[مقدمة التحقيق]
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
تقديم
يأتي في مقدمة اهتمامات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، نشر المفاهيم الصحيحة للثقافة الإسلامية، وتيسير الوصول إلى المصادر الأصلية للمعرفة الدينية التي تستند إلى القرآن الكريم، من حيث ضبط المصطلحات، وشرح المفردات، وتحليل المدلولات التي تعبّر عن الحقائق القرآنية الساطعة بدقة وأمانة.
وفي هذا الإطار تأتي الموسوعة القرآنية التي تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهي عمل موسوعي جديد، يتناول خصائص السور القرآنية، على نحو يساعد في فهم آي الذكر الحكيم، والولوج إلى الآفاق الممتدة لعالم القرآن، كما يساعد في سبر أغوار معانيه السامية، والإلمام بقسمات مضيئة من مبناه الذي جمع البساطة إلى الإعجاز.
ومضمون هذه الموسوعة، ماثل في أبواب تسمّى مباحث، تتناول، من كل سورة: أهدافها، وترابط الآيات فيها، وأسرار ترتيب ورودها بين السور الأخرى، ومكوّناتها، ولغة التنزيل العائدة إليها، ومعانيها اللغوية، ومعانيها المجازية، ومسائل متفرقة تواجه القارئ، عنوانها في الموسوعة: لكل سؤال جواب. وقد انتقيت موادّ هذه الموسوعة من أمّهات كتب التراث العربي الإسلامي، ومن المؤلفات الحديثة في علوم القرآن.(المقدمة/1)
والجديد اللّافت في الموسوعة: أنها جمعت، في حيّز واحد، موضوعات قرآنية متفرّقة، تعوّدنا أن نطلبها في مراجع مختلفة، تندرج في ما يعرف ب علوم القرآن، وأن أوثق المراجع المتفق عليها، وأوفاها، قد اختيرت لها، فجاءت مباحثها مستوفية لموضوعاتها، محققة لأغراضها.
وجانب آخر تكشفه لنا الموسوعة: أنّها جاءت تطبيقا واضحا لتسمية الدار التي تصدر عنها، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وجاءت دعوة إلى التوحيد في زمن لم تظهر الحاجة فيه إلى التوحيد، في دنيا المسلمين، مثلما تظهر الآن، فكان لنا، من ذلك، سمة أخرى حملتنا على دعم هذا العمل ورعايته، ودفعتنا إلى المساهمة فيه بتقديمه إلى جمهور القراء.
وفّقنا الله إلى ما فيه الخير والتقدم لأمتنا، وشدّ من أزر العاملين من أجل تعميق التقارب والترابط والتضامن بين المسلمين كافة. إنه سميع مجيب الدعاء.
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو)(المقدمة/2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تصدير
يسعدنا أن نقدّم للقارئ هذا العمل القرآنيّ الموسوعيّ الجليل، الذي يغني عن مكتبة، ويوفّر معرفة بالكتاب المنزل تجعل المسلم أكثر وعيا لدينه، وأعمق إيمانا بمعتقده، ويتيح، للمسلمين، المنتمين إلى المذاهب المتنوعة، مزيدا من التفاهم، والسّير المبارك نحو تقارب منشود بلغ تطلّعنا إليه، وهجسنا بتحقيقه بين المسلمين: أننا جعلناه عنوانا لمؤسستنا، فسميناها دار التقريب بين المذاهب فغدا، بالتسمية، شعارا نرفعه ونعمل له. كما تتيح هذه المعرفة، لغير المسلمين، مزيدا من فهم الإسلام وأحكامه، يسهّل الحوار بين المسلمين من جهة، وأبناء الرسالات الأخرى، من جهة ثانية.
إن الموسوعة القرآنية سفر نفيس، فريد في بابه، يسدّ ثغرة في المكتبة العربية الإسلامية، ويشكل حاجة للكاتب، والمثقف، واللغوي، والأستاذ، والطالب، وكلّ معنيّ بالإسلام. وقد أعدّها واحد من أبناء هذه الأمّة، يجمع إلى المعرفة التّقوى والذّوق العرفاني، ونعني به الأستاذ جعفر شرف الدين الذي ولّف بين الموضوعات، وصاغ منها منظومة متراصّة البنيان، وظيفتها الإبانة عن خصائص السور القرآنية وكان له ما أراد.
وحين عقدت المؤسسة العزم على إصدار هذا العمل الموسوعي، كانت تعي جيّدا ثقل المهمّة التي ستضطلع بها، وسعة الجهد الذي ستبذله، ليأتي العمل(المقدمة/3)
متطابقا مع اسمه، دالا على عنوانه.
وعند ما قررنا نشر الموسوعة لم يكن العامل الرئيسي الذي استندنا إليه هو الكسب المادي، بل شعورنا بالمسؤولية إزاء الأمة، وضرورة مشاطرتها الهموم من خلال موقعنا، ومن طريق نشر ثقافة إسلامية رحبة الرؤية، متنوعة المشارب الصافية، تنزع إلى التوحّد في منهج من التغاير المفضي إلى التكامل.
إن دار التقريب بين المذاهب، المتطلّعة إلى تحقيق الهدف المبيّن، لم تأل جهدا في إعطاء هذا العمل ما يستحق من علم وخبرة وعناية واهتمام.
إن عملنا هذا قد استغرق، من الجهد والمكابدة، سنوات بذلنا فيها ما نستطيع، لنصدر أوّل موسوعة قرآنية تتسم بالشمول، والعمق، والوضوح.
وبعد، فهذا ما استطعنا إنجازه وتقديمه، إلى المكتبة العربية الإسلامية في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها العرب والمسلمون.
فإن كنّا قد نجحنا، كان ذلك بفضل الله ومنّه وإلّا، فإننا نحمد الله الذي أقدرنا على المحاولة، طامعين في ثواب لها وأجر.
إننا، في كل حال، نسأله التوفيق والقبول والرّضا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دار التقريب بين المذاهب الإسلامية(المقدمة/4)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
استهلال
هذا عمل قلّ نظيره، يسدّ نقصا في المكتبة العربية- الإسلامية، انبرى له السّيد جعفر شرف الدين، فاختار موضوعاته، وألّف بينها، ثم صاغ من أشتاتها وحدة متراصّة، موضوعها العام: خصائص السّور القرآنية.
ونحن، أمام غنى هذا العمل، وكثرة احتمالاته، وتنوّع مصادره، قد حزمنا أمرنا بمعيار قوامه: الدّلالة، والوضوح، واجتناب التّكرار.
إننا، في مواضع من الموسوعة، اضطررنا إلى شيء من التصرّف لم يمسّ معه تناغم النص، واستدركنا به ما لم يلتفت إليه بعض المؤلفين الأجلّاء، فأدخلنا على نصوصهم قدرا من التعديل الموضح.
وكلمة في السّياق المنهجي مضمونها: أنّنا ذيّلنا مدخل كل بحث بإشارة إلى مصدره، فصّلناها وكرّرناها، في كل مبحث من مباحث السّور، وكان ذلك، منّا، تسهيلا على القارئ، وتوفيرا لجهده.
أمّا توثيقنا للسّور والآيات، فقد اعتمدنا فيه المنهج التالي:
في كل مبحث من المباحث الثمانية التي تتناول كل سورة، ترد فئتان من الآيات:
- آيات من سورة المبحث، وهي بطبيعتها وطبيعة البحث، أكثر عددا من سواها(المقدمة/5)
- آيات من سور أخرى، يستشهد بها للإيضاح، أو المقارنة، أو ما شابه.
وفي عملية توثيق لآيات الفئتين والإحالة عليها، اعتمدنا منهجا من المفيد عرضه.
ألف- آيات سورة المبحث:
عند ما نكون في مبحث يتناول سورة بعينها من السور، سورة «النبأ» مثلا، وترد، في سياق المبحث، آيات من هذه السورة، فإننا نوردها دون أن نسمّي سورتها، مكتفين، من الإشارة إلى اسم السورة، بهلالين قرآنيّين مزهّرين نضع بينهما الآيات، بنصّها الكامل كانت أم بنصّها المجتزئ، من أوّلها كان الاجتزاء أو من آخرها.
فإن كانت الآيات بنصها الكامل، أو بنصها المجتزئ المتضمّن خواتم الآيات، تلا كلّ آية رقمها، وكتب الرقم داخل الهلالين المزهّرين، نحو:
- وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) - لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) وإن كانت بنصّها المجتزئ الذي لا يحوي خواتم الآيات، جعلنا رقمها خارج الهلالين مع ذكر «الآية» ، نحو:
- رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ [الآية 37] .
باء- آيات السور الأخرى:
عند ما ترد، في المبحث، آيات من سور أخرى، نورد هذه الآيات،(المقدمة/6)
بالكيفيات المبيّنة في الفقرة «ألف» ، مع ذكر السورة التي تنتمي إليها كل آية.
وهذه بعض الأمثلة:
- إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
(12) [القيامة]- وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) [المدّثّر] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة/ 255] .
وبعد، فإننا نسأله، جلّ وعلا، أن يتقبّل عملنا قبولا حسنا، وأن يسدّد خطانا إلى ما نحبّ ونرضى إنه هو السميع العليم.
أحمد حاطوم محمد توفيق أبو علي(المقدمة/7)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
مقدمة وإهداء
الصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم رسله، وسيد أنبيائه، البشير النذير، السراج المنير، الطهر الطاهر، العلم الظاهر، المنصور المؤيد، المحمود، الأحمد، أبي القاسم محمد، وعلى آله الميامين، وأصحابه الطيّبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] . كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود] لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت/ 42] ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة] ، نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) [النحل] ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) [القيامة] .
ولهذا تميّز الكتاب المجيد بهذا الاسم المضيء، (القرآن) ، فكان له علما، يخفق في كل قلب، ويتردّد على كل لسان، يراود كل لبّ وجنان، بروح المعاني ومهجة البيان. فالقرآن مصدر القراءة، والقراءة مصدر المعرفة، والمعرفة مصدر الحضارة، والحضارة تاج الحياة.
شغل القرآن المجيد على مر العصور والقرون، كبار العلماء في شتى علومهم وفنونهم، فاهتمّوا بحفظه، وتلاوته، وتجويده، وكتابته، وتنقيطه، ولغته، وتقعيد قواعده، وابتدعوا علوم البلاغة ليثبتوا بها إعجازه. وحفظوا لهجات(المقدمة/8)
العرب، وضبطوا مخارج حروفها، لئلا تنطق التّاء طاء، والضّاد ظاء، والقاف كافا إلخ ... واستحدثوا ما سمّي بالإخفاء، والإقلاب، والإدغام. وقد ثبت، بما لا يقبل الشّكّ، أنّه، لولا القرآن لم تضبط لغة، ولا شعر بل لم يضبط النطق والكتابة بلغة الضاد.
إنه القرآن. وكفى به حافظا للّغة العربية، وعلومها، محتضنا لتراثها، وتاريخها، وسدّا منيعا يعصمها من الزعازع. وها هي آياته البينات تنطق بهذه الآيات المعجزات المتحديات:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر] .
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [البروج] .
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء] .
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف] .
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) [الزخرف] .
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (4) [فصلت] .
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر/ 28] .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) [هود] .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) [يونس] .
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) [البقرة] .(المقدمة/9)
هذه الآيات البينات خطاب للناس أجمعين، ينطلق عبر ألف وأربعمائة سنة، بنبرة واثقة عالية: أن أتوا بمثل هذا القرآن، بعشر سور مثله، بسورة من مثله.
ويتصاعد التحدي: أن ادعوا من استطعتم، ادعوا شهداءكم ليؤازروكم على الإتيان بمثل هذا القرآن، بعشر سور، بسورة واحدة، ولم لا تستطيعون وقد أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله قرآنا عربيّا غير ذي عوج؟
ويتنامى التحدي ويتكرر، ويعرض الحروف التي تتألف منها آيات القرآن وسوره. فهي ليست لغزا، ولا أحجية، ولا سرّا. إنها، بالتحديد، الأبجدية العربية من ألفها الى الياء. إنها اللغة التي تتخاطبون بها في ندواتكم ومجالسكم، وتنشدون بها في عكاظكم ومربدكم، وتتغنّون بها في رجزكم وحدائكم، في شعركم ونثركم. وتتغنى بها الركبان بعدكم، حتى لتكوننّ من المحفوظات ثم من المأثورات، ثم من المعلّقات.
أليست من حروف الأبجدية: الألف والحاء والراء والسين والصاد والطاء والعين والكاف والميم والهاء والياء؟ ثم أليست هذه الأبجدية هي التي تكوّن بألفاظها القرآن: سورا وآيات. ثم أليست هذه الحروف هي التي افتتح الله سبحانه بها كثيرا من السّور، وأعلن أن هذا القرآن إنما كتب بهذه الحروف؟
فاقرأ:
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) [يوسف] .
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس] .
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود] .
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [ابراهيم/ 1] .
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) [الحجر] .
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة] .(المقدمة/10)
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) [لقمان] .
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [السجدة] .
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد/ 1] .
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف] .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) [غافر] .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) [فصلت] .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) [الجاثية] .
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) [الشورى] .
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) [النمل] .
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [الشعراء] .
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [القصص] .
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) [مريم] .
بعد هذا الحشد من الآيات التي افتتح الله سبحانه وتعالى بها بضعا وعشرين سورة مباركة، واستهل الافتتاح بإعلان هوية اللغة التي نزل بها القرآن المجيد، وتسمية الحروف التي انتظمت بها آياته وسوره، أفليس حكما مطلقا بهذا الموضوع هذا الإعجاز الصاعق:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء] . وها قد مضى أربعة عشر قرنا، دون أن تتحرك جامعة أو مجمع أو جماعة للإتيان بآية من آياته، فضلا عن عشر سور أو سورة واحدة. ذلك أن إعجاز القرآن المجيد ليس بنظمه الفني، ولا بسمته(المقدمة/11)
البلاغي، ولا بنهجه البياني فحسب، وإنما بدعوته الآخذة بالأعناق الى المحبة، والخير، والجمال، والمعرفة، والعلم، والعمل وإنما بعقله الكوني، وفكره العلمي، وسبقه الزمني. لقد تناول القرآن المجيد الإنسان نطفة، وعلقة، ومضغة، لحما وعظاما، وليدا ورضيعا وغلاما، شابّا وكهلا وشيخا، حيّا وميتا، دنيا وآخرة.
وتناول الكون أرضا وسماء، بحارا وماء وأنهارا. وما في أعماق الأرض من معادن وخزائن، وما في صحرائها وأدغالها من إنسان وحيوان ومن طبيعة خاصة. وما في طبقات السماء من كواكب ونجوم وأجرام. وما في أعماق البحار من عوالم الحيوان والنبات والجماد والمحار.
وتناول تعاون عناصر الكون هذه وتناغمها وانسجامها وتكاملها: الأرض مع السماء، والشمس مع القمر. وكلاهما مع الأرض والبشر والشجر، والماء والهواء. وكلّ منها مع الإنسان والطبيعة والبيئة والحياة.
تناولها القرآن المجيد في شتّى سوره المباركات، وآلاف من آياته البينات بليلها ونهارها، بجبالها ووديانها، بظلامها ونورها، بظلّها وحرورها، بربيعها وخريفها، بصيفها والشتاء.
وتناول الأديان برسلها ورسالاتها، بكتبها وأنبيائها، بتوراتها وإنجيلها، بزبورها ومزاميرها وقرآنها، بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، بنوح وهود وصالح، بداود وسليمان واليسع، بزكريا ويحيى ويونس، بموسى وهارون، بعيسى ومحمد، وهو (ص) خاتمهم وسيدهم وسيّد الخلق أجمعين.
وأمر القرآن المجيد بالمعروف: محبة وصدقا وخيرا ... هجرة وجهادا وصبرا. ونهى عن المنكر: غيبة وافتراء وبهتانا، استعلاء واستكبارا وامتهانا.
وفتح العقول والأبصار والأفئدة على العلم والعمل. فسبحان من علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. قال تعالى في سورة الرحمن:(المقدمة/12)
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن] .
واشترع الشرائع، وسن القوانين، ووضع الأنظمة، وأقرّ العرف. وصاغ أجلّ العبر وضرب أروع الأمثال وقصّ أحسن القصص.
وبذلك لم يلامس كتاب إلهي أو بشريّ، في سحيق التاريخ وجديده، أعماق الروح وطمأنينة اليقين، كما لا مسهما القرآن المجيد. ولا استشهد في سبيل دعوته، ونشر كلمته، كما استشهد المسلمون الأولون ومن تبعهم بإحسان الى يومنا الحاضر. كما أنه لم يستشر في المقابل عنف كما استشرى عنف أعداء القرآن، حتى تعدّاه الى الناطقين بلغته، المنتسبين الى هويته. وما صمود القرآن المجيد أمام الدّعوات الهدّامة إلا آية من آياته، ومعجزة من معجزاته، لا يضارعها سوى آيات التحدي لنفس الناطقين بلغته، والصمت المطبق الذي لا يمكن أن يفسّر إلا بالعجز أمام إعجازه، والهزيمة أمام أبعاد إنجازه.
وبذلك تجلّى عجز الإنسان في تدبيره وتفكيره أمام عظمة الله في قرآنه.
وتجلّى نقص المخلوق، أمام كمال الخالق. وبدا القرآن رفيعا مترفعا، في حين بدت الكتب البشرية صغيرة صاغرة.
وهذا ما كنت أحسّه، ويسري في عروقي، إبّان الصّبا وفي طور الشّباب، كلّما سمعت تلاوة الكلام المنزل، وأتاني، من قرآن الفجر، ضوء يوشّي الغبش المنداح من حولي، مع كل صبح جديد.
وظلّ ذلك رجعا يتردّد في صدري، يراود مني سمعي والفؤاد، ويؤنسني في وحشتي، حتى تكوّن لي منه شيء كالنداء، هتف بي وألحّ، ثم دفعني إلى المكتبة الإسلامية دفعا رأيتني معه أبحث وأنقّب، أطلب المصادر القرآنية المتنوعة: من مصادر اللغة، إلى مصادر البيان، إلى مصادر النزول وأسبابه من(المقدمة/13)
مصادر القدامى إلى مصادر المحدثين ... كل ذلك طلبته لأخرج منه بموسوعة تروي شيئا من غلّة العطاش إلى فهم الكلام المنزل، والولوج إلى دنياه.
ووفّقني سبحانه في سعيي، فكان لي، ولقرّائي، شيء مما تطلعت إليه، وكان سفر متواضع قرّت به عيني، سمّيته الموسوعة القرآنية.
أما طريقة إعداد موضوعاتها وتهيئة أبحاثها، وتحضير موادّها، فقد اعتمدت في ذلك ما يعتمده أصحاب دوائر المعارف، بفارق شكلي يتعلق بالاختصاصيين والباحثين المعتمدين لكتابة موادّها. فبدلا من أن نتوجه الى من نراهم مؤهّلين لهذه المهمات، بإعداد كلّ منهم المادة التي يكون الفارس في حلبتها- بدلا من أن نتوجه بذلك إلى هؤلاء الفرسان، كما يتوجه أصحاب الموسوعات، توجهنا إلى مؤلفاتهم في شتى الموضوعات، فعمدنا إلى اختيار عدة كتب لكل موضوع، ثم اعتمدنا كتابا منها، إذا كان مستوفيا لشروط المادة المطلوبة. وإلا فإننا نأخذ فصلا أو بحثا من عدة كتب، حتى إذا تكامل الموضوع اعتمدناه.
وقد فرض عليّ جلال القرآن وقدسيّته أن أتبع في ترتيب خصائص السور المباركة، ترتيب هذه السور نفسه، من «الفاتحة» ورقمها: 1، حتى «الناس» ورقمها 114.
وإنني هنا أنوّه، بمن بذل جهده معي في توثيق مواد الموسوعة القرآنية وتنسيقها. إنها مديرة مكتبي ابنتي هدى علي الزائدي زادها الله هدى. وربّ ولد لك لم يخرج من صلبك، ولم تلده أم أولادك.
وإنني لأرجو أن أفوز بمصداقية النية التي دفعتني للقيام بهذا العمل التوثيقي.
وهي نيّة خالصة للقرآنيّين حقا، والإسلاميّين صدقا، وللناطقين بلغة الضاد حيّها دون مهجورها، وغضّها دون يابسها. وهي، من قبل ومن بعد، للقرآن وللإنسان. وهي أوّلا وآخرا، لمنزل القرآن، وبارئ الإنسان، وللقرآنيّ الأول، وللإنسان الأول، ذلك الذي هبط عليه القرآن نبيّا، للإسلام وللإنسان.(المقدمة/14)
ولا مندوحة لي، في ختام هذه المقدمة، من الإشادة بجهد كريم، كان له أبلغ الأثر في استقامة هذا العمل بهذه الكيفية التي آل إليها، وأعني به جهد الباحثين اللغويين، الأستاذ أحمد حاطوم والدكتور محمد توفيق أبو علي، اللذين راجعا هذه الموسوعة، فدقّقا في نصوصها، وحقّقا لفظها، وضبطا ما يحتاج إلى ضبط، من الحروف وعلامات الوقف وعدّلا، من ذلك وأضافا، ما يقتضي الإضافة والتعديل ووحّدا ما يتطلّب التوحيد من إشارات الإحالة، بالأرقام، وذكرا، حيث يلزم، أرقام الآيات التي لم تذكر أرقامها، وأسماء السّور التي لم تذكر أسماؤها، وتثبتا مما ذكر من الأسماء والأرقام، تثبّتهما من نصوص الآيات نفسها، وبذلا، في غير هذه الجوانب، من العناية ما يستحقان جزيل الشكر عليه.
وإنني، وأنا أنهي هذا التقديم، أختتمه بإهداء هذا المجهود الى روح من بثّ في روحي روح الايمان: إلى روح الغائب عن عيني، الحاضر في فكري وقلبي، المالئ سمعي وبصري، أبي، نضّر الله ضريحه وأكرم مثواه.
إنني أتشرف بإهدائه إليه، لا برّا به أبا ومربيّا وهاديا فحسب، وإنما لأنه كان:
أول من فتح سمعي وبصري على قيام الصلاة، لدلوك الشمس، إلى غسق الليل، وقرآن الفجر. وأخلص من شرح صدري للحفاظ على الصلوات والصلاة الوسطى، والقيام لله قانتا.
فإليك يا سيدي. يا من بسطت عليّ جناحيك، طفلا ويافعا، وزققتني المعرفة، فتّى وشابا، أهدي هذا الجهد. وقد عمّمتني السنون بوقار الشّيب.
عسى أن يكون لك به قرّة عين.
ولدك جعفر شرف الدين(المقدمة/15)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
مدخل
للقرآن المجيد خصائص عامة، ولكل سورة من سوره الكريمة خصائص تنفرد بها. فمن خصائص القرآن الكريم تعدّد أسمائه المباركة، وصفاته الطيبة، وسماته المقدّسة فهو:
القرآن الكريم، والفرقان العظيم، والكتاب المجيد، والنور المبين، والكتاب المكنون، والذكر الحكيم، والذكر المبارك، والصراط المستقيم، والعروة الوثقى، والحكمة البالغة، والقول الفصل، وأحسن الحديث، وصحف مكرّمة، وتنزيل رب العالمين، وبيان للناس، وبلاغ للناس وغيرها من الأسماء الشريفة، والنعوت المنيفة كالمثاني، والفصل، والمفصّل، والحكم، والحكمة، والحكيم، والمهدي، والبيان، والبرهان، والمبارك، والمجيد، والوحي، والرسالة، والإمام.
والقرآن المجيد كنز، وإعجاز، ولغة، وبيان وتشريع، وتاريخ، وسير، وعبر، وقصص، وعلم، وعمل وقد اكتنزت بهذه المعطيات الأبكار:
1- سوره السبع الطوال وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال.
2- سوره المئون: المؤمنون، والأنبياء، والحجر، والكهف، والإسراء،(المقدمة/16)
ويوسف، والنحل، وطه، والشعراء، والصافّات، وهود، ويونس.
3- سوره المفصّلة: الحجرات، والبروج، والطارق، والبيّنة، والزّلزلة، والناس.
4- المثاني وتطلق على السور البواقي جميعا، وهنّ:
سور الممتحنات: الفتح، والحشر، والسجدة، والطلاق، والقلم، والحجرات، والملك، والتغابن، والمنافقون، والجمعة، والصّف، والجن، ونوح، والمجادلة، والممتحنة، والتحريم.
وسور «ألم» : البقرة، وآل عمران، والأعراف، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة.
وسور المسبّحات: الإسراء، والحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى.
وسور «الحمد» : الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر.
وسورة «الر» : يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر.
والسور «العتاق» «1» : الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء.
وسور «العزائم» : السجدة، وفصّلت، والنجم، والعلق.
وسور «قل» : الكافرون، والإخلاص، والفلق، والناس.
وسور «الطواسين» : الشعراء، والنمل، والقصص.
والسورتان الزهراوان: البقرة، وآل عمران.
والسورتان القرينتان: الأنفال، والتوبة «2» .
__________
(1) . أول ما أنزل من السور.
(2) . من فهارس القرآن الكريم. ويشتمل على 1500 فن ومطلب، للأستاذ محمود راميار: شركة أوفست المساهمة، طهران 1384 هـ 1965 م، ص 1034.(المقدمة/17)
وجميع سوره المباركة المائة والأربع عشرة سورة، وأحزابه الستون، وأجزاؤه الثلاثون وآياته المباركات البالغة ستة آلاف ومائتين وستّا وثلاثين آية «1» .
هذه الآيات البيّنات موزّعة على عناوين موضوعية، هي:
الأديان والأنبياء: 2061 آية.
الكون والدنيا: 2986 آية.
الإنسان والأسرة: 2076 آية.
التاريخ والسير والقصص والأمثال: 3180 آية.
العلم والعمل: 2367 آية.
الأمر بالمعروف (الأخلاق والتشريع) : 3194 آية.
النهي عن المنكر (الأخلاق والتشريع) : 1685 آية.
وهنا يبرز سؤال: كيف تكون آيات القرآن المجيد 6236 آية، وقد بلغت بعد توزيعها على مواضيعها أضعافا مضاعفة؟
الجواب كامن في الآيات ذاتها، فربّ آية تناولت موضوعا واحدا، وآية تناولت موضوعين، وآية تناولت ثلاثة موضوعات أو أكثر. وبذلك، فإن عدد الموضوعات التي تناولتها آيات القرآن الكريم، تتعدى مجموع عدد آياته، فتصبح أضعافا كما رأينا في الأرقام السابقة.
إنّ التّاريخ البشريّ كلّه، قديمه والمحدث، لم يعرف كتابا منزلا من عند الله، أو مؤلّفا من مؤلّفات البشر، قد نال ما ناله القرآن الكريم من اهتمام المسلمين والعرب، والمستعربين والمستشرقين فقد اهتموا به وبعلومه وفنونه بإعجازه الفكري والبلاغي والغيبي والعلمي، بتنوّع معطياته ومبتكراته. ويكفي في
__________
(1) . المرجع السابق، ص 1034.(المقدمة/18)
وصف ذلك أن نسجل لابن النديم، أحد كبار جهابذة التتبع لآثار المؤلّفين والمؤرّخين والعلماء والكتّاب والشّعراء، وتحديد أسماء السابقين إلى جمع القرآن المجيد، على عهد النبي (ص) وتعدادها في الصفحة [41] من كتابه «الفهرست» كما يلي:
علي بن أبي طالب.
سعد بن النعمان بن عمرو.
أبو الدرداء عويمر بن زيد.
معاذ بن جبل بن أوس.
زيد بن ثابت بن زيد بن النعمان.
أبيّ بن كعب بن قيس بن مالك بن امرئ القيس.
عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت بن الضّحّاك «1» .
وإحصاء الكتب المؤلفة في علوم القرآن، من عصر النبيّ (ص) حتّى عصره، وعددها في الصفحتين [50 و 57] من كتابه «الفهرست» كما يلي:
1- الكتب المؤلّفة في نزول القرآن.
2- الكتب المؤلّفة في قراءة القرآن.
3- الكتب المؤلّفة في وجوه قراءات القرآن.
4- الكتب المؤلّفة في لغات القرآن.
5- الكتب المؤلّفة فيما اتفقت ألفاظه ومعانيه في القرآن.
6- الكتب المؤلّفة في غريب القرآن.
__________
(1) . تاريخ القرآن للمحقق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري 1402 هـ 1982 م، ص 95.(المقدمة/19)
7- الكتب المؤلّفة في أحكام القرآن.
8- الكتب المؤلّفة في متشابه القرآن.
9- الكتب المؤلّفة في ناسخ القرآن ومنسوخه.
10- الكتب المؤلّفة في أجزاء القرآن.
11- الكتب المؤلّفة في عدد آي القرآن.
12- الكتب المؤلّفة في لامات القرآن.
13- الكتب المؤلّفة في النقط والشكل في القرآن.
14- الكتب المؤلّفة في الوقف والابتداء في القرآن.
15- الكتب المؤلّفة في وقف التمام.
16- الكتب المؤلّفة في مقطوع القرآن وموصوله.
17- الكتب المؤلّفة في معان شتى من القرآن.
18- الكتب المؤلّفة في تفسير القرآن.
19- الكتب المؤلّفة في اختلاف المصاحف «1» .
و «فهرست» ابن النديم، من المصادر المهمّة، لمن يريد الوقوف على ثقافة حقبة القرون الأربعة الأولى للإسلام. ويعتبر الأول من نوعه، وهو عمدة في موضوع التراجم، وأصول التأليف في هذا المضمار. وهو على اعتدال حجمه يعدّ ذخيرة قيّمة.
ولا يستطيع المتتبّع، بسهولة ويسر، أن يقف على إحصاء ما ألّفه العلماء والباحثون قديما وحديثا حول القرآن. ومن المؤلّفات الجديدة موسوعة قرآنية صدرت عن دار الرفاعي في الرياض، بعنوان: «معجم مصنّفات القرآن الكريم»
__________
(1) . تاريخ القرآن، صفحة 174- 175.(المقدمة/20)
ويقع في سبعة مجلّدات من القطع الكبير، فهرس فيها مؤلّفه ما توصّل إليه من المؤلّفات المصنّفة في تفسير القرآن وعلومه. وصدر، قبله وبعده، كثير من المعاجم القرآنية في لبنان ومصر، وفي الجمهورية الإسلامية في إيران، وسورية.
وإذا كان ابن النديم قد أحصى، في حدود سنة 377 هـ، واحدا وعشرين نوعا من المؤلّفات القرآنية، لكلّ نوع فريق من المؤلفين، فكيف لنا أن نغطّي الحقبة التي تفصلنا عنه، إذا لم نتوفّر على التواصل مع التراث جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن.
ويغوص الباحثون في كل عصر، كما حدث ويحدث، ويستخرجون اللؤلؤ من أصدافه، والمرجان من محاره، ثم يصوغونه لآلئ قرآنية مضيئة، تزين أعناق العصور الفكرية المزدهرة. وقد زيّنا بدورنا «معارف المكتبة القرآنية» بعقود منها، في هذه الموسوعة التي تعنى بخصائص السور القرآنية، بمجلدها الأول، هذا الذي تقرأه، والمجلدات اللاحقة إن شاء الله. وقد أوردنا منها ثماني خصائص كوّنت ثمانية مباحث، لأعلام السلف والخلف، وهي:
1- أهداف السورة ومقاصدها.
2- ترابط الآيات في السورة.
3- أسرار ترتيب السورة.
4- مكنونات السورة.
5- لغة التنزيل في السورة.
6- المعاني اللغوية في السورة.
7- لكل سؤال جواب في السورة.
8- المعاني المجازية في السورة.(المقدمة/21)
الجزء الأول
سورة الفاتحة(1/1)
المبحث الأول أهداف سورة «الفاتحة» «1»
تسمّى «الفاتحة» لأنّ الله عزّ وجل افتتح بها كتابه، ولأن المسلم يفتتح بها الصّلاة. وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء، فأول آيات نزلت من السماء هي الآيات الأولى من سورة «اقرأ» ، وأول سورة نزّلت من السماء هي سورة «الفاتحة» .
وتسمّى «سورة الحمد» و «أمّ الكتاب» ، و «أمّا القرآن» ، لأنها أصل القرآن، أو لأنها أفضل سورة في القرآن، فقد اشتملت على أصول العقيدة وعلى الأهداف الأساسية للقرآن، ففيها الثناء على الله وتعظيمه ودعاؤه.
وتسمّى «الشافية» لأن فيها شفاء ودواء.
وتسمّى «الصلاة» ، قال النبي (ص) :
«يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» .
يبدأ المؤمن قراءة الفاتحة بقوله:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. وتعرف الجملة الأولى بالاستعاذة، وتعرف الثانية ب «التسمية» أو «البسملة» .
وقد أمر الله بالاستعاذة عند أول كل قراءة، فقال في سورة النحل المكّيّة:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) [النحل] . وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، لأن القرآن مصدر هداية، والشيطان مصدر ضلال فهو يقف للإنسان بالمرصاد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كل سورة ومقاصدها» لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984
.(1/3)
في هذا الشأن على وجه خاص، فعلّمنا الله أن نتّقي كيده وشره بالاستعاذة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) : هي بداية مباركة لسور القرآن، ولكل عمل يعمله الإنسان، فيتجرد من حوله وقوته، ويبارك العمل باسم الله وبركة الله وقدرته.
وقد تكلم المفسّرون كثيرا في معنى البسملة وفي علاقة بعض ألفاظها ببعض. قال بعضهم: معنى «بسم الله» : بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته.
هذا تعليم من الله لعباده ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها حتى يكون الافتتاح ببركة اسمه جلّ وعزّ.
وقال الإمام محمد عبده: إنها تعبير يقصد به الفاعل إعلان تجرّده من نسبة الفعل إليه، وأنه لولا من يعنون الفعل باسمه لما فعل، فهو له وبأمره وإقداره وتمكينه، فمعنى: «أفعل كذا باسم فلان» : أفعله معنونا باسمه ولولاه ما فعلته.
قال الأستاذ الإمام: وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات، وأقربه ما يرى في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وعملا، باسم السلطان أو الخديوي فلان.
الْحَمْدُ لِلَّهِ: الحمد هو الثناء بالجميل على واهب الجميل و «الله» علم على الذات الأقدس، واجب الوجود، ذي الجلال والإكرام. وهي جملة خبرية معناها: الشكر لله، وفيها عرفان لله بالفضل والمنّة، كما ورد في الأثر: «يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك» .
وفي الفتوحات الإلهية: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الشكر لله المعبود للخواصّ والعوامّ، المفزوع إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام المحتجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته وآلائه للأنام.
رَبِّ الْعالَمِينَ (2) : الرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح والتربية.
والمتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين، أي جميع الخلائق. قال في تفسير الجلالين: «أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدوابّ وغيرهم، وكل منها يطلق عليه عالم يقال له عالم الإنس وعالم الجن، إلى غير ذلك» .
والله سبحانه لم يخلق الكون ليتركه(1/4)
هملا، وإنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه، وكل العوالم تحفظ وتتعهد برعاية رب العالمين.
والصلة بين الخالق والخلائق صلة دائمة ممتدة في كل وقت وفي كل حالة.
لقد حكى القرآن عن عقائد المشركين، وصور التّخبّط الذي كان يحيط بالبشرية في الجاهلية. فمنهم من اتّخذ أصناما يعبدها من دون الله، ومنهم من جعل الالهة المتعددة رموزا للذات الإلهية، وقالوا كما ورد في التنزيل: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . وقال القرآن عن جماعة من أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] .
وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الالهة كما يزعمون.
جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار، يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يخبط في ظلمات وظنون لا يستقر منها على يقين.
ومن ثمّ كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصوّر الذي يستقرّ عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين.
وكان من رحمة الله بالعباد إنقاذهم من الحيرة، وإخراجهم من الضلال إلى الهدى بهذا الدين الحنيف بما فيه من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق وسهولة ويسر، وتجاوب مع الفطرة.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: الرحمن:
صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، الرحيم:
صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.
ونلاحظ أن كلمة الرحمن لم تذكر في القرآن، إلا وقد أجريت عليها الصفات، كما هو شأن أسماء الذات.
قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) [الرحمن] ، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) [طه] . أما(1/5)
«الرحيم» ، فقد كثر استعمالها وصفا فعليا، وجاءت بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) [البقرة] ووَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) [الأحزاب] ووَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) [يونس] . كما جاءت الرحمة كثيرا على هذا الأسلوب وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف: 16] .
ف «الرحمن» : اسم الله يدل على قيام الرحمة بذاته سبحانه، و «الرحيم» صفة تدل على وصول هذه الرحمة إلى العباد.
تقول: فلان غني بمعنى: أنه يملك المال، وفلان كريم بمعنى أنه ينقل المال إلى الآخرين.
ورحمة الله لعباده لا حد لها، فهو الذي خلقهم وأوجدهم وسخّر لهم الكون كله وأمدّهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم هو يفتح بابه للتائبين ويعطي السائلين، ويجيب دعاء الداعين. قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) [البقرة] .
إن واجبنا أن نغرس في أبنائنا محبة الله، وأن نعوّدهم عبادته حبّا له واعترافا بفضله وإحسانه، وذلك هو منهج الإسلام. فإن الله في الإسلام، لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء، كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها، كما تصوّرها أساطير الإغريق، ولا يدبّر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في العهد القديم، كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.
فالله، في الإسلام، رحمن رحيم، ليس مولعا بالانتقام والتعذيب. وبعض النّاس يحلوا لهم أن يصوّروا الإله منتقما جبّارا لا همّ له إلّا تعذيب الناس وإلقاؤهم في نار جهنم، وهي نغمة نابية عن روح الإسلام، غريبة عن نصوصه وتشريعاته السمحة.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) : أي أن الله هو المالك المتصرّف يوم القيامة، فالناس في الدنيا يملكون ويحكمون ويتصرفون، فإذا كان يوم القيامة وقف النّاس جميعا للحساب الصغير والكبير، السّوقة والأمير، الوزير والخفير، الملك والأجير، كل الناس قد وقفوا حفاة عراة مجرّدين من كل جاه أو(1/6)
سلطان أو رتبة أو منزلة، وينادي الله سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فيكون الجواب: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) [غافر] .
ويَوْمِ الدِّينِ وهو يوم الحساب والجزاء، قال ابن عباس:
يَوْمِ الدِّينِ هو يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، إلّا من عفا عنه، فالأمر أمره. قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:
54] .
والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية، وأساس من أسس السعادة والنجاح للفرد والمجتمع.
فالمؤمن، عند ما يتيقّن أن هناك يوما للجزاء والحساب يدفعه إيمانه إلى مراقبة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه. ولهذا فإن التشريعات الإسلامية تتخذ طابعا مميّزا في التطبيق، فإن المؤمن ينفذها راغبا في ثواب الله راهبا لعقابه.
أمّا التشريعات الواضعية، فإن تنفيذها مرتبط بالخوف من السلطة. وعند ما يتأكد الشخص من بعده عن أعين السلطة، فإن هذا يهوّن عليه ارتكاب المخالفة.
أما القانون الإلهي، فإنه مرتبط بسلطة عليا لا تغيب ولا تختفي أبدا.
إنها سلطة الله الذي يعلم السر وأخفى، ويطّلع على الإنسان أينما كان وحيثما وجد.
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة] .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) :
لا نعبد إلّا إيّاك ولا نستعين إلّا بك.
فأنت المستحقّ للعبادة، وأنت نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) [الأنفال] .
ومعنى العبادة خضوع لا يحدّ لعظمة لا تحد، وهي تدل على أقصى غايات التذلّل القلبي والحب النفسي، والفناء في جلال المعبود وجماله، فناء لا يدانيه فناء.
هي سعادة المؤمن، بأنه يقف بين يدي الله خاشعا خاضعا عابدا متبتّلا،(1/7)
ذاكرا لآيات الله، معتزا بصلته بالله، مناجيا إلها سميعا بصيرا مجيبا.
والعبادة لله تحرر المؤمن من كل عبودية لغير الله، لأنه يثق بأن الله هو الخالق الرازق المعطي المانع، وأن بيده الخلق والأمر، وأن أمره بين الكاف والنون: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس] .
وإذا صدقت عبودية المؤمن لله تحرّر من عبوديته لكل العبيد، فازداد عزّا بالله، وثقة به واعتمادا عليه، وصار سعيدا بحياته، راضيا عن سعيه، واثقا بأن هناك جزاء عادلا في الاخرة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة] .
والمؤمن حين يقف بين يدي الله فيقول:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ، يحسّ سعادة أيّ سعادة، حيث يقف وهو المخلوق الضعيف ليخاطب الله القادر، بقوله:
إياك نعبد. فأنا عابد في محرابك، مستعين بك في أموري كلها.
قول عبد الله بن عباس، وابن جرير الطبري
1- عن ابن عباس، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إيّاك نوحّد ونرجو يا ربنا ونخاف، ووَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إيّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها.
2- وقال الطبري: معنى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك.
ومعنى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إيّاك، وطاعتنا لك في أمورنا كلها- لا أحد سواك، إذا كان من يكفر بك يستعين في أموره بمعبوده الذي يعبده من الأوثان دونك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) :
الصّراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وقد كثر كلام المفسرين في المراد بالصراط المستقيم.
قال ابن عبّاس: الصّراط المستقيم، هو الإسلام. وقال الإمام علي:
الصّراط المستقيم، هو كتاب الله تعالى(1/8)
ذكره. وقال أبو العالية: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) الصراط هو الطريق، والمعنى وفّقنا إلى طريق رسول الله (ص) .
وكلّ هذه الآراء تلتقي على أن معنى الصّراط المستقيم هو: جملة ما يوصل النّاس إلى سعادة الاخرة والدنيا من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم والعمل. وهو سبيل الإسلام الذي ختم الله به الرسالات السماوية، وجعل القرآن دستوره الشامل، وو كل إلى محمد (ص) تبليغه وبيانه.
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ:
أي: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصّدّيقين والشهداء، والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك.
أو هو طريق السعداء المهتدين الواصلين.
قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) [النساء] .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وهم الكافرون أو هم اليهود.
وَلَا الضَّالِّينَ: وهم المنافقون الحائرون المتردّدون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطن.
طوائف الناس أما الحق:
تعدّدت أقوال المفسرين في بيان معنى المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين، والذي نراه:
أن المنعم عليهم هم المؤمنون الصادقون والمغضوب عليهم هم الكافرون الجاحدون والضالّون: هم المنافقون الخائنون.
ودليل ذلك ما ورد في أول سورة البقرة حيث ذكرت السورة أن النّاس أمام الحق ثلاثة أقسام:
المؤمنون: وقد جرى الحديث عنهم عنهم في أربع آيات أولها:(1/9)
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) [البقرة] .
والكافرون: وقد تحدثت عنهم السورة في آيتين من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) [البقرة] .
والمنافقون: وقد تحدثت عنهم السورة في ثلاث عشرة آية تبدأ بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) [البقرة] .
في أعقاب السورة
جمع الله معاني القرآن في سورة الفاتحة، فقد اشتملت على تعظيم الله وحمده والثناء عليه، وهذا هو أصل العقيدة: الإيمان بالله والاعتقاد أن الله سبحانه، يتصف بكل كمال وينزّه عن كل نقص.
ففي النصف الأول من الفاتحة ثناء على الله بما هو أهله.
وفي النصف الثاني دعاء بالتوفيق والاستقامة على الصراط المستقيم.
فكأن الفاتحة قسمان، قسم يتوجه العبد فيه بالثناء على الله، وقسم يدعو فيه ربه ويطلب لنفسه الصلاح والهدى.
وقد ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) : «يقول تعالى قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. إذا قال العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله أثنى عليّ عبدي، فإذا قال مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) قال الله: مجّدني عبدي، وإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال:
هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» .
ولعل هذا الحديث الصحيح، يوضح سر اختيار هذه السورة المباركة، ليقرأها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصّلاة.
فكأنها في الإسم «مجمّع أشعّة» تنير(1/10)
بضوئها كل شيء، وتبسط نورها في المؤمن فيزداد يقينا وإيمانا. وهي نشيد إلهي يردده المؤمن معترفا لله بالفضل، شاكرا له جميل نعمه، مستهديا إيّاه إلى الصراط المستقيم.
والنصف الأول من السورة يتعلق بالعقيدة والفكر، والنصف الثاني يتعلق بالسلوك والعمل.
والمتتبع لأهداف القرآن الكريم، الواقف على مقاصده ومعارفه، يرى أنه جاء تفصيلا لما أجملته هذه السورة وحددته من صلاح العقيدة، واستقامة السلوك.
قال تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء] .
وقال (ص) : «ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل» .
وفي «صحيح البخاري» : أن سورة الفاتحة رقية من الداء، وشفاء من الأمراض، فكأنها شفاء حسي ومعنوي، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] .(1/11)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفاتحة» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
اختلف العلماء في تاريخ نزول الفاتحة، فقيل إنها نزلت بمكة بعد سورة «المدّثّر» ، وهو قول أكثر العلماء. وقيل إنها نزلت بالمدينة، وهو قول مجاهد. وقيل إنها نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، وسبب ذلك، التنبيه إلى شرفها وفضلها. وإذا كانت قد نزلت بعد سورة «المدّثّر» ، فهي خامسة سور القرآن في النزول. وقد نزلت بذلك في مرتبتها كفاتحة للكتاب، بعد المناسبات التي اقتضت سبق السور الأربع لها.
وبهذا تكون من السور التي نزلت بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لأن القرآن افتتح بها في مصحف عثمان، وهو المصحف الذي اعتمد على ترتيبه جمهور المسلمين، وتبلغ آياتها سبع آيات.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة لتكون من القرآن بمنزلة المقدمة للكتاب، لأن نظام التأليف يقضي بألا يفاجئ المؤلف قرّاء كتابه بمقصوده منه، بل يجب أن يبدأه على بصيرة به قبل الشروع فيه. وهذه المقدمة يجب أن تشتمل على ثلاثة أركان:
أوّلها، افتتاحها باسم الله، والحمد
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(1/13)
لله، والثناء عليه شكرا له على ذلك التأليف الذي هدى إليه.
وثانيها، إظهار الخضوع له، وبيان أنه لا عون إلّا منه سبحانه.
وثالثها، الالتجاء إليه بالدعاء لاستمداد ذلك العون.
ويجب أن تشتمل، مع هذا، على ما يسمّى براعة الاستهلال، وهي أن يؤتى قبل الشروع في المقصود بما يشعر به، ليدرك القارئ الغرض من وضع الكتاب، ويكون على بصيرة به قبل الشروع فيه.
وقد اشتملت هذه السورة على هذه الأركان الثلاثة. فجاء في أوّلها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ، فافتتحت باسم الله والثناء عليه بهذه الصفات التي تفرّد بها دون غيره. وقد كان العرب، في جاهليتهم يفتتحون كلامهم بقولهم: «باسمك اللهم» ، فاستبدل به القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ، إشارة إلى أن عهد الإسلام عهد رحمة، وهو العهد الذي يجب أن يشمل العالم كله، ويكون خاتمة العهود كلها. وهذا هو ركنها الأول.
ثم جاء فيها بعد ذلك ركنها الثاني بقوله تعالى:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) وفي ذلك إقرار بأنه لا معبود غيره، ولا عون إلّا منه.
ثم جاء ركنها الثالث بقوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) .
وفي ذلك براعة الاستهلال المطلوبة، لأنه يشير إلى أن المقصود بالقرآن وضع دين جديد للخلق، يشتمل على أحكام لا عوج فيها ولا انحراف، ويصلح ما أفسده النّاس في شرائع الله من قبل.
ولا شك أن هذه الفاتحة، بهذا الشكل، لم يسبق إليها كتاب قبل القرآن. وقد صارت بعده قدوة تتبع، وسنّة تحتذى، وكفى ذلك دليلا على فضلها وحسن ترتيبها.(1/14)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفاتحة» «1»
افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة، لأنّها جمعت مقاصد القرآن، ولذلك كان من أسمائها: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والأساس «2» . فصارت كالعنوان ببراعة الاستهلال.
قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتاب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم المفصّل في الفاتحة. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتاب المنزلة. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان «3» .
وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزّمخشري، باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله، وعلى التعبّد، والأمر والنهي، وعلى الوعد والوعيد، وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور «4» .
قال الإمام فخر الدين: المقصود من القرآن كله، تقرير أمور أربعة:
الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر.
فقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) يدل على الإلهيات، وقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . الكشّاف 1: 4 بولاق. ومن أسمائها: السبع المثاني، والقرآن العظيم، والوافية والكنز (الإتقان: 1: 189- 191) .
(3) . الشعب، 72 ورقة 87 أ. دار الكتاب المصرية.
(4) . أنظر: الكشّاف: 1: 4 وفيه (التعبد بالأمر والنهي) .(1/15)
يدل على نفي الجبر، وعلى إثبات أنّ الكل بقضاء الله وقدره. وقوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ، إلى آخر السورة، يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوات، فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة، التي هي المقصد الأعظم من القرآن «1» .
وقال البيضاوي: هي مشتملة على الحكم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء، ومنازل الأشقياء «2» .
وقال الطيبي: هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين:
أحدها: علم الأصول، ومعاقدة معرفة الله عز وجل وصفاته، وإليها الإشارة بقوله تعالى:
رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) ، ومعرفة المعاد، وهو المومى إليه بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
وثانيها: علم ما يحصل به الكمال، وهو علم الأخلاق. وأجلّه الوصول إلى الحضرة الصّمدانية، والالتجاء إلى جناب الفردانية، وسلوك طريقة الاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) .
قال: وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة، فإنّها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصّلا، فإنها واقعة في مطلع التنزيل، والبلاغة فيه: أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله، ولهذا لا ينبغي أن يقيّد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق «3» .
وقال الغزالي في «خواصّ القرآن» :
مقاصد القرآن ستة، ثلاثة مهمة، وثلاثة تتمة.
__________
(1) . مفاتيح الغيب: 1: 65.
(2) . تفسير البيضاوي: 1: 35 بحاشية الشهاب الخفاجي.
(3) . الطيبي هو: الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي الإمام المشهور، وأحد كبار علماء الحديث والتفسير واللغة.
توفي عام 743 هـ. أنظر الدرر الكامنة لابن حجر: 2: 156، والبدر الطالع للشوكاني: 1: 229، وبغية الوعاة للسيوطي: 228.
وكلامه هذا في شرح الكشاف له. مخطوط بالأزهرية. ج 1 ورقة 29 أ. [.....](1/16)
الأولى: تعريف المدعوّ إليه، كما أشير إليه بصدرها وتعريف الصراط المستقيم، وقد صرح به فيها وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى وهو الاخرة، كما أشير إليه بقوله:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
والأخرى: تعريف أحوال المطيعين، كما أشار إليه بقوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الآية 7] .
وتعريف منازل الطريق، كما أشير إليه، بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .(1/17)
المبحث الرابع مكنونات سورة «الفاتحة» «1»
1- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) :
هو يوم القيامة. أخرجه ابن جرير «2» وغيره من طريق الضحاك، عن ابن عباس.
2- صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الآية 7] :
هم النبيّون، والصّدّيقون، والشهداء والصالحون، كما فسّره في آية النساء «3» .
3- غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) :
الأول: اليهود. والثاني: النصارى.
كما أخرجه أحمد، وابن حبّان، والترمذي «4» ، من حديث عدي بن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . 1: 52.
(3) . هي قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) [النساء] .
(4) . أحمد في «المسند» 4: 378- 379، وابن حبّان (1715) ، والتّرمذي (2956) ، وقال: هذا حديث حسن غريب. وانظر الترمذي (2957) . ورواه أيضا: عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما أخرجه في «الدر المنثور» 1: 16، والطبري مجزأ 1: 16، و 64، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 6: 208: «رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير عباد بن حبيش وهو ثقة» .
وفي التعليق على «الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني» 18: 68: «وهو حديث حسن» .(1/19)
حاتم قال: قال رسول الله (ص) : «إنّ المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالّين هم النّصارى» .
وأخرجه ابن مردويه «1» من حديث أبي ذرّ.
__________
(1) . بضمّ ما قبل الواو وفتح ما بعدها، على عادة المحدثين، بخلاف النحاة فيفتحون ما قبل الواو والواو، ويسكنون ما بعدها.
انظر «تدريب الراوي» للسيوطي 1: 338- 339.
وابن مردويه هو: أبو بكر أحمد بن موسى الأصبهاني، حافظ مشهور، له «التاريخ» و «التفسير المسند» . توفي سنة (416 هـ) .(1/20)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفاتحة» «1»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) تنتهي آيات هذه السورة بصوت النون أو الميم، مسبوقين بالياء، وفي ذلك ضرب من الإتقان في البناء، يحققه هذا النمط البديع من «النظم» . وإني لأميل مع القائلين: إن البسملة هي الآية الاولى في كلام الله، فيكون العدد سبع آيات.
إنّ «الفاتحة» هي أمّ القرآن، ومن أجل ذلك حفلت بالأفكار الكبرى، التي تميّز بها دين الله، أي الإسلام، وهي أنه- عزّ اسمه- ربّ العالمين، الرحمن الرحيم،. وهو وحده الذي يختصّ بالعبادة، وهو وحده المستعان، وفي هذه الآية الخامسة نجد «إيّاك» وقد قدّمت على الفعلين «نعبد» و «نستعين» .
وقد أشار أهل العلم إلى أن التقديم مؤذن بأنه، وحده، تقدّست أسماؤه، مخصوص بالعبادة، وهو المستعان لا يشاركه في ذلك غيره، وهذا كله مستفاد من هذه الطريقة في بناء الجملة، وما كان من «التقديم» الذي أشرنا إليه. وإني لأرى أن التقديم قد حقق أيضا غرضا أسلوبيا وهو الحفاظ على «النظم» ، الذي يوفره ورود الآي على الميم والنون في أواخر الفواصل.
