرابة النبي (ص) .
2- وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) .
سمّي منهم: أبو أيوب الأنصاري.
ومن الفريق الذين لم يكرهوا:
المقداد. أخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي أيوب.
3- إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [الآية 7] .
هما: أبو سفيان، وأصحابه، وأبو جهل وأصحابه وهي ذات الشوكة «3» .
4- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا [الآية 19] .
أخرج الحاكم»
عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير «5» ، قال: كان المستفتح
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . أحمد برقم (1538) ، والطبري (15657) 9: 117، وأبو داود (2740) والترمذي (3080) والحاكم 2:
132، والبيهقي في «السنن الكبرى» 6: 291.
قال التّرمذي: حسن صحيح. وقال أحمد شاكر في «شرح المسند» وتعليقه على «الطبري» : إسناده صحيح.
(3) . أخرجه الطبري عن قتادة 9: 125.
(4) . في «المستدرك» 2: 328، والطبري في «تفسيره» 9: 138. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(5) . في «المستدرك» : «ابن أبي صعير» . والوجهان جائزان كما في «الإصابة» . [.....](3/195)
أبو جهل وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة بن الزبير وعطية.
5- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الآية 22] .
قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدّار. أخرجه ابن أبي حاتم «1» .
6- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 30] .
سمّي منهم- وهم المجتمعون في دار النّدوة: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج «2» .
7- لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الآية 31] .
قاله: النّضر بن الحارث: أخرجه ابن جرير وغيره، عن سعيد بن جبير «3» .
8- قال (تعالى) : وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ [الآية 32] .
وقال ذلك: أبو جهل كما أخرجه البخاري عن أنس.
وأخرجه ابن أبي حاتم، عن طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنّ قائل ذلك: النّضر بن الحارث «4» .
وأخرج عن قتادة قال: قال ذلك سفلة هذه الأمّة، وجهلتها.
9- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 36] .
قال الحكم بن عتيبة «5» : نزلت في أبي سفيان. أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه:
أنها نزلت في ابي سفيان، ومن كان له في العير من قريش تجارة.
10- وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الآية 41] .
__________
(1) . والبخاري في «صحيحه» برقم (4646) في التفسير، والطبري 9: 140.
(2) . انظر «سيرة ابن هشام» 1: 481.
(3) . في «صحيحه» (4648) في التفسير.
(4) . رواه الطبري 9: 152 عن سعيد بن جبير.
(5) . «تهذيب التهذيب» 2: 432، و «أسباب النزول» للواحدي ط صقر: 234.(3/196)
قال ابن عباس: هو يوم بدر، فرق الله فيه بين الحقّ والباطل.
أخرجه ابن أبي حاتم.
11- وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الآية 42] .
قال عبّاد بن عبد الله بن الزّبير: يعني أبا سفيان، وأصحابه نحو الساحل.
أخرجه ابن أبي حاتم.
12- وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الآية 48] .
عنى سراقة بن مالك بن جعشم.
أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
13- إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الآية 48] .
قال ابن عباس: رأى جبريل، والملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم.
14- إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [الآية 49] .
سمّي من القائلين: عتبة بن ربيعة في حديث أخرجه الطبراني في «الأوسط» عن أبي هريرة «1» .
وسمّى منهم مجاهد خمسة: (أبا) «2» قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس ابن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعليّ بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه. أخرجه ابن جرير «3» .
15- وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الآية 58] .
قال ابن شهاب: نزلت في بني قريظة. أخرجه أبو الشيخ.
16- وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الآية 60] .
ورد في حديث مرفوع: أنهم الجنّ.
أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
وقال مجاهد: قريظة «5» .
__________
(1) . قال الهيثمي: فيه عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف. «مجمع الزوائد» 6: 78.
(2) . زيادة من «الطبري» وهي مثبتة في «جمهرة النسب» لابن الكلبي 1: 126.
(3) . «تفسير الطبري» الأثر رقم: (16195) 10: 16 جمهرة النسب 1: 120.
(4) . ومسدّد بن مسرهد في «مسنده» ، كما في «المطالب العالية» 3: 335 ورواه الطّبراني، وفي إسناده مجاهيل.
«مجمع الزوائد» 7: 27.
(5) . الطبري 10: 22.(3/197)
وقال السّدّي: أهل فارس «1» .
وقال ابن اليمان: الشياطين التي في الدّور.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم «2» .
17- وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) .
نزلت لما أسلم معه (ص) أربعون آخرهم عمر. كما أخرجه الطّبراني وغيره.
وقال الزّهري: يقال: نزلت في الأنصار. أخرجه ابن أبي حاتم.
18- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [الآية 70] .
سمّي منهم: العبّاس، وعقيل، ونوفل بن الحارث، وسهيل بن بيضاء «3» .
__________
(1) . قال الطبري في «تفسيره» 10: 23: «قول من قال عنى به الجن أقرب وأشبه بالصواب» .
(2) . وفي سنده: إسحاق بن بشر الكاهلي، وهو كذاب: قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 28.
(3) . أخرج ذلك: الحاكم وصحّحه، والبيهقي في «سننه» عن عائشة. كما في «الدر المنثور» 3: 204، ووقع فيه:
«عتبة بن عمر» بدل «سهيل بن بيضاء» ، وفي «الإتقان 2: 150: «سهل» بدل «سهيل» ، وفي رواية ابن إسحاق في «السيرة» : «عمرو» بدل «عمر» . وقد ساق ابن هشام في «السيرة النبوية» 2: 3- 8 أسماء ستة وستين رجلا، كانوا أسرى عند المسلمين يوم بدر.(3/198)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنفال» «1»
1- قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الآية 1] .
الأنفال: جمع نفل وهو الغنيمة، وإنّما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم، فأحلّها الله لهم.
وقيل أيضا: إنه (ص) نفّل في السرايا، فكرهوا ذلك في تأويله:
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) كذلك تنفّل من رأيت، وإن كرهوا، وكان سيدنا رسول الله (ص) جعل لكل من أتى بأسير شيئا، فقال بعض الصحابة:
يبقى آخر الناس بغير شيء.
قال الأزهري: وجماع معنى النفل والنافلة، ما كان زيادة على الأصل.
وسمّيت الغنائم أنفالا، لأنّ المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم، الذين لم تحلّ لهم الغنائم.
وصلاة التطوّع نافلة، لأنها زيادة أجر لهم، على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم.
ونفل النبي (ص) السرايا في البدأة الرّبع، وفي القفلة الثلث، تفضيلا لهم على غيرهم من أهل العسكر، بما عانوا من أمر العدوّ، وقاسوه من الدأب والتعب، وباشروه من القتال والخوف.
وكل عطيّة تبرّع بها معطيها، من صدقة أو عمل خير، نافلة.
والنّفل: الهبة والعطيّة في التطوّع.
وتنفّل فلان على أصحابه: إذا أخذ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرخ. [.....](3/199)
أكثر مما أخذوا، عند الغنيمة.
ونفّلت فلانا على فلان: فضّلته.
والنّفل والنافلة: ما يفعله الإنسان، ممّا لا يجب عليه.
أقول: وهذه من الموادّ القديمة التي اكتسبت في حياتهم معاني محددة، فكانت من رسومهم ومصطلحهم.
على أننا لا نجد الآن من هذه الذخيرة اللغوية، إلا قول المعاصرين:
«ومن نافلة القول» ، يريدون بها الزيادة غير الواجبة.
2- وقال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الآية 7] .
الطائفتان هما العير والنّفير.
والنفير نفير قريش، الذين كانوا نفروا إلى بدر، ليمنعوا عير أبي سفيان.
ويقال: فلان لا في العير ولا في النفير، قيل هذا المثل لقريش من بين العرب، وذلك أن النبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة ونهض منها لتلقّي عير قريش، سمع مشركو قريش بذلك، فنهضوا ولقوه ببدر، ليأمن عيرهم المقبل من الشام مع أبي سفيان، فكان من أمرهم ما كان، ولم يكن تخلّف عن العير والقتال إلا زمن أو من لا خير فيه، فكانوا يقولون لمن لا يستصلحونه لمهمّ: فلان لا في العير ولا في النفير، فالعير ما كان منهم مع أبي سفيان، والنفير ما كان منهم مع عتبة بن ربيعة قائدهم يوم بدر.
وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ، هي العير لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا و «الشوكة» كانت في النفير لعددهم وعدّتهم.
والشّوكة: الحدّة مستعارة من واحدة الشوك، ويقال: شوك القنا لشباها.
ومنها قولهم: شائك السلاح أي:
تتمنّون أن تكون لكم العير.
أقول: وأصل الشوكة كما قلنا واحدة الشوك، ولحدّتها وما تؤدّي من الأذى، أطلقت على القوة والسلاح، وهكذا كانت مواد العربية البدوية مصدرا، أمدّ العربية بموادّ كثيرة من اللغة العالية، ومنها مواد الحضارة.
3- وقال تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(13) .
والمشاقّة والشّقاق، غلبة العداوة(3/200)
والخلاف، وشاقّه يشاقّه مشاقّة وشقاقا:
خالفه.
وقال الزجاج في قوله تعالى:
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) [الحج] .
الشّقاق: العداوة بين فريقين، والخلاف بين اثنين سمّي ذلك شقاقا، لأنّ كلّ فريق من فريقي العداوة قصد شقّا، أي ناحية غير شقّ صاحبه.
أقول: والكثير ممّا جاء على «فاعل» من المضاعف أن يدغم في الماضي والمضارع، غير أن الفعل في الآية قد قرئ بفكّ الإدغام، وحرّك بالكسر لسكون اللام بعده، وذلك خير من إبقاء الإدغام، وتحريكه بكسر أو فتح لوقوع الساكن بعده، ولولا هذا لكان الإدغام واجبا، وهذا شيء من لطائف هذه اللغة الشريفة، على أن العربية تجيز إبقاء الإدغام في مثل هذه الحال، وسيأتي شيء من هذا.
4- وقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 16] .
المراد بقوله تعالى: مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكرّ بعد الفرّ، يخيّل الى عدوّه أنه منهزم، ثم يعطف عليه. وهو باب من خدع الحرب ومكايدها.
أقول: و «التّحرّف» بهذه الخصوصية المعنوية من الكلم المفيد، الذي ينبغي أن يصار إليه في مثل هذه الأحوال والظروف في عصرنا فهو من الكلم الخاص، الذي يخص ظرفا خاصا، كما يخصّ جماعة المعنيين بالقتال.
وطبيعي أن «التحرّف» من معنى الميل، والعدول إلى جهة ما.
وأما قوله تعالى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، أي: منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين، سوى الفئة التي هو فيها.
والتحوّز والتحيّز سواء وهو التّنحّي.
أقول: و «التّحيّز» في عربيتنا المعاصرة هو الميل إلى جهة ما، وهي في الكثير الجهة السائرة في طريق الباطل وغير الحق، فإذا قيل: فلان متحيّز فكأنّهم قالوا: فلان جائر يميل مع الباطل.
وأما التحوّز فلا نعرفه في العربية المعاصرة.(3/201)
5- وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الآية 30] .
المراد بقوله تعالى: لِيُثْبِتُوكَ ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعا، وقرئ: «ليثبّتوك» ، بالتشديد.
وقرأ النّخعي: ليبيتوك من البيات.
وعن ابن عباس: ليقيّدوك، وهو دليل لمن فسّره بالإيثاق.
6- وقال تعالى: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) .
وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ما سطره الأوّلون من الأمم السالفة، أي: ما كتبوه.
ولمّا كانت كتابات هؤلاء وما سطروه وما خلفوه من رموز كذبا، أطلقت «الأساطير» على الأباطيل والأكاذيب.
وقد جاء أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في تسع آيات مختلفات بهذا المعنى.
وقال أهل اللغة: الأساطير واحدتها إسطار وإسطارة بالكسر، وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة بالضم.
وقالوا أيضا الأساطير جمع الأسطورة كالأحاديث جمع الأحدوثة.
وقال آخرون: الأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، فكأنه جمع الجمع.
ومنهم من قال: الأساطير لا واحد لها.
أقول: ومن العجيب أننا لم نقف إلا على «الأساطير» بلفظ الجمع، فلم نجد الأسطور ولا الأسطورة، ولا الأسطير، ولا الأسطيرة، ولا الإسطارة.
وعندي أن هذه المواد استحدثت بعد أن رأى اللغويون الكلمة مجموعة «أساطير» ، فذهبوا إلى هذه المواد المفترضة، قياسا على نظائره، فالذي قال: إن مفردها أسطورة قاسها على الأحاديث والأحدوثة، ومثل هذا سائر ما افترضوه من المفرد، لهذه الكلمة المجموعة.
وأرى أن من ذهب إلى أنها جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، مثل السطور على حق، فالكلمة جمع الجمع وهي تعني ما كتبه الأولون من سطور، أي: كتابات.(3/202)
غير أن المعاصرين أجروها مجرى الأحاديث والألاعيب فقالوا: مفردها أسطورة، فما الأسطورة في اصطلاح أهل عصرنا؟
أقول: إن الكثير من المسمّيات في هذا العصر، أخذ فحواها، وعرفت حقائقها من اللغات الأجنبية، ومن هذه مادة «الميثولوجيا» «1» التي تعني حكايات غريبة فيها أخبار، وحقائق، وشخوص، ومخلوقات، وسرد يرمي إلى فكرة أخلاقية، أو دينية، أو اجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها، وربّما لا ترمي إلى شيء، وهي تشتمل على أناسيّ، وحيوانات، وطيور، ومخلوقات أخرى غريبة من الإنس والجن، بعضها إنسان وبعضها حيوان غريب.
وهذه المواد الأدبية التاريخية القديمة حفلت بها الآداب القديمة في العراق، ومصر، وسائر بلاد العرب، واليونان، والرومان، والهند، والصين وغيرها.
وقد أشير إليها في عصرنا هذا لدى الدارسين العرب، فماذا يستعيرون لها من الأسماء العربية؟ لقد استعاروا «الأساطير» لهذه المواد بما اشتملت عليه من رسوم وتقاليد وشخوص، وما يضطرب فيها المخلوقات، من هنا لزموا المفرد الذي أشارت إليه المعجمات العربية القديمة، فكانت «الأسطورة» بهذا المعنى المعروف.
ثم حاول نفر من الدارسين إلى الكتابة في الأساطير العربية، فذهبوا إلى أن «أوابد» العرب في معتقدهم، وعاداتهم، وسلوكهم شيء من الأساطير.
7- وقال تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] .
المكاء من المصادر الدالة على الأصوات، وهو الصفير، ومكا الإنسان يمكو مكوا ومكاء: صفر بفيه.
ومنه المكّاء، كأنه سمّي بذلك لكثرة مكائه، وهو طائر في ضرب القنبرة يألف الريف، وجمعه مكاكيّ.
والتصدية تفعلة من الصّدى، أو من صد يصدّ صديدا، أي: ضجّ. وهذا يعني أن الصلة واضحة بين المعتلّ والمضاعف. أي: أنّهم جعلوا المكاء
__________
(1) . علم «الميثولوجيا» من الكلمة الاغريقية «» .(3/203)
والتصدية في موضع الصلاة، وذلك أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة:
الرجال والنساء، وهم مشبّكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفّقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك، إذا قرأ رسول الله (ص) في صلاته، يخلطون عليه.
أقول: والمكاء والتصدية، من الكلم ذي الدلالة التاريخية المفيدة.
8- وقال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الآية 39] .
أقول: إن الفعل «تكون» ، فعل على نمط الأفعال التي تكتفي بالمرفوع الفاعل. وهو الذي يدعوه النحاة، «التام» غير الناقص الذي يقتضي مرفوعا ومنصوبا. وهذا الضرب من الفعل كثير في العربية القديمة، قليل جدا في العربية المعاصرة، بل قل: إن المعاصرين يجهلونه، فلا يرد في كلامهم وأدبهم.
ومثله قوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) .
وقوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71] .
وقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] .
وغير ذلك من الآيات.
وأنت تقف على الفعل التام في الأدب القديم، وفي أسلوب القصص كأن يقال: فكان اليوم الثالث، وحدث فيه كذا وكذا.
9- وقال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] .
أقول: هذه هي القراءة المشهورة، وقرأ أهل المدينة: «ويحيا من حيي عن بينة» .
قال الفرّاء: كتابتها على الإدغام بياء واحدة، وهي أكثر قراءات القراء، وإنما أدغموا الياء في الياء، وكان ينبغي ألّا يفعلوا لأن الياء، الأخيرة لزمها النصب في «فعل» ، فأدغم لمّا التقى حرفان متحرّكان من جنس واحد، قال: ويجوز الإدغام في الاثنين، للحركة اللازمة للياء الأخيرة، فتقول:
حيّا، وحيّيا.
وينبغي للجمع أن لا يدغم إلا بياء، لأنّ الياء يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغي لها أن تسكّن فتسقط بواو الجماعة، وربّما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف(3/204)
الأفعال، وأن تكون كلها مشددة، فقالوا في حييت حيّوا، وفي عييت عيّوا، قال وأنشدني بعضهم:
يحدن بنا عن كلّ حيّ كأنّما ... أخاريس عيّوا بالسّلام وبالكتب
قال: وأجمعت العرب على إدغام «التحية» لحركة الياء الأخيرة، كما استحبّوا إدغام «حيّ» و «عيّ» للحركة اللازمة فيهما، فأما إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغام مثل: «يحيي ويعيي، وقد جاء في الشعر الإدغام في مثل هذا الموضع، وهو قوله:
وكأنّها بين النّساء سبيكة ... تمشي بسدّة بيتها فتعيّى
أقول: ومن الواجب أن نقف قليلا على هذه الألفاظ المشكلة لفائدتها اللغوية التاريخية، ولنهتدي إلى مكان علم الأصوات من الناحية التطبيقية.
10- وقال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ [الآية 61] .
السّلم تؤنث تأنيث نقيضها، وهي الحرب، قال:
السّلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وقرئ بفتح السين وكسرها.
أقول: والسّلم في العربية المعاصرة مذكر، يقال السّلم العالمي.
11- وقال تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الآية 67] .
أقول: كنا عرضنا للفعل «كان» ، وهي مكتفية بالمرفوع الفاعل، تلك التي سمّاها النحويون «التامة» .
وفي هذا، تأتي «كان» مرة ثانية في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ، والمعنى ما صح له وما استقام، وهذا معنى جديد للفعل يجعلها تامة أيضا مكتفية بالمرفوع نظير «يكون» ، التي تليها في الآية نفسها، ومعناها الحصول والثبوت، وهي تامة أيضا مكتفية بالفاعل «أسرى» .
12- وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 73] .
أقول: كنت قد عرضت لدلالة «بعض» على الإفراد، وأتيت بشواهد من لغة التنزيل، وها أنا أقف على هذه الآية لأشير إلى أن كلمة «بعض» فيها، تدل على الجمع دلالة صريحة، وفي هذا ردّ على من زعم أنها تدل على الواحد ليس غير.(3/205)
المبحث السادس المعاني الغوية في سورة «الأنفال» «1»
الواحد من «الأنفال» : «النّفل» وقال تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الآية 5] فهذه الكاف يجوز أن تكون على قوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الآية 4] .
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ «2» وقال بعض أهل العلم كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ [الآية 1] بإضافة «ذات» إلى «البين» وجعله (ذات) لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث، وبعضه يذكّر نحو «الدار» و «الحائط» أنّثت «الدار» وذكّر «الحائط» «3» .
وقال تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الآية 7] فقوله تعالى: أَنَّها بدل من قوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقال جلّ شأنه: غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ [الآية 7] فأنّث لأنه يعني «الطائفة» «4» .
وقال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الآية 12] معناها: «اضربوا الأعناق» «5» كما تقول: «رأيت نفس زيد» تريد «زيدا» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . نقله في إعراب القرآن 1: 397، والبحر 4: 462.
(3) . نقله في المزهر 1: 533، والصحاح «ذا» .
(4) . نقله في زاد المسير 3: 324.
(5) . نقله في المشكل 1: 312، وإعراب القرآن 15: 401، وزاد المسير 2: 330، والجامع 7: 378، والبحر المحيط 4: 470.(3/207)
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الآية 12] واحد «البنان» «البنانة» .
وقال تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ [الآية 14] كأنّ ذلِكُمْ جعل خبرا لمبتدأ، أو مبتدأ أضمر خبره حتى كأنه قيل: «ذلكم الأمر» و «الأمر ذلكم» . ثم قال تعالى وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الآية 14] أي: الأمر ذلكم وهذا، فلذلك انفتحت «أنّ» . ومثل ذلك قوله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) وأمّا قول الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد العشرون بعد المائتين] :
ذاك وإنّي على جاري لذو حدب ... أحنو عليه كما «2» يحنى على الجار
فإنما كسر «إنّ» لدخول اللام. قال الشاعر «3» : [من الطويل وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائتين] :
وأعلم علما ليس بالظنّ أنّه ... إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل
وإنّ لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل
فكسر الثانية لأن اللام بعدها. ومن العرب من يفتحها، لأنه لا يدري أن بعدها لاما، وقد سمع مثل ذلك من العرب، في قوله تعالى بقراءة غير صحيحة: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [العاديات] ففتح وهو غير ذاكر للّام، فوقع في غلط قبيح في القراءة «4» .
وقال تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى تقول العرب: «والله ما ضربت غيره» وإنما ضربت أخاه كما تقول: «ضربه الأمير» والأمير لم يل ضربه. مثل هذا في كلام العرب كثير.
وقال جلّ وعلا:
__________
(1) . هو الأحوص الأنصاري. ديوانه 108، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 464.
(2) . في الكتاب والتحصيل «بما» .
(3) . هو طرفة بن العبد البكري. ديوانه 85، والتهذيب 5: 164 «حصا» ، وقيل هو كعب بن سعد الغنوي، الصحاح «حصا» واللسان «حصا» . في الديوان «إنه» .
(4) . في إعراب ثلاثين سورة 158، نسبت قراءة مستهجنة إلى الحجاج بن يوسف، وزاد في الشواذ 178 أبا السمال، وكذلك في البحر 8: 505، واقتصر في الجامع 20: 163 على أبي السمال. والشاهد في القراءة المغلوطة، قراءة الآية الثالثة وحدها.(3/208)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الآية 25] فليس قوله سبحانه والله أعلم تُصِيبَنَّ بجواب، ولكنه نهي بعد أمر، ولو كان جوابا ما دخلت النون.
وقال جلّ شأنه: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الآية 32] بنصب (الحقّ) لأن (هو) - والله أعلم- جعلت هاهنا صلة في الكلام، زائدة توكيدا كزيادة (ما) «1» . ولا تزاد إلّا في كل فعل لا يستغني عن خبر، ليست «هو» بصفة ل «هذا» لأنك لو قلت:
«رأيت هذا هو» لم يكن كلاما، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة، ولكنها تكون من صفة المضمرة، في نحو قوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] وتَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ( [المزّمّل: 20] لأنك تقول «وجدته هو» و «أتاني هو» فتكون صفة، وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأوّل. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما بعده إن كان ما قبله ظاهرا أو مضمرا، في لغة لبني تميم «2» في قوله تعالى بقراءة من قرأ:
(إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) «3» و (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) «4» و (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) «5» كما تقول «كانوا آباؤهم الظالمون» إنما جعلوا هذا المضمر نحو قولهم «هو و «هما» و «أنت» زائدا في هذا المكان. ولم يجعل في مواضع الصفة، لأنه فصل، أراد أن يبيّن به أنه ليس بصفة ما بعده لما قبله، ولم يحتج الى هذا في الموضع الذي يكون له خبر.
وقال تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الآية 34] ف «أن» هاهنا زائدة-
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 404، والمشكل 1: 314.
(2) . لهجة تميم 283.
(3) . القراءة برفع الحق، هي في البحر 4: 488 إلى الأعمش وزيد بن علي، وبنصبها هي في البحر كذلك، والجامع 7: 398، إلى العامة والجمهور.
(4) . القراءة بالرفع، في معاني القرآن 3: 37، إلى عبد الله، وفي الشواذ 136 إلى أبي زيد النحوي، وجمعهما في البحر 8: 27 والقراءة بالنصب في البحر، كذلك إلى الجمهور. [.....]
(5) . القراءة بالرفع في الشواذ 164، نسبت إلى أبي السمال، وزاد عليه في البحر 8: 367 ابن السميفع والقراءة بالنصب في البحر، كذلك إلى الجمهور.(3/209)
والله أعلم. وقد عملت «1» وقد جاء في الشعر، قال «2» [من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة] :
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا «3»
وقوله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الآية 42] وأمر الله كله مفعول ولكن أراد أن يقصّ الاحتجاج عليهم، وقطع العذر قبل إهلاكهم.
وقال: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] بالنصب على خبر «كان» .
وقرأ بعضهم: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الآية 37] «4» جعله من «ميّز» مثقلة وخففها آخرون فقالوا لِيَمِيزَ «5» من «ماز» «يميز» وبها نقرأ.
وقرأ بعضهم: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا [الآية 42] «6» وقرأ آخرون:
«بالعدوة» «7» وبالأولى نقرأ، وهما لغتان «8» . وقال بعض العرب الفصحاء: «العدية» فقلب الواو ياء، كما تقلب الياء واوا في نحو «شروى» و «بلوى» ، لأنّ ذلك يفعل بها فيما هو نحو من ذا، نحو «عصيّ» و «أرض
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 405، والمشكل 1: 314 و 4: 490.
(2) . هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه 1: 283، والخزانة 2: 87.
(3) . في الديوان: لام بدل لامت، وفي الخزانة «إذن للام» ، وفي الديوان ب «أحلامهم» بدل أحسابها.
(4) . القراءة بالتضعيف، هي في السبعة 306 إلى حمزة والكسائي، والتشديد لهجة بدو الجزيرة اللهجات العربية 536.
(5) . هي قراءة نسبت في السبعة 306 إلى ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وأبيّ وعليها رسم المصحف.
(6) . في الطبري 10: 10 إلى عامة قرّاء المدنيين والكوفيين، حملا على لغة مشهورة. وفي السبعة 306 إلى نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي وفي الكشف 1: 491 والتيسير 116 والبحر 4: 499 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو.
(7) . في الطبري 10: 10 نسبت إلى بعض المكيين والبصريين حملا على لغة مشهورة، وفي السبعة 306 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 491 والتيسير 116 والبحر 4: 499 إلى ابن كثير وأبي عمرو.
(8) . الضم لغة تميم وعليها رسم المصحف. المزهر 2: 277 ولهجة تميم 159 واللهجات العربية 183، وأضيف إليها في الأخير البيئات البدوية الأخرى، كأسد وبكر بن وائل وقيس عيلان وأما الكسر، فكما جاء فيها لغة الحجاز وقريش.(3/210)
مسنيّة» وفي قولهم «قنية» لأنها من «قنوت» .
قال تعالى: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الآية 42] بجعل «الأسفل» ظرفا، ولو شئت قلت: «أسفل منكم» «1» إذا جعلته صفة «الركب» ولم تجعله ظرفا.
قال تعالى: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الآية 42] «2» بإلزام الإدغام، إذ صار في موضع يلزمه الفتح، فصار مثل باب التضعيف. فإذا كان في موضع لا يلزمه الفتح، لم يدغم نحو بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف:
33 والقيامة: 40] إلّا أن تشاء تخفي، وتكون في زنة متحرك، لأنها لا تلزمه، لأنك تقول «تحيي» فتسكن في الرفع وتحذف في الجزم، فكل هذا لا يمنعه الإدغام. وقرأ بعضهم: «من حيي عن بيّنة» «3» ولم يدغم إذا كان لا يدغمه في سائر ذلك. وهذا أقبح الوجهين، لأنّ «حيي» مثل «خشي» لمّا صارت مثل غير التضعيف، أجرى الياء الآخرة مثل ياء «خشي» .
وتقول للجميع «قد حيوا» كما تقول «قد خشوا» ولا تدغم لأن ياء «خشوا» تعتل هاهنا. وقال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين] :
وحيّ حسبناهم فوارس كهمس ... حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا «5»
وقد ثقّل بعضهم وتركها على ما كانت عليه، وذلك قبيح. قال الشاعر «6» [من مجزوء الكامل وهو
__________
(1) . في البحر 4: 500 هي قراءة زيد بن علي.
(2) . القراءة بياء واحدة في «حي» هي في معاني القرآن 1: 411 قراءة أكثر القراء، وفي السبعة 306 إلى ابن كثير في رواية. وإلى أبي عمرو وابن عامر حمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 492 والتيسير 116 والبحر 4: 501 إلى غير نافع والبزي وأبي بكر من السبعة، وأبدل في الجامع 8: 22 أهل المدينة بنافع.
(3) . القراءة بياءين هي في السبعة 306 و 307 إلى عاصم في رواية، وفي أخرى إلى ابن كثير وفي الكشف 1: 492 والتيسير 116 والبحر 4: 501 إلى نافع والبزي وأبي بكر، وفي الجامع 8: 22 أبدل أهل المدينة بنافع.
(4) . هو أبو حزابة الوليد بن حنيفة. الأغاني 19: 156، وهامش 91 فهرس شواهد سيبويه.
(5) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 387 ب «وكنا» بل «وحي» . وشرح المفصّل لابن يعيش 10: 116. [.....]
(6) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 126، وتحصيل عين الذهب 1: 387 وشرح المفصّل لابن يعيش 10: 115، واللسان «حيا» و «عيا» . وقيل هو ابن مفرّع، الصحاح «حيا» .(3/211)
الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين] :
عيّوا بأمرهم كما ... عيّت ببيضتها الحمامه «1»
جعلت له عودين من ... نشم وآخر من ثمامة «2»
وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) بإضمار الخبر، والله أعلم. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة] :
إن يكن طبّك الدّلال فلو في ... سالف الدّهر والسنين الخوالي
يريد بقوله «فلو في سالف الدهر» أن يقول: «فلو كان في سالف الدهر لكان كذا وكذا» فحذف هذا الكلام كلّه.
قال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الآية 61] بتأنيث «السّلم» «3» وهو «الصلح» وهي لغة لأهل الحجاز، ولغة العرب الكسر.
وفي قوله تعالى: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الآية 62] «حسبك» اسم.
قال تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الآية 72] وهو في الولاء. أما في السلطان ف «الولاية» ولا أعلم كسر الواو في الأخرى إلّا لغة.
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ [الآية 75] بجعل الخبر بالفاء كما تقول:
«الذي يأتيني فله درهمان» ، فتلحق الفاء لما صارت في معنى المجازاة.
__________
(1) . في الديوان: برمت بنو أسد كما برمت، وفي المنصف 2: 191 ب «النعامة» بدل الحمامة. وهو في المغرب 2:
153.
(2) . في الديوان: «لها» بدل «له» . وفي شرح المفصّل لابن يعيش 10: 117، وضعت لها عودين من ضعة.
(3) . المذكر والمؤنث للفراء 84، والتذكير والتأنيث للسجستاني 15.(3/212)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال» «1»
إن قيل: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الآية 2] إلى آخر الآيتين، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات، لا يكون مؤمنا، لأن كلمة «إنّما» للحصر.
قلنا: فيه إضمار تقديره: إنّما المؤمنون إيمانا كاملا، وإنّما الكاملون في الإيمان، كما يقال الرجل من تصبّر على الشدائد، يعني الرجل الكامل.
فإن قيل: قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الآية 4] ينفي إرادة ما ذكرتم.
قلنا: معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقّا، وقيل إنّ «حقّا» متعلق بما بعده لا بما قبله، والمؤمنون تمام الكلام.
فإن قيل: كيف يقال: إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وقد قال تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الآية 2] ؟
قلنا: المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك، لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى، وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان، فكذا الإقرار بها.
فإن قيل: قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الآية 5] تشبيه، فأين المشبّه والمشبّه به؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(3/213)
قلنا: معناه: امض على ما رأيته صوابا، من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحقّ، وهم كارهون. وقيل معناه: فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فهو خير لكم، وإن كرهتم، كما كان إخراجك من بيتك بالحقّ؟
فإن قيل: لم قال تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الآية 8] وكلاهما متعذّر، لأنه تحصيل حاصل؟
قلنا: المراد بالحق الإيمان، والباطل الشرك، فاندفع السؤال.
فإن قيل ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟
قلنا: إنّما ذكر أوّلا، لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة، التي كانت فيها الغنيمة، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين، فذكره أوّلا للتمييز بين الإرادتين، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الآية 17] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار، ورماهم النبي (ص) بكفّ من حصا الوادي في وجوههم، وقال:
شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلّا وقع في عينيه شيء من ذلك، فشغلوا بعيونهم وانهزموا، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟
قلنا: لمّا كان السبب الأقوى في قتلهم، إنّما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم، وذلك كله فعل الله تعالى، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله (ص) لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر، فعل الله تعالى. ونظير هذا، قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه، بتسليط من هو أعلى رتبة منه: هذا ليس قولك ولا فعلك. وقيل معنى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الآية 17] وما رميت الرعب في(3/214)
قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم، ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم.
ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة، مباحث لا يحتملها هذا المختصر، وهي مستقصاة في كتب التصوف.
فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الآية 20] ثنّى في الأمر، ثم أفرد في النهي؟
قلنا: كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم: إنعام فلان ومعروفه يغشيني، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعليه جاء قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] أي يرضوهما، فكذا هنا معناه: ولا تولوا عنهما. الثاني أنه إن أفرد باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، قال الله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] فكان الإعراض عن الرسول (ص) إعراضا عن الله تعالى، فاكتفي بذكره.
الثالث أن معناه: ولا تولّوا عن هذا الأمر وعن أمثاله فالضمير للأمر لا للرسول (ص) . الرابع: إنه إنما لم يقل ولا تولّوا عنهما، لئلا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي (ص) عند نهيه للكفار، في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى، في ذكرهما بلفظ واحد، من غير تقديم اسم الله، كما روي، «أن خطيبا خطب فقال: من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى، فقال له النبي (ص) : «بئس خطيب القوم أنت، هلّا قلت: ومن عصى الله ورسوله فقد غوى» ؟
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الآية 23] ؟
قلنا: معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل، لأسمعهم سماع فهم وقبول أو لأنطق لهم الموتى، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا.
وقيل: معنى لَأَسْمَعَهُمْ: لرزقهم الفهم والبصيرة، وأسمعهم وحالهم هذه الحال، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير، لتولّوا وهم معرضون، لعنادهم وجحودهم الحق، بعد ظهوره.
فإن قيل: التولّي والإعراض واحد،(3/215)
فما الحكمة في قوله تعالى لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ؟
قلنا: معناه لتولّوا عن الإيمان، وأعرضوا عن البرهان، فلا تكرار.
فإن قيل: فما الحكمة في ذكر السماء في قوله تعالى: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الآية 32] والمطر إنما يكون من السماء؟
قلنا: الجواب الاول المطر المطلق، إنما يكون من السماء ولكن المطر المضاف هنا، وهو مطر الحجارة، قد يكون من رؤوس الجبال، ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها فكان ذكر السماء مفيدا، لأنّ الحجارة إذا نزلت من السماء، كانت أشدّ نكاية، وأكثر ضررا. الجواب الثاني، أنه لما كانت الحجارة المسوّمة للعذاب، وهي السّجّيل معهودة النزول من السماء، ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة، كأنه قال: فأمطر علينا حجارة من سجّيل فوضع قوله من السماء، موضع قوله من سجيل، كما يقول: صبّ عليه مسرودة من حديد، يعني درعا.
فإن قيل: لم قال تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الآية 33] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر، وهو فيهم؟
قلنا: معناه وأنت مقيم فيهم بمكة، وكان كذلك، لأن النبي (ص) ما دام بمكة لم يعذّبوا، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذّبوا. وقيل معناه:
وما كان الله ليعذّبهم عذاب الاستئصال، وأنت فيهم. وقيل معناه:
وما كان الله ليعذّبهم العذاب الذي طلبوه، وهو إمطار الحجارة، وأنت فيهم.
فإن قيل: لم قال الله تعالى أوّلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الآية 33] ، ثم قال جلّ وعلا وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الآية 34] ، وهو يوهم التناقض؟
قلنا: معناه وما لهم أن لا يعذّبهم الله بعد خروجك من بينهم، وخروج المؤمنين والمستغفرين. وقيل: المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال، وبالثاني عذاب غير الاستئصال، وقيل:
المراد بالأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذاب الاخرة.
فإن قيل: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الآية 35] والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وهما ليسا بصلاة؟(3/216)
قلنا: معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية، مقام الصلاة، كما يقول القائل زرت فلانا، فجعل الجفاء صلتي: أي أقام الجفاء مقام صلتي، ومنه قول الفرزدق:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا
أراد بالأداهم القيود وبالمحدرجة السياط، ووضعهما موضع العطاء.
فإن قيل: في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) لم ينته الكافرون عن الكفر، فلم قال سبحانه وَإِنْ يَعُودُوا [الآية 38] والعود إلى الشيء، إنّما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟
قلنا: معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله (ص) ومحاربته، يغفر لهم ما قد سلف من ذلك وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته، فقد مضت سنة الأولين منهم، الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية. وقيل معناه: إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان، يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، كما قال النبي (ص) «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا، فقد مضت سنة الأولين من الأمم، من أخذهم بعذاب الاستئصال.
فإن قيل: الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم، وزيادة اجترائهم على القتال فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفّار، حتى قال الله تعالى:
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الآية 44] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين، وتثبيت أقدامهم، واجتراؤهم على القتال؟
قلنا: فائدته أن لا يستعد الكفّار كلّ الاستعداد، فيجترءوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيّروا وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق، إذ رأوا المؤمنين مع قلّتهم في أعينهم، منصورين عليهم. وفي التقليل من الطرفين معارضة، تعرف بالتأمل.
فإن قيل: قوله تعالى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] يدلّ على حرمة المنازعة والجدال أيضا،(3/217)
لأنه منازعة، فكيف تجوز المناظرة، وهي منازعة وجدال؟
قلنا: المراد بالمنازعة هنا: المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه، لا المنازعة في إظهار الحق، بالحجة والبرهان، والدليل عليه أن ذلك مأمور به.
قال الله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] لكن للجواز شروط، يندر وجودها في زمننا هذا:
أحدها، أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين، كما كانت مناظرة السلف، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه، أكثر ممّا يفرح بظهوره على لسان خصمه.
فإن قيل: كيف قال إبليس كما ورد في التنزيل إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [الآية 48، والمائدة: 28] وهو لا يخاف الله، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضلّ عبيده؟
قلنا: قال قتادة، لقد صدق وعد الله في قوله كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الآية 48] يعني جبريل والملائكة (ع) معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر، وكذب في قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقيل لمّا رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط، خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره، فيحل به العذاب الموعود. وقيل معنى أَخافُ اللَّهَ: أعلم صدق وعده لنبيّه النصر، وقد جاء الخوف بمعنى العلم، ومنه قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الآية 229] ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك، ثم أقول: كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة وهو أفسق الفسقة، وأكفر الكفرة، فلا عجب في كذبه، وإنما العجب في صدقه.
فإن قيل: أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ؟
قلنا: لما أقدم المؤمنون، وهم ثلاث مائة وبضعة عشر، على قتال المشركين، وهم زهاء ألف، متوكّلين على الله، وقال المنافقون: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا، أو أكثر، قال الله تعالى ردّا على المنافقين، وتثبيتا للمؤمنين: وَمَنْ(3/218)
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(49) أي غالب يسلّط القليل الضعيف، على الكثير القوي وينصره عليه، حكيم في جميع أفعاله.
فإن قيل لم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) ولم يقل ليس بظالم، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال، وجوابه في سورة آل عمران.
فإن قيل: قوله عز وجل ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الآية 53] وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون، ولم تكن لهم حال مرضية غيّروها؟
قلنا: كما تغير الحال المرضية الى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ وأولئك كانوا، قبل بعث الرسول (ص) إليهم، عباد أصنام. فلما بعث الرسول (ص) إليهم بالآيات البينات، فكذّبوه، وعادوه، وسعوا في قتله، غيّروا حالهم إلى أسوأ منها، فغيّر الله تعالى، ما أنعم به عليهم من الإمهال، وعاجلهم بالعذاب.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 55] بعد قوله جلّ وعلا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (55) ؟
قلنا مراده، أن يبيّن أنّ شرّ الكفّار الذين كفروا، واستمرّوا على الكفر إلى وقت الموت.
فإن قيل: ما الحكمة من تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة، لأكثر منه، قبل التخفيف وبعده، في قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الآية 65] إلى قوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ؟
قلنا: فائدته، الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين، ينصر المائة على الألف وكما ينصر المائة على المائتين، ينصر الألف على الألفين.
فإن قيل: لم أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة، ونحن نشاهد الأمر بخلافها فإن المائة من الكفار، قد تغلب المائة من المسلمين، بل المائتين في بعض الأحوال؟
قلنا: إنما أخبر الله عز وجل عن هذه الغلبة، بشرط الصبر، الذي هو(3/219)
الثبات في موقف الحرب او الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا، فمتى وجد الشرط تحقّقت الغلبة للمسلمين، مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة، مخصوصة بطائفة كان النبي (ص) أحدهم، وسياق الآية يدل عليه.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الآية 67] مع أنه يريد الدنيا أيضا، لأنه لولا إرادته إيّاها لما وجدت، فما فائدة هذا التخصيص؟
قلنا: المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة، لا إرادة الوجود والكون، فالمعنى أتحبّون عرض الحياة الدنيا وتختارونه، والله يختار ما هو سبب الجنة، وهو إعزاز الإسلام، بالإثخان في القتل.(3/220)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنفال» «1»
وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الآية 7] .
وهذه استعارة عجيبة: لأن ذات الشوكة هاهنا، إحدى الطائفتين التي فيها سلاح الأبطال وآلة النزال وذلك أنّ النبي (ص) خرج بالمسلمين يطلب عير قريش، المقبلة من الشام مع أبي سفيان بن حرب، وفيها أموالها وذخائرها وعرفت قريش خروجه (ص) لذلك فخرجت لتمنع عيرها، وتقاتل دونها. فلما عرف المسلمون خبر خروج قريش للقتال، كانوا يتمنّون أن يخالفوهم إلى العير فيغنموها، ويكون ظفرهم بالطائفة التي فيها الغنم، لا الطائفة التي فيها الجد والحد. فجمع الله بينهم وبين قريش على بدر، وكانت الحرب المشهورة التي قتل فيها صناديد المشركين، واشتدّت أعضاد المؤمنين. والكناية بذات الشوكة، عن ذات السلاح والعدّة، من أشرف البلاغة وأوقع الاستعارة، تشبيها بالشوكة «2» تخز «3» ، والمدية التي تخرّ.
وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الآية 24] .
وهذه استعارة، على بعض التأويلات المذكورة في هذه الآية والمعنى أنّ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . سياق الكلام يقتضي أن يكون: بالشوكة التي تخز، ولعل لفظة «التي» سها عنها الناسخ.
(3) . من خزّ: خزّه بالرمح أي طعنه.(3/221)
الله تعالى أقرب إلى العبد من قبله، فكأنه حائل بينه وبين قلبه من هذا الوجه أو يكون المعنى: أنه تعالى قادر على تبديل قلب المرء، من حال الى حال، إذا كان سبحانه موصوفا، بأنه مقلّب القلوب والمعنى انه ينقلها من حال الأمن إلى حال الخوف، ومن حال الخوف الى حال الأمن، ومن حال المساءة إلى حال السرور، ومن حال المحبوب الى حال المكروه.
وقوله تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الآية 37] .
وهذه استعارة، والمراد بها: العمل الخبيث وهو ما يستحق العقاب، ولا يصح فيه أن يركم بعضه على بعض، وإنّما يصح ذلك في الأجسام والأجرام فالمراد، إذا وصفت العمل الخبيث بالكثرة، كثرة فاعله، ومن صفات الكثرة تراكم الشيء بعضه على بعض، كالرمل الهيام «1» والسحاب الرّكام، ومعنى (جعله في جهنم) العقاب ينزل عليه بنار جهنم وقد قيل في ذلك وجه آخر، يخرج الكلام من باب الاستعارة، وهو أن يكون المراد بالخبيث هاهنا المال الذي أخذ من غير حق، وأنفق في غير حقه. فإنّ الله سبحانه، يجعله في نار جهنم مع آخذيه، من الوجوه المحرّمة، ومنفقيه في الوجوه المذمومة، على طريق العقوبة لهم والتجديد لخسرانهم، كلما كثر إليه نظرهم، كما قال سبحانه، في صفة الأموال المكنوزة الممنوعة من إخراج الزكاة: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [التوبة] .
وقوله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الآية 46] .
وهذه استعارة، لأنه لا ريح هناك على الحقيقة، وإنما ذلك على مخرج قول العرب: «قد هبّت ريح فلان» إذا تجددت له دولة، أو ظهرت له نعمة، ويقولون: «الريح مع فلان» أي الإقبال معه، والأقدار تساعده. وأصل ذلك أن الريح في الحرب، إذا كان مجراها مع
__________
(1) . الرّمل الهيام: ما لا يتماسك.(3/222)
إحدى الطائفتين، كان عونا لها على أعدائها، في تفريق جموعهم وتقويض صفوفهم، وإثارة القتام «1» والغبرة في عيونهم ووجهوهم وهذه الأحوال كلها، أعوان عليها مع عدوهم، فما جاء في هذا المعنى، قول ضرار بن الخطاب الفهري:
قد أيقنوا يوم لا قونا بأنّ لنا ... ريح القتال وأصلاب الذين لقوا
أراد لنا دولة القتال وقوة الاستظهار.
ومما جاء في هذا المعنى:
أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإنّ الريح للعادي وهذا قول بعض حراب «2» العرب يخاطب صاحبه «3» كأنه قد تنتظران «4» غفلة الحي مراقبة، أم تقدمان على استلاب إبلهم مزالبة «5» . فإن الدولة للمقدم، والغنيمة للمصمم، والعدو في الأصل هو السلوك بالظلم والبغي.
يقال: عدو وعدوان، وعلى ذلك قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً [يونس: 90] .
وقال بعضهم قول الشاعر: «هاهنا تعدوان» إنما أراد به عدو الأقدام، فكأنه قال أن تنجوا سالمين، ولا تتعرضا لشوكة الحي محاصرين فإنّ الإقبال للناجي بحشاشته، والرابح بسلامته، إذ كانت السلامة هي الغنيمة التي حازها، والطريدة التي استقاها.
والقول الأول هو المعتمد، وهو بغرض الشاعر أليق ألا ترى إلى البيت الأول كيف حقر فيه شأن علوف «6» الحي إطماعا لصاحبيه فيهم، واعتدادا كنا أما عليهم «7» ، وذلك حيث يقول:
__________
(1) . القتام: الغبار الأسود، غبار الحرب.
(2) . كذا في النسخة، ولعل الأصل خراب جمع خارب، وهم سراق الإبل.
(3) . ربما كانت العبارة في الأصل صاحبية لأن السياق يقتضي ذلك.
(4) . لعل الأصل (كأنه قال) .
(5) . كذا في النسخة، ولعلها «مذاءبة» أخذا من فعل الذئب. ورد في اللسان (مادة زلب) : زلب الصبي بأمّه لزمها، ولم يفارقها، عن الجرشي والليث: ازدلب في معنى استلب. قال: وهي لغة رديئة. [.....]
(6) . كذا في النسخة، وقد تكون في الأصل خلوف.
(7) . كذا جاء في النص.(3/223)
يا صاحبي ألا لا حيّ بالوادي ... إلّا عبيدا «1» وإماء بين أوتادي
وقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الآية: 61] .
وهذه استعارة، والمراد بها: فإن مالوا إلى السلم ميل ثبات عليه، وركون إليه، لا ميل مكر ومخادعة وإدهان ومواربة، فسالمهم على هذا الوجه الذي طلبوا السلم عليه، وأنّث السياق «السّلم» ، لأنه بمعنى المسالمة والمخادعة، وما يجري مجرى ذلك.
وقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الآية 67] .
وهذه استعارة، والمراد بها: تغليظ الحال وكثرة القتل وذلك مأخوذ من قول القائل: قد أثخنني هذا الأمر، أي بلغ أقصى المبالغ في الثقل عليّ، والإيلام لقلبي.
__________
(1) . البيتان لأعشى طرود كما في ديوان الأعشين وقد جاء عجز ثانيهما الذي هو الأول «سوى عبيد وأم بين أذواد» والإماء: جمع أمة. [وعجز البيت كما ورد في المتن، لا يستقيم وزنه إلّا بحذف الواو، قبل «إماء» .(3/224)
سورة التوبة 9(3/225)
المبحث الأول أهداف سورة «التوبة» «1»
أسماء السورة
عرفت سورة التوبة من العهد الأول للإسلام بجملة أسماء، تدل بمجموعها على ما اشتملت عليه من المبادئ والمعاني، التي يجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها، مؤمنهم ومنافقهم، وكتابيّهم ومشركهم.
وأشهر هذه الأسماء «سورة التوبة» ، وهو يشير إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله، وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين، الذين أخلصوا في مناصرة الدعوة، وصدقوا في الجهاد مع النبي (ص) ، حتى وصل بهم إلى الغاية المرجوّة، وذلك في قوله تعالى:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) .
ولا ريب في أن تسجيل هذه التوبة للمؤمنين- بعد أن كابدوا الجهد والمشقات في سبيل نصرة الحق- لما يقوّي روح الإيمان في قلوبهم، ويبعد بهم عن مزالق المخالفة، أو التقصير.
وقد تخلّف ثلاثة من المسلمين عن الاشتراك في الجهاد، ولم يسهموا في
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(3/227)
أعباء جيش العسرة، فأمر النبي (ص) بمقاطعتهم ومعاقبتهم، ومكثوا فترة من الزمن في عزلة تامة بغرض تأديبهم وتهذيبهم، ثم تاب الله عليهم، وقبل توبتهم. وكان ذلك درسا للمسلمين حتى لا يتخلّفوا عن الجهاد ولا يقصّروا في القيام بأعباء الدين وتعاليمه.
ومن أسماء السورة «براءة» ، وهي تشير الى غضب الله ورسوله على من أشرك بالله، وجعل له سبحانه، ندّا، وشريكا وإعلام الناس في يوم الحج الأكبر.
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الآية 3] .
وقد عرفت السورة بعد ذلك، بأسماء أخرى، فكانت تسمّى «الكاشفة» و «المثيرة» و «الفاضحة» و «المنكّلة» ، وغير ذلك مما حفلت به كتب التفسير، وهي ألفاظ أطلقت عليها، باعتبار ما قامت به، من كشف أسرار المنافقين، وإثارة أسرارهم، وفضيحتهم بها، وتنكيلها بهم.
ورد أنّ ابن عباس رضي الله عنه قال: سورة التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل في المنافقين وتنال منهم حتّى ظننّا أنّها لا تبقي أحدا إلّا ذكرته بقولها: ومنهم، ومنهم، ومنهم.
وهو يشير إلى ما جاء في هذه السورة من أصناف المنافقين مثل:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [الآية 49] .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) .
أين البسملة؟
من خصائص سورة التوبة، أنه لم يذكر في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لأنها تبدأ بإعلان الحرب الشاملة، ونبذ العهود كافّة، والبسملة تحمل روح السلام والطمأنينة، لذلك لم تبدأ بها سورة الحرب والقتال.
وربما كان سبب عدم وجود البسملة في أولها، الاشتباه في أنها جزء من(3/228)
سورة الأنفال، خصوصا أن سورة الأنفال تحكي جهاد المسلمين في معركة بدر، وسورة التوبة تصف جهاد المسلمين في معركة تبوك. فقصة الأنفال شبيهة بقصة سورة التوبة، من ناحية الهدف العام، والتحريض على الجهاد، والتحذير من التخلّف عن أمر الله ورسوله. لذلك تركت سورة التوبة مع سورة الأنفال. ووضع بينهما فاصل السورة، ولم يكتب في أوّل التوبة «بسم الله الرحمن الرحيم» ، احترازا من الصحابة أن يضيفوا أي شيء إلى رسم القرآن، إلّا بتوجيه من النبي (ص) .
روى الترّمذي بإسناده عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني، وإلى «براءة» وهي من المئين، وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟
فقال عثمان: كان رسول الله (ص) ممّا يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت «الأنفال» من أوّل ما نزل بالمدينة، وكانت «براءة» من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها، وخشيت أنها منها. وقبض رسول الله (ص) ، ولم يبيّن لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ووضعتها في السبع الطوال.
أهداف سورة التوبة
سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف، وهي من السور المدنية، وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة من الهجرة. وهي السنة التي خرج فيها النبي (ص) بالمسلمين إلى تبوك، بقصد غزو الروم، كما خرج أبو بكر في أواخر سنة تسع على رأس المسلمين، لحجّ بيت الله الحرام.
هدفان أصليان
وقد كان للسورة، بحكم هذين الحادثين العظيمين، في تاريخ الدولة(3/229)
الإسلامية، هدفان أصليان:
أحدهما: تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام. وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب، بإلغاء معاهدتهم، ومنعهم من الحج، وتأكيد قطع الولاية بينهم وبين المسلمين، وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب، وإباحة التعامل معهم.
ثانيهما: إظهار ما كانت عليه نفوس أتباع النبي (ص) حينما استنفرهم ودعاهم إلى غزو الروم، وفي هذه الدائرة تحدّثت السورة عن المتثاقلين منهم، والمتخلّفين والمبطئين وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد، وما قاموا به من أساليب النفاق.
وقد عرضت السورة من أوّلها للهدف الأول. واستغرق ذلك سبعا وثلاثين آية في أول السورة، وقد تضمنت هذه الآيات ما يأتي:
(أوّلا) تقرير البراءة من المشركين، ورفع العصمة عن أنفسهم وأموالهم.
(ثانيا) منحهم هدنة، مقدارها أربعة شهور.
(ثالثا) إعلام الناس جميعا، يوم الحج الأكبر (وهو يوم عيد الأضحى) بهذه البراءة.
(رابعا) إتمام مدة العهد، لمن حافظ منهم على العهد.
(خامسا) بيان ما يعاملون به، بعد انتهاء أمد الهدنة، أو مدة العهد.
(سادسا) تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله.
(سابعا) بيان الأسباب التي أوجبت البراءة منهم، وصدور الأمر بقتالهم.
(ثامنا) إزالة وساوس قد يخطر في بعض النفوس، أنها تبرّر مسالمة المشركين، أو الإبقاء على عهودهم.
رحمة الله بالعباد
لقد برئ الله من المشركين ومن فعالهم، لأنّ الشرك والكفر ظلم عظيم، وجحود بحق الله الخالق الرازق، الذي يستحق العبادة وحده، لكن الله سبحانه أمهل المشركين مدة أربعة أشهر، لتمكينهم من النظر والتدبير، لاختيار ما يرون فيه مصلحتهم، من الدخول في الإسلام، أو الاستمرار على العداء.(3/230)
ولعل الحكمة في تقدير تلك المهلة، بأربعة أشهر، أنها هي المدة التي كانت تكفي لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض، والتقلّب في شبه الجزيرة، على وجه يمكّنهم من التشاور والأخذ والرد، مع كل من يريدون أخذ رأيه، في تكوين الرأي الأخير. قال تعالى:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) .
ومن رحمة الإسلام أيضا، إباحة تأمين المشرك، وتقرير عصمة المستأمن، وقد أوجب الله على المسلمين حماية المستأمن، في نفسه وماله، ما دام في دار الإسلام، وجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان، (فالمسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم) .
والإسلام يبيح، بهذا الأمان، التبادل التجاري والصناعي والثقافي، وسائر الشؤون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة. وقد كان للإسلام من مشروعية الأمان، وسيلة قوية لنشر دعوته، وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية، من غير حرب ولا قتال. قال تعالى:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) .
فالإسلام يمنح الجوار والأمان للمشرك، الذي يبحث عن الحقيقة، ويريد أن ينظر في الإسلام نظر تأمل ودراسة، فيسمح له بالدخول فيما بين المسلمين والتعامل معهم، والاختلاط بهم، حتى يفهم حكم الله ودعوته. فإن اطمأن ودخل الإيمان في قلبه، التحق بالمؤمنين، وصار في الحكم كالتائبين.
وإن لم يشرح صدره للإسلام وأراد الرجوع إلى جماعته، حرم اغتياله، ووجبت المحافظة عليه، حتى يصل مكان أمنه واستقراره.
وبذلك بلغ الإسلام شأوا بعيدا في حماية الفكر والنظر، وتذليل الطريق أمام الباحثين والمفكّرين، وحمايتهم حتى يصلوا إلى مواطن الأمان، أيّا كانت معتقداتهم، وصدق الله العظيم:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] .
غزوة تبوك
في السنة التاسعة من الهجرة، وصلت للرسول (ص) أنباء، تفيد أن(3/231)
الروم قد جمعوا جموعهم، واعتزموا غزو المسلمين في بلادهم، فأمر النبي (ص) أن يتجهز المسلمون، وأن يأخذوا عدّتهم، ويخرجوا إلى تبوك لقتال الروم في بلادهم، قبل أن يفاجئوه في بلده.
أعلن النبي (ص) النفير العام، وكان قلّما يخرج إلى غزوة، إلا ورّى بغيرها، مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة- غزوة تبوك- فقد صرّح بها لبعد الشّقّة، وشدة الزمان، إذ كان ذلك في شدة الحرّ، حين طابت الظلال، وأينعت الثمار، وحبّب إلى الناس المقام.
عندئذ وجد المنافقون فرصة سانحة، للتخذيل فقالوا: لا تنفروا في الحر، وخوّفوا الناس بعد الشّقّة وحذّروهم شدّة بأس الروم. وكان لهذا كله، أثره في تثاقل بعض الناس، عن الخروج للجهاد.
كذلك أخذ المنافقون يستأذنون في التخلف عن الغزو، معتذرين بالأعذار الكاذبة الواهنة، كما دبّر بعضهم المكائد للنبي (ص) في ثنايا الطريق.
ولم يكن بدّ من هذا الامتحان ليكشف الله المنافقين، ويثبّت المؤمنين الصادقين، فالشدائد هي التي تكشف الحقائق، وتظهر الخبايا.
وقد ظهر الإيمان الصادق، من المؤمنين المخلصين، فسارعوا إلى تلبية الدعوة بأموالهم وأنفسهم، يجهّزون الجيش، ويعدون العدّة، وقد خرج أبو بكر حينئذ عن كل ما يملك، كما قام بنصيب الأسد في التجهيز عثمان بن عفان، بذل الآلاف، وجهّز المئات من البعير والخيل، وجهّز هو وغيره الفقراء الأقوياء، الذين جاءوا إلى النبي (ص) بأنفسهم، ليحملهم، فقال لهم كما ورد في التنزيل:
لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [الآية 92] .
ثم يستمر سياق سورة «التوبة» في الحديث عن المنافقين، وما يظهر منهم من أقوال وأعمال تكشف عن نواياهم، التي يحاولون سترها فلا يستطيعون فمنهم من ينتقد النبي (ص) في توزيع الصدقات، ويتّهم عدالته في التوزيع، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم(3/232)
ومنهم من يقول هو أذن يستمع لكل قائل، ويصدّق كل ما يقال. ومنهم من يتخفّى بالقولة الفاجرة الكافرة، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف، ليبرئ نفسه من تبعة ما قال ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة، تفضح نفاقهم، وتكشفهم للمسلمين.
ثم تقارن «السورة» بين المنافقين والمؤمنين، لتبيّن الفرق الواضح بين صفات المنافقين، وصفات المؤمنين الصادقين، الذين يخلصون للعقيدة ولا ينافقون فقد خرج المؤمنون للجهاد مع رسول الله (ص) وقطعوا مسافة طويلة في الصحراء الجرداء، تقدر بنحو 692 كيلو مترا. وكان المؤمنون يتدافعون إلى الجهاد، ويشتاقون إلى الشهادة. ولمّا أحس الروم بقدوم المسلمين، انسحبوا من أطراف بلادهم الى داخلها، فلمّا وصل المسلمون إلى تبوك، لم يجدوا للروم أثرا. وقد عقد النبي (ص) معاهدات مع أمراء الحدود، وعاد إلى المدينة مرهوب الجانب، محفوظا بعناية الله.
وقد استقبل النبي (ص) المتخلّفين عن الجهاد في غزوة تبوك، فمنهم أصحاب الأعذار الحقيقية، وهؤلاء معذورون معفون من التّبعة ومنهم القادرون الذين قعدوا بدون عذر، فعليهم تبعة التخلف، ووزر النكوص عن الجهاد.
ثم تمضي سورة التوبة، فتتحدث عن الأعراب، فتذكر طبيعتهم، وصنوفهم، ومواقفهم من الإيمان والنفاق.
ثم تقسم الجماعة الإسلامية كلّها عند غزوة تبوك، وبعدها، إلى طبقاتها ودرجاتها، وفق مقياس الإيمان والأعمال:
فهناك السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتّبعوهم بإحسان وهناك المنافقون الذين تمرّسوا بالنفاق، وتعوّدوا عليه، سواء أكانوا من الأعراب، أم من أهل المدينة وهناك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا، واعترفوا بذنوبهم وهناك الذين أخطئوا وأمرهم متروك لله، إمّا يعذّبهم، وإمّا يتوب عليهم وهناك فئة أخلصت لله في الإيمان، وتخلّفت من غير عذر، ثم ندمت ندما عميقا، وضاقت الدنيا في وجهها، ولجأت إلى(3/233)
الله، تطلب مغفرته ورحمته، فتاب الله عليهم، وألهمهم طريق التوبة والسداد، إن الله هو التواب الرحيم.
علاقات المسلمين بغيرهم
سورة التوبة، هي آخر سور القرآن نزولا وفي هذه السورة نجد القول الفصل في علاقات الأمة المسلمة بالمشركين، وبأهل الكتاب، وبالمنافقين وهذا هو موضوعها الذي تدور حوله.
لقد كانت بين المسلمين وبعض المشركين عهود، ولم يكن المشركون يحافظون على عهودهم، إلّا ريثما تلوح لهم فرصة، يحسبونها مؤاتية للكرّة على المسلمين، وكان المشركون، حتى بعد فتح مكة، يطوفون بالبيت عرايا، على عادتهم في الجاهلية، ويصفّقون، ويصفرون، مخلّين بكرامة البيت العتيق، فلم يكن بدّ من أن تخلص الجزيرة العربية للإسلام، وأن تتخلّص من الشرك.
والجهاد، هو الوسيلة لتطهير الجزيرة من رجس المشركين والمنافقين ثم تناولت السورة موضوع الجهاد بالنفس، والمال، وبيّنت شرفه وأجره.
وأنحت على المتخلّفين القاعدين، واستجاشت وجدان المسلمين الى قتال الكفار المنافقين، بما صوّرت من كيدهم للمسلمين، وحقدهم عليهم، وتمني الشر لهم، وما تحمله نفوسهم من الخصومة والبغضاء، وما وقع منهم للرسول (ص) ومن معه من المؤمنين وبذلك كانت سورة التوبة، تحمل القول الفصل في علاقات المسلمين بغيرهم، وتحدّد موقفهم الحاسم الأخير.
وقد لوّنت السورة أساليب الدعوة إلى الجهاد، فحينا تنكر على المؤمنين تثاقلهم وإخلادهم إلى الأرض، وحينا آخر تهتمّ بتطهير الجيش من عناصر الفتنة والخذلان، ومرة أخرى توضح أن سنة الله ماضية لا تتخلّف وأن من قوانين الحق سبحانه، أنّ البقاء والعزة والسلطان، إنّما هو يكون للعاملين المجاهدين أمّا المتباطئون والمتثاقلون، الذين يؤثرون حياتهم، ويضنّون بأنفسهم وأموالهم، ويخلدون إلى الأرض، ويعرضون عن دعوة الجهاد في سبيل حريتهم وبقائهم، فإنهم لا بدّ ذاهبون، وهم لا محالة مستذلّون مستعبدون.(3/234)
فضل الرسول الأمين
تعرّضت سورة التوبة، لبيان فضل رسول الله (ص) ومكانته السامية، ومناقبه الكريمة فذكرت أن الله سبحانه أنزل السكينة عليه، وأيّده بجنود من الملائكة في يوم «حنين» ، حين انهزم المؤمنون، وولّوا مدبرين.
ومن كرامة الرسول (ص) أن الله نصره عند الهجرة مع صاحبه الصّدّيق، وكان الله معهما بتأييده وإنزاله الطمأنينة والأمان عليهما وحفظهما في الغار، حتّى عميت عنهما عيون الكفار وجعل الله كلمة المؤمنين في ارتفاع وانتصار، وشأن الكافرين في هزيمة واندحار وقد فرضت سورة التوبة على المؤمنين عدة واجبات، تجاه نبيهم منها:
1- محبّته (ص) والتزام هديه، والعمل بسنّته، كما نجد ذلك في الآية 25.
2- تحرّي مرضاته، لأن رضاه من رضا الله سبحانه، ونجد ذلك في الآية 62.
3- وجوب طاعته، والنصح له، ووجوب نصره.
4- تحريم إيذائه، وتحريم معاداته، وتحريم القعود عن الخروج معه في الجهاد.
وتختم السورة آياتها بذكر صفات رسول الله (ص) . فهو الرحمة المهداة، لتطهير المؤمنين، وتزكيتهم، وتعليمهم، والدعاء لهم فحبّه فريضة، وبغضه كفر وحرمان. وقد تكفّل الله بنصر رسوله، حتى ولو تخلى عنه جميع الناس، فإن معه الله القوي القدير، قال تعالى:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .(3/235)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التوبة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة التوبة بعد سورة المائدة، وكان نزولها في ذي القعدة أو ذي الحجّة من السنة التاسعة للهجرة، وكان النبي (ص) أرسل أبا بكر في أخريات ذي القعدة ليحجّ بالناس، فنزلت هذه السورة بعد سفره، وفيها نبذ العهود للمشركين جميعهم الذين لم يفوا بعهودهم، فأرسل بها عليّا ليبلّغها إلى الناس في يوم الحج الأكبر، فلحق أبا بكر في الطريق، ثم أبلغها الناس في ذلك اليوم، ثم نادى: لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فتكون سورة التوبة، من السور التي نزلت بين غزوة تبوك ووفاة النبي (ص) .
وقد سميت هذه السورة باسم التوبة، لأنه ذكر في الآيتين: 117 و 118، توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في ساعة العسرة، بعد ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [الآية 117] ، وعلى الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك، وتبلغ آياتها تسعا وعشرين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة لتحديد علاقة المسلمين بأعدائهم في آخر عهد النبوّة، وكان أعداؤهم على ثلاثة أقسام: أوّلها مشركو العرب، وقد نبذت في هذه السورة عهود الذين لم يفوا بعهودهم منهم، وأمهلوا فيها أربعة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(3/237)
أشهر يسيحون في الأرض، وأتمّ فيها عهد من وفي بعهده إلى مدته، لتخلص جزيرة العرب للمسلمين وحدهم.
وثانيها من حاربهم من اليهود والنصارى، وقد أمروا فيها بقتالهم وقبول الجزية منهم إذا سالموهم.
وثالثها المنافقون، وقد فضحوا فيها، وكشفت أسرارهم، وأمر المسلمون بمقاطعتهم والبعد عنهم. وتنقسم هذه السورة في ذلك الى قسمين: أوّلهما في الكلام على المشركين وأهل الكتاب، وثانيهما في الكلام على المنافقين وقد استطرد في أثناء ذلك إلى بعض الحوادث التي وقعت في تاريخ نزول هذه السورة، كغزوة حنين وغزوة تبوك.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة الأنفال، لما سبق من أنهما يعدّان كسورة واحدة تتمّم السبع الطوال وقد ذهب كثير من الصحابة إلى أنهما سورة واحدة، وجعل هذا هو السبب في ترك التسمية في أول هذه السورة ومما يذكر في المناسبة بين السورتين، أن سورة الأنفال ذكرت فيها العهود، وسورة التوبة ذكر فيها نبذ العهود وأن سورة الأنفال، ختمت بفرض الموالاة بين المؤمنين، وقطعها بينهم وبين الكفار وقد افتتحت بهذا سورة التوبة وأن قصة سورة التوبة، تشبه قصة سورة الأنفال، لأن كلّا منهما نزل في القتال.
الكلام على المشركين وأهل الكتاب الآيات (1- 37)
قال الله تعالى بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) .
فأوجب البراءة من عهود المشركين، وأباح لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وأمر أن يؤذنوا بهذا يوم الحجّ الأكبر فإن تابوا في مدة إمهالهم فهو خير لهم، وإن أصرّوا على كفرهم فلن يعجزوا الله في دنياهم، ولهم في الاخرة عذاب أليم ثم استثنى منهم الذين كان لهم عهد ولم ينقضوه، فأمر أن يتمّ لهم عهدهم إلى مدّتهم، ثمّ أمر بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم حيث وجدوا، فإن تابوا كفّ عن قتالهم ثم أمر النبي (ص) أن يجير من استجاره منهم حتّى يسمع كلامه، وأن يبلغه بعد هذا مأمنه من دار قومه، ويكون حكمه في القتال كحكمهم ثم أنكر السياق أن يكون لأولئك المشركين عهد عند(3/238)
النبي (ص) ، واستثنى منهم الذين عاهدهم عند المسجد الحرام، فأمر سبحانه أن يستقيموا لهم ما استقاموا لهم، ثم عاد السياق فأنكر أن يكون لأولئك المشركين عهد، وهم إن يظهروا على المؤمنين لا يرعوا فيهم عهدا، لأنهم غير مخلصين في عهدهم، وأكثرهم فاسقون لا قيمة للعهد عندهم ثم ذكر من فسقهم أنهم آثروا الكفر على الإيمان بثمن قليل من متاع الدنيا، وأنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا، وأنهم هم المعتدون على المسلمين ثم ذكر أنهم إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فهم إخوانهم في الدين وأنهم، إن نكثوا أيمانهم من بعدهم وجب قتالهم ونقض عهدهم، لأنهم لا أيمان لهم.
ثم ذكر في تسويغ قتالهم، أنهم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول من مكة، قبل أن يهاجر منها، وبدءوا المسلمين بالقتال ظلما وعدوانا ثم أمرهم بقتالهم ليعذّبهم سبحانه بأيديهم ويخزيهم، وينصرهم عليهم، ويشفي صدورهم منهم وذكر أنه لم يكن ليتركهم، من غير أن يميز بالجهاد بين الصادقين في إيمانهم وغيرهم، ولم يكن ليترك المشركين يعمرون المسجد الحرام بكفرهم، لأن الأحقّ بعمارته الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ثم أنكر على المشركين أن يسوّوا بين ذلك، وما يقومون به من سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام وحكم بأن المؤمنين أعظم درجة عنده منهم.
ثم نهى المؤمنين بعد البراءة من عهود الكفار، أن يتّخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء، إن آثروا الكفر على الإيمان وأوعدهم إن آثروا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأزواجهم وعشيرتهم وأموالهم وتجارتهم، عليه وعلى رسوله والجهاد في سبيله، أن يتربّصوا حتى يأتي سبحانه بأمره ثم ذكر أنه جلّ جلاله نصرهم في مواطن كثيرة ليؤثروه على غيره وخصّ من هذه المواطن يوم حنين، إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولّوا مدبرين. ثم أنزل سكينته على النبي ومن ثبت معه، وهزم أعداءهم ثم ذكر أنه يتوب على من يشاء منهم، والله غفور رحيم يا أَيُّهَا الَّذِينَ(3/239)
آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(28) .
ثم أمرهم أن يقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحقّ من أهل الكتاب، حتى يعطوا الجزية وكانوا قد حاربوهم، وانضموا إلى المشركين عليهم ثم أثبت ما ذكره من كفرهم، بأن اليهود يقولون عزير ابن الله، والنصارى يقولون المسيح ابن الله، يضاهئون المشركين قبلهم، في زعمهم أن له أولادا من الملائكة وغيرهم وأثبته أيضا باتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا يطيعونهم من دونه سبحانه، ثم ذكر أنهم يريدون أن يطفئوا نوره، وهو دين الإسلام، بأفواههم، ليسوّغ ما أمر به من قتالهم ثم ذكر أن كثيرا من أحبارهم ورهبانهم ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدونهم عن سبيله وأن الذين يكنزون منهم الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيله، لهم عذاب أليم يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) .
ثم ختم الكلام على الفريقين، ببيان ما يحلّ القتال فيه، وما يحرم من شهور السنة، فذكر أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا، وأنّ منها أربعة حرما، يحرّم القتال عليهم فيها، ويجب عليهم قتال المشركين كافّة فيما عداها، كما يقاتلونهم كافة ثم حرّم عليهم النّسيء، وهو تأخير الأشهر الحرم عن مواضعها من السنة، إذا صادفتهم وهم في حرب، أو لم يوافق الحج فيها موسم تجارتهم، ليواطئوا عدة ما حرّم الله فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [الآية 37] .
الكلام على المنافقين الآيات (38- 129)
ثم قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 38] ، فذكر ما حصل من المنافقين في غزوة تبوك، وكانت في وقت الصيف وشدّة الحر وما حصل في غزو(3/240)
الروم، وهي دولة قوية ليست كمن قاتلوهم من قبائل العرب، فتثاقل عنها المنافقون واستعظموا غزو الروم، وأثّروا في بعض المؤمنين، وقد بدأ بلومهم على تثاقلهم، إذا قيل لهم انفروا في سبيله، وإيثارهم الحياة الدنيا على الاخرة ثم ذكر أنهم إلّا ينفروا يعذّبهم، ويستبدل قوما غيرهم، ولا يضرّوا النبي (ص) ، وأنهم إلّا ينصروه فقد نصره في هجرته من مكة ثاني اثنين، وقد جزع رفيقه وهما في الغار أن يدركهما المشركون، فقال له كما ورد في التنزيل لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [الآية 40] فأنزل سكينته عليه، وأيّده بجنود من عنده، وجعل كلمة الكافرين السّفلى، وكلمته هي العليا ثم أمرهم أن ينفروا خفافا وثقالا، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ورغّبهم في ذلك، بأنه خير لهم لو كانوا يعلمون ثم عاد السياق إلى توبيخهم على تثاقلهم، فذكر سبحانه، أنه لو كان دعاهم إلى عرض قريب من الدنيا، أو سفر سهل لاتّبعوه طمعا في منافع الدنيا، ولكن طال السفر عليهم في هذه الغزوة، وأيسوا من الفوز بالغنائم، فتثاقلوا عنها، وسيحلفون بالله، أنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) [الآية] ، ثم عاتب تعالى النبي (ص) على إذنه لهم بالقعود، وكان من الخير ألّا يأذن لهم، حتّى يعلم الصادقين في عذرهم من الكاذبين ثم ذكر أن الذين يؤمنون به وباليوم الاخر، لا يستأذنون في الجهاد بأموالهم وأنفسهم، لأنهم يعلمون عظيم ما أعدّ لهم في ذلك اليوم، إذا استشهدوا في الجهاد، وإنما يستأذن في الجهاد الذين لا يؤمنون بذلك من المنافقين ولو أنهم أرادوا الخروج، لأعدوا له عدّته، وخرجوا مع المجاهدين ولكنه علم المصلحة في عدم خروجهم، فثبّطهم عن الخروج ولو خرجوا، لأوقعوا الفتنة في صفوف المسلمين، وأطلعوا أعداءهم على أسرارهم، كما فعلوا مثل هذا من قبل، في غزوة أحد وغيرها.
ثم قسّمهم في النفاق إلى أقسام، أولها: الذين إذا طلبوا للجهاد ذهبوا إلى النبي (ص) وعرضوا عليه أن يعينوه بأموالهم، على أن يأذن لهم في القعود، ولا يفتنهم بعدم الإذن فسقطوا في الفتنة من حيث يظهرون البراءة منها. ثم ذكر السياق بعد هذا،(3/241)
أنه إن أصاب الرسول (ص) فوز ساءهم، وإن أصيب بمكروه، فرحوا بحذرهم وعدم خروجهم وأمر النبي (ص) أن يذكر لهم، أنه لن يصيب المسلمين إلا ما كتب لهم وأنهم لا يتربّصون بهم إلا إحدى الحسنيين: النصرة أو الشهادة أمّا هم فسيصابون بعذاب من عند الله، أو بأيدي المسلمين ثم ذكر لهم أنّ ما ينفقونه طوعا أو كرها، ليقعدوا في نظيره عن القتال، لن يتقبله منهم لفسقهم، وكفرهم، وعدم إخلاصهم في صلاتهم وإنفاقهم ثم نهى النبيّ (ص) أن تعجبه أموالهم وأولادهم، لأنه يريد أن يعذّبهم بها في الدنيا، بإنفاقها فيما يكرهون، وهو أشقّ شيء عليهم وتزهق أنفسهم، وهم كافرون، فيعذّبون في الاخرة أيضا. ثم ذكر أنهم، مع هذا، يحلفون أنهم من المسلمين، وما هم منهم، ولكنهم قوم جبناء، يفرقون من الجهاد لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) .
وثانيها: الذين يطعنون على النبي (ص) في الصدقات المفروضة، ويزعمون أنه يخص بها أقاربه وأهل مودته فإن أعطوا منها، رضوا وإن لم يعطوا، سخطوا ولو أنهم رضوا بقسمة الله ورسوله فيها، ونصيبهم منها، لكان خيرا لهم ثم ذكر في الجواب عن طعنهم، أنّ هذه الصدقات لها مصارف معلومة، من الفقراء ومن ذكرهم، وهي مصارف لا تراعى فيها قرابة ولا مودة، وإنّما تراعى فيها المصلحة والحاجة.
وثالثها: الذين يؤذون النبي (ص) ويقولون هو أذن، لأنه يسمع ما يقال فيهم وقد أمره سبحانه أن يذكر لهم أنه أذن خير لهم، لأنه يؤمن بالله ويخافه، فلا يقدم على أذى أحد، ولا يسمع إلا للمؤمنين الصادقين، الذين يريدون المصلحة بنقل أخبارهم ثم ذكر أنهم إذا بلغ عنهم ما يقولون، يحلفون للمسلمين أنهم لم يقولوه ليرضوهم، والله ورسوله أحق أن يرضوه، بترك ما يقولونه من الإثم ثم ذكر أنهم حين يفعلون ذلك، يحذرون أن تنزل عليهم سورة تفضحهم به وأمر النبيّ (ص) أن يأمرهم بأن يفعلوا ما يفعلونه من الاستهزاء به وغيره، فإن الله مخرج ما يحذرون من أسرارهم،(3/242)
بهذه السورة التي أنزلها فيهم ثم ذكر أنه إذا سألهم عما يبلغ عنهم، اعتذروا عنه، بأنه كان على وجه اللعب لا على وجه الجدّ، وردّ عليهم بأنه لا محلّ للّعب في أمر الله وآياته ورسوله، إلى غير ذلك ممّا ذكره في الردّ عليهم ثم ذكر أن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض، فلا يوالي بعضهم إلّا بعضا، لأنهم يستأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، إلى غير هذا ممّا لا يصحّ موالاتهم عليه.
ثم ذكر سبحانه، أنه أعدّ لهم على ذلك نار جهنّم خالدين فيها وذكر أنه سينالهم ما نال من كان قبلهم، ممّن كانوا أشدّ منهم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وغيرهم.
ثم ذكر أن المؤمنين يجب أن يكون بعضهم أولياء بعض، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على عكس ما يفعله المنافقون وذكر ما أعدّ لهم من الثواب، كما ذكر ما أعدّ للمنافقين من العذاب ثم أمر النبي (ص) أن يجاهدهم بالتغليظ والتشديد عليهم، ثم أعاد السياق ما ذكره سبحانه، من حلفهم وإنكارهم ما يقولونه بعد الأمر بجهادهم، ليؤكد ثانيا أنهم قالوه.
ورابعها: الذين عاهدوا الله إن أغناهم أن يتصدّقوا من أموالهم، فلمّا آتاهم ما طلبوا بخلوا بصدقاتهم، فجازاهم على ذلك بأن أعقبهم نفاقا لا يفارقهم الى يوم القيامة، وهددهم بأنه يعلم سرّهم ونجواهم ولا يخفى عليه، جلّت قدرته، شيء من أحوالهم ثم ذكر أنهم مع بخلهم بالصدقات يطعنون المطّوعين من المؤمنين فيها، والذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهد المقلّ، فيسخرون منهم ويزعمون أنهم يقصدون الرياء والسمعة، وأن الله غنيّ عن صدقة المقلّ منهم ثم ذكر أنه جازاهم سخرية بسخرية، ولهم عذاب أليم، ونهى النبي (ص) أن يستغفر لهم كما يستغفر للمسلمين وذكر أنه لا يغفر لهم، ولو استغفر لهم سبعين مرة، لأنهم كفروا به وبرسوله وهو لا يهدي القوم الفاسقين.
ولما انتهى السياق من بيان أقسامهم، عاد إلى أصل الكلام في تثاقلهم وتخلّفهم عن غزوة تبوك، فذكر ما كان من فرحهم بتخلّفهم، وكراهتهم للجهاد(3/243)
بأموالهم وأنفسهم، وتثبيطهم الناس عن هذه الغزوة وأوعدهم الله وسبحانه، على ذلك بما أوعدهم به، ثم أمر النبي (ص) ألّا يأذن لهم في الخروج بعد ذلك إذا استأذنوه فيه، وألّا يشركهم معه في قتال عدو، ونهاه نهيا قاطعا أن يصلّي على أحد منهم مات، وأن يقوم على قبره وأن تمتدّ عينه إلى أموالهم وأولادهم، كما كان يفعل قبل ذلك من أخذ أموالهم، وقبول تخلفهم ثم وبّخ أصحاب الأموال منهم على ما كانوا يفعلونه من ذلك، ورضاهم بأن يقعدوا مع الخوالف من النساء والولدان ثم ذكر أن الرسول والمؤمنين على خلاف ما يفعل أولئك المنافقون، وأنه أعدّ لهم على ذلك ما أعدّ من جنات النعيم.
ثم شرع السياق في بيان ما حصل من منافقي الأعراب في تلك الغزوة، وكان ما سبق في منافقي المدينة، فذكر، جلّت قدرته، أن المعذّرين منهم جاءوا ليؤذن لهم في القعود، وهم الذين يعتذرون بلا عذر، وأن بعضهم قعد ولم يعتذر جراءة على الله ورسوله فأوعدهم سبحانه، بأنهم سيصيبهم عذاب أليم ثم نفي الحرج عمّن قعد بعذر لضعفه أو لأنه لا يجد الأهبة والزاد والراحلة، فهؤلاء ليس عليهم من سبيل، والله غفور رحيم، إنما السبيل على الذين يستأذنون وهم أغنياء، ولا ضعف فيهم ثم ذكر أنهم سيعتذرون إليهم بعد رجوعهم من الغزو، ونهى النبي (ص) عن قبول عذرهم وذكر أنهم سيحلفون لهم أنهم لم يقدروا على الخروج، ليعرضوا عنهم ولا يوبّخوهم وأمرهم أن يعرضوا عنهم، إعراض مقت وسخط ثم ذكر أن منافقي الأعراب أشدّ كفرا ونفاقا وجهلا من منافقي المدينة وأن منهم من يعتقد أن ما ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران، ويتربص بالمسلمين الدوائر بظهور أعدائهم عليهم ثم ذكر أن من الأعراب من يخلص في إيمانه، وأنه سيدخلهم في رحمته وأن السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان، لهم درجات أعلى منهم، لأن الأعراب، وإن أخلصوا في إيمانهم، ليس لهم مثل سبقهم وجهادهم.
ثم ذكر أن من الأعراب وأهل(3/244)
المدينة منافقين مردوا على النفاق وأن النبي (ص) لا يعلمهم، وهو سبحانه، يعلمهم، وسيعذّبهم مرتين في الدنيا والاخرة وأن منهم آخرين اعترفوا بذنوبهم، وخلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا وذلك بخروجهم مع النبي (ص) في سائر الغزوات، وتخلّفهم في هذه الغزوة وأنه قد قبل توبتهم، وغفر لهم وكانوا قد تأخّروا عن تقديم زكواتهم قبل توبتهم، فأمر النبي (ص) أن يأخذها منهم، لتتمّ توبتهم بها ثم ذكر أنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات ترغيبا فيها لمن لم يتب، وأمرهم أن يعملوا الصالحات، لتكفّر ما مضى من سيئاتهم وأخبرهم بأنه يرى عملهم، ترغيبا وترهيبا لهم ثم ذكر أن منهم آخرين ندموا على ما فعلوا، ولكنهم أحجموا عن الحضور الى النبي (ص) ، وإظهار التوبة، خوفا منه أو خجلا واستحياء، وأنهم مرجون لأمره، فإما يعذّبهم وإمّا يوفّقهم لتكميل التوبة، لأن الندم وحده لا يكفي فيها، ثم ذكر أن منهم الذين اتّخذوا مسجدا قبيل غزوة تبوك، يضارّون به مسجد قباء، ويفرّقون به بين المؤمنين ونهى النبيّ (ص) أن يصلّي فيه، وذكر أن مسجد قباء الذي أسس على التقوى، من أول يوم، أحقّ بذلك وأجدر وكان قد أمر النبي (ص) بتخريبه، فذكر أنه لا يزال بنيانهم بعد تخريبه ريبة في قلوبهم، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) .
ولما انتهى من ذكر ما فعلوه في تلك الغزوة، ذكر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، بأنّ لهم الجنة، فلا يصحّ لمسلم أن يبخل بنفسه وماله في الجهاد، كما يبخل أولئك المنافقون، وأنه وعد المجاهدين بذلك وعدا عليه حقّا في التوراة والإنجيل والقرآن، ولا يوجد من هو أوفى بعهده منه. ثمّ أمرهم أن يستبشروا بذلك البيع الرابح، وأخبرهم بأن ذلك هو الفوز العظيم، ومدحهم بأنهم التائبون العابدون، إلى غير ذلك من الصفات التي امتازوا بها على المنافقين، وجعلتهم يبذلون أنفسهم وأموالهم، في سبيل الله، راضين مطمئنين.
ثم نهى النبي (ص) والمؤمنين عن الاستغفار لأولئك المنافقين بعد أن بيّن ما حصل منهم، لأن هذا أشد(3/245)
عقوباتهم، فكرر النهي عنه تأكيدا له، وذكر انه لا يصح أن يقتدوا، في هذا، باستغفار إبراهيم لأبيه، لأنه لم يستغفر له إلّا بعد أن وعده أن يؤمن، فلما لم يف بوعده تبرّأ منه، وترك الاستغفار له ثم ذكر أنه لا يؤاخذهم بما سبق منهم فيضلّهم، لأنه لا يؤاخذ قوما بعد إذ هداهم، حتى يبيّن لهم ما يتّقون، ثم ذكّرهم بكمال علمه، وواسع ملكه، لينقادوا لنهيه، ويستغنوا به، عن أولئك المنافقين.
وكان قد حصل من النبي (ص) والمؤمنين بعض ما يؤاخذون عليه في تلك الغزوة، كإذنه (ص) للمنافقين في القعود، وتأثّر بعض المؤمنين بتثبيط المنافقين. فذكر أنه تاب عليهم من تلك الزلّات وعلى الثلاثة الذين تخلّفوا منهم، ثم ندموا وتابوا، وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فتاب عليهم بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه وأمرهم بأن يتّقوه، ويكونوا مع الصادقين.
ثم ذكر أنه ما كان لأهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب، على العموم، أن يتخلفوا عن النبي (ص) ، لأنهم لا يصيبهم شيء في الجهاد، ولا ينالون ظفرا على العدو، إلّا كتب لهم به عمل صالح، ولا ينفقون نفقة، ولا يقطعون واديا إلّا كتب لهم ثم ذكر أنه لا يكلفهم كلّهم أن ينفروا إلى النبي (ص) ، وإنّما يكلفهم أن تنفر من كل فرقة منهم طائفة إليه، ليتفقّهوا في الدين، ويشاركوه في الجهاد، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ثم أمر المؤمنين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وهم المنافقون وقد أمر النبي (ص) بجهادهم فيما سبق، فأعاده تأكيدا له، والمراد من قتالهم، أن يظهروا العداوة لهم بالتشديد والتغليظ عليهم كما سبق ثمّ حرّضهم عليهم، فذكر أنهم إذا أنزلت سورة من القرآن، فمنهم من يقول:
أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [الآية 124] وأجاب عن قولهم بأن المؤمنين يزدادون بها إيمانا. وأما هم فيزدادون بها نفاقا إلى نفاقهم ثم وبّخهم بأنهم يفتنون في نفاقهم كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ(3/246)
يَذَّكَّرُونَ
(126) . ومنهم من ينظر عند نزولها، هل يراه أحد إذا انصرف كراهة لسماعها، ثم ينصرفون إلى دورهم صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) .
ثم ذكر لهم من أمر النبي (ص) ما لا يصحّ معه أن ينافقوه، وهو أنه رسول لهم من أنفسهم، عزيز عليه ما هم فيه من العنت، حريص عليهم بالمؤمنين، رؤوف رحيم فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .(3/247)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التوبة» «1»
أقول: قد عرف وجه مناسبتها، ونزيد هنا أن صدرها «2» تفصيل لإجمال قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال:
58] . وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله سبحانه هناك: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] . ولذا قال هنا في قصة المنافقين: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا [الآية 46] .
ثم إن بين السورتين تناسبا من وجه آخر، وهو: أنه سبحانه، في الأنفال، تولّى قسمة الغنائم، وجعل خمسها خمسة أخماس «3» ، وفي براءة تولّى قسمة الصدقات، وجعلها لثمانية أضعاف «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . صدر التوبة: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ إلى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [الآيات 3- 5] .
(3) . وذلك قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: 41] .
(4) . وذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) .(3/249)
المبحث الرابع مكنونات سورة «التوبة» «1»
1- بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) .
سمّى منهم مجاهد: خزاعة، ومدلجا. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
2- فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [الآية 2] .
قال الزّهري: نزلت في شوّال (الأربعة أشهر) «3» شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم «4» .
وقال مجاهد: هي من عشرين من آخر ذي الحجّة، الى عشرة تخلو من ربيع الاخر.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
ويؤيد الأولى قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [الآية 5] .
3- وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ [الآية 3] .
فسّر في أحاديث مرفوعة ب «يوم النّحر» .
أخرج ذلك التّرمذي من حديث
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . وابن جرير 10، 44، وابن أبي شيبة، وابن المنذر. «الدر المنثور» 3: 209. وسقط من هذه الفقرة حتى نهاية الفقرة رقم 219 من النسخ المطبوعة.
(3) . زيادة من «الدر المنثور» 3: 211. و «الطبري» .
(4) . أخرجه ابن جرير 10: 45، وعبد الرزاق، والنحّاس. «الدر المنثور» .(3/251)
عليّ، وعمرو بن الأحوص «1» وابن جرير «2» من حديث ابن عمر.
وأخرجه عن ابن عباس، والمغيرة بن شعبة موقوفا.
وروى ابن أبي حاتم عن المسور بن مخرمة أنه: يوم عرفة.
وأخرج مثله عن عمر، وابن عباس موقوفا.
وأخرجه ابن جرير «3» عن عليّ، وابن الزّبير.
وقال سعيد بن المسيّب: هو: اليوم الثاني من يوم النّحر.
أخرجه ابن أبي حاتم.
4- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الآية 4] .
قال ابن عباس: هم قريش.
وقال محمد بن عباد بن جعفر: هم بنو جذيمة بن عامر، من بني بكر بن كنانة «4» .
وقال مجاهد: بنو مذحج، وخزاعة.
أخرج ذلك أبن أبي حاتم.
5- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 7] .
قال ابن عباس: هم قريش.
أخرجه بن أبي حاتم.
6- فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [الآية 12] .
قال قتادة: هم أبو سفيان، وأبو جهل، وأميّة بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. أخرجه ابن أبي حاتم «5» .
__________
(1) . حديث علي في الترمذي برقم (3088) ورجح أنه موقوف، وفي إسناده (الحارث الأعور) متكلم فيه. وحديث ابن الأحوص في الترمذي برقم (3087) أيضا وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (3055) وانظر «فتح الباري» 8: 320. [.....]
(2) .: 10: 52- 53، والبخاري 3: 574 تعليقا، وأبو داود (1945) ، وابن ماجة (3058) ، والبيهقي 5: 139، والحاكم 2: 331، والطّبراني في «المعجم الصغير» 2: 119.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.
(3) . 10: 49.
(4) . المثبت من «الدر المنثور» وانظر: «جمهرة النسب» للكلبي 1: 208، و «تفسير الطبري» 10: 58.
(5) . والحاكم 2: 322 عن ابن عمر وصححه، وأقرّه الذهبي. قال الحافظ في «فتح الباري» 8: 323: «وتعقب بأن أبا جهل وعتبة قتلا ببدر، إنّما ينطبق التفسير على من نزلت الآية المذكورة، وهو حيّ، فيصحّ في أبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وقد أسلما» .(3/252)
7- وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) .
قال مجاهد، والسّدّي، وعكرمة:
هم خزاعة.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم «1» .
8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [الآية 28] .
هو سنة تسع من الهجرة «2» .
9- وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [الآية 30] .
سمّي منهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، ومحمد بن دحية، وشاس بن قيس، ومالك بن الضّيف.
أخرجه ابن أبي حاتم «3» عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج «4» قال: قالها رجل واحد اسمه فنحاص.
10- إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [الآية 36] .
قال (ص) : «ثلاث «5» متواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرم، ورجب مضر: الذي بين جمادى وشعبان» .
أخرجه الشيخان «6» ، من حديث أبي بكرة.
11- إِذْ هُما فِي الْغارِ [الآية 40] .
هو غار ثور، جبل بمكة.
12- إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [الآية 40] .
__________
(1) . انظر: «تفسير الطبري» 10: 64.
(2) . انظر: «تفسير الطبري» 10: 75، و «تفسير ابن كثير» 2: 346.
(3) . وابن جرير في «تفسيره» 10: 78، وليس فيه «محمد بن دحية» .
(4) . في «تفسير الطبري» 10: 78: «عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير» .
(5) . انظر توجيه الرواية من حيث اللغة في «فتح الباري» 8: 325.
(6) . البخاري (4662) في التفسير، ومسلم في القسامة (1679) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» .(3/253)
هو أبو بكر رضي الله عنه «1» .
13- وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [الآية 47] .
قال مجاهد: هم عبد الله بن أبيّ بن سلول، ورفاعة بن التابوت، وأوس بن قيظيّ. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
14- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [الآية 49] .
هو الجد بن قيس، كما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس «3» .
15- وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [الآية 58] .
هو ذو الخويصرة. كما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري «4» .
16- إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [الآية 60] .
سمّي من المؤلّفة في عهده (ص) :
أبيّ بن شريق، وأحيحة بن أمية بن خلف، وأسد «5» بن حارثة، والأقرع بن حابس، وجبير بن مطعم، والحارث بن هشام، وحرملة بن هودة، وخالد بن هودة «6» ، وحكيم بن حزام، وحكم «7» بن طليق، وحويطب بن عبد العزّى، وخالد بن قيس السهمي، وزيد الخيل، والسائب بن أبي السائب،
__________
(1) . ثبت ذلك في: البخاري (3653) في مناقب المهاجرين، و (4663) في التفسير، ومسلم 5: 242 في الفضائل (بشرح النووي) ، والترمذي (3095) في التفسير، وأحمد في «المسند» برقم (11) ، و (3251) 1: 348.
وانظر «المسند» لأحمد 1: 330 (3063) و 1: 331 (3063) .
كما خرج ذلك الإمام الحافظ القاضي: أبو بكر أحمد بن علي الأموي المروزي، المولود نحو سنة (202) هـ والمتوفى سنة (292 هـ) ، شيخ النسائي والطّبراني وغيرهما، في جزئه المسند الذي أفرده في أحاديث أبي بكر الصديق، المسمى ب «مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه» والذي يعتبر من أجمع ما أفرد في أحاديث أبي بكر خاصة، وذلك في الأحاديث ذات الأرقام: (42) ، (56) ، (62) ، (65) ، (71) ، (72) ، (73) ، (82) .
(2) . والطبري 10: 102، وفي «تفسير مجاهد» 1: 280 زيادة «عبد الله بن نبتل» .
(3) . في إسناده: يحيى الحماني، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7: 30، وأخرجه الطبري أيضا 10:
104.
(4) . «صحيح البخاري» رقم (6933) في استتابة المرتدّين. [.....]
(5) . والمثبت من «الإصابة» .
(6) . في «سيرة ابن هشام» : «هودة» . بالذال المعجمة والمثبت من «الإصابة» .
(7) . في «الإصابة» : «حكيم» .(3/254)
وسهيل بن عمرو، وشيبة بن عثمان، وسفيان بن عبد الأسد «1» ، وأبو سفيان بن حرب، وابناه: معاوية، ويزيد، وأبو السنابل بن بعكك، وصفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع، وعيينة بن حصن الفزاري، وعمرو بن الأهتم التميمي، والعباس بن مرداس السّلمي، ومخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وقيس بن عدي، وعمرو بن وهب، وهشام بن عمرو، والنّضر بن الحارث ومطيع بن الأسود، وأبو جهم بن حذيفة، وعلقمة بن علاثة، وعمير بن مرداس، وقيس بن مخرمة، وعكرمة بن عامر، وعمرو بن ورقة، ولبيد بن ربيعة، والمغيرة بن الحارث، وهشام بن الوليد المخزومي.
17- وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [الآية 61] .
نزلت في نبتل بن الحارث. كما أخرجه ابن ابي حاتم، عن ابن عباس «2» .
18- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [الآية 65] .
نزلت في عبد الله بن أبيّ. كما أخرجه ابن أبي حاتم «3» من حديث ابن عمر.
وقيل: هو وديعة بن ثابت «4» ذكره السّهيلي.
19- إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ [الآية 66] .
هو مخشي «5» بن حميّر. كما أخرجه ابن أبي حاتم، عن كعب بن مالك.
وأخرج من طريق الضّحّاك، عن ابن عباس قال: الطائفة، الرجل، والنّفر «6» .
__________
(1) . في كونه من المؤلفة قلوبهم، فيه نظر. قاله الحافظ ابن حجر في ترجمته في «الإصابة» .
(2) . انظر «سيرة ابن هشام» 1: 521، و «تفسير الطبري» 10: 116.
(3) . وابن المنذر، والعقيلي في «الضعفاء» ، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب في «رواة مالك» . «الدر المنثور» 3: 254.
(4) . أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس. «الدر المنثور» 3: 254، و «الطبري» 10: 119 عن ابن إسحاق.
(5) . في «الدر المنثور» : «محشي» ، وفي «سيرة ابن هشام» : «مخشّن» ، قال ابن هشام 2: 524: «ويقال: مخشي» وكذا جاء في «تفسير ابن كثير» 2: 367 و «الإصابة» و «الإتقان» 2: 146.
(6) . معنى قول الضحّاك أن الطائفة قد يراد بها الرجل الواحد، كما هو هنا.(3/255)
20- وَالْمُؤْتَفِكاتِ [الآية 70] .
قال محمد بن كعب القرظي: حدّثت أنّهنّ كنّ خمسا:
ضبعة، ومغيرة، وعمرة، ودوما، وسدوم: وهي القرية العظمى أخرجه أبن أبي حاتم.
21- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [الآية 74] .
نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس وكعب بن مالك «1» .
22- وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [الآية 74] .
قال ابن عباس: همّ رجل، يقال له:
الأسود، بقتل النبي (ص) . أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
23- وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) .
نزلت في ثعلبة بن حاطب. أخرجه الطّبراني، وغيره من حديث أبي أمامة «3» .
زاد ابن إسحاق: ومعتّب بن قشير.
24- الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ [الآية 79] .
سمّي من المطّوّعين: عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي.
ومن الذين لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [الآية 79] : أبو عقيل، ورفاعة بن سعد «4» في آثار أخرجها ابن أبي حاتم.
__________
(1) . وروى ابن جرير برقم (16974) عن قتادة أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول.
قال ابن جرير رحمه الله: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى، أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا، على كلمة كفر تكلّموا بها، أنهم لم يقولوها وجائز أن يكون في ذلك القول، ما روي عن عروة، أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبيّ بن سلول، والقول ما ذكر قتادة منه أنه قال، ولا علم لنا بأيّ ذلك من أيّ، إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس ما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [الآية 74] .
(2) . انظر «تفسير الطبري» 10: 129.
(3) . وإسناده ضعيف جدا. لأن في إسناده علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك. كما في «مجمع الزوائد» 7: 32.
(4) . في «فتح الباري» 8: 331: «سهل» كما في رواية عبد بن حميد. قال الحافظ: «فيحتمل أن يكون تصحيفا، ويحتمل أن يكون اسم أبي عقيل «سهل» ولقبه «حبحاب» أو هما اثنان» .
وفي «المطالب العالية» 3: 341 رقم (3647) رواية ابن أبي شيبة. وأثر أبي عقيل، رواه ابن مسعود وأخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (4668) في التفسير.(3/256)
وأبو خيثمة الأنصاري. أخرجه ابن جرير «1» .
25- وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [الآية 81] .
قال ذلك رجل من بني سلمة.
أخرجه ابن جرير «2» عن محمّد بن كعب.
26- فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ [الآية 83] .
قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا [من المنافقين] . أخرجه ابن جرير «3» .
27- وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 90] .
قال السّدّي: من قرأها خفيفة، [قال] : بنو مقرّن.
ومن قرأها مشدّدة، قال الذين لهم عذر.
وقال ابن إسحاق «4» : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
28- وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ [الآية 92] .
سمّي منهم العرباض بن سارية. في حديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» «5» .
وعبد الله بن مغفّل «6» المزني، وعمرو المزني: جد كثير بن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الأزرق الأنصاري، وأبو ليلى الأنصاري. في آثار أخرجها ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد: هم بنو مقرّن «7» من مزينة. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي: هم سبعة نفر: سالم بن عمير، وحرمي بن عمرو- ويقال: هرمي، ويقال: حزم-
__________
(1) . 10: 36. [.....]
(2) . 10: 139.
(3) . 10: 141. والزيادة منه.
(4) . «سيرة ابن هشام» 2: 518.
(5) . والطبري (17086) 10: 146، والأثر لم أجده في «المستدرك» .
(6) . التصويب من «سيرة ابن هشام» 2: 518.
(7) . والتصويب من «الدر المنثور» و «تفسير الطبري» 10: 146.(3/257)
وأبو ليلى: عبد الرحمن بن كعب، وسلمان بن صخر، وأبو عبلة: عبد الرحمن بن زيد «1» ، وعمرو بن غنمة «2» ، وعبد الله بن عمرو المزني، أخرجه ابن جرير «3» .
وسمّي منهم: علبة بن زيد الحارثي «4» في أثر عند ابن مردويه.
وثعلبة بن زيد الأنصاري من بني حرام في أثر في «تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي» .
29- وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 99] .
قال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة. أخرجه ابن أبي حاتم.
وكانوا عشرة فيما أخرجه ابن جرير «5» .
30- وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [الآية 100] .
قال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيّب: هم الذين صلّوا القبلتين.
وقال الشّعبي: هم أهل بيعة الرضوان.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب، وعطاء بن يسار: هم أهل بدر.
وقال الحسن: هم من أسلم قبل الفتح.
أخرجهما سنيد «6» .
31- وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ [الآية 101] .
قال مولى ابن عباس: هم جهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، أخرجه ابن المنذر.
32- وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [الآية 102] .
قال ابن عباس: هم سبعة، أبو لبابة وأصحابه.
__________
(1) . وقع في «الطبري» ط شاكر: يزيد.
(2) . التصويب من «الطبري» .
(3) . 10: 146.
(4) . التصويب من «الدر المنثور» .
(5) . 11: 5 عن عبد الله بن مغفل.
(6) . سنيد بن داود: صاحب «التفسير» ، ضعّفه المحدثون على الرغم من إمامته ومعرفته، توفي سنة (226) هـ. انظر لتخريج الآثار «تفسير الطبري» 11: 6.(3/258)
وقال زيد بن أسلم: ثمانية، منهم:
أبو لبابة، وكردم، ومرداس.
وقال قتادة: سبعة من الأنصار، منهم: جد بن قيس، وأبو لبابة، وجذام، وأوس.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
33- وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [الآية 106] .
قال مجاهد: هم هلال بن أميّة، ومرارة، وكعب بن مالك.
أخرجه ابن أبي حاتم.
34- وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً [الآية 107] .
هم أناس من الأنصار.
35- لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 107] .
هو أبو «1» عامر الراهب. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج من وجه آخر عنه، قال: هم رجال من الأنصار، منهم: بخزج «2» :
جدّ عبد الله بن حنيف، ووديعة بن خذام، ومجمّع بن جارية الأنصاري.
وأخرج عن سعيد بن جبير قال: هم حي، يقال لهم: بنو غنم.
وقال ابن إسحاق: الذين بنوا [مسجد الضرار] اثنا عشر رجلا:
خذام «3» بن خالد، من بني «4» عبيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، [ومن
__________
(1) . المثبت من «تفسير الطبري» ، و «تفسير ابن كثير» 2: 387.