وقد تحقّق ضرب من التساوق البديع
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(1/21)
في تقديم «إيّاك» على الفعلين كما بيّنا، وفي ذلك كلّه اتّفاق في النّظم، يتحقق في جماع مواد هذه السورة: ثمّ ماذا؟
إن طول الآيات كلها قدر يكاد يكون متساويا في مادته وبهذا ضرب من التوافق والانسجام يخدم هذا البناء المتساوق في مادّته ومن أجل هذا يعمد أهل التلاوة إلى الوقوف على قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ في الآية السابعة وقفة قصيرة، ليتحقّق نمط من التساوي في طول الآي.(1/22)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفاتحة» «1»
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) : «اسم» (في التسمية) صلة زائدة، زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك، لأن أصل الكلام «بالله» »
. وحذفت الألف من «بسم» من الخط تخفيفا لكثرة الاستعمال، واستغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط. فلو كتبت «باسم الرحمن» أو «باسم القاهر» لم تحذف الألف.
والألف في «اسم» ألف وصل، لأنك تقول: «سمّي» وحذفت لأنها ليست من اللفظ «3» .
وقوله: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [المائدة: 12] فهذا موصول لأنك تقول: «ثني عشر» . وقوله: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60] موصول: لأنك تقول: «ثنتي عشرة» ، وقال إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما [يس: 14] ، وقال: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم: 28] ، لأنك تقول في «اثنين» : «ثنين» وفي «امرئ» فتسقط الألف. وإنما زيدت لسكون الحرف الذي بعدها لما أرادوا استئنافه فلم يصلوا إلى الابتداء بساكن، فأحدثوا هذه الألف ليصلوا إلى الكلام
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . الجامع 1: 99.
(3) . البحر 1: 16 والجامع 1: 99 والمشكل 1: 65، 66 وإعراب القرآن 1: 3. وأقوال الأخفش هذه مستفادة من كتب، غير معاني القرآن، تتناول ما سقط من الموضوعات في مقدمة الفاتحة.(1/23)
بها. فإذا اتصل (الكلام) بشيء قبله استغنى عن هذه الألف. وكذلك كل ألف كانت في أول فعل أو مصدر، وكان «يفعل» «1» من ذلك الفعل ياؤه مفتوحة فتلك ألف وصل، نحو قوله:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا. لأنك تقول: (يهدي) فالياء مفتوحة.
وقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة: 16 و 175] ، وقوله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] ، وقوله:
وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص] ، وأشباه هذا في القرآن كثيرة. والعلة فيه كالعلة في «اسم» ، و «اثنين» وما أشبهه لأنه لما سكن الحرف الذي في أول الفعل، جعلوا فيه هذه الألف ليصلوا إلى الكلام به إذا استأنفوا، أي: إذا ابتدءوا.
وكل هذه الألفات اللواتي في الفعل إذا استأنفتهنّ، أي إذا ابتدأت بهن، كنّ مكسورات، فإذا استأنفت، أي إذا ابتدأت، قلت: (اهدنا الصراط) و (ابن لي) و (اشتروا الضلالة) ، إلا ما كان منه ثالث حروفه مضموما فإنك تضم أوله إذا استأنفت، تقول: (أركض برجلك) [ص: 42] ، وتقول (أذكروا الله كثيرا) [الأنفال: 45] ، وإنما ضمّت هذه الألف، إذا كان الحرف الثالث مضموما، لأنهم لم يروا بين الحرفين إلا حرفا ساكنا، فثقل عليهم أن يكونوا في كسر ثم يصيروا إلى الضم، فأرادوا أن يكونا جميعا مضمومين إذا كان ذلك لا يغيّر المعنى.
وقالوا في بعض الكلام في «المنتن» : «منتن» . وإنما هي من «أنتن» فهو «منتن» ، مثل «أكرم» فهو «مكرم» .
فكسروا الميم لكسرة التاء. وقد ضم بعضهم التاء فقال «منتن» «2» لضمة الميم وقد قالوا في «النّقد» «3» : «النّقد»
__________
(1) . عبر ب «يفعل» عن الفعل المضارع وهذا ديدن الأوائل من النحاة والمعربين.
(2) . ذكر ابن منظور في اللسان كسر الميم والتاء، ولم ينسبهما لغتين ونقل رأي ابن جني فيهما، ورأي الجوهري ورأي أبي عمرو في ذلك (نتن) وفي البيان 1: 24 نقل الرأي في الاتباع بالكسر ولم ينسبه.
(3) . في الأصل: النقد، وليس ذلك صوابا بدلالة ما بعده من قوله فكسروا النون لكسرة القاف. والنقد صفة الضرس إذا ائتكل وتكسر فهو نقد «اللسان نقد» ولم يذكر لغة الاتباع ومن يأخذ بها. وجاء في خلق الإنسان للأصمعي:
يقال نقدت أسنان فلان فهي تنقد نقدا وهو أن يقع فيها القادح،. وقال الشاعر هو صخر الغي:
تيس تيوس إذا يناطحها ... يألم قرنا أرومه نقد
يعني: أصله قد نقد أي انكسر مما يناطح: و «الأروم» جمع «الأرومة» .(1/24)
فكسروا النون لكسرة القاف. وهذا ليس من كلامهم إلا فيما كان ثانيه أحد الأحرف الستة نحو «شعير» . والأحرف الستة هي: الخاء والحاء والعين والغين والهمزة والهاء.
وما كان على «فعل» «1» مما هي في أوله هذه الألف الزائدة فاستئنافه، أي الابتداء به أيضا مضموم نحو: (اجتثّت من فوق الأرض) [إبراهيم: 26] لأن أول «فعل» أبدا مضموم، والثالث من حروفها مضموم.
وما كان على «أفعل أنا» «2» ، فهو مقطوع الألف وإن كان من الوصل، لأن «أفعل» فيها ألف سوى ألف الوصل، وهي نظيرة الياء في «يفعل» .
وفي كتاب الله عز وجل ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ، وأَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل: 39 و 40] ووَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف: 54] «3» .
وما كان من نحو الألفات اللواتي ليس معهن اللام في أول «اسم» ، وكانت لا تسقط في التصغير فهي مقطوعة تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال نحو قوله: هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ [ص: 23] ، وقوله يا أَبانا [يوسف: 11 و 17 و 63 و 65] ، وقوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) [المدّثّر] ، وقالَتْ إِحْداهُما [القصص: 26] ، وحَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ [المؤمنون: 99] ، لأنها إذا صغّرت ثبتت الألف فيها، تقول في تصغير «إحدى» : «أحيدى» ، و «أحد» :
«أحيد» ، و «أبانا» : «أبينا» وكذلك «أبيان» و «أبيون» . وكذلك (الألف في قوله) مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة:
100] ، أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا [البقرة: 246] ، لأنك تقول في «الأنصار» : «أنيصار» ، وفي «الأبناء» «أبيناء» و «أبينون» .
وما كان من الألفات في أول فعل أو مصدر، وكان «يفعل» من ذلك الفعل ياؤه مضمومة، فتلك الألف مقطوعة، تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال، نحو قوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] ، لأنك تقول: «ينزل» . فالياء مضمومة. ورَبَّنا آتِنا [البقرة:
__________
(1) . يقصد أن يكون الفعل مبنيا للمجهول.
(2) . يقصد أن يكون الفعل مبنيا للمتكلم مضارعا. [.....]
(3) . وفي الأصل ائتوني بالياء.(1/25)
200] «1» ، تقطع لأن الياء مضمومة، لأنك تقول: «يؤتي» . وقال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: 83] «2» ووَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل: 90] لأنك تقول:
«يؤتي» ، و «يحسن» . وقوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:
54] «3» ، ووَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) [يونس] «4» ، فهذه موصولة لأنك تقول: «يأتي» ، فالياء مفتوحة، إنما الهمزة التي في قوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ همزة كانت من الأصل في موضع الفاء من الفعل، ألا ترى أنها ثابتة في «أتيت» وفي «أتى» لا تسقط.
وسنفسر لك الهمز في موضعه إن شاء الله. وقوله: (آتنا) يكون من «آتى» و «آتاه الله» ، كما تقول: «ذهب» و «أذهبه الله ويكون على أعطنا» .
وقال: فَآتِهِمْ عَذاباً [الأعراف: 38] على «فعل وأفعله» غيره.
وأما قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ فوصلت هذه الأسماء التي في أوائلها الألف واللام حتى ذهبت الألف في اللفظ.
وذلك لأن كل اسم في أوله ألف ولام زائدتان، فالألف تذهب إذا اتصلت بكلام قبلها. وإذا استأنفتها كانت مفتوحة أبدا، لتفرق بينها وبين الألف التي تزاد مع غير اللام، ولأن الألف واللام هما حرف واحد ك «قد» ، و «بل» . وإنما تعرف زيادتهما بأن تروم ألفا ولا ما أخريين تدخلهما عليهما.
فإن لم تصل إلى ذلك عرفت أنهما زائدتان. ألا ترى أن قولك: «الحمد لله» وقولك: «العالمين» وقولك «التي» و «الذي» و «الله» لا تستطيع أن تدخل عليهنّ ألفا ولا ما أخريين؟ فهذا يدل على زيادتهما، فكلما اتصلتا بما قبلهما ذهبت الألف، إلا أن توصل بألف الاستفهام فتترك مخففة، (و) لا يخفف فيها الهمزة إلا ناس من العرب قليل، وهو قوله آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس:
59] وقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) [النمل] وقوله آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس: 91] .
__________
(1) . سورة البقرة، آية: 200 و 201 وسورة الكهف، آية: 10.
(2) . وسورة النساء، آية 36، وسورة الأنعام، آية: 151. وسورة الإسراء، آية: 23.
(3) . وجاءت الهمزة مكتوبة ياء.
(4) . وجاءت الهمزة مكتوبة ياء.(1/26)
وإنما مدت في الاستفهام ليفرق بين الاستفهام والخبر. ألا ترى أنك لو قلت وأنت تستفهم: «الرجل قال كذا وكذا» فلم تمددها صارت مثل قولك «الرجل قال كذا وكذا» إذا أخبرت؟
وليس سائر ألفات الوصل هكذا.
قال أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) [الصافّات] ، وقال أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] . فهذه الألفات مفتوحة مقطوعة، لأنها ألفات استفهام، وألف الوصل التي كانت في «اصطفى» و «افترى» قد ذهبت، حيث اتصلت الصاد (والفاء) بهذه الألف التي قبلها للاستفهام. وقال من قرأ هذه الآية كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ [ص] فقطع ألف «أتخذناهم» فإنما جعلها ألف استفهام وأذهب ألف الوصل التي كانت بعدها، لأنها إذا اتصلت بحرف قبلها ذهبت. وقد قرئ هذا الحرف موصولا «1» ، وذلك أنهم حملوا قوله أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) [ص] على قوله ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) [ص] .
وما كان من اسم في أوله ألف ولام تقدر أن تدخل عليهما ألفا ولاما أخريين، فالألف من ذلك مقطوعة تكون في الاستئناف، أي في ابتداء الكلام، على حالها في الاتصال، نحو قوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] «2» لأنك لو قلت «الإله» فأدخلت عليها ألفا ولاما جاز ذلك.
«ألواح» و «إلهام» و «إلقاء» مقطوع كله، لأنه يجوز إدخال ألف ولام أخريين.
فأما «إلى» ، فمقطوعة ولا يجوز إدخال الألف واللام عليها لأنها ليست باسم، وإنما تدخل الألف واللام على الاسم.
ويدلك على أن الألف واللام في «إلى» ليستا بزائدتين، أنّك إنّما وجدت الألف واللام تزادان في الأسماء، ولا تزادان في غير الأسماء، مثل «إلى» و «ألّا» .
ومع ذلك تكون ألف «إلى» مكسورة وألف اللام الزائدة لا تكون مكسورة.
__________
(1) . نسبت في الطبري 23: 181 إلى عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض قراء مكة، وهي الراجحة عنده، وفي السبعة 556 والكشف 2: 233 والتيسير 188 إلى أبي عمرو والكسائي، وفي البحر 7: 407 سماهم بالنحويين وحمزة، وفي الجامع 15: 225 زاد ابن كثير والأعمش وفي حجة ابن خالويه 381 بلا نسبة.
(2) . والآيات: 59 و 65 و 73 و 85، وسورة هود، الآيات: 50 و 61 و 84.(1/27)
وأما قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ فرفعه على الابتداء. وذلك أن كل اسم ابتدأته لم توقع عليه فعلا من بعده فهو مرفوع، وخبره إن كان هو إيّاه، فهو أيضا مرفوع، نحو قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وما أشبه ذلك. وهذه الجملة تأتي على جميع ما في القرآن من المبتدأ فافهمها. فإنما رفع المبتدأ ابتداؤك إياه، والابتداء هو الذي رفع الخبر في قول بعضهم «1» ، [و] كما كانت «أنّ» تنصب الاسم وترفع الخبر فكذلك رفع الابتداء الاسم والخبر.
وقال بعضهم: «رفع المبتدأ خبره» وكلّ حسن، والأول أقيس.
وبعض العرب يقول (الحمد لله) «2» فينصب على المصدر، وذلك أن أصل الكلام عنده على قوله «حمدا لله» يجعله بدلا من اللفظ بالفعل، وكأنه جعله مكان «أحمد» حتى كأنه قال:
«أحمد حمدا» ثم أدخل الألف واللام على هذه.
وقد قال بعض العرب (الحمد لله) «3» فكسره، وذلك أنه جعل بمنزلة الأسماء التي ليست بمتمكنة «4» ، وذلك أن الأسماء التي ليست بمتمكّنة تحرّك أواخرها بحركة واحدة لا تزول علّتها، نحو «حيث» جعلها بعض العرب مضمومة على كل حال، وبعضهم يقول «حوث» «5» و «حيث» «6» ضم وفتح.
ونحو «قبل» و «بعد» جعلتا مضمومتين على كل حال. وقال الله تبارك وتعالى:
__________
(1) . هو رأي البصريين في كتاب «الإنصاف» 1: 3.
(2) . نسبت في معاني القرآن 1: 3 إلى أهل البدو في الشواذ (1) زاد رؤبة أيضا وفي الجامع 1: 135 زاد سفيان بن عيينة عليه. وزاد في البحر 1: 18 هارون العتكي عليهما.
(3) . نسبت في معاني القرآن 1: 3 إلى أهل البدو أيضا. وفي إعراب ثلاثين سورة 18 إلى الحسن ورؤبة، وفي الشواذ 1 كذلك، وفي المحتسب 1: 37 أهمل رؤبة وزاد ابراهيم بن أبي عبلة وزيد بن علي. وقصرت في الإبانة 75 على الحسن وفي الجامع 1: 136 أسماه الحسن بن أبي الحسن وزاد عليه زيد بن علي وقصرت في البحر 1: 8 على الحسن وزيد بن علي أيضا.
(4) . يرى بعضهم في هذه القراءة أن: تفسيرها المقبول هو أنها جرت اتباعا لحركة اللام، كما ضمت اللام اتباعا لضمّة الدال في قراءة بعضهم.
(5) . حار ابن منظور في اللسان (حيث) في نسبة: حوث إلى طيّئ. أو تميم وأورد عن اللحياني أنها لغة طيّئ وحدها.
(6) . في الأصل: «حيث» و «حوث» بتقديم «حيث» وإنما أخرت عن أختها لقوله فيما بعدها ضم وفتح.(1/28)
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: 4] فهما مضمومتان إلا أن تضيفهما، فإذا أضفتهما صرفتهما. قال تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الحديد: 10] وكَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [التوبة: 69] ووَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] وقال مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] وذلك أن قوله أَنْ نَبْرَأَها اسم أضاف إليه (قبل) وقال مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ [يوسف: 100] وذلك أن قوله أَنْ نَزَغَ [يوسف: 100] اسم هو بمنزلة «النزغ» ، لأن «أن» الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة اسم، فأضاف إليها «بعد» . وهذا في القرآن كثير.
ومن الأسماء ما ليس متمكّنا، قال الله عز وجل: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي [الحجر: 68] وها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمران: 119] مكسورة على كل حال.
فشبهوا «الحمد» وهو اسم متمكن في هذه اللغة بهذه الأسماء التي ليست بمتمكنة، كما قالوا «يا زيد» . وفي كتاب الله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] هو في موضع النصب، لأن الدعاء كله في موضع نصب، ولكن شبه بالأسماء التي ليست بمتمكّنة فترك على لفظ واحد، يقولون: «ذهب أمس بما فيه» «1» و «لقيته أمس يا فتى» «2» ، فيكسرونه في كل موضع في بعض اللغات. وقد قال بعضهم: «لقيته الأمس الأحدث» فجرّ أيضا، وفيه ألف ولام، وذلك لا يكاد يعرف.
وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) [النجم] ، وسمعنا من العرب من يقول: «هي اللات قالت ذلك» فجعلها تاء في السكوت، و «هي اللات فاعلم» جرّ في الموضعين. وقال بعضهم «من الآن إلى غد» فنصب لأنه اسم غير متمكن. وأما قوله: اللات فاعلم فهذه مثل «أمس» وأجود، لأن الألف واللام التي في «اللات» لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا في «اللات والعزى» في السكت عليها ف «اللاة» «3» لأنها هاء فصارت تاء
__________
(1) . من أمثال العرب، الفاخر 216 354 ومجمع الأمثال 1451. [.....]
(2) . نسب البناء على الكسر إلى أهل الحجاز، بينما نسب إلى تميم لغة عدم الصرف فيه. اللسان (أمس) .
(3) . في معاني القرآن 3: 97 أنها للكسائي وفي الجامع 17: 101 أن الدوري أخذها عن الكسائي، وأن البزّي أخذها عن ابن كثير، فقرأ بها.(1/29)
في الوصل وهي في تلك اللغة مثل «كان من «1» الأمر كيت وكيت» .
وكذلك «هيهات» في لغة من كسر. إلّا أنه يجوز في «هيهات» أن تكون «2» جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث، ولا يجوز ذلك في اللات «3» ، لأن «اللات» و «كيت» لا يكون مثلهما جماعة، لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، فإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد «4» .
وزعموا أنّ من العرب من يقطع ألف الوصل. أخبرني من أثق به أنه سمع من يقول: «يا ابني» فقطع. وقال قيس بن الخطيم «5» (من الطويل وهو الشاهد الأول) :
إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنشر وتكثير الوشاة قمين «6»
وقال جميل «7» (من الطويل وهو الشاهد الثاني) :
ألا لا أرى إثنين أكرم شيمة ... على حدثان الدهر منّي ومن جمل «8»
وقال الراجز «9» (وهو الشاهد الثالث) :
يا نفس صبرا كلّ حي لاق ... وكل إثنين إلى فراق
__________
(1) . ساقطة في الجامع 17: 101.
(2) . في الصحاح «ليست» : يكون بالياء.
(3) . في الصحاح (هـ هيه) : «في اللات والعزى» .
(4) . نقله في الصحاح «ليت وهيه» والجامع 17: 101.
(5) . هو قيس بن الخطيم الأوسي. انظر ترجمته في الأغاني 3: 159، دار الكتاب المصرية، وطبقات الشعراء 228 ومعجم الشعراء 196 والموشح 116.
(6) . في الكامل 2: 703 أنه لجميل بن عبد الله بن معمر بلفظ «بنث» وإفشاء الحديث قمين وفي الصحاح «ثنى» بلفظ «بنث» معزوّا إلى قيس بن الخطيم وفي اللسان «ثنى» و «نث» و «قمن» كذلك وفي الأمالي 2: 177 و 2: 202 كذلك.
(7) . هو جميل بن عبد الله بن معمر شاعر الغزل. انظر ترجمته في الأغاني 7: 77 بولاق والشعر والشعراء 434 وطبقات الشعراء 669 والموشح 311.
(8) . ديوان جميل بثينة 181 بلفظ أحسن بدل أكرم. وفي اللسان «ثنى» كذلك.
(9) . في الخصائص 2: 475 بلا عزو وفي الهمع 157 العجز بلا عزو أيضا وفي الدرر 216 كذلك وقال «ولم أعثر على قائل هذا البيت ولا تتمته» ويمكن حمل الأبيات كلها على الضرورة.(1/30)
وهذا لا يكاد يعرف.
وأما قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) فإنه يجرّ، لأنه من صفة «الله» عزّ وجلّ.
وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ جر باللام كما انجرّ قوله:
رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) : لأنه من صفة قوله لِلَّهِ فإن قيل: «وكيف يكون جرّا وقد قال» :
إِيَّاكَ نَعْبُدُ فلأنه، إذا قال في غير القرآن: «الحمد لما لك يوم الدين» ، فإنه ينبغي أن يقول: «إياه نعبد» ، فإنما هذا على الوحي. وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي (ص) فقال: «قل يا محمد» : الْحَمْدُ لِلَّهِ وقل: «الحمد لما لك يوم الدين» وقل يا محمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
وقد قرأها قوم (مالك) «1» نصب على الدعاء وذلك جائز، يجوز فيه النصب والجر، وقرأها قوم (ملك) «2» إلّا أن «الملك» اسم ليس بمشتق من فعل نحو قولك: «ملك وملوك» وأما «المالك» فهو الفاعل كما تقول: «ملك فهو مالك» مثل «قهر فهو قاهر» .
وأما فتح نون الْعالَمِينَ، فإنها نون جماعة، وكذلك كل نون جماعة زائدة على حد التثنية أي على غرارها، فهي مفتوحة. وهي النون الزائدة التي لا تغيّر الاسم عمّا كان عليه: نحو نون «مسلمين» و «صالحين» و «مؤمنين» .
فهذه النون زائدة لأنك تقول: «مسلم» و «صالح» فتذهب النون، وكذلك
__________
(1) . الطبري 1: 152 بلا عزو وفي 1: 154 لم يجزها وفي إعراب ثلاثين سورة 23 إلى أبي هريرة وفي الشواذ (زاد عمر بن عبد العزيز) وفي الإبانة 75 إلى أبي الصالح ومحمد بن السميفع اليماني وفي المشكل 8 أورد جواز النصب ولم يعزه وفي الجامع 1: 139 إلى محمد بن السميفع وفي البحر 1: 20 إلى الأعمش وابن السميفع وعثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند وعمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وأبي عبد الملك الشامي.
(2) . في الطبري 1: 156 إلى ابن عبّاس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي الكريم.
وفي حجّة ابن خالويه 38 بلا نسبة وفي إعراب ثلاثين سورة 22 كذلك وفي الشواذ (بكسر اللام) إلى أبي حياة وشريح، وبسكونها إلى عبد الوارث عن ابن عمرو وفي حجّة الفارسي (5) إلى غير عاصم ولا الكسائي و (6) إلى عاصم. وفي الإبانة 73 و 75 و 76 والكشف 1: 25 و 27 و 28 و 29 و 32، تفصيل في أمرها. وفي الشكل (8) بلا نسبة وفي التيسير 18 إلى غير عاصم والكسائي، وفي البحر 1: 20 تفصيل في أمرها.(1/31)
«مؤمن» قد ذهبت النون الاخرة، وهي المفتوحة، وكذلك «بنون» . ألا ترى أنك إنما زدت على «مؤمن» واوا ونونا، وياء ونونا، وهو على حاله لم يتغيّر لفظه، كما لم يتغيّر في التثنية حين قلت «مؤمنان» و «مؤمنين» . إلّا أنك زدت ألفا ونونا، أو ياء ونونا للتثنية. وإنّما صارت هذه مفتوحة ليفرّق بينها وبين نون الاثنين. وذلك أن نون الاثنين مكسورة أبدا، قال تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ [المائدة: 23] وقال أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما [يس: 14] والنون مكسورة.
وجعلت الياء للنصب والجرّ، نحو «العالمين» و «المتقين» فنصبهما وجرّهما سواء، كما جعلت نصب «الاثنين» وجرّهما سواء ولكن كسر ما قبل ياء الجميع وفتح ما قبل ياء الاثنين ليفرق ما بين الاثنين والجميع، وجعل الرفع بالواو ليكون علامة للرفع، وجعل رفع الاثنين بالألف.
وهذه النون تسقط في الإضافة كما تسقط نون الاثنين، نحو قولك، «بنوك» «ورأيت مسلميك» فليست هذه النون كنون «الشياطين» و «الدهاقين» و «المساكين» . لأن «الشياطين و «الدهاقين» و «المساكين» «1» نونها من الأصل ألا ترى أنك تقول: (الشيطان) و «شييطين» و «دهقان» «دهيقين» و «مساكين» و «مسيكين» فلا تسقط النون.
فأمّا «الذين» ، فنونها مفتوحة، لأنك تقول: «الذي» فتسقط النون لأنها زائدة، ولأنك تقول في رفعها:
«اللذون» لأن هذا اسم ليس بمتمكن مثل «الذي» . ألا ترى أن «الذي» على حال واحدة. إلا أن ناسا من العرب يقولون: «هم اللذون يقولون كذا وكذا» . جعلوا له في الجمع علامة للرفع، لأن الجمع لا بد له من علامة، واو في الرفع وياء في النصب والجر وهي ساكنة. فأذهبت الياء الساكنة التي كانت في «الذي» لأنه لا يجتمع ساكنان، كذهاب ياء «الذي» إذا أدخلت الياء التي للنصب، ولأنهما علامتان للإعراب، والياء في قول من قال «هم الذين» مثل حرف مفتوح أو مكسور بني عليه اسم وليس فيه
__________
(1) . حار الأشموني بين هذيل وعقيل في نسبة هذه اللغة 1: 158. [.....](1/32)
إعراب. ولكن يدلّك على أنه المفتوح أو المكسور في الرفع والنصب والجر الياء التي للنصب والجر لأنها علامة للإعراب.
وقد قال ناس من العرب «الشياطون» «1» لأنهم شبهوا هذه الياء التي كانت في «شياطين» إذا كانت بعدها نون، وكانت في جمع وقبلها كسرة، بياء الإعراب التي في الجمع.
فلما صاروا إلى الرفع أدخلوا الواو.
وهذا يشبه «هذا جحر ضبّ خرب» فافهم.
وأما قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الآية 5] ولم يقل (أنت نعبد) فلأنّ هذا موضع نصب، والله أعلم. وإذ لم يجز، في موضع النصب على الكاف أو الهاء وما أشبه ذلك من الإضمار الذي يكون للنصب، جعل «إيّاك» أو «إيّاه» أو نحو ذلك ممّا يكون في موضع نصب. قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً [سبأ: 24] لأنّ هذا موضع نصب، تقول: «إنّي أو زيدا منطلق» . وضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] . هذا في موضع نصب.
كقولك: «ذهب القوم إلا زيدا» . (و) إنما صارت (إياك) في إِيَّاكَ نَعْبُدُ في موضع نصب من أجل (نعبد) وكذلك:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) «2» أيضا.
وإذا كان موضع رفع جعلت فيه (أنت) و «أنتما» و «أنتم» و «هو» و «هي» وأشباه ذلك.
وأما قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) فبمعنى: «عرفنا» ، وأهل الحجاز يقولون: «هديته الطريق» أي: عرفته، وكذلك «هديته البيت» في لغتهم، وغيرهم يلحق به «إلى» ، ثم قال:
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الآية 7] نصب على البدل. و (أنعمت) مقطوع الألف لأنك تقول «ينعم» فالياء مضمومة فافهم. وقوله:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الآية 7] هؤلاء صفة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
__________
(1) . لم أعثر على من تكلّم بهذه اللغة، ولكن جاء في اللسان «شطن» : وقرأ الحسن وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) [الشعراء] . قال ثعلب: «هو غلط منه» وقال في ترجمة «جنن» : «المجانين» جمع «المجنون» أمّا «مجانون» فشاذ كما شذّ: «شياطون» في «شياطين» .
(2) . في الصحاح «هدى» نقل هذا الرأي الأخفش.(1/33)
لأن «الصراط» مضاف إليهم، فهم جر للإضافة. وأجريت عليهم «غير» «1» صفة أو بدلا. و «غير» و «مثل» قد تكونان من صفة المعرفة التي بالألف واللام، نحو قولك، «إنّي لأمرّ بالرجل غيرك وبالرجل مثلك فما يشتمني» ، و «غير» و «مثل» إنّما تكونان صفة للنكرة، ولكنهما قد احتيج إليهما في هذا الموضع فأجريتا صفة لما فيه الألف واللام. والبدل في «غير» أجود من الصفة، لأنّ «الذي» و «الذين» لا تفارقهما الألف واللام، وهما أشبه بالاسم المخصوص من «الرجل» وما أشبهه.
و «الصراط» فيه لغتان، السين والصاد، إلا أنّا نختار الصاد، لأنّ كتابتها على ذلك في جميع القرآن «2» .
وقد قال العرب «هم فيها الجمّاء الغفير» فنصبوا، كأنهم لم يدخلوا الألف واللام، وإن كانوا قد أجروهما كما أجروا «مثلك» و «غيرك» كمجرى ما فيه الألف واللام، وإن لم يكونا في اللفظ. وإنما يكون وصفا للمعرفة التي تجيء في معنى النكرة. ألا ترى أنك إذا قلت: «إنّي لأمرّ بالرجل مثلك» إنما تريد «برجل مثلك» . لأنك لا تحدّد له رجلا بعينه ولا يجوز إذا حددت له ذلك، إلّا أن تجعله بدلا ولا يكون على الصفة. ألا ترى أنه لا يجوز «مررت بزيد مثلك» إلا على البدل.
ومثل ذلك: «إني لأمرّ بالرجل من أهل البصرة» ولو قلت: «إني لأمرّ بزيد من أهل البصرة» لم يجز إلا أن تجعله في موضع حال. فكذلك غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) . في التهذيب «غير» رأي الأخفش في هذا البداية وفي إيضاح الوقف والابتداء 1: 477 أنه يراه نصبا على الاستثناء وفي البحر 1: 29، كذلك وفي إعراب القرآن 1: 10 أضاف إلى ذلك أنه نصب على الحال.
(2) . جاء في لسان العرب (سرط) أن الصاد في «الصراط» لغة وأن السين هي الأصل، وأن عامة العرب تقولها بالسين، وقريش الأولون تقولها بالصاد. وفي السبعة 105 نسبت القراءة بالسين إلى ابن كثير أبي عمرو في رواية، وفي حجّة الفارسي 1: 37 إلى ابن كثير وابن عمرو ونسب إليهما كذلك القراءة بالصاد وفي الإبانة 13 و 73 إلى ابن كثير في رواية قنبل وفي 13 أيضا أنها لحمزة في رواية خلف وفي التيسير 18 و 19 إلى قنبل وفي البحر 1: 25 إلى قنبل ورويس، وفي حجة الفارسي 1: 37 قراءة الصاد إلى أبي بكر وفي الإبانة 13 غير ابن كثير وحمزة وفي التيسير 19 إلى غير قنبل وخلف وخلاد وفي البحر 1: 25، إلى الجمهور في إعراب ثلاثين سورة 28 بلا نسبة وفي الجامع 1: 148 كذلك.(1/34)
وقد قرأ قوم (غير المغضوب عليهم) «1» جعلوه على الاستثناء الخارج من أول الكلام، ولذلك تفسير سنذكره إن شاء الله، وذلك أنه إذا استثنى شيئا ليس من أول الكلام في لغة أهل الحجاز فإنه ينصب [و] يقول «ما فيها أحد إلا حمارا» وغيرهم يقول: «هذا بمنزلة ما هو من الأول» فيرفع. فذا يجر غَيْرِ الْمَغْضُوبِ في لغته «2» .
وإن شئت جعلت «غير» نصبا على حال وبها نكرة والأول معرفة. وإنما جرّ لتشبيه (الذي ب «الرجل» ) .
__________
(1) . في الطبري 1: 83 أورد شذوذ هذه القراءة، وأورد رأي الأخفش هذا، وفي السبعة 112 نسبت إلى النبي الكريم وعمر بن الخطاب والخليل بن أحمد عن أبن كثير وفي الإبانة 76 إلى ابن كثير برواية الخليل بن أحمد، وفي المشكل 12 كذلك، وأضاف إليه «وغيره» وزاد في البحر 1: 39 عمر وابن مسعود والإمام علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزّبير.
(2) . قراءة الجرّ في حجّة الفارسي 105 إلى نافع وعامر وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير بخلاف، وفي المشكل 11 علّل الجرّ، ولم ينسبه، وفي البحر 1: 29 إلى الجمهور.(1/35)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفاتحة» «1»
إن قيل: الرحمن أبلغ في الوصف بالرحمة من الرحيم، بالنقل عن الزّجّاج وغيره، فلم قدّمه؟ وعادة العرب من صفات المدح الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالم نحرير، لأنّ ذكر الأعلى أولا ثمّ الأدنى لا يتجدّد فيه بذكر الأدنى فائدة، بخلاف عكسه؟
قلنا: قال الجوهري وغيره: إنهما بمعنى واحد كنديم وندمان، فعلى هذا لا يرد السؤال. وعلى القول الأول إنما قدّمه، لأن لفظ الله اسم خاص بالباري تعالى لا يسمّى به غيره، لا مفردا ولا مضافا فقدّمه، والرّحيم يوصف به غيره مفردا ومضافا فأخّره، والرحمن يوصف به غيره مضافا، ولا يوصف به مفردا إلا الله تعالى، فوسّطه.
قلنا: الواو لا تدل على الترتيب، أو المراد بهذه العبادة التوحيد، وهو مقدّم على أداء العبادات.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(1/37)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفاتحة» «1»
قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
استعارة على أحد التأويلين، لأنّ الصراط في أصل اللغة اسم للطريق.
وهو هاهنا كناية عن الدّين، لأن الدين مؤدّ إلى استيجاب الثواب واستدفاع العقاب، فهو كالنهج المسلوك إلى مظنّة «2» النجاة والسلامة، ودار الأمن والإقامة. ولما جعل سبحانه الدّين، كالطريق القاصد، والمنهج الواضح، أقام إرشاده إليه ودلالته عليه، مقام الدليل يدل على السّمت «3» ، والهادي الذي يهدي إلى القصد، فقال سبحانه:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) .
والتأويل الثاني في الصراط، يخرج الكلام عن حيّز الاستعارة، وهو أن يكون المراد به المجاز المسلوك الى الجنّة والنّار، على ما جاءت به الأخبار فكأنهم سألوه سبحانه توفيقهم منجاته «4» ومأمنه.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي» ، تحقيق محمد علي مقلد، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1968.
(2) . من ظن مظنّة الشيء: موضعه ومألفه الذي يظن فيه وجوده.
(3) . من سمت: لزم السّمت: أي الطريق سار على الطريق بالظن. ومنه قوله: وهنّ إلى البيت سوامت: أي قواصد.
(4) . وجدت غير واضحة في الأصل.(1/39)
سورة البقرة 2(1/41)
المبحث الأول أهداف سورة «البقرة» «1»
سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم. لقد استغرقت جزءين ونصفا من ثلاثين جزءا يتكوّن منها القرآن.
ولذلك كان الرجل إذا حفظ سورة البقرة عظم في عيون المسلمين. وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعدد آياتها (286) آية وعدد كلماتها 6121 كلمة.
قصة التسمية
سمّيت سورة البقرة بهذا الاسم لأنّها انفردت بذكر حادثة قتل وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام وكان للبقرة، وهي الحيوان المعروف الذي اتّخذ بنو إسرائيل من نوعه إلها في وقت مّا يعبدونه من دون الله، كان لها شأن إلهيّ عجيب في هذه الحادثة.
لقد وقعت الجناية وقتل القتيل واختلف أهل الحي الذي وقعت الجناية بينهم في: من يكون القاتل. وأخذ كلّ يدفع الجناية عن نفسه ويتّهم بها غيره، وفيهم من يعلم عين الجاني ويكتم أمره.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) .
وترافع القوم إلى موسى عليه السلام ليحكم في هذه الجناية التي خفي مرتكبها.
سأل موسى ربّه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل بلسانها، فيحيا، فيخبر بقاتله. وبسبب ما طبع عليه بنو إسرائيل من العناد في تنفيذ الأوامر فقد وقفوا كالسّاخرين أو الهازئين من الأمر
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كل سورة ومقاصدها» لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(1/43)
بذبح البقرة في هذا المقام، حتى لقد قالوا لموسى كما ورد في التنزيل:
أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ [الآية 67] .
وما كان لنبيّ الله أن يسخر أو يهزأ، ولكنّها القلوب الملتوية تنصرف عن الحق وتعاند في قبوله، فسألوه عن البقرة:
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ [الآية 68] ما لَوْنُها [الآية 69] .
وأكثروا من السؤال وشدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، وسألوا موسى، ما هذه البقرة: أكما عهدنا هذا الجنس من الحيوان، أم هي خلق آخر تفرّد بمزيّة، واختصّ بإعجاز؟ فأوضح الله سبيلهم وبيّن أنّها بقرة لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بين ذلك، فليفعلوا ما يؤمرون.
وبيّن الله لهم أنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين وقال:
بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها [الآية 71] .
وأخيرا وبعد حيرة ومشقّة عثروا عليها.
كانت البقرة ملكا لشيخ كبير فقير، وكان عبدا صالحا زاهدا فلم يترك من المال سوى بقرة واحدة كان يأخذها إلى المرعى ثم يتوجه إلى بارئه بقلب خالص ونفس ثابتة فيقول: اللهم إنّي استودعتك إيّاها لا بني حتّى يكبر. وما زال الرجل يترقرق في صدره هذا الأمل القوي بنور الله حتى مات.
وبقيت البقرة لابنه اليتيم. واستمرّ اليتيم، يرعى البقرة، يحدوه شعاع من الأمل ورثه من الصالحات الباقيات لأبيه.
ولما أمر الله بني إسرائيل بذبح البقرة، وشدّد عليهم في صفاتها ولونها وسنها، ووجد القوم أنّ هذه الصفات لا تنطبق إلّا على بقرة هذا اليتيم الذي بارك الله له فيها، اشتروها منه بمال وفير، وذبحوها، وضربت جثة القتيل ببعض أعضائها، فتمت إرادة الله، وحدثت المعجزة، وأحيا الله القتيل، ونطق باسم قاتله. قال تعالى:
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(73) .
ثم قست قلوب اليهود بعد أن شاهدوا هذه المعجزة فصارت قلوبهم كالحجارة أو أشدّ قسوة. وبدل أن يهتدوا بهذه الآية إلى طريق الإيمان،(1/44)
أشاحوا عن الحقّ وساروا في الضّلال، وقتلوا الأنبياء وحرّفوا كلام الله، ودبّروا الفتن والدسائس. وقد حذّرنا الله من كيدهم، وأمرنا ألّا نصغي إلى فتنتهم وتفرقتهم، وأن نأخذ الحذر منهم وأن نعدّ العدّة لمقاومتهم واستخلاص الحقوق المغتصبة من أيديهم. قال رسول الله (ص) : «لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ أحدهم «وراء» الحجر فيقول الحجر يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله» .
وفي قصة البقرة عبرة للمشدّدين فإنّ الله أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا بقرة.
فلو بادروا إلى ذبح أيّ بقرة لأجزأتهم، ولكنهم تشدّدوا في تعرّف صفاتها، فكانوا كلّما طرحوا سؤالا زيدوا تشديدا حتّى صارت البقرة نادرة.
وفي الأثر: «لا تكونوا كبني إسرائيل شدّدوا فشدّد عليهم» .
وفي القرآن: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) [الأعراف] .
الأهداف العامة لسورة البقرة
سورة البقرة من أجمع سور القرآن الكريم، وقد اشتملت على الأهداف الآتية:
1- بيان أصول العقيدة وذكر أدلّة التوحيد ومبدأ خلق الإنسان.
2- بيان أصناف الخلائق أمام هداية القرآن. وقد ذكرت أنّهم أصناف ثلاثة:
المؤمنون، والكافرون، والمنافقون.
3- تعرضت السورة لتاريخ اليهود الطويل، وناقشتهم في عقيدتهم، وذكّرتهم بنعم الله على أسلافهم، وبما أصاب هؤلاء الأسلاف حينما التوت عقولهم عن تلقي دعوة الحق من أنبيائهم السابقين، وارتكبوا من صنوف العناد والتكذيب والمخالفة. واقرأ في ذلك قوله تعالى في السورة.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) .
إلى آخر آية البر في منتصف السورة تقريبا وهي:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الآية 177] .
وهذا الغرض من أغراض السورة استدعاه جوار المسلمين لليهود في المدينة.
4- والنصف الأخير من سورة البقرة اشتمل على التشريع الإسلامي الذي(1/45)
اقتضاه تكوّن المسلمين جماعة متميزة عن غيرها، في عبادتها ومعاملاتها وعاداتها.
وقد ذكرت السورة من ذلك القصاص في القتل العمد، وذكرت الصيام والوصية والاعتكاف، والتحذير من أكل أموال الناس بالباطل. وذكرت الأهلّة وأنّها جعلت ليعتمد الناس عليها في أوقات العبادة والزراعة غيرها، وذكرت الحجّ والعمرة، وذكرت القتال وسببه الذي يدعو إليه، وغايته التي ينتهي إليها. وذكرت الخمر والميسر واليتامى، وحكم مصاهرة المشركين وذكرت حيض النساء والتطهر منه والطلاق والعدّة والخلع والرّضاع. وذكرت الأيمان وكفّارة الحنث فيها، وذكرت الإنفاق في سبيل الله، وذكرت البيع والربا، وذكرت طرق الاستيثاق في الديون بالكتابة والاستشهاد والرهن. ويبدأ هذا السياق من قوله تعالى بعد آية البر:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] .
إلى ما قبل آخر السورة. وكان يتخلل كل ذلك- على طريقة القرآن- ما يدعو المؤمنين إلى التزام هذه الأحكام وعدم الاعتداء فيها، من قصص ووعد ووعيد، وإرشاد إلى سنن الله في الكون والجماعات، ثم تختم سورة البقرة ببيان عقيدة المؤمنين على نحو ما بدأت في بيان أوصاف المتقين.
ونجد في آخر السورة قوله تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) ومن ثم يتناسق البدء والختام وتتجمّع موضوعات السورة وأهدافها، ويؤكد آخرها أولها وتصير السورة كتلة واحدة، ينتفع المسلمون بها في تنظيم أحوالهم في العبادات والمعاملات.
وهي دعامة من دعائم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر قال تعالى:(1/46)
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11] .
أصناف الخلق أمام دعوة الإسلام
جهر عليه الصلاة والسلام بدعوته في مكة. ولمّا يئس من انتشار الدعوة بمكة هاجر إلى المدينة. وهناك بنى مسجده واتخذه مقرّا لنشر الدعوة. وقد آمن به أهل المدينة ولقّبوا ب «الأنصار» ، وأصبحت للإسلام قوة جديدة ولم يبق بيت من بيوت المدينة إلا دخله الإسلام. ولما كانت سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، استمرّ نزول آياتها بضع سنين، فقد عنيت بذكر أصناف الناس أمام دعوة الإسلام فقسّمتهم إلى ثلاثة أصناف.
الصنف الأول: المؤمنون، وقد وصفهم الله بخمس صفات هي:
الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، وإخراج الزكاة والصدقات، والإيمان بالكتب والرسل، واليقين الكامل بالحساب والجزاء.
وهم بهذه الصفات أهل لهداية الله، وللفلاح والرشاد.
الصنف الثاني: الكافرون، وقد وصفهم القرآن بأنّهم فقدوا الاستعداد لقبول الحق بسبب فساد فطرتهم، وإحكام الغشاوة على قلوبهم، وانسداد مسالك الفهم والإدراك في وجدانهم، وقد سمّاهم القرآن بالكافرين والفاسقين والخاسرين والضالّين.
هؤلاء الكفار سدّت عليهم منافذ الخير وسبل الهداية، وأعلنوا الكفر والعناد.
وهذان الصنفان كثيرا ما تحدث القرآن عنهما في سورة المكيّة وسوره المدنيّة، لأنّ الدعوة الإسلامية لم تخل في مرحلة من مراحلها من مؤمن بها، مصدق لها، كافر بها جاحد لآياتها.
الصنف الثالث: المنافقون، ووجود هذه الطائفة نشأ بعد الهجرة إلى المدينة ودخول الأنصار في الإسلام وظهور قوة المسلمين وبخاصة بعد غزوة بدر، فاضطر نفر من الكبراء أن يتظاهروا باعتناق الدين الجديد، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم قبيل وصول الإسلام إلى المدينة. وقد وصفتهم سورة البقرة بالنفاق والتلوّن وألقت عليهم الأضواء، وذكر المنافقون في سورة التوبة بصفات متعددة، منها(1/47)
التخلف عن الجهاد والتظاهر بالإيمان، والتخلي عن تبعاته. ولا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم، ولفت الأنظار إلى أوصافهم، وتحذير المؤمنين من كيدهم وخداعهم.
اليهود في المدينة
في ثنايا الحملة على المنافقين، الذين في قلوبهم مرض، نجد إشارة إلى شياطينهم. والظاهر من سياق سورة البقرة، ومن سياق الأحداث في السيرة، أنّها تعني اليهود الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم. أما قصتهم أمام الإسلام في المدينة فيمكن تلخيصها بما يأتي:
كان لليهود مركز ممتاز في المدينة، بسبب أنهم أهل كتاب بين الأمّيين من العرب- الأوس والخزرج- وكان اليهود يثيرون الفرقة والخصام بين الأوس والخزرج، فلما جاء النبي (ص) إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار، وقضى على الخلاف والنزاع بين الأوس والخزرج، بسبب أخوّة الإسلام ووحدة المسلمين.
وقد اشتد حقد اليهود وحسدهم للنبي (ص) . لقد حسدوه مرتين: مرة لأن الله اختاره رسولا من ولد إسماعيل، وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.
على أنه كان هناك سبب آخر لعداوة اليهود للإسلام منذ الأيام الأولى، ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف، وإلا فعليهم أن يستجيبوا للدعوة الجديدة، ويذوبوا في المجتمع الإسلامي، وهما أمران- في تقديرهم- أحلاهما مر.
لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية موقف التكذيب والإنكار، رغم يقينهم بصدقها.
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) .
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) .(1/48)
وقد استغرق الجزء الاول من سورة البقرة دعوة اليهود للدخول في دين الله مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى عليه السلام.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) .(1/49)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البقرة» «1» تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة البقرة بعد سورة المطفّفين، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وأطول سورة في القرآن، فيكون نزولها فيما بين الهجرة وغزوة بدر.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لأنّ قصة بقرة بني إسرائيل ذكرت فيها، وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية.
الغرض منها وترتيبها
لما هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة، أظهر له أحبار اليهود فيها العداوة بغيا وحسدا، ومال إليهم المنافقون من الأوس والخزرج، فكان أولئك الأحبار يسألونه ويتعنّتونه ويأتونه باللّبس ليلبسوا الحق بالباطل، فنزلت سورة البقرة في أولئك الأحبار وفي ما يسألون عنه، وفي أولئك المنافقين الذين مالوا إليهم، وفي ما نزل من أحكام العبادات والمعاملات بعد استقرار الإسلام بالمدينة، وبعد أن صار بها للمسلمين جماعة تحتاج إلى هذه الأحكام في أمر دينها ودنياها.
فيكون الغرض المقصود من هذه السورة الرد على أولئك الأحبار ومن مال إليهم من المنافقين، وبيان فساد ما شغبوا به في أمر القرآن، وفي أمر النّبيّ (ص) ، وقد جرّ هذا إلى ذكر كثير من أمورهم، بعضها جرى مجرى الترغيب، بعضها مجرى الترهيب، ثم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبدا المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(1/51)
تخلص من هذا إلى بيان ما نزل على المسلمين في هذا العهد من الأحكام اللازمة لهم في عباداتهم ومعاملاتهم.
وقد ابتدأت هذه السورة بإثبات نزول القرآن من عند الله، ليكون تمهيدا لبيان فساد ذلك الشّغب الذي قام في امره وفي أمر النّبيّ (ص) ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الفاتحة، فضلا عن أنّها أطول سورة في القرآن.
دعوة تنزيل القرآن الآيات [1- 22]
قال الله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) فذكر أنّ القرآن نزل قطعا من عنده، وأخذ في التنويه بشأنه، فذكر أنّه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، إلى غير هذا ممّا ذكره من أوصافهم، ثم ذكر مخالفيهم من أحبار اليهود والمنافقين، ووصف نفاق المنافقين من المشركين أشنع وصف، وضرب في شناعة أمرهم المثل بعد المثل، ثم أمرهم أن يعبدوه لأنّه هو الذي خلقهم والذين من قبلهم، وجعل لهم الأرض فراشا والسماء بناء وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) .
الاستدلال على تنزيل القرآن الآيات [23- 25]
ثم قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فأقام الدليل على تنزيل القرآن من عنده بتحدّيهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأمرهم أن يدعوا في ذلك آلهتهم ليعينوهم على الإتيان به، ثمّ حذرهم من الاستمرار في الكفر بعد ذلك التحدّي، وبشّر المؤمنين بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) .
الردّ على مقالة اليهود الأولى في القرآن الآيات [26- 90]
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فردّ على مقالتهم الأولى، وذلك أنّه لما(1/52)
ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وذكر النحل والنمل قال اليهود: ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وقال المنافقون: لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء. فردّ عليهم بأنّه لا يستحيي أن يضرب ذلك مثلا، وقد كانت العرب تضرب الأمثال بمثل هذا، فتقول: هو أحقر من ذرّة، وأجمع من نملة.
ثم ذكر أنّ المؤمنين يعلمون أنّه الحق من ربهم، وأنّ الكافرين ينكرون ويضلّون به، لأنهم فاسقون ينقضون ما أخذ عليهم من العهد لأول خلقهم أن يؤمنوا بما يأتيهم من هديه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من اتّباع دينه، ويفسدون في الأرض بالقتل والغصب والنهب وسائر أنواع الفساد، ثم أنكر على المنافقين منهم أن يكفروا به مع أنهم كانوا أمواتا فأحياهم إلخ، ومع أنّه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا إلخ.
ثم انتقل السّياق من هذا إلى ذكر قصة آدم ليمهّد بها إلى ذكر ما أخذه من العهد عليهم عند خلقهم، ولهذا ختمها بقوله: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) .
ثمّ انتقل السّياق من توبيخ المنافقين على كفرهم به إلى توبيخ اليهود الذين يزيّنون لهم هذا الكفر، ويؤثرونهم على النّبيّ (ص) وهو يدعو إلى الإيمان به، وفي هذا مشاركة لهم في كفرهم به، فأخذ يذكرهم بنعمته عليهم، ويأخذهم تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، ويذكر في هذا ما مضى من أحوالهم وأخبارهم، فأمرهم أولا أن يذكروا نعمته عليهم، وأن يفوا بالعهد الذي أخذه عليهم فلا يؤثروا من يكفر به على من يؤمن به، وأن يؤمنوا بالقرآن الذي نزل مصدّقا لما معهم، ونهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل بمثل تلك المقالة في إنكار ما ضربه مثلا من الذباب ونحوه، إلى غير هذا ممّا أمرهم به ونهاهم عنه.
ثم أمرهم سبحانه ثانيا أن يذكروا نعمته عليهم وتفضيله لهم على العالمين، وأن يتّقوا يوما لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا، وأخذ يذكّرهم ببعض نعمه عليهم وبعض ما مضى من أحوالهم وأخبارهم، فذكر أنّه نجاهم من آل فرعون، وكانوا يسومونهم سوء(1/53)
العذاب من ذبح الأبناء واستحياء النساء، وأنّه فرق بهم البحر فأنجاهم وأغرق آل فرعون، وأنّه وعد موسى أربعين ليلة فعبدوا العجل من بعده فعفا عنهم، ولم يعاقبهم بما عاقب به من قبلهم، وأنّه أنزل على موسى التوراة لهدايتهم، وأنه أمرهم بقتل أنفسهم لعبادتهم العجل ثم نسخ ذلك الأمر رحمة بهم، وأنّهم قالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الآية 55] فأخذتهم الصاعقة عقوبة لهم. ثم بعثهم من بعد موتهم وظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسّلوى، وأنه أمرهم أن يدخلوا بيت القدس على حالة مخصوصة فبدّلوا في ذلك وغيّروا، فأخذ من بدّل وغيّر بما أخذه به، وأنّ موسى استسقى لهم فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدد أسباطهم، وأنّهم لم يصبروا على طعام واحد في تيههم (المنّ والسلوى) فطلبوا منه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض بقلا وقثّاء وبصلا، فأمرهم بأن يهبطوا مصرا من الأمصار ليجيبهم إلى سؤالهم، وذكر أنّ مثل هذا ممّا ضربت به عليهم الذّلة والمسكنة، وممّا كان سببا في غضب الله عليهم، لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيّين بغير الحق، ويرتكبون من العصيان والاعتداء ما ترتكبون، وقد استطرد من هذا إلى ذكر حسن جزائه لمن آمن به من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين، جمعا بين الوعد والوعيد، وذكرا للترغيب بعد الترهيب.
ثم عاد السياق فذكر أنّه سبحانه أخذ عليهم ميثاقهم أن يؤمنوا به، ورفع فوقهم الطور عند أخذه عليهم، فنقضوا ميثاقهم وكفروا به، ولولا فضله عليهم لأهلكهم بذلك كما أهلك من قبلهم، وذكر أنّهم يعلمون الذين اعتدوا منهم في السبت فمسخوا قردة جزاء لهم على اعتدائهم، وأنّ موسى ذكر لهم أنّ الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة فلم يبادروا إلى امتثال أمره، بل أخذوا يطلبون منه أن يسأل ربه ما هي؟ فأجابهم بأنّها بقرة لا فارض ولا بكر، ثم طلبوا منه أن يسأله ما لونها؟ فأجابهم بأنّها بقرة صفراء فاقع لونها، ثم طلبوا منه أن يسأله ثانيا ما هي؟ فأجابهم بأنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها، فذبحوها بعد كل هذا وما كادوا يفعلون. ثم ذكر بعد هذا معجزتها في النفس التي قتلوها ولم(1/54)
يعرفوا قاتلها، وأنّ قلوبهم قست بعد هذه المعجزة، حتى صارت كالحجارة، أو أشد قسوة.
ثم ذكر أنّ مثل هؤلاء لا يصح للنّبيّ (ص) وأصحابه أن يطمعوا في إيمانهم، لأنهم في ذلك مثل أسلافهم.
فمنهم من يسمع بشارة التوراة بالنّبيّ (ص) ، ثم يحرفها من بعد ما عقلها وعرفها، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا أنّ صاحبكم نبي، ولكن إليكم خاصّة. وإذا خلا بعضهم إلى بعض تعاتبوا على هذا الإقرار مع ما فيه من التحريف. ومنهم أمّيّون جهلاء لا يعلمون التوراة إلّا أمانيّ يمنّيهم بها أحبارهم، فيزعمون أنّ الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأنّ النار لا تمسّهم إلّا أياما معدودة بقدر أيام الخلق، وهي ستة أيام، ثم ردّ عليهم ذلك بأنّ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فهو مخلّد في النار، ومن آمن وعمل صالحا فهو مخلّد في الجنّة. ثم ذكر لهم بعضا من سيئاتهم، وأنه أخذ عليهم ميثاقهم أن يخصوه بالعبادة ويحسنوا إلى الوالدين وذي القربى، إلى غير هذا بما أخذ ميثاقهم عليه، فتولّوا عنه إلّا قليلا منهم، وأنّه أخذ عليهم ميثاقهم ألّا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا فريقا منهم من ديارهم، فخالفوا هذا أيضا، ثم ذكر أنّ جزاء من يفعل ذلك إنّما هو الخزي في الدنيا، ويوم القيامة يردّ إلى عذاب أشدّ من عذاب دنياه.
ثم أخذ السياق يوبّخهم على كفرهم واعتيادهم له من قديمهم، فذكر أنّهم كانوا كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا عليه، فرسولا يكذّبون ورسولا يقتلون. ثم ذكر أنّهم لما جاءهم القرآن أنكروه على عادتهم، مع أنّه جاء مصدّقا لما معهم، ومع أنّهم كانوا من قبله يستفتحون على مشركي العرب بالرسول المنتظر، فلمّا جاءهم ما كانوا ينتظرونه كفروا به حسدا أن يكون هناك رسول من غيرهم فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) .
الردّ على مقالتهم الثانية الآيات [91- 96]
ثم قال تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ(1/55)
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(91) فذكر مقالتهم الثانية في القرآن، وهي زعمهم أنهم مأمورون ألّا يؤمنوا إلّا بما أنزل إليهم، وقد ردّ عليهم بأن القرآن أتى مصدّقا لما معهم، وبأنهم قتلوا أنبياءهم وقد أتوهم بما أنزل إليهم، وبأنّ موسى أتاهم بالتوراة فعبدوا العجل حين غاب عنهم أربعين يوما، وبأنه أخذ ميثاقهم أن يأخذوا ما أتاهم بقوة ويسمعوا له، فقالوا سمعنا وعصينا ولم ينزعوا عبادة العجل من قلوبهم، وبأنّهم لو كانوا هم المخصوصين بالآخرة حتى لا تكون رسالة في غيرهم لتمنّوا الموت استعجالا لثوابها، وهم لا يتمنّونه أبدا خوفا من سوء أعمالهم، وما يعلمه الله من كفرهم وظلمهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) .
الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [97- 105]
ثم قال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) فذكر مقالتهم الثالثة، وهي طعنهم في القرآن بأنّه نزل به جبريل وهو عدوهم، لأنّه ينزل بالشدة والقتال، وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء، فردّ عليهم بأنّ جبريل إنّما نزّله بإذنه، وهدّدهم على هذه العداوة لله وملائكته، وذكر أنّه أنزل من ذلك آيات بيّنات لا يكفر بها إلّا الفاسقون، ثمّ وبّخهم على نقض عهدهم مع النّبي (ص) بطعنهم في القرآن، وعلى أنّهم ينبذونه وراء ظهورهم وهو مصدّق لما معهم، ويتبعون ما ينسبونه زورا إلى سليمان وهاروت وماروت من كتب السحر ونحوها، فيستعملونها في الأعمال السحرية كالتفريق بين الرجل وزوجه، ويتعلّمون منها ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولو أنّهم آمنوا بالقرآن بدل الايمان بها لكان خيرا لهم، ثم حذّر المؤمنين من مشاركتهم في بعض كفرهم، وكانوا يقولون للنّبي (ص) :
(راعنا) إذا تلا عليهم شيئا من العلم ليتمهل عليهم، فأمروا أن يقولوا بدلها:
(انظرنا) ليخالفوهم في مقالتهم، ثم حذّر المؤمنين من اتباعهم في هذا أو(1/56)
نحوه فقال: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) .
الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [106- 110]
ثم قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) ، فذكر مقالتهم الرابعة في القرآن، وهي طعنهم في معجزته، وقول بعضهم للنّبي (ص) : يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء فقرأه، وفجّر لنا أنهارا، نتّبعك ونصدقك. فذكر لهم أنه سبحانه لا ينسخ آية من آيات الرسل أو ينسيها باية أخرى إلّا كانت الأخرى خيرا من الأولى أو مثلها، وأنّه هو الذي يتصرف في تلك الآيات كيف يشاء بما له من ملك السماوات والأرض، وأنّه لا شريك له في ذلك الملك، ثم وبّخهم وذكر أنهم يتعنّتون بسؤال هذه الآيات كما تعنت أسلافهم على موسى بسؤال مثلها، ثم حذّر المؤمنين من انخداعهم بتعنّتهم في ذلك، وذكر أنّهم يودّون به أن يردّوهم كفارا حسدا لهم على إيمانهم، وأمرهم أن يعفوا ويصفحوا حتى يأتيهم بأمره فيهم، إنّ الله على كل شيء قدير وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) .
الرد على مقالتهم الخامسة الآيات [111- 117]
ثم قال تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) فذكر مقالتهم الخامسة، وهي قول اليهود والنصارى كما ورد في التنزيل: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى لأنه لا دين إلّا دينهم. وقد ردّ عليهم بأنّ تلك أمانيّ لا دليل عليها، وبأنّ كل من آمن به وأحسن في عمله فله أجره عنده لو لم يكن يهوديا أو نصرانيا، وبأنّ كلّا من اليهود والنصارى يطعن في دين الاخر، ولا يسلّم بأنّه يدخل الجنّة، مع أنّهم جميعا يتلون التوراة، وبأنّ المشركين الذين لا علم عندهم يزعمون أيضا أنّ الاخرة لهم، وبأنّهم(1/57)
يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ويسعون في خرابها، ومثله لا يصح له أن يزعم أنّه لا يدخل الجنة غيره، وإنّما جزاؤه الخزي في الدنيا، وله في الاخرة عذاب عظيم. ثم ذكر أنّ له المشرق والمغرب، وأنّ الناس أينما يولّوا وجوههم فثمّ وجهه، فلا يصحّ أن يسعى في خراب المساجد لاختلاف قبلتها، كما فعل النصارى مع اليهود في بيت المقدس. ثمّ ذكر، إلى هذا، من قبائح النصارى، أنهم يزعمون أنّ لله ولدا، وهو من الكفر الذي لا يصحّ لصاحبه أن يطمع في دخول الجنة، وردّ عليهم هذا بأنّ له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) .
الرد على مقالتهم السادسة الآيات [118- 134]
ثم قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) فذكر مقالتهم السادسة، وهي قول بعضهم للنّبي (ص) : يا محمد، إن كنت رسولا من الله، كما تقول، فقل لله فليكلمنا حتّى نسمع كلامه. وقد ردّ عليهم بأنّ هذا من التعنّت الذي يسلكه من جاء قبلهم مع رسلهم، وبأنه قد أرسله بالحق بشيرا ونذيرا، وليس عليه إلّا أن يبلّغه، ولا يسأل بعد هذا عن تعنّتهم وكفرهم، لأنّهم لا يرضون عنه حتى يتّبع ملتهم، ولأنّ الهدى هداه ولو شاء لهداهم، وبأنّ المنصفين منهم يؤمنون بما أنزل إليه، ويعرفون أنه الرسول المبشّر به. ولما كانت هذه شهادة منهم وفيها أكبر حجة عليهم، عاد السياق إلى تذكيرهم ثالثا بنعمته سبحانه عليهم وتفضيلهم على العالمين، وتخويفهم من يوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ليحملهم على الإقرار بهذه الشهادة، ثم شرع في ذكر قصة إبراهيم وإسماعيل (ع) وبنائهما البيت بمكّة، إلى أن ذكر دعاء إبراهيم له أن يبعث في أهلها رسولا منهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، ليدلّهم على موضع البشارة به في كتبهم، ويحملهم على الإقرار بها كما أقرّ بها من آمن منهم. ثمّ ذكر لهم أنّ الملّة هي ملّة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلّا من سفه نفسه، وهي دين التوحيد الخالص الذي(1/58)
أسلم فيه لرب العالمين، ووصّى بنيه به من بعده، وكذلك وصّى يعقوب بنيه به أيضا، ثمّ ختم ذلك بأنّ ما قصّه من أمرهم، وما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد لا يعود نفعه إلّا إليهم، ولا ينتفع اليهود والنصارى بانتسابهم إليهم لمخالفتهم لهم تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) .
الرد على مقالتهم السابعة الآيات [135- 141]
ثم قال تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) ، فذكر مقالتهم السابعة، وهي قول بعضهم للنّبيّ (ص) : ما الهدى إلّا ما نحن عليه، فاتّبعنا يا محمّد تهتد. وقد قالت النصارى مثل ذلك أيضا، فجمع مقال الفريقين ليرد عليهم جميعا، ثم ردّ عليهم بأمره (ص) أن يقول لهم: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي بل نتبع ملة إبراهيم الخالصة من الشرك الذي وقعوا فيه، وبأمره المسلمين أن يقولوا لهم:
آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ (136) ، فإن آمنوا بذلك ولم يفرقوا بين أحد من الأنبياء، فقد اهتدوا إلى الدين الذي يجمعهم، وإن لم يؤمنوا به فسيبقون على ما هم فيه من شقاق، وهذا الدين هو صبغة الله لا ما صارت إليه اليهودية والنصرانية، ثم أمر النّبيّ (ص) أن يذكر لهم أنّه إنّما يدعوهم إلى الإيمان بربهم، أفيحاجون فيه وهو ربهم جميعا، أم يقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، والله يعلم أنّهم لم يكونوا كذلك تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) .
الرد على مقالتهم الثامنة الآيات [142- 177]
ثم قال تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) ، فذكر مقالتهم الثامنة، وهي قول بعضهم بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: يا محمد، ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك. وإنّما(1/59)
يريدون بذلك فتنته عن دينه، فأمر النّبي (ص) أن يردّ عليهم بأنّ المشرق والمغرب لله يولّي إليهما من يشاء، وبأنّه بهذه القبلة يجعلهم أمة وسطا بين أمم الشرك بالشرق، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى بالغرب، ليكونوا شهداء عليهم بعد تبليغهم دينهم، وبأنّه لم يعد بالقبلة إلى ما كانت عليه قبل الهجرة إلّا ليميّز بين المؤمنين الصادقين الذين يعلمون أنها الحق، والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويتأثّرون بتلك المقالة، وبأنّ قبلة بيت المقدس لم تكن القبلة اللائقة بالمسلمين، ولهذا كان النّبي (ص) يقلّب وجهه بالدعاء لتحوّل قبلتهم إلى الكعبة والمنصفون من أهل الكتاب يعلمون أنها الحق من ربهم. أما غيرهم، فلا يؤمنون بها وإن أتا هم بكل آية عليها. غير أنّهم مختلفون في قبلتهم، فإذا اتّبع قبلة بعضهم أغضب غيرهم.
ثمّ ذكر أنّ لكل أمة قبلة هو مولّيها، فليستبق المسلمون إلى الخيرات من الأعمال الصالحة، لأنّها هي المقصود الأهمّ، وشأن القبلة دون شأنها. ثم أمره أن يولّي وجهه شطر المسجد في أي مكان كان لأنه الحق منه، وأمر المسلمين أن يتّبعوه في ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة، وكان اليهود يقولون: لم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتّى هديناه. وكان أكثر العرب يقولون: إنه كان يقول على ملة إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم.
ثم ذكر حكمة ثانية لذلك، وهي أن يتمّ عليهم نعمته بجعل كعبتهم قبلتهم، كما جعل رسولهم منهم، ثم أمرهم أن يقابلوا ذلك بذكره وشكره وأن يستعينوا على ذلك بالصبر والصلاة والجهاد في سبيله، فإذا أصابهم في ذلك شيء من الخوف والجوع ونحوهما، فليصبروا عليه ليكون لهم بشرى الصابرين، ثم ختم ذلك ببيان أن الصفا والمروة من شعائر الله بالمسجد الحرام الذي أمروا بالتوجّه إليه، وكان الأنصار من أهل المدينة كارهين أن يطوّفوا بينهما.
ولما انتهى السياق من الرد عليهم في ذلك، شرع في تهديدهم على كتمان ما جاء في التوراة من البشارة بالنّبيّ (ص) ، فذكر أنّ من يفعل ذلك منهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وأنّ من(1/60)
تاب منهم عن الكتمان وآمن يقبل الله توبته، ومن أصرّ على الكفر استحقّ تلك اللعنة، ثم شرع يوبخ اليهود على انقيادهم لأولئك الأحبار الذين يكتمون عنهم ذلك، واتخاذهم أندادا من دون الله، فذكر سبحانه لهم أنّ إلههم واحد لا شريك له، وأنّ في خلق السماوات والأرض وغيرهما آيات دالّة على تفرّده بالألوهية، فلا يليق بهم أن يتّخذوا أحبارهم الذين يكتمون عليهم ذلك أندادا من دونه، فيحبّوهم كحبّه ولا يعصوهم في شيء. ولو يرون ما أعدّ لهم من العذاب لتدبّروا في أمرهم، لأنّهم حين يرونه تتقطع بهم الأسباب، ويتبرّأ المتبوعون من التابعين، فلا يمنعون عنهم شيئا من العذاب. ويودّ التابعون لو أنّ لهم كرّة إلى الدنيا لتبرءوا منهم كما تبّرأوا منهم، ثم أمرهم بعد هذا التحذير البالغ من أحبارهم أن يأكلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبا، ولا يتّبعوا خطواتهم في ما يحرمون عليهم من الطيبات، لأنّهم يتّبعون بهذا خطوات الشيطان وهو أشدّ أعدائهم، ويقولون على الله ما لا يعلمون تقليدا لأحبارهم، ولكنّهم إذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله من حل تلك الطيبات، أبوا إلّا تقليد أولئك الأحبار، ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، ومثل من يدعوهم إلى ذلك كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء ونداء، ولا يفهم ممّا يدّعي به شيئا.
ثم ترك دعاءهم إلى ذلك لأنّه لا يرجى صلاحهم، وأمر المؤمنين بما أمر به أولئك المخالفين، وأن يشكروه على ما أحلّ من ذلك، وذكر لهم أنّه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم وما ذكر معهما، ثم عاد السياق إلى أولئك الأحبار فذكر أنّهم يكتمون ما أنزل الله من البشارة بالنّبي (ص) ، ويشترون بهذا ثمنا قليلا من دنياهم، وهددهم بأنهم يأكلون به نارا في بطونهم، وينالون به غضبه عزّ وجلّ عليهم في أخراهم، إلى غير هذا ممّا ذكره في تهديدهم ثم ذكر أنّهم استحقوا ذلك بأنّه نزّل القرآن بالحق فلم يؤمنوا به، ووقعوا في ذلك الشغب والشقاق البعيد، وهو الذي جاء في تلك المقالات التي ردّت عليهم.
ثم ختم ذلك الجدال معهم بأنّ ما يتعلقون به من أمر القبلة لا يذكر فيما يجب من البرّ، ولكن البرّ من آمن بالله واليوم والاخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال، على حبه، ذوي(1/61)
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، إلى غير هذا من أنواع البرّ، ثم مدح من جمع ذلك كله فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .
حكم القصاص الآيتان [178- 179]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] ، فشرع في بيان الأحكام التي أراد ذكرها في هذه السورة، وذلك بعد أن حاجّ اليهود، ومهّد لذلك بأنّ المهم هو ما جاء به القرآن من الأحكام، لا ما تعلّقوا به من أمر القبلة ونحوه، ولا شك أنّ في هذا ما تستشرف به النفس لبيانها، وتتطلّع إلى معرفة بعضها، وقد بدأ منها بحكم القصاص الذي يراد به حفظ النفس، وهو من أهم أغراض الشرائع. وقد كان اليهود يوجبون فيه القتل فقط، وكان العرب لا يقتصرون على قتل القاتل، فأتى الإسلام فيه بالقصاص العادل، وندب إلى أخذ الدّية والعفو عن القاتل، ثم ختمه بما في القصاص من الفوائد العظيمة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) .
حكم الوصية الآيات [180- 182]
ثم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) وكانوا قبل الإسلام يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة، فجعل الوصية لهم لأنّهم أولى بمال قريبهم. ثم حذّر من تبديل الوصية إلّا إذا كان فيها جنف أو إثم فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) .
حكم الصيام الآيات [183- 187]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) فذكر أنّه أوجب عليهم الصوم كما أوجبه على الذين من قبلهم، وأنه في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وأوجب الفدية على من لا يطيق الصوم فيه لمرض أو نحوه، وندب إلى إحيائه بالتكبير والذكر والدعاء، ثم ذكر أنه أحلّ لهم ليلة الصيام الرفث والأكل(1/62)
والشرب إلى طلوع الفجر، إلى أن قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) .
تحريم الكسب الحرام الآية [188]
ثم قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الآية 188] ، فحرّم أن يأكل بعضهم أموال بعض بالباطل، وأن يرشوا بها الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون.
حكم الأهلة الآية [189]
ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الآية 189] ، وقد سألوه عن الأهلّة ما بالها تبدو دقيقة كالخيط ثم تزيد حتّى تمتلئ وتستوي ثم تنقص حتّى تعود كما بدت؟ فأجابهم ببيان حكمها، وهو أنّها مواقيت للناس والحج، لأنه لم يبعث إليهم ليعلمهم مثل ذلك من علم الفلك ثم ضرب لسؤالهم مثلا من يأتي البيوت من ظهورها، وكنّى بهذا عن العدول عن الطريق الصحيح في السؤال ثمّ أمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها، ويتّقوه، لعلّهم يفلحون.
حكم القتال الآيات [190- 196]
ثم قال تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) ، فأذن لهم في قتال من يقاتلهم، ونهاهم عن قتال من لم يقاتلهم، ثم أمرهم أن يقتلوا من أمروا بقتالهم في أي مكان وجدوهم فيه، ونهاهم أن يقاتلوهم عند المسجد الحرام إلّا إذا بدءوهم بالقتال، إلى أن ختم ذلك بأمرهم بالجهاد بأموالهم أيضا، فقال:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) .
حكم الحج والعمرة الآيات [196- 214]
ثم قال تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الآية 196] ، فذكر أحكام الحج والعمرة إلى أن أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام، ثم ذكر أنّ الذين يشهدون هذه المناسك: منهم كافر لا(1/63)
يقصد من ذكره ودعائه إلّا الدنيا فقط، ومنهم مسلم يقصد من ذكره الدنيا والاخرة. ثم أمرهم بذكره سبحانه في أيام التشريق، ونفي الإثم عمّن تعجّل في يومين منها وعمّن تأخّر إلى آخرها ثم ذكر أنّ ممّن يشهد هذه المناسك فريق المنافقين، وأنّ من يسمعه يعجبه قوله في الحياة الدنيا، وأنّه يشهد الله على إخلاصه وهو ألدّ الخصام. وأنّه إذا انصرف من مناسكه سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، وأنّه إذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم.
ثم ذكر أنّ ممّن يشهد هذه المناسك مؤمنين يبتغون بها رضاه، ويتّقونه حقّ تقواه ثم خاطب أولئك المنافقين الذين يظهرون الإيمان، فأمرهم أن يدخلوا في السّلم، ويتركوا ذلك الفساد في الأرض، وحذّرهم أن يزلّوا عن ذلك، وخوّفهم هول يوم القيامة حين يأتي أمره بالحساب والعذاب، وأمر النّبيّ (ص) أن يذكر لهم ما جرى لبني إسرائيل حين زلّوا ليعتبروا بهم ثم ذكر السبب في نفاقهم وهو اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، واعتقادهم أنهم أعلى منزلة من المؤمنين الصادقين، لغناهم وفقرهم. وقد كان هذا هو السبب في كفر من قبلهم فإنّ الناس كانوا أمّة واحدة قائمة على الحق، ولم يختلفوا إلّا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا، وقد هدى الله المؤمنين الصادقين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ثم ذكر أنّه لا بدّ لمن يريد الاخرة أن يناله من الشدائد والفقر ما نال المؤمنين قبله من الرسل والذين آمنوا معهم مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) .
أحكام متفرقة الآيات [215- 225]
ثم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) ، فرجع السياق بعد ذلك الاستطراد إلى الكلام على الأحكام، وذكر حكم الإنفاق من جهة مصرفه وأنّه يصرف للوالدين ومن ذكر معهما، ثم حكم فرض القتال، وأنّه يجوز في الشهر(1/64)
الحرام للضرورة، ثم ذكر تحريم الخمر والميسر، ثم ذكر حكم الإنفاق من جهة أنّه يكون من فضل الأموال، ثم ذكر كفالة الأيتام بالإصلاح لهم ومخالطتهم في المأكل والمشرب، ثم ذكر حكم نكاح المؤمنين للمشركات ونكاح المشركين للمؤمنات ثم ذكر تحريم الوطء في الحيض ثم ذكر جواز إتيان النساء على أيّ وجه فيما يجوز إتيانهنّ فيه ثم ذكر حكم الحلف به، وأنه لا يؤاخذ باللغو فيه:
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) .
حكم الإيلاء والعدة والطلاق الآيات [226- 237]
ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) فذكر الإيلاء وعدّة المولّى عليها، ثم ذكر عدّة المطلقة بعد الدخول: أنه يجوز مراجعتها إن طلقت مرة أو مرتين، ولا يجوز مراجعتها إن طلقت ثلاثا إلّا إذا نكحها شخص آخر، ولا يجوز إمساكها ضرارا بأن يرجعها في آخر عدّتها ليطلّقها ثانيا وتأخذ في عدّة أخرى، ولا يجوز منعها من الزواج بعد انقضاء عدتها غيرة عليها، وإذا كان لها ولد فلها حق الرضاعة والنفقة حولين كاملين. ثم ذكر عدّة المتوفّى عنها زوجها، وأنه يجوز التعريض بخطبتها في عدّتها ثم ذكر أنّه لا عدّة للمطلقة قبل الدخول، ولها من المهر نصفه، ولمّا بيّن حقوق الرجال والنساء في ذلك أرشدهم إلى التسامح فيها، فقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) .
حكم الصلاة في الأمن والخوف الآيتان [238- 239]
ثم قال تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) ، فأمرهم بالمحافظة على الصلوات في حال الأمن، بأن يأتوا بها مستوفية الأركان. فإذا كانوا في شدة خوف أتوا بها كيف أمكنهم رجالا أو ركبانا فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) .
حكم الوصية للأزواج الآية [240]
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ(1/65)
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ
[الآية 240] ، فذكر أنّ الذين يتوفون منهم عليهم الوصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكناه، فإن خرجن قبل ذلك بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله لهنّ فيما سبق فلا حرج عليهنّ فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف أي نكاح صحيح، وكانوا في الجاهلية يوجبون عليهنّ القيام بهذه الوصية.
حكم نفقة المطلقات الآيتان: [241- 242]
ثم قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) والمراد بالمتاع هنا نفقتهنّ مدة العدّة، وقد جعل ذلك حقا على المتّقين كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) .
الترغيب في الجهاد بالنفس والمال الآيات [243- 284]
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) ، فأخذ يرغب في الجهاد بالنفس والمال بعد أن أذن للمسلمين فيه وفرضه عليهم، وقد مهّد لذلك بذكر قصة تدل على أنّ الحذر من الموت لا يفيد، لأنّ الحذر من الموت هو الذي يخوّفهم من الجهاد فذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالقتال فتقاعسوا خوفا على أنفسهم، فأرسل الله عليهم وباء قضى على كثير منهم، فاعتبر به من نجا وجاهد في سبيل الله شكرا له على نجاته ثم أمر المسلمين بالقتال في سبيله بعد هذا التحذير، ووعد من ينفق منهم شيئا فيه بأن يضاعفه له أضعافا كثيرة.
ثم ذكر لهم قصة ثانية تقتلع «1» خوف الجهاد من نفوسهم لقلّة عددهم، وتشتمل على عظات تنفعهم في جهادهم، وهي قصة بني إسرائيل حين طلبوا من نبيهم صموئيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون تحت رايته، فلمّا كتب
__________
(1) . ويجوز أن تكون هذه القصة تفصيلا للقصة الأولى. [.....](1/66)
عليهم القتال تولوا إلّا قليلا منهم. ولما ذكر لهم صموئيل أنّ الله بعث لهم طالوت ملكا عابوه لفقره. فردّ عليهم بأنّه يفضلهم ببسطة العلم والجسم، وبأنّه سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا ينازعه أحد في ملكه، ثم ذكر ابتلاءه لجند طالوت حين خرج بهم، وأنّه لم يصبر على هذا الابتلاء إلا قليل منهم، فساروا معه حتى إذا رأوا جالوت وجنوده قالوا لا طاقة لنا بهم، وقال الذين يظنون أنّهم ملاقو الله، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ثم برزوا لهم واستعانوا بالله عليهم، فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة جزاء له على قتله ثم ختم القصة ببيان حكمة الجهاد في سبيله، فذكر أنّه لولا دفع العصاة بالطائعين لفسدت الأرض، ثم نوّه بشأن ما تلاه من الآيات، في تلك القصة وجعلها دليلا على أنّه من المرسلين ثم ذكر أنّه فضّل بعضهم على بعض في الآيات، وأنّه سبحانه لو شاء، لهدى الناس ولم يقتتلوا من بعد ما جاءهم منها، ولكنّهم اختلفوا:
فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وقاتل الكافرون المؤمنين فقاتلوهم كما يقاتلونهم.
ثم أخذ يحضّهم على الجهاد بطريق الترغيب، فأمرهم أن ينفقوا فيه ممّا رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا يقبل فيه فداء، ولا تفيد فيه صداقة ولا شفاعة، ثم ذكر من عظمته ما يؤكد ذلك، ويثبت أنّه لا يمكن أن يشفع أحد عنده إلّا بإذنه، وهو لا يأذن بالشفاعة إلّا في حق الطائعين المجاهدين في سبيله، ثم ذكر أنّه لا يكرههم بذلك على الإنفاق والجهاد، لأنه لا إكراه في الدين، وقد تبيّن الرشد من الغيّ، فمن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت فقد استمسك بالعروة الوثقى، ثم ذكر أنّه هو الذي يتولّى المؤمنين فيخرجهم من الظلمات إلى النور، وأنّ الكافرين أولياؤهم الطاغوت فيخرجونهم من النور إلى الظلمات وبهذا يصير المؤمنون إلى الإيمان باختيارهم وتوفيق الله لهم ويصير الكافرون إلى الكفر باختيارهم وإيثارهم ولاية الطاغوت لهم ثم ضرب لذلك ثلاثة أمثال: أولها مثل إبراهيم ونمرود، فقد أفحمه إبراهيم بدليله ولكنّه تولى الطاغوت فأضلّه وثانيها مثل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم تولّاه الله فهداه وثالثها مثل إبراهيم حين قال: ربّ(1/67)
أرني كيف تحيي الموتى؟ فأراه ذلك وتولّاه فزاده إيمانا على إيمانه.
ثم عاد السياق إلى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله ليفصّل تلك الأضعاف الكثيرة التي ذكرت في الطريق الأول، ويضرب سبحانه لذلك مثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ويبيّن ما يجب في ذلك من ترك المنّ والأذى، لأنّهما يبطلان ثوابه عنده، ومن اختيار الطيبات للإنفاق، فينفق كل شخص من طيبات كسبه، ولا يسمع للشيطان الذي يخوفه من الفقر فيحسن له الإنفاق من الخبيث، بل يسمع لله الذي يعدّه مغفرة منه.
ثم أخذ في الكلام على الربا لأنّه هو الذي يربي في النفس الشحّ بالإنفاق، وذلك لأنه يزيد في المال، والإنفاق ينقص منه، فقبّح حال الذين يأكلون الربا، وهددهم عليه أقوى تهديد، وذكر أنه يمحق المال الذي يدخله الربا، ويربي المال الذي يدخله الإنفاق والصدقات، وأنّه لا يحب من يأكل الربا من كل كفّار أثيم وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الإنفاق وغيره لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ثم أمر الذين كانوا يتعاطون الربا قبل تحريمه أن يتركوا ما بقي منه، وآذنهم بحربه إن لم يفعلوا ما أمرهم به، وإذا تابوا فليس لهم إلّا رؤوس أموالهم، وإذا أعسر لها المدين أمهل إلى أن تتيسّر له، والتصدق بها خير لهم لو كانوا يعلمون.
ثم أحلّ لهم السلم ليجدوا منه وسيلة للحصول على ما يحتاجون إليه من المال بدل الربا، وأمرهم إذا تداينوا بدين أن يكتبوه ويشهدوا عليه، وإن كانوا على سفر ولم يجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، ثم نهاهم عن كتمان الشهادة في ذلك، وأخبرهم بأنّه يعلم ما يفعلونه فيها، وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وإن يبدوا ما في أنفسهم أو يخفوه يحاسبهم به:
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) .
الخاتمة الآيتان [285- 286]
ثم قال تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ (285) ، فختم السورة بذكر إيمان الرسول والمؤمنين بالقرآن والملائكة وغيرهم(1/68)
ممّا ذكره، ليختمها بذكر إيمانهم بعد أن بدأها بذكر كفر المنافقين واليهود.
وذكر ما ذكر من حسن إخلاصهم وطاعتهم، وطلبهم منه وهو لا يكلّف نفسا إلّا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ألّا يؤاخذهم بنسيانهم أو خطئهم، ولا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم من اليهود وغيرهم، إلى أن قال على لسانهم:
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) .(1/69)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البقرة» «1»
قال بعض الأئمّة: تضمّنت سورة الفاتحة الإقرار بالربوبيّة، والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى، وتضمّنت سورة البقرة قواعد الدين، وآل عمران مكمّلة لمقصودها.
فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، و «آل عمران» بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم. ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لمّا تمسّك به النصارى.
في «آل عمران» أوجب الحج. أمّا في البقرة، فذكر أنّه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه «2» . في «آل عمران» ، كان خطاب النصارى، كخطاب اليهود في البقرة، أكثر من خطابهم في سواها، لأنّ التوراة أصل، والإنجيل فرع لها، والنّبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور المكّية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا ب «يا أهل الكتاب» ، «يا بني إسرائيل» ، «يا أيّها الذين آمنوا» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ: 1978 م.
(2) . وذلك في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (196) .(1/71)
وأمّا سورة النساء فتضمّنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان:
مخلوقة لله، ومقدورة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها. وقال:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النساء 1] فانظر إلى هذه المناسبة العجيبة، والافتتاح، وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام: من نكاح النساء ومحرّماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأنه ابتدأ هذا الأمر بخلق آدم، ثم خلق زوجته منه، ثم بثّ منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة.
أما المائدة، فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع، ومكمّلات الدين، والوفاء بعهود الرسل، وما أخذ على الأمة، ونهاية الدين، فهي سورة التكميل، لأنّ فيها تحريم الصيد على المحرم، الذي هو من تمام الإحرام.
وتحريم الخمر، الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السرّاق والمحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات، الذي هو من تمام عبادة الله.
ولهذا ذكر فيها ما يختصّ بشريعة محمد (ص) والتيمّم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين. ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام «1» . وذكر فيها: أنّ من ارتدّ عوّض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملا، ولهذا ورد أنّها آخر ما نزل «2» لما فيها من إرشادات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. انتهى.
وقال بعضهم: افتتحت البقرة بقوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فإنّه إشارة إلى الصراط المستقيم بقوله في الفاتحة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ، فإنّهم لما سألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم:
ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه، كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث
__________
(1) . وذلك في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] وأمثالها.
(2) . أخرجه الحاكم في المستدرك عن عائشة: 2: 311 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه والإمام أحمد في المسند عن معاوية بن صالح عن عائشة: 6: 188.(1/72)
عليّ مرفوعا: «الصراط المستقيم كتاب الله» «1» . وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفا «2» .
وهذا معنى حسن، يظهر فيه سرّ ارتباط «البقرة» ب «الفاتحة» .
وقال الخويي «3» : أوائل هذه السورة، مناسبة لأواخر سورة الفاتحة، لأنّ الله تعالى لمّا ذكر أنّ الحامدين طلبوا الهدى، قال: قد أعطيتكم ما طلبتم: هذا الكتاب هدى لكم فاتّبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسؤول.
ثم إنّه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة: فذكر الذين على هدى من ربّهم، وهم المنعم عليهم. والذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهم الضالّون: والذين باؤوا بغضب من الله، وهم المغضوب عليهم «4» .
انتهى.
أقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من هذه المناسبات.
أحدها: أنّ القاعدة التي استقرّ بها القرآن: أنّ كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها، وشرح له، وإطناب لإيجازه.
وقد استقرّ لي ذلك في غالب سور القرآن، طويلها وقصيرها. وسورة البقرة، قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة.
فقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ تفصيله: ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات، ومن الدعاء في قوله سبحانه: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية 186] . وفي قوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) . وبالشكر في قوله:
__________
(1) . أخرجه ابن جرير عن علي من حديث حمزة الزيات. جامع البيان: 1: 173.
(2) . المستدرك: 4: 83.
(3) . هو أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر أبو العباس. توفي بدمشق عام 627 انظر عيون الأنباء: 2: 171، شذرات الذهب: 3: 25.
(4) . ذكر السيوطي: أن للخويي تفسيرا نقل عنه في الإتقان (2: 7، 12 و 3: 29 و 4: 144) ولم نعثر عليه، ولعلّ هذا النقل منه.(1/73)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) .
وقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ (2) تفصيله قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) . وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) . ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم (ع) الذي هو مبدأ البشر «1» ، وهو أشرف الأنواع عن العالمين، وذلك شرح لإجمال رَبِّ الْعالَمِينَ (2) .
وقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وقد أومأ إليه بقوله في قصّة آدم (ع) : فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) . وفي قصّة إبراهيم (ع) لمّا سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ [الآية 126] . فقال: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الآية: 126] .
وذلك لكونه رحمانا. وما وقع في قصة بني إسرائيل: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [الآية 52] . إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) . وذكر آية الدّين «2» إرشادا للطالبين من العباد، ورحمة بهم.
ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر وما لا طاقة لهم به، وختم بقوله:
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا [الآية 286] وذلك شرح قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . وتفصيله: ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدّة مواضع، ومنها قوله:
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [الآية 284] . والدين (في الفاتحة) : الحساب: (في البقرة) .
وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفرعية، وقد فصّلت في البقرة أبلغ
__________
(1) . وذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] إلى قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الآية 37] .
(2) . هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [الآية 282] .(1/74)
تفصيل، فذكر فيها: الطهارة، والحيض، والصلاة، والاستقبال، وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمع، والعيد، والزكاة بأنواعها، كالنبات، والمعادن، والاعتكاف، والصوم وأنواع الصدقات، والبر، والحج، والعمرة، والبيع، والإجازة، والميراث والوصية، والوديعة، والنكاح، والصّداق، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والعدّة، والرّضاع، والنفقات، والقصاص، والدّيات، وقتال البغاة، والردّة، والأشربة، والجهاد، والأطعمة والذبائح، والأيمان، والنذور، والقضاء، والشهادات، والعتق.
فهذه أبواب الشريعة كلّها مذكورة في هذه السورة.
وقوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ شامل لعلم الأخلاق. وقد ذكر منها في هذه السورة الجمّ الغفير، من التوبة، والصبر، والشكر، والرضى، والتفويض، والذكر، والمراقبة، والخوف، وإلانة القول.
وقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخره، تفصيله: ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء، ومن حاد عنهم من النصارى، ولهذا ذكر في الكعبة أنّها قبلة إبراهيم، فهي من صراط الذين أنعم عليهم، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معا، ولذلك قال في قصّتها: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) . تنبيها على أنّها الصراط الذي سألوا الهداية إليه.
ثم ذكر: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الآية 145] . وهم المغضوب عليهم، والضالّون، الذين حادوا عن طريقهم.
ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم. ثم قال: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) . فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال لقوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة.
وأيضا قوله أوّل السورة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) إلى آخره في وصف الكتاب، إخبار بأنّ الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو: ما تضمّنه الكتاب، وإنّما يكون هداية لمن اتّصف بما ذكر (من صفات المتّقين) . ثم ذكر أحوال الكفرة، ثم أحوال المنافقين، وهم من اليهود، وذلك تفصيل لمن حاد عن(1/75)
الصراط المستقيم، ولم يهتد بالكتاب «1» .
وكذلك قوله هنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ [الآية 136] . فيه تفصيل النبيّين المنعم عليهم. وقال في آخرها: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [الآية 136] ، تعريفا بالمغضوب عليهم، والضالّين، الذين فرقوا بين الأنبياء. ولذلك عقّبها بقوله:
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الآية 137] . أي: إلى الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم كما اهتديتم.
فهذا ما ظهر لي، والله أعلم بأسرار كتابه.
الوجه الثاني: أنّ الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالّين بالمنافقين، وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان، فعقّب بسورة البقرة، وجميع ما فيها (من) خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة، وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب «2» .
ثم (عقبت البقرة) بسورة آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى، فإنّ ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران، كما ورد في سبب نزولها «3» وختمت بقوله:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران: 199] . وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى، كما ورد به الحديث «4» .
وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين، كأنّه لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قصّ في كلّ سورة ممّا بعدها حال كل فريق
__________
(1) . هذا تفصيل للصراط المستقيم عن طريق التبصير بأعداء الصراط المستقيم، والتحذير منهم على وجه التفصيل.
وسيأتي تفصيل للصراط المستقيم في «آل عمران» عن طريق التبصير بالعوائق النفسية التي تحول دون الإنسان وسلوك الصراط المستقيم، باعتبار النفس عدوّا للإنسان. وبهذا تظهر عظمة الأسلوب القرآني في الإجمال والتفصيل، وفي استيعابه كل شيء.
(2) . وإنّما جاء على أسلوب الخبر، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 62] . وقوله وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الآية 111] .
(3) . انظر تفسير القرآن العظيم: (2: 40) لمعرفة سبب النزول، وقصة نجران في سيرة ابن هشام: 1: 573) وما بعدها.
(4) . في إسلام النجاشي، انظر البخاري في الجنائز: 2: 108 ومسلم في الجنائز 3: 54، 55، وانظر تفسير الطبري:
7: 496. [.....](1/76)
على الترتيب الواقع فيها، ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود، وآخرها في ذكر النصارى «1» .
الوجه الثالث: أنّ سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال، ولهذا سمّيت في أثر: فسطاط القرآن «2» .
الذي هو: المدينة الجامعة، فناسب تقديمها على جميع سوره.
الوجه الرابع: أنّها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال «3» ، فناسب البداءة بأطولها.
الوجه الخامس: أنّها أول سورة نزلت بالمدينة، فناسب البداءة بها، فإنّ للأولية نوعا من الأولوية.
الوجه السادس: أنّ سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألّا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالّين إجمالا، ختمت سورة البقرة بالدعاء بألّا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطإ والنسيان، وحمل الإصر، وما لا طاقة لهم به تفصيلا، وتضمّن آخرها أيضا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالّين بقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] .
فتاخت السورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق.
__________
(1) . وذلك قوله تعالى في سورة النساء: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الآية 46] ، وما ألحق بعدها.
وقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ (171) [النساء] .
(2) . أخرجه الدارمي: 2: 446 عن خالد بن سعدان.
(3) . السبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، وسيأتي سبب وضع الأنفال والتوبة بينها.(1/77)
المبحث الرابع مكنونات سورة «البقرة» «1»
1- إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] .
هو آدم، كما دلّ عليه السياق، وورد في مرسل ضعيف أنّ «الأرض» المذكورة: مكة- لكن قال ابن كثير «2» : إنّه مدرج «3» - وذلك ما أخرجه ابن جرير «4» ، وابن أبي حاتم، من طريق عطاء بن السائب، أنّ عبد الرّحمن بن سابط، أنّ النّبيّ (ص) قال: «دحيت الأرض من مكّة، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة، قال تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
[الآية 30] يعني: مكّة» .
2- اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ [الآية 35] .
هي حوّاء، بالمدّ. روى ابن جرير «5» من طريق السّدّيّ بأسانيده: سألت «6» الملائكة آدم عن حوّاء ما اسمها؟ قال:
حوّاء. قالوا: ولم سمّيت حواء؟ قال:
لأنها خلقت من حيّ.
3- وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [الآية 35] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في «تفسيره» 1: 70، وضعيف إسناده أيضا.
(3) . المدرج: هو إدخال الراوي نفسه كلمة- قد تكون أحيانا للتفسير- أو أكثر، على متن الحديث- إذا كان الإدراج في المتن كما هو هنا-، وقد يكون الإدراج في المستند أيضا.
(4) . 1: 156.
(5) . 1: 182.
(6) . وفي «الطبري» و «الدر المنثور» : «قالت له الملائكة» .(1/79)
أخرج ابن جرير «1» وابن أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّها السّنبلة. وله طرق عنه صحيحة.
وأخرج ابن جرير «2» من طريق السّدّي بأسانيده: أنها الكرم، وزعم يهود أنها الحنطة.
وأخرج أبو الشيخ «3» من وجه آخر عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: هي اللوز. وإسناده ضعيف وعندي أنها تصحّفت بالكرم.
وأخرج عن زيد بن عبد الله بن قسيط «4» قال: هي الأترج «5» .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: هي النّخلة.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد «6» قال: هي تينة.
وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن قتادة «7» بلفظ: هي التين.
فهذه ستة أقوال «8» .
4- وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الآية 36] .
أخرج ابن جرير «9» ، عن ابن عبّاس:
أنه خطاب لآدم، وحوّاء، وإبليس، والحيّة.
__________
(1) . 1: 183. وفي سنده: النضر بن عبد الرّحمن، ضعيف جدا. ورواه أيضا: ابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن عساكر. انظر «الدر المنثور» 1: 52 و «تفسير الطبري» تخريج العلّامة أحمد شاكر للأثر (718) .
(2) . 1: 184، وابن سعد في «الطبقات» 1: 53: وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
«الدر المنثور» 1: 53.
(3) . في «الدر المنثور» 1: 53: «ابن جرير» عوضا عن «أبي الشيخ» غير أني لم أجده في «تفسير الطبري» .
(4) . يزيد بن عبد الله بن قسيط: أبو عبد الله المدني، الأعرج، ثقة الحديث، مات سنة (122 هـ!) .
(5) . الأترج: شجر يعلو، ناعم الأغصان والورق والثمر، وثمره كالليمون، وهو ذهبي اللون، زكي الرائحة، حامض الماء. [.....]
(6) . في «تفسير الطبري» 1: 184: عن ابن جريج عن بعض أصحاب النّبيّ (ص) . ومجاهد، هو ابن جبر، أبو الحجاج، ثقة الحديث، إمام في التفسير والعلم، ومن علماء التابعين، توفي في أوائل القرن الثاني الهجري، وله ثلاث وثمانون سنة.
(7) . قتادة بن دعامة السّدوسي، أبو الخطاب البصري، محدّث ثقة ثبت، ومفسّر لغوي. يقال إنّه ولد أكمه. قال فيه الإمام أحمد: قتادة أحفظ أهل الحديث. توفي سنة 118.
(8) . قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى 1: 185 بعد أن أورد الروايات في ذلك: «ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على اليقين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة» .
(9) . 1: 191، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» .(1/80)
5- وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الآية 50] .
هو القلزم «1» ، وكنيته: أبو خالد.
كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قيس بن عباد «2» .
قال ابن عسكر: وكأنّه كنّي بذلك لطول بقائه.
وروى أبو يعلى بسند ضعيف، عن أنس، عن النّبيّ (ص) قال: «فلق البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء» «3» .
6- وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية 51] .
هي ذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة. أخرجه ابن جرير «4» عن أبي العالية.
10- ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [الآيتان 51 و 92] .
أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، عن الحسن البصري قال: كان اسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه: «بهموت» .
وأخرجه ابن أبي حاتم، ولفظه:
«يهبوث» «5» .
11- ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الآية 58] .
أخرج عبد الرزاق «6» ، عن قتادة:
أنّها بيت المقدس.
12- وأخرج ابن جرير «7» من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله
__________
(1) . أي البحر الأحمر الآن. وفي «لسان العرب» : يقال: تقلزمه، إذا ابتلعه والتهمه، و «بحر القلزم» مشتق منه، وبه سمّي القلزم، لالتهامه من ركبه، وهو المكان الذي غرق فيه فرعون وآله.
(2) . قيس بن عباد الضّبعي: أبو عبد الله البصري، مخضرم، من صالحي التابعين، وكانت له مناقب وحلم وعبادة.
توفي بعد سنة 80 هـ
(3) . انظر «المطالب العالية» 3: 276، ورواه أيضا ابن مردويه، كما في «الفتح الكبير» للنبهاني. لكن روي ما يشهد له: أحمد في «المسند» 1: 291، والبخاري (3843) في مناقب الأنصار، ونحوه رقم (4680) ، ومسلم (1130) واللفظ له، عن ابن عبّاس قال: قدم رسول الله (ص) المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيما له. فقال النّبيّ (ص) : «نحن أولى بموسى منكم» ، فأمر بصومه.
(4) . 1: 222، وأبو العالية: رفيع بن مهران الرّياحي، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النّبيّ (ص) بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصلّى خلف عمر. مات حوالي سنة سبعين.
(5) . بالمثلثة آخره في «الدرّ المنثور» : «يهبوب» بالموحدة آخره.
(6) . وابن جرير 1: 237، وهو مجاهد أيضا، كما في «تفسير البغوي» 1: 54.
(7) . 1: 238، بسند ضعيف.(1/81)
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً [الآية 58] قال: هو أحد أبواب بيت المقدس، يدعى: «باب حطّة» .
وأخرج «1» عن الربيع: أنها بيت المقدس.
وعن ابن زيد «2» : أنها أريحا، قرية به.
13- النَّصارى [الآية 62] .
سمّوا بذلك لأنّهم كانوا بقرية يقال لها: «ناصرة» . أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة.
وقيل: لقولهم كما ورد في التنزيل:
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصف: 14] ، حكاه ابن عسكر.
14- وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [الآية 72] .
اسمه عاميل، ذكره الكرماني «3» .
وقيل: نكار. حكاه الماوردي.
وقاتله: ابن أخيه. أخرجه ابن جرير «4» ، وغيره، عن ابن عباس.
وقيل: أخوه.
15- فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
[الآية 73] .
أخرج الفريابي «5» عن ابن عباس.
قال: بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقيل: ضرب بالبضعة [أي قطعة اللحم] التي بين الكتفين. أخرجه ابن جرير «6» عن السّدّيّ.
وقيل: بفخذها. أخرجه ابن جرير»
عن قتادة ومجاهد.
__________
(1) . ابن جرير 1: 237.
(2) . وهو عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، من رجال «التهذيب» .
(3) . الكرماني: محمود بن حمزة عالم بالقراءات، يعرف بتاج القراء، له كتاب «الغرائب والعجائب» نقل في «التفسير» آراء مستنكرة في معرض التحذير منها، وكان الأولى تركها، وقد تعرض السيوطي في «الإتقان» 2: 186 لنقده، ولما كتبه الكرماني في كتابه «العجائب والغرائب» . وسيكثر السيوطي في هذا الكتاب من النقل عنه، وكتاب الكرماني هذا لا يزال مخطوطا، وتوجد نسخة خطية منه في «مكتبة شستربتي» بإيرلنده تحت رقم (4137) وأخرى في المكتبة الظاهرية بدمشق، والكرماني هذا، هو غير صاحب «شرح البخاري» . توفي نحو سنة (505 هـ) . [.....]
(4) . 1: 285.
(5) . وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و «الدر المنثور» 1: 79.
(6) . «الطبري» 1: 285.
(7) . «الطبري» ط الحلبي 1: 359.(1/82)
وقيل: بعظم من عظامها. أخرجه عن أبي العالية «1» .
وقيل: بلسانها «2» .
وقيل: بعجبها «3» .
وقيل: بذنبها. حكاه الكرماني في «الغرائب» «4» .
16- وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الآية 76] .
أخرج ابن جرير «5» ، عن ابن عباس:
أنّها في المنافقين من اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة:
أنّها نزلت في ابن صوريا.
17- وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [الآية 78] .
قيل: المراد بهم المجوس. حكاه المهدوي «6» . لأنّهم لا كتاب لهم.
18- إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الآية 80] .
زعموها سبعة. أخرجه الطبراني وغيره، «7» ، بسند حسن، عن ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طرق ضعيفة عنه: أنها أربعون.
19- وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الآية 87] .
هو جبريل، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود «8» .
__________
(1) . الأثر في «الطبري» ، 1: 258، وتقدم التعريف بأبي العالية.
(2) . قاله الضّحّاك، كما في «تفسير البغوي» 1: 61.
(3) . «العجب» بفتح فسكون، من كل دابة: ما ضمت عليه الورك من أصل الذنب وهو العصعص. و «العجم» لغة في العجب.
(4) . قال ابن تيمية في «مقدمة في أصول التفسير» ص 56: «فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه. البعض الذي ضرب به موسى من البقرة.
(5) . 1: 292.
(6) . أحمد بن عمار، أبو العباس المهدوي، صاحب التفسير المسمّى «التفصيل الجامع لعلوم التنزيل» وهو تفسير كبير، يذكر القراآت والإعراب، واختصره وسمّاه «التحصيل في مختصر التفصيل» وله «هجاء مصاحف الأمصار على غاية التقريب والاختصار» ونسبته «المهدوي» ترجع إلى «المهدية» قرب القيروان، توفي في حدود 430 هـ.
انظر: «طبقات المفسّرين» للسيوطي: 30 و «الأعلام» 15: 184.
(7) . ذكر الأثر في مجمع الزوائد» 6: 314 دون تخريج ولعلّه سقط من المطبوع منه، والأثر مروي في «تفسير الطبري» 1: 303 و «أسباب النزول» للواحدي: 17.
(8) . وأبو الشيخ في كتاب «العظمة» عن جابر مرفوعا «الدر المنثور» .(1/83)
20- نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [الآية 100] .
هو: مالك بن الصّيف. أخرجه ابن جرير، «1» عن ابن عباس.
21- وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الآية 102] .
هما: هاروت، وماروت، كما أخرجه ابن جرير، «2» عن ابن عبّاس.
وقيل: جبريل، وميكائيل. أخرجه البخاري في «تاريخه» وابن المنذر، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن عطية «3» .
وقرئ بكسر اللام، «4» فهما «5» :
داود، وسليمان. كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرّحمن بن أبزى (51) .
وأخرج عن الضّحّاك: «6» أنهما علجان من بابل «7» .
22- وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 109] .
سمّي منهم: كعب بن الأشرف أخرجه ابن جرير، «8» عن الزّهري وقتادة.
(سمّي منهم) : حييّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب. أخرجه عن ابن عبّاس «9» .
23- وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الآية 113] .
قاله رافع بن حريملة.
__________
(1) . 1: 351.
(2) . 1: 359. [.....]
(3) . عطية بن الحارث الهمداني الكوفي: أبو روق، صاحب «التفسير» ، كان صدوقا في الحديث، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
(4) . أي «الملكين» وهي قراءة شاذة.
(5) . عبد الرّحمن بن أبزى: صحابي صغير، كان في عهد عمر رجلا، وكان أميرا على خراسان في عهد علي رضي الله عنه.
(6) . الضّحّاك بن مزاحم، من صغار التابعين، عرف بكثرة إرساله، يعتبر من أعلام التفسير في زمنه، مات بعد المائة.
(7) . انظر «تفسير ابن كثير» 1: 137. و «علجان» : مثنّى علج. وهو الرجل الضخم من كفّار العجم. وبعض العرب يطلقه على الكافر مطلقا. والجمع «علوج» و «أعلاج» ، كما في «المصباح المنير» .
(8) . «الطبري» 1: 388.
(9) . الأثر في «الطبري» 1: 388.(1/84)
24- وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ [الآية 113] .
قاله رجل، من أهل نجران. أخرجه ابن جرير «1» عن ابن عباس.
25- كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الآية 113] .
قال السّدّيّ «2» : هم العرب.
وقال عطاء: أمم كانت قبل اليهود والنصارى. أخرجهما ابن جرير «3» .
26- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الآية 114] .
أخرج ابن أبي حاتم «4» عن ابن عبّاس: أنّهم من قريش.
ومن طريق العوفي عنه: أنهم النّصارى.
وأخرج عبد الرزاق «5» (عن) قتادة:
أنهم بختنصّر وأصحابه الذين خرّبوا بيت المقدس.
27- وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الآية 118] .
سمّي منهم: رافع بن حريملة.
أخرجه ابن جرير «6» عن ابن عبّاس.
وأخرج «7» عن قتادة قال: هم كفّار العرب.
28- رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الآية 129] .