(2) . هو اسم، كما في «تاج العروس» مادة (بحزج) 5: 412 ط الكويت. وفي النسخ المطبوعة: «مجدح» ، وفي «سيرة ابن هشام» 2: 530، «بحزج» وفي «تفسير الطبري» 11: 18 «بخدج» ، وكذا في «المحبر» : 470، وكذا ضبطت في «تاج العروس» وفيه أنه اسم شاعر. وفي «تفسير الطبري» ط دار المعارف 14: 471 علق عليها الأستاذ شاكر قائلا «ما أدري قوله «جد عبد الله بن حنيف» ولست أدري أهو من كلام ابن عباس- راوي الخبر- أو من كلام غيره- من رجال السند- وإن كنت أرجّح أنه من كلام غيره، لأني لم أجد في الصحابة ولا التابعين «عبد الله بن حنيف» ، وجدّه «بحزج» ، والمذكور في المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار: «عباد بن حنيف» ، وأخو «سهل بن حنيف» . فأخشى أن يكون سقط من الخبر شيء، فاختلط الكلام. وفي نسب «سهل بن حنيف» ، و «عمرو، وهو بحزج بن حنش بن عوف بن عمرو» (انظر «طبقات ابن سعد» 3: 2: 39، ثم 5: 59، و «جمهرة الأنساب» لابن حزم: 316) ولكن هذا قديم جدا في الجاهلية، وهو بلا شك غير «بحزج» ، الذي كان من أمره ما كان في مسجد الضرار» . [.....]
(3) . في سائر الأصول: «جذام» والمثبت من «تفسير الطبري» بتحقيق شاكر.
(4) . الطبري 11: 23 ط الحلبي: «خالد بن عبيد» ، والمثبت من «تفسير الطبري» ط شاكر.(3/259)
داره أخرج مسجد الشقاق] «1» وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتّب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف وجارية بن عامر، وابناه: مجمّع بن جارية، وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث، وهو من بني ضبيعة، وبحدج، وهو من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية [ابن زيد] «2» رهط أبي لبابة بن عبد المنذر «3» .
36- لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [الآية 108] .
أخرج مسلم «4» عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أنه: المسجد النبويّ.
وأخرجه أحمد «5» عن أبيّ بن كعب، وسهل بن سعد مرفوعا، وأخرجه ابن جرير عن ابن عمر وزيد بن ثابت، وأبي سعيد موقوفا.
وأخرج عن ابن عباس أنه: مسجد قباء «6» .
__________
(1) . زيادة من «الطبري» و «سيرة ابن هشام» .
(2) . زيادة من «سيرة ابن هشام» .
(3) . انظر «سيرة ابن هشام» 2: 530.
(4) . برقم (1398) 3: 542 «شرح النووي» في أواخر الحج، وأحمد في «المسند» ، والطبري في «تفسيره» 11:
21، والحاكم في «المستدرك» 2: 334، ونص الحديث كما في «صحيح مسلم» : «حميد الخراط، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال: قلت له كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسّس على التقوى قال: قال أبي: دخلت على رسول الله (ص) في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟. قال، فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة.
قال النووي في «شرح صحيح مسلم» : «هذا نصّ بأنه المسجد الذي أسّس على التقوى المذكور في القرآن، وردّ لما يقول بعض المفسرين أنه مسجد قباء، وأمّا أخذه (ص) الحصباء، وهي الحصى الصغار وضربها في الأرض، فالمراد به المبالغة في الإيضاح، لبيان أنه مسجد المدينة» .
وقال الحافظ بن كثير في «تفسيره» 3: 486 في موضع من تفسير سورة الأحزاب: «إنّ الآية، إنّما نزلت في مسجد قباء، كما ورد في الأحاديث الأخر لكن إذا كان ذاك أسّس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله (ص) أولى بتسميته بذلك، والله أعلم» .
(5) . «مسند أحمد» 5: 116.
(6) . قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 14: 479 ط شاكر: «وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال هو مسجد الرسول (ص) لصحة الخبر بذلك عن رسول الله» .(3/260)
37- فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [الآية 108] .
هم بنو عمرو بن عوف من الأنصار، منهم: عويم بن ساعدة.
قال ابن جرير «1» : لم يبلغنا أنه سمّي منهم غيره.
38- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [الآية 118] .
هم هلال، ومرارة، وكعب «2» .
39- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) .
قال ابن عمر: مع محمد (ص) ، وأصحابه.
وقال الضّحّاك: مع أبي بكر، وعمر، وأصحابهما.
وقال السّدّي: مع هلال، ومرارة، وكعب.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
40- قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [الآية 123] .
قال الحسن: يعني [الرّوم، و] «3» الدّيلم. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . 9: 127، والحديث نحوه عن ابن خزيمة في «صحيحه» برقم (83) وفي هامشه: «إسناده ضعيف» . وله شاهد في «المستدرك» 1: 155، وانظر: «الفتح الربّاني» 1: 284، ورواه الطبراني في المعاجم الثلاثة، كما في «مجمع الزوائد» 1: 212 وقال: «رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، وفيه شرحبيل بن سعد، ضعّفه مالك وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابن حبان» .
(2) . انظر هذا الكتاب الآية (106) من سورة التوبة (براءة) وانظر «صحيح البخاري» كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك رقم (4418) .
(3) . زيادة من «الدرّ المنثور» 3: 293.(3/261)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التوبة» »
1- وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) .
قوله تعالى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، أي: لم يعاونوا عدوّا لكم.
أقول: والمظاهرة: المعاونة، والتظاهر التعاون.
وقال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ [التحريم: 4] ، أي تعاونا، والظهير العون.
وقوله تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ [البقرة: 85] ، أي تتعاونون.
وقوله تعالى: وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ [الممتحنة: 9] ، أي: عاونوا.
واستظهر عليه بالأمر: استعان.
وفي حديث علي رضي الله عنه، يستظهر بحجج الله وبنعمته على كتابه.
أقول: وقد اجتهد المعاصرون في إثبات «التظاهرة» ، و «المظاهرة» ، لتكون مؤدية لما هو في اللغات الغربية الحديثة أو: لأن الفعل في هذين الاسمين الأعجميين يعني في العربية، «أظهر، وأبان، وأعلن» فكانت «التظاهرة» أو «المظاهرة» في العربية الجديدة يقابلون بها الكلمتين الأعجميتين.
وهذا يعني، أن هذين المولّدين
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(3/263)
الجديدين، ليس فيهما من فكرة «التعاون» ، التي هي في «تظاهر» و «ظاهر» .
2- وقال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ [الآية 5] .
المراد بقوله تعالى: وَخُذُوهُمْ:
وأسروهم، والأخيذ: الأسير.
أقول: وهذا من معاني الفعل «أخذ» ، الذي ينصرف إلى عدة معان.
3- وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [الآية 8] .
قوله تعالى: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ، أي: يغلبوكم، أقول، ولم يكن لهذا الفعل معنى الغلبة والفوز إلا بمجيء (عليكم) بعده، فاستعمال «على» يشعر بهذا.
وقوله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا، أي: لا يراعوا حلفا، وقيل:
قرابة، وأنشد لحسّان:
لعمرك إنّ إلّك من قريش ... كإلّ السّقب من رأل النّعام
وقيل: إنه بمعنى «الإله» ، وقرئ «إيلا» وهو بمعناه.
أقول: إن «الإلّ» مضاعفا، و «الإيل» بالمدّ، والإله بمعنى، وكلّه واحد في الأصل، وهو من المواد القديمة في مجموعة اللغات السامية. وقد كنا أشرنا إلى هذه المادة في آية سابقة.
4- وقال تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [الآية 16] .
ووليجة الرجل: بطانته وخاصّته ودخلته، وقال أبو عبيدة: الوليجة البطانة، وهي مأخوذة من ولج يلج ولوجا ولجة إذا دخل، أي: ولم يتّخذوا بينهم وبين الكافرين، دخيلة مودّة.
5- وقال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الآية 26] .
وقالوا: المعنى: رحمته التي سكنوا بها، وآمنوا.
أقول: والسكينة من كلم القرآن الخاصّ، بمعنى اختصّ به، وهي بهذا المعنى في ثلاث آيات، ومنها أيضا:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [الآية 40] .
والسكينة: الوداعة والوقار، وقوله،(3/264)
عز وجل: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ [البقرة: 248] .
قال الزجاج: معناه فيه ما تسكنون به، إذا أتاكم.
وفي الحديث: نزلت عليهم السكينة، تحملها الملائكة، أي:
الرحمة.
6- وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [الآية 30] .
المضاهاة مشاكلة الشيء بالشيء، وقد يهمز «ضاهأ» ، ومنه القراءة المشهورة، في الآية التي وقفنا عليها.
وضاهيت الرجل: شاكلته وعارضته، وفلان ضهيّ فلان، أي: نظيره وشبيهه.
وقد استعملت المضاهاة بمعنى المعارضة والمماثلة في الأدب، ومن ذلك «مضاهاة كليلة ودمنة» لابن الهبّارية، أي: أن الشاعر نظم الحكايات نظما.
ومن الحقّ، أن نلاحظ أنّ «المهموز» في العربية تسهّل همزته غالبا، فيتحوّل الهمز إلى مدّ، نحو أومأ وأومى، وربأ وربا وغير ذلك.
7- وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] .
النسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون، شقّ عليهم ترك المحاربة، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهرا آخر، حتّى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ [الآية 37] ، أي:
ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فجعلوها ثلاثة عشر، أو أربعة عشر ليتّسع لهم الوقت. ولذلك قال عزّ وعلا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [الآية 36] .
أقول:
ونسأ الشيء: ينسأه نساء وأنسأه:
أخّره، والاسم النّسيئة والنّسيء ونسأ الله في أجله، وأنسأ أجله: أخّره.(3/265)
وفي الحديث عن أنس بن مالك:
من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ في أجله، فليصل رحمه.
والنّسء: التأخير يكون في العمر والدّين.
ومن هذه الدلالة اللغوية، أي:
التأخير، أخذ العرب الجاهليون مادة «النسيء» ، فصارت من رسومهم ومصطلحهم، وإليها أشارت الآية الكريمة.
8- وقال تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [الآية 42] .
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر، أي: لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال، و «سفرا قاصدا» أي: وسطا مقاربا.
أقول في قوله تعالى: وَسَفَراً قاصِداً لا أرى أن المراد به «الوسط المقارب» ، إذ لا يمكن أن يأتلف مع «العرض القريب» ، الذي يسبقه في الآية، ولكني أرى أن يكون «السفر القاصد» هو ما يعبّر عنه في اللغة المعاصرة ب «السفر المباشر» ، وسنأتي إلى المباشر بعد هذا.
ألا ترى أنه قال: إنهم سيتبعونك لو دعوتهم الى مغنم قريب من عرض الدنيا، وسفر مباشر (يريد أقرب منه) ، ولهرعوا إليك؟
أقول: لو أن المعاصرين أطالوا النظر في كلمات الله، لرأوا فيها ما يسدّ حاجاتهم اللغوية، وما يضطربون فيه من مصطلح حديث.
إنهم قالوا: سفر مباشر، وبداية مباشرة، وطريقة مباشرة، كما قالوا سفر غير مباشر، وبداية غير مباشرة، وطريقة غير مباشرة، ويريدون بالنمط الأول ما يشرع فيه على الفور أو في الحال، وبالنمط الثاني ما لا يشرع فيه في الحال، بل يتمهّل فيه ويتريّث.
ولا أدري كيف فهموا «المباشرة» على هذا النحو، ذلك بأن فصيح «المباشرة» أن تلي الأمر بنفسك.
وعلى كل حال لا نستطيع أن نحمل وصف الشيء ب «المباشر» في عربيتنا المعاصرة على الخطأ، ولكننا، نقول:
إنها لغة جديدة مولّدة، أدّى إليها التطور في الدلالة، وهذا شيء يعرض لجميع اللغات، فقد تتغيّر المعاني، فيظهر جديد، ويختفي قديم.(3/266)
9- وقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [الآية 47] .
الخبال: الفساد والشر.
والخبل والخبل والخبل والخبال:
الجنون، ويقال به خبال، أي: مسّ.
وهذا هو المعروف المشهور، ممّا بقي من الكلمة في اللغة المعاصرة.
وأما الخبال بمعنى الفساد والشر، كما في الآية فنظيره قوله تعالى:
لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: 118] .
قال الزجاج: هو الفساد وذهاب الشيء، وأنشد بيت أوس:
أبني لبينى لستم بيد ... إلا يدا مخبولة العضد
وقوله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، بمعنى ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم، وإفساد ذات البين.
وقال الفرّاء: الإيضاع السّير بين القوم.
والأصل من قول العرب: أوضع الراكب ووضعت الناقة، وهو السير والعدو، فكأنّ الآية: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، تلمح الى هذا الأصل، لأنّ الموضع يسعى بالإفساد، ففي الكلمة «سعي» بمعنى السير والعدو.
10- وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [الآية 61] .
الأذن: الرجل الذي يصدّق كلّ ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمّي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنّ جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة «عين» . وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه «هو أذن» .
وأذن خير كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك.
أقول: واستعارة الأذن لهذا النوع من المعاني الشريفة، ما زال معروفا في العربية المعاصرة، فيقال: هو أذن صاغية، أي: مطيع، ولكن هذه «الأذن الصاغية» تكون في الخير والشر على السواء.
11- وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الآية 63] .(3/267)
المحادّة: المخالفة ومنع ما يجب عليك، والمعاداة والمنازعة وهي مفاعلة من الحدّ، وحادّ يحادّ. وقد فكّ الإدغام في الآية، وحقه أيضا ألا يفكّ، لغرض صوتي، لأن الفعل مجزوم، وينبغي تحريكه بالكسر لمكان سكون اللام بعده.
12- وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ [الآية 79] .
أي: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ، أي: المتطوعين المتبرعين.
والمطوّعة: الذين يتطوّعون للجهاد، أدغمت التاء في الطاء، كما في وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً [البقرة: 83] وهو التفعّل من الطاعة.
13- وقال تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ [الآية 83] .
أقول: الفعل «رجع» في هذه الآية متعدّ، والكاف هي المفعول به، فكما يكون «رجع» لازما كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) [البقرة] .
وقد جاء الفعل لازما في طائفة كبيرة من الآيات، أمّا مجيئه متعدّيا، فهو قليل، منه الآية التي أثبتناها، وقوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ [طه: 40] وفي ست آيات أخرى.
أقول: وليس في العربية المعاصرة إلا الفعل اللازم، فإذا أريد المتعدي صير إلى المزيد بالهمزة «أرجع» .
14- وقال تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [الآية 90] .
المعذّرون: هم الذين لا عذر لهم، ولكن يتكلّفون عذرا وأما المعذرون فهم الذين لهم عذر. وقرأها ابن عباس ساكنة العين، وكان يقول: والله لكذا أنزلت.
وذهب إلى أن المعذرين الذين لهم عذر، والمعذرين الذين يعتذرون بلا عذر، كأنهم المقصّرون الذين لا عذر لهم فكأن الأمر عنده أن المعذّر بالتشديد، هو المظهر للعذر اعتلالا من غير حقيقة له في العذر، وهو لا عذر له، والمعذر الذي له عذر.
والمعذّر الذي ليس بمحقّ على جهة المفعّل، وهو في الأصل(3/268)
المعتذر، فأدغمت التاء في الذال، لقرب المخرجين.
15- وقال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [الآية 101] .
قوله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، أي: تمهّروا فيه، وهو من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضري، حتى لان عليه، ومهر فيه.
أقول: ودلالة «مرد» على المرانة والتمهّر، من لغة التنزيل العزيز، التي لا نجدها في غير هذه الآية الكريمة.(3/269)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التوبة» «1»
قال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 3] أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الآية 3] أي: بأنّ الله بريء ورسوله كذلك وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ [الآية 2] أي: بأن الله.
وقال: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [الآية 5] فجمع السياق على أدنى العدد لأنّ معناها «الأربعة» وذلك أن «الأشهر» إنّما تكون إذا ذكرت معها «الثلاثة» الى «العشرة» فإذا لم تذكر «الثلاثة» الى «العشرة» فهي «الشّهور» .
وقال تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [الآية 5] وألقى السياق «على» ، قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون] :
نغالي اللّحم للأضياف نيئا ... ونبذله إذا نضج القدور
أراد: نغالي باللحم «2» .
وقال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [الآية 6] فابتدأ بعد «إن» ، وأن يكون رفع أحد على فعل مضمر أقيس الوجهين، لأنّ حروف المجازاة لا يبتدأ بعدها. إلّا أنهم قد قالوا ذلك في (أن) لتمكّنها وحسنها إذا وليتها الأسماء، وليس بعدها فعل مجزوم في اللفظ، كما قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة] :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . قد نقل رأي الأخفش، في زاد المسير 3: 398. [.....](3/271)
عاود هراة وأن معمورها خربا «1» .
وقال «2» الاخر [من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائتين] :
لا تجزعي أن منفسا أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وقد زعموا أن قول الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائتين] :
أتجزع أن نفس أتاها حمامها ... فهلّا الّتي عن بين جنبيك تدفع «4»
لا ينشد إلا رفعا، وقد سقط الفعل على شيء من سببه. وهذا قد ابتدئ بعد «أن» وان شئت جعلته رفعا بفعل مضمر.
وقال تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ [الآية 7] فهذا استثناء خارج من أول الكلام. والَّذِينَ في موضع نصب.
وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ [الآية 8] فأضمر «كيف لا تقتلونهم» والله أعلم «5» .
وقال تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ [الآية 13] لأنك تقول «هممت بكذا» و «أهمّني كذا» .
وقال تعالى: فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ [الآية 25] لا تنصرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف، وبعد الألف حرف ثقيل، أو اثنان خفيفان فصاعدا، فهو لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة، نحو «محاريب» و «تماثيل» و «مساجد» وأشباه ذلك، إلّا أن يكون في آخره الهاء، فإن كانت في آخره الهاء انصرف في النكرة نحو «طيالسة» و «صياقلة» . وإنما منع العرب من صرف هذا الجمع، أنه مثال لا يكون للواحد ولا يكون إلّا للجمع والجمع أثقل من الواحد. فلما كان هذا المثال لا يكون إلّا للأثقل لم
__________
(1) . سبق الكلام على الشاهد.
(2) . هو النمر بن تولب. ديوانه 72، وتحصيل عين الذهب 1: 67.
(3) . هو زيد بن رزين «ذيل الأمالي 106 و 107، وسمط اللئالي 49 وشرح شواهد المغني 149.
(4) . في شرح شواهد المغني: «فهل أنت عمّا بين جنبيك تدفع» . وفي المحتسب 1: 281 ب «أتدفع عن» بدل «أتجزع أن» .
(5) . نقله في إعراب القرآن 2: 419.(3/272)
يصرف. وأمّا الذي في آخره الهاء، فانصرف لأنّها منفصلة كأنّها اسم على حيالها. والانصراف إنّما يقع في آخر الاسم فوقع على الهاء، فلذلك انصرف فشبه ب «حضرموت» ، و «حضرموت» مصروف في النكرة.
وقال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [الآية 28] وهو «الفقر» ، تقول: «عال» «يعيل» «عيلة» أي: «افتقر» . و «أعال» «إعالة» : إذا صار صاحب عيال «1» .
و «عال عياله» و «هو يعولهم» «عولا» و «عيالة» . وقال سبحانه: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) أي: ألّا تعولوا العيال.
و «أعال الرجل» «يعيل» إذا صار ذا عيال «2» .
وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [الآية 30] وقد طرح بعضهم التنوين، وذلك رديء، لأنه إنّما يترك التنوين، إذا كان الاسم يستغني عن الابن، وكان ينسب الى اسم معروف.
فالاسم هاهنا لا يستغني. ولو قلت «وقالت اليهود عزير» لم يتمّ كلاما إلّا أنه قد قرئ وكثر وبه نقرأ على الحكاية «3» كأنهم أرادوا «وقالت اليهود نبيّنا عزير ابن الله» .
وقال تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [الآية 32] لأن أَنْ يُتِمَّ اسم كأنه «يأبى الله إلّا إتمام نوره» .
وقال تعالى: يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [الآية 34] ثم قال: يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ [الآية 35] فجعل الكلام على الاخر. وقال الشاعر «4» [من المنسرح وهو الشاهد الستون] :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقال تعالى:
__________
(1) . نقله في الصحاح «عيل» ، وزاد المسير 3: 417 و 418.
(2) . نقله في اللسان «عيل» .
(3) . القراءة بالتنوين، نسبت في معاني القرآن، إلى الثقات وفي الطبري 14: 204 إلى بعض المكيين والكوفيين وفي السبعة 313 إلى عاصم والكسائي، والى ابن عمرو في رواية وفي الكشف 1: 501، والتيسير 118، والجامع 8: 116، والبحر 5: 31 اقتصر على عاصم والكسائي. أمّا القراءة بلا تنوين، فنسبت في معاني القرآن 1: 431 إلى الثقات وفي الطبري 14: 205 إلى عامة قراء أهل المدينة، وبعض المكّيين والكوفيين وفي السبعة 313 الى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة وفي الجامع 8: 116 أهمل حمزة وفي البحر 5: 31 الى السبعة، إلا عاصما والكسائي وفي الكشف 1: 501، والتيسير 118، الى غير عاصم والكسائي.
(4) . سبق الكلام على القائل والقول.(3/273)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] وهو التأخير.
وتقول «أنسأته الدّين» إذا جعلته إليه يؤخّره هو. و: «نسأت عنه دينه» أي:
أخّرته عنه. وإنّما قلت: «أنسأته الدّين» لأنّك تقول: «جعلته له يؤخّره» و «نسأت عنه دينه» «فأنا أنسّئه» أي: أؤخّره.
وكذلك «النّساء في العمر» يقال: «من سرّه النّساء في العمر» «1» ، ويقال «عرق النّسا» غير مهموز.
وقال تعالى: لِيُواطِؤُا [الآية 37] لأنّها من «واطأ» ومثله (هي أشدّ وطاء) «2» أي: مواطأة، وهي المواتاة وبعضهم قرأ «وطا» «3» أي: قياما.
وقال تعالى: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [الآية 38] لأنّه من «تثاقلتم» ، فأدغمت التاء في الثاء، فسكنت، فأحدث لها ألفا، ليصل إلى الكلام بها.
وقال تعالى: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [الآية 40] لأنه لم يحمله على (جعل) وحمله على الابتداء.
وقال تعالى: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ [الآية 46] جعل من «بعثته» ف «انبعث» وسمعت من العرب، من يقول: «لو دعينا لاندعينا» . وتقول:
«انبعث انبعاثا» أي: «بعثته» ف «انبعث انبعاثا» وتقول: «انقطع به» إذا تكلّم، فانقطع به، ولا تقول «قطع به» .
وقال تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [الآية 41] في هذه الحال، إن شئت قرأت «انفروا» في لغة من قال «ينفر» وان شئت (انفروا) .
وقال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [الآية 43] لأنّه استفهام، أي: «لأيّ شيء» .
وقال تعالى: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا [الآية 57] لأنه من
__________
(1) . نقله في الصحاح «نسأ» وفيه «من سرّه النّساء ولا نساء فليخفّف الرّداء، وليباكر الغداء، وليقلّ غشيان النّساء، وكذلك جاء القول في اللسان، والتاج «نسأ» مسبوقا بقولهم «قال فقيه العرب» .
(2) . المزمل 73: 6، وهي قراءة نسبت في الطبري 29: 129 الى بعض قراء البصرة، ومكة، والشام، في السبعة 658، والكشف 2: 244، والتيسير 216، الى أبي عمرو وابن عامر وفي الجامع 19: 40 زاد أبا العالية، وابن أبي إسحاق، ومجاهدا، وحميدا، وابن محيصن، والمغيرة، وأبا حياة، واختارها أبو عبيد.
(3) . نسبت في الطبري 29: 129 الى عامة قراء مكة، والمدينة، والكوفة وفي السبعة 658 الى ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وفي الكشف 2: 344، والتيسير 216، الى غير أبي عمرو، وابن عامر وفي الجامع 19: 40 الى غير من أخذ بالقراءة الأخرى. وعلى هذه القراءة رسم المصحف.(3/274)
«ادّخل» «يدّخل» «1» وقال بعضهم:
(مدخلا) «2» جعله من «دخل» «يدخل» وهي فيما أعلم أردأ الوجهين.
ويذكرون أنها في قراءة أبيّ «3» (مندخلا) «4» أراد شيئا بعد شيء. وإنما قرئت (مغارات) «5» لأنها من «أغار» فالمكان «مغار» «6» قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائة] :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا
لأنّها من «أمسى» و «أصبح» ، وإذا وقفت على «ملجأ» قلت «ملجئا» لأنه نصب منوّن، فتقف بالألف، نحو قولك «رأيت زيدا» .
وقال تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ [الآية 40] وكذلك ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] وهو كلام العرب. وقد يجوز «ثاني واحد» و «ثالث اثنين» وفي كتاب الله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7] وقال ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] وخَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] وسَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] .
وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ [الآية 58] «7» وقرأ بعضهم: (يلمزك) «8» .
وقال تعالى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [الآية 61] أي: هو أذن خير لا أذن شرّ «9» . وقرأ بعضهم (أذن خير
__________
(1) . في الجامع 8: 165، والبحر 5: 55 نسبت هذه القراءة إلى الجمهور.
(2) . في الشواذ 53، نسبت هذه القراءة الى عبد الله بن مسلم وفي الجامع 8: 165 الى الحسن، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن وزاد في البحر 5: 55 سلمة بن محارب، ويعقوب، وابن كثير، بخلاف عنه. [.....]
(3) . هو أبيّ بن كعب. ترجمته في طبقات الذهبي 1: 32، وطبقات ابن الخياط 301، وتعريب التهذيب 1: 43.
(4) . نسبت هذه القراءة الى أبيّ في الشواذ 53، والمحتسب 295، والجامع 8: 165، والبحر 5: 55.
(5) . في الشواذ 53، نسبت هذه القراءة الى عبد الرحمن بن عوف، وفي البحر 5: 55، الى سعد بن عبد الرحمن بن عوف.
(6) . نقله في إعراب القرآن 2: 432، والجامع 8: 165.
(7) . في السبعة 315 نسبت الى كل القراء، وفي البحر 5: 56 نسبت الى الجمهور.
(8) . في السبعة 315، نسبت الى ابن كثير وأهل مكة وفي الشواذ 53، الى الحسن وابن كثير وفي البحر 5: 56 زاد يعقوب وحماد بن سلمة، عن ابن كثير وأبا رجاء، وهي قراءة المكّيّين، ورويت عن أبي عمرو.
(9) . القراءة بالإضافة، هي في الطبري 14: 325 الى عامة قراء الأمصار وفي حجّة ابن خالويه 151 الى القراء جميعا، عدا نافعا.(3/275)
لكم) «1» والاولى أحسنهما، لأنك لو قلت «هو أذن خير لكم» لم يكن في حسن هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ وهذا جائز على ان تجعل (لكم) صفة «الأذن» .
وقال تعالى: وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [الآية 61] أي: وهو رحمة.
وقرأ بعضهم قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ [الآية 63] . بكسر الألف، لأنّ الفاء التي هي جواب المجازاة، ما بعدها مستأنف «2» .
وقال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [الآية 62] و «سيحلفون بالله لكم ليرضوكم» «3» ولا أعلمه إلّا على قوله «ليرضنّكم» كما قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائتين] :
إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عنّي ذا أنائك أجمعا «5»
أي: لتغنينّ عني. وهو نحو وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام: 113] أي: ولتصغينّ.
وقال تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [الآية 81] أي: مخالفة. وقرأ بعضهم (خلف) «6»
__________
(1) . القراءة بتنوين «أذن» في الطبري 14: 325، نسبت الى الحسن البصري، وفي حجّة ابن خالويه 151، الى نافع وحده وفي الجامع 8: 192، الى الحسن وعاصم في رواية أبي بكر وفي البحر 5: 62 الى الحسن، ومجاهد، وزيد بن علي، وأبي بكر، عن عاصم.
(2) . نقله في المشكل 1: 333، وإعراب القرآن 2: 434 و 435، والجامع 8: 195، وفي البحر 5: 65 أشرك معه الفراء، والهمزة في المصحف مفتوحة، وهي قراءة العامة، القرطبي 8: 195.
(3) . لا توجد في المصحف الكريم آية بهذا المنطوق، وإنّما فيه: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ [الآية 42] وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [الآية 95] ويَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [الآية 96] .
(4) . هو حريث بن عناب الطائي، شرح الأبيات للفارقي 187 وشرح شواهد المغني 190، والخزانة 4: 580 والمقاصد النحوية 1: 354 و 3: 360 والدرر اللوامع 2: 44.
(5) . في شرح المفصّل لابن يعيش 3: 8، قال بدل قلت وفي الخزانة 4: 580، ب «قال قطني» بدل «قلت قدني» ، و «لتغنن» وفي المقاصد النحوية 1: 354 و 3: 360، ب «قال بدل قلت» وفي الدرر 2: 44 ب «قيل» بدل «قلت» ، وفي شرح شواهد المغني للسيوطي 190، ب «إذا قال قدني قلت آليت» .
(6) . في الشواذ 54، والكشاف 2: 296، نسبت قراءة الى أبي حياة وفي البحر 5: 79، زاد ابن عباس، وعمرو بن ميمون.(3/276)
و (خلاف) أصوبهما، لأنّهم خالفوا مثل «قاتلوا قتالا» ولأنه مصدر «خالفوا» .
وقرأ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [الآية 90] خفيفة لأنها من «أعذروا» «1» وقرأ بعضهم الْمُعَذِّرُونَ ثقيلة يريد:
«المعتذرون» «2» . ولكنه ادغم التاء في الذال كما قال يَخِصِّمُونَ (49) [يس] وبها نقرأ. وقد يكون (المعذرون) »
بكسر العين، لاجتماع الساكنين، وإنّما فتح لأنّه حوّل فتحة التاء عليها. وقد يكون أن تضم العين تتبعها الميم «4» وهذا مثل مُرْدِفِينَ (9) [الأنفال] «5» .
وقال تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الآية 98] «6» كما تقول: «هذا رجل السّوء» وقال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائتين] :
وكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما ... بصاحبه يوما أحار على الدّم
وقد قرئت (دائرة السّوء) «8» ، وذا ضعيف لأنك إذا قلت «كانت عليهم دائرة السّوء» كان أحسن من «رجل السوء» ألا ترى أنك تقول: «كانت عليهم دائرة الهزيمة» لأنّ الرجل لا
__________
(1) . في معاني القرآن 1: 448، نسبت إلى ابن عبّاس، وكذلك في الطبري 14: 416، وأضاف في 418 أن مجاهدا وقتادة تأوّلا بها. وفي الشواذ 54، الى ابن عباس وفي الجامع 8: 224، الى الأعرج والضحّاك، ورويت عن عاصم وابن عباس وفي البحر 5: 83 و 84، الى ابن عباس، وزيد بن علي، والضحّاك، والأعرج، وأبي صالح، وعيسى بن هلال، ويعقوب، والكسائي. [.....]
(2) . وفي الطبري 14: 418، والبحر 5: 83، أنها القراءة المجمع عليها عند الجمهور وعليها رسم المصحف.
(3) . أورد في الجامع 8: 224، هذا الوجه، ولم ينسبه قراءة.
(4) . نقل هذا في إعراب القرآن 2: 439، والجامع 8: 224، والبحر 5: 83.
(5) . وفيها وردت الكلمة بلا «أل» ولا يعلم ما المقصود من التشبيه المذكور.
(6) . في معاني القرآن 1: 449، أنها قراءة أكثر القراء، وفي الطبري 14: 431 إلى عامّة قراء أهل المدينة والكوفة وفي السبعة 316، إلى نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، في رواية، وفي البحر 5:
91، إلى السبعة غير ابن كثير، وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 505، والتيسير 119، والجامع 8: 234، إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو.
(7) . هو الفرزدق. ديوانه 2: 749.
(8) . في معاني القرآن 1: 449، نسبت الى مجاهد، وفي الطبري 14: 431، الى بعض أهل الحجاز، وبعض البصريين، وفي السبعة 316، الى ابن كثير، وأبي عمرو، وابن محيصن، وفي الكشف 1: 505، والتيسير 119، والجامع 8: 234، والبحر 5: 91، اقتصر على ابن كثير، وأبي عمرو.(3/277)
يضاف إلى السّوء، كما يضاف هذا، لأنّ هذا يفسر به الخير والشر، كما نقول: «سلكت طريق الشرّ» و «تركت طريق الخير» «1» .
وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [الآية 100] «2» وقرأ بعضهم: (والأنصار) «3» رفع عطفه على وَالسَّابِقُونَ والوجه هو الجرّ، لأن السابقين الأولين كانوا من الفريقين جميعا.
وقال تعالى: هارٍ فَانْهارَ بِهِ [الآية 109] فذكروا أنه من «يهور» وهو مقلوب وأصله «هائر» ولكن قلب مثل ما قلب «شاك السّلاح» وإنما هو «شائك» .
وقال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [الآية 103] فقوله تعالى وَتُزَكِّيهِمْ بِها على الابتداء، وان شئت جعلته من صفة الصدقة، ثم جيء بها توكيدا. وكذلك تُطَهِّرُهُمْ «4» .
وقال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية 61] أي: يصدّقهم كما تقول للرجل «أنا ما يؤمن لي بأن أقول كذا وكذا» أي: ما يصدقني.
وقال تعالى: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ [الآية 108] .
أي: «منذ أوّل يوم» لأنّ من العرب من يقول «لم أره من يوم كذا» يريد «منذ أوّل يوم» يريد به «من أوّل الأيّام» كقولك «لقيت كلّ رجل» تريد به «كلّ الرّجال» «5» .
قال تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ [الآية 106] «6» (من أرجيت) «7» . وقرأ
__________
(1) . نقل في إعراب القرآن 2: 440، والجامع 8: 238.
(2) . هي في الطبري 14: 439 والبحر 14: 92 قراءة العامة والجمهور.
(3) . في معاني القرآن 1: 450، الى الحسن البصري وكذلك في الطبري 14: 439 وفي الشواذ 54، الى عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، ويعقوب بن طلحة وفي المحتسب 1: 300، زاد سلاما، وسعيد بن سعد، وعيسى الكوفي. وزاد في البحر 5: 92، طلحة واقتصر في الجامع 8: 235، على عمر بن الخطاب.
(4) . نقله في إعراب القرآن 1: 441.
(5) . نقله في الصحاح «يوم» .
(6) . في الطبري 14: 464، أنّ القراءة قرأت بها ولم يعيّن، وفي الكشّاف 1: 506، إلى نافع، وحفص، وحمزة، والكسائي وفي البحر 5: 97، زاد الحسن، وطلحة، وأبي جعفر، وابن نصاح، والأعرج وفي التيسير 119، إلى غير ابن كثير، وأبي عمرو، وأبي بكر، وابن عامر واقتصر في الجامع 8: 252، على الكسائي وحمزة.
(7) . هي لغة أهل الحجاز، حملا على طبيعتهم في ترك الهمز اللهجات العربية 254 وما بعدها. [.....](3/278)
بعضهم: (وآخرون مرجئون) من «أرجأت» «1» .
وقال بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ [الآية 110] «2» و (تقطّع) «3» في قول بعضهم وكل حسن.
وقال تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [الآية 112] إلى رأس الآية ثم فسر وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) لأنّ قوله سبحانه- والله أعلم- التَّائِبُونَ إنّما هو تفسير لقوله جلّ وعلا إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [الآية 111] ثم فسّر فقال «هم التّائبون» .
ثم قال تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [الآية 113] أي «وما كان لهم استغفار للمشركين» وقال وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] . أي ما كان لها الايمان إلّا بإذن الله.
وقال: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [الآية 114] يريد «إلّا من بعد موعدة» كما تقول: «ما كان هذا الشرّ إلّا عن قول كان بينكما» أي: عن ذلك صار.
وقال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ [الآية 117] «4» وقرأ بعضهم: (تزيغ) «5» جعل السياق في
__________
(1) . في الطبري 14: 464، مثل ما قال في السّابقة وفي الكشف 1: 506، إلى غير نافع، وحفص، وحمزة، والكسائي وفي البحر 5: 97، الى من لم يأخذ بالأخرى من السبعة وفي التيسير 119 الى ابن كثير، وأبي بكر، وأبي عمرو، وابن عامر.
(2) . في الطبري 14: 498، الى بعض قراء المدينة، والكوفة وفي السبعة 319، إلى ابن عامر، وحمزة، والى عاصم في رواية وفي الكشف 1: 508، والتيسير 120، والبحر 5: 101، أهمل عاصما وزاد في الجامع 8:
266، يعقوب.
(3) . قراءة نسبت في الطبري 14: 497، الى بعض قراء الحجاز، والمدينة، والبصرة، والكوفة وفي السبعة 319، إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، والكسائي، وإلى عاصم، في رواية وفي الكشف 1: 508، والتيسير 120، الى غير ابن عامر، وحفص، وحمزة وفي البحر 5: 101، الى غير من أخذ بالأخرى من السبعة وفي الجامع 8: 266، إلى الجمهور.
(4) . القراءة بالياء، نسبت في السبعة 319، إلى حمزة، وحفص، عن عاصم وفي التيسير 120، والبحر 5: 109، إلى حفص، وحمزة وزاد في الجامع 8: 280، الأعمش. وعليها رسم المصحف.
(5) . نسبت في السبعة 319، إلى غير حمزة، وإلى عاصم في رواية، قرأ بها أبو بكر واقتصر في التيسير 120، والبحر 5: 109، على نسبتها إلى غير حمزة وحفص.(3/279)
(كاد) و (كادت) اسما مضمرا، ورفع القلوب على (يزيغ) ، وان شئت رفعتها على (كاد) وجعلت (يزيغ) حالا، وإن شئت جعلته مشبها ب «كان» فأضمرت في (كاد) اسما، وجعلت يَزِيغُ قُلُوبُ في موضع الخبر.
وقال تعالى وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ [الآية 118] وهي هكذا إذا وقفت عليها، ولا تقول (ملجئا) لأنه ليس هاهنا نون.
ألا ترى أنك لو وقفت على «لا خوف» لم تلحق ألفا. وأمّا «لو يجدون ملجأ» فالوقف عليه بالألف، لأن النصب فيه منوّن.
وقال تعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [الآية 123] «1» وبها نقرأ، وقرأ بعضهم (غلظة) «2» وهما لغتان «3» .
وقال تعالى: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [الآية 124] «4» ف «أيّ» مرفوع بالابتداء، لسقوط الفعل على الهاء، فان قلت: «ألا تضمر في أوّله فعلا» كما في قوله تعالى أَبَشَراً مِنَّا واحِداً [القمر:
24] فلأن قبل «بشر» حرف استفهام وهو أولى بالفعل و (أيّ) استغني به عن حرف الاستفهام فلم يقع قبله شيء هو أولى بالفعل فصارت مثل قولك «زيد ضربته» . ومن نصب «زيدا ضربته» في الخبر نصب «أيّ» هاهنا «5» .
وقال تعالى: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الآية 127] .
كأنه قال: «قال بعضهم لبعض» لأنّ نظرهم في هذا المكان، كان إيماء أو شبيها به، والله أعلم.
وقال تعالى:
__________
(1) . في السبعة 320، هي قراءة غير عاصم.
(2) . في الشواذ 55، هي قراءة أبان بن عثمان وفي البحر 5: 115، زاد أبا حياة، والسلمي، وابن أبي عبلة، والمفضّل.
(3) . في البحر، كما سبق، والجامع 8: 298، أن كسر الفاء لغة أسد وزاد في الأخير، أنها لغة لأهل الحجاز، وأنّ ضمّها لغة تميم.
(4) . ضم «أي» في البحر 5: 115 قراءة الجمهور.
(5) . في البحر 5: 116، أنّها قراءة زيد بن علي، وعبيد بن عمير واقتصر في الكشاف 2: 324، على عبيد بن عمير.(3/280)
عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [الآية 128] بجعل (ما) اسما وعَنِتُّمْ من صلته.
وقال تعالى خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [الآية 102] فيجوز في العربية أن تكون «باخر» كما تقول: «استوى الماء والخشبة» أي:
«بالخشبة» و «خلطت الماء والّلبن» أي «باللّبن» .(3/281)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التوبة» «1»
إن قيل: لأي سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة، بخلاف سائر السور؟
قلنا: لمّا تشابهت، هي والأنفال، واختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة، تركت بينهما فرجة، عملا بقول من قال هما سورتان وتركت البسملة بينهما، عملا بقول من قال هما سورة واحدة. وممّن قال بذلك قتادة رحمه الله. الثاني: أن اسم الله تعالى سلام وأمان، و «براءة» فيها قتل المشركين، ومحاربتهم، فلا يناسب كتابتها.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [الآية 12] وخصّ الأمر بالقتال بأئمة الكفر، مع أنّ النكث والطّعن ليس مخصوصا بهم، بل هو مسند إلى جميع المشركين؟
قلنا المراد بأئمّة الكفر، رؤوس المشركين وقادتهم. وقيل كفّار مكة، لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر فكأنّ النكث والطعن لم يوجد إلّا منهم، لمّا كانوا هم الأصل فيه، فلذلك خصّهم بالذكر.
فإن قيل: لم قال تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [الآية 30] ونحن نسأل اليهود والنصارى عن ذلك فينكرونه ويجحدونه؟
قلنا: طائفة من اليهود، وطائفة من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرخ.(3/283)
النصارى، هم الذين يقولون ذلك لا كلّهم، فالألف واللام للعهد، لا للجنس، ولا للاستغراق، أو أطلق اسم الكل وأريد البعض، كما قال تعالى:
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [آل عمران:
45] وإنّما قال لها جبريل وحده.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [الآية 30] وقول كل أحد، إنّما يكون بفمه.
قلنا: معناه أنه قول لا تعضده حجة أو برهان، إنما هو مجرد لفظ لا أصل له. وقيل ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم، والإنكار لقولهم، كما يقول الرجل لغيره، أنت قلت لي ذلك بلسانك.
فإن قيل: دين الحق هو من جملة الهدى، فما الحكمة في عطفه على الهدى في قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ [الآية 33] ؟
قلنا: المراد بالهدى هنا القرآن، وبدين الحق الإسلام، وهما متغايران.
الثاني أنه، وإن كان داخلا في جملة الهدى، ولكنّه خصّه بالذكر تشريفا له، وتفضيلا، كما في قوله تعالى:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] وقوله تعالى:
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] .
فإن قيل: لم قال تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الآية 33] ، ولم يقل على الأديان كلّها، مع أنه أظهره على الأديان كلها؟
قلنا: المراد بالدّين هنا اسم الجنس، واسم الجنس المعرّف باللام، يفيد معنى الجمع، كما في قولهم: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس.
فإن قيل: لم قال تعالى وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 34] والمذكور الذهب والفضة، فأعاد الضمير على أحدهما؟
قلنا: أعاد الضمير على الفضّة لأنها أقرب المذكورين، أو لأنها أكثر وجودا في أيدي الناس، فيكون كنزها أكثر ونظيره قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: 45] .
الثاني: أنه أعاد الضمير على المعنى، لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال، ونظيره قوله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] لأنّ كل طائفة مشتملة على عدد كثير، وكذا(3/284)
قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] يعني المؤمنين والكافرين. الثالث: أن العرب إذا ذكرت شيئين يشتركان في المعنى، تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما، استغناء بذكره عن ذكر الاخر، لمعرفة السامع باشتراكهما في المعنى، ومنه قول حسان بن ثابت:
إنّ شرخ الشّباب والشعر الأسود ... ما لم يعاص كان حنونا
ولم يقل ما لم يعاصيا وقول الاخر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيّار بها لغريب
ولم يقل لغريبان، ومنه قوله تعالى:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [الآية 62] وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الأنفال: 20] وليس قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة:
11] وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: 112] من هذا القبيل: لأن الإضمار جعل عن أحدهما لوجود لفظة أو، وهي لإثبات أحد المذكورين، فمن جعله نظير هذا فقد سها، إلا أن يثبت أنّ أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو وفي هاتين الآيتين لطيفة، وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة، وإن كانت أبعد، ومؤنثة أيضا لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله تعالى من اللهو، لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو، أو لأنها أكثر نفعا من اللهو، أو لأنها كانت أصلا، واللهو تبعا، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [الآية 36] وهي عند الناس أيضا كذلك في كل ملة، سواء أكانت الشهور قمرية أم شمسية؟
قلنا: الحكمة فيه، أن يعلم أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس، وابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم، وإنما هو أمر أنزله الله سبحانه، في كتبه على ألسنة رسله.
فإن قيل: لم قال تعالى فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [الآية 36] خصّ الأربعة الحرم بذلك، وظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما، الضمير في قوله تعالى(3/285)
فِيهِنَّ راجع إلى قوله سبحانه اثْنا عَشَرَ شَهْراً لا الأربعة الحرم فقط، فاندفع السؤال. الثاني: أن الضمير راجع إلى الأربعة الحرم فقط، إمّا لأنها أقرب، أو لما قاله الفراء: إن العرب تقول في العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون، وأيام خلون، فإذا جاوزت العشرة قالت خلت ومضت، للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها، وبين الكثير وهو ما زاد عليها، ولهذا قال في الاثني عشر: منها، وقال في الأربعة: فيهن. فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر، إمّا لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية، فيكون ظلم النفس فيها أقبح، ونظيره قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] وإن كان ذلك منهيّا عنه في غير الحجّ أيضا، أو لأن المراد بالظلم النسيء، وهو كان مخصوصا بها، أو قتال الكفار فيها ابتداء، أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا، وذلك كلّه مخصوص بها؟
فإن قيل: الشهر مذكّر فقياسه فيها؟
قلنا: الضمير بالهاء والنون، لا يختص بالمؤنّث، ولو اختص، فالمراد بقوله فِيهِنَّ ساعات الأشهر، وهي مؤنثة.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [الآية 36] والإنسان لا يظلم نفسه، بل يظلم غيره؟
قلنا: لا نسلّم أنه لا يظلم نفسه، قال الله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] وقال تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] . الثاني، أن معناه فلا يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [البقرة: 84] وقال تعالى فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وقال تعالى وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
[الحجرات:
11] . الثالث، أن معناه فلا تنقصوا حظ أنفسكم من الاخرة بالمعصية فإنّ من عصى، فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها، وتوجيه العقاب والذم إليها، وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] .
الرابع، أنّ كل ظالم لغيره، فهو ظالم لنفسه في الحقيقة لأن ضرر ظلمه في حق المظلوم، ينقطع عن قريب، لأنه لا يتعدى الدنيا، وضرر ظلمه في حق(3/286)
نفسه، يراه في الاخرة حيث لا ينقطع، أو يكون أشد وأدوم.
فإن قيل: قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [الآية 37] يدل على قبول الكفر للزيادة والنقصان فكذلك الإيمان الذي هو ضده، فيكون حجة للشافعي رحمة الله عليه في قوله:
الإيمان يقبل الزيادة والنقصان.
قلنا: معناه زيادة معصية في الكفر.
فإن قيل: قوله تعالى لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 44] إن كان نهيا فأين الجزم؟ وإن كان نفيا فقد وقع المنفي، لأنّ كثيرا من المؤمنين المخلصين استأذنوه في التخلّف عن الجهاد لعذر، ويعضده قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62] فقيل إن المراد به، كلّ أمر طاعة اجتمعوا عليه، كالجهاد، والجمعة، والعيد، ونحوها؟
قلنا: هو نهي بصيغة النفي، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] . الثاني:
قال ابن عباس، رضي الله عنهما، هي منسوخة بقوله تعالى لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. الثالث: أنّ المراد بقوله تعالى يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ [الآيتان 44- 45] الاستئذان في التخلّف عن الجهاد من غير عذر، وكذا المراد بالآية التي بعدها، وبقوله سبحانه: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إباحة الاستئذان في التخلّف عن الأمر الجامع لعذر، فلا نسخ لإمكان العمل بالآيتين، لأن محل الحكم مختلف، وهو وجود العذر وعدمه.
فإن قيل: لم قال تعالى وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) أخبر أنهم أمروا بالقعود، وذمهم على القعود، والتخلف عن الخروج للجهاد، والاستئذان في القعود؟
قلنا: ليس في الآية ما يدلّ على أن الله تعالى، هو الأمر لهم، فقيل الأمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة والتزيين. الثاني أنّ بعضهم أمر بعضا.
الثالث أن النبي (ص) قال لهم ذلك غضبا عليهم. الرابع أنه أمر توبيخ وتهديد من الله تعالى لهم، كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] يعضده قوله تعالى مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع(3/287)
النساء والصبيان والزّمنى «1» الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت.
فإن قيل: إذا كان الله تعالى، علم أنّ المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلّا خبالا: أي فسادا، ولأوضعوا خلالهم: أي ولأسرعوا السعي بينهم بالنمائم، فلم أمرهم سبحانه، بالخروج مع المؤمنين؟
قلنا: أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجّة، ولإظهار نفاقهم.
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) يدل على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟
قلنا: المراد بالفسق هنا، الفسق بالكفر والنفاق، لا مطلق الفسق، وذلك محبط للطاعات، ومانع من قبولها ويعضده قوله عز وجل وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [الآية 54] .
فإن قيل: لم عدل في آية الصدقات «2» عن اللام إلى «في» في المصارف الأربعة الأخيرة؟
قلنا: للتنبيه على أنهم أقوى في استحقاق الصدقة ممّن سبق ذكره لأن «في» للظرفية والوعاء، فنبه بها على أنهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مصبّا لها، لما ورد في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرّقّ أو الأسر وفي فكّ الغارمين عن الدّين من التخليص والإنقاذ وفي سبيل الله، يشمل السياق الغازي الفقير، أو المنقطع في الحجّ، والفقير البيّن الفقر وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ولا يرد المؤلّفة قلوبهم، لأن بعضهم كفّار، وبعضهم مسلمون ضعيفو النية في الإسلام، فكيف يعارض بهم من ذكرنا. أو لأن الله تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ، فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو أضعف.
فإن قيل: لم كرر: «في» في الأربعة الأخيرة ولم يكرر اللام في الأربعة الأولى؟
قلنا: للتنبيه على ترجيح استحقاق المصرفين الأخيرين على الرقاب
__________
(1) . الزّمنى: مفردها زمين، وهو الذي أصابه ضعف، لكبر سنّ، أو مطاولة علّة.
(2) . هي الآية السّتون، من سورة التوبة.(3/288)
والغارمين، من جهة أن إعادة العامل تدل على مزيد قوة تأكيد، كقولك مررت بزيد وبعمرو.
فإن قيل: لم عدّي فعل الإيمان إلى الله تعالى بالباء، وإلى المؤمنين باللام، في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية 61] ؟
قلنا: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به، فعدّاه بالباء كما يعدّى ضدّه بها، وقصد التسليم والانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به، لكونهم صادقين عنده، فعدّاه بما يعدّى به التسليم والانقياد، ويعضده قوله تعالى وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) [يوسف] وقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة: 75] ، وقوله تعالى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس: 83] وقوله تعالى أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) [الشعراء] وأمّا قوله تعالى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه: 71] فمشترك الدلالة، لأنه قال في موضع آخر قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123] وقال ابن قتيبة في الجواب عن أصل السؤال: إن الباء واللام زائدتان، والمراد بالإيمان التصديق، فمعناه يصدق الله، ويصدق المؤمنين.
فإن قيل: قوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً [الآية 63] يدلّ على تخليد أصحاب الكبائر في النار، لأن المراد بالمحادّة المخالفة والمعاداة؟
قلنا: قوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا [الآية 63] خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم، فيكون المراد به المحادّة بالكفر والنفاق، وذلك موجب للتخليد في النار.
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [الآية 64] ، وسورة القرآن، إنما تنزل على النبي (ص) لا على المنافقين؟
قلنا: معناه أن تنزل فيهم، «فعلى» هنا بمعنى «في» كما في قوله تعالى عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] وقولهم كان ذلك على عهد فلان. الثاني: أنّ الإنزال هنا بمعنى القراءة فمعناه أن تقرأ عليهم.
فإن قيل: الحذر في هذه الآية واقع(3/289)
منهم على إنزال السورة، فلم قال تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) .
قلنا: قوله تعالى مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم، بإنزال السورة وهو مناسب لقوله تعالى تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [الآية 64] الثاني: أن معناه مظهر ومبرز ما تحذرون من إنزال السورة.
فإن قيل: لم قال تعالى تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ وإنباؤهم بما في قلوبهم، تحصيل الحاصل، لأنهم عالمون به فما فائدته؟
قلنا: معناه تنبّئهم بأن أسرارهم وما كتموه من النفاق شائعة ذائعة، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم، ولا يطّلع عليه سواهم، وهذا ليس من تحصيل الحاصل.
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [الآية 67] وقال بعده وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 71] وكلمة «من» أدل على المشابهة والمجانسة، من حيث أنها تقتضي الجزئية والبعضية، فكانت بالمؤمنين أولى وأحرى، لأنّهم أشدّ تشابها، وتجانسا في الصفات والأخلاق؟
قلنا: المراد بقوله تعالى:
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضهم على دين بعض، أي على عادتهم وخلقهم بإضمار لفظة الدين أو الخلق ونحوه، لأن «من» تأتي بمعنى على، ومنه قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء: 77] وقوله تعالى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [البقرة: 226] أي: يحلفون على وطء نسائهم وهذا هو المعنى المراد في قوله عليه الصلاة والسلام «فمن رغب عن سنّتي فليس مني» وقوله عليه الصلاة والسلام «من غشّنا فليس منا» . والمراد بقوله تعالى بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أنصارهم وأعوانهم في الدّين وكل واحدة من العبارتين صالحة، للفريقين إلا أنه خصّ المنافقين بتلك العبارة، تكذيبا لهم في حلفهم السابق، في قوله تعالى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [الآية 56] وتقريرا لقوله تعالى وَما هُمْ مِنْكُمْ [الآية 56] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ [الآية 69] مع أن(3/290)
قوله تعالى فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ [الآية 69] بوضع الظاهر موضع الضمير، مغن عنه، كما قال تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [الآية 69] من غير تكرار؟
قلنا: الحكمة فيه، تصدير التشبيه بذم المشبه بهم، باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا، واشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة الباقية، وطلب الفلاح في الاخرة، وتهجين حالهم، وتقبيح صفتهم، ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبّهين بأولئك الأوّلين، كما تريد أن تنبّه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير حق، ويظلم ويفسق وأنت تفعل مثل فعله. وأمّا قوله تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [الآية 69] فإنه لمّا كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدّر بتلك المقدّمة، أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدّمة المذكورة، للتقبيح والتهجين.
فإن قيل: قوله تعالى أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية 69] فحبوط العمل، إن كان عبارة عن بطلان ثوابه، فذلك إنّما يكون في الاخرة، وإن كان عبارة عن بطلان منفعته، فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة، لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم وأموالهم، وجريان أحكام المسلمين عليهم؟
قلنا: المراد بالأعمال، إن كانت نوعي أعمالهم الدينية والدنيوية فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية وهي كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور الله تعالى، ودفع آياته وبيّناته. ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، فلم ينالوا من ذلك ما أملوه وقصدوه من إبطال دين الله تعالى، وستر نبوّة محمد (ص) .
والحبوط في الاخرة، راجع إلى أعمالهم الدينية، وهي عباداتهم وطاعاتهم لأنهم فعلوها نفاقا ورياء فبطل ثوابها في الاخرة، وإن كان المراد بأعمالهم مجرّد الأعمال الدينية، فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها، لأن الله تعالى يقبل العبادة في الدنيا، ثم يثيب عليها في الاخرة، والمراد بحبوطها في الدنيا، عدم قبولها، وعدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها، كالعبادة والقربة والحسنة، ونحو ذلك وهذا(3/291)
ضد قوله تعالى وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) [العنكبوت] فدلّ على أن للطاعات أجرا معجلا في الدنيا، غير الأجر المؤجل إلى الاخرة، وهو القبول، وحسن الثناء، والذكر، وإلقاء المحبة في قلوب الخلق، كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم] قيل معناه: يحبّهم، ويحبّبهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب المحبة، وكذلك على العكس حال العصاة والفساق يبغضهم، ويبغّضهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب البغض.
فإن قيل: قوله تعالى وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) لم خصّ الأرض بالنفي، مع أن المنافقين ليس لهم وليّ ولا نصير، من عذاب الله في الأرض، ولا في السماء في الدنيا وفي الاخرة؟
قلنا: لمّا كان المنافقون لا يعتقدون الوحدانية ولا يصدّقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجود الوليّ والنصير مقصورا على الدنيا فعبر عن الدنيا، بالأرض وخصّها بالذكر لذلك. الثاني أنه أراد بالأرض أرض الدنيا والاخرة فكأنه قال: ومالهم في الدنيا من وليّ ولا نصير.
فإن قيل: لم خصّ السبعين بالذكر في قوله تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [الآية 80] مع أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين، ولو استغفر لهم الرسول (ص) ألف مرة، بدليل قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] ولأنّهم مشركون، والله تعالى لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] ؟
قلنا: جرت عادة العرب، بضرب المثل في الآحاد بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، وفي المئات بسبعمائة، استعظاما لها واستكثارا لا أنهم يريدون بذكرها الحصر، فكأنه قال: إن تستغفر لهم أعظم الأعداد وأكثرها، فلن يغفر الله لهم، ويحدّده ما ذكره بعد ذلك، من بيان الصارف عن المغفرة، في قوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 80] .
فإن قيل: لو كان المراد ما ذكرتم، لما خفي ذلك على النبي (ص) وهو(3/292)
أفصح العرب وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، حتّى قال لمّا نزلت هذه الآية: إن الله تعالى قد رخّص لي فسأزيد على السبعين. وفي رواية أخرى. فسأستغفر لهم أكثر من السبعين، لعلّ الله أن يغفر لهم؟
قلنا: لم يخف عليه ذلك، وإنّما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته ورأفته، بمن بعث إليهم، كما وصفه الله تعالى بقوله لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الآية 128] . وفي إظهار النبي (ص) الرأفة والرحمة لطف لأمته، وحثّ لهم على التراحم، وشفقة بعضهم على بعض وهذا دأب الأنبياء (ع) ، ألا ترى إلى قول إبراهيم صلوات الله عليه كما ورد في التنزيل وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) [ابراهيم] .
فان قيل: لم قال تعالى ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين، لا للمحسنين؟
قلنا: معناه والله غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا، فهو متعلّق بمحذوف لا بالمحسنين، لأنهم قد سدّوا بإحسانهم طريق العقاب والذم، فليس عليهم سبيل فيهما. الثاني، أنّ المحسن من الناس، وإن تناهى في إحسانه لا يخلو من إساءة بينه وبين الله تعالى، أو بينه وبين الناس، لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر، غفر الله له صغائر سيئاته، ورحمه، كما قال تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] .
فإن قيل قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [الآية 105] أي سيعلم، لأن السين للاستقبال، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومالا؟
قلنا: معناه في حقّ الله، أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا، لأن الله تعالى يعلم كلّ شيء على ما هو عليه، فيعلم المنتظر منتظرا، ويعلم الواقع واقعا وأما في حق الرسول (ع) فهو على ظاهره.
فإن قيل: إن الله تعالى، قد وصف العرب بالجهل في القرآن، بقوله سبحانه وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الآية 97] فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم، على كتاب الله وسنة رسوله (ص) ؟(3/293)
قلنا: هذا وصف من الله لهم، بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام، بل نحتج بلغتهم في بيان معاني الألفاظ، لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم.
فإن قيل لم قال تعالى في صفة المنافقين مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [الآية 101] وقال في موضع آخر وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] .
قلنا: هذه الآية، نزلت قبل تلك الآية، فلا تناقض، لأنه نفى علمه لهم في زمان، ثم أثبته بعد ذلك في زمان آخر.
فان قيل: قوله تعالى خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [الآية 102] قد جعل كلّ واحد منهما مخلوطا، فأين المخلوط به؟
قلنا: كلّ واحد مخلوط ومخلوط به، لأن معناه: خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه، وفيه من المبالغة ما ليس في قولك:
خلطت الماء باللبن، لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به، وبالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت:
لخلطت الماء باللبن، واللبن بالماء ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء، كقولهم: بعت شاة ودرهما، يعنون شاة بدرهم.
فإن قيل: لم قال تعالى وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [الآية 112] بالواو، وما قبلها من الصفات بغير واو؟
قلنا: لأنها صفة ثامنة، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد، فإن السبعة عندهم هي العقد التام كالعشرة عندنا فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ونظيره قوله تعالى وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] بعد ما ذكر العدد مرّتين بغير واو وقوله تعالى في صفة الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] بالواو لأنها ثمانية. وقال في صفة النار، نعوذ بالله منها، فتحت أبوابها بغير واو لأنها سبعة. وليس قوله تعالى ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) [التحريم] من هذا القبيل، لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى، لتناقض الصفتين. وقيل إنّما دخلت الواو على الناهين عن المنكر، إعلاما بأن الأمر بالمعروف، ناه عن المنكر، في حال أمره بالمعروف فهما(3/294)
صفتان متلازمتان، بخلاف باقي الصفات المذكورة، فإنها ليست متلازمة ولا ينقض هذا بقوله تعالى الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ [الآية 112] لأنهما ليستا صفتين متلازمتين، لأن السجود يلزم الركوع أمّا الركوع، فلا يلزم السجود، بدليل سجود التلاوة، وسجود الشكر والزمخشري لم يتكلم على هذه الواو.
فإن قيل: لم قال تعالى لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) أي بأحسن الذي كانوا يعملون بإضمار حرف الجر، مع أنهم يجزون بحسنة أيضا، لقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) [الزلزلة] ؟
قلنا: معناه بحسن الذي كانوا يعملون، وهو الطاعات كلها، لا بسيّئة وهو المعاصي، فالأحسن هنا، بمعنى الحسن وسيأتي في سورة الروم، في قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:
27] وما يوضح هذا إن شاء الله تعالى.
الثاني: أن معناه، ليجزيهم الله أحسن من الذي كانوا يعملون.
فإن قيل: قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً [الآية 124] يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة؟
قلنا: قال مجاهد: معناه فزادتهم علما لأن العلم من ثمرات الإيمان، فجعل مجازا عنه، والله أعلم.(3/295)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التوبة» «1»
....... «2» ....
على الحقيقة هي التقارب بالحدود مثل المسامتة، وهي المماثلة في السّمت الذي هو الجهة، وذلك من صفات الأجسام، وذوات الحدود والأقطار. فالمراد إذن بالمحادّة هاهنا كون الإنسان في غير الحدّ الذي فيه أولياء الله سبحانه. فكأنهم في حدّ، وأولياء الله سبحانه في حدّ. وكذلك الكلام في مشاقّة الله تعالى على أحد التأويلين، وهو أن يكون الإنسان في شقّ أعداء الله وحربه، لا في شقّ أوليائه وحزبه.
وحقيقة الكلام أن يكون المراد به محادّة أولياء الله على الصفة التي ذكرناها فقال تعالى: يُحادِدِ اللَّهَ [الآية 63] كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] أي يؤذون أولياء الله ورسوله، لأنّ الأذى لا يجوز على من لا تلحقه المنافع والمضار، والمساآت والمسارّ.
وفي قوله سبحانه: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [الآية 64] وهذه استعارة. لأن السورة، نطقها من جهة البرهان، لا من جهة اللسان. فكأنه سبحانه، أراد أنّ الناس يعلمون، بهذه السورة، النازلة في المنافقين، بواطن نفوسهم، وعقائد قلوبهم.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]
(2) . هنا بداية القسم الموجود من سورة التوبة، أما ما قبل ذلك فمفقود مع آخر قسم من سورة الأعراف.(3/297)
وقوله سبحانه «1» : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [الآية 87] . [الخوالف النساء «2» ] المقيمات في دار الحي بعد رحيل الرجال. وإنما سمّي النساء خوالف تشبيها لهنّ بالخوالف، التي واحدتهن خالفة، وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحيّ المضروبة.
فشبّهن- لكثرة لزوم البيوت- بالخوالف التي تكون في البيوت.
وقد قيل إن الخوالف أيضا زوايا البيوت، واحدتها خالفة والمعنى واحد. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ حقيقة الخوالف التي هي أعمدة البيوت أي رضوا بأن يكونوا في بيوتهم، فيكونوا- بالملازمة لها- كخوالفها وأعمدتها.
وقد يجوز أيضا، أن يكون الخوالف هاهنا جمع فرقة خالفة. وهي الجماعة التي تقعد عن الغزو، كالشيوخ، والنساء، وذوي العاهات، والولدان.
وممّا يقوي ذلك قوله تعالى أمام هذا الكلام: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) .
وكنت سمعت شيخنا أبا الفتح عثمان بن جنّي «3» النحوي- رحمه الله- يقول ذلك، ويذهب إلى مثله أيضا في قوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . ويقول: هي جمع فرقة كافرة. إلا أنّ الكلام يكون على القول الأول استعارة. ويكون على هذا القول حقيقة.
وفي قوله سبحانه: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الآية 98] استعارة. «4» .... عليهم أيام السوء، لأن الأيام والشهور قد تسمى دوائر، على طريق الاستعارة. فليس لأنها ترجع بأعيانها، وإنّما تعود أشباهها وأمثالها، فشهر كشهر، ويوم كيوم، وساعة كساعة، وسنة كسنة. يقال دارت السنون، ودارت الشهور على
__________
(1) . هذه زيادة ليست بالأصل يقتضيها السياق.
(2) . هذا السطر ممحوّ، وقد استظهرناه من السياق، الذي يفسر الخوالف بالنساء المقيمات في دار الحيّ.
(3) . أبو الفتح عثمان بن جنّي، إمام من أئمّة النحو. وقد اشتهر بشرحه لديوان المتنبّي، وبكتابه «الخصائص» في اللغة، وهو مشهور. وكان المتنبي يقول: «ابن جني أعرف بشعري مني» ، وقد كان ابن جني أستاذا للشريف الرّضي، ونقل هذا عنه كثيرا في كتابه «المجازات النبوية» . توفي سنة 392 هـ.
(4) . هنا سطران ممحوان محوا تاما.(3/298)
هذا المعنى. إلّا أن هذه اللفظة، أعني الدائرة والدوائر، قد اختص ذكرها بالمواضع المكروهة. فيقال: دارت عليهم الدوائر، إذا أهلكتهم الأيام، وأفنتهم الأعوام. ويقال: دارت لهم الدنيا. إذا وصفوا بمواتاة الإقبال، وانتظام الأحوال. فكأنّ التمييز في الخير أو الشرّ، إنما يقع بقولنا: دارت لهم، ودارت عليهم.
وفي قوله سبحانه: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [الآية 109] استعارة. والمراد بها ذكر ما بناه المنافقون من مسجد الضّرار «1» ، بعد ما بنى المؤمنون من المسجد المعروف بمسجد قباء «2» . لأن المؤمنين وضعوا هذا البناء، وهم مؤمنون متّقون، عارفون موقنون، فكأنهم وضعوه على قواعد من الإيمان، وأساس من الرضوان. والمنافقون، إنما وضعوا ذلك البناء كيدا للمؤمنين، وإرصادا للمسلمين. فكأنهم وضعوه على شفا جرف هار متقوّض، وأساس واه منتقض فكأنما انهار بهم في نار جهنّم، أي أسقطهم ذلك الفعل في عذاب النار، ودائم العقاب. وهذه من أحسن الاستعارات.
وفي قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [الآية 110] استعارة. ومعناها أن ذكر البنيان الذي بنوه لا يزال ريبة في قلوبهم، يخافون معها إنزال الله بهم ضروب العقاب، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق. فهم أبدا بنفوسهم مستريبون، وعليها خائفون مشفقون.
فلا يزالون على ذلك، إلا أن تقطّع قلوبهم حسرة، وتزهق نفوسهم خيفة.
وفي قوله تعالى:
__________
(1) . مسجد الضرار، هو المسجد الذي بناه المنافقون بقباء، لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم، وقد سألوا النبي (ص) عند رجوعه من تبوك، أن يأتي مسجدهم هذا ليصلّي فيه فأنزل الله فيه قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. وقد أمر النبي (ص) بهدم هذا المسجد، الظالم أهله فحرق، وهدم، واتخذ موضعه مكانا للقمامة.
(2) . مسجد قباء هو المسجد الذي أسسه النبي (ص) على التقوى من أول يوم نزل فيه قباء، وهي بلدة على بعد ميلين من جنوب المدينة.(3/299)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [الآية 111] استعارة.
وذلك أنه سبحانه لمّا أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم في الجهاد عن دينه، والمنافحة عن رسوله (ص) ، وضمن لهم على ذلك الخلود في النعيم، والأمان من الجحيم، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة، وكانت الصفقة رابحة، لزيادة الأثمان على السلع، وإضعاف الأعواض على القيم.
وجملة هذا الباب، أنّ العبادات كلّها كالتجارات، في أنها طلب للمنافع.
فالعبادات «3» طلب لمنافع الاخرة، والتجارات طلب لمنافع الدنيا.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [الآية 117] استعارة. لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد: من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة، وتقنط من نزول الرحمة، فتكون بذلك كالشيء الزائغ بعد الاستقامة، والمستمال بعد الثبات والرصانة.
ومن الدليل على ذلك، قوله تعالى، بعد هذه الآية: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [الآية 118] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول، من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدّة الكرب، وبلوغها منقطع الصبر.
وقوله سبحانه: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [الآية 120] وهذه استعارة.
فالمراد بها، أنهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم، عمّا يبذل النبي (ص) فيه نفسه، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته، اقتداء به، واتّباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا، فيقولون:
رغبت بنفسي عن الضيم، وأرغب بك يا فلان عن القتل، أي أضنّ بنفسي عن أن تذلّ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.
__________
(3) . في الأصل «بالعبادات» ، وهو تحريف من الناسخ.(3/300)
فالظاهر، يدل على أنهم رضوا بنفوسهم عن نفس النبي (ص) .
والمراد: وما كان لهم أن يرغبوا بالنفوس. عن. «1» .... التي ينزلها نفسه، ويعرض فيها مهجته.
وقوله سبحانه: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) وهذه استعارة ظاهرة. وذلك ان السّورة لا تزيد الأرجاس «2» رجسا، ولا القلوب مرضا، بل هي شفاء للصدور، وجلاء للقلوب ولكنّ المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى وعمها، وازدادت قلوبهم ارتيابا ومرضا، حسن أن يضاف ذلك الى السورة، على طريق لأهل اللسان معروفة.
وقد استقصينا الكلام على ذلك في عدة مواضع من كتابنا الكبير. فمن أراد بلوغ أقاصي هذه الطريقة، والضرب في أقطارها، والتفسّح في أعطافها، فليتتبّع مواضعها من ذلك الكتاب بمشيئة الله.
وقوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [الآية 128] وهذه استعارة.
والمراد بأنفسكم هاهنا- والله أعلم- أي من جنس أنفسكم وخلقكم، لتكونوا إليه أسكن، والى القبول منه أقرب.
ويجوز أن يكون من أنفسكم أي من قبيلكم وعشيرتكم، كما يقول القائل:
فلان من أنفس بني فلان. أي من صميم أنسابهم، وليس من وسطائهم وملاصقهم.
وقد يجوز أن يكون المراد برسول من أنفسكم، أي من أشقائكم وأعزّائكم، كما يقول القائل لذي ودّه والقريب من قلبه: أنت من نفسي، وأنت من قلبي. أي أنت شقيق النفس، وقسيم القلب.
ومما يقوّي ذلك، قوله سبحانه:
__________
(1) . بياض بالأصل. ويصحّ أن توضع هنا كلمة المواطن، أو المواضع، أو المنازل، أو ما إليها من هذا الباب.
(2) . في الأصل «لا تزيد الأرجاس إلّا رجسا» وإلا زائدة من الناسخ بها ينقلب المعنى الى الضد. والصواب حذفها كما أثبتناه.(3/301)
عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) أي بحبّه لكم، وميله إليكم، يعزّ عليه أن تعنتوا وتعاندوا، فتحرموا الثواب، وتستحقوا «1» العقاب، فهو حريص على إيمانكم، رأفة بكم، وإشفاقا عليكم.
__________
(1) . في الأصل «ويستحقّوا» بضمير الغائبين، والصواب «وتستحقّوا» بضمير المخاطبين كما أثبتناه.(3/302)
الفهرس
سورة الأنعام المبحث الأول أهداف سورة «الأنعام» 3 1- كيف أنزلت 3 2- لم سميت سورة الأنعام 4 3- تاريخ نزول السورة 4 4- مميزات المكي والمدني 5 5- خصائص السور المكية واضحة في سورة الأنعام 6 6- الأغراض الرئيسة لسورة الأنعام 7 (أ) وحدة الألوهية 7 (ب) قضية الوحي والرسالة 9 تكذيب المرسلين 9 نبوة محمد (ص) 10 (ج) قضية البعث والجزاء 10 7- قصة إبراهيم الخليل 12 8- الوصايا العشر 14.(3/303)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنعام» 17 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 17 الغرض منها وترتيبها 17 إثبات التوحيد والنبوة 18 شبهتهم الأولى على التوحيد والنّبوّة 18 شبهتهم الثانية على التوحيد والنّبوّة 20 شبهتهم الثالثة على التوحيد والنّبوّة 22 شبهتهم الرابعة على التوحيد والنّبوّة 24 إبطال بدعة لهم في الحلال والحرام 24 شبهتهم الخامسة على التوحيد والنّبوّة 25 إبطال بدع لهم في الحلال والحرام 26 شبهتهم السادسة على التوحيد والنّبوّة 27 الخاتمة 28 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنعام» 29 المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنعام 33 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنعام» 39 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنعام» 53 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنعام» 69 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنعام» 79.(3/304)
سورة الأعراف المبحث الأول أهداف سورة «الأعراف» 85 1- معنى فواتح السور 85 2- مقاصد السورة ومزاياها 87 3- عرض إجمالي لأجزاء السورة 87 4- قصة آدم 91 5- نعمة الثياب والزينة 92 توسّط الإسلام في شأن الزينة 92 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأعراف» 95 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 95 الغرض منها وترتيبها 95 المقدمة 96 قصة آدم وإبليس 96 قصة نوح وقومه 98 قصة هود وقومه 99 قصة صالح وقومه 99 قصة لوط وقومه 99 قصة شعيب وقومه 99 قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل 100 قصة عالم لم يعمل بعلمه 103 الخاتمة 104 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأعراف» 107(3/305)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الأعراف» 109 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأعراف» 115 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأعراف» 141 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأعراف» 159 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأعراف» 171.
سورة الأنفال المبحث الأول أهداف سورة «الأنفال» 177 صور من معركة بدر 178 الغنائم 179 الحرب والسلام 180 صفات المؤمنين 181 نداءات إلهية للمؤمنين 182 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنفال» 185 تاريخ نزول السورة ووجه تسميتها 185 الغرض منها وتسميتها 185 تفويض قسمة الأنفال لله والرسول 186 مصرف الأنفال 188.(3/306)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الأنفال» 191 المبحث الرابع مكنونات سورة «الأنفال» 195 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الأنفال» 199 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الأنفال» 207 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال» 213 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الأنفال» 221.
سورة التوبة المبحث الأول أهداف سورة «التوبة» 227 أسماء السورة 227 أين البسملة؟ 228 أهداف سورة التوبة 229 هدفان أصليان 229 رحمة الله بالعباد 230 غزوة تبوك 231 علاقات المسلمين بغيرهم 234 فضل الرسول الأمين 235.(3/307)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «التوبة» 237 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 237 الغرض منها وترتيبها 237 الكلام على المشركين وأهل الكتاب 238 الكلام على المنافقين 240 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «التوبة» 249 المبحث الرابع مكنونات سورة «التوبة» 251 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «التوبة» 263 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «التوبة» 271 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «التوبة» 283 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «التوبة» 297.(3/308)
الجزء الرابع
سورة يونس 10(4/1)
المبحث الأول أهداف سورة «يونس» «1»
نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فتكون سورة يونس من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة، فهي سورة مكية من أواخر ما نزل من القرآن بمكّة.
وقد سمّيت بهذا الاسم لذكر قصة يونس فيها، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية.
أهدافها الإجمالية
موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكّيّة الغالبة، وهي الجدل حول مسائل العقيدة والتوجيه إلى آيات الله الكونية، وسنن الله في الأرض، والعظة بالقرون الخوالي ومصائرها، وعرض بعض القصص من هذا الجانب الذي تبرز فيه العظة واللمسات الوجدانية، التي تنتقل بالإنسان من آيات الله في الكون إلى آياته في النفس، إلى مشاهد القيامة المؤثّرة، إلى قصص الماضين ومصائرهم، كأنها جميعا حاضرة معروضة للأنظار.
وهذه السورة تتضمن شيئا من هذا كله، وينتقل السياق فيها من غرض إلى غرض، بمناسبات ظاهرة أو خفيّة بين مقاطعها، ولكن جوهرها كلّه هو هذا الجوّ، حتّى ليصعب الفصل بين مقطع ومقطع فيها، في أغلب الأحيان.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(4/3)
الدرس الأول: مظاهر قدرة الله
يبدأ القسم الأول من السورة بأحرف ثلاثة هي ألف، لام، راء، كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران بأحرف مشابهة، ذكر العلماء أنها أسماء للسورة أو إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته، أو هي لبيان إعجاز القرآن الكريم، أو هي مما استأثر الله تعالى بعلمه. ثم تأخذ السورة في عرض عدة أمور، هي بيان حكمة القرآن وطريقته في تنبيه الغافلين إلى تدبّر آيات الله سبحانه، في صفحة الكون وتضاعيفه: في السماء والأرض، وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي مصارع القرون الأولى، وفي قصص الرسل فيهم، وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود.
ثم تشرح السورة، الحكمة في الإيحاء إلى رجل من البشر، يعرفه الناس ويطمئنون إليه، ويأخذون منه، ويعطونه، بلا تكلّف ولا جفوة ولا تحرّج، وتذكر الحكمة من إرسال الرسل.
فالإنسان بطبعه مهيّأ للخير والشر، وعقله هو أداته للتمييز. ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما اختلط عليه الأمر وأحاطت به الشبهات وجذبته التيارات والشهوات. وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعته.
وتلفت سورة، النظر إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما، وإظهار قدرة الله تعالى:
الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية 5] .
وقدر اختلاف الليل والنهار، وخلق هذا ودبّره، فهو سبحانه الذي يليق أن يكون ربّا يعبد، ولا يشرك به شيء من خلقه.
إن هذا الليل المظلم، الساكن إلّا من دبيب الرؤى والأشباح، وهذا الفجر المتفتّح في نهاية الليل كابتسامة الوليد، وهذه الحركة التي يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء، وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال، وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة، وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق، وهذه الأرحام التي تدفع، والقبور التي تبلع، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله.(4/4)
إن هذا الحشد من الصور والأشكال، والحركات والأحوال والرواح والذهاب والبلى والتجدد والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تنسى ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار. إن هذا كله ليستنهض كل همة في كيان البشر، للتأمل والتدبر والتأثر، حتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب، لتدبّر هذا الحشد من الصور والآيات، وتأمل قدرة الله في اختلاف الليل والنهار، بالطول والقصر، فيطول الليل في الشتاء، ويقصر في الصيف، ويطول النهار في الصيف، ويقصر في الشتاء. ووراء كل إبداع يد الله القدير، الذي رفع السماء وزيّنها بالنجوم وحفظها من التصدع والوقوع، وبسط، سبحانه، الأرض وثبّتها بالجبال، وزيّنها بالنبات، وأحياها بالأمطار.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) .
الدرس الثاني: الأدلة على وجود الله
يستهل الدرس الثاني من سورة يونس، بإعلان جزاء المؤمنين، وعاقبة المكذبين، حيث يقول سبحانه:
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ( [الآية 26] .
فالجزاء الحق من جنس العمل، فمن عمل صالحا في الدنيا، أدخله الله الجنّة ومتّعه بالطيّبات، ونجّاه من النار.
ثم تستمر الآيات في بيان عقوبة المكذّبين، وجزاء الخائنين وتسوق السورة عددا من الأدلة والبراهين تنتهي كلها إلى هدف واحد، هو إشعار النفس بتوحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر، والقسط في الجزاء.
تلمس الأدلة أقطار النفس، وتأخذ بها إلى آفاق الكون في جولة واسعة شاملة، جولة من الأرض إلى السماء، ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس، ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر، ومن الدنيا إلى الآخرة.
وقد لا حظنا في الدرس الماضي لمسات من هذه، ولكنها في هذا الدرس أظهر. فمن معرض الحشر،(4/5)
إلى مشاهد الكون، إلى ذات النفس، وإلى التحدي بالقرآن، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين، ومن ثم لمحة عابرة عن الحشر في مشهد جديد، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب، وإلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يندّ عنه شيء، إلى بعض آيات الله في الكون، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب.
إنها مجموعة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك نفس سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة ألّا تستجيب لها، وألّا تتذاوب الحواجز والموانع فيها، دون هذا الفيض من المؤثّرات المستمدة من الحقائق الواقعة، ومن فطرة الكون وفطرة النفس، وطبائع الوجود. لقد كان الكفّار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم، وهم يتناهون عن الاستماع إليه، خيفة أن يجرفهم بتأثيره ويزلزل قلوبهم، وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين.
وإن سورة واحدة كهذه، أو بعض سورة، لتحمل من المؤثرات النفسية والعقلية، ما لا يحمله جمع كبير من قوى الشرك والانحراف والفسوق.
لقد أخذ القرآن على النفوس كل مسلك، ليسير بها نحو الإيمان، وساق إليها أدلّة محسوسة ملموسة حيث يقول سبحانه:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 31] .
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع ومن طعام الأرض ونباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها فمن سطح الأرض أرزاق، ومن أعماقها أرزاق، ومن أشعة الشمس أرزاق، ومن ضوء القمر أرزاق، حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق.
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الآية 31] .
يهبهما القدرة على أداء وظائفهما أو يحرمهما، ويصحّحهما أو يمرضهما ويصرفهما إلى العمل أو يلهيهما. وإن تركيب العين وأعصابها، وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها، وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس عند ما يقاس هذا الجهاز أو ذاك، إلى أدق الأجهزة التي يعدّها الناس، من معجزات العلم الحديث.
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الآية 31] .(4/6)
أي النور من الظلام، والظلام من النور والنهار من الليل، والليل من النهار والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والنبتة من الحبة، والحبة من النبتة والفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ ... إلى آخر هذه المشاهدات العجيبة، وإلّا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود، وأين كانت الجذور والساق والأوراق؟.
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ كله في هذا الذي ذكر، وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبّر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟
ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر.
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) .
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ، الذي يدبّر الأمر كله في هذا وفي سواه.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [الآية 32] .
هو سبحانه صاحب الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
الدرس الثالث: قصص الأنبياء
اشتملت الآيات (71- 93) من سورة يونس على ذكر طرف من قصة نوح (ع) مع قومه وقصة موسى (ع) مع فرعون وملئه. وقد تحقق فيهما عاقبة المكذّبين، وهلاك المخالفين لأوامر الله وهدى رسله، والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه، ويتكرّر القصص في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع. وتلاحظ فيما عرض من قصتي نوح وموسى (ع) هنا، وفي طريقة العرض، مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكّة من النبي (ص) والقلة المؤمنة معه، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان، كما تلحظ المناسبة الواضحة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه.
قصة نوح
بدأت قصة نوح (ع) من الحلقة الأخيرة، حلقة التحدي الأخير بعد الإنذار الطويل والتذكير والتكذيب،(4/7)
ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ولا التفصيلات الواردة في سور أخرى. لأن الهدف هنا هو إبراز التحدي الذي واجه نوحا (ع) من قومه، واستعانته بالله تعالى، ونجاته ومن معه وهم قلة، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة. لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة التي يقصها إلى حلقة واحدة، ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة وهي نجاة نوح (ع) ومن آمن معه في السفينة واستخلافهم في الأرض على قلّتهم، وإغراق المكذبين على قوّتهم وكثرتهم. قال تعالى:
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) .
وأما قصة موسى (ع) ، فيبدأه السياق من مرحلة التكذيب والتحدي، وينهيها عند غرق فرعون وجنوده، وإذا كانت قصة نوح (ع) قد ذكرت في أربع آيات فقط، هي الآيات [71- 74] من سورة يونس، فإن قصة موسى (ع) قد ذكرت على نطاق أوسع خلال ثماني عشرة آية، هي الآيات [75- 93] .
وقد ألمّت قصة موسى بالمواقف ذات الشبه، بموقف المشركين في مكة من الرسول (ص) وموقف القلّة المؤمنة التي معه. وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى (ع) ، مقسّمة إلى ثلاثة مواقف يليها تعقيب يتضمّن العبرة من عرضها في هذه السورة، على النحو الذي عرضت به. وهذه المواقف الثلاثة تتابع في السياق على هذا النحو:
أولا: وصول موسى (ع) إلى فرعون ومعه آيات تسع ذكرت في سورة الأعراف، ولكنها لم تذكر في سورة يونس، ولم تفصّل لأن السياق لا يقتضيها، والإجمال في هذا الموضع يغني، والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله، لقد استقبلوها بالظلم والاستكبار قال تعالى:
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ادّعى فرعون أن معجزة موسى سحر ظاهر، وجمع له كبار السحرة، وأرادوا أن يغرقوا الجماهير في صراع السحر،(4/8)
بأن تعقد حلقة للسحر يتحدّون بها موسى، وما معه من آيات، تشبه السحر في ظاهرها، ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحرا ماهرا.
والموقف الثاني موقف المبارزة بين السحرة وموسى (ع) ، فقد ألقى السحرة حبالهم وعصيّهم، وتحركت الحبال والعصيّ فبهرت جميع الناس وأرهبتهم، ثم ألقى موسى عصاه في الأرض، فانقلبت حية هائلة لها شفتان طويلتان، شفة في الأرض تبتلع جميع الحبال والعصيّ التي ألقاها السحرة، وشفة مرفوعة إلى أعلى. ثم أمسك موسى (ع) بعصاه فعادت كما كانت، وبطل السحر وعلا صوت الحق.
ولكن السياق يختصر المشاهد هنا لأنها ليست مقصودة في هذا المجال، ويسدل الستار ليرفع على موسى (ع) ومن آمن معه وهم قليل، وهذه إحدى عبر القصة المقصودة:
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [الآية 83] .
وفي هذا الموضع تفيد الآيات، أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم إلى موسى (ع) من بني إسرائيل، كانوا هم الفتيان الصغار لا مجموعة الشعب الإسرائيلي، وأنهم تعرضوا للارهاب من فرعون، ولكن موسى ثبّتهم على الإيمان، ودعا موسى ربه أن ينجي المؤمنين، وأن يهلك الكافرين، فاستجاب الله دعاءه، وجاء الموقف الحاسم. والمشهد الثالث والأخير في قصة التحدي والتكذيب، هو غرق الطغاة الظالمين، ونجاة من آمن بالمرسلين.(4/9)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يونس» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فتكون سورة يونس من السّور التي نزلت بين الإسراء والهجرة.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة يونس (ع) فيها، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، وهي في هذا تنقسم إلى أربعة أقسام: أولها في إبطال شبههم عليه، وثانيها في تحديهم به، وثالثها في دعوتهم إلى تصديقه بطريق الترغيب والترهيب، ورابعها في خاتمة تناسب مقام هذه السورة.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة التوبة لأنها ختمت كما سبق بترغيبهم في الإيمان برسول جاءهم من أنفسهم، وقد ابتدأت هذه السورة بإنكار تعجّبهم من أن يوحى إلى رجل منهم، وهذا إلى أن هذه السورة أولى السّور المئين، وهي التي تأتي في الترتيب بعد السبع الطوال.
إبطال شبههم على القرآن الآيات [1- 36]
قال تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) فأقسم بهذه الحروف أن ما أنزله هو آيات الكتاب الحكيم، ثم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز.
المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/11)
ذكر شبهتهم الأولى على تنزيله، وهي استنكارهم أن ينزل على رجل منهم، لينذرهم بما جاء فيه من البعث والعقاب والثواب، وزعمهم أن هذا سحر باطل لا حقيقة له ثم أجابهم بإثبات قدرته على بعثهم وعقابهم وثوابهم، فذكر، سبحانه، أنه هو ربهم الذي خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش يدبر أمره وحده، ولا يشفع أحد عنده إلّا بإذنه ولا بدّ من رجوعنا إليه ليجزي المؤمنين بالقسط، ويعاقب الكافرين على كفرهم ثم ذكر أنه هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لنعلم عدد السنين والحساب، وأن في اختلاف الليل والنهار، وما خلقه في السماوات والأرض لآيات لقوم يتّقون.
ثم أوعد الذين لا يؤمنون بلقائه بأن مأواهم النار، ووعد المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) .
ثم ذكر، جلّ شأنه، أنه لو يعجّل لهم العقاب في الدنيا، كما يعجل لهم الخير فيها، لعجل بهلاكهم، ولكنه لم يرد هذا ليذرهم في طغيانهم يعمهون.
ويكون عقابهم، بعد إمهالهم، قطع عذرهم ثم ذكر أنه إذا مس الإنسان ضرّ، من جنس ما ينذر به دعاه إلى كشفه، فإذا كشفه عنه، عاد إلى كفره ونسي دعاءه له، ليثبت بهذا أن تعجيل العذاب لهم لا يؤثّر فيهم ثم ذكر أنه قد عجل العذاب لمن كفر قبلهم، فلم يؤمنوا وأصرّوا على كفرهم، وأنه جعلهم خلائف في الأرض، من بعدهم، لينظر كيف يعملون.
ثم ذكر تعالى شبهتهم الثانية على تنزيل القرآن، وهي أنهم إذا تتلى عليهم آياته، يطلبون أن يأتيهم بقرآن غير هذا، أو يبدله لهم، ثم أمره أن يجيبهم بأنه لا يمكنه أن يفعل ذلك من نفسه، لأنه لا يتّبع إلّا ما يوحى إليه، ويخاف عذاب يوم عظيم إن عصى ربه، وبأنه قد لبث فيهم عمرا من قبله، لا يتلو عليهم كتابا ولا يجلس إلى معلّم، فلا يمكن أن يكون هذا القرآن منه ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا أو كذّب بآياته كما يفعلون، وأوعدهم على هذا، بأنهم لا يفلحون ثم ذكر أنهم يعبدون ما لا يضرّهم ولا ينفعهم، ويزعمون أنهم شفعاؤهم عنده،(4/12)
فيمنعون ما يوعدون به من ذلك، وأمره أن يجيبهم بأنهم يخبرونه بشفعاء لا يعلمها في السماوات ولا في الأرض وذكر أن الناس كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا فيه بعد اتفاقهم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) .
ثم ذكر شبهتهم الثالثة على تنزيل القرآن، وهي طلبهم آية عذاب تدل على تنزيله، ثم أمره أن يجيبهم بأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلّا هو، وأمرهم أن ينتظروه لأنه ينتظره ولا يشك في وقوعه ثم ذكر أنه إذا آتاهم بآية عذاب، ثم أذاقهم رحمة بعدها، مكروا فيها ولم يؤمنوا بها، فهكذا يكون حالهم إذا أجيبوا إلى ما طلبوه منها، وهدّدهم على ذلك بأنه أسرع مكرا منهم. وبأن رسله يكتبون ما يمكرون ليحاسبهم عليه ثم ضرب لهم مثلا على مكرهم في هذا، فذكر أنه هو الذي يسيّرهم في البر والبحر، حتّى إذا كانوا في الفلك، وجرت بريح طيّبة، وفرحوا بها، جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنّوا أنهم أحيط بهم دعوه مخلصين لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فلما أنجاهم عادوا إلى بغيهم ونسوا دعاءهم له ثم ذكر أن بغيهم لا يعود إلا على أنفسهم، وأنهم يتمتعون به في هذه الحياة ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون، ثم ضرب لهم مثلا في شأن هذه الدنيا التي يبغون فيها وينسون الآخرة معها فذكر أن مثلها كماء أنزله من السماء فاختلط به نبات الأرض، حتى إذا أخذت به زخرفها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها [الآية 24] ، أتاها أمره ليلا أو نهارا فجعلها حصيدا كأن لم تكن بالأمس ثم ذكر أنه يدعو إلى دار السلام التي لا يزول نعيمها كما يزول نعيم الدنيا، وأنه يهدي من يشاء إلى طريق يوصل إليها، وأن للذين أحسنوا في دنياهم الحسنى في تلك الدار وزيادة، والذين كسبوا السيئات جزاؤهم سيئة فيها بمثل سيئاتهم ثم أمره أن يذكر لهم يوم يحشرهم جميعا، ثم يأمرهم أن يلزموا مكانهم هم وشركاؤهم، فيقطع بينهم ويتبرأ شركاؤهم من عبادتهم، ويشهدون الله على أنهم كانوا عنها غافلين ثم ذكر أنه هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، ويردّون إليه وحده، ويضل عنهم آلهتهم.(4/13)
ثم أمره أن يسألهم من يرزقهم من السماء والأرض؟ ومن يملك السمع والبصر؟ ومن يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي؟ ومن يدبّر الأمر؟ وذكر أنهم سيقولون الله، وأنه يجب عليهم حينئذ أن يتّقوه، وأن من يكون هذا شأنه يكون ربّهم الحق، وأنه ليس بعد الحق إلّا الضلال فإنّى يصرفون ثم أمره أن يسألهم هل من شركائهم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ وأن يجيب عنهم بأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده فإنّى يؤفكون، ثم أمره أن يسألهم هل من شركائهم من يهدي إلى الحق؟ وأن يجيب عنهم بأنه سبحانه هو الذي يهدي للحق، وحينئذ يكون هو الأحق بأنّ يتّبع ممّن لا يهدي إلّا أن يهدى فما لهم كيف يحكمون وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) .
تحديهم بالقرآن الآيات [37- 56]
ثم قال تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) فانتقل من إبطال شبههم على القرآن إلى تحدّيهم به، وذكر أنه ما كان أن يفترى من دونه، ولكنه تصديق لما قبله من الكتاب وتفصيل له، وأنه لا ريب في تنزيله من عنده، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، وأن يدعوا من استطاعوا من دونه ليساعدهم على الإتيان به ثم ذكر أنهم يكذبون به من غير أن يحيطوا بعلمه، ومن قبل أن يأتيهم تأويله، فكذّبوا به جهلا وعنادا، كما كذّب الذين من قبلهم ثم ذكر أن منهم من يؤمن به وينكره عنادا، ومنهم من لا يؤمن به جهلا، وأنه أعلم بهم ومجازيهم على كفرهم، ثم أمره إن كذّبوه بعد تحديهم وعجزهم أن يتركهم ولا يطمع في إيمانهم، لأن منهم من يستمعون إليه فلا يسمعون، ولا يمكنه أن يسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليه فلا ينظر، ولا يمكنه أن يهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ثم ذكر أنه لم يظلمهم بهذا، ولكن أنفسهم يظلمون.
ثم أتبع ذلك بوعيدهم، فذكر، سبحانه، أنه يوم يحشرهم يكون حالهم كحال من لم يلبث إلا ساعة من النهار في الدنيا، لأنهم لم ينتفعوا بما مكثوه(4/14)
فيها، وأنهم يتعارفون بينهم ليوبّخ بعضهم بعضا ثم ذكر أنه إما يرينّه بعض الذي يعدهم من العذاب في الدنيا، أو يتوفينّه قبل أن يريه له، فإليه، تعالى، مرجعهم ثم هو شهيد على ما يفعلون، وأن لكل أمة رسولا لا تعذب قبله: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) .
ثم ذكر أنهم سألوا مستهزئين: متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن أمر ذلك مفوض إليه، جل جلاله، وحده، لأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، ولكل أمة أجل لا تتأخّر عنه ولا تتقدّم، وبأن يسألهم عن فائدتهم في استعجال هذا العذاب، لأنهم إذا آمنوا عند وقوعه يكون إيمانهم بطريق الإلجاء ولا ينفعهم، ثم يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) .
ثم ذكر أنهم سألوه عن ذلك العذاب مرة أخرى: أحقّ هو؟ وأمره أن يجيبهم بأنه حق، وأنهم لا يعجزونه إذا أراد عذابهم، وأنه إذا أتاهم وكان لهم ملك ما في الأرض لافتدوا به ثم ذكر أن له، سبحانه، ما في السماوات والأرض، دليلا على قدرته على تحقيق وعيده لهم، ولكن أكثرهم لا يعلم هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) .
دعوتهم إلى تصديق القرآن بالترغيب والترهيب الآيات [57- 98]
ثم قال تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) فذكر أنه موعظة منه وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين وأمرهم أن يفرحوا بفضله عليهم به، لأنه خير مما يجمعون، ثم أمرهم أن يخبروه عمّا رزقهم به، فجعلوا منه حراما وحلالا، أكان بإذنه أم كان افتراء عليه؟ ليبيّن حاجتهم إلى هدايته وذكر أنه إذا كان افتراء عليه، فما يكون جزاؤهم عليه يوم القيامة؟ وأنه ذو فضل عليهم بإنزاله هذا القرآن، الذي يبيّن لهم حرامه وحلاله، ولكنّ أكثرهم لا يشكرون، ثم أخذ في وعد النبي (ص) والمؤمنين على الإيمان بما أنزله إليهم، فذكر أنه ما يكون في شأن وما يتلو منه من قرآن إلا كان شاهدا عليهم، وأن كل صغيرة وكبيرة ثابتة عنده في كتاب مبين ثم(4/15)
ذكر أن أولياءه منهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) .
ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لتكذيبهم لما أنزل عليه، لأن العزة له وحده، جلّت قدرته، وهو يسمع ويعلم تكذيبهم، وله من في السماوات ومن في الأرض، وما يتبعون من دونه شركاء فيه، وإنما يظنون أنهم شركاء من غير أن يكون لهم دليل عليه ثم ذكر أنه سبحانه، هو الذي جعل الليل سكنا والنهار مبصرا، وأن في هذا آية لمن يسمع على أنه لا شريك له، وأنهم زعموا أنّه اتّخذ ولدا يشاركه في ملكه، وأبطل هذا بأنه هو الغنيّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض، فلا يشاركه فيه ولد ولا غيره ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأن الذين يفترون عليه الكذب من الولد وغيره لا يفلحون مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) .
ثم أخذ السياق في ترهيبهم بما حصل للمكذبين قبلهم، فأمر تعالى النبي (ص) أن يتلو عليهم نبأ نوح (ع) وما حصل لقومه من هلاكهم بالطوفان، وقد سبقت قصتهم في سورة الأعراف، ولكن ما هنا يخالف ما هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص ثم ذكر أنه بعث من بعده رسلا إلى قومهم، فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل، وأنه كذلك يطبع على قلوب المعتدين ثم ذكر أنه بعث من بعدهم موسى وهارون، إلى فرعون وقومه، وأنهم لم يؤمنوا به فأغرقهم في البحر، وقد سبقت هذه القصة في سورة الأعراف أيضا، ولكن ما هنا يخالف ما هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص، وقد ختمت هنا بأنه، سبحانه، بوّأ بني إسرائيل مبوّأ صدق من الأرض المقدسة، بعد أن نجّاهم من فرعون وقومه وذكر أنهم لم يختلفوا في دينهم حتى جاءهم العلم، وأنه، جلّ جلاله، يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
ثم أمر النبي (ص) على سبيل التعريض إن كان في شكّ من هذا القصص أن يسأل أهل الكتاب عنه، ونهاه أن يكون من الذين يكذّبون بآياته ثم ذكر أن الذين حقت عليهم كلمته من الأوّلين لا يؤمنون ولو(4/16)
جاءتهم كل آية حتى يروا عذابه، وأنه كان عليهم أن يؤمنوا لينفعهم إيمانهم، ثم استثنى منهم قوم يونس (ع) لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) .
الخاتمة الآيات [99- 109]
ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) فذكر للنبي (ص) أنه لو شاء، سبحانه، لآمن بما أنزل إليه من في الأرض جميعا، وأنه لا يصحّ أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ثم أمرهم أن ينظروا في آياته في السماوات والأرض ليؤمنوا بالنظر فيها وذكر أن هذا لا يغني عنهم لأنهم لا يريدون الإيمان، وإنما ينتظرون مثل أيام العذاب التي أهلك فيها الأولين، ثم نجّى رسله والذين آمنوا معهم، ثم أمره إن استمروا بعد هذا على شكهم في دينه، أن يخبرهم بأنه لا يعبد ما يعبدون من دونه، ولكن يعبد الذين يتوفّاهم، وبأنه أمر أن يكون من المؤمنين، وأن يقيم وجهه للدين حنيفا ولا يكونّن من المشركين ثم نهاه أن يدعو من دونه ما لا ينفعه ولا يضرّه، وذكر له أنه إن يمسسه بضرّ فلا كاشف له إلا هو، وإن يرده بخير فلا رادّ له، ثم أمره أن يذكر لهم أنه قد جاءهم الحق (القرآن) منه، وأنّ من اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها، وأنه ليس عليهم بوكيل وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) .(4/17)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يونس» «1»
أقول: قد عرف وجه مناسبتها فيما تقدم في سورة الأنفال. ونزيد هنا: أن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف، وأنه سبحانه قال فيها: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 2] فقدّم الإنذار وعمّمه، وأخّر البشارة وخصّصها.
وقال تعالى في مطلع الأعراف:
لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) .
فخص الذكرى وأخّرها، وقدّم الإنذار، وحذف مفعوله ليعمّ.
وقال هنا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الآية 3] . وقال في الأوائل، أي أوائل الأعراف مثل ذلك «2» .
وقال هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [الآية 3] .
وقال هناك: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف/ 54] .
وأيضا فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف، فاختصر ذكر عذابهم، وبسط في هذه السورة أبلغ بسط «3» .
فهي شارحة لما أجمل في سورة الأعراف منه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. [.....]
(2) . وذلك في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف/ 54] .
(3) . في عذاب فرعون قال تعالى في الأعراف: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) . وقال في يونس: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ الى فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [الآيات 90- 91] .(4/19)
المبحث الرابع مكنونات سورة «يونس» «1»
1- قَدَمَ صِدْقٍ [الآية 2] .
قال مقاتل: هو محمد شفيع صدق. أخرجه ابن أبي حاتم 2- فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [الآية 16] .
قال قتادة: أربعين سنة. أخرجه ابن أبي حاتم.
3- بِمِصْرَ بُيُوتاً [الآية 87] .
قال مجاهد: بمصر الإسكندرية.
أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
4- مُبَوَّأَ صِدْقٍ [الآية 93] . قال قتادة: بالشام. أخرجه ابن المنذر «3» .
5- إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [الآية 83] .
قيل: الضمير لفرعون. و (الذّريّة) :
مؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون، وخازنه «4» . وامرأة خازنه.
6- إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [الآية 98] .
هم أهل قرية «نينوى» بشاطئ دجلة من بلاد الموصل.
أخرجه ابن أبي حاتم عن السّدّيّ وغيره.
__________
(1) . انتقى هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الطبري 11/ 68.
(3) . الطبري 11/ 107.
(4) . 11/ 114.(4/21)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يونس» «1»
1- وقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 2] .
المراد بقوله تعالى: قَدَمَ صِدْقٍ السابقة والفضل والمنزلة الرفيعة، وقد سمّيت السابقة «قدما» ، لأن السعي والسّبق بالقدم، كما سمّيت النّعمة يدا، لأنها تعطى باليد، وباعا لأن صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير.
وإضافته إلى صِدْقٍ دلالة على زيادة فضل، وأنه من السّوابق العظيمة، وقيل: مقام صدق.
2- وقال تعالى: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الآية 15] .
أراد تعالى بقوله: ما يَكُونُ لِي، ما يتسهّل لي، وما يمكنني أن أبدّله.
أقول: وهذا من معاني الفعل «كان» ، وهي التامّة غير الناقصة، التي تنصرف إلى معان عدّة.
وقوله تعالى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى تشتمل على «إن» النافية، وهذا يدعونا إلى أن نقف على هذه الأداة النافية قليلا.
قال النحاة في باب «ليس» وعملها:
إنّ النافيات: «ما» ، و «لا» ، و «لات» و «إن» ، تعمل عمل «ليس» . تعمل عمل «ليس» . فأما «إن» النافية فمذهب البصريين والفرّاء أنّها لا تعمل شيئا، ومذهب الكوفيين، خلا الفرّاء، أنها تعمل عمل «ليس» ، وقال به من البصريّين أبو العباس المبرّد، وأبو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.(4/23)
بكر بن السّرّاج، وأبو عليّ الفارسي، وأبو الفتح بن جني.