هو النّبيّ (ص) . ولذلك قال (ص) :
«أنا دعوة أبي إبراهيم» . أخرجه أحمد «8» من حديث العرباض بن سارية وغيره.
__________
(1) . 1: 394.
(2) . السّدّي الكبير: إسماعيل بن عبد الرّحمن- وهو غير السدي الصغير محمد بن مروان، المرميّ بالكذب- كان عالما بالتفسير والمغازي، توفي سنة (128 هـ.)
(3) . 1: 395.
(4) . وابن إسحاق. «الدر المنثور» 1: 108.
(5) . و «الطبري» من طريقه 1: 397.
(6) . 1: 407 وابن إسحاق وابن أبي حاتم، «الدر المنثور» 1: 110.
(7) . «ابن جرير» 1: 407 وعبارة: «وأخرج عن قتادة» سقطت من «الدر المنثور» 1: 110 فليتنبّه. [.....]
(8) . في «المسند» 4: 127- 128، والطبري 1: 435، والحاكم في «المستدرك» 2: 600، وصحّحه وأقرّه الذهبي.
وصحّحه الشيخ أحمد شاكر أيضا في تعليقه على تفسير الطبري» .
والحديث بنحوه رواه الإمام أحمد أيضا في «المسند» 5: 262 من الحديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال:
قلت: يا نبيّ الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام.(1/85)
29- وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الآية 132] .
أي: بنيه.
أمّا بنو إبراهيم فسمّي منهم في القرآن: إسماعيل، وإسحاق.
وسمّى منهم الكلبي: مدن، ومدين، ويقشان «1» ، وزمران، وأشبق، وشوح «2» .
أخرجه ابن سعد في «طبقاته» «3» ، ورأيت فيها الأسماء هكذا مضبوطة في نسخة معتمدة، ضبطها الدّمياطي، «4» وأتقنها.
ثم قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي «5» قال: ولد لإبراهيم إسماعيل وهو ابن تسعين سنة، وهو بكره. وولد له إسحاق بعده بثلاثين سنة، (وإبراهيم يومئذ ابن عشرين ومائة سنة وماتت سارة، فتزوّج إبراهيم امرأة من الكنعانيين، يقال لها:
قنطورا) «6» . ثم ولدت «7» له قنطورا أربعة: ماذي، وزمران، وشرجح، وسبق. (قال: وتزوّج امرأة أخرى يقال لها: حجوني) «8» ثم ولدت له حجوني سبعة: نافس، ومدين، وكيشان،
__________
(1) . كذا في «تاريخ الطبري» 2: 270 بمثناة.
ووقع في نسخة من «تاريخ الطبري» 1: 309 و 2: 27، «بقشان» بموحدة. ووقع في «تاريخ الطبري» أيضا 1: 309: «يقسان» .
وجاء في مطبوع «الدر المنثور في التفسير المأثور» 1: 139: «بيشان» .
وقعت الأسماء في «الكامل» لابن الأثير 1: 123 هكذا: «نفشان» ، ومران، ومديان، ومدن، ونشق، وسرح» .
(2) . كذا في «الطبقات» لابن سعد: «شوخ» بالخاء المعجمة.
(3) . 1: 47.
(4) . الدمياطي: عبد المؤمن بن خلف، شرف الدين، حافظ للحديث، ومن أكابر الشافعية، له علم بالأنساب، وكتاب «طبقات ابن سعد» المطبوع، أتى على ذكر الدمياطي في سند النسخة المعتمدة في الطبع، فلعلّها التي اعتمدها السيوطي، وللمترجم «معجم» في ذكر شيوخه، وتوفي عليه رحمة الله في سنة (705) هـ.
(5) . هو المعروف بالواقدي، صاحب «المغازي» وغيره، المتوفّى سنة (207 هـ.) ، وحديثه، ردّه بعضهم، وقبله آخرون.
انظر كلام الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» 9: 363- 368، والتعليق على «المصنوع في معرفة الحديث الموضوع» للقاري ص 277.
(6) . زيادة من «الطبقات» لابن سعد.
(7) . في «الطبقات» : «فولدت» .
(8) . كذا في مطبوعة «طبقات ابن سعد» ، وفي «الكامل» لابن الأثير 1: 123: «حجون» .(1/86)
وشرّوخ، وأمّيم، ولوط، ويقشان فجميع ولده «1» ثلاثة عشر رجلا.
وأخرج عن الكلبي قال: ولد لإسماعيل اثنا عشر رجلا: يناوذ «2» ، وقيذر، وأذبل، ومنسي «3» ، ومسمع «4» ، ودمار «5» ، وأذر، وطيما «6» ، ويطور، ونبش «7» ، وماشي، وقيذما «8» .
30- قوله تعالى: وَالْأَسْباطِ [الآية 136] ووَ الْأَسْباطِ [الآية 140] .
أخرج ابن جرير «9» من طريق حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عبّاس: الأسباط بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا، كلّ واحد منهم ولد سبطا، أمّة من الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السّدّي قال: الأسباط بنو يعقوب: يوسف، وبنيامين، ووبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاب، وكود، وباليون.
31- سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [الآية 142] .
قال البراء بن عازب: هم اليهود.
أخرجه أبو داود في «الناسخ والمنسوخ» والنّسائي «10» .
وسمّى منهم ابن عبّاس: رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن
__________
(1) . في «الطبقات» : «ولد إبراهيم» . وأسماء بني إبراهيم في «الإتقان» 2: 146 قريبة ممّا ذكر أعلاه.
(2) . في «سيرة ابن هشام» 1: 4: «نابت» .
(3) . في «السيرة» 1: 5: «مبشا» .
(4) . كذا شكّلت في «السيرة» .
(5) . كذا في هامش «سيرة ابن هشام» . [.....]
(6) . كذا في «السيرة» .
(7) . في «السيرة» : «نبش» بفتح فكسر.
(8) . انظر للوقوف على مزيد من الاختلاف في الأسماء التعليق على «سيرة ابن هشام» 1: 5، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 1: 125.
(9) . 1: 243.
(10) . يوجد اختلاف بين الروايات التي نقلت أمثال تلك الأسماء. أنظر حول ذلك ما علّقه العلّامة الأديب محمود شاكر على «تفسير الطبري» 3: 112، وانظر في أسماء زوجات يعقوب (ع) وأولاده كتاب الأستاذ عفيف طبارة «مع الأنبياء في القرآن الكريم» ص 155.
ووقع أسماء أولاد يعقوب في «الإتقان» 2: 146: «يوسف، وروبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وداني، وتفتاني بفاء ومثناة، وكاد، ويأشير، وما يشاجر، ورايلون، وبنيامين» .(1/87)
الأشرف، ونافع بن أبي نافع «1» ، والربيع بن أبي الحقيق. أخرجه ابن جرير «2» وغيره «3» .
32- وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) .
فسّروا في حديث أخرجه ابن ماجة «4» عن البراء بن عازب: بدوابّ الأرض.
وكذا قال مجاهد. أخرجه سعيد بن منصور «5» وغيره.
وقال قتادة والربيع: هم الملائكة، والمؤمنون، أخرجه ابن جرير «6» .
33- وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا [الآية 170] .
سمّي منهم: رافع بن خارجة «7» ، ومالك بن عوف. أخرجه ابن أبي حاتم «8» عن ابن عباس.
34- عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الآية 187] .
سمّي ممّن وقع له ذلك: عمر بن الخطاب، وكعب بن مالك.
أخرجه الإمام أحمد «9» بإسناد حسن.
35- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [الآية 189] .
__________
(1) . في «السنن الكبرى» إذ لم أجده في «الصغرى» المطبوعة وهي «المجتبي» . وتصريح البراء بأنهم من اليهود جاء عند الطبري في «تفسيره» 2: 3، والبيهقي في «السنن الكبرى» 2: 1، والواحد في «أسباب النزول ص 28 والحازمي في «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار» ص 64، والحديث صحّحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري» 8: 171 في تفسير قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الآية 142] .
(2) . كذا في «الطبري» 2: 3، وفي «الإتقان» 2: 148، «رافع بن حرملة» ، والخلط في أسماء يهود كثير مشكل.
انظر «تفسير الطبري» 3: 111، بتحقيق شاكر.
(3) . 2: 3 بزيادة: «وكناية بن أبي الحقيق» ، وكذا وقع في «الدر المنثور» .
(4) . ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «دلائل النبوة» . «الدر المنثور» 1: 142.
(5) . في «سننه» برقم (4021) في الفتن. قال الحافظ البوصيري في «زوائد ابن ماجة» : «في إسناده اللّيث، وهو ابن سليم: ضعيف» .
(6) . و «الطبري» 2: 33.
(7) . 2: 34.
(8) . «رافع بن حريملة» ، في المثبت من «سيرة ابن هشام» 1: 552، و «الطبري» 2: 47 و «الدر المنثور» 1: 167.
(9) . و «الطبري» 2: 47. [.....](1/88)
سمّي منهم: معاذ بن جبل، وثعلبة بن عنمة- بفتح المهملة والنون- الأنصاري السّلمي. أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس «1» ..
36- الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الآية 197] .
هي شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة. كما أخرجه الحاكم «2» ، وغيره عن ابن عمر، وسعيد بن منصور «3» عن ابن مسعود، والطبراني «4» وغيره عن ابن عباس، وابن المنذر «5» عن ابن الزبير.
وقيل: وذو الحجّة. أخرجه الطبراني «6» وغيره من حديث ابن عمر مرفوعا، وسعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب موقوفا.
37- ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الآية 199] .
أخرج ابن جرير «7» من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى: أَفاضَ النَّاسُ قال:
إبراهيم «8» .
38- وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الآية 203] .
هي أيّام التّشريق الثلاثة. أخرجه الفريابي «9» عن ابن عمر، وعن ابن عباس.
وقال ابن عبّاس أيضا: أربعة أيام:
__________
(1) . في «المسند» 3: 460، و «الطبري» 2: 96، وقال أحمد شاكر (الأثر: 2941) : وعندي أنه إسناد صحيح.
(2) . بسند ضعيف. قاله السيوطي في «الدر المنثور» 1: 203، وانظر «الإصابة» 1: 201.
(3) . في «المستدرك» 2: 276، والطبري 2: 151، والدّارقطني 2: 226، والبيهقي 3: 342، وصحّحه الحافظ في «فتح الباري» 3: 420.
(4) . والطبري 2: 150، والبيهقي 3: 342.
(5) . والطبري 2: 150، والدارقطني 2: 226، والبيهقي 4: 342.
(6) . والدّارقطني 2: 226، والبيهقي 4: 342.
(7) . في «المعجم الأوسط» وفيه يحيي بن السكن، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» 6: 317- 318 وسقطت منه كلمة «شوال» فليتنبه.
(8) . 2: 171، عن الضّحّاك من قوله، لا من قول ابن عبّاس كما هو هنا. قال أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على «الطبري» : ووهم السيوطي- أي في «الدر المنثور» 1: 227، فذكره من رواية الطبري عن ابن عبّاس! ولعلّه سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن عبّاس!!» انتهى.
(9) . العرب كثيرا ما تدل على الواحد بذكر الجماعة. وانظر «تفسير الطبري» الموضع السابق.(1/89)
يوم النّحر، وثلاثة بعده، أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال علي: ثلاثة أيام: يوم الأضحى، ويومان بعده. أخرجه ابن أبي حاتم «1» ..
39- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ [الآية 204] .
هو الأخنس بن شريق. أخرجه ابن جرير «2» عن السّدّي.
40- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [الآية 217] . هو رجب «3» .
41- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الآية 219] .
قال أبو حيان «4» : كان السائل عمر ومعاذ.
42- وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الآية 219] .
سمّي من السّائلين: معاذ بن جبل، وثعلبة. أخرجه ابن أبي حاتم عن يحيى بلاغا «5» .
43- وقال ابن عسكر «6» في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ [الآية 215] : نزلت في عمرو بن الجموح، سأل عن مواضع النّفقة فنزلت. ثم سأل بعد ذلك: كم النّفقة؟
فنزل وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الآية 219] .
44- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الآية 220] .
قال ابن الفرس «7» في «أحكام
__________
(1) . الفريابي محمد بن يوسف (120- 212 هـ) : عالم بالحديث، تركي الأصل، له «مسند» و «تفسير» .
(2) . وخرّجه أيضا: عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا «الدر المنثور» 1: 234.
(3) . 2: 181، وابن المنذر، وابن أبي حاتم: «الدر المنثور» 1: 238.
(4) . انظر «الطبري» 2: 202، و «ابن كثير» 1: 252.
(5) . في تفسيره «البحر المحيط» 2: 156، والواحدي في «أسباب النزول» : 48.
وأبو حيّان: هو محمد بن يوسف الأندلسي، من كبار العلماء بالعربية، والتفسير، والحديث، والترجم، واللغات، له «التفسير» و «طبقات نحاة الأندلس» توفي سنة (45) . [.....]
(6) . «البلاغ» : قول الراوي: «بلغني أن.» من غير ذكر سنده، والبلاغ متوقف في الاحتجاج به حتى يثبت اتصاله وصحة سنده.
ملاحظة: انظر الفقرة التالية.
(7) . ابن الفرس (524- 599 هـ) : عبد المنعم بن محمد الخزرجي، أبو عبد الله، قاض أندلسي، من علماء غرناطة، ولي القضاء في أماكن، وجعل إليه النّظر في الحسبة والشرطة.(1/90)
القرآن» : قيل: إنّ السائل عبد الله بن رواحة.
زاد أبو حيان «1» : وقيل: ثابت بن رفاعة الأنصاري.
45- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [الآية 222] .
أخرج ابن جرير «2» عن السّدّي، والماوردي «3» ، عن ابن عباس، أنّ السائل عن ذلك ثابت بن الدحداح الأنصاري.
وقال السّهيلي: عباد بن بشر، وأسيد بن الحضير «4» .
46- الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [الآية 243] .
أخرج الحاكم في «المستدرك» «5» من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
أنهم كانوا أربعة آلاف.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه: أنّهم أربعة آلاف من أهل قرية يقال لها داوردان «6» .
وأخرج ابن جرير «7» عن السّدّي:
أنّهم بضعة وثلاثون ألفا، من قرية يقال لها: داوردان قبل واس؟
وأخرج عن عطاء الخرساني «8» ،:
أنهم ثلاثة آلاف (أو أكثر) «9» .
ومن طريق ابن جريج، عن ابن
__________
(1) . في «البحر المحيط» 2: 161.
(2) . 2: 224.
(3) . الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد، قاضي القضاة، من كبار العلماء، وباحث مشهود ولد في البصرة. له «أدب الدنيا والدين» ، و «الأحكام السلطانيّة» و «أعلام النبوّة» و «النكت والعيون» في تفسير القرآن- ولعلّه روى فيه أثر ابن عباس هذا- من الكتاب، توفي سنة (450) هـ.
(4) . رواه مسلم في الحيض (16) ، والتّرمذي (2981) في التفسير، وأبو داود (258) في الطهارة كلّهم عن أنس رضي الله عنه.
(5) . 2: 281، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وفي سنده «ميسرة» قال الذهبي في «تلخيص المستدرك» : «لم يرويا له» . وأخرجه أيضا «الطبري» 2: 365.
(6) . والذي أثبته ما حقّقه الأستاذ محمود شاكر وصوّبه في تعليقه على «تفسير الطبري» وهو موافق لما في «تاريخ الطبري» و «الدر المنثور» و «معجم البلدان» .
(7) . 2: 366.
(8) . هو ابن أبي مسلم، صدوق، ويرسل ويدلّس، وقد أخرج له مسلم وغيره، مات سنة 135 هـ.
(9) . زيادة من «تفسير الطبري» .(1/91)
عبّاس: أنهم أربعون ألفا «1» .
47- إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ [الآية 246] .
أخرج ابن جرير «2» عن وهب بن منبّه «3» : أنّ اسمه شمويل، ونسبه إلى لاوي بن يعقوب.
وأخرج «4» عن السّدّي: أنه شمعون، قال: وإنّما سمّي به، لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب لها دعاءها، فولدت غلاما، فسمّته:
شمعون. تقول: الله سمع دعائي.
وأخرج «5» عن قتادة: أنه يوشع بن نون.
وقيل: اسمه حزقيل «6» . حكاه الكرماني في «العجائب» .
وقال ابن عساكر، وقال ابن عسكر:
قيل: اسمه: اشماويل بن هلفا، واسم أمه حسنة.
48- فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ [الآية 249] .
أخرج ابن جرير «7» عن السّدّي: أنّهم ثمانون ألفا.
49- مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [الآية 249] .
أخرج ابن جرير «8» عن الرّبيع، وقتادة، ومن طريق ابن جريج، عن ابن عبّاس: أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
ومن طريق العوفي، عن ابن عبّاس:
أنه نهر فلسطين.
__________
(1) . قال ابن جرير رحمه الله 2: 368: «وأولى الأقوال في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم بالصواب قول من حدّ عددهم بزيادة عن عشرة آلاف دون من حدّه بأربعة آلاف وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف، وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا الوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم «ألوف» . وإنّما يقال:
«هم آلاف» إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف»
. (2) . 2: 273
. (3) . وهب بن منبّه: أبو عبد اللَّه اليماني، من علماء التابعين كان ثقة صدوقا، كثير النقل من كتب الإسرائيليات، مات سنة بضع عشرة ومائة [.....]
. (4) . «ابن جرير» 2: 373
. (5) . «ابن جرير» 2: 373
. (6) . انظر «الطبري» 2: 373 الأثر: (5631)
. (7) . 2: 392
. (8) . 2: 391. وانظر «الدر المنثور» 1: 318.(1/92)
50- فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [الآية 249] .
عدّتهم ثلاث مائة وبضعة عشر. كما أخرجه البخاري «1» عن البراء.
51- مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [الآية 253] .
أخرج ابن جرير «2» عن مجاهد في قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، قال: موسى. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ، قال: محمّدا.
53- الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الآية 258] .
أخرج أبو داود الطيالسي في «مسنده» «3» عن عليّ، قال: الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ: هو مرود بن كنعان.
وأخرج ابن جرير «4» مثله عن مجاهد، وقتادة، والربيع، وزيد بن أسلم.
__________
(1) . 7: 390 في كتاب المغازي: باب عدة أصحاب بدر، وأحمد في «المسند» 4: 290، والطبري في «تفسيره» 2: 393
. (2) . انظر «تفسيره» 3: 2
. (3) . يبدو أن هذا الأثر سقط من نسخة «مسند الطيالسي» المطبوعة في الهند، وكذلك سقط من كتاب «منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود» لأحمد عبد الرّحمن البنا، ومن «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» للحافظ ابن حجر.
لكن عزاه المؤلف في كتابه «الدار المنثور» 1: 331 لذاك «المسند» وابن أبي حاتم. والله تعالى أعلى وأعلم
. (4) . 2: 6- 17.(1/93)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البقرة» «1»
قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) .
1- الرّيب: صرف الدهر. والريب والرّيبة: الشكّ والظنّة والتهمة.
وقد رابني الأمر وأرابني: علمت منه الريبة، ورأيت منه ما يكره. وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ، أي لا شكّ فيه.
وأراب الرجل: صار ذا ريبة فهو مريب.
وجاءت كلمة «الريب» في قوله تعالى من السورة نفسها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الآية 23] .
لقد وردت كلمة «الريب» في سائر سور القرآن خمس عشرة مرة أخرى في خمس عشرة آية من سور القرآن ومنها:
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [غافر: 59] .
كما وردت كلمة «ريبة» في [الآية 110 من سورة التوبة] هي في قوله تعالى:
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ.
وقد ورد الوصف من هذه الكلمة «مريب» في سبع آيات من سور مختلفة، جاء في ست منها وصفا لموصوف هو: «الشكّ» ، ومن ذلك قوله عز وجل:
وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) .
ولم يلتفت أهل العلم إلى هذا الوصف، فيعرضوا للشكّ والريب،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(1/95)
وعلاقة أحدهما بالآخر، وتعيين الحد بينهما، ولم أجد في كتب التفسير شيئا من هذا العلم اللغوي، الذي يبحث في دقائق الفروق.
وقد ورد «الشكّ» في خمس عشرة آية في سور مختلفة، جاء في ست منها موصوفا بالوصف «مريب» كما أشرنا.
و «الشكّ» نقيض اليقين، فاليقين ثبوت العلم، أما الشكّ فهو نقيضه.
وكأنه حال من التردد بعيد عن الاستقرار.
والذي أراه أنه أضعف من «الريب» ، ولو لم يكن ذلك لما وصف «الشكّ» في ست آيات ب «مريب» ، منها قوله تعالى:
وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) [إبراهيم] .
ويدلنا هذا على أن «الشك» قد ورد في تسع آيات أخرى غير موصوف بهذا الوصف، ويبدوا أنها تعني اليقين الثابت، كقوله تعالى:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] .
إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 104] .
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) [النمل] .
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 21] .
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) [ص] .
فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ [غافر: 34] .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) [الدخان] .
ألا ترى أن كلمة «الشكّ» في هذه الآيات التسع تعني التردد وعدم اليقين، وهي أضعف في دلالتها على المعنى من «الشكّ» موصوفا «بمريب» في الآيات الست التي أشرنا إلى بعض منها؟
إن «الشكّ» قد ورد في سورة يونس، الآية 94، في أسلوب الشرط وهو من أساليب الإنشاء. وأساليب الإنشاء في جملتها لا تحتمل الصدق(1/96)
والكذب، بخلاف أسلوب الخبر الذي يحتملهما. وعندي أن استعمال «الشكّ» في الآيات التسع، قد ورد إمّا في حشو جملة الشرط، وإما بعد «بل» للإضراب، وإما في حشو جملة الاستفهام، وإما في جملة توحي بالتردّد وعدم الاستقرار، كما في قوله تعالى:
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 21] .
وقوله تعالى أيضا: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) [الدخان] .
وقوله تعالى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ [غافر: 34] .
وعلى هذا كان استعمال الريب ألزم وأوجب لما يقتضي المقام أن تستعمل فيه، ولا يمكن أن يحل «الشكّ» محلّه.
ألا ترى أن قوله تعالى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها [الكهف: 21] . تقرير حق وبيان وعلم بأمر محقق، وهذا يؤذن ألا يستعمل فيه ما قد يفهم منه الضعف والتردّد، فاستبعدت كلمة «الشكّ» واستعملت كلمة «الريب» ، ولا يمكن أن تؤدي الاولى ما تؤديه الثانية.
ومثل هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] .
وقوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) [الحج] .
وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [السجدة] .
وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7] .
وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية: 26] .
ألا ترى أن قيام الساعة، والبعث، ويوم القيامة، ويوم الجمع حق لا مراء فيه، فإثباته وبيانه يتطلب أن تؤدي الألفاظ هذه الحال المقتضاة، فكان ان استعمل «الريب» ، ولم يستعمل «الشك» . تلكم لغة التنزيل في تخير اللفظ، وأحكام الأداء، وإصابة دقائق المعاني.
2- قال تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .(1/97)
أقول استعمال «المدّ» في هذه الآية استعمال لطيف دقيق، فهو غير «المدّ» المعروف بمعنى البسط، وهو استعمال خاص بهذه اللغة الشريفة.
قال الزمخشري «الكشاف 1: 67» :
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [الآية 15] : من مدّ الجيش وأمدّه إذا زاده، وألحق به ما يقوّيه ويكثّره. وكذلك مدّ الدواة وأمدّها: زادها ما يصلحها.
ومددت السرج والأرض: إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه: إذا وأصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه انهماكا فيه.
فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المدّ في العمر والإملاء والإمهال؟
قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المدّ، قراءة ابن كثير وابن محيصن: (ويمدّهم) ، وقراءة نافع:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ، على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له. فإن قلت: فكيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى الى قوله تعالى:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف:
202] ؟ قلت: إما أن يحمل على أنهم لمّا منعهم الله ألطافه التي يمنحها للمؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مددا. وأسند إليه سبحانه لأنه مسبب عن فعله بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء، وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره، والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
فإن قلت: فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان في الإمهال، وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين، ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
وفي قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .
العمه: مثل العمى.
قال الزمخشري: «الكشّاف 1: 69» ، «والعمه مثل العمى، إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي(1/98)
خاصة، وهو التحيّر والتردّد، لا يدري أين يتوجّه. ومنه قوله: بالجاهلين العمه، أي: الذين لا رأي لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضا عمهاء أي:
لا منار بها» . انتهى كلام الزمخشري.
أقول:
العمى والعمه متقاربان كلّ التقارب في الدلالة وبينهما فرق ما بين العامّ والخاص.
اللغة:
الذي أراه أن مادة المعنى في هاتين الكلمتين العين والميم، ثم يأتي الصوت الثالث ليعيّن المعنى، فيدلّ بالفتح في «العمى» على المعنى العام، ويدلّ بالهاء في «العمه» على المعنى الخاص.
قلت: بالفتح، وذلك أن الفتح بعد الميم في «العمى» وليس فوق الميم، هو صوت ثالث، فلما أطلق قليلا قليلا ولّد ما اصطلح عليه الألف المقصورة، وحقيقته فتحة لها طول معين يتجاوز الفتحة المألوفة، وهو صوت ثالث في هذه الكلمة كالصوت الصامت في «العمه» وهو الهاء.
3- قال تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الآية 20] .
أقول: أراد- جلّ وعلا- في قوله:
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ كلما أضاء البرق لهم مشوا في ضوئه. وهذا المعنى يدفعنا أن نقول في لغتنا العربية المعاصرة:
«إن هذه المسألة في ضوء العلم الحديث مقبولة» وليس: على ضوء العلم الحديث.
أقول: والذي دفع المعربين في عصرنا إلى استعمال: «على ضوء العلم» هو التأثر باللغات الغربية ولا سيما الفرنسية والإنكليزية.
4- لن:
قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) .
قال الزمخشري: في «الكشّاف 1:
181» :
فإن قلت: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت: «لا» و «لن» أختان في نفي المستقبل، إلّا أنّ في «لن» توكيدا وتشديدا، تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم(1/99)
غدا كما تفعل في أنا مقيم وإني مقيم.
وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه، أصلها «لا أن» ، وعند الفرّاء «لا» أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل حرف مقتضب لتأكيد نفي المستقبل.
أقول:
ويبدوا لي أنّ قول الفرّاء أوجه، وإن أصلها «لا» وهذا يعني أن التنوين عرض لها. وعلى هذا ألا يصح أن نقول: إنّ «إذا» أو «إذن» جاءت من «إذا» ، وإنّ «من» الموصولة أو الشرطية هي من «ما» ، ثم كان الاختصاص بعد ذلك في الاستعمال، بعد أن غبر عليها الزمان.
5- قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [الآية 31] .
قال الزمخشري: «في الكشّاف 1:
126» : وعلّم آدم مسمّيات الأسماء. ثم عرضهم، أي: عرض المسمّيات.
أقول: ذهب المفسرون إلى هذا التأويل بسبب الضمير «هم» ، الذي يعود إلى جماعة العاقلين، والأسماء حقّها أن يكون الضمير العائد عليها هو «ها» للتأنيث، فيكون الفعل «عرضها» .
أقول أيضا: لعل هذا الاختصاص في الضمائر في الاستعمال لم يكن واضحا وضوحا كافيا في الحقب البعيدة من تاريخ العربية.
وجاء في «الكشّاف» : وقرأ عبد الله:
عرضهن، وقرأ أبيّ: عرضها.
6- قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) .
قال الزمخشري: الباء التي في «الباطل» إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء، خلطته به، كان المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها، فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه.
أقول: كأن الأصوات الصامتة الساكنة التي ندعوها في كتب العربية القديمة «الحروف الصّحاح» هي مادة المعاني في الألفاظ، ثم تأتي الأصوات الصائتة التي دعيت «أحرف العلة» ،(1/100)
ويتبعها «الحركات» التي هي بعضها أو جنسها، لتخص هذه المعاني بخصوصيات مفيدة. ألا ترى أن «لبس، يلبس» بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع تعني الخلط، وأنها غير «لبس، يلبس» بكسر ففتح فهذه من اللّباس. وإن مصدر الاولى «اللّبس» بفتح اللام، ومصدر الثانية «اللّبس» بضمها؟
أقول: كان على اللغويين، وأصحاب المعجمات أن يستشهدوا بالآية للدلالة على معنى «الخلط» في ترجمة «لبس» .
7- قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) .
قوله جل شأنه: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، أي فدية.
أقول: وانصراف «العدل» إلى الفدية شيء من الكلم الإسلامي، الذي عرفناه في لغة القرآن.
8- عثو:
قال تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) .
جاء في كتب اللغة:
قال ابن سيده: عثا عثوّا وعثي عثوّا:
أفسد أشدّ الإفساد.
وقال: وقد ذكرت هذه الكلمة في المعتل بالياء على غير هذه الصيغة من الفعل، وقال في الموضع الذي ذكره:
عثي في الأرض عثيّا وعثيّا وعثيانا، وعثى يعثى عن كراع وهو نادر، كل ذلك أفسد.
وقال كراع: عثى يعثى مقلوب من عاث يعيث، فكان يجب على هذا يعثي إلّا أنه نادر، والوجه عثي في الأرض يعثى.
وقرأ القرّاء كلهم: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) بفتح الثاء من عثي يعثى عثوّا، وهو أشدّ الفساد، وفيه لغتان أخريان لم يقرأ بواحدة منهما:
إحداهما عثا يعثو، قال ذلك الأخفش وغيره، ولو جازت القراءة بهذه اللغة، لقرئ: «ولا تعثوا» ولكن القراءة سنّة ولا يقرأ إلّا بما قرأ القرّاء به.
واللغة الثانية: عاث يعيث.
قال الأزهري: واللغة الجيّدة عثي يعثى، لأنّ يفعل لا يكون إلّا فيما ثانيه وثالثه أحد حروف الحلق.(1/101)
أقول: وهذه اللغة التي قرأ بها عامة القرّاء وَلا تَعْثَوْا، لم تبق في العربية المعاصرة، بل بقي مقلوبها وهو عاث يعيث.
ومن المفيد أن أشير إلى أنّ بين الأجوف والناقص تبادلا في الصيغ، يتبين في طائفة من الأفعال منها: رأى وراء، وأنى وآن، وعثا وعاث وغير ذلك.
9- قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) .
أقول: عقّب الله- جل وعلا- على القتل الذي عبّر عنه بسفك الدماء بالإجلاء عن الديار. وهذا يعني أن العدوان بالإجلاء يأتي بعد اقتراف القتل في قسوته وفظاعته.
10- قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) .
أقول: إن لغة الحوار تستدعي استحضار الأحوال الماضية، وهذا يسوّغ بل يوجب استعمال صيغة الفعل الحاضر في سياق الماضي، فجاء في الآية: نؤمن، فلم تقتلون أنبياء الله، وقد عبّر عنه أهل العلم من المتقدمين بقولهم: حكاية حال ماضية.
11- قال تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً [الآية 128] .
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) .
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) .
أقول: المراد بمادة «أسلم» في هذه الآيات الخضوع والإذعان، وقوله تعالى: مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك وجهينا، وهو من قوله تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. أي: أخلص وجهه وأذعن وخضع. ومن هنا كانت كلمة «الإسلام» بمصطلحها المعلوم مشيرة إلى أن «المسلم» من أسلم وجهه لربه، وخضع وأذعن وأطاع.
12- قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) .(1/102)
قال الزمخشري في «الكشّاف 1:
196» :
صِبْغَةَ اللَّهِ مصدر مؤكد منتصب على قوله آمَنَّا بِاللَّهِ «1» ، وهي فعلة من «صبغ» ، كالجلسة من «جلس» ، وهي الحالة التي يقع فيها الصبغ.
والمعنى: تطهير الله، لأنّ الإيمان يطهّر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعمودية، ويقولون هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقّا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم:
قولوا آمنّا بالله، وصبغنا الله بالإيمان صبغة، لا مثل صبغتنا، وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالإيمان صبغته، ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة، كما تقول: لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرم.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً يعني أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهّرهم من أو ضار الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغته.
أقول: لقد احتملت كلمة «الصبغة» هذا المعنى الاصطلاحي، وهو التطهير حتى صرنا نجدها في مصطلح غير المسلمين، بمعنى التطهير والتقديس، فالصبّاغ مثلا في عربية صابئة اليوم، هو الذي يقوم بعمل الصبغ، أي:
التطهير بصب الماء على من يريد التطهّر، برسوم معرفة لدى الصابئة.
13- وقال تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[الآية 148] .
الجهة (بكسر الجيم) والوجهة والوجهة (بكسر الواو وضمّها) واحد.
والذي جاء في لغة التنزيل: «الوجهة» بكسر الواو، والذي درجت عليه العربية أن فاء الكلمة إذا كان مكسورا حذف في الغالب في المصادر نحو:
«عدة» و «سنة» بكسر عين الكلمة إشارة للواو المكسورة التي حذفت، وقد تحذف الواو وهي مفتوحة إذا كانت فاء الكلمة نادرا نحو «سعة» و «ضعة» ، وقد يكون الفتح على السين والضاد بسبب العين الصوت الثالث في الكلمة.
__________
(1) . الآية: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (136)
.(1/103)
هذه ملاحظات وليست قواعد لأننا نعرف أن في العربية كثيرا من الكلم تبدأ بواو مكسورة فلا تحذف الواو ولا تبدل نحو وصال ووفاق. ولكننا نجد وجاه ووجاه قد تحوّلت الى تجاه وتجاه، ووراث إلى تراث، ووصاد إلى إصاد، وغير هذا ممّا اشتملت عليه فرائد العربية.
وإبدال الواو «ياء» بسبب كسر ما قبله، لا يقتصر على كون الواو فاء الكلمة، فقد تبدل الواو ياء في المصادر للأفعال الجوف نحو: الصّون مصدر «صان» ، ولكنك تقول الصّيان والصّيانة، والقوم مصدر «قام» ، ولكنك تقول القيام والقيامة.
وقد تجد الاسم من هذه المصادر بالواو مع كسرة ما قبله نحو الصّوان للشيء الذي يصان به، ولك أن تقول الصّوان بالضم، كما تقول «القوام» بالكسر، وقوام الأمر نظامه ونصابه وملاكه.
وتقول في المصادر على «فعلة» بالكسر غيلة من الفعل «غال يغول» كما تقول «طيلة» و «ميتة» وغير ذلك.
14- قال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الآية 187] .
والمعنى: تظلمون أنفسكم وتنقصونها حظّها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة «الكشاف 1: 230» .
أقول: لقد تعقّبت الفعل «اختان» ، وهو «افتعل» من «خان» ، فلم أحظ به في غير الآية الكريمة المشار إليها.
وليس لنا في العربية المعاصرة غير الفعل المجرد «خان» . غير أن المزيد «اختان» جاء ليؤدي فائدة خاصة، تنأى به عن معنى الفعل المجرد.
15- قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الآية 191] .
قوله حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ في الآية يعني:
حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم.
والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه رجل ثقف، أي سريع الأخذ لأقرانه، قال:
فإمّا تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود
أقول: وهذا المعنى في مادة «ثقف» لا نعرفه في العربية المعاصرة، وذلك أن «الثقافة» بمعناها المعاصر غلبت على الكلمة، حتى نسي الناس أنّ الأصل فيها للثقاف، وهو الآلة التي(1/104)
تعضّ الرماح وتقبضها لتقويمها، والثقف هو القبض والضبط.
16- قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الآية 196] .
قال الزمخشري (الكشاف 1: 239- 240) :
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يقال: أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف، أو مرض أو عجز.
قال الله تعالى: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 273] .
وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ، أو سجن، ومنه قيل للمحبس: الحصير وللملك الحصير لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل: صدّه وأصدّه، وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى، كل منع عنده من عدو كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي: فما تيسّر منه.
والهدي ما أهدي إلى مكّة من النّعم، وقرئ: (حتّى يبلغ الهديّ محلّه) بالتخفيف والتشديد الواحدة هدية وهديّة.
ثم أطلق الهدي أو الهديّ على جميع الإبل، وإن لم تكن هديا تسمية للشيء ببعضه.
وقال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الآية 196] النسك: شاة.
وعن كعب بن عجرة أن رسول ا (ص) قال له: «لعلّك آذاك هو امّك» ؟ قال:
نعم يا رسول الله. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة» .
والنّسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك بالتخفيف.
17- قال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الآية 226] قال الزمخشري في «الكشاف 1: 268» :
«قرأ عبد الله: آلوا من نسائهم. وقرأ ابن عباس: يقسمون من نسائهم: فإن قلت كيف عدّي ب «من» ، وهو معدّى ب «على» ؟
قلت: قد ضمّن في هذا القسم(1/105)
المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل:
يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين.
ويجوز أن يراد لهم: (من نسائهم تربّص أربعة أشهر) كقوله: لي منك كذا.
والإيلاء من المرأة أن يقول: «والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا، على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق» .
أقول: هذا هو معنى «الإيلاء» في الآية، وأصله القسم.
وجاء في كتب اللغة:
والألوة، والألوة، والألوة، والأليّة على فعيلة، والأليّا كله اليمين، والجمع ألايا.
قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الأليّة برّت
رواه ابن خالويه: قليل الإلاء، يريد الإيلاء فحذف الياء، والفعل آلى يؤلي إيلاء: حلف، وتألّى يتألّى تألّيا وأتلى يأتلي ائتلاء.
وفي التنزيل العزيز: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور 22] .
وقال أبو عبيد: «لا يأتل» هو من ألوت. أي: قصّرت.
وقال الفرّاء: الائتلاء: الحلف.
وقرأ بعض أهل المدينة: ولا يتألّ، وهي مخالفة للكتاب من تألّ، وهي مخالفة للكتاب من تألّيت، وذلك أن أبا بكر- رضي الله عنه- حلف أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة وقرابته الذين ذكروا عائشة، فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية، وعاد أبو بكر إلى الإنفاق عليهم.
وقد تألّيت وأتليت وآليت على الشيء وآليته، على حذف الحرف:
أقسمت. أقول: ولم يبق من هذا الفعل في العربية المعاصرة إلا قول المعربين:
فلان لا يألو جهدا، أي لا يقصّر، وهو معنى آخر عرفته العربية في عصورها المتتابعة، وليس هذا موطن الشاهد في [الآية 226] .
كما بقي قولهم: آليت على أن أقوم بما يجب عليّ بمعنى عزمت وأقسمت.
ومما يجب أن نلاحظه أن هذا الاستعمال الأخير لا يرد في اللغة المعاصرة إلّا فعلا ما ضيا ليس غير.(1/106)
18- قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الآية 228] .
البعولة: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة. ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر، من قولك: بعل حسن البعولة. يعني: وأهل بعولتهن.
أقول: وردت «فعولة» من أبنية التكسير فيما كان مفردة «فعل» بالفتح فالسكون نحو الحزونة، والسهولة، والفحولة، والخيوطة، جموع حزن، وسهل، وفحل، وخيط.
ولقد جرت العامية الحضرية في العراق على شيء من هذا، نحو سير للجلد يقال في جمعه: «سيورة» ، وفي «مهر» يقولون: «مهورة» .
فائدة
: من أسلوب القرآن في الحفاظ على نظام الجمل في حدودها، وأقسامها، وتساوق بعضها مع بعض، أن الآية قد تأتي غير كاملة، فيما يتطلبه المعنى لغرض من الوفاء بنظام هذه الجملة القرآنية، لتأتي منسجمة مع سائر الجمل في الآيات قبلها وبعدها، ومن ذلك قوله تعالى:
ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) «1» .
أقول: إن نهاية الآية كان يمكن أن تنتهي عند قوله تعالى: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ من الآية التالية 220، وهي تكملة لقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى بيد أن من حكمته تعالى أن يحافظ على النظام البديع في نظم جرى على هذا. وأنت إذا أردت أن تستوفي هذه النماذج التي تتصل بلغة القرآن ونظامها وبنائها، وجدت الشيء الكثير.
ألا ترى أنّ في قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) . عناية ما بعدها عناية لما توافر لهذا الأسلوب الحكيم البليغ من النظم البديع، متمثّلا في الكسر في كلمة (الداع) ، والاستعاضة عن الكسر الطويل بكسر قصير؟ فليس هذا شيئا يتصل برسم القرآن، وهو مما درج عليه القائلون في
__________
(1) . العفو: نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع
.(1/107)
أنه «خط المصحف» . إن كلمة (الداع) كان ينبغي أن تكون «الداعي» بالياء الطويلة، وهو شيء متطلب صحيح واجب، واستبعاد هذه الحركة الطويلة يخدم البناء القرآني في جعل هذه الكلمة «الداع» ، بالحركة القصيرة منسجمة مع الحركة التي تليها في «إذا» وهي الكسرة القصيرة.
وليس شيء من الاقتصار على القول ب «رسم المصحف» ، أن تأتي الكلمة «دعان» بالنون متلوّة بحركة قصيرة هي الكسرة القصيرة، وكان حقّها الحركة الطويلة فترسم ياء «دعاني» . إن ذلك ليخدم هذا البناء البديع فيتهيّأ منه، أن تكون «وقفة» على (دعان) ، فيحسن بهذا الوقف النظم والبناء، ولا يتم هذا الحسن لو كان الوقف على «دعاني» بالياء.
19- قال تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا (231) .
قال الزمخشري «في الكشاف 1:
277» :
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً كان الرجل يطلّق المرأة، ويتركها حتى يقرب انقضاء عدّتها، ثم يراجعها لا عن حاجة، ولكن ليطوّل العدّة عليها، فهو الإمساك ضرارا.
أقول: لقد حفلت لغة القرآن بالمصطلح الحضاري العلمي، ولعل التجربة اللغوية في توفير المصطلح تتمثل بجلاء في العربية القرآنية الشريفة، التي برهنت أن العربية لغة الفكر في شتّى صوره. إن «الإمساك ضرارا» في مسألة الطلاق من الكلم الفني ذي الدلالة الاجتماعية في هذه اللغة العريقة القديمة.
20- قال تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [الآية 232] .
روي أن الآية نزلت في معقل بن يسار، حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول. وقيل: في جابر بن عبد الله، حين عضل بنت عمّ له، والوجه أن يكون خطابا له.
كذا ذكر الزمخشري.
والعضل: الحبس والتضييق. ومنه:
عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، وأنشد لا بن هرمة:(1/108)
وإن قصائدي لك فاصطنعني ... عقائل قد عضلن عن النكاح
وجاء في «لسان العرب» في الكلام على هذه الآية (عضل) :
أن العضل في هذه الآية من الزوج لامرأته، وهو أن يضارّها ولا يحسن عشرتها، ليضطرّها بذلك إلى الافتداء بمهرها الذي أمهرها، سمّاه الله تعالى عضلا، لأنه يمنعها حقّها من النفقة، وحسن العشرة، كما أن الوليّ إذا منع حرمته من التزويج، فقد منعها الحق الذي أبيح لها من النكاح إذا دعيت إلى كفء لها.
أقول: و «العضل» بهذا المعنى شيء له خصوصية دلالية خاصة أشارت إليه الآية. وهذه الخصوصية أكسبت اللفظ دلالة الاصطلاح الإسلامي الذي عرف من الآية الكريمة.
21- وقال تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [الآية 236] .
قوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً معناه إلّا أن تفرضوا لهنّ فريضة، أو حتى تفرضوا. وفرض الفريضة تسمية المهر.
أقول: و «الفريضة» بهذا الاستعمال كلمة مفيدة، يصح أن نجد لها مكانا في العربية المعاصرة، فكثيرا ما تستعمل في عصرنا الفعل: «عيّن» فيقال: عيّن له مكافأة أو معونة أو شيئا مثل هذا.
22- وقال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [الآية 239] .
قوله: فَرِجالًا، أي: فصلّوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام. وقرئ: فرجالا بضمّ الراء، ورجالا بالتشديد، ورجلا.
أقول: و «الرجال» : جمع راجل، ومثله «قيام» : جمع قائم وغير ذلك، وقد يتّضح هذا من قوله تعالى: أَوْ رُكْباناً، والركبان: جمع راكب، فكأنّ الآية أشارت لمن يمشي على رجليه، أو لمن هو راكب.
وكثيرا ما يأتي اللفظ في العربية واحدا، ودلالته على اثنين، مثلا فالرّجال: جمع راجل كما في الآية، والرجال: جمع رجل أيضا.
23- وقال تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [الآية 259] .(1/109)
قال الزمخشري «في الكشاف 1:
307» :
لَمْ يَتَسَنَّهْ: لم يتغيّر، والهاء أصلية أو هاء السكت، واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأنّ لامها هاء أو واو، وذلك أن الشيء يتغيّر بمرور الزمان.
وقيل: أصله «يتسنّن» ، من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة، كتقضّي البازي. ويجوز أن يكون معنى لَمْ يَتَسَنَّهْ لم تمرّ عليه السنون التي مرّت عليه، يعني هو بحالة كما كان، كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد الله: (فانظر إلى طعامك، وهذا شرابك لم يتسنّ) ، وقرأ أبي: (لم يسّنّه) ، بإدغام التاء في السين.
أقول:
إن كلمة «سنة» مثل شفة من الكلم الثنائي، الذي تحوّل في العربية إلى ثلاثي إفادة من الواو أو الهاء، وقد ذهب اللغويون القدامى إلى أن الواو أو الهاء أصل ثالث، ذهب عن الكلمة فردّ إليها في الكلمات التي قامت على الأصل وهو المفرد «سنة» ، فقالوا في الجمع سنوات وسنهات، كما قالوا شفاه وشفهات وشفوات، وقالوا في المنسوب: سنويّ وسنهيّ، كما قالوا:
شفويّ وشفهيّ، وقالوا في الفعل سانه كما قالوا شافه، والمسانهة معروفة كالمشافهة وكذلك المساناة.
وقد تجاوزت العربية هذا الحدّ في جعل الصوت الثالث في «السنة» واوا، أو هاء، فأفادت من التاء علامة التأنيث فيها، فكانت الصوت الثالث في مادة «سنت» فقالوا:
رجل سنت: قليل الخير، والجمع سنتون ولا يكسّر.
وأسنتوا فهم مسنتون: أصابتهم سنة وقحط وأجدبوا، ومنه قول ابن الزّبعرى:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكّة مسنتون عجاف والتاء في «سنت» عند سيبويه على بدل التاء من الياء، ولا نظير له إلّا قولهم ثنتان، حكى ذلك أبو علي.
وفي «الصحاح» : أصله من السنة قلبوا الواو تاء ليفرقوا بينه وبين قولهم:
أسنى القوم إذا أقاموا سنة في موضع.
وقال الفرّاء: توهّموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها ثالثة فقلبوها تاء، تقول منه أصابتهم السنة، بالتاء.(1/110)
وفي الحديث: وكان القوم مسنتين، أي مجدبين أصابتهم السنة، وهي القحط والجدب.
وفي حديث أبي تميمة: الله الذي إذا أسنت أنبت لك، أي: إذا أجدبت أخصبك.
ويقال: تسنّت فلان كريمة آل فلان إذا تزوّجها في سنة القحط.
وفي «الصحاح» يقال: تسنّتها إذا تزوّج رجل لئيم امرأة كريمة، لقلّة مالها وكثرة ماله.
والسّنتة والمسنتة: الأرض التي لم يصبها مطر فلم تنبت، عن أبي حنيفة، قال: فإن كان بها يبيس من يبيس عام أوّل فليست بمسنتة، ولا تكون مسنتة حتى لا يكون بها شيء.
وقالوا: عام سنيت مسنت: جدب.
وسانتوا الأرض: تتبّعوا نباتها.
فأنت ترى أن «السنة» تصرفت بها العربية فكانت منها فوائد كثيرة.
24- قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 279] .
قول تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [الآية] [279] فاعلموا بها من «أذن بالشيء» إذا علم به، وقرئ: فأذنوا بها، والمعنى فأعلموا بها غيركم. وهو من الإذن وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم.
وقرأ الحسن: فأيقنوا، وهو دليل لقراءة العامّة. فإن قلت: هلّا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت: كان هذا أبلغ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله. «الزمخشري 1: 322» .
أقول: والإذن بمعنى الإعلام ليس ممّا نعرفه في غير هذه الآية.
أما قول الزمخشري إن الإذن هو الاستماع، فهو إشعار لنا أن «الإذن» ، وهو المصدر من الفعل «أذن» ، قد جاء من «الأذن» ، وهي عضو السمع، كما أن «المعاينة» جاءت من العين، و «الأنفة» جاءت من الأنف.
25- قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] .
قال الزمخشري «في الكشاف 1:
332» :
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، ينفعها ما كسبت من خير، ويضرّها ما(1/111)
اكتسبت من شرّ، لا يؤاخذ بذنبها غيرها، ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خصّ الخير بالكسب، والشرّ بالاكتساب؟ قلت: في «الاكتساب» اعتمال، فلمّا كان الشرّ ممّا تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» .
أقول:
لو استقرينا الآيات الكريمة في سائر سور القرآن، لنتبيّن حقيقة ما ذهب إليه الزمخشري من أن الفعل المزيد «اكتسب» ، قد خصّ بالشرّ في حين أن الفعل المجرّد «كسب» ، قد خصّ بالخير، لاهتدينا إلى أنّ المزيد والمجرّد بمعنى، وأنّ الفعل المجرّد يأتي للخير كما يأتي في الشرّ، ومثله الفعل المزيد «اكتسب» ، وسنعرض لطائفة من الآيات:
قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [الآية 267] .
لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [الآية 264] .
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) [الأنعام] .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [الآية 134] .
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] .
إنّ الفعل «كسب» ، في هذه الآيات يجيء خاصا بالخير، غير أننا نجد هذا الفعل خاصا بالشر كما في قوله تعالى:
وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) [الأعراف] .
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) [يونس] .
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
[النساء: 111] .
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
[النساء:
112] .
ونأتي إلى المزيد «اكتسب» ، فنجده، قد خصّ بالشر، كما في قوله تعالى:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور: 11] .
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] .(1/112)
كما نجد هذا الفعل المزيد، قد خصّ بالخير، كما في قوله تعالى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: 32] .
لقد بدا لنا أن لا فرق بين المجرّد والمزيد، وأنّ الاختصاص الذي ذهب إليه الزمخشري غير حاصل في كلام الله عز وجل، وذلك ممّا أفدناه من الآيات التي أشرنا إليها، وهي قليل من كثير.
والذي سوّغ للزمخشري أن يذهب إلى القول بالاختصاص، والتفريق بين «كسب» ، و «اكتسب» ، أنّ الفعل الأول قد سبقة المجرور باللام، وأنّ الفعل الثاني قد سبقة المجرور ب «على» .
ومن المعلوم أنّ استعمال اللام في الجرّ يفيد هذا الذي دفع الزمخشري إلى القول بالاختصاص بالخير، كما أنّ استعمال «على» يفيد ما ذهب إليه من الاختصاص بالشر، كقولنا: يوم لك ويوم عليك. فالاختصاص بالخير أو الشر قد جاء من استعمال الخافض، وهو اللّام في الأوّل، و «على» في الثاني.(1/113)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البقرة» «1»
أمّا قوله تعالى الم [الآية 1] ، فإن هذه الحروف أسكنت، لأنّ الكلام ليس بمدرج، وإنّما يكون مدرجا، لو عطف بحرف العطف، وذلك أنّ العرب تقول في حروف المعجم كلّها بالوقف، إذا لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: «ألف باء تاء ثاء» ويقولون: «ألف وباء وتاء وثاء» . وكذلك العدد عندهم، ما لم يدخلوا حروف العطف فيقولون: «واحد اثنان ثلاثة» . وبذلك، وعلى أنه ليس بمدرج، قطعت ألف «اثنين» ، وهي من الوصل. فلو كان وصلها بالذي قبلها، لذهبت، ولكن هذا من العدد والعدد والحروف كلّ واحد منها شيء مفصول على حياله. ومثل ذلك المص (1) [الأعراف] ، الر «2» والمر [الرعد] ، وكهيعص (1) [مريم] وطسم (1) «3» ويس (1) [يس] ، وطه (1) [طه] ، وحم (1) «4» وق [ق] وص [سورة ص] . إلا أنّ قوما قد نصبوا يس (1) وطه (1) وحم (1) «5» وهو
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب، بيروت، غير مؤرّخ
. (2) . يونس 10: 1 وهود 11: 1 ويوسف 12: 1 وابراهيم 14: 1 والحجر 15: 1 [.....]
. (3) . الشعراء 26: 1 والقصص 28: 1
. (4) . غافر 40: 1، وفصلت 41: 1، والشورى 42: 1، والزخرف 43: 1، والجاثية 45: 1، والأحقاف 46: 1
. (5) . ذكر نصب [يس] في معاني القرآن 3: 371 ولم ينسبه قراءة ونسب في الشواذ 124 فتح النون من [يس] والفاء من [ق] والدال من [ص] إلى عيسى بن عمر، ونسب في المحتسب 2: 203 فتح النون من [يس] إلى ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، ونسب في الجامع 15: 3 ونصب النون في [يس] إلى عيسى وفي البحر 7: 323 كما في المحتسب
.(1/115)
كثير في كلام العرب، وذلك أنّهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية «هابيل» و «قابيل» . فإمّا أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنّه قال: «اذكر حم وطس ويس» ، أو جعلوها كالأسماء، التي هي غير متمكّنة فحرّكوا آخرها واحدة كفتح «أين» ، وكقول بعض الناس (الحمد لله) بكسر الدال. وقرأ بعضهم (ص) و (ن) و (ق) «1» بالفتح، وجعلوها أسماء ليست بمتمكّنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماء للسورة، فصارت أسماء مؤنّثة. ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكنا نحو «هند» و «جمل» و «دعد» . قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الرابع] :
وإنّي لأهوى بيت هند وأهلها على هنوات قد ذكرن على هند وهو يجوز في هذه اللغة أو يكون سمّاها بالحرف، والحرف مذكّر، وإذا سمّي المؤنث بالمذكّر لم ينصرف، فجعل ص وما أشبهها، اسما للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.
وقرأ بعضهم (صاد والقرآن) «2» فجعلها من «صاديت» ثم أمر، كما تقول «رام» ، كأنه قال: «صاد الحقّ بعملك» اي: تعمّده «3» ، ثم قال وَالْقُرْآنِ [ص: 1] فأقسم، ثم قال بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ
(2) [ص] . فعلى هذا وقع القسم. وذلك أنّهم زعموا أن «بل» هاهنا انّما هي «إنّ» فلذلك صار القسم عليها «4» .
__________
(1) . في الطبري 23: 118 نسبت إلى عيسى بن عمر وهي مرجوحة عنده وفي الشواذ 129 كذلك وفي المحتسب 2:
230 اقتصر على فتح الدال من (ص) وفي الجامع 15: 143 نسبت الثلاثة إلى عيسى، وزاد في البحر 7: 383 محبوبا عن ابن عمر، وفرقة لم يعيّنها واقتصر في الشواذ 124 على فتح الميم من (حم) ونسبة إلى عيسى بن عمر، وكذلك في الجامع 15: 290. وجاءت في الأصل (ن) مكتوبة اللفظ (نون)
. (2) . سورة ص 38: 1. في معاني القرآن 2: 396 خفض الدال من (ص) إلى الحسن. والطبري 23: 118 إلى عبد الله بن أبي إسحاق، وهي مرجوحة بقراءة السكون، وفي الشواذ 129 زاد أبا السمال، وفي المحتسب 2: 230 إلى أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق. وفي الجامع 5: 142 زاد نصر بن عاصم وفي البحر 7: 383 زاد أبا السمال وإبراهيم بن أبي عبلة
. (3) . في إيضاح الوقف والابتداء 1: 483 و 484 نقل الرأي بلفظ مخالف وزيادات
. (4) . نقله في الصحاح واللسان «بلل»
.(1/116)
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: «إنّما هي حروف يستفتح بها» فإن قيل «هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى» ؟.
فإنّ معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى. فجعل هذا، علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول [من الرجز، وهو الشاهد الخامس] :
بل.
وبلدة ما الإنس من آهالها «1» أو يقول [من الرجز، وهو الشاهد السادس] :
بل.
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا «2» ف «بل» ليست من البيت ولا تعدّ في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر «3» . وقال قوم: «إنّها حروف، إذا وصلت، كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتي بعض الناس علم ذلك. وذلك أن بعضهم، كان يقول:
«الر» و «حم» و «ن» هذا هو اسم «الرحمن» جل وعزّ، وما بقي منها، فنحو هذا» .
وقالوا: قوله تعالى كهيعص (1) [مريم] كاف، هاد، عالم، صادق، فأظهر من كل اسم منها حرفا ليستدلّ به عليها. فهذا يدلّ، على أن الوجه الأوّل لا يكون إلّا وله معنى. لأنه يريد معنى الحروف. ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لأن الم وطسم (1) وكهيعص (1) ليست مثل شيء من
__________
(1) . ورد في الصحاح «بلل» بلفظ «آهالها» ولم يعز. وكذلك ورد في «اللسان» «أهل» وبعده:
ترى بها العواهق من وئالها وورد في «بلل» مع مصراع ثالث هو:
كالنار جرّت طرفي حبالها ولم يعز في أيّ
. (2) . ورد في الصحاح «بلل» وفي اللسان «بلل» ولم يعز فيهما. وهو لعبد الله العجاج. انظر ديوانه (348) ، والكتاب (2: 299) ، والأمالي 1: 38، والخصائص (1: 171) ، وشرح شواهد المغني للسيوطي (268)
. (3) . نقل الجوهري في الصحاح «بلل» وفعل ابن منظور في اللسان فعله وزاد في مصاريع الرجز اللامي
.(1/117)
الأسماء، وإنما هي حروف مقطّعة.
وقرأ قوله تعالى الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران] بفتح الميم، لأنّها لقيها حرف ساكن، فلم يكن من حركتها بدّ. فان قيل: «فهلّا» حرّكه بالجر» ؟ فان هذا لا يلزم فيها، وإنما أرادوا الحركة، فإذا حرّكوها بأي حركة كانت، فقد وصلوا الى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز، ولا أعلمها إلّا لغة «1» .
وقال بعضهم: «فتحوا الحروف التي للهجاء، إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها. وقالوا: «من الرجل» ففتحوا لاجتماع الساكنين. ويقولون «هل الرجل» و «بل الرجل» وليس بين هذين وبين «ومن الرجل» فرق، إلّا أنّهم قد فتحوا «من الرجل» لئلّا تجتمع كسرتان، وكسروا إِذِ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 93] . وقد اجتمعت كسرتان لأنّ «من» أكثر استعمالا في كلامهم من «إذ» ، فأدخلوها الفتح ليخفّ عليهم.
وإن شئت قلت: «ألم» حروف منفصل بعضها من بعض، لأنّه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضا منفصلة ممّا بعدها، فالأصل فيه أن تقول (ألم الله) فتقطع ألف اللَّهُ «2» إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت «واحد، اثنان» فقطعت.
وكما قرأ القراء ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] فبيّنوا النون لأنّها منفصلة «3» . ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلّا أن يلقاها أحد الحروف الستة. ألا ترى أنّك تقول «خذه من زيد» و «خذه من عمرو» فتبيّن
__________
(1) . نسبت في الشواذ 19 إلى عمرو بن عبيد وفي البحر 2: 374 إلى ابن حياة، وروي أن ابن عطية نسبها إلى الرواسي، وأنّ الزمخشري نسبها إلى عمرو بن عبيد. وقد أنكر أبو إسحاق الزّجّاج هذا الرأي على الأخفش، وقال «الذي حكاه الأخفش من كسر الميم خطأ لا يجوز ولا تقوله العرب لثقله» (اعراب القرآن 1: 143) ونقل القرطبي رأي الأخفش في الجامع (4: 1)
. (2) . هي قراءة الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبي جعفر الرواسي (إعراب القرآن 1: 143) وقال ابن مجاهد إنّها قراءة عاصم (السبعة 200)
. (3) . في معاني القرآن 3: 172 قرأ الإخفاء، ولم ينسبها قراءة البيان إلى الأعمش وحمزة (3: 172) ، وفي الطبري 29: 16 أنّ الكسائي كان يدغم النون الاخرة في (نون) و (يس) أو يخفيها بناء على الاتصال، ونسب إظهار النون فيهما إلى قرّاء الكوفة. وفي السبعة 646، أنّ إخفاء النون إلى عاصم والكسائي، وتبيينها إلى عاصم في رواية، وإلى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو وحمزة، وفي الجامع 18: 223 أنّ الإدغام إلى أبي بكر والمفضّل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. أمّا في البحر 8: 307 فإدغام النّون وإسكانها إلى الجمهور وإظهار النون إلى حمزة وأبي عمرو وابن كثير وقالون وحفص
.(1/118)
النون في «عمرو» ولا تبيّن في «زيد» .
فلمّا كانت ميم ساكنة، وبعدها حرف مقطوع مفتوح، جاز أن تحرّك الميم بفتحة الألف، وتحذف الالف في لغة من قال: «من أبوك» فلا تقطع. وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج، فقرأوا (نون والقلم) فأثبتوا النّون ولم يبيّنوها.
وقالوا يس (1) وَالْقُرْآنِ [يس] «1» فلم يبيّنوا أيضا. وليست هذه النّون ها هنا بمنزلة قوله كهيعص (1) [مريم] وطس تِلْكَ [النمل: 1] وحم (1) عسق (2) [الشورى] .
فهذه النونات لا تبيّن في القراءة، في قراءة أحد، لأنّ النّون قريبة من الصاد، فالصّاد والنّون من مخرج طرف اللسان. وكذلك التّاء والسّين في طس تِلْكَ وفي حم (1) عسق (2) [الشورى] ، فلذلك لم تبيّن النون إذ قربن منها. وتبيّنت النون في يس (1) ون لبعد النون من الواو، لأنّ النون بطرف اللسان، والواو بالشّفتين.
وقال: لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) وقال فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الآيات 173 و 182 و 203] فنصبهما بغير تنوين. وذلك أنّ كلّ اسم منكور نفيته ب «لا» ، وجعلت «لا» الى جانب الاسم، فهو مفتوح بغير تنوين، لأنّ «لا» مشبّهة بالفعل، كما شبّهت «إنّ» و «ما» بالفعل. و (فيه) في موضع خبرها، وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، و (لا) بمنزلة الفعل. وإنّما حذفت التنوين منه لأنّك جعلته و «لا» اسما واحدا، وكلّ شيئين جعلا اسما لم يصرفا «2» . والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها، وجعل غير متمكّن. والاسم الذي بعد «لا» في موضع نصب عملت فيه «لا» .
وأما قوله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
__________
(1) . انظر الهامش السابق أيضا في السبعة 538، تبيين النون فيها إلى رواة نافع، وعدم التبيين إلى نافع في رواية، ونسب في الكشف 2: 214 عدم التبيين إلى ورش وأبي بكر والكسائي وابن عامر وفي الجامع 15: 3 نسب إدغام النون بالواو إلى اهل المدينة والكسائي، واسكان النّون إلى أبي عمرو والأعمش وحمزة، ونسب في البحر 7: 323 سكون النّون مدغمة في الواو إلى الجمهور والكسائي وأبي بكر وورش وابن عامر، وأنّ سائر السبعة قرءوا النّون ساكنة [.....]
. (2) . أي «بنيا»
.(1/119)
يَحْزَنُونَ (62) [يونس] «1» فالوجه فيه الرفع، لأنّ المعطوف عليه لا يكون إلّا رفعا ورفعته، لتعطف الاخر عليه. وقد قرأها قوم نصبا، وجعلوا الاخر (رفعا) على الابتداء.
وقوله فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الآية 197] ، فالوجه النصب «2» لأنّ هذا نفي ولأنّه كلّه نكرة. وقد قرأ قوم (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) فرفعوه كلّه «3» ، وذلك أنّه قد يكون هذا المنصوب كلّه، مرفوعا في بعض كلام العرب، قال الشاعر «4» [من البسيط وهو الشاهد السابع] :
وما صرمتك حتّى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل «5»
وهذا جواب لقوله «هل فيه رفث أو فسوق» ، فقد رفع الأسماء بالابتداء، وجعل لها خبرا، فلذلك يكون جوابه رفعا. وإذا قال «لا شيء» فإنّما هو جواب «هل من شيء» لأن «هل من شيء» قد أعمل فيه «من» بالجر، وأضمر الخبر، والموضع مرفوع، مثل: «بحسبك أن تشتمني» فإنّما هو:
«حسبك أن تشتمني» . فالموضع مرفوع، والباء قد عملت.
وقد قرأ قوم: (فلا رفث ولا فسوق)
__________
(1) . وورد التعبير أيضا في أحد عشر موضعا آخر من القرآن الكريم مسبوقا بالفاء، أو الواو، أو أن. «انظر المعجم المفهرس» يحزنون
. (2) . في معاني القرآن 1: 120 نسبت إلى القرّاء بلا تحديد، واستثنى في السبعة 180 ابن كثير وأبا عمرو، وكذلك الكشف 1: 286 وقال إنّ عليها الأعرج وشيبة والأعمش وأبا رجاء والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى، واستثنى في التيسير 80 ابن كثير وأبا عمرو ونسبت في البحر 2: 88 إلى الكوفيين ونافع، أمّا في حجّة ابن خالويه 71 والمشكل 62، والجامع 2: 408 فلم تنسب
. (3) . في المصاحف 58 نسبت إلى عبد الله مع «رفوث» بدل «رفث» ، وفي الشواذ 12 نسبت إلى أبي جعفر المدني، وفي الجامع 2: 409 إلى أبي جعفر بن القعقاع، وإلى نافع في رواية، ونسبت في البحر 2: 88 إلى أبي جعفر، وأنّها رويت عن عاصم بطريق المفضّل عنه (أمّا في المشكل 63 فأوردها ولم ينسبها وفي التيسير 80 عدم الاختلاف في فتح «جدال» انظر الطبري 4: 154 ومعاني القرآن 1: 120 والسبعة 180 وحجّة ابن خالويه 71، والكشف 1: 285 و 286 والتيسير 80 والجامع 2: 408 والبحر 2: 88)
. (4) . هو الراعي النّميري. الكتاب 11: 354 واللسان (لقا)
. (5) . ورد في شرح الأشموني بلفظ هجرتك «باب لا التي تنفي الجنس» ، وفي شعر الراعي النميري ص 112 بلفظ هجرتك
.(1/120)
ولا جدال في الحجّ) «1» فرفعوا الأوّل على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كأنّه قال «فلا يكونن فيه رفث ولا فسوق» كما تقول «سمعك إليّ» تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل: «حسبك» و «كفاك» . وجعل الجدال (نصبا) على النفي. وقال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن] :
ذاكم وجدّكم الصّغار بأسره ... لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب «3»
فرفع أحدهما ونصب الأخر.
وأمّا قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] فرفع، لأنّ «لا» لا تقوى أن تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها ب «فيها» فرفع على الابتداء ولم تعمل «لا» .
وقوله فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) ف «فيه» و «عليه» و «إليه» ، وأشباه ذلك في القرآن كثير. وذلك أنّ العرب، إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكّر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو، لأنّ الهاء حرف خفي، وقع بين حرفين متشابهين، فثقل ذلك.
فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة، ولم يكن قبلها الياء، ترك الهاء مضمومة، إذا كان قبلها الياء الساكنة، ومن كان من لغته إلحاق الياء، ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة. وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو فإنّه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلّا مضمومة نحو فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: 45] وقوله تعالى فَكَذَّبُوهُ «4» وقوله
__________
(1) . في الطبري 4: 154 نسبت إلى جماعة من البصريين وكثير من أهل مكة منهم عبد الله منهم عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء، «وفي معاني القرآن 1: 120 إلى مجاهد وفي السبعة 180 إلى ابن كثير وأبي عمرو وفي الكشف 1: 285، و 286 والتيسير 80 والبحر 2: 88، كذلك أمّا في الحجة 71، والجامع 2: 408، فقد ذكراها ولم ينسبا
. (2) . في الكتاب (1: 352) أنّه رجل من مذحج وقد أيّد ذلك الأعلم في الهامش، وورد في المقاصد النحوية 2: 339 في شواهده الاختلاف في نسبته إلى همام بن مرة أخي جساس أو إلى رجل من بني عبد مناة، او ابن أحمر، أو ضميرة بن ضمرة
. (3) . رواه ابن الناظم (هذا لعمركم) (75) وكذلك فعل ابن عقيل (1: 342) وابن هشام في الشذور (86) ، ورواه في المقاصد النحوية «هذا وجدكم» هـ الخزانة 2: 339» ورواه الفرّاء «بعينه» في المعاني (1: 121)
. (4) . جاء هذا التعبير في تسعة مواضع من الكتاب الكريم، أوّلها الأعراف 7: 64، وآخرها الشمس 91: 14
.(1/121)
فَأَنْجَيْناهُ «1» وأشباه هذا في القرآن كثير «2» :
ومن العرب من يتمّ، لأنّ ذلك من الأصل، فيقول (فكذّبوهو) (فأنجيناهو) و (فألقى موسى عصاهو) و (لا ريب فيهو هدى للمتقين) ، وهي قراءة أهل المدينة «3» وقد قرأ قوم إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 50] فألقوا الواو، وشبّهوا الساكن بالياء والواو والالف.
وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده (منهو نذير) تلحق الواو وإن كانت لا تكتب. وكل هذا إذا سكت عليه، لم تزد على الهاء شيئا.
ولا تكسر هذه الهاء، إلّا أنّ تكون قبلها ياء ساكنة، أو حرف مكسور.
وإنّما يكسر بنو تميم. فأمّا أهل الحجاز فإنّهم يضمّون بعد الكسر، وبعد الياء أيضا، قال ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) . وأهل الحجاز، يقرءون (من بعد هو) فيثبتون الواو في كل موضع.
ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضا، وذلك قليل قبيح يقول: «مررت به قبل» «به قبل» يكسرون ويضمّون ولا يلحقون واوا ولا ياء، ويقولون «رأيته قبل» فلا يلحقون واوا. وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.
وقد قرأ بعض القراء (فيه هدى) فأدغم الهاء الأولى في هاء هُدىً لأنّهما التقتا وهما مثلان «4» .
وزعموا أنّ من العرب من يؤنّث «الهدى» «5» . ومنهم من يسكّن هاء الإضمار للمذكّر قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد التاسع] .
فظلت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له ارقان
__________
(1) . جاء هذا التعبير في ستة مواضع من الكتاب الكريم أوّلها الأعراف 7: 64 وآخرها العنكبوت 29: 15
. (2) . يرجع في تفصيل القراآت في هذا إلى سبعة ابن مجاهد (129) وحجة الفارسي (120) و (130) والكشف 1:
42 والتيسير (29) والجامع 1: 160 والبحر (1: 33) و (1: 37)
. (3) . انظر الهامش السابق
. (4) . أوردها ابن خالويه في حجّته ولم ينسبها (39) ، وجوّز القرطبي الإدغام في جامعه، ولم ينسبه قراءة (1: 160) [.....]
. (5) . هي لغة بعض بني أسد (اللهجات العربية للجندي (511) وهم بنو أسد المذكر والمؤنث للقراء 87، وكتاب التذكير والتأنيث للسجستاني 16
.(1/122)
وهذا في لغة أسد السراة، زعموا كثير «1» .
وقوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) فيه لغتان، منهم من يقوله بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو. وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام، إلّا أنّ يكون ما قبلها مكسورا أو ياء ساكنة، فإن كانت ياء ساكنة أو حرفا مكسورا نحو «عليهم» و «بهم» و «من بعدهم» ، فمن العرب من يقول: «عليهمي» فيلحق الياء، ويكسر الميم والهاء ومنهم من يقول: «عليهمو» فيلحق الواو، ويضم الميم والهاء ومنهم من يقول: «عليهم» و «عليهم» ، فيرفعون الهاء ويكسرونها، ويقفون الميم، ومنهم من يقول: «عليهمو» فيكسرون الهاء، ويضمّون الميم ويلحقون الواو ومنهم من يقول: «عليهمي» فيضمون الهاء، ويكسرون الميم، ويلحقون الياء.
وكلّ هذا إذا وقفت عليه، فاخره ساكن، والذي قبله مكسور، وهو بمنزلة ما قبله ياء. وهذا في القرآن كثير «2» .
ومنهم من يجعل «كم» في «عليكم» و «بكم» ، إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور، بمنزلة «هم» ، وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر وائل سمعناها من بعضهم يقولون «عليكمي» و «بكمي» ، وأنشد الأخفش «3» قال سمعته من بكر بن
__________
(1) . وينسبها الكسائي لغة لأعراب بني عقيل وبني كلاب (البحر 8: 502) وانظر تفصيل ذلك في (اللهجات العربية للجندي (404) . وقد نقل رأي الأخفش وأفاد منه بيت الشعر ابن جني في المحتسب (1: 244) والجوهري في الصحاح (ها) وابن سيده في المحكم (هو و) . والشاعر هو يعلى الأحول الشكري من اسد السراة (انظر الجمهرة 3: 118) والخزانة 2: 401- 405) وقد ورد البيت في الجمهرة بلفظ «فبت لدى البيت الحرام» وجاء فيها «ومطو الرجل نظيره» أو صاحبه لغة سروية منسوبة إلى السراة. قال الشاعر يعلى الأحول الشكري (البيت) أراد «له» وهذه لغته «وجاء في اللسان بلفظ «الحرام» أيضا (مطا) . أمّا في الصحاح (مطا) والخصائص (1: 128) والخزانة فورد بلفظهما رواه الأخفش
. (2) . يراجع لهذه القراآت حجّة الفارسي 1: 42، والكشف 1: 35- 40، والبحر 1: 26- 43، إذ فصل القول فيها في هذه المراجع. وقد ذكر سيبويه أنّ كسر الهاء لغة، وتكلّم عليها في الكتاب (2: 293 و 294)
. (3) . هو أبو الخطّاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، ترجمته في مراتب النحويّين 23، وطبقات الزبيدي 40، وإنباه الرواة 2: 157
.(1/123)
وائل «1» [من الطويل وهو الشاهد العاشر] :
وإن قال مولاهم على جل حاجة ... من الأمر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا «2»
وكل هذا، إذا لقيه حرف ساكن، حرّكت الميم بالضم، إن كان بعدها واو، فان كان بعدها واو حذفت الواو، وان كان ياء حذفت الياء، وحرّكت الميم بالكسر.
وكذلك الهاء التي للواحد المذكّر، من نحو «مررت به اليوم» و «رأيته اليوم» .
وزعموا أنّ بعض العرب، يحرّك الميم، ولا يلحق ياء ولا واوا في الشعر، وذا لا يكاد يعرف. وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الحادي عشر] :
تالله لولا شعبتي من الكرم ... وشعبتي فيهم من خال وعمّ
فأمّا قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) فإنّما دخله حرف الاستفهام، وليس لذكره السواء، لأنّه إذا قال في الاستفهام: «أزيد عندك أم عمرو» وهو يسأل أيّهما عندك فهما مستويان عليه، وليس واحد منهما أحقّ بالاستفهام من الاخر. فلمّا جاءت التسوية في قوله أَأَنْذَرْتَهُمْ أشبه بذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية. ومثلها سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون: 6] ولكن أَسْتَغْفَرْتَ ليست بممدودة، لأنّ الألف التي فيها ألف وصل، لأنّها من «استغفر» «يستغفر» فالياء مفتوحة من «يفعل» واما أَأَنْذَرْتَهُمْ ففيها ألفان ألف «أنذرت» وهي مقطوعة، لأنّه يقول «ينذر» ، فالياء مضمومة، ثمّ جعلت معها ألف الاستفهام، فلذلك مدّدت وخفّفت الاخرة منهما، لأنّه لا تلتقي همزتان «3» . وقال أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف] .
وقال بعضهم: إنّه على قوله
__________
(1) . انظر الكتاب (2: 294) حيث ذكر هذه اللغة، ووصفها بشدة الرداءة، واستشهد بهذا الشعر، واللهجات للجندي (52) ، وشرح السيرافي (5: 463) (بدلالة المصدر السابق)
. (2) . البيت للحطيئة، انظر ديوانه 140 بلفظ «حادث من الدهر» وهو كذلك في الكتاب 2: 294 والكامل 1: 534.
(3) . تخفيف إحدى الهمزتين لغة تميمية (الكتاب 2: 168) .(1/124)
تعالى أَفَلا تُبْصِرُونَ وجعل قوله تعالى أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ بدلا من تُبْصِرُونَ. لان ذلك عنده بصر منهم، أن يكون عندهم هكذا، وهذه «أم» التي تكون في معنى «أيّهما» . وقد قال قوم «إنّها يمانيّة» ، وذلك أن أهل اليمن، يزيدون «أم» في جميع الكلام. وأمّا ما سمعنا من اليمن، فيجعلون «أم» مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون «رأيت امرجل» و «قام امرجل» .
يريدون «الرجل «1» . ولا يشبه أن تكون أَمْ أَنَا خَيْرٌ على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد «2» أنّه سمع أعرابيّا فصيحا، ينشدهم «3» [من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر] :
يا دهر أم كان مشيي رقصا ... بل قد تكون مشيتي ترقّصا «4»
فسأله فقال: «معناه ما كان مشيي رقصا ف «أم» ها هنا زائدة. وهذا لا يعرف. وقال علقمة بن عبدة «5» [من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر] :
وما القلب لها أم ما ذكره ربعيّة «6» ... يخطّ لها من ثرمداء قليب
يريد «ما ذكره ربعيّة» يجعله بدلا من «القلب» ، وقال بعض الفقهاء: «إنّ معناه أنّه قال فرعون أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) [الزخرف] أم أنتم بصراء» . وقال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر] :
__________
(1) . لغة اليمن هذه تكلم عليها ابن منظور في اللسان «أمم» ، وأوردتها كتب اللهجات، راجع لها «اللهجات للجندي 311» وفيه إشارة إلى مواضع أخرى لها في اللسان وغيره، وراجع مميّزات لغات العرب (12) .
(2) . هو أبو زيد الأنصاري، ترجم له في أخبار النحويين 41، ومراتب النحويين 42، وبغية الوعاة 255.
(3) . روى الجوهري البيت في الصحاح «أمم» ، ولم ينسبه، وكذلك فعل ابن منظور في اللسان «أمم» ولم ينسبه، ورواه البغدادي في الخزانة (4: 421) ، ولم يهتد إلى قائله.
(4) . في الصحاح «يا هند» بدل يا دهر في اللسان «يا دهن» و «توقصا» وقال: «أراد يا دهنا» فرخم «وفي الخزانة «توقصا» أيضا.
(5) . هو علقمة بن عبدة الفحل الشاعر التميمي، كان نديما للحارث الأصغر الغسّاني، والنعمان الثالث أبي قابوس اللّخمي، ترجمته في الأغاني (بولاق 21: 172 وطبقات الشعراء للجمعي 1: 139 ت 168، والشعر والشعراء لابن قتيبة 1: 218 ت 13
. (6) . البيت السابع من القطعة الاولى من ديوانه ص 35، بلفظ «وما أنت أم ما ذكرها ربعية» ، «وفي اللسان» «ثرمد» :
«ربعية» بالضم» . «أما ذكرها» .
(7) . هو ذو الرّمّة غيلان بن عقبة العدوي المتوفي سنة 117 هـ. [.....](1/125)
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم «1»
يريد: «أأنت أحسن أم أمّ سالم» .
فأضمر أحسن. يريد: «أليس أنا خيرا من هذا الذي هو مهين» . ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام، كأنّك تميل الى أوله قال: لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [يونس] . وهذا لم يكن قبله استفهام، وهذا قول العرب: «إنّها لإبل» ثم يقولون «أم شاء» (وقولهم) «لقد كان كذا وكذا أم حدّثت نفسي» ، ومثل قول الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الخامس عشر] :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرّباب خيالا «3»
وليس قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لأنه شك، لكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم، كما تقول: «ألست الفاعل كذا وكذا» ليس تستفهم، إنّما توبّخه.
ثم قال بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة: 3] . ومثل هذا في القرآن كثير، قال سبحانه فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) [الطور] ثمّ قال أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ [الطور:
30] (و) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطور: 37] كل هذا، على استفهام الاستئناف.
وليس ل «أم» غير هذين الموضعين، لأنّه أراد أن ينبّه، ثمّ ذكر ما قالوا عليه، يعني النبي (ص) ليقبح ما قالوا عليه، نحو قولك للرجل «الخير أحبّ إليك أم الشرّ» ؟ وأنت تعلم أنه يقول «الخير» ولكن أردت أن تقبّح عنده ما صنع. وأمّا قوله تعالى وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] فقد نهاه عن الإثم والكفور جميعا. وقد قال بعض الفقهاء «4» : «إنّ «أو» تكون بمنزلة الواو وقال [من المتقارب وهو الشاهد السادس عشر] :
يهينون من حقروا شأيه ... وإن كان فيهم يفي أو يبرّ
__________
(1) . ديوانه 2: 767 بلفظ أيا، وهو من شواهد الكتاب 2: 178، والصحاح واللسان «جلل» ، والكامل 2: 770.
(2) . الأخطل التغلبي غياث بن غوث.
(3) . الديوان 41، والكتاب 1: 484، ومجاز أبي عبيدة 1: 56.
(4) . المغني (1: 62) هم الكوفيون، والإنصاف 2: 254 م 67.(1/126)
يقول: «يفي ويبرّ» . وكذلك هي عندهم ها هنا، وإنّما هي بمنزلة «كل اللحم أو التمر» إذا رخّصت له في هذا النحو. فلو أكل كلّه أو واحدا منه لم يعص. فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى، فيكون إن أكل الكل أو واحدا (قد) عصى. كما كان في الأمر إن صنع واحدا أطاع. وقال وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات] ومعناه «ويزيدون» ، ومخرجها في العربية أنك تقول: «لا تجالس زيدا أو عمرا أو خالدا» فإن أتى واحدا منهم أو كلّهم، كان عاصيا. كما أنّك إذا قلت:
«اجلس الى فلان أو فلان أو فلان «فجلس الى واحد منهم أو كلّهم كان مطيعا. فهذا مخرجه من العربية. وأرى الذين قالوا: «إنّما» أو «بمنزلة الواو» إنّما قالوها رأوها في معناها. وأما وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فإنما يقول وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ عند الناس» ، ثم قال أَوْ يَزِيدُونَ «1» عند الناس» لأنّ الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ. وقد قال قوم إنّما «أو» ها هنا بمنزلة «بل» «2» وقد يقول الرجل: «لأذهبنّ إلى كذا وكذا» ثم يبدو له بعد، فيقول «أو أقعد» فقال ها هنا وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ عند الناس «ثم قال أَوْ يَزِيدُونَ عند الناس» أي أن الناس لا يشكّون أنهم قد زادوا. والوجه الاخر هكذا، أي «فكذا حال الناس فيهم» أي: أن الناس يشكون فيهم. وكذا حال «أم» المنقطعة، ان شئت جعلتها على «بل» ، فهو مذهب حسن. وقال متمّم بن نويرة «3» [من الوافر وهو الشاهد السابع عشر] :
فلو كان البكاء يردّ شيئا ... بكيت على جبير أو عفاق «4»
على المرأين إذ هلكا جميعا ... بشأنهما وحزن واشتياق «5»
__________
(1) . نقله في الجامع 15: 132 وأشرك معه الزجّاج.
(2) . هو رأي الكوفيين بلا شرط (المغني 1: 64) «أو» الإنصاف (2: 254 م 67) وسيبويه بشرط تقدم نفي أو نهي، وإعادة العامل المصدر الاول.
(3) . ترجمته في الأغاني (بولاق 14: 66) ، والشعر والشعراء 1: 254، ومعجم الشعراء 432، وخزانة الأدب 1:
234.
(4) . رواية (مالك ومتمّم) ب «بجير» 124.
(5) . رواية (مالك ومتمّم) ب «لشأنهما بشجو» 124.(1/127)
وقال ابن أحمر «1» [من الطويل وهو الشاهد الثامن عشر] :
فقلت البثي شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذاك ما قد غيّبتني غيابيا «2»
وأمّا قوله تعالى أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) [الصافات] . فان هذه الواو واو عطف كأنّهم قالوا: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) فقيل لهم: «نعم وآباؤكم الأوّلون» فقالوا أَوَآباؤُنَا، وقوله أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ [يس: 77] ، أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [السجدة: 26] وأشباه هذا في القرآن كثير. فالواو مثل الفاء في قوله تعالى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [طه: 128] وقوله أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] وإن شئت جعلت هذه الفاآت زائدة. وإن شئت، جعلتها جوابا لشيء، كنحو ما يقولون «قد جاءني فلان» فيقول «أفلم أقض حاجته» ، فجعل هذه الفاء معلّقة بما قبلها.
وأما قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الآية 7] فإنّ الختم، ليس يقع على الأبصار.
إنّما قال خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ثم قال وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مستأنفا. وقوله خَتَمَ اللَّهُ لأنّ ذلك، كان لعصيانهم الله، فجاز ذلك اللفظ، كما تقول: «أهلكته فلانة» إذا أعجب بها، وهي لا تفعل به شيئا، لأنه هلك في اتّباعها. أو يكون «ختم» حكم بها أنّها مختوم عليها.
وكذلك فَزادَهُمُ اللَّهُ [الآية 10] على ذا التفسير، والله اعلم.
ثم قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 8] فجعل اللفظ واحدا، ثم قال وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [الآية 8] فجعل اللفظ جميعا، وذلك أنّ «من» اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعا في المعنى، ويكون اثنين. فان لفظت بفعله على معناه، فهو صحيح. وإن جعلت فعله على لفظه واحدا، فهو صحيح وممّا جاء من ذلك قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
__________
(1) . هو عمرو بن أحمر الباهلي، انظر ترجمته في طبقات في الشعراء 1: 485، والشعر والشعراء 1: 356، وأمالي ابن الشّجري 1: 137، وخزانة الأدب 3: 38.
(2) . شعر عمرو بن أحمد الباهلي 171 بلفظ (ألا فالبثا) و (إلى ذا كما ما) الخصائص 2: 317 ب (ألا فالبثا) وفي الأصل «قلت» بلا فاء، و (إلى ذاكما ما غيبتني) وبلا عزو، والصاحبي 128 بلا عزو، ب «فذلكما شهرين» و «إلى ذاكما ما غيبتني» .(1/128)
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وقال:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] وقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] وقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] فقال يَقْنُتْ فجعله على اللفظ، لأنّ اللفظ في مَنْ مذكّر وجعل تَعْمَلْ ونُؤْتِها على المعنى. وقد قرأ بعضهم: (ويعمل) «1» فجعله على اللفظ لأنّ لفظ مَنْ مذكّر. وقد قرأ بعضهم: (ومن تقنت) «2» فجعله على المعنى لأنه يعني امرأة. وهي حجّة على من قال: «لا يكون اللفظ في «من» على المعنى إلّا ان تكون «من» في معنى «الذي» ، فأمّا في المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في «من» على المعنى» .
وقولهم هذا خطأ، لأنّ هذا الموضع الذي فيه (ومن تقنت) مجازاة. وقد قالت العرب «ما جاءت حاجتك» فأنّثوا «جاءت» لأنّها ل «ما» ، وإنّما أنّثوا، لان معنى «ما» هو الحاجة. وقد قالت العرب أو بعضهم «من كانت أمّك» فنصب وقال الشاعر «3» [من الطويل هو الشاهد التاسع عشر] :
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان «4»
ويروى (تعال فإن) . وقد جعل (من) بمنزلة رجل.
قال الشاعر «5» [من الرمل وهو الشاهد العشرون] :
__________
(1) . معاني القرآن 2: 341 قراءة الأعمش وأبي عبد الرحمن السلميّ. تفسير الطبري 22: 1، 2 عامة قراء الكوفة.
السبعة 521 قراءة حمزة والكسائي. الحجة لابن خالويه 264 بلا نسبة. الكشف 2: 196 كالسبعة والتيسير 179 كذلك. البحر 7: 228 أضاف السلميّ وابن وثاب.
(2) . الجامع 14: 176 قراءة يعقوب. والبحر 7: 228 قراءة الجحدي والاسواري ويعقوب في رواية، وابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع.
(3) . هو الفرزذق همّام بن غالب. [.....]
(4) . في الأصل كلمة مطموسة تكاد تقرأ «لعنتم» وفي الهامش «نسخة تعشّ فإن» . وهو في ديوانه 2: 870، بلفظ «تعش» و «واثقتني» وفي الكتاب 1: 404 بلفظ تعال، وفي الكامل 1: 32 برواية الأخفش والمجاز 2: 41 «بتعلل» والصاحبي 173 ب «تعال» .
(5) . هو سويد بن أبي كامل بن حارثة اليشكري.(1/129)
ربّ من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنّ لي شرّا لم يطع «1»
فلولا أنّها نكرة بمنزلة «رجل» ، لم تقع عليها «ربّ» .
وكذلك (ما) نكرة إلّا أنّها بمنزلة «شيء» . ويقال: إنّ قوله تعالى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] على هذا. جعل (ما) بمنزلة «شيء» ولم يجعلها بمنزلة «الذي» فقال: «ذا شيء لديّ عتيد» .
وقال الشاعر «2» [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والعشرون] :
ربّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحلّ العقال «3»
فلولا أنّها نكرة بمنزلة «من» لم تقع عليها «ربّ» . وقد يكون هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ على وجه آخر، أخبر عنهما خبرا واحدا كما تقول: «هذا أحمر أخضر» . وذلك أن قوما من العرب يقولون: «هذا عبد الله مقبل» . وفي قراءة ابن مسعود «4» (وهذا بعلي شيخ) «5» [هود: 72] كأنه أخبر عنهما خبرا واحدا، أو يكون كأنّه رفعه على التفسير، كأنه إذا قال: هذا ما لَدَيَّ، قيل: «ما هو» ؟ أو علم أنه يراد ذلك منه فقال عَتِيدٌ أي ما عندي عتيد.
وكذلك (وهذا بعلي شيخ) . وقال الراجز «6» [وهو الشاهد الثاني والعشرون] :
من يك ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظ مصيّف مشتّي «7»
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء: 58] ف «ما» ها هنا اسم ليست له
__________
(1) . ديوانه 30 بلفظ «قلبه» و «موتا» .
(2) . هو أميّة بن أبي الصّلت، وقيل غيره انظر ديوان أمية بن أبي الصلت 585، حيث تجد التخريجات.
(3) . ديوانه 444، بلفظ «تجزع» بدل «تكره» .
(4) . هو عبد الله بن مسعود الصحابي الكبير، وله قراءات تفرّد بها وتوفي سنة 32 هـ (طبقات ابن خياط 16 وطبقات ابن سعد 3: 150 والمعارف 249 وتقريب التهذيب 1: 450) .
(5) . وانظر لهذه القراءة معاني القرآن 2: 23، والمصاحف 63، والبحر 5: 244، وأضيف في الجامع 9: 70 أبيّ، ونسبت في المحتسب 1: 324 إلى الأعمش.
(6) . هو رؤبة بن العجاج، انظر ديوانه 189.
(7) . في الكتاب 1: 258، ومجاز القرآن 2: 247، والصحاح «بتت» بلفظ «كان» بدل يك في (قيظ) كذلك وفي (صيف) و «شتا» ب «يك» وفيها جميعها بلا نسبة.(1/130)
صلة لأنّك إن جعلت يَعِظُكُمْ بِهِ صلة ل (ما) صار كقولك: «إنّ الله نعم الشيء» أو «نعم شيئا» فهذا ليس بكلام. ولكن تجعل (ما) اسما وحدها، كما تقول: «غسلته غسلا نعمّا» تريد به: «نعم غسلا» . فإن قيل:
«هي بمنزلة» «يا أيّها الرّجل» لأنّ «أيّ» هاهنا اسم ولا يتكلم به وحده، وحتى يوصف فصار (ما) مثل الموصوف هاهنا. لأنك إذا قلت «غسلته غسلا نعمّا» فإنّما تريد المبالغة والجودة، فاستغني بهذا حتى تكلّم به وحده.
ومثل «ما أحسن زيدا» (ما) هاهنا وحدها اسم، وقوله «إني ممّا أن أصنع كذا وكذا» (ما) ها هنا وحدها اسم، كأنّه قال تعالى: «إنّي من الأمر» أو «من أمري صنيعي كذا وكذا» وممّا جاء على المعنى قوله سبحانه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الآية 17] لان «الذي» يكون للجميع، كما قال عز وجلّ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) [الزّمر] .
قال تعالى يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الآية 9] ولا تكون المفاعلة إلّا من شيئين، فإنّه إنّما يقول: «يُخادِعُونَ اللَّهَ عند أنفسهم يمنّونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم» ذلك لحجّة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.
وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الآية 9] وقال بعضهم يَخْدَعُونَ «1» كأنّه يقول: «يخدعون أنفسهم بالمخادعة لها» وبها نقرأ.
وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول: «باعدته مباعدة» و «جاوزته مجاوزة» في أشياء كثيرة.
وقد قال وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء: 142] فذا على الجواب. يقول الرجل لمن كان يخدعه، إذا ظفر به «أنّا الذي خدعتك» ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. وكذلك وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:
54] واللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الآية 51] على الجواب. والله لا يكون منه المكر
__________
(1) . الطبري 1: 277 بلا عزو، وحجّة ابن خالويه 44، وفي السبعة 139 قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وفي حجّة الفارسي 233 كذلك، وفي التيسير 72 إلى الحرميين وأبي عمرو وفي الجامع 1: 196 إلى نافع وابن كثير وأبي عمرو، وفي البحر إلى الجمهور، وفي الكشف 1: 224 إلى غير ابن عامر والكوفيّين.(1/131)
والهزء. والمعنى: أنّ المكر حاق بهم، والهزء صار بهم.
وأمّا قوله سبحانه: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الآية 10] فمن فخّم، نصب الزاي، فقال: فَزادَهُمُ «1» ومن أمال كسر الزّاي فقال: (زادهم) «2» لأنها من «زدت» أوّلها مكسور. فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو، وهم بعض أهل الحجاز، ويقولون أيضا (ولمن خاف مقام ربّه) «3» و (فانكحوا ما طاب لكم من النّساء) «4» و (وقد خاب) «5» ولا يقولون (قال) ولا (زار) لأنّه يقول (قلت) و (زرت) فأوّله مضموم. فإنّما يفعلون هذا في ما كان أوّله من «فعلت» مكسورا إلّا أنّهم ينحون الكسرة كما ينحون الياء في قوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ [الإنسان: 21] . وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس] «6» . ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم وما كان من نحو هذا من بنات الواو، وكان ثالثا نحو وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) [الشمس] «7» ونحو وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) [الشمس] «8» فإنّ كثيرا من العرب يفخّمه، ولا يميله، لأنّها ليست بياء فتميل إليها، لأنّها من
__________
(1) . نسبت في السبعة 140 إلى إسحاق وإلى عاصم في رواية، وفي 141 إلى الكسائي وأبي عمرو وابن كثير. وفي حجّة ابن خالويه 45 بلا نسبة. ونسبت في حجّة الفارسي 240 و 241 إلى ابن كثير وأبي عمرو، والكسائي وعاصم، وفي الكشف 1: 174 إلى القراء كلهم إلّا حمزة وابن ذكوان، وفي البحر 1: 59 نسب التفخيم للحجاز.
(2) . نسبت في السبعة 139 إلى حمزة وابن عامر وبإشمام الإضجاع إلى نافع، وفي 140 بإشمام كسر قليل إلى إسحاق. وفي حجّة ابن خالويه 45 بلا نسبة، وفي حجّة الفارسي 239 إلى حمزة وابن عامر، وبإشمام الإضجاع إلى نافع وفي الكشف 1: 174 تفرّد بها حمزة، ووافقه ابن ذكوان، وفي البحر 1: 59 مثل ما في الكشف، ثم نسبت الإمالة لتميم.
(3) . الرحمن 55: 46، ونسبت في السبعة إلى حمزة، وفي الكشف 1: 174 تفرّد حمزة بالإمالة، وكذلك في التيسير 50.
(4) . النساء 4: 3 نسبت في السبعة إلى حمزة، وفي الكشف 1: 174 كذلك في البحر 3: 162 إلى ابن إسحاق والجحدري والأعمش، وحوّلها أبيّ في مصحفه إلى ياء، وفي التيسير 50 تفرّد حمزة بالإمالة. [.....]
(5) . طه 20: 61 و 111، والشمس 91: 10 في الكشف 1: 174، والتيسير 50 تفرّد حمزة بالامالة.
(6) . انظر الكشف 1: 181، و 2: 378 و 382، والتيسير 223.
(7) . معاني القرآن 3: 266 وتفسير الطبري 30: 216 (البابي 2) والسبعة 688 و 689، وإعراب ثلاثين سورة 97، والكشف 1: 189 و 190، و 2: 378- 382، والتيسير 223.
(8) . معاني القرآن وتفسير الطبري، وإعراب ثلاثين سورة، والكشف والتيسير وكلها كالسابق.(1/132)
«طحوت» و «تلوت» . فإذا كانت رابعة فصاعدا أمالوا، وكانت الإمالة هي الوجه، لأنّها حينئذ قد انقلبت الى الياء. ألا ترى أنك تقول «غزوت» و «أغزيت» ومثل ذلك وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) [الشمس] «1» وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) [الأعلى] «2» ووَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) [الليل] «3» أمالها لأنّها رابعة، و «تجلّى» فعلت منها بالواو، لأنها من «جلوت» و «زكا» من «زكوت يزكو» ووَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) [الشمس] «4» من «الغشاوة» .
وقد يميل ما كان منه بالواو نحو (تلاها) و (طحاها) ناس كثير «5» ، لأنّ الواو تنقلب الى الياء كثيرا، مثل قولهم في (حور) (حير) وفي «مشوب» «مشيب» وقالوا «أرض مسنيّة» إذا كان يسنوها المطر. فأمالوها الى الياء، لأنّها تنقلب إليها.
وأمالوا كلّ ما كان نحو «فعلى» و «فعلى» نحو «بشرى» و «مرضى» و «سكرى» ، لان هذا لو ثنّي كان بالياء فمالوا إليها.
وأمّا قوله تعالى بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [الآية 10] ، وبها نقرأ. فيعني «يكذبون على الله وعلى الرسل» . جعل السياق «ما» والفعل اسما للمصدر، كما جعل «أن» والفعل اسما للمصدر في قوله «أحبّ أن تأتيني» ، وأمّا المعنى فإنّما هو «بكذبهم» و «تكذيبهم» . وأدخلت «كان» ، لتخبر أنه كان فيما مضى، كما تقول: «ما أحسن ما كان عبد الله» فأنت تتعجّب من عبد الله لا من «كونه» . وإنّما وقع التعجّب في اللفظ على كونه وبعضهم «6» قرأ: (بما
__________
(1) . الكشف 1: 181، و 2: 378 و 382، والتيسير كالسابق.
(2) . حجة ابن خالويه 340، والتيسير 221.
(3) . السبعة 688 و 689، والكشف كالسابق، والتيسير 224.
(4) . الكشف 1: 181، و 2: 378 و 382، والتيسير 223.
(5) . لم نجد ما يدلّ على القبائل التي تقولها، ولكن عزي إلى قريش ومن جاورها من كنانة، إيثار الياء في الفعل المبني للمجهول من الأجوف الواوي، البحر 1: 61.
(6) . الذي عليه رسم المصحف تخفيف الذال وهي القراءة المنسوبة في تفسير الطبري 1: 284 إلى أعظم قراء اهل الكوفة، وفي السبعة 141 إلى عاصم وحمزة والكسائي، وفي حجّة الفارسي 247، كذلك وفي الجامع 1: 198، كذلك وفي الكشف 1: 227، والتسير 72، أما في حجّة ابن خالويه 45، فبلا نسبة. أمّا «يكذبون» بالتضعيف فهي في تفسير الطبري 1: 284 قراءة أعظم قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة وفي السبعة 141 قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، وفي حجّة الفارسي 247 كذلك، وفي البحر 1: 60 قراءة الحرميين والعربيين. وفي الكشف 1: 227 والتيسير 72 قراءة غير الكوفيين، وفي حجّة ابن خالويه 45 فبلا نسبة(1/133)
كانوا يكذّبون) على معنى يجحدون، لأن الجحود كفر. وقال فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] وليس هذا في معنى «فاصدع بالذي تؤمر به» . لو كان هذا المعنى لم يكن كلاما حتى تجيء ب «به» ولكن «اصدع بالأمر» جعل «ما تؤمر» اسما واحدا. وقال لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [آل عمران: 188] يقول «بالإتيان» يجعل «ما» و «أتوا» اسما للمصدر. وإن شئت قلت: «أتوا» ها هنا «جاءوا» كأنه يقول: «بما جاءوا» يريد «جاءوه» كما تقول «يفرحون بما صنعوا» أي «بما صنعوه» ومثل هذا في القرآن كثير. وتقديره «بكونهم يكذبون» ف «يكذبون» «1» مفعول ل «كان» كما تقول: «سرني زيد بكونه يعقل» أي:
بكونه عاقلا.
وأما قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ [الآية 11] فمنهم من يضمّ أوله، لأنّه في معنى «فعل» فيريد أن يترك أوله مضموما ليدل على معناه «2» ، ومنهم من يكسره، لأنّ الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم والكسر القياس «3» .
ومنهم من يقول في الكلام: «قد قول له» و «قد بوع المتاع» إذا أراد «قد بيع» و «قيل» . جعلها واوا حين ضمّ ما قبلها، لأنّ الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم. ومنهم من يروم الضمّ في «قيل» مثل رومهم الكسر في «ردّ» ، لغة لبعض العرب ان يقولوا «ردّ» فيكسرون الراء ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين. وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمّها الكسر، كما يروم في «قيل» الضم. وقال
__________
(1) . عاد إلى الكلام على الآية العاشرة.
(2) . نسبت قراءة الضم في السبعة 141 إلى الكسائي، و 142 إلى ابن عامر وهشام بن عمار، وفي حجّة الفارسي 255 أغفل ابن عامر، وفي الكشف 1: 119 والتيسير 72 والبحر 1: 61، كذلك أضاف البحر أنّها لغة كثير من قيس وعقيل ومن جاور هم، وعامة بني أسد. وفي حجّة ابن خالويه 45 بلا نسبة.
(3) . في السبعة 142، أنّها قراءة نافع وابن كثير وعاصم، ابن عمرو وحمزة، وفي حجّة الفارسي 255 و 256 بإضافة ابن عامر، وفي الكشف 1: 229 أنّها لغير هشام الكسائي وفي التيسير 72، والبحر 1: 61، وفي الأخير أنّها لغة قريش.(1/134)
الفرزدق «1» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والعشرون] :
وما حلّ من جهل حبا حلمائنا ... ولا قائل المعروف فينا يعنّف «2»
سمعناه ممّن ينشده من العرب هكذا.
وأمّا قوله تعالى أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ [الآية 13] فقد قرأ هما قوم مهموزتين جميعا «3» ، قرءوا: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ «4» [الآية 6] وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] «5» وقرءوا أَإِذا «6» أَإِنَّا «7» كل هذا، يهمزون فيه همزتين وكل هذا، ليس كلام العرب، إلّا شاذا «8» . ولكن إذا اجتمعت همزتان شتّى ليس بينهما شيء فان إحداهما تخفّف في جميع كلام العرب إلّا في هذه اللغة الشاذة القليلة، وذلك أنّه إذا اجتمعت همزتان في كلمة
__________
(1) . هو همّام بن غالب بن صعصعة، ترجمته في الأغاني (بولاق) 8: 186 و 19: 2، والشعر والشعراء 1: 471، وطبقات فحول الشعراء 2: 299. [.....]
(2) . في الديوان 2: 561 ب (حل) ، و (قائل بالعرف) ، وفي الكتاب 2: 260 كرواية الأخفش، وفي اللسان «حبا» .
(3) . في السبعة 137، أنّها قراءة نافع وفي 138 قراءة عاصم وحمزة والكسائي، والكشف 1: 76 الكوفيين وابن عامر، والبحر 1: 68 كذلك، والتيسير 34 لغير أبي عمرو والحرميين، وحجّة ابن خالويه 46، والجامع 1: 206 بلا نسبة.
(4) . في السبعة 1: 135 قراءة عاصم، وحمزة والكسائي، إذا حقّق، وابن عامر وحجّة الفارسي 183، كذلك الجامع 1: 185، كذلك مع إهمال ابن عامر، وتحقيق الكسائي. وفي الكشف 1: 73 و 74 إلى اهل الكوفة وابن ذكوان، وفي التيسير 32 إلى غير الحرميين، ولا أبي عمرو أو ابن كثير أو قالون أو هشام 2، وفي حجة ابن خالويه 42 بلا نسبة.
(5) . وفي الكشف 2: 212 إلى غير حمزة أو هشام.
(6) . أ: الواقعة 56: 47، في السبعة 623 إلى ابن عامر، وفي 285 إلى الكسائي، وفي حجّة ابن خالويه 313 بلا نسبة، ب النازعات 79: 11 في السبعة 670 إلى الكسائي وعاصم وحمزة
. (7) . أ: الواقعة 56: 47 في السبعة 633 إلى ابن عامر وفي 285 إلى الكسائي ونافع وفي الحجة بلا نسبة. ب.
النازعات 79: 10 في السبعة 670 إلى الكسائي وعاصم وحمزة وفي الكشف 1: 75 إلى الكوفيين وابن عامر.
(8) . في اللهجات والتراث 257، أنّ التحقيق لهجة غير الحجاز، وفي 258 هي لهجة قبائل شرق الجزيرة كتميم وغيرها، وفي 259 هي لهجة تميم، وتميم الرباب وغنى، وعكل، وأسد، وعقيل، وقيس، وبنو سلامة، من أسد.(1/135)
واحدة، أبدلوا الاخرة منهما أبدا، فجعلوها، إن كان ما قبلها مفتوحا، ألفا ساكنة، نحو «آدم» و «آخر» و «آمن» وإن كان ما قبلها مضموما، جعلت واوا، نحو «أوزز» إذا أمرته ان يؤز، وإن كان ما قبلها مكسورا، جعلت ياء، نحو «ايت» وكذلك إن كانت الاخرة متحركة، بأي حركة كانت، والأولى مضمومة، او مكسورة، فالآخرة تتبع الأولى نحو «أن أفعل» من «أأب» فتقول «أووب» . ونحو «جاء» في الرفع والنصب والجر. فاما المفتوحة، فلا تتبعها الاخرة إذا كانت متحركة، لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها. ولكن تكون على موضعها، فإن كانت مكسورة، جعلت ياء، وإن كانت مضمومة جعلت واوا، وان كانت مفتوحة جعلت أيضا واوا لأنّ الفتحة تشبه الألف. وأنت إذا احتجت إلى حركتها، جعلتها واوا، ما لم يكن لها أصل في الياء معروف، فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء فجعلت الغالب عليها الواو، نحو «آدم» و «أوادم» .
فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا، وكانتا من كلمتين شتّى، مخففة إحداهما، ولم يبلغ من استثقالهما، ان تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة. ولأن اللتين في كلمة واحدة، لا تفارق إحداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كلّ واحدة منها على حالها أثقل منهما كلمتين لأنّ ما في الكلمتين: كلّ واحدة على حالها، فتخفيف الاخرة أقيس كما أبدلوا الاخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الاولى. فمن خفف الاخرة في قوله كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا قال (السفهاء ولا) فجعل الألف في (ألا) واوا «1» . ومن خفّف الأولى، جعل الألف التي في (السفهاء) كالواو، وهمز ألف (ألّا) «2» .