واستشهدوا مع ذلك بقول الشاعر:
إن هو مستوليا على أحد إلّا على أضعف المجانين وقال آخر:
إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا وذكر ابن جني في «المحتسب» أنّ سعيد بن جبير، رضي الله عنه، قرأ:
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) [الأعراف/ 194] .
أقول:
لا أريد أن أناقش عمل «إن» فتلك مسألة ضعيفة يعوزها الشاهد الآية، والشاهد الشعري الصحيح، ذلك بأن قراءة سعيد بن جبير قراءة خاصة، والقراءات الكثيرة تجمع على: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ «1» .
فليس في الآية «إن» النافية، بل هي «إنّ» المشبهة بالفعل للتوكيد، المشدّدة النون، وعلى هذا ليس في آي القرآن «إن» النافية التي تعمل عمل «ليس» .
أما البيتان اللذان ادّعي أنهما شاهدان في «إن» النافية العاملة، فهما بيتان يتيمان لا يعرف لهما قائل.
ومجموع هذه الشواهد، على ضعفها، يشير إلى أن الأداة غير عاملة على النحو الذي أرادوا.
غير أنّ «إن» النافية قد وجدت في آيات القرآن داخلة على الجملة اسمية وفعلية تنفيهما، ولكن النفي، في جميع الشواهد الآيات، منتقض ب «إلّا» .
أقول: ولولا «إلا» هذه، لكان السامع والقارئ في حيرة وإشكال من أمر هذه الأداة النافية «إن» ، لأن هذه الأداة على عدة أحوال فهي شرطية، وهي مخففة وهي زائدة. غير أن وجود «إلّا» جعل القارئ والسامع يدرك أنها نافية، ودونك طائفة من الآيات التي وردت فيها «إن» النافية:
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [الأنفال] .
إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال/ 34] .
__________
(1) . وعليها رسم المصحف الشريف.(4/24)
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام/ 116] .
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم/ 28] .
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) [يس] .
وغيرها كثير. ومثل هذه الشواهد قد نجدها في كلام العرب وهي قليلة «1» .
3- وقال تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [الآية 21] .
جواب (إذا) الشرطية الأولى هو (إذا) الثانية التي تفيد المفاجأة، وإنما جعل «إذا» جوابا لكونها بعض الجملة لما فيها من معنى المفاجأة، وهي ظرف مكان، وهو كقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) [الروم] .
ومعناه: وإن تصبهم سيّئة قنطوا.
ومعنى الآية المتقدمة: وإذا أذقنا الناس رحمة.... مكروا.
4- وقال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [الآية 22] .
في هذه الآية ابتداء خطاب وبعد ذلك إخبار عن غائب، لأنّ كلّ من أقام يخاطبه جاز له أن يردّه إلى الغائب، قال كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تفلّت
وقال عنترة:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم
وقوله تعالى: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ [الآية 23] .
المعنى: فلما أنجاهم بغوا «2» .
أقول: ومثل هذا الانتقال من الخطاب إلى الغيبة معروف في لغة التنزيل، وهو غرض ترمي إليه لغة العرب في غير القرآن من كلامهم.
5- وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [الآية 26] .
__________
(1) . فاتنا أن نشير إلى قوله تعالى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [يونس/ 68] .
والمعنى: ما عندكم من سلطان، وفي هذه الآية وردت «إن» النافية، ولم ينتقض نفيها ب «إلا» .
(2) . «مجمع البيان» للطبرسي 10/ 101.(4/25)
وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي: لا يغشى وجوههم غبرة فيها سواد، أي:
لا يرهقهم ما يرهق أهل النار إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. والفعل «رهق يرهق» ، قد جاء في أربع آيات أخرى بهذا المعنى، ومنها:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) [عبس] .
أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة إلا الفعل المزيد «أرهق» ، بمعنى «عذّب» و «آذى» و «حمّله ما لا يطيق» .
على أن الفعل المزيد قد جاء في ثلاث آيات منها:
وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) [الكهف] .
كما ورد «الرّهق» في آيتين من سورة الجن منهما:
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) [الجن] .
أي: زادوهم إثما وغيّا.
ولا بد أن نشير إلى الفعل «كان» الذي يعني «وجد» فهو مكتف بمرفوعه.
6- وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [الآية 28] .
قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي:
ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف «1» .
وقال الفرّاء: هي ليست من «زلت» بالضم، وإنما هي من «زلت» بالكسر وزلت الشيء فأنا أزيله إذا فرّقت ذا من ذا، وأبنت ذا من ذا، وقال فزيّلنا لكثرة الفعل، ولو قلّ لقلت: زل ذا من ذا.
وقرأ بعضهم: (فزايلنا) وهو مثل قولك: لا تصعّر ولا تصاعر.
وقال تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا [الفتح/ 25] .
يقول: لو تميّزوا.
أقول: وهذه بعض الذخائر اللغوية التي حفظها القرآن، ولولا ذلك لعفا الأثر وضاعت فرائد.
7- وقال تعالى:
__________
(1) . «الكشاف» : 2/ 343.(4/26)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) .
قال الزمخشري «1» :
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، أي: لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب.
أقول: هكذا درج المفسرون عامة على تفسير الظلم في هذه الآية، بمعنى نقصهم حسناتهم.
وقد يكون «نقص الحسنات والمصالح» ظلما، ولكني أقول:
المراد، والله أعلم، أنهم لم يظلموا شيئا، أي: ما كان قليلا جدا.
وأنا إن أذهب إلى هذا فدليلي ما يمكن أن يوحي به استعمال لفظ «شيء» في طائفة من آي الذكر الحكيم.
قال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ [البقرة/ 113] . عَلى شَيْءٍ أي: على شيء يصح ويعتدّ به.
وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [البقرة/ 155] .
بِشَيْءٍ بقليل من كل واحد من هذه البلايا، وطرف منه.
وقال تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران/ 154] .
يقول الكافرون بعضهم لبعض هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب، قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار، أي: أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء، أي: ليس لنا من ذلك شيء.
أقول: والقلّة المتضمنة في «شيء» ، يعضدها التنكير، وزيادة «من» الجارة قبلها.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
[النساء/ 113] .
والمعنى: لا يضرّونك بكيدهم ومكرهم شيئا، فإن الله حافظك وناصرك.
__________
(1) . «الكشاف» 2/ 349.(4/27)
وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام/ 38] .
أي: ما تركنا، وقيل: معناه ما قصرنا، وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ أي: مهما كان قليلا بدلالة التنكير.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام/ 159] .
هذا خطاب للنبيّ (ص) وإعلام له أنه ليس منهم في شيء، وأنه على المباعدة التامة، من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة.
وليس خافيا دلالة «الشيء» على القلة في هذه الآية.
وقال تعالى: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [هود/ 57] .
أي: ولا تضرّونه بتولّيكم شيئا من ضرر مّا، لأنه لا يجوز عليه المضار والمنافع، وإنما تضرّون أنفسكم.
وقال تعالى: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف/ 38] .
أي: ما صحّ لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله أيّ شيء كان من ملك، أو جنّيّ، أو إنسيّ، فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر. وقد بقي من معنى «شيء» في إفادة القلة والصغر الكثير في نثر الأدباء وشعرهم طوال العصور إلى عصرنا هذا، وقد نجد من ذلك شيئا في اللهجات الدارجة.
وقد يتضح هذا المعنى من القلة أن كلمة «شيء» تأتي كثيرا بعد النفي لتؤكد النفي وهي منكّرة. يقال: لا أعرف شيئا ولا أملك من شيء، وما يغنيني عن ذلك من شيء، والله أعلم بما أراد.
8- وقال تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [الآية 61] .
وَما يَعْزُبُ (قرئ بالضمّ والكسر، أي: وما يبعد وما يغيب.
وفي الحديث: أنهم كانوا في سفر مع النبي (ص) فسمع مناديا، فقال:
انظروه تجدوه معزبا أو مكلئا.
وهو الذي عزب في إبله أي: غاب.
والعازب من الكلأ: البعيد المطلب، والمعزب: طالب الكلأ البعيد.
والعزيب المال العازب عن الحيّ.
أقول: أراد ب «المال» الإبل وسائر الماشية.(4/28)
ومن المفيد أن أشير أن «العزيب» بهذا المعنى ما زالت معروفة لدى الرعاة في عصرنا.
9- وقال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) .
في هذه الآية وردت (إن) النافية مرتين، وكنا قد بسطنا القول فيها.
وقوله تعالى: يَخْرُصُونَ (66) ، أي: يحزرون ويقدّرون أن تكون شركاء تقديرا باطلا. ومن المفيد أن نبسط القول في الفعل «خرص» ، الذي كاد أن يطوى خبره في العربية المعاصرة، لولا ما نسمع قليلا من استعمالهم «تخرّص» بمعنى ابتدع الكذب والأوهام، وهي مثل ذلك في فصيح العربية كما في قوله تعالى:
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) [الذاريات] .
قال الزجاج: هم الكذّابون.
وتخرّص فلان على الباطل واخترصه، أي افتعله.
والفعل (يخرصون) في الآية بمعنى الحزر، ولأنه من الذين يتّبعون الظن فهو أقرب إلى الوهم والباطل.
ولنعد إلى «الخرص» أيضا فنقول:
وأصل الخرص: التظنّي فيما لا تستيقنه، ومنه خرص النخل والكرم، إذا حزرت التّمر لأنّ الحزر إنّما هو تقدير بظنّ لا إحاطة، والاسم الخرص، بالكسر، ومن هنا قيل للكذب خرص، لما يدخله من الظنون الكاذبة.
وقد خرصت النخل والكرم أخرصه خرصا، إذا حزرت ما عليها من الرطب تمرا، ومن العنب زبيبا.
وفي الحديث عن النبي (ص) أنه أمر بالخرص في النخل والكرم خاصة دون الزرع القائم، وذلك لأن ثمارها ظاهرة.
أقول: وما زال «الخرص» معروفا لتقدير ما على النخل من تمر لدى أهل البساتين في جنوبي العراق.
والذي نلاحظه أن مجموع ما يتصل بهذه اللفظة هو من العامي الدارج تقريبا، ولا نعرفه في الفصيحة المعاصرة.
10- وقال تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [الآية 78] .
أقول: والمراد بقوله تعالى:
لِتَلْفِتَنا لتصرفنا.
وأكثر من «لفت» استعمالا «التفت» وتلفّت المزيدان.(4/29)
قال تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود/ 81] .
وفي الحديث في صفته (ص) : فإذا التفت التفت جميعا، أراد أنه لا يسارق النظر.
وفي الحديث أيضا: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يلفت الكلام كما تلفت البقرة الخلى «1» بلسانها» .
أقول: إن ما في الحديث يذكّر بأقوال المعاصرين مما ولّدوه متأثرين باللغات الغربية الأعجمية وهو قولهم:
اللّف والدوران، وفلان يلف ويدور أي: لا يفصح ويعمّي عن قصد، وهي صفة تقرب من الاحتيال والخداع.
ويقولون في العربية المعاصرة: وهذا يلفت النظر، من «ألفت» وهو رباعيّ مولّد لا تعرفه الفصيحة.
وقولهم: «ألفت النظر» ، وهو ملفت للنظر في العربية المعاصرة، جديد من المجازات التي جدّت في العربية، والأصل فيها نقل ما في اللغات الأعجمية.
ومن المفيد أن نقف قليلا على مادة «لفت» ، لندرك سعة العربية التي جاءت بالفرائد من هذا الأصل القديم.
قالوا: واللّفوت من النساء: التي تكثر التلفّت، وقيل: هي التي يموت زوجها أو يطلّقها ويدع عليها صبيانا، فهي تكثر التلفّت إلى صبيانها.
وقيل: هي التي لها زوج، ولها ولد من غيره، فهي تلفّت إلى ولدها.
وفي الحديث: لا تتزوّجنّ لفوتا، وهي التي لها ولد من زوج آخر، فهي لا تزال تلتفت إليه وتشتغل به عن الزوج.
والألفت: القويّ اليد الذي يلفت من عالجه، أي: يلويه.
والألفت والألفك في كلام تميم:
الأعسر، سمّي بذلك لأنه يعمل بجانبه الأميل.
وفي كلام قيس: الأحمق مثل الأعفت، والأنثى لفتاء.
وفوائد أخرى قديمة أشارت إليها المعجمات.
11- وقال تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [الآية 88] .
أريد بالأمر في الآية الدعاء عليهم،
__________
(1) . الخلى: الرّطب من النبات.(4/30)
والمراد بالطّمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها.
والطّموس: الدروس والامّحاء، وطمس الطريق يطمس ويطمس طموسا: درس وامّحى أثره.
وطمسته طمسا يتعدّى ولا يتعدّى، وانطمس الشيء وتطمّس: امّحى ودرس.
وقال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس/ 66] .
ومعناه: لأعميناهم.
ويكون الطموس بمعنى المسخ، كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء/ 47] .
وكما ورد التعبير القرآنيّ: لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ في الآية السابقة، كذلك فقد ورد التعبير القرآنيّ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ في قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر/ 37] .
أي: مسحناها كسائر الوجه فلم ير لها شقّ، فلما تغيّر المعنى صير إلى المتعدي، ولم يأت بالخافض «على» كما في الآية.
وطمس النجم ذهاب ضوئه، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) [المرسلات] .
أقول:
والذي لنا من هذا الفعل في العربية المعاصرة، هو غير المتعدي «انطمس» ، لذهاب الأثر والامّحاء.
ولنا في اللهجات الدارجة قول العامة: طمس الرجل، وطمس الشيء، وهو الغطس في الماء وغيره كالوحل.
12- وقال تعالى: فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) .
أقول: قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعانِّ، فعل أمر مسند إلى ألف الاثنين، وحقه أن تحذف منه نون الرفع «نون الاثنين» .
وهذا يعني أن النون المكسورة المشدّدة هي نون التوكيد.
وقرئ بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، كما قالوا تشبيها بنون التثنية، وقرئ بتخفيف التاء أيضا.
13- وقال تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها [الآية 98] .
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ، أي: فهلّا كانت قرية واحدة.(4/31)
فمعنى (لولا) ، الحضّ فهي بمنزلة «هلّا» ، ومثلها قوله تعالى:
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [الآية 20] .
14- وقال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) .
أقول: حذفت الياء من «ننج» لغرض صوتي، وذلك لأن قصر المدّ والاكتفاء بالكسر مما يتطلبه إسكان اللام في الْمُؤْمِنِينَ، ليكون بين الجيم واللام صوت قصير هو الكسرة لأن المد الطويل، أي: الياء لا يجعل الكلمتين مرتبطتين على هذا النحو من الإحكام.
وإلا فليس من سبب آخر نحوي، أو ما يسمّى خط المصحف اقتضى ذلك.(4/32)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يونس» «1»
قال تعالى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [الآية 2] القدم هاهنا: التقديم، كما تقول: «هؤلاء أهل القدم في الإسلام» أي: الذين قدّموا خيرا فكان لهم فيه تقديم «2» .
وقال تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية 5] ثقيلة وَقَدَّرَهُ ممّا يتعدى إلى مفعولين، كأنه «وجعله منازل» . وقال تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [الآية 5] فجعل القمر هو النور كما تقول: «جعله الله خلقا» وهو «مخلوق» و «هذا الدرهم ضرب الأمير» . وهو «مضروب» . وقال جلّ شأنه: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة/ 83] فجعل الحسن هو المفعول كالخلق.
وقال تعالى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ وقد ذكر الشمس والقمر كما قال وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة/ 62] .
وقال سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [الآية 12] وكَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً [الآية 45] وهذا في الكلام كثير وهي «كأنّ» الثقيلة ولكن أضمر فيها فخفّفت كما تخفف أنّ ويضمر فيها، وإنما هي «كأنه لم» وقال الشاعر «3» [من الخفيف وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين] :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرخ. [.....]
(2) . نقله في الصحاح «قدم» والبحر 5/ 130.
(3) . هو زيد بن عمرو بن نفيل، الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 290، والخزانة 3/ 95 واللسان «ويا» وقيل هو نبيه بن الحجاج «اللسان» أيضا.(4/33)
وي كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ
وكما قال «1» [من الهزج وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائتين] :
[وصدر مشرق النّحر] ... كأن ثدياه حقّان «2»
أي: كأنه ثدياه حقّان. وقال بعضهم «كأن ثدييه» فخفّفها وأعملها، ولم يضمر فيها.
وقال تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً [الآية 19] على خبر «كان» كما إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً [يس/ 29 و 53] . أي «إن كانت تلك إلّا صيحة واحدة» .
وقال تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الآية 9] كأن (تجري) مبتدأة منقطعة من الأوّل.
وقال تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [الآية 22] ، وإنما قيل: وَجَرَيْنَ بِهِمْ لأنّ (الفلك) يكون واحدا وجماعة. قال تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) [الشعراء/ 119 ويس/ 41] وهو مذكر. وأمّا قوله جلّ شأنه حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ فجوابه قوله سبحانه: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [الآية 22] .
وأمّا قوله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ [الآية 22] فجواب لقوله سبحانه: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [الآية 22] وإنما قال بِهِمْ وقد قال كُنْتُمْ بذكر الغائب ومخاطبته. قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد العاشر بعد المائة] :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة أن تقلّت
وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الآية 23] أي: وذلك متاع الحياة الدنيا، وأراد «متاعكم متاع الحياة الدّنيا» .
وقال تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ [الآية 24] أي: كمثل ماء.
__________
(1) . هذا الشاهد أحد الخمسين التي لا يعرف قائلها في الكتاب.
(2) . صدره احدى صور وروده في المراجع المذكورة، وهي الكتاب 1/ 281 و 283 وتحصيل عين الذهب، وشرح ابن عقيل 1/ 334، وشرح الأبيات للفارقي 252، والخزانة 4/ 358، واللسان «أنن» مرتين.
(3) . هو كثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف ب «كثير عزة» وقد سبق الاستشهاد بهذا الشاهد.(4/34)
وقال تعالى: وَازَّيَّنَتْ [الآية 24] أي «وتزيّنت» ولكن أدغمت التاء في الزاي لقرب المخرجين، فلمّا سكن أولها زيد فيها ألف وصل، فصارت (وازّيّنت) ثقيلة «ازّيّنا» يريد المصدر وهو من «التزيّن» وإنما زيدت الألف بالإدغام حين أدغم ليصل الكلام، لأنه لا يبتدأ بساكن.
وقال تعالى: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [الآية 26] ، لأنه من «رهق» «يرهق» «رهقا» .
وقال تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [الآية 38] وهذا، والله أعلم، «على مثل سورته» وألقى «1» السورة كما قال:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ( [يوسف/ 82] يريد «أهل القرية» .
وقال تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [الآية 27] وزيدت الباء، كما زيدت في قولك «بحسبك قول السوء» .
وقال تعالى في قراءة من قرأ: (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [الآية 27] فالعين «2» ساكنة لأنه ليس جماعة «القطعة» ولكنه «قطع» اسم على حياله «3» . وقرأ عامّة الناس قِطَعاً»
يريدون به جماعة «القطعة» ويستند الأول إلى قوله تعالى:
مُظْلِماً لأن «القطع» واحد فيكون «المظلم» من صفته. والذين قالوا «القطع» يعنون به الجمع، وقالوا نجعل مُظْلِماً حالا ل اللَّيْلِ.
وقال تعالى: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [الآية 28] في معنى «انتظروا أنتم وشركاؤكم» .
وقال تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ
__________
(1) . نقله في الهمع 1/ 127 والمغني 1/ 110 وشرح المفصّل لابن يعيش 8/ 139 و 2/ 115 وشرح الرضي على الكافية 292 والبحر 5/ 147 و 148.
(2) . يقصد عين الكلمة في ميزانها وهو حرف الطاء.
(3) . هي في الطبري 11/ 110 إلى بعض متأخري القراء وفي السبعة 325 والكشف 1/ 517، والتيسير 121 والجامع 8/ 333 والبحر 5/ 150 الى ابن كثير والكسائي.
(4) . في معاني القرآن 1/ 462 أنها قراءة العامة، وكذلك نسب في الطبري 11/ 110 إلى عامة قراء الأمصار، وفي السبعة 325 إلى نافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، وفي البحر 5/ 150 إلى السبعة ممن لم يأخذ بالسابقة، وإلى ابن أبي عبلة، وفي الكشف 1/ 517 والتيسير 121 إلى غير ابن كثير والكسائي. وعلى هذه القراءة رسم المصحف.(4/35)
[الآية 30] أي: تخبر. وقرأ بعضهم «1» تتلو أي: تتبعه.
وقال تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الآية 31] . فإن قلت: «كيف دخلت (أم) على (من) فلأن (من) ليست في الأصل للاستفهام وانما يستغنى بها عن الألف، فلذلك أدخلت عليها (أم) ، كما أدخل على (هل) حرف الاستفهام وإنما الاستفهام، في الأصل الألف. و (أم) تدخل لمعنى لا بد منه. قال الشاعر «2» [من الطويل وهو الشاهد الثلاثون بعد المائتين] :
أبا مالك هل لمتني مذ حضضتني ... على القتل أم هل لامني لك لائم
«3» في قوله تعالى: ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) ، إن شئت جعلت (ماذا) اسما بمنزلة (ما) وإن شئت جعلت (ذا) بمنزلة «الذي» .
وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [الآية 53] كأنه قال «ويقولون أحقّ هو» .
وقال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) . وقرأ بعضهم (تجمعون) «4» أي: تجمعون يا معشر الكفار. وقرأ بعضهم (فلتفرحوا) «5»
__________
(1) . في معاني القرآن 1/ 463 نسبت إلى عبد الله بن مسعود، وفي الطبري 11/ 112 إلى جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز، وفي السبعة 325 والتيسير 121 والجامع 8/ 334 إلى حمزة والكسائي، وفي البحر 5/ 153 الى الأخوين وزيد بن علي.
(2) . هو في الكتاب 1/ 486 زفر بن الحارث، وفي تحصيل عين الذهب والدرر اللوامع 2/ 178 هو الجحّاف بن حكيم السّلمي، وكذلك في الأغاني 11/ 60.
(3) . في الأغاني والدرر ب «إذ» «مذ» وفي الدرر «فيك» بدل «منك» .
(4) . هي في الطبري 11/ 126 الى أبي بن كعب في رواية، والى أبي جعفر القارئ، وفي السبعة 327، والكشف 1/ 520، والتيسير 122، والجامع 8/ 354، إلى ابن عامر، وفي الشواذ 57 إلى زيد بن ثابت، وأبي جعفر المدني، وأبي النتاج، كذا، وفي البحر إلى أبي، وابن القعقاع، وابن عامر، والحسن على ما زعم هارون، ورويت عن النبي الكريم.
(5) . نسبت في معاني القرآن 1/ 469 إلى زيد بن ثابت، وفي الطبري 11/ 126 الى أبيّ في رواية، والحسن البصري، وأبي جعفر القارئ وفي الشواذ 57 إلى زيد بن ثابت، وأبي النتاج. كذا، وأبي جعفر المدني، وفي المحتسب 313 الى النبي الكريم، وعثمان بن عفان، وأبيّ بن كعب، والحسن، وأبي رجاء، ومحمد بن سيرين والأعرج وأبي جعفر، بخلاف، والسلمي وقتادة والجحدري، وهلال بن يساف والأعمش بخلاف، والعباس ابن الفضل وعمرو بن فائد، وفي الكشاف 1/ 520 الى ابن عامر وغيره، وفي الجامع 8/ 354 الى الحسن، ويزيد بن القعقاع، ويعقوب وغيرهم، وفي البحر 5/ 172 الى عثمان بن عفان، وأبي، وأنس، والحسن، وأبي رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين، وأبي جعفر المدني، والسلمي وقتادة، والجحدري، وهلال بن يساف، والأعمش، وعمرو بن فائد، والعباس بن الفضل الأنصاري، ورويت عن النبي الكريم، وأنها وردت عن يعقوب، وكذلك نسبت إلى ابن عطية، وابن القعقاع وابن عامر، والحسن، على ما زعم هارون. أما القراءة بالياء، فنسبت في معاني القرآن 1/ 469، والبحر 5/ 172 إلى العامة، وخصّ منهم الجامع 8/ 354 ابن عامر، وكذلك في الكشف 1/ 520، وفي الطبري 11/ 126 إلى قراء الأمصار، وإلى أبي التياح، وأبي بن كعب في رواية. [.....](4/36)
وهي لغة للعرب رديئة، لأن هذه اللام إنما تدخل في الموضع الذي لا يقدر فيه على «افعل» يقولون: «ليقل زيد» لأنك لا تقدر على «افعل» . ولا تدخل اللام إذا كلمت الرجل فقلت «قل» ولم تحتج إلى اللام «1» . وقوله تعالى:
فَبِذلِكَ بدل من قوله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.
وقال تعالى في قراءة من قرأ: (وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) [الآية 61] على تقدير: «ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر» بالرفع «2» . وقرأ أكثرهم (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) «3» بالفتح أي: (ولا من أصغر من ذلك ولا من أكبر) ولكنه «أفعل» ولا ينصرف، وهذا أجود في العربية، واكثر في القراءة، وبه نقرأ.
وقال تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [الآية 71] تقول العرب:
أجمعت أمري أي أجمعت على أن أقول كذا، أي عزمت عليه وقرأ بعضهم (وشركاؤكم) «4» والنصب أحسن «5» لأنك لا تجري الظاهر
__________
(1) . نقله في الصحاح «تا» .
(2) . في الطبري 11/ 130 هي قراءة بعض الكوفيين، وفي السبعة 328 إلى حمزة وحده، كذلك في الكشف 1/ 521 والتيسير 123، والبحر 5/ 174، وزاد في الجامع 8/ 356 يعقوب.
(3) . في الطبري 11/ 130 إلى عامة القراء، وكذلك في البحر 5/ 174، وفي الكشف 1/ 521، والتسير 123 الى غير حمزة، وفي السبعة 328 إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وعاصم وابن عامر، والكسائي.
(4) . في معاني القرآن 1/ 473 هي قراءة الحسن، وكذلك في الطبري 11/ 142، وفي الشواذ 57 إلى الحسن ويعقوب وسلام، وفي البحر 5/ 179 إلى أبي عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب. وفي الجامع 8/ 362 الى الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب وفي المحتسب 8/ 362 الى أبي عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وسلام ويعقوب وأبي عمرو.
(5) . في الطبري 11/ 142 إلى قراء الأمصار، وفي البحر 5/ 179 إلى الزهري والأعمش والجحدري وأبي رجاء والأعرج، والأصمعي عن نافع ويعقوب بخلاف، وفي المحتسب 314 الى الأعرج وأبي رجاء وعاصم والجحدري والزهري والأعمش، وفي الجامع 8/ 362 إلى عاصم والجحدري.(4/37)
المرفوع على المضمر المرفوع، إلا أنه قد حسن، في هذا، للفصل الذي بينهما، كما في قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا [النمل/ 67] فحسن، لأنه فصل بينهما بقوله سبحانه تُراباً.
وقرأ بعضهم (فاجمعوا) «1» . وبالمقطوع نقرأ.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [الآية 71] يَكُنْ جزم بالنهي.
وقال تعالى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا [الآية 77] قرئ سِحْرٌ على الحكاية لقولهم، كما ورد في التنزيل: أَسِحْرٌ هذا، وقول موسى (ع) أَتَقُولُونَ أَسِحْرٌ هذا «2» .
وقال تعالى: لِتَلْفِتَنا [الآية 78] من لفت يلفت، نحو أنا ألفته، «لفتا» أي:
ألويه عن حقّه.
وقال تعالى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ [الآية 81] أي: (الذي جئتم به السحر) وقرأ بعضهم (السحر) بالاستفهام «3» .
وقال سبحانه: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [الآية 83] أي ملأ الذرّيّة «4» .
وقال تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا [الآية 88] بنصب يُؤْمِنُوا لأنّه جواب الدعاء بالفاء.
قال تعالى: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [الآية 88] أيّ: فضلّوا. كما قال سبحانه: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8] أي: فكان. وهم لم يلتقطوه ليكون
__________
(1) . قراءة وصل الهمزة هي في السبعة 328 الى نافع، وفي المحتسب 314 الى الأعرج، وأبي رجاء، وعاصم الجحدري، والزهري، والأعمش، واقتصر في الجامع 8/ 362 على عاصم الجحدري، وفي البحر 5/ 179 الى الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبي رجاء، والأعرج، والأصمعي عن نافع ويعقوب بخلاف عنه.
(2) . نقله في إعراب القرآن 2/ 463، والجامع 8/ 466.
(3) . في معاني القرآن 1/ 475 نسبت الى مجاهد وأصحابه، وفي الطبري 11/ 148 الى مجاهد، وبعض المدنيين، والبصريين، وفي السبعة 328، والكشف 1/ 516، والجامع 8/ 368، الى أبي عمرو، وزاد في البحر 5/ 182 مجاهدا وأصحابه، وابن القعقاع. أما القراءة بلا استفهام، ففي الطبري 11/ 148 الى عامة قرّاء الحجاز والعراق، وفي السبعة 328، والكشف 1/ 521، والجامع 8/ 368 الى غير أبي عمرو، وفي البحر 5/ 183 الى غير من أخذ بالأخرى من السبعة.
(4) . نقله في المشكل 1/ 353، وإعراب القرآن 2/ 464، والجامع 8/ 370، والبحر 5/ 183، و 184 والبيان 1/ 419، والإملاء 2/ 32.(4/38)
لهم عدوّا وحزنا، وإنّما التقطوه فكان، هذه اللام تجيء في هذا المعنى.
وقوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا عطف على لِيُضِلُّوا في الآية 88 نفسها، من سورة يونس.
وقال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [الآية 92] قرأ بعضهم (ننجيك) «1» وقوله سبحانه: بِبَدَنِكَ أي: لا روح فيه «2» .
وقال بعضهم معنى: نُنَجِّيكَ نرفعك على نجوة من الأرض. وليس قولهم: «أنّ البدن هاهنا» «الدرع» بشيء ولا له معنى «3» .
وقال تعالى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [الآية 97] بتأنيث فعل الكل، عند إضافته الى الآية، وهي مؤنّثة «4» .
وقال تعالى: لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [الآية 99] فجاء بقوله جَمِيعاً توكيدا، كما في قوله سبحانه: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل/ 51] ففي قوله: إِلهَيْنِ دليل على الإثنين «5» .
وقال تعالى: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) أي: «كذلك ننجي المؤمنين حقّا علينا» .
وقال تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الآية 105] أي: وأمرت أن أقم وجهك للدّين.
__________
(1) . في البحر 5/ 189 الى يعقوب. ونقله في إعراب القرآن 2/ 466، والجامع 8/ 380.
(2) . نقله في الصحاح «بدن» ، ونقله في الجامع 8/ 380.
(3) . نقله في الجامع 8/ 380.
(4) . نقله في زاد المسير 4/ 64.
(5) . نقله في زاد المسير 4/ 67، والجامع 8/ 385. [.....](4/39)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يونس» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) ، والله تعالى فصّل الآيات للعلماء وسواهم.
قلنا: لمّا كان تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء، وكان انتفاعهم بالتفصيل أكثر من انتفاع سواهم به، فقد أضاف التفصيل إليهم وخصهم به.
فإن قيل: لم قال تعالى سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) ، مع أن أقوال أهل الجنة وأحوالهم لا آخر لها، لأن الجنة دار الخلود؟
قلنا: معناه آخر دعائهم في كل مجلس، دعاء أو ذكر أو تسبيح، فإن أهل الجنة يسبّحون ويذكرون للتنعم والتلذذ بالذكر والتسبيح. فإن قيل: قد أنكر الله تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته، في قوله سبحانه: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام/ 148] . ولهذا لا يجوز للعاصي أن يحتج في وجود المعصية منه، بقوله لو شاء الله ما فعلت هذه المعصية فلا تقيموا عليّ حدها فكيف ورد في التنزيل على لسان النبي (ص) :
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ [الآية 16] ؟
قلنا: النبي (ص) قال هذه الجملة بأمر الله تعالى، لأن الله عزّ وجلّ قال له: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وللعبد أن يحتجّ بمشيئة الله إذا أمره الله أن يحتج بها، أما ما ليس
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/41)
كذلك، فليس له أن يحتجّ بمجرّد المشيئة، وما أوردتموه كذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 23] .
والبغي لا يكون إلا بغير الحق، لأن البغي هو التعدي والفساد، من قولهم بغى الجرح إذا فسد، كذا قاله الأصمعي، فما فائدة التقييد؟.
قلنا: قد يكون الفساد بالحق، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله (ص) ببني قريظة.
فإن قيل: لم شبه الله تعالى الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض، فقال سبحانه: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [الآية 24] ؟
قلنا: لأن ماء السماء وهو المطر، لا تأثير لكسب العبد فيه، ولا حيلة للعبد في زيادته ونقصانه، كما أن الحياة لا حيلة للعبد في زيادتها ونقصانها.
الثاني: أن ماء السماء يستوي فيه جميع الخلائق، الوضيع والشريف، الغني والفقير، الحيوان وغيره أيضا كالمدر والحجر والشوك والثمر، كما أن الحياة كذلك، فكأن تشبيه الحياة بماء السماء أشد مناسبة ومطابقة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [الآية 28] وقال في موضع آخر وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة/ 174] .
قلنا: يوم القيامة مواقف ومواطن، ففي موقف لا يكلّمهم، وفي موقف يكلّمهم، ونظيره قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن] وقوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر] . الثاني المراد أنه لا يكلمهم كلام إكرام بل كلام توبيخ وتقريع.
فإن قيل: قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية 31] إلى آخر الآية، يدل على أنهم معترفون أن الله تعالى هو الخالق والرازق والمدبّر لجميع المخلوقات، فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟
قلنا: كانوا، في عبادتهم الأصنام، يعتقدون أنهم يتقرّبون بها إلى الله سبحانه فطائفة منهم كانت تقول نحن(4/42)
لا نتأهّل لعبادة الله تعالى بغير واسطة، لعظمة إجلاله، ونقصنا وحقارتنا، فجعلوا الأصنام وسائط، كما قال تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر/ 3] وطائفة كانت تقول:
نتّخذ أصناما على هيئة الملائكة، ونعبدهم، لتشفع لنا الملائكة عند الله، ليقرّبونا إلى الله، وطائفة كانت تقول:
الأصنام قبلة لنا في عبادة الله، كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وطائفة، وهي الأكثر، كانت تقول: على كل صنم شيطان موكل به من عند الله، فمن عبد الصنم حق عبادته، قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده، بأمر الله، ومن قصّر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله فكل الطوائف من عبدة الأصنام، كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، ولكن بطرق مختلفة.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) فحصر سبحانه شهادته على أفعالهم، في الآخرة، مع أنه شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة؟
قلنا: ذكر الشهادة وأراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب والجزاء، فكأنه قال: ثم الله يعاقب على ما يفعلون، أو مجاز على ما يفعلون، كما قال تعالى:
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة/ 197] ونظائره في القرآن العزيز كثيرة.
فإن قيل: لم قال تعالى: بَياتاً أَوْ نَهاراً [الآية 50] ولم يقل ليلا أو نهارا، وهو أظهر في المطابقة، استعمالا مع النهار في القرآن العزيز وغيره؟
قلنا: لأن المعهود المألوف في كلام العرب، عند ذكر البطش والإهلاك والوعيد والتهديد، ذكر لفظ البيات سواء أقرن به النهار أم لم يقرن، فلذلك لم يقل ليلا.
فإن قيل: لم قال تعالى: ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أي ماذا يستعجلون منه، وأول الآية للمواجهة؟
قلنا: أراد بذكر المجرمين الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ويفزع من مجيئه، وإن أبطأ، فضلا عن أن يستعجله.(4/43)
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [الآية 58] ولم يقل فبذينك، والمشار إليه اثنان:
الفضل والرحمة.
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة في قوله تعالى عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة/ 68] .
فإن قيل: قوله تعالى: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 60] تهديد، لأن فيه محذوفا تقديره: وما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم، فكيف يناسبه قوله تعالى بعده: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ.
قلنا: هو مناسب، لأن معناه أن الله لذو فضل على الناس، حيث أنعم عليهم بالعقل، والوحي، والهداية، وتأخّر العذاب، وفتح باب التوبة فكيف يفترون على الله الكذب مع توافر نعمه عليهم؟
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [الآية 61] ، فأفرد، ثم قال في الآية نفسها وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فجمع، والخطاب للنبي (ص) ؟ قلنا: قال ابن الأنباري: إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي (ص) في الفعلين الأوّلين. وقال غيره: المراد بالفعل الثالث أيضا النبي (ص) وحده، وإنما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة/ 75] على قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكما في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون/ 51] . والمراد به النبي (ص) ، كذا قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، واختاره ابن قتيبة والزجّاج.
فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء في قوله تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [الآية 61] وقدّم السماء على الأرض في قوله تعالى في سورة سبأ:
عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ/ 3] ؟
قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض مطلقا لأنها أشرف، لكنه لما ذكر هنا في صدر الآية شهادته على شؤون أهل الأرض وأقوالهم وأعمالهم، ثم أردفه بقوله سبحانه:(4/44)
وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ [الآية 61] ناسب ذلك تقديم الأرض على السماء. الثاني أن العطف بالواو نظير التثنية وحكمه حكمها، فلا يعطى رتبة كالتثنية.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [الآية 65] وقال في موضع آخر وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون/ 8] ؟
قلنا: أثبت الاشتراك في نفس العزة التي هي في حق الله تعالى القدرة والغلبة، وفي حق الرسول (ص) علوّ كلمته وإظهار دينه، وفي حقّ المؤمنين نصرهم على أعدائهم، وقوله تعالى:
إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [الآية 65] أراد به العزة الكاملة التي يندرج فيها عزة الإلهية، والخلق، والإماتة، والإحياء والبقاء الدائم، وما أشبه ذلك فلا تنافي.
فإن قيل: إذا كانت السموات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، وما وراءهما كل ذلك لله تعالى ملكا وخلقا، فما فائدة التخصيص في قوله تعالى في الآية التالية: مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ قلنا: إنما خص العقلاء المميّزين بالذكر، وهم الملائكة والثقلان، ليعلم أن هؤلاء إذا كانوا عبيدا له، وهو ربّهم، ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا للشركة معه، فما وراءهم ممّا لا يعقل كالأصنام والكواكب ونحوهما، أحقّ أن لا تكون له ندّا وشريكا.
فإن قيل: لم ورد قوله تعالى على لسان موسى (ع) أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا [الآية 77] على طريق الاستفهام، وهم إنّما قالوا ذلك على طريق الإخبار، أو التحقيق المؤكّد، بأن واللام، لا على طريق الاستفهام، قال الله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ؟
قلنا: فيه إضمار تقديره. أتقولون للحق لمّا جاءكم إن هذا لسحر مبين.
ثم قال أَسِحْرٌ هذا إنكارا لما قالوه، فالاستفهام من قول موسى (ع) لا مفعول لقولهم.
فإن قيل: لم نوّع الخطاب في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ(4/45)
قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
(87) فثنّي أولا ثم جمع ثم أفرد؟
قلنا: خوطب أولا موسى وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك ممّا يفوض إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم سيق الخطاب عامّا لهما، ولقومهما، باتّخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خصّ موسى (ع) بالبشارة تعظيما لها أو تعظيما له عليه السلام.
فإن قيل: لم قال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [الآية 89] أضافها إليهما، والدعوة إنما صدرت عن موسى عليه السلام، قال الله تعالى:
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً [الآية 88] إلى آخر الآية؟
قلنا: نقل أن موسى (ع) كان يدعو، وهارون (ع) كان يؤمّن على دعائه والتأمين دعاء في المعنى، فلهذا أضاف الدعوة إليهما. الثاني: أنه يجوز أن يكون هارون دعا أيضا مع موسى، إلا أن الله تعالى خصّ موسى بالذكر، لأنه كان أسبق بالدعوة، وكان أصلا فيها، فجاء هارون ليعاونه في حملها بدعوة من موسى، استجاب لها الله تعالى.
فإن قيل: لو كان كذلك، لقال تعالى دعونا كما بالتثنية؟
قلنا: لما كانت الدعوة مصدرا، اكتفي بذكرها في موضع الإفراد والتثنية والجمع بصيغة واحدة كسائر المصادر، ونظيره قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة/ 7] .
فإن قيل: لم قال تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [الآية 94] و «إن» إنما تدخل على ما هو محتمل الوجود، وشك النبي (ص) في القرآن منتف قطعا؟
قلنا: الخطاب ليس للنبي (ص) بل لمن كان شاكّا في القرآن، وفي نبوة محمد (ص) ، فكأنه قال «فإن كنت أيّها الإنسان في شكّ» .
فإن قيل: قوله تعالى: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يدل على أن الخطاب للنبي (ص) لا لغيره.
قلنا: لا يدل، قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) [النساء](4/46)
وقال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التوبة/ 64] . الثاني أن الخطاب للنبي (ص) والمراد غيره، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب/ 1] ويعضده قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) [النساء] ويعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده:
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [الآية 104] . الثالث: أن تكون «إن» بمعنى ما، تقديره: فما كنت في شكّ مما أنزلناه إليك فاسأل. المعنى لسنا نأمرك أن تسأل أحبار اليهود والنصارى عن صدق كتابك، لأنك في شكّ منه، بل لتزداد بصيرة ويقينا وطمأنينة. الرابع: أن الخطاب للنبي (ص) ، مع انتفاء الشك منه قطعا، أو المراد به إلزام الحجة على الشاكّين الكافرين، كما يقول لعيسى (ع) أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة/ 116] وهو عالم بانتفاء هذا القول منه، لإلزام الحجّة على النصارى.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [الآية 99] ما الحكمة في ذكر جَمِيعاً بعد قوله سبحانه كُلُّهُمْ وهو يفيد الشمول والإحاطة؟
قلنا: «كلّ» يفيد الشمول والإحاطة، ولا يدل على وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع، و «جميعا» يدل على وجوده منهم في حالة واحدة، كما تقول جاءني القوم جميعا: أي مجتمعين، ونظيره قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر] .
فإن قيل: قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 101] كيف يصح هذا الأمر، مع أنّا لا نعلم جميع ما فيهما ولا نراه؟
قلنا: هو عامّ أريد به ما ندركه بالبصر ممّا فيهما، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والمعادن والحيوانات والنبات، ونحو ذلك ممّا يدل على وجود الصانع وتوحيده وعظيم قدرته، فيستدلّ به على ما وراءه.
فإن قيل في قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الآية 107] ما الحكمة في ذكر المسّ في الضر، والإرادة في الخير؟(4/47)
قلنا: لاستعمال كل من المسّ والإرادة في كل من الضرّ والخير، وأنه لا مزيل لما يصيب به منهما، ولا رادّ لما يريده فيهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما لم يذكر، مع أنه قد ذكر المسّ فيهما في سورة الأنعام، وإنما عدل هنا عن لفظ المسّ المذكور في سورة الأنعام، إلى لفظ الإرادة، لأن الجزاء هنا قوله تعالى:
فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [الآية 107] والرد إنما يكون في ما لم يقع بعد، والمسّ إنما يكون في ما وقع، فلهذا قال تعالى ثمّ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) [الأنعام] ومعناه، فإن شاء أدام ذلك الخير، وإن شاء أزاله، فلا يطلب دوامه وزيادته إلّا منه تعالى.(4/48)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يونس» «1»
قوله سبحانه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الآية 2] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا:
السابقة في الإيمان، والتقدّم في الإخلاص. والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية في البلاغة، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم. فسمّيت قدما لذلك. وإن كان التأخّر أيضا يكون بها، كما يكون التقدّم بخطوها، فإنّما سمّيت بأشرف حالاتها وأنبه متصرّفاتها. وقال بعضهم: إيمانهم في الدنيا هو قدمهم في الآخرة. لأن معنى القدم في العربية: الشيء تقدّمه أمامك ليكون عدّة لك، حتى تقدم عليه. وقال بعضهم: ذكر القدم هاهنا على طريق التمثيل والتشبيه، كما تقول العرب: قد وضع فلان رجله في الباطل، وتخطّى الى غير الواجب.
ومعناه أنه انتقل الى فعل ذلك، كما يتنقّل الماشي، وإن لم يحرّك قدمه، ولم ينقل خطاه.
وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الآية 3] وهذه استعارة. لأن حقيقة الاستواء إنّما توصف بها الأجسام التي تعلو البساط وتميل وتعتدل. والمراد بالاستواء هاهنا:
الاستيلاء بالقدرة والسلطان، لا بحلول القرار والمكان. كما يقال:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(4/49)
استوى «1» فلان الملك على سرير ملكه. بمعنى استولى على تدبير الملك، وملك مقعد الأمر والنهي.
وحسن صفته بذلك، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه، ولا مكان عال يشار اليه. وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته، واستيلاء سلطانه على رعيته.
فإن قيل: فالله سبحانه مستول على كل شيء بقهره وغلبته، ونفاذ أمره وقدرته، فما معنى اختصاص العرش بالذكر هاهنا؟ قيل، كما ثبت، أنه تعالى ربّ لكل شيء. وقد قال في صفة نفسه، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) [التوبة والمؤمنون/ 86 والنمل/ 26] فإن قيل:
فما معنى قولنا عرش الله، إن لم يرد بذلك كونه عليه؟ قيل كما يقال: بيت الله وإن لم يكن فيه، والعرش في السماء تطوف به الملائكة تعبّدا، كما أن البيت في الأرض تطوف به الخلائق تعبّدا.
وقوله سبحانه: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [الآية 10] وهذه استعارة على بعض الأقوال. كأنّ المعنى، أنّ بشراهم بالسلامة من المخاوف عند دخول الجنّة، تجعل مكان التحية لهم. لأن لكل داخل دارا تحيّة يلقى بها، ويؤنس بسماعها. والسلام هاهنا من السلامة، لا من التسليم.
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها [الآية 24] . وهذه استعارة حسنة، لأن الزّخرف في كلامهم اسم للزّينة واختلاف الألوان المونقة.
وقوله سبحانه: أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها. أي لبست زينتها بألوان الأزهار، وأصابيع الرياض، كما يقال:
أخذت المرأة قناعها. إذا لبسته. وتقول لها: خذي عليك ثوبك. أي البسيه.
وقوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف/ 31] أي البسوا ثيابكم.
وقوله سبحانه: فَجَعَلْناها حَصِيداً [الآية 24] . استعارة أخرى، لأن
__________
(1) . ومنه قول الراجز:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
انظر «القرطبي» ج 7 ص 220.(4/50)
الحصيد من صفة النبات، لا من صفة الأرض. والمعنى: فجعلنا نباتها كذلك. فاكتفى بذكر الأرض من ذكر النبات لأن النبات فيها، ومنشأه منها.
وقوله سبحانه: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [الآية 27] . وهذه استعارة. لأن الليل على الحقيقة لا يوصف بأن له قطعا متفرقة، وأجزاء متنصفة. وإنما المراد، والله أعلم، أن الليل لو كان ممّا يتبعّض وينفصل، لأشبه سواد وجوههم أبعاضه وقطعه. ونصب سبحانه مُظْلِماً على أنه حال من الليل. وفيه زيادة معنى.
لأن الليل قد سمّي ليلا وإن كان مقمرا، فإنما قال سبحانه: مظلما، على أنّ التشبيه إنما وقع به أسود ما يكون جلبابا، وأبهم أثوابا.
وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 67] وهذه استعارة عجيبة. وقد أومأنا الى نظيرها فيما تقدم. وذلك أنه سبحانه، إنما سمّى النهار مبصرا، لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له، على طريق المبالغة. كما قالوا: ليل أعمى وليلة عمياء. إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها.
وقوله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [الآية 71] . فَأَجْمِعُوا من الإجماع. وهذه استعارة. والمعنى اشتوروا في أمركم، وأجمعوا له بالكم، وبالغوا في قدح الرأي بينكم، حتى لا يكون أمركم غمة عليكم «1» . أي مغطّى تغطية حيرة، ومبهما إبهام جهالة، فيكون عليكم كالغمّة العمياء، والطخية «2» الظلماء.
وذلك مأخوذ من قولهم: غمّ الهلال.
إذا تغطى ببعض الموانع التي تمنع من رؤيته. ثم افعلوا بي ما أنتم فاعلون.
وهذه حكاية لقول نوح عليه السلام لقومه. ويخرج الكلام منه على الاستقلال لكيدهم، وقلة الحفل باستجماعهم واحتشادهم.
وقوله سبحانه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 88] .
__________
(1) . ومنه قول الشاعر الجاهلي طرفة:
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة ... نهاري، ولا ليلي عليّ بسرمد
(2) . الطّخية: الظلمة.(4/51)
وهذه استعارة لأنّ حقيقة الطمس محو الأثر. من قولهم: طمست الكتاب. إذا محوت سطوره. وطمست الريح ربع الحيّ. إذا محت رسومه. فكأنّ موسى عليه السلام، إنما دعا الله سبحانه بأن يمحو معارف أموالهم بالمسح لها، حتى لا يعرفوها، ولا يهتدوا إليها، وتكون منقلبة عن حال الانتفاع بها، لأن الطمس تغيّر حال الشيء الى الدّثور والدّروس.
وقوله تعالى: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة أخرى. إما أن يكون المراد بها ما يراد بالختم والطبع. لأن معنى الشدّ يرجع الى ذلك. أو يكون المراد به تثقيل العقاب على القلوب، بالإيلام لها، ومضاعفة الغمّ والكرب عليها. ويكون ذلك على معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» «1» أي غلّظ عليهم عقابك، وضاعف عليهم عذابك.
وقوله سبحانه: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وهذه استعارة. وقد أومأنا الى مثلها فيما تقدّم. والمراد بها: استقم على دينك، واثبت على طريقك. وخصّ الوجه بالذكر، لأنه به يعرّف توجّه الجملة نحو الجهة المقصودة، وقد يجوز أن يكون المراد بذلك، والله أعلم، أقم وجهك أي قوّمه نحو القبلة التي هي الكعبة.
مستمرّا على لزومها، وغير منحرف عن جهتها.
__________
(1) . هذا الحديث في مسند ابن حنبل ج 12 ص 250 بتحقيق المحدّث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد ذكر الشيخ أن إسناده صحيح. وقد رواه ابن سعد في الطبقات، ورواه مسلم والبخاري في صحيحيهما. ونص الحديث في المسند: (لما رفع النبي (ص) رأسه من الركعة الاخيرة من صلاة الصبح، قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكّة. اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف) .(4/52)
سورة هود 11(4/54)
المبحث الأول أهداف سورة «هود» «1»
تمهيد عن الوحدة الموضوعية للسورة
هود عليه السلام هو أول رسول الى قوم عاد، وعاد أول أمة من نسل سام بن نوح «2» ، وقد تحدّث القرآن كثيرا عن هود فيمن تحدّث عنهم من رسل الله الكرام وقد ذكر باسمه خمس مرات في هذه السورة التي سميت باسمه.
وسورة هود من السور المكّيّة، شأنها كشأن السّور المكّيّة الأخرى: تقرير أصول الدين، وإقامة الأدلة عليها وردّ الشّبه التي كان يثيرها المعارضون حول الدعوة وصاحبها، والحديث عن اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وهي الموضوعات نفسها التي تحدثت عنها السورة السابقة، سورة يونس.
عناصر الدعوة الإلهية
والمتدبّر لسورة هود يرى أنها قررت عناصر الدعوة الإلهية- وهي التوحيد والرسالة والبعث- من طريق الحجج العقلية، مع الموازنة بين النفوس المستعدة للايمان، والنفوس النافرة منه. وقد عرضت لذلك في أربع وعشرين آية يختم بها الربع الأول منها، ثمّ أخذت السورة تتحدّث عن جملة من الرسل السابقين لبيان وحدة الدعوة الإلهية، وتسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنذارا للمكذّبين.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
(2) . محمود شلتوت، الى القرآن الكريم ص 77.(4/55)
ويستغرق قصص هؤلاء الرسل الكرام معظم السورة، فتذكر قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى (ع) . وطريقة العرض هنا تختلف عنها في سورة أخرى، والحلقات التي تعرض من كل قصة تختلف كذلك لاختلاف السياق، فيمتنع التكرار، فيما يخيل أنه تكرار للقارئ العابر للقرآن الكريم.
هذا القصص الذي يستغرق معظم سورة هود: مرتبط كلّ الارتباط بما قبله وما بعده من السورة، متناسق مع السياق حتى في التعبير اللفظي أحيانا، فالقصة والمشهد والعظة والتعقيب تتناسق كلها تناسقا عجيبا، وتكشف عن بعض وظيفة القصة في القرآن الكريم.
تبدأ سورة هود بقوله تعالى.
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) .
وهذا المطلع، يقرر أن المهمة الأولى للنبي هي الدعوة إلى توحيد الله، وينذر بالعذاب من يكذّب بدعوة الله. ويبشّر بالنعيم من آمن بها.
وقصص السورة كله يساق لتوكيد هذين المعنيين، فيرد في ألفاظ تكاد تكون واحدة يقولها كل رسول. وكأنما يقولها ويمضي، حتّى يأتي أخوه فيقولها كذلك ويمضي، والمكذّبون هم المكذّبون.
تبدأ قصة نوح بقوله تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) .
ثمّ بقوله جلّ وعلا حكاية على لسان هود وصالح وشعيب (ع) :
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 50] .
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 61] .
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الآية 84] .
ونهايات القصص كلّها، هلاك المكذّبين وعقوبة المعتدين، ووعيد لجميع المتكبّرين عن الإيمان بالحق، والانقياد للعقيدة الصحيحة، قال تعالى:
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) .(4/56)
وتتضمّن سورة هود إثبات الوحي، وتنزيل القرآن من عند الله سبحانه، وتثبيت الرسول (ص) ، وتقوية يقينه مع من آمن به من المؤمنين، حتّى لا يضيق صدرهم بالمكذّبين والمستهزئين.
ثم يختم القصص في سورة هود بقوله تعالى:
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) .
وهكذا نجد أن القصة في القرآن الكريم، تؤدّي دورا متناسقا مع موضوع السورة وسياقها، وتعرض بالطريقة والعبارة اللتين تحققان هذا التناسق الجميل الدقيق.
1- العقيدة والايمان بالله
يتضمّن الدرس الأول من السورة:
دعوة المشركين إلى توحيد الله واستغفاره والتوبة ممّا هم فيه، ويبشّرهم إن فاءوا الى هذا بمتاع حسن وجزاء طيّب، وينذر المعرضين عن الدعوة بعذاب كبير، ويقرر عقيدة الإيمان باليوم الآخر، والرجعة الى الله لتحقيق البشرى والإنذار، ثم يعرض مشهدا لهم وهم يحاولون التخفّي عن مواجهة الرسول، وهو يجيبهم بالبيان، يعقّب عليه بعلم الله الشامل اللطيف الذي يتابعهم وهم أخفى ما يكونون عن العيون، ويتصل بهذا المعنى علم الله بكلّ دابة في الأرض حيث تكون.
كما يتصل به الحديث عن خلق السماوات والأرض.
ثم يعرض صورا من النفس البشرية القلقة المتعجّلة في السراء والضراء.
ومع ذلك فهم يستعجلون العذاب إذا ما أخّر عنهم الى حين.
ثم ينتقل الى التحدي بالقرآن الذي يقولون إنه مفترى من دون الله، وتهديد من لا يؤمنون بالآخرة، ومن يفترون على الله الكذب، ويعرض مشهدا من مشاهد القيامة يتجلى فيه مصداق هذا الوعيد، ومصداق البشرى للمؤمنين.
ومن المعالم البارزة في هذا الدرس ما يأتي:
1- تقرير عقيدة التوحيد، وسوق الأدلة على قدرة الله سبحانه الذي أبدع الكون على غير مثال سابق.
وقد تتساءل عن سر عناية القرآن بعقيدة التوحيد، وتكرير الدعوة إليها في كثير من آياته.(4/57)
والجواب أنه ما كان لدين أن يقوم في الأرض، وأن يقيم نظاما للبشر قبل أن يقرر هذه الدعوة.
فالتوحيد مفترق الطريق بين الفوضى والنظام، بين الخرافة والإيمان، بين الهوى واليقين.
والاعتراف بوجود الله ضروري في الفطرة السليمة، لأنّ الله خلق الإنسان، وأودعه نفخة مقدسة من الروح، ولذلك تتجه الفطرة الى الله خالقها وبارئها لتروي ظمأها اليه، وتلبي نداء الشوق الكامن إليه في أعماقها.
2- عناية الآيات، بأن تلفت نظر الإنسان الى ما في الكون من آيات القدرة، ودلائل الإعجاز، وعجائب الصنع، ومواطن الاعتبار. فهذا الكون الفسيح الشاسع الأرجاء وما فيه من قوى منظورة لنا وغير منظورة، وما يخضع له من نظام لا يحتمل الخلل، ودقة لا تسمح بالعبث، دليل على أن هذا الكون لم يوجد من طريق صدفة عمياء، بل وجد لأنّ خالقا حكيما هو الذي أوجده.
3- إثبات علم الله بكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، وتقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا العالم الفسيح، وتيسير الأسباب للسعي والحركة وعمارة الكون، ومن الآيات المشهورة بين الناس قوله تعالى:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) .
وهي تصور علم الله الشامل، المحيط بكل ما يدب على الأرض، من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة وحشرة وطير. فما من دابة من هذه الدواب إلّا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو سبحانه يعلم أين تستقر وأين تكمن، ومن أين تجيء وأين تذهب. وكل فرد من أفرادها مقيّد في هذا العلم الدقيق. إنها صورة متّصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصوّرها بخياله الإنساني، فلا يطيق. فسبحان من أحاط بكلّ شيء علما.
2- إعجاز القرآن
يلمح القارئ لهذه السورة قوة أسلوبها وترابط أفكارها، وتوالي حملاتها على الكفار، حتّى كأنها جيش كامل مشتمل على عديد من الكتائب والفصائل والجنود.(4/58)
إنها دعت، في الدرس السابق، الى التوحيد، ولفتت الأنظار الى قدرة الله البالغة وعلمه المحيط بكل شيء.
وهي، هنا، تسوق دليلا آخر على صدق عقيدة التوحيد، وصدق رسالة محمد (ص) ، هذا الدليل هو إعجاز هذا القرآن وروعته وقوته. ويتجلى هذا الاعجاز فيما يلي:
1- إخباره عن الأمم الماضية التي لم يعاصرها محمد (ص) ، ولم يعرف تاريخها ولم يقرأ عنها.
2- اشتماله على أصول التشريع، وسياسة الخلق، وقواعد الحكم، وآداب المعاملة، ونظام العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة.
3- إخباره عن أنباء لاحقة تأكّد صدقها، وتحقّق وقوعها.
لقد ادّعى كفّار مكّة أنّ محمّدا (ص) قد اختلق القرآن من عنده، ولم ينزل عليه من السماء، فتحدّاهم القرآن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات. أي ليختلقوا كما اختلق محمد (ص) ، فهم عرب مثله، وهم أرباب الفصاحة والبيان، والقرآن مؤلّف من حروف وكلمات وجمل يعرفونها ويؤلفون من مثلها كلامهم، فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن دليل على أنه ليس من صنع بشر، وليس من افتراء محمد (ص) ، ولكنه كلام الله العليم الخبير.
وقد سمح لهم القرآن أن يستعينوا بمن شاؤوا، من الشركاء والفصحاء والبلغاء والشعراء والإنس والجن، ليشاركوهم في تأليف هذه السور، قال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) .
وقد سبق أن تحدّاهم القرآن بسورة واحدة في سورة يونس، فلماذا تحدّاهم بعد ذلك بعشر سور.
قال المفسرون القدامى، إن التحدي كان على الترتيب: بالقرآن كلّه ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة.
ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل، بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور.
وترتيب الآيات في النزول ليس من(4/59)
الضروري أن يتبع ترتيب السور، فقد كانت الآية تنزل فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول، إلّا أن هذا يحتاج الى ما يثبت هذا الترتيب، وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز.
وقد حاول صاحب تفسير المنار، أن يجد لهذا العدد (عشر سور) علة فأجهد نفسه طويلا، ليقرّر أنّ المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني، وأنه بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطوّل الى وقت نزول سورة هود كانت عشرا، فتحدّاهم بعشر سور «1» ، وهو احتمال وجيه.
ويرى بعض المفسرين المحدثين:
أنّ التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول، فيقول مرة: ائتوا بمثل هذا القرآن. او ائتوا بسورة. أو بعشر سور. دون ترتيب زمني، لأنّ الغرض كان التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن، لا بمقداره كله، أو بعضه، أو سورة منه على السواء، فالتحدّي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره، والعجز كان عن هذا النوع، لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكلّ والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب، إنما هو مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب ان يقول: «سورة» ، أو «عشر سور» ، أو «هذا القرآن» . ونحن اليوم، لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن.
3- القصص في سورة هود
القصص في هذه السورة هو قوامها، إذ عدد آياتها (123) مائة وثلاث وعشرون آية، يشتمل قصص الأنبياء منها على (89) تسع وثمانين آية.
لكن القصص لم يجئ فيها مستقلا، بل جاء مصداقا للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها، وهي التوحيد والبعث والجزاء.
وقد جال السياق جولات متعددة حول هذه الحقائق: جال في ملكوت السماوات والأرض، وفي جنبات النفس، وفي ساحة الحشر، ثم أخذ
__________
(1) . تفسير المنار 12/ 32- 41.(4/60)
يجول في جنبات الأرض، وأطوار التاريخ مع قصص الماضين.
والقصص هنا مفصّل بعض الشيء، لأنه يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت في مطلع السورة. والتي يجيء كل رسول لتقريرها، وكأنما المكذّبون هم المكذبون وكأنما طبيعتهم واحدة، وعقليّتهم واحدة على مدار التاريخ. ويتّبع القصص، في هذه السورة، خط سير التاريخ، فيبدأ بنوح، ثم هود، ثم صالح، ويلم بإبراهيم في الطريق إلى لوط ثم شعيب ثم إشارة الى موسى ويشير الى الخط التاريخي، لأنه يذكّر التالين بمصير السالفين.
وليس من قصدنا أن نذكر قصص هؤلاء الأنبياء الكرام، فذلك ما لا يتّسع له المجال، ولكن واجبنا نحو سورة هود، يحتّم علينا أن نذكر لمحات من سيرة هؤلاء الرسل.
قصة نوح (ع)
لقد ألمحت سورة يونس إلى قصة نوح فذكرت الحلقة الاخيرة منها، وهي غرق الكافرين ونجاة المؤمنين.
ولكن سورة هود تعرضت لقصة نوح بمزيد من التفصيل خلال أربع وعشرين آية: من الآية 25 الى الآية 49.
تناولت دعوة نوح الى الله، وجداله مع قومه وصنعه السفينة، وتعرّضه لسخرية قومه، ثم فوران التنور، واكتساح الطوفان، وركوب السفينة تسير بأمر الله وقدرته:
بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [الآية 41] .
ثم تهدأ العاصفة، وتبلع الأرض ماءها، وتمسك السماء عن المطر، وتعود الحياة سيرتها، فيناجي نوح (ع) ربّه بعد غرق ولده، قائلا:
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [الآية 45] .
أي وقد وعدتني بنجاة أهلي، فيجيبه الله سبحانه:
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [الآية 46] .
والمعنى: إنه عمل عملا غير صالح، فهو من صلب نوح وذريّته، إلا أنه منقطع الصلة به في نسب الإيمان، وصلة العمل الصالح. وهنا يتنبه نوح الى حقيقة العدل الإلهي، ويرى أن عقاب الله عامّ لكل الكافرين، وأن نعيمه عام لجميع المؤمنين، فليس بين(4/61)
الله وبين أحد من عباده نسب ولا صلة، فالخلق كلهم عباد الله، يتفاضلون عنده بالتقوى، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات/ 13] .
ويكون التعقيب على قصة نوح معبّرا عن أهداف القصص القرآني، مبشّرا بالنجاة والنصر للمؤمنين، منذرا بالهلاك والعذاب للكافرين. قال تعالى:
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) .
فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة ما يأتي:
1- حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي (ص) ، وما كان معلوما لقومه، ولا متداولا في محيطة وإنّما هو الوحي من لدن حكيم خبير.
2- وحقيقة وحدة العقيدة، من لدن نوح أبي البشر الثاني، هي نفسها، والتعبير عنها يكاد يكون واحدا، مشتملا على الدعوة الى الايمان بالله، والدعوة الى مكارم الأخلاق، والبعد عن الرذائل والمنكرا.
3- وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحيد (والعاقبة للمتقين) ، فهم الناجون وهم المستخلفون.
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) [الأنبياء] .
قصة هود
تناول الدرس السابق قصة نوح عليه السلام ونجاته ومن معه في الفلك، ثم هبوطه على الأرض، مستحقّا لبركات الله عليه وعلى المؤمنين من ذريته، أمّا المكذّبون من ذرّيته فلهم عذاب أليم، وقد دارت عجلة الزمن، ومضت خطوات التاريخ وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرّقوا في البلاد، ومن بعدهم ثمود، ممّن حقت عليهم كلمة الله.
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) .
فأما عاد، فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف، «والحقف كثيب الرمل المائل» في جنوب الجزيرة العربية.(4/62)
وأما ثمود، فكانت قبيلة تسكن مدائن الحجر- بين تبوك والمدينة- وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع. ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممّن حقت عليهم كلمة الله، بما عتوا عن أمر الله واختاروا الوثنية على التوحيد، وكذّبوا الرسل شرّ تكذيب، وفي قصّتهم هنا، مصداق ما في مطلع السورة من بشارة للمؤمنين، وإنذار للكافرين.
وقد ذكرت قصة هود في سورة الأعراف من الآية 65 إلى الآية 72، وفي سورة الشعراء من الآية 123 إلى الآية 140، ثم ذكرت هنا في سورة هود من الآية 50 الى الآية 60.
وقد نتساءل: لماذا سمّيت هذه السورة بسورة هود، مع أنها اشتملت على عدد كبير من قصص الأنبياء، منهم نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وموسى عليهم السلام، والجواب أن قوم هود (ع) قد حباهم الله سبحانه، نعما وافرة وخيرات جليلة، وأرسل السماء عليهم بالمطر، فزرعوا الأرض وأنشأوا البساتين، وشادوا القصور، ومنحهم الله فوق ذلك بسطة في أجسامهم وقوّة في أبدانهم. وكان الواجب عليهم أن يفكّروا بعقولهم وأن يشكروا الله على هذه النّعم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل اتّخذوا أصناما يعبدونها من دون الله، ثم عثوا في الأرض فسادا وظلما وعدوانا. ولما جاءهم هود يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بتقواه وطاعته، ويحذّرهم من البغي والعدوان، لم يصيخوا لدعوته، ولم يؤمنوا برسالته.
وإذا كانت السورة تسمّى بأغرب شيء فيها، فإن الغرابة في قصة هود هي أن قومه «عادا» كانوا أكثر فضلا ونعمة، ولكنهم قابلوا هذه النعمة بالجحود والكنود.
وتذكر الآيات معارضتهم لهود وإنكارهم عليه، واعتقادهم أن آلهتهم أنزلوا به الجنون والاضطراب، فيتبرّأ هود من آلهتهم ويتحدّاهم، ويستنهض همتهم في أقصى ما يستطيعون من قوى الكيد، وأنه لن يعبأ بهم ولا بجمعهم، قال هود، كما ورد في التنزيل:
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [الآية 56] .
وهي صورة محسوسة للقوة الإلهية.
فالناصية أعلى الجبهة، والله تعالى(4/63)
وحده صاحب القهر والغلبة والتصريف في كل ناصية، وهي صورة حسّيّة تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، حين استكبروا في الأرض بغير الحقّ:
وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) [فصّلت] .
وتذكر الآيات هنا خاتمة أمر هود مع قومه، على حسب سنة الله في نصرة أوليائه وخزي أعدائه. قال تعالى:
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) .
وتستمرّ «سورة هود» فتعرض قصة صالح مع قومه، ودعوته لهم إلى دين الله، وتودّده إليهم بقوله كما ورد في التنزيل:
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ [الآية 64] .
وكانت ناقة ضخمة تشرب من الماء في يوم، وتتركه فلا تذوقه في اليوم الآخر. ولكنهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، فنجّى الله صالحا ومن معه من المؤمنين، وأرسل صيحة عاتية أهلكت الكافرين، فصاروا جثثا هامدة، وأصبحت ديارهم خاوية خالية:
أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) .(4/64)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «هود» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة هود بعد سورة يونس، ونزلت سورة يونس بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة هود في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة هود فيها، وتبلغ آياتها ثلاثا وعشرين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن مثل سورة يونس، ولهذا ذكرت بعدها لتكمل الغرض منها، ولتستوفي جانب القصص الذي ذكر فيها، وقد ابتدأت بإثبات تنزيل القرآن بالتنويه بشأنه وبيان حاجتهم إليه، وبتحدّيهم به كما تحدّوا به في سورة يونس، ثم انتقل من هذا الى القصص لتثبيت النبي (ص) على تكذيبهم له، ثم ختمت بما يناسب هذا السياق فيها.
إثبات تنزيل القرآن الآيات [1- 24]
قال الله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) ، فأقسم بهذه الحروف انه كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت فصولا:
حلالا وحراما، ترغيبا وترهيبا، ونحو ذلك، وأنه أنزله كذلك ليعبدوه، ويستغفروه ويتوبوا إليه. ليمتعهم متاعا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/65)
حسنا الى أجل مسمّى، ثم أوعدهم، إن تولّوا عنه، بعذاب يوم كبير، وذكر أن إليه مرجعهم وهو على كل شيء قدير، وأنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون من أعمالهم، وما من دابة في الأرض إلا عليه رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها، وكل ذلك عنده في كتاب مبين ثم ذكر أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ليبلوهم: أيّهم أحسن عملا، فلا بدّ لهم من يوم يحاسبون فيه على أعمالهم ثم ذكر أن النبي (ص) إذا أخبرهم مع هذا بأنهم مبعوثون بعد الموت، يزعمون أن هذا سحر باطل لا حقيقة له، وأنه إذا أخّر عنهم جلّ جلاله هذا العذاب الذي يوعدهم به، يقولون على سبيل الاستهزاء: (ما يحبسه؟) . وأجابهم بأنه يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ثم أراد أن يبين أنه لو عجّل لهم هذا العذاب لم يؤمنوا به، لأن الواحد منهم إذا أذاقه رحمة ثم نزعها منه يبالغ في اليأس والكفر، فإذا أذاقه نعماء بعد هذا، ظنّ أن السيئات ذهبت عنه الى غير عودة وبالغ في الفرح والفخر، ومثل هذا لا يتّعظ بنقمة ولا نعمة، ثم استثنى منهم الذين صبروا لأنهم لا ييأسون في النقمة ولا تبطرهم النعمة، ووعدهم مغفرة وأجرا كبيرا.
ثم عاد السياق الى الحديث عن القرآن، فذكر تعالى للنبي (ص) أنه لعله يترك بعض ما يوحي إليه منه ويضيق به صدره لأنهم يطلبون آية تدل على أنه منزل من عنده سبحانه، كأن ينزل عليه كنزا أو يجيء معه ملك ثم ذكر أنه ليس إلّا نذيرا لهم، فلا يطلب منه إلّا أن يبلّغهم، وهو على كل شيء وكيل ثم ذكر أنّهم يزعمون أنه افتراه عليه، وأمره أن يتحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وأمرهم أن يدعوا من استطاعوا ليساعدوهم على الإتيان بها، ثم أمرهم إن لم يستجيبوا لهذا التحدّي، أن يعلموا أنه إنما أنزل بعلمه، وأنه لا إله إلا هو، لأنهم لم يستطيعوا هم وآلهتهم أن يأتوا بما تحدّاهم به، وطلب منهم أن يسلموا بعد عجزهم عنه ثم ذكر أن الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الإيمان به يوفّي إليهم أجور أعمالهم فيها، ولا يكون لهم في الآخرة إلا النار، ويحبط ما صنعوا فيها وتبطل أعمالهم، لأنهم(4/66)
وفّوا أجورها في دنياهم ثم ذكر أن من كان على بيّنة من ربّه- وهو القرآن- ويتلوه شاهد منه- وهو الإنجيل- ومن قبله كتاب موسى- وهو التوراة- لا يمكن أن يكون جزاؤه كغيره، أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فالنار موعده ثم نهى النبي (ص) على سبيل التعريض أن يكون في مرية منه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا بشركهم، وأنهم يعرضون عليه، ويقول الأشهاد من الملائكة الذين كانوا يراقبونهم في دنياهم: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) ثم يذكرون أنهم كانوا يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون، وأنهم لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء يمنعون عنهم، ولكنه أراد إمهالهم ليضاعف العذاب لهم، وأنهم ما كانوا يستطيعون سماع القرآن، وما كانوا يبصرون هديه، وأنهم خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، وأنهم في الآخرة هم الأخسرون ثم أتبع هذا بوعد المؤمنين بأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون، وضرب مثلا للفريقين فقال سبحانه: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) .
تثبيت النبي بالقصص على تكذيبهم الآيات [25- 99]
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) فذكر سبحانه أنه أرسل نوحا الى قومه لينذرهم قبل أن يأخذهم بعقابه.
فأمرهم ألا يعبدوا إلا الله لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم، فأجابه الذين كفروا من قومه بأنهم لا يرونه إلا بشرا مثلهم، ولا يرونه اتّبعه إلا أراذلهم بادي الرأي، ولا يرون لهم عليهم من فضل. بل يظنونهم كاذبين في دعواهم، ثم ذكر أنه أجابهم بأنه على بيّنة من ربّه وقد أتاه رحمة من عنده، فإذا كان هذا قد عمّي عليهم فلا يلزمهم أن يؤمنوا به وهم له كارهون.
وقد فصّل في قصته هنا ما فصل، وذكر فيها ما لم يذكره في قصة يونس من الأخبار والحكم والمواعظ إلى أن ختمها ببيان ما كان من عقابه لمن(4/67)
كذّبه، وأنه سبحانه نجّاه هو ومن آمن به وبارك عليه وعلى أمم منهم يهتدون بهديهم، ومنهم أمم سيمتّعهم في الدنيا ثم يمسهم منه عذاب أليم: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) .
ثم ذكر أنه أرسل الى عاد أخاهم هودا فأمرهم سبحانه بعبادته وحده، وقد مضت قصته معهم في سورة الأعراف. لكن ما ذكر منها هنا يخالف ما ذكر منها هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص، وقد ذكر في ختامها أنه لمّا جاء أمره بهلاكهم نجّى هودا ومن آمن به، وأنهم لا يذكرون إلا بأنهم جحدوا بآياته وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبّار عنيد: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) .
ثم ذكر أنه أرسل إلى ثمود أخاهم صالحا، فأمرهم سبحانه أن يعبدوه وحده، وقد مضت قصتهم أيضا في سورة الأعراف، والفرق بينها في السورتين كالفرق بين قصة عاد فيهما، وقد ذكر في ختامها أنه، لمّا جاء أمره بهلاكهم نجّى صالحا ومن آمن به، وأخذت الكافرين الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) .
ثم ذكر أنه جاءت رسله إبراهيم بالبشرى، وأنه قدّم لهم بعد السلام عجلا حنيذا «1» ليأكلوا منه فلم تمتدّ إليه أيديهم، فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة، فطمأنوه وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط، وكانت امرأته قائمة فضحكت فبشّروها بولد يولد لها من إبراهيم وهو إسحاق، وبولد يكون لإسحاق يكون هو يعقوب ثم ذكر أن إبراهيم طلب منهم أن يؤخّروا عذاب قوم لوط لعلّهم يؤمنون به، وأنهم أمروه أن يعرض عن هذا الطلب، لأنه قد جاء أمر الله بهلاكهم، ثم ذكر قصة قوم لوط وقد مضت في سورة الأعراف، والفرق بينها في السورتين هو ما سبق في قصة عاد وثمود، وقد ذكر جلّ وعلا في ختامها، أنه أمر لوطا وأهله إلا امرأته
__________
(1) . اى مشويا(4/68)
أن يخرجوا من قريتهم، ثم أمطر عليها حجارة من سجّيل منضود: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) .
ثم ذكر أنه أرسل الى مدين أخاهم شعيبا، فأمرهم سبحانه أن يعبدوه وحده، وقد مضت قصتهم في سورة الأعراف، والفرق بينها في السورتين هو ما سبق في قصة عاد وثمود وقوم لوط، وقد ذكر في ختامها، أنه لما جاء أمره بهلاكهم نجّى شعيبا ومن آمن به، وأخذت الكافرين الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) ثم ذكر أنه أرسل موسى الى فرعون وقومه وقد مضت قصّتهم في سورة يونس، ولكنه لم يفصّلها هنا كما فصّلها هناك، وإنما ذكر تعالى أنهم خالفوه واتّبعوا أمر فرعون، فأوردهم النار، وبئس الورد المورود: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) .
الخاتمة الآيات [100- 123]
ثم قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) فذكر أن ما سبق من أنباء القرى يقصّه عليه وبعضها لا تزال آثاره قائمة، وبعضها ذهبت آثاره كلّها، وأنه لم يظلمهم بهذا، ولكنهم ظلموا أنفسهم، باتخاذهم آلهة غيره، فلم تدفع عنهم شيئا ثم ذكر أن في هذا دليلا لمن خاف عذاب الآخرة، وأنه يوم يجمع له الناس وما يؤخره إلا لأجل معدود، إلى غير هذا مما ذكره من أحوال الأشقياء والسعداء فيه.
ثم نهى النبي (ص) ، على سبيل التعريض، أن يكون في مرية ممّا يعبده قومه، وذكر أنهم لا يعبدون إلا كما يعبد الذين قصّ أخبار هلاكهم، وأنه سيوفّيهم نصيبهم من العذاب أيضا ثم ذكر أنه قد أنزل على موسى التوراة من قبله، فاختلفوا فيها كما اختلف قومه فيما أنزل اليه، وأنه لولا أن كلمته سبقت بتأخير عذابهم لقضى به بينهم، وأنه جلّت قدرته، لا بد أن يوفّي كلّا من الفريقين جزاء أعمالهم: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) ثم أمره أن يستمر على استقامته، كما أمر هو ومن تاب معه، ونهاهم أن يطغوا كما يطغى المشركون، أو يركنوا إليهم لئلّا تمسّهم النار، ولا يجدون من دونه أولياء ثم لا(4/69)
ينصرون. وأمره أن يستمر على إقامة الصلاة في أوقاتها، وأن يصبر على تكذيب قومه له: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) .
ثمّ عاد سبحانه الى أولئك الذين قصّت أخبار هلاكهم، فذكر سبحانه أنه لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممّن أنجاهم، وأنهم اتّبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، وأنه لم يكن ليهلك تلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، وأنه لو شاء لجعلهم مصلحين جميعا ولا يزالون مختلفين إلّا من رحمه، ولذلك خلقهم: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) .
ثم ذكر للنبي (ص) ما قصّ من أنباء الرسل ليثبّت به فؤاده، وأنه جاءه في هذه السورة القصص الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين، وأمره أن يخبر الذين لا يؤمنون بما جاء فيه من الوعيد بالعذاب، أن يعملوا ما يقدرون لمنعه، لأنه سيعمل لتحقيقه، وأمرهم أن ينتظروه لأنه والمؤمنين ينتظرونه لهم:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) .(4/70)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «هود» «1»
أقول: وجه وضعها بعد سورة يونس: أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جدا، مجملة «2» ، فشرحت في هذه السورة وبسّطت بما لم تبسطه في غيرها من السور، ولا في سورة الأعراف على طولها، ولا في سورة نوح التي أفردت لقصّته. فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس «3» . فإن قوله هناك: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ [يونس/ 109] ، هو عين قوله هنا: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) . [فكان أول هود تفصيلا لخاتمة يونس] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . وذلك من قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس/ 71] إلى فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) [يونس] .
(3) . وذلك من قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الآية 25] إلى قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ [الآية 48] . [.....](4/71)
المبحث الرابع مكنونات سورة «هود» «1»
1- أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [الآية 17] .
قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية «2» : من كان على بيّنة:
محمد (ص) والشاهد: جبريل.
وقال زيد بن أسلم: من: محمّد والشاهد: القرآن.
وقال الحسين «3» بن علي: من:
المؤمن والشاهد: محمد (ص) . أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وأخرج عن محمد بن الحنفية «4» قال: قلت لأبي: يا أبت: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إنّ الناس يقولون: إنك أنت هو.
قال: وددت أني أنا هو. لكنه لسانه «5» .
وأخرج عن عباد بن عبد الله قال:
قال علي: ما في قريش أحد، إلّا وقد نزلت فيه آية.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . هذا القول صحّحه ابن كثير.
(3) . كذا في الطبري في «تفسيره» 12/ 10.
(4) . محمد بن الحنفية: هو ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لكنه نسب الى أمه، كان ثقة عالما من أفاضل أهل بيته، مات بعد الثمانين.
(5) . المثبت من «تفسير الطبري» 12/ 10 ووقع في «الدر المنثور» 3/ 324: و «مجمع الزوائد» 7/ 37: «لسان محمد (ص) » . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه خليد بن دعلج، وهو متروك.(4/73)
قلت له: فما نزل فيك؟ قال:
وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ «1» .
وفي «العجائب» للكرماني:
قيل: (الشاهد) : ملك يحفظه «2» .
وقيل: أبو بكر.
وقيل: الإنجيل «3» .
2- وَيَقُولُ الْأَشْهادُ [الآية 18] .
يأتي في سورة غافر «4» .
3- الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 19] .
قال السّدّيّ: هو محمد (ص) .
أخرجه ابن أبي حاتم.
4- وَفارَ التَّنُّورُ [الآية 40] .
أخرجه ابن أبي حاتم عن علي قال:
فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة.
وأخرج عن ابن عباس في قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ.
قال: العين التي بالجزيرة عين الوردة.
وأخرج عن قتادة قال: التنوّر:
أشرف الأرض، وأعلاها، عين بالجزيرة: عين الوردة «5» .
وأخرج من وجه آخر عن ابن عباس قال: وَفارَ التَّنُّورُ بالهند.
5- وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) .
قال ابن عباس: كان معه في السفينة ثمانون رجلا، معهم أهلوهم، أحدهم: جرهم «6» . أخرجه ابن أبي حاتم «7» .
__________
(1) . ضعّفه ابن كثير في «تفسيره» .
(2) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 12/ 12 عن مجاهد، وهو جبريل كما في روايات أخر فيه.
(3) . قال الطبري بعد أن أورد الأقوال في تفسير هذه الآية 12/ 12: «وأولى هذه الأقوال التي ذكرها بالصواب في تأويل قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قول من قال: هو جبريل لدلالة قوله سبحانه في الآية نفسها: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً على صحة ذلك، وذلك أن نبي الله (ص) لم يتل قبل قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: عنى به لسان محمّد (ص) ، أو محمّدا نفسه، أو عليّا، على قول من قال عنى به عليّا، ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن، أو جاء به ممّن ذكر أهل التأويل أنه عني بقوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ غير جبرئيل عليه السلام.
(4) . في الآية (51) وهو قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) .
(5) . عين الوردة: موضع على مقربة من الكوفة. انظر «الروض المعطار» : 423.
(6) . وكان لسانه عربيّا، كما في «الدر المنثور» 3/ 333.
(7) . والطبري 12/ 26- 27.(4/74)
وأخرج في آثار عن قتادة، وكعب الأحبار، ومحمد بن عبّاد بن جعفر، ومطر، وغيرهم: أنه كان معه اثنان وسبعون مؤمنا، وهو، وزوجته، وأولاده الثلاثة: سام، وحام، ويافث وزوجات الثلاثة، وأنه ركبها في عشر خلون من رجب، ونزل في عشر خلون من المحرم «1» .
6- وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ [الآية 42] .
قال قتادة: كان اسمه كنعان. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقيل: يام. حكاه السّهيلي.
فائدة: وقع السؤال كثيرا، هل كان ماء الطوفان عذبا، او ملحا؟ لم نعبأ بذلك.
ثم رأيت ما يدل على أنه كان عذبا.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق نوح ابن المختار، عن أبي سعيد عقيص «2» قال: خرجت أريد أن أشرب ماء المر، فمررت بالفرات، فإذا الحسن والحسين فقالا: يا أبا سعيد، أين تريد؟
قلت: أشرب ماء المرّ.
قالا: لا تشرب ماء المر، فإنه لما كان زمن الطوفان أمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع، فاستعصى عليه بعض البقاع فلعنه، فصار ماؤه مرّا، وترابه سبخا «3» ، لا ينبت شيئا.
7- فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [الآية 65] .
قال قتادة: هي: يوم الخميس، والجمعة، والسبت وصبّحهم العذاب يوم الأحد. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . قال الطبري 12/ 27: والصواب من القول في ذلك القول أن يقال كما قال الله: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) يصفهم بأنهم كانوا قليلا، ولم يحدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله (ص) صحيح. فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدّ من كتاب الله أو أثر عن رسول الله (ص) » .
(2) . في «لسان الميزان» و «الميزان» : «عقيصا» وهو رجل غير ثقة في حديثه، حتى إن الدّارقطني تركه، ولم يوثّقه النسائي، ولا الجوزجاني. وقال ابن عديّ: ليس له رواية يعتمد عليها عن الصحابة، وإنما له قصص يحكيها.
لذلك لا يعتمد على هذا الخبر وقول ابن عدي هذا يكفي لرده. انظر «ميزان الاعتدال» 3/ 88 و «لسان الميزان» 2/ 433. [.....]
(3) . سبخا: مالحا.(4/75)
8- وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [الآية 71] .
اسمها: سارة.
9- قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي [الآية 78] . سمّى السّدّيّ الكبرى: ريثا، والصغرى: رغوثا.
أخرجه ابن أبي حاتم.
وسمى الوسطى «1» .
__________
(1) . هذه العبارة ضرب عليها بالقلم، وروى الطبري 12/ 51 عن مجاهد قال: لم يكنّ بناته، لكن كنّ من أمته، وكل نبي أبو أمته.(4/76)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «هود» «1»
1- وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ [الآية 5] .
قوله تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ، أي:
يزورّون عن الحق وينحرفون عنه: لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف، ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه.
أقول: و «ثني الصدر» من مجازات القرآن البديعة التي لم نعرفها في مجازات العرب.
2- وقال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) .
قال الزجّاج: «لا» نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم، كأنّ المعنى لا ينفعهم ذلك جرم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) ، أي: كسب ذلك الفعل، لهم الخسران. وقال غيره:
معناه: لا بدّ ولا محالة أنهم.
وقيل: معناه حقا، ويستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه، أي: لا شكّ أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة.
أقول: حين اختلفت الأقوال في معنى «لا جرم» ، أصبحت الكلمة من المسائل المشكلة، فليس في طوق المتكلّم أن يستعملها، ولعل من أجل ذلك لم يكتب لها البقاء كثيرا في العربية، وقلّما نقف على شيء منها في النصوص.
لقد روي في حديث قيس بن عاصم قوله: لا جرم لأفلّنّ حدّها.
قال ابن الأثير: هذه كلمة ترد بمعنى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(4/77)
تحقيق الشيء، واختلف فيها فقيل أصلها التبرئة بمعنى لا بدّ، وقد استعملت بمعنى حقّا.
وقال الخليل: إن «جرم» إنما تكون جوابا لما قبلها من الكلام، يقول الرجل: كان كذا وكذا وفعلوا كذا، فتقول: لا جرم أنهم سيندمون، أو انه سيكون كذا وكذا.
3- وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) .
قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، اي: اطمأنّوا إليه، وانقطعوا الى عبادته بالخشوع والتواضع، وهو من الخبت أي: الأرض المطمئنة.
وقيل: معناه أنابوا وتضرّعوا إليه، وهو قول ابن عبّاس.
وعن مجاهد: المعنى خضعوا له وخشعوا اليه، والكلّ متقارب.
وفي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) [الحج] .
أي: المتواضعين: وقيل:
المطمئنّين.
وفي قوله تعالى: فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج/ 54] . فسّره ثعلب بأنه التواضع.
وفي حديث الدعاء: «واجعلني لك مخبتا» .
أقول: وهذا من الكلم القرآني الذي نهض له أهل العلم من اللغويين والمفسّرين، ووقفوا منه وقفات فيها جدّ وإخلاص.
4- وقال تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [الآية 27] .
قوله تعالى: بادِيَ الرَّأْيِ بمعنى أوّل الرأي أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أول رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقرئ بالهمز وغير الهمز.
أقول: قد يحمل على الظرف مسائل كثيرة ليست من الظرف في الدلالة الزمانية أو المكانية، فما أضيف الى الظرف أو إلى كلّ ما يدلّ على شيء من الزمان والمكان ينصب على الظرفية، ألا ترى أن «أثناء» جمع ثني، و «خلال» مصدر يدل على المكان، ولكنهما اكتسبا الظرفية من الخافض «في» كما في قولهم: «في أثناء» ،(4/78)
والخافض «من» في قولهم «من خلال» ، ثم اتسع في الاستعمال، وشاعت الظرفية في الكلمتين فأسقط الخافض فقيل: وحدث أثناء ذلك والأصل: «في أثناء ذلك» ، وقيل:
وعرض خلال الأمر، والأصل: من خلال.
5- وقال تعالى: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [الآية 30] .
المراد بقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ، أي من انتقامه، فمن يمنعني من ذلك إن طردتهم أقول: وطيّ، «الانتقام» ، بهذه الصورة يتبين من المعنى وسياق الآية قبلها. وفي أسلوب القرآن، من الإيجاز بالحذف، ما لا يدركه إلا الفطن اللبيب.
6- وقال تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
أقول: إن أسلوب القرآن جرى على نسق من إحكام الجملة العربية، فخصّها بشيء كثير من «التناسب» ، وأريد بالتناسب محاكاة الطول، حتّى لكأنّك مع هذا النظم البديع أمام مشهد متّصل الصّور منسجم الألوان، وهذا من لطف بديع القرآن.
وأنت إذا تلوت: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، ثم عقّبت عليها بقوله تعالى:
وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، غلب عليك جمال هذا التقطيع عن الانصراف الى السجع بين «ابلعي» و «أقلعي» .
ونتابع هذا الأسلوب المحكم في وضع الفقر، المصيب كل الإصابة للمعنى بيانا وتصويرا، فنجد أنفسنا مأخوذين بلطف الصنعة في السّرد، وما يشبه الحركة الفنّية، في الخطاب والجواب الذي يقتضيه مقام سرد الخبر، ونتلو:
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) .
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) .
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ(4/79)
عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ
(48) .
ونجتزئ بهذا القدر، من هذه اللغة الشريفة التي أحسن الله بناءها، فكان من ذلك سر الإعجاز.
7- وقال تعالى: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ [الآية 60] .
قوله تعالى: كَفَرُوا رَبَّهُمْ، المراد به (كفروا بربهم) فحذف الباء كقولهم:
أمرتك الخير، والمعنى أمرتك بالخير، وهذا من باب الحذف والإيصال، وفي لغة القرآن، وغيره، نظائر وأشباه، قال تعالى:
أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) .
ولا بد أن نستذكر قوله تعالى:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف/ 155] . وقد مرّ كلامنا على الآية.
8- وقال تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [الآية 61] .
المراد بقوله تعالى: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها، أي: أذن لكم في عمارتها، واستخراج قومكم منها، وجعلكم عمّارها.
أقول: هذا هو أصل الاستعمار، فماذا من أمره في العربية المعاصرة. لا أريد أن ادخل في موضوع «الاستعمار» بمعناه الحديث، فهو تسلط أجانب أعداء على بلاد ليست بلادهم، والاستيلاء عليها والإفادة من خيراتها.
ومن غير شكّ، أن في هذا فهما جديدا لهذه الكلمة، يدخل في باب التطور الجديد، وكم من كلمة هبطت من عل الى الدرك الأسفل، وليس غريبا أن تجد عكس ذلك.
9- وقال تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الآية 70] .
قوله تعالى: نَكِرَهُمْ مثل أنكره واستنكره، إلا أنّ «منكور» قليل في كلامهم، وقال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت منّي الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا أقول: قولهم: إنّ «منكور» قليل في كلامهم مع وجود الفعل الثلاثي، وهذا(4/80)
مألوف في العربية، ألا ترى انهم قالوا:
الظّلام والظّلمة، حتّى إذا أرادوا الفعل قالوا: أظلم الليل، وليس لهم «ظلم» .
10- قال تعالى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) .
أقول: والحنيذ المشويّ بالرّضف في أخدود، أي: بالحجارة.
وهذا، مما كان معروفا في رسوم الجاهليين وغيرهم، من أهل البوادي.
11- وقال تعالى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) .
قال الزمخشري «1» : كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه، وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم.
أقول: جاء في كتب اللغة: أن الذرع الطاقة. وضاق بالأمر ذرعه وذراعه أي: ضعفت طاقته، ولم يجد من المكروه فيه مخلصا، ولم يطقه ولم يقو عليه، وأصل الذّرع إنما هو بسط اليد فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله، قال حميد بن ثور يصف ذئبا:
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ... ذراعا، ولم يصبح لها وهو خاشع
وضاق به ذرعا مثل ضاق به ذراعا، ... ونصب «ذرعا» ، لأنه خرج مفسّرا
محوّلا، لأنه كان في الأصل: ضاق ذرعي به، فلما حوّل الفعل خرج قوله ذرعا مفسّرا، ومثله طبت به نفسا، وقررت به عينا.
وأصل «الذّرع» ان يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه، فإذا حملته على أكثر من طاقته حتى يبطر، ويمدّ عنقه ضعفا عمّا حمل عليه.
12- وقال تعالى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [الآية 78] .
قال أبو عبيدة: معناه يستحثّون إليه كأنه يحثّ بعضهم بعضا.
وتهرّع إليه: عجل.
أقول: وأصل الهرع والهرع والإهراع شدّة السّوق، وسرعة العدو، قال الشاعر:
كأنّ حمولهم متتابعات، ... رعيل يهرعون الى رعيل
وهذا الفعل «هرع» ، ومثله قولهم
__________
(1) . «الكشاف» 2/ 413.(4/81)
«ضاق به ذرعا» في الآية السابقة، يدلان دلالة واضحة على مكانة البداوة وتأثيرها في العربية، وكيف أنها أمدّت هذه اللغة بذخائر حوّلها الاستعمال وأبعد عنها صفة البداوة، فصارت من مواد الحضارة. ومن المفيد أن أشير الى أن الفعل «هرع» بني في استعمالهم على ما لم يسمّ فاعله: وقالوا معناه المعلوم مثل سقط وحمّ وغمّ وغير ذلك. غير أن المعربين في عصرنا، درجوا على بنائه على «فعل يفعل» نظير «سطع يسطع» ، وكأن التنبيه على موطن التجاوز والخطأ أفاد، فبدأ إصلاحهم للخطأ.
13- وقال تعالى: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ [الآية 89] .
قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ، أي: لا يكسبنّكم شقاقي إصابة العذاب.
و «جرم» مثل «كسب» في تعدّيه الى مفعول واحد والى مفعولين: تقول:
جرم ذنبا وكسبه، وجرمته ذنبا وكسبته إيّاه، قال:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقرأ ابن كثير بضم الياء من «أجرمته ذنبا» إذا جعلته جارما له، أي: كاسبا، وهو منقول من «جرم» المتعدّي الى مفعول واحد، كما نقل «أكسبه المال» من «كسب المال» ، وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إيّاه، فكذلك لا فرق بين «جرمته ذنبا» و «أجرمته إيّاه» .
والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلّا ان المشهورة أفصح لفظا «1» .
أقول: وليس لنا شيء من هذا الفعل. بهذه الدلالة أو ما يقرب منها في عربيتنا المعاصرة.
14- وقال تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [الآية 92] .
والظّهريّ: الذي تجعله بظهر، أي:
تنساه وتغفل عنه، والمراد بالآية أي لم تلتفتوا إليه، وتركتم أمر الله وراء ظهوركم.
قال ابن سيده: واتّخذ حاجته ظهريّا، استهان بها كأنّه نسبها الى الظّهر، على غير قياس، كما قالوا في النّسب الى البصرة بصريّ.
__________
(1) . «الكشاف» 2/ 421.(4/82)
وفي حديث عليّ- عليه السلام-:
اتّخذتموه وراءكم ظهريّا حتى شنّت عليكم الغارات، أي: جعلتموه وراء ظهوركم.
أقول: لم يبق من هذه المادة الجميلة إلا ما ورد على التثنية، وهو معروف لدى القلة من أهل العربية الملتزمة بالفصاحة، يقال: هو نازل بين ظهرانيهم، أي: بين أظهرهم، وأقام بينهم.
وقد ورد في الحديث الشريف أيضا، ويقال بين ظهريهم أيضا.
وينبغي أن ننبّه الى أنّ قولهم: «بين ظهرانيهم» و «ظهريهم» ينبغي أن يكون الأول والثاني بفتح الظاء، والأول أيضا بفتح النون. وتنبيهي هذا دليل أن الخطأ معروف، كما أن الأقدمين نبّهوا على مثل هذا.
15- وقال سبحانه وتعالى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) .
أي: ما زادوهم غير تخسير، يقال:
تبّ إذا خسر، وتبّبه غيره إذا أوقعه في الخسران.
أقول: لا نعرف في العربية المعاصرة هذا الفعل ولا المصدر، كما لا نعرف الثلاثي منه، ولا نقرأه إلّا في لغة التنزيل. 16- وقال تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) .
والمعنى: غير مقطوع.
وجذّ الشّعر معروف في عصرنا في العربية المعاصرة.
أما الجذ بمعنى القطع كما في الآية، فهو معروف في العربية القديمة، فالجذّ القطع، وكسر الشيء الصّلب، والجذاذ والجذاذ، ما كسر منه، وضمّه أفصح من كسره، والواحدة جذاذة، وقطع الفضة الصغار جذاذ، ويقال لحجارة الذهب. والجذاذات القراضات للفضة.
وجذذت الحبل قطعته فانجذّ، وجذّ النّخل يجذّه جذا وجذاذا وجذاذا حرمه. عن اللحيانيّ، وهي مثل جزّ جزا وجزازا وجزازا.
ورحم جذّاء: مقطوعة.
أقول: ذهب كل هذا وليس لنا إلّا الشّعر يجذّ، وإلّا قول المعاصرين من الباحثين في مصطلحهم «الجذاذة» لقطعة الورق، التي يثبتون فيها فائدة خاصة، يرجعون إليها بعد جمع ما يحتاجون إليه من فوائد ومعارف، لتدخل في المادة التي يحرّرونها كتابا أو أي شيء آخر.(4/83)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «هود» «1»
وقال تعالى: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا بجعله خارجا من أوّل الكلام على معنى «ولكنّ» «2» وقد فعلوا هذا فيما هو من أول الكلام، فنصبوا. وقال الشاعر «3» [من البسيط وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائتين] :
يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي ... إلّا عبيدا قعودا بين أوتاد
فتنشده العرب نصبا.
وقال تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً [الآية 17] على خبر المعرفة.
وقال تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [الآية 17] وقرأ بعضهم (مرية) «4» تكسر وتضم وهما لغتان «5» .
وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ [الآية 24] أي:
«كمثل الأعمى والأصمّ» «6» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في إعراب القرآن 2/ 471 والمشكل 1/ 356 والجامع 9/ 11.
(3) . هو صخر الغي الهذلي، شرح أشعار الهذليين 939 والمحتسب 2/ 292 وديوان صخر الغي 71.
(4) . في الشواذ 59 الى الإمام علي بن أبي طالب والحسن، وفي البحر 5/ 211 الى السلمي وأبي رجاء وأبي الخطاب والسدوسي والحسن، وقال هي لغة أسد وتميم والناس وأهل مكة (كذا) .
(5) . الكسر لأهل الحجاز، والضم لتميم وأسد، المزهر 2/ 276 واللهجات العربية 184.
(6) . نقله في إعراب القرآن 2/ 474 والجامع 9/ 21.(4/85)
وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [الآية 27] أيّ: في ظاهر الرأي. وليس بمهموز لأنّه من «بدا» «يبدو» أي: ظهر. وقال بعضهم (بادئ الرأي) أي: فيما يبدأ به من الرأي «1» .
وقال تعالى: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [الآية 32] وقرأ بعضهم (جدلتنا) «2» وهما لغتان.
وقال تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الآية 40] بجعل الزوجين الضربين الذكور والإناث.
وزعم يونس «3» أن قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين] :
وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة ... فتخطئ فيها مرّة وتصيب
يعني الذئب.
وقال: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [الآية 41] بجعلها من جريت «4» ، وقرأ بعضهم (مجراها ومرساها) إذا جعلت من أجريت» .
__________
(1) . القراءة بلا همز في الطبري 12/ 27 نسبت الى عامة قراء المدينة والعراق، وفي السبعة 332 والكشف 1/ 526 والتيسير 124 الى غير أبي عمرو.
والقراءة بالهمز في الطبري 12/ 27 الى بعض أهل البصرة، وفي السبعة 332 والكشف 1/ 526 والتيسير 124 والجامع 9/ 24 الى أبي عمرو وفي البحر 5/ 215 زاد عيسى الثقفي.
(2) . في الجامع 9/ 28 والبحر 5/ 218 الى ابن عباس، وزاد الشواذ 60 السختياني، وفي الإملاء 2/ 38 أنّ الجمهور على إثبات الألف.
(3) . هو يونس بن حبيب، وقد سبقت ترجمته. [.....]
(4) . في معاني القرآن 2/ 14 أن فتح الميم الاولى إلى مسروق وعبد الله، وفي الكشف 1/ 528 فتح الميم الأولى إلى حفص والكسائي، وكذلك في السبعة 333 والتيسير 124 والبحر 5/ 225 وفتح الميم الى ابن مسعود وعيسى بن عمر الثقفي وزيد بن علي والأعمش.
(5) . هي في معاني القرآن 2/ 14 الى ابراهيم النخعي والحسن وأهل المدينة، وهي بضم الثانية وحدها الى مسروق وعبد الله وفي السبعة 333 أنّ ضمّ الميم في الأولى الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم في رواية، والى أبي بكر، وضم الميم في الثانية له القراء كلهم، وفي الكشف 1/ 528 ضم الميم في مجراها إلى غير حفص وحمزة والكسائي، وضم الميم في الثانية الى الإجماع. وفي البحر 5/ 225 ضم الميم في الاولى إلى مجاهد والحسن وأبي حيّان والأعرج وشيبة والجمهور من السبعة والحرميين والعربيين وأبي بكر، وضمّ الميم في الثانية الى القراء كلهم.(4/86)
وقرأ بعضهم (مجريها ومرسيها) «1» لأنه أراد أن يجعل ذلك صفة لله عز وجل.
وقال تعالى: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي [الآية 43] بقطع (سآوى) لأنّه «أفعل» وهو يعني نفسه.
وقال: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [الآية 43] ويجوز أن يكون على «لإذا عصمة» أي: معصوم ويكون إِلَّا مَنْ رَحِمَ رفعا بدلا من العاصم «2» .
وقال تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [الآية 46] منوّن «3» لأنه حين قال- والله أعلم: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الآية 46] كان في معنى «أن تسألني» فقال إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وقال وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ [الآية 48] بالرفع على الابتداء نحو قولك «ضربت زيدا وعمرو لقيته» على الابتداء «4» .
وقال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الآية 64] بالنصب على خبر المعرفة.
وقال: قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [الآية 72] فإذا وقفت قلت (يا ويلتاه) لأنّ هذه الألف خفيفة وهي مثل ألف الندبة فلطفت من أن تكون في السكت وجعلت بعدها الهاء، ليكون أبين لها، وأبعد للصوت. وذلك أنّ الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدّى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء، فيتردّد فيه فيكون أكثر وأبين.
ولا تقف على ذا الحرف في القرآن كراهية خلاف الكتاب. وقد ذكر أنه يوقف على ألف الندبة فان كان هذا صحيحا، وقفت على الألف.
__________
(1) . في معاني القرآن 2/ 14 إلى مجاهد، وفي الطبري 12/ 44 الى أبي رجاء العطاردي، وفي الجامع 9/ 37 الى مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي، وفي البحر 5/ 225 الى الضحّاك والنخعي وابن وثّاب وأبي رجاء ومجاهد وابن جندب والكلبي والجحدري.
(2) . نقله في التهذيب 2/ 54 «عصم» .
(3) . في معاني القرآن 2/ 17 نسبت إلى عامة القراء، وفي الطبري 12/ 50 و 51 و 52 إلى الحسن وابن عباس وسعيد بن جبير والضحّاك وعامة قراء الأمصار وابراهيم وقتادة ومجاهد. وفي السبعة 334 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة، وفي الكشف 1/ 530 والتيسير 125 الى غير الكسائي.
(4) . نقله في إعراب القرآن 2/ 481 والجامع 9/ 48 والبحر 231.(4/87)
وقال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ [الآية 74] وهو الفزع.