وأمّا أَأَنْذَرْتَهُمْ فإنّ الأولى لا تخفّف، لأنّها أوّل الكلام.
والهمزة، إذا كانت أوّل الكلام لم تخفّف، لأن المخفّفة ضعفت، حتى صارت كالساكن، فلا يبتدأ بها. وقد
__________
(1) . الكشف 1: 78. وفي التيسير 34 قراءة الحرميين وأبي عمرو وفي الجامع 1: 206 قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وفي البحر 1: 68 قراءة الحرميين وأبي عمرو.
(2) . في السبعة 138 بإسقاط الأولى إلى أبي عمرو، وفي الجامع 1: 206. والبحر 1: 68 بلا نسبة.(1/136)
قرأ بعض العرب: (ءاإذا) «1» و (ءاأنذرتهم) «2» «ءاأنا قلت لك كذا وكذا» ، فجعل ألف الاستفهام، إذا ضمت الى همزة، يفصل بينها وبينها بألف، لئلّا تجتمع الهمزتان. كل ذا قد قيل، وكل ذا قد قرأه الناس. وإذا كانت الهمزة ساكنة، فهي في لغة هؤلاء الذين يخفّفون، ان كان ما قبلها مكسورا ياء، نحو (أنبيهم بأسمائهم) «3» ونحو (نبّينا) «4» . وإن كان مضموما جعلوها واوا نحو «جونه» «5» ، وان كان ما قبلها مفتوحا جعلوه ألفا نحو «راس» و «فاس» . وإن كانت همزة متحرّكة بعد حرف ساكن، حرّكوا الساكن بحركة ما بعده، وأذهبوا الهمزة يقولون في «في الأرض» : (فلرض) «6» وفي ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ [الأعراف: 51] : «7» : (منلاه) «8» يحرّكون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة، أيّ حركة كانت، ويحذفون الهمزة.
وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتّى، والأولى مكسورة، والاخرة مكسورة، فأردت ان تخفّف الاخرة، جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة، لأنّ الياء الساكنة تكون بعد المكسورة، نحو «هؤلاء يماء الله» ، تجعل الاخرة بين بين والأولى محققة. وان كانت الاخرة مفتوحة، نحو «هؤلاء أخواتك» ، أو مضمومة، نحو «هؤلاء أمّهاتك» لم تجعل بين بين، وجعلت
__________
(1) . أ: الواقعة 56: 47. وفي الحجة 313، بلا نسبة ب. النازعات 79: 11 (انظر ما سبق) .
(2) . البقرة 2: 6 في السبعة 134 إلى أبي عمرو، وفي 135 في رواية إلى نافع. وفي حجّة الفارسي 183 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وفي الكشف 1: 74 إلى أبي عمرو وقالون عن نافع وهشام عن ابن عامر، مع تخفيف الثانية. وفي التيسير 32 إلى قالون وهشام في رواية، وفي الجامع 1: 185 إلى ابن أبي إسحاق وفي البحر 1: 47 إلى ابن هشام، او ابن عباس وابن أبي إسحاق.
(3) . البقرة 2: 33 وهي في السبعة 153 قراءة منسوبة إلى ابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 51 كذلك، وفي المحتسب 66 إلى الحسن، وفي شواذ ابن خالويه 4 إلى ابن أبي عبلة، وفي البحر 1: 149 بلا نسب، أمّا في المعاني 1: 26 فلم يعز قراءة.
(4) . سورة يوسف 12: 36.
(5) . في اللسان «جون» أنّ الفارسي، كان يفضّل ترك الهمز فيها. وفي المزهر 2: 276 أنّها لغة قريش. [.....]
(6) . لم نجد من قرأ بهذا.
(7) . ورد هذا التركيب في تسعة مواضع من القرآن الكريم، أوّلها الأعراف 7: 59، وآخرها المؤمنون 23: 32.
(8) . لم نجد من قرأ بهذا.(1/137)
ياء خالصة، لانكسار ما قبلها، لأنّك إنّما تجعل المفتوح، بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة، إذا أردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وإن كان الأوّل مهموزا أو غير مهموز، فهو سواء إذا أردت تخفيف الاخرة، ومن ذلك قولهم «مئين» و «مئير» في قول من خفّف. وإن كان الحرف مفتوحا، بعد همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، جعلت بين بين، لأن المفتوح تكون بعده الألف السّاكنة والياء الساكنة، نحو «البيع» ، والواو الساكنة نحو «القول» وهذا مثل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ [النحل: 48] ووَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [الحج: 65] «1» و (آاذا) و (آانا) إذا خففت الاخرة في كل هذا جعلتها بين بين. والذي نختاره تخفيف الاخرة إذا اجتمعت همزتان، إلّا أنّا نحقّقهما في التعليم كلتيهما، نريد بذلك الاستقصاء. وتخفيف الاخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعا قراءة أهل الكوفة، وبعض أهل البصرة. ومن زعم أنّ الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنّما تجعل في موضعها، دخل عليه ان يقول «هذا قارو» و «هؤلاء قاروون» و (يستهزوون) «2» ، وليس هذا كلام من خفّف من العرب، وإنّما يقرءون (يستهزئون) و (قارئون) .
وإذا كان ما قبل الهمزة مضموما، وهي مضمومة، جعلتها بين بين. وان كانت مكسورة أو مفتوحة، لم تكن بين بين، وما قبلها مضموم، لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة، والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة.
وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم، إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واوا خالصة لأنّهما يتبعان ما قبلهما نحو «مررت بأكمو» و «رأيت أكموا» و «هذا غلاموبيك» تجعلها واوا، إذا أردت التخفيف، إلّا أن تكون المكسورة مفصولة، فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.
والواو قد تقلب الى الياء مع هذا،
__________
(1) . في الكشف 1: 75 أنّ التخفيف في الثانية قراءة الكوفيين، وابن ذكوان، وورش، وابن كثير وأنّ قالون وأبا عمرو، خفضا عن نافع، وخفض هشام عن ابن عامر، مع وضع ألف بين الهمزتين.
(2) . ورد هذا التعبير في 14 موضعا من القرآن الكريم، أوّلها في الأنعام 6: 5، وآخرها في الأحقاف 46: 26.(1/138)
وذلك نحو «هذا غلاميخوانك» و (لا يحيق المكر السيّئ يلّا) «1» .
وإذا كانتا في معنى «فعل» ، والهمزة في موضع العين، جعلت بين بين، لأنّ الياء الساكنة تكون بعد الضمة، ففي «قيل» يقولون «قيل» ، ومثل ذلك «سيل» و «ريس» ، فيجعلها بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموما. وأمّا «روس» فليست «فعل» ، وإنّما هي «فعل» ، فصارت واوا، لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة.
وقوله وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الآية 14] فأذهب الواو لأنه كان حرفا ساكنا لقي اللام وهي ساكنة، فذهبت لسكونه، ولم تحتج إلى حركته، لأنّ فيما بقي دليلا على الجمع. وكذلك كل واو ما قبلها مضموم تكون من هذا النحو. فإذا كان ما قبلها مفتوحا، لم يكن بد من حركة الواو، لأنك لو التقيتها لم تستدل على المعنى نحو اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [الآية 16] «2» وحرّكت الواو بالضم لأنك لو قلت «اشتر الضلالة» فألقيت الواو لم تعرف أنّه جمع، وإنّما حركتها بالضم لأنّ الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه. وقد قرأ قوم، وهي لغة لبعض العرب (اشتروا الضلالة) «3» لمّا وجدوا حرفا ساكنا، قد لقي ساكنا، كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة.
وأمّا قوله وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [الآية 14] فإنّك تقول «خلوت الى فلان في حاجة» «4» كما تقول: «خلوت بفلان» إلّا أنّ «خلوت بفلان» له معنيان: أحدهما هذا، والاخر سخرت به. وتكون «إلى» في موضع «مع» نحو مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] «5»
__________
(1) . فاطر 35: 43. ونسبت في الكشف 2: 212 إلى حمزة، وفي التيسير 183 نسب تحويل الهمزة الثانية إلى ياء في الوقف، إلى حمزة او أبي عمرو، وعبارته لا توحي بتحديد ولا وضوح فيها. وعبارة الأخفش لا واو فيها، تحّولت إلى ياء قط.
(2) . وضم الواو القراءة التي عليها الجمهور من القراء. السبعة 143، وحجّة الفارسي 277، والكشف 1: 275 والمشكل 1: 20، والجامع 1: 210، والبحر 1: 71.
(3) . في الشواذ 2 إلى يحيى بن يعمر. وأضاف المحتسب 54 ابن أبي إسحاق وأبا السّمال، وأسقط الجامع 1: 210 أبا السّمال. وفي الكشف 1: 275، والمشكل 1: 20، والبحر 1: 71 بلا نسبة.
(4) . في البحر 1: 68 قال الأخفش: «خلوت اليه» جعلته غاية حاجتي.
(5) . وسورة الصف 61: 14 وفي اللسان (خلا) نقلت هذه الآراء كلها ونسبت إلى اللحياني.(1/139)
كما كانت «من» في معنى (على) في قوله تعالى وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء:
77] اي: على القوم، وكما كانت الباء في معنى «على» في قوله «مررت به» و «مررت عليه» . وفي كتاب الله عز وجل مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ [آل عمران:
75] يقول «على دينار» . وكما كانت «في» في معنى «على» نحو فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] . ويقول «على جذوع النخل» . وزعم يونس «1» ان العرب تقول: «نزلت في أبيك» تريد «عليه» وتقول: «ظفرت عليه» أي «به» و «رضيت عليه» أي: «عنه» قال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون] :
إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وأما قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) فهو في معنى «ويمدّ لهم» كما قالت العرب: «الغلام يلعب الكعاب» تريد «يلعب» «3» بالكعاب» وذلك أنهم يقولون «قد مددت له» و «أمددته» في غير في هذا المعنى، وهو قوله جلّ ثناؤه وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] وقال وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) [الكهف] . وقرأ بعضهم (مدادا) و (مدّا) من «أمددناهم» وتقول «مدّ النهر فهو مادّتها» و «أمدّ الجرح فهو ممدّ» . وقال يونس: «ما كان من الشرّ فهو «مددت» وما كان من الخير فهو «أمددت» «4» . فتقول كما فسرت له، فإذا أردت أنّك تركته قلت: «مددت له» «5» وإذا أردت أنك أعطيته، قلت:
«أمددته» «6» .
__________
(1) . هو أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الضبّي الإمام النحوي البصري، ولد سنة أربع وتسعين للهجرة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، انظر ترجمته في أخبار النحويّين 27، ومراتب النحويّين 21، وطبقات النحويين 51، وإنباه الرواة 4: 68، وبغية الوعاة 426.
(2) . هو القحيف بن حمير بن سليم الندي العقلي. وانظر مجاز القرآن 2: 84 بلفظ «لعمر أبيك» ولا عزو، والكامل 2: 538 و 3: 824 معزوا إلى العامري، وأدب الكاتب 395 معزوّا إلى القحيف العقيلي، وشرح شواهد المغني 142 معزوّا إليه، كذلك وانظر شرح العيني 3: 282، والخزانة 4: 247.
(3) . يلعب الثانية مستدركة من الهامش.
(4) . في التكملة «مدد» قال يونس: ما كان من الخير فإنّك تقول: «أمددته» ، وما كان من الشر فإنّك تقول «مددته» وفي اللسان «مدد» العبارة نفسها تقريبا. [.....]
(5) . في الأصل «مددت» والزيادة من الجامع 1: 209.
(6) . في الجامع 1: 209 حكي عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته.(1/140)
وقوله تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الآية 16] فهذا على قول العرب: «خاب سعيك» وإنّما هو الذي خاب، وإنّما يريد «فما ربحوا في تجارتهم» ومثله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الآية 177] إنّما هو «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله» «2» وقال الشاعر «3» [من المتقارب وهو الشاهد الخامس والعشرون] :
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب «4»
وقال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون] :
وشرّ المنايا ميّت وسط أهله ... كهلك «6» الفتاة أسلم الحيّ حاضره «7»
إنما يريد «وشر المنايا منية ميّت وسط أهله» ، ومثله: «أكثر شربي الماء» و «أكثر أكلي الخبز» وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] يريد: «أهل القرية» ، وَالْعِيرَ [يوسف: 82] أي: «واسأل اصحاب العير» . وقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [الآية 171] فكأنّه يريد- والله أعلم- «مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به» . فحذف هذا الكلام، ودلّ ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ يقول «مثلهم في دعائهم الالهة كمثل الذي ينعق بالغنم» لان- آلهتهم لا تسمع ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل.
وقوله تعالى
__________
(1) . سبأ 34: 33. وفي إعراب القرآن 2: 880 والجامع 14: 302 عن الأخفش «هذا مكر الليل والنهار» .
(2) . عبارة الكتاب 1: 108 نفسها.
(3) . هو النابغة الجعدي أبو ليلى عبد الله بن قيس.
(4) . شعر النابغة الجعدي 26، وفي الكتاب 1: 110 للمعنى نفسه، وفي مجالس ثعلب 77 ب «يصاحب» بدل «تواصل» ، وفي الأمالي 1: 192 ب «تصادق» وانظر اللسان «خلل» ، والصحاح «خلل» ، والإنصاف 1: 44.
(5) . هو الحطيئة جرول بن أوس العبسي.
(6) . في ديوان الحطيئة 45 بلفظ «هالك» بدل «ميت» ، و «ايقظ» بدل «أسلم» ، وفي الكتاب 1: 109 بلفظ «الفتى قد» بدل «الفتاة» . وكذلك في الإنصاف 1: 44.
(7) . عبارة تكاد تطابق عبارة الكتاب 1: 109.(1/141)
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [الآية 17] فهو في معنى «أو قد» ، مثل قوله «فلم يستجبه» أي «فلم يجبه» وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون] :
وداع دعا يا من يجيب الى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: «فلم يجبه» .
قال تعالى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) فكان (الذي) بمعنى جميعا فقال وَتَرَكَهُمْ لأن «الذي» في معنى الجميع، كما يكون «الإنسان» في معنى «الناس» .
وقال تعالى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) فرفع على تأويل: «هم صمّ بكم عمي» رفعه على الابتداء ولو كان على أوّل الكلام لكان النصب فيه حسنا.
وأما حَوْلَهُ [الآية 17] فانتصب على الظرف، وذلك أنّ الظرف منصوب.
والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن والعشرون] :
هذا النهار بدا لها من همّها ... ما بالها بالليل زال زوالها
نصب «النهار» على الظرف وإن شاء رفعه وأضمر فيه. وأما «زوالها» فإنه كأنه قال: «أزال الله الليل زوالها» .
وأما يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الآية 20] فمنهم من قرأ (يخطف) «3» من «خطف» ، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف «4» . وقد رواها يونس (يخطّف) «5» بكسر الخاء لاجتماع
__________
(1) . هو سعد بن كعب الغنويّ. والبيت في الأصمعيّات 96، وفي المجاز 1: 67 و 112 و 245 و 326، والصّحاح «جوب» ، والعجز في أدب الكاتب 419.
(2) . هو الأعشى ميمون، وهو في الصبح المنير 22 يضم زوالها، واللسان «زول» .
(3) . في الشواذ 3 نسبت إلى ابن مالك ومجاهد. وفي المحتسب 62 إلى مجاهد والحسن. وفي الجامع 1: 222 إلى يونس وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب وفي البحر 1: 89 إلى مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن زيد.
(4) . في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة ونقلها الجامع 1: 222.
(5) . في معاني القرآن 1: 17 بلا نسبة، وفي الشواذ 3، والمحتسب 59، كذلك وفي الجامع 1: 222 إلى الحسن، وقتادة، وعاصم الجحدري، وأبي رجاء العطاردي. [.....](1/142)
الساكنين. ومنهم من قرأ (يخطف) «1» على «خطف يخطف» وهي الجيدة «2» ، وهما لغتان. وقال بعضهم (يخطّف) «3» وهو قول يونس من «يختطف» ، فأدغم التاء في الطاء، لأنّ مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم (يخطّف) فحوّل الفتحة على الذي كان قبلها «4» ، والذي كسر، كسر لاجتماع الساكنين، فقال (يخطّف) «5» ومنهم من قال (يخطّف) «6» كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء، أتبع الكسرة وهي قبلها وذلك في كلام العرب كثير، فهم يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة، يقولون «قتلوا» و «فتحوا» يريدون: «اقتلوا» و «افتحوا» «7» . وقال ابو النجم «8» [من الرجز وهو الشاهد التاسع والعشرون] :
تدافع الشّيب ولم تقتّل «9»
وسمعناه من العرب مكسورا كلّه، فهذا مثل «يخطف» إذا كسرت ياؤها (لكسرة خائها) وهي بعدها فأتبع الاخر الاول.
وقوله تعالى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [الآية 20] فمنهم، من يدغم
__________
(1) . في السبعة 146 هي اتفاق، وحجّة الفارسي 294 كذلك.
(2) . في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة، وفي الجامع 1: 222 كذلك.
(3) . في معاني القرآن 1: 18، والجامع 1: 222 بلا نسبة.
(4) . في معاني القرآن 1: 18 بلا نسبة، وفي الشواذ 3 إلى الأعمش، وفي البحر 1: 90 إلى الحسن والجحدري وابن أبي إسحاق، وفي الجامع 1: 222 إلى الحسن وحده، وفي اللسان (خطف) اليه ايضا.
(5) . وفي الشواذ 3 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 222 إلى الحسن أيضا وقتادة وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي، وفي البحر 1: 90 كذلك.
(6) . في معاني القرآن 1: 17 بلا نسبة، وفي الشواذ 3 إلى الأعمش، وفي المحتسب 59 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 222 بلا نسبة، وفي البحر 1: 90 إلى الحسن والأعمش، وفي إعراب القرآن 1: 25 بلا نسبة. وفي اللسان «خطف» إلى الحسن.
(7) . قياسا على الشاهد الشعري اللاحق يبدو أنّ هذه لغة عجلية أو نجديّة كما يوحي هامش 3/ هـ 820 من الكامل للمبرّد.
(8) . هو أبو النجم الفضل بن قدامة العجلي. طبقات الشعراء 2: 737، الشعر والشعراء 603، ومعجم المرزباني 180، والكامل للمبرّد 3: 819، والأغاني (بولاق) 9: 77.
(9) . في اللسان (فلل) ب «تدافع الشيب ولم تقتل» وفي «فلن» تدافع الشّيب ولم تقتّل. وفي المقاصد النحوية 4: 228 بلا شكل. والخزانة 1: 401 كذلك.(1/143)
ويسكن الباء الاولى لأنهما حرفان مثلان «1» . ومنهم، من يحرّك فيقول (لذهب بّسمعهم) «2» وجعل «السمع» في لفظ واحد، وهو جماعة، لأنّ «السمع» قد يكون جماعة و «قد يكون واحدا، ومثله قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الآية 7] ومثله قوله تعالى لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ابراهيم:
43] وقوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [القمر: 45] ومثله وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [النساء: 4] .
وقوله فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [الآية 22] فقطع الألف، لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير، فإذا صغّرت قلت: «أنيدادا» . وواحد «الأنداد» :
ندّ. و «الندّ» : المثل.
وقوله تعالى الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الآية 24] ف «الوقود» :
الحطب. و «الوقود» الاتّقاد وهو الفعل. يقرأ الْوَقُودِ «3» و (الوقود) «4» ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك «الوضوء» وهو: الماء، و «الوضوء» وهو الفعل، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد «5» .
وقوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الآية 25] فجرّ «جنات» وقد وقعت عليها «أنّ» ، لأنّ كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة، تذهب في الواحد، وفي تصغيره، فنصبها جرّ، ألا ترى أنّك تقول: «جنّة» فتذهب التاء. وقال أيضا خَلْقِ السَّماواتِ [الأنعام: 1] «6» و «السماوات» جرّ،
__________
(1) . في السبعة 116 أنّه مذهب أبي عمرو.
(2) . في السبعة 113 أنّه مذهب نافع، و 115 مذهب ابن كثير، و 116 مذهب عاصم، و 122 مذهب حمزة، و 123 مذهب الكسائي وابن عامر.
(3) . قراءة الفتح في الجامع 1: 236 بلا نسبة، وفي الإملاء 1: 25 إلى الجمهور، وفي البحر 1: 107 إلى الجمهور
. (4) . قراءة الضّمّ في الشواذ 4 إلى مجاهد وطلحة، وفي الجامع 1: 236 أضاف الحسن، وفي البحر 1: 107 زاد الحسن باختلاف، ثم أبا حياة، وعيسى بن عمر الهمداني.
(5) . في إعراب القرآن 1: 30 نقل السراي، وأشار إلى اللغتين أيضا ولم يعز هما، وفي الصّحاح «ووضئ» نقل عبارة الأخفش بنصّها تقريبا، وذكره، ويقرب من ذلك ما في الجامع 1: 236، ولم نعثر على معاد كلّ من اللغتين، وإن كان ما في اللهجات العربية 191- 196 يشير إلى أنّ الضّمّ سمة من سمات لهجة البدو وتميم، وأن الفتح سمة لهجة الحضر وأهل الحجاز. [.....]
(6) . ورد هذا التعبير في القرآن الكريم مرات كثيرة، أوّلها الانعام 6: 1 انظر المعجم المفهرس «الأرض» .(1/144)
و «الأرض» نصب، لأنّ التاء زائدة. ألا ترى أنك تقول: «سماء» ، ووَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا [الأحزاب:
67] «1» لان هذه، ليست تاء، إنّما هي هاء، صارت تاء بالاتصال، وإنّما تكون تلك في السكوت، ألا ترى أنّك تقول: «رأيت ساده» فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) «2» جرّ لأنّك إذا قلت: «ساده» ذهبت التاء.
وتكون في السكت فيها تاء، تقول:
«رأيت سادات» ، وإنّما جرّوا هذا في النصب، ليجعل جرّه ونصبه واحدا، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول: «مسلمين و «صالحين» نصبه وجره بالياء. وقوله تعالى بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور: 27] ولا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ [الحجرات: 2] فإن التاء من اصل الكلمة تقول «صوت» و «صويت» فلا تذهب التاء، و «بيت» و «بويت» فلا تذهب التاء. وتقول: «رأيت بويتات العرب» فتجرّ، لأن التاء الاخرة زائدة، لأنّك تقول: «بيوت» ، فتسقط التاء الاخرة. وتقول: «رأيت ذوات مال» لأن التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكتّ على الواحدة لقلت: «ذاه» ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلّم بها إلا مع المضاف اليه.
وقوله تعالى هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [الآية 25] لأنه في معنى «جيئوا به» ، وليس في معنى «أعطوه» . فأمّا قوله: مُتَشابِهاً فليس أنّه أشبه بعضه بعضا، ولكنّه متشابه في الفضل.
أي: كل واحد له من الفضل في نحوه، مثل الذي للآخر في نحوه.
وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ [الآية 26] ف «يستحيي» لغة أهل الحجاز «3» بياءين وبنو تميم يقولون
__________
(1) . الأحزاب 33: 67 وفي الطبري 22: 50 إلى عامّة قرّاء الأمصار، وهي الراجحة وفي السّبعة 523 إلى غير ابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 265 بلا نسبة، وفي الكشف 2: 199 مثل السبعة، وكذلك في التيسير 179، وفي البحر 7: 252 إلى الجمهور، وفي الكشاف 3: 562 بلا نسبة.
(2) . في معاني القرآن 2: 350 إلى الحسن، وكذلك في الطبري 22: 50، وهي المرجوحة، وفي السبعة 523 إلى ابن عامر وحده، وفي حجة ابن خالويه 265 بلا نسبة، وفي الكشف 2: 199 إلى ابن عامر، وكذلك في التيسير 179، وفي الجامع 14: 249 إلى الحسن، وفي الكشّاف 3: 562 بلا نسبة، وفي البحر 7: 252 إلى الحسن وأبي رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر، والعامة في الجامع في البصرة.
(3) . البحر 1: 120 لغة الحجاز وهي قراءة الجمهور. وانظر اللهجات العربية 151 و 545، والقراآت واللهجات 37 ولهجة تميم 56.(1/145)
«يستحي» بياء واحدة «1» ، والأولى هي الأصل، لأنّ ما كان من موضع لامه معتلا، لم يعلّوا عينه. ألا ترى أنّهم قالوا: «حييت» و «جويت» فلم تعلّ العين. ويقولون: «قلت» و «بعت» فيعلّون العين، لمّا لم تعتلّ اللام، وإنّما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة، كما قالوا «لم يك» و «لم يكن» و «لا أدر» و «لا أدري» .
وقال تعالى مَثَلًا ما بَعُوضَةً [الآية 26] «2» لأن «ما» زائدة في الكلام، وإنّما هو «إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا» . وناس من بني تميم يقولون (مثلا مّا بعوضة) «3» يجعلون (ما) بمنزلة «الذي» ويضمرون «هو» كأنهم قالوا: «لا يستحيي أن يضرب مثلا، الذي هو بعوضة» يقول: «لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة، مثلا» .
وقوله تعالى فَما فَوْقَها [الآية 26] قال بعضهم: «أعظم منها» وقال بعضهم: كما تقول: «فلان صغير» فيقول: «وفوق ذلك» يريد: «أصغر من ذلك» .
وقوله تعالى ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الآية 26] فيكون «ذا» بمنزلة «الذي» . ويكون «ماذا» اسما واحدا، إن شئت بمنزلة «ما» ، كما قال تعالى:
ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: 30] فلو كانت «ذا» بمنزلة «الذي» ، لقالوا «خير» ، ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب، لأنّه لو قال: «ما الذي قلت» ، فقلت «خيرا» أي: «قلت خيرا» ، لجاز. ولو قلت: «ما قلت» :
__________
(1) . في الشواذ 4 قراءة ابن محيصن وابن كثير، بخلاف وفي الجامع 1: 242 أضاف أنّها لغة تميم وبكر بن وائل، ولم يذكر الخلاف. وفي البحر 1: 121 قراءة ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن ويعقوب، وهي لغة بن تميم، وفي الكشاف 1: 114 اقتصر على قراءة ابن كثير في رواية شبل، وذكر اللغتين ولم ينسبهما. وفي الإملاء 1: 26 عدّها شذوذا ولم ينسبها. وانظر اللهجات العربية 151 و 545، والقراآت واللهجات 37، ولهجة تميم 56. وفي الصحاح «حيا» نقلت عبارة الأخفش بنصّها تقريبا.
(2) . في معاني القرآن 1: 21 و 22 لم تنسب قراءة، وكذلك المشكل 24، وفي البحر 1: 22 قراءة الجمهور.
(3) . في معاني القرآن 1: 22، علّل الرفع ولم ينسبه قراءة وفي المجاز 1: 35 أنّها قراءة رؤبة وأنّها لغة تميمية، وفي الشواذ 4 نسب الرفع قراءة إلى رؤبة بن العجاج، وفي المحتسب 1: 64 كذلك. وفي المشكل 24، لم ينسب قراءة، وفي الجامع 1: 243 نسب قراءة إلى الضّحّاك وابراهيم بن أبي عبلة ورؤبة، وقال إنها لغة تميم، وفي البحر 1: 123 أضيف قطرب أيضا. وفي الكشاف 1: 115 إلى رؤبة قراءة وفي الإملاء 1: 26 عدّت شذوذا بلا عزو.(1/146)
«فقلت» : «خير» أي: «الذي قلت خير» ، لجاز غير أنّه ليس على اللفظ الأول، كما يقول بعض العرب، إذا قيل له: «كيف أصبحت» ؟ قال:
«صالح» أي: «أنا صالح» . ويدلّك على أنّ «ماذا» اسم واحد، قول الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثلاثون] :
دعي ماذا عملت، سأتّقيه ... ولكن بالمغيّب نبّئيني
فلو كانت «ذا» ها هنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاما.
وأمّا قوله تعالى عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الآية 27] ف «أن يوصل» بدل من الهاء، في «به» كقولك «مررت بالقوم بعضهم» .
وأمّا «ميثاقه» ، فصار مكان «التوثّق» ، كما قال تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) [نوح] والأصل «إنباتا» ، وكما قال «العطاء» في مكان «الإعطاء» .
وقوله تعالى وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الآية 28] فإنّما يقول كنتم ترابا ونطفا فذلك ميّت. وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب: «قد كان هذا قطنا» و «كان هذا الرّطب بسرا» . ومثل ذلك، قولك للرجل: «اعمل هذا الثوب» إنّما معك غزل.
هذا باب من المجاز
وأمّا قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ [الآية 29] وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأنّ ذكر «السماء» ، قد دلّ عليهنّ كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسّرين، أنّ «السماء» جميع، مثل «اللبن» . فما كان لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجماعة، جاز أن يجمع، فقال فَسَوَّاهُنَّ فزعم
__________
(1) . في الكتاب 1: 405 بلا عزو، ولم يعزه الأعلم في الهامش وفي المقاصد النحوية 1: 191 معزوّا إلى سحيم بن وثيل الرياحي، وروي عن الأصمعي أنّه لأبي زبيد الطائي، والى المثقّب العبدي عائذ بن محصن بن ثعلبة، وفي 1: 488 معزوا إلى سحيم بن وثيل الرّياحي. وفي الخزانة 2: 554 ش 444، أنّه مجهول القائل، وأنكر ما زعمه العيني في المقاصد عن عزوه الى المثقب وفي شرح شواهد المغني «ما» بلا عزو. وفي «أما» معزوّا إلى المثقّب العبدي وفي الدر 1: 60 إنكار نسبته إلى المثقّب، ولا وجود له في شعر المثقب العبدي. وفي اللسان (أبي) منسوبا إلى أبي حية النميري، وقبله:
أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ... ملاق، لا أباك تخوّفيني
وورد صدره في التمام 52، وشذور الذهب 328 بلا عزو.(1/147)
بعضهم، أنّ قوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزّمّل: 18] جمع مذكر ك «اللّبن» .
ولم نسمع هذا من العرب، والتفسير الأول جيد.
وقال يونس «1» : السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ذكر كما يذكر بعض المؤنث، كما قال الشاعر «2» [من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون] :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله «3» [من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون] :
فإمّا تري لمّتي بدّلت ... فإنّ الحوادث أودى بها
وقد تكون «السماء» ، يريد به الجماعة، كما تقول: «هلك الشاة والبعير» ، يعني كل بعير، وكل شاة.
وكما قال تعالى خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] أي: من الأرضين.
وأمّا قوله جل جلاله اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الآية 29] ، فإنّ ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحوّل، ولكنه يعني فعله، كما تقول: «كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل الى أهل الشام» انما تريد «4» تحوّل فعله.
وأمّا قوله سبحانه، حكاية على لسان الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الآية 30] ، فلم يكن ذلك إنكارا منهم، على ربّهم، إنّما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم، أنّهم يسبّحون ويقدّسون. أو قالوا ذلك، لأنّهم كرهوا أن يعصى الله، لأنّ الجنّ، قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قوله تعالى نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
__________
(1) . هو يونس بن حبيب وقد مرت ترجمته قبلها.
(2) . هو عامر بن الجوين الطائي، الكتاب 1: 420، ومجاز القرآن 2: 67، والمذكّر والمؤنث للمبرّد 112، وجاء برواية «أبقلت» ووصف همزة «إبقالها» في المقاصد 2: 464، وجاء منسوبا إلى الخنساء في شواهد العامليّ 150.
(3) . هو الأعشى ميمون بن قيس، والبيت في الصبح المنير 120 بلفظ «فإمّا تريني ولي لمّة» و «ألوى» بدل «أودى» .
وهو في الكتاب 1: 339 بلفظ رواية الأخفش، وفي مجاز القرآن 1: 267 بلفظ «فإن تعهديني ولي لمة» ، وفي معاني القرآن 1: 128 بلفظ: «فإن تعهدي لامرئ لمة» و «أزري» بدل «ألوى» . وفي المذكّر والمؤنّث للمبرّد 112 بلفظ «فإن تبصريني» ، وفي شرح القصائد السبع الطوال 405، بلفظ معاني القرآن.
(4) . في الأصل: يريد بالياء.(1/148)
وَنُقَدِّسُ لَكَ [الآية 30] ، وقال وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] وقال أيضا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر: 3] فذلك لان الذكر كلّه، تسبيح وصلاة. تقول:
«قضيت سبحتي من الذكر والصلاة» فقال «سبّح بالحمد» . أي: «لتكن سبحتك بالحمد لله» . وقوله تعالى أَتَجْعَلُ فِيها جاء على وجه الإقرار كما قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون] :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
أي: أنتم كذلك.
وقوله جلّ شأنه الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ [الآية 31] ، فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء، ويدلّك على ذلك قوله أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الآية 31] ، فلم يكن ذلك، لأنّ الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك، وفعله، فقال تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) أي كما يقول الرجل للرجل: «أنبئني بهذا إن كنت تعلم» ، وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.
فأعظموه عند ذلك، فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا [الآية 32] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب» ، إخبارا عن أنفسهم، بنحو ما خبّر الله عنهم. وقوله سبحانه سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا فنصب «سبحانك» لأنه أراد «نسبّحك» ، جعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: «نسبّحك بسبحانك» ، ولكن «سبحان» مصدر لا ينصرف. و «سبحان» في التفسير: براءة وتنزيه قال الشاعر «2» [من السريع وهو الشاهد الرابع والثلاثون] :
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
يقول: براءة منه.
هذا باب الاستثناء
وقوله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [الآية 34] ، فانتصب، لأنّك شغلت
__________
(1) . هو جرير بن عبد الله بن الخطفي، والبيت في ديوانه 1: 89، ومجاز القرآن 1: 35 و 184 و 2: 118 و 150.
(2) . هو الأعشى ميمون بن قيس والبيت في الصبح المنير 106 بلفظ «فجره» ، و «الفاجر» في الكتاب 1: 163 كما في رواية الأخفش، وفي مجاز القرآن 1: 36 و 132 كذلك. [.....](1/149)
الفعل بهم عنه، فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول: جاء القوم إلّا زيدا» ، لأنّك لمّا جعلت لهم الفعل، وشغلته بهم، وجاء غيرهم، شبّهته بالمفعول به بعد الفاعل، وقد شغلت به الفعل.
هذا باب الدعاء
وهو قوله تعالى يا آدَمُ اسْكُنْ [الآية 35] ويا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ [الآية 33] ويا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ [الأعراف: 104] فكلّ هذا إنّما ارتفع، لأنّه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء، وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكّنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الأصل. وإنّما يريد «أعني فلانا» و «أدعو» ، وذلك مثل قوله تعالى يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا [يوسف: 11] ورَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] ، إنّما يريد: «يا ربّنا ظلمنا أنفسنا» وقوله رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الآية 127] .
هذا باب الفاء
قوله سبحانه وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [الآية 35] فهذا الذي يسميه النحويون «جواب الفاء» . وهو ما كان جوابا للأمر والنهي، والاستفهام، والتمنّي، والنفي، والجحود. ونصب ذلك كلّه، على ضمير «1» «أن» ، وكذلك الواو. وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء.
وإنما نصب هذا، لأنّ الفاء والواو من حروف العطف، فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما، حتى كأنه قال «لا يكن منكما قرب الشجرة» ، ثم أراد أن يعطف الفعل اسما، على اسم، وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله جلّ شأنه لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] »
، هذا جواب النهي ولا يُقْضى عَلَيْهِمْ
__________
(1) . أي على إضمار «أن» ، وكثيرا ما استعمل الأخفش هذه الكلمة بهذا المعنى.
(2) . وكتابتها في المصحف كما أثبت، ولكنّها جاءت في الأصل والكتاب 1: 421 بفتح الياء والحاء. وقد استشهد بها لجواز الجزم والنصب، وفي الجامع 11: 215 أنّ ضم الياء وكسر الحاء قراءة الكوفيّين، وهي لغة تميم وأنّ فتح الياء والحاء قراءة سائر الآخرين، وهي لغة أهل الحجاز.(1/150)
فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] جواب النفي.
والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز، إذا حسن، أن تجري الاخر على الأوّل، أن تجعله مثله، نحو قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم] أي: «ودّوا لو يدهنون» . ونحو قوله تعالى وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ [النساء: 102] جعل الأول فعلا، ولم ينو به الاسم، فعطف الفعل على الفعل، وهو التمني، كأنه قال «ودّوا لو تغفلون ولو يميلون» وقال تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات] أي «ولا يؤذن لهم ولا» يعتذرون» . وما كان بعد هذا، جواب المجازاة بالفاء والواو، فإن شئت أيضا نصبته على ضمير «أن» ، إذا نويت بالأوّل، أن تجعله اسما، كما قال أيضا: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ [الشورى: 33] أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ [الشورى] فنصب «1» ، ولو جزمه على العطف كان جائزا «2» ، ولو رفعه على الابتداء، جاز أيضا «3» . وقال تعالى:
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [الآية 284] فتجزم فَيَغْفِرُ، إذا أردت العطف «4» ، وتنصب إذا أضمرت «إن» ، ونويت أن يكون الأوّل اسما «5» ، وترفع
__________
(1) . في الطبري 25: 135، قرّاء الكوفة والبصرة، وفي السبعة 581 الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، وفي الكشف 2: 251، والتيسير 195 والجامع 16: 34، إلى غير نافع وابن عامر، وفي البحر 7:
521 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 3: 24، وحجّة ابن خالويه 293 بلا نسبة.
(2) . في معاني القرآن 3: 24، والكشّاف 4: 227، والبحر 7: 521 بلا عزو.
(3) . نسبت قراءة الرفع إلى عامّة قراء المدينة. الطبري 25: 35، وفي السبعة 581، والكشف 2: 251، والتيسير 195، والجامع 16: 33، إلى نافع وابن عامر وفي البحر 7: 521 زاد الأعرج، وأبا جعفر، وشيبة وزيد بن علي ولم ينسبه في معاني القرآن 3: 24، ولا حجّة ابن خالويه 293.
(4) . في السبعة 195 نسبت إلى ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي، وفي الكشف 1: 323 إلى غير ابن عامر وعاصم وفي التيسير 85 كالسبعة والجامع 3: 424 كذلك وفي البحر 2: 360 إلى غير ابن عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل وفي حجّة ابن خالويه 80 بلا عزو.
(5) . في الجامع 3: 424 نسبت إلى ابن عباس، والأعرج، وأبي العالية، وعاصم الجحدري، في رواية وفي البحر 360 إلى ابن عباس والأعرج وابن حياة. وفي حجّة ابن خالويه 80، بلا نسبة.(1/151)
على الابتداء «1» وكلّ ذلك من كلام العرب وقال تعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 14] ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [التوبة: 15] فرفع وَيَتُوبُ لأنّه كلام مستأنف ليس على معنى الاول.
ولا يريد «قاتلوهم: «يتب الله عليهم» ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت وقال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون] :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشّهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام
فنصب «ونمسك» على ضمير «أن» ، ونرى أن يجعل الأوّل اسما، ويكون فيه الجزم أيضا على العطف، والرفع على الابتداء. قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون] :
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا «4»
ومن يغترب عن قومه لا يجد له ... على من له رهط حواليه مغضبا «5»
وتدفن منه المحسنات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا «6»
ف «تدفن» يجوز فيه الوجوه كلها.
قال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون] :
__________
(1) . في السّبعة 195 إلى عاصم وابن عامر، وفي الكشف 1: 323، والتيسير 85 والجامع 3: 424 كذلك، وزاد في البحر 2: 360 يزيدا ويعقوب وسهلا.
(2) . هو النابغة الذبياني وهما في ديوانه 231 و 232، بلفظ الأخفش عينه.
(3) . الأعشى ميمون بن قيس.
(4) . الأبيات في الصبح المنير 85، وقد جاءت مرتّبة بتوسّط هذا البيت لا بتقدمه. وبلفظ «ويحطم بظلم لا يزال يرى له» ، وانظر الصحاح «كبكب» ، واللسان «زيب» و «كبكب» ، وتاج العروس «زيب» .
(5) . بلفظ «متى» بدل «ومن» . وفي الكتاب 1: 449 كما عند الأخفش وفي إعراب الزجّاج 3: 906 كذلك.
(6) . بلفظ «المحسنات» بدل «الصالحات» ، وكذلك في الكتاب 1: 449، ومعاني القرآن 2: 290، وإعراب الزجّاج 3: 906.
(7) . هو النابغة الذبياني. [.....](1/152)
فإن يرجع النّعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معدّا ملكها وربيعها «1»
وإن يهلك النّعمان تعر مطيّة ... وتخبأ في جوف العياب قطوعها «2»
وقال تبارك وتعالى وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] فهذا لا يكون إلّا رفعا، لأنّه الجواب الذي لا يستغنى عنه.
والفاء إذا كانت جواب المجازاة، كان ما بعدها أبدا مبتدأ، وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. ألا ترى أنك تقول «ان تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ» . فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكون، حتى تجيء لما بعد «إن» بجواب. ومثلها وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [الآية 126] وقرأ بعضهم (فأمتعه ثم اضطرّه) «3» ف أَضْطَرُّهُ إذا وصل الألف، جعله أمرا. وهذا الوجه، إذا أراد به الأمر، يجوز فيه الضم والفتح.
غير أنّ الألف ألف وصل، وإنّما قطعتها، «ثمّ» في الوجه الاخر، لأنّ كل ما يكون معناه «أفعل» ، فإنه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع، قال تعالى: أَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل: 39- 40] وهو من «أتى» «يأتي» وقال أيضا بقراءة من قرأ قوله سبحانه من الآية 23 من سورة يس: (أتّخذ من دونه آلهة) فترك ألف التي بعد ألف الاستفهام، لأنّها ألف «أفعل» . وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكي عن الكفّار: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) [المنافقون] فقوله تعالى فَأَصَّدَّقَ جواب للاستفهام، لأنّ لَوْلا ها هنا بمنزلة «هلّا» وعطف وَأَكُنْ على موضع فَأَصَّدَّقَ، لأنّ جواب الاستفهام، إذا ما لم يكن فيه فاء، جزم. وقد قرأ بعضهم (فأصدق وأكون) «4» عطفها على ما بعد
__________
(1) . في الديوان ب «أن» بلا فاء. وبعده بيت آخر هو:
ويرجع الى غسان ملك وسؤدد ... وتلك المعنى لو أننا نستطيعها
(2) . في الديوان: «يخبأ» بالياء المثنّاة من تحت. وفي معاني القرآن 1: 87 كما في رواية الأخفش.
(3) . في معاني القرآن 1: 78 نسبت إلى ابن عبّاس، وفي الطّبري 3: 54 كذلك، وزاد في الجامع 2: 119 قتادة ومجاهدا، وفي البحر 1: 384 أغفل قتادة وزاد «غير هما» .
(4) . في معاني القرآن 3: 160 أنّها لعبد الله بن مسعود، وفي تأويل مشكل القرآن 1: 56 إلى أبي عمرو بن العلاء، وفي الطّبري 28: 118 بزيادة محيصن، وفي السبعة 637 إلى أبي عمرو، وحده وفي الشواذ 157 الى ابن عبّاس وابن جبير وفي الكشف 1: 322 الى أبي عمرو، وفي التيسير 211 كذلك، وفي الجامع 18: 131 زاد ابن محيصن، وفي البحر 8: 275 إلى الحسن وابن جبير وأبي رجاء وابن ابي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبي عمرو، وكذا في مصحف عبد الله وأبيّ.(1/153)
الفاء، وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ قوله تعالى من الآية 186 من سورة الأعراف: (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) بالجزم «1» . فجزم (يذرهم) ، على أنّه عطف على موضع الفاء، لأنّ موضعها يجزم، إذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء، فهو أجود، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف «2» . وقال تعالى وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ [الآية 271] جزم «3» ورفع «4» على ما فسّرت. وقد يجوز في هذا، وفي الحرف الذي قبله النصب «5» لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة، مثل وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا [الشورى:
35] وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران] فانتصب
__________
(1) . هي في السبعة 299 إلى حمزة والكسائي، وعامّ في رواية، وفي الكشف 1: 485، والتيسير 115، بإسقاط عاصم، وفي البحر 4: 433 إلى ابن مصرف، والأعمش، والخويي، وأبي عمرو فيما ذكر أبو حاتم، وفي حجّة ابن خالويه 143، والجامع 7: 334 بلا نسبة.
(2) . هي في السبعة 298 إلى ابن مجاهد، وأبي عمرو في رواية وابن كثير، ونافع، وابن عامر واقتصر في التيسير 115 على عاصم وأبي عمرو وفي البحر 4: 433 كذلك. وفي حجّة ابن خالويه 143، والجامع 7: 234 بلا نسبة.
(3) . في الطّبري 5: 585 إلى عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة. وفي السبعة 191، إلى عاصم في رواية، ونافع وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 317 أسقط عاصما والجامع 3: 335 كذلك وفي البحر 2: 325 باختلاف بين النون والياء والتاء في «نكفر» ، زاد الأعمش وابن عباس وعكرمة. وفي حجّة ابن خالويه 79 بلا نسبة.
(4) . في الطبري 5: 584 بالتاء في (تكفر) إلى ابن عباس، وبالياء بلا نسبة وفي السبعة كالسّابق، إلى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، ونافع في رواية أبي خليد وفي حجّة ابن خالويه 79 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 317 إلى غير نافع وحمزة والكسائي وفي المشكل 79 بالياء في (يكفر) بلا نسبة وفي الجامع 3: 335 إلى أبي عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وفي البحر 2: 325 إلى ابن عامر وابن هرمز وابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر باختلاف بين الياء والتاء والنون في (تكفر) .
(5) . في البحر 2: 325 إلى الأعمش في رواية، وعكرمة أيضا، وشهر بن حوشب باختلاف بين الياء والتاء في (الكفر) .(1/154)
الاخر، لأنّ الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم، وفي الثاني الواو «1» . وإن شئت جزمت على العطف، كأنّك قلت «ولمّا يعلم الصابرين» «2» . فإن قال قائل:
«ولمّا يعلم الله الصابرين» وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علم، ولكنّ هذا، فيما يذكر أهل التأويل، ليبيّن للناس، كأنّه قال «ليعلمه الناس» كما قال جلّ جلاله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) [الكهف] وهو قد علم، ولكن ليبيّن ذلك. قد قرأ أقوام، أشباه هذا، في القرآن (ليعلم أيّ الحزبين) «3» ولا أراهم قرءوه، إلّا لجهلهم بالوجه الاخر.
وممّا جاء بالواو وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [الآية 42] إن شئت، جعلت وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ نصبا، إذا نويت أن تجعل الأول اسما، فتضمر مع تَكْتُمُوا «أن» ، حتّى تكون اسما. وإن شئت عطفتها، فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال تعالى أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما [الأعراف: 22] فعطف القول على الفعل المجزوم، فجزمه. وزعموا أنّه في قراءة ابن مسعود (وأقول لكما) «4» على ضمير «أن» ، ونوى أن يجعل الأوّل اسما، وقال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون] :
لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضّي لبانات ويسأم سائم «6»
- ثواء وثواء أو ثواء رفع نصب وخفض- فنصب على ضمير «أن» لأنّ
__________
(1) . في معاني القرآن 1: 235 إلى غير الحسن، وفي الطّبري 7: 247 أنّ القراءة على هذا الحرف، وفي الجامع 4: 220 إلى الحسن ويحيى بن يعمر، وفي البحر 3: 66 إلى ابن وثاب النخعي.
(2) . في معاني القرآن 1: 235 إلى الحسن، والطّبري 7: 247 كذلك، وفي الشواذ 22 إلى الحسن، وفي البحر 3: 66 إلى الجمهور وإلى الحسن وابن يعمر وابن حياة وعمرو بن عبيد. وقد نقله في الإملاء 1: 150، مع وجه ثالث هو الرفع.
(3) . يبدو أنّ الأخفش أوّل من أشار إلى هذه القراءة، لأنّها تروى عنه في الشواذ 78، والبحر 6: 103، وهي قراءة الزهري، كما في الجامع 10: 340، والبحر كما سبق.
(4) . تفرّد الأخفش برواية هذه القراءة.
(5) . هو الأعشى ميمون بن قيس. [.....]
(6) . البيت في الصبح المنير 56، بلفظ رواية الأخفش نفسه، وفي مجاز القرآن 1: 72 بلفظ «تقضي» ، وفي الكتاب 1: 423 بلفظ «تقضي لبانات ويسأم» .(1/155)
التقضّي اسم، ومن قال «فتقضى» رفع «ويسأم» ، لأنه قد عطف على فعل.
وهذا واجب، وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون] :
فإن لم أصدق ظنّكم بتيقّن ... فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد
ويعلم أكفائي من الناس أنّني ... أنّا الفارس الحامي الذمار المذاود «2»
وقال الشاعر «3» [من الوافر وهو الشاهد الأربعون] :
فإن يقدر عليك أبو قبيس ... نمطّ بك المنيّة في هوان «4»
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن «5»
فنصب هذا كلّه، لأنّه نوى أن يكون الأوّل اسما، فأضمر بعد الواو «أن» ، حتى يكون اسما مثل الأوّل، فتعطفه عليه. وأمّا قوله تعالى لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [الآية 167] وفَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) [الشعراء] فهذا على جواب التمني، لأن معناه «ليت لنا كرّة» . وقال الشاعر: [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون] :
فلست بمدرك ما فات منّي ... ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لو أني» «6»
فأنزل «لو أني» ، بمنزلة «ليت» ، لأنّ الرجل إذا قال: «لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا» ، فإنما تريد «وددت لو كنت فعلت» . وإنما جاز ضمير «أن» في غير الواجب، لأنّ غير الواجب يجيء ما بعده، على خلاف ما قبله ناقضا له.
فلمّا حدث فيه خلاف لأوّله، جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوّله، نحو قول الله عز وجل
__________
(1) . هو حسّان بن ثابت الأنصاري.
(2) . البيت في ديوانه: 195 ب يعلم والمناجد.
(3) . هو النابغة الذبياني.
(4) . البيت في ديوانه 149 ب «تحط بك المنية في رهان» ، وفي الصحاح (قبس) ب «يحط» بدل «نمط» و «المعيشة» بدل «المنية» وفي اللسان «قبس» كما في الصحاح.
(5) . البيت في ديوانه 49 ب «تخضب» ، وفي الجامع 17: 175 ب «تخضب» كذلك.
(6) . في الصحاح واللسان «لهف» ، وفي الخصائص 3: 135 وشرح القطر 205، ب «راجع» بدل «مدرك» .(1/156)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63] فالمعنى: «اسمعوا أنزل الله من السماء ماء» فهذا خبر واجب وأَ لَمْ تَرَ تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر.
قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون] :
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا «2»
وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة «3» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون] :
لها هضبة لا يدخل الذلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما «4»
واعلم أنّ إظهار ضمير «أن» ، في كلّ موضع أضمر فيه من الفاء، لا يجوز، ألا ترى أنّك إذا قلت: «لا تأته فيضربك» ، لم يجز أن تقول: «لا تأته فأن يضربك» وإنّما على «أن» فلا يحسن إظهاره، كما لا يجوز في قولك «عسى أن تفعل» : «عسى الفعل» ولا في قولك: «ما كان ليفعل» : «ما كان لأن يفعل» ، ولا إظهار الاسم الذي في قولك «نعم رجلا» فرب ضمير لا يظهر، لأنّ الكلام إنّما وضع على أن يضمر، فإذا ظهر، كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ، فيدخله اللبس.
وأمّا قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [الآية 36] ، فإنّما يعني «الزّلل» ، تقول: «زلّ فلان» و «أزللته» و: «زال فلان» و «أزاله فلان» ، والتضعيف القراءة الجيّدة، وبها نقرأ «5» . وقال بعضهم: (فأزالهما) أخذها من «زال» .
__________
(1) . هو المضيرة بن حبناء بن عمرو الحنظلي. شرح الشواهد للسيوطي 169، وقيل بل هو المغيرة بن حنين بن عمرو التميمي الحنظلي «المقاصد النحوية 4: 390، وشرح الشواهد للعاملي 386، ولم يجد البغدادي الشاهد في شعر المغيرة بن حبناء، الخزانة 4: 601.
(2) . البيت في الكتاب 1: 423 وعجز في 1: 448، والعجز أيضا في شرح الأبيات للفارقي 110، وبرواية أخرى فيه بلفظ «لأستريحا» .
(3) . هو طرفة بن العبد البكري، ترجمته في الشعر والشعراء 1: 185 وطبقات الشعراء 1: 138 والخزانة 1: 414 وأسماء المغتالين 2: 212.
(4) . ديوان طرفة 194 بلفظ «لنا» بدل «لها» ، و «ينزل» بدل «يدخل» وفي شرح الأبيات للفارقي 111 ب «ليعصما» بدل «فيعصما» .
(5) . في الطبري 1: 524 إلى عامة القرّاء، والجامع 1: 311 إلى الجماعة، والكشف 1: 235 والتيسير 73 إلى غير حمزة، وفي حجّة ابن خالويه 51، والإملاء 1: 31 بلا نسبة.(1/157)
تقول: «زال الرجل» و «أزاله فلان» «1» .
وقال سبحانه اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الآية 36] «2» فإنّما قال اهْبِطُوا والله أعلم، لأنّ إبليس كان ثالثهم، فلذلك جمع.
وقال تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الآية 37] فجعل آدم المتلقّي «3» . وقد قرأ بعضهم (آدم) نصبا ورفع الكلمات، جعلهن المتلقّيات «4» .