ويقال: «ألقي في روعي» ويقال:
«أفرخ روعك» «1» و «ألقي في روعي» أي: في خلدي. «فالروع» القلب والعقل. و «الرّوع» : الفزع.
وقال تعالى: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [الآية 78] بالرفع «2» ، وكان عيسى «3» يقول (هنّ أطهر لكم) «4» وهذا لا يكون إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن خبر، إذا كان بين الاسم وخبره هذه الأسماء المضمرة التي تسمى الفصل، يعني: «هي» و «هو» و «هنّ» ، وزعموا أن النصب قراءة الحسن أيضا. وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [الآية 78] ف «الضيف» :
يكون واحدا ويكون جماعة. تقول:
«هؤلاء ضيفي» ، هذا ضيفي، كما تقول: «هؤلاء جنب» و «هذا جنب» ، و «هؤلاء عدوّ» و «وهذا عدوّ» .
وقال تعالى: قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [الآية 80] وبإضمار «لكان» .
وقال إِلَّا امْرَأَتَكَ [الآية 81] يقول:
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب «5» . وقرأ بعضهم (إلّا أمرأتك) بالرفع «6» وحمله على الالتفات. أي لا يلتفت منكم إلّا امرأتك.
وقال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً بالنصب
__________
(1) . مثل من أمثال العرب التهذيب 3/ 177 راع، واللسان «روع» ، مجمع الأمثال 2/ 81 مثل 2789، وفصل المقال 57 و 356.
(2) . في الطبري 12/ 85 والجامع 9/ 76 والبحر 5/ 246 نسبت الى العامة والجمهور.
(3) . هو عيسى بن عمر الثقفي، وقد مرت ترجمته.
(4) . نسبها في الطبري 12/ 85 إلى عيسى، وزاد عليه في الجامع 9/ 76 الحسن البصري، وزاد في الشواذ 60 محمد بن مروان وأبا عمرو بن العلاء، وأغفل الحسن، وفي البحر 5/ 247 نسبها الى الحسن وزيد بن علي وعيسى وسعيد بن جبير ومحمد بن مروان، وفي المحتسب 325 نسبها الى سعيد بن جبير والحسن بخلاف، ومحمد بن مروان وعيسى وابن أبي إسحاق.
(5) . في الطبري 12/ 89 نسبها الى عامة القراء من الحجاز والكوفة، وفي الكشف 1/ 536 والتيسير 125 والبحر 5/ 248 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو، وعيّن منهم في الجامع 9/ 80 ابن مسعود، وفي السبعة 338 الى نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
(6) . في معاني القرآن 2/ 24 الى الحسن، وفي الطبري 12/ 89 الى بعض البصريين، وفي السبعة 338 والكشف 1/ 536 والتيسير 125 والجامع 9/ 80 والبحر 5/ 248 الى ابن كثير وأبي عمرو.(4/88)
بالتنوين. ف «المنضود» من صفة «السّجّيل» ، و «المسوّمة» من صفة «الحجارة» فلذلك انتصب.
وقال تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [الآية 87] أي «أن نترك وأن نفعل في أموالنا ما نشاء» وليس المعنى «أصلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء» لأنه ليس بذا أمرهم. وقرأ بعضهم (تشاء) «1» وذلك إذا عنوا شعيبا.
وقال تعالى: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) يريد «ومحصود» ك «الجريح» و «المجروح» .
وقال سبحانه: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 105] ومعناه «تتفعّل» فكان الأصل أن تكون «تتكلّم» ولاستثقال اجتماع التاءين حذفت الآخرة منهما، لأنها هي التي تعتل فهي أحقهما بالحذف، ونحو (تذكّرون) «2» يسكنها الإدغام، فإن قيل: «فهلّا أدغمت التاء هاهنا في الذال وجعلت قبلها ألف وصل، كما قلت: «اذّكّروا» فلأن هذه الألف إنما تقع في الأمر وفي كلّ فعل معناه «فعل» فأما «يفعل» و «تفعل» ، فلا.
وقال تعالى: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا [الآية 54] على الحكاية تقول: «ما أقول إلّا» : «ضربك عمرو» و «ما أقول إلّا: «قام زيد» .
وقال: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [الآية 66] فأضاف (خزي) الى «اليوم» فجرّه، وأضاف «اليوم» إلى «إذ» فجرّه «3» .
وقال تعالى: نَكِرَهُمْ [الآية 70] تقول «نكرت الرجل» و «أنكرته» .
وقال: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) فهو مصدر «تبّبوهم» «تتبيبا» .
__________
(1) . في الشواذ 61 نسبت القراءة بالتاء إلى الإمام علي بن ابي طالب والضحاك. وأبدل في الجامع 9/ 87 السلمي بالإمام. وفي البحر 5/ 253 زاد ابن أبي عبلة وزيد بن علي وطلحة. أما القراءة بالنون فهي في البحر 5/ 253 الى الجمهور.
(2) . في الأصل تذكرون، والكلام يشير الى ما أثبتناه، وقد وردت هذه اللفظة في سبعة عشر موضعا من القرآن الكريم، أولها الأنعام 6/ 152 وآخرها الحاقة 69/ 42. [.....]
(3) . هي في السبعة 336 قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة وعاصم، والى نافع في رواية، وفي الكشف 1/ 532 والتيسير 125 والبحر 5/ 240 الى غير نافع والكسائي، وخصّ من المستثنى منهم في الجامع 9/ 61 أبا عمرو.(4/89)
وقال: إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [الآية 8] و «الأمّة» : الحين كما قال وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف/ 45] .
وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ [الآية 15] ف كانَ في موضع جزم وجوابها نُوَفِّ.
وقال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [الآية 17] بإضمار الخبر.
وقال فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [الآية 17] بجعل النار هي الموعد، وإنّما الموعد فيها كما تقول العرب: «الليلة الهلال» ومثلها إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [الآية 81] .
وقال: وَغِيضَ الْماءُ [الآية 44] تقول «غضته» ف «أنا أغيضه» وتقول: «غاضته الأرحام» ف «هي تغيضه» وقال: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ [الرعد/ 8] . وفي قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [الآية 44] ثقّل «الجوديّ» لأن الياء ياء النسبة، فكأنه أضيف الى «الجود» كقولك: «البصريّ» و «الكوفيّ» .
وقال: وَلا تَطْغَوْا [الآية 112] من «طغوت» «تطغا» مثل «محوت» «تمحا» .
وقال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا [الآية 113] من «ركن» «يركن» ، وإن شئت قلت «ولا تركنوا» «1» وجعلتها من «ركن» «يركن» .
وقال تعالى: طَرَفَيِ النَّهارِ [الآية 114] بتحريك الياء لأنها ساكنة لقيها حرف ساكن، لأن اكثر ما يحرّك الساكن بالكسر، نحو يا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف/ 39 و 41] .
وقال تعالى: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [الآية 114] لأنها جماعة، تقول «زلفة» و «زلفات» و «زلف» .
وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) لأنه عنى النبيّ (ص) ، أو قال له «قل لهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) » .
__________
(1) . هي في الشواذ 61 الى قتادة، وفي المحتسب 329 زاد طلحة والأشهب وأبا عمرو، وأغفل في الجامع 9/ 108 أبا عمرو والأشهب، وفي البحر 5/ 269 كما في المحتسب.(4/90)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «هود» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [الآية 3] مع أن التوبة مقدّمة على الاستغفار؟
قلنا: المراد: استغفروا ربكم من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. كذا قاله مقاتل. وهذا الاستغفار مقدم على هذه التوبة. الثاني: أنّ فيه تقديما وتأخيرا. الثالث قال الفرّاء: ثمّ هنا بمعنى الواو، وهي لا تفيد ترتيبا، فاندفع السؤال.
فإن قيل: من لم يستغفر ولم يتب، فإنّ الله يمتّعه متاعا حسنا الى أجله:
أي يرزقه ويوسع عليه كما قال ابن عباس، أو يعمّره كما قال ابن قتيبة، فما الحكمة في قوله تعالى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟
قلنا: قال غيرهما: المتاع الحسن، المشروط بالاستغفار والتوبة، هو الحياة في الطاعة والقناعة، ومثل هذه الحياة إنما تكون للمستغفر التائب التقي.
فإن قيل: قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الآية 6] لم لم يقل على الأرض مع أنه أشدّ مناسبة لتفسير الدابة لغة، فإنها ما يدب على وجه الأرض؟
قلنا: «في» هنا بمعنى «على» ، كما في قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه/ 71] ، وقوله تعالى أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور/ 38] . الثاني:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/91)
أن لفظة «في» أعم وأشمل، لأنها تتناول كل دابة على وجه الأرض، وكل دابة في باطن الأرض، بخلاف على.
فإن قيل: لم خصّ الدابة بذكر ضمان الرزق، والطير كذلك رزقه على الله تعالى، وهو غير الدابة بدليل قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام/ 38] .
قلنا: إنّما خص الدابة بالذكر، لأن الدواب أكثر من الطيور عددا، وفيها ما هو أكبر جثة من كل فرد من أفراد الطير، كالفيل والحوت، فيكون أحوج الى الرزق، فلذلك خصّه بالذكر.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [الآية 6] و «على» للوجوب، والله تعالى لا يجب عليه شيء وإنما يرزقها تفضّلا منه وكرما.
قلنا: «على» هنا بمعنى «من» ، كما في قوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) [المطفّفين] . الثاني: أنه ذكره بصيغة الوجوب، ليحصل للعبد زيادة سكون وطمأنينة في حصوله.
فإن قيل: لم قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك/ 2] والخطاب عامّ للمؤمنين والكافرين، فإنه امتحن الفريقين بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت الى أحسن وأحسن، فأما أعمال الفريقين فتفاوتها الى حسن وقبيح.
قلنا: قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ عامّ، أريد به الخاص، وهم المؤمنون تشريفا لهم وتخصيصا، فصحّ قوله سبحانه:
أَحْسَنُ عَمَلًا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [الآية 12] ولم يقل و «ضيّق» ؟
قلنا: ليدل على أن ضيقه عارض غير ثابت، لأن النبي (ص) كان أفسح الناس صدرا، ونظيره قولك: زيد سائد وجائد، فإذا أردت وصفه بالسيادة والجود الثابتين المستقرين قلت زيد سيّد وجواد، كذا قال الزمخشري.
فإن قيل: قال تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [الآية 13] أمرهم بالإتيان بمثله وما يأتون به لا يكون مثله، لأن ما يأتون به مفترى، والقرآن ليس بمفترى.(4/92)
قلنا: أراد به مثله في البلاغة والفصاحة، وإن كان مفترى. وقيل معناه: مفتريات، كما أن القرآن مفترى في زعمكم واعتقادكم، فيتماثلان.
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا فأفرد في قوله قُلْ ثم جمع فقال فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا [الآية 14] .
قلنا: الخطاب للنبي (ص) في الكل، ولكنه جمع في قوله عزّ وجلّ:
لَكُمْ فَاعْلَمُوا تفخيما له وتعظيما.
الثاني: أن الخطاب الثاني للنبي (ص) وأصحابه، لأن النبي (ص) وأصحابه كانوا يتحدّونهم بالقرآن، وقوله تعالى في موضع آخر: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ [القصص/ 50] يعضد الوجه الاول. الثالث: أن يكون الخطاب في الثاني والثالث للمشركين، والضمير في يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم، يعني فإن لم يستجب لكم من تدعونه المظاهرة على معارضته، لعجزهم، فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل بعلم الله، وهذا وجه لطيف.
فإن قيل: قوله تعالى: وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها [الآية 16] يدل على بطلان عملهم، فما الحكمة في قوله بعده وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الآية 16] ؟
قلنا: المراد بقوله تعالى: وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي بطل ثواب ما صنعوا من الطاعات في الدنيا وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) من الرياء.
فإن قيل: لم قال نوح عليه السلام كما ورد في التنزيل وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا [الآية 29] بالواو، وقال هود عليه السلام، كما ورد في التنزيل أيضا يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ [الآية 51] بغير الواو؟
قلنا: لأن الضمير في عَلَيْهِ لتبليغ الرسالة المدلول عليه بأول الكلام في القصتين، ولكن في قصة نوح عليه السلام وقع الفصل بين الضمير وبين ما هو عائد عليه بكلام آخر، فجيء بواو الابتداء: وفي قصة هود عليه السلام لم يقع بينهما فصل فلم يحتج الى واو الابتداء، هذا ما وقع لي فيه، والله اعلم.
فإن قيل: قوله تعالى لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الآية 43] لا يناسبه(4/93)
المستثنى في الظاهر، وهو قوله سبحانه في الآية نفسها: إِلَّا مَنْ رَحِمَ لأن المرحوم معصوم، فظاهره يقتضي «1» لا معصوم إلّا من رحم: أي لا معصوم من الغرق بالطوفان إلّا من رحمه الله بالإنجاء في السفينة؟
قلنا: عاصم هنا بمعنى معصوم، كقوله تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) [الطارق] أي مدفوق، وقوله تعالى:
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) [الحاقة] أي مرضية، وقول العرب: سرّ كاتم: أي مكتوم. الثاني أن معناه: لا عاصم اليوم من أمر الله إلّا من رحم، أي إلا الراحم وهو الله تعالى، وليس معناه المرحوم، فكأنه قال: لا عاصم إلا الله. الثالث أن معناه: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، ونجّاهم وهو السفينة، ويناسب هذا الوجه قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وهذا لأنّ ابن نوح عليه السلام، لمّا جعل الجبل عاصما من الماء، ردّ نوح عليه السلام، ذلك، ودلّه على العاصم وهو الله تعالى، أو المكان الذي أمر الله بالالتجاء إليه، وهو السفينة.
فإن قيل: كيف صح أمر السماء والأرض بقوله تعالى وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [الآية 44] وهما لا يعقلان، والأمر والنهي إنما يكون لمن يفعل ويفهم الخطاب؟
قلنا: الخطاب لهما في الصورة، والمراد به الخطاب للملائكة الموكّلين بتدبيرهما. الثاني: أن هذا أمر إيجاب لا أمر إيجاد، وأمر الإيجاد لا يشترط فيه العقل والفهم، لأن الأشياء كلها بالنسبة الى امر الإيجاد مطيعة منقادة لله تعالى، ومنه قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] وقوله تعالى:
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصّلت/ 11] كل ذلك أمر إيجاد.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [الآية 45] بالفاء، وقال في قصة زكريا عليه الصلاة
__________
(1) . قوله (فظاهره يقتضي إلخ) لا يخفى أنه على هذا الظاهر لا ورود لصورة الإشكال، إذ هو عين ما صدر به في الجواب عنه فكان المناسب في تقدير السؤال، بقاء العاصم على حقيقته، وهو الحافظ، وجعل المراد ممّن رحم، المرحوم لا الراحم، وهو الله تعالى، كما هو أحد التأويلات.(4/94)
والسلام إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ [مريم] بغير فاء؟
قلنا: أراد بالنداء هنا إرادة النداء فجاء بالفاء الدالة على السببية، فإن إرادة النداء سبب للنداء، فكأنه قال:
وأراد نوح نداء ربه فقال كيت وكيت، وأراد به في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام حقيقة النداء، فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضي السببية.
فإن قيل: هود عليه الصلاة والسلام كان رسولا ولم يظهر معجزة، ولهذا قال له قومه: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ( [الآية 53] فبأي شيء لزمتهم رسالته؟
قلنا: إنّما يحتاج الى المعجزة، من الرسل، من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمّته لشريعته، فإن في كل شريعة أحكاما غير معقولة فيحتاج الرسول الآتي بها، الى معجزة لتشهد بصحة صدقه، فأما الرسول الذي لا تكون له شريعة ولا يأمر إلّا بالعقليات فلا يحتاج الى معجزة، لأن الناس ينقادون الى ما يأمرهم به لموافقته للعقل، وهود (ع) كان كذلك. الثاني: أنه نقل أن معجزة هود كانت الريح الصرصر، فإنها كانت سخّرت له. فإن قيل: على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على العقليات لما خالفوه وكذبوه ونسبوه الى الجنون، بقولهم كما ورد في التنزيل يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ إلى بِسُوءٍ.
قلنا: إنما صدر ذلك القول من قاصري العقول أو المعاندين المكابرين، كما قيل ذلك لكل رسول بعد إتيانه بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات.
فإن قيل: هل قوله تعالى: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا [الآية 54] لتتناسب الجملتان؟
قلنا: لأن إشهاد الله تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح، مفيد تأكيد التوحيد وشده معاقده وأما إشهادهم فما هو إلا تهكّم بهم وتهاون ودلالة على قلة المبالاة، لأنهم ليسوا أهلا للشهادة فعدل به عن اللفظ الأول، وأتى به على صورة التهكّم والتهاون كما يقول الرجل لصاحبه إذا لاحاه: اشهد إني لأحبك، تهكّما به واستهانة له.
فإن قيل: قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الآية 57] جعل التولّي(4/95)
شرطا والإبلاغ جزاء، والإبلاغ كان سابقا على التولّي.
قلنا: ليس الإبلاغ جزاء التولّي، بل جزاؤه محذوف تقديره: فإن تولّوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ أو تقصير فيه، ودلّ على الجزاء المحذوف قوله سبحانه: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ. الثاني: قال مقاتل تقديره: فإن تولّوا فقل لهم قد أبلغتكم.
فإن قيل: ما الحكمة من تكرار التنجية في قوله تعالى وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) ؟
قلنا: أراد بالتنجية الأولى تنجيتهم من عذاب الدنيا الذي نزل بقوم هود، وهو سموم أرسلها الله تعالى عليهم فقطّعتهم عضوا عضوا، وأراد بالتنجية الثانية تنجيتهم من عذاب الآخرة الذي استحقّه قوم هود بالكفر، ولا عذاب أغلظ منه ولا أشدّ.
فإن قيل: بُعْداً [الآية 44] معناه عند العرب الدعاء عليهم بالهلاك بعد هلاكهم.
قلنا: معناه الدلالة على أنهم مستأهلون له وحقيقون به، ونقيضه قول الشاعر:
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
أراد بالدعاء لهم بنفي الهلاك بعد هلاكهم الإعلام بأنهم لم يكونوا مستأهلين له ولا حقيقين به.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [الآية 84] نهي عن النقص فيهما، والنهي عن النقص أمر بالإيفاء معنى، فما الحكمة في قوله تعالى في الآية التالية: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ.
قلنا: صرّح أوّلا بنهيهم عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه وتغييرهم إيّاه، ثم صرح بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو حسن عقلا، لزيادة الترغيب فيه والحثّ عليه.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) والعثوّ الفساد، فيصير المعنى: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. وجواب آخر معناه:
ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بنقص المكيال والميزان.(4/96)
فإن قيل: لم قال تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الآية 86] فشرط الإيمان في كون البقيّة خيرا لهم، وهي خير لهم مطلقا لأن المراد ببقيّة الله ما يبقى لهم من الحلال، بعد إيفاء الكيل والوزن، وذلك خير لهم، وإن كانوا كفّارا، لأنهم يسلمون معه من عقاب البخس والتطفيف؟
قلنا: إنما شرط الإيمان في خيرية البقيّة، لأن خيريتها وفائدتها مع الإيمان أظهر، وهو حصول الثواب مع النجاة من العقاب، ومع فقد الإيمان أخفى لانغماس صاحبها في عذاب الكفر، الذي هو أشدّ العذاب. الثاني: أن المراد إن كنتم مصدّقين، فيما أقول لكم وأنصح.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) ولم يقل ببعيدين والقوم اسم لجماعة الرجال، وما جاء في القرآن الضمير العائد اليه إلا ضمير جماعة، قال الله تعالى أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ [نوح/ 1] وقال تعالى لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات/ 11] .
قلنا: فيه إضمار تقديره: وما هلاك قوم لوط او مكان قوم لوط، ومكان قوم لوط كان قريبا منهم، وإهلاكهم أيضا كان قريبا من زمانهم. الثاني: أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، قال الجوهري: يقال ما أنتم منا ببعيد، وقال الله تعالى وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] وقال سبحانه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] .
فإن قيل: قولهم، كما ورد في التنزيل: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) كلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله كما ورد في التنزيل أيضا أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ [الآية 92] ؟
قلنا: تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله، فحين عزّ رهطه عليهم دونه، كان رهطه أعزّ عليهم من الله، ألا ترى الى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء/ 80] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح/ 10] .
فإن قيل: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم أتبعه بذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان المطابق والموافق في ظاهر الفهم أن(4/97)
يقول: من يأتيه عذاب يخزيه حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إليهم، ومن هو صادق إليه.
قلنا: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال: ومن هو كاذب، يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم.
فإن قيل: لم قال تعالى إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [الآية 102] والقرى لا تكون ظالمة، لأن الظلم من صفات من يعقل، أو من صفات الحيوان دون الجماد؟
قلنا: هو من الإسناد المجازي، والمراد به أهلها، كما قال تعالى في موضع آخر أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النساء/ 75] لكن لما أمن اللبس أسند الظلم الى القرية لفظا، كما في قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] .
فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 105] وقوله سبحانه:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل/ 111] وقوله عزّ وجل هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات] فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفي الإذن، وتناقض الآيتين جميعا بنفي النطق؟
قلنا: أمّا التوفيق بين الآيتين، الأوليين فظاهر، لأن المعنى تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان، وأما الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الاولى بنفي الإذن، إن قلنا إنّ الاستثناء من النفي ليس بإثبات، لأنّ الآية الاولى لا تقتضي وجود الإذن حينئذ، بل تقتضي نفي الكلام عند انتفاء الإذن فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفي إثبات ناقضت الآية الثالثة الأولى، ولا تناقض الآيتين بنفي النطق، لأن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يكفّون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم، وهذا جواب عام عن مثل هذه الآيات، ويرد على هذا أن يقال قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) نفى النطق عنهم يوم القيامة، ما يوجب انتفاءه في جميع أجزاء ذلك الزمان عملا بعموم النفي، كما يعم النفي جميع أجزاء المكان في قولنا، لا وجود لزيد في الدار، فاندفع الجواب باختلاف المواقف والمواطن(4/98)
فيكون الجواب، أن الآية الثالثة أريد بها طائفة خاصة، غير الطائفتين الأوليين فلا تناقض.
فإن قيل: لم قال تعالى فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) وكلمة «من» للتبعيض، ومعلوم أن الناس كلهم إما شقي أو سعيد، فما معنى التبعيض؟
قلنا: التبعيض هنا على حقيقته، لأنّ أهل القيامة ثلاثة أقسام: قسم شقيّ، وقسم سعيد، وهم أهل النار والجنة كما ذكر في هذه الآية مفصّلا وقسم لا شقي ولا سعيد وهم أهل الأعراف.
الثاني أنّ معنى الكلام: فمنهم شقيّ ومنهم سعيد، وهذا يقتضي أن يكون الشقيّ بعض الناس والسعيد بعض الناس، والأمر كذلك، ولا يقتضي أن يكون الشقي والسعيد كلاهما بعض الناس، بل كل واحد منهما بعض، وكلاهما كلّ، كما تقول من الحيوان إنسان، ومن الحيوان غير إنسان، وكل الحيوان إما إنسان أو غير إنسان.
فإن قيل: لم قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [الآية 108] وأراد به بيان دوام الخلود، مع أنّ أهل الجنة وأهل النار مخلّدون فيهما خلودا لا نهاية له، والسموات والأرض ودوامهما منقطع، لأنهما يوم القيامة ينهدمان، قال الله تعالى: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) [الفجر] وقال تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار] وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء/ 104] ونظائره كثيرة ممّا يدل على خراب السموات والأرض؟
قلنا: للعرب في معنى الأبد ألفاظ تعبر عن إرادة الدوام دون التأقيت، منها هذا يقولون: لا أفعل كذا ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما أطمت الإبل، ويريدون بذلك لا أفعله أبدا مع قطع النظر عن كون المؤقّت به له نهاية أو لا نهاية له.
الثاني: أنه خاطبهم على معتقدهم أن السموات والأرض لا تزول ولا تتغير.
الثالث: أنه أراد به كون الفريقين في قبورهم إما منعّمين أو معذّبين، كما جاء في الحديث «إن القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» ومن كان في روضة من رياض الجنة فهو في الجنة، ومن كان في حفرة من حفر النار فهو في النار، فعلى هذا يكون المراد بالتأقيت بدوام السماوات والأرض مدة الخلود الى(4/99)
يوم القيامة. الرابع: أن المراد بها سماوات الآخرة وأرضها، قال الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم/ 48] وتلك دائمة لا تزول ولا تفنى، ولأنه لا بد لأهل الجنة ممّا يقلّهم ويظلّهم، إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو العرش، كما جاء في الأخبار، أنّ أهل الجنة تحت ظل العرش، وكل ما أظلك فهو سماء وجاء في الأخبار أيضا في صفة الجنة، أنّ ترابها من زعفران، فدل أنّ لها أرضا والمراد تلك السموات، وتلك الأرض.
فإن قيل: إذا كان المراد بهذا التأقيت دوام الخلود دواما لا آخر له، فكيف صحّ الاستثناء في قوله تعالى:
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [الآية 107] ؟
قلنا: قال الفرّاء: «إلّا» هنا بمعنى «غير» و «سوى» ، فمعناه: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، سوى ما شاء الله تعالى من الخلود والزيادة فكأنه قال: خالدين فيها قدر مدة الدنيا، غير ما شاء الله من الزيادة عليها إلى غير نهاية، وهذا الوجه إنّما يصح إذا كان المراد سموات الدنيا وأرضها.
قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام قولك: لأسكّنك في هذه الدار حولا إلا ما شئت، يريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول. الثاني: أنه استثناء لا يفعله كما تقول: لأهجرنّك إلّا أن أرى غير ذلك، وعزمك على هجرانه أبدا، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما. إلا ما شاء ربّك، وقد شاء أن يخلدوا فيها. قال الزجّاج: وفائدة هذا الاستثناء، إعلامنا أنه، لو شاء سبحانه أن لا يخلّدهم لما خلّدهم، ولكنه ما شاء إلّا خلودهم. الثالث: أنه استثناء لزمان البعث والحشر والوقوف للعرض والحساب، فإنّ الأشقياء والسعداء في ذلك الزمان كلّه، ليسوا في النار ولا في الجنة. الرابع: أن «ما» بمعنى من، والمستثنى من يدخل النار من الموحّدين فيعذّب بقدر ذنوبه، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط. الخامس: أنّ المستثنى زمان كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة وهذا الوجه يختص بالاستثناء من السّعداء، لأنهم لم يدخلوا النار لأنّ مصيرهم الى الخلود في الجنة. السادس: أنه استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة الأشقياء لا يخلدون(4/100)
في عذاب النار بل يعذّبون بالزمهرير وغيره من أنواع العذاب، سوى النار، وهو سخط الله عليهم فإنه أشد وكذلك السعداء لهم سوى نعم الجنة ما هو أجلّ منها، وهو الزيادة التي وعدهم الله تعالى إيّاها، بقوله سبحانه:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس/ 26] ورضوان الله كما قال تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة/ 72] وقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة/ 17] فهو المراد بالاستثناء، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى، بعد ذكر الاستثناء: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وقوله تعالى بعد ذكر السعداء: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) يعني أنّه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب، ويعطي أهل الجنة أنواع العطاء الذي لا انقطاع له، فاختلاف المقطعين يؤكّد صرف الاستثناء إلى ما ذكرنا، فتأمّل كيف يفسّر القرآن بعضه بعضا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) بعد قوله سبحانه وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ [الآية 109] والتوفية والإيفاء إعطاء الشيء وافيا:
أي تامّا، نقله الجوهري وغيره، والتامّ لا يكون منقوصا؟
قلنا: هو من باب التأكيد.
فإن قيل: قوله تعالى وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [الآية 119] إشارة إلى ماذا؟
قلنا: هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حالي الاختلاف والرحمة، فمعناه أنّه خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة وقد فسّره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال:
خلقهم فريقين: فريقا رحمهم فلم يختلفوا، وفريقا لم يرحمهم فاختلفوا.
وقيل: هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحّم، وعلى هذا يكون الضمير في «خلقهم» للذين رحمهم فلم يختلفوا.
وقيل: هو إشارة الى الاختلاف والضمير في «خلقهم» للمختلفين، واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والصيرورة، لا لام كي، وهي التي تسمى لام الغرض والمقصود، لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة، ونظير هذه اللام قوله تعالى:(4/101)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8] وقول أبي العتاهية:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلّكم يصير الى التّراب
وقيل: إنها لام التمكين والاقتدار، كما في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس/ 67] وقوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل/ 8] والتمكّن والاقتدار حاصل، وإن لم يسكن بعض الناس في الليل ولم يركب بعض هذه الدواب ومعنى التمكين والاقتدار هنا، أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف ومكّنهم منه.
وقيل: اللام هنا، بمعنى «على» كما في قوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) [الصافات] وقوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) [الإسراء] .
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ [الآية 120] وقوله تعالى وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [النساء] . قلنا: معناه وكلّ نبأ نقصّه عليك من أنباء الرسل هو ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [الآية 120] ف ما في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، فلا يقتضي اللفظ قصّ أنباء جميع الأنبياء، فلا تناقض بين الآيتين. الثاني: أنّ المراد بالكلّ هنا البعض، كما في قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً [البقرة/ 260] وقوله تعالى: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يونس/ 22] وقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل/ 23] وقوله تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء/ 13] وقول لبيد الشاعر:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل
وكثير من الأشياء غير الله تعالى حق، كالنبي عليه الصلاة والسلام والإيمان والجنة وغير ذلك، وكذلك نعيم الجنة والآخرة ليس بزائل، ولبيد صادق في هذا البيت لقوله (ص) :
أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد، ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص هذه السورة بقوله تعالى وَجاءَكَ فِي هذِهِ(4/102)
الْحَقُ
[الآية 120] مع أن الحقّ جاء في كلّ سور القرآن؟
قلنا: قالوا فائدة تخصيص هذه السورة بذلك، زيادة تشريفها وتفضيلها مع مشاركة غيرها إيّاها في ذلك، كما في قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن/ 18] وقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ بعد قوله سبحانه وَمَلائِكَتِهِ [البقرة/ 98] وقوله تعالى:
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى بعد قوله الصَّلَواتِ [البقرة/ 238] ووجه المشابهة بينهما، أنه حمل قوله تعالى:
وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ على التشريف والتفضيل، عند تعذّر حمله على تعليق العداوة به، لئلّا يلزم تحصيل الحاصل وكذا في المثال الأخير تعذّر حمله على إيجاب المحافظة لما قلنا وهنا تعذر حمله على حقيقته، وهو الجنس بأن حقيقته انحصار كل حق في هذه السورة وهو منتف، أو حمل الحق على معهود سابق، وهو منتف، وحمله على بعض الحق، يلزم منه وصف هذه السورة بوصف مشترك بينها وبين كل السور، وأنه لا يحسن، كما لو قال:
وجاءك في هذه الحق آيات الله أو كلام الله أو كلام معجز، فجعل مجازا عن التفضيل والتشريف.
وقيل: الإشارة بهذه إلى الدنيا لا إلى السورة، والجمهور على القول الأول.
ولا يقال إنّما خصّت هذه السورة بذلك لأن فيها الأمر بالاستقامة بقوله تعالى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [الآية 112] والاستقامة من أعلى المقامات عند العارفين، لأنّا نقول الأمر بالاستقامة جاء أيضا في قوله تعالى: وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الشورى/ 15] ولا يصلح هذا علّة للتخصيص، والله أعلم.(4/103)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «هود» «1»
قوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) وهذه استعارة. لأن آيات القرآن لمّا ورد في بعضها ذكر الحلال والحرام، واستمرت على ذلك بين وعد مقدّم، ووعيد مؤخّر، ونذارة مبتدأ بها، وبشارة معقّب بذكرها شبّهها القرآن، لذلك، بالنظائم المفصّلة، التي توافق فيها بين الأشكال تارة، وتؤلف بين الأضداد تارة ليكون ذلك أحسن في التنضيد، وأبلغ في الترصيف. وهذه من بدائع الاستعارات.
وقوله سبحانه: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [الآية 5] وهذه استعارة. لأن حقيقة الشيء لا تتأتّى في الصدور. والمراد بذلك- والله أعلم- أنهم يثنون صدورهم على عداوة الله ورسوله (ص) . وذلك كما يقول القائل: هذا الأمر في طيّ ضميري. أي قد اشتمل عليه قلبي.
فيكون قوله تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ بمنزلة قوله يطوون صدورهم. ولفظ يثنون أعذب استماعا وأحسن مجازا.
وقيل أيضا: بل معنى ذلك أن المنافقين كانوا إذا اجتمعوا تخافتوا بينهم في الكلام، وحنوا ظهورهم تطامنا عند الحوار، خوفا من رمق العيون، ومراجم الظنون، لوقوع ما يتفاوضونه في أسماع المسلمين. فإذا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.(4/105)
انحنت ظهورهم، انثنت صدورهم.
فأعلمنا الله سبحانه أنهم، وإن أغلقوا أبوابهم، وأسدلوا ستورهم، واستغشوا ثيابهم- بمعنى اشتملوا بها، وبمعنى أدخلوا رؤوسهم فيها على ما قاله بعضهم- فإنه تعالى يعلم غيب صدورهم، ودخائل قلوبهم، ومرامز أعينهم، ومحاذف «1» ألسنتهم.
وقوله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وهذه استعارة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا.
وإنما المراد بذلك أنّا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة [في] «2» بعض الذنوب فقبلنا متابه، وأسقطنا عقابه، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر، واستحق أن نعاقبه وأن نزيل رحمتنا عنه، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة. وليس الأمر كذلك، لأنه إذا عاود الإقلاع، أمن الإيقاع.
وقد أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن يواقع المعصية، فيقنط من قبول التوبة. فمعنى أذقنا الإنسان منّا رحمة.
أي عرّفناه أنّا قد رحمناه. إذ قد أوجبنا قبول التوبة إذا أخلص العبد فيها، وأتى بها على شروطها وحدودها.
ومعنى ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي أزلنا عنه رحمتنا لأجل اقترافه المعصية التي اقترفها في الثاني «3» . وقد يجوز أن يكون المراد بالرحمة هاهنا- والله أعلم- النعمة والسّرّاء. ويكون انتزاعها منه بمعنى إبداله بها الشّدّة والضّرّاء، إجراء له في مضمار الابتلاء والاختبار، أو مصلحة يكون معها أقرب الى الإصلاح «4» والرشاد. ومما يقوّي ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) .
وقوله سبحانه: وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [الآية 28] . وهذه استعارة. لأن الرحمة لا توصف بالعمى وإنما يوصف الناس بالعمى عن تمييز مواقعها. وإدراك مواضعها. فلما
__________
(1) . هكذا بالأصل. ولعلّها مرامي الألسنة بالكلام، كما يحذف بالحجر أي يرمى به.
(2) . هذه اللفظة بالأصل. ولعلّها زائدة لأن المعنى يستقيم بدونها، ولهذا وضعناها بين حاصرتين.
(3) . هكذا بالأصل، ولم نهتد الى تصويب لها.
(4) . في المتن: الإصلاح، وقد غيرت في الهامش الى «الصلاح» بدلا منها.(4/106)
وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك في القلب «1» . كما يقال: أدخلت الخاتم في إصبعي، والمغفر في رأسي. وإنما الأصبع دخلت في الخاتم، والرأس دخل في المغفر. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، بمعنى خفيت عليكم، كما يقول القائل: قد عمي عليّ خبرهم.
وعمي عليّ أثرهم. أي خفي عني الأثر والخبر.
وقوله سبحانه: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [الآية 31] . وهذه استعارة.
كما يقول القائل: اقتحمت فلانا عيني، واحتقره طرفي. إذا قبح في منظر عينه خلقه، وصغر دمامة. ليس أن العين على الحقيقة يكون منها الاحتقار، أو يجوز عليها الاستصغار.
وقوله سبحانه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [الآية 34] وذكر الإغواء هاهنا من قبيل الاستعارة، وإن لم يكن من صريحها. وكذلك لفظ المكر، والاستهزاء، وما يجري هذا المجرى. لأن المراد بمعاني هذه الألفاظ غير المراد بظواهرها. فالمتعارف من الإغواء هو الدعاء الى الغيّ والضلال.
وذلك غير جائز على الله سبحانه، لقبحه وورود أمره بضده. والمراد إذن بالإغواء هاهنا تخييبه سبحانه لهم من رحمته، لكفرهم وذهابهم عن أمره.
ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) [مريم] ، أي خيبة من الرحمة، وارتكاسا في النقمة. وقد جاء لفظ الإغواء، والمراد به التخييب في كثير من منثور كلامهم، ومنظوم أشعارهم.
ويجوز أن يكون الإغواء هاهنا بمعنى الإهلاك لهم. ويجوز أن يكون بمعنى الحكم بالغواية عليهم.
وقوله سبحانه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 37] . وهذه استعارة.
ومعناها: واصنع الفلك بأمرنا، ونحن نرعاك ونحفظك. ليس أنّ هناك عينا تلحظ، ولا لسانا يلفظ. وذلك كما يقول القائل: أنا بعين الله. أي بمكان من حفظ الله. ومن كلامهم للظّاعن
__________
(1) . ليس القلب هنا بمعنى الجارحة التي في الجسم، ولكنه القلب اللفظي والمعنوي، كما نقول: أدخلت الخاتم في الإصبع بدلا من أدخلت الإصبع في الخاتم.(4/107)
المشيّع والحميم المودّع: صحبتك عين الله. أي رعاية الله وحفظه.
وقوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [الآية 44] ، وهذه استعارة. لأن الأرض والسماء لا يصح أن تؤمرا وتخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل، ولا يتوجّهان إلا لمن يعي ويفهم. فالمراد إذن بذلك:
الإخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه، وسرعة مضيّ أمره، ونفاذ تدبيره. نحو قوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل] . وهذا إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة، ولا لغوب ولا مشقة.
وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ. أبلغ من قوله: يا أرض اذهبي بمائك. لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة. ألا ترى أن قولك لغيرك: ابلع هذا الطعام، أبلغ من قولك له: كل هذا الطعام، إذا أردت منه إيصاله الى جوفه بسرعة؟
وكذلك الكلام في قوله سبحانه:
وَيا سَماءُ أَقْلِعِي: لأن لفظ الإقلاع هاهنا أبلغ من لفظ الانجلاء. لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا في الابتلاع. وذلك أدلّ على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة، والفصاحة الشريفة. إذ يقول سبحانه: يا أرض ابلعي، ويا سماء أقلعي: ومثل هذا في القرآن أكثر من أن يشار إليه.
وقوله سبحانه: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) . وهذه استعارة. لأن العذاب في الحقيقة لا يوصف بالغلظ، والدقة، لأنه الألم الذي يلحق الحي في قلبه أو جسمه. وإنما وصفه تعالى بالغلظ على طريقة كلام العرب، لأنهم يصفون الأمر الهيّن بالضؤولة والدقة، كما يصفون الأمر الشاق بالغلظ والشدة، حملا لذلك على عرفهم في المراعاة للشيء الغليظ الكثيف، وقلة الحفل بالشيء الدقيق الضئيل. ألا ترى إلى قولهم: عرض فلان دقيق، وقدره ضئيل؟ وإلى قولهم في مقابلة ذلك:
لقي فلان فلانا بكلام غليظ، وقول ثقيل.
وقد يجوز أيضا- والله أعلم- أن يكون المراد بعذاب غليظ هاهنا الصفة(4/108)
لعذاب الآخرة. والعذاب إنما يقع بالآلات المستعظمة والأعيان المستفظعة، مثل مقامع الحديد، والحجارة المحماة بالجحيم. فوصف سبحانه العذاب الغليظ، لأنه واقع بالأشياء الغليظة، والآلات الثقيلة، فيكون ذلك مجازا من هذا الوجه.
وممّا يقوّي أن المراد بقوله تعالى:
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) عذاب الآخرة، قوله تعالى في الآية نفسها:
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [الآية 58] وهذه النجاة من عذاب الدنيا. ثم قال تعالى:
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فدلّ على أن النجاة من العذاب الأول غير النجاة من العذاب الآخر. وأن الأول عذاب الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، لأن العطف بالواو يقضي بذلك، وإلّا كان وجه الكلام: فلمّا جاء أمرنا نجّينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا من عذاب غليظ، ولم يكن لقوله تعالى:
وَنَجَّيْناهُمْ ثانيا معنى وهو محال.
وقوله سبحانه حاكيا عن لوط عليه السلام: قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) وهذه استعارة والمراد بها: لو كنت آوي الى كثرة من قومي، وعدد من أهلي. وجعلهم ركنا له، لأن الإنسان يلجأ الى قبيلته، ويستند الى أعوانه ومنعته، كما يستند الى ركن البناء الرصين، والنضد الأمين «1» .
وجاء جواب «لو» هاهنا محذوفا.
والمعنى: لو أنني على هذه الصفة لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد وأردتموه من ذنوب فحشاء.
والحذف هاهنا أبلغ، لأنه يوهم المتوعّد بعظيم الجزاء، وبغليظ النكال، ويصرف وهمه الى ضروب العقاب، ولا يقف به عند جنس من أجناس المخوفات المتوقّعات.
وليس مخرج هذا الكلام من لوط عليه السلام، على ما ظنّه من لا معرفة له، وقدح فيه بأن قال: ألم يكن يأوي الى الله سبحانه؟ فما معنى القول الذي قاله؟ وذلك أن لوطا على ما ذكرنا إنّما أراد الأعوان من قومه، والأركان المستند إليهم من قبيلته، وهو يعلم أن له من معونة الله سبحانه أشد الأركان،
__________
(1) . النّضد من الجبل: ما تراكم منه. والجمع أنضاد.(4/109)
وأعز الأعوان، إلا أن من تمام إزاحة العلّة في التكليف حضور الناصر، وقرب المعاضد والمرافد.
وقوله سبحانه في صفة الحجارة المرسلة على قوم لوط: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وهذه استعارة. لأن حقيقة التسويم هي العلامات التي يعلّم بها الفرسان والأفراس في الحرب، للتمييز بين الشعارات، والتفريق بين الجماعات.
قال الله سبحانه: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران] . وقال الله سبحانه:
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران/ 14] والمعنى أنه سبحانه لمّا جعل تلك الحجارة حربا لهم وأعوانا عليهم، وصفها بوصف رجال الحرب وخيولهم، فكأنها مرسلة من عند الله، أي من عند ملائكة الله الذين تولّوا الرمي بها، إرسال الخيول المسوّمة على أعدائها، وإن لم يكن هناك تسويم على الحقيقة.
وقد قال بعضهم: إن تلك الحجارة كانت على الحقيقة معلّمة بعلامات تدل على أنها أعدّت للعذاب، وأفردت للعقاب. وذلك أملأ للقلوب، وأعظم في الصدور.
وقوله سبحانه: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) .
وهذه استعارة من وجهين: أحدهما وصف اليوم بالإحاطة، وليس بجسم فيصح وصفه بذلك. والوجه الآخر:
أن لفظ محيط هاهنا كان يجب أن يكون من نعت العذاب، فيكون منصوبا.
فجعله- سبحانه- من نعت اليوم فجاء مجرورا، فأمّا وصف اليوم بالإحاطة- وان لم يتأتّ فيه ذلك- فالمراد به- والله أعلم- أن العذاب لما كان يعمّ المستحقّين له في يوم القيامة حسن وصف ذلك اليوم بأنه محيط بهم، أي أنه كالسباج المضروب بينهم وبين الخلاص من العذاب والإفلات من العقاب. وأما نقل نعت العذاب الى نعت اليوم، فالوجه فيه أن العذاب لمّا كان واقعا في ذلك اليوم، كان ذلك اليوم كالمحيط به، لأنه ظرف لحلوله، ووقت لنزوله.
وقوله سبحانه: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الآية 86] وهذه استعارة. لأن حقيقة البقية تركة شيء من شيء قد مضى، ولا يجوز إطلاقه(4/110)
على الله سبحانه. فإذن يجب أن يكون المراد غير هذه الحقيقة. وقد قيل في معنى ذلك وجوه: أحدها بقية الله من نعمته خير لكم. وقد قيل: بقيّة الله طاعة الله، وذلك لأنها تبقي رضاه وثوابه أبدا ما بقيت. وقيل بقيّة الله أي عفو الله عنكم ورحمته بكم بعد استحقاقكم العذاب، كما يقول العرب المتحاربون بعضهم لبعض، إذا استحرّ فيهم القتل، وأعضلهم الخطب: البقية! البقية! أي نسألكم البقية علينا والمكافأة لنا. والبقية هاهنا والإبقاء بمعنى واحد.
وقوله سبحانه: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [الآية 87] وهذه استعارة. لأن الصلاة لا يصح منها الأمر على الحقيقة، وإنما أطلق عليها ذلك، لأنها بمنزلة الآمر بالخير، والناهي عن الشر.
وقيل: المراد بذلك: أدينك يأمرك بهذا؟ أي في شريعتك ودينك الأمر بهذا؟ فإذا كان ذلك في عقد الدين حسن أن يضاف الأمر به الى الدين:
وفي هذه الآية أيضا مجاز آخر. وهو أنه تعالى قال: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [الآية 87] وليس يصح على ظاهر الكلام أن يؤمر شعيب بأن يترك قومه شيئا هم عليه، وإنما المعنى- والله أعلم- أصلاتك تأمرك أن تأمرنا بترك ما يعبد آباؤنا؟ فاكتفى بذكر الأمر الأول عن ذكر الأمر الثاني، لأنه كالمعلوم من فحوى الكلام. وهذا من غوامض أسرار القرآن.
وقوله سبحانه: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [الآية 92] . فهذه استعارة. لأن الله سبحانه لا يجوز عليه أن يجعل ظهريّا على الحقيقة. فالمراد أنّكم جعلتم أمر الله سبحانه وراء ظهوركم.
وهذا معروف في لسان العرب، أن يقول الرجل منهم لمن أغفل قضاء حاجته، أو ثنى عطفا على عذله وعتابه: جعلت حاجتي وراء ظهرك، وتركت مقالي دبر أذنك. أي لم تعن بحاجتي، ولم تصغ إلى معاتبتي.
وقوله سبحانه وتعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [الآية 94] . وهذه استعارة، لأن حقيقة الأخذ إنما يوصف بها الأجسام. والصيحة عرض من الأعراض، لأنها بعض الأصوات، إلا أنها أقوى للأسماع صكّا وقرعا، وأبلغ(4/111)
في القلوب وجلا وروعا.. والمراد أن هلاكهم لمّا كان عن الصيحة حسن أن يقال: إنها أخذتهم بمعنى ذهبت بنفوسهم، وأتت على جمعهم.
وقوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) فقوله تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) استعارتان. لأنه تعالى جعل فرعون في تقدمة قومه الى النار بمنزلة الفارط «1» المتقدم للوارد الى الورد، كما كان في الدنيا متقدّمهم الى الضلالة، وقائدهم الى الغواية، وجعل النار بمنزلة الماء الذي يورد، ثم قال تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) لأنه ورد لا يجيز الغصة، ولا ينقع الغلة.
وقد اختلف العلماء في [فهم] قوله تعالى: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) . وهل ذلك ذم لنار جهنم على الحقيقة أو المجاز، فقال أبو علي «2» محمد بن عبد الوهاب الجبائي: ذلك على طريق المجاز، والمعنى بئس وارد النار.
وقال أبو القاسم البلخي «3» : بل ذلك على طريق الحقيقة.
فأمّا قوله سبحانه: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) فإنما قلنا إنه استعارة، لأن حقيقة الرفد العطية. يقال رفده يرفده رفدا ورفدا بفتح الراء وكسرها.
ولكن اللعنة لمّا جعلت بدلا من الرّفد لهم عند انتقالهم من دار الى دار، على عادة المنتجع المسترفد او الرجل المتزوّد، جاز أن يسمّى رفدا، على طريق المجاز، كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران] والبشارة في الأعم، الأغلب، إنما تكون بالخير لا بالشرّ.
ولكن لما جعل إخبارهم باستحقاق
__________
(1) . الفارط: اسم فاعل من فرط بمعنى سبق وتقدم.
(2) . أبو علي محمد الجبّائي كان رأسا من رؤوس المعتزلة، وشيخ علماء الكلام في عصره. وتنسب إليه طائفة «الجبّائية» ، والجبائي نسبة الى «جبّى» من قرى البصرة. توفي سنة 303 هـ. وذكر ابن حوقل في «المسالك والممالك» أنّ جبّى مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر بالنخل وقصب السكر وغيرهما ومنها أبو علي الجبّائي، الشيخ الجليل، إمام المعتزلة، ورئيس المتكلّمين في عصره.
(3) . أبو القاسم البلخي هو عبد الله بن أحمد الكعبي، كان رأس طائفة من المعتزلة، يقال لهم الكعبيّة. والكعبي نسبة الى بني كعب والبلخي نسبة الى بلخ، إحدى مدن خراسان. توفي سنة 317 هـ. [.....](4/112)
العذاب في موضع البشارة لغيرهم باستحقاق الثواب، جاز أن يسمّى في ذلك بشارة.
وقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وهذه استعارة. والمعنى: منها قائم البناء، خال من الأهل، ومنها منقوص الأبنية، ملحق بالأرض، تشبيها بالزرع المحصود. الى هذا المعنى يومئ قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) .
وقوله سبحانه: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة/ 259] والعروش الأبنية. أي خالية من أهلها، على ما فيها من بواقي أبنيتها.
وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن أهل القرى، فكأنه سبحانه شبّه الأحياء الباقين بالزرع النامي، وشبه الأموات الهالكين بالزرع الذاوي. وذلك أحسن تمثيل، وأوقع تشبيه.
وقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . وهذه استعارة. والمراد هاهنا بتمام كلمة الله سبحانه صدق وعيده، الذي تقدّم الخبر به، وتمام وقوع مخبره مطابقا لخبره.(4/113)
سورة يوسف 12(4/115)
المبحث الأول أهداف سورة «يوسف» «1»
سورة يوسف سورة مكّيّة كلّها، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية فقط، وقيل إن الآيات الثلاث الأولى مدنيّات، وهو رأي ضعيف، لأن السورة كلّها قصة واحدة.
ومن العجائب أن يذكر هذا الاستثناء في المصحف المطبوع في مصر، ويزاد عليه الآية السابعة، قال السيوطي في الإتقان وهو رأي واه جدّا، فلا يلتفت إليه.
وحين نستعرض سورة يوسف، نجد أنها سورة فريدة من نوعها من بين سور القرآن الكريم.
فهناك قصص متعدد مبثوث في ثنايا سور القرآن، لكن القرآن كان يكتفي أحيانا بذكر حلقة أو حلقات محدودة من القصة، كحلقة قصة مولد عيسى، أو حلقة قصة نوح والطوفان، لأن هذه الحلقات تفي بالمقصود منها.
أما قصة يوسف، فتقتضي أن تتلى كلها متوالية الحلقات والمشاهد، من بدئها إلى نهايتها، وصدق الله العظيم، إذ قال:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) .
وسورة يوسف، هي قصة يوسف مطوّعة في سردها، وطريقة أدائها،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(4/117)
وخصائصها الفنية كلها، للقضية الكبرى التي جاء القرآن ليعالجها ويوضحها، ويثبتها في القلوب، وهي قضية العقيدة وما يقوم عليها في حياة الناس من روابط ونظم وصلات، تسبقها في السورة مقدمة تشير إلى الوحي بهذا القرآن، وبقصصه الذي هو أحسن القصص، والذي لم يكن محمد (ص) ، يعرف عنه شيئا من قبل.
وتتلوها تعقيبات شتّى، تفيد أن القصص القرآني غيب من عند الله سبحانه يثبّت به الرسول (ص) ، ويعظ به المؤمنين، قال تعالى:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) .
كذلك تضم السورة جناحيها على لفتات ولمسات أخرى في صفحة الكون، وفي أغوار النفس، وفي آثار الماضين، وفي ضمير الغيب المطوي، لا يدري البشر ما هو مخبوء خلف ستاره الرهيب وكل هذه العظات المبثوثة في حنايا السورة، تتناسب مع القصة، والقصة تتكامل معها، لتحقيق القضية الكبرى التي جاء بها هذا القرآن للبشرية، وجاءت بها رسالات الأنبياء في العصور المتلاحقة.
وقد ساق القرآن دعوة صريحة إلى العقيدة السليمة، والإيمان بالله تعالى على لسان يوسف (ع) حين مكث في السجن يدعو إلى الله، ويأخذ بيد الضعفاء، ويواسي المحزونين، ويفسّر الأحلام، ويشرح لهم سر معرفته وإيمانه، فيقول كما ورد في التنزيل:
ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) .
وبذلك نجد السورة تربط بين رسالات السماء جميعها برباط أساسي وهدف مشترك هو الدعوة إلى توحيد(4/118)
الله ونبذ الشركاء والأنداد، وبيان أن الإيمان بالله هو الطريق الواضح، والدين القيّم الذي يسمو بصاحبه ويعصمه من الفتنة، ويمنعه من الرذيلة، ويجعله يقف ثابت اليقين، يقاوم الإغراء، ويردّ المنحرف إلى طريق الصواب، قال تعالى:
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23) .
قصة يوسف
قصة يوسف أطول قصة في القرآن، تجتمع حلقاتها كلّها في سورة واحدة، وتلحظ فيها الخصائص الفنية البحتة للقصة، خصائص الموضوع وخصائص العرض والأداء.
فالقصة غنية بالعنصر الإنساني، حافلة بالانفعال والحركة وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا، فضلا عن خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثّرة.
في القصة يتجلّى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات متنوّعة، واضحة الخطوط والمعالم، في حبّ يعقوب ليوسف وأخيه، وحبّه لبقيّة أبنائه، وفي استجاباته للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها.
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات، بحسب ما يرون من تنوّع صور الحب الأبوي.
وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة، فبعضهم يقوده هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجبّ تلتقطه بعض القوافل السيّارة، وفي قصة يوسف نجد عنصر المكر والخداع في صور شتّى، من مكر إخوة يوسف به، إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة.
وعنصر الشهوة ونزواتها، والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام، وبالإعجاب والتمنّي والاعتصام والتأبّي.
وعنصر الندم في بعض ألوانه، والعفو في أوانه، والفرح بتجمّع المتفارقين. وذلك إلى بعض صور المجتمع المتحضّر في البيت والسجن والسوق والديوان، في مصر يومذاك، والمجتمع العبراني، وما يسود العصر من الرؤى والتنبّؤات.(4/119)
وقد بدأت القصة بالرؤيا يقصّها يوسف على أبيه، فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم، وينصحه بألّا يقصّها على إخوته، كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به، فيكيدون له. ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا، ولما توقّعه يعقوب من ورائها، حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة، ولم يسر فيها كما سار كتاب (العهد القديم) ، بعد هذا الختام الفني الدقيق الوافي بالغرض كل الوفاء.
وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة الحديثة واضح في قصة يوسف، فهي تبدأ بالرؤيا، ويظل تأويلها مجهولا، ينكشف قليلا قليلا، حتّى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا فنيّا طبيعيّا، يرضي الذوق الفنّي الخالص، ويرضي الوجدان الدينيّ، ويفي بدوره للقضية الكبرى التي سيقت القصة لها من الأساس.
والقصّة مقسّمة إلى حلقات، كل حلقة تحتوي على جملة من المشاهد، والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد، بحيث يترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملأها الخيال، ويكمل فيها ما حذف من حركات وأقوال، ويستمتع بإقامة الصلات بين المشهد السابق والمشهد اللاحق، فيمنح القصة بعض خصائص التمثيلية، ويملأها بالحركة والحيوية.
وهذه الطريقة متّبعة في جميع القصص القرآني- على وجه التقريب- وهي شديدة الوضوح في القصص الكبيرة، خصوصا قصّة يوسف الصديق.
يوسف بين إخوته وأبيه
أكرم الله عزّ وجلّ نبيّه يوسف (ع) بأصل كريم، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد رزق يعقوب اثني عشر ابنا هم الأسباط. كان يوسف وبنيامين من أم تسمى راحيل، وبقية الأسباط من أمهات أخرى.
وقد ماتت راحيل أم يوسف وتركته في الثامنة عشرة من عمره أشد ما يكون حاجة إلى قلب الأم وعطفها، ولهذا آثر يعقوب يوسف وبنيامين بالحب والحنان، فسرى داء الحسد بين بقية الإخوة، وقال قائل منهم: ألا ترون أن(4/120)
يوسف وأخاه أحبّ إلى أبينا منّا، وأقرب إليه منا جميعا.
وقال الثاني: إن حبّ يوسف قد تمكّن من قلب يعقوب، ولا شفاء ليعقوب من هذا المرض إلا بإبعاد يوسف عنه، فيجب أن نقتل يوسف، أو نتركه في أرض نائية مقطوعة حتى يموت.
وقال يهوذا: إن القتل لا يقرّه العقل ولا الدين، فلا تقتلوا يوسف، وإنما ألقوه في البئر العميق بجوار بيت المقدس، فهذا البئر ملتقى الغادي والرائح، وسيأخذه بعض القوافل ويبعدون به عنكم، فوافقوا جميعا على رأي يهوذا، وبيّتوا أمرهم عليه.
رؤيا يوسف
أصبح يوسف، فأخبر أباه أنه رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدين له، فعلم الأب أن ابنه سيكون له شأن عظيم، وأنّ أسرته ستأتي له خاضعة معترفة بفضله، فيسجد بين يديه يعقوب أبوه [سجود تحيّة] ، وخالته ليا وهي بمنزلة أمه، وأخوته الأحد عشر، ولكن يعقوب خشي على يوسف من حسد إخوته، فأمره أن يكتم هذه الرؤيا وألّا يخبر بها أحدا ولأمر ما تسرب خبر هذه الرؤيا إلى الإخوة فأشعل نار الغيرة بينهم، واستأذنوا أباهم في مصاحبة يوسف يوما إلى المرعى حيث الهواء الطلق والمنظر الجميل، فأذن لهم بعد تردّد، وأخذوا يوسف وألقوه في ظلام البئر بعد أن استغاث بهم فلم يغيثوه وألقى الله على يوسف السكينة، فاطمأنّ لمصيره، وجاءت قافلة تريد الماء، وألقت بدلوها إلى البئر، فتعلّق يوسف بالدلو وفرحت القافلة بمنظر الغلام الجميل، وقدموا به إلى أرض مصر، فباعوه إلى عزيز مصر بثمن بخس زهيد، ولمح العزيز في يوسف كرم الأصل وشرف العنصر وجمال الخلق وطيب المنبت، فقال العزيز لامرأته أكرمي مثوى هذا الغلام وأحسني معاملته، وحاشاك أن تزجريه زجر الخدم أو تضربيه ضرب العبيد، فإني لأرجو إذا اكتمل عوده ونضجت سنه، أن ينفعنا أو نتّخذه ولدا.
وانصرف يوسف إلى العمل في بيت العزيز في جد وأمان، فمكّن الله له في الأرض وأودع محبته في قلوب الجميع، فلما وصل إلى سن الرشد(4/121)
والقوة، وهي تقع عادة بين العشرين والثلاثين، آتاه الله حكما وعلما، وصوابا في الحكم على الأمور، ومعرفة بمصائر الأحاديث وتأويل الرؤيا.
وهكذا أراد إخوة يوسف به أمرا، وأراد الله له أمرا ولكن أمر الله غالب، ومشيئته نافذة، فقد زادت ثقة العزيز في يوسف، وظهر له مكنون حزمه وعقله، وأمانته ونزاهته، فأدخله فيما بين نفسه وأهله، وبوّأه مكان الأشراف الأحرار، ووضعه من قلبه موضع الأبناء الأبرار.
يوسف وامرأة العزيز
نما يوسف وترعرع وبلغت سنه خمسا وعشرين سنة، وصار أمينا في بيت العزيز. وكانت امرأة العزيز في سن الأربعين، ولها سلطان الملك وقدرة الأمر والنهي، وسيطرة النفوذ والجاه ولكن سلطان الحب قد ملك قلبها، وسيطر على فؤادها.
وحاولت إغراء يوسف مستغلة فنون الإغراء كلها، قال تعالى:
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ [الآية 23] .
فكلمة (راودته) من راد يرود بالإبل إذا ذهب بها، وجاء وهي تشير إلى فنون الأنثى مقبلة إلى فن، مدبرة عن فن، من فنون الإغراء الصامتة التي تحاول بها أن تثير يوسف، فلما يئست من الصمت (غلّقت الأبواب) بتشديد اللام، كأنها أرادت أن تجعل الأبواب حيطانا، ثم عرضت نفسها على يوسف (وقالت هيت لك) : قد تهيأت لك راغبة فيك وهنا وقد خلعت المرأة ثياب الملك والعظمة والسيادة، ولبست ثوب الإغراء والتولّه والرغبة وقف يوسف في عزّة وإباء وإيمان، يقول، كما ورد في محكم التنزيل:
مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) [الآية 23] .
فالمرأة في العصور كلها أكثر عاطفة من الرجل وأكثر تديّنا وإيمانا، وأكثر مراعاة لحرمة الزوجية، وأكثر نفورا من الظلم.
ولهذا عمد يوسف إلى عاطفة الايمان بالله، فقال: مَعاذَ اللَّهِ أستعيذ بالله من الفحشاء والمنكر، إن زوجك أكرمني وجعلني أمينا على بيته(4/122)
وعرضه، فهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان:
إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ.
وهناك عين الله التي ترى وتعلم السر وأخفى، وهذا ظلم وعدوان، وإنه لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) .
ولكن المرأة كانت قد صمّت أذنيها عن سماع كل موعظة، وأغمضت عينيها عن رؤية الحق، ولم يبق في ذهنها إلا فكرة واحدة في مكان.. في رجل.. فهمّت به صائلة عليه لتنتقم لنفسها وكرامتها، أو لترغمه على طاعتها، وهمّ بها ليضربها أو يقتلها دفاعا عن الفضيلة والشرف، ولكن الله ألهمه أن الفرار خير من القتال، والمسالمة خير من المواثبة، وفتحت الأبواب أمامه فأسرع هاربا منها، ولكنها عدت وراءه، طمعا في تنفيذ رغبتها، أو خوفا من افتضاح أمرها.
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ [الآية 25] .
ونتيجة جذبها له لترده عن الباب، وقعت مفاجأة، فقد كان العزيز يمرّ في تلك اللحظة، فرأى يوسف واقفا وقميصه ممزّقا، وكان موقفا يبعث على الرّيبة ويثير الاتهام، فاتهمت المرأة يوسف، بأنه راودها عن نفسها وهجم عليها في مخدعها، ولا بدّ من سجنه، أو إذاقته مرّ العذاب.
ولم يجد يوسف بدّا من وصف الواقع وإيضاحه، فقال هي التي راودتني عن نفسي وجذبتني من ثوبي، وهذا قميصي شاهد على صدقي، وأمام تضارب الأقوال، استدعى الملك ابن عمها وكبير أسرتها، وكان فطنا لبيبا، فسمع القضية من أطرافها، وفطن لما وراء قصّتها فقال: إن كان قميصه قدّ من الأمام فذلك إذا من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها، فهي صادقة وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من الخلف، فهو إذا من أثر هروبه منها، ومطاردتها له حتى الباب، فهي كاذبة وهو من الصادقين.
فلما رأى الملك بعينه أن القميص قد مزّق من الخلف، وضح الحق وظهرت براءة يوسف أمامه، والتفت العزيز إلى امرأته وقال: إنّ هذا من كيد النساء ومكرهنّ، فاستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، وأنت يا يوسف أمسك لسانك عن الخوض في هذا الحديث، واكتم أمره عن الناس أجمعين.(4/123)
يوسف عزيز مصر
تعرض يوسف لحلقات متتابعة من الإغراء والوعد والوعيد، وتوالت عليه حملات زليخا، ونساء من وجوه المدينة، فدعا يوسف ربه أن ينجيه من كيدهن ومكرهن، بقوله كما ورد في القرآن الكريم:
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [الآية 33] .
ورأى العزيز أن يضحي بهذا البريء النزيه، حتى تسكت الألسنة وتخف عن زوجته التهمة، فأدخل يوسف السجن.
وكان يوسف في السجن، مثالا كريما في الدعوة إلى الإيمان وتفسير الأحلام وإرشاد الناس إلى الحق ثم رأى الملك في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف، وفسّر يوسف هذه الرؤيا بأن البلد مقبلة على سبع سنين مخصبة يجود فيها النيل بالماء، ثم تأتي بعدها سبع سنين مجدبة يجف فيها ماء النيل، ويعقب ذلك عام طيّب مثمر، فأمر الملك بالعفو عن يوسف، ولكنه أبى أن يخرج من السجن إلا بعد التثبّت من براءته ونزاهته، فاعترفت النسوة بنزاهته وفي ذلك، يقول الله تعالى:
حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) .
فخرج يوسف من السجن بريئا نزيها، ثم نال إعجاب الملك والحظوة عنده.
وعلم يوسف أن مصر قادمة على مجاعة، فالنيل سيجود بالماء سبع سنين ثم يمتنع عن الفيضان سبع سنين أخرى، ورأى يوسف ثقة الملك فيه وإعجابه بنزاهته وأمانته فقال كما ورد في التنزيل:
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) .
واستطاع يوسف بحكمته أن ينجي مصر من المجاعة، وأن يدّخر القمح في سنابلها، والذرة في كيزانها، وأن يدير التموين والأموال، وأن يحفظ لمصر مكانتها وفضلها فاستطاعت أن تساعد نفسها، وأن تمديد العون لما حولها من البلاد.
ووصل خبر يوسف إلى البلاد(4/124)
المجاورة، وإلى أرض كنعان حيث يقيم نبيّ الله يعقوب وأبناؤه الأسباط.
فقال يعقوب لبنيه: يا بنيّ إن الجدب عمّنا والقحط يكاد يأتي علينا، فاقصدوا هذا العزيز، وأحضروا من عنده القمح والطعام، واتركوا عندي أخاكم بنيامين أتعزّى ببقائه عن فراقكم، فرحل أبناء يعقوب إلى مصر، قاصدين مقابلة العزيز.
واستأذن الحاجب على يوسف، فقال إن بالباب عشرة رجال تتشابه وجوههم، وكأنهم غرباء عن هذه الديار يستأذنون في الدخول عليك، فأذن يوسف لإخوته وعرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، فقد تركوه في الجب ذليلا فريدا، فأين منه هذا الأمير العزيز الذي يأمر فيطاع، ويقول فيمتثل الجميع أمره. وأكرم يوسف وفادتهم، وترك نقودهم داخل التموين الذي أمدّهم به، وطلب منهم أن يحضروا أخاهم بنيامين معهم في المرة الثانية، ولما حضر بنيامين مع إخوته استطاع يوسف أن يستبقيه معه، ثم ذهب الإخوة إلى أبيهم، فاشتدّ حزنه لفراق يوسف وبعده بنيامين، وجلس حزينا في محرابه يبكي أشد البكاء، ويقول كما أخبرنا القرآن الكريم يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [الآية 84] .
ثم قال الأب لأبنائه، إني أحس في قرارة نفسي بوجود يوسف على قيد الحياة، فاذهبوا إلى مصر وتحسّسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من فضل الله ورحمته ودخل الإخوة على يوسف، وقد اشتدّ بهم الضرّ والحاجة، فطلبوا من يوسف أن يرفق بهم، وأن يتصدّق عليهم، وهنا فاض قلب يوسف حنانا وعطفا على إخوته، وسألهم عمّا فعلوه بيوسف في زمان جهلهم، فقالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي بنيامين:
قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) .
لقد اتقى يوسف ربّه، وصبر عن الفحشاء، وتحمّل السجن في طاعة الله، فلم يضع أجره، وجعله الله على خزائن الأرض، عزيزا كريما، فالله يتولى الصالحين.
وصفح يوسف عن إخوته وقال لهم:
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) .(4/125)
وعاد الإخوة إلى أبيهم، فأحسّ رائحة القميص من مسافة بعيدة، ولمّا وضع القميص على وجهه عاد بصيرا، ورحل يعقوب مع أسرته قادمين إلى مصر، ودخلوا على يوسف، وخرّوا له جميعا ساجدين [سجود تحيّة] ، الأب والأم والإخوة، فقال يوسف:
يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [الآية 100] .
وشكر يوسف ربّه إذ أخرجه من السجن، وجاء بإخوته من البادية، وجمع شمل الأسرة، ثم مكّن الله ليوسف في الأرض، وآتاه الملك والحكمة، ليكون في قصته دليلا للعاملين ونبراسا للمخلصين وكأنه سبحانه يمهد الأسباب والمقدمات بلطفه وحكمته، لتكون العاقبة للمتّقين، ومد يوسف (ع) يده لله تعالى طالبا منه حسن الخاتمة والسير في موكب الصالحين فقال، كما ورد في التنزيل:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) .(4/126)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يوسف» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «يوسف» بعد سورة «هود» ، وقد نزلت سورة «هود» بعد «الإسراء» وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة «يوسف» في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنها نزلت في قصة يوسف مع أبيه وإخوته، وتبلغ آياتها إحدى عشرة ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، كما يقصد من سورتي «يونس» «وهود» ، ولهذا ذكرت بعدهما، وتختلف طريقة إثباته فيها عن طريقة إثباته فيهما، لأن طريقة إثباته فيهما، كانت بتحدّيهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور مثله أما طريقة إثباته في هذه السورة، فبأنه يقصّ عليهم من تفصيل أخبار يوسف (ع) ، ما لا يمكن أميّا مثله أن يعرفه.
وقد جاءت هذه السورة في هذا الغرض على ثلاثة أقسام: أولها في مقدمة، يقصد منها التمهيد لقصة يوسف، وثانيها، في قصة يوسف، وثالثها، في خاتمة تناسب ما سيقت له هذه القصة.
المقدمة الآيات (1- 3)
قال الله تعالى الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز.
المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/127)
(1) فأقسم بهذه الحروف، أن ما أنزله هو آيات الكتاب المبين، وذكر أنه أنزله قرآنا عربيّا، ليعقلوه ويفهموه، وأنه يقصّ عليه فيه أحسن القصص، وقد كان من قبله لا يعلم شيئا منه، فلا يمكن إلا أن يكون منزّلا من عنده.
قصة يوسف (ع) الآيات (4- 101)
ثم قال تعالى إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) كان ليعقوب اثنا عشر ولدا: ستة من ليا بنت ليان، وأربعة من سريّتين له، واثنان من راحيل بنت ليان، وكان قد تزوجها بعد وفاة أختها، فولدت له بنيامين ويوسف. فذكر تعالى أن يوسف رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له، فقصّ ما رآه على أبيه، فنهاه أن يقصّه على إخوته، لئلا يحملهم الشيطان على الكيد له، وكان يحبه هو وأخوه بنيامين أكثر منهم، ثم أوّله له بأن ربه يجتبيه، ويعلمه من تأويل الأحاديث، ويتمّ نعمته عليه، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحاق ثم ذكر سبحانه أن في قصة يوسف آيات وعبرا للسائلين، ثمّ فصّلها، فذكر تعالى أن إخوة يوسف ذكروا فيما بينهم أن يوسف وأخاه أحبّ إلى أبيهم منهم، وحكموا بتخطئته في إيثارهما بزيادة حبّه عليهم، وتآمروا على قتله أو إبعاده في أرض عن أبيه فأشار بعضهم بإلقائه في جبّ ليلتقطه بعض السّيّارة الذين يمرون به، فاتفقوا على هذا الرأي، ثم احتالوا على أبيهم، حتى يرسله ليرتع ويلعب معهم، فذكر أنه يخاف أن يأكله الذئب وهم عنه غافلون، فتعهّدوا له ألّا يغفلوا عنه، فلمّا ذهبوا به ألقوه في ذلك الجبّ، واتفقوا على أن يرجعوا إلى أبيهم، فيخبروه بأن الذئب أكله وهم في غفلة عنه، وأوحى الله إليه لينبّئنّهم بأمرهم هذا، وهم لا يشعرون.
ثم ذكر سبحانه أنهم رجعوا إلى أبيهم يبكون، وأخبروه بأنهم ذهبوا يستقون، وتركوا يوسف عند متاعهم، فأكله الذئب، وأتوه بقميصه وعليه دم لطّخوه به، فنظر إلى القميص فوجده لا تمزيق فيه. فعرف كذبهم وأخبرهم بأن أنفسهم سوّلت لهم فيه أمرا، وصبر(4/128)
على فقد يوسف صبرا جميلا، واستعان الله على ما يصفون من الكذب، ليظهر أمره له، ويعلم ما فعلوه به.
ثم ذكر تعالى، أن سيارة كانت ذاهبة من مدين إلى مصر، أرسلوا واردهم ليطلب لهم الماء، فسار حتى وصل إلى ذلك الجبّ، فأدلى دلوه فتعلق يوسف به، فلمّا رآه فرح به لجماله وحسنه، واتفق هو ومن معه على أن يخفوا أمره عن سيارتهم، ويخبروهم بأن أهل الماء جعلوه بضاعة عندهم، على أن يبيعوه لهم بمصر، ثم ذكر أنهم باعوه بثمن بخس لأنهم لم يغرموا فيه شيئا، وكان الذي اشتراه عزيز مصر، فأمر امرأته أن تكرم مثواه، عسى أن ينفعهم أو يتخذوه ولدا ثم ذكر جلّ شأنه أنه لما بلغ أشدّه، آتاه حكمة وعلما، وجزاه بذلك على إحسانه وطاعته، وأنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه، فاستعاذ بالله ممّا تطلبه منه، وخرج هاربا إلى الباب فخرجت وراءه لتمنعه، وتعلّقت بقميصه فقدّته من دبر، فلما وصلا إلى الباب، وجدا بعلها عنده، فرمته بأنه كان يريد بها سوءا، وذكر له أنها راودته عن نفسه فأبى وجاء شاهد من أهلها، فذكر أن قميصه إن كان قدّ من قبل، تكون هي الصادقة، وإن كان قدّ من دبر يكون هو الصادق، فلما رآه قدّ من دبر علم أن اتهامها له من الكيد الذي عرفن به، وأمره أن يعرض عن هذا، لئلّا يظهر للناس، وأمرها أن تستغفر من ذنبها، ولا تعود إليه.
ثم ذكر تعالى أن نسوة في المدينة عرفن ذلك، فلمنها عليه، فلما سمعت بما حصل منهن، دعتهنّ إليها، وأحضرت لهن طعاما، وآتت كل واحدة منهن سكينا لقطع الطعام، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن، فلمّا رأينه أكبرنه، ودهشن، فوقعت سكين كل واحدة على يدها، فجرحتها، ثم أخبرتهن بأنه هو الذي لمنها فيه، وأنه إن لم يفعل ما تأمره به، فلا بدّ من أن تسعى في سجنه، فآثر السجن على ما دعته إليه، ولم يجبها إلى ما أرادته، فذهبت إلى بعلها، فشكته أنه فضحها في الناس، وأنه يخبرهم بأنها راودته عن نفسه، فرأى أن يحبسه، حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر ذلك الحديث.
ثم ذكر سبحانه، أنه دخل معه السجن فتيان: أحدهما صاحب طعام(4/129)
الملك، وثانيهما كان صاحب شرابه، فقصّ عليه صاحب الشراب، أنه رأى أنه يعصر خمرا، وقصّ عليه صاحب الطعام أنه رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، وطلبا منه أن يؤوّل لهما رؤياهما، فأخبرهما بأنه سيؤوّل لهما ذلك قبل أن يأتيهما طعامهما، وأن علمه بتأويل الرؤيا ممّا علّمه ربّه، لأنه ترك ملّة من لا يؤمنون به ولا باليوم الآخر، واتّبع ملّة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم بيّن لهما بطلان ما يعبدانه من دون الله، وأوّل لصاحب الشراب رؤياه بأنه سيعود إلى عمله عند الملك، وأوّل لصاحب الطعام رؤياه، بأنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه، وطلب من صاحب الشراب أن يذكره عند الملك، إذا عاد إلى عمله، فلما عاد إلى عمله نسي أن يذكره عند الملك، فلبث في السجن بضع سنين.
ثم ذكر تعالى أن الملك رأى سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخرى يابسات، وطلب من قومه أن يؤوّلوا له هذه الرؤيا، فعجزوا عن تأويلها له، فطلب منهم صاحب الشراب، أن يرسلوه إلى يوسف ليؤوّلها، فلما قصّها عليه، أخبره بأنهم يزرعون سبع سنين متوالية، وأوصاهم أن يتركوا ما يحصدونه في سنبله، لئلّا يأكله السوس، ولا يأكلوا إلا قليلا منه ثم أخبره بأنه سيأتي بعد ذلك سبع سنين مجدبات، يأكلون فيها ما ادّخروه لها، ثم يعودون إلى الخصب كما كانوا قبل الجدب، فلما عاد صاحب الشراب إلى الملك، وأخبره بهذا التأويل، طلب أن يأتوه بيوسف من السجن، فلمّا جاءه الرسول أمره أن يرجع إلى الملك، فيسأله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن، لينكشف أمرهن وتعلم براءته ممّا اتهمنه به، فسألهن الملك عن خطبهن، إذ راودن يوسف عن نفسه، فأجبن بأنهن لم يعلمن عليه من سوء، واعترفت امرأة العزيز بأنها هي التي راودته عن نفسه.
ثم ذكر تعالى، أن الملك أمر أن يأتوه به ليستخلصه لنفسه، فلمّا أتاه وكلّمه، أخبره بأن قد صار عنده مكينا أمينا فطلب منه يوسف أن يجعله أميرا على خزائن أرض مصر، ليدبّر أمورها في سني الجدب، فأجابه الملك إلى ما طلب من ذلك، ثم ذكر تعالى أن إخوة(4/130)
يوسف جاءوا إليه يبتاعون ميرة لأهلهم، فعرفهم ولم يعرفوه، ولمّا جهّزهم بجهازهم، سألهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم، وأخبرهم بأنهم إن لم يأتوه به لم يعطهم شيئا، فأخبروه بأنهم سيراودون عنه أباه، لعلّه يرسله معهم، ثم أمر يوسف فتيانه، أن يجعلوا بضاعتهم التي ابتاعوا الميرة بها في رحالهم، ليعرفوها إذا انقلبوا الى أهلهم، فيرجعوا إليه ثانية، فلمّا رجعوا إلى أبيهم، أخبروه بأنهم لا يعطون شيئا، إذا لم يرسل معهم أخاهم بنيامين، وطلبوا منه أن يرسله معهم، وتعهدوا له بحفظه فأجابهم بأنهم قد تعهدوا قبل ذلك بحفظ يوسف، ولم يحفظوه، وذكر لهم أن الله خير حافظ وهو أرحم الراحمين، ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم، فأخبروا أباهم بذلك، وأنهم إذا ذهبوا ثانيا يميرون أهلهم ويحفظون أخاهم، ويزدادون كيل بعير له، فطلب منهم أن يؤتوه موثقا من الله ليأتنّه به، فلما آتوه موثقهم، أرسله معهم، وأشهد الله عليهم ثم ذكر سبحانه أنهم لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه بنيامين، وعرّفه أنه أخوه، ونهاه أن يبتئس بما كانوا يفعلون فلمّا جهّزهم بجهازهم جعل صواع الملك في رحل بنيامين، ثم أمهلهم حتى انطلقوا، فأرسل وراءهم رسولا اتهمهم بأنهم سرقوا صواع الملك، فرجعوا إلى يوسف وأصحابه، وأقسموا بالله أنهم ما جاءوا ليفسدوا في الأرض، وما كانوا سارقين فسألوهم عن جزائه إن ظهر أنه منهم، فأجابوهم بأن جزاءه استرقاق من وجد في رحله، وكان هذا هو حكم السارق في شريعة ملك مصر، وقد فعل يوسف ذلك ليأخذ أخاه منهم ففتّش أوعيتهم حتى وجد الصواع في وعاء أخيه، فحكم باسترقاقه، وأخذه منهم.
ثم ذكر تعالى، أنهم أخبروا يوسف بأنّ لأخيهم أبا شيخا كبيرا، وسألوه أن يأخذ أحدهم مكانه، فأبى أن يأخذ إلّا من وجد الصواع عنده، فلمّا يئسوا منه، تناجوا في أمرهم، وما يقولونه لأبيهم، فذكر كبيرهم أنه لن يبرح أرض مصر حتى يأذن له أبوه، أو يمكّنه الله من خلاص أخيه، وأمرهم أن يرجعوا إلى أبيهم، ويخبروه بما فعله، بنيامين فلما رجعوا إليه، وأخبروه بذلك لم يصدقهم، واتهمهم بأنه دبّروا له أمرا، كما دبّروا لأخيه من(4/131)
قبل، وصبر على فقده أيضا صبرا جميلا. ورجا من الله أن يأتيه بأبنائه جميعا، ثم أعرض عنهم، وأظهر أسفه على يوسف، وصار يبكي عليه حتى ذهب بصره، فأشفق عليه أبناؤه، وأخبروه بأنه لا يفتأ يذكر يوسف حتّى يمرض أو يهلك فأجابهم بأنه إنما يشكو أمره إلى الله، ويعلم منه ما لا يعلمون، ثم أمرهم أن يذهبوا إلى مصر، فيفتشوا عن يوسف وأخيه، ولا ييأسوا من رحمة الله، فأطاعوا، وذهبوا إلى مصر يمتارون ويفتشون عن أخويهم فلما دخلوا على يوسف شكوا إليه ما مسّهم وأهلهم من الضر، وأنهم جاءوا ببضاعة رديئة يرجون أن يقبلها منهم، وأن يعطيهم بدلها كيلا وافيا، ويتصدق بذلك عليهم فلمّا شكوا إليه ذلك رقّ لهم ودمعت عيناه، وسألهم عمّا فعلوه بيوسف وأخيه، وهم في جهل الشباب، فقالوا له أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) .
ثم ذكر تعالى، أنهم لما عرفوه، اعترفوا له بالمزيّة والفضل، وأقرّوا بأنهم أخطئوا فعفا عنهم، ورجا من الله أن يغفر لهم، وأمرهم أن يذهبوا بقميصه، فيلقوه على وجه أبيه ليأتي إليه بصيرا، ويأتوا بأهلهم أجمعين ثم ذكر سبحانه، أنهم رجعوا إلى أبيهم، وألقوا عليه القميص فارتدّ إليه بصره، وأنهم أتوا بأهلهم، فلما دخلوا على يوسف، ضمّ إليه أبويه، ورفعهما إلى سريره الذي يجلس عليه، وأنهم خرّوا له سجّدا سجود تكريم، وأن يوسف أخبر أباه، بأن هذا هو تأويل رؤياه من قبل، قد جعلها ربّه حقا، وقد أحسن به إذ أخرجه من السجن، وجاء بهم إليه، من بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته، إنه لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) .
الخاتمة الآيات (102- 111)
ثم قال تعالى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) فذكر سبحانه،(4/132)
أن قصة يوسف (ع) من غيب الماضي الذي يوحيه إليه، وما كان يعلمه، وأن أكثر الناس لا يؤمنون بالقرآن، ولو حرص على إيمانهم لتعنّتهم، وأنه لا يسألهم عليه أجرا، حتّى يعرضوا عنه، وإنما هو تذكير للناس وعظة لهم ثم ذكر تعالى، أن هذا الإعراض شأنهم في آياته في السماوات والأرض، وأن أكثرهم لا يؤمن به إلّا وهم مشركون ثم أنكر عليهم، أنهم لا يحذرون أن يؤاخذهم على تعنّتهم، بغاشية من عذابه، أو تأتيهم الساعة بغتة، وهم لا يشعرون.
ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم، أن هذا سبيله يدعو إليه على بصيرة، هو ومن اتّبعه، ولا يأتيهم بما يقترحونه من الآيات على سبيل التعنّت، ثم ذكر سبحانه، أنه لم يرسل من قبله إلّا رجالا مثله، من أهل القرى، فلم يرسل ملائكة كما يقترحون، وأمرهم أن يسيروا في الأرض، لينظروا كيف كانت عاقبة المكذّبين قبلهم وذكر تعالى، أن دار الآخرة خير للمتقين، من دنياهم التي أعمتهم ثم ذكر جلّ شأنه أنه لم يهلك المكذبين قبلهم، إلا بعد أن استيأس الرسل، وظنّوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا به من هلاكهم، وأنّ نصره جاءهم بعد هذا، فنجّى من يشاء من المؤمنين، ولم يردّ أحد عذابه عن القوم المجرمين لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) .(4/133)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يوسف» «1»
أقول: وجه وضعها بعد سورة «هود» زيادة على الأوجه الستة السابقة، أن قوله تعالى في مطلعها: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [الآية 3] مناسب لقوله سبحانه في مقطع تلك: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود/ 120] .
وأيضا فلما وقع في سورة هود:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) . وقوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود/ 73] .
ذكر هنا حال يعقوب مع أولاده، وحال ولده الذي هو من أهل البيت مع إخوته، فكان كالشرح، لإجمال ذلك.
وكذلك قال تعالى في سورة «يوسف» : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ [الآية 6] . فكان ذلك كالمقترن بقوله تعالى في هود: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [الآية 73] .
وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن «يونس» نزلت، ثم «هود» ، ثم «يوسف» «2» .
وهذا وجه آخر، من وجوه المناسبة في ترتيب هذه السور الثلاث، لترتيبها في النزول هكذا.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . الإتقان: 1/ 97، نقلا عن محمد بن الحارث بن أبيض في جزئه.(4/135)
المبحث الرابع مكنونات سورة «يوسف» «1»
1- أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [الآية 4] .
هي الخرثان، وطارق، والذيال، والكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، كما ورد في حديث مرفوع أخرجه الحاكم في «مستدركه» «2» .
2- لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ [الآية 8] .
قال قتادة: هو بنيامين، شقيقه.
أخرجه ابن أبي حاتم.
3- قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ [الآية 10] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . يبدو أن هذا الحديث سقط من مطبوعة «المستدرك» ، حتى إن الشيخ أحمد شاكر صرح في تعليقه على «تفسير الطبري» بأنه لم يجده فيه. وللعلماء كلام في هذا الحديث المرويّ عن جابر رضي الله عنه. قال الحافظ البوصيري: «رواه أبو يعلى بسند ضعيف ومنقطع، ورواه البزار بتمامه إلا أنه قال: «التمردان» بدل «العمودان» ، والحاكم قال: صحيح على شرط مسلم، وليس كما زعم» . من هامش «المطالب العالية» 3/ 344.
وأورده ابن عراق الكناني في «تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة» 1/ 193، وزاد في عزوه إلى سعيد بن منصور، والعقيلي في «الضعفاء» وابن مردويه. وقد حاول ابن عراق إزالة تهمة الوضع عن الحديث. لكن تعقبه معلقا عليه الشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، فقال: «تقتضي نكارته الحكم بوضعه جزما. وهو في الحقيقة مأخوذ عن الإسرائيليات» .
وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 39: «رواه البزار، وفيه الحكم بن ظهير وهو متروك» .
وهناك اختلاف بين النسخ التي روت هذا الحديث في أسماء هذه الكواكب، انظر «تفسير الطبري» 12/ 90 و «مجمع الزوائد» 7/ 39، و «كشف الأستار» 3/ 53، و «المطالب العالية» 3/ 344، و «تاريخ جرجان» لحمزة السهمي: 244، و «تنزيه الشريعة المرفوعة» لابن عراق 1/ 193، و «ميزان الاعتدال» للذهبي 1/ 572.(4/137)
قال قتادة: كنا نحدّث أنه روبيل، وهو أكبر إخوته وهو ابن خالة يوسف «1» .
وقال السّدّي: هو يهوذا.
وقال مجاهد: هو شمعون. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
4- غَيابَتِ الْجُبِّ [الآيتان 10 و 15] .
قال قتادة: بئر بيت المقدس.
وقال ابن زيد: بحذاء طبريّة «2» ، بينه وبينها أميال.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وأخرج عن أبي بكر بن عيّاش: أنّ يوسف أقام في الجبّ ثلاثة أيّام.
5- بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] .
قال ابن عباس: كان دم سخلة «3» .
أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
6- فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ [الآية 19] .
هو: مالك بن ذعر «5» . 7- وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ [الآية 21] .
قال ابن عبّاس: كان اسمه:
قطيفير «6» .
وقال ابن إسحاق: أطيفير «7» .
أخرجه ابن أبي حاتم.
7- لِامْرَأَتِهِ [الآية 21] .
قال ابن إسحاق: اسمها راعيل بنت رعائيل. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقيل: زليخا.
8- وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [الآية 26] .
قال ابن عباس: صبيّ في المهد.
وقال مجاهد: ليس من الإنس، ولا من الجنّ، هو خلق من خلق الله.
وقال الحسن: رجل له فهم وعلم.
وقال زيد بن أسلم: كان ابن عمّ لها حكيما.
__________
(1) . أخوه لأبيه. والأثر في «تفسير الطبري» 12/ 93.
(2) . رواه الطبري 12/ 93 15/ 566 ط شاكر.
(3) . السّخلة: ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرا كان أو أنثى.
(4) . والطبري في «تفسيره» 12/ 97.
(5) . انظر «تفسير الطبري» 12/ 104.
(6) . «تفسير الطبري» 12/ 104: «قطفير» . والمثبت موافق ل «الإتقان» 2/ 146.
(7) . في «الدر المنثور» 4/ 11: «أظفير» ، وفي «تفسير الطبري» : «أطفير بن روحيب» . والمثبت موافق ل «الإتقان» .(4/138)
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وفي «العجائب» للكرماني: قيل: هو رجل من خاصة الملك، له رأي.
وقيل: هو زوجها.
وقيل: هو سنّور «1» في الدار «2» .
9- وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ [الآية 36] .
قال ابن عباس: أحدهما، خازن الملك على طعامه، والآخر، ساقيه على شرابه. أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج عن مجاهد، وابن إسحاق:
أن اسم الأول، مجلث «3» ، والساقي، نبو «4» ، وفي «المسالك» لأبي عبيد البكري «5» : أن اسم الأوّل: راشان، والثاني: مرطش.
وقيل: الأول: بشرهم، والثاني:
شرهم.
حكاه السّهيلي.
10- لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ [الآية 42] .
هو السّاقي. قاله مجاهد، وغيره.
أخرجه ابن أبي حاتم «6» .
11- عِنْدَ رَبِّكَ [الآية 42] .
قال مجاهد: أي الملك الأعظم:
الريّان بن الوليد. أخرجه ابن أبي حاتم.
12- فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) .
قال أنس بن مالك: سبع سنين «7» .
__________
(1) . السّنّور: الهر. [.....]
(2) . قال الطبري في «جامع البيان» 12/ 116: «والصواب من القول في ذلك، قول من قال: كان صبيا في المهد.
للخبر الذي ذكرناه عن رسول الله (ص) أنه ذكر من تكلّم في المهد فذكر أنّ أحدهم صاحب يوسف» . والثلاثة المتكلمون في المهد هم: عيسى، وصاحب يوسف، وصاحب جريج.
(3) . «تفسير الطبري» 12/ 127 ووقع في «الدر المنثور» 4/ 18: «مجلب» بالباء الموحدة، وفي الإتقان 2/ 147:
«محلت» .
(4) . «انظر تفسير الطبري» 12/ 127، وفي «الإتقان» . أن اسمه: «بنوء» .
(5) . أبو عبيد البكري: عبد الله بن عبد العزيز، مؤرخ جغرافي، ثقة، أديب، له مصنفات كان الملوك يتهادونها منها:
«المسالك والممالك» ، مخطوط غير كامل، طبع جزء منه باسم «المغرب في ذكر أفريقية والمغرب» وقطع خاصة ببلاد الروس والصقلب ومصر، وله أيضا «معجم ما استعجم» و «شرح أمالي القالي» ، توفي سنة (487) هـ.
(6) . انظر «تفسير الطبري» 12/ 131.
(7) . أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» . «الدر المنثور» 4/ 20.(4/139)
وقال ابن عباس: اثنتي عشرة سنة.
وقال طاوس، والضّحّاك: أربع عشرة سنة. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وفي «العجائب» للكرماني: أنه لبث بكلّ حرف من قوله: (اذكرني عند ربّك) سنة.
13- وَقالَ الْمَلِكُ [الآية 43] .
هو ريّان السابق «1» .
14- ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ [الآية 59] .
قال قتادة: هو بنيامين. وهو المتكرّر «2» في السورة.
15- فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [الآية 77] .
وقال ابن عباس: يعنون يوسف.
أخرجه ابن أبي حاتم «3» . 16- قالَ كَبِيرُهُمْ [الآية 80] .
قال مجاهد: هو شمعون الذي تخلّف، أكبرهم عقلا.
وقال قتادة: هو روبيل، أكبرهم في السن. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «4» .
17- وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [الآية 82] .
قال قتادة: هي مصر، أخرجه ابن أبي حاتم «5» ، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
18- إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [الآية 94] .
قال ابن عبّاس: وجدها من مسيرة ستّة أيّام.
وفي رواية عنه «6» : ثمانية. وفي أخرى: عشرة. وفي أخرى: من مسيرة
__________
(1) . انظر الآية (42) من هذه السورة في هذا الكتاب و «تفسير الطبري» 13/ 4.
(2) . المثبت موافق لما في «الإتقان» 2/ 147 وانظر «تفسير الطبري» 13/ 6.
(3) . قال الحافظ البوصيري بعد ما ذكر أثرا عن ابن عباس: رواه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ، بتعبير يوسف عليه السلام بالسرقة: «رواه الحارث. بسند ضعيف لضعف خصيف، ولا سيما فيما رواه في حق الأنبياء، وهم معصومون قبل البعثة وبعدها. هذا هو الحق» . من هامش «المطالب العالية» 3/ 345.
(4) . انظر «تفسير الطبري» 13/ 23.
(5) . «تفسير الطبري» 13/ 25.
(6) . انظر «تفسير الطبري» 13/ 38.(4/140)
ثمانين فرسخا. أخرج ذلك ابن أبي حاتم «1» .
19- الْبَشِيرُ [الآية 96] .
قال مجاهد: هو ابنه يهوذا. أخرجه ابن جرير.
20- سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [الآية 98] .
قال ابن مسعود: أخّرهم إلى السّحر. أخرجه ابن أبي حاتم.
وفي حديث مرفوع: إلى ليلة الجمعة. أخرجه التّرمذي من حديث ابن عباس.
21- آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ [الآية 99] .
هما أبوه، وأمه: راحيل. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة. وأخرج عن السّدّي قال: خالته، واسمها: ليّا.
22- هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [الآية 100] .
قال سلمان: كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عاما.
وقال قتادة: خمسة وثلاثون عاما.
أخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج عن الحسن: أن يوسف ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، وعاش في العبودية والملك ثمانين سنة ثم جمع الله له شمله بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة.
23- وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [الآية 100] .
قال عليّ بن أبي طلحة: من فلسطين. أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) . المصدر نفسه 13/ 41.
قلت: وقد روى الحديث أيضا الحاكم في «المستدرك» 1/ 316 في كتاب الصلاة، وتعقّبه الذهبي فقال: «هذا حديث منكر شاذ، أخاف أن يكون موضوعا» . وقال الذهبي أيضا في «سير أعلام النبلاء» 9/ 218 في ترجمة الوليد بن مسلم، بعد أن أورد الحديث: «قلت: هذا عندي موضوع، والسلام» .(4/141)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يوسف» «1»
1- قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [الآية 3] .
قال الزمخشري:
القصص على وجهين: يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص، وتقول: قصّ الحديث يقصّه قصصا، كقولك شلّه يشلّه شللا، إذا طرده، ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» ، كالنّفض والحسب.
ونحوه النّبأ والخبر: في معنى المنبأ به والمخبر به.
ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصّيد.
وإن أريد المصدر فمعناه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، أي: بإيحائنا إليك هذه السورة، والمقصوص محذوف لأنّ قوله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ مغن عنه.
ويجوز أن ينتصب «هذا القرآن» ب «نقصّ» ، كأنه قيل: نحن نقصّ عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بايحائنا إليك.
والمراد بأحسن الاقتصاص: أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتصّ في كتب الأوّلين، وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن؟
وإن أريد بالقصص المقصوص، فمعناه: نحن نقصّ عليك أحسن ما يقصّ من الأحاديث.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](4/143)
واشتقاق «القصص» من قولهم: قصّ أثره إذا أتبعه، لأن الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه، شيئا فشيئا.
والقصّة الخبر، وهو القصص، وقصّ عليّ خبره، والخبر هو المقصوص.
والقصّة: الأمر والحديث، واقتصصت الحديث: رويته على وجهه.
والقصّ: البيان، والقصص الاسم.
والقاصّ: الذي يأتي بالقصّة على وجهها، كأنّه يتتبّع معانيها وألفاظها.
والقصص: جمع القصّة، (بالكسر) التي تكتب.
أقول: ولما كانت القصة الخبر، أو الأمر يقصه صاحبه أو يكتبه، توصّل المعربون في العصر العباسيّ إلى أن تكون القصّة لديهم ما يكتبه صاحب الحاجة، على رقعة يقدّمها إلى الخليفة، أو الأمير، أو صاحب المظالم وغيرهم من أولي الأمر، يطلب فيها حقا له اغتصب مثلا، أو ظلامة أخرى لحقته. وهذه الرقعة دعيت قصّة، فكان صاحب الأمر ينظر في جلسة خاصة، أو يوم مخصوص في القصص بين يديه، ويوقّع فيها الجواب.
ويحسن بنا أن نقول: إن المعاصرين قد اصطلحوا على القصّة الجديدة، فاتّخذوها مقابلا ل عند الإفرنج، وهي نمط أدبيّ شاع في عصرنا الحاضر، منذ أواخر القرن الماضي، تقليدا ومحاكاة لما عند الغربيين من هذا الفن.
وقد يقال: إنه كان للعرب حكايات ومقامات، فهل هي أصل هذا الفن الجديد؟ أو أن المعاصرين اتخذوها بداية يستوحون منها؟
الجواب: ليس شيئا من هذا اعتمده أهل هذا العصر، الذين يكتبون «القصة المعاصرة» .
وقد نشأت لديهم القصة القصيرة، وربما أقصر منها، أي: القصرى، والقصة الطويلة، أي: الرواية.
2- وقال تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) .
وقوله تعالى: يا أَبَتِ قرئ بالحركات الثلاث.
ولنبسّط القول في هذه المسألة(4/144)
اللغوية التاريخية، فنسرد أقوال المفسّرين، واللغويين الأقدمين، كما جاء بها الزّمخشري في «الكشاف» ، ثم نعقّب القول فيها، وما يبدو لنا من هذه المواد التاريخية.
قال الزمخشري «1» : التاء في «يا أبت» ، تاء تأنيث وقعت عوضا من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف.
فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكّر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت:
فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟
قلت: لأن تاء التأنيث والإضافة يتناسبان، في أنّ كلّ واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره.
فإن قلت: فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء، وتبقى التاء ساكنة؟
قلت: امتنع ذلك فيها، لأنّها اسم، والأسماء حقّها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنّما جاز تسكين الياء، وأصلها أن تحرّك تخفيفا، لأنها حرف لين. وأما التاء، فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها.
فإن قلت: يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة، الجمع بين العوض والمعوّض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت: يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتي» لا يجوز «يا أبت» .
قلت: الياء والكسرة قبلهما شيئان، والتاء عوض من أحد الشيئين وهو الياء، والكسرة غير متعرّض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلّا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم: «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعدّ ذلك جمعا بين العوض والمعوّض منه، فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت: فقد دلّت الكسرة في يا «غلام» على الإضافة، لأنّها قرينة الياء ولصيقتها.
فإن دلّت على مثل ذلك في: «يا أبت» ، فالتاء المعوّضة لغو، وجودها كعدمها. قلت: بل حالها مع التاء
__________
(1) . «الكشاف» : 2/ 442- 443.(4/145)
كحالها مع الياء، إذا قلت: يا أبي. فإن قلت: فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمّها؟ قلت: أمّا من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» ، واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ، ويجوز أن يقال: حرّكها بحركة الياء المعوّض منها في قولك: «يا أبي» .
وأمّا من ضمّ، فقد رأى اسما في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، فقال: «يا أبت» كما تقول: «يا تبّة» ، من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الإضافة.
أقول: هذا النمط من المعالجة يكثر عند اللغويين، حينما يعرضون لمسائل صرفية، فيرتكبون من الشطط ما يرتكبون، ويتعسّفون تعسفا في سبيل الوصول إلى ما يريدون.
قالوا: إنّ «التاء» في «يا أبت» عوض من ياء الإضافة في قولهم: «يا أبي» .
أقول: ولم كانت التاء وهي صوت ساكن في علم الأصوات، عوضا من صوت مصوّت هو الياء الليّنة الممدودة وطبيعة هذه، تختلف كل الاختلاف عن طبيعة تلك؟
وإذا كانت هذه التاء، كما زعموا، عوضا من ياء الإضافة، فهلّا قالوا في التاء في «ربّت» ، و «ثمّت» أنها عوض من صوت آخر هو الياء أو غيره؟ لم يقولوا شيئا من ذلك، وإنما أشاروا إلى زيادتها في تلك المواد.
وقالوا في التاء من «لات» في قوله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) [ص] .
إنها تاء التأنيث، وقيل، للمبالغة، وقيل لهما جميعا «1» .
أقول: إذا كانت التاء للتأنيث فكيف تلزم الكسر؟ وما رأينا تاء للتأنيث تلزم الكسر. وتاء التأنيث يوقف عليها بالهاء، وقالوا إنّ «أبت» يوقف عليها فتكون التاء هاء، فهل وقف على هذه التاء فصارت هاء؟ لم يؤثر شيء من ذلك.
وماذا نقول في جواز فتحها وضمّها؟
ولم يؤثر عن بعضهم أنه قرأ بالفتح او
__________
(1) . كيف تكون التاء في «لات» للتأنيث وللمبالغة؟ هذا منطق غريب. وقد أدرك ضعف هذا القول اللغويون، فنظروا إلى المسألة نظرا آخر، فقالوا: تزاد التاء في أول كلمة «حين» فتصبح «تحين» وكأن التاء أداة تعريف، وعلى هذا تكون «لات حين» هي «لا تحين» . ومثل حين «الآن» فقالوا: تلان.(4/146)
الضم. وإذا كسرت أو ضمّت فهل تكون للتأنيث؟ ولم نعرف لهذا الضرب من تاء التأنيث نظائر.
وإذا كان الأب مذكرا فما فائدة تاء التأنيث؟ وإذا قالوا لنا إن «أبت» مع التاء نظير: حمامة ذكر، ورجل ربعة، فالردّ عليهم أن التاء في «حمامة» هي للتأنيث، ولكنها وصفت بذكر لإبعاد التأنيث الحقيقي. أما التاء في «ربعة» ، فهي ليست تاء تأنيث وإن كان اللفظ مؤنثا، وهو كالتأنيث في «حمزة» ، و «عرفة» من أعلام الذكور، وعلى هذا فقولهم: إن «أبت» والتاء فيها مثل حمامة ذكر، ورجل ربعة، قول متهافت.
وأما قولهم: إن «يا أبت» هي مثل «يا أبي» ، ولكن الياء امتنعت، لأنّ التاء عوض منها، ولا يجتمع عوض ومعوّض منه.
قلت: إن التاء ليست عوضا، وأشرت إلى اختلاف الصوتين طبيعة ومخرجا وحيّزا، ولكني أقول الآن: إن الياء كأنها موجودة، اجتزئ منها بالكسرة، فلم تحذف. ومثل هذا قولنا: يا قوم ويا ربّ، فحذفنا الياء، أي: المدّ الطويل، واجتزأنا منه بالحركة القصيرة، التي هي شيء من الياء الليّنة، وهذا يعني أن «يا قوم» هي «يا قومي» وقصر المدّ يؤدّي غرضا صوتيا، هو تخفيف الطول.
إذن فكيف نقول الآن في «يا أبت» ، بعد أن بينّا ضعف الأقوال الصرفية، المتكلّفة التي يرفضها العلم اللغوي من نواح عدة.
أقول: إن «التاء» في «يا أبت» زيادة، وهذه الزيادة قد كانت من إحساس العربي القديم، أن الأسماء الثنائية أسماء ناقصة، فلا بد من أن تكون ثلاثية، ألا ترى أنهم في الجمع والنسب والتصغير جعلوا: «شفة» ، و «سنة» ، و «أب» ، و «أم» ، كلمات ثلاثية، فجاءوا بالواو تارة، وبالهاء تارة أخرى، فقالوا: سنوات، وسنهات، وسنويّ، وسنيّة، وشفويّ، وشفهيّ، وشفاه، وشفهية، وآباء، وأمّهات، وأبويّ، وأمويّ.
وإذا زيدت التاء في «أب» على هذا النحو في اللغة القديمة، فقد زيدت في «ربّ» ، و «ثمّ» ، و «ثمّ» ، على أنها صارت ثلاثية بالتضعيف. وإلى هنا، آمل أن تكون المسألة قد اكتسبت الإيضاح الكافي.(4/147)
3- وقال تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [الآية 4] .
القول في «رأيت» ، أي: رأى في نومه حلما.
الفعل رأى في العربية، يكون رؤية ورأيا بالعين، ويكون رأيا بالعقل، بمعنى علم واعتقد، كقولهم: فلان يرى العقل خير سلاح، ويكون رأى رؤيا في النوم، كما في الآية. ويفرّق بينها في المصدر. كما بيّنا.
4- وقال تعالى: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [الآية 6] .
ما التأويل؟
التأويل في الآية هو «تأويل الأحاديث» ، والأحاديث الرؤيا، وتأويلها عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف (ع) أعبر للرؤيا وأصحّهم عبارة لها ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء.
وفي التنزيل: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ [الآية 100] ، أي: عبارتها.
وقال أهل اللغة: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء، وقد أوّلته تأويلا وتأوّلته بمعنى.
وأمّا قول الله- عزّ وجلّ-: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف/ 53] .
فقال أبو إسحاق: معناه، هل ينظرون إلّا ما يؤول إليه أمرهم من البعث.
وهذا التأويل هو قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران/ 7] ، أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث.
أقول: هذا هو التأويل في القرآن، فأين نحن منه الآن؟
التأويل في لغة عصرنا يعني التفسير والشرح بشيء خاص، وهذا الشيء الخاص قد يجعل للمسألة تفسيرين أو أكثر، وإن منها ما فيه افتئات على الحقيقة.
وكأن التأويل أحيانا في استعمال المعاصرين، ضرب من التحريف والتزوير المقبول على علّاته، ولم يفطن المعاصرون إلى أن «التأويل» ، هو الرجوع إلى «الأوّل» .
5- وقال تعالى: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [الآية 9] .(4/148)
قوله تعالى: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي: يقبل عليكم إقبالة واحدة، لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد سلامة محبّته لهم، ممّن يشاركهم فيها وينازعهم إيّاها.
أقول: وهذا من مجازات القرآن البديعة، واستعمال الوجه وخلوّه، لمعنى الإقبال من كون الرجل يقبل بوجهه، وهو كقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن/ 27] .
6- وقال تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) .
المعنى: بعض السيارة، أي: بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق.
بالتاء على المعنى، لأن بعض السيّارة سيارة.
وقرئ: «تلتقطه» بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة سيارة.
أقول: وعلى هذا تكون «بعض» دالة على الجمع، وليس الواحد، كما ذهب غير واحد من أهل عصرنا.
ثم إن «السيارة» اسم جمع، وبناء «فعّالة» من أبنية الجمع القديم، كالبغّالة، والجمّالة، والحمّارة لأصحاب البغال والجمال والحمير، ومنه الرجّالة، والجلّابة، والميّارة.
أقول: وهذا بناء من أبنية الجمع القديم، ولا سيما لأصحاب الحرف كالطّحّانة، والدّهّانة، والصّبّاغة، وغيرهم، للعاملين في حرف الطحن للحبوب، والعاملين في بيع الدهان، والعاملين في الصباغة.
وما زال هذا الجمع واسع الاستعمال في العربية السائرة، كالسّمّاكة لباعة السّمك، والسفّانة للعاملين في السفن، والحصّانة لأصحاب الخيل، وغير ذلك كثير.
7- وقال تعالى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [الآية 17] .
والمعنى: وما أنت بمصدّق لنا.
أقول: وهذا غير بعيد من «المؤمن» ، وهو واحد المؤمنين، كالمؤمن بالله فهو مصدّق لله، مقرّ بحقيقته، وعدله، ووحدانيته، وسائر صفاته، جلّ شأنه.
8- وقال تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] .
والمعنى: بدم ذي كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب(4/149)
وعينه، كما قالوا للكذّاب: هو الكذب بعينه والزّور بذاته «1» .
أقول: وقولهم: شاهد عدل، هو من هذا الباب، أي شاهد ذو عدل، أو من باب الوصف بالمصدر مبالغة، كما قلنا في الآية.
9- وقال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الآية 22] .
أي: آتيناه حكمة وعلما.
ودلالة الحكم على الحكمة، ممّا أثبتته لغة التنزيل، وذلك لأن «الحكم» في غير لغة القرآن قد يفيد الحكمة، ولكنّه نادر كل النّدرة والغالب فيه مصدر الفعل «حكم» ، وهذا الفعل مشهور معروف في دلالته الكثيرة.
10- وقال تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [الآية 23] .
المراودة: مفاعلة من «راد يرود» ، إذا جاء وذهب، كأنّ المعنى: خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء، الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه، ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمّل، لمواقعته إيّاها.
أقول: وغلبت «المراودة» على محاولة خداع المرأة، لأجل النيل من شرفها وعفّتها، وذلك لأن المعربين لم يعرفوا استعمالات راود الأخرى، التي تبتعد عن هذه المحاولة الدنيئة، وهذا الضيق في المعنى من سمات لغة العصر.
ومن هذه الدلالات لهذا الفعل، قوله تعالى: قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) .
والمراودة هنا هي المخادعة أيضا، ولكنها لا تتصل بالاعتداء على العفة والشرف، كما رأينا في الآية: 23.
والمراودة هنا في هذه الآية الأخيرة، هي ضرب من الاجتهاد والاحتيال، لانتزاع إخوة يوسف لأخيهم، الذي سأل عنه يوسف، وهو أخو يوسف وشقيقه «بنيامين» .
وقوله تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل: كانت سبعة، ومن أجل كثرة الأبواب استعمل الفعل المضاعف، فالتضعيف يفيد الكثرة.
__________
(1) . «الكشاف» : 2/ 451.(4/150)
و «هيت» قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين وعيط.
و «هيت» كجير. وهيت كحيث.
وهئت بمعنى تهيّأت، ويقال: هاء يهيء، مثل جاء يجيء: إذا تهيّأ.
وهيّئت لك.
وأما في الأصوات فللبيان، كأنه قيل: لك أقول هنا، كما تقول: هلمّ لك.
أقول: لعلّي أميل إلى تفسير من يقول هئت بمعنى تهيّأت، فهذا تفسير يؤيد ما نعرف من معاني الفعل «هيا» ، فهو يفيد «الكون» و «الوجود» كما في مادة «هيئة» في العربية، وهي بهذا المعنى في اللغة العبرانية، ومعنى «هئت» ، أي: كنت ووجدت أي: «ها أنا ذا» .
11- وقال تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [الآية 24] .
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه، قال:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيدا ولا همّا، أي ولا أكاد أن أفعله كيدا، ولا أهمّ بفعله همّا.
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، أي: همّت بمخالطته، وَهَمَّ بِها أي وهمّ بدفعها عنه.
أقول: إن فعل الهمّ بالنسبة إلى امرأة العزيز في هذه الآية يعني القصد والعزيمة على فعل الشّرّ، ولعل انصراف «الهم» إلى القصد إلى الشر في هذه الآية، قد حمل الضيم على «الهمّ» في معناه العام، وهو القصد دون أن يعيّن مسراه، أشرّ أريد به أم خير. وهذا الانصراف لم يكن إلا لدى غير العارفين بمعاني العربية.
وفي اللغة المعاصرة، الكثير من هذا النوع الذي تنصرف فيه المادة اللغوية إلى شيء خاص لم يكن لها في الحقيقة، ألا ترى أن قول المعاصرين:
إن هذا الشيء ممتاز، يريدون به الجيد والغاية في الجودة، وهو في الحقيقة ممتاز بصفة أو بشيء، قد يكون حسنا وقد يكون غير حسن.
12- وقال تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ [الآية 25] .
والمعنى: وتسابقا إلى الباب على(4/151)
حذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف/ 155] على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» .
أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة الفعل «استبق» ، أي: تسابق، والثاني هو المتداول المتعالم.
13- وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا [الآية 30] .
قالوا: النّسوة اسم مفرد لجمع المرأة، وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللّمّة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث.
أقول: لا أرى أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة، والذي أراه أنه جمع وهو على أبنية الجمع نظير نساء سواء بسواء.
وأما مسألة عدم لحوق تاء التأنيث للفعل، فهذا يتصل بلغة القرآن التي ورثت خصائص العربية. ومن خصائص العربية التاريخية، أنّ علامة التأنيث فيها لم تأخذ مكانها الثابت، ومن أجل إثبات هذه الحقيقة التاريخية، تعالوا معنا لنستقري كلمة «طائفة» في لغة التنزيل لنتبيّن لحوق تاء التأنيث وعدمه قال تعالى:
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران/ 69] .
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا [آل عمران/ 72] .
فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء/ 102] .
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا [النساء/ 102] .
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ [الأعراف/ 87] .
فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة/ 122] .
وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا [الأعراف/ 87] .
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران/ 154] .
فأنت تجد أن التاء لحقت الفعل في آيات، وعرّي الفعل عنها في آيات أخرى، كما تجد آيات أخرى أسند الفعل فيها إلى ضمير الجمع المذكر وهو من غير شكّ، مراعاة للمعنى، على جهة التغليب للمذكر.(4/152)
وإذا قرأنا قوله تعالى:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات/ 9] .
فالمراعاة في هذه الآية لجمع الذكور في قوله تعالى: اقْتَتَلُوا، ثم جاء قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فعاد ضمير الاثنين مراعاة للفظ المثنى، وهو «طائفتان» .
أقول: هذا كله من خصائص هذه اللغة الشريفة، التي سجّلت الكثير من خصائص هذه اللغة التاريخية.
14- وقال تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا [الآية 30] .
قوله تعالى: شَغَفَها، أي خرق حبّه شغاف قلبها، حتى وصل إلى الفؤاد، والشّغاف حجاب القلب، قال قيس بن الخطيم:
إنّي لأهواك غير ذي كذب ... قد شفّ منّي الأحشاء والشّغف
وقال النابغة:
وقد حال همّ دون ذلك والج ... مكان الشّغاف تبتغيه الأصابع
وقرئ: شغفها بمعنى تيّمها، وشغفه الهوى إذا بلغ منه، وفلان مشغوف بفلانة، وقراءة الحسن: شعفها، بالعين المهملة، هو من قولهم: شعفت بها، كأنه ذهب بها كلّ مذهب.
وشعفه الحبّ: أحرق قلبه، وقيل:
أمرضه.
وقال الليث: وشعفة القلب: رأسه عند معلّق النّياط.
أقول: إذا كان الفعل بالغين المعجمة، فأصله من «شغاف القلب» أي: حجابه، وإذا كان بالعين المهملة، فأصله من «شعفة القلب» أي رأسه، وفي كلا الوجهين، برعت العربية في توليد الأفعال، ذات الدلالات المعنوية العقلية، من الأصول الحسّية.
15- وقال تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) .
قوله تعالى: بَدا لَهُمْ فاعله مضمر، لدلالة ما يفسّره عليه، وهو:
لَيَسْجُنُنَّهُ، والمعنى:
بدا لهم بداء، أي: ظهر لهم رأي فقالوا ليسجننّه، والضمير في «لهم» للعزيز وأهله.
ومن هذا قولهم: وبدا لي بداء، أي: تغيّر رأيي على ما كان عليه.(4/153)
أقول: وليس من هذا قول المعاصرين: وبدا لي أن أفعل كذا وكذا، ويبدو لي أنّ الأمر كذا وكذا، فالفاعل فيها ظاهر، وهو المصدر من أن والفعل، وأن واسمها وخبرها.
16- وقال تعالى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الآية 38] .
قوله تعالى: ما كانَ لَنا أي: ما صحّ لنا معشر الأنبياء، أن نشرك بالله.
أقول: وهذا من معاني «كان» ، وقد مرّ بنا نظيره في آيات أخرى.
17- وقال تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [الآية 40] .
قوله تعالى: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: ما أنزل الله بتسميتها من حجّة.
أقول: أساء المعاصرون استعمال هذه الآية، واقتباسها في مواطن يمتنع اقتباسها امتناعا مطلقا، فيقولون مثلا:
هذه أخبار ما أنزل الله بها من سلطان، أي: محض كذب وباطل.
والكذب والباطل لا يمكن بأي حال أن ينزل بها حجة من الله، وليس هذا كحال الأمم السالفة، التي أشار إليها الله في آياته، فقد كانوا يعبدون أصناما وأوثانا، ما أنزل الله بها حجّة، توجب عبادتها، فليس هذا مثل ذاك.
18- وقال تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ [الآية 43] .
القول في هذه الآية على «البقرات والسنبلات واليابسات» فكلّها جمع مؤنث بالألف والتاء، وهذا الجمع من الجموع التي تنصرف إلى القلة في الغالب. أقول في الغالب، لأنه قد يأتي من الأسماء المؤنّثة وغيرها، ما لا يجمع إلّا بالألف والتاء، فلا يمكن في هذه الحالة أن ينصرف إلى القلة إلّا بقرينة كالعدد وغيره، فإذا قلنا مثلا:
حمامات، فهي جمع كثرة إلّا إذا قلنا:
سبع حمامات. أمّا الجموع في الآية، فهي للقلة من غير أن تكون مقيّدة بالعدد «سبع» ، ألا ترى الى قوله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [البقرة/ 70] .
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما [الأنعام/ 146] .
ولو أريد الكثرة أيضا لقيل «سنابل» ،(4/154)
إلّا أن تقيد «السنابل» بعدد كما جاء في الآية:
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة/ 261] .
19- وقال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) .
و: «تعبرون» للرؤيا.
قالوا: عبر الرؤيا يعبرها عبرا وعبارة، وعبرها: فسّرها، وأخبر ما يؤول إليه أمرها.
وعدّي الفعل باللام في الآية، كما في: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النمل/ 72] . أي: ردفكم.
وقال الزجّاج: هذه اللام أدخلت على المفعول للتبيين، والمعنى إن كنتم تعبرون وعابرين، وتسمّى هذه اللام لام التعقيب، لأنّها عقّبت بالإضافة.
وقال الجوهري: أصل الفعل باللام، كما يقال: إن كنت للمال جامعا.
أقول: وجيء بهذه اللام، لأن المفعول قد تقدّم الفعل، وهذا يحسن في كل جملة، حصل فيها هذا التقديم، ألا ترى أنك تقول: إنّي للخبز آكل، وعلى هذا يكون ما قاله الجوهري سديدا ولعل اللام قد جيء بها، لأن المفعول معرّف بالألف واللام، وهذه اللام تقوّي المفعولية.
20- وقال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [الآية 45] .
قرئ: وَادَّكَرَ بالدال.
قال الزمخشري، وهو الفصيح «1» .
وكان ينبغي أن يكون جواب الزمخشري: أن «ادّكر» بالدال هي القراءة المشهورة، والقراءة سنّة متّبعة، فقد تخرج عن المشهور الشائع من الأبنية والأقيسة.
وقال الزمخشري: إن أصل «اذّكر» هو «تذكّر» ، والصحيح أن الأصل هو «اذتكر» أي: أن الفعل «ذكر» قد بني على «افتعل» ، فيكون «اذتكر» ، فيبدل من التاء دالا، فيكون «اذدكر» ، كما تقول في «زحم» ازدحم. وقد يحصل الإدغام، أي: إدغام الذال في الدال، فيكون «اذّكر» ، كما تقول «ادّعى» ، والأصل «ادتعى» . فأما أن يدغم «الدال» الذي أصله التاء في الذال،
__________
(1) . «الكشاف» 2/ 475.(4/155)
ويكون «ادّكر» فهو شيء لا نعرفه إلّا في «ادّخر» ، والأصل «ذخر» .
وقوله تعالى: بَعْدَ أُمَّةٍ، أي: بعد مدّة طويلة، وكما تكون الأمّة قوما وتكون زمنا، ومثله القرن والجيل، وغير ذلك.
21- وقال تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) .
قوله تعالى: يُغاثُ النَّاسُ من الغوث أو من الغيث، يقال غيثت البلاد إذا مطرت. هذا هو قول الزمخشري.
ولنبسط القول في هذه الكلمة المفيدة.
يقال: غاث الغيث الأرض:
أصابها، ويقال: غاثهم الله، وأصابهم غيث، وغاث الله البلاد يغيثها غيثا إذا أنزل بها الغيث.
ومنه الحديث: فادع الله يغيثنا (بفتح الياء) .
وغيثت الأرض، تغاث غيثا، فهي مغيثة ومغيوثة: أصابها الغيث. وغيث القوم: أصابهم الغيث.
قال الأصمعي: أخبرني أبو عمرو بن العلاء، قال: سمعت ذا الرّمة يقول:
قاتل الله أمة بني فلان، ما أفصحها! قلت لها: كيف كان المطر عندكم؟
فقالت: غثنا ما شئنا.
أقول: هذا هو معنى الغيث، وهو المطر يراد به الرحمة والخير والحياة، ومن هنا صارت العربية إلى الغوث ومنه الإغاثة، والغوث بمعنى النجدة والمعونة والمساعدة. وكأنّ التحوّل من الياء إلى الواو، وسيلة، لاستحداث معنى جديد، بينه وبين الأصل القديم وشيجة رحم. ألا ترى أن من هذا بين وبون، وعين وعون، وغير هذا.
أمّا قوله تعالى: يَعْصِرُونَ، فقد ذكر الزمخشري، أنهم يعصرون العنب والزيتون والسّمسم.
أقول: ومن قرأ «يعصرون» بالبناء إلى المفعول كانت قراءته وجيهة، وهو من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى ينجون، كأنّه قيل: يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أي:
يغيثهم الله، ويغيث بعضهم بعضا.
وقيل: «يعصرون» يمطرون، من(4/156)
أعصرت السّحابة. وفيه وجهان: إمّا أن يضمّن أعصرت معنى مطرت، فيعدّى تعديته، وإما أن يقال: الأصل أعصرت عليهم، فحذف الجارّ، وأوصل الفعل.
أقول: وبين قوله تعالى: يُغاثُ، وقوله: يَعْصِرُونَ على الوجهين حسن مناسبة فيها إصابة للمعنى.
22- وقال تعالى: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [الآية 51] .
وقوله تعالى: حَصْحَصَ الْحَقُّ أي:
ثبت واستقرّ.
23- وقال تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [الآية 53] .
قالوا في قوله تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إلّا البعض الذي رحمه ربّي بالعصمة، كالملائكة.
ويجوز أن يكون «ما رحم» في معنى الزمن، أي: إلّا وقت رحمة ربي، يعني أن النفس أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان.
أقول: وهذا الوجه الأخير حسن، وهو أن يثبت أنه قد يلمح إلى وجه من وجوه استعمال «ما» ، هذا الوجه المبهم الذي يفيد الزمن. 24- وقال تعالى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) .
وقوله تعالى: مَكِينٌ أي: ذو مكانة.
وهذه من باب الاشتقاق من الاسم، فكلمة «مكان» هي الأصل الذي جاء منه هذا الوصف، وجاء منه جميع ما يتصل بهذه الكلمة من فعل واسم مثل:
مكن، ويمكن، وأمكن، وإمكان، ومكنة، ومكّن، وتمكين وغير ذلك.
أقول: إن «المكان» أصل في جميع ما يتصل بهذه المادة، لمنزلة «المكان» في العربية فكرا، وواقعا، وسلوكا.
ومن المفيد أن نشير إلى أن «المكان» جاء من «الكون» ، بمعنى الوجود والهيئة، ولمنزلته التي أخذها في تفكير العرب، صار أصلا لحاجات كثيرة.
25- وقال تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ [الآية 59] .
أقول: أراد الجهاز عدّة السفر من الزاد، وما يحتاج إليه المسافرون من الميرة. والجهاز بهذا المعنى غير معروف في العربية الفصيحة المعاصرة، ولكن شيئا منه معروف في عامية(4/157)
[بعض البلاد العربية] ، فهم يقولون:
جهاز العروس لما تزوّد به من أمتعة، وأثاث، ورياش، وملبس وغير ذلك، وكأن الكلمة أوشك أن يمحي ظلّها.
ولكننا في عصرنا نقول: الجهاز الإداري، والجهاز الفني في الحكومة وغير ذلك، وهذا كله من العربية الجديدة. على أن «الجهاز» بكسر الجيم من أسماء الأدوات والآلات في العصر الحديث، فالجديد من المخترعات الميكانيكية يسمى كله جهازا، وجمعه أجهزة.
وهذا مولّد جديد بني على «فعال» جريا على كثير من آلاتهم وأدواتهم.
26- وقال تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا [الآية 65] .
والميرة الطعام يمتاره الإنسان.
وجلب الطعام للبيع.
وقالوا: وهم يمتارون لأنفسهم، ويميرون غيرهم ميرا.
أقول: وقد ورث العراقيون أصولا عربية في العصر الحديث، ممّ استعمله الأتراك في الشؤون العسكرية، فكان في تنظيمات الجيش العراقي مديرية الميرة.
27- وقال تعالى: قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ [الآية 66] .
أقول: اجتزئ بكسرة النون عن الياء في «تؤتوني» ، وذلك أحفل في السماع في التلاوة المستجادة، من المدّ الطويل الذي يكون في الياء.
لقد مرت بنا نظائر لهذا الاجتزاء بالكسرة، وكان آخرها قوله تعالى:
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) .
ولكن السبب في هذا الاجتزاء بالكسرة، في هذه الآية، أنّها فاصلة، وآخر كلمة في الآية يحسن الوقف عليها، فتطوى الكسرة، ويبقى النون ساكنا.
ومثل هذا كثير في الوقف.
28- وقال تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) .
قوله تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ معناه فلا تحزن ولا تستكن.(4/158)
ابتأس الرجل، إذا بلغه شيء يكرهه.
وليس بعيدا أن يكون الفعل ابتأس بهذه الدلالة، إذا كان البأس هو الشدة والعذاب والحرب، والبأساء كالبؤس أيضا.
29- وقال تعالى: قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ [الآية 72] .
قالوا: الصّواع هو السّقاية التي وردت في الآية التي قبلها في قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ. والسّقاية، هي المشربة التي كان يشرب منها الملك، ثم جعل صاعا في السنين الشّداد القحاط، يكال به الطعام.
وقرأ أبو هريرة: نفقد صاع الملك.
وقرأ يحيى بن يعمر: صوغ الملك.
وقرأ سعيد بن جبير: صواغ الملك.
أقول: والقراءة بالعين مرة وبالغين أخرى، دليل تعاقب الصوتين في طائفة من كلمات العربية، مسايرة للّغات الخاصة، وهو ما ندعوه ب «اللهجات» في عصرنا، وسيأتي من هذا الباب قراءات في آيات أخرى سنشير إليها.(4/159)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يوسف» «1»
قال تعالى: إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [الآية 51] وقال بعض أهل العلم: «إنّهن راودنه لا امرأة الملك» ، وقد يجوز، وإن كانت واحدة أن تقول (راودتنّ) كما ورد في التنزيل: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران/ 173] ها هنا واحد، يعني بقوله تعالى لَكُمْ النبيّ (ص) «أبا سفيان» فيما ذكروا.
وقال تعالى: وَهَمَّ بِها [الآية 24] ، فلم يكن همّ بالفاحشة، ولكن دون ذلك ممّا لا يقطع الولاية.
وقال تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الآية 3] أي نَقُصُّ عَلَيْكَ [الآية 3] بوحينا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [الآية 3] «2» بجعل (ما) اسما للفعل وجعل (أوحينا) صلة.
وقال تعالى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) [الآية 4] بتكرير الفعل وقد يستغنى بأحدهما. وهذا على لغة الذين قالوا «ضربت زيدا ضربته» ، وهو توكيد مثل قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر وص/ 73] .
وأمّا قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) فإن السياق لمّا جعلهم كمن يعقل في السجود والطواعية، جعلهم كالإنس في تذكيرهم، إذا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في إعراب القرآن 2/ 499.(4/161)
جمعهم، كما في قوله تعالى عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل/ 16] . وقال الشاعر [من الخفيف، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين] :
صدّها منطق الدّجاج عن القصد ... وضرب الناقوس فاجتنبا
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل/ 18] إذ تكلمت نملة فصارت كمن يعقل وقال سبحانه فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) [الأنبياء/ 33 ويس/ 40] لمّا جعلهم يطيعون، شبّههم بالإنس، مثل ذلك أيضا قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصّلت/ 11] على هذا القياس، بالتذكير، وليس مذكرا كما يذكر بعض المؤنث. وقال قوم: إنّما قال تعالى: طائِعِينَ لأنهما أتتا وما فيهما، فتوهّم بعضهم «مذكّرا» أو يكون كما قال سبحانه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [الآية 82] وهو يريد أهلها. وكما تقول «صلى المسجد» وأنت تريد أهل المسجد، إلّا أنّك تحمل الفعل على الآخر، كما قالوا: «اجتمعت أهل اليمامة» وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصّلت/ 37] لأنّ الجماعة، من غير الإنس مؤنثة. وقال بعضهم «للّذي خلق الآيات» ولا أراه قال ذلك، الا لجهله بالعربية. قال الشاعر «1» [من البسيط، وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين] :
إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته ... إلى الصّياح وهم قوم معازيل»
فجعل «الدجاج» قوما في جواز اللغة. وقال الآخر وهو يعني الذيب [من الطويل، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين] :
وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة ... فتخطئ فيها مرّة وتصيب
وقال الآخر [من الرجز، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :
__________
(1) . هو عبدة بن الطبيب شعر عبدة بن الطبيب 79، والاختيارين 99، والمفضليات 143، واللسان «عزل» .
(2) . في الصاحبي 251 «الى الصياح» وكذلك في الصحاح «عزل» واللسان أيضا وفي الاختيارين وفي شعره أيضا:
«لدى الصباح» .(4/162)
فصبّحت والطّير لم تكلّم ... جابية «1» طمّت بسيل مفعم «2»
وقال تعالى: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [الآية 5] أي: فيتّخذوا لك كيدا.
وليست مثل إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) .
بإيصال الفعل إليها باللام، كما يوصل ب «الى» ، كما تقول: «قدّمت له طعاما» تريد: «قدّمت إليه» . وقال تعالى يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ [الآية 48] ومثله قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس/ 35] وإن شئت كان فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً في معنى «فيكيدوك» ، بجعل اللام مثل اللام في قوله تعالى لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف] وقوله سبحانه لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) إنّما هو: «لمكان ربّهم يرهبون» .
وقال تعالى: أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ [الآية 9] وليس الأرض هاهنا بظرف. ولكن حذف منها «في» ثم أعمل فيها الفعل، كما تقول «توجّهت مكّة» .
وقال تعالى: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [الآية 14] و «العصبة» و «العصابة» جماعة ليس لها واحد «3» ك «القوم» و «الرّهط» .
وقال تعالى: بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] بجعل «الدّم» «كذبا» لأنه كذب فيه كما تقول «الليلة الهلال» فترفع، وكما قال تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة/ 16] «4» .
وقال تعالى: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ [الآية 19] بالتذكير بعد التأنيث لأنّ «السيّارة» في المعنى للرجال «5» .
وقال تعالى: مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي [الآية 23] أي: أعوذ بالله معاذا. جعله بدلا من اللفظ بالفعل، لأنه مصدر، وإن كان غير مستعمل مثل «سبحان» ، وبعضهم يقول «معاذة الله» ، ويقول «ما
__________
(1) . جاء في الهامش: الجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. يجبى أي: يجمع، قاله الجوهري.
(2) . الرجز في الصحاح «فعم» واللسان «طمم» و «فعم» و «كلم» وفي أول مواضعه من اللسان ب «خابية» وفي ثالث مواضعه منه ب «حفّت» . وهو في الصحاح 1/ 23.
(3) . نقله في التهذيب 2/ 46 «عصب» .
(4) . قد نقله في التهذيب 10/ 167 وزاد المسير 4/ 193.
(5) . نقله في زاد المسير 4/ 193.(4/163)
أحسن معناة هذا الكلام» ، يريد المعنى.
وقال تعالى: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) أي «إلّا السجن أو عذاب أليم لأنّ أن» الخفيفة، وما عملت فيه، اسم بمنزلة «السّجن» .
وقال تعالى: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) [الآية 32] فالوقف عليها (وليكونا) لأن النون الخفيفة إذا انفتح ما قبلها، فوقفت عليها، جعلتها ألفا ساكنة بمنزلة قولك «رأيت زيدا» ، ومثله قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) [العلق] الوقف عليها لَنَسْفَعاً (15) .
وقال تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) بإدخال النون في هذا الموضع، لأن هذا موضع تقع فيه «أي» ، فلما كان حرف الاستفهام يدخل فيه، دخلته النون، لأن النون تكون في الاستفهام، تقول «بدا لهم أيّهم يأخذون» أي استبان لهم.
وقال تعالى: وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) فإحدى الباءين لوصل الفعل الى الاسم، والاخرى دخلت ل «ما» وهي الأخيرة.
وقال تعالى وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [الآية 45] وإنّما هي «افتعل» من «ذكر» فأصلها «اذتكر» ، ولكن اجتمعا في كلمة واحدة، ومخرجاهما متقاربان، وأرادوا ان يدغموا، والأول حرف مجهور، وإنما يدخل الاول في الآخر، والآخر مهموس، فكرهوا أن يذهب منه الجهر، فجعلوا في موضع التاء حرفا من موضعها مجهورا، وهو الدال لأن الحرف الذي قبلها مجهور. ولم يجعلوا الطاء، لأن الطاء مع الجهر مطبقة. وقد قرأ بعضهم (مذّكر) في سورة القمر «1» فأبدل التاء ذالا ثم أدخل الذال فيها. وقد قرئت هذه الآية (أن يصّلحا بينهما صلحا) [النساء/ 128] «2»
__________
(1) . الآيات: 15 و 17 و 22 و 32 و 40 و 51. وبالذال المضعفة، المفتوحة هي في الطبري 27/ 96 قراءة عبد الله بن مسعود، في البحر 8/ 178 قراءة قتادة فيما نقل ابن عطية، وفي معاني القرآن 3/ 107 أنّ لغة بعض بني أسد يقولون «مذكر» . [.....]
(2) . هذه القراءة هي في الطبري 9/ 278 قراءة عامة قراءة أهل المدينة، بعض أهل البصرة وفي الشواذ 29 الى الجحدري، وكذلك في المحتسب 201، وزاد في الجامع 5/ 404 عثمان البتي، وفي التيسير 97 إلى غير الكوفيين. والقراءة المثبتة في المصحف الشريف أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.(4/164)
وهي «أن يفتعلا» من «الصلح» ، فكانت التاء بعد الصاد، فلم تدخل الصاد فيها للجهر والإطباق. فأبدلوا التاء صادا، وقرأ بعضهم (يصطلحا) وهي الجيدة لما لم يقدر على إدغام الصاد في التاء، حوّل في موضع التاء حرف مطبق.
وقال تعالى ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [الآية 76] بالتأنيث، وقال تعالى وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [الآية 72] لعودة الضمير الى «الصّواع» و «الصّواع» مذكّر، ومنهم من يؤنّث «الصّواع» «1» و «أريد» هاهنا «السّقاية» وهي مؤنثة.
وهما اسمان لواحد مثل «الثّوب» و «الملحفة» ، مذكّر ومؤنث لشيء واحد.
وقال تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا [الآية 80] بجعل «النجيّ» للجماعة مثل قولك: «هم لي صديق» .
وقال تعالى يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [الآية 84] فإذا سكتّ، ألحقت في آخره الهاء، لأنّها مثل ألف الندبة.
وقال تعالى تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [الآية 85] فزعموا أنّ (تفتأ) «تزال» فلذلك وقعت عليه اليمين، كأنهم قالوا: «والله لا تزال تذكر يوسف» .
وقال تعالى لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الآية 92] بعد الْيَوْمَ وقف ثم ورد الاستئناف «2» بقوله تعالى: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [الآية 92] فدعا لهم بالمغفرة مستأنفا.
وقال تعالى قالَ كَبِيرُهُمْ [الآية 80] فزعموا أنه أكبرهم في العقل، لا في السّنّ.
وفي قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [الآية 83] أريد الذي تخلّف عنهم، معهما، وهو كبيرهم في العقل.
__________
(1) . انظر المذكر والمؤنث 96، وكتاب التذكير والتأنيث 22، والبلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث 83.
(2) . نقله في الجامع 9/ 258.(4/165)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يوسف» «1»
إن قيل: لم قال تعالى إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الآية 4] ولم يقل ثلاثة عشر كوكبا وهو أوجز وأخصر، والذي رآه كان أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر؟
قلنا: قصد عطفهما على الكواكب تخصيصا لهما بالذكر وتفضيلا لهما على سائر الكواكب، لما لهما من المزية والرتبة على الكل، ونظيره تأخير جبريل وميكائيل عن الملائكة عليهم السلام، ثم عطفهما عليهم، إن قلنا إنهما غير مرادين بلفظ الملائكة، وكذا قوله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة/ 238] إن قلنا إنها غير مرادة بلفظ الصلوات. فإن قيل: ما الحكمة في تكرار رأيت؟
قلنا: قال الزمخشري: ليس ذلك تكرارا، بل هو كلام مستأنف وضع جوابا لسؤال مقدر من يعقوب عليه السلام، كأنه قال له بعد قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الآية 4] كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال مجيبا له رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) وقال الزجّاج: إنما كرر الفعل تأكيدا لما طال الكلام كما في قوله تعالى وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) [الروم] وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وقال غيره، إنما كرره تفخيما للرؤية وتعظيما لها.
فإن قيل: لم أجريت مجرى العقلاء في قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ وفي قوله
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/167)
ساجِدِينَ (4) وأصله رأيتها ساجدة؟
قلنا: لمّا وصفها بما هو من صفات من يعقل، وهو السجود أجرى عليها حكمه، كأنها عاقلة، وهذا شائع في كلامهم أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة المقارنة، ونظيره قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا [النمل/ 18] وقوله تعالى في وصف السماء والأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصّلت] .
فإن قيل: لم قال تعالى يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [الآية 12] وكانوا عاقلين بالغين، وأنبياء أيضا في قول البعض، وكيف رضي يعقوب عليه السلام لهم بذلك؟
قلنا: على قراءة الياء لا إشكال، لأن يوسف عليه السلام كان يومئذ دون البلوغ فلا يحرم عليه اللعب، وعلى قراءة النون نقول كان لعبهم المسابقة والمناضلة، ليعوّدوا أنفسهم الشجاعة لقتال الأعداء لا للهو، وذلك جائز بالشرع، ويعضد هذا قولهم كما ورد في التنزيل إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ [الآية 17] وإنّما سموه لعبا لأنه في صورة اللعب. ويرد على أصل السؤال أن يقال: كيف يتورّعون عن اللعب وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللعب، وأشدّ، وهو إلقاء أخيهم في الجبّ على قصد القتل.
فإن قيل: لم اعتذر إليهم يعقوب عليه السلام بعذرين أحدهما إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [الآية 13] لأنه كان لا يصبر عنه ساعة واحدة، والثاني خوفه عليه من الذئب، فأجابوه عن أحد العذرين دون الآخر؟
قلنا: حبه إيّاه، وإيثاره له، وعدم صبره على مفارقته، هو الذي كان يغيظهم ويؤلمهم، فأضربوا عنه صفحا، ولم يجيبوا عنه.
فإن قيل: لم قال تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ [الآية 15] وهو يومئذ لم يكن بالغا، والوحي إنما يكون بعد الأربعين؟
قلنا: المراد به وحي الإلهام، لا وحي الرسالة الذي هو مخصوص بما بعد الأربعين ونظيره قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص/ 7] وقوله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل/ 68] .
فإن قيل: لم قال تعالى وَلَمَّا بَلَغَ(4/168)
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً
[الآية 22] وقال في حق موسى عليه السلام وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص/ 14] .
قلنا: المراد ببلوغ الأشدّ دون الأربعين سنة على اختلاف مقداره، والمراد بالاستواء بلوغ الأربعين أو الستين، وكان إيتاء كل واحد منهما، الحكم والعلم، في ذلك الزمان، فأخبر عنه كما وقع.
فإن قيل: لم وحّد الباب في قوله تعالى وَاسْتَبَقَا الْبابَ [الآية 25] بعد جمعه في قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [الآية 23] .
قلنا: لأن إغلاق الباب للاحتياط، لا يتم إلّا بإغلاق أبواب الدار جميعها، سواء أكانت كلها في جدار الدار أو لا، وأمّا هربه منها إلى الباب، فلا يكون إلا إلى باب واحد، إن كانت كلها في جدار الدار، ولأن خروجه في وقت هربه، لا يتصور إلا من باب واحد منها، وإن كان بعض الأبواب داخل بعض، فإنه أول ما يقصد الباب الأدنى لقربه، ولأن الخروج من الباب الأوسط والباب الأقصى، موقوف على الخروج من الباب الأدنى، فلذلك وحّد الباب.
فإن قيل: لم قال تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [الآية 26] ولم يكن قوله شهادة؟
قلنا: لمّا أدى معنى الشهادة في ثبوت قول يوسف عليه السلام، وبطلان قولها، سمي شهادة، فالمراد بقوله شَهِدَ: أعلم، وبيّن، وحكم.
فإن قيل: قدّ قميصه من دبر يدلّ على أنها كاذبة، وأنها هي التي تبعته، وجذبت قميصه من خلفه فقدّته، وأما قدّه من قبل، فكيف يدل على أنها صادقة «1» ؟
قلنا: يدل من وجهين: أحدهما أنه إذا طالبها وهي تدفعه عن نفسها بيدها أو برجلها، فإنها تقد قميصه من قبل بالدفع. الثاني: أنه يسرع خلفها وهي هاربة منه، فيعثر في مقادم قميصه فيشقه. ويرد على الوجه الثاني أنه مشترك الدلالة من جهة العثار الذي هو نتيجة الإسراع، لأنه يحتمل أن يكون
__________
(1) . انظر الآيتين 26 و 27 من سورة يوسف.(4/169)
إسراعا في الهرب منها، وهي خلفه فيعثر، فينقدّ قميصه من قبل.
فإن قيل: لم قال تعالى وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [الآية 31] وإنما يقال خرجت إلى السوق، وطرقت عليه الباب فخرج إليّ؟
قلنا: إذا كان الخروج بقهر وغلبة، أو بجمال وزينة، أو بآية وأمر عظيم، فإنما يعدّى ب «على» ، ومنه قولهم خرج علينا في السفر قطاع الطريق، وقوله تعالى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص/ 79] وقوله تعالى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مريم/ 11] .
فإن قيل: كيف شبّهن يوسف عليه السلام بالملك، فقلن كما ورد في التنزيل ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) وهنّ ما رأين الملائكة قط؟
قلنا: إن كن ما رأين الملائكة، فقد سمعن وصفها. الثاني: أن الله تعالى قد ركز في الطباع حسن الملائكة، كما ركز فيها قبح الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن بالملك، وكل متناه في القبح بالشيطان.
فإن قيل: لم ورد على لسان يوسف عليه السلام إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وترك الشيء، إنما يكون بعد ملابسته والكون فيه، يقال ترك فلان شرب الخمر، وأكل الربا، ونحو ذلك إذا كان فيه ثم أقلع عنه، ويوسف عليه السلام لم يكن على ملّة الكفّار قطّ؟
قلنا: الترك نوعان: ترك بعد الملابسة ويسمى ترك انتقال، وترك قبل الملابسة ويسمى ترك إعراض، كقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف/ 127] وموسى عليه السلام ما لابس عبادة فرعون ولا عبادة آلهته في وقت من الأوقات، وما نحن فيه من النوع الثاني، وسيأتي نظير هذا السؤال في سورة الأعراف في قوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) [الأعراف/ 88] .
فإن قيل: لم قال تعالى أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 40] فسّر الأمر بالنهي، أو بما جزء منه النهي، وهما ضدّان؟
قلنا: فيه إضمار أمر آخر، تقديره أمر اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه، وهو(4/170)
كقوله تعالى فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
(56) [العنكبوت] فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة] . الثاني أن فيه إضمار نهي تقديره: أمر ونهي، ثم فسر الأمرين بقوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 40] .
الثالث: أن قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا وإن كان مضادا للأمر من حيث اللفظ، فهو مرافق له من حيث المعنى، فلم قلتم إن تفسير الشيء بما يضاده صورة، ويوافقه معنى، غير جائز بيان موافقته معنى، من وجهين: أحدهما أن النهي عن الشيء أمر بضده، وعبادة الله ضد لا عبادة الله. الثاني أن معنى مجموع قوله تعالى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أعبدوه وحده، فيكون تفسيرا للأمر المطلق.
فإن قيل: الأنبياء عليهم السلام، أعظم الناس زهدا في الدنيا، ورغبة في الآخرة، فلم ورد على لسان يوسف عليه السلام اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [الآية 55] طلب أن يكون معتمدا على الخزائن، متولّيا لها، وهو من أكبر مناصب الدنيا؟ قلنا: إنما طلب ذلك ليتوصّل به إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل، ونحوه، ممّا يبعث له الأنبياء، ولعلمه أن أحدا غيره، لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء لوجه الله تعالى، وسعيا لمنافع العباد ومصالحهم لهم، لا لحبّ الملك والدنيا، ونظيره قوله تعالى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف/ 188] يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط، لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا، لا للحرص، لكن لأتمكّن من إعانة الضعفاء والفقراء، وقت الضرورة والمضايقة، ويحتمل أن يكون علم تعيّنه بذلك العمل، فكان طلبه واجبا عليه.
فإن قيل: كيف جاز ليوسف عليه السلام كما ورد في التنزيل أن يأمر المؤذّن أن يقول أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) وذلك بهتان وتسريق بالصواع لمن لم يسرقه، وتكذيب للبريء، واتهام من لم يسرق بأنّه سرق؟
قلنا: قوله تعالى إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) تورية عمّا جرى منهم مجرى السرقة، وتصوّر بصورتها، من(4/171)
فعلهم بيوسف ما فعلوه أو لا. الثاني:
أن ذلك القول كان من المؤذّن بغير أمر يوسف عليه السلام، كذا قاله بعض المفسرين.
الثالث: أنّ حكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية، التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص/ 44] وقول إبراهيم عليه السلام في حق زوجه هي أختي لتسلم من يد الكافر، وما أشبه ذلك.
فإن قيل: لم تأسّف يعقوب عليه السلام على يوسف دون أخيه بقوله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [الآية 84] والرّزء الأحدث أشدّ على النفس وأعظم أثرا؟
قلنا: إنما يكون أشدّ إذا تساوت المصيبتان في العظم ولم يتساويا هنا، بل فقد يوسف كان أعظم عليه وأشدّ من فقدان أخيه فإنما خصّه بالذكر، ليدلّ على أنّ الرّزء فيه مع تقادم عهده، ما زال غضّا طريّا.
فإن قيل: لم قال تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [الآية 84] والحزن لا يحدث بياض العين لا طبّا ولا عرفا؟
قلنا: قال ابن عباس: أي من البكاء، لأن الحزن سبب البكاء، فأطلق اسم السبب وأراد به المسبّب، وكثرة البكاء، قد تحدث بياضا في العين يغشى السواد، وهكذا حدث ليعقوب عليه السلام، وقيل إذا كثرت الدموع محقت سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر.
فإن قيل: لم قال يعقوب عليه السلام إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) مع أن من المؤمنين من ييأس من روح الله، أي من فرجه وتنفيسه، أو من رحمته على اختلاف القولين، إمّا لشدّة مصيبته، أو لكثرة ذنوبه، كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر أهله، إذا مات أن يحرقوه ويذروا رماده في البر والبحر، ففعلوا به ذلك، ثم إن الله غفر له، كما جاء مشروحا في الحديث المشهور، وهو من الصحاح، مع أنه يئس من رحمة الله تعالى، وضم إلى يأسه ذنبا آخر وهو اعتقاده أنه إذا أحرق وذري رماده لا يقدر الله على إحيائه وتعذيبه، ومع هذا كله يغفر له، فدلّ على أنه لم يمت كافرا؟
قلنا: إنّما ييأس من روح الله الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية، وكل(4/172)
مؤمن يتحقّق منه اليأس من روح الله، فهو كافر في الحال، حتى يعود إلى الإسلام، بعوده إلى رجاء روح الله وأمّا الرجل المغفور له في الحديث، فلا نسلّم أنه لم يكفر، ثم إن الله تعالى لمّا أحياه في الدنيا، عاد إلى الإسلام، بعوده إلى رجاء روح الله تعالى، فلذلك غفر له، وقد يكون قد عاد إلى رجاء روح الله تعالى، قبل موتته الأولى، ولم يتسع له الزمان أن يرجع عن وصيته التي أوصى بها أهله، فمات مسلما فلذلك غفر له.
فإن قيل: في قوله تعالى وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [الآية 100] كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله تعالى؟
قلنا: لعله كان السجود عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة عندنا.
وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن بوضع الجبهة على الأرض، إلا أن قوله تعالى وَخَرُّوا يأبى ذلك، لأنّ الخرور عبارة عن السقوط، ولا يرد عليه قوله تعالى وَخَرَّ راكِعاً [ص/ 24] لأنهم قالوا أراد به ساجدا، فعبّر عن السجود بالركوع، كما عبر عن الصلاة في قوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [البقرة] أي صلّوا مع المصلين. وقيل له: أي لأجله، فاللام للسببية لا لتعدية السجود إلى يوسف عليه السلام، فالمعنى وخرّوا لأجل يوسف سجّدا لله تعالى، شكرا على جمع شملهم به، وقيل الضمير في له، يعود إلى الله تعالى، وهذا الوجه يدفعه قوله تعالى يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [الآية 100] .
فإن قيل: لم ذكر يوسف عليه السلام نعمة الله تعالى في إخراجه من السجن، فقال كما ورد في التنزيل وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [الآية 100] ولم يذكر نعمته عليه في إخراجه من الجبّ وهو أعظم نعمة، لأن وقوعه في الجبّ كان أعظم خطرا؟
قلنا: إنما ذكر هذه النعمة دون تلك النعمة، لوجوه: أحدها: أنّ محنة السجن ومصيبته، كانت أعظم لطول مدتها، فإنه لبث فيه بضع سنين، وما لبث في الجبّ إلّا مدّة يسيرة. الثاني:
أنه إنما لم يذكر الجب، كي لا يكون في ذكره توبيخ وتقريع لإخوته، عند قوله لهم كما ورد في التنزيل لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [الآية 92] .
الثالث: أن خروجه من السجن،(4/173)
كان مقدمة لملكه وعزه، فذلك ذكره، وخروجه من الجبّ، كان مقدمة الذل والرق والأسر، فلذلك لم يذكره.
الرابع: أن مصيبة السجن، كانت أعظم عنده، لمصاحبة الأوباش والأراذل وأعداء الدين بخلاف مصيبة الجب، فإنه كان مؤنسه فيه جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام.
فإن قيل: لم قال تعالى على لسان يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً [الآية 101] وهو يعلم أنّ كلّ نبيّ لا يموت إلّا مسلما؟
قلنا: يجوز أن يكون دعا بذلك، في حالة غلبة الخوف عليه، غلبة أذهلته عن ذلك العلم، في تلك الساعة.
الثاني: أنه دعا بذلك، مع علمه، إظهارا للعبودية والافتقار وشدة الرغبة، في طلب سعادة الخاتمة، وتعليما للأمّة، وطلبا للثواب.
فإن قلنا: كيف يجتمع الإيمان والشرك، وهما ضدّان، حتى قال تعالى وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) ؟
قلنا: معناه وما يؤمن أكثرهم، بأن الله تعالى خالقه ورازقه وخالق السماوات والأرض، قولا إلّا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا. الثاني، أن المراد بها المنافقون، يؤمنون بألسنتهم قولا، ويشركون بقلوبهم اعتقادا.
الثالث أن المراد بها تلبية العرب، كانوا يقولون: لبّيك لا شريك لك، إلّا شريكا هو لك، تملكه وما ملك فكانوا يؤمنون بأوّل تلبيتهم بنفي الشريك، ويشركون بآخرها بإثباته.
فإن قيل: هذه التلبية، توحيد كلها ولا شرك فيها، لأن معنى قولهم إلّا شريكا هو لك: إلا شريكا هو مملوك لك، موصوفا بأنك تملكه، وتملك ما ملك، واللام هنا للملك، لا لعلاقة الشركة وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيّا، ويحتمل أن يكون مجازيّا بيان الأول، أنّا إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في مواردها، وهو الاختصاص، يكون قولهم: لا شريك لك، عامّا في نفي كلّ شريك، يضاف إلى الله تعالى بجهة اختصاص ما، فيدخل في النفي من جهة لفظ الشريك المضاف بجهة المملوكية، وهو شريك زيد وعمرو ونحوهما، ثم يقع عليه الاستثناء، فيكون استثناء حقيقيا وإن قلنا إنها مشتركة بين المعاني الثلاثة الموجودة(4/174)
في موارد استعمالها، وهي الملك والاستحقاق، ويقال الاختصاص، فقولهم: لا شريك لك يكون عامّا أيضا، عند من يجوّز حمل المشترك على مفهومه في حالة واحدة، فيكون الاستثناء أيضا حقيقيا كما مر وأما على قول من لا يجوّز ذلك يكون النفي واردا على أحد مفهوماته، وهو علاقة الشركة، فيكون الاستثناء بعده مجازيّا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو نوع من أنواع البلاغة مذكور في علم البيان، وشاهده قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
معناه: إن كان هذا عيبا ففيهم عيب، وهذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب، فكذا هنا معناه: إن كان الشريك المملوك لك، يصلح شريكا فلك شريك، وهو لا يصلح شريكا لك، فلا يكون لك شريك، لأن كلّ ما يدعي أنه شريك لك، فهو مملوك لك، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم/ 28] . قلنا: على الوجه الأول إنه ليس بصحيح، لأنه لو جعلنا اللام حقيقة في المعنى العام وهو الاختصاص، يلزم منه الكفر حيث وجد نفي الشريك من غير استثناء، لأنه يلزم منه نفي ملكه تعالى، شريك زيد وعمر ونحوهما، وهو كفر، واللازم منتف، لأنه إيمان محض بلا خلاف.
فإن قيل: إنّما لم يكن كفرا مع عمومه، لأن الحقيقة العرفية عند عدم الاستثناء، نفي كل شريك يضاف إلى الله تعالى بعلاقة الشريك، لا نفي كل شريك، يضاف إليه بجهة ما، فصارت الحقيقة اللغوية مهجورة بالحقيقة العرفية، عند عدم الاستثناء، والجواب عن أصل السؤال، أنه سؤال حسن محقق، وأن هذه التلبية توحيد محض على التقديرين، فإن صح النقل أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها، فإنما نهى عنها لأنها توهم إثبات الشريك، لمقتضى الاستثناء عند قاصري النظر، وهم عوام الناس، فلهذه المفسدة نهى عنها.(4/175)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يوسف» «1»
قوله تعالى: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) . وهذه استعارة، لأنّ الكواكب والشمس والقمر ممّا لا يعقل، فكان الوجه أن يقال. ساجدة.
ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل، جاز أن توصف بصفة من يعقل، لأن السجود من فعل العقلاء. وهذا كقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) [النمل] ، فلما كانت النمل في هذا القول، مأمورة أمر من يعقل، جرى الخطاب عليها جريه على من يعقل. مثل ذلك قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصّلت/ 21] ، لأنها لمّا شهدت عليهم شهادة العقلاء المخاطبين، أجروا- كما في هذا الخطاب- مجرى العقلاء المخاطبين.
ومن الشاهد على ذلك قول عبدة بن الطبيب:
إذ أشرف الدّيك يدعو بعض أسرته ... لدى الصّباح وهم قوم معازيل «2»
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هذا البيت من قصائد «المفضّليات» للضّبيّ، والقصيدة كلها كاملة في ديوان المفضليات، بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون- ص 133- 143 ج 1، وترجمة عبدة بن الطبيب في اللآلي، والأغاني، والإصابة، والشعر والشعراء لابن قتيبة، وهو صاحب البيت المشهور في الرثاء:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما(4/177)
فلما جعله بمنزلة الداعي جعل الديكة بمنزلة القوم المدعوّين، وجعلهم أسرة له وأسرة الرجل قومه ورهطه. والمعازيل الذين لا سلاح معهم. فكأنه جعله مستنصرا من لا نصرة له، ولا غناء عنده. وقريب من ذلك قوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) [الشعراء] على أحد القولين. فكأنّ السياق، ردّ خاضعين إلى أصحاب الأعناق، لا إلى الأعناق، لأن الخضوع منهم يكون على الحقيقة.
وقد يجوز أيضا أن يكون قوله تعالى في ذكر الكواكب والشمس والقمر:
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) إنما حسن على تأويل تلك الرؤيا. وتأويلها يتناول من يعقل من إخوة يوسف وأبويه.
فجرى الوصف على تأويل الرؤيا، ومصير العقبى. وهذا موضع حسن، ولم يمض لي كما تقدم.
وقوله سبحانه: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [الآية 18] وهذه استعارة.
لأن الدم لا يوصف بالكذب على الحقيقة. والمراد بذلك- والله أعلم- بدم مكذوب فيه، والتقدير بدم ذي كذب.
وإنما يوصف الدم بالمصدر الذي هو (كذب) على طريق المبالغة. لأن الدعوى التي علقت بذلك الدم، كانت غاية في الكذب.
وقال بعضهم: قد يجوز أيضا أن يكون «كذب» هاهنا، صفة لقول محذوف يدلّ عليه الحال. فكأنّ التقدير: وجاءوا على قميصه بدم، وجاءوا بقول كذب، إذ كانت إشارتهم إلى آثار الدم في القميص، قد صحبها قول منهم يؤكد تلك الحال، وهو قولهم: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [الآية 17] . والقول الأول أصوب. ومن غرائب التفسير ما روي عن أبي عمرو بن العلاء «1» أنه قال: سمعت
__________
(1) . أبو عمرو بن العلاء. واسمه زبّان بن عمار كان إماما في اللغة والأدب، وكان من أعلم الناس بالأدب والقرآن والشعر، وأعراب الجاهلية. توفي سنة 154 هـ. بالكوفة. وله ترجمة موجزة في «المزهر» للسيوطي. وانظر «الأعلام» للزّركلي.(4/178)
بعض الرواة يقول: بدم كذب بالإضافة، من الدال «1» . وقال: هو الجدي في كلام الكنعانيين، وأنشد لبعضهم:
ظلّت دماء بني عوف كأنّهم ... عند الهياج رعاة بين أكداب
وقيل: إنهم لطّخوا قميص يوسف عليه السلام، بدم ظبي ذبحوه.
وقوله سبحانه: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [الآية 18] وهذه استعارة. وحقيقة التسويل تزيين الإنسان لغيره أمرا غير جميل.
جعل سبحانه أنفسهم، لمّا قوي فيها الإقدام على ذلك الأمر المذموم، بمنزلة الغير الذي يحسّن لهم فعل القبيح، ويحمّلهم على ركوب العظيم.
وقوله سبحانه: قَدْ شَغَفَها حُبًّا [الآية 30] وهذه استعارة. والمراد بها أن حبّه تغلغل إليها، حتى أصاب شغافها، وهو غشاء قلبها. كما تقول: بطنت الرّجل. إذا أصبت بطنه. ويقال: معنى شغفها أي سلب شغاف قلبها، على طريق المبالغة في وصف حبها له، كما تقول: سلبت الرّجل، إذا أخذت سلبه.
وقوله سبحانه: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وهذه أبلغ استعارة وأحسن عبارة، لأن أحد الأضغاث: ضغث. وهو الخليط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض، كالحزمة وما يجري مجراها، فشبّه سبحانه اختلاط الأحلام، ما مرّ به الإنسان من المحبوب والمكروه، والمساءة والسرور باختلاط الحشيش المجموع من أخياف «2» عدة، وأصناف كثيرة.
وقوله سبحانه ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) . وهذه استعارة. والمراد بالسّبع الشداد: السّنون المجدبة.
ومعنى يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي ينفد فيهن، ما ادّخرتموه لهن من السنين المخصبة.
__________
(1) . وقرأ الحسن وعائشة «بدم كدب» بالوصف لا بالإضافة، وبالدال المهملة أي بدم طري. يقال للدم الطري:
الكدب.
(2) . الأخياف: جمع خيف، وهو كلّ هبوط وارتقاء في سفح الجبل، أو ما ارتفع عن مسيل الماء.(4/179)
وجرى على ذلك عادة العرب في قولهم: أكلت آل فلان السّنة. يريدون مسّهم الضّر، في عام الجدب، وزمان الأزل «1» . حتى كأنهم ليسمون السنة المجدبة: الضّبع. فيقولون: أكلتهم الضّبع. أي نهكتهم سنة الجدب.
وقال بعضهم: إنما نسب تعالى الأكل إليهنّ، لأن الناس يأكلون فيهن ما ادّخروه، ويستنفدون ما أعدّوه. كما يقال: يوم آمن. وليل خائف. أي يأمن الناس في هذا، ويخافون في هذا.
وقوله سبحانه: لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) «2» .
[وهذه استعارة. لأنه تعالى أقام كيد الخائنين] مقام الخابط في الطريق، ليصل إلى مضرّة المكيدة وهو غافل عنه فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه، بمعنى لا يوفّقه لإصابة الغرض، ولا يسدّده لبلوغ المقصد، بل يدعه يخبط في ضلاله، ويتسكّع في متاهه، لأنه كالسّاري في غير طاعة الله، فلا يستحق أن يهدى لرشد، ولا يتسدّد لقصد.
وقوله سبحانه: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [الآية 53] . وهذه استعارة. لأن النفس لا يصحّ أن تأمر على الحقيقة.
ولكن الإنسان لما كان يتبع دواعيها إلى الشهوات، وينقاد بأزمّتها إلى المقبّحات، كانت بمنزلة الآمر المطاع، وكان الإنسان بمنزلة السامع المطيع.
وإنما قال سبحانه: لَأَمَّارَةٌ. ولم يقل لآمرة، مبالغة في صفتها بكثرة الدفع في المهاوي، والقود إلى المغاوي. لأنّ «فعّالا» «3» من أمثلة الكثير، كما أن «فاعلا» من أمثلة القليل.
وقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الآية 76] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة بناء يوطّد، ولا درجات تشيّد. وإنما المراد به تعلية معالم الذكر في الدنيا، ورفع منازل الثواب في الآخرة.
وقوله سبحانه:
__________
(1) . الأزل: الضيق، والشدّة، والداهية.
(2) . أصل الآية كاملة: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) .
(3) . فعّال: أي الصيغة التي على وزن فعّال. وهذه تدل على الكثرة والمبالغة، فالرجل القتّال، هو الكثير القتل.(4/180)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [الآية 82] .
وهذه استعارة من مشاهير الاستعارات. والمراد: واسأل أهل القرية التي كنا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها. ومما يكشف عن ذلك، قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الأنبياء عليهم السلام: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) [الأنبياء] . والقرية هي الأبنية المفروشة، والخطط المسكونة لا يصحّ منها عمل الخبائث فعلم أن المراد بذلك أهلها.
ومن الشاهد على ذلك أيضا، قوله سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) [الأنبياء] . وقال بعضهم: إن القرية هي الجماعة المجتمعة، لا الأبنية المشيدة. وذلك مأخوذ من قولهم: قرى الماء في الحوض. إذا جمعه والعير: هي الإبل وفيها أصحابها. وإنما أنث السياق ضمير القرية بقوله تعالى:
الَّتِي كُنَّا فِيها على اللفظ كما يقول القائل: قامت تلك الطائفة، وتفرّقت تلك الجماعة، على اللفظ.
ويحسن منه أن يقول عقيب هذا الكلام: وأكلوا، وشربوا، وركبوا، وذهبوا، حملا على المعنى دون اللفظ. كما قال تعالى: مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ. ثم قال سبحانه: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ على المعنى.
وكذلك القول في العير، فإنما أنّث ضميرها على اللفظ، لأنّ العير مؤنثة.
قال تعالى في هذه السورة: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [الآية 94] .
وقوله سبحانه: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [الآية 87] وهذه استعارة. والمراد ولا تيأسوا من فرج الله. والرّوح هو تنسيم الريح، التي يلذّ شميمها، ويطيب نسيمها. فشبه تعالى الفرج الذي يأتي بعد الكربة، ويطرق بعد اللّزبة «1» بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له، وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء في الخبر: (الريح من نفس الله) «2» أي من تنفيسه عن خلقه.
__________
(1) . اللّزبة: الشّدة والقحط. يقال سنة لزبة أي شديدة. [.....]
(2) . وفي «نهاية الأرب» ج 1 ص 95 روي عن رسول الله (ص) أنه قال (الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها) أخرجه البيهقي في سننه.(4/181)
يريد سبحانه أن القلوب تستروح إليها، كما يستروح المكروب إلى نفسه، وذو الخناق إلى تنفّسه.
وقوله سبحانه: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ [الآية 107] . وهذه استعارة. والمراد بذلك المبالغة في صفة العذاب بالعموم لهم، والإطباق عليهم، كالغاشية التي تشتمل على الشيء، فتجلّله من جميع جنباته، وتستره عن العيون من كل جهاته.(4/182)
سورة الرعد 13(4/183)
المبحث الأول أهداف سورة «الرّعد» «1»
سورة الرّعد من السور التي اختلف في مكّيّتها ومدنيّتها، فقال قوم إنها مكّيّة، لأنها شبيهة بالسور المكّيّة في قصّتها وموضوعاتها، وقال آخرون إنها مدنيّة، ولكن موضوعاتها تشبه موضوعات السور المكّيّة. وفي المصحف المطبوع في القاهرة سورة الرعد مدنيّة، وآياتها 43، نزلت بعد سورة محمّد.
وفي تفسير مقاتل بن سليمان، سورة «الرّعد» مكّية، ويقال مدنية. وتسمى سورة الرّعد لقوله سبحانه فيها:
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الآية 13] .
وسورة «الرّعد» من أعاجيب السور القرآنية التي تستولي على النفس، وتثير الوجدان، وتزحم الحس بالصور والمشاهد. ثم تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر. وتسلك السورة سبيلها الى القلب وترتاد به آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والصور.
إنّها ليست ألفاظا وعبارات، ولكنّها صور حية تستولي على الفؤاد، وتلمس الوجدان وتوحي بالإيمان.
موضوع السورة
موضوع سورة الرعد الرئيس هو العقيدة. وقضاياها هي التوحيد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(4/185)
والبعث، وهذا الموضوع تكرّر عرضه في سور سابقة ولاحقة.
ولكنه يعرض في كل مرة بطريقة جديدة. وفي ضوء جديد. ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد.
تطوف سورة الرعد بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق، وتعرض عليه الكون كله في شتّى مجالاته الأخاذة: في السموات المرفوعة بغير عمد وفي الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمّى وفي الليل يغشاه النهار وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات، ويسقى بماء واحد وفي البرق يخيف ويطمع والرعد يسبّح ويحمد والملائكة تخاف وتخشع والصواعق يصيب بها من يشاء والسحاب الثّقال والمطر في الوديان والزّبد الذي يذهب جفاء، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجّه: تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل، يحيط بالشارد والوارد والمستخفي والسارب، ويتعقب كلّ حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج.
والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون مكشوف لعلم الله، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار.
إنها تقرّب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى، المحيطة بالكون ظاهره وخافية، جليله ودقيقه، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوّره هائل مخيف، ترتجف له القلوب.
وذلك إلى الأمثال المصوّرة، تتمثل في مشاهد حية، حافلة بالحركة والانفعال، الى مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، وخلجات الأنفس في هذا وذاك، إلى وقفات على مصارع الغابرين، وتأملات في سير الراحلين، وفي سنة الله التي مشت عليهم، فإذا هم داثرون.
مشاهد الكون في سورة الرعد
تبدأ سورة الرعد بقضية عامة من قضايا العقيدة: قضية الوحي بهذا(4/186)
الكتاب والحق الذي اشتمل عليه فيقول سبحانه:
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) .
وهذا الافتتاح يلخص موضوع السورة كله، ويشير الى جملة قضاياها، وتسترسل السورة في استعراض آيات القدرة وعجائب الكون الدالة على قدرة الله الخالق وحكمته وتدبيره وأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأنّ من مقتضيات تلك القدرة، أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم الى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم، وسخّره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.
وتبدأ الآيات الرائعة في رسم المشاهد الكونية الضخمة نظرة الى السماوات، ونظرة الى الأرضين، ونظرة الى مشاهد الأرض وكوامن الحياة.
قال تعالى:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) .
وهذه اللفتة الأولى الى مظاهر القدرة الإلهية تحرّك الوجدان، فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملّاه، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد- أو حتى بعمد- إلا الله جلّت قدرته وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد، تلك البنايات الصغيرة الهزيلة، القابعة في ركن ضيّق من الأرض لا تتعداه ثم يتحدث الناس عمّا في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد، وعمّا وراءها من القدرة الحق، والعظمة الحق، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان.
ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله، الى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار:(4/187)
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ.
أي استولى على ملك الموجودات جميعها، وأحاطت قدرته الكائنات جميعها.
ومع الاستعلاء والتسخير، الحكمة والتدبير.
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
وإلى حدود مرسومة وفق ناموس مقدّر.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ.
ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء، فتجري لأجل لا تتعدّاه.
ومن قدرة الله سبحانه، أنّه مدّ الأرض وبسطها امام البصر، وأمدّها بمقومات الحياة:
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
ليكمل إبداع الخلق وتناسقه، ثم تابع الله، جلّت قدرته، بين الليل والنهار في انتظام عجيب، ونظام دقيق يبعث على التأمل في ناموس هذا الكون، والتفكير في القدرة المبدعة التي تدبّره وترعاه:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) .
أدلة الألوهية في سورة الرعد
نحن في سورة الرعد أمام عدد من أدلة الألوهية يتوارد بعضها وراء بعضها في سياق بديع، وعرض شائق.
فهناك الأرض التي تزرع بألوان مختلفة من النبات فيها.
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ [الآية 4] .
منه ما هو عود واحد، ومنه ما هو عودان أو أكثر، في أصل واحد، وكله:
يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ [الآية 4] .
والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم:
وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الآية 4] .
فمن غير الخالق المدبّر يفعل ذلك؟
إن القرآن، بمثل هذه اللفتة، يبقى جديدا أبدا، لأنه يجدّد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس، وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) .(4/188)
ومن أدلة الألوهية: إحاطة علم الله بالجنين في بطن أمه، وبالسر المكنون في الصدور، وبالحركة الخفية في جنح الليل، وبكلّ مختف في الليل وظاهر في النهار، وهو سبحانه محيط بكل من تكلّم همسا، أو تكلّم جهرا، فإن كل شيء مكشوف تحت المجهر الكاشف يتبعه شعاع من علم الله، وتتعقبه حفظة تحصي الخواطر والنوايا.
إلا أنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ الى الله، تطمئن في حماه، وهي تتصور علم الله المحيط بكل شيء. ونلاحظ أن بعض الآيات في سورة الرعد، يلمس آفاق الكون الهائل، مثل الآيات الأربع الأولى من السورة.
وبعض الآيات، يلمس أغوار النفس ومجاهل السرائر، مثل الآيات الممتدة من 8 الى 10 حيث يقول سبحانه:
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) . ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر، تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس، متداخلة متناسقة.
حيث يقول سبحانه:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ.
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس، حتى اليوم، وعند الذين يعرفون مزيدا عن طبيعتها.
والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة، وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع، لتصوير سلطان الله، المتفرّد بالقهر والنفع والضّرّ.
وقد سميت السورة بسورة الرعد، لقوله سبحانه:
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ.
والرعد هو ذلك الصوت المقرقع المدوّي، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله، أيّا كانت طبيعته وأسبابه، فهو رجع صنع الله في(4/189)
هذا الكون، وهو يحمد ويسبّح بلسان الحال، للقدرة التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن، يسبّح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه، بما يحمله من جمال وإتقان.
وقد اختار التعبير أن يجعل صوت الرعد تسبيحا للحمد، اتّباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة، لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كلّه، وقد انضم الى تسبيح الرعد بحمد الله، تسبيح الملائكة من خوفه ومن تعظيمه، وفي آية أخرى يقول سبحانه:
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى/ 5] .
وفي الحديث النبوي يقول الرسول (ص) : «أطّت السماء وحق لها أن تئطّ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك راكع أو ساجد يسبّح الله تعالى» .
ثم يعبّر السياق عن خضوع الكائنات جميعها لمشيئة الله تعالى بالسجود، وهو أقصى رمز للعبودية، فتسجد الكائنات ويسجد ظلها معها عند انكسار الأشعة، وامتداد الظلال فإن شخوص الكون كله وظلاله، جاثية خاضعة من طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء، كلّها تسجد لله.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) .
النصف الثاني من سورة الرعد
في النصف الاول من سورة الرعد حدثتنا السورة عن المشاهد الهائلة في آفاق الكون وأعماق الغيب وأغوار النفس.
وفي النصف الثاني من السورة تسترسل الآيات في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رقيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد والشركاء، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، فالأول علم والثاني عمّى:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الآية 19] .
وتبيّن الآيات طبيعة المؤمنين وطبيعة(4/190)
الكافرين، والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء، ثم يتلوها مشهد من مشاهد القيامة، وما فيها من نعيم للأولين وعذاب للآخرين. ويعقب ذلك لمسة في بسط الرزق وتقديره، وردّ ذلك الى الله سبحانه، فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله، فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال، وتقطّع به الأرض ويكلّم به الموتى فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم، أو تحل قريبا من دارهم، فجدل تهكّمي حول الآلهة المدّعاة، فلمسة عن مصارع الغابرين، ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين يختم هذا كله، بتهديد الذين يكذّبون برسالة الرسول (ص) بتركهم للمصير المعلوم.
من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول، تحضّر المشاعر وتهيّئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني وهي على استعداد وتفتّح لتلقّيها وإنّ شطري السورة متكاملان، وكلّ منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته، لهدف واحد وقضية واحدة، هي الإيمان عن يقين كامل وأدلة مقنعة، يطمئن لها القلب وتسكن إليها النفس. قال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) .
فقلب الكافر في ضلال، وقلب الجاحد مضطرب هواء، وقلب المؤمن يطمئنّ لصلته بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وحماه، يطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، ويطمئنّ بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضرّ ومن كل شرّ إلّا بما يشاء الله، مع الرّضا بالابتلاء والصبر على البلاء ويطمئنّ برحمة الله في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة.
وليس أشقى على وجه الأرض ممّن يحرمون طمأنينة الأنس الى الله. ليس أشقى ممّن يعيش لا يدري لم جاء، ولم يذهب، ولم يعاني في الحياة؟
ليس أشقى في الحياة، ممّن يشقّ طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
وإن هناك شدائد في الحياة، لا يصمد لها بشر، إلّا أن يكون مرتكنا الى الله، مطمئنّا الى حماه، مهما أوتي(4/191)
من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.
ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله:
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) .
التناسق الفني في سورة الرعد
ممّ نلحظه في سورة الرعد عنايتها بالمقابلة بين الإيمان والكفر، والهدى والضلال، والاطمئنان والحيرة. وحين تعرضت السورة لرسم مشاهد الكون، عنيت بإبراز المشاهد المتقابلة من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وشخوص وظلال، وجبال راسية، وأنهار جارية، وزبد ذاهب، وماء باق، وقطع من الأرض متجاورات مختلفات، ونخيل صنوان وغير صنوان ومن ثم تطّرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة، لتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية، وتتّسق في الجو العام.
ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش، مع تسخير الشمس والقمر، ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد، ويتقابل من أسرّ القول مع من جهر به، ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق، ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا، وتتقابل دعوة الحق لله مع دعوة الباطل للشركاء، ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى، ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه، ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب.
وبالإجمال، تتقابل المعاني وتتقابل الحركات وتتقابل الاتجاهات، لتنسيق الجو العام في الأداء. وهذا التناسق الفني، من بدائع الإعجاز في القرآن الكريم، هذا القرآن العجيب الذي لو كان من شأن قرآن أن تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض أو يكلّم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثّرات ما تتحقق معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلّفين الأحياء، فإذا لم يستجيبوا له فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم ويتركوهم، حتى يأتي وعد الله للمكذّبين، قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ(4/192)
الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ
(31) .
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقّته وتكيّفت به، أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس، وبهذه النفوس، خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة، بل أبعد أثرا في شكل الأرض، ذاته، فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه الأرض الى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ؟
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره، إنّ طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسّها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجّه إليه ويوحي به. والذين تلقوه وتكيفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال. وقطّعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، نعني الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام والتحول الذي حصل في نفوس العرب وحياتهم أضخم بكثير من تحوّل الجبال عن رسوخها، وتحوّل الأرض عن جمودها، وتحوّل الموتى عن الموت:
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال. فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم، فما كان أجدر بالمؤمنين الذين يحاولون تحريكها ان ييأسوا من القوم، وأن يدعوا الأمر لله فلو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، وهدى الناس جميعا على نحو خلقه الملائكة، لو كان يريد.
لقد شاء الله جلّ جلاله أن يوجد الإنسان على وجه الأرض، ومعه العقل والإرادة والاختيار والكسب، حتى يتميّز المؤمن من الكافر، والمستقيم من العاصي. وبذلك تتحقّق الحكمة الإلهية في تنوّع الخلق واختلاف مشاربهم:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) [هود] .(4/193)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الرّعد» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «الرعد» بعد سورة «محمّد» . ونزلت سورة «محمّد» بعد سورتين من سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» فيما بين صلح الحديبيّة وغزوة تبوك، فيكون نزول سورة «الرعد» في ذلك التاريخ أيضا، وعلى هذا تكون سورة «الرعد» من السّور التي نزلت بالمدينة، وقيل إنها نزلت بمكّة، لأنها تجري في أغراض السّور التي نزلت بها، وقال الأصمّ:
إنّها مدنيّة بالإجماع. وكأنه لم يقم وزنا لهذا القول، ولا شيء في أن تجري بعض السور المدنية في أغراض السور المكيّة، لأن المشركين الذين نزلت فيهم السور المكية لم ينقطع أمرهم بعد الهجرة، وكان كثير منهم يحيط بالمدينة، وكانت دعوتهم لا تزال قائمة، ومما يؤيد أن هذه السورة مدنية، قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) .
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى في الآية 13 منها:
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وتبلغ آياتها ثلاثا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن، كما يقصد من السور الثلاث المذكورة قبلها، ولهذا ذكرت هذه
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/195)
السورة بعدها، وقد ابتدئت بمقدمة ذكر فيها أن الذي أنزل إليه من ربه هو الحقّ، وأن الذي يمنعهم من تصديقه أنه يدعو الى التوحيد وهم لا يؤمنون به، وقد استطرد فيها الى إثبات هذا التوحيد، ثم عاد السياق الى المقصود من الكلام على تنزيل القرآن، فذكر شبهتين لهما عليه وأخذ في إبطالهما، وبهذا ينحصر المقصود من هذه السورة في هذه الأمور الثلاثة.
المقدمة الآيات [1- 6]
قال الله تعالى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) فأقسم سبحانه بهذه الحروف أنّ ما أنزله هو آيات الكتاب، وأن ما أنزل إليه منه هو الحق، ولكن الذي يمنعهم من تصديقه أنه يدعو الى التوحيد وهم لا يؤمنون به ثم استطرد السياق من هذا الى إثبات توحيده جلّ وعلا، فذكر أنه سبحانه هو الذي رفع السماوات بغير عمد، وسخّر الشمس والقمر يجريان لأجل مسمّى، ودبّر أمر خلقه وفصّل آياته لهم لعلّهم بلقائه يؤمنون ثم ذكر غير هذا من الآيات الدالّة على توحيد الله تعالى، وأنه لا بد لهم من لقائه، وعجب من إنكارهم بعد هذا أن يخلقوا من جديد بعد أن يصيروا ترابا، وهدّدهم عليه بأنهم ستوضع الأغلال في أعناقهم، وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ثم ذكر أنهم يستعجلونه سبحانه بهذا: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) .
رد شبهتهم الأولى على القرآن الآيات [7- 26]
ثم قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) فذكر شبهتهم الأولى على القرآن، وهي إنكارهم له وطلب آية غيره، وقد ردّ عليهم بأن النبي (ص) إنما هو منذر، فليس بيده إجابتهم الى تلك الآيات، وبأن كل قوم لهم هاد يبعث بالآية التي تناسبهم في علمه بأحوالهم ثم ذكر من علمه بأحوالهم أنه يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، الى غير هذا ممّا ذكره في إثبات علمه ليرضوا(4/196)
بما اختاره لهم من آياته ثم انتقل السّياق من إثبات علمه تعالى إلى إثبات قدرته على ما يقترحونه من تلك الآيات، فذكر أنه جلّ شأنه هو الذي يريهم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، وأنه يسبّح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ثم ذكر أنهم يجادلون في وحدانيته سبحانه وهو شديد المحال، وهو الذي إذا دعي أجاب لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الآية 14] وشركاؤهم لا يستجيبون لهم بشيء، إلا كباسط كفّيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لأنه لا يمكنه أن يستجيب له ثم ذكر تعالى أن له يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وأمر النبي (ص) أن يسألهم قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 16] وأن يجيب عن سؤاله بأنه الله لأنه لا ربّ لها غيره، وأن ينكر منهم مع هذا أن يتّخذوا من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، وأن يذكر لهم أنه لا يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور، ثم أمره أن يسألهم:
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [الآية 16] وأمر النبي (ص) أن يجيب عنه بأنه خالق كل شيء وهو الواحد القهّار ثم ضرب مثلا لحقّه وباطلهم بعد تلك الأمثال، شبّه فيه حالهما بحال ماء أنزله من السماء فسالت به أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا، وبحال ذهب أو قد عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع فاحتمل زبدا أيضا، فما يبقى تحت الزبد من الماء والذهب الخالص مثل للحقّ، والزبد مثل للباطل فأما الزبد فيذهب ويفنى وكذلك الباطل، وأما الماء والذهب الخالص فيبقى كل منهما لينتفع منهما الناس به، وكذلك الحقّ.
ثم وعد أهل الحق الذين استجابوا له بأن لهم الحسنى، وأوعد أهل الباطل الذين لم يستجيبوا له بأن لهم سوء الحساب، ومأواهم جهنم وبئس المهاد، ثم ذكر أنه لا يمكن أن يسوّى بين الفريقين في ذلك، وانه لا يتذكّر هذا إلّا أولو الألباب، وهم الذين يوفون بعهده ولا ينقضون ميثاقهم، ويصلون ما أمر به أن يوصل، ويخشونه ويخافون سوء حسابهم، ويصبرون ابتغاء وجهه، ويقيمون الصلاة، وينفقون ممّا رزقهم سرّا وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة. ثم وعدهم بأن لهم عقبى الدار، جنات(4/197)
عدن يدخلونها إلخ، وأوعد الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، بأن لهم اللعنة ولهم سوء الدار اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) .
رد شبهتهم الثانية على القرآن الآيات [27- 43]
ثم قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) .
فذكر شبهتهم الثانية على القرآن، وهي شبهتهم الأولى بعينها، وقد أجابهم أوّلا بأنه يضل من يشاء فلا يؤمن، ولو أجيب الى ما يقترحه من الآيات، ويهدي إليه من أناب فيؤمن بغير اقتراح آيات ثم وصف من أناب بأنهم الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكره سبحانه، الى غير هذا مما وصفهم به.
ثم أجابهم ثانيا بأنه أرسل النبي (ص) في أمّة هي آخر الأمم، فخصّه بمعجزة القرآن ليتلوها عليهم. فيبقى إعجازها قائما بينهم رحمة بهم، وهم مع هذا يكفرون به ولا يقدّرون رحمته ثم أمره أن يؤمن به، ويتوكّل عليه، ويتوب إليه، ولا يلتفت إليهم.
ثم أجابهم ثالثا بأنه لو كان هناك قرآن سيّرت به الجبال، أو قطّعت به الأرض، أو كلّم به الموتى، لكان هذا القرآن الذي لا يؤمنون به، وذكر أنّ الأمر له في إنزال ما ينزّله من الآيات، وأنه لو شاء سبحانه لهدى الناس جميعا من غير معجزة من المعجزات، وذكر أنهم لا يزالون تصيبهم، بتعنّتهم في طلب الآيات، قارعة من سبي أو قتل، أو تحلّ قريبا من دارهم، حتى يأتي وعده تعالى بنصر المؤمنين عليهم ثم ذكر سبحانه أنه قد استهزأت قبلهم أمم باقتراح الآيات على رسلهم، فأملى لهم ثم أخذهم بما أخذهم به من العقاب، وانتقل السياق من هذا إلى إثبات قدرته جلّ شأنه، عليهم، وعجز آلهتهم عن دفع شيء عنهم، فذكر أنه لا يكون من هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن لا يقوم على شيء، وأمرهم تعالى أمر تعجيز أن يسمّوا هؤلاء الشركاء الذين جعلوهم له وذكر أنهم يدّعون له شركاء لا يعلمهم لعدم وجودهم، وإنّما يأخذون في هذا(4/198)
بظاهر من القول، وليس عندهم شيء من العلم، وقد زيّن لهم ما هم فيه، وصدّوا عن السبيل، فلا يمكن اهتداؤهم ثم أوعدهم بأن لهم عذابا في الحياة الدنيا وعذابا أشق منه في الآخرة ووعد المتقين بأن لهم جنة تجري من تحتها الأنهار، أكلها دائم وظلّها.
ثم أجابهم رابعا بأن أهل الكتاب يفرحون بهذا القرآن الذين لا يؤمنون به، وإن كان من أحزابهم من ينكر بعضه لمخالفته لما عندهم وأمر النبي (ص) أن يعبده ولا يشرك به، وأن يدعو إليه وحده ثم ذكر أنه أنزل القرآن حكمة عربية لا يصح طلب آية بعدها وحذّر النبي (ص) من أن يتّبع أهواءهم فيما يطلبونه من الآيات، بعد أن جاءه من العلم ما لا يصح معه اتباع أهوائهم.
ثم أجابهم خامسا بأنه أرسل رسلا من قبله، وكانوا بشرا مثله لهم أزواج وذرّيّة، فلا يمكنهم أن يأتوا بآية إلا بأذنه، ولكل أجل قدّره لآياته كتاب، لا تمكن مخالفته، وكل ما يحصل من محو أو إثبات يأتي على وفق ما فيه ثم ذكر للنبي (ص) أنه قد يريه بعض ما يعدهم من العذاب وقد يتوفّاه قبله، فليس هذا من شأنه، وإنما عليه أن يبلغهم وعليه هو حسابهم ثم نبههم إلى أن ما يعدهم به قد حصل بعضه، فذكر ما حصل من انتقاص المسلمين أطراف أرضهم، وأنه قد حكم بنصر المؤمنين عليهم، وهو حكم لا معقب له ولا تأخير فيه ثم ذكر أنه قد مكر من كان قبلهم فلم يفدهم مكرهم، لأن له المكر جميعا، يعلم ما تكسب كل نفس، وسيعلم الكفّار لمن عقبى الدار: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) .(4/199)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الرّعد» «1»
أقول: وجه وضعها بعد سورة «يوسف» : أنه سبحانه قال في آخر تلك: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) [يوسف] . فذكر الآيات السمائية والأرضية مجملة، ثم فصّل في مطلع هذه السورة.
فقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) تفصيل الآيات الأرضية.
هذا مع اختتام سورة يوسف بوصف الكتاب، ووصفه بالحق، وافتتاح هذه بمثل ذلك «2» ، وهو من تشابه الأطراف.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . ختام سورة «يوسف» : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) وافتتاح «الرعد» : المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) .(4/201)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الرّعد» «1»
1- وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ [الآية 13] .
نزلت في أربد بن قيس، وعامر بن الطّفيل. كما أخرجه الطبراني «2» وغيره.
2- وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) .
قال عكرمة: هو عبد الله بن سلام. قال سعيد بن جبير: هو جبريل.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقال ابن عباس: هم اليهود والنّصارى. أخرجه ابن جرير «3» وأخرج عن قتادة، قال: كنّا نحدّث أنّ منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميما الدّاري «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . في «الأوسط» و «الكبير» بنحوه، وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 42.
(3) . 13/ 118.
(4) . والأثر في «الطبري» 13/ 119.(4/203)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرّعد» «1»
1- قاله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) .
أقول: أراد تعالى بقوله: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أنه سبحانه خلق فيها من أنواع الثّمرات جميعها زوجين حين مدّها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت.
وقيل: أريد بالزّوجين: الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة.
وأمّا قوله جلّ وعلا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فالمراد يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا.
وقرئ: يغشّي، بالتشديد.
وظاهر الحال أن الفعل «يغشي» ينصب مفعولين وحقيقة ذلك، أنه مجاوز الى مفعول واحد، وأما الثاني فبالخافض، وعرض له الحذف، ثم وصل.
2- وقال تعالى: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الآية 6] .
والمراد بقوله سبحانه: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذّبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا.
والمثلة: العقوبة بوزن السّمرة.
والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(4/205)
أقول: وهذه من موادّ القرآن التي لا نعرفها في عربية معاصرة.
3- وقال تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) .
والمعنى: سواء عنده من استخفى، أي: طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كلّ أحد.
أقول: وليس لنا في العربية المعاصرة إلا المزيد «سرّب» ، و «تسرّب» ومعناهما شيء آخر ذو خصوصية أخرى، فيقال مثلا: سرّب خبرا، وتسرّب الخبر، وكلّه شي مولّد جديد.
4- وقال تعالى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) .
و (السّحاب) في الآية يفيد الجمع بدلالة الوصف (الثّقال) .
ومن المفيد أن نعرض لكلمة «السحاب» في لغة التنزيل، لنرى تصاقب الجمع والإفراد فيها، قال تعالى: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [البقرة/ 164] .
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) [الطور] .
حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف/ 57] .
فالسحاب في الآية الأولى مفرد بدلالة الوصف (المسخّر) ، ومثله في الآية الثانية وأما الآية الثالثة ففيها شيء آخر، فقد وصف السحاب بصفة الجمع (الثقال) ، ثم عاد الضمير عليه في (سقناه) فعدّ مفردا.
وحقيقة الأمر أن «السحاب مفرد كسائر أسماء الجمع، كالنخل والشجر وغيرهما، ولكن هذه الأسماء ذات معان تؤدّي الجمع. على أن الشيء يكون مفردا مرةّ وجمعا أخرى باعتبار لفظه، وباعتبار معناه، وهذا من خصائص لغة التنزيل.
5- وقال تعالى: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) .
المحال والمماحلة سواء، وهما مصدر الفعل «ماحل» ، ويعنيان شدة المماكرة والمكايدة.
أقول: مصدر «فاعل» قياسي، فهو الفعال والمفاعلة، مثل سابق سباقا ومسابقة، ولكن قد يشيع بناء من هذين المصدرين ويكاد الآخر ينسى فلا يرد(4/206)
في نثر المعربين وشعرهم وكلامهم.
ألا ترى أنهم يقولون «نفاق» ولا يقولون: منافقة ويقولون: مجاراة ومباراة ولا يقولون: جراء وبراء، ويقولون مراسلة وملاعنة، وقلّما تجد رسالا ولعانا. وهذا كله من خصائص هذه اللغة العريقة.
6- وقال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً [الآية 17] .
قالوا: معنى (جفاء) باطلا.
قال الفرّاء: أصله الهمزة، والجفاء، ما نفاه السّيل.
وجفأ الوادي: مسح غثاءه، وقيل:
الجفاء كما يقال الغثاء.
أقول: والجفاء بهذا المعنى من الكلم المفيد الذي حسن استعماله في لغة التنزيل.
7- وقال تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى [الآية 18] .
والمراد ب (الحسنى) الجزاء الحسن.
والحسنى ضدّ السّوأى، وهو مصدر كالنّعمى والبؤسى وغيرهما.
وقد يكون أصل هذا المصدر الصفة، فهو مؤنّث أحسن، مثل أعلى وعليا، وأقصى وقصيا، ثم حوّله الاستعمال الكثير الى المصدر كتحوّل العافية والعاقبة الى المصدر، وأصلهما اسم الفاعل.
وهذا كلّه من سعة هذه العربية التي تفنّن بها أهل اللّسن والفصاحة.
8- وقال تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) .
أقول: والمعنى: وما الحياة الدنيا في جنب نعيم الآخرة إلّا شيء يسير كعجالة الراكب، وهو ما يتعجّله من تميرات، أو شربة سويق، أو نحو ذلك «1» .
وقوله تعالى: فِي الْآخِرَةِ ضرب من الإيجاز الجميل، والمعنى كما أشرنا من قول الزمخشريّ.
ثم إنّ جعل الحياة الدنيا متاعا، إشارة الى أن نعيمها زائل، وأنها لا تدوم، وأنها تافهة قليلة الغناء كغلّة المتاع الذي يتزوّد به المسافر، وهو بلغة يتبلّغ بها مدة سفره. وما زال «المتاع» زاد الراكب والمسافر في عصرنا، وإن أخذ يزول بسبب من تقدّم
__________
(1) . «الكشاف» 2/ 528.(4/207)
الحضارة، وتهيؤ الوسائل المتقدّمة في السفر وما يتصل به.
ومن عجيب، أن مواد هذه الكلمة تدل على القلة ذلك أن «المتعة» (مثلّثة الميم) هي البلغة، ويقول الرجل لصاحبه، أبغني متعة أعيش بها، أي:
ابغ لي شيئا آكله، او زادا أتزوّد به، أو قوتا اقتاته.
9- وقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) .
قرئت: (طوبى لهم وحسن مآب) برفع (طوبى) ونصبها.
أقول: والنّصب على معنى الدّعاء.
وطوبى: مصدر كالبشرى والنّعمى ونحو ذلك، وقوله تعالى: طُوبى لَهُمْ، أي: أصبتم خيرا وطيبا على إرادة الدعاء. واستعمال اللام في لَهُمْ مؤذن بذلك كقولهم سلاما لك، كما تقول أيضا سلام لك، وكله دعاء.
10- وقال تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) . وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ، أي: أصل كل كتاب، وهو اللوح المحفوظ.
أقول: واستعمال (أمّ) وإضافتها للكتاب لتوليد هذا المعنى، أو قل هذا المصطلح يؤيّده ما درج عليه العرب من النظر الى كلمة (أمّ) ، التي أضافوها الى كلمات لا حصر لها لتوليد مسمّيات كثيرة، يأخذك العجب إذا ما أردت أن تعرف طرائق إدراكهم للأشياء، واختيار الكلم لذلك.
وحسبك أن تنظر في كتاب «المرصّع» لمجد الدين ابن الأثير «1» وهو في الآباء والأمهات والأبناء والذوات والذوين، لتدرك آفاق هذه اللغة البعيدة المرامي.
11- وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الآية 31] .
قال الزمخشري «2» في وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً جوابه محذوف، كما تقول
__________
(1) . انظر: «المرصّع» ، لابن الأثير، من مطبوعات وزارة الأوقاف في العراق.
(2) . «الكشاف» 2/ 529.(4/208)
لغلامك: لو أنّي قمت إليك، وتترك الجواب.
والمعنى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتّى تتصدّع وتتزايل قطعا، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف كما قال تعالى:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر/ 21] .
أقول: وهذا الأسلوب من حذف الجواب يخدم الغرض البلاغي، وهو أن يدع السامع يتفكّر في عظم ما يريد الله سبحانه أن يفعله.
أما قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا فالمراد بها: أفلم يعلم.
قيل: هي لغة قوم من النّخع.
وقيل: إنّما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمّنه معناه، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنّه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمّن ذلك، قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني ... ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم
ويدل عليه أنّ عليّا وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا:
أفلم يتبيّن، وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ.
12- وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) .
وقوله تعالى: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أي: لا رادّ لحكمه، والمعقّب الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته:
الذي يعقبه أي: يقفّيه بالردّ والإبطال.
ومنه قيل لصاحب الحقّ: معقّب لأنه يقفّي غريمه بالاقتضاء والطلب، قال لبيد:
حتى تهجّر في الرّواح وهاجها ... طلب المعقّب حقّه المظلوم
والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس.
أقول: وهذه كلمة فنّيّة هي من أوائل ما عرف من المصطلح القضائي.(4/209)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرّعد» «1»
قال تعالى: كُلٌّ يَجْرِي [الآية 2] يعني كلّه كما تقول «كلّ منطلق» أي:
كلّهم.
وقال تعالى: رَواسِيَ [الآية 3] فواحدتها «راسية» .
وقال تعالى: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الآية 5] . وفي موضع آخر: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) [النمل] فالآخر هو الذي وقع عليه الاستفهام والأول حرف، كما تقول «أيوم الجمعة زيد منطلق» . ومن أوقع استفهاما آخر جعل قوله تعالى:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً [المؤمنون/ 82، والصافّات/ 16 و 53، وق/ 3، والواقعة/ 47] ظرفا لشيء مذكور قبله، ثم جعل هذا الذي استفهم عنه استفهاما آخر، وهذا بعيد. وإن شئت لم تجعل في (أإذا) استفهاما وجعلت الاستفهام في اللفظ على (أإنّا) ، كأنك قلت «يوم الجمعة أعبد الله منطلق» وأضمرت فيه. فهذا موضع قد ابتدأت فيه (إذا) وليس بكثير في الكلام. ولو قلت «اليوم إنّ عبد الله منطلق» لم يحسن وهو جائز. وقد قالت العرب «ما علمت إنّه لصالح» يريد: إنّه لصالح ما علمت.
وقال تعالى: مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) فقوله سبحانه:
مُسْتَخْفٍ أي: ظاهر. و (السارب) :
المتواري.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](4/211)
وأمّا (المعقّبات) في قوله تعالى:
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [الآية 11] فإنما أنّثت لكثرة ذلك منها نحو «النّسابة» و «العلّامة» ، ثم ذكّر السياق لأن المعنى مذكّر، فقال تعالى:
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «1» [الآية 11] .
وقال تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) وبِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) [آل عمران، وغافر/ 55] «2» بجعل بِالْغُدُوِّ يدل على الغداة وإنما «الغدوّ» فعل. وكذلك (الإبكار) إنما هو من «أبكر» «إبكارا» .
والذين قالوا (الأبكار) «3» احتجّوا بأنهم جمعوا «بكرا» على «أبكار» . و «بكر» لا تجمع لأنه اسم ليس بمتمكّن، وهو أيضا مصدر مثل «الإبكار» فأما الذين جمعوا فقالوا إنما جمعنا «بكرة» و «غدوة» . ومثل «البكرة» و «الغدوة» لا يجمع هكذا. لا تجيء «فعلة» و «أفعال» وانما تجيء «فعلة» و «فعل» .
وقال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ [الآية 16] فهذه (أم) التي تكون منقطعة من أول الكلام.
وقال تعالى: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الآية 17] تقول: «أعطني قدر شبر» وقدر شبر» وتقول: «قدرت» و «أنا أقدر» «قدرا» فأما المثل ففيه «القدر» و «القدر» .
وقال تعالى: أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الآية 17] أي: «ومن ذلك الذي يوقدون عليه زبد مثل هذا» .
وقال تعالى: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الآية 24] أي:
يقولون «سلام عليكم» .
وقال سبحانه: طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) ف طُوبى في موضع رفع يدلّك على ذلك رفع وَحُسْنُ مَآبٍ وهو يجري مجرى «ويل لزيد» لأنك قد تضيفهما بغير لام تقول «طوباك» ، ولو لم تضفها لجرت مجرى «تعسا لزيد» . وإن قلت: «لك طوبى» لم
__________
(1) . نقله في التهذيب 1/ 273 عقب، وزاد المسير 4/ 412.
(2) . في البحر 2/ 353 قراءة كسر الهمزة الى الجمهور.
(3) . في الشواذ 20 الى بعضهم.(4/212)
يحسن، كما لا تقول: «لك ويل» .
وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ [الآية 33] فهذا في المعنى «أفمن هو قائم على كلّ نفس مثل شركائهم» ، وحذف، فصار وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يدلّ عليه.(4/213)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرّعد» «1»
إن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) ولم يقل ومن هو سارب بالنهار، ليتناول معنى الاستواء المستخفي والسّارب، وإلّا فقد تناول واحدا هو مستخف وسارب: أي ظاهر، وليتناسب لفظ الجملة الأولى والثانية، فإنه قال في الجملة الأولى مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الآية 10] .
قلنا: قوله تعالى: وَسارِبٌ معطوف على وَمَنْ لا على مستخف، فيتناول معنى الاستواء اثنين. الثاني: أنه وإن كان معطوفا على مستخف، إلا أن (من) هنا في معنى التثنية كقوله:
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فكأن المعنى: سواء منكم اثنان:
مستخف بالليل، وسارب بالنهار.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (14) أي في ضياع وبطلان، والكفّار يدعون الله تعالى في وقت الشدائد والأهوال، ومشارفتهم الغرق في البحر، فيستجيب لهم؟
قلنا: المراد: وما عبادة الكافرين الأصنام إلّا في ضلال، ويعضده قوله تعالى قبله في الآية نفسها: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي يعبدون.
فإن قيل: كيف طابق قولهم كما ورد في التنزيل لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس/ 20] قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/215)
قلنا: هو كلام جرى مجرى التعجّب من قولهم، لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله (ص) لم يؤتها نبيّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية فإذا جحدوا آياته ولم يعتدّوا بها، وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعا يتعجّب منه فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشدّ تصميمكم على كفركم.
فإن قيل: كيف المطابقة بين قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الآية 33] وقوله سبحانه بعد ذلك في الآية نفسها: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ.
قلنا: فيه محذوف تقديره: أفمن هو رقيب على كل نفس صالحة وطالحة، يعلم ما كسبت من خير وشر، ويعدّ لكل جزاء، كمن ليس كذلك وهو الصنم؟ ثم ابتدأ السياق بقوله تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أو تقديره: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحّدوه وجعلوا له شركاء، أو التقدير: أفمن كان بهذه الصفة يغفل عن أهل مكّة وأقوالهم وأفعالهم، وجعلوا لله شركاء. فإن قيل: كيف اتصل قوله تعالى في الآية نفسها: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ بما قبله، وهو قوله تعالى وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ [الآية 36] .
قلنا: هو جواب للمنكرين، معناه:
قل إنما أمرت فيما أنزل اليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به. فإنكارهم لبعضه إنكار لعبادة الله تعالى وتوحيده، كذا أجاب به الزمخشري، وفيه نظر.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أثبت لهم مكرا، ثم نفاه عنهم، بقوله تعالى في الآية نفسها: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً [الآية 42] ؟
قلنا: معناه أن مكر الماكرين مخلوق له، ولا يصير إلا بإرادته فبهذه الجهة، صحت إضافة مكرهم إليه سبحانه. الثاني: أنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة الى مكره، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون، فيعكس مكرهم عليهم، فإثباته لهم باعتبار الكسب، ونفيه عنهم باعتبار الخلق.(4/216)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرّعد» «1»
قوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الآية 5] . و (جديد) استعارة. لأن أصله هاهنا مأخوذ من الجدّ، وهو القطع.
يقال: قد جدّ الثوب، فهو جديد بمعنى مجدود. إذا قطع من منسجه، أو قطع لاستعمال لابسه. والمراد، والله أعلم، إنّا لفي خلق جديد، أي قد فرغ من استئنافه، وأعيد الى موضع ثوابه وعقابه، فصار كالثوب الذي قطع «2» منسجه بعد الفراغ من عمله.
وقوله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الآية 6] . وهذه استعارة. والمراد بها مضيّ المثلاث، وهي «العقوبات» للأمم السالفة من قبلهم، وتقدّمها أمامها. وقولهم:
خلت الدار. أي مضى سكانها عنها.
وخلوا هم. أي مضوا عن الدار وتركوها. وقولهم: القرون الخالية، أي الماضية.
والعقوبات على الحقيقة لم تمض «3» ، وإنما مضى المعاقبون بها.
فكأنهم ذكّروا بالعقوبات الواقعة قبلهم، ليعتبروا بها.
وقوله سبحانه:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هكذا بالأصل ولعلّها. قطع من منسجه.
(3) . في الأصل: لم يمض وهو تحريف من الناسخ. والعقوبات هي المثلات التي قال الله فيها إنها قد خلت من قبلهم.(4/217)
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ [الآية 8] . وهذه استعارة عجيبة. لأن حقيقة الغيض إنما يوصف بها الماء دون غيره. يقال: غاض الماء وغضته «1» ، ولكن النطفة لمّا كانت تسمّى ماء، جاز أن توصف الأرحام بأنها تغيضها في قرارتها، وتشتمل على نفاعاتها «2» . فيكون ما غاضته من ذلك الماء سببا لزيادة، بأن يصير مضغة، ثم علقة ثم خلقة مصوّرة. فذلك معنى قوله تعالى: وَما تَزْدادُ. وقيل أيضا: معنى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ.
أي ما تنقص بإسقاط العلق، وإخراج الخلق. ومعنى: وَما تَزْدادُ أي ما تلده لتمام، وتؤدي خلقه على كمال.
فيكون الغيض هاهنا عبارة عن النقصان، والازدياد عبارة عن التمام.
وقوله سبحانه: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الآية 13] . وهذه استعارة. لأن التسبيح في الأصل تنزيه الله سبحانه عن شبه المخلوقات، وتبرئته من مدانس الأعمال، وقبائح الأفعال. وهذا لا يتأتّى من الرعد، الذي هو إصكاك أجرام السحاب بعضها ببعض.
فالمراد، والله أعلم، أنّ أصوات الرعود تقوى بها الدلالة على عظيم قدرة الله سبحانه، وبعده عن شبه الخليقة المقدّرة، وصفات البرية المدبّرة. إذ كان الرعد كما قلنا إنما تغلظ أصواته، وتعظم هزّاته على حسب تعاظم صفحات السحاب الممتدّة، وتراكم الغيوم المطبقة. وهي مع هذه الأحوال، من ثقل أجرامها، وتكاثف غمامها معلّقة بمناطات الهواء الرقيق، لولا دعائم القدرة وسماكها، وعلائق الجبريّة ومساكها، لما حمل عشر معشارها، ولا استقل ببعض أجزائها.
ومن عجيب أحواله أنه أيضا مع ما ذكرنا من تثاقل أردافه، وتعاظل «3» التفافه ينفشّ «4» انفشاش الهباء
__________
(1) . غاض الماء: نقص. وغضته أنا أي نقصته.
(2) . النفاعات: جمع نفاعة وهو الشيء الذي ينتفع به.
(3) . التعاظل: هو تكاثر الشيء وركوب بعضه فوق بعض. ومنه المعاظلة في الكلام أي تعقيده وموالاة بعضه فوق بعض.
(4) . انفشّ: أي سكن ولان بعد شدة.(4/218)
المتداعي، والغثاء المتلاشي. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
ومعنى تسبيح الرعد بحمده سبحانه:
دلالته على أفعاله التي يستحق بها الحمد، كما يقول القائل: هذه الدار تنطق بفناء أهلها. أي تدل على ذلك بخلاء ربوعها، وتهدّم عروشها.
وقد يجوز أن يكون معنى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أن الرعد يضطر الناس الى تسبيح الله سبحانه عند سماعه، فحسن وصفه بالتسبيح لأجل ذلك، إذ كان هو السبب فيه. وهذا معروف في كلامهم.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) . وهذه استعارة. لأن أصل السجود في اللغة الخضوع والتذلّل. إمّا باللسان الناطق عن الجملة أو بآثار الصنعة وعجائب الخلقة. ثم نقل فصار اسما لهذا العمل المخصوص الذي هو من أركان الصلاة، لأنه يدل على تذلّل الساجد لخالقه، بتطامن شخصه، وانحناء ظهره. وقد ذكر في بعض الأخبار أن جدنا جعفر «1» بن محمد عليهما السلام سئل عن العلّة فيما كلف الله سبحانه من أعمال الصلاة وسائر العبادات، فقال: أراد الله سبحانه بذلك إذلال الجبّارين. فإذا تمهّد ما ذكرنا، كان في ذكر «الضلال» فائدة حسنة، وهو أن الظل الذي هو في سجود الشخص وهو غير قائم بنفسه، إذا ظهرت فيه أعلام الخضوع للخالق تعالى، بما فيه من دلائل الحكمة وعجائب الصنعة، كان ذلك أعجب من ظهور هذه الحال في البنية القائمة بنفسها، والمعروفة بشخصها.
وقوله سبحانه: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) . وهذه استعارة.
والمراد بضرب الأمثال، والله أعلم، معنيان: أحدهما أن يكون تعالى أراد
__________
(1) . جعفر بن محمد، هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهم.
وهو سادس الأئمة الاثني عشر. وكان واسع العلم، أخذ عنه أبو حنيفة ومالك وجابر بن حيّان. ولقب بالصادق لأنه لم يعهد عليه كذب قطّ. توفي سنة 148 هـ بالمدينة.(4/219)
بضربها تسييرها في البلاد، وإدارتها على ألسنة الناس. من قولهم: ضرب فلان في الأرض. إذا توغّل فيها وأبعد في أقاصيها. ويقوم قوله تعالى:
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) مقام قوله ضرب بها في البلاد.