وقال تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [الآية 38] وذلك، أن «إمّا» في موضع المجازاة، وهي «إمّا» لا تكون «أمّا» وهي «إن» زيدت معها «ما» «5» ، وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة، او الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنّما حسنت فيه النون، لمّا دخلته «ما» ، لأنّ «ما» نفي، وهو ما ليس بواجب، وهي من الحروف التي تنفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم «بعين مّا أرينّك» «6» حين أدخلت فيها «ما» ، حسنت النون.
ومثل «إمّا» ها هنا قوله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً (26) [مريم] ، وقوله قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) [المؤمنون] فالجواب في قوله فَلا تَجْعَلْنِي. وأشباه هذا، في القرآن والكلام، كثير. وأمّا «إمّا» في غير هذا
__________
(1) . وفي السبعة 153، والكشف 1: 235، والتيسير 73، والجامع 1: 311، إلى حمزة وفي الشواذ 4 إليه بإماله وفي البحر 1: 161 كذلك، وأضاف إليه أبا عبيدة ونسبها بلا إمالة إلى الحسن وأبي رجاء وفي الطبري 1: 524، وحجّة ابن خالويه 51، والكشّاف 1: 128، والإملاء 1: 31 بلا نسبة.
(2) . في الأصل (اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) وهي الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من السورة العشرين (طه) . وفي الآية الثامنة والثلاثين من سورة البقرة، أي الآية التي ستأتي بعد آيتين قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ [الآية 38] وهذا يدل على أنّ الأخفش كان يقتضب الكلام ولم يكن يقرأ في نسخة من الكتاب الكريم. [.....]
(3) . في الطبري 1: 542 هي قراءة الحجّة من القراء وأهل التأويل ومن علماء السلف والخلف وفي الكشف 1: 236، والتيسير 73، والبحر 1: 165، إلى غير ابن كثير وفي حجّة ابن خالويه 51 بلا نسبة.
(4) . في السبعة 153، والكشف 1: 236، والتيسير 73، والجامع 1: 326، والبحر 1: 165، إلى ابن كثير وفي معاني القرآن 1: 28، والطّبري 1: 542، إلى بعض القرّاء بلا تعيين وفي حجّة ابن خالويه 51 بلا نسبة.
(5) . هذا الرأي لسيبويه المغني 1: 59.
(6) . هو مثل معناه «اعمل كأنّي أنظر إليك» ، يضرب في الحثّ على ترك البطء وما صلة دخلت للتأكيد، ولأجلها دخلت النون في الفعل، ومثله: ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها. مجمع الأمثال 1: 100.(1/158)
الموضع، الذي يكون للمجازاة، فلا تستغني حتّى ترد «إمّا» مرتين، نحو قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) [الإنسان] ونحو قوله حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ [مريم: 75] وإنّما نصب، لأنّ «إمّا» هي بمنزلة «أو» ، ولا تعمل شيئا، كأنّه قال «هديناه السبيل شاكرا أو كفورا» ، فنصبه على الحال و «حتّى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة» ، فنصبه على البدل.
وقد يجوز الرفع بعد «إمّا» ، في كلّ شيء يجوز فيه الابتداء، ولو قلت:
«مررت برجل إمّا قاعد وإمّا قائم» جاز، وهذا الذي في القرآن، جائز أيضا، ويكون رفعا، إلا أنّه لم يقرأ.
وأمّا التي تستغني عن التثنية، فتلك تكون مفتوحة الألف أبدا نحو قولك «أمّا عبد الله فمنطلق» ، وقوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى] ووَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصّلت: 17] فكلّ ما لم يحتج فيه الى تثنية «أمّا» ، فألفها مفتوحة، إلّا تلك التي في المجازاة.
و «أمّا» أيضا لا تعمل شيئا، ألا ترى أنّك تقرأ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فتنصبه ب «تنهر» ، ولم تغيّر «أمّا» شيئا منه.
باب الاضافة
أمّا في قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الآية 38] فانفتحت هذه الياء على كل حال، لأنّ الحرف الذي قبلها ساكن. وهي الألف التي في «هدى» . فلمّا احتجت الى حركة الياء، حرّكتها بالفتحة، لأنّها لا تحرّك إلّا بالفتح. ومثل ذلك قوله جل شأنه عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها [طه: 18] ولغة للعرب يقولون «عصيّ يا فتى» «1» ، و (هديّ فلا خوف عليهم) «2» لما كان
__________
(1) . هي لغة هذيل الكشاف 1: 130، و 3: 57، والجامع 1: 328، والبحر 1: 169، واللهجات العربية 153 و 425.
(2) . في المحتسب 1: 76 إلى النبي (ص) وأبي الطفيل وعبد الله بن أبي إسحاق وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي، وفي البحر 1: 169 اقتصر على عبد الله بن أبي إسحاق وعاصم وعيسى بن أبي عمر (كذا) ، وفي الجامع 1: 328 اقتصر على الجحدري، وفي الكشّاف 1: 130، والكشف 1: 184، بلا نسبة، وفي البيان 1: 76 إلى النبي (ص) ، والإملاء 1: 32 بلا نسبة.(1/159)
قبلها حرف ساكن، وكان ألفا، قلبته الى الياء، حتّى تدغمه في الحرف الذي بعده، فيجرونها مجرّى واحدا وهو أخفّ عليهم. وأمّا قوله تعالى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) [ق] وهذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] وثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [آل عمران: 55 ولقمان: 15] .
فإنّما حركت بالإضافة، لسكون ما قبلها، وجعل الحرف الذي قبلها ياء ولم يقل «علاي» «1» ولا «لداي» كما تقول «على زيد» ، و «لدى زيد» ، ليفرّقوا بينه وبين الأسماء، لأن هذه ليست بأسماء. و «عصاي» ، و «هداي» ، و «قفاي» ، أسماء. وكذلك أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ [يوسف: 43] و (يا بشراي هذا غلام) «2» لأنّ آخر «بشرى» ساكن.
وقرأ آخرون قوله تعالى، من الآية 19 من سورة يوسف: قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ «3» ، لا يريد الاضافة، وبه نقرأ.
فإذا لم يكن الحرف ساكنا، كنت في الياء بالخيار، إن شئت أسكنتها وإن شئت فتحتها، نحو: (إنّي أنا الله) «4» وإِنِّي أَنَا اللَّهُ «5» ، ووَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نوح: 28] «6»
__________
(1) . لغة بلحارث بن كعب «اللسان «علا» ، وقيل لغة طيء، اللهجات العربيّة 585.
(2) . يوسف 12: 19. نسبت في الطبري 16: 3 إلى عامة قرّاء أهل المدينة مع إدغام الألف في الياء وفي السبعة 347 بإسكان الياء إلى نافع، وفتحها إلى ابن كثير، ونافع أيضا وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 2: 7 والتيسير 128 إلى غير الكوفيّين وفي الجامع 9: 153 إلى أهل المدينة وأهل البصرة، وبإدغام الالف في الياء إلى ابن إسحاق، وفي البحر 5: 290 إلى ورش عن نافع، مع سكون ياء الإضافة وإلى أبي الطفيل والحسن بن أبي إسحاق والجحدري، بقلب الألف ياء وإدغامها وأنها لغة هذيل وناس غيرهم، وفي معاني القرآن 2: 39، وحجّة ابن خالويه 169 بلا نسبة.
(3) . في الطبري 16: 4 إلى عامة قراء الكوفيين، وفي السبعة 347 إلى عاصم وحمزة والكسائي، وفي الكشف 2:
7، والتيسير 128، والجامع 6: 153، والبحر 5: 290، إلى الكوفيين، وفي معاني القرآن 2: 39، وحجّة ابن خالويه، 169، بلا نسبة.
(4) . القصص 28: 30، وهي في السبعة 496 قراءة عاصم وأبي بكر، وفي الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى الكسائي. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.
(5) . في السبعة 496 الى نافع وابن كثير وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية، ورش وإلى قالون، 2:
176 إلى الحرميين وأبي عمرو، وفي التيسير 63 كذلك.
(6) . في السبعة 654 إلى عاصم وهشام برواية حفص، وإلى نافع برواية ابي قرة، وفي الحجّة 325 بلا نسبة وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش، وإلى قالون، و 329 إلى ابن عامر في رواية هاشم، و 2: 338 إلى حفص وهشام وفي التيسير 69 إلى هشام. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.(1/160)
و (بيتي) «1» وفَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6) [نوح] «2» و (دعائي) «3» .
وكذلك إذا لقيتها ألف ولام زائدتان، فإن شئت حذفت الياء لاجتماع الساكنين، وإن شئت فتحتها، كيلا يجتمع حرفان ساكنان. إلّا أنّ أحسن ذلك الفتح، نحو قول الله تبارك وتعالى جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي [غافر: 66] «4» ونِعْمَتِيَ الَّتِي «5» وأشباه ذا. وبه نقرأ.
وإن لقيته أيضا ألف وصل بغير لام، فأنت فيه أيضا بالخيار، إلّا أنّ أحسنه، في هذا، الحذف، وبه نقرأ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] «6» وهارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) [طه] «7» .
__________
(1) . وفي السبعة 654 إلى عاصم برواية أبي بكر، وغير من أخذ بقراءة الفتح، وفي الحجّة 325 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 325 إلى ورش، 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وإلى ابن عامر في رواية ابن ذكوان.
(2) . وفي السبعة 652 بالهمز إلى وحمزة والكسائي، وفي رواية عبّاس إلى أبي عمرو وفي الحجّة 325 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي، و 2: 338 إلى الكوفيين. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف. [.....]
(3) . بالهمز في السبعة 652 إلى ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ونافع، وفي الحجّة 325 بلا نسبة، وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش، وإلى قالون، 327 إلى ابن كثير، وفي التيسير 65 إلى نافع وأبي عمرو وابن كثير، و 66 إلى ابن عامر وبلا همز، في السبعة 652 إلى خلف وابن كثير وفي الحجّة 325 بلا نسبة.
(4) . وقراءة الفتح في الكشف 1: 325 إلى نافع ورش وإلى قالون، وفي التيسير 67 نسبها إلى «كلّهم» قراءة السكون، في الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وفي التيسير 66 إلى حمزة والكسائي.
(5) . البقرة 2: 40 و 47 و 122 وقراءة الفتح في السبعة 197 إلى غير عاصم برواية المفضل، والكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش وإلى قالون، وفي التيسير 67 نسبها إلى «كلّهم» وقراءة السكون في السبعة 197 إلى عاصم برواية المفضّل، وفي الكشف 1: 327 إلى ابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي.
(6) . قراءة الإسكان في السبعة 301 إلى حمزة ونافع وعاصم، وباختلاف عن ابن عامر، والكشف 1: 327 إلى نافع وابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وفي التيسير 67 إلى نافع. وقراءة فتح الياء في السبعة 302 إلى أبي عمرو وباختلاف عن ابن عامر، وفي الكشف 1: 325 إلى نافع برواية ورش، وإلى قالون، و 326 إلى أبي عمرو وفي التيسير 68 إلى أبي عمرو.
(7) . قراءة الإسكان في السبعة 426 إلى نافع وحمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وفي الكشف 1: 325 إلى ورش وقالون، و 327 إلى نافع وابن كثير، و 328 إلى حمزة، و 329 إلى الكسائي وفي التيسير 67 إلى نافع. وقراءة فتح الياء في السبعة 426 إلى أبي عمرو وابن كثير وفي الكشف 1: 325 إلى نافع في رواية ورش، وإلى قالون و 326 إلى أبي عمرو و 2: 109 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وهذا مناقض لما جاء في 1: 327 عن ابن كثير وفي التيسير 68، إلى أبي عمرو.(1/161)
فإذا كان شيء من هذا الدّعاء، حذفت منه الياء، نحو يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) [الزمر] ورَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ [يوسف: 101] ورَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) [المؤمنون] .
ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدّعاء وغيره، من كلّ شيء «1» .
وذلك قبيح، قليل، إلّا ما في رؤوس الآي، فإنّه يحذف الوقف، كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي، نحو قول طرفة بن العبد [من الطويل وهو الشاهد الرابع والأربعون] :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض «2»
وقوله «3» [من الوافر وهو الشاهد الخامس والأربعون] :
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرين»
هذا إذا وقفوا، فإذا وصلوا قالوا:
«من بعضي» و «الأندرينا» ، وذلك في رؤوس الآي كثير، نحو قوله تعالى بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ [ص: 8] وإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) . فإذا وصلوا أثبتوا الياء.
وقد حذف قوم الياء في السكوت والوصل وجعلوه على تلك اللغة القليلة، وهي قراءة العامّة، وبها نقرأ، لأنّ الكتاب عليها.
وقد سكت قوم بالياء ووصلوا بالياء «5» ، وذلك على خلاف الكتاب، لأنّ الكتاب ليست فيه ياء، وهي اللغة الجيّدة «6» . وقد سمعنا عربيّا فصيحا ينشد [من الطويل وهو الشاهد السادس والأربعون] :
فما وجد النّهديّ وجدا وجدته ... ولا وجد العذريّ قبل جميل «7»
يريد «قبلي» فحذف الياء. وقد أعمل بعضهم «قبل» ، إعمال ما ليس فيه ياء،
__________
(1) . هي لغة هذيل البحر 5: 261، اللهجات العربيّة 549 و 550.
(2) . ديوانه 172، ومجاز القرآن 2: 3، والكتاب 1: 174، والكامل 2: 549.
(3) . هو عمرو بن كلثوم التغلبي.
(4) . البيت هو مطلع معلّقته المشتهرة. ويمكن الرجوع فيه إلى كل شروح المعلّقات المختلفة.
(5) . هي قراءة يعقوب، واللهجات العربيّة 551.
(6) . هي لغة الحجاز، اللهجات العربية 550.
(7) . ورد في الإنصاف 2: 283، والهمع، 1: 210 والدرر 1: 176 بلا عزو.(1/162)
فقال: «قبل جميل» وهو يريد «قبلي» .
كما قال بعض العرب «يا ربّ اغفر لي» فرفع وهو يريد «يا ربّي» .
وأمّا قوله سبحانه وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) [الأحزاب] وفَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) [الأحزاب] فتثبت فيه الألف لأنّهما رأس آية «1» ، لأنّ قوما من العرب، يجعلون أواخر القوافي إذا سكتوا عليها، على مثل حالها إذا وصلوها، وهم أهل الحجاز. وجميع العرب إذا ترنّموا في القوافي، أثبتوا في أواخرها الياء والواو والالف.
وأمّا قوله تعالى يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ [مريم: 45] فأنّث هذا الاسم بالهاء، كقولك «رجل ربعة» و «غلام يفعة» . أو يكون أدخلها، لما نقص من الاسم عوضا «2» . وقد فتح قوم، كأنّهم أرادوا «يا أبتا» ، فحذفوا الألف، كما يحذفون الياء «3» ، كما قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون] :
ولست بمدرك ما فات منّي ... ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لو أنّي»
يريد: «لهفاه» . وممّا يدلك على أنّ هذا الاسم أنّث بالهاء، قول الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد السابع والأربعون] :
تقول ابنتي لمّا رأتني شاحبا ... كأنّك فينا يا أبات غريب «5»
فردّ الألف، وزاد عليها الهاء، كما أنّث في قوله «يا أمتاه» «6» ، فهذه ثلاثة
__________
(1) . إثبات الألف في الأولى والثانية وصلا ووقفا في الطبري 21: 132 إلى عامّة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين، وفي السبعة 519 و 520 إلى عاصم في رواية أبي بكر، وإلى نافع وابن عامر وإلى أبي عمرو في رواية أيضا وفي الكشف 2: 194 إلى نافع وابن عامر وأبي بكر وفي التيسير 178 إلى غير حمزة وأبي عمرو وابن كثير وحفص والكسائي. وفي الجامع 14: 145 إلى نافع وابن عامر في رواية، وأبي عمرو والكسائي أيضا وفي البحر 7:
217 إلى غير حمزة وأبي عمرو وابن كثير والكسائي وحفص.
(2) . في الكشف 2: 3 نسبت في الآية السابقة 19: 44 قراءة (أبه) بالهاء إلى ابن كثير وابن عامر. [.....]
(3) . في الكشف 2: 3 إلى ابن عامر وفي البحر 6: 193 زاد الأعرج وأبا جعفر.
(4) . هو أبو أبي الحدرجان كما في نوادر أبي زيد 239، وليس أبا الحدرجان كما في معجم شواهد العربية 38.
(5) . في نوادر أبي زيد 239 بلفظ «أباه» بالهاء، وفي الصحاح «أبا» ، والخصائص 1: 339 وشرح الأبيات للفارقي 83، والمقاييس «شحب» ، والأساس «شحب» ، واللسان «إلى» ، ثم أعاد ذكره ب «رأت وشك رحلتي» بدل «رأتني شاحبا» ولم يعزه إلّا أبو زيد.
(6) . في اللسان «أمم: الام والأمة الوالدة. ويقال يا أمة لا تفعلي.(1/163)
أحرف. ومن العرب من يقول: «يا أمّ لا تفعلي» ، رخّم كما قال: «يا صاح» «1» . ومنهم من يقول «يا أميّ» و «يا أبي» ، على لغة الذين قالوا: «يا غلامي «2» . ومنهم من يقول «يا أب» و «يا أمّ» ، وهي الجيّدة في القياس «3» .
وأمّا قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 40] ، فمن العرب من يهمز «4» ومنهم من لا يهمز «5» . ومنهم من يقول (إسرائل) يحذف الياء التي بعد الهمزة، ويفتح الهمزة «6» ، ويكسرها «7» .
باب المجازاة
فأمّا قوله تعالى وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الآية 40] فإنّما جزم الاخر، لأنّه جواب الأمر وجواب الأمر مجزوم مثل جواب ما، بعد حروف المجازاة، كأنه تفسير «إن تفعلوا» أوف بعهدكم «8» وقال في موضع آخر ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح: 15] . وقال جلّ جلاله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) [الأنعام] ، فلم يجعله جوابا، ولكنه كأنهم كانوا يلعبون، فقال «ذرهم في حال لعبهم» وقال أيضا ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ [الحجر: 3] وليس من أجل الترك يكون ذلك، ولكن قد علم الله أنه يكون، وجرى على الإعراب كأنّه قال: «إن تركتهم ألهاهم الأمل» «9» ، وهم كذلك، تركهم أو لم يتركهم. كما أنّ بعض الكلام، يعرف لفظه والمعنى على خلاف ذلك، وكما أنّ بعضهم
__________
(1) . في الصحاح واللسان والتاج «صحب» ، أنه لا يجوز ترخيم المنادى إلا في هذا وحده في كلام العرب.
(2) . هي لغة الحجاز. اللهجات العربية 550.
(3) . هي لغة هذيل. البحر 5: 261، واللهجات العربيّة 549 و 550.
(4) . في البحر 1: 171 إلى الجمهور.
(5) . في البحر 1: 171 إلى أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر، والجامع 1: 331 بإغفال أبي جعفر.
(6) . في البحر 1: 171 بلا نسبة.
(7) . في البحر 1: 171 إلى ورش.
(8) . هذا الرأي للخليل كما في الكتاب 1: 449.
(9) . في الكتاب 1: 451 هذا المعنى والاستشهاد بالآية ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) [الأنعام] ولكن بعبارة أخرى.(1/164)
يقول: «كذب عليكم الحجّ» «1» ف «الحجّ» مرفوع، وإنّما يريدون أن يأمروا بالحج. قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الثامن والأربعون] :
كذب العتيق وماء شنّ بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
وقال «3» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والأربعون] :
وذبيانيّة توصي بنيها ... ألا كذب القراطف والقروف «4»
قال أبو عبد الله «5» : «القراطف» ، واحدها «قرطف» : وهو كلّ ما له خمل من الثياب. و «القروف» ، واحدها «قرف» : وهو وعاء من جلود الإبل كانوا يغلون اللحم، ويحملونه فيه في أسفارهم. ويقولون: «هذا جحر ضبّ خرب» والخرب هو الجحر. ويقول:
أحدهم: «هذا حبّ رمّاني» . فيضيف الرمّان إليه وإنّما له الحبّ وهذا في الكلام كثير.
وقوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] ووَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53] فأجراه على اللفظ حتى صار جوابا للأمر «6» . وقد زعم قوم، أنّ هذا إنّما هو على «فليغفروا» و «قل لعبادي فليقولوا» ، وهذا لا يضمر كلّه، يعني الفاء واللام. ولو جاز هذا لجاز قول الرجل: «يقم زيد» ، وهو يريد
__________
(1) . نسبتها كتب اللغة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، الصحاح واللسان والتاج «كذب» وعبارة الصحاح:
«قال الأخفش: فالحجّ مرفوع ب «كذب» ومعناه نصب، لأنّه يريد أن يأمر بالحج كما يقال: «أمكنك الصيد» يريد: «ارمه» قال الشاعر: «البيت» ، وفي اللسان نسبت العبارة إلى النضر بن شميل مع تغيير طفيف فيها. وفي التكملة «كذب» بعبارة مغايرة. [.....]
(2) . قيل هو عنترة، وقيل بل الخرز بن لوذان السّدوسي. ديوان عنترة 273، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2:
302، واللسان «كذب» ، والتاج «كذب» ، وقال إنه في ديوانيهما.
(3) . هو معقر بن حمار البارقي «الصحاح» «ق ر ف» «والجمهرة» «ر ف ق» اللسان «كذب» ، و «قرف» ، وشرح التبريزي للسقط 1366، والخزانة 2: 289، والتاج كذب.
(4) . في الصحاح «قرف» ب «وصت» و «بأن كذب» «والجمهرة» رفق ب «أوصت» و «بأن» وفي الخزانة كالجمهرة وفي المقاييس كالصحاح وفي التاج «كذب» . كالجمهرة.
(5) . هو أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي أو محمد بن سلّام الجمحيّ. انظر مناقشة إشارة هذه الكنية إليه في منهج الأخفش الأوسط 51، 54.
(6) . نقله في زاد المسير 5: 47، والبحر 6: 49، والإملاء 2: 69، ورد عليه الرأي في الأخير.(1/165)
«ليقم زيد» . وهذه الكلمة أيضا أمثل، لأنّك لم تضمر فيها الفاء مع اللام.
وقد زعموا أنّ اللام قد جاءت مضمرة، قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الخمسون] :
محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا «2»
يريد: «لتفد» ، وهذا قبيح. وقال:
«يتق الله امرؤ فعل كذا وكذا» ومعناه:
«ليتّق الله» . فاللفظ يجيء كثيرا، مخالفا للمعنى. وهذا يدلّ عليه. قال الشاعر «3» في ضمير اللام [من الطويل وهو الشاهد الحادي والخمسون] :
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى «4»
يريد «ليبك من بكى» فحذف، وسمعت من العرب من ينشد هذا البيت بغير لام [من الطويل وهو الشاهد الثاني والخمسون] :
فيبك على المنجاب أضياف قفرة ... سروا وأسارى لم تفكّ قيودها
يريد: «فلبيك» فحذف اللام.
باب تفسير أنا وأنت وهو
وأمّا قوله تعالى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ووَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) ، فتقرأ وَإِيَّايَ وقد شغلت الفعل، بالاسم المضمر، الذي بعده الفعل. لأنّ كلّ ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو، فهو منصوب، نحو قولك: «زيدا فاضرب أخاه» . لأنّ الأمر والنهي، مما يضمران كثيرا، ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضا جائز، على أن لا يضمر. قال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون] :
__________
(1) . قيل هو الأعشى، وقيل أبو طالب، وقيل الإمام عليّ بن أبي طالب.
(2) . الكتاب 1: 408، وشرح التبريزي لسقط الزند 1125، وأمالي الشجري 1: 375. وليس في ديوان الأعشى، ولا ديوان أبي طالب.
(3) . هو متمّم بن نويرة- متمّم ومالك 84، والكتاب 1: 409 وشرح الخوارزمي لسقط الزند 1124، وشرح شواهد المغني 204.
(4) . متمّم ومالك 84 ب «وليبك» بدل «أويبك» . وانظر شرح ابن يعيش 7: 60 والمغني 1: 225.
(5) . لم تفد المراجع والمصادر شيئا في معرفته. والشاهد في الكتاب 1: 70 وإعراب القرآن للزّجّاج 1: 190 والمغني 1: 165.(1/166)
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيّين خلو كما هيا
وأمّا قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النور: 2] ووَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] فزعموا- والله أعلم- أنّ هذا على الوحي، كأنّه يقول: «وممّا أقصّ عليكم الزّانية والزّاني، والسّارقة والسّارق» . ثمّ جاء بالفعل، من بعد ما أوجب الرفع، على الأوّل على الابتداء، وهذا على المجاز، كأنّه قال «أمر السّارق والسّارقة وشأنهما ممّا نقصّ عليكم» ومثله قوله مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد: 15] ثمّ قال من الآية نفسها فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ كأنه قال: «وممّا أقصّ عليكم مثل الجنة» ، ثمّ أقبل يذكر ما فيها، بعد أن أوجب الرفع في الأوّل على الابتداء. وقد قرأها قوم نصبا «1» ، إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأوّل، وهو في الأمر والنهي. وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام، نحو قوله جلّ جلاله أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] .
وإنّما فعل هذا في حروف الاستفهام، لأنّه إذا كان بعده اسم وفعل، كان أحسن أن يبتدأ بالفعل قبل الاسم، فإن بدأت بالاسم، أضمرت له فعلا، حتى تحسّن الكلام به، وإظهار ذلك الفعل قبيح.
وما كان من هذا، في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي، فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير. وهذا الحرف قد قرئ نصبا ورفعا وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] » .
وأمّا قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر]
__________
(1) . قراءة النصب الآية النور، في الشواذ 32 إلى عيسى بن عمرو، في المحتسب 2: 100، وفي الجامع 12: 156 كذلك، وزاد في البحر 6: 427 يحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبا جعفر وشيبة وأبا السمال ورويسا.
وقراءته لآية المائدة في الشواذ 32، إلى عيسى بن عمر، وفي البحر 3: 476 إلى عيسى وابن أبي عبلة.
(2) . قراءة الرفع في معاني القرآن 3: 14، إلى عاصم وأهل المدينة والأعمش، مع التنوين عند الأخير، وفي الطبري 24: 104 إلى عامة قرّاء الأمصار، إلّا ابن أبي إسحاق، وأنّ الأعمش كان ينوّن وفي الجامع 15: 349 إلى ابن عباس «وغيره» . وفي البحر 7: 491 إلى الجمهور وابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب وقراءة النصب في معاني القرآن 3: 14 إلى الحسن وفي الطبري 24: 105 إلى ابن أبي إسحاق وفي الشواذ 133 إلى ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وفي الجامع 15: 349 إلى الحسن وابن أبي إسحاق وفي البحر 7: 491 زاد الأعمش، وروى المفضّل عن عاصم صرفها، وعدم التصرف.(1/167)
فهو يجوز فيه الرفع «1» ، وهي اللغة الكثيرة غير أنّ الجماعة اجتمعوا على النصب «2» ، وربّما اجتمعوا على الشيء، كذلك ممّا يجوز، والأصل غيره. لأنّ قولك: «إنّا عبد الله ضربناه» ، مثل قولك «عبد الله ضربناه» ، لأنّ معناهما في الابتداء سواء. قال الشاعر «3» [من المتقارب وهو الشاهد الرابع والخمسون] :
فأمّا تميم بن مرّ ... فألفاهم القوم روبى نياما
وقال «4» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والخمسون] :
إذا ابن أبي موسى بلال بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر
ويكون فيهما النصب. فمن نصب (وأمّا ثمود) ، نصب على هذا.
وأمّا قوله تعالى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) [الإنسان] وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) [النازعات] ثم قال وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات] وقال الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [الرحمن] ثم قال وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) [الرحمن] وقال وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) [الفرقان] فهذا، إنّما ينصب وقد سقط الفعل على الاسم بعده، لأنّ الاسم الذي قبله قد عمل فيه، فأضمرت فعلا، فأعملته فيه، حتّى يكون العمل من وجه واحد.
وكان ذلك أحسن، قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون] :
نغالي اللّحم للأضياف نيئا ... ونرخصه إذا نضج القدور «5»
يريد «نغالي باللّحم» فإن قلت
__________
(1) . هي قراءة نسبت في الشواذ 148، والمحتسب 2: 200، والجامع 17: 147، إلى أبي السمال وفي البحر 8: 183 زاد عن ابن عطية قوما من أهل السنة.
(2) . في القرطبي 17: 147 الى الجماعة، وفي البحر 8: 183 الى الجمهور. [.....]
(3) . هو بشر بن أبي خازم الأسدي. انظر ديوانه 190 والكتاب 1: 42، والصحاح «روب» .
(4) . هو ذو الرّمّة غيلان انظر ديوانه 2: 1042 والكتاب 1: 42، ومعاني الفراء 1: 241 ب «أتيته» .
(5) . في معاني القرآن 2: 383. وفي التهذيب «غلا» ب «تغالى» و «تبذله» ، وأساس البلاغة «غ ل و» واللسان «غلا» ، ب «التقدير» ، وشرح الأبيات للفارقي 24 و 201 ب «نبذله» ، والصحاح «غلا» وفيها كلها بلا عزو.(1/168)
يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ ليس بنصب في اللفظ، فهو في موضع نصب قد عمل فيه كما فعلت: «مررت بزيد وعمرا ضربته» ، كأنك قلت: «مررت زيدا» وقد يقول هذا بعض الناس. قال الشاعر «1» [من المنسرح وهو الشاهد السابع والخمسون] :
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا «2»
والذّيب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا
وكلّ هذا، يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب أجود وأكثر.
وأمّا قوله تعالى يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ «3» .
فإنّما هو على معنى «يغشى طائفة منكم وطائفة في هذه الحال» .
وهذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول: «ضربت عبد الله وزيد قائم» .
وقد قرئت نصبا «4» ، لأنّها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنّه قد يسقط الفعل، على شيء من سببها، وقبلها منصوب فعطفتها عليه، وأضمرت لها فعلها فنصبتها به. وما ذكرنا في هذا الباب من قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، وقوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] ليس في قوله فَاقْطَعُوا وفَاجْلِدُوا خبر مبتدأ، لأنّ خبر المبتدأ هكذا، لا يكون بالفاء. فلو قلت «عبد الله فينطلق» لم يحسن. وإنّما الخبر، هو المضمر الذي فسّرت لك، من قوله «وممّا نقصّ عليكم» وهو مثل قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون] :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيّين خلو كما هيا
وكأنّه قال: «هؤلاء خولان» كما تقول: «الهلال فانظر إليه» كأنّك قلت:
«هذا الهلال فانظر اليه» فأضمر الاسم.
فأمّا قوله تعالى
__________
(1) . هو الربيع بن ضبع الفزاري «المعمّرون 9» ، والكتاب 1: 46.
(2) . في الكتاب «كما سبق» ب «أردّ» بدل أملك، وفي التحصيل ب «أن يقرأ» ، وفي البيان 2: 68 و 291 ب «أرد» في كليهما.
(3) . آل عمران 3: 154، وقد وردت قراءة الرفع في معاني القرآن 1: 240 والطّبري 7: 321 بلا نسبة.
(4) . في معاني القرآن 1: 240، والطّبري 7: 321 ذكر النّصب ولم ينسب قراءة.(1/169)
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النساء: 16] ، فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ، لأنّ «الذي» إذا كان صلته فعل، جاز أن يكون خبره بالفاء، نحو قول الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] ثم قال، في الآية نفسها: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [النساء:
97] .
باب الواو
أمّا قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [الآية 45] ، فلأنّه حمل الكلام على «الصلاة» . وهذا كلام منه ما يحمل على الأوّل، ومنه ما يحمل على الاخر. وقال أيضا وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] فهذا يجوز على الأوّل والاخر وأقيس هذا، إذا ما كان بالواو، أن يحمل عليهما جميعا. تقول: «زيد وعمرو ذاهبان» . وليس هذا مثل «أو» ، لأنّ «أو» إنّما يخبر فيه عن أحد الشيئين.
وأنت في «أو» بالخيار، إن شئت جعلت الكلام على الأوّل، وإن شئت على الاخر وأن تحمله على الاخر أقيس، لأنّك إن تجعل الخبر على الاسم الذي يليه الخبر، فهو أمثل من أن تجاوزه الى اسم بعيد منه. قال تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] ، فحمله على الأول وقال في موضع آخر وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص: 73] وقال وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء:
112] فحمله على الاخر. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الثامن والخمسون] :
أمّا الوسامة أو حسن النّساء فقد ... أوتيت منه لو أنّ العقل محتنك
وقال ابن أحمر «1» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والخمسون] :
رماني بداء «2» كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل «3» الطويّ رماني
__________
(1) . انظر ترجمته فيما سبق، وفي مجاز القرآن 2: 161 نسب البيت إلى الأزرق بن طرفة بن العمرّد الفراصي الباهل.
(2) . في الكتاب 1: 38، ومجاز القرآن 2: 161، ومعاني القرآن 1: 458، والصحاح «جول» ، وإعراب القرآن للزجاجي 2: 611، ب «بأمر» بدل «بداء» .
(3) . في تحصيل الشّنتمري 1/ هـ 38، ومعاني القرآن، والصحاح، وإعراب القرآن للزّجاجي «كما سبق» ب «جول» بدل «أجل» وفي مجاز القرآن كما سبق ب «دون» بدل «أجل» .(1/170)
وقال الاخر «1» [من المنسرح وهو الشاهد الستون] :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرّأي مختلف
وهذا مثل قول البرجمي «2» [من الطويل وهو الشاهد الحادي والستون] :
من يك أمسى بالمدينة داره ... فإنّي وقيّارا بها لغريب «3»
باب اسم الفاعل
وقال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الآية 46] ، فأضاف قوله مُلاقُوا رَبِّهِمْ، ولم يقع الفعل. وإنّما يضاف، إذا كان قد وقع الفعل، تقول:
«هم ضاربو أبيك» إذا كانوا قد ضربوه.
وإذا كانوا في حال الضرب، أو لم يضربوا، قلت: «هم ضاربون أخاك» ، إلّا أنّ العرب قد تستثقل النون، فتحذفها في معنى إثباتها، وهو نحو مُلاقُوا رَبِّهِمْ مثل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] «4» ولم تذق بعد. وقد قرأ بعضهم: (ذائقة الموت) «5» على ما فسّرت لك. وقال الله جلّ ثناؤه: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ [القمر: 27] ، وهذا قبل الإرسال، ولكن حذفت النون استثقالا. وقال وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الكهف: 18] ، فأثبت التنوين، لأنه كان في الحال.
وقال إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا [الدخان: 15] ، على ذلك أيضا. وزعموا
__________
(1) . هو في الكتاب 1: 38، وتحصيل عين الذهب كذلك والمقاصد النحوية 1: 228 قيس بن الخطيم، وفي مجاز القرآن 1: 39 الى عبد الله بن امرئ القيس الأنصاري، وفي معاني القرآن 2: 363 هو مرار الأسدي وفي 1: 434 و 445 و 3: 77 بلا عزو وفي الإنصاف 1: 61 الى درهم بن زيد الأنصاري. وفي ديوان قيس بن الخطيم هـ 115، أنّه عمرو بن امرئ القيس الخزرجي.
(2) . هو في الكتاب 1: 38، وتحصيل عين الذهب كذلك والخزانة 4: 223، واللسان «قير» والمقاصد النحوية 2: 318. والبرجمي هو ضابي بن الحارث البرجمي، ترجمته في الشعر والشعراء 1: 350، وطبقات الشعراء 1: 172.
(3) . في الكتاب، وتحصيل عين الذهب، والخزانة، واللسان، والمقاصد النحوية، كما سبق ب «رحله» بدل «داره» .
واختلفت في «قيار» بين الرفع والنصب.
(4) . والأنبياء 21: 35، والعنكبوت 29: 57. [.....]
(5) . في الشواذ 23 إلى اليزيدي وفي الجامع 4: 297 إلى الأعمش، ويحيى، وابن أبي إسحاق وفي البحر 3: 133 كما السّابقين، وزاد أبا حياة في نقل ابن عطية.(1/171)
أنّ هذا البيت ينشد هكذا [من البسيط وهو الشاهد الثاني والستون] :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عمرو «1» بن مخراق «2»
فأضاف، ولم يقع الفعل، ونصب الثاني على المعنى، لأنّ الأوّل فيه نيّة التنوين. وقال إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [العنكبوت: 33] فالنّصب وجه الكلام، لأنّك لا تجري الظاهر على المضمر، والكاف في موضع جرّ، لذهاب النون. وذلك لأنّ هذا، إذا سقط على اسم مضمر، ذهب منه التنوين والنون، إن كان في الحال وإن لم يفعل، تقول: «هو ضاربك الساعة أو غدا» و «هم ضاربوك» . وإذا أدخلت الألف واللام، قلت: «هو الضارب زيدا» ، ولا يكون أن تجرّ زيدا، لأنّ التنوين كأنّه باق في «الضارب» ، إذا كان فيه الألف واللام، لأنّ الألف واللام تعاقبان التنوين. وتقول: «هما الضاربان زيدا» و «هما الضاربا زيد» لأنّ الألف واللام لا تعاقبان التنوين في الاثنين والجمع.
فإذا أخرجت النون من الاثنين والجمع من أسماء الفاعلين، أضفت، وإن كان فيه الألف واللام، لأنّ النون تعاقب الاضافة وطرح النون، هاهنا، كطرح النون في قولك: «هما ضاربا زيد» ولم يفعلا، لأن الأصل في قولك: «الضاربان» إثبات النون، لأنّ معناه وإعماله مثل معنى «الذي فعل» وإعماله قال الشاعر «3» [من المنسرح وهو الشاهد الثالث والستون] :
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا نطف «4»
وفي كتاب الله وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ
__________
(1) . في الكتاب 1: 87 ب «عون» ، والخزانة 3: 376، والمقاصد النحوية 3: 563 كذلك.
(2) . البيت في الخزانة، كما سبق ينسب إلى جابر بن رألان السنبسي، وقيل جرير، وقيل تأبّط شرّا، وفي المقاصد النحوية، كما سبق إلى جرير، وليس في ديوان تأبّط شرّا، ولا في ديوان جرير.
(3) . هو عمر بن امرئ القيس الخزرجي «ديوان قيس بن الخطيم هـ 115» ، وقيل بل قيس بن الخطيم أو شريح بن عمرو، أو عمرو بن قيس، أو مالك بن العجلان «الخزانة 2: 188» ، وشرح الأبيات للفارقي 212.
(4) . شرح الأبيات للفارقي كما سبق ب «ورائهم» ، وفي الخزانة الروايتان، وانظر فيها 2: 337 و 483 و 3: 400 و 473، وفي الصّحاح «وكف» ب «ورائهم وكف» ، وفي التهذيب «وكّف» ب «العشير ولا. ورائهم وكف» ، وفي الخزانة 2: 337 ب «وكف» .(1/172)
[الحج: 35] «1» ، وقد نصب بعضهم، فقرأ: (والمقيمي الصلاة) «2» و «الحافظو عورة» استثقالا للاضافة، كما حذفت نون «اللذين» و «الذين» . قال الشاعر «3» [من الكامل وهو الشاهد الرابع والستون] :
أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا
وقال «4» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والستون] :
فإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد «5»
فألقى النون. وزعموا أنّ عيسى بن عمر «6» كان يجيز [من المتقارب وهو الشاهد السادس والستون] :
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا «7»
كأنّه إنّما طرح التنوين لغير معاقبة إضافة، وهو قبيح إلّا في كلّ ما كان معناه «اللّذان» و «الّذين» ، فحينئذ يطرح منه ما طرح من ذلك. ولو جاز هذا البيت، لقلت: «هم ضاربو زيدا» ، وهذا لا يحسن. وزعموا أنّ بعض العرب قرأ (واعلموا أنّكم غير معجزي الله) [التوبة: 2] وهو أبو السمّال «8» وكان فصيحا. وقد قرئ هذا الحرف (إنّكم
__________
(1) . الحج 22: 35، وهي في الجامع 12: 59، والبحر 6: 369، قراءة الجمهور، ومعاني القرآن 2: 225 بلا نسبة.
(2) . وهي في الشواذ 95 إلى ابن أبي إسحاق، وفي المحتسب 2: 80 زاد الحسن وأبا عمرو، وكذلك في البحر 6:
369 وفي الجامع 12: 59 قصرت على أبي عمرو، وفي معاني القرآن 2: 225 بلا نسبة، وب «المقيمين» ونصب الصلاة إلى عبد الله بن مسعود.
(3) . هو الأخطل غياث بن غوث التغلبي. ديوانه 44، والكتاب، وتحصيل عين الذهب 1: 95.
(4) . هو الأشهب بن رميله، كما في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 96، ومجاز القرآن 2: 190، والخزانة 2: 507 و 3: 473، وفيها أيضا أنّ أبا تمام نسبه في مختار أشعار القبائل إلى حريث بن محفض.
(5) . في الكتاب «كما سبق» ب «وإنّ» ، وفي الخزانة 2: 507 اختلاف رواياته ب «الألى» و «مارت» بدل «حانت» .
(6) . هو أبو عمر عيسى بن عبد الله الثقفي المولود بين عامي 75 و 80 المتوفى عام 149، ترجمته في مراتب النحويين 31، وطبقات النحويين 40، وإنباه الرواة 2: 374، وبغية الوعاة 270.
(7) . البيت لأبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو في ديوانه 38، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 85.
(8) . هو أبو السمال قعنب بن أبي قعنب العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة، رواه عنه أبو زيد سعيد بن أوس ترجمته في غاية النهاية 2: 27، وطبقات القرّاء 2: 27.(1/173)
لذائقو العذاب الأليم) «1» وهو في البيت أمثل، لأنّه أسقط التنوين، لاجتماع الساكنين. وإذا ألحقت النون، نصبت لأنّ الإضافة قد ذهبت، قال تعالى:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] وقال وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 35] قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد السابع والستون] :
النّازلون بكلّ معترك ... والطيّبون معاقد الأزر
باب اضافة الزمان الى الفعل
قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الآية 48] فنوّن اليوم، لأنّه جعل «فيه» مضمرا، وجعله من صفة اليوم، كأنّه قال «يوما لا تجزي نفس عن نفس فيه شيئا» . وإنّما جاز إضمار «فيه» ، كما جاز إضافته إلى الفعل، تقول: «هذا يوم يفعل زيد» .
وليس من الأسماء شيء، يضاف الى الفعل، غير أسماء الزمان، ولذلك جاز إضمار «فيه» . وقال قوم: «إنّما أضمر الهاء، أراد «لا تجزيه» ، وجعل هذه الهاء اسما لليوم مفعولا، كما تقول:
«رأيت رجلا يحبّ زيد» تريد: «يحبّه زيد» . وهو في الكلام يكون مضافا، تقول: «اذكر يوم لا ينفعك شيء» :
أي: «يوم لا منفعة» وذلك، أنّ أسماء الحين قد تضاف إلى الفعل، قال تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) [المرسلات] أي «يوم لا نطق» ، وقد قرأ بعضهم (هذا يوم لا ينطقون) «3» وكذلك هذا يَوْمُ الْفَصْلِ [الصافات: 21 والمرسلات 38] وكلّ ما أشبه هذا، فهو مثله. ولا يضاف إلى الفعل شيء، إلّا الحين، إلّا أنّهم قد قالوا «4» [من الوافر وهو الشاهد الثامن والستون] :
__________
(1) . الصافات 37: 38 وفي البحر 7: 358، أنها إلى أبي السمال وأبان عن ثعلبة، عن عاصم، وأنّ كسر الباء الى الجمهور. [.....]
(2) . هو خرنق بن هفان الشاعرة الجاهلية. ديوانها 29، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 104 و 246 و 249 و 288.
(3) . في الشواذ 167 هي قراءة الأعرج والأعمش، وفي البحر 8: 407 زاد زيد بن علي وعيسى وأبا حياة، وعاصما في رواية.
(4) . لم تفد المراجع شيئا عن القائل، وإن كان البغدادي في الخزانة 1: 135 قد أورد أنه في الكتاب منسوب إلى الأعشى، ولا نسبة في الكتاب في الموضوع الذي ورد فيه 1: 460.(1/174)
باية تقدمون الخيل زورا ... كأنّ على سنابكها مداما «1»
(وقالوا) «2» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والستون] :
ألا من مبلغ عنّي تميما ... باية ما تحبّون الطّعاما «3»
فأضاف «آية» الى الفعل. وقالوا:
«اذهب بذي تسلم» و «بذي تسلمان» فقوله: «ذي» مضاف إلى «تسلم» ، كأنه قال: «اذهب بذي سلامتك» ، وليس يضاف الى الفعل غير هذا. ولو قلت في الكلام: «واتّقوا يوم تجزي نفس فيه» ، فلم تنوّن اليوم، جاز كأنّك أضفت، وأنت لا تريد أن تجيء ب «فيه» ، ثمّ بدا لك بعد، فجئت به، كما تقول: «اليوم آتيك فيه» فنصبت «اليوم» لأنّك جئت ب «فيه» بعد ما أوجبت النّصب وقال قوم: «لا يجوز إضمار» «فيه» ألا ترى أنّك لا تقول:
«هذا رجل قصدت» وأنت تريد «إليه» ولا «رأيت رجلا أرغب» وأنت تريد «فيه» «4» والفرق بينهما، أنّ أسماء الزمان يكون فيها، ما لا يكون في غيرها، وإن شئت حملتها على المفعول في السّعة، كأنك قلت:
«واتّقوا يوما لا تجزيه نفس» ، ثمّ ألقيت الهاء، كما تقول: «رأيت رجلا أحبّ» وأنت تريد «أحبّه» .
باب من التأنيث والتذكير
أمّا قوله تعالى تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الآية 48] ، فهو مثل قولك: «لا تجزي عنك شاة» و «يجزي عنك درهم» و «جزى عنك درهم» و «وجزت عنك شاة» . فهذه لغة أهل الحجاز، لا
__________
(1) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 460 ب «شعثا» بدل «زورا» ، وفي الكامل 3: 1168 كذلك، وفي المغني 2: 420 ب «يقدمون» و «شعثا» ، وفي شرح السيوطي 274 كذلك. وفي الهمع 2: 51 بالتاء «وشعثا» ، وفي الدرر 2: 63 بالتاء و «شعثا» أيضا.
(2) . زيادة يقتضيها السياق، وهو في الكتاب 1: 460 يزيد بن عمرو بن الصعن، وفي تحصيل عين الذهب هـ 1:
406 إلى زيد بن عمرو بن الصعق، وفي الاشقاق 297 إلى الصعق عمرو بن خويلد.
(3) . في الكامل 1: 147 ب «ألا أبلغ لديك بني تميم» و «يحبّون» بالياء، وفي الاشتقاق «كما سبق» كذلك، وفي المقاييس «أبي» مثل الكامل، وبالتاء وفي المغني 2: 420 بالتاء.
(4) . في الجامع 1: 377 نسب إلى الكسائي قوله: «لا يجوز أن تقول» هذا رجل قصدت «ولا» رأيت رجلا أرغب» وأنت تريد «قصدت إليه» و «أرغب فيه» .(1/175)
يهمزون. وبنو تميم يقولون في هذا المعنى: «أجزأت عنه وتجزئ عنه شاة» ، وقوله «شيئا» ، كأنّه قال: «لا تجزئ الشاة مجزى ولا تغني غناء» .
وقوله تعالى عَنْ نَفْسٍ يقول: «منها» أي: لا تكون مكانها.
وأمّا قوله تعالى وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الآية 48] ، فإنّما ذكر الاسم المؤنّث، لأنّ كلّ مؤنّث فرّقت بينه وبين فعله، حسن أن تذكر فعله، إلّا أنّ ذلك يقبح في الإنس، وما أشبههم ممّا يعقل. لأنّ الذي يعقل، أشدّ استحقاقا للفعل. وذلك، أنّ هذا إنّما يؤنّث ويذكّر، ليفصل بين معنيين.
والموات ك «الأرض» و «الجدار» ، ليس بينهما معنى، كنحو ما بين الرجل والمرأة. فكل ما لا يعقل يشبّه بالموات، وما يعقل يشبّه بالمرأة والرجل، نحو قوله تعالى رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (3) [يوسف] لما أطاعوا صاروا كمن يعقل، قال تعالى وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] فذكر الفعل حين فرقّ بينه وبين الاسم «1» وقال أيضا لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الحديد: 15] «2» وتقرأ (تؤخذ) «3» . وقد يقال أيضا ذاك في الانس، زعموا أنهم يقولون: «حضر القاضي امرأة» . فأمّا فعل الجميع، فقد يذكّر ويؤنّث: لأن تأنيث الجميع ليس بتأنيث الفصل، ألا ترى أنك تؤنث جماعة المذكّر، فتقول: «هي الرّجال» و «هي القوم» ، وتسمي رجلا ب «بعال» ، فتصرفه، لأنّ هذا، تأنيث مثل التذكير، وليس بفصل، ولو سميته ب «عناق» ، لم تصرفه لأنّ هذا تأنيث، لا يكون للذّكر، وهو فصل ما بين المذكر والمؤنث، تقول: «ذهب الرجل» و «ذهبت المرأة» ، فتفصل بينهما.
وتقول: «ذهب النساء» و «ذهبت النساء» و «ذهب الرجال» و «ذهبت الرجال» .
__________
(1) . في إعراب القرآن 1: 46 نسبت هذه الآراء إلى سيبويه، والرأي الأخير وحده إلى الأخفش.
(2) . في معاني القرآن 3: 134 والطبري 27: 228، والجامع 17: 247، والبحر 8: 222، إلى جمهور عامّة القرّاء.
وفي السبعة 626، والحجّة 215، والكشف 2: 309، والتيسير 208 استثنى منهم ابن عامر.
(3) . في السبعة 626، والحجّة 215، والكشف 2: 309، والتيسير 208 إلى ابن عامر وزاد في الجامع 17: 247 يعقوب. وفي معاني القرآن 3: 134 إلى بعض أهل الحجاز، وفي الطبري 27: 228 إلى أبي جعفر القارئ، وفي الشواذ 152 زاد «جماعة» ، وهارون عن أبي عمرو وفي البحر 8: 222 زاد على ما مرّ، الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر.(1/176)
وفي كتاب الله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) [الشعراء] ووَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام: 6] . قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد السبعون] :
فما تركت قومي لقومك حيّة ... تقلّب في بحر ولا بلد قفر
وقال: جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [آل عمران: 86 و 105] ووَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [يوسف: 30] . وقال الشاعر أشدّ من ذا وقد أخّر الفعل، قال [من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون] :
فإمّا تري لمّتي بدّلت ... فإنّ الحوادث أودى بها
أراد «أودت بها» مثل فعل المرأة الواحدة، يجوز أن يذكّر، فذكر هذا.
وهذا التذكير في الموات أقبح، وهو في الإنس أحسن، وذلك أنّ كلّ جماعة من غير الانس، فهي مؤنثة تقول: «هي الحمير» ، ولا تقول «هم» . إلّا أنهم قد قالوا: «أولئك الحمير» ، وذلك أن «أولئك» قد تكون للمؤنث والمذكر تقول: «رأيت أولئك النساء» . قال الشاعر «2» : [من الكامل وهو الشاهد الحادي والسبعون] :
ذمّي المنازل بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام «3»
وأمّا قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 49] ووَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الآية 50] وأمكنة كثيرة، فإنّما هي على ما قبلها، إنّما يقول: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الآية 47] و «اذكروا إذ نجّيناكم» و «اذكروا إذ فرقنا بكم البحر» و «اذكروا إذ قلتم يا موسى لن نصبر» «4» وقال بعضهم «فرّقنا» «5» .
__________
(1) . في معجم شواهد العربية أنّ شاهدا ينتهي بهذه القافية للحطيئة، وليس في ديوانه. والموضع الذي عثر عليه فيه رمز له ب «صف» ، ولا يوجد في مسرد الرموز مرجع له هذا الرمز. ولكن في ديوان الأخطل 220 بيت مقارب معنى، هو قوله من قصيدة يهجو بها ابن صفار المحاربي:
فما تركت حيّاتنا لك حية ... تقلّب في أرض براح ولا بحر
فلعلّه هو برواية أخرى.
(2) . هو جرير بن عطية بن الخطفي.
(3) . ديوانه 551 (الصاوي) وفيه ب «ذم» و «الأقوام» ، وفي الخزانة 2: 467 ب «ذم» أيضا، والمقاصد النحوية 1: 408 كذلك.
(4) . إشارة إلى الآية 61. [.....]
(5) . في الشواذ 5، والمحتسب 82، والجامع 1: 387، والبحر 1: 197 إلى الزهري.(1/177)
وقال تعالى وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية 51] أي: واعدناه انقضاء أربعين ليلة، أي: رأس الأربعين، كما قال أيضا وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وهذا مثل قولهم «اليوم أربعون يوما منذ خرج» و «اليوم يومان» أي: «اليوم تمام الأربعين» و «تمام يومين» «1» .
باب أهل وآل
وقوله تعالى مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الآية 49] ، فإنّما حدّث عمّا كانوا يلقون منهم.
ويَسُومُونَكُمْ في موضع رفع، وإن شئت جعلته في موضع نصب على الحال، كأنه «2» يقول «وإذ نجّيناكم من آل فرعون سائمين لكم» والرفع على الابتداء.
وأمّا «آل» ، فإنها تحسن إذا أضيفت الى اسم خاصّ، نحو: «أتيت آل زيد» ، و «أهل زيد» ، و «أهل مكة» و «آل مكة» ، و «أهل المدينة» ، و «آل المدينة» ،. ولو قلت: «أتيت آل الرجل» و «آل المرأة» لم يحسن، ولكن: «أتيت آل الله» وهم، زعموا، أهل مكة.
وليس «آل» ، بالكثير في أسماء الأرضين وقد سمعنا من يقول ذلك «3» .
وإنّما هي همزة، أبدلت مكان الهاء، مثل «هيهات» و «أيهات» «4» .