والمعنى الآخر في ضرب المثل، أن يكون المراد به نصبه للنّاس بالشهرة، لتستدل عليه خواطرهم، كما تستدل على الشيء المنصوب نواظرهم. وذلك مأخوذ من قولهم: ضربت الخباء إذا نصبته، وأثبت طنبه «1» ، وأقمت عمده، ويكون قوله سبحانه: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ [الآية 17] . الى هذا الوجه. أي ينصب منارهما، ويوضح أعلامهما، ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه، ويعرفوا الباطل فيجتنبوه.
وقوله سبحانه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الآية 33] وهذه استعارة. والمراد به أنه تعالى محص على كل نفس ما كسبت، ليجازيها به. وشاهد ذلك قوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران/ 75] . أي ما دمت له مطالبا، ولأمره مراعيا، لا تمهله للحيلة، ولا تنظره للغيلة «2» .
وإذا لم يصح إطلاق صفة القيام على الله سبحانه حقيقة، فإن المراد بها قيام إحصائه على كل نفس بما كسبت، ليطالبها به، ويجازيها عنه بحسبه.
والقيام والدوام هاهنا بمعنى واحد.
والماء الدائم هو القائم الذي لا يجري.
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الآية 41] .
وهذه استعارة. وقد اختلف الناس في المراد بها، فقال قوم: معنى ذلك نقصان أرض المشركين، بفتحها على المسلمين. وقال آخرون: المراد بنقصانها موت أهلها، وقيل موت علمائها.
وعندي في ذلك قول آخر، وهو أن يكون المراد بنقص الأرض، والله
__________
(1) . الطّنّب: حبل طويل يشد به سرادق البيت. والجمع أطناب.
(2) . الغيلة بكسر الغين: الخديعة والاحتيال. [.....](4/220)
أعلم، موت كرامها. وتكون الأطراف هاهنا جمع طرف. لا جمع طرف، والطّرف هو الشيء الكريم. ومنه سمّي الفرس طرفا، إذ كان كريما. وعلى ذلك قول أبي الهندي «1» الرياحي:
شربنا شربة من ذات عرق ... بأطراف الزجاج من العصير
أي بكرائم الزجاج. ولم يمض في هذا القول لأحد.
__________
(1) . في الأصل: أبو الهند وهو تحريف من الناسخ. واسمه عبد المؤمن بن عبد القدوس، وهو من بني زيد بن رياح. وقد ترجم له ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» ص 663 من طبعة عيسى الحلبي، بتحقيق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر، وذكر صاحب «العقد الفريد» خبرا له، وطرفا من أقواله ونوادر شرابه. جزء 6 ص 342.(4/221)
سورة ابراهيم 14(4/223)
المبحث الأول أهداف سورة «إبراهيم» «1»
سورة إبراهيم سورة مكّيّة.
موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكّيّة الغالب، وهو العقيدة في أصولها الكبيرة. وتشمل الرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء.
ولكن السياق في هذه السورة يسلك نهجا خاصا في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصلية، نهجا مفردا يميزها عن غيرها من السور، يميزها بجوها، وطريقة أدائها، والحقائق الكبرى التي تتضمنها، ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى، ولكنها تعرض من زاوية خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوّها، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا. فيحسبها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد، وذلك من الإعجاز القرآني في طريقة الأداء.
ويبدو أنه كان لأسلوب السورة من اسمها نصيب.. إبراهيم: أبو الأنبياء، المبارك، الشاكر، الأوّاب، المنيب.
وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جوّ السورة وفي الحقائق التي تبرزها، وفي طريقة الأداء، وفي التعبير والإيقاع.
ولقد تضمّنت السورة حقائق رئيسية عدّة في العقيدة، ولكن حقيقتين كبيرتين تظهران أكبر من غيرهما في سورة إبراهيم:
الحقيقة الأولى: وحدة الرسالة
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(4/225)
والرسل ووحدة دعوتهم. ووقفتهم أمّة واحدة في مواجهة الفرقة المكذّبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمنة.
والحقيقة الثانية: بيان نعمة الله على البشر وزيادة النعمة بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران.
تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وبيان هدف القرآن. وهذه الوظيفة هي هداية الناس، وإبطال عادات الجاهلية وقيمها. وإرساء معالم التوحيد والعدالة والمساواة. قال تعالى:
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) .
وتختم السورة بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة، حقيقة التوحيد في قوله تعالى:
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) .
وفي أثناء السورة نجد أن موسى (ع) قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد (ص) وللهدف نفسه، وهو إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 5] .
وتذكر السورة أن وظيفة الرسل عامة، هي بيان الحق وتوضيح طريق الهداية إلى الله، قال تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [الآية 4] .
وتبين السورة أن الرسول بشر يوحى إليه، وأن بشريته هي التي تحدد وظيفته، فهو مبلّغ ومنذر وناصح ومبيّن ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة أو معجزة إلّا بإذن الله، وحين يشاء الله، لا حين يشاء هو أو قومه ولا يملك الرسول أن يهدي قومه أو يضلّهم:
فالهدى والضلال متعلّقان بسنّة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة. ولقد كانت بشرية الرسل موضع الاعتراض من الأقوام جميعهم في جاهليتهم.
والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين:
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) .
وتحكي ردّ رسلهم كذلك مجتمعين:
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ(4/226)
مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(11) .
ويتضمن السياق كذلك، أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنّما يكون بِإِذْنِ اللَّهِ.
وكلّ رسول يبين لقومه فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) .
وبهذا أو ذاك تتحدّد حقيقة الرسول، فتتحدّد وظيفته في نطاق هذه الحقيقة ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرّد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة، كذلك تتضمن السورة تحقّق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقّا، ويتحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف، وفي الآخرة بعذاب المكذّبين ونعيم المؤمنين.
ويصوّر السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) .
وحدة الرسالات السماوية في سورة إبراهيم
الظاهرة البارزة في سورة إبراهيم أنها تتحدث عن الرسل جميعا كأنهم أصحاب فكرة واحدة وهدف واحد، وكأن جواب قومهم كان جوابا موحّدا، في العصور والأحوال جميعها.
وتعرض السورة هذه الفكرة بطريقة فريدة في الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي ثم يجيء رسول ورسول. كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته ويصيب المكذّبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك، كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ(4/227)
الرسالات الأولى، وأقرب مثل لهذا النسق سورة هود، فأما سورة إبراهيم- أبي الأنبياء- فتجمع الأنبياء كلهم في صف، وتجمع المكذّبين كلهم في صف، وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطوتها كذلك في يوم الحساب.
ونبصر مشهد أمّة الرسل، وفرقة المكذبين في صعيد واحد على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أمّا الحقيقة الكبرى في هذا الكون- حقيقة الإيمان والكفر- فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان.
قال تعالى:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) .
فهاهنا تتجمّع الأجيال من لدن نوح (ع) ، وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى:
حقيقة الرسالة وهي واحدة واعتراضات المكذّبين وهي واحدة، وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة، وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة، وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبّرين وهي واحدة، وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة.
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا، بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوّعة التي تتضمنها السورة وهي تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة ولا انفصال بينهما، ولكن تكمل إحداهما الأخرى.
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة إبراز معالم المعركة(4/228)
بين الفريقين، ونتائجها الأخيرة، مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة: شجرة النبوّة وشجرة الإيمان، وشجرة التوحيد والخير، والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة: شجرة الباطل والتكذيب والشر والطغيان. فالتوحيد وكلمته: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
أصله ثابت موصول بالله وفرعه مرتفع إلى السماء ويؤتي ثماره كل حين بالصلاة والزكاة وسائر العبادات والأعمال النافعة في الدنيا والآخرة. أما شجرة الكفر فلا أصل لها تعتمد عليه، فهي تمثّل الباطل في الدنيا، والخيبة في الآخرة.
قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) .
المقطع الثاني من سورة إبراهيم
تنقسم سورة إبراهيم الى مقطعين متماسكي الحلقات:
المقطع الأول: يتضمّن بيان حقيقة الرسل، ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا والآخرة، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، وقد تحدثنا عن هذا المقطع.
والمقطع الثاني: من سورة إبراهيم يتحدث عن نعم الله على البشر، والذين كفروا بهذه النعم وبطروا، والذين آمنوا بها وشكروا، ونموذجهم الأول هو ابراهيم (ع) ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله، في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها، وأحفلها بالحركة والحياة.
نعم الله
لقد عدّد الله سبحانه نعمه على البشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، برّهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل، أن يتيح للكافر(4/229)
والفاجر والعاصي نعمة في هذه الأرض كالمؤمن والبار والطائع، لعلّهم يشكرون: ويعرض هذه النعم في أضخم مجالي الكون وأبرزها، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) .
وفي إرسال بعث الرسل نعمة تعدل تلك أو تربو عليها:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 1] .
والنور أجلى نعم الله في الوجود، والنور هنا هو النور الأكبر، النور الذي يشرق به كيان الإنسان، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه. وكذلك كانت وظيفة موسى (ع) في قومه، ووظيفة الرسل كما بينتها السورة. وفي قول الرسل مجتمعين:
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 10] .
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور، وهي منه قريب:
وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل.
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ.
وهي نعمة. ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر:
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) .
مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين:
إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) .
ويقرر السياق، أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) .
ولكن الذين يتدبّرون آيات الله،(4/230)
وتتفتح لها بصائرهم، يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) .
ويتمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم (ع) حين يقف خاشعا، ويدعو ربه عند البيت الحرام، دعاء مخلصا، كله حمد وشكر، وصبر وإيمان:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) .
ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها، تطبع جو السورة فإن التعبيرات والتعليقات تجيء فيها متناسقة مع هذا الجو، في قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) .
وقوله سبحانه:
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الآية 6] .
وفي ردّ الأنبياء على اعتراض المكذّبين بأنهم بشر، يجيء قوله سبحانه:
وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الآية 11] .
فيبرز منة الله، تنسيقا للرد مع جوّ السورة كله، جو النعمة والمنّة والشكر والكفران وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع الفكرة العامة للسورة، على طريقة التناسق الفني في القرآن.(4/231)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «إبراهيم» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة إبراهيم بعد سورة نوح، وهي من السور التي نزلت بمكّة بعد الإسراء، فيكون نزولها مثلها بعد الإسراء وقبيل الهجرة، وعلى هذا تكون من السور المكّيّة. وقيل إنها من السور المدنيّة، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد، ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء. إنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ، فيكون فيه فائدة عظيمة.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة إبراهيم (ع) بمكة فيها، وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة بيان الغرض من نزول القرآن، وهو هداية الناس بالترغيب في الثواب والترهيب من العقاب. وقد افتتحت هذه السورة ببيان هذا الغرض، ثم انتقل من هذا إلى بيان موافقة القرآن للكتب المنزلة قبله في هذا الغرض، ثم انتقل من هذا إلى تحذير مشركي مكة من تكذيبه بما حصل للمكذّبين قبلهم وبهذا ينقسم سياق هذه السورة إلى هذه الأقسام الثلاثة.
وقد جعلت بعد سورة الرّعد لأنها
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/233)
تشبهها في غرضها، وفي افتتاحها بالحروف التي افتتحت بها.
نزول القرآن للترغيب في الإيمان والتحذير من الكفر الآيات [1- 3]
قال الله تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) ، فأقسم، بهذه الحروف، على أنه كتاب أنزله إليه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهذا هو طريق الترغيب. ثم حذر الذين يكفرون به من عذاب شديد. وهذا هو طريق الترهيب ثم ذكر سبحانه أن الذين يكفرون به هم الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) .
اتحاد الغرض من الكتب المنزلة الآيات [4- 18]
ثم قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) فذكر أنّ إنزال القرآن لأجل هداية الناس هو شأن الكتب المنزلة قبله، وفصّل هذا الإجمال بما كان من إرسال موسى (ع) إلى بني إسرائيل لإخراجهم من الظلمات إلى النور، فذكّرهم بأيام العذاب التي مرت على الأمم قبلهم، وبنعمة الله عليهم إذ أنجاهم من آل فرعون، وأخبرهم بأنهم إن شكروا الله زادهم من نعمته، وإن كفروا به عاقبهم بشديد عذابه، وبأنهم إن يكفروا هم ومن في الأرض جميعا، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) .
ثم ذكر جلّ وعلا، أن هذا كان أيضا شأن قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، وأن رسلهم جاءتهم بالبينات فكفروا بهم، وشكّوا فيما يدعونهم إليه من الإيمان بالله وحده، وأن رسلهم ردّوا عليهم بأنه لا يصحّ الشكّ في الله سبحانه، وهو فاطر السماوات والأرض، إلى غير ذلك من الجدال الذي دار بينهم ثم ذكر أنهم لجئوا، بعد هذا الجدال، الى تهديد رسلهم بأن يخرجوهم من أرضهم أو يعودوا في ملّتهم، وأنه أوحى إلى رسلهم، أنه سيهلكهم ويسكنهم الأرض من بعدهم، ثم ذكر ما عاقبهم به في الدنيا(4/234)
والآخرة، وضرب مثلا لحبوط أعمالهم في الآخرة، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) .
ترهيب المشركين وترغيبهم الآيات [19- 52]
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) فذكر في ترهيبهم أنه خلق السماوات والأرض بالحق، فهو قادر على أن يهلكهم كما أهلك أولئك الأقوام ويأتي بخلق غيرهم يؤمنون به، ثم ذكر ما يكون من إعادتهم بعد هلاكهم وبروزهم له، وما يكون من سؤال الضعفاء للمستكبرين أن يغنوا عنهم شيئا من عذابه، وما يجيب المستكبرون من أنه لا مفرّ منه جزعوا أو صبروا، وما يكون من تبرّؤ الشيطان منهم وإيقاعه اللوم عليهم لسماعهم لإغوائه وإعراضهم عن نصح الله لهم، ثم ذكر ما أعده للمؤمنين من جنات تجري من تحتها الأنهار، على سنّته في ذكر وعده بعد وعيده.
ثم ضرب، في ترغيبهم وترهيبهم، مثلا لحال المؤمنين وحالهم، فشبّه الإيمان به جلّ شأنه، بشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمرها دائم لا ينقطع. وشبّه الكفر به بشجرة خبيثة ليس لها أصل ولا عرق ولا ثمر ورتّب على ذلك أن صاحب الحال الثابت، يثبّته الله في الدنيا وفي الآخرة، وصاحب الحال الذي لا ثبات له يضلّه الله فلا يهتدي.
ثم ذكر تبديلهم نعمته عليهم بسكنى حرمه كفرا به، وجعلهم له أندادا ليضلّوا عن سبيله وأمرهم أمر تهديد أن يتمتّعوا بنعيم الدنيا فإن مصيرهم إلى النار، وأمر المؤمنين أن يخالفوهم في ذلك فيقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقهم من قبل أن يأتيهم يوم لا ينفعهم فيه إلّا ما قدمت أيديهم ثم ذكر من نعمه العامة عليهم وعلى غيرهم بعد تلك النعمة الخاصة، أن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، إلى غير هذا من نعمه التي لا تحصى ولا تعدّ، ولا(4/235)
يصحّ أن يقابلوها باتخاذ أنداد له، سبحانه.
ثم عاد السياق إلى ذكر تلك النعمة الخاصة فشرحها وبيّن كيف بدّلوا فيها فذكر أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكّة بلدا آمنا، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه شكا لربه أنه أسكن ذريته من ابنه إسماعيل بواد غير ذي زرع عند بيته المحرّم ليعبدوه فيه، وأنه سأله أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم بالحجّ وغيره، إلى غير هذا ممّا حكاه عنه.
ثم عاد السياق إلى ترهيبهم، فذكر أنه سبحانه، ليس بغافل عمّا يفعلون، وأنه يؤخّر عذابهم ليوم تشخص فيه أبصارهم من شدته، وأنه إذا أتاهم يسألونه أن يؤخّرهم إلى أجل قريب ليجيبوا دعوته ويتّبعوا رسله، وأنه يجيبهم بتذكيرهم بأنهم كانوا يقسمون من قبل: ما لهم من زوال إلى حياة أخرى وبأنهم سكنوا في مساكن الذين كذّبوا قبلهم، وتبيّن لهم ما فعل بهم، فلم يعتبروا بما حصل لهم. ثم ذكر أنهم قد مكروا مكر أولئك الذين سكنوا في مساكنهم، وأنه ليس بغافل عن مكرهم ونهى النبي (ص) أن يظن أنه مخلف وعده بعذابهم ثم ذكر أنه سيأتي يوم تبدّل فيه الأرض غير الأرض، ويبرزون إليه مقرّنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار وأنه سبحانه يعيدهم في ذلك اليوم ليجزي كل نفس ما كسبت، إنه سريع الحساب هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) .(4/236)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «إبراهيم» «1»
أقول: وجه وضعها بعد سورة الرّعد، أن قوله تعالى في مطلعها:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ [الآية 1] مناسب لقوله: في مقطع تلك: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) [الرعد] . على أن المراد ب (من) هو: الله تعالى جل جلاله.
وأيضا ففي الرعد: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [الرعد/ 32] . وذلك مجمل في أربعة مواضع: الرسل، والمستهزئين، وصفة الاستهزاء، والأخذ. وقد فصّلت الأربعة في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ [الآية 9] إلى قوله: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.(4/237)
المبحث الرابع مكنونات سورة «إبراهيم» «1»
1- كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [الآية 24] .
هي النّخلة «2» .
2- كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [الآية 26] .
هي الحنظلة «3» .
وقيل: الثوم. حكاه ابن عسكر.
3- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [الآية 28] . قال عليّ بن أبي طالب: هم كفّار قريش. أخرجه النّسائي «4» . وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال: هم قريش ومحمد النعمة.
4- رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [الآية 37] .
هو إسماعيل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . روى البخاري [62] في العلم و (4698) في التفسير، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «كنّا عند رسول الله (ص) فقال: أخبروني بشجرة تشبه، أو كالرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها ولا تؤتي أكلها كل حين؟ قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهت أن أتكلّم. فلمّا لم يقولوا شيئا، قال رسول الله (ص) : هي النخلة. فلمّا قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. فقال: ما منعك أن تتكلّم؟ قال لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا. قال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إلي من كذا وكذا» .
(3) . أخرج الحاكم من حديث أنس: «الشجرة الطيبة النخلة، والشجرة الخبيثة الحنظلة» . انظر «فتح الباري» 8/ 378 و «المستدرك» للحاكم 2/ 352.
(4) . والحاكم: وقال: صحيح عال 2/ 352 وانظر «الدر المنثور» 4/ 85، و «مجمع الزوائد» 7/ 44. وفي البخاري (4700) عن ابن عباس: أنهم كفار أهل مكّة.(4/239)
5- بِوادٍ [الآية 37] .
هو مكّة «1» .
6- وَلِوالِدَيَّ [الآية 41] .
تقدّم اسم أبيه في سورة الأنعام «2» .
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: أبو إبراهيم: آزر وأمّه اسمها: مشاني وامرأته اسمها: سارة، وأمّ إسماعيل اسمها: هاجر وقيل: اسم أمّه نوفا، وقيل: ليوثا.
__________
(1) . انظر «الدر المنثور» 4/ 87.
(2) . عند قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الأنعام/ 74] .(4/240)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «إبراهيم» «1»
1- قال تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الآية 6] .
قالوا: سامه الأمر سوما: كلّفه إيّاه، وقال الزجّاج: أولاه إيّاه، وأكثر ما يستعمل في العذاب والشرّ والظلم.
وجاء في كتاب العين: السّوم أن تجشّم إنسانا مشقّة، أو سوءا، أو ظلما.
أقول: وأصل السّوم من قولهم:
سامت الناقة سوما، والسّوم عرض السلعة على البيع، والسّوم في المبايعة.
غير أن ما في لغة التنزيل هو ضرب من المجاز اللطيف وهو من لطفه، كأنه يبتعد عن الأصل.
2- وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [الآية 7] .
قوله تعالى: تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، أي: أذّن ربكم، ونظير تأذّن: توعّد وأوعد وتفضّل وأفضل.
أقول: الغالب في بناء «تفعّل» مجيئه لازما، نحو تكسّر، وتحطّم، وتستّر، وغيره كثير، وهو في هذا قد يأتي مطاوعا للمتعدي، نحو: هدمه فتهدّم.
غير أنه قد يأتي متعدّيا، وليس مجيئه متعدّيا من الندور، نحو تعلّم وتعجّل، وغير ذلك.
3- وقال تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) .
أقول: والأصل «وعيدي» واجتزئ
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(4/241)
بالكسرة عن ياء المتكلم لأن «وعيدي» نهاية الآية التي يوقف عليها، فإذا وقف كان الوقف بالسكون، وطيّ الكسرة لأجل الوقف أسهل من طيّ المدّ الطويل الذي يكون بإثبات الياء.
وقد مر بنا شيء من هذا في آيات أخرى.
4- وقال تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [الآية 21] .
أقول: جاء رسم «الضعفاء» في المصحف الشريف الضّعفاوء بواو قبل الهمزة، وهذا الرسم يشير إلى من يفخّم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو.
ونظيره: علماؤا بنى إسرائيل (197) [الشعراء] .
وفي هذا فائدة، في أنّ رسم المصحف يهدي إلى فوائد تاريخية تتصل بأصوات القرآن، وكيف أعرب عنها لدى طائفة من أهل التلاوة.
5- وقال تعالى: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) . أقول: المحيص هو المنجى والمهرب، والفعل حاص يحيص.
وهو اسم مكان أو مصدر كالمغيب والمشيب.
ومن المفيد أن نشير إلى أن الفعل من هذا الاسم لم يبق شيء منه في العربية المعاصرة، بل احتفظت به العاميّة في العراق ولا سيما في الحواضر، يقال: هو لا يحيص أو ما يحيص، أي: ما يتحرك وليس له أن يفلت.
6- وقال تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) .
قال الزمخشري «1» :
أي: أن الناس يخرجون في ذلك اليوم أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله تعالى:
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) [الليل] ، فلا
__________
(1) . «الكشاف» 2/ 556.(4/242)
يفعله إلّا المؤمنون الخلّص، فبعثوا عليه، ليأخذوا بدله، في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالّة، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات.
7- وقال تعالى: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [الآية 37] .
وقوله تعالى: تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي:
تسرع إليهم، وتطير نحوهم شوقا ونزاعا، كقول أبي كبير الهذلي:
وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوي مخارمها هويّ الأجدل
وقرئ: تهوى إليهم، على البناء للمفعول.
أقول: واستعمال «تهوي» في الآية استعمال في المجاز، ذلك أنّ الأفئدة تميل وتجنح إليهم شوقا، وليس «الهويّ» على حقيقته، وهو السقوط.
والذي بقي من استعمال هذا الفعل، هو المعنى الحقيقي.
8- وقال تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) . والإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئيّ، تديم النظر إليه لا تطرف.
و «مقنعي رؤوسهم» أي: رافعيها.
«وأفئدتهم هواء» ، أي: خلاء لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء، إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جرأة، قال حسان يهجو أبا سفيان:
ألا أبلغ أبا سفيان عنّي ... فأنت مجوّف نخب هواء
فكون الأفئدة هواء أي: صفرا من الخير.
9- وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) .
«إن» هنا في الآية نافية، واللام مؤكّدة لها.
والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم.
وهذه الآية شاهد آخر في مجيء «إن» النافية التي أشرنا إليها، وبسطنا فيها القول.(4/243)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «إبراهيم» «1»
قرئ قوله تعالى: يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ [الآية 3] بوصل الفعل ب «على» كما قالوا «ضربوه في السيف» يريدون «بالسيف» . وذلك أن هذه الحروف يوصل بها كلّها، وتحذف نحو قول العرب: «نزلت زيدا» تريد «نزلت عليه» .
وقال تعالى: مِنْ وَرائِهِ [الآية 16] أي: من أمامه. وإنما قال: وراء أي: أنه وراء ما هو فيه، كما تقول للرجل: «هذا من ورائك» أي: «سيأتي عليك» و «هو من وراء ما أنت فيه» لأنّ ما أنت فيه قد كان مثل ذلك، فهو وراؤه. وقال سبحانه: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف/ 79] في هذا المعنى.
أي: كان وراء ما هم فيه «2» .
وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 18] أي: «وممّا نقصّ عليكم مثل الذين كفروا» ثم فسّر سبحانه كما في قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرّعد/ 35 ومحمّد/ 15] وهذا كثير.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [الآية 22] وهذا استثناء خارج، كما تقول:
«ما ضربته إلّا أنّه أحمق» وهو الذي في معنى «لكنّ» .
وقال تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [الآية 22] فتحت ياء الإضافة لأنّ قبلها ياء الجميع الساكنة التي كانت في
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . ورد في مجاز القرآن 1/ 337. [.....](4/245)
«مصرخيّ» ، فلم يكن من حركتها بدّ لأنّ الكسر من الياء.
وقرأ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [الآية 24] منصوبة على ضَرَبَ كأنّ الكلام «وضرب الله كلمة طيّبة مثلا» .
وقال تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) وفي موضع آخر وَلا خُلَّةٌ [البقرة/ 254] وإنّما «الخلال» لجماعة «الخلّة» كما تقول: «جلّة» و «جلال» ، و «قلّة» و «قلال» . وقال الشاعر [من المتقارب، وهو الشاهد الخامس والعشرون] :
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
ولو شيت جعلت «الخلال» مصدرا لأنها من «خاللت» مثل «قاتلت» ومصدر هذا لا يكون إلا «الفعال» أو «المفاعلة» .
وقال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [الآية 34] أي: آتاكم من كلّ شيء سألتموه شيئا» بإضمار الشيء، كما في قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل/ 23] أي: «أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئا» »
قال بعضهم:
«إنما ذا على التكثير» نحو قولك: «هو يعلم كلّ شيء» و «أتاه كلّ الناس» وهو يعني بعضهم: وكذلك فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام/ 44] . وقال بعضهم: «ليس من شيء إلّا وقد سأله بعض الناس، فقال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي: «من كلّ ما سألتموه قد آتى بعضكم منه شيئا، وآتى آخر شيئا ممّا قد سأل» .
وكذلك قوله تعالى: إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ [الآية 37] أي: «أسكنت من ذرّيّتي أناسا» «2» ودخلت الباء على «واد» كما تقول: «هو بالبصرة» و «هو في البصرة» .
ونوّن بعضهم مِنْ كُلِّ [الآية 34] «3» فقرأ (من كلّ) ثم قال «لم
__________
(1) . نقله في زاد المسير 4/ 364، وإعراب القرآن 2/ 544، والجامع 9/ 367.
(2) . نقله في إعراب القرآن المنسوب للزجاجي 2/ 475.
(3) . في الطبري 13/ 226 الى الضحّاك بن مزاحم وقتادة، وفي الشواذ 68 الى ابن عباس والحسن وجعفر بن محمد وسلام بن المنذر، وفي المحتسب 1/ 363 الى ابن عباس والضحّاك والإمام محمد بن علي والإمام جعفر بن محمد وعمرو بن فائد ويعقوب، وفي الجامع 9/ 367 الى ابن عباس والضحّاك والحسن وقتادة، وفي البحر 5/ 428 الى ابن عباس والضحاك والحسن والإمام محمد بن علي والإمام جعفر بن محمد وعمر بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية.(4/246)
تسألوه إيّاه» كما تقول: «قد سألتك من كلّ» و «قد جاءني من كلّ» لأن «كلّ» قد تفرد وحدها.
وقال تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [الآية 25] ومثل ذلك أُكُلُها دائِمٌ [الرعد/ 35] و «الأكل» هو: الطعام و «الأكل» هو: «الفعل» .
وقال تعالى: تَهْوِي إِلَيْهِمْ [الآية 37] منصوب، زعموا أنه في التفسير «تهواهم» .
وقوله تعالى: مُهْطِعِينَ [الآية 43] على الحال وكذلك مُقْنِعِي [الآية 43] كأنّ السياق: «تشخص أبصارهم مهطعين» وجعل «الطرف» «1» للجماعة، كما في قوله سبحانه:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر] .
وقرئ قوله تعالى: مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [الآية 47] بالإضافة الى الأول ونصب الآخر على الفعل، ولا يحسن أن نضيف إلى الآخر لأنه يفرق بين المضاف والمضاف إليه، وهذا لا يحسن. ولا بدّ من إضافته لأنه قد ألقى الألف، ولو كانت «مخلفا» نصبهما جميعا، وذلك جائز في الكلام. ومثله «هذا معطي زيد درهما» و «معط زيدا درهما» .
وواحد الْأَصْفادِ (49) صفد.
__________
(1) . من قوله تعالى في الآية نفسها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.(4/247)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «إبراهيم» «1»
إن قيل: قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [الآية 4] هذا في حق غير النبي (ص) من الرسل مناسب، لأن غيره لم يبعث إلى الناس كافّة بل إلى قومه فقط، فأرسل بلسانهم ليفقهوا عنه الرسالة ولا تبقى لهم الحجّة بأنا لم نفهم رسالتك. فأما النبي (ص) فإنه بعث إلى الناس كافّة، قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف/ 158] ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ/ 28] .
فإرساله بلسان قومه إن كان لقطع حجّة العرب، فالحجة باقية لغيرهم من أهل الألسن الباقية، وإن لم يكن لغير العرب حجّة، أن لو نزل القرآن بلسان غير العرب يكن للعرب الحجة.
قلنا: نزوله على النبي (ص) بلسان واحد كاف، لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغني عن نزوله لجميع الألسن، ويكفي التطويل كما جرى في القرآن العزيز. الثاني: أن نزوله بلسان واحد أبعد عن التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والخلاف. الثالث: أنه لو نزل بألسنة كل الناس وكان معجزا في كلّ واحد منها، وكلّم الرسول العربي كلّ أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها لكان ذلك أمرا قريبا من القسر والإلجاء وبعثة الرسل لم تبن على القسر والإلجاء، بل على التمكين من الاختيار، فلما كان نزوله بلسان واحد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/249)
كافيا، كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه وأفهم عنه.
فإن قيل: لم قال تعالى في سورة البقرة يُذَبِّحُونَ [الآية 49] وفي سورة الأعراف يُقَتِّلُونَ [الآية 141] بغير واو فيهما، وقال هنا وَيُذَبِّحُونَ [الآية 6] بالواو، والقصة واحدة؟
قلنا: حيث حذف الواو جعل التذبيح والتقتيل تفسيرا للعذاب وبيانا له، وحيث أثبتها جعل التذبيح كأنه جنس آخر غير العذاب، لأنه أوفى على بقية أنواعه، وزاد عليها زيادة ظاهرة، فعلى هذا يكون إثبات الواو أبلغ.
فإن قيل: ما معنى التبعيض في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 10] ؟
قلنا: ما جاء هذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله تعالى في سورة نوح عليه السلام: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 4] وقوله تعالى في سورة الأحقاف: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الآية 31] وقال تعالى في خطاب المؤمنين في سورة الصفّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الآية 10] إلى قوله تعالى من الآية نفسها: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصفّ/ 12] وقال تعالى في آخر سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وكذا باقي الآيات في خطاب الفريقين إذا تتبعتها، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين لئلا يسوّى بين الفريقين في الوعد مع اختلاف رتبتهما، لا لأنه يغفر للكفّار مع بقائهم على الكفر بعض ذنوبهم والذي يؤيد ما ذكرناه من العلة، أنه في سورة نوح عليه السلام، وفي سورة الأحقاف، وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان مطلقا. وقيل معنى التبعيض أنه يغفر لهم ما بينهم وبينه، لا ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها. وقيل «من» زائدة.
فإن قيل: لم كرر تعالى الأمر بالتوكّل، ولم قال أوّلا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وقال ثانيا:
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ؟
قلنا: الأمر الأول لاستحداث التوكّل، والثاني لتثبيت المتوكّلين على ما استحدثوا من توكلهم فلهذا كرره،(4/250)
وقال أولا «المؤمنون» وثانيا «المتوكلون» .
فإن قيل: لم قالوا لرسلهم كما ورد في التنزيل: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الآية 13] والرسل لم يكونوا على ملّة الكفار قطّ والعود هو الرجوع إلى ما كان فيه الإنسان؟
قلنا: العود في كلام العرب يستعمل كثيرا بمعنى الصيرورة، يقولون: عاد فلان يكلّمني، وعاد لفلان مال وأشباه ذلك، ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) [يس] . الثاني:
أنهم خاطبوا الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد واعتقادهم أن الرسل كانوا أوّلا على ملل قومهم ثم انتقلوا عنها. الثالث: أنهم خاطبوا كل رسول ومن آمن به فغلّبوا في الخطاب الجماعة على الواحد، ونظير هذا السؤال ما سبق في سورة الأعراف من قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الآية 88] وفي سورة يوسف (ع) من قوله تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [الآية 37] .
فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ [الآية 21] .
قلنا: لما كان قول الضعفاء توبيخا وتقريعا وعتابا للذين استكبروا على استتباعهم إياهم واستغوائهم، أحالوا الذنب على الله تعالى في ضلالهم وإضلالهم، بقولهم كما ورد في التنزيل: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام/ 148] ، لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل/ 35] يقولون ذلك في الآخرة، كما كانوا يقولونه في الدنيا، كما حكى الله تعالى عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة/ 18] . وقيل معنى جوابهم: لو هدانا الله في الآخرة طريق النجاة من العذاب، لهديناكم: أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، كما سلكنا بكم طريق الهلكة في الدنيا.
فإن قيل: كيف اتّصل وارتبط القول سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا [الآية 21] بما قبله؟
قلنا: اتصاله به من حيث إن عتاب الضعفاء للذين استكبروا كان جزعا مما هم فيه وقلقا من ألم العذاب، فقال(4/251)
لهم رؤساؤهم كما ورد في التنزيل سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين عليها في الدنيا، كأنهم قالوا للضعفاء: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة فيه كما لا فائدة في الصبر، فإن الأمر أعظم من ذلك وأعمّ.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [الآية 22] عبر عنه بلفظ الماضي، وذلك القول من الشيطان لم يقع بعد، وإنما هو مترقّب منتظر، يقوله يوم القيامة؟
قلنا: يجوز وضع المضارع موضع الماضي، ووضع الماضي موضع المضارع إذا أمن اللبس، قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة/ 102] أي ما تلت، وقال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [البقرة/ 91] . قال الحطيئة الشاعر:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالغدر
فقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ نفي للّبس، وكذا قول الحطيئة «يوم يلقى ربه» ، وقوله تعالى: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لأن قضاء الأمر إنما يكون يوم القيامة.
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [الآية 27] وقد رأينا كثيرا من الظالمين هداهم الله بالإسلام وبالتوبة وصاروا من الأتقياء؟
قلنا: معناه أنه لا يهديهم ماداموا مصرّين على الكفر والظلم، معرضين عن النظر والاستدلال. الثاني: أن المراد منه، الظالم الذي سبق له القضاء في الأزل، أنه يموت على الظلم فالله تعالى يثبته على الضلالة لخذلانه، كما يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت وهو كلمة التوحيد. الثالث أن معناه: أن يضل المشركين عن طريق الجنة يوم القيامة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 30] والضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتّخاذ الأنداد وهي الأصنام، وإنّما عبدوها لتقرّ بهم إلى الله تعالى، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك، بقوله:
ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر/ 3] ؟
قلنا: قد شرحنا ذلك في سورة «يونس» عليه السلام، إذ قلنا هذه لام(4/252)
العاقبة والصيرورة، وليست لام الغرض، والمقصود كما في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8] وقول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
وقول الآخر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدّهر تبنى المساكن
والمعنى فيه أنهم لما أفضى بهم اتخاذ الأنداد إلى الضلال، أو الإضلال، صاروا كأنهم اتّخذوها لذلك وكذا الالتقاط والولادة والبناء، ونظائره كثيرة في القرآن العزيز، وفي كلام العرب.
فإن قيل: كيف طابق الأمر بإقامة الصلاة وإنفاق المال، وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟
قلنا: معناه قل لهم يقدّموا، من الصلوات والصدقة، متجرا يجدون ربحه يوم لا تنفعهم متاجر الدنيا من المعاوضات والصدقات التي يجلبونها بالهدايا والتحف، لتحصيل المنافع الدنيوية، فجاءت المطابقة.
فإن قيل: لم قال تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) أي لا صداقة، وفي يوم القيامة خلال، لقوله تعالى:
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) [الزخرف] ولقوله (ص) «المرء مع من أحبّ» ؟
قلنا: لا خلال فيه لمن لم يقم الصلاة ولم يؤدّ الزكاة فأما المقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة فهم الأتقياء، وبينهم الخلال يوم القيامة لما تلونا من الآية.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) ؟ والمسخّر للإنسان هو الذي يكون في طاعته يصرفه كيف شاء في أمره ونهيه كالدابة والعبد والفلك، كما قال تعالى: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف/ 13] وقال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف/ 32] وقال تعالى:
وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ [الآية 32] ويقال فلان مسخّر لفلان إذا كان مطيعا له، وممتثلا لأوامره ونواهيه؟
قلنا: لما كان طلوعهما وغروبهما وتعاقب الليل والنهار لمنافعنا متّصلا مستمرّا، اتّصالا لا تنقطع علينا فيه المنفعة ولا تنخرم، سواء أشاءت هذه المخلوقات أم أبت، فقد أشبهت(4/253)
المسخّر المقهور في الدنيا كالعبد والفلك ونحوهما.
والثاني: أن معناه أنها مسخّرة لله لأجلنا ومنافعنا: فإضافة التسخير إلى الله تعالى: بمعنى أنه فاعل التسخير، وإضافة التسخير إلينا بمعنى عود نفع التسخير إلينا فصحّت الإضافتان.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [الآية 34] والله تعالى لم يعطنا كل ما سألناه، ولا بعضا من كلّ فرد، ممّا سألناه؟
قلنا: معناه: وآتاكم بعضا من جميع ما سألتموه لا من كل فرد.
فإن قيل: لا يصح هذا المحمل لوجهين: أحدهما: أنه لا يحسن الامتنان به. الثاني: أنه لا يناسبه قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [الآية 34] ؟
قلنا: إذا كان البعض الذي أعطانا هو الأكثر من جميع ما سألناه، وهو الأصلح والأنفع لنا في معاشنا ومعادنا، بالنسبة إلى البعض الذي منعه عنا لمصلحتنا أيضا، لا يحسن الامتنان به ويكون مناسبا لما بعده.
وجواب آخر: عن أصل السؤال: أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضا من كل فرد ممّا سأله جميعهم، وبهذا المقدار يصح الإخبار في الآية، وإن لم يعط كلّ واحد من السائلين بعضا من كلّ فرد ممّا سأله وإيضاح ذلك أن يكون هذا قد أعطي شيئا ممّا سأله ذاك، وأعطي ذاك شيئا مما سأله هذا على ما اقتضته الحكمة والمصلحة في حقّهما كما أعطي النبي (ص) الرؤية ليلة المعراج، وهي مسؤول موسى عليه السلام، وما أشبه ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها والإحصاء والعدّ بمعنى واحد، كذا نقله الجوهري فيكون المعنى وإن تعدوا نعمة الله لا تعدوها، وهو متناقض كقولك: إن تر زيدا لا تبصره، إذ الرؤية والإبصار واحد؟
قلنا: بعض المفسّرين فسّر الإحصاء بالحصر، فإن صح ذلك لغة اندفع السؤال، ويؤيّد ذلك قول الزمخشري لا تحصوها: أي لا تحصروها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها، وعلى القول الأول فيه إضمار تقديره: وإن تريدوا عد نعمة الله لا تعدوها.(4/254)
فإن قيل: لم قال تعالى: لا تُحْصُوها، وهو يوهم أن نعم الله غير متناهية، وكل نعمة ممتنّ بها علينا فهي مخلوقة، وكل مخلوق متناه؟
قلنا: لا نسلّم أنه يوهم أنها لا تتناهى، وذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنّا لا نطيق عددها أو حصر عددها، ويجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه، والإنسان لا يطيق عدده، كرمل القفار وقطر البحار وورق الأشجار، وما أشبه ذلك.
فإن قيل: لم قال إبراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) وعبادة الأصنام كفر، والأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمّة، فكيف حسن منه هذا السؤال؟
قلنا: إنّما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم. لأن الأنبياء (ع) أعلم الناس بالله تعالى، فيكونون أخوفهم منه، فيكون معذورا بسبب ذلك. وقيل إن في حكمة الله تعالى وعلمه، أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر، بشرط أن يكون متضرّعا إلى ربه طالبا منه ذلك فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة.
فإن قيل: قال تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [الآية 36] فجعل الأصنام مضلة والمضلّ ضار. وقال في موضع آخر: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يونس/ 18] ونظائره كثيرة، فكيف التوفيق بينهما؟
قلنا: إضافة الإضلال إليها مجاز بطريق المشابهة. ووجهه، أنهم، لمّا ضلوا بسببها، فكأنها أضلّتهم، كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم: أي افتتنوا بسببها واغترّوا، ومثله قولهم: دواء مسهّل، وسيف قاطع، وطعام مشبع، وماء مرو، وما أشبه ذلك. ومعناه:
حصول هذه الآثار بسبب هذه الأشياء، وفاعل الآثار هو الله تعالى.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ [الآية 37] ولم يقل أفئدة الناس، وقوله قلوب الناس أظهر استعمالا من قوله قلوبا من الناس؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لو قال إبراهيم عليه السلام في دعائه «أفئدة الناس» ، لحجّت جميع الملل وازدحم عليه الناس، حتى لم(4/255)
يبق لمؤمن فيه موضع، مع أن حج غير الموحّدين لا يفيد، والأفئدة هنا القلوب في قول الأكثرين، وقيل الجماعة من الناس.
فإن قيل: إذا كان الله تعالى قد ضمن رزق العباد، فلم سأل إبراهيم عليه السلام الرزق لذرّيّته، فقال كما ورد في التنزيل: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [الآية 37] ؟
قلنا: الله تعالى ضمن الرزق والقوت الذي لا بد للإنسان منه ما دام حيّا، ولم يضمن كونه ثمرا أو حبّا أو نوعا معينا فالسؤال كان لطلب الثمر عينا.
فإن قيل: قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الآية 39] شكر على نعمة الولد، فكيف يناسبه بعده في الآية نفسها: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) ؟
قلنا: لمّا كان قد دعا ربّه لطلب الولد بالقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) [الصافّات] فاستجاب له ناسب قوله بعد الشكر: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) أي لمجيبه من قولهم:
سمع الملك قول فلان إذا أجابه وقبله، ومنه قولهم في الصلاة «سمع الله لمن حمده» أي أجابه وأثابه.
فإن قيل: لم قال تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نوح/ 28] استغفر إبراهيم لوالديه وكانا كافرين، والاستغفار للكافرين لا يجوز، ولا يقال إن هذا موضع الاستثناء المذكور في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [التوبة/ 114] ، لأن المراد بذلك استغفاره لأبيه خاصة، بقوله وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) [الشعراء/ 86] والموعدة التي وعدها إيّاه إنما كانت له خاصة، بقوله تعالى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف/ 98] ولهذا قال الله تعالى:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة/ 4] ؟
قلنا: هذا الاستغفار لهما كان مشروطا بإيمانهما تقديرا، كأنه قال ولوالديّ إن آمنا. الثاني: أنه أراد بهما آدم وحوّاء صلوات الله عليهما، وقرأ ابن مسعود وأبي والنخعي والزهري رضي الله عنهم (ولولديّ) يعني إسماعيل وإسحاق، ويعضد هذه القراءة سبق ذكرهما، ولا إشكال على هذه القراءة، وقيل إن هذا الدعاء على القراءة المشهورة، وإلى ذلك أشير بقوله تعالى وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) [الشعراء] .(4/256)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «إبراهيم» «1»
قوله سبحانه: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وهذه استعارة. والمراد بها- والله أعلم- التذكير بأيام نقم الله التي أوقعها بالماضين، كعاد وثمود ومن جرى مجراهم. وهذا كقولنا: أيام العرب. وإنما تريد به الأيام التي كانت فيها الوقائع المشهورة والملاحم العظيمة. وقد يجوز أن تكون الأيام هاهنا عبارة عن أيام النعم، كما قلنا إنها عبارة عن أيام النقم. فيكون المعنى:
فذكّرهم بالأيام التي أنعم الله فيها عليهم وعلى الماضين من آبائهم بوقم «2» الأعداء، وكشف اللّأواء «3» ، وإسباغ النعماء. ألا ترى أن أيام العرب التي هي عبارة عن الوقائع يكون فيها لبعضهم الظهور على بعض، فذلك من النّعم، وعلى بعضهم السوء والدائرة، وتلك من النقم؟ فالأيام إذن تذكرة لمن أراد التذكرة بالإنعام والانتقام.
وقوله سبحانه: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [الآية 9] وهذا استعارة، على وجه واحد من وجوه التأويلات التي حملت عليها هذه الآية. وذلك أنّ يكون المعنى ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الأيدي هاهنا عبارة عن حجج الرسل عليهم السلام،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . وقم العدو: قهره وأذله، ووقم الرجل: ردّه عن حاجته أقبح ردّ.
(3) . اللّأواء: ضيق المعيشة، وشدّة المرض.(4/257)
والبيّنات التي جاءوا بها قومهم، وأكدّوا بها شرعهم. لأن بذلك يتم لهم السلطان عليهم والتدبير لهم، وقد سمّوا السلطان يدا في كثير من المواضع، فقالوا: ما لفلان على فلان يد، أي سلطان. ويقولون: قد زالت يد فلان الأمير إذا عزل عن ولايته، بمعنى زال سلطانه عن رعيته.
ويقولون: أخذت هذا الأمر باليد، أي بالسلطان. فالحجج التي جاء بها الأنبياء أممهم قد تسمّى أيديا على ما ذكرناه، فلما وصف الكفار على هذا التأويل بأنهم ردّوا أيدي الأنبياء- عليهم السلام- في أفواههم، كان المراد بذلك ردّ حججهم من حيث جاءت، وطريق مجيئها أفواههم فكأنهم ردّوا عليهم أقوالهم، وكذّبوا دعواهم.
وفي هذا التأويل بعد وتعسّف، إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه، لمّا ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه:
بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ على الاستعارة لا على الحقيقة.
فإذا حملت الآية على حقيقة الأيدي التي هي الجوارح كان المراد بها مختلفا فيه. فمن العلماء من قال: المراد بذلك أنهم كانوا يعضّون أناملهم تغيظا على الرسل عليهم السلام، كما يفعل المغيظ المحنق، والواجم المفكّر.
وقال بعضهم: المراد بذلك أن المشركين أومئوا إلى أفواه الأنبياء، بالتسكيت لهم، والقطع لكلامهم.
وقال بعضهم: بل المراد بذلك ضرب من الهزء يفعله المجّان والسفهاء، إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس، وقصدوا الوضع منه، والإزراء عليه. فيجعلون أصابعهم في أفواههم ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه، يستدل بها على قصد السخف، وتعمد الفحش. وهذا عندي بعيد من السداد، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة، وأفواههم دفعة، إظهارا منهم لقلة الرغبة في سماع كلامهم وجواب مقالهم، ليدلّوهم- بهذا الفعل- على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال، ولا(4/258)
يجيبونهم عن سؤال، إذا قد أبهموا طريقي السماع والجواب، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليه السلام، يعني قومه: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) [نوح] فيكون معنى رد أيديهم في أفواههم على القول الذي قلنا، أن يمسكوا أفواههم بأكفهم، كما يفعل المظهر الامتناع عن الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدي هاهنا- وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أوّلا- لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهم السلام. فوصفوا في هذه الآية بما قد سبق لهم مثله، وألف منهم فعله، فحسن ذكر الأيدي بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره: أردد إليك يدك.
بمعنى اقبضها وكفّها. لا يريد غير ذلك.
وقوله سبحانه: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) . وهذه استعارة. لأن المقام لا يضاف إلّا الى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على الله سبحانه، فإذن المراد به يوم القيامة، لأن الناس يقومون فيه للحساب، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب، فقال سبحانه في صفة ذلك اليوم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) [المطفّفين] .
وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه في هذا الموضع، وفي قوله:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) [الرحمن] لأن الحكم في ذلك اليوم له خالصا، لا يشاركه فيه حكم حاكم، ولا يحادّه أمر آمر. وقد يجوز أن يكون المقام هاهنا معنى آخر، وهو أن العرب تسمي المجامع التي تجتمع فيها لتدارس مفاخرها، وتذاكر مآثرها «مقامات» و «مقاوم» . فيجوز أن يكون المراد بالمقام هاهنا الموضع الذي يقصّ فيه سبحانه على بريّته محاسن أعمالهم، ومقابح أفعالهم، لاستحقاق ثوابه وعقابه، واستيجاب رحمته وعذابه.
وقد يقولون: هذا مقام فلان ومقامته، على هذا الوجه، وإن لم يكن الإنسان المذكور في ذلك المكان قائما، بل كان قاعدا أو مضطجعا. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ(4/259)
مِنْ مَقامِكَ
[النمل/ 39] أي من مجلسك. سمّاه مقاما- مع ذكره أنّ سليمان عليه السلام كان جالسا فيه- لأنه قال: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ.
وإنما سمّاه مقاما، لأن القاعد إذا قام بعد قعوده ففيه يكون قيامه. وهذا من غرائب القرآن الكريم.
وقوله سبحانه: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) فهذه استعارة. لأن المراد بذلك لو كان الموت الحقيقي ولم يكن «1» سبحانه ليقول: وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، وإنما المعنى أن غواشي الكروب، وحوازب الأمور تطرقه من كل مطرق، وتطلع عليه من كل مطلع.
وقد يوصف المغموم بالكرب، والمضغوط بالخطب بأنه في غمرات الموت، مبالغة في عظيم ما يغشاه، وأليم ما يلقاه.
وقوله سبحانه: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [الآية 18] في هذه الآية استعارتان إحداهما قوله تعالى: اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ «2» . ...
....
وقوله سبحانه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [الآية 37] . وهذه من محاسن الاستعارة. وحقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض كالهبوط.
والمراد به هاهنا المبالغة في صفة الأفئدة بالنّزوع إلى المقيمين بذلك المكان.
ولو قال سبحانه: تحنّ إليهم، لم يكن فيه من الفائدة ما في قوله سبحانه:
تهوي إليهم، لأن الحنين قد يوصف به من هو مقيم في مكانه، والهوي يفيد انزعاج الهاوي من مستقرّه.
وقوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وهذه استعارة.
والمراد بها صفة قلوبهم بالخلوّ من عزائم الصبر والجلد، لعظيم الإشفاق والوجل. ومن عادة العرب أن يسمّوا الجبان يراعة جوفاء، أي ليس بين جوانحه قلب.
وعلى ذلك قول جرير، يهجو قوما ويصفهم بالجبن:
__________
(1) . هذه العبارة غير واضحة كما هي، والمقصود أن الموت هنا مجاز لا حقيقة، ولو كان الموت هنا حقيقة لم يكن سبحانه ليقول: (وما هو بميت) . ولعل الواو زائدة في قوله «ولم يكن» .
(2) . هنا ورقة ضائعة من الأصل. من الآية 18 إلى الآية 37.(4/260)
قل لخفيف القصبات الجوفان ... جيئوا بمثل عامر والعلهان «1»
وإنما وصف الجبان بأنه لا قلب له، لأن القلب محل الشجاعة، وإذا نفي المحل فأولى أن ينتفي الحالّ فيه.
وهذا على المبالغة في صفته بالجبن.
ويسمون الشيء إذا كان خاليا «هواء» ، أي ليس فيه ما يشغله إلا الهواء.
وعلى هذا قول الله سبحانه:
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [القصص/ 10] أي خاليا من التجلّد، وعاطلا من التصبّر. وقيل أيضا: إن معنى ذلك أنّ أفئدتهم منحرفة لا تعي شيئا، للرعب الذي دخلها، والهول الذي استولى عليها. فهي كالهواء الرقيق في الانحراف، وبطلان الضبط والامتساك.
وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) . وهذه استعارة على إحدى القراءتين. وهما:
لتزول. بكسر اللام الأولى وفتح اللام الأخرى، ولتزول، بفتح اللام الأولى وضم الأخرى. وقرأنا بهذه القراءة للكسائي «2» وحده، وقرأنا لبقية السبعة القراءة الأولى.
فمعنى القراءة الأولى أن يكون موضع «إن» فيها موضع نعم، لأنها قد ترد بهذا المعنى مثقلة: كقوله: [إنّ وراكبها] «3» .
ويجوز أن ترد مخففة. لأنّ «إن» على أصلها قد تأتي مخففة ومثقلة.
ويكون المعنى واحدا. وكذلك «أن» المفتوحة. قال الشاعر «4» :
أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص
وأراد «أنّ كلانا» فخفف. فإذا تقرر ذلك صار تقدير الكلام في الآية:
__________
(1) . ورد هذا البيت في ديوان جرير هكذا:
ويلكموا يا قصبات الجوفان ... جيئوا بمثل قعنب والعلهان
(2) . الكسائي: هو علي بن حمزة الكوفي، أحد القراء السبعة. وإمام مدرسة في النحو واللغة مشهورة. وكان مؤدّبا للرشيد العباسي وابنه الأمين. توفي سنة 189 هـ بمدينة الري.
(3) . هذا هو ما ردّ به ابن الزبير رضي الله عنه لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك. فقال ابن الزبير: إنّ وراكبها.
أي: نعم! ولعن راكبها. وهو من شواهد كتب معاني الحروف. انظر «مغنى اللبيب» ج 1 ص 36.
(4) . قيل هو عديّ بن زيد وقيل هو عمرو بن جابر الحنفي.
راجع إميل يعقوب: المعجم المفصّل في شواهد اللغة العربية 4/ 123 ففيه إحالات إلى مظانّ عدّة. [.....](4/261)
ونعم كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وقد وردت هذه اللام في موضع ليس، لأن الخفيفة فيه تحمل «1» .
قال الفرّاء «2» : سمعت العرب تقول:
الكراء حينئذ لرخيص. ولم يقل: إنّ الكراء لرخيص. فيكون المراد: إنّ الجبال تزول من مكرهم استعظاما واستفظاعا، لو كانت ممّا يعقل الحال، ويقدر على الزوال. وهذه اللام هاهنا تومئ إلى معنى «تكاد» «3» ...
__________
(1) . هنا الكلام ناقص، ولعل الناسخ أراد أن يكتب «لأن الخفيفة فيه تحمل محمل ما، وتكون اللام للجحود» . وعبارة القرطبي في هذا المقام واضحة دالة على الغرض، حيث يقول في الجزء 9 ص 380: (إن بمعنى ما. أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. لضعفه ووهنه) . ثم زاد القرطبي خمسة مواطن في القرآن جاءت فيها «إن» بمعنى «ما» وهذا هو أحدها.
(2) . الفرّاء هو يحيى بن زياد أبو زكريا إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والأدب. وكان فوق علمه باللغة والنحو فقيها متكلّما مفسّرا. وقد عهد إليه الخليفة المأمون بتربية ولديه. توفي سنة 207 هـ. وهناك فرّاء آخر اسمه الحسين بن مسعود البغوي اشتهر بالفقه والحديث والتفسير، وتوفي سنة 510 هـ وليس هو المقصود هنا، فقد ولد بعد وفاة الشريف الرضي بثلاثين عاما.
(3) . هنا قطعة مفقودة من الكتاب تبلغ ورقة تقريبا.(4/262)
سورة الحجر 15(4/263)
المبحث الأول أهداف سورة «الحجر» «1»
سورة الحجر سورة مكّيّة. ومحور هذه السورة الأول هو إبراز المصير المخيف الذي ينتظر الكافرين المكذّبين.
وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات متنوعة الموضوع والمجال، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل، سواء في ذلك القصة، ومشاهد الكون ومشاهد القيامة، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص، وتتخلله، وتعقّب عليه.
وإذا كان جوّ سورة الرعد يذكر بجوّ سورة الأنعام، فإن جوّ هذه السورة، سورة الحجر، يذكّر بجوّ سورة الأعراف.
لقد كان ابتداء سورة الأعراف بالإنذار ثم ورد فيها قصة آدم وإبليس، ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون في السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح والسحاب، ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى.
وهنا، في سورة الحجر، يجيء الإنذار كذلك في مطلعها، ولكن ملفّعا بظلّ من التهويل:
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) .
ثم يعرض السياق بعض مشاهد الكون: السماء وما فيها من بروج، والأرض الممدودة، والرواسي
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(4/265)
الراسخة، والنبت الموزون والرياح اللواقح، والماء والسّقيا، والحياة والموت والحشر للجميع. يلي ذلك قصة آدم وإبليس، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين. ومن ثمّ لمحات من قصص ابراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام، منظور فيها، إلى مصائر المكذّبين.
ويمكن تقسيم سياق السورة هنا إلى عدة جولات، أو عدة مقاطع يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا:
تتضمن الجولة الأولى بيان سنّة الله تعالى التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب، مبدوءة بذلك الإنذار الضمني الملفّع بالتهويل:
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) .
ومنهية بأن المكذّبين إنما يكذّبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان، وأنهم جميعا من طراز واحد:
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) .
وتعرض الجولة الثانية بعض آيات الله في الكون، في السماء وفي الأرض وما بينهما وقد قدرت بحكمة، وأنزلت بقدر، وإلى الله مرجع كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم، حيث يقول سبحانه:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) .
وتعرض الجولة الثالثة قصة البشرية، وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصلية، ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين، وذلك في خلق آدم (ع) من صلصال من حمأ مسنون، والنفخ من روح الله في هذا الطين. ثم غرور إبليس واستكباره وتولّيه الغاوين دون المخلصين.
والجولة الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح، مبدوءة بقول الله سبحانه:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) .
ثم يتتابع القصص يجلو رحمة الله مع ابراهيم ولوط، وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح.
أما الجولة الخامسة والأخيرة، فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض الملتبس بالساعة(4/266)
وما بعدها من ثواب وعقاب، المتّصل بدعوة الرسول (ص) فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله، والشامل للبدء والمصير.
الآيات الكونية في سورة الحجر
عرضت سورة الحجر لألوان المكابرة والعناد التي يلجأ إليها الكافرون ثم انتقلت إلى معرض الآيات الكونية مبدوءا بمشهد السماء فمشهد الأرض، فمشهد الرياح اللواقح بالماء، فمشهد الحياة والموت، فمشهد البعث والحشر. كل أولئك، آيات يكابر فيها المعاندون. قال تعالى:
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) .
إنه الخط الأول في اللوحة العريضة، لوحة الكون العجيب الذي ينطق بآثار اليد المبدعة، ويشهد بالإعجاز، ويكشف عن دقة التنظيم والتقدير كما يكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير. والبروج قد تكون النجوم والكواكب بضخامتها، وقد تكون منازل النجوم والكواكب التي تنتقل فيها بمدارها. وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل. قال تعالى:
وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) .
وهي لفتة إلى جمال الكون، وبخاصة أن تلك السماء تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون، فليست الضخامة وحدها وليست الدقة وحدها، إنما هو الجمال الذي ينظم المظاهر جميعا، وينشأ من تناسقها جميعا.
وإنّ نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة، وقد انتثرت فيها الكواكب، والنجوم توصوص بنورها ثم تبدو كأنّما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبّي دعوة من نجم بعيد، ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهموم كأنما يمسك أنفاسه حتى لا يوقظ الحالم السعيد.
إن نظرة واحدة شاعرة، لكفيلة بإدراك الحقيقة في الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه، ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة:
وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) .(4/267)
والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة، هو خط الأرض الممدودة أمام النظر، المبسوطة للخطو والسير، وما فيها من رواس وما فيها من نبت وأرزاق للناس، ولغيرهم من الأحياء. قال تعالى:
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) .
إن ظل الضخامة واضح في السياق، فالإشارة في الأرض إلى الرواسي، ويتجسّم ثقلها في التعبير بقوله سبحانه:
وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ.
وإلى النبات موصوفا بأنه (موزون) وهي كلمة ذات ثقل، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير.
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس، فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو، وهذه الرواسي الملقاة على الأرض تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون، ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض، وهي الأرزاق المؤهّلة للعيش والحياة فيها، وهي كثيرة شتّى. وهذه الأرزاق، ككل شيء، مقدرة في علم الله تابعة لأمره ومشيئته، يصرّفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريد، وفق سنّته التي ارتضاها وأجراها في الناس والأرزاق، قال تعالى:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) .
فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا، ولكن خزائن كلّ شيء مصادره وموارده عند الله سبحانه، في علاه، ينزله على الخلق في عوالمهم:
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) . فليس من شيء ينزل جزافا، وليس من شيء يتمّ اعتباطا، بل كلّ شيء يتم بحكمة العليم الخبير، وتقدير السميع البصير إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر] .
قصة آدم في سور البقرة والأعراف والحجر
ذكرت قصة آدم في القرآن مرتين من قبل، في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص في معرض خاص وفي جو خاص ومن ثم(4/268)
اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع، واختلفت طريقة الأداء.
في سورة البقرة كانت نقطة التركيز استخلاف آدم (ع) في الأرض التي خلقها الله سبحانه للناس جميعا:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة/ 30] .
ومن ثم عرض الأسرار في هذا الاستخلاف، وبين قدرة الإنسان على الاستنباط والاستنتاج وتمتّعه بالإرادة والاختيار، ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره، وسكنى آدم وزوجه الجنة وإذلال الشيطان لهما عنها وإخراجهما منها، ثم الهبوط إلى الأرض للخلافة فيها بعد تزويده بهذه التجربة القاسية، واستغفاره وتوبة الله عليه.
وفي سورة «الأعراف» ، كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها، وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها، حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولى، ففريق منهم يعود إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه، وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتّبع خطوات الشيطان العدوّ اللدود ... ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة، وإباء إبليس واستكباره، ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كلّه إلا شجرة واحدة، وهي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما، وعتاب الله لآدم وزوجه، وإهباطهما إلى الأرض جميعا للعمل في أرض المعركة الكبرى.
فأما هنا في سورة الحجر، فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم وسر الهدى والضلال، وعواملهما الأصلية في كيان الإنسان. ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون، ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم، وخلق الشيطان من قبل من نار السموم، ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافا من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون، وطرد إبليس ولعنته وطلبه الانتظار إلى يوم البعث وإجابته، وفي هذه السورة، إشارة إلى أن إبليس الملعون قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله(4/269)
المخلصين، إنما سلطانه على من يدينون له، ولا يدينون لله وانتهى السياق بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل تبعا لنقطة التركيز فيه، وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان، وبيان مجال سلطة الشيطان.
خلق الإنسان
تفيد الآيات الواردة في سورة الحجر أن الإنسان قد خلق:
مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) .
والصلصال: هو الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت إذا نقر.
والحمأ: هو الطين الذي تغيّر واسودّ من طول مجاورة الماء.
المسنون: هو المصوّر أو المصبوب لييبس من سنّه إذا صبه، أي أن الإنسان مخلوق من طين يابس قد اختلط بالماء وصوّر على هيئة الإنسان ثم نفخ الله فيه من روحه فصار بشرا سويا.
وتفيد آيات القرآن الأخرى، أن الله سبحانه خلق آدم (ع) من تراب ومن طين، ومن حمأ مسنون، ومن طين لازب، ومن صلصال كالفخّار، ومن عجل، ومن ماء مهين. قال مقاتل بن سليمان في تفسيره الكبير:
«ويجمع بين هذه الآيات على أنها دليل على تدرّج الخلقة، فقد بدأ خلق آدم من أديم الأرض وهو التراب، ثم تحوّل التراب إلى طين، وتحوّل الطين إلى سلالة، ثم تغيّرت رائحة الطين فتحوّل إلى حمأ مسنون، ثم لصق فتحول الى طين لازب، ثم صار له صوت كصوت الفخّار، ثم نفخ فيه الروح فأراد أن ينهض قبل أن تتم الروح فيه فذلك قوله خلق الإنسان من عجل، ثم جعل ذريته من النطفة التي تنسل من الإنسان ومن الماء المهين وهو الضعيف» .
الربع الأخير من سورة الحجر
يتضمّن الربع الأخير من سورة الحجر نماذج من رحمة الله وعذابه ممثّلة في قصص إبراهيم (ع) وبشارته على الكبر بغلام عليم، ولوط (ع) ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين، وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما حل بهم من عذاب أليم.
هذا القصص يساق بعد مقدمة، هي:(4/270)
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) .
فيجيء بعضه مصداقا لنبأ الرحمة، ويجيء بعضه مصداقا لنبأ العذاب، كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة، فيصدق ما جاء فيها من نذير:
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) .
فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر، حلّ بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل.
الحجر
سميت هذه السورة الحجر، إشارة إلى أصحاب الحجر وهم قوم صالح (ع) . والحجر تقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وهي ظاهرة إلى اليوم، فقد نحتوها في الصخر، في ذلك الزمان البعيد، ممّا يدلّ على القوّة والحضارة:
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) . وهم لم يكذّبوا سوى رسولهم صالح. ولكن صالحا ليس إلّا ممثّلا للرسل أجمعين، فلمّا كذّبه قومه قيل:
إنّهم كذّبوا المرسلين، توحيدا للرسالة وللرسل وللمكذّبين في كل أعصار التاريخ وفي كل جوانب الأرض، على اختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأقوام:
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) .
وآية صالح (ع) كانت الناقة. ولكن الآيات في هذا الكون كثيرة، والآيات في هذه الأنفس كثيرة. وكلها معروضة للأنظار والأفكار. وليست الخارقة التي جاءهم بها صالح هي وحدها الآية التي آتاهم الله. وقد أعرضوا عن آيات الله كلها. ولم يفتحوا لها عينا ولا قلبا، ولم يستشعرها فيهم عقل ولا ضمير:
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) .
لقد اتّخذ قوم صالح بيوتا حصينة أمينة في صلب الجبال فأخذتهم الصيحة في وقت الصباح، وهم في ديارهم الحصينة آمنون، فإذا كل شيء(4/271)
ذاهب، وإذا كل وقاية ضائعة، وإذا كل حصين واهن، ولم يبق لهم ممّا جمعوا وكسبوا، وممّا بنوا ونحتوا شيء يغني عنهم ويدفع الهلاك الخاطف.
وهكذا تنتهي الحلقات الخاطفة من القصص في سورة الحجر محققة سنة الله تعالى في أخذ المكذّبين عند انقضاء الأجل المعلوم، فتتناسق نهاية هذا الشوط مع نهايات الأشواط السابقة في تحقيق سنة الله سبحانه التي لا تتخلّف ولا تحيد.
وفي ختام السورة ذكر للسنن العامة التي لا تتخلف والتي تحكم الكون والحياة، وتحكم الجماعات والرسالات، وتحكم الهدى والضلال، وتحكم المصائر والحساب والجزاء والتي انتهى كل مقطع من مقاطع السورة بتصديق سنّة منها تلك السنن شاهد على الحكمة المكنونة في كل خلق من خلق الله وعلى الحقّ الأصيل الذي تقوم عليه طبيعة هذا الخلق.
ومن ثمّ يعقب السياق في ختام السورة، ببيان هذا الحق الأكبر الذي يتجلى في طبيعة خلق السماوات والأرض وما بينهما، وطبيعة الساعة الآتية لا ريب فيها، وطبيعة الدعوة التي يحملها الرسول (ص) وقد حملها الرسل قبله. ويجمع بينها كلها في نطاق الحق الأكبر الذي يربطها ويتجلى فيها، ويبين أن الله جلّ جلاله هو الخلاق لهذا الوجود ولكل ما فيه:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) .(4/272)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الحجر» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الحجر بعد سورة يوسف، ونزلت سورة يوسف بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الحجر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم، لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهم ثمود قوم صالح (ع) . وتبلغ آياتها تسعا وتسعين آية.
الغرض منها وترتيبها
يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن مثل السور السابقة، ولكنه يأخذهم فيها بالترهيب والتحذير ممّا حصل للمكذّبين قبلهم، وقد افتتحت بهذه الدعوى ومجادلتهم فيها، ثم انتقل السياق من هذا إلى ترهيبهم بذكر أخبار المكذّبين قبلهم. ثم ختمت بما يناسب هذا الغرض المقصود منها.
إثبات تنزيل القرآن الآيات [1- 27]
قال الله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) فأقسم بهذه الحروف، على أن ما أنزله من آيات الكتاب والقرآن المبين، وحذرهم من تكذيبه بأنهم سيندمون عليه، ويودون لو كانوا مسلمين. ثم أمر النبي (ص) أن يدعهم في لهوهم حتى يأتي وقت عذابهم، وأخبره بأنه لم يهلك قرية من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/273)
القرى إلا في أجل معلوم، لا تتقدّم عنه ولا تتأخّر.
ثم ذكر استهزاءهم بالقرآن وأنهم قالوا عن النبي (ص) إنه لمجنون، لأنه يدّعي أنه آية على نبوته. ثم طلبوا منه أن يأتيهم بالملائكة إن كان من الصادقين. وقد ردّ عليهم النبي (ص) بأن الله لا ينزل الملائكة إلا بالعذاب، فإذا نزلوا به لا يمهلونهم، وبأنه سبحانه هو الذي نزّل القرآن وتولى حفظه مما حصل في الكتب المنزلة قبله، ثم ذكر تعالى للنبي (ص) أنه قد استهزئ بالرسل من قبله كما استهزئ به، ليصبر على استهزائهم به وطعنهم فيه، وأنه كذلك يسلك القرآن في قلوب المجرمين ليعاقبهم عليه كما عاقب المكذّبين الأولين، ثم رد عليهم بأنه لو فتح عليهم بابا من السماء فظلوا يعرجون فيه، لزعموا أن هذا سحر ولم يؤمنوا به.
ثم انتقل السياق من هذا إلى إثبات قدرته جل جلاله على ما يقترحون من الآيات، فذكر أنه سبحانه هو الذي جعل في السماء بروجا وزيّنها للناظرين إلخ، وأنه مدّ الأرض وألقى فيها رواسي وأنبت فيها من كلّ شيء موزون إلخ، وأنه أرسل الرياح لواقح فأنزل من السماء ماء فأسقاهموه وما هم له بخازنين إلخ، وأنه يحيي ويميت، وهو الوارث الباقي، وأنه يعلم المستقدمين منهم والمستأخرين: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) .
ترهيب المشركين بأخبار المكذّبين قبلهم الآيات [28- 84]
ثم قال تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) ، فذكر قصة آدم (ع) حين خلقه وأمر الملائكة بالسجود له، وأنّ إبليس كذّب وعصى فعوقب بما عوقب به من الطرد واللعن وقد سبقت هذه القصة في سورتي البقرة والأعراف ولكنها، هنا، تخالف ما سبق في سياقها وأسلوبها، وما فيها من زيادة ونقص.
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام، وقد سبقت قصتهما في سورة هود وغيرها، والفرق بينها في هذه المواضع كالفرق السابق في قصة آدم (ع) .
ثم ذكر قصة أصحاب الأيكة وهم(4/274)
قوم شعيب (ع) ، وقد سبقت قصتهم في سورة هود وغيرها، والفرق بينها في هذه المواضع كالفرق السابق في قصة آدم.
ثم ذكر قصة أصحاب الحجر وهم قوم صالح (ع) ، وقد سبقت قصتهم في سورة هود وغيرها، والفرق بينها في هذه المواضع كالفرق السابق في قصة آدم وقد ذكر في آخرها، أنه أهلكهم بالصيحة مصبحين: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) .
الخاتمة الآيات [85- 99]
ثم قال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) فذكر أنه لا بد من أن يعاقب أولئك المشركين كما عاقب أولئك الأولين، لأنه لم يخلق ما خلقه عبثا، ثم أمر النبي (ص) أن يصفح عن استهزائهم، وأخبره بأنه سبحانه هو الخلاق العليم ليفوّض أمره إليه، ثم نوّه بشأن القرآن الذي يكذّبون به، فذكر أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم، ونهاه أن يمدّ عينيه إلى أموالهم أو يحزن عليهم، وأمره أن يخفض جناحه لمن آمن به، وأن يخبرهم بأنه هو النذير المبين، كما أنزل من الإنذار على المقتسمين، وهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عنه، وجعلوا القرآن عضين بعضه سحر، وبعضه شعر، وبعضه أساطير الأولين، ثم أقسم أنه سيسألهم أجمعين عما كانوا يعملون، وأمره أن يجهر بما أمر أن يبلّغه لهم، وأن يعرض عنهم فلا يقابل استهزاءهم بمثله، ووعده أن يكفيه المستهزئين منهم ثم ذكر له أنه يعلم أن صدره يضيق بما يقولون في حقه، وأمره بما يشرح صدره ويصبره على أذاهم، فقال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) .(4/275)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الحجر» «1»
أقول: تقدّمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة. وإنما أخرت عنها لقصرها بالنسبة إليها، وهذا القسم من سور القرآن للمئين، فناسب تقديم الأطول، مع مناسبة ما ختمت به لبراعة الختام، وهو قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) . فإنه مفسر بالموت «2» .
وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة. ففي آخر آل عمران: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) وفي آخر الطواسين: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) [القصص] وفي آخر ذوات (الر) : وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) [السجدة] . وفي آخر الحواميم: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف/ 35] .
ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم، فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة:
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) . قال هنا: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . أخرجه البخاري من سالم: 6/ 102، والمعنى ونفسه أخرجه البخاري في الجنائز، وأحمد في المسند: 6/ 436.(4/277)
الموحّدين قد أخرجوا منها، تمنّوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك وجه حسن في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به «1» ، وذلك من تشابه الأطراف.
__________
(1) . ختام إبراهيم: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) وافتتاح هذه: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) فكأنهما متصلتان.(4/278)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجر» «1»
1- لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ [الآية 44] .
قال عبد الرزاق «2» : أخبرنا معمر «3» ، عن الأعمش «4» : أسماء أبواب جهنّم:
الحطمة، والهاوية ولظى، وسقر، والجحيم، والسّعير، وجهنّم.
وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن ابن عباس، وزاد في الهاوية: وهي أسفلها.
2- لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) .
قال الضّحّاك: باب لليهود، وباب للنصارى، وباب للصابئين، وباب للمجوس، وباب للذين أشركوا- وهم كفّار العرب- وباب للمنافقين، وباب لأهل التوحيد. أخرجه ابن أبي حاتم.
3- وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ [الآية 67] .
هي سدوم «5» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري (126- 211 هـ) : من حفّاظ الحديث، من أهل صنعاء. كان يحفظ نحو سبعة عشر ألف حديث. له «تفسير القرآن» لا يزال مخطوطا و «المصنف» . في (11) جزءا، وهو آثار مسندة، مرتّبة على الأبواب الفقهية.
(3) . معمر بن راشد: ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن الأعمش شيئا. مات سنة (154 هـ) .
(4) . الأعمش: سليمان بن مهران، ثقة حافظ ورع، عارف بالقراءة، توفي سنة (147 هـ) أو (148 هـ) على قولين.
(5) . سدوم: مدينة من مدائن قوم لوط. وقال أبو حاتم في كتاب «المزال والمفسد» : إنما هو سذوم، بالذال المعجمة، قال والدال خطأ. قال الأزهري: وهو الصحيح، وهو أعجمي. وذكر الميداني في كتابه «الأمثال» أن سدوم هي سرمين بلدة من أعمال حلب، معروفة عامرة عندهم، «معجم البلدان» لياقوت الحموي 3/ 200.(4/279)
4- سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الآية 87] .
قال الرسول (ص) : هي الفاتحة، أخرجه البخاري «1» وغيره. وقال ابن عباس: السبع الطّول «2» . أخرجه الفريابي.
وقال سعيد بن جبير، ومجاهد:
البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف ويونس.
وقال سفيان، بعد الأعراف: وبراءة، والأنفال سورة واحدة، أخرج ذلك ابن أبي حاتم. 5- الْمُقْتَسِمِينَ (90) .
قال ابن عباس: اليهود والنصارى، أخرجه ابن أبي حاتم.
6- الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) .
قال سعيد بن جبير: هم خمسة:
الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل السّهمي، وأبو زمعة، والحارث بن الطّلاطلة «3» ، والأسود بن عبد يغوث.
أخرجه ابن أبي حاتم «4» وأخرج عن عكرمة مثله، وسمّى الحارث بن قيس السّهمي.
__________
(1) . برقم (4474) في التفسير عن أبي سعيد بن المعلى بلفظ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) هو السبع المثاني والقرآن العظيم «الذي أوتيته» [.....]
(2) . السبع الطّول: هي السور المذكورة في رواية سعيد بن جبير التالية وأثر ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني ورجاله رجال الصحيح، «مجمع الزوائد» 7/ 46.
(3) . «سيرة ابن هشام» 1/ 409. و (الطلاطلة) لغة: الداهية، وقيل: هي اسم أمه، والذي في «السيرة الشامية» : أن اسمه مالك، وأن الطلاطلة أبوه. ووقع اسمه «الحارث بن قيس» في «الإتقان» 2/ 147.
(4) . والطّبراني في «الأوسط» عن ابن عباس، وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 47: لم أعرفه.(4/280)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجر» «1»
1- قال تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) .
أقول: عوملت «الأمة» في الآية على وجهين، الأول أنها مؤنث، بدلالة التاء في الفعل الذي يسبقها، والثاني جمع مذكّر، بدلالة الفعل بعدها «يستأخرون» .
وهذا من باب مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى ثانيا. ومثل هذا له نظائر في لغة القرآن.
2- وقال تعالى: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) .
«لو» ركّبت مع «لا» و «ما» لمعنيين:
معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض، وأمّا «هل» فلم تركب إلّا مع «لا» وحدها للتحضيض، قال ابن مقبل:
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري والمعنى: هلّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك، ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) [الفرقان] .
أقول: «لولا» و «لو ما» من أدوات التحضيض من مواد العربية القديمة، التي لا نشعر بوجودها في اللغة المعاصرة، ولا سيما «لو ما» .
3- وقال تعالى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(4/281)
وقوله تعالى: نَسْلُكُهُ من سلكت الخيط في الإبرة، وأسلكته إذا أدخلته فيها، ونظمته.
وقرئ: نسلكه، للذكر، أي: مثل ذلك السلك، ونحو: نسلك الذكر في «قلوب المجرمين» على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذّبا مستهزئا به غير مقبول.
أقول: على أننا نعرف السلك في عصرنا لضرب من الخيط المعدني، إلا أننا لا نعرف الفعل «سلك» المتعدّي بمعنى أدخل السلك «الخيط» في الإبرة، فالسلك في عصرنا غير السلك أي الخيط.
فأما الفعل «سلك» في عصرنا فهو متعد وقاصر، فتقول من الأوّل سلكت السبيل المستقيم، ومن الثاني سلك الرجل سلوكا مقبولا.
4- وقال تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الآية 15] .
وقوله تعالى: سُكِّرَتْ أي:
حيّرت أو حبست من الإبصار، من السّكر أو السّكر.
وقرئ بالتخفيف «سكرت» بالتخفيف، أي حبست كما يحبس النهر من الجري، وقرئ: «سكرت» من السّكر، أي حارت كما يحار السكران.
والذي قرأ بالتخفيف هو الحسن وفسرها: سحرت.
وقال أبو عمرو بن العلاء: معناها غطّيت وغشّيت، وقيل: معناها سدّت بالسحر.
وقال أبو عمرو بن العلاء: سكّرت أبصارنا، مأخوذ من سكر الشراب، كأنّ العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر.
وقال أبو عبيدة: سكّرت أبصار القوم إذا دير بهم وغشيهم كالسمادير فلم يبصروا، وقال الفرّاء: معناه حبست ومنعت من النظر.
أقول: وقولهم: حبست من الإبصار من السّكر كما يحبس النهر من الجري، هو المعنى الكثير في هذه المادة، وما زال يقام لحبس مجرى صغير أو كبير يدعى «سكرا» في لهجة الفلاحين في جنوبي العراق.
وقوله طائفة من العرب في عصرنا بلهجتهم الدارجة «سكّر الباب» أي سدّه وأغلقه.(4/282)
وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) .
قالوا: «مسنون» بمعنى متغيّر.
وقال الزمخشري: بمعنى مصوّر، كأنه أفرغ الحمأ، فصوّر منه تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر، صلصل.
أقول:
إن قول من قال: إن «المسنون» المتغيّر، كأنه أدرك أن «المسنون» جاءت عليه «السنون» فغيرته! 6- وقال تعالى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) .
الإنظار بمعنى الإمهال، وهذا يعني أن زيادة الهمزة أفادت خصوصية دلالية ليست في الأصل «نظر» .
وجوابه سبحانه وتعالى على سؤال إبليس: قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) [الأعراف/ 15] .
7- وقال تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) .
أريد أن أشير إلى أن كلمة «ضيف» من الأسماء التي تكون مفردا وجمعا، وهي في كلام الله قد وردت جمعا في آيات عدة.
على أن من المفيد أن نشير إلى أن «الضيف» في العربية المعاصرة، يدل على الإفراد، وجمعه ضيوف وأضياف.
8- وقال تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) .
أريد ب «الغابرين» الباقين في المدينة، أي قضى أن يهلكها كما يهلك الآخرين من أهل المدينة.
أقول والفعل غبر قد مرّ بنا، وأشرنا إليه بما فيه الكفاية، ولكننا عدنا ثانية لنشير إلى هذا المعنى وهو البقاء والمكوث.
9- وقال تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) .
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب (ع) ، «وإنهما» يعني قوم لوط (ع) والأيكة.
وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيبا كان مبعوثا إليهما، فلما ذكر الأيكة دلّ بذكرها على مدين فجاء بضميرهما.
وقوله تعالى: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)(4/283)
أي: لطريق واضح. والإمام اسم لما يؤتم به فسمي به الطريق، ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه، لأنه ممّا يؤتمّ به.
أقول: دلالة الإمام معروفة، وهو الرجل الذي يؤتمّ به في الصلاة، أو من يتّخذ قائدا، ومرشدا، ودليلا، فصاحب المذهب، الذي يتمذهب به جماعة، إمام لهم، والخليفة إمام، والرئيس إمام.
وكذلك يقال: المصحف الإمام، وهو المصحف الذي انتهى إليه عثمان بن عفان، ونسخت به كل المصاحف الأخرى.
و «الكتاب» الإمام وصفا ونعتا على المدح ل «كتاب» سيبويه.
10- وقال تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) .
أي: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له.
والخطاب إلى الرسول (ص) أي:
أنه قد أوتي النعمة العظمى، وهي القرآن العظيم فلا تمدّنّ عينيك إلى متاع الدنيا. أقول: ومدّ العين لمعنى طموح البصر من المجاز البديع، الذي قلّما يرد في نثر المعربين في عصرنا، ولعله موجود في مجازات اللهجة العامية في العراق. وأمر اللغة عجيب فقد تلقى من فرائدها ولآلئها ما هو في نثر العامة ولا تلقاه في الفصيح.
وقوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) استعارة جميلة، يراد بها أن يتواضع الرسول لمن معه من الفقراء المؤمنين وضعفائهم، وأن يطيب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.
11- وقال تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) .
المقتسمون: هم أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) ، فقد كانوا يقتسمون القرآن استهزاء فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي، ويجوز أن يراد ب «القرآن» ما يقرءونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم.
وقوله تعالى: عِضِينَ أي:
أجزاء، جمع عضة، وأصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء، قال رؤبة:(4/284)
وليس دين الله بالمعضيّ وقيل: هي فعلة، من عضهته إذا بهتّه.
أقول: وقد وردت «عضة» في كتب النحو في باب ما يجمع جمع مذكر سالما، وليس منه، وذلك جملة أسماء بعضها مؤنث وبعضها غير عاقل، وهي: مائة، وسنة، وفئة، وقلة، وكرة، ورئة، وابن، ووابل، وأرض، وعالم، وذو، وغير هذا. وهي في حقيقة الأمر جموع بالواو والنون، ولعلّها تدلّ على أن هذا الجمع كان عامّا قبل أن يتقيّد بالعلم المذكّر العاقل الخالي من التاء والتركيب، وصفة العلم المذكر العاقل الخالية من التاء، ولا من باب فعلان فعلى ...
وعلى هذا، فما نجده في اللغة مما ليس فيه الشروط المطلوبة، فهو من البقايا اللغوية القديمة.(4/285)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجر» «1»
في قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا تدخل مع «ربّ» «2» «ما» ليتكلّم بالفعل بعدها. وإن شئت جعلت (ما) بمنزلة «شيء» فكأنّك قلت: «وربّ شيء يودّ» أي «ربّ ودّ يودّه الذين كفروا» «3» وفي قوله سبحانه: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ [الآية 18] استثناء خارج كما قال «ما أشتكي إلا خيرا» يريد «أذكر خيرا» .
وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الآية 22] . كأن الرياح لقحت لأن فيها خيرا، فقد لقحت بخير أي اتّصفت بالفاعليّة. وقال بعضهم «الرّياح تلقح السّحاب» فقد يدل على ذلك المعنى، لأنها إذا أنشأته وفيها خير، وصل ذلك إليه.
وقوله تعالى: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الآية 39] أي: «بإغوائك إيّاي» لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ [الآية 39] على القسم كما تقول:
«بالله لأفعلنّ» .
وقوله تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) لأنه من «جزّأته» و «منهم» يعني: من الناس.
وقوله تعالى: قالُوا لا تَوْجَلْ [الآية
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . النص المثبت في المصحف الشريف ورد بباء غير مشدّدة في قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
(3) . نقله في المشكل 1/ 409، وزاد المسير 4/ 380، وإعراب القرآن 2/ 549، والبحر 5/ 442.(4/287)
53] من «وجل» «يوجل» وما كان على «فعل» ف «هو يفعل» تظهر فيه الواو ولا تذهب كما تذهب من «يزن» لأنّ «وزن» «فعل» وأمّا بنو تميم فيقولون:
«تيجل» «1» لأنّهم يقولون في فعل «تفعل» فيكسرون التاء في «تفعل» والألف من «أفعل» والنون من «تفعل» ولا يكسرون الياء لأنّ الكسر من الياء، فاستثقلوا اجتماع ذلك. وقد كسروا الياء في باب «وجل» لأنّ الواو قد تحوّلت الى الياء مع التاء والنون والألف. فلو فتحوها استنكروا الواو، ولو فتحوا الياء لجاءت الواو، فكسروا الياء فقالوا «ييجل» ليكون الذي بعدها ياء إذ كانت الياء أخف مع الياء من الواو مع الياء، لأنه يفرّ الى الياء من الواو ولا يفرّ الى الواو من الياء. قال بعضهم (ييجل) فقلبها ياء وترك التي قبلها مفتوحة كراهة اجتماع الكسرة والياءين.
وفي قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ [الآية 66] «أنّ دابر» بدل من «الأمر» .
وقوله سبحانه: قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ [الآية 56] من «قنط يقنط» «2» مثل «علم يعلم» وقال بعضهم «يقنط» مثل «يقتل» «3» ، وقال بعضهم «يقنط» .. مثل «ينزل» «4» .
وقوله تعالى: إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء من المجرمين أي لا يدخلون في الاجرام.
وفي قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي [الآية 72] يعني ب لَعَمْرُكَ- والله أعلم
__________
(1) . اللهجات العربية 459.
(2) . في الطبري 13/ 40 الى عامة قراء المدينة والكوفة، وفي السبعة 367 الى ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، وفي الكشف 2/ 31 والتيسير 136 الى غير أبي عمرو والكسائي، وفي البحر 5/ 459 إلى السبعة غير النحوي والأعمش.
(3) . في الشواذ 71 نسبت إلى يحيى بن يعمر والأشهب العقيلي وأبي عمرو وعيسى، وفي المحتسب 2/ 5 إلى الأشهب وحده، وفي البحر 5/ 459 زاد عليه زيد بن علي.
(4) . في الطبري 14/ 40 نسبت إلى أبي عمرو بن العلاء والأعمش والكسائي، وفي السبعة 367 والكشف 2/ 31، والتيسير 136، أسقط الأعمش، وذكره في البحر 5/ 459 معهما.(4/288)
- و «وعيشك» يريد به العمر «5» و «العمر» و «العمر» لغتان.
وقوله تعالى: عِضِينَ (91) وهو من «الأعضاء» وواحده «العضة» مثل «العزين» واحده «العزة» . وقوله سبحانه: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) أي: عليّ دلالته. نحو قول العرب «عليّ الطريق الليلة» أي:
علي دلالته.
__________
(5) . نقله في التهذيب 2/ 382 «عمر» .(4/289)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجر» «1»
إن قيل: لم قالوا كما ورد في التنزيل: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) .
اعترفوا بنبوّته، إذ الذكر هو القرآن الذي نزل عليه، ثم وصفوه بالجنون؟
قلنا: إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية لا تصديقا واعترافا، كما روى القرآن الكريم أيضا، حكاية على لسان فرعون لقومه: قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) [الشعراء] ، وكما روى القرآن الكريم حكاية على لسان قوم شعيب (ع) : إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) [هود] ونظائره كثيرة.
الثاني: أن فيه إضمارا تقديره: يا أيها الذي تدّعي أنك نزل عليك الذكر.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) والوارث هو الذي يتجدّد له الملك بعد فناء المورث، والله تعالى إذا مات الخلائق لم يتجدد له ملك، لأنه لم يزل مالكا للعالم بجميع ما فيه ومن فيه؟
قلنا: الوارث في اللغة عبارة عن الباقي بعد فناء غيره، سواء أتجدد له من بعده ملك أو لا، ولهذا يصحّ أن يقال لمن أخبر أن زيدا مات وترك ورثة: هل ترك لهم مالا أو لا؟ فيكون معنى الآية: ونحن الباقون بعد فناء الخلائق. الثاني أن الخلائق لمّا كانوا يعتقدون أنهم مالكون يسمون بذلك أيضا، إما مجازا أو خلافة عن الله تعالى، كالعبد المأذون المكاتب،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(4/291)
ويدل عليه قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران/ 26] فإذا مات الخلائق كلّهم سلمت الأملاك كلّها لله تعالى عن ذلك القدر من التعلّق، فبهذا الاعتبار كانت الوراثة، ونظير هذا قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر/ 16] والملك له سبحانه أزلا وأبدا.
فإن قيل: قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) دلّ على الشمول والاحاطة وأفاد التوكيد، فما الحكمة في قوله سبحانه: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) .
قلنا: قال سيبويه والخليل: هو توكيد بعد توكيد، فيفيد زيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن، ولا يكون تحصيل الحاصل بل تكون نسبة «أجمعون» كنسبة «كلّهم» إلى أصل الجملة. وقال المبرد: قوله تعالى:
أَجْمَعُونَ يدل على اجتماعهم في زمان السجود، وكلهم يدل على حصول السجود من الكلّ، فكأنه قال:
فسجد الملائكة كلّهم معا في زمان واحد. واختار ابن الأنباري هذا القول، واختار الزجّاج وأكثر الأئمة قول سيبويه، وقالوا: لو كان الأمر كما زعم المبرّد لكان «أجمعون» حالا لوجود حدّ الحال فيه وليس بحال لأنه مرفوع، ولأنه معرفة، كسائر ألفاظ التوكيد.
فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله تعالى وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) بما قبله من قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي [الآية 49] ؟
قلنا: لمّا أنزل الله عز وجل نَبِّئْ عِبادِي ولم يعيّن أهل المغفرة وأهل العذاب، غلب الخوف على الصحابة رضي الله عنهم، فأنزل الله تعالى بعد ذلك قصّة ضيف إبراهيم (ع) ليزول خوف الصحابة وتسكن قلوبهم فإنّ ضيف إبراهيم عليه السلام جاءوا ببشارة للولي وهو ابراهيم، وبعقوبة للعدوّ، وهم قوم لوط (ع) وكذلك تنزل الآيتان المتقدّمتان على الولي والعدو لا على الولي وحده. ووجه الارتباط كذلك، أنّ العبد، وإن كان كثير الذنوب والخطايا، غير طامع في المغفرة، فانه لا يبعد أن يغفر الله تعالى له على يأسه، كما رزق إبراهيم الولد على يأسه، بعد ما شاخ وبلغ مائة سنة أو قريبا منها.
فإن قيل: لم قال تعالى على لسان(4/292)
الملائكة قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) أي قضينا والقضاء لله تعالى لا لهم؟
قلنا: إسناد التقدير للملائكة مجاز، كما يقول خواصّ الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا ونهينا عن كذا، ويكون الفاعل لجميع ذلك هو الملك وليس هم، وإنما يظهرون بذلك مزيد قربهم واختصاصهم بالملك.
فإن قيل لم قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) .
وأصحاب الحجر قوم صالح، والحجر اسم واديهم أو مدينتهم على اختلاف القولين، وقوم صالح لم يرسل إليهم غير صالح فكيف يكذّبون المرسلين؟ قلنا: من كذّب رسولا واحدا فكأنما كذب الكل، لأن كل الرسل متفقون في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) ، وقال في سورة الرحمن:
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) ؟
قلنا الجواب عنه من وجهين:
أحدهما قد ذكرناه في مثل هذا السؤال في سورة هود. والثاني أن المراد هنا، أنّهم يسألون سؤال توبيخ وهو سؤال:
لم فعلتم؟ أو المراد: أنهم لا يسألون سؤال استعلام واستخبار وهو سؤال:
هل فعلتم، أو يقال: إن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضه يسألون، وفي بعضها لا يسألون، وتقدّم نظيره.(4/293)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجر» «1»
قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) . وهذه استعارة. والمراد بها صفتهم بالتردّد في غيهم، والتسكّع في ضلالهم. فشبّه تعالى المتلدّد «2» في غمرات الغيّ، بالمتردّد في غمرات السّكر.
وقوله سبحانه: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وهذه استعارة. والمراد بها: ألن كنفك لهم، ودم على لطفك بهم. وجعل سبحانه خفض الجناح، هاهنا، في مقابلة قول العرب إذا وصفوا الرجل بالحدّة عند الغضب: قد طار طيره، وقد هفا حلمه وقد طاش وقاره فإذا قيل: قد خفض جناحه، فإنما المراد به وصف الإنسان بلين الكنف، والكظم عند الغضب.
وذلك ضد وصفه بطيرة المغضب، ونزوة المتوثّب.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى أنهم جعلوا القرآن أقساما مجزّأة، كالأعضاء المعضّاة «3» فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وقيل: جعلوه أقساما، بأن قالوا هو سحر وكهانة وكذب وإحالة.
وأما التأويل الآخر في معنى
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....]
(2) . المتلدد في المكان: المتلبث به. أو المتحيّر المتلفّت يمينا وشمالا.
(3) . المعضّاة: أي المجزّأة المقسّمة.(4/295)
«عضين» فيخرج به اللفظ عن أن يكون مستعارا، وذلك أن يكون معناها على ما قاله بعض المفسّرين معنى الكذب.
قال: وهو جمع عضة، كما كان في القول الأول، إلا أن العضة هاهنا معناها الكذب والزور، وفي القول الأول معناها التجزئة والتقسيم. وقد ذكر ثقات أهل اللغة في العضة وجوها.
فقالوا العضة النميمة، والعضة الكذب، وجمعه عضون. مثل عزة وعزون، والعضة السّحر، والعاضه الساحر.
وقد يجوز أن يكون جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) جمع عضة، من السحر.
أي جعلوه سحرا وكهانة، كما قال سبحانه حاكيا عنهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) [المدّثّر] وإِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ( [الأنعام، هود/ 7، سبأ/ 43، الصافات/ 15] .
وقوله سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) . وهذه استعارة. لأن الصّدع على الحقيقة إنّما يصح في الأجسام لا في الخطاب والكلام. والفرق، والصدع، والفصل، في كلامهم بمعنى واحد. ومن ذلك قولهم للمصيب في كلامه: قد طبّق المفصل. ويقولون: فلان يفصل الخطاب. أي يصيب حقائقه، ويوضح غوامضه. فكأن المعنى في قوله سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهر القول وبيّنه في الفرق بين الحق والباطل. من قولهم صدع الرّداء، إذا شقّه شقّا بيّنا ظاهرا. ومن ذلك صدع الزجاجة. إذا استطار فيها الشق، واستبان فيها الكسر. وإنما قال سبحانه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ولم يقل:
فبلّغ ما تؤمر، لأن الصدع هاهنا أعمّ ظهورا وأشدّ تأثيرا.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك- والله أعلم- أن بالغ في إظهار أمرك، والدعاء إلى ربك، حتى يكون الدين في وضح الصبح، لا يشكّك نهجه، ولا يظلم فجه. مأخوذا ذلك من «1» «الصّديع» لشأنه ووضوح إعلانه.
__________
(1) . الصديع: الصبح. سمّي بذلك، لانصداعه عن ظلمات الليل.(4/296)
الفهرس
سورة يونس
المبحث الأول أهداف سورة «يونس» 3 أهدافها الإجمالية 3 الدرس الأول:
مظاهر قدرة الله 4 الدرس الثاني:
الأدلة على وجود الله 5 الدرس الثالث:
قصص الأنبياء 7 قصة نوح 7 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يونس» 11 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 11 الغرض منها وترتيبها 11 إبطال شبههم على القرآن 11 تحديهم بالقرآن 14 دعوتهم إلى تصديق القرآن بالترغيب والترهيب 15(4/297)
الخاتمة 17 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يونس» 19 المبحث الرابع مكنونات سورة «يونس» 21 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يونس» 23 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يونس» 33 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يونس» 41 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يونس» 49
سورة هود
المبحث الأول أهداف سورة «هود» 55 تمهيد عن الوحدة الموضوعية للسورة 55 عناصر الدعوة الإلهية 55 1- العقيدة والإيمان بالله 57 2- إعجاز القرآن 58 3- القصص في سورة «هود» 60 قصة نوح (ع) 61 قصة هود 62(4/298)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «هود» 65 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 65 الغرض منها وترتيبها 65 إثبات تنزيل القرآن 65 تثبيت النبي بالقصص على تكذيبهم 67 الخاتمة 69 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «هود» 71 المبحث الرابع مكنونات سورة «هود» 73 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «هود» 77 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «هود» 85 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «هود» 91 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «هود» 105
سورة يوسف
المبحث الأول أهداف سورة «يوسف» 117 قصة يوسف 119(4/299)
يوسف بين إخوته وأبيه 120 رؤيا يوسف 121 يوسف وامرأة العزيز 122 يوسف عزيز مصر 124 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «يوسف» 127 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 127 الغرض منها وترتيبها 127 المقدمة 127 قصة يوسف (ع) 128 الخاتمة 132 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «يوسف» 135 المبحث الرابع مكنونات سورة «يوسف» 137 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «يوسف» 143 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «يوسف» 161 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «يوسف» 167 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «يوسف» 177(4/300)
سورة الرعد
المبحث الأول أهداف سورة «الرعد» 185 موضوع السورة 185 مشاهد الكون في سورة الرعد 186 أدلة الألوهية في سورة الرعد 188 النصف الثاني من سورة الرعد 190 التناسق الفني في سورة الرعد 192 (المبحث الثاني) ترابط الآيات في سورة «الرعد» 195 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 195 الغرض منها وترتيبها 195 المقدمة 196 رد شبهتهم الأولى على القرآن 196 رد شبهتهم الثانية على القرآن 198 (المبحث الثالث) أسرار ترتيب سورة «الرعد» 201 المبحث الرابع مكنونات سورة «الرعد» 203 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الرعد» 205 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الرعد» 211(4/301)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الرعد» 215 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الرعد» 217
سورة إبراهيم
المبحث الأول أهداف سورة «إبراهيم» 225 وحدة الرسالات السماوية في سورة إبراهيم 227 المقطع الثاني من سورة إبراهيم 229 نعم الله 229 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «إبراهيم» 233 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 233 الغرض منها وترتيبها 233 نزول القرآن للترغيب في الإيمان والتحذير من الكفر 234 اتحاد الغرض من الكتب المنزلة 234 ترهيب المشركين وترغيبهم 235 (المبحث الثالث) أسرار ترتيب سورة «إبراهيم» 237 المبحث الرابع مكنونات سورة «إبراهيم» 239 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «إبراهيم» 241(4/302)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «إبراهيم» 245 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «إبراهيم» 249 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «إبراهيم» 257
سورة الحجر
المبحث الأول أهداف سورة «الحجر» 265 الآيات الكونية في سورة الحجر 267 قصة آدم في سورة البقرة والأعراف والحجر 268 خلق الإنسان 270 الربع الأخير من سورة الحجر 270 الحجر 271 (المبحث الثاني) ترابط الآيات في سورة «الحجر» 273 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 273 الغرض منها وترتيبها 273 إثبات تنزيل القرآن 273 ترهيب المشركين بأخبار المكذبين قبلهم 274 الخاتمة 275 (المبحث الثالث) أسرار ترتيب سورة «الحجر» 277(4/303)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الحجر» 279 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الحجر» 281 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الحجر» 287 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الحجر» 291 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الحجر» 295(4/304)
الجزء الخامس
سورة النحل
البحث الأول أهداف سورة «النحل» «1»
عرض إجمالي للسورة
سورة النحل سورة مكية، وعدد آياتها «128» آية، وهي سورة هادئة الإيقاع والجرس، ولكنها مليئة حافلة، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوّعة، والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل.
وهي، كسائر السور المكية، تعالج موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية، والوحي والبعث، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين رسالة إبراهيم (ع) ، ورسالة محمد (ص) ، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية في ما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال، وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذّبين لهم، وتلمّ بموضوع التحليل والتحريم، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع، وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان، وجزاء هذا كله عند الله، ثم تضيف الى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة: العدل والإحسان، والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأمّا الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل: هو السماوات والأرض، والماء الهاطل،
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(5/3)
والشجر النامي، والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار، هو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والاخرة بأقدارها ومشاهدها، هو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير، حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعدّدة الأوتار، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتّجه الى العقل الواعي كما تتّجه الى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثّر والعقل ليتدبّر، وتحشد الكون كله: سماءه وأرضه، شمسه وقمره، ليله ونهاره، جباله وبحاره، فجاجه وأنهاره، ظلاله وأكنانه، نبته وثماره، حيوانه وطيوره، كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا ينغلق أمامها إلا القلب الميت والعقل المنكوس، والحس المطموس.
هذه الإيقاعات، تتناول التوجيه الى آيات الله في الكون، وآلائه على الناس، كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين، تصاحبها اللمسات الوجدانية، التي تتسرب الى أسرار الأنفس، وأحوال البشر، وهم أجنّة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة، كذلك تتّخذ السورة الأمثال، والمشاهد، والحوار، والقصص الخفيف، أدوات للعرض والإيضاح.
فأمّا الظلال العميقة التي تلون جو السورة كلّه، فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخالق، وعظمة النعمة وعظمة العلم والتدبير. كلها متداخلة، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسدّ الضرورة، وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم، وتستريح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون. ومن ثم تتراءى في(5/4)
السورة ظلال النعمة، وظلال الشكر، والتوجيهات إليها، والتعقيب بها، في مقاطع السورة، وتضرب عليها الأمثال، وتعرض لها النماذج، وأظهرها نموذج إبراهيم:
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) . كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والأفكار، والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نشاهده في أثناء استعراضنا لأجزاء السورة.
التوحيد في السورة
تبدأ سورة النحل بآية مشهورة، تقال كثيرا عند ما يحين الأجل، ويقف الإنسان عاجزا أمام حوادث القدر، يقول سبحانه:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) .
ومن أسباب نزول هذه الآية، أنّ أهل مكة كانوا يستعجلون الرسول (ص) أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الاخرة. وكلما امتدّ بهم الأجل، ولم ينزل العذاب، زادوا استعجالا، وزادوا استهزاء واستهتارا، وحسبوا ان محمدا يخوّفهم بما لا وجود له ولا حقيقة، ليؤمنوا له ويستسلموا، ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم، ورحمته في إنظارهم، ولم يحاولوا تدبّر آياته في الكون، وآياته في القرآن.
نعم الله
تسترسل الآيات في سورة النحل، تستعرض نعم الله سبحانه على الإنسان، فتذكر خلق السماوات والأرض والإنسان، والأنعام والنبات، والليل والنهار، والجبال والبحار، والشمس والقمر والنجوم، وهي ظواهر طبيعية ملموسة، ولكننا إذا قرأنا الآيات [3- 18] في سورة النحل نجد أننا أمام لوحة كونية معروضة، تنتقل بالإنسان من مشهد الى آخر، وكل مشهد يدل على وحدانية الخالق، ووحدانية المنعم. وتعرض الآيات هذه النعم فوجا فوجا، ومجموعة مجموعة.
في الفوج الأول، تتحدّث الآيات عن خلق السماوات والأرض، فيقول سبحانه:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الآية 3] .
فالحق قوام خلقهما والحق قوام تدبيرهما والحق عنصر أصيل في(5/5)
تصريفهما، وتصريف من فيهما وما فيهما، فما من شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف، بل كل شيء قائم على الحق، وملتبس به، وسائر في النهاية اليه.
ثم تستعرض الآيات نعمة خلق الأنعام، والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة العربية كانت الإبل والبقر والضأن والمعز، وقد أباح الله أكلها، أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة، ولا تؤكل، ثم يجيء التعقيب على هذه النعمة، بقوله سبحانه:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) .
ليظل المجال مفتوحا في التصوّر البشري لتقبّل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة، قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلّها، ومقدّرات الحياة كافة، ومن ثم يهيّئ القرآن الأذهان لاستقبال كلّ ما تتمخض عنه القدرة والعلم والمستقبل، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعدّ لتلقي كل جديد، في عجائب الخلق، والعلم والحياة.
ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان، وستجدّ وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان، والقرآن يهيّئ القلوب والأذهان بلا جمود ولا تحجّر، حينما يقول سبحانه وتعالى:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) .
والفوج الثاني: من آيات الخلق والنعمة، إنزال الماء، وإنبات النبات والمرعى والزرع، التي يأكل منها الإنسان، مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار.
في الفوج الثالث تتحدث الآيات عن تسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم، وكلّها ذات أثر حاسم في حياة الإنسان، ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل، أو ليلا بلا نهار، ثمّ يتصوّر مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون، كلّ أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله. يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) .
وفي الفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان:(5/6)
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) .
امتنّ الله سبحانه على عباده، بما خلق لهم في الأرض من ألوان المنافع. وبما أودعه فيها للبشر، من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم، في بعض الجهات وفي بعض الأزمان، ولفتهم إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض، المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها، ووقت الحاجة إليها، وكلما قيل: إن كنزا منها قد نفد، أعقبه كنز آخر أكثر غنى، من رزق الله المدّخر للعباد قال تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) .
ثم امتنّ سبحانه على عباده بالبحر المالح، وما يشتمل عليه من صنوف النعم، «فمنها اللحم الطري من السمك وغيره للطعام، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان، وغيرها من الأصداف والقواقع» .
ومنها مرور السفن تمخر عباب البحر، وتيسّر المصالح، وتبادل المنافع بين الناس، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) .
وعند ما ينتهي استعراض النعم يبيّن القرآن، أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق، وأنّ نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [الآية 18] .
وحدة الألوهية
تتعرض الآيات [22- 50] لتقرير وحدة الألوهية فيقول سبحانه:
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية 22] .
وكل ما سبق في السورة، من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم، يؤدي الى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة، وهي أن هذا الكون البديع المنظم، لا يحفظ نظامه إلا إله واحد، والذين لا يسلّمون بهذه الحقيقة، قلوبهم منكرة، فالجحود صفة كامنة فيها، والعلة أصيلة في نفوسهم المريضة، وطباعهم المعاندة المتكبرة، عن الإقرار والإذعان والتسليم.(5/7)
وتختم هذه الآيات، بمشهد مؤثّر، مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله، ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة قد برئت نفوسهم من الاستكبار، وامتلأت بالخوف من الله، والطاعة لأمره بلا جدال. هذا المشهد الخاشع الطائع، يقابل صورة المستكبرين، المتكبرة قلوبهم، في مفتتح هذه المجموعة من الآيات.
وبين المطلع والختام، يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين للوحي والقرآن، إذ يزعمون أنه أساطير الأوّلين ومقولاتهم، عن أسباب شركهم بالله، وتحريمهم ما لم يحرّمه الله، إذ يدّعون أنّ الله أراد منهم الشر، وارتضاه ومقولاتهم عن البعث والقيامة، إذ يقسمون جهدهم، لا يبعث الله من يموت، ويتولّى سبحانه الردّ على مقولاتهم جميعا، ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم، ومشاهد بعثهم، وفيها يتبرّءون من تلك المقولات الباطلة، كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذّبين أمثالهم، ويخوّفهم أخذ الله لهم في ساعة من ليل أو نهار، وهم لا يشعرون، وهم في تقلّبهم في البلاد، أو يأخذهم وهم على تخوّف وتوقّع وانتظار للعذاب.
إلى جوار هذا، يعرض صورا من مقولات المتّقين المؤمنين، وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء ... وينتهي هذا الدرس، بذلك المشهد الخاشع الطائع، للظلال والدواب والملائكة، في الأرض والسماء. والسياق القرآني، يعبّر عن خضوع الأشياء لنواميس الله، بالسجود، وهو أقصى مظاهر الخضوع، ويوجه الى حركة الظلال المتفيّئة، أي الراجعة بعد امتداد، وهي حركة لطيفة خفيفة ذات دبيب في المشاعر والأعماق، ويرسم المخلوقات داخرة أي خاضعة خاشعة، ويضم إليها ما في السماوات وما في الأرض من دابة، ويضيف الى الحشد الكوني، الملائكة، في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود، قال تعالى:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) .(5/8)
أدلة الوحدانية
تستمر الآيات من 51 الى 76 في سورة النحل، في إثبات قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدّد، تبدأ فتقرر وحدة الإله ووحدة الملك، ووحدة المنعم، في الآيات الثلاث الأولى متواليات، وتختتم بمثلين تضربهما للسيد المالك الرازق، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، ولا يملك شيئا.. هل يستويان؟ فكيف يسوّى الله المالك الرازق، بمن لا يقدر ولا يملك ولا يرزق؟ فيقال: هذا إله وهذا إله؟
وفي خلال هذا الدرس، تعرض الآيات نموذجا بشريّا للناس، حين يصيبهم الضرّ، فيجأرون إلى الله وحده، وإذا كشف عنهم الضر، راحوا يشركون به غيره.
وتعرض الآيات صورا من أوهام الوثنية وخرافاتهم، في تخصيص بعض ما رزقهم الله لآلهتهم المدّعاة، في حين أنهم لا يردون شيئا مما يملكونه على عبيدهم، ولا يقاسمونهم إياه وفي نسبة البنات الى الله، على حين يكرهون ولادة البنات لهم:
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) .
وفي الوقت الذي يجعلون لله ما يكرهون، تروح ألسنتهم تتشدّق بأنّ لهم الحسنى، وأنّهم سينالون على ما فعلوا خيرا، وهذه الأوهام التي ورثوها من المشركين قبلهم، هي التي بعث الرسول (ص) ليبيّن لهم الحقيقة فيها، وليخرجهم من ظلمات الشرك الى نور اليقين. ثم تأخذ الآيات في عرض نماذج من صنع الألوهية الحقّة، في تأملها عظة وعبرة، فالله وحده القادر عليها، الموجد لها. وهي هي دلائل الألوهية لا سواها: فالله أنزل من السماء ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، والله يسقي الناس- غير الماء- لبنا سائغا، يخرج من بطون الأنعام، من بين فرث ودم، والله يطلع للناس ثمرات النخيل والأعناب، يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا، والله أوحى إلى النحل لتتخذ من الجبال بيوتا، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم تخرج عسلا فيه شفاء للناس.
اسم السورة
وقد سميت هذه السورة بسورة النحل، للإشارة الى الأمر العجيب الدقيق في شأن النحل، فهي تعمل(5/9)
بإلهام من الفطرة التي أودعها إيّاها الخالق، وهذا الإلهام لون من الوحي تعمل النحل بمقتضاه، وهي تعمل بدقة عجيبة، يعجز عن مثلها العقل المفكّر، سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفّى.
وهي تتّخذ بيوتها حسب فطرتها، في الجبال والشجر، وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها، وقد ذلّل الله لها سبل الحياة، بما أودع في فطرتها، وفي طبيعة الكون حولها، من توافق، قال تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) .
وقد سئل الإمام الشافعي بم عرفت الله؟ قال بالنحلة نصفها يعسل، ونصفها يلسع، وفي الحديث: المؤمن كالنحلة. أي أنه خفيف الظل مترفّع في هدفه، لا يأكل إلا طيّبا، ولا يترك إلا أثرا حسنا، وإذا وقع على شيء لم يكسره. وتستمر الآيات في عرض أدلّة القدرة الإلهية، فتذكر أن الله يخلق الناس، ويتوفّاهم، ويؤجّل بعضهم، حتى يشيخ فينسى ما تعلّمه، ويرتدّ ساذجا لا يعلم شيئا، والله فضّل بعضهم على بعض في الرزق، والله جعل لهم من أنفسهم أزواجا وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، وهم، بعد هذا كله، يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض، ويجعلون لله الأشباه والأمثال.
هذه اللّمسات كلّها في أنفسهم وفي ما حولهم. يوجههم إليها، لعلّهم يستشعرون القدرة، وهي تعمل في ذواتهم، وفي طعامهم، وفي شرابهم، وفي كل شيء حولهم. وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد جلّ جلاله.
مظاهر القدرة الإلهية
تتحدث الآيات [77- 89] في سورة النحل، عن مظاهر القدرة الإلهية، فتوضح عظمة الخالق، وفيض نعمته، وإحاطة علمه. وتركّز الآيات في هذا الشوط على قضية البعث، والساعة أحد أسرار الغيب، الذي يختص الله بعلمه، فلا يطلع عليه أحدا.(5/10)
وموضوعات هذا الدرس، تشمل ألوانا من أسرار غيب الله في السماوات والأرض، وفي الأنفس والآفاق: غيب الساعة التي لا يعلمها إلا الله وهو عليها قادر، وهي عليه هيّنة:
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [الآية 77] ، وغيب الأرحام، والله وحده هو الذي يخرج الأجنة من هذا الغيب لا تعلم شيئا، ثم ينعم على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة، لعلّهم يشكرون نعمته، وغيب أسرار الخلق، ويعرض منها تسخير الطير في جو السماء، ما يمسكها الا الله.
يلي هذا الدرس استعراض لبعض نعم الله المادية على الناس، وهي بجانب تلك الأسرار، وفي جوّها: نعم السكن والهدوء والاستظلال، في البيوت المبنية، والبيوت المتخذة من جلود الأنعام للظعن والإقامة، والأثاث والمتاع، من الأصواف والأوبار والأشعار.
وتذكر الآيات من نعم الله الظلال، والأكنان، وهي ما يستر الإنسان ويغطّيه، والسرابيل وهي ما يلبسه الإنسان من قميص يقيه الحر والبرد، أو درع تقيه بأس الحرب: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) .
ثم تفصّل الآيات أمر البعث، في مشاهد يعرض فيها المشركون وشركاؤهم، والرسل شهداء عليهم، والرسول (ص) شهيد على قومه.
وبذلك تكتمل هذه الجولة في جو البعث والقيامة.
الأوامر والنواهي
تتعرّض الآيات [90- 111] في سورة النحل، لشرح بعض أهداف القرآن الكريم، ويبدأ هذا الدرس بآية شهيرة، يردّدها الخطباء على المنابر في نهاية خطبة الجمعة، وهي قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) .
وفي هذا الدرس أمر بالوفاء بالعهد، ونهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وكّلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها القرآن الكريم.
وفي هذا الدرس، بيان الجزاء المقرر، لنقض العهد، واتخاذ الأيمان للخداع والتضليل، وهو العذاب(5/11)
العظيم. والبشرى للذين صبروا، ومضاعفة الثواب لهم.
ثم تذكر الآيات بعض آداب تلاوة القرآن، وهي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، لطرد شبحه من مجلس القرآن الكريم، كما تذكر بعض تقوّلات المشركين عن القرآن، فمنهم من يرمي الرسول (ص) بافترائه على الله، ومنهم من يقول: إن غلاما أعجميّا هو الذي يعلمه هذا القرآن.
وفي نهاية الدرس، يبيّن جزاء من يكفر بعد إيمانه، ومن يكره على الكفر، وقلبه مطمئنّ بالإيمان. ويبيّن جزاء من فتنوا عن دينهم، ثم هاجروا، وجاهدوا، وصبروا. وكلّ أولئك، تبيان وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وفي الآيات إباحة لمن أكره على الكفر، أن ينطق لسانه به، ما دام قلبه عامرا بالإيمان. روى ابن جرير بإسناده أن العذاب لمّا اشتد على عمار بن ياسر، نطق ببعض ما أرادوا، ثم شكا ذلك الى النبي (ص) فقال له النبي:
«كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنّا بالإيمان. قال النبي: «إن عادوا فعد» ، فكانت رخصة في مثل هذه الحال. وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم، مؤثرين الموت على لفظه باللسان، كذلك صنعت سميّة أم ياسر، وهي تطعن بالحربة في موضع العفّة حتى تموت، وكذلك صنع أبوها ياسر.
وقد كان بلال، رضوان الله عليه، يعذّب أشدّ العذاب، حتى لتوضع الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويطلب منه أن ينطق بكلمة الشرك، فيأبى وهو يقول: أحد أحد.
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي
ختام سورة النحل
يتحدث الربع الأخير من سورة النحل، عن مثل ضربه الله سبحانه، لتصوير حال مكّة وقومها المشركين، الذين جحدوا نعمة الله عليهم، لينظروا المصير الذي يتهدّدهم من خلال المثل الذي يضربه لهم، حين يقول سبحانه:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) .(5/12)
وهي حال أشبه شيء بحال مكّة جعل الله فيها البيت، وجعلها بلدا حراما، من دخله فهو آمن مطمئن، لا تمتدّ إليه يد، ولو كان قاتلا، ولا يجرأ أحد على إيذائه، وهو في جوار بيت الله الكريم. وكان الناس يتخطّفون من حول البيت، وأهل مكّة في حراسته وحمايته كانوا آمنين مطمئنين، كذلك كان رزقهم يأتيهم هيّنا هنيئا، من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع، فكانت تجيء إليهم ثمرات كل شيء، فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد، منذ دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام، فإذا كذّب أهل مكة بدعوة محمد (ص) ، وجحدوا رسالته، استحقوا العقاب والعذاب ولباس الجوع والخوف، جزاء كفرهم وعنادهم.
ثم ينتقل السياق بهم، الى الطيّبات التي حرّمها أبناء القبائل المكية على أنفسهم، اتّباعا لأوهام الوثنية، وقد أحلّها الله لهم، وحدّد المحرّمات، وبيّنها، وليست هذه منها، وذلك لون من الكفر، بنعمة الله، وعدم القيام بشكرها، يتهدّدهم بالعذاب الأليم من أجله. وهو افتراء على الله لم تنزل به شريعة.
وبمناسبة ما حرّم على المسلمين من الخبائث، يشير الى ما حرّم على اليهود من الطيّبات بسبب ظلمهم. وقد جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم.
ولم يكن محرّما على آبائهم، في عهد إبراهيم (ع) الذي كان أمّة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعمه، اجتباه وهداه الى صراط مستقيم. فكانت حلالا له الطيبات، ولبنيه من بعده، حتى حرّم الله بعضها على اليهود، عقوبة لهم خاصة، ومن تاب من بعد جهالته، فإن الله غفور رحيم.
ثم جاءت رسالة محمد (ص) ، امتدادا واتّباعا لرسالة ابراهيم (ع) ، فعادت الطيّبات كلّها حلالا، وكذلك السبت الذي منع فيه اليهود من الصيد، فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه، ففريق كف عن الصيد، وفريق نقض عهده، فمسخه الله، وانتكس عن مستوى الإنسانية.
وتختم السورة عند هذه المناسبة بالأمر الى الرسول (ص) ، أن يدعو الى سبيل ربّه، بالحكمة والموعظة(5/13)
الحسنة. وأن يجادلهم بالتي هي أحسن. وأن يلتزم قاعدة العدل، في ردّ الاعتداء بمثله دون تجاوز ...
والصبر والعفو خير، والعاقبة بعد ذلك للمتّقين المحسنين، لأن الله معهم ينصرهم ويرعاهم، ويهديهم طريق الخير والفلاح.
وفي أسباب نزول القرآن، أنّ الآيات الأخيرة من سورة النحل، نزلت في حمزة بن عبد المطلب، حين استشهد في غزوة أحد، وفي هذه الغزوة مثّل المشركون بالمسلمين، فبقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم، وما تركوا أحدا غير ممثّل به، سوى حنظلة بن الراهب، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، ثمّ وقف رسول الله (ص) على جثّة حمزة، وقد مثّل به، فرآه مبقور البطن فقال: «أما والذي أحلف به، إن أظفرني الله بهم، لأمثّلن بسبعين مكانك» فنزل قوله تعالى:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) .
ولما نزلت هذه الآية، كفّر النبي (ص) عن يمينه، وكفّ عما أراده، ومن هذا ذهبوا الى أن خواتيم سورة النحل مدنية، ولا خلاف في تحريم المثلة، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها، حتى بالكلب العقور.(5/14)
البحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النحل» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النحل بعد سورة الكهف، وهي من السور التي نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة النحل في ذلك التاريخ أيضا، وقيل إنها من السور المدنية.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) . وتبلغ آياتها ثماني وعشرين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بالعذاب، وإبطال شركهم، وردّ شبههم على القرآن والنبوة والبعث، وهي أمور متشابكة متلازمة وقد افتتحت بآيتين، أجملت فيهما تلك الأغراض، وقصد بهما التمهيد لتفصيل الكلام فيها، ثم ختمت بذكر نعمة الله على أولئك المشركين، بسكنى حرمه، وأنهم كفروا بنعمته بهذا عليهم، فجوزوا بذلك العذاب الذي حقّ عليهم.
وقد جعلت بعد سورة الحجر، لأنه أمره، في آخرها، أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين. وقد افتتحت هذه السورة بأن ما وعدوا به قد أتى وقته وحان حينه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/15)
إبطال الشرك الآيات [1- 23]
قال الله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) فافتتحها بآيتين أجمل فيهما أغراضها، فأنذرهم فيهما بأنه أتى أمره بعذابهم، ونزّه ذاته عن شركائهم وذكر أنه ينزّل الملائكة بالوحي على من يشاء من عباده، لينذروا الناس بتوحيده ويأمروهم بتقواه.
ثم شرع في إبطال الشرك وإثبات التوحيد، فذكر سبحانه، أنه خلق السماوات والأرض بالحق، وأنه خلق الإنسان من نطفة. وأنه خلق الأنعام فيها دفء ومنافع لنا، وأنه خلق الخيل والبغال والحمير لنركبها ونتّخذها زينة وأنه يخلق غير هذا، مما لا يدخل في علمنا وأنّه يبين بهذا قصد السبيل إليه، ومنها جائر ينحرف عنه ولو شاء سبحانه لهداهم أجمعين. ثم ذكر أنه سبحانه هو الذي أنزل من السماء ماء، منه شراب ومنه شجر، وأنه جلّ شأنه، ينبت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات وأنه تعالى، سخّر الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، وأنه سخّر البحر لنأكل منه لحما طريا، ونستخرج منه حلية نلبسها، وأنه ألقى في الأرض رواسي: جبالا، وأنهارا وسبلا لنهتدي بها وأنه جعل علامات في هذه السبل، لنهتدي بها فيها، كما نهتدي بالنجم أيضا.
ثم ذكر، أنه لا يصح أن يكون من يخلق هذا كله، كمن لا يخلق، من أصنامهم التي يتخذونها شركاء له وأنهم إن يعدّوا نعمته ممّا سبق وغيره لا يحصوها وأنه سبحانه يعلم سرّهم وعلانيتهم، وأنّ الذين يدعونهم من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، وهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون، ثم ذكر أنّه يجب بعد هذا كله أن يكون إلههم واحدا، وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون به، لأن قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) .
رد شبهة لهم على القرآن الآيات [24- 34]
ثم قال تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) فذكر أنهم إذا سئلوا عن القرآن، قالوا إنه(5/16)
أساطير الأولين، وأجاب عنه بتهديدهم، بأنهم يحملون به أوزارهم، وبعض أوزار الذين يضلّونهم بغير علم، ثم ذكر أنّ المكذّبين من الأولين، قد مكروا بمثل ما يمكرون به في القرآن، فأبطل مكرهم وأهلكهم، ثم يوم القيامة يخزيهم ويسألهم أين شركاؤهم الذين كانوا يخاصمون بالطعن في القرآن من أجلهم؟ فيجيب الذين أوتوا العلم من الملائكة، أو المؤمنين، بأنّ الخزي اليوم والسوء عليهم، فلا يمكنهم أن يجيبوا من خزيهم، ثم ذمّهم بأنهم يموتون ظالمي أنفسهم بشركهم، فلا يجدون إلا أن يلقوا السّلم، وينكروا ما عملوا من سوء، فيرد عليهم بأنه عليم بما كانوا يعملون، ويأمرهم أن يدخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها، وبئس مثواها لهم.
ثم ذكر أن المؤمنين، إذا سئلوا عن القرآن، أجابوا بأنه خير للناس، وأنه سيجازيهم على هذه الحسنة بمثلها في الدنيا، وبخير منها في الاخرة، فيدخلون جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار، لهم فيها ما يشاءون ممّا تشتهيه أنفسهم. وكذلك يجزي الله المتّقين هذا الجزاء الحسن، ثم مدحهم بأنّ الملائكة يتوفّونهم طيّبين، فيتلقّونهم بالسلام، ويأمرونهم بدخول الجنة، جزاء لهم بما كانوا يعملون.
ثم هدّد المكذّبين بأنهم لا ينتظرون بتكذيبهم، إلّا أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم أمره بهلاكهم. كما أهلك من فعل من الأولين مثل فعلهم، وما ظلمهم بهذا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) .
عود الى إبطال شركهم الآيات [35- 37]
ثم قال تعالى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) فذكر أنهم استدلوا على شركهم، بأنه وقع بإرادته ومشيئته، وهو لا يشاء إلّا ما يرضاه وردّ عليهم بأن المشركين قبلهم فعلوا مثل فعلهم، فلم يمنع ما نزل من عذابه لهم، وليس على الرسل إلّا ان يبلغوا من أرسلوا إليهم، فإذا بلغوهم زال بهذا عذرهم ثم ذكر أن(5/17)
كل الرسل، بعثوا بإبطال الشرك، فمن أقوامهم من هداه إلى الإيمان به، ومنهم من حقت عليه الضلالة فساءت عاقبتهم ثم ذكر للنبي (ص) أن شأن قومه في هذا، مثلهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) .
رد شبهة لهم على البعث الآيات [38- 42]
ثم قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) فذكر إنكارهم للبعث، وأجاب عنه بأنه لا بدّ منه، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون، لأنه يبيّن لهم به ما يختلفون فيه، ويعلم به الكافرون أنهم كانوا كاذبين، وهو إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فلا يعجزه البعث، كما لم يعجزه الخلق.
ثم ذكر أنه سيجازي المؤمنين، في الدنيا حسنة، وأن أجرهم بعد البعث أكبر، لو كانوا يعلمون الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) .
رد شبهة لهم على النبوة الآيات [43- 50]
ثم قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) فردّ على ما يزعمونه، من أنّ الرسول لا يكون بشرا، بأنّه لم يرسل سبحانه من قبله إلّا رجالا مثله، وأمرهم أن يسألوا أهل العلم عن هذا، إن كانوا لا يعلمون ثم هدّدهم على مكرهم بهذا، أن يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، الى غير هذا مما هدّدهم به ثم ذكر ما يثبت قدرته على هذا، فحثّهم على النظر فيما خلق من شيء، يتفيّئون ظلاله عن اليمين والشمائل سجّدا لله سبحانه، وهم داخرون. وذكر جل جلاله، أنه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض، من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون:
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) .
عود الى إبطال أنواع من الشرك الآيات [51- 100]
ثم قال تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)(5/18)
فأبطل مذهب الثنوية، الذين يقولون بإله الخير وإله الشر، لأن له سبحانه، ما في السماوات والأرض من خير وشر، ونعمة وضر ثم بيّن لهم أنهم إن كفروا بما آتاهم من النعم، وتمتّعوا، فسوف يعلمون عاقبة ذلك وقد ورد الكلام بصيغة الأمر التهديدي. ثم ذكر أنهم يجعلون لأصنامهم نصيبا ممّا رزقهم من زروعهم وأنعامهم، وهي جماد لا تحسّ نذرهم، وأنهم يجعلون له سبحانه البنات من الملائكة، ولأنفسهم ما يشتهون من البنين ثم ذكر أنّ من كرههم للبنات أنهم إذا بشّر أحدهم بالأنثى، ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم، يتوارى من قومه من سوء ما بشّر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ليتخلص من عاره بينهم ثمّ عجب من سوء حكمهم بهذا، وحكم بأن لهم صفة السوء وهي الاحتياج الى الولد، وله الصفة العليا وهي عدم الاحتياج إليه وذكر أنه لو يؤاخذهم بهذا الكفر ما ترك على الأرض من دابّة، ولكنه يؤخّرهم الى أجل مسمّى، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ثم ذكر ثانيا أنهم يجعلون له البنات ولأنفسهم البنين، ليوجب أن لهم النار، وأنهم مفرطون.
ثم أقسم بنفسه أنه أرسل إلى أمم من قبله، فزيّن لهم الشيطان شركهم، فهو يزيّنه لهؤلاء المشركين، كما زيّنه لتلك الأمم ثم ذكر أنه لم ينزل عليه القرآن إلا ليبيّن لهم ما وقعوا فيه من الشرك، وليكون هدى ورحمة لمن يؤمن به.
ثم ذكر، مما يدل على وحدانيته جلّ جلاله، أنه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأنه جعل لنا في الأنعام عبرة، يسقينا مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا وأنه سبحانه، جعلنا نتخذ من ثمرات النخيل والأعناب سكرا ورزقا حسنا، وأنه أوحى الى النحل أن تتخذ من الجبال وغيرها بيوتا، وأن تأكل من الثمرات كلّها، ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس إلى غير هذا ممّا ذكر من الأدلّة على وحدانيته.
ثم ذكر سبحانه أنهم مع هذا يعبدون من دونه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض ونهاهم أن يضربوا له الأمثال، بقولهم إنهم خدّامه وأقرب الخلق إليه، فهم يتخذونهم(5/19)
وسيلة له، لأنه أجلّ من أن يتوجهوا إليه بأنفسهم وهم في هذا، كأصاغر الناس يخدمون حاشية الملك، وحاشيته هي التي تخدمه فهذه كلّها أمثال باطلة، والله يعلم الأمثال الصحيحة، وهم لا يعلمون.
ثم ضرب لهم من أمثاله الصحيحة، مثلين له ولشركائهم: أحدهما مثل عبد مملوك، لا يقدر على شيء ورجل رزق رزقا حسنا، ينفق منه سرّا وجهرا، فلا يصحّ أن يكون أحدهما مساويا للآخر. وثانيهما مثل رجلين، أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو ثقيل على مولاه أينما يوجّهه لا يأت بخير، وثانيهما يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، فلا يصحّ أيضا أن يكون أحدهما مساويا للآخر.
ثم ذكر، من صفات كماله، تأكيدا لمضمون هذين المثلين، أنّ له غيب السماوات والأرض، وأنّ أمر الساعة عنده كلمح البصر، أو هو أقرب، وأنه يخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، ويجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، الى غير هذا من نعمه علينا ثم ذكر أنهم إن أعرضوا بعد هذا، فليس على النبي (ص) إلا أن يبلّغهم وذمّهم بأنهم يعرفون نعمته، ثم ينكرونها، وأكثرهم الكافرون.
ثم شرع في بيان حالهم وحال شركائهم في يوم بعثهم، ليذكر تكذيبهم لهم فيما يزعمونه من ألوهيتهم فذكر أنّه سبحانه، يبعث يوم القيامة مع كل أمة شهيدا منها، وهو رسولها. ثم لا يؤذن لمن كفر منها في كلام ولا استعتاب، وإذا رأوا عذابهم سيقوا إليه من غير إمهال، وإذا رأوا شركاءهم قالوا لربهم: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [الآية 86] فيكذبونهم، فيما ينسبونه إليهم من الألوهية، وهناك يستسلمون لما يحكم به عليهم، ولا يجدون أحدا من شركائهم يشفع لهم ثم ذكر أن من كان منهم، يضمّ الى كفره صدّ غيره عن الإيمان، يزيده عذابا فوق عذاب كفره ثم ذكر ثانيا، أنه يبعث من كل أمّة شهيدا عليهم منهم، ليذكر أنه يجيء بالنبي (ص) شهيدا على أمته، وقد قطع عليهم عذرهم، بتنزيله القرآن تبيانا لكلّ شيء، وهدى ورحمة وبشرى، لمن يؤمن به.
ولما ضرب في المثل الثاني من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، فصّل(5/20)
ما أجمله فيه، فذكر أنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فجمع في ذلك ما يتّصل بالتكليف فرضا ونفلا، وما يتّصل بالأخلاق عموما وخصوصا. ثم ذكر ممّا جمعه في ذلك من المأمورات والمنهيات، الأمر بالوفاء بعهد الله، والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها ونهاهم أن يتّخذوها على غشّ وخديعة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، إذ كانوا يحالفون قوما، ثم يجدون غيرهم أقوى منهم فينقضون حلفهم، ويحالفون من وجدوهم أقوى منهم ثم ذكر أنه يختبرهم بهذا التكليف، ولو شاء لجمعهم عليه بالإلجاء، فجعلهم أمّة واحدة في الوفاء بعهده، ولكنّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، ثم يسألهم جميعا عن عملهم. ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم، ليوعدهم عليه بما أوعدهم به ونهاهم أن يشتروا بعهده ثمنا قليلا من عرض الدنيا، لأنّ ما عنده هو خير لهم لبقائه، وما عندهم ينفد ولا يبقى ثم بيّن ما عنده من الجزاء الحسن، والحياة الطيبة، لمن يستحقها من المؤمنين، الذين يصبرون على الوفاء بالعهد، وأنه يجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون.
ثم ذكر، مما جمعه فيما سبق من المأمورات والمنهيات، الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن، ليرشدهم الى ما تخلص به أعمالهم من وساوسه، ويستحقون به الجزاء الذي وعدهم به ثم ذكر أنه لا سلطان للشيطان على المؤمنين الذي يتوكلون على ربهم إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) .
عود الى رد شبههم على القرآن الآيات [101- 111]
ثم قال تعالى وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) . فذكر لهم شبهتين أخريين في القرآن: أولاهما أنهم كانوا إذا نسخ حكم آية بآية أخرى يقولون:
«والله ما محمد إلّا يسخر بأصحابه.
اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، فما هذا إلّا من عنده» وقد أجابهم سبحانه عنها بأنه أعلم بحكمة ذلك، وما فيه من المصلحة للعباد وبأنه نزّل القرآن(5/21)
ليثبّت المؤمنين بأخذهم بالأحكام على التدريج، ويكون هدّى وبشرى لهم فلا يصحّ مع هذا، أن يؤخذوا بالأحكام دفعة واحدة.
والشبهة الثانية، أنهم كانوا يقولون إنه يتعلّم القرآن من بعض نصارى مكة، من الأعاجم، وقد أجابهم عنها بأن الذي يزعمون أنه يتعلّمه منه، لسانه أعجمي، والقرآن لسانه عربي في أعلى درجات البيان ثم ذكر أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، ويزعمون ذلك فيه، لا يهديهم الى الإيمان به، مع ظهور فضله، وأنّ الذي يفتري الكذب عليه إنّما هو من لا يؤمن بآياته، لا من يؤمن بها، ثم ذكر، ممّن يفتري الكذب عليه بالطعن في القرآن، من كفر منهم بعد إيمانه، واستثنى منه من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وأوعد من شرح بالكفر صدرا بعد إيمانه، بأن عليهم غضبا منه ولهم عذاب أليم، لأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الاخرة، وأنّ الله لم يشأ هدايتهم بعد اختيار الكفر على الإيمان، وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فهم في الاخرة هم الخاسرون أمّا الذين أكرهوا بالفتنة على الكفر، فإن الله لهم، وإنه من بعد فتنتهم لغفور رحيم:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) .
الخاتمة الآيات [112- 128]
ثم قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) ، فختم السورة ببيان سبب استحقاقهم، ما أنذروا به من العذاب في أوّلها، وهو أنّهم كانوا أصحاب قرية «1» آمنة مطمئنة، يأتيها رزقا رغدا من كل مكان فكفروا بأنعم الله عليهم، فأذاقهم لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وقد جاءهم أيضا رسول منهم فكذّبوه، فأخذهم العذاب وهم ظالمون ثم أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيّبا، ولا يحرّموا منه ما حرّموه في
__________
(1) . هذه القرية هي مكة.(5/22)
شركهم، وأن يشكروا نعمته عليهم بسكنى هذه القرية، إن كانوا إيّاه يعبدون. ثم ذكر أنه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم ونحوهما من الخبائث، ونهاهم أن يحلّلوا ويحرّموا من أنفسهم ثم ذكر أنه حرّم على اليهود ما قصّه عليه من قبل في سورة الأنعام، وأنه لم يظلمهم بهذا، ولكنّهم كانوا يظلمون أنفسهم بعملهم بخلاف علمهم، ثم ذكر أن للذين عملوا السوء بجهالة من العرب الأميين، ثم تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا، مغفرة إنّ ربّك من بعدها، لغفور رحيم.
ثم ذكر أن إبراهيم (ع) الذي أنشأ تلك القرية، وأقام فيها الكعبة، كان أمّة قانتا لله حنيفا، ولم يكن من المشركين وأنّه كان شاكرا لأنعمه، فاجتباه وهداه الى صراط مستقيم، وآتاه في الدنيا حسنة، وإنه في الاخرة لمن الصالحين ثم ذكر أنه أوحى الى النبي (ص) ، أن يتّبع ملّة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين وأنه، إنّما جعل شريعة السبت على اليهود الذين اختلفوا فيها، وأنه سيحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فلا يصح له أن يعمل بها، لأنهم حرّفوها حتى خرجوا بها عن أصلها، وهو ملّة إبراهيم.
ثم أمر النبي (ص) ، أن يدعو الى هذه الملّة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل المشركين فيها بالتي هي أحسن، لأنّ الضلال والهدى بيده تعالى، ثم أمره وأتباعه إذا خرج الأمر من الجدال الى القتال، أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، فلا يبدءوهم بالقتال ولا يجاوزوا ما عوقبوا به، منهم ثم رغّبهم في الصبر والعفو عنهم، ونهى النبي (ص) أن يحزن لكفرهم أو يكون في ضيق ممّا يمكرون إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) .(5/23)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النحل» «1»
أقول: وجه وضعها بعد سورة الحجر: أنّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه، فإن قوله تعالى في آخر تلك:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الذي هو مفسر بالموت، ظاهر المناسبة لقوله تعالى هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [الآية 1] . وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين، وفي المتأخرة بلفظ الماضي، لأن المستقبل سابق على الماضي، كما تقرر في المعقول والعربية «2» .
وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم، وإنما تأخّرت عنها لمناسبة سورة «الحجر» ، في كونها من ذوات الر.
وذلك: أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت، ومن هو ميت وغيره «3» ، وذلك أيضا في هذه، بقوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [الآية 28] . فذكر الفتنة، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . مراد المؤلّف ان المضارع سابق على الماضي في الكلام والإخبار، لا في الزمان. فقولك الآن: يقوم الناس لرب العالمين يوم القيامة، سابق في الخبر. ولا يجوز أن يقال: قام الناس لرب العالمين يوم القيامة إلا بعد تمام ذلك البعث.
(3) . وذلك في قوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) ( [إبراهيم] .
(4) . وذلك في قوله تعالى عن العذاب: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الآية 29] . وفي النعيم: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ( [الآية 31] .(5/25)
ووقع في سورة إبراهيم: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) . وقيل: إنها في الجبّار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور «1» .
ووقع هنا أيضا في قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 26] .
ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم، وقال عقبها: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [الآية 34] . ووقع هنا ذكر ذلك معقبا بمثل ذلك.
__________
(1) . يروى أنه جوّع نسرين، وأوثق رجل كلّ منهما في تابوت، وقعد هو وآخر في التابوت، ورفع عصا عليها اللحم، فطارا يتبعان اللحم حتى غابا في الجو (تفسير الطبري: 3: 160) .(5/26)
المبحث الرابع مكنونات سورة «النحل» «1»
1- وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ [الآية 7] قال ابن عباس: يعني مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم.
2- قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الآية 26] قال ابن عباس: هو نمرود بن كنعان، حين بنى الصّرح، أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
3- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [الآية 41] .
قال قتادة: هؤلاء الذين لحقوا بأرض الحبشة. أخرجه ابن أبي حاتم. وقد سقت أسماء المهاجرين إلى الحبشة في كتاب «رفع شأن الحبشان» .
4- وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية 76] .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجلين، والأبكم منهما، الكلّ على مولاه:
أسيد بن أبي العيص والذي يأمر بالعدل: عثمان بن عفّان «3» .
5- كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها [الآية 92] .
قال السّدّي: كانت امرأة بمكّة تسمّى خرقاء مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . وابن جرير 14: 76.
(3) . واخرج ذلك ابن جرير 14: 101 أيضا. [.....]
(4) . والطبري 14: 111.(5/27)
وقال السّهيلي: اسمها ريطة بنت سعيد «1» بن زيد مناة بن تميم.
6- إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [الآية 103] .
قال مجاهد: عنوا عبد بن الحضرمي. زاد قتادة: وكان يسمّى:
يحنّس «2» .
وقال السّدّي: يقال له: أبو اليسر.
وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي:
عنوا عبدين لنا، أحدهما يقال له يسار، والاخر: جبر.
وقال الضّحّاك: عنوا سلمان الفارسي «3» .
وقال ابن عباس: [عنوا] قينا بمكة اسمه بلعام «4» .
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
ويحنّس: ضبطه الحافظ ابن حجر في «الإصابة» بياء تحتية «5» ، وحاء وسين مهملتين، بينهما نون مشدّدة.
7- إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ [الآية 106] .
قال ابن عباس: نزلت في عمّار بن ياسر. أخرجه ابن جرير «6» .
وقال ابن سيرين: نزلت في عياش بن أبي ربيعة. أخرجه أبن أبي حاتم.
8- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [الآية 110] .
قال ابن إسحاق: نزلت في عمّار بن ياسر، وعيّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد «7» .
9- قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [الآية 112] .
قالت حفصة أمّ المؤمنين: هي المدينة، وكذا قال ابن شهاب. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وقال ابن عباس: هي مكّة. أخرجه ابن جرير «8» .
__________
(1) . في «جمهرة أنساب العرب» . لابن حزم: 215: «سعد» . وليس فيه اسم «ريطة» . من ولده والمثبت موافق ل «الإتقان» 2: 147.
(2) . في «الإتقان» 2: 147: «مقيس» .
(3) . قال ابن كثير في «تفسيره» 2: 586: «وهذا القول ضعيف لأن هذه الآية مكية، وسلمان إنما أسلم بالمدينة.
(4) . إسناده ضعيف، كما في «الدر المنثور» 4: 131.
(5) . مضمومة كما في «تاج العروس» : «حنس» .
(6) . 14: 122.
(7) . أخرجه الطبري في «تفسيره» 14: 124.
(8) . 14: 125. ومال ابن كثير في «تفسيره» 2: 589 الى هذا القول.(5/28)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النحل» «1»
1- وقال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 7] .
بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أكثر القرّاء على كسر الشين ومعناه: إلا بجهد الأنفس.
وقرأ أبو جعفر وجماعة: إلّا بشقّ الأنفس.
وكأن الشّق وهو المشقّة، بكسر الشين، اسم استحدث من المصدر، وهو الشّقّ «بفتح الشين» .
2- وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً [الآية 13] .
قوله تعالى: وَما ذَرَأَ أي: ما خلق لكم في الأرض، من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك. أقول: بين المهموز والمضاعف والناقص المعتلّ، وشائج في المعنى، وهذا الفعل يذكّرنا بالمواد ذرّ وما يتأتّى من الذّرية، والذراري وغير ذلك. كما يذكّرنا بالذّرى والذري ونحوه، وما يراد بذلك من الزيادة والانتشار.
3- وقال تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [الآية 14] .
كنا قد بسطنا القول في الآية 22 من سورة يونس، وعرضنا لمسألة الالتفات من الخطاب الى الغيبة.
ونريد في هذه الآية أن نعرض لمسألة الفلك، وأنها جمع بدلالة الصفة «مواخر» ولكننا نجد أن «الفلك» قد جاء دالّا على الإفراد في سورة الشعراء بدلالة الصفة أيضا:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(5/29)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) .
وجاء الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ في الآية:
41 من سورة يس، كما جاء في الآية 140 من سورة الصافات.
وهذا نظير «السحاب» فهو تارة جمع بدلالة الصفة «الثقال» ، كما بيّنا في الآية 12 من سورة الرعد، وهو أخرى مفرد بدلالة الصفة «مسخّر» ، كما في الآية: 164 من سورة البقرة.
وهذا كله شيء من خصائص لغة القرآن، التي ترسم لنا صفحات من تاريخ هذه اللغة.
4- وقال تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [الآية 15] .
والمعنى: كراهة أن تميد بكم وتضطرب.
وحذف المصدر المنصوب، المبيّن للعلّة ضرب من الإيجاز البليغ، وهو ظاهر في المعنى.
5- وقال تعالى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [الآية 27] .
والمعنى: الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وقرئ: تشاقّونّ، بكسر النون، بمعنى تشاقونني.
وكنت عرضت للاية: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الأنفال: 13] .
وأشرت إلى أن فكّ الإدغام غير كثير، والكثير في هذا المضاعف هو الإدغام، إلا أن فكّه في الآية كان بسبب صوتي.
وفي هذه الآية التي نعرضها من سورة النّحل، جاء الفعل بالإدغام، وليس من ضرورة تستدعي فك الإدغام.
6- وقال تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) .
أي: أحاط بهم العذاب، الذي هو جزاء ما كانوا يستهزئون، كما نقول:
أحاط بفلان عمله وأهلكه.
والحيق: ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء عمل يعمله، فينزل ذلك به.
أقول: والحيق إحاطة مقيّدة بالمكر والسوء، وليست مطلقة كما تقول في «أحاط» مثلا.
7- وقال تعالى: وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [الآية 36] .(5/30)
جاء «الطاغوت» في ثماني آيات، من سور مختلفة، والمعنى واحد.
من غير شك أن «الطاغوت» من «الطغيان» وهو الشرّ، والكفر، وتجاوز الحدّ في البغي.
غير أن «الطاغوت» ، وإن تضمن هذه الدلالات فهو بناء خاص، وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وإن قيل: طواغيت.
وهو نظير رغبوت، ورحموت، وجبروت، ولاهوت، وناسوت، وملكوت ونحو هذا.
وهو مصدر من المصادر القديمة، التي استقرينا منها جملة من طريق السّماع.
ولا أريد أن أقول إنها مقلوبة على فعلوت، والأصل «طغيوت» كما ذهب أهل اللغة فليس ذلك بمهمّ.
وقالوا: الطاغوت الشيطان.
وعندي أن هذا البناء الغريب القديم، يصح أن يتّخذ في وضع المصطلح الجديد، وذلك أن أهل المصطلحات من الغربيين، يلتمسون الأبنية الغريبة إذا ما جدّت لهم حاجة لمصطلح جديد، ليكون الوزن الغريب مميزا له خاصا به. 8- وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) .
وقرئ: أو لم يروا، ويتفيّئوا بالياء والتاء.
والتفيّؤ: الظلّ بالعشي، وتفيّؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاف النهار، وابتعاث الأشياء ظلالها.
أقول: عرفنا أن الفيء بالعشيّ، والظلّ بالغداة. وقد امّحى الفرق في العربية المعاصرة.
وداخرون أي: متصاغرون منقادون، على أنّ الدخور من صفات العقلاء.
9- وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [الآية 66] .
ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف من الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم: ثوب أكباش.
وجبّة أسناد، وثوب أفواف.
وقد تعجب أن يدرج سيبوبه «الأنعام» ، مع هذه الأسماء التي جاءت مفردة في استعمالهم، وأنت تقرأ قوله تعالى:
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) .(5/31)
وإذا كان الضمير في قوله تعالى:
مِمَّا فِي بُطُونِهِ، في الآية قد حملهم على جعل «الانعام» مفردة، وإدراجها مع ثوب أكباش، وجبّة أسناد وغيرها، فماذا يقولون في قوله تعالى:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) [المؤمنون] 10- وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) .
قوله تعالى: يُسْتَعْتَبُونَ أي:
يسترضون، أي: لا يقال لهم أرضوا ربّكم، لأن الاخرة ليست بدار عمل.
11- وقال تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) .
الكلام على الذين كفروا، أي: أنهم ألقوا الاستسلام لأمر الله وحكمه، بعد الإباء والاستكبار في الدنيا.
وهذا من معاني «السلم» مقيّدا بهذه الآية، وهو نظير «الإسلام» بمعنى الخضوع والانقياد والاستسلام.
12- وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [الآية 92] .
أي: ولا تكونوا في نقض الأيمان، كالمرأة التي أنحت على غزلها، بعد أن أحكمته وأبرمته، فجعلته أنكاثا، أي:
ما ينكث فتله، تتخذون الأيمان دخلا بينكم، أي: مفسدة ودغلا.
أقول: والدّخل والدّغل سواء.
13- وقال تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [الآية 101] .
أقول: واستعمال «مكان» في فعل التبديل، ما زال معروفا حتى في العامّيّة الدارجة.
14- وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [الآية 112] .
أقول: وضرب الأمثال في القرآن على هذا النحو، من تصوير حالة يعرض فيها جملة أمور، ليتخذ منها العباد عبرة لهم.
ومن ذلك قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: 24] .(5/32)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [الآية 76] .
وقوله تعالى في الآية 112: بِأَنْعُمِ اللَّهِ الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس.
15- وقال تعالى:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [الآية 120] . قوله تعالى: كانَ أُمَّةً فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمّة من الأمم، لكماله في جميع صفات الخير.
والثاني: أن يكون أمّة بمعنى مأموم، أي: يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتمّ به كالرحلة والنّخبة، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول.(5/33)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النحل» «1»
قال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [الآية 8] بالنّصب.
أي: وجعل الله الخيل والبغال والحمير زينة..
وقال تعالى: وَمِنْها جائِرٌ [الآية 9] أي: ومن السبيل لأنها مؤنثة في لغة الحجاز «2» .
وقال تعالى: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الآية 13] أي:
خلق لكم وبثّ لكم «3» .
وقال تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [الآية 30] فكانت «ماذا» بمنزلة «ما» وحدها.
وقال تعالى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [الآية 21] على التوكيد «4» .
وقال سبحانه: إِنْ تَحْرِصْ [الآية 37] لأنّها من «حرص» «يحرص» .
وإذا وقفت على يَتَفَيَّؤُا [الآية 48] قلت «يتفيّأ» ، كما تقول بالعين «تتفّيع» جزما، وإن شئت أشممتها الرفع، ورمته، كما تفعل ذلك في «هذا حجر» .
وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) فذكّر، وهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . أنظر المذكّر والمؤنّث 87، وكتاب التذكير والتأنيث 16، والمذكّر والمؤنّث للمبرد 15، والّلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث 67، والّلهجات العربية 502.
(3) . نقله في إعراب القرآن 2: 560.
(4) . نقله في زاد المسير 4: 437. [.....](5/35)
غير الإنس، لأنه لما وصفهم سبحانه بالطاعة أشبهوا ما يعقل «1» ، وجعل اليمين للجماعة مثل وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: 45] .
وقال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [الآية 49] يريد: من الدواب، واجتزأ بالواحد، كما تقول: «ما أتاني من رجل» أي: ما أتاني من الرجال مثله.
وقال تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ [الآية 53] لأنّ «ما» بمنزلة «من» ، فجعل الخبر بالفاء.
وقال تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ [الآية 55] .
وقال تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [الآية 67] ولم يقل «منها» لأنّ السياق أضمر «الشيء» كأنه «ومنها شيء تتّخذون منه سكرا» «2» .
وقال تعالى: إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي [الآية 68] على التأنيث في لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقول «هو النّحل» وكذلك كلّ جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، نحو «البرّ» و «الشعير» هو في لغتهم مؤنّث «3» .
وقال تعالى: ذُلُلًا [الآية 69] وواحدها «الذلول» وجماعة «الذّلول» «الذلل» .
وقال تعالى: بَنِينَ وَحَفَدَةً [الآية 72] وواحدهم «الحافد» .
وقال تعالى: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [الآية 76] لأنّ «أينما» من حروف المجازاة.
وقال تعالى: رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً [الآية 73] بجعل «الشيء» بدلا من «الّرزق» ، وهو في معنى «لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا» «4» . وقال بعضهم: «الرّزق فعل يقع بالشيء» يريد: «لا يملكون أن يرزقوا شيئا» .
وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ [الآية 91] تقول: «أوفيت بالعهد»
__________
(1) . نقله في زاد المسير 4: 453.
(2) . نقله في زاد المسير 4: 464.
(3) . المذكّر والمؤنّث 85، والبلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث 67، والّلهجات العربية 504.
(4) . نقله في الجامع 10: 146.(5/36)
و «وفيت بالعهد» فإذا قلت «العهد» قلت «أوفيت العهد» بالألف «1» .
وقال تعالى: أَنْكاثاً [الآية 92] وواحدها «النكث» .
قوله سبحانه: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [الآية 106] خبر لقوله تعالى وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ثم دخل معه قوله سبحانه مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فأخبر عنهم بخبر واحد، إذ كان ذلك يدل على المعنى «2» .
وقال تعالى: مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [الآية 81] وواحده:
«الكنّ» .
وقال جلّ شأنه: كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [الآية 111] ومعنى كلّ نفس: كلّ إنسان، وورد التأنيث لأن النفس تؤنّث وتذكّر. يقال «ما جاءتني نفس واحدة» و «ما جاءني نفس واحد» .
وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ [الآية 116] بجعل لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اسما للفعل، كأنّ السّياق «ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الْكَذِبَ هذا حَلالٌ [الآية 116] .
وقال تعالى شاكِراً لِأَنْعُمِهِ [الآية 121] وقال سبحانه فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [الآية 112] بجمع «النّعمة» على «أنعم» كما قال جلّ شأنه: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ [الأحقاف: 15] فزعموا أنّه جمع «الشدّة» .
__________
(1) . يقصد الهمزة على عادة الأقدمين، من عدم تمييز إحداهما من الأخرى.
(2) . نقله في الجامع 10: 180 بعبارة مغايرة وأفاده في الكشاف 2: 636.(5/37)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النحل» «1»
إن قيل: لم قدّمت الإراحة، وهي مؤخّرة في الواقع، على السروح، وهو مقدم في الواقع، في قوله تعالى:
حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) .
قلنا: لأنّ الأنعام، في وقت الإراحة، وهي ردها عشيّا الى المراح، تكون أجمل وأحسن، لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، متهادية في مشيها، يتبع بعضها بعضا، بخلاف وقت السروح، وهو إخراجها الى المرعى، فإنّ هذه الأمور كلّها تكون على ضدّ ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 7] ، إن أريد به: لم تكونوا بالغيه عليها إلّا بشق الأنفس، فلا امتنان فيه وإن أريد به لم تكونوا بالغيه بدونها إلّا بشقّ الأنفس، فهم لا يبلغونه عليها أيضا إلّا بشق الأنفس، فما الحكمة في ذلك؟
قلنا: معناه وتحمل أثقالكم: أي أجسامكم وأمتعتكم معكم الى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها، بأنفسكم من غير أمتعتكم إلّا بجهد ومشقة. فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟ والمراد بالمشقة: المشقّة التي تنشأ من المشي، أو من المشي مع الحمل على الظهر لا مطلق مشقّة السفر، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل، فظهرت الحكمة من ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [الآية 8] يقتضي حرمة أكل الخيل، كما
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/39)
اقتضاه في البغال والحمير، من حيث أنه لم ينصّ على منفعة أخرى فيها، غير الركوب والزينة، ومن حيث أن التعليل بعلّة يقتضي الانحصار فيها كقولك: فعلت هذا لكذا، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره، أو له مع غيره، إلّا إذا كان أحدهما جهة في الاخر.
قلنا: ينتقض بالحمل عليها والحراثة بها، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه.
فإن قيل: إنّما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام، فإنه منصوص عليه بقوله تعالى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ [الآية 5] ، والمراد به كل منفعة، معهودة منها عرفا، لا كلّ منفعة. فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير.
قلنا: لو كان ثبوته فيها بالقياس في الأنعام، لثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام أيضا ولو ثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس، لثبت في البغال والحمير، كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام.
والجواب عن الجهة الثانية في أصل السؤال، أن هذه اللام ليست لام التعليل، بل لام التمكين، كقوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس:
67، غافر: 61] ومع هذا يجوز في الليل غير السكون.
فإن قيل: لم قال الله تعالى في وصف ماء السماء يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الآية 11] ولم يقل كل الثمرات، مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟
قلنا: كل الثمرات لا تكون إلّا في الجنة، وإنما ينبت في الدينا بعض منها أنموذجا وتذكرة، فالتبعيض بهذا الاعتبار يكون المراد بالثمرات ما هو أعمّ من ثمرات الدنيا، ومن يجوّز زيادة «من» في الإثبات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.
فإن قيل: قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [الآية 17] ، المراد بمن لا يخلق الأصنام، بدليل قوله تعالى بعده: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) ، فكيف جيء بمن المختصة بأولي العلم والعقل؟
قلنا: خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى(5/40)
أولي العلم، ونظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف: 195] ، فأجرى عليهم ضمير أولي العلم والعقل لما قلناه ويرد على هذا الجواب أن يقال: إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا، فالحكمة تقتضي أن ينزعوا عنه ويقلعوا، لا أن يبقوا عليه ويقرّوا في خطابهم على معتقدهم إيهاما لهم أنّ معتقدهم حقّ وصواب، وجوابه: أن الغرض من الخطاب الإفهام، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال: أفمن يخلق كما لا يخلق، لاعتقدوا أنّ المراد من الثاني غير الأصنام من الجماد. الثاني: قال ابن الأنباري: إنما جاز ذلك، لأنّها ذكرت مع العالم، فغلب عليها حكمه في اقتضاء «من» ، كما في قول العرب: اشتبه عليّ الراكب، وجمله: فما أدري من ذا، ومن ذا.
فإن قيل: هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام، وسمّوها آلهة تشبيها بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فظاهر الإلزام يقتضي أن يقال لهم:
أفمن لا يخلق كمن يخلق؟
قلنا: لما سوّوا بين الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى، في تسميتها باسمه، وعبادتها كعبادته، فقد سوّوا بينها وبين خالقها قطعا، فصحّ الإنكار بتقديم أيهما كان وإنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق، إمّا لأنه أشرف، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام، تنزيها له وإجلالا وتعظيما.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في وصف الأصنام غَيْرُ أَحْياءٍ [الآية 21] بعد قوله تعالى: أَمُوتُ؟
قلنا: الحكمة فيه، إفادته أنها أموات لا يعقب موتها حياة، احترازا عن أموات يعقب موتها حياة. كالنطف والبيض والأجساد الميتة، وذلك أبلغ في موتها، كأنّ الكلام: أموات في الحال غير أحياء في المال. الثاني: أنه ليس وصفا لها بل لعبّادها، معناه:
وعبّادها غير أحياء القلوب. الثالث:
أنه إنما قال غَيْرُ أَحْياءٍ ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر] .
فإن قيل: لم عاب الأصنام وعبّادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث، فقال تعالى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ(5/41)
يُبْعَثُونَ
(21) والمؤمنون الموحّدون كذلك؟
قلنا: معناه وما يشعر الأصنام متى يبعث عبّادها، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟ أو معناه: وما يشعر عبّادها، وقت بعثهم لا مفصّلا ولا مجملا، لأنهم ينكرون البعث، بخلاف الموحّدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا، أنه يوم القيامة، وإن لم يشعروه مفصّلا..
فإن قيل: قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) كيف يعترفون بأنه من عند الله تعالى، بالسؤال المعاد ضمن الجواب، ثم يقولون هو أساطير الأوّلين.
قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) [الحجر] .
فإن قيل: لم قيل هنا لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية 25] وقال في موضع آخر: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ؟ قلنا: معناه ومن أوزار إضلال الذين يضلّونهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة، ووزر كفر من أضلّوهم تسبّبا، فقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يعني أوزار الذنوب التي باشروها. وأما قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، فمعناه: وزر لا مدخل لها فيه، ولا تعلّق له بها مباشرة، ولا تسبّبا ونظير هاتين الآيتين قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] إلى قوله تعالى وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] .
فإن قيل: قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ [الآية 40] ، يدل على أن المعدوم شيء، ويدل على ان خطاب المعدوم جائز والأول منتف عند أكثر العلماء، والثاني منتف بالإجماع؟
قلنا: أما تسميته شيئا، فمجاز باعتبار ما يؤول إليه، ونظيره قوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) [الحج] وقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر] . وأما الثاني فإن هذا الخطاب تكوين، يظهر به أثر القدرة،(5/42)
فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب لأنه إنما يكون بالخطاب، فلا يسبقه، بخلاف خطاب الأمر والنهي.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [الآية 49] كيف لم يغلب العقلاء من الدواب على غيرهم، كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النّور:
45] .
قلنا: لأنه أراد عموم كل دابة وشمولها، فجاء ب «ما» التي تعم النوعين وتشملهما، ولو جاء ب «من» لخّص العقلاء.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [الآية 61] يقتضي أنه لو أخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس، ولأهلك جميع الدوابّ غير الناس ومؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم، لا يحسن بالحكيم؟
قلنا: المراد بالظلم هنا الكفر، وبالدابّة الظالمة الكافر، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل معناه: لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء.
الثاني: يجوز أن يهلك الجميع بشؤم ظلم الظالمين، مبالغة في إعدام الظلم ونفي وجود أثره، حتى لا يوجد بعد ذلك من بقيّة الناس ظلم موجب للإهلاك، كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم ودليل جواز ذلك ما وجد في زمن نوح عليه السلام، فإنه أهلك بشؤم الظلم الواقع على قوم نوح جميع دواب الأرض، وما نجا إلّا من في السفينة، ولم يبق على ظهر الأرض دابة، ولذا قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] ثم إذا فعل ذلك للحكمة والمصلحة التي اقتضت فعله، عوّض البريء في الاخرة ما هو خير وأبقى.
الثالث أن كل إنسان مكلّف، فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره، لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير، فلو أهلك الناس بذنوبهم لأهلك الدوابّ أيضا، لأنه إنما خلق الدواب لمصالح الناس، وإذا عدم الناس وقع استغناؤهم عن الدواب كلها.
فإن قيل: لم قال تعالى مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ [الآية 68] ولم يقل في الجبال وفي الشجر، والاستعمال. هو(5/43)
أن يقال: اتخذ فلان بيتا في الجبل أو في الصحراء أو نحو ذلك؟
قلنا: قال الزمخشري رحمه الله:
إنّما أتي بلفظة «من» ، لأنه أريد معنى البعضية، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر، ولا في كل مكان من الجبل والشجر. وأنا أقول: إنما ذكر بلفظ «من» لأنه أريد كون البيت بعض الجبل وبعض الشجر، كما نشاهد ونرى من بيوت النحل، لأنه يتخذ من طين أو عيدان في الجبل والشجر، كما تتخذ الطيور. فلو أتي بلفظة «في» لم تدل على هذا المعنى، ونظيره قوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشعراء: 149] .
فإن قيل: لم قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الآية 72] وأزواجنا لسن من أنفسنا، لأنهن لو كنّ من أنفسنا لكنّ حراما علينا، فإن المتفرعة من الإنسان لا يحلّ له نكاحها؟
قلنا: المراد بهذا أنه خلق آدم ثم خلق منه حواء، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] . الثاني أنّ المراد من جنسكم، كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) ، فعبر بالواو والنون، وهما من خواص من يعقل؟
قلنا: كان فيمن يعبدونه من دون الله، من يعقل كالعزيز وعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام، فغلّبهم.
فإن قيل: لم أفرد في قوله تعالى:
ما لا يَمْلِكُ ثم جمع في قوله سبحانه وَلا يَسْتَطِيعُونَ؟
قلنا: أفرد نظرا للفظ «ما» ، وجمع نظرا إلى معناها، كما قال تعالى:
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف] أفرد الضمير نظرا إلى للفظ، وجمع الظهور نظرا إلى المعنى.
فإن قيل: ما الحكمة في نفي استطاعة الرزق بعد نفي ملكه والمعنى واحد، لأن نفي ملك الفعل، هو نفي استطاعته، والرزق هنا اسم مصدر بدليل إعماله في «شيئا» ؟(5/44)
قلنا ليس في «يستطيعون» ضمير مفعول هو الرزق، بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقا، معناه لا يملكون أن يرزقوا، ولا استطاعة لهم أصلا في رزق أو غيره، لأنهم جماد. الثاني: أنه لو قدّر فيه ضمير مفعول على معنى ولا يستطيعونه، كان مفيدا أيضا، على اعتبار كون الرزق اسما للعين، لأن الإنسان يجوز أن يملك الشيء، ولكن يستطيع أن يملكه، بخلاف هؤلاء، فإنهم لا يملكون، ولا يستطيعون أن يملكوا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى مَمْلُوكاً [الآية 75] بعد قوله تعالى:
عَبْداً وما الحكمة في قوله سبحانه لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بعد قوله تعالى مَمْلُوكاً؟
قلنا: لفظ العبد يصلح للحرّ والمملوك، لأن الكل عبيد الله تعالى، قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: 30] فقال «مملوكا» لتمييزه من الحرّ، وقال لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لتمييزه من المأذون والمكاتب، فإنّهما يقدران على التصرّف والاستقلال.
فإن قيل: المضروب به المثل اثنان، وهما المملوك والمرزوق رزقا حسنا، فظاهره أن يقال هل يستويان، فلم قال تعالى: يَسْتَوُونَ [الآية 75] ؟
قلنا: لأنه أراد جنس المماليك وجنس المالكين، لا مملوكا ولا مالكا معيّنا. الثاني: أنه أجرى الاثنين مجرى الجمع. الثالث: أن «من» تقع على الجمع، ولقائل أن يقول على الوجه الثالث: يلزم منه أن يصير المعنى:
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا، وجماعة مالكين هل يستوون، إنه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في التمثيل.
فإن قيل: «أو» في الخير للشكّ، والشك على الله تعالى محال، فما معنى قوله تعالى: إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [الآية 77] ؟
قلنا: قيل «أو» هنا بمعنى «بل» كما في قوله تعالى إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات] . وقوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] وقوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
(9) [النّجم] ويرد على هذا أن «بل» للإضراب، والإضراب رجوع عن الإخبار، وهو على الله محال. وقيل هي بمعنى الواو في هذه الآيات. وقيل «أو» للشك في الكلّ،(5/45)
لكن بالنسبة إلينا لا إلى الله تعالى، وكذا في قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) يعني بالنسبة الى نظر النبي (ص) . وقال الزجّاج: ليس المراد، أنّ الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنّ المراد، وصف قدرة الله على سرعة الإتيان بها، متى شاء.
فإن قيل: لم قال تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [الآية 81] ، ولم يقل:
و «البرد» مع أن السرابيل، هي الثياب تلبس لدفع الحر والبرد، وهي مخلوقة لهما؟
قلنا: حذف ذكر أحدهما لدلالة ضدّه عليه، كما في قوله تعالى:
بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران: 26] ولم يقل:
والشر، وكما قال الشاعر:
وما أدري إذا يمّمت أرضا أريد الخير أيّهما يليني أي أريد الخير لا الشر، أو أريد الخير وأحذر الشر.
فإن قيل: لم كان ذكر الخير والحرّ أولى من ذكر الشرّ والبرد؟
قلنا: لأن الخير مطلوب العباد من ربّهم، ومرغوبهم إليه أو لأنه اكثر وجودا في العالم من الشرّ وأما الحرّ فلأن الخطاب بالقرآن، أول ما وقع مع أهل الحجاز، والوقاية من الحر، أهمّ عندهم، لأنّ الحرّ في بلادهم أشدّ من البرد.
فإن قيل: لم قال الله تعالى يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) مع أنّهم كلّهم كافرون؟
قلنا: قال الزمخشري: الأحسن، أن المراد بالأكثر هنا الجمع، وفي هذا نظر لأنّ بعض الناس لا يجوّز اطلاق اسم البعض على الكل، لأنه ليس لازما له، بخلاف عكسه.
فإن قيل: ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام كما ورد في التنزيل:
رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [الآية 86] والله تعالى عالم بذلك؟
قلنا: لما أنكروا الشرك بقولهم كما ورد في التنزيل: رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام] عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم وأنطق جوارحهم، فكان جوابهم عند معاينة آلهتهم:
رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا [الآية 86] أي قد أقررنا بعد الإنكار وصدّقنا بعد الكذب، طلبا للرحمة وفرارا من(5/46)
الغضب، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب، لا على وجه إعلام من لا يعلم. الثاني: أنهم لمّا عاينوا عظيم غضب الله تعالى، وعقوبته قالوا كما ورد في التنزيل: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا رجاء أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم، لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل والتمييز، فيخفّ عنهم العذاب.
فإن قيل: لم قالت الأصنام للمشركين كما ورد في التنزيل: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) ، وكانوا صادقين في ما قالوا؟
قلنا: إنما قالت لهم ذلك لتظهر فضيحتهم، وذلك أنّ الأصنام كانت جمادا لا تعرف من يعبدها، فلم تعلم أنهم عبدوها في الدنيا، فظهرت فضيحتهم حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم، ونظير هذا قوله تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) [مريم] .
فإن قيل: قوله تعالى وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [الآية 89] ، فإذا كان القرآن تبيانا لكل شيء من أمور الدين، فمن أين وقع بين الأئمّة في أحكام الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟
قلنا: إنّما وقع الخلاف بين الأئمّة، لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور الدين ليس مبيّنا في القرآن نصّا، بل بعضه مبيّن وبعضه مستنبط بيانه منه بالنظر والاستدلال وطريق النظر والاستدلال مختلفة، فلذلك وقع الخلاف.
فإن قيل: كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصّا ولا استنباطا كعدد ركعات الصلاة، ومقادير باقي الأعضاء، ومدّة السفر والمسح والحيض، ومقدار حدّ الشرب، ونصاب السرقة، وما أشبه ذلك ممّا يطول ذكره.
قلنا: القرآن تبيان لكل شيء من أمور الدين، لأنه نصّ على بعضها، وأحال على السّنّة في بعضها، في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وقوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) وأحال على الإجماع ايضا بقوله تعالى:
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:
115] ، وأحال على القياس أيضا بقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)(5/47)
[الحشر] ، والاعتبار النظر والاستدلال.
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلّها مذكورة في القرآن، فصحّ كونه تبيانا لكل شيء.
فإن قيل: لم وحّدت القدم، ونكّرت، في قوله تعالى فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [الآية 94] ولم يقل القدم أو الأقدام، وهو أشدّ مناسبة لجمع الأيمان؟
قلنا: وحّدت ونكّرت في قوله تعالى، لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة على طريق الجنة، فكيف بأقدام كثيرة؟
فإن قيل: «من» تتناول الذكر والأنثى لغة، ويؤيده قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام: 160] وقوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] وقوله تعالى:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) [الزلزلة] وقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] ونظائره كثيرة، فلم قال تعالى هنا:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [الآية 97] ؟
قلنا: إنما صرح بذكر النوعين هنا، لسبب اقتضى ذلك وهو أن النساء قلن: «ذكر الله تعالى الرجال في القرآن بخير، ولم يذكر النساء بخير، فلو كان فينا خير لذكرنا به» . فأنزل الله تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب: 35] الآية، وأنزل مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الآية 97] فذهب عن النساء وهم تخصيصهنّ عن العموميّات.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [الآية 97] وقد رأينا كثيرا من الصلحاء والأتقياء، قطعوا أعمارهم في المصائب والمحن وأنواع البلايا باعتبار الأمثل، فالأمثل، إلى الأنبياء؟
قلنا: المراد بالحياة الطيّبة الحياة في القناعة. وقيل في الرزق الحلال. وقيل في رزق يوم بيوم. وقيل التوفيق للطاعات. وقيل في حلاوة الطاعات.
وقيل في الرضا بالقضاء. وقيل المراد به الحياة في القبر، كما قال تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران] وقيل المراد به الحياة في الدار الاخرة، وهي الحياة الحقيقية، لأنها حياة لا موت بعدها، دائمة في النعيم المقيم، والظاهر أنّ المراد به الحياة في الدنيا، لقوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [الآية 97] فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ(5/48)
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
[النساء: 134] كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: 148] .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) وكثير من الصحابة وغيرهم، كانوا كافرين فهداهم الله تعالى الى الإيمان؟
قلنا: المراد من هذا، الكافرون، الذين علم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر ويؤيده ما بعد ذلك من الآيتين.
فإن قيل: ما معنى إضافة النفس الى النفس في قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [الآية 111] والنفس ليس لها نفس أخرى؟
قلنا: النفس اسم للروح وللجوهر القائم بذاته، المتعلّق بالجسم تعلّق التدبير. وقيل هي اسم لجملة الإنسان، لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] وقوله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:
45] . والنفس أيضا اسم لعين الشيء وذاته، كما يقال نفس الذهب والفضة محبوبة: أي عينهما وذاتهما، فالمراد بالنفس الأولى الإنسان، وبالثانية ذاته، فكأنه يوم يأتي كل إنسان يجادل عن نفسه: أي ذاته لا يهمّه شأن غيره، كلّ يقول نفسي نفسي، فاختلف معنى النفسين.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [الآية 112] والإذاقة لا تناسب اللباس، وإنّما تناسبه الكسوة؟
قلنا: الإذاقة تناسب المستعار له وهو الجوع، من حيث أنّ الجوع يقتضي الأكل فيقتضي الذوق وإن كانت لا تناسب المستعار وهو اللباس والكسوة تناسب المستعار وهو اللباس، ولا تناسب المستعار له وهو الجوع وكلاهما من دقائق علم البيان، يسمى الأول تجريد الاستعارة، والثاني ترشيح الاستعارة فجاء القرآن العزيز في هذه الآية بتجريد الاستعارة، وقد ذكرنا تمام هذا في كتابنا «روضة الفصاحة» ، ولباس الجوع والخوف، استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع والخوف، من الصفرة والنحول كقوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى [الأعراف: 26] استعير اللباس لما يظهر على المتقي من أثر التقوى. وقيل إن فيه إضمارا تقديره: فأذاقها الله طعم الجوع وكساها لباس الخوف.(5/49)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النحل» «1»
قوله سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الآية 2] هذه استعارة: لأن المراد بالروح، هاهنا، الوحي الذي يتضمن إحياء الخلق، والبيان عن الحقّ. ومثل ذلك قوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ومثله قوله سبحانه في المسيح (ع) : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] فسمّاه تعالى روحا على هذا المعنى، لأنّ به حياة أمته، وبقاء شريعته.
فأما قوله سبحانه: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السّجدة: 9] فإنما أراد بذلك الروح التي خلقها ليحيي عباده بها، وأضافها الى نفسه كما أضاف الأرض الى نفسه، إذ يقول تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: 97] .
وكان أبو الفتح عثمان بن جنّي رحمه الله يقول: معنى قولهم في القسم:
«لعمر الله ما قلت ذلك، ولأفعلن ذلك» ، إنما يريدون به القسم بحياة يحيي الله بها، لا حياة يحيى بها، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. فكان المقسم إذا أقسم بهذه الحياة، دخل ما يخصه منها في جملة قسمه، وجرى ذلك مجرى قوله: لعمري. فيصير مقسما بحياته التي أحياه الله بها.
والعمر هاهنا هو العمر. ومعناه الحياة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(5/51)
وقوله سبحانه: إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [الآية 7] استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى: أنّكم لا تبلغون هذا البلد إلا بأنصاف أنفسكم، من عظم المشقّة، وبعد الشّقّة، لأن الشّق أحد قسمي الشيء. ومنه قولهم: شقيق النفس أي قسيمها، فكأنه من الامتزاج بها شقّ منها. وعلى ذلك قول الشاعر:
من بني عامر لها نصف قلبي قسمة مثلما يشقّ الرّداء فأمّا من حمل قوله تعالى: إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ على أنّ معناه المشقّة والنصب والكدّ والدأب، فإن الكلام، على قوله، يكون حقيقة، ويخرج عن حدّ الاستعارة. كأنه، سبحانه، قال:
إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بمشقة الأنفس.
وقوله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [الآية 9] وهذه استعارة. لأن الجائر هو الضالّ نفسه.
يقال: جار عن الطريق. إذا ضلّ عن نهجه، وخرج عن سمته. ولكنهم لمّا قالوا: طريق قاصد، أي مقصد فيه، جاز أن يقولوا: طريق جائر أي يجار فيه. وقوله سبحانه: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 25] . وهذه استعارة لأنّ الأوزار على الحقيقة هي الأثقال، واحدها وزر. والمراد بها هاهنا الخطايا والآثام، لأنها تجري مجرى الأثقال التي تقطع المتون، وتنقض الظهور.
وفي معنى ذلك قولهم: فلان خفيف الظهر. وصفوه بقلة العدد والعيال، أو بقلة الذنوب والآثام.
وقوله سبحانه: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [الآية 26] وهذه استعارة.
لأن الإتيان هاهنا ليس يراد به الحضور عن غيبة، والقرب بعد مسافة. وإنّما ذلك كقول القائل: أتيت من جهة فلان. أى جاءني المكروه من قبله.
وأتي فلان من مأمنه، أي ورد عليه الخوف من طريق الأمن، والضرّ من مكان النفع.
وقوله سبحانه: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [الآية 28] . وهذه استعارة. وليس هناك شيء يلقى على الحقيقة. وإنما المراد بذلك طلب المسالمة عن ذلّ واستكانة، والتماس وشفاعة. لأنّ من كلامهم أن يقول القائل: ألقى إليّ فلان بيده. أي خضع(5/52)
لي، وسلّم لأمري. وقد يجوز أيضا أن يكون معنى فَأَلْقَوُا السَّلَمَ: أي استسلموا وسلّموا. فكانوا كمن طرح آلة المقارعة، ونزع شكّة المحاربة.
وفي معنى ذلك قوله سبحانه: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] أي لا تستسلموا لها، وتوقعوا نفوسكم فيها.
وقوله سبحانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) .
وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء على الحقيقة يؤمر، ولا قول يسمع.
وإنّما هذا القول عبارة عن تحقيق الإرادة وشرعة وجود المراد، من غير معاناة ولا مشقّة، فهو إخبار عن نفاذ قدرته تعالى. فإذا أراد أمرا كان لوقته، من غير أن يبطئ إيجاده، أو يتقاعس إنفاذه. وذلك بمنزلة قول أحدنا: «كن» في خفة اللفظ به، وسرعة التعبير عنه، من غير كلفة تلحقه، ولا مشقة تعترضه.
وقيل إن معنى قوله سبحانه:
كُنْ، علامة للملائكة يدلّهم بها، عند سماعهم لها، على أنه سيحدث كذا، ويفعل كذا، من محكمات التقدير، ومبرمات التدبير. وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [الآية 48] . وهذه استعارة.
لأن المراد بها رجوع الظلال من موضع الى موضع. والظلال على الحقيقة لا تتفيأ ولا تنقل، وإنما ترد الشمس عليها، ثم ترجع إلى ما كانت عليه، بعد أن تزول الشمس عنها، والشمس هي المتنقلة عليها، والظلال قائمة بحالها.
وقوله تعالى في صفة النحل العسّالة: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [الآية 69] . وفي هذه الآية استعارتان: إحداهما قوله تعالى:
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا، على قول من جعل ذللا حالا للسّبل، لا حالا للنحل. والذّلل: جمع ذلول، وهي الطرق الموطّأة للقدم، السهلة على الحافر والمنسم، تشبيها لها بالإبل الذلل، وهي التي قد عوّدت الترحل، وألفت المسير.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه:
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ والمراد بذلك العسل. والعسل عند المحقّقين من العلماء غير خارج من(5/53)
بطون النحل، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار، وأضغاث النبات. لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة، وعلى أوصاف معلومة، والنحل ملهمة تتبّع تلك المساقط، وتعهد تلك المواقع، فتنقل العسل بأفواهها إلى كوّاراتها «1» ، والمواضع المعدّة لها. فقال سبحانه:
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها والمراد من جهة بطونها. وجهة بطونها: أفواهها. وهذا من غوامض هذا البيان، وشرائف هذا الكلام.
وقوله سبحانه: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وهذه استعارة.
والمراد بإلقاء القول- والله أعلم- إخراج الكلام مع ضرب من الخضوع والاستكانة والإسرار والخفية، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] وفي هذا الكلام مفعول محذوف. فكأنه قال تعالى: «تلقون إليهم الأخبار بالمودة» . وهذا القول، نزل في قوم من المؤمنين، كانوا يجتمعون مع قوم من المنافقين، بأرحام تلفهم، وخلل «2» تولد عنهم، فيتسقّطونهم ليعرفوا منهم أخبار النبي (ص) والمؤمنين، فنهوا عن مناقشتهم والاجتماع معهم. فكأنّ المعنى: تلقون إليهم الأسرار بالمودّة التي بينكم، على سبيل الإسرار والإخفاء.
وقد قيل إن المراد: تلقون إليهم المودّة، فقال تعالى: بالمودّة، كما قال سبحانه: وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) [المؤمنون] أي تنبت الدهن على أحد التأويلين، ونظير التأويل الأول قوله سبحانه في ذكر الشياطين: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) [الشعراء] أي يطلبون سماع الأخبار على وجه الاستخفاء والاستسرار، وهذا الوجه لا يصح في قوله تعالى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) لأنّ الحال، التي أخبر سبحانه بأن هذا يجري فيها، هي حال القيامة، وتلك حال لا يجوز
__________
(1) . الكوّارات بضم الكاف وتشديد الواو جمع كوّارة، وهي بيت يتخذ للنحل من القضبان أو الطين تأوي إليه. أو هي عسلها في الشمع.
(2) . الخلل: جمع خلّة وهي الصداقة والصحبة.(5/54)
فيها الاستسرار لقول، ولا الكتمان لسر، لأن السرائر مظهرة، والضمائر مصرحة «1» . وإنما المراد بهذا الكلام ما يقوله المعبودون لمن عبدهم من الأمة، إذ يقول سبحانه: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [الآية 86] فقال المعبودون لهم في الجواب عن ذلك: إنكم لكاذبون، أي في أنّا دعوناكم الى العبادة، أو في قولكم إنّنا آلهة. وقد يجوز أيضا أن يكون التكذيب من العابدين للمعبودين، فكأنّهم قالوا لهم: كذبتم في ادّعائكم، أنّكم تستحقون العبادة من دون الله تعالى. فلم يبق إذن إلا الوجه الأول في معنى إلقاء القول، وهو أن يكون على وجه الخضوع والضراعة، ويكون سبب هذه الاستكانة الخوف من الله سبحانه، لا خوف بعض الشركاء من بعض. ومثل ذلك قوله سبحانه، عقب هذه الآية: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [الآية 87] أي استسلموا له عن ضرع ذلة، وانقطاع حيلة. ومن ذلك قولهم: ألقى فلان يد العاني. أي ذلّ ذلّ الأسير، وخضع خضوع المقهور.
وقوله سبحانه: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [الآية 94] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا الثبات في الدّين. ولما كان أصل الثبات في الشيء والاستقرار عليه، إنّما يكون بالقدم، حسن أن يعبر عن هذا المعنى بلفظ القدم، وكأنّ المراد بقوله تعالى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها أي يضعف دينكم، ويضطرب يقينكم، فيكون كالقدم الزّالة، والقائمة المائدة.
وقوله سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الآية 102] وهذه استعارة. لأن المراد بذلك جبريل عليه السلام، والتقديس:
الطهارة، وإنما سمّي روح القدس، لأنّ حياة الدين وطهارة المؤمنين، إنّما تكون بما يحمله الى الأنبياء عليهم السلام من الأحكام والشرائع، والآداب والمصالح.
وقوله سبحانه:
__________
(1) . أصحر الأمر: أظهره وأعلنه في غير خفاء.(5/55)
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) وهذه استعارة.
لأن المراد باللسان هاهنا جملة القرآن وطريقته، لا العضو المخصوص الذي يقع الكلام به. وذلك كما يقول العرب في القصيدة: هذه لسان فلان. أي قوله. قال شاعرهم:
لسان السّوء تهديها إلينا وحنت وما حسبتك أن تحينا «1» أي مقالة السوء. ومثل ذلك قول الاخر «2» :
ندمت على لسان كان منّي وددت بأنّه في جوف عكم أي على قول سبق مني، لأن الندم إنما يكون على الفعال والكلام، لا على الأعضاء والأعيان.
وإنما سمّي القول لسانا، لأنه إنما يكون باللسان، ويصدر عن اللسان. وقوله سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وهذه استعارة. لأن حقيقة الذوق إنما تكون في المطاعم والمشارب، لا في الكسى والملابس. وإنما خرج هذا الكلام مخرج الخبر عن العقاب النازل بهم، والبلاء الشامل لهم. وقد عرف في لسانهم، أن يقولوا لمن عوقب على جريمة، أو أخذ بجريرة: ذق غبّ فعلك، واجن ثمرة جهلك. وإن كانت عقوبته ليست مما يحسّ بالطعم، ويدرك بالذوق. فكأنّه سبحانه لمّا شملهم بالجوع والخوف على وجه العقوبة، حسن أن يقول تعالى:
فأذاقهم ذلك، أي أوجدهم مرارته، كما يجد الذائق مرارة الشيء المرير،
__________
(1) . روي هذا البيت في: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي جزء 10 ص 179 هكذا:
لسان الشر تهديها إلينا ... وخنت وما حسبتك أن تخونا
ولم تذكر كتب الشواهد اسم قائل هذا البيت.
(2) . هو الحطيئة الشاعر، كما جاء في «لسان العرب» مادة: لسن. إلا أنه روي في اللسان هكذا:
ندمت على لسان فات مني ... فليت بأنه في جوف عكم.
والعكم بكسر العين: العدل الذي توضح فيه الأشياء، أو الكارة.(5/56)
ووخامة الطعم الكريه. وإنّما قال سبحانه: لِباسَ الْجُوعِ ولم يقل:
طعم الجوع والخوف، لأنّ المراد بذلك- والله أعلم- وصف تلك الحال بالشمول لهم، والاشتمال عليهم، كاشتمال الملابس على الجلود، لأنّ ما يظهر منهم عن مضيض الجوع، وأليم الخوف، من سوء الأحوال، وشحوب الألوان، وضؤولة الأجسام، كاللباس الشامل لهم، والظاهر عليهم.(5/57)
سورة الإسراء(5/59)
المبحث الأول أهداف سورة «الإسراء» «1»
سورة الإسراء سورة مكّية، نزلت في السنة الحادية عشرة للبعثة قبل الهجرة بسنة وشهرين. وتسمّى سورة «الإسراء» ، نظرا لذكر الإسراء في صدرها، كما تسمّى سورة «بني إسرائيل» لأنها تحدّثت عنهم، وعن إفسادهم في الأرض، وعن عقوبة الله لهم على هذا الفساد.
وعدد آياتها 111 آية، وهي من أواخر ما نزل من السّور في مكّة، وقد تميّزت آياتها بالطول النسبي، وبسط الفكرة، والدعوة إلى التحلّي بالآداب ومكارم الأخلاق.
فسورة الإسراء اشتملت على خصائص السورة المكّية، ومن ناحية أخرى ظهرت فيها صفات من خصائص السورة المدنية، لأنها من أواخر ما نزل في مكّة فهي ممهّدة للعهد المدني، أو هي ممّا يشبه المدني، وهو مكّي.
الإسراء
بدأت سورة الإسراء بقوله تعالى:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) .
وخلاصة الإسراء: أن الله تعالى، أكرم رسوله محمدا (ص) ، بمعجزة إلهية، هي الانتقال به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم صعد إلى السماوات العلا، ورأى من كل سماء مقرّبيها، ورأى سدرة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984. [.....](5/61)
المنتهى، وجنة المأوى، وآيات ربّه الكبرى، ثم فرض الله سبحانه عليه الصلاة، لتكون صلة بين المخلوق والخالق، ورباطا بين الإنسان وربّه، وعاد (ص) إلى مكة قبل طلوع الفجر.
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة مختارة من لدن اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى، من إبراهيم وإسماعيل (ع) إلى محمد خاتم النبيين (ص) ، وتربط بين الأماكن المقدّسة لديانات التوحيد جميعا.
وكأنّما أريد بهذه الرحلة العجيبة، إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدّسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتتضمّن أكبر من المعاني القريبة، التي تنكشف عنها للنظرة الاولى.
والإسراء آية صاحبتها آيات:
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا.
والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، في الوقت القصير، آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود، وتكشف عن نعم الله على الجنس البشري، الذي كرّمه الله وفضّله على كثير من خلقه، واصطفى من بينهم رسلا وأنبياء، يوحي إليهم ويخصّهم بالنبوّة والهداية، والمعجزات الباهرة.
هذا الإسراء آية من آيات الله. وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر، والمسجد الأقصى، هو طرف الرحلة، وهو قلب الأرض المقدّسة التي بارك الله حولها، بركات مادية ومعنوية، فحولها الأشجار والثمار، وإليها يتحرّك الحجيج، وقد زارها الأنبياء والمرسلون.
واتفق جمهور العلماء على أن الإسراء كان بالروح والجسد، يقظة لا مناما وذهب بعض العلماء إلى أن الإسراء كان بالروح فقط، وكان في النوم لا في اليقظة، لقوله تعالى في سورة الإسراء:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الآية 60] .
وقد رد جمهور العلماء بأن هذه الآية، تشير إلى رؤيا رآها النبي (ص) ليلة غزوة بدر الكبرى، قال تعالى:(5/62)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الأنفال: 43] .
أو تشير إلى رؤيا رآها النبي (ص) بدخول المسجد الحرام حاجّا معتمرا قبل صلح الحديبية، قال تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) [الفتح] .
واستدل الجمهور، بأن الله جعل الإسراء آية كبرى، وقال أَسْرى بِعَبْدِهِ والعبد مجموع الروح والجسد، ولو شاء لقال: «أسرى بروح عبده» .
ثم إن كفار مكّة أنكروا الإسراء، وارتدّ بعض ضعاف الإيمان بسبب الإسراء، ولو كان الإسراء مناما، لما أنكره كفّار مكّة، ولما ارتدّ بسببه ضعاف الإيمان، ولما تميّز أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بتصديقه من بين سائر الناس.
وقد ركب الرسول (ص) البراق، وركوب البراق من خصائص الأجساد والإسراء في حقيقته معجزة إلهية، خاصة بالرسول الأمين ولا حرج على فضل الله، ولا حدود لقدرته، فهو سبحانه على كل شيء قدير، قال شوقي:
يتساءلون وأنت أطهر هيكل ... بالرّوح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهّرا وكلاهما ... نور وروحانيّة وبهاء
وعد الله لبني إسرائيل
بدأت سورة الإسراء بالحديث عن الإسراء بالنبيّ الأمين والسورة في مجملها تتحدّث عن النبي (ص) وعن القرآن الذي نزل عليه، وموقف المشركين من هذا القرآن وفي خلال هذا الحديث، تستطرد إلى ذكر بني إسرائيل، والحديث عن ماضيهم وفسادهم في الأرض وعقوبة الله لهم، كأنّها تتوعّد كلّ مكذّب ومفسد بالعقاب العادل وفي هذا تهديد لكفار مكة، ولكلّ خارج على نطاق الإيمان وشريعة العدل، والنّظام الإلهي.
ويلاحظ أن وعيد الله لبني إسرائيل، على إفسادهم في الأرض مرّتين، لم يذكر في القرآن إلّا في صدر سورة الإسراء.(5/63)
وقد تعدّدت أقوال المفسّرين في بيان القوم الذين سلّطهم الله على اليهود، وذهب جمهور المفسرين إلى أن المسلّط عليهم في المرة الأولى هو بختنصر البابلي، وقد غزاهم سنة 606 قبل الميلاد، ثم ساعدهم قورش ملك الفرس سنة 526 قبل الميلاد، فعادوا لبلادهم وأعادوا بناء هيكلهم.
والمسلّط عليهم في المرة الثانية هم الرومان بقيادة تيطس سنة 70 م، وقد كان إذلالهم في المرة الثانية أشدّ وأنكى، وقد تفرّق اليهود في البلاد بعد هزيمتهم الثانية، وأصبح تاريخهم ملحقا بتاريخ الممالك التي نزلوا فيها، ولم يرجع اليهود إلى فلسطين إلا في العصر الحديث.
وينبغي أن ندرك أن آيات سورة الإسراء، لا تحدّد تاريخا معيّنا لفساد اليهود، ولا قوما بأعيانهم سلّطهم الله عليهم، فإذا أردنا معرفة ذلك فلنرجع إلى التاريخ، لا لنحكّمه في فهم القرآن، ولكن لنستأنس به فقط.
وخلاصة الآيات التي تحدثت عن فساد اليهود ما يأتي:
1- أخبر الله تعالى أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، وهذا الفساد معناه طغيان وعدوان منهم على عباد الله، وخروجهم على الطريق القويم.
2- أخبر الله تعالى عنهم أنهم لمّا طغوا وبغوا، سلّط الله عليهم من ينتقم منهم.
3- بعد الانتقام الأول، عادوا إلى الطريق الجادّة فانتصروا على أعدائهم، لكنّهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد، فحقّ عليهم وعيد الله تعالى.
4- سلّط الله سبحانه، عليهم في المرة الثانية، من أذلّهم وهدم هيكلهم، وقضى عليهم وعلى ملكهم.
5- ذكر الله تعالى، أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه، فإن عادوا للفساد عاد عليهم بالعقاب.
وقد عنيت سورة الإسراء، بالحديث عن مكارم الأخلاق.
فدعت إلى توحيد الله جلّ جلاله، وأمرت بالإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم، والعطف على الفقير والمساكين وابن السبيل ونهت عن التبذير، والقتل، والزنا، وتطفيف الكيل، وأكل مال اليتيم، والكبر، والبطر. وإذا قرأت الآيات 23- 39، رأيت دستورا أخلاقيا كريما، يأمر بالفضائل، ويحثّ(5/64)
على القيم، وينهى عن الرذائل، ويحذّر من المعاصي والموبقات.
وترى أن القرآن أعظم كتاب في التربية الأخلاقية والسلوكية، وهذه التربية هي التي صاغت المجتمع الإسلامي المحمّدي صياغة جديدة يسري في أوصال المجتمع العربي والإسلامي، فيهدم حطام الجاهلية وأوثانها، ويقيم على أشلائها دولة جيّدة، تؤمن بالله ورسوله، وتهتدي بكتابه الذي أنزله الله نورا وهدى.
فترى المسلم إمّا عابدا في مسجده، أو ساعيا إلى رزقه، أو مجاهدا في سبيل إعلاء كلمة الله. وجمعت المسلمين راية جديدة، شعارها الإخلاص، وعمادها الحب لله ورسوله، وقوّتها في تماسك المسلمين، وأخوّتهم وترابطهم وتساندهم، حتّى أصبحوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضا.
أوهام المشركين، وحجج القرآن الكريم
في الآيات 39- 58: من سورة الإسراء، حديث عن أوهام الوثنية الجاهليّة، حول نسبة البنات والشركاء إلى الله.
وخلاصة ذلك، أنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادّعوا، كذبا وبهتانا، أنهنّ بنات الله ثم عبدوهنّ، فأخطأوا في الأمور الثلاثة خطأ عظيما.
ثم تحدّثت السورة عن البعث، واستبعاد الكافرين لوقوعه، وعن استقبالهم للقرآن، وتقوّلاتهم على الرسول (ص) ، وأمرت المؤمنين أن يقولوا قولا آخر، ويتكلّموا بالتي هي أحسن.
وفي الآيات 59- 72: بيّنت السورة، لماذا كانت معجزة محمد (ص) ، معجزة عقلية خالدة، ولم تكن معجزة مادية محدودة فقد كذّب الأوّلون بالخوارق فحقّ عليهم الهلاك اتّباعا لسنة الله كما تناولت الحديث عن الإسراء وحكمته، وأن الله جعله فتنة وامتحانا للناس، ليتميّز المؤمنون، وينكشف المنافقون ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس اللعين، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرّية آدم.
يجيء هذا الطرف من القصة، كأنه كشف لعوامل الضلال، الذي يبدو من(5/65)
المشركين، ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، في تكريم الإنسان، وتمييزه من المخلوقات جميعها، وتسخير الكون جميعه له، حتى يفكّر بعقله، ويؤمن بقلبه، فمن اهتدى، أخذ كتابه بيمينه يوم القيامة ومن عمي عن الحق في الدنيا، فهو في الاخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
وفي الآيات 73- 88: تستعرض سورة الإسراء كيد المشركين للرسول (ص) ومحاولتهم فتنته عن بعض ما أنزل إليه، ومحاولة إخراجه من مكّة ثم تأمر النبي (ص) ، بأن يمضي في طريقه، يقرأ القرآن، ويؤدّي الصلاة، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه وتذكر رسالة القرآن بأنها شفاء لأمراض الجاهليّة، ورحمة بالجماعة الإسلامية.
وفي الآيات 88- 111: نجد القسم الأخير من السورة، ويستمر الحديث في هذه الآيات عن نزول القرآن وإعجازه، بينما يطلب كفار مكّة خوارق مادية، يطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول (ص) بيت من زخرف، أو جنّة من نخيل وعنب، تتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا أو أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا من الماء، أو أن يرقى هو في السماء، ثم يأتيهم بكتاب ملموس محسوس، فيه شهادة بأنه مرسل من عند الله.. إلى آخر هذه المقترحات، التي يمليها العنت والمكابرة، لا طلب الهدى والاقتناع.
ويردّ الله سبحانه على هذا كلّه، بأنّ ذلك خارج عن وظيفة الرسول، وطبيعة الرسالة.
فالرسول بشر يوحى إليه، وليس إلها يتحكّم في مظاهر الكون وقد سبق أن أعطى الله تعالى موسى (ع) معجزات مادية، فكذّب بها فرعون، وجحد نبوّة موسى فكانت العاقبة، أن أغرق الله فرعون ومن معه من المكذّبين.
إن طريقة القرآن الكريم، هي طريقة الدعوة الهادفة المتأنّية، وقد نزل مفرّقا ليقرأه الرسول على قومه في هدوء وتؤدة، وليجيب عن أسئلة السائلين، وليكون كتاب الحياة، يحياها مع المؤمنين، يعلّمهم دينهم، ويردّ عنهم دعاوى أعدائهم، ويلفتهم إلى الكون وما فيه، حتّى يعبدوا الله ويسجدوا له(5/66)
عن خشوع ويقين. وتختم سورة الإسراء، بحمد الله وتنزيهه عن الولد والشريك في الملك، كما بدئت بتنزيه الله وتسبيحه ففي أوّل السورة:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.
وفي آخر السورة:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) .
من أسرار الإعجاز في سورة الإسراء
يقول الله تعالى في سورة الإسراء:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) .
لقد كانت هناك معركة فكرية ونفسية، بين القرآن والمشركين، ألصق المشركون فيها التّهم بالرسول (ص) فرموه بالسحر والجنون، وافتراء القرآن من عند نفسه، وقد نزلت سورة الإسراء في ذروة هذه المعركة واحتدامها، بعد أن مات أبو طالب عمّ الرسول، وماتت زوجته خديجة، فكان الإسراء تسرية للرسول الأمين، وكانت سورة الإسراء قلعة من حصون البيان والجدال بالحجة الدامغة والدليل الواضح.
إنّك تحسّ عند قراءة السورة نبضات حيّة، تصوّر عنف المشركين وضلال عقيدتهم، وتبرز أسلوب الدعوة الجديد، الذي يملك الحجّة على قضية الألوهيّة، ويسوق الأدلّة على قضيّته من سجلات التاريخ ومن واقع الكون ومشاهده، ومن التحدي بالقرآن، وتأكيد عجزهم عن الإتيان بمثله.
والقرآن في سياق حديثه، ينتقل من فن إلى فن، ومن وصف للإسراء إلى حديث عن تاريخ اليهود، إلى ردّ على دعوى المشركين، إلى ذكر قصص لآدم وإبليس، وفرعون، وموسى.
ويربط القرآن بين هذه الأفكار المتناثرة في الظاهر، برباط قوي متين، يؤكّد أنه كتاب الله.
وقد تعرّضت علوم السابقين للنقض والتعديل، ولم يبق كتاب منزّه عن النقض والعيب، إلّا هذا الكتاب.
وفي ختام هذا الحديث، يمكننا أن نرجع أهداف سورة الإسراء إلى الأمور الآتية:(5/67)
1- معجزة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس.
2- تاريخ بني إسرائيل، وإفسادهم في الأرض، وعقوبة الله لهم.
3- جملة من الآداب، يجب على المسلمين أن يتحلّوا بها، حتى تظلّ رابطتهم قوية متماسكة.
4- بيان أنّ كل ما في السماوات والأرض، مسبّح لله.
5- الكلام على البعث، مع إقامة الأدلّة على إمكانه.
6- الردّ على المشركين، الذين اتخذوا مع الله آلهة، من الأوثان والأصنام.
7- الحكمة في عدم إنزال المعجزات التي اقترحوها، على محمد (ص) . 8- قصص سجود الملائكة لآدم، وامتناع إبليس عن السجود.
9- تعداد بعض نعم الله سبحانه.
10- طلب المشركين من الرسول (ص) أن يوافقهم في بعض معتقداتهم، وإلحافهم في ذلك.
11- أمر النبي (ص) بإقامة الصلاة والتهجّد في الليل.
12- بيان إعجاز القرآن، وأنّ البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله.
13- قصص موسى مع فرعون.
14- الحكمة في إنزال القرآن منجّما.
15- تنزيه الله سبحانه، عن الولد والشريك والناصر والمعين.(5/68)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الإسراء» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الإسراء بعد سورة القصص، وقد كانت حادثة الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة، فيكون نزول سورة الإسراء في هذه السنة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لابتدائها بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وتبلغ آياتها إحدى عشرة ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة ثلاثة أمور:
أولها: إثبات حادثة الإسراء، وقد كان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فاستدعى هذا بيان فضل هذا المسجد، وذكر بعض من أخبار أهله. وثانيها: الموازنة بين كتابي المسجدين، القرآن والتوراة وقد استدعى هذا، ذكر بعض ما أتى به القرآن من الحكم والمواعظ. وثالثها:
بيان حكمة الإسراء من اختبار الناس به. وقد عاد السّياق، بعد هذا، إلى بيان فضل القرآن، فانتهى به الكلام في هذه السورة.
وقد ذكرت سورة الإسراء بعد سورة النحل، لأن الإسراء كان رمزا للهجرة إلى المدينة، وكان في الهجرة إليها تحقيق ما أنذروا به، من قرب عذابهم في أول سورة النحل.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/69)
إثبات الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الآيات (1- 8)
قال الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) فذكر تعالى أنّه أسرى بالنبي (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ليريه ما فيه من آياته ثم ذكر أنه أنزل التوراة على موسى شريعة لأهله من بني إسرائيل، وأنه قضى إليهم فيها، أنهم سيفسدون في أرضهم مرتين، ويخرجون على شريعتهم بعبادة الأوثان والأصنام، وأنه إذا جاءت المرة الأولى، بعث عليهم قوما ذوي بأس شديد، ليخرجوا ديارهم ويهدموا مسجدهم، وهم قوم بختنصّر ملك بابل، ثم ينقذهم منهم وينصرهم عليهم ويجعلهم أحسن حالا ممّا كانوا عليه قبل غزوهم فإذا جاءت المرة الثانية بعث عليهم قوما آخرين يخربون ديارهم ويهدمون مسجدهم كما هدم في المرة الأولى، وهم الروم الذين غزوهم وأخرجوهم من ديارهم، ثم التفت السياق إلى اليهود المعاصرين للنبي (ص) بقوله تعالى عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) .
الموازنة بين كتابي المسجدين الآيات (9- 59)
ثم قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) فذكر أن القرآن يهدي إلى شريعة أقوم من التوراة، وأنه يبشّر المؤمنين بأن لهم أجرا كبيرا، وينذر الكافرين بأنّ لهم عذابا أليما ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون هذا العذاب، الذي ينذرهم به، استعجالهم للخير، وكان الإنسان عجولا واستدلّ على قدرته عليه، بأنه جعل الليل والنهار آيتين، فمحى آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ليبتغوا أرزاقهم فيها، وليعلموا عدد السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) ثم ذكر أن كلّ إنسان تحصى عليه أعماله في دنياه، ليحاسب عليها يوم القيامة، وأنّ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما(5/70)
يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
(15) .
ثم ذكر أنه تعالى إذا أراد أن يهلك قرية بذلك العذاب الذي يستعجلونه، أمر مترفيها ففسقوا فيها، فحقّ عليها العذاب فدمّرها تدميرا وأنه كم أهلك من القرون، بهذا الشكل من بعد نوح (ع) ، وأنه أعلم بذنوب عباده، فيقدّر لهم وقت عذابهم كما يريد وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) .
ثم ذكر أن من يريد العاجلة عجّل له فيها، ما يشاء من خير أو شر، لمن يريد. وليس لأحد أن يتعجّله في شيء، وأنّ من يريد الاخرة ويسعى لها، شكر له سعيه، وأنّه يمدّ كلّا منهما في الدنيا بعطائه، ولا يحظره عن أحد من عباده، وأنه يفضّل بعضهم على بعض في هذا العطاء، وستكون الاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
ثم بيّن بعضا من شريعة القرآن، في الأصول والفروع والأخلاق، فنهى عن الشرك به، وأمر بالإحسان إلى الوالدين، وبإيتاء ذي القربي حقّه والمساكين وابن السبيل، ونهى عن التبذير في المال، وأمر بالاعتذار الحسن عند العجز عن الإحسان، إلى غير هذا من الأحكام التي ختمها بقوله تعالى: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) فختمها بالنهي عن الشرك كما ابتدأها به، وأتبعه بتوبيخهم على نوع خاص من شركهم، وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله، فذكر أنه لا يصح أن يؤثرهم بالبنين، ويتّخذ من الملائكة إناثا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (40) .
ثم ذكر تعالى أنه صرّف في القرآن هذا التصريف من الكلام في الأصول والفروع والأخلاق، ليكون فيه موعظة للناس، ولكنّه لا يزيدهم إلّا نفورا وأمر النبي (ص) ، أن يذكر لهم دليلا على بطلان الشرك لا يمكنهم أن يماروا فيه، وهو أنه لو كان معه سبحانه آلهة لابتغوا سبيلا إلى منازعته، ثم نزّه سبحانه نفسه عمّا يزعمونه من أن له شركاء في ملكه، وذكر أنه هو الذي تسبّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وأنه ما من شيء إلّا يسبّح بحمده، ولكنهم لا يفقهون تسبيحهم.
ثم ذكر أنه إذا قرأ القرآن جعل بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، وجعل على قلوبهم أكنّة أن(5/71)
يفقهوه، وفي آذانهم وقرا وأنّه إذا ذكره في القرآن، ولم يذكر آلهتهم فرّوا على أدبارهم نفورا، وأنه أعلم بحالهم حين يستمعون إليه وإذ هم نجوى إذ يقولون إن تتبعون إلّا رجلا مسحورا ثم ذكر ممّا يحملهم على زعم هذا فيه، أنّه يدعي أنهم يبعثون بعد أن يصيروا عظاما، ورفاتا خلقا جديدا وردّ عليهم، بأن الذي فطرهم المرة الاولى قادر على بعثهم ثم ذكر أنهم سينغضون رؤوسهم «1» ويقولون: متى هو؟ وأجابهم بأنه عسى أن يكون قريبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) .
ثم أمر النبي (ص) بأن يأمرهم بأن يقولوا التي هي أحسن، من قولهم إنه رجل مسحور وذكر لهم أن الشيطان ينزغ بينهم ويزيّن لهم هذه الشتائم، وأنه سبحانه هو أعلم بهم، إن يشأ يرحمهم بالإيمان أو يعذبهم بالكفر، ولم يرسله وكيلا عليهم، حتى يضيقوا به ويشتموه، وأنه جلّ جلاله أعلم بمن في السماوات والأرض، وقد فضّل بعض النبيين على بعض بمقتضى علمه، وآتى داود زبورا فلا يصحّ لهم أن يقولوا في النبي (ص) وفي قرآنه، مالا علم لهم به.
ثم أمرهم بأن يدعوا شركاءهم ليكشفوا عنهم ذلك الضرّ، الذي يتعجّلون به، فإنهم لا يملكون كشفه عنهم، ولا تحويله، لأنهم عبيد مثلهم، يبتغون إليه سبحانه الوسيلة، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه ثم ذكر أنه ما من قرية من قرى المكذّبين إلا هو مهلكها قبل يوم القيامة، أو معذّبها عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا ثم أشار إلى أنه اختار لهم أن يعذّبهم بتسليط المؤمنين عليهم، ولا يهلكهم بآيات عذابه، فقال تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) .
بيان حكمة الإسراء الآيات (60- 81)
ثم قال تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
__________
(1) . أي سيحرّكونها.(5/72)
أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (60) فذكر سبحانه أنه وعده بالنصر عليهم، حينما أخبرهم بالإسراء فكذّبوه، وارتدّ كثير منهم، وأنه لم يجعل رؤيا الإسراء إلّا فتنة لهم فقد افتتنوا بها، كما افتتنوا بشجرة الزّقّوم الملعونة في القرآن، فقالوا: زعم محمد أن نار جهنم تحرق الحجر، ثم زعم أن في النار شجرة وهي تأكل الشجر، فكيف ينبت فيها الشجر؟ ثم ذكر أنه يخوّفهم بذلك، فما يزيدهم إلّا طغيانا كبيرا.
ثم ذكر لهم قصة آدم مع الملائكة وإبليس، لأنها كانت للاختبار أيضا، ليتّعظوا في اختبارهم بالإسراء، بما حصل لإبليس حينما عصى أمر ربه من الطرد واللعن، ولا يقعوا في مثل ما وقع فيه بتكذيبها وقد ختمها بقوله لإبليس إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) .
ثم شرع السياق في أخذهم بالترغيب بعد الترهيب، فذكر سبحانه، أنه هو الذي يسوق السفن في البحر، ليبتغوا من فضله، وأنهم إذا مسّهم الضرّ في البحر وخافوا الغرق لا يلجئون إلّا إليه في كشفه عنهم، فإذا نجّاهم إلى البر يعرضون عنه ويكافرون بنعمته ولا يأمنون أن يخسف بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا، أو يعيدهم في البحر مرة أخرى فيغرقهم بسبب كفرهم ثم ذكر أنه كرّم بني آدم بنعمة العقل، وحملهم في البرّ والبحر، ورزقهم من الطيّبات، وفضّلهم على كثير من خلقه، وأنه سيبعثهم ويحاسبهم على ما أنعم به عليهم، فمن أوتي كتابه بيمينه، وهم الذين قاموا بحقّ هذه النعم، فإنهم يكافئون على ذلك ولا يظلمون فتيلا ومن لم يقم بحق هذه النعم، ولم ينظر بعقله في دنياه حتى صار فيها كالأعمى، فهو في الاخرة أعمى وأضلّ سبيلا.
ثم ذكر تعالى أن فتنة الإسراء، بلغ من شدّتها أنهم كادوا يفتنون النبي (ص) عمّا أوحي إليه من أمرها، ليفتري لهم غيره ولولا أن ثبّته سبحانه فيها، لقد كاد يركن إليهم شيئا قليلا ثم ذكر أنهم كادوا يحملونه على الخروج من مكّة، لشدّة استهزائهم به، ولو أنهم أخرجوه منها لأهلكهم كما أهلك من قبلهم من أخرجوا أنبياءهم من بينهم ثم أمره بأن يعرض عنهم ويقبل على(5/73)
عبادته، وإقامة الصلاة له في أوقاتها من فروض ونوافل، لينصره عليهم، ويبعثه مقاما محمودا يظهر فيه أمره عليهم وقد كان ذلك بالهجرة إلى المدينة، وكان الإسراء قبلها بسنة واحدة، ثم أمره أن يلجأ إليه في تهيئة ذلك المقام المحمود حتى يخرجه من مكّة مخرج صدق، ويدخله ذلك المقام المحمود مدخل صدق، وأن ينبئهم بقرب ذلك اليوم الذي يظهر فيه حقّه على باطلهم وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) .
عود إلى بيان فضل القرآن الآيات (82- 111)
ثم قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) ، فعاد السياق إلى الكلام على فضل القرآن، وذكر أنه سبحانه ينزّل منه ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ويزداد به الكافرون خسارا إلى خسارهم ثم بيّن سبب ذلك فيهم، وهو استكبارهم واغترارهم بأموالهم التي أنعم الله بها عليهم فذكر سبحانه أن شأن الكافر إذا أنعم عليه استكبر، وإذا مسّه الفقر بلغ به اليأس كل مبلغ ثم ذكر أن كلّا من المؤمنين والكافرين، يعمل من ذلك على شاكلته، وأنه سبحانه أعلم بمن هو أهدى سبيلا منهم ثم ذكر تعالى أنهم يسألون النبيّ (ص) عن الروح، وهو القرآن، ما دليله على أنه من عند الله؟
وأمره أن يجيبهم بأنه من أمره، وأن ما جاءهم به من العلم قليل بالنسبة إلى واسع علمه وأنه سبحانه لو شاء أن يأخذ هذا القليل وذهب بما أوحى إليه من القرآن لفعل، لأنه لا يريد به شيئا لنفسه، وإنما يريد مصلحتهم ثم بيّن لهم الدليل على أنه من عنده، وهو عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله وذكر أنه تحدّاهم بذلك على وجوه كثيرة، فمن عشر سور إلى سورة واحدة، إلى التحدي به كلّه ولكنهم يأبون إلا كفورا، ويطلبون معجزات أخرى، كأن يفجّر لهم ينبوعا من الأرض، أو يكون له في واديهم جنّة من نخيل وعنب تجري فيها الأنهار، إلى غير هذا مما اقترحوه على وجه التعنّت والتحكّم، وقد أمره تعالى بأن يجيبهم بأنه ليس إلّا بشرا رسولا ثم ذكر أنهم لم يمنعهم من الايمان بالقرآن، إلّا استبعادهم أن يكون رسوله من البشر، وأمره أن يجيبهم بأنه لو(5/74)
كان في الأرض ملائكة، يمشون مطمئنين لنزل عليهم من السماء ملكا رسولا وبأنه قد شهد على صدقه بمعجزة القرآن، وكفى به شهيدا بينه وبينهم ثم ذكر أن الهداية والضلال بإرادته لا بالمعجزات، فإذا أراد هداية قوم هداهم، وإذا لم يرد هداية قوم، فلن يوجد لهم أولياء من دونه يهدونهم ويحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا بكما صمّا، مأواهم جهنّم، كلّما خبت زادهم سعيرا، ذلك لأنهم كفروا بمعجزة القرآن، وأنكروا ما جاء به من بعثهم ثم ذكر أنهم لو نظروا في خلق السماوات والأرض، لعلموا أنه قادر على أن يبعثهم، وأنه جعل لبعثهم أجلا لا ريب فيه، وإن كفروا به.
ثم ذكر أنهم لو ملكوا خزائن رحمته، وهي أعظم ممّا اقترحوه من تفجير الأرض وغيره لبخلوا بها، فلا فائدة من إجابتهم إلى ما اقترحوه عليه ثم ذكر أنه آتى موسى تسع آيات بيّنات مثل هذه الآيات، فلم يؤمن فرعون بها، وأراد أن يستفزّ بني إسرائيل من أرضه فأغرقه جلّت قدرته، ومن معه جميعا، وأسكن بني إسرائيل الأرض التي وعدهم بها.
ثم عاد السياق إلى تعظيم شأن القرآن، فذكر سبحانه أنه لم ينزّله إلّا بالحق وبالحق نزل، وأنه لم يرسله إلّا مبشّرا ونذيرا، فمن شاء آمن ومن لم يشأ لم يؤمن ثم ذكر أنه نزّله مفرّقا ليقرأه على الناس على مكث، وأن إيمانهم به وعدمه سواء، لأن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون ساجدين لأذقانهم ثم ختم السورة فأمرهم بأن يدعوه باسمه أو باسم الرحمن، أو غيرهما من أسمائه الحسنى ونهاه أن يجهر بصلاته أو يخافت بها، وأمره أن يبتغي بين ذلك سبيلا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) .(5/75)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الإسراء» «1»
اعلم أن هذه السورة، والسّور الأربع التي بعدها، هي من قديم ما أنزل.
أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال، في بني إسرائيل، والكهف ومريم وطه والأنبياء: «من العتاق الأول، وهنّ من تلادي «2» » وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول، وكونها مكّية، وكونها مشتملة على القصص.
وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل: أنه سبحانه، لمّا قال: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في آخر النحل «3» فسّر في هذه شريعة أهل السبت وشأنهم فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة، كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: «التوراة كلّها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل» «4» . وذكر عصيانهم وفسادهم، وتخريب مسجدهم ثم ذكر استفزازهم للنبي (ص) ورغبتهم في إخراجه من المدينة، ثم ذكر سؤالهم إيّاه عن الروح، ثم ختم السورة بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون، وأخبر أن استفزازهم للنبي (ص) ليخرجوه من المدينة هو وأصحابه، نظير ما وقع لهم مع فرعون لمّا استفزّهم، ووقع ذلك أيضا.
ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى، فقد أسري بالمصطفى إليه، تشريفا له بحلول ركابه الشريف.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . أخرجه البخاري في التفسير: 6: 189 عن ابن مسعود والتلاد: القديم.
(3) . الآية 124.
(4) . تفسير ابن جرير: 17: 243.(5/77)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الإسراء» «1»
1- بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الآية 5] .
قال ابن عبّاس وقتادة: بعث الله عليهم جالوت. أخرجه ابن أبي حاتم.
وفي «العجائب» للكرماني، قيل:
هم سنحاريب «2» وجنوده «3» . وقيل: العمالقة.
وقيل: قوم مؤمنون، بدليل إضافتهم إليه تعالى.
2- فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ( [الآية 7] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . كذا في «تفسير ابن كثير» .
(3) . عزاه الحافظ ابن كثير في تفسيره» 3: 25 إلى سعيد بن جبير، ثم قال الحافظ بعد ذلك: «وقد ذكر ابن أبي حاتم- أي في «تفسيره» له- أي سنحاريب ملك الموصل- قصّة عجيبة، في كيفية ترقيه من حال إلى حال، في أنه ملك البلاد، وأنه كان فقيرا مقعدا، ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنّه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل وقد روى ابن جرير إلى هذا المكان حديثا، أسنده عن حذيفة مرفوعا مطوّلا وهو موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث والعجب كل العجب، كيف راج عليه، مع جلالة قدره وإمامته، وقد صرح الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب. وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها ولله الحمد» . ثم ذكر ابن كثير رواية ابن جرير عن سعيد بن المسيّب، وهي قول سعيد بن المسيّب: ظهر بختنصّر على الشام، فخرب بيت المقدس، وقتلهم ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا، فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا، كلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: «فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين، وغيرهم فسكن» . قال ابن كثير: «وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب» . وقال أيضا:
«وهذا هو المشهور» .(5/79)
قال عطيّة ومجاهد: بعث عليهم في الاخرة بختنصّر. أخرجه ابن أبي حاتم.
3- ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الآية 56] .
قال ابن عبّاس: عيسى وأمه، وعزيز. أخرجه ابن أبي حاتم «1» .
4- وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الآية 60] .
قال ابن عباس: هي شجرة الزّقّوم أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
5- وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الآية 73] نزلت في رجال من قريش، منهم:
أميّة بن خلف، وأبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس «3» . 6- وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الآية 76] .
نزلت في اليهود كما أخرجه البيهقي في «الدلائل» ، من مرسل عبد الرحمن ابن غنم «4» .
7- مُدْخَلَ صِدْقٍ [الآية 80] .
قال مطر الورّاق «5» المدينة قال: و: مُخْرَجَ صِدْقٍ [الآية 80] :
مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم «6» .
8- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الآية 85] .
أخرج الشيخان «7» وغيرهما عن ابن مسعود: أنّ السائلين اليهود.
وأخرج التّرمذيّ «8» عن ابن عبّاس:
أنّهم قريش.
__________
(1) . وفي «تفسير الطبري» 15: 72 من طريق العوفي، عن ابن عبّاس، قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعزيزا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيزا.
(2) . والبخاري في «صحيحه» برقم (4716) في التفسير، والترمذي برقم (3133) في التفسير، والواحدي في «أسباب النزول» : 218.
(3) . في «تفسير الطبري» 15: 88 عنه: أنهم من ثقيف.
(4) . ضعّفه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 3: 53، غير كونه مرسلا، فانظره.
(5) . مطر بن طهمان الورّاق، أبو رجاء، السلمي مولاهم، الخراساني، سكن البصرة، كان صدوقا في حديثه، كثير الخطأ، مات سنة 125. [.....]
(6) . وأخرج نحوه الترمذي (3138) وأحمد عن ابن عبّاس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(7) . البخاري (4721) في التفسير، ومسلم في صفة القيامة (12) .
(8) . برقم (3139) في التفسير في «سننه» وقال هذا حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه.(5/80)
9- وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا [الآية 90] .
سمّى ابن عبّاس، من قائلي ذلك عبد الله بن أبي أميّة. أخرجه ابن أبي حاتم «1» .
10- تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الآية 101] . قال ابن عبّاس: هي الطّوفان، والجراد، والقمّل، والضّفادع، والدم، والعصا، واليد، والسنون «2» ، ونقص من الثّمرات. أخرجه ابن أبي حاتم «3» وأخرج عن سعيد بن جبير، قال: كان بين كلّ آيتين من هذه التسع، ثلاثون يوما. وأخرج عن زيد بن أسلم، قال:
كانت في تسع سنين، في كل سنة آية.
__________
(1) . انظر «تفسير ابن كثير» 3: 62.
(2) . السنون: الجدب.
(3) . قال ابن كثير: «وهذا القول ظاهر جليّ، حسن قويّ» .(5/81)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الإسراء» «1»
1- قال تعالى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الآية 5] قرئ: فحاسوا بالحاء المهملة، وليس هذا من باب الإبدال الذي يعرض لقرب مخارج الأصوات، كالعين والهمزة، والحاء، والهاء، والتاء، والثاء، والسين، والشين، وقد يكون لقرب صفة الصوت من صفة أخرى.
وعلى هذا، فإن «جاسوا» كلمة برأسها، و «حاسوا» كلمة أخرى، وإن اتّفق المعنى.
2- وقال تعالى: وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) .
أي ليهلكوا كلّ شيء غلبوه واستولوا عليه «2» .
3- وقال تعالى:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) يريد ب «الأوّابين» «التوّابين» .
وعن سعيد بن جبير: هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه، لا يريد بذلك إلّا الخير.
وعن سعيد بن المسيّب، الأوّاب:
الرجل كلّما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عامّا لكل من فرطت منه جناية ثمّ تاب منها، ويندرج فيه الجاني على أبويه، التائب من جنايته لوروده على أثره.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . انظر الآية 139 من سورة الأعراف.(5/83)
أقول: وفي هذه الدلالات كلّها على التقائها، نلمح الفعل «آب» بمعنى رجع.
4- وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) .
الخطء: هو الإثم، وقرئ الخطأ مثل الحذر، وخطاء بالفتح والكسر مع المد، والخطا بالفتح وحذف الهمزة.
أقول: والخطء: هو الاسم كالخطإ والخطاء.
5- وقال تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الآية 46] .
في هذه الآية، معنى المنع من الفقه، فكأنّه قيل: ومنعناهم أن يفقهوه، والتقدير كراهة أن يفقهوه.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، فيه معنى المنع.
6- وقال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ [الآية 51] أي يحرّكون نحوك رؤوسهم تعجّبا واستهزاء.
ونغض الشيء ينغض نغضا، ونغوضا، ونغضانا، وتنغّض، وأنغض، بمعنى تحرّك واضطرب.
ونغضت أسناني، أي: قلقت وتحرّكت. ونغض فلان رأسه يتعدّى، ولا يتعدّى.
7- وقال تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) .
وزبور والزّبور: الكتاب، وهو بمعنى مفعول، أي المزبور، والجمع زبر وزبرت الكتاب كتبته.
8- وقال تعالى: قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) .
والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرّمته عليّ، أي فضّلته، لم كرّمته عليّ، وأنا خير منه؟
ثم قال تعالى: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ، أي لأستأصلنّهم بالإغواء. وهذا من قولهم: احتنك الجراد الأرض، إذا جرّد ما عليها أكلا، وهو من الحنك.
9- وقال تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الآية 64] وقوله تعالى: وَأَجْلِبْ من الجلبة، وهي الصياح.
والمراد ب «الخيل» الخيّالة، أي الفرسان، ومنه قول النبي (ص) :
«يا خيل الله اركبي» .(5/84)
والرّجل: اسم جمع للرجال كالركب والصّحب، وقرئ، ورجلك.
على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو:
تعب وتاعب.
ومعناه: وجمعك الرّجل، وتضمّ جيمه أيضا، فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس، وفطن وفطن.
10- وقال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) .
أقول: والتبيع: المطالب.
ومنه قوله تعالى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 178] أي مطالبة، قال الشمّاخ [من بحر الوافر] :
يلوذ ثعالب الشرقين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع
ويقال: فلان على فلان تبيع بحقّه، أي مسيطر عليه، مطالب له بحقّه.
11- وقال تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الآية: 76] . وقوله تعالى لَيَسْتَفِزُّونَكَ، أي: ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم.
أقول: فزّ فلانا عن موضعه فزّا:
أزعجه.
واستفزّه: استخفّه وأخرجه من داره «1» وأزعجه، وأفزرته: أزعجته.
وللاستفزاز في العربية المعاصرة خصوصية دلالية، فهو التحريش والإيذاء، بقصد إثارة الخصم، ليقول شيئا أو يفعل يقال استفزّ القويّ الضعيف، بمعنى ظلمه واعتدى عليه من غير سبب، ليحمله على أن يفعل شيئا، فيحلّ عليه ظلمه واضطهاده.
12- وقال تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) .
وقوله تعالى: وَزَهَقَ الْباطِلُ أي:
كان مضمحلّا.
أقول: والفعل «زهق» في الآية من قولهم، كما أشرنا: «زهقت نفسه» إذا خرجت.
و «الزّهق» بمعنى خروج النفس، قد بقي شيء منه في الدارجة العراقية، يقال في هذه اللهجة العاميّة: فلان زهق (بإبدال القاف كافا ثقيلة) يريدون
__________
(1) . وإلى هذا المعنى، أشارت الآية الكريمة فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ [الآية 103] .(5/85)
غضب غضبا شديدا، حتى خرج عن الحدّ وتجاوز في السلوك. وهذا الاستعمال الدارج ذو صلة أكيدة بالكلمة الفصيحة القديمة التي لم يبق لها أثر في الفصيحة الحديثة، اللهم إلّا ما كان قد أخذ من لغة القرآن، واستعمل على غرار الآية.
13- وقال تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) . والقبيل:
الكفيل بما تقول، شاهدا بصحّته. 14- وقال تعالى: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ... [الآية 93] . المراد ب «الزّخرف» الذّهب.
أقول: كأنّ البيت مزخرف بالذهب.
15- وقال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) .
أي ضيّقا بخيلا.
أقول: في اللغة المعاصرة الأصل المزيد «قتّر» وهو مقتّر، أي بخيل ضيّق.(5/86)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الإسراء» «1»
قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الآية 1] يقال «أسريت» و «سريت» .
وقال تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) أي، والله أعلم، قل يا محمّد سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقل: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) .
وقال تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الآية 5] و «الأولى» مثل «الكبرى» يتكلّم بها بالألف واللام، ولا يقال «هذه أولى» .
والإضافة تعاقب الألف واللام، فلذلك قال سبحانه أُولاهُما، كما تقول «هذه كبراهما» و «كبراهنّ» و «كبراهم عنده» . وقال تعالى: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الآية 11] بنصب «الدعاء» على الفعل، كما تقول «إنّك منطلق انطلاقا» «2» .
قال تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما [الآية 23] ويقال: «نهره» و «انتهره» «ينتهره» .
قال تعالى: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً [الآية 31] من «خطئ» «يخطأ» تفسيره:
«أذنب» وليس في معنى: «أخطأ» لأن ما أخطأت فيه ما صنعته خطأ «خطئت» فيه ما صنعته عمدا، وهو الذنب. وقد يقول ناس من العرب: «خطئت» في معنى «أخطأت» «3» قال امرؤ القيس [من الرجز وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين] :
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضت العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . نقله في إعراب القرآن 2: 578.
(3) . نقله في زاد المسير 5: 31.(5/87)
يا لهف نفسي «1» إذ خطئن كاهلا ... القاتلين الملك الحلاحلا
تالله لا يذهب شيخي باطلا وقال آخر «2» من الكامل وهو الشاهد [الأربعون بعد المائتين] :
والنّاس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد «3»
وقال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) أُولئِكَ هذا، وأشباهه مذكّرا كان أو مؤنثا، تقول فيه «أولئك» . قال الشاعر «4» [من الكامل وهو الشاهد الحادي والسبعون] :
ذمّي المنازل بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام «5»
وهذا كثير. وقال تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً (45) فالفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول: «إنك مشؤوم علينا» و «ميمون» وإنّما هو «شائم» و «يامن» ، لأنه من «شأمهم» و «يمنهم» و «الحجاب» هاهنا هو الساتر وقال سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) (مستورا) «6» .
وقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) فقال عُلُوًّا ولم يقل «تعاليا» كما قال وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) [المزّمّل] . قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائتين] :
أنت الفداء لكعبة هدّمتها ... ونقرتها بيديك كلّ منقّر
__________
(1) . ورد هذا الرجز، في ديوان امرئ القيس ص 134، بلفظ «هند» بدلا من لفظ «نفسي» ومع تقديم المصراع الثالث، وبلفظ «والله» ، وتأخير المصراع الثاني، وجاء بلفظ «هند» في اللسان، مادة «خطأ» أيضا بيد أنّ اللسان لم يذكر إلّا المصراع الأوّل.
(2) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 42. [.....]
(3) . البيت في الديوان: إذا غوى خطب الصواب، ولا شاهد فيه وورد في اللسان، مادة «أمر» كما رواه الأخفش.
(4) . هو جرير بن عطية اليربوعي، التميمي (ت 110 هـ: 728 م) .
(5) . ديوان جرير ص 990. وفيه «ذمّ» مكان «ذمّي» ، و «الأقوام» مكان «الأيّام» .
(6) . نقله في إعراب القرآن 2: 585، والبحر 6: 42.(5/88)
منع الحمام مقيله من سقفها ... ومن الحطيم فطار كلّ مطيّر «1»
وقال الاخر [من الرجز وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين] :
يجري عليها أيّما إجراء
وقال الاخر «2» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين] :
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا
وقال تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الآية 47] «النّجوى» فعلهم كما تقول: «هم قوم رضيّ» وإنّما «الرّضى» فعلهم.
وقال تعالى وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الآية 53] بجعله جوابا للأمر «3» .
وقال تعالى وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الآية 59] يقول «بها كان ظلمهم» «4» و «المبصرة» البيّنة، كما تقول: «الموضحة» و «المبيّنة» .
وقال تعالى سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ [الآية 77] أي: سننّاها سنّة «5» .
كما قال رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الآية 87] .
وقال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الآية 78] أي، والله أعلم، وعليك قرآن الفجر «6» .
وقال تعالى يَؤُساً (83) من «يئس» .
وقال جلّ شأنه أَيًّا ما تَدْعُوا [الآية 110] أي- والله أعلم- «أيّا تدعوا» .
وقال سبحانه وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ [الآية 64] من «أجلبت» وهو في معنى «جلب» ، والموصولة من «جلب» «يجلب» .
__________
(1) . ورد في المحتسب 1: 81 و 94 و 301، و 2: 6 و 21. البيت الأوّل وحده مرويّا عن الأخفش غير معزوّ.
(2) . هو القطامي. ديوانه 35، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 244، والعجز في الخصائص 2: 309 وفي البيان 2: 173 ب «وخيرا الأمر» .
(3) . نقله في البحر 6: 49.
(4) . نقله في زاد المسير 5: 52.
(5) . نقله في زاد المسير 5: 71.
(6) . نقله في إعراب القرآن 2: 592 والبحر 6: 70، ونقله في الجامع 10: 305 ناسبا إيّاه الى الزّجّاج.(5/89)
وقال تعالى أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الآية 110] يقول: «أيّ الدّعائين تدعوا فله الأسماء الحسنى «1» . وقال سبحانه عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ [الآية 79] وعَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ [التحريم: 8] يقال «عسى» من الله واجبة.
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 2: 598، وأفاده في الكشاف 2: 700.(5/90)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الإسراء» «1»
إن قيل: لم قال الله تعالى بِعَبْدِهِ [الآية 1] ولم يقل «بنبيّه» ، أو «برسوله» ، أو «بحبيبه» ، أو «بصفيّه» ، ونحو ذلك مع أن المقصود من ذلك الإسراء، تعظيمه وتبجيله؟
قلنا: إنّما سمّاه عبدا في أرفع مقاماته، وأجلّها، وهو هذا وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
(10) [النجم] كي لا تغلط فيه أمّته، وتضل به كما ضلّت أمة المسيح (ع) به، فدعته إلها. وقيل كي لا يتطرّق إليه العجب والكبر.
فإن قيل: الإسراء لا يكون إلّا بالليل، فما فائدة ذكر الليل؟
قلنا: فائدته أنه ذكر منكّرا ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء والرجوع، مع أنه كان من مكّة إلى بيت المقدس مسيرة أربعين ليلة، وذلك لأن التنكير يدل على البعضية، ويؤيده قراءة عبد الله وحذيفة، «الليل» : أي بعض الليل كقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً [الآية 79] فإنه أمر بالقيام في بعضه.
فإن قيل: أي حكمة في نقله (ص) ، من مكّة إلى بيت المقدس، ثم العروج به من بيت المقدس إلى السماء ولم لم يعرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟
قلنا لأن بيت المقدس محشر الخلائق، فأراد الله تعالى أن يطأها الرسول (ص) ، ليسهل على أمته يوم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/91)
القيامة وقفهم عليها، ببركة أثر قدمه (ص) .
الثاني: أن بيت المقدس مجمع أرواح الأنبياء (ع) ، فأراد الله تعالى أن يشرّفهم بزيارته (ص) . الثالث: أنّه أسرى به إلى بيت المقدس، ليشاهد من أحواله وصفاته، ما يخبر به كفّار مكّة صبيحة تلك الليلة، فيدلّهم إخباره بذلك، مطابقا لما رأوا وشاهدوا، على صدقه في حديث الإسراء.
فإن قيل: لم قال الله تعالى بارَكْنا حَوْلَهُ [الآية 1] ولم يقل باركنا عليه أو باركنا فيه، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد، وحوله خصوصا المسجد الأقصى؟
قلنا: أراد سبحانه البركة الدنيوية، بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وذلك حوله لا فيه. وقيل أراد البركة الدينية، فإنه مقرّ الأنبياء (ع) ، ومتعبّدهم ومهبط الوحي والملائكة، وإنما قال جلّ وعلا: بارَكْنا حَوْلَهُ لتكون بركته أعمّ وأشمل، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض بلاد الشام، وما قاربه منها، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس ولأنه إذا كان هو الأصل، وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع، كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى، بخلاف العكس. وقيل المراد البركة الدنيوية والدينية، ووجههما ما مرّ. وقيل المراد باركنا حوله، من بركة نشأت منه، فعمّت جميع الأرض، فإن مياه الأرض كلّها، أصل انفجارها من تحت الصخرة التي في بيت المقدس.
فإن قيل، ما وجه ارتباط قوله تعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) بما قبله، ومناسبته له؟
قلنا: معناه لا تتّخذوا من دوني ربّا فتكونوا كافرين، ونوح كان عبدا شكورا، وأنتم ذرّية من آمن به، وحمل معه، فتأسّوا به في الشكر، كما تأسّى به آباؤكم.
فإن قيل لم قال الله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الآية 7] ولم يقل: فعليها، كما قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] ؟
قلنا: اللام هنا بمعنى على، كما في قوله تعالى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) [الصافات] وقوله تعالى يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الآية 107] وقيل معناه، فلها رجاء بالرحمة، أو فلها خلاص بالتوبة والاستغفار والصحيح، أن اللام هنا على بابها، لأنها للاختصاص وكل عامل مختص(5/92)
بجزاء عمله، حسنا كان أو سيّئا وقد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة، في قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الآية 12] وقال في قصة مريم وعيسى (ع) وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) [الأنبياء] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:
50] مع أن عيسى (ع) كان وحده آيات شتّى، حيث كلّم الناس في المهد، وكان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق الطير وغير ذلك وأمّه وحدها، كانت آية، حيث حملت من غير فحل؟
قلنا: إنّما أراد به الآية التي كانت مشتركة بينهما ولم تتم إلّا بهما، وهي ولادة ولد من غير فحل، بخلاف الليل والنهار والشمس والقمر. والثاني: أن فيه آية محذوفة، إيجازا واختصارا تقديره: وجعلناها آية وابنها آية، أي وجعلنا ابن مريم آية، وأمّه آية.
فإن قيل: لم قال الله تعالى وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الآية 12] والإبصار من صفات ما له حياة والمراد بآية النهار، إمّا الشمس وإمّا النهار نفسه وكلاهما غير مبصر؟
قلنا: المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة، نقله الجوهري، وقال غيره معناه بيّنة واضحة ومنه قوله تعالى:
وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] أي آية واضحة مضيئة، وقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13] الثاني، معناه، مبصرا بها إن كانت الشمس، أو فيها، إن كانت النهار، ومنه قوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] أي مبصرا فيه ونظيره قولهم، ليل نائم ونهار صائم: أي ينام ويصام فيه.
والثالث، أنه فعل رباعي منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء: أي علم به، فهو بصير، أي عالم معناه:
أنه يجعلهم بصراء، فيكون أبصره بمعنى بصره، وعلى هذا حمل الأخفش قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13] أي تبصّرهم، فتجعلهم بصراء. الرابع، أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة وبصر وقدرة، وهو متحرك بإرادته امتثال أمر الله تعالى، كما يتحرّك الإنسان.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر عدد السنين، مع أنه لو اقتصر على القول(5/93)
لتعلموا الحساب، دخل فيه عدد السنين، إذ هو من جملة الحساب؟
قلنا: العدد كله موضوع الحساب، كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب، وأفعال المكلّفين موضوع الفقه، وموضوع كل علم مغاير له، وليس جزءا منه. كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب، ولا أفعال المكلّفين جزءا من الفقه فكذا العدد، ليس جزءا من الحساب وإنما ذكر عدد السنين وقدّم على الحساب، لأن المقصود الأصلي من محو الليل وجعل آية النهار مبصرة، علم عدد الشهور والسنين، ثم يتفرّع من ذلك علم حساب التاريخ، وضرب المدد والآجال.
فإن قيل: لم قال الله تعالى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) وقال في موضع آخر وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء] ؟
قلنا: مواقف القيامة مختلفة، ففي موقف يكل الله، سبحانه، حسابهم إلى أنفسهم، وعلمه محيط به وفي موقف يحاسبهم، هو جلّ جلاله. وقيل إنه سبحانه هو الذي يحاسبهم لا غيره، وقوله تعالى كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) ، أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها، عالم بذلك فهو توبيخ وتقريع، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه. وقيل من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه، ومن يريد مسامحته فيه يكل حسابه إليه.
فإن قيل: قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ويرد ما جاء في الأخبار، أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب والمديون، ويزاد في حسنات ربّ الدّين والشخص الذي اغتيب، فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات خصميهما، وكذلك جاء هذا في سائر المظالم؟
قلنا المراد من الآية، أنها لا تحمله اختيارا ردّا على الكافرين حيث قالوا للذين آمنوا، كما ورد في التنزيل اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] ، والمراد من الخبر، أنها تحمله كرها، فلا تنافي وقد سبق هذا مرة في آخر سورة الأنعام.
فإن قيل: لم قال الله تعالى أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها
[الآية 16] وقال في آية أخرى قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28] .
قلنا: فيه إضمار تقديره أمرناهم بالطاعة ففسقوا. وقال الزّجّاج، ومثله(5/94)
قولهم أمرته فعصاني، وأمرته فخالفني، لا يفهم الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة. الثاني: أن معناه كثّرنا مترفيها، يقال أمرته وآمرته بالمد والقصر يعني كثّرته وقد قرئ بهما، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة وسكّة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل. والثالث أن معناه أمّرنا مترفيها بالتشديد، يقال أمّرت فلانا بمعنى أمرته: أي جعلته أميرا، فمعنى الآية سلطانهم بالإمارة، ويعزّز هذا الوجه قراءة من قرأ (أمّرنا) بالتشديد. وقال الزمخشري رحمه الله: لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا، لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز، فكيف يقدّر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه، وذلك لأن قوله تعالى فَفَسَقُوا
يدل على أن المأمور به المحذوف، هو الفسق، وهو كلام مستفيض، يقال أمرته فقام، وأمرته فقعد، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به القيام والقعود والقراءة بخلاف قولهم أمرته فعصاني، وأمرته فخالفني حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة لأن ذلك مناف للأمر، مناقض له ولا يكون ما يناقص الأمر وينافيه مأمورا به، فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه، ولا منويّ والمتكلم بمثل هذا، لا ينوي لأمره مأمورا به بل كأنه قال: كان منّي أمر، فلم تكن منه طاعة، أو كانت منه مخالفة كما تقول: مر زيدا يطعك، وكما تقول: فلان يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويضرّ وينفع فإنّك لا تنوي مفعولا.
فإن قيل: على هذا، حقيقة أمرهم بالفسق، أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون من الله، فلا يقال يقدّر الفسق محذوفا، ولا مأمورا به.
قلنا: الفسق المحذوف المقدر، مجاز عن إترافهم وصب النعم عليهم صبّا، أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي، ووسيلة إلى اتّباع الشهوات فكأنهم أمروا بذلك، لمّا كان السبب في وجوده الإتراف، وفتح باب النعم.
فإن قيل: لم لا يكون ثبوت العلم، بأن الله لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالطاعة والعدل والخير، دليلا على المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا.
قلنا: لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير، لكان المتكلّم مريدا من مخاطبه علم الغيب لأنه أضمر ما لا(5/95)
دلالة عليه في اللفظ، بل أبلغ، لأنه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه وهو قوله تعالى فَفَسَقُوا
فكأنه أظهر شيئا، وادّعى إضمار نقيضه، فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز، هو الوجه هذا كله كلام الزمخشري، ولا أعلم أحدا من أئمّة التفسير صار إليه غيره ثم إنه أيّد فقال: ونظيره أمر «شاء» ، في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده تقول: لو شاء فلان لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان الأحسن، ولو شاء الإساءة إليك لأساء، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت فتعني، ولو شاء الإساءة لأحسن إليك، ولو شاء الإحسان لأساء إليك وتقول قد دلّت حال من أسدت إليه المشيئة، أنه من أهل الإحسان دائما، ومن أهل الإساءة دائما: فيترك الظاهر المنطوق به، ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة، لم تكن على سداد.
فإن قيل: على الوجه الأول، لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة كان مخصوصا بالمترفين، لأن أمر الله تعالى بالطاعة، عامّ للمترفين وغيرهم.
قلنا: أمر الله بالطاعة وإن كان عامّا، ولكن لمّا كان صلاح الأمراء والرؤساء وفسادهم، مستلزما لصلاح الرعيّة وفسادها غالبا خصّهم بالذكر. ويؤيد هذا ما جاء في الخبر «صلاح الوالي صلاح الرعيّة، وفساد الوالي فساد الرعيّة» .
فإن قيل: قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ [الآية 18] يدل على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها، كان من أهل النار، والأمر بخلافه.
قلنا: المراد من كان يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير، ومثل هذا لا يكون إلّا كافرا أو منافقا ولهذا قال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد، وأما من أراد من الدنيا قدر ما يتزوّد به إلى الاخرة، فكيف يكون مذموما مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلّيّة وعن جميع ما فيها، لا يتصوّر في حق البشر، ولو كانوا أنبياء، فعلم أن المراد ما قلنا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) أي ممنوعا، ونحن نرى ونشاهد في الواقع، أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة، وآخر منعه العطاء حتى الحبّة؟
قلنا: المراد بالعطاء هنا الرزق، والله(5/96)
تعالى ساوى في ضمان الرزق وإيصاله، بين البرّ والفاجر والمطيع والعاصي، ولم يمنع الرزق عن العاصي بسبب عصيانه، فلا تفاوت بين العباد في أصل الرزق، وإنّما التفاوت بينهم في مقادير الإملاك.
فإن قيل: لم منع الله تعالى الكفّار التوفيق والهداية، ولم يمنعهم الرزق؟
قلنا: لأنه لو منعهم الرزق لهلكوا، وصار ذلك حجّة لهم يوم القيامة، بأن يقولوا لو أمهلتنا ورزقتنا، لبقينا أحياء فآمنّا. الثاني: أنه لو أهلكهم بمنع الرزق، لكان قد عاجلهم بالعقوبة، فيتعطّل معنى اسمه الحليم عن معناه لأن الحليم، هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه. الثالث: أنّ منع الطعام والشراب من صفات البخلاء الأخسّاء، والله تعالى منزّه عن ذلك. وقيل إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل، وعدل الله عامّ، وهبته التوفيق والهداية فضل، وإنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عِنْدَكَ من قوله سبحانه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الآية 23] ؟ قلنا: الحكمة أنهما يكبران في بيته وكنفه، ويكونان كلّا عليه لا كافل لهما غيره، وربما تولّى منهما من المشاق، ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الآية 32] ولم يقل ولا تزنوا؟
قلنا: لو قال «ولا تزنوا» كان نهيا عن الزنى، لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة، ونحو ذلك ولمّا قال وَلا تَقْرَبُوا كان نهيا عنه وعن مقدّماته، لأن فعل المقدّمات قربان للزنى.
فإن قيل: الإشارة بقوله تعالى كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ [الآية 38] على ماذا تعود؟
قلنا: الإشارة إلى كل ما هو منهيّ عنه، من جميع ما ذكر من قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الآية 23] إلى هذه الآية لا إلى جميع ما ذكر، فإن فيه حسنا وسيئا وقال أبو علي هو إشارة إلى قوله تعالى وَلا تَقْفُ [الآية 36] وما بعده، لأنه لا حسن فيه.
فإن قيل: لم قال تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 44](5/97)
فقوله جلّ شأنه وَمَنْ فِيهِنَّ يتناول أهل الأرضين كلّهم، والمراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة، بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الآية 44] ، والتسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بصفات جلاله وكماله، والكفّار يضيفون إليه الزوج والولد والشريك وغير ذلك، فأين تسبيحهم؟
قلنا: الضمير في قوله تعالى وَمَنْ فِيهِنَّ راجع إلى السماوات فقط.
الثاني: أنه راجع إلى السماوات والأرض، والمراد بقوله تعالى وَمَنْ فِيهِنَّ يعني من المؤمنين فيكون عامّا أريد به الخاصّ وعلى هذا يكون المراد بالتسبيح المسند إلى من فيهنّ، التسبيح بلسان المقال. ثالث: أن المراد به التسبيح بلسان الحال، حيث تدلّ على وجود الصانع، وعظيم قدرته، ونهاية حكمته فكأنها تنطق بذلك، وتنزّهه عمّا لا يجوز عليه، وما لا يليق به من السوء، ويؤيده قوله تعالى بعده: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الآية 44] ، والتسبيح العامّ للموجودات جميعها، إنّما هو التسبيح بلسان الحال. فإن قيل: لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال، لما قال سبحانه وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الآية 44] ، إلا أنّ التسبيح بلسان الحال مفقود لنا: أي مفهوم ومعلوم؟
قلنا: الخطاب بقوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ للكفّار، وهم مع تسبيحهم بلسان الحال، لا يفقهون تسبيح الموجودات على ما ذكرنا من التفسير لأنهم لمّا جعلوا لله شركاء وزوجا وولدا، دلّ ذلك على عدم فهمهم التسبيح والتنزيه للموجودات، وعدم إيضاح دلائل الوحدانيّة لأنّ الله تعالى طبع على قلوبهم.
فإن قيل: وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 44] وهم الملائكة والثّقلان يسبّحون حقيقة، والسماوات والأرض والجمادات تسبّح مجازا، فكيف جمع بين إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ واحد، وهو قوله تعالى: تُسَبِّحُ؟
قلنا التسبيح المجازي بلسان الحال، حاصل من الجميع، فيحمل عليه دفعا لما ذكرتم من المجاز.
فإن قيل: لم قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الآية 52](5/98)
والمستعمل الشائع دعاه فاستجاب لأمره أو بأمره: أي أجاب؟
قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بقوله تعالى بِحَمْدِهِ بأمره. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: إذا دعا الله الخلائق للبعث، يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون:
سبحانك اللهم وبحمدك وقال غيره وهم يقولون: الحمد لله الذي صدقنا وعده فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع، كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] وقوله تعالى فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] .
فإن قيل: لم أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الآية 55] ثم خصّ داود بالذكر فقال تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) . قلنا: لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء، وهو:
الرسالة، والكتابة والخطابة، والخلافة، والملك، والقضاء، في زمن واحد قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) [ص] وقال جلّ شأنه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] . الثاني: أنّ قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الآية 55] إشارة إلى تفضيل محمد (ص) ، وقوله سبحانه: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) دلالة على وجه تفضيله (ص) ، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأنّ أمّته خير الأمم لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود (ع) ، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) [الأنبياء] يعني محمّدا (ص) وأمته.
فإن قيل: لم نكّر الزّبور هنا، وعرّفه في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] ؟
قلنا: يجوز أن يكون الزّبور من الأعلام التي تستعمل بالألف واللام، وبغيرهما، كالعبّاس والفضل والحسن والحسين ونحوها الثاني: أنه نكّره هنا لأنّه أراد: وآتينا داود بعض الزبور، وهي الكتاب. الثالث: أنّه نكّره لأنه أراد به، ما ذكر فيه رسول الله (ص) من الزبور، فسمى ذلك زبورا لأنه بعض الزبور، كما سمّى بعض القرآن قرآنا، فقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ [الآية 106] وقال تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3] وأراد به سورة(5/99)
يوسف وقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الآية 78] أي القرآن المتلوّ في صلاة الفجر.
فإن قيل: قوله تعالى فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الآية 56] مغن عن قوله تعالى وَلا تَحْوِيلًا (56) لأنهم إذا لم يستطيعوا كشف الضرّ لا يستطيعون تحويله، لأنّ تحويل الضّر نقله من محل، وإثباته في محل آخر، ومنه تحويل الفراش والمتاع وغيرهما، وكشف الضّرّ مجرّد إزالة، ومن لا يقدر على الإزالة وحدها، فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟ والمراد بالآية كشف الضر والمرض والقحط ونحوها؟
قلنا: التحويل له معنيان: أحدهما ما ذكرتم. والثاني التبديل، ومنه قولهم:
حوّلت القميص قباء، والفضة خاتما وأريد بالتبديل هنا الكشف، لأن في الكشف المنفي في الآية تبديلا فإن المرض متى كشف يبدّل بالصحة، والفقر متى كشف يبدّل بالغنى، والقحط متى كشف يبدّل بالخصب وكذا جميع الأضداد، فأطلق التبديل وأراد به الكشف، إلا أنه لم يرد به كشف الضّر لئلّا يلزم التكرار، بل أراد به مطلق الكشف الذي هو الإزالة، يعني فلا يستطيعون كشف الضّرّ عنكم، ولا كشفا ما، ولهذا لم يقل ولا تحويله. وهذا الجواب ممّا فتح الله علي به، من خزائن جوده ونظيره ما ذكرناه في سورة النحل، في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) [النحل] .
فإن قيل: قوله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الآية 59] . الآية فيها أسئلة:
أوّلها أنّ الله تعالى لا يمنعه عمّا يريده مانع، فإن أراد إرسال الآيات، فكيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها، يكن وجود تكذيبهم وعدمه سواء، ويكن عدم الإرسال لعدم الإرادة. الثاني أن الإرسال يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] . فأيّ حاجة إلى الباء؟ الثالث: أن المراد بالآيات هنا، ما اقترحه أهل مكّة على رسول الله (ص) ، من جعل الصفا ذهبا، وإزالة جبال مكّة، ليتمكّنوا من الزراعة، وإنزال مكتوب من السماء، ونحو ذلك وهذه الآيات، ما أرسلت إلى الأوّلين، ولا شاهدوها فكيف(5/100)
كذّبوا بها؟ الرابع: أن تكذيب الأوّلين، لا يمنع إرسالها الى الآخرين، لجواز أن لا يكذّب الآخرون. الخامس: أيّ مناسبة وأيّ ارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] ؟ السادس: ما معنى وصف الناقة بالإبصار؟ السابع: أنّ الظلم يتعدّى بنفسه، قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] . فأي حاجة إلى الباء فَظَلَمُوا بِها [الآية 59] ، ولم لم يقل فظلموها يعني العقر والقتل، الثامن: أن قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الآية 59] يدل على عدم الإرسال بها؟
قلنا: الجواب عن الأول، أن المنع مجاز عبّر به عن ترك الإرسال بالآيات، كأنه تعالى قال: وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات، إلّا أن كذّب بها الأولون. وعن الثاني: أن الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به، لا إلى المرسل، لأن المرسل محذوف وهو الرسول، تقديره، وما منعنا أن نرسل الرسل بالآيات، والإرسال يتعدّى إلى المرسل بنفسه، وإلى المرسل به بالباء، وإلى المرسل إليه بإلى، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [هود] . وعن الثالث: أنّ الضمير في قوله تعالى بِهَا [الآية 59] ، عائد إلى جنس الآيات المقترحة، لا إلى هذه الآيات المقترحة، كأنّه تعالى قال: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة، إلّا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة، يريد المائدة والناقة ونحوهما، ممّا اقترحه الأوّلون على أنبيائهم. وعن الرابع: أنّ سنة الله تعالى في عباده، أنّ من اقترح على الأنبياء آية، وأتوه بها فلم يؤمن، عجّل الله هلاكه والله تعالى لم يرد هلاك مشركي مكّة، لأنّه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو لأنه قضى وقدّر في سابق علمه، بقاء من بعث إليهم محمّد (ص) إلى يوم القيامة، فلو أرسل بالآيات التي اقترحوها، فلم يؤمنوا، لأهلكهم وحكمته اقتضت عدم إهلاكهم، فلذلك لم يرسلها فيصير معنى الآية: وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة عليك، إلا أن كذّب بالآيات المقترحة الأوّلون، فأهلكوا، فربما كذّب بها قومك، فأهلكوا. وعن الخامس: أنه تعالى لما أخبر أن الأوّلين كذّبوا بالآيات المقترحة، عيّن منها واحدة(5/101)
وهي ناقة صالح عليه السلام، لأنّ آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها صادرهم وواردهم. وعن السادس: أنّ معنى مبصرة دالّة، كما يقال الدليل مرشدها وقيل مبصرا بها، كما يقال ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه، وقيل معناه مبصرة، يعني أنها تبصّر الناس صحّة نبوّة صالح عليه السلام ويعزّز هذا قراءة من قرأ (مبصرة) بفتح الميم والصاد: أي تبصرة. وقيل مبصرة صفة لآية محذوفة، تقديره: آية مبصرة: أي مضيئة بيّنة. وعن السابع:
أن الباء ليست لتعدية الظلم إلى الناقة، بل معناه: فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها، وقيل الظلم هنا الكفر، فمعناه: فكفروا بها، فلمّا ضمن الظلم معنى الكفر عدّاه تعديته. وعن الثامن:
أنّ المراد بالآيات ثانيا العبر والدلالات، لا الآيات التي اقترحها أهل مكّة.
فإن قيل: لم قال تعالى وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الآية 60] وليس في القران لعن شجرة ما؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن. الثاني: أنّ معناه: الملعون آكلوها وهم الكفرة. الثالث: أنّ الملعونة يعنى المذمومة، كذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهي مذمومة في القرآن، بقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان] . وبقوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) [الصافات] الرابع: أن العرب تقول لكل طعام مكروه أو ضار ملعون وفي القرآن الإخبار عن ضررها وكراهتها. الخامس: أن اللعن في اللغة، الطرد والإبعاد، والملعون هو المطرود عن رحمة الله تعالى المبعد، وهذه الشجرة مطرودة مبعدة، عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة، لأنّها في قعر جهنّم، وهذا الإبعاد والطرد مذكوران في القرآن، بقوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) [الصافات] . وقال ابن الأنباري سمّيت ملعونة، لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل.
فإن قيل: لم خصّ أصحاب اليمين بقراءة كتبهم بقوله تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ [الآية 71] ولم خصّهم بنفي الظلم عنهم، بقوله تعالى:(5/102)
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضا؟
قلنا: إنما خصّ أصحاب اليمين بذكر القراءة، لأن أصحاب الشمال إلا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح، أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان، وتتعتع الكلام، والعجز عن إقامة الحروف، فتكون قراءتهم ك «لا قراءة» فأمّا أصحاب اليمين، فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) [الحاقة] . وأمّا قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) فهو عائد إلى كلّ الناس، لا إلى أصحاب اليمين.
الثاني: أنّه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة، وإنما خصّهم بذلك، لأنّهم يعلمون أنهم لا يظلمون، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال، فإنّهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون، يعضد هذا الوجه قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) [طه] .
فإن قيل لم قال موسى (ع) لفرعون كما ورد في التنزيل قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ يعنى الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الآية 102] يعني بيّنات وحججا واضحات وفرعون لم يعلم ذلك، لأنه لو علم ذلك، لم يقل لموسى عليه السلام كما ورد في التنزيل إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) أي مخدوعا، أو قد سحرت، أو ساحرا، مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال، بل كان يؤمن به وكيف يعلم ذلك، وقد طبع الله على قلبه وأضلّه، وحال بينه وبين الهدى والرشاد، ولهذا قرأ عليّ كرم الله وجهه لَقَدْ عَلِمْتَ [الآية 102] بضم التاء، وقال: والله ما علم عدوّ الله، ولكن موسى (ع) ، هو الذي علم.
واختار الكسائي وثعلب قراءة عليّ رضي الله عنه، ونصراها، بأنه لمّا نسبه إلى أنّه مسحور، أعلمه بصحّة عقله؟
قلنا: معناه لقد علمت، لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجّة والبرهان، ولكنّك معاند مكابر، تخشى فوات دعوى الإلهية لو صدقتني فكان فرعون ممن أضلّه الله على علم، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة علي رضي الله عنه ويمينه، فاحتج بقوله تعالى(5/103)
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل:
14] .
فإن قيل: لم قال موسى (ع) كما ورد في التنزيل وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) وموسى (ع) كان عالما بذلك، لا شكّ عنده فيه؟
قلنا: قال أكثر المفسرين الظن هنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:
46] وإنما أتي بلفظ الظنّ ليعارض ظنّ فرعون بظنّه، كأنّه قال: إن ظننتني مسحورا، فأنا أظنّك مثبورا، والمثبور الهالك والمصروف عن الخيرات، أو الملعون والخاسر.
فإن قيل: لم كرّر تعالى الإخبار بالخرور «1» ؟
قلنا: كرّره ليدل على تكرار الفعل منهم. الثاني: أنه كرّره لاختلاف الحالين، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وفي حال كونهم باكين. الثالث: أنه أراد بالخرور الأول، الخرور في حالة سماع القرآن وقراءته وبالخرور الثاني، الخرور في سائر الحالات وباقيها.
__________
(1) . الخرور: مصدر خرّ يقال: خرّ ساجدا، ومعنى خرّ في هذا السياق، في الأصل: سقط. فكأنّ الذي يخرّ ساجدا، يسقط، لفرط خشوعه، من عل، حيث هو واقف، إلى الأرض، ليسجد.(5/104)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الإسراء» «1»
في قوله سبحانه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الآية 12] استعارتان إحداهما:
قوله سبحانه: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ.
والآية العلامة. والمراد بمحوها- والله أعلم- على قول بعضهم أي جعلنا ظلمة الليل مشكلة، لا يفهم معناها، ولا يعلم فحواها، لما استأثر الله تعالى بعلمه من المصلحة المستسرّة في ذلك.
وحقيقة المحو طمس أثر الشيء.
من قولهم: محوت الكتاب. إذا طمست سطوره حتى يشكل على القارئ، ويخفى على الرائي. وقال قوم: آية الليل، القمر خاصة.
ومحوه: تصيير تلك الطمسة في صفحته، حتى نقص نوره عن نور الشمس، لما يعلم الله سبحانه من المصلحة في ذلك. وآية النهار الشمس. وقال آخرون: بل آيتا الليل والنهار ضوء هذا في الجملة، وظلمة هذا في الجملة. لأن الضوء علامة النهار، والظلمة علامة الليل، على ما قدمنا ذكره.
والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وفي ذلك وجهان: أحدهما أن يكون المراد، أنّا جعلناها مكشوفة القناع مبيّنة الإبصار،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ. [.....](5/105)
على خلاف آية الليل إذ جعلناها مشرجة «1» الغلاف، بهيمة الأطراف.
والوجه الاخر أن يكون معنى مبصرة، أي يبصر الناس فيها، ويهتدون بها كما تقدم قولنا في قولهم، نهار صائم، وليل نائم أي أهل هذا صيام، وأهل هذا نيام. وكما يقولون:
رجل مخبث: إذا كان أهله وولده خبثاء. ورجل مضعف: إذا كانت دوابه وظهوره ضعفاء. فعلى هذا يسمى النهار مبصرا، إذا كان أهله بصراء.
وقد مضى الكلام على مثل ذلك فيما تقدّم.
وقوله سبحانه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الآية 13] وهذه استعارة. والمراد بالطائر هاهنا، والله أعلم، ما يعمله الإنسان من خير وشرّ، ونفع وضرّ. وذلك مأخوذ من زجر الطير على مذاهب العرب. لأنهم يتبرّكون بالطائر المتعرّض من ذات اليمين، ويتشاءمون بالطائر المتعرّض من ذات الشمال.
ومعنى ذلك أنه سبحانه يجعل عمل الإنسان من الخير والشر، كالطوق في عنقه، بإلزامه إيّاه، والحكم عليه به.
وقال بعضهم: معنى ذلك أنّا جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه على ما بيّناه له، وهديناه إليه. والعرب تقيم العنق والرقبة، مقام الإنسان نفسه. فيقولون لي في رقبة فلان دم، ولي في رقبته دين. أي عنده. وفلان أعتق رقبة، إذا أعتق عبدا أو أمة. ويقول الداعي في دعائه، اللهم أعتق رقبتي من النار وليس يريد العنق المخصوصة، وإنّما يريد الذات والجملة.
وجعل سبحانه الطائر مكان الدليل الذي يستدل به، على استحقاق الثواب والعقاب، على عادة العرب التي ذكرناها في التبرّك بالسانح، والتشاؤم بالبارح.
وقوله سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الآية 24] وهذه استعارة عجيبة، وعبارة شريفة. والمراد بذلك الإخبات «2» للوالدين، وإلانة القول لهما، والرفق واللطف بهما.
وخفض الجناح في كلامهم عبارة
__________
(1) . أشرج الشيء: ضمّ بعضه إلى بعض وأحكم شده.
(2) . أي الخضوع.(5/106)
عن الخضوع والتذلّل، وهما ضد العلوّ والتعزّز. إذ كان الطائر إنّما يخفض جناحه إذا ترك الطيران، والطيران هو العلوّ والارتفاع. وقد يستعار ذلك لفرط الغضب والاستشاطة. فيقال قد طار فلان طيرة، إذا غضب واستشاط.
وقد أومأنا إلى هذا المعنى فيما تقدّم.
وإنّما قال سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الآية 24] ليبيّن تعالى أنّ سبب الذل لهما الرأفة والرحمة، لئلّا يقدّر أنه الهوان والضراعة. وهذا من الأغراض الشريفة، والأسرار اللطيفة.
وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الآية 29] وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هي الجارحة على الحقيقة، وإنّما الكلام الأول كناية عن التقتير، والكلام الاخر كناية عن التبذير وكلاهما مذموم، حتى يقف كل منهما عند حدّه، ولا يجري إلّا إلى أمده.
وقد فسّر هذا قوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان] .
وقوله سبحانه: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية 46] . وهذه استعارة لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب، ولا وقر في سمع. وإنّما المراد أنهم، لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر الله سبحانه نبيّه عليه السلام بتلاوته على أسماعهم وإفراغه في آذانهم، كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه، وفي آذانهم وقر دون فهمه، وإن كانوا من قبل نفوسهم أتوا، وبسوء اختيارهم أخذوا ولو لم يكن الأمر كذلك، لما ذمّوا على اطّراحه، ولعذروا بالإضراب عن استماعه.
وقوله سبحانه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الآية 47] وهذه استعارة لأن النجوى مصدر كالتقوى. وإنّما وصفوا بالمصدر، لما في هذه الصفة من المبالغة في ذكر ما هم عليه، من كثرة تناجيهم، وإسرار المكايد بينهم. والصفة بالمصادر تدلّ على قوة الشيء الموصوف بذلك مثل قولهم: رجل رضا وقوم عدل. وما يجرى هذا المجرى.
وقوله سبحانه: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] . وهذه استعارة.
والمعنى: جعلنا الناقة آية مبصرة، أي(5/107)
مبصرة للعاشي «1» ومذكرة للنّاسي، ومظنّة لاعتبار المعتبر، وتفكّر المفكر.
لأن من عجائب تلك الناقة تمخّض الصخرة بها من غير حمل بطن، ولا فرع فحل. وأنها كانت تقاسم ثمود الورد فلها يوم، ولثمود يوم.
قال سبحانه: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) [الشعراء] فإذا كان يومها شربت فيه الماء مثلما كانت ثمود تأخذ أشقاصها «2» وزروعها، وأصرامها «3» وشروبها. وهذا من صوادح العبر، وقوارع النذر.
وقال بعضهم يجوز أن يكون معنى «مبصرة» هاهنا أي ذات إبصار.
والتأويلان يؤولان إلى معنى واحد.
وقوله سبحانه عن إبليس:
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) وهذه استعارة على بعض التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنّهم إلى المعاصي، كما تقاد الدابة بحنكها، غير ممتنعة على قائدها. وهي عبارة عن الاستيلاء عليهم، والامتلاك لتصرفهم، كما يمتلك الفارس تصرّف فرسه، بثني العنان تارة، وبكبح اللجام مرة.
وقال يعقوب «4» في «إصلاح المنطق» يقال: حنك الدّابة يحنكها حنكا، إذا شدّ في حنكها الأسفل حبلا يقودها به.
وقد احتنك الدّابة «5» مثل حنكها إذا فعل بها ذلك.
وقال بعضهم عن قوله تعالى:
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لألقينّ في أحناكهم حلاوة المعاصي، حتى يستلذّوها، ويرغبوا فيها ويطلبوها.
والقول الأول أحبّ إليّ.
وقال بعضهم: لأستأصلنّ ذريته
__________
(1) . العاشي اسم فاعل من عشا عن الشيء، أي أعرض وصدر عنه إلى غيره.
(2) . الأشقاص: جمع شقص بكسر الشين، وهو القطعة من الشيء أو من الأرض.
(3) . الأصرام: جمع صرم بكسر الصاد، وهو الجماعة من الشيء أو من البيوت.
(4) . هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، المعروف بابن السّكّيت، وكان أبوه من أصحاب الكسائي المشهور في اللغة والنحو. أما صاحبنا فقد شهد له المؤرخون بالعلم الغزير في اللغة والشعر والثقة في الرواية. وكتابه «إصلاح المنطق» يقول فيه المبرّد: «ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق» توفي سنة 244. وقد طبع «إصلاح المنطق» طبعة موثقة بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون.
(5) . في «إصلاح المنطق» ص 82 (وقد احتنك دابته) .(5/108)
بالغواية، ولأستقصين إهلاكهم بالضلال، لأن اتّباعهم غيّه وطاعتهم أمره، يؤولان بهم إلى موارد الهلاك، وعواقب البوار.
وقال الشاعر [بحر الرجز] :
نشكو إليك سنة قد أجحفت ... واحتنكت أموالنا وجلّفت «1»
أي أهلكت أموالنا.
ويقال احتنكه إذا استأصله. ومن ذلك قولهم: احتنك الجراد الأرض.
إذا أتى على نبتها.
وقيل أيضا: المراد بذلك، لأضيّقنّ عليهم مجاري الأنفاس من أحناكهم، بإيصال الوسوسة لهم، وتضاعف الإغواء عليهم. ويقال احتنك فلان فلانا إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه.
فكان كالشّبا «2» في مقلته والشّجا «3» في مسعله. وقوله سبحانه: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الآية 78] وهذه استعارة. لأن الدّالك، المائل في كلامهم. فكأنه سبحانه أمر بإقامة الصلاة عند ميل الشمس. فقيل عند ميلها للزوال، وقيل عند ميلها للغرب والشمس على الحقيقة لا تميل عن موضعها، ولا تزول عن مركزها، وإنّما تعلو أو تنخفض، وترتفع بارتفاع الفلك وانخفاضه، وسيره وحركاته.
وقوله سبحانه وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) .
وهذه استعارة. لأنهم يقولون:
زهقت نفس فلان إذا خرجت. ومنه قوله تعالى وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) [التوبة] فالمراد، والله أعلم، وهلك الباطل إنّ الباطل كان هلوكا، تشبيها له بمن فاضت نفسه، وانتقضت بنيته لأنّ الباطل لا مساك لذمائه، ولا سماك لبنائه.
__________
(1) . ورد هذا الرجز في «مجازات القرآن» لأبي عبيدة هكذا:
نشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت انظر «مجازات القرآن» لأبي عبيدة. طبعة سامي الخانجي ص 384 والرجز كذلك في الجامع لأحكام القرآن» ج 10 ص 287. ولم ينسبه أبو عبيدة، ولا القرطبي، لقائله.
(2) . الشّبا جمع شباة، وهي حد السيف، أو قدر ما يقطع به منه.
(3) . الشّجا ما يعترض الحلق، فيشجى به.(5/109)
وقوله سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [الآية 84] وهذه استعارة، لأن الأولى أن يكون المراد هاهنا بالشاكلة، والله أعلم، الطريقة التي تشاكل أخلاق الإنسان، وتوافق طبيعته. وذلك مأخوذ من الشاكلة، وجمعها شواكل، وهي الطرق المتّسعة المتشعّبة عن المحجّة العظمى. فكأنّ الدّنيا هاهنا مشبّهة بالطريق الأعظم، وعادات الناس فيها وطبائعهم التي جبلوا عليها مشبّهة بالطرق المختلجة من ذلك الطريق، الذي هو المعمود، وإليه الرجوع.
وقال بعضهم: الشاكلة العلامة، وأنشد [بحر البسيط] :
بدت شواكل حبّ كنت تضمره ... في القلب أن هتفت في الدّار ورقاء
فكأنه تعالى قال: كلّ يعمل على الدلالة التي نصبت لاستدلاله، والأمارة التي رفعت لاهتدائه. وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الآية 100] وهذه استعارة، والمراد بالخزائن، هاهنا، المواضع التي جعلها الله سبحانه وتعالى، جفنات لدرور الرزق ومنافع الخلق. وإلى تلك المواضع ترفع الأيدي عند السؤال، والرغبات، واستدرار الخير والبركات.
وقوله سبحانه: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الآية 106] وهذه استعارة، ومعنى فرقناه: أي بيّناه للناس بنصوع مصباحه وشدوخ أوضاحه، حتّى صار كمفرق الفرس في وضوح مخطّه «1» أو كفرق الصبح في بيان منبلجه.
وقال بعضهم: معنى فرقناه أي فصّلناه سورا وآيات. وذلك بمنزلة فرق الشعر وهو تمييز بعض من بعض، حتى يزول التباسه، ويتخلص التفافه.
__________
(1) . المخطّ هو مكان الخط، أو الفرق في مفرق الحصان.(5/110)
سورة الكهف 18(5/111)
المبحث الأول أهداف سورة «الكهف» «1»
سورة مكية المشهور بين العلماء أن سورة الكهف مكّية كلها، وأنها من السور التي نزلت جملة واحدة كما جاء في الخبر الذي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، عن أنس، عن النبي (ص) إذ يقول: «نزلت سورة الكهف جملة» .
وقد روى ذلك أيضا عن بعض الصحابة، واختاره الداني، ومشى عليه أكثر أهل التفسير والمتكلّمين في علوم القرآن. وهناك روايات أخرى تخالف هذا المشهور فتقرر أن السورة مكّية إلا بعض آياتها، فإنّه مدني.
وفي المصحف الفؤادي المطبوع بمصر، سورة الكهف مكّية إلا الآية 38، ومن الآية 83 إلى الآية 101 فكلّها مدنية، وآياتها 110 نزلت بعد الغاشية.
وقال الفيروزآبادي: «السورة مكية بالاتفاق، وفيها إحدى عشرة آية مختلف فيها بين مكّيتها ومدنيّتها، وهي الآيات: 13، 22، 23، 32، 35، 84، 85، 86، 89، 92، 103» .
وينبغي أن يعلم أن كثيرا ممّا ذكر أنه مدني فتضمنته سورة مكية، أو مكّي فتضمنته سورة مدنية، هو موضع خلاف بين العلماء لاختلاف الرواية فيه، أو لبناء الحكم فيه على اجتهاد واستنباط من القائل به وفي ذلك يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في الإتقان: «كل نوع من المكّي والمدني
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(5/113)
منه آيات مستثناة، إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل» .
القصص في سورة الكهف
القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة، ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة أصحاب الجنّتين، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس. وفي وسطها تجيء قصّة موسى مع العبد الصالح. وفي نهايتها قصة ذي القرنين. ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية، ومعظم ما يتبقّى من آيات السورة هو تعليق على القصص أو تعقيب عليه.
ويلتقي هذا القصص حول فكرة أساسية للقرآن، وهي إثبات أن البعث حق، وأن المؤمن يكافأ بحسن الجزاء، وأن الكافر يلقى جزاء عنته وكفره في الدنيا أو الاخرة.
قصة أصحاب الكهف
في قصة أصحاب الكهف يتجلّى صدق الإيمان، وقوة العقيدة، والإعراض عن كل ما ينافيها إعراضا عمليّا صارما، لا تردّد فيه ولا مواربة:
فتية رأوا قومهم في الضّلال يعمهون، وفي ظلمات الشرك يخبطون، لا حجّة لهم ولا سلطان على ما يزعمون، أحسوا في أنفسهم غيرة على الحق لم يستطيعوا معها أن يظلوا في هذه البيئة الضالة بأجسامهم، ولو خالفوها بقلوبهم، فتركوا أوطانهم وتركوا مصالحهم واعتزلوا قومهم وأهليهم، وخرجوا فارّين مجتنبين الشطط وأهل الشطط، وآثروا كهفا يأوون إليه في فجوة منه، لا يراهم فيه أحد، ولا يؤنسهم في وحشتهم إلّا كلبهم.
ذلك هو مغزى القصة الخلقي، وفيه ما فيه من إرشاد وإيحاء، وتمجيد لأخلاق الشرف والرجولة والثبات على العقيدة والتضحية في سبيلها.
أما المعنى العام الذي تتلاقى فيه القصة مع غرض السورة، فهو إثبات قدرة الله على مخالفة السنن التي ألفها الناس، وظنوا أنها مستعصية عليه جل شأنه، أن تبدّل أو تحوّل كما هي مستعصية على كلّ مخلوق وشتّان ما بين قدرة الخالق والمخلوقين، وهذا ما(5/114)
تشير إليه القصة في ثناياها، إذ يقول الله عزّ وجلّ:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الآية 21] .
قصة موسى والخضر
أما قصة موسى وقتاده والعبد الصالح، فلبابها ومغزاها إثبات قصور الخلق مهما سمت عقولهم، وكثرت علومهم أمام إحاطة الله سبحانه وعلمه.
وهكذا، ترتبط في سياق السورة، قصة موسى والعبد الصالح، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله الذي يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر الواقفون وراء الأستار، لا يكشف لهم عمّا وراءها من الأسرار إلّا بمقدار.
لقد وقف موسى (ع) خطيبا في بني إسرائيل فأجاد وأبدع في خطبته، فقال له أحد المستمعين: ما أفصحك يا نبيّ الله، هل في الأرض من هو أكثر علما منك؟ قال موسى: لا، فأخبره الله أن في الأرض من هو أكثر علما منه فقال موسى: يا ربّ دلّني عليه حتى أذهب إليه فأتعلّم منه.
وضرب موسى لنا مثلا رائعا في الرحلة لطلب العلم وتحمّل الصعاب والمشقّات بهمّة الرجال وعزيمة الأبطال.
إذا همّ ألقى همّه بين عينه ونكّب عن ذكر العواقب جانبا سار موسى مع تابع له هو يوشع بن نون ومعهما حوت في مكتل «1» ، وبلغ مجمع البحرين: بحر الروم وبحر القلزم. أي البحر الأبيض والبحر الأحمر، أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر.
وفي المكان الذي أراد الله أن يلتقي فيه نبي إسرائيل بعبده الصالح، فقد موسى حوته، وعاد ليبحث عنه فوجد رجلا نحيل الجسم، غائر العينين، عليه دلائل الصلاح والتقوى، فسلم عليه موسى، وتلطّف معه في القول، وأبدى رغبته في اتّباعه ليتعلّم منه العلم، فاشترط الخضر على موسى الصبر والتريث، فقال موسى كما ورد في التنزيل:
__________
(1) . المكتل: القفّة(5/115)
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) .
وانطلق موسى مع الخضر في سفينة جيّدة، وفي غفلة من أهلها أخذ الخضر لوحين من خشب السفينة فخلعهما، فذكّره موسى بأن هذا ظلم وفساد، فالتفت الخضر إليه، وقال، كما ورد في التنزيل، أيضا:
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) .
فاعتذر موسى بالنسيان، ووعد أن يرافقه مع الصبر والسكوت. وسار الرجلان، ثم قتل الخضر غلاما بريئا في عمر الزهر فاحتج موسى، وذكره الخضر بالشرط فسكت.
وفي الجولة الثالثة دخل الرجلان قرية، وكان الجوع قد اشتدّ بهما فطلبا من أهلها طعاما، فأبوا إطعامهما ورأى الخضر جدارا متداعيا أوشك أن يقع، فطلب من موسى مساعدته حتّى بناه وأتم بناءه واعترض موسى على هذا العمل لأن أهل القرية لا يستحقون مثل هذا المعروف، فهم بخلاء لؤماء، فينبغي أن يأخذ الخضر أجرا على بناء الجدار لهم وافترق الرجلان بعد أن سمع موسى من الخضر سبب هذه الأعمال:
أمّا السفينة، فكانت ملكا لجماعة من المساكين يعتمدون عليها في كسب الرزق ووراءهم ملك ظالم يستولي «غضبا» على كلّ سفينة صالحة للعمل، فخرق الخضر السفينة ليراها الملك معيبة فيتركها ليستفيد بها أهلها، فهو عمل مؤلم في الظاهر، ولكنه مفيد في الحقيقة والواقع.
وأمّا الغلام، فقد كان مفسدا وسيشبّ على الفساد والإفساد، وكان أبواه مؤمنين فأراد الله أن يقبض الغلام إلى جواره، وأن يعوّض والديه بنتا صالحة تزوجت نبيّا، وأنجبت نبيّا.
وأمّا الجدار، فكان ملكا لغلامين يتيمين تحدّرا من رجل صالح كريم، وكان تحت الجدار كنز من المال، ولو سقط الجدار لتبدّد الكنز، فأراد الله أن يقام الجدار ويجدّد حتى يبلغا أشدّهما، ويستخرجا كنزهما حلالا طيّبا لهما..
ثم قال الخضر، كما ورد في التنزيل:
وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) .(5/116)
وقد يتساءل الإنسان عن عمل الخضر عليه السلام، وهل هو مشروع على الإطلاق، وهل يجوز لمن علم، في حادثة مّا، مثل ما علمه العبد الصالح من حقيقة الأمر فيها، أن يخالف الظاهر؟
وقد اهتمّ بعض المفسّرين بترديد أمثال هذه الأسئلة والمناقشات والإجابة عنها، وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج كأن الأمر أحكام تشريعية أو بيان لموضوعات خلافية. والواقع أنه لم يقصد بهذه القصة إلا الإقناع بأن الإنسان، مهما اتّسع عقله، وسمت مداركه، وعلا منصبه، محدود في علمه، وأن كثيرا من الأمور يخفى عليه، وأن لله عبادا قد يخصّهم بنوع من العلم لا يبذله للناس جميعهم، ولا يستقيم حال الدنيا على بذله للناس جميعهم.
قصة ذي القرنين
تلك قصة عبد مكّن الله له في الأرض، وسخّر له العلم والقوة والآلات والمواصلات، وآتاه من كل شيء سببا. وقد استغلّ هذه الإمكانات في عمل مثمر نافع يعمّ، ويبقى أثره. وقد تحرّك ذو القرنين إلى المغرب غازيا فاتحا، محاربا مجاهدا، وسار النصر في ركابه حتى انتهى إلى عين اختلط ماؤها وطينها فتراءى له أن الشمس تغرب فيها وتختفي وراءها وظن أن ليس وراء هذه العين مكان للغزو، ولا سبيل للجهاد، ولكنه رأى عندها قوما هاله كفرهم، وكبر عليه ظلمهم وفسادهم، فخيّره الله بين قتالهم أو إمهالهم ودعوتهم للعدل والإيمان، فاختار إمهالهم وقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم، ونصر المظلوم، وأخذ بيد الضعيف، وأقام صرح العدل، ونشر لواء الإصلاح. وقد وضع لهم دستور الحكم العادل قال تعالى:
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) .
وقد عاد ذو القرنين إلى الشرق فسار غازيا مجاهدا حتى انتهى إلى غاية العمران في الأرض، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس عليها، ولكن ليس لهم بيوت تسترهم، أو أشجار تظلّهم.
ولعلّهم كانوا على حال من الفوضى(5/117)
ونصيب من الجهل.. فبسط حكمه عليهم ونفّذ فيهم دستور العدل، ومكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء الذي سبق ذكره، ثم تركهم إلى الشمال غازيا مجاهدا مظفّرا منصورا، حتى انتهى إلى بلاد بين جبلين يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم، أو يفهم في الحديث مرماهم، ولكنهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج، وهم قوم مفسدون في الأرض، وأوزاع «1» من الخلق ضالّون مضلّون.
وقد لجأ الأقوام إلى ذي القرنين ليحول بينهم وبين المفسدين، وشرطوا على أنفسهم نولا يدفعونه إليه، وأموالا يضعونها بين يديه. ولكنّ ذا القرنين أجابهم إلى طلبهم، وردّ عطاءهم وقال لهم، كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه:
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الآية 95] .
ثم طلب إليهم أن يعينوه على ما يفعل، فحشدوا له الحديد والنحاس، والخشب والفحم، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وحاطها بالفحم والخشب، ثمّ أوقد النار، وأفرغ عليه ذائب النحاس، واستوى ذلك كله بين الجبلين سدّا منيعا قائما، ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن تظهره لملاسته، أو تنقبه لمتانته وأراح الله منهم شعبا كان يشكو من أذاهم، ويألم من عدوانهم.
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولكنه ذكر الله فشكره، وردّ إليه العمل الصالح الذي وفّقه إليه، وتبرّأ من قوته إلى قوة الله، وأعلن عقيدته في البعث والحشر، وإيمانه بأنّ الجبال والحواجز والسدود ستدكّ قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا وهكذا تختم هذه القصة، بتأكيد قدرة الله سبحانه، على البعث قال تعالى:
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) .
«وبذلك تنتهي قصة ذي القرنين، النموذج الطيّب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسّر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقا وغربا، ولكنه لا يتجبّر ولا يتكبّر، ولا يطغى ولا يتبطّر ولا يتّخذ من الفتوح وسيلة للغنم
__________
(1) . الأوزاع: الجمادات، ولا واحد لها. [.....](5/118)
المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخّر أهلها في أغراضه وأطماعه وإنّما ينشر العدل في كل مكان يحلّ به، ويساعد المتخلّفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسّرها الله له في التعمير والإصلاح ودفع العدوان، وإحقاق الحق. ثم يرجع كلّ خير يحقّه الله على يديه إلى رحمة الله وفضله، ولا ينسى، وهو في إبّان سطوته، قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله» .
أهداف سورة الكهف
نزلت سورة الكهف بمكّة في وقت اشتدت فيه حملة القرآن على المنكرين المكذّبين بيوم الدين. وقد نزلت قبلها سورة الغاشية، وهي سورة تبدأ وتنتهي بحديث الساعة، وإياب الناس جميعا إلى الله، ليحاسبهم على ما قدّموا.
ونزلت، بعد سورة الكهف، سورة النحل وعدّة سور تحدّثت عن البعث والجزاء، وأثبتت وحدانيّة الله وقدرته، وذكرت عقوبته للمكذّبين، وأخذه على يد الظالمين. لقد كان كفّار مكّة ينكرون البعث، ويستبعدون وقوعه بعناد وإصرار، فتكفّل القرآن بمناقشتهم وتفنيد آرائهم، وأثبت قدرة الله على البعث والجزاء، وقدّم الأدلة على هذه القضية وساق في سورة الكهف عددا من الحجج والبراهين على حقيقتها، مبرزا ذلك بصورة واضحة قد اكتملت فيها عناصر القوة والروعة والإفحام. فالمحور الموضوعي لسورة الكهف هو تصحيح العقيدة، وتأكيد قدرة الله على البعث والجزاء، وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
ونستطيع أن نجمل مظاهر ذلك فيما يأتي:
1- بدأت السورة بقوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) .
وهي تتحدّث في هذا البدء عن الدار الاخرة وما فيها من بأس شديد يصيب أقواما، وأجر حسن يفوز به أقوام آخرون.
وختمت بقوله تعالى:(5/119)
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) .
وهي تتحدّث في هذا الختام، عن الدار الاخرة أيضا، وعمّن يرجو لقاء ربه، وما يجب عليه، أثرا لهذا الرجاء والإيمان، من عمل صالح، وتوحيد لله لا يخالطه إشراك.
وهكذا يتلاقى أول السورة وآخرها:
أولها يتحدث عن الاخرة بطريق التقرير لها، وبيان مهمة القرآن في إثبات ما يكون فيها من الجزاء إنذارا وتبشيرا، وآخرها يتحدث عن هذه الحقيقة التي تركزت وتقررت، ويحاكم الناس إليها في الإيمان والعمل الصالح.
وممّا يلاحظ أن آيات البدء، قد ذكر فيها أمر الذين قالوا اتّخذ الله ولدا، من إنذارهم وبيان كذبهم وتخليطهم وجهلهم على الله، وذلك هو قول الذين يشركون بالله، ويعتقدون ما ينافي وحدانيته وتنزيهه وأن آية الختام قررت أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وأنّ على من يؤمن به، ويرجو لقاءه ألّا يشرك بعبادته أحدا، فتطابق الأول والاخر في إثبات الوحدانية والتنزيه لله جلّ وعلا، كما تطابقا في أمر البعث والدار الاخرة.
2- أمّا في أثناء السورة، وما بين بدئها وختامها، فقد جاء أمر البعث عدة مرات:
أ- جاء في مقدمة قصة أصحاب الكهف التي ساقها الله حقيقة من حقائق التاريخ الواقعية، ودليلا على قدرته، وتنظيرا لما ينكره الكافرون من أمر البعث والنشور:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) ، وفي ثنايا هذه القصة:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الآية 21] .
فهي تقرر أن أصحاب الكهف آية من آيات الله، وأنهم، مع غرابة أمرهم، لا يعدّون في جانب القدرة الإلهية عجبا، فإنما هم فتية آمنوا بربّهم، وأووا إلى الكهف فرارا بعقيدتهم، فضرب الله على آذانهم فيه مدة من الزمن، ثم بعثهم. فالله، إذن، قادر على أن يضرب على آذان الناس جميعا في هذه الدار بالموت، كما يضرب على آذانهم(5/120)
بالنوم، ثم يبعثهم إلى الدار الاخرة كما بعث هؤلاء الفتية، وما ذلك على الله بعزيز، ولا هو في قدرته بعجيب.
وتقرر هذه المقدمة أنّ العبرة من بعثهم والإعثار عليهم: أن يعلم الناس، أنّ وعد الله حقّ، وأنّ الساعة لا ريب فيها.
ب- وجاء أمر البعث مرة ثانية في هذه السورة حينما قررت أن الحق من الله، وأن كل امرئ مخيّر في الإيمان أو الكفر:
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الآية 29] فهناك دار أخرى غير هذه الدار، يحاسب فيها كل امرئ، ويجزى بما يستحقه:
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الآية 29] وللذين آمنوا وعملوا الصالحات جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [الآية 31] .
ج- وجاء أمر البعث في المثل الذي ضربه الله للناس عن صاحب الجنّتين وزميله، وما كان من إنكاره قدرة الله، وشكّه في الساعة، ونصح صاحبه له وتبرّئه منه، وأن الله قد أحال الجنتين صعيدا زلقا وحينئذ، تنبه الكافر فقال، كما ورد في التنزيل:
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) .
د- وجاء أمر البعث، بعد هذا، في المثل الذي ضربه الله بالحياة الدنيا، يكون فيها نبات وزينة، ثمّ يصبح ذلك كلّه هشيما تذوره الرياح، وتنتهي الدنيا وما فيها. وقد عقّب الله سبحانه على هذا المثل بذكر الجبال وسيرها، والأرض وبروزها، والحشر وشموله، والعرض على الله، ووضع الكتاب، وإشفاق المجرمين ممّا فيه قال تعالى، حكاية عنهم:
يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) .
هـ- وجاء في السورة أيضا إشارة إلى قصّة آدم وإبليس، حيث طلب الله من إبليس أن يسجد لآدم فأبى، فتقررت بينهما العداوة منذ ذلك اليوم إلى أبد الدهر. وحذر الله أبناء آدم من أن يتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دونه، مع هذه العداوة المتأصّلة. ثم ذكر لهم أمرا من أمور الاخرة بعد هذا التحذير من اتّخاذ الأولياء أو الشّركاء، حيث ينادى الشركاء فلا يجيبون،(5/121)
ويستجار بهم فلا يجيرون وتبرز الجحيم فيراها المجرمون ويظنون أنّهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا.
في هذا الأسلوب، جمع بين المبدأ والمعاد، ووضع لقضية الخلق والبعث، مقترنتين بين يدي العقل، ليدرك الإنسان أنه، منذ أوّل نشأته، هدف لعدوّ مبين يحاول إضلاله ولفته عن الطريق المستقيم حسدا له وانتقاما منه وأن أخطر هذا الإضلال هو الوصول إلى حد الثقة بالعدوّ المبين، واتّخاذه وليّا من دون الله يتّبع أمره وينصر هواه وأن هذا العدوّ المخاتل، سيكون أمره يوم الجزاء كسائر الشركاء، يزيّنون الكفر والعصيان ما داموا في الدنيا. حتّى إذا جاء أمر الله، أعلنوا براءتهم ممّن اتّبعوهم وضلّوا بسببهم:
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) [الحشر] .
ووجاء في هذه السورة أيضا، مما يتصل ببراهين البعث، قصة موسى (ع) وفتاه والعبد الصالح. وهي قصة عظيمة حافلة بالفوائد والمعاني الجليلة. وفيها يساق الحديث على نحو يشعر معه كل سامع شعورا قويا، بأن لله سبحانه علما فوق علم الناس، وتصريفا للكون على سنن، منها ما هو معروف ومنها ما هو خفيّ. وإذا آمن الناس بهذا واطمأنّوا إليه، لم يعد هناك مجال للعجب من أمر الساعة. فما هي إلا تغيير يحدثه خالق الكون ومالك ناصيته. فإذا السنن المعروفة تحلّ محلّها سنن أخرى، ومن قدر على إنشاء السنن قدر على تغييرها. وبهذا يؤمن كل عاقل، بصدق ما أخبر به المعصوم من كل أمر يبدو أمام العقول عجيبا. وهو في قدرة الله غير عجيب.
ز- جاءت السورة أيضا، بعد هذه القصة، بقصة أخرى عن عبد مكّن الله له في الأرض وآتاه من كلّ شيء سببا، وسخّر له العلم والقوة وأسبابا أخرى كثيرة، ذلك هو «ذو القرنين» . وقد لجأ إليه قوم ليحول بينهم وبين المفسدين، فأنجدهم وأعانهم وجعل الله عمله في ذلك رحمة للناس، يبقى ما بقيت هذه الحياة فإذا جاء وعد الله ضاعت السدود والحوائل وأصبحت دكّا، وترك الناس مضطربين يموج بعضهم في(5/122)
بعض، ثم ينفخ في الصور فيجمعون كلّهم، وتعرض يومئذ للكافرين جهنّم عرضا، فيبصرون، وقد كانت أعينهم من قبل في غطاء، ويسمعون وقد كانت آذانهم من قبل في صمم. وهكذا نجد القصة قد انتهت إلى أمر البعث والدار الاخرة وما فيها، وتخلّصت إليه في براعة وقوة، مذكّرة به، منذرة بما هنا لك من الأهوال والشدائد.
ح- ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تهديد الكافرين الذين اتّخذوا من دون الله أولياء، وتبيّن ما أعدّ لهم، وتوازن هؤلاء جميعا بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أعدّ لهم ويأتي ختامها بعد إثبات القدرة والعظمة لله، وأنّ كلماته سبحانه لا تنفد ولو كانت مياه البحار كلها مدادا لها. والمراد آياته في الكون وتصريفه وآثار قدرته، فتذكر رسالة الرسول، وأنها عن وحي من هذا الخالق القادر الواحد وتتوجّه بعد ذلك إلى الناس جميعهم بصيغة من صيغ العموم، هي لفظ «من» فتقول:
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) .
بهذا، يتجلّى للناظر في السورة أنها منتظمة النسق، مطّردة السياق، واضحة الغرض، قويّة الأسلوب، متماسكة في أوّلها وآخرها وفي ثناياها، يجول فيها معنى واحد، تلتقي عليه الآيات والأمثال والقصص والوعد والوعيد والتذكير والبيان. ولذلك يقول الله عز وجل في آية من آياتها:
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) .(5/123)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الكهف» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الكهف بعد سورة الغاشية، وهي من السور التي نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة، فيكون نزول سورة الكهف في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة أصحاب الكهف فيها، وتبلغ آياتها عشرا ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
قيل إن قريشا بعثت إلى أحبار اليهود بالمدينة يخبرونهم بأمر النبي (ص) ، ويسألونهم عنه، فقالوا: سلوه عن ثلاثة فتية ذهبوا في الدهر الأوّل: ما كان من أمرهم؟ وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: ما كان نبأه؟
فسألوا النبي (ص) عن ذلك، فقال:
أخبركم بما سألتم عنه غدا. ولم يقل:
«إن شاء الله» . فمكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه الوحي، حتّى أرجف أهل مكّة به، وقالوا: وعدنا محمّد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة. فشقّ هذا عليه، ثم نزل عليه جبريل بسورة الكهف، وفيها معاتبة له على حزنه لعدم إيمانهم بما أنزل إليه، وخبر أولئك الفتية، وذلك الرجل الطوّاف.
وقد افتتحت هذه السورة بمقدّمة في بيان الغرض من تنزيل القرآن، وهو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(5/125)
إنذار الكافرين وتبشير المؤمنين فليس على النبي (ص) إلا أن ينذرهم ويبشّرهم، ولا يصحّ له أن يحزن لعدم إيمان قومه ورؤسائهم به، لأنه لا قيمة لما عندهم من أمر الدنيا. وقد مهّد بهذا لذكر قصة أصحاب الكهف، لأنهم آثروا دينهم على دنيا قومهم، واعتزلوهم في الكهف حينما خافوا منهم على دينهم، ثم ذيّل قصة أصحاب الكهف بما يناسب الغرض من ذكرها ثم ذكر قصة الرجل الطوّاف وهو ذو القرنين، وذيّلها بما ذيّلها به إلى آخر السورة.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة الإسراء لأنها، مثلها، تنوّه بشأن القرآن، ولأنّ سورة الإسراء جاء في ختامها تنزيه الله عن الولد، وقد جاء في أوّل سورة الكهف إنذار للذين قالوا اتّخذ الله ولدا.
المقدمة الآيات [1- 8]
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) ، فذكر أنه أنزل عليه القرآن كاملا في ذاته، مكمّلا لغيره، لينذر الكافرين عامّة بأسا شديدا من لدنه، ويبشّر المؤمنين بأنّ لهم أجرا حسنا، وينذر الذين قالوا إنّ الله اتّخذ ولدا ثم ذكر للنبي (ص) أنه لعلّه باخع نفسه أسفا، لأنّ قومه لم يؤمنوا بما أنزل عليه، وأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيّهم أحسن عملا:
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) .
قصة أصحاب الكهف الآيات [9- 82]
ثم قال تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) فذكر للنبي (ص) أنه حسب أنّ أصحاب الكهف والرقيم (اسم كلبهم) كانوا عجبا من آياته وأمره أن يذكر إذ أووا إلى الكهف طالبين منه أن يرحمهم ويرشدهم إلى رضاه، فضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثهم ليظهر أيّ الحزبين المختلفين في(5/126)
مدّة لبثهم بالكهف أحصى لها أمدا ثم فصّل هذا الإجمال، فذكر أنهم فتية آمنوا به سبحانه، وزادهم هدى، وأنه ربط على قلوبهم، إذ قاموا بين يدي ملكهم فصرّحوا له بإيمانهم وخالفوه وقومه في عبادة آلهتهم ثم ذكر أنهم اتفقوا حينما اعتزلوا قومهم، أن يأووا إلى كهف بجبل قريب من مدينتهم.
فلمّا ذهبوا إليه، وضرب على آذانهم فناموا، كانت الشمس، إذا طلعت، تميل عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تميل عنه ذات الشّمال، ليصون أجسامهم من الفساد بضوء الشمس ثم ذكر أنه كان يقلّبهم ذات اليمين وذات الشّمال لئلا تبلى أجسامهم، وأنّ كلبهم وقع في النوم معهم وهو باسط ذراعيه بباب الكهف ليحرسهم ثم ذكر أنه، جلّ جلاله، بعثهم من نومهم ليتساءلوا بينهم عن مدة لبثهم، وأنهم بعثوا أحدهم بورقهم ليشتري لهم طعاما من مدينتهم، وأمروه أن يتلطّف في أمره حتى لا يشعر أحد بهم فيرجموهم أو يعيدوهم في ملّتهم ثم ذكر أنه أعثر قومهم عليهم، ليعلموا أنّ وعده سبحانه، بالبعث حقّ، لأنّ قيام أصحاب الكهف بعد ذلك النوم الطويل يشبه البعث من الموت. ثم ذكر أن قومهم تنازعوا في أمرهم، لأنه أماتهم بعد إعثارهم عليهم، فقال بعضهم:
الأولى أن نسدّ باب الكهف فلا يدخل عليهم أحد، ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال آخرون: بل الاولى أن نبني على باب الكهف مسجدا نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف به.
ثم ذكر ما كان من اختلافهم في عددهم، وأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّ الله أعلم به، وأنه لا يعلمه إلّا قليل ممّن آثره بعلمه، ونهاه أن يجادلهم في أمرهم إلّا جدالا ظاهرا، فلا يكذّبهم فيما يعيّنونه من عدد، بل يذكر لهم أنّ هذا التعيين لا دليل عليه، فيجب التوقف في أمره وترك القطع به. ثم نهاه أن يستفتي أحدا منهم فيهم لأنهم لا علم عندهم بهم، وألّا يقدم على شيء من ذلك وغيره إلّا بإذنه ومشيئته، فلا يرجم بالغيب كما يرجمون في أمر أصحاب الكهف. ثم ذكر اختلافهم(5/127)
أيضا في مدّة لبثهم، وأنّ بعضهم يذهب إلى أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين، وبعضهم يزيد على ذلك تسع سنين، وأمره أن يذكر لهم أن الله أعلم بمدة لبثهم: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) .
وذيّلت نهاية هذه القصة بما يناسبها، فأمر سبحانه رسوله (ص) أن يتلو ما أوحي إليه فيها، لأنه هو الحق الذي لا تبديل فيه، ولن يجد من دونه ملتحدا يلجأ في علم شيء إليه ثم أمره أن يصبر نفسه مع الذين آمنوا به، ونهاه أن تعدو عيناه عنهم إلى أهل الدنيا من رؤساء قومه وأغنيائهم، وأن يطيع هؤلاء الرؤساء والأغنياء في طرد من آمن به ليؤمنوا هم به، فيكون له بهذا أسوة بأصحاب الكهف ثم أمره أن يذكر لهم أنّ الحق منه وهو غنيّ عنهم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فمن كفر فله عذابه الذي أعدّ له، ومن آمن فلن يضيع عليه عمله: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الآية 31] .
ثم أمره أن يضرب لهم أربعة أمثال تبيّن لهم خطأهم في تعاليهم بغناهم على فقراء المؤمنين، لأن الافتخار يجب أن يكون بالعمل الصالح لا بالمال:
الأول: مثل رجلين جعل الله لأحدهما جنّتين من أعناب محفوفتين بنخل، وجعل بينهما زرعا، وقد آتى كلّ منهما ثمره كاملا غير منقوص، فافتخر بذلك على صاحبه، وظنّ أنه باق له لا يفنى، وأنه ليس هناك معاد يخاف حسابه. ولئن كان هناك معاد، ليكوننّ فيه أحسن حالا ممّا هو عليه في الدنيا، فأنكر عليه صاحبه أن يكفر بالله ولا يقابل نعمته بشكره عليها.
وذكر له أنه إذا كان يفخر عليه بذلك، فعسى أن يؤتيه الله خيرا منه، ويرسل على جنّته صواعق من السماء فتبيدها وكان أنّ الله أرسل عليها ذلك، فأبادها وأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها، ويتمنّى أن لو كان آمن بربه، ولم يجد من ينصره من دون الله، وما(5/128)
كان منتصرا: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) .
والثاني: مثل الحياة الدنيا في حقارتها وقلّة بقائها، فهي كماء أنزله الله من السماء فاختلط به نبات والأرض، ولم يلبث أن جفّ وتكسّر وأصبح هشيما تذوره الرياح. وما يفتخر به أولئك المشركون على فقراء المؤمنين من المال والبنين، هو من زينة الحياة الدنيا، فهو سريع الزوال مثلها والأعمال الصالحة الباقية، خير منه ثوابا ثم ذكر لهم يوم يسيّر الجبال وتبرز الأرض ويحشرهم جميعا، وأنهم يعرضون عليه وليس معهم شيء من أموالهم وأولادهم ويوضع أمامهم كتاب أعمالهم، فيشفقون مما فيه:
وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) .
والثالث: مثل آدم وإبليس، لأنّ إبليس لعنه الله، إنما تكبّر على آدم، لأنه افتخر بأصله ونسبه، وكان من الجن ففسق عن أمر ربه وقد نهاهم عن الاقتداء به في ذلك، واتخاذه وذرّيّته أولياء من دونه، وهم لهم عدوّ، والعاقل لا يتّخذ عدوّه وليّا له، ومثلهم لا يصح أن يكون شريكا بالله، وهو لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، وهم مضلّون لا يمكن أن يتّخذ الله له عضدا منهم. ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة أمرهم أن ينادوا أولئك الشركاء الذين اتخذوهم أولياء، فيدعونهم فلا يستجيبون لهم، ولا ينفعونهم بشيء ممّا كانوا يزعمونه فيهم. ثم ذكر أنه جلّت قدرته، ضرب تلك الأمثال لهم ليعتبروا بها، ويرتدعوا عن افتخارهم بكثرة أتباعهم وأموالهم على فقراء المسلمين ولكنّ هذه الأمثال لا تؤثّر فيهم، بل يمضون فيما جبلوا عليه من الجدال والشغب، ويطلبون أن تأتيهم سنّة الأوّلين من عذاب الاستئصال، أو تتوالى عليهم ضروب العذاب وهم أحياء والله جل جلاله لم يرسل المرسلين إلا مبشّرين ومنذرين ليؤمن الناس طوعا لا كرها ولكنهم يجادلون(5/129)
بالباطل، ليدحضوا به الحق، ولا يريدون الإيمان إلّا بما يقترحونه من تلك الآيات وإنّما يتّخذون ما جاءهم من الآيات، وما أنذروا به منها لعبا وهزوا وليس أظلم ممّن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، ونسي ما قدّمت يداه. ثم ذكر أن سبب إعراضهم، أنه جعل في قلوبهم أكنّة تمنعهم من فهمها، وأنه جعل في آذانهم وقرا يمنعهم من سماعها ثم ذكر أنه لو يؤاخذهم بذلك لعجّل لهم ما طلبوه من العذاب، ولكنّ عذابهم له موعد لن يجدوا من دونه موئلا: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) .
والرابع مثل موسى وبعض علماء عصره، فقد بلغ موسى من علوّ المنصب ما بلغ ولكنه تواضع لذلك العالم الذي آثره الله بعلم لم يعلمه موسى، وسافر إليه لطلب ذلك العلم، وكان أن ذكر لفتاه أنّه لا يبرح عن السّير حتّى يبلغ مجمع البحرين، فيجد عنده هذا العالم فلمّا بلغ ذلك المكان، نسي فتاه حوتا كان معهما، فانساب في البحر وكان هذا علامة مكان العالم الذي يطلبه، ولكن فتاه لم يخبره بذلك، حتّى جاوزا ذلك المكان، وطلب منه غداءهما، فأخبره بأنه نسي حوتهما إذ أويا إلى الصخرة فانساب في البحر، فذكر له أنّ هذا هو ما كان يطلبه فارتدّا إلى ذلك المكان، فوجدا عنده ذلك العالم، فطلب منه موسى أن يتبعه على أن يعلّمه ممّا آثره به ربّه، فأخبر موسى بأنه لن يستطيع الصبر على تعلّم ذلك العلم الذي لا يحيط به، وتخفى عليه أسراره فأخبره موسى بأنه سيجده صابرا على ذلك إن شاء الله تعالى، فطلب منه ألّا يسأله عن شيء حتى يحدّثه عنه ويعرّفه حقيقته.
فانطلقا، حتّى ركبا في سفينة، فعمد ذلك العالم إليها فخرقها، فأنكر موسى عليه أن يخرقها ليغرق أهلها، فذكّره بما أخبره به، من أنه لن يستطيع الصبر معه، فاعتذر له موسى بأنه نسي وطلب منه ألّا يؤاخذه على ذلك النسيان فانطلقا، حتّى وجدا غلاما، فعمد ذلك العالم إليه فقتله، فأنكر موسى عليه(5/130)
ذلك أيضا، فعاد إلى تذكيره بما أخبره به من أنه لن يستطيع الصبر معه، فذكر له موسى أنه إن سأله عن شيء بعد ذلك فلا يصاحبه، لأنه قد بلغ منه العذر فانطلقا حتى أتيا أهل قرية، فطلبا من أهلها طعاما فأبوا أن يطعموهما، فوجد ذلك العالم فيها جدارا يوشك أن يسقط فأقامه، فأنكر عليه موسى أن يقيمه من غير أجر لقوم أبوا أن يطعموهما، فذكر له أنه لا يمكنه أن يصاحبه بعد هذا، وأنه سيخبره بتأويل ما أنكره عليه من هذه الأمور الثلاثة فذكر له أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وكان هناك ملك يغصب كلّ سفينة صحيحة، فخرقها ليعيبها فلا يغصبها وأنّ الغلام كان أبواه مؤمنين ولو بقي لشبّ على الطغيان والكفر، وفتن به أبواه فكفرا مثله وأن الجدار كان لغلامين يتيمين، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، فأقامه لهما، حتّى يبلغا أشدّهما، ويستخرجا كنزهما: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) .
قصة ذي القرنين الآيات [83- 108]
ثم قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) فذكر، سبحانه، أنهم سألوا الرسول (ص) عن ذي القرنين وأن الرسول (ص) أجابهم بأنه سيتلو عليهم بعض أخباره وفصّل السياق ذلك بأنه جلّ جلاله مكّن له في الأرض، وأعطاه من العلم والقدرة والعدّة ما يتوصّل به إلى مقصوده. فلما أراد أن يوسّع ملكه جهة الغرب، سار حتى بلغ أوائل بلاد المغرب، فوجد هناك عينا حمئة، ووجد عندها قوما لا يكادون يفقهون قولا، فدعاهم إلى الدخول في طاعته، فمن أبى عذّبه عذابا شديدا في الدنيا، إلى ما سيناله من عذاب الله في الاخرة، ومن دخل في طاعته جازاه بالحسنى، ويسّر عليه زكاته وخراجه وغيرهما ثم أراد أن يوسّع ملكه جهة الشرق فسار حتى بلغ أوائل بلاد الشرق الأقصى، فوجد هناك قوما كالأوّلين، لا يسترون أجسامهم(5/131)
من الشمس، فقضى فيهم ما قضاه سابقا من تعذيب من لم يدخل في طاعته، والإحسان إلى من دخل فيها ثم سار من هناك حتى بلغ بين السّدّين، فوجد هناك قوما كالأوّلين أيضا، وهم قوم يأجوج ومأجوج من قبائل التّرك وكانوا مفسدين في الأرض، فشكاهم إليه من دخل في طاعته من أهل تلك البلاد، وطلبوا منه أن يقيم سدّا يمنع غاراتهم عليهم، فأجابهم إلى ما طلبوه من ذلك السدّ، وأمرهم أن يأتوه بقطع الحديد فوضع بعضها على بعض حتى سدّت ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ عليها حتّى إذا صارت كالنار صبّ النحاس المذاب عليها، فالتصق بعضها ببعض حتى صارت جبلا صلدا، فلم يقدروا أن يظهروه «1» أو ينقبوه ولما تمّ له ذلك، ذكر أنه رحمة من الله بعباده، وأنه إذا جاء وعد الله بخروجهم سّواه بالأرض، فيخرجون منه، يموج بعضهم في بعض، ويعيثون فسادا في الناس، وذلك من أمارات يوم القيامة وبعد هذا ينفخ في الصور فيجمعون وسائر الناس للحساب، وتعرض جهنّم للكافرين الذين عموا وصمّوا عما يذكّرهم بذلك اليوم.
ثم وبّخهم على ظنّهم أن ينتفعوا بمن اتخذوهم أولياء من دونه، مع إعراضهم عن تدبّر ما ذكّروا به وذكر سبحانه، أنه أعدّ لهم جهنّم نزلا فلا يصرفهم أحد عنها ثم ذكر من قبيح صفاتهم، أنهم قد ضلّ سعيهم في الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إلى غير ذلك مما ذكره من وعيدهم ثمّ أتبع وعيدهم بوعد المؤمنين على عادته في الجمع بين الترهيب والترغيب، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108) .
الخاتمة الآيات [109- 110]
ثمّ قال تعالى:
__________
(1) . ظهر الحائط يظهره ظهورا: فعل متعدّ، معناه: علاه.(5/132)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) .
فختم السورة بالتنويه بشأن ما جاء فيها من ذلك القصص العجيب، وذكر جلّ جلاله أن كلماته في هذا الشأن العجيب لا تنفد، وأنه لو كان البحر مدادا لها لنفد قبل نفادها ثمّ أمر الرسول (ص) أن يذكر لهم أنّ مثله لا يقدر على مثل هذا، فقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) .(5/133)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الكهف» «1»
قال بعضهم: مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء: افتتاح تلك بالتسبيح، وهذه بالتحميد «2» ، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] ونحو وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر: 55 ق: 39 الطور: 48] .
وسبحان الله وبحمده.
قلت: مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضا «3» ، وذلك من وجوه المناسبة بتشابه الأطراف. ثم ظهر لي وجه آخر أحسن في الاتصال. وذلك: أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي (ص) عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصّة أصحاب الكهف، وعن قصّة ذي القرنين «4» . وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر «الإسراء» ، فناسب اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين.
فإن قلت: لماذا لم يجمع الثلاثة في سورة واحدة؟
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وسبب آخر ذكره ابن الزّملكاني هو: أن «سورة الإسراء» اشتملت على الإسراء الذي كذّب به المشركون وكذّبوا الرسول (ص) من أجله. وتكذيبه تكذيب لله، فأتى ب «سبحن» تنزيها لله عما نسب الى نبيه من الكذب. وسورة الكهف، لمّا نزلت بعد سؤال المشركين عن قصة اصحاب الكهف، وتأخر الوحي، نزلت مبيّة أن الله لم يقطع نعمته عن رسوله ولا عن المؤمنين فناسب افتتاحها بالحمد (الإتقان: 3: 387) .
(3) . ختام الإسراء: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء: 111] .
(4) . انظر تفسير ابن كثير: 5: 137.(5/135)
قلت: لمّا لم يقع الجواب عن الأول بالبيان «1» ، ناسب فصله في سورة.
ثم ظهر لي وجه آخر: وهو أنه لما قال سبحانه فيها: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، والخطاب لليهود، واستظهر على ذلك بقصة موسى (ع) في بني إسرائيل مع الخضر (ع) ، التي كان سببها ذكر العالم والأعلم «2» ، وما دلت عليه معلومات الله عز وجل التي لا تحصى من الإحاطة، فكانت هذه السورة كإقامة الدليل على ما ذكر من الحكم.
وقد ورد في الحديث أنه لما نزل في سورة الإسراء: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) ، قال اليهود: قد أوتينا التوراة، فيها علم كل شيء، فنزل في هذه السورة «3» : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) . فهذا وجه آخر في المناسبة. وتكون السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم، فيما قدّر بتلك.
وأيضا، فلما قيل هناك: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) [الإسراء] شرح ذلك هنا، وبسط، بقوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الآية 98] إلى قوله جلّ وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) . وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) فهذه وجوه عديدة في الاتصال.
__________
(1) . لم يقع الجواب بالبيان، وإنما وقع بإسناد علم الروح الى الله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء] .
(2) . أخرجه الامام أحمد في المسند: 1: 255، وفيه أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا.
(3) . وفي رواية لابن جرير في التفسير: 15: 104: فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: 27] .(5/136)