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ [الآية 50] أي فرقنا بين الماءين حين مررتم فيه.
وأمّا قوله تعالى بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [الآية 54] ، فانتصب الْعِجْلَ، لأنّه مفعول به، تقول:
«عجبت من ضربك زيدا» . وقوله بارِئِكُمْ مهموز لأنه من «برأ الله
__________
(1) . في إعراب القرآن 1: 47، والجامع 1: 395، والبحر 1: 199 نقلت هذه الآراء، مع هذه الأمثلة للأخفش ونسبت إليه.
(2) . عبارة الأخفش في الرفع والنصب بنصها، في إعراب القرآن 1: 46، والجامع 1: 384.
(3) . نقل عن الأخفش في إعراب القرآن 1: 46، والجامع 1: 382، والبحر 1: 188، آراؤه في هذا اللفظ بعبارات تغاير هذه ولعلّها منقولة من كتاب آخر له وفي الموضعين الأوّلين ينكر الكسائي استعمال «ال» في البلدان.
(4) . أشير في الإبدال والمعاقبة 29 وما بعدها، إلى الإبدال في هاتين اللفظتين «أهل» و «هيهات» . وفي الإبدال 2: 571 إلى ثانيهما وفي اللهجات العربية 491 أنّ طيّئا كانت تبدل الهمزة هاء في «إن» الشرطية وهمزة النداء وأنّ اللغة الجنوبية، كانت تبدل الهمزة هاء وفي الجامع نسب الرأي إلى النحاس 1: 383.(1/178)
الخلق» «يبرأ» «برآ» . وقد قرأ بعضهم، هذه الهمزة بالتخفيف، فجعلها بين الهمزة وبين الياء «1» . وقد زعم قوم، أنّها تجزم «2» ، ولا أرى ذلك إلّا غلطا منهم، سمعوا التخفيف، فظنّوا أنّه مجزوم، والتخفيف لا يفهم إلّا بمشافهة، ولا يعرف في الكتاب.
ولا يجوز الإسكان، إلّا أن يكون أسكن، وجعلها نحو «علم» و «قد ضرب» و «قد سمع» ونحو ذلك «3» .
سمعت من العرب، من يقول:
(جاءت رسلنا) «4» جزم اللام، وذلك لكثرة الحركة، قال الشاعر «5» [من السريع وهو الشاهد الثاني والسبعون] :
وأنت لو باكرت مشمولة ... صهباء مثل الفرس الأشقر «6»
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
وقال امرؤ القيس «7» [من السريع وهو الشاهد الثالث والسبعون] :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «8»
وقال آخر [من الرجز وهو الشاهد الرابع والسبعون] :
إنّ بني ثمره فؤادي
وقال آخر [من الرجز وهو الشاهد الخامس والسبعون] :
__________
(1) . في الشواذ 5، أنّ القراءة بالياء إلى الأشهب وفي السبعة 154 إلى أبي عمرو وكذلك في الكشف 1: 241.
(2) . في السبعة 154 و 155 أنّها إلى أبي عمرو وفي حجّة ابن خالويه 54، والكشف 1: 240 والجامع 1: 402 كذلك.
(3) . في الكتاب 2: 257 و 258 هي لغة بكر بن وائل، وأناس كثير من بني تميم، وانظر اللهجات العربية 171 ولهجة تميم 166 و 167 و 168.
(4) . هود 11: 69، و 77 والعنكبوت 29: 31 و 33.
(5) . هو الأقيشر المغيرة بن عبد الله الأسدي «شرح الخوارزمي لسقط الزند 1683، والخزانة 2: 379، والأقيشر الأسدي وأخبار شعره 6، وقيل هو الفرزدق، أمالي ابن الشجري 2: 37 وليس البيتان في ديوانه.
(6) . في الأقيشر 66: فقلت» بدل «وأنت» و «صهبا كلون» وفي مجالس ثعلب 88 و 110 «صفرا كلون» ، وفي شرح الخوارزمي ب «لون» بدل «مثل» ، وفي أمالي ابن الشجري ب «حمراء» .
(7) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، شاعر أولى المعلّقات، انظر ترجمته في الأغاني 8: 62، وطبقات فحول الشعراء 1: 51 والشعر والشعراء 1: 105.
(8) . ديوان امرئ القيس 122، وفي الكامل 1: 209، والاشتقاق 337 ب «أسقى» بدل «أشرب.(1/179)
يا علقمه يا علقمه يا علقمه ... خير تميم كلّها وأكرمه
وقال «1» [من الرجز وهو الشاهد السادس والسبعون] :
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ... بالدّوّ أمثال السّفين العوّم «2»
ويكون «رسلنا» على الإدغام «3» ، يدغم اللام في النون ويجعل فيها غنّة.
والإسكان في (بارئكم) على البدل لغة الذين قالوا: «أخطيت» وهذا لا يعرف «4» .
باب الفعل
أمّا قوله تعالى حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الآية 55] فيقال: «جهارا» أي: «عيانا يكشف ما بيننا وبينه» كما تقول:
«جهرت الرّكيّة» إذا كان ماؤها قد غطّاه الطين فنفي ذلك حتّى يظهر الماء، ويصفو «5» .
وأمّا قوله تعالى وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الآية 57] ، ف «الغمام» واحدته «غمامة» ، مثل «السّحاب» واحدته «سحابة» «6» .
وأما «السّلوى» ، فهو طائر لم يسمع له بواحد، وهو شبيه أن يكون واحده «سلوى» ، مثل جماعته، كما قالوا:
«دفلى» للواحد والجماعة، و «سلامى» للواحد والجماعة، وقد قالوا «سلاميات» ، وقالوا «حبارى» للواحد، وقالوا للجماعة: «حباريات» ، وقال بعضهم للجماعة «حبارى» . قال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد السابع والسبعون] :
وأشلاء لحم من حبارى يصيدها ... إذا نحن شئنا صاحب متألّف «8»
وقالوا: «شكاعى» للواحد
__________
(1) . هو «أبو نخيلة» الخصائص 1/ هـ 75» . [.....]
(2) . الكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 297، ومعاني القرآن 2: 12 و 371.
(3) . وهو من الإدغام الكبير، إذ حذف حركة اللام، فسكّنت أولا، ثمّ أدغمها في النون ثانيا.
(4) . لم نجد من يأخذ بهذه اللغة، لولا ما يتكرّر دائما من أنّ أهل الحجاز يتخفّفون من الهمزة.
(5) . في الصحاح «جهر» ، نقل لهذه الفقرة مع تقديم وتأخير.
(6) . في الجامع 1: 405، نقل عنه هذه العبارة.
(7) . هو الفرزدق همّام بن غالب، ديوانه 2: 555، وشرح المفصّل 5: 90.
(8) . في شرح المفصّل، العجز: لنا قانص من بعض ما يتخطّف.(1/180)
والجماعة «1» ، وقال بعضهم للواحد:
«شكاعاة» «2» .
وقوله تعالى وَقُولُوا حِطَّةٌ [الآية 58] أي: «قولوا» «لتكن منك حطة لذنوبنا» ، كما تقول للرجل: «سمعك إليّ» . كأنّهم قيل لهم:
قولوا: «يا ربّ لتكن منك حطّة لذنوبنا» . وقد قرئت نصبا، على أنّه بدل، من اللفظ بالفعل. وكلّ ما كان بدلا من اللفظ بالفعل، فهو نصب الفعل، كأنّه قال: «احطط عنّا حطّة» «3» فصارت بدلا من «حطّ» ، وهو شبيه بقولهم: «سمع وطاعة» ، فمنهم من يقول: «سمعا وطاعة» ، إذا جعله بدل:
«أسمع سمعا وأطيع طاعة» . وإذا رفع، فكأنّه قال: «أمري سمع وطاعة» . قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثامن والسبعون] :
أناخوا بأيدي عصبة وسيوفهم ... على أمّهات الهام ضربا شاميا
وقال الاخر «4» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والسبعون] :
تركنا الخيل وهي عليه نوحا ... مقلّدة أعنّتها صفونا «5»
وقال بعضهم: «وهي عليه نوح» ، جعلها في التشبيه هي النوح، لكثرة ما كان ذلك منها، كما تقول: «إنّما أنت شرّ» و «إنّما هو حمار» في الشّبه، أو تجعل الرفع، كأنّه قال: «وهي عليه صاحبة نوح» ، فألقى الصاحبة، وأقام النوح مقامها. ومثل ذلك قول الخنساء «6» [من البسيط وهو الشاهد الثمانون] :
__________
(1) . هو رأي سيبويه «اللسان» «شكع» .
(2) . في الصحاح «سلا» ، والجامع 1: 408، والبحر 1: 205، نقلت آراء الأخفش في «السلوى» و «دفلى» و «سلامى» و «شكاعى» .
(3) . في إعراب القرآن 1: 50 والجامع 1: 410، نقلت آراء الأخفش هذه.
(4) . هو عمرو بن كلثوم التغلبي.
(5) . هو من معلّقته المستفيضة الشهرة. وقد جاء في مجاز القرآن 1: 404، ب «تظل جياده نوحا عليه» ورفع أعنتها» ، وفي شرح القصائد السبع 389، وشرح القصائد التسع 2: 631، وشرح القصائد العشر 227، وشرح المعلّقات السبع 146، ب «عاكفة عليه» ونصب «أعنّتها» .
(6) . هي تماضر بنت عمرو بن الشريد وانظر ترجمتها في الأغاني 13: 135، وطبقات الشعراء 1: 210، والشعر والشعراء 1: 348.(1/181)
ترتع ما رتعت حتّى إذا ذكرت فإنّما هي إقبال وإدبار «1» ومثله قراءة من قرأ: (قالوا معذرة الى ربّكم) «2» ، أي كأنّهم قالوا:
«موعظتنا إيّاهم معذرة» ، وقد نصب «3» على: «نعتذر معذرة» وقال تعالى فَأَوْلى لَهُمْ [محمد: 20] طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 21] على قوله إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ [محمد: 18] فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ جعل الطاعة مبتدأ، فقال طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير من هذا، أو جعل طاع مبتدأ، فقال «طاعة وقول معروف خير من هذا» . وزعم يونس «4» أنّه قيل لهم «قولوا حطة» أي: تكلّموا بهذا الكلام.
كأنه فرض عليهم أن يقولوا هذه الكلمة مرفوعة.
وقال تعالى فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الآية 59] وقال أيضا وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدّثّر] وقرأ بعضهم (والرّجز) «5» . وذكروا أن «الرّجز» : صنم، كانوا يعبدونه فأما «الرجز» ، فهو: «الرجس. (والرّجس:
النّجس) قال تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] و «النجس» : القذر.
وقال تعالى
__________
(1) . في الديوان 26 ب «اذكرت» ، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 169 أيضا. [.....]
(2) . الأعراف 7: 164 وهي في السبعة 298 قراءة عاصم، وفي الكشف 1: 481، والتيسير 114، إلى غير حفص وفي معاني القرآن 1: 398 أنّها ما آثرته القرّاء، وفي البحر 4: 412 إلى الجمهور.
(3) . والنّصب ما عليه رسم المصحف، وهو في السبعة 298 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية وفي الكشف 1: 481، والتيسير 114، إلى حفص وفي البحر 4: 412 إلى زيد بن علي وعاصم في رواية، وعيسى ابن عمر وطلحة بن مصرف.
(4) . هو يونس بن حبيب وقد مرّت ترجمته فيما سبق.
(5) . قراءة ضمّ الرّاء هي في معاني القرآن 3: 200 إلى السّلمي ومجاهد وأهل المدينة وفي الطّبري 29: 174 إلى بعض المكّيين والمدنيين وفي السّبعة 659 الى حفص والمفضّل عن عاصم وفي الكشف 2: 347 والتيسير 216 إلى حفص وفي الجامع 19: 67 الى الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم، وقال هي لغة وفي البحر 8: 371 إلى الحسن ومجاهد والسلمي وأبي شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص. أمّا قراءة كسر الرّاء ففي معاني القرآن 3: 200 نسبت الى عاصم والأعمش والحسن وفي الطّبري 29: 147 إلى بعض قرّاء المدينة وعامّة قرّاء الكوفة وفي السّبعة 659 إلى غير حفص والمفضّل عن عاصم، والى عاصم في رواية وفي الكشف 2: 347 والتيسير 216 وفي الجامع 19: 67 والبحر 8: 371 الى الجمهور.(1/182)
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [الآية 60] يكسر الشين بنو تميم «1» ، وأما أهل الحجاز فيسكّنون «2» .
وقوله تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) . من «عثي» «يعثى» وقال بعضهم: «يعثو» من «عثوت» ، ف «أنا أعثو» ، مثل: «غزوت» ف «أنا أغزو» .
باب زيادة «من»
وأمّا قوله تعالى يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها [الآية 61] فدخلت فيه (من) كنحو ما تقول في الكلام: «أهل البصرة يأكلون من البرّ والشّعير» وتقول: «ذهبت فأصبت من الطّعام» ، تريد «شيئا» ولم تذكر الشيء. كذلك يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شيئا، ولم يذكر الشيء، وان شئت جعلته، على قولك: «ما رأيت من أحد» ، تريد: «ما رأيت أحدا» ، و «هل جاءك من رجل» تريد هل جاءك رجل. فان قلت: «إنّما يكون هذا في النفي والاستفهام» فقد جاء في غير ذلك قال تعالى وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ [الآية 271] فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول: «زيد من أفضلها» ، تريد: هو أفضلها، وتقول العرب: «قد من حديث، فخلّ عنّي حتّى أذهب» يريدون: قد كان حديث «3» . ونظيره قولهم: «هل لك في كذا وكذا ولا يقولون: «حاجة، و:
لا عليك» يريدون: لا بأس عليك.
وأمّا قوله تعالى اهْبِطُوا مِصْراً [الآية 61] وادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) [يوسف] فزعم بعض الناس، أنّه جلّ جلاله يعني فيهما جميعا «مصر» بعينها، ولكن ما كان من اسم مؤنّث على هذا النحو «هند» و «جمل» فمن العرب من يصرفه، ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم:
__________
(1) . وهي في الشواذ، 5 و 6 الى الأعمش وفي الجامع 1: 420 الى مجاهد وطلحة وعيسى وفي البحر 1: 229 الى مجاهد وطلحة وعيسى بن يحي بن وثاب وابن أبي ليلى ويزيد وأبي عمرو في رواية غير مشهورة، وإلى الأعمش، وقد أيّد في المحتسب 85، وفي الجامع والبحر، كما سبق لها أنها لغة تميم وقال في الجامع، وهذا من لغتهم نادر ولهجة تميم 173.
(2) . في البحر 1: 229 نسبت هذه القراءة إلى أبي عمرو في رواية مشهورة عنه، والأعمش في رواية أيضا، وفي الجامع 1: 420 أنّها لغة أهل الحجاز.
(3) . نقلت عنه هذه المعاني في اعراب القرآن 1: 52 و 63، والجامع 52 و 63، والبحر 1: 232، والمشكل 1: 96.(1/183)
«أمّا التي في «يوسف» فيعني بها «مصر» ، بعينها، والتي في «البقرة» ، يعني بها مصرا من الأمصار.
وأما قوله تعالى وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 61] فمعنى باؤوا: «رجعوا به» أي صار عليهم، وتقول «باء بذنبه يبوء بوءا» «1» . وقال تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] مثله.
باب من تفسير الهمز
أمّا قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ [الآية 61] ووَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ [آل عمران: 112] كل ذلك جماعة العرب تقوله.
ومنهم، من يقول «النّبآء» ، أولئك الذين يهمزون «النبيء» ، فيجعلونه مثل «عريف» و «عرفاء» «2» . والذين لم يهمزوه، مثل بنات الياء، فصار مثل «وصيّ» و «أوصياء» ، ويقولون أيضا:
«هم وصيّون» . وذلك أنّ العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتّى يصير كبنات الياء «3» ، ويجتمعون على ترك همزة نحو «المنسأة» ولا يكاد أحد يهمزها، إلّا في القرآن، فإنّ أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ «4» ، وهي من «نسأت» . وجاء ما كان من «رأيت» ، على «يفعل» أو «تفعل» أو «نفعل» أو «أفعل» غير مهموز، وذلك أنّ الحرف الذي كان قبل الهمزة، ساكن، فحذفت الهمزة وحرّك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول: «من أبوك» «5» .
__________
(1) . في الصحاح (بوء) نقلت هذه الجمل والعبارات منسوبة الى الأخفش.
(2) . أشار الى هذه اللغة في البيان 1: 87 و 88 ولم يحدّد. وهم أهل مكّة «اللسان نبأ» وبعض أهل المدينة في القراءة «اللسان نبا» واللهجات العربية 261.
(3) . قراءة النبيئين بالهمز في الشواذ 57 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 431 الى نافع.
(4) . سبأ 34: 14 وهي في معاني القرآن 2: 356 إلى عاصم والأعمش، وفي الطبري 22: 74 الى عامّة قرّاء الكوفة، وفي السبعة 527 والكشف 2: 203 الى غير نافع وأبي عمرو، وزاد في الاستثناء في التيسير 180 والجامع 14: 279 ابن ذكوان، وفي البحر 7: 627 الى ابن ذكوان والوليد بن عتبة والوليد بن سلم وسائر السّبعة إلّا نافعا وأبا عمرو، وأمّا قراءة الألف بلا همزة فهي في معاني القرآن 2: 356 إلى أهل الحجاز والحسن وأبي عمرو وأنها لغة قريش، وفي الطبري 22: 73 إلى عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة، وفي السبعة 527 والكشف 2: 203 والتيسير 180 والجامع 14: 279 والبحر 7: 267 الى نافع وأبي عمرو، وفي المحتسب 2:
187 الى أبي عمرو وابن أبي إسحاق في ثاني قراءتيه.
(5) . في اللسان «حرف الهمزة» قالوا. لا بالك ولاب لغيرك ولاب لشائنك. ولم يبيّن لغة من هي؟(1/184)
قال تعالى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) [النجم] وقال: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) [التكاثر: 6] وقال: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الأنفال: 48] وقال: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) [الأعراف] وأمّا قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) [الماعون] وأَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) [العلق] وما كان من «أرأيت» في هذا المعنى، ففيه لغتان، منهم من يهمز «1» ، ومنهم من يقول «أرايت» «2» .
وإنّما يفعل هذا، في «أرأيت» هذه التي وضعت للاستفهام، لكثرتها. فأما «أرأيت زيدا» ، إذا أردت «أبصرت زيدا» ، فلا يتكلّم بها إلّا مهموزة أو مخفّفة. ولا يكاد يقال «أريت» ، لأنّ تلك كثرت في الكلام، فحذفت كما حذفت في أمانّه ظريف» ، يريدون:
«أما إنّه ظريف» فيحذفون، ويقولون أيضا: «لهنّك لظريف» يريدون: «لأنّك لظريف» . ولكن الهمزة حذفت كما في قولهم [من البسيط وهو الشاهد الحادي والثمانون] :
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ... عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني «3»
وقال الشاعر «4» [من الكامل وهو الشاهد الثاني والثمانون] :
أرأيت إن أهلكت مالي كلّه ... وتركت مالك فيم أنت تلوم «5»
فهمز، وقال الاخر «6» : [من المتقارب وهو الشاهد الثالث والثمانون] :
أريت امرأ كنت لم أبله ... أتاني وقال اتّخذني خليلا
فلم يهمز: وقال «7» [من الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون] :
__________
(1) . هم بنو تميم. اللهجات العربية 256.
(2) . هم أهل الحجاز. اللهجات العربية 256. [.....]
(3) . البيت لذي الإصبع العدواني. ديوانه 89، ومجالس العلماء 71، والأمالي 1: 255.
(4) . هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل الليثي، من شعراء صدر الدولة الأموية.
(5) . مجاز القرآن 2: 11.
(6) . هو أبو الأسود ظالم بن عمرو الدّؤلي، والبيت في ديوانه 38، ومجاز القرآن 2: 11، واللسان «رأي» ، والصحاح «رأي» .
(7) . هو العبّاس بن مرداس السلمي.(1/185)
يا خاتم النّبآء إنّك مرسل ... بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا «1»
وأمّا قوله تعالى بِما عَصَوْا [الآية 61] فجعله اسما هنا كالعصيان يريد:
بعصيانهم، فجعل «ما» و «عصوا» اسما.
وقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الآية 63] فهذا على الكلام الأوّل، كأنّه «أذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا» ثم: «فقلنا لكم» : «خذوا» «2» . كما تقول:
«أوحيت إليه: قم» ، كأنّه يقول:
«أوحيت إليه، فقلت له: «قم» وكان في قولك: «أوحيت إليه» دليل على أنّك قد قلت له.
وأمّا قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [الآية 65] كأنّه يقول: «ولقد عرفتم» كما تقول: «لقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه» «3» . وقال تعالى وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] كأنّه يقول:
«يعرفهم» . وقال تعالى لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] أي: لا تعرفهم نحن نعرفهم. وإذا أردت العلم الاخر قلت: «قد علمت زيدا ظريفا» لأنّك تحدّث عن ظرفه. فلو قلت: «قد علمت زيدا» لم يكن كلاما.
وأمّا قوله تعالى كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فلأنّك تقول: «خسأته» فخسئ» «يخسأ خسأ «4» شديدا» ف «هو خاسئ» و «هم خاسئون» .
وأمّا قوله تعالى فَجَعَلْناها نَكالًا [الآية 66] ، فتكون على القردة، وتكون على العقوبة، التي نزلت بهم، فلذلك أنّثت.
وأما قوله تعالى أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الآية
__________
(1) . ديوانه 95 والكتاب 2: 126.
(2) . في إيضاح الوقف 1: 519، وإعراب القرآن 1: 54، أفيد هذا الرأي، ونسب بعبارة مقاربة.
(3) . في إعراب القرآن 1: 54، والجامع 1: 439، أفيدت هذه الآراء منسوبة إلى الأخفش.
(4) . هكذا وردت الأمثلة الفعلية تحمل بابين للفعل، يبدو منهما أنّ المتعدي يصاغ من باب «فتح» ، واللازم المطاوع من باب «فرح» .(1/186)
67] ، فمن العرب والقرّاء من يثقّله «1» ، ومنهم من يخفّفه «2» وزعم عيسى بن عمر، أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف، أوّله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخفّفه، نحو: «اليسر» و «اليسر» ، و «العسر» و «العسر» «الرحم» و «الرحم» «3» . وقال بعضهم عُذْراً [المرسلات: 6] خفيفة، (أو نذرا) [المرسلات: 6] مثقلة، وهي كثيرة وبها نقرأ «4» . وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر، تحرّك أيضا ثانيه بالضم.
وأمّا قوله تعالى: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ [الآية 68] فارتفع، ولم يصر نصبا، كما ينتصب النفي، لأنّ هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها، إنّما هو اسم مبتدأ، وخبره مضمر، وهذا مثل قولك: «عبد الله لا قائم ولا قاعد» ، أدخلت «لا» ، للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه «لا» .
وأمّا قوله تعالى بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ [الآية 69] ف «الفاقع» : الشديد الصفرة. ويقال: «أبيض يقق» : أي:
شديد البياض، و «لهاق» و «لهق» و «لهاق» ، و «أخضر ناصر» ، و «أحمر قانئ» و «ناصع» و «فأقم» . ويقال: «قد
__________
(1) . اللهجات العربية 171 هي لغة الحجاز وهي في السبعة 157 و 158 و 159 قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي في رواية الى نافع وعاصم. وفي حجّة ابن خالويه 58، أنّها إلى عاصم في رواية أبي بكر، وفي الكشف 1: 247 إلى القرّاء عدا حمزة، وفي التيسير 74 الى حفص، وفي الجامع 1: 447 والبحر 1: 250 كذلك، وزاد في الأخير غير حمزة أو إسماعيل أو خلف أو القزّاز والمفضّل من أخذ بالقراءة الاخرى.
(2) . اللهجات العربية 171 هي لغة بكر بن وائل وكثير من تميم، وهي في السبعة 158 و 159 و 160 الى حمزة، وفي رواية الى عاصم وأبي عمرو ونافع وفي حجّة ابن خالويه 58 و 59 إلى حمزة وعاصم برواية حفص، وأضاف أنّها لغة تميم وأسد وقيس وفي الكشف 1: 247 أضاف إلى حمزة والقرّاء حفصا، وفي التيسير 74 إلى حمزة، وفي الجامع 1: 447 الى الكوفيين، وفي البحر 1: 250 إلى حمزة وإسماعيل وخلف والقزاز عن عبد الوارث والمفضّل.
(3) . وقد نقل هذا الرأي ونسب في الجامع 1: 447. والمشكل 1: 448.
(4) . في معاني القرآن 3: 222 الى عاصم، وفي الطّبري 29: 233 إلى عامّة قرّاء المدينة والشّام وبعض المكّيين وبعض الكوفيين، وفي السبعة 666 الى ابن كثير ونافع وابن عامر والى عاصم في رواية، وفي الكشف 2: 357 تثقيل الذّال في الثانية الى الحرمين وأبي بكر وابن عامر، وفي التيسير 218 كذلك، وفي الجامع 19: 156 نسب هذه القراءة إلى ابراهيم التيمي وقتادة وأبي عبّاس، وإسكان الأولى الى السّبعة كلّهم، وفي البحر 8: 405 إلى أبي جعفر في رواية وإلى شيبة وزيد بن علي والحرمين وابن عامر وأبي بكر.(1/187)
قنأت لحيته» ف «هي تقنأ قنوأ» أي:
احمرّت. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس والثمانون] :
. كما قنأت أنامل صاحب الكرم «1»
و «قاطف الكرم» . وقال آخر «2» [من الكامل وهو الشاهد السادس والثمانون] :
من خمر ذي نطف أغنّ كأنّما ... قنأت أنامله من الفرصاد «3»
وأمّا في قوله تعالى إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الآية 70] فجعل «البقر» مذكّرا مثل «التّمر» و «البسر» كما تقول: «إنّ زيدا تكلّم يا فتى» وإن شئت قلت (يشّابه) «4» وهي قراءة مجاهد «5» ذكّر «البقر» يريد «يتشابه» ثم أدغم التاء في الشين. ومن أنّث «البقر» قال (تشّابه) «6» فأدغم، وإن شاء حذف التاء الاخرة، ورفع، كما تقول «إنّ هذه تكلّم يا فتى» لأنها في «تشابه» إحداهما تاء «تفعل» ، والأخرى التي في «تشابهت» فهو في التأنيث معناه «تفعل» ، وفي التذكير معناه «فعل» و «فعل» أبدا مفتوح، كما ذكرت لك، والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث، لأنّك تريد «تشابهت» فهي «تشابه» وكذلك كل ما كان من نحو «البقر» ، ليس بين
__________
(1) . هذا ما ورد من الشعر. [.....]
(2) . هو الأسود بن يعفر كما في الصحاح «قنأ» و «فرصد» واللسان «قنأ» و «فرصد» وديوان الأسود بن يعفر 29.
(3) . في الجمهرة الصدر (يسعى بها ذو تومتين كأنما) وفي الصحاح «قنأ» «مشمر» بدل «كأنما» وفي «فرصد» كما رواه الأخفش وفي اللسان «قنأ» كما رواية الصحاح الاولى وفي «فرصد» ب «منطق» بدل «كأنما» وفي المخصّص 4:
43 ب «منطق» وقال روي بالفاء والقاف. وفي التّاج «قبأ» مثل رواية الصحاح الاولى وفي «فرصد» ب «منطق» وما في ديوان الأسود بن يعفر:
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق ... وافى بها كدراهم الأسجاد
يسعى بها ذو تومتين مشمّر ... قنأت أنامله من الفرصاد
(4) . في الشواذ 7 إلى محمد ذي الشامة وكذلك وفي الكشّاف 1: 151 وفي البحر 1: 254 الى ابن مسعود.
(5) . هو أبو الحجّاج مجاهد بن جبر المكّي، علم من المتابعين وأئمة التفسير، قرأ على ابن عبّاس وعبد الله بن السائب، وله اختيار في القراءة وتوفي سنة 103. طبقات ابن الخياط 280، وطبقات القرّاء 2: 44، والمعارف 444، وميزان الاعتدال 3: 439.
(6) . في الشواذ 7 إلى ابن مسعود، وبتخفيف الشّين إلى الحسن. وفي الجامع 1: 451 إلى الحسن والأعرج، وفي البحر 1: 254 أضاف «في احدى الروايتين) .(1/188)
الواحد والجماعة فيه، إلّا الهاء، فمن العرب من يذكّره «1» ومنهم من يؤنّثه «2» ، ومنهم من يقول: «هي البرّ والشّعير» «3» وقال تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) [ق] فأنّث على تلك اللغة، وقال «باسقات» فجمع، لأن المعنى جماعة. وقال الله جل ثناؤه أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور: 43] ، فذكّر في لغة من يذكّر، قال وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) [الرعد] فجمع، على المعنى، لأنّ المعنى سحابات.
وقال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] وقال سبحانه:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] على المعنى واللفظ.
وقد قال بعضهم: إنّ الباقر «4» مثل «الجامل» يعني «البقر» و «الجمال» قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد السابع والثمانون] :
مالي رأيتك بعد أهلك موحشا ... خلقا كحوض الباقر المتهدّم
وقال «5» [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثمانون] :
فإن تك ذا شاء كثير فإنّهم ... ذوو جامل لا يهدأ اللّيل سامره «6»
وأمّا قوله تعالى إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ [الآية 71] «مسلّمة» على «إنّها بقرة مسلّمة» .
لا شِيَةَ فِيها [الآية 71] يقول: «لا وشي فيها» من «وشيت شية» كما تقول: «وديته دية» و «وعدته عدة» .
وإذا استأنفت أَلْآنَ [الآية 71] ، قطعت الألفين جميعا لأنّ الألف الأولى مثل ألف «الرّجل» وتلك تقطع
__________
(1) . هم تميم وأهل نجد «اللهجات العربية 501» .
(2) . هم أهل الحجاز.
(3) . انظر الهامش السابق، والمزهر 2: 277.
(4) . في الكشّاف 1: 151 الى محمّد ذي الشامة. وذكرها في الإملاء 1: 43 بلا نسبة، وفي الجامع 1: 452 الى يحيى بن يعمر.
(5) . هو الحطيئة. ديوانه 184، واللسان «جمل» والخزانة 3: 389.
(6) . في الأصل: له جامل ما يهدأ الليل سامره والصدر والتصحيح من الديوان، وفي الصحاح «جمل» ب «لهم» بدل «له» واللسان «جمل» كذلك. وفي الخزانة «لنا» بدل «له» ولا بدل «ما» وأشار الى الروايات الاخرى.(1/189)
إذا استؤنفت، والأخرى همزة ثابتة تقول «ألان» فتقطع ألف الوصل، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في قالُوا [الآية 71] لأنّه إنّما كان يذهبها لسكون اللام، واللّام قد تحركت لأنّه قد حوّل عليها حركة الهمزة «1» .
وأما قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [الآية 72] فإنّما هي «فتدارأتم» ، ولكنّ التاء تدغم أحيانا، كذا في الدّال لأنّ مخرجها من مخرجها. فلمّا أدغمت فيها حوّلت، فجعلت دالا مثلها، وسكّنت فجعلوا ألفا قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها، كما قالوا: «اضرب» فألحقوا الالف حين سكنت الضّاد. ألا ترى أنك إذا استأنفت قلت «ادّارأتم» ومثلها يَذْكُرُونَ «2» و «تذّكّرون» «3» وأَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ «4» ومثله في القرآن كثير.
وإنّما هو «يتدبّرون» فأدغمت التاء في الدال، لأنّ التاء قريبة المخرج من الدال، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين، ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكلّ ما قرب مخرجه، فافعل به هذا، ولا تقل في «يتنزّلون» : «ينزّلون» لأنّ النون ليست من حروف الثنايا كالتاء.
وقال تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الآية 74] وليس قوله: أَوْ أَشَدُّ كقولك: «هو زيد أو عمرو» إنّما هذه أَوْ التي في معنى الواو، نحو قولك، «نحن نأكل البرّ أو الشّعير أو الأرزّ، كلّ هذا نأكل» ف أَشَدُّ ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو «وهي أشدّ قسوة» وقرأ بعضهم (فهي كالحجارة) فأسكن الهاء، وبعضهم يكسرها.
وذلك أنّ لغة العرب في «هي» و «هو» ولام الأمر، إذا كان قبلهن واو، أو فاء، أسكنوا أوائلهن. ومنهم من يدعها. قال تعالى وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [القصص: 70] وقال تعالى:
__________
(1) . نقله في الجامع 1: 455.
(2) . في سبع آيات أوّلها الأنعام 6: 126، وآخرها النحل 16: 13.
(3) . ليس في الكتاب الكريم فعل مضارع مسند الى المخاطبين من «ذكر» بتضعيف الذال والكاف، بل فيه بتاءين غير مدغمين في ثلاثة مواضع وبتاء واحدة، وتضعيف الكاف، في سبع عشرة آية، راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، باب ذكر. [.....]
(4) . المؤمنون 23: 68 وفي الأصل «القرآن» بدل «القول» و «القرآن» في اثنتين أخريين هما في (النّساء 4: 82 ومحمّد 47: 24) والفعل معه «يتدبّرون» غير مجزوم.(1/190)
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» . وقال:
ْيَعْبُدُوا
[قريش: 3] يجوز فيها، في غير القرآن، الوقف والكسر.
باب إنّ وأنّ
قال سبحانه وتعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 74] فهذه اللّام، كما نعلم، لام التوكيد، وهي منصوبة، تقع على الاسم الذي تقع عليه «إنّ» ، إذا كان بينها وبين «إنّ» حشو من الكلام، نحو أن نقول: «إنّ في الدار لزيدا» . وتقع هذه اللام أيضا في خبر «إنّ» ، وتصرف «إنّ» إلى الابتداء، تقول: «أشهد إنّه لظريف» كأن اللاحق، في مثل هذا الترتيب، يعمل في السابق، قال الله عزّ وجلّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) [المنافقون] وقال: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [العاديات] وهذا لو لم تكن فيه اللام كان «أنّ ربّهم» ، لأنّ «أنّ» الثقيلة إذا كانت وهي وما عملت فيه بمنزلة «ذاك» أو بمنزلة اسم فهي أبدا «أنّ» مفتوحة. وإن لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم، فهي «إنّ» على الابتداء. ألا ترى إلى قوله تعالى اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) [البقرة] يقول: «اذكروا هذا» وقال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ [الصافات] لأنه يحسن في مكانه «لولا ذاك» وكل ما حسن فيه «ذاك» أن تجعله مكان «أنّ» وما عملت فيه فهو «أنّ» . وإذا قلت يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ لم يحسن أن تقول: يعلم لذلك» . فان قلت: «اطرح اللام أيضا وقل «يعلم ذاك» فاللام ليست مما عملت فيه «إنّ» . وأمّا في قوله تعالى: إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الفرقان: 20] فلم تنكسر إلّا هذه من أجل اللام [و] لو لم تكن فيها لكانت «أنّ» أيضا لأنّه لا يحسن أن تقول «ما أرسلنا قبلك إلّا ذاك» و «ذاك» هو القصة. قال الشاعر «2» : [من
__________
(1) . ابراهيم 14: 4 وفي مواقع كثيرة اخرى. راجع المعجم المفهرس.
(2) . هو كثيّر عزّة. انظر ديوانه 273، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 472.(1/191)
المنسرح وهو الشاهد التاسع والثمانون] :
ما أعطياني ولا سألتهما ... إلّا وإني لحاجزي كرمي
فلو ألقيت من هذه اللام أيضا لكانت «أن» . وقال تعالى ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) [الأنفال] كأنه قال: «ذاك الأمر» وهذا قوله تعالى وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ تقع في مكانه «هذا» . وقال ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) [الأنفال] كأنه على جواب من قال: «ما الأمر» ؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون: «ذلكم.»
كأنه قال: «ذلكم الأمر، وأنّ الله موهن كيد الكافرين» فحسن أن يقول:
«ذلكم» و «هذا» . وتضمر الخبر أو تجعله خبرا مضمرا. قال تعالى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) [طه] لأنّه يجوز أن تقول: «إنّ لك ذاك» و «هذا» وهذه الثلاثة الأحرف، يجوز فيها كسر «إنّ» على الابتداء. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ [آل عمران: 39] فيجوز أن تقول: «فنادته الملائكة بذاك» وإن شئت رفعته على الحكاية، كأنه يقول:
«فنادته الملائكة فقالت: إنّ الله يبشّرك» ، لأنّ كلّ شيء بعد القول حكاية، تقول: «قلت: «عبد الله منطلق» قلت: «إنّ عبد الله زيدا منطلق» ، إلّا في لغة من أعمل القول من العرب كعمل الظنّ فذاك ينبغي له أن يفتح «أنّ» . وقال تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الأنبياء: 92 والمؤمنون: 52] فيزعمون أن هذا، ولأنّ «هذه أمّتكم واحدة وأنا ربّكم فاتّقون» يقول: «فاتّقون لأنّ هذه أمّتكم» وهذا يحسن فيه كذاك، فإن قلت: «كي تلحق اللام ولم تكن في الكلام» . فإنّ طرح اللام وأشباهها من حروف الجرّ، من «أنّ» حسن، ألا تراه يقول: «أشهد أنّك صادق» ، وإنّما هو: «أشهد على ذلك» . وقال تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) [الجن] يقول:
«فلا تدعوا مع الله أحدا لأنّ المساجد لله» ، وفي هذا الإعراب ضعف، لأنّه عمل فيه ما بعده، أضافه اليه بحرف الجر.
ولو قلت «أنّك صالح بلغني» لم يجز، وإن جاز في ذلك. لأنّ حرف الجر لمّا تقدّم ضميره قوي. وقد قرئ(1/192)
مكسورا «1» . وقال بعضهم: «إنّما هذا على أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] و «أوحي إليّ أنّ المساجد لله» و «أوحي إليّ أنه لمّا قام عبد الله» . وقد قرئ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «2» ففتح كلّ «أن» يجوز فيه على الوحي.
وقرأ بعضهم (وإنّه تعالى جدّ ربّنا) «3» فكسروها من قول الجن «4» . فلما صار بعد القول صار حكاية، وكذاك ما بعده، مما هو من كلام الجن.
وأمّا «إنّما» ، فإذا حسن مكانها «أنّ» فتحتها، وإذا لم تحسن كسرتها. قال تعالى، حكاية عن الرسول محمد (ص) ، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [فصّلت: 6] فالآخرة يحسن مكانها «أنّ» فتقول:
«يوحي إليّ أنّ إلهكم إله واحد» قال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد التسعون] :
أراني- ولا كفران لله- إنّما ... أواخي من الأقوام كلّ بخيل «6»
لأنّه لا يحسن هاهنا «أنّ» فلو قلت:
«أراني أنّما أواخي من الأقوام» لم يحسن. وقال «7» [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والتسعون] :
__________
(1) . قراءة فتح الهمزة في الطّبري 29: 106 إلى أبي جعفر القارئ ونافع وقرّاء الكوفة وعاصم، وفي الكشف 2: 339 إلى كل القرّاء، وفي الجامع 19: 7 إلى علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي وفي البحر 8: 352 إلى الجمهور. وقراءة كسر الهمزة في الطّبري «كالسابق» إلى أبي عمرو، وفي الجامع 19: 7 إلى غير من أخذ بالأولى، وفي البحر 8: 352 إلى ابن هرمز وصلحة.
(2) . الجن 72: 3 في الطّبري 29: 105 إلى أبي جعفر القارئ وقرّاء الكوفة وفي التيسير 215 إلى ابن عامر وحفص والكسائي، وفي الجامع 19: 7 و 8 إلى علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي وأبي جعفر وشيبة، وفي البحر 2: 347 إلى الحرميين والأبوين.
(3) . في الطّبري 29: 106 إلى نافع وعاصم وأبي عمرو، وفي التيسير 215 إلى غير ابن عامر أو حفص أو حمزة أو الكسائي، وفي الجامع 19: 7 إلى غير من أخذ بقراءة الفتح وقال «واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم» .
(4) . أشار في معاني القرآن 3: 191 إلى أنه «كان عاصم يكسر ما كان قول الجن، ويفتح ما كان من الوحي» .
(5) . هو كثيّر عزّة. ديوانه 508 والكتاب، وتحصيل عين الذهب 1: 466.
(6) . في همع الهوامع 1: 147 صدره بلفظ «آية» بدل «إنّما» وفي الدرر 1: 127 جعل صدره: ألا ربّما طالبت غير منيل.
وفي الهمع 1: 247 البيت كله ب «أنّني» بدل «إنّما» و «أوافي» بدل «أواخي» وفي الدرر 1: 205 ب «أنني» و «أواتي» بالتاء من المواتاة.
(7) . هو عمرو بن الإطنابة الخزرجي الشاعر الجاهلي. الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 465، والاشتقاق 453، وانظر المرتجل 230، وشرح ابن يعيش 8: 56.(1/193)
أبلغ الحارث بن ظالم المو ... عد والناذر النّذور عليّا
أنّما تقتل النّيام، ولا ... تقتل يقظان ذا سلاح كميّا
فحسن أن تقول: «أنّك تقتل النّيام» «1» . وأمّا قوله عز وجل أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) [المؤمنون] فالآخرة بدل من الأولى.
وأمّا «إن» الخفيفة فتكون في معنى «ما» كقول الله عز وجل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك: 20] اي: ما الكافرون. وقال إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] أي: ما كان للرحمن ولد فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزخرف] من هذه الأمّة للرّحمن، بنفي الولد عنه.
أي: أنا أوّل العابدين بأنّه ليس للرحمن ولد. وقرأ بعضهم (فأنا أوّل العبدين) «2» يقول: «أنا أوّل من يغضب من ادّعائكم لله ولدا» ويقول: «عبد» «يعبد» عبدا» أي: غضب. وقال تعالى وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 52] فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى «ما» وكذلك وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ [الأحقاف: 26] ، ف «إن» بمنزلة «ما» ، و «ما» التي قبلها بمنزلة «الذي» .
ويكون للمجازاة نحو قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الآية 284] وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا [التغابن:
14] . وتزاد «إن» مع «ما» ، يقولون:
«ما إن كان كذا وكذا» أي: «ما كان كذا وكذا» ، «ما إن هذا زيد» . ولكنها تغير «ما» فلا ينصب بها الخبر. وقال الشاعر «3» [من الوافر وهو الشاهد الثاني والتسعون] :
وما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا «4»
__________
(1) . في الكتاب 1: 465 و 466 هذه الآراء بهذه الشواهد من الشعر والآي.
(2) . في الطّبري 16: 120 إلى أبي عبد الرحمن واليماني، وفي المحتسب 2: 257 كذلك وفي البحر 8: 28 إلى «بعضهم» .
(3) . هو فروة بن المسيك المرادي، تحصيل عين الذهب 1: 475، والكامل 1: 295، واللسان «طيب» ، وقيل بل هو عمرو بن قعاس، وقيل الكميت شرح شواهد المغني 30 و 31.
(4) . في الكتاب 1: 475 ب «دولة» بدل «طعمة» وفي إعراب القرآن للزّجّاج 1: 139 والصحاح «طيب» ، و «اللسان» «طيب» ، والتاج «طيب» ، والكامل 1: 295، والمغني 1: 25، وشرح وشواهد المغني 30، وهمع الهوامع 1: 123، والدرر 1: 94، وشرح التصريف 3: 128، كلها بلفظ «دولة» . وانظر الخزانة 2: 121. [.....](1/194)
وتكون خفيفة في معنى الثقيلة، وهي مكسورة، ولا تكون إلّا وفي خبرها اللام، يقولون: «إن زيد لمنطلق» ولا يقولونه بغير لام، مخافة أن تلتبس بالتي معناها «ما» . وقد زعموا أنّ بعضهم يقول: إن زيدا لمنطلق» يعملها على المعنى، وهي مثل إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) [الطارق] ، يقرأ بالنصب «1» ، والرفع، و «ما» زيادة للتّوكيد، واللام زيادة للتوكيد، وهي التي في قوله تعالى وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) [الحجر] ، ولكنها، إنّما وقعت على الفعل، حين خفّفت، كما تقع «لكن» على الفعل، إذا خفّفت. ألا ترى أنك تقول: «لكن قد قال ذاك زيد» . ولم تعرّ من اللام في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) ، وعلى هذه اللغة فيما نرى- والله اعلم- إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «2» ، وقد شدّدها قوم فقالوا (إنّ هذان) «3» وهذا لا يكاد يعرف، إلّا أنّهم يزعمون أنّ بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا، فيقولون: «رأيت أخواك» و «رأيت الرجلان» «4» ، وأوضعته علاه» و «ذهبت
__________
(1) . قراءة النصب ترتبط بتخفيف «ما» على أنها زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد أيضا، ويكون المعنى «إن كل نفس لعليها حافظ» وليست «لما» التي بمعنى إلّا و «ان» نافية. وقد قرأ بتخفيف «ما» في الطّبري 30: 142 نافع من أهل المدينة وأبو عمرو من أهل البصرة. وفي السبعة 678 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 8: 454 إلى الجمهور.
(2) . طه 20: 63 وفي الطّبري 16: 179 أنّ وهب بن منبه وقتادة تأوّلا، وفي السبعة 419 إلى عاصم في رواية، وفي حجّة ابن خالويه 217 إلى ابن كثير وحفص، عن عاصم، وفي الكشف 2: 29 إلى ابن كثير وحفص، وفي التيسير 151 كذلك، وفي الجامع 11: 216 إلى الزهري والخليل بن احمد والمفضل وابان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص، وابن كثير يشدّد نون «هذان» ، وفي البحر 6: 255 إلى ابن بحرية وأبي حياة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير.
(3) . في الطّبري 16: 180 و 182 إلى عامة قرّاء الأمصار، وفي السبعة إلى نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وإلى عاصم في رواية وفي حجة ابن خالويه 217 إلى القرّاء كلّهم عدا ابن كثير وحفصا وعن عاصم، وفي الكشف 2: 99، وفي التيسير 151 كذلك، وفي الجامع 11: 216 إلى المدنيين والكوفيين. وفي البحر 6: 255 إلى أبي جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيّوب وخلف في اختياره وأبي عبيدة وأبي حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوين والصاحبين من السبعة.
(4) . هي لغة بني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد ومراد وعذرة وكناية وهمدان ومزادة وبني العنبر وبطون من ربيعة وبكر بن وائل، همع الهوامع 1: 40 والبحر 6: 255 واللهجات العربية 38.(1/195)
إلاه» «1» ، فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ. وزعم أبو زيد «2» أنّه سمع أعرابيا فصيحا من بلحارث يقول: «ضربت يداه» و «وضعته علاه» يريد: يديه وعليه. وقرأ بعضهم (إنّ هذين لساحران) «3» وذلك خلاف الكتاب. وقال الشاعر «4» [من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون] :
طاروا عليه «5» فشل «6» علاها ... واشدد بمثنى «7» حقب حقواها
ناجية وناجيا أباها
وأمّا «أن» الخفيفة فتكون زائدة مع «فلمّا» و «لمّا» قال تعالى فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 96] وانما هي «فلمّا جاء البشير» وقال وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا [العنكبوت: 33] يقول «ولمّا جاءت» وتزاد أيضا مع «لو» يقولون:
«أن لو جئتني كان خيرا لك» يقول «لو جئتني» . وتكون في معنى «أي» قال تعالى وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص:
6] يقول «أي امشوا» . وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله تعالى:
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: 10] و (أن لعنة الله عليه) «8» على قولك «أنه لعنة الله»
__________
(1) . هي لغة بني الحارث بن كعب اللسان «علا» والخزانة 3: 199 ونوادر أبي زيد 58.
(2) . هو أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري المتوفّى سنة 225 هـ أحد أعلام مدرسة البصرة، انظر ترجمته في أخبار النحويين البصريّين 41، ومراتب النحويين 42، وطبقات 165، ونزهة الألباء 85، وإنباه الرواة 2: 30، وبغية الوعاة 254.
(3) . في معاني القرآن 2: 183 إلى أبي عمرو، وفي تأويل مشكل القرآن 51 زاد عيسى بن عمرو عاصما الجحدري، وفي الطّبري 16: 181 أغفل الجحدري، وزاد يونس في 16: 179 ان السدّي تأوّل بها، وفي السبعة 419 إلى أبي عمرو وحده، وكذلك في حجّة ابن خالويه 217، والكشف 2: 99، والتيسير 151، وفي الجامع 11:
216، إلى عائشة وعثمان من الصحابة، وإلى الحسن وسعيد بن جبير وابراهيم النخعي من التابعين، وأبي عمرو وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري من القرّاء، وفي البحر 6: 255 إلى عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وأبي عبيد وأبي عمرو.
(4) . هو بعض أهل اليمن، وأنشده أبو الغور، النوادر 58 و 64.
(5) . في الصحاح «علا» والخزانة 3: 199 واللسان «علا» والخصائص 2: 269 ب «علاهن» .
(6) . في الصحاح واللسان ب «فطر» .
(7) . في الأصل: «بمثنا» وفي النوادر 58 بمتني بالتاء المثناة، وياء بعد النون، وفي 164 كما في رواية الأخفش «مثنى» ، وفي اللسان «بمثني» بناء مثلثة وياء بعد النون.
(8) . النور 24: 7 والقراءة المشهورة: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ.(1/196)
و «أنه الحمد لله» . وهذه بمنزلة قوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] و (وحسبوا ألّا تكون فتنة) «1» ولكن هذه إذا خفّفت وهي إلى جنب الفعل، لم يحسن إلّا إن معها «لا» ، حتّى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار. ولا تعوض «لا» في قوله تعالى أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لأنّها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم.
وعوّضها «لا» إذا كانت مع الفعل لأنّهم أرادوا أن يبيّنوا أنّها لا تعمل في هذا المكان، وأنها ثقيلة في المعنى.
وتكون «أن» الخفيفة تعمل في الفعل، وتكون هي الفعل اسما للمصدر، نحو قوله تعالى: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) [القيامة] إنّما هي «على تسوية بنانه» .
باب من الاستثناء
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الآية 78] منصوبة، لأنه مستثنى، ليس من أوّل الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى «لكن» ، خارجا من أوّل الكلام، إنّما يريد «لكن أمانيّ» ، و «لكنّهم يتمنّون» .
وإنّما فسّرناه ب «لكن» لنبيّن خروجه من الأوّل. ألا ترى أنك إذا ذكرت «لكن» وجدت الكلام منقطعا من أوّله، ومثل ذلك في القرآن كثير (منه قوله عزّ وجل) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ [الليل] وقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157] وقوله: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا [هود:
116] كأنّه يقول: «فهلّا كان منهم من ينهى» ثم كأنّه قال: «ولكن قليلا منهم من ينهى» ثمّ كأنّه قال «ولكن «2» قليل منهم قد نهوا» فلمّا جاء مستثنى خارجا من الأوّل انتصب. ومثله فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] كأنه يقول «فهلّا كانت» ثمّ قال: «ولكنّ قوم يونس» ف «إلا» تجيء في معنى «لكنّ» . وإذا عرفت أنها في معنى «لكنّ» ، فينبغي أن تعرف خروجها من أوّله. وقد يكون (إلّا قوم
__________
(1) . المائدة 5: 71 القراءة المشهورة وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وبها نقرأ.
(2) . وردت لكن في الأصل مخفّفة في كل الامثلة، فورد ما بعدها مرفوع. [.....](1/197)
يونس) رفعا «1» ، تجعل «إلّا» وما بعده، في موضع صفة بمنزلة «غير» ، كأنّه قال: «فهلّا كانت قرية آمنت غير قرية قوم يونس» ومثلها لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] فقوله تعالى إِلَّا اللَّهَ صفة، ولولا ذلك لانتصب، لأنه مستثنى مقدّم، يجوز إلقاؤه من الكلام. وكلّ مستثنى مقدّم، يجوز إلقاؤه من الكلام نصب، وهذا قد يجوز إلقاؤه، فلو قلت «لو كان فيهما آلهة لفسدتا» جاز، فقد يجوز فيه النّصب، ويكون مثل قوله «ما مرّ بي أحد إلّا مثلك» . قال الشاعر «2» فيما هو صفة [من الطويل وهو الشّاهد الرابع والتسعون] :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلّا بغامها
وقال «3» [من الوافر وهو الشاهد الخامس والتسعون] :
وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر «4» أبيك إلا الفرقدان
ومثل المنصوب الذي في معنى «لكن» ، قوله الله عز وجل وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا [يس] وهو في الشعر كثير وفي الكلام.
قال الفرزدق «5» [من الطويل وهو الشاهد السادس والتسعون] :
وما سجنوني غير أنّي ابن غالب ... وأنّي من الأثرين غير الزّعانف «6»
يقول: «ولكنّني» ، وهو مثل قولهم:
«ما فيها أحد إلّا حمارا» لما كان ليس من أوّل الكلام جعل على معنى «لكنّ»
__________
(1) . في الشواذ 58 إلى الجرمي والكسائي.
(2) . هو ذو الرّمة، انظر ديوانه 2: 1004، والكتاب وتحصيل عبن الذهب 1: 370.
(3) . هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي. ديوانه 181، والكتاب 1: 371، والكامل 3: 1240، والدرر 1: 194، والبيان والتبيين 1: 228، وشرح سقط الزند للبطليوسي 3: 977، والخزانة 2: 52، وتحصيل عين الذهب 1:
371 وقيل هو سوار بن المضرب، تحصيل عين الذهب 1: 371 وقيل هو حضرمي بن عامر الاسدي، الخزانة والمؤتلف والمختلف 116، وشرح شواهد المغني والدرر 1: 194.
(4) . في الأصل لعمرو بالواو.
(5) . هو همّام بن غالب، انظر ترجمته في الأغاني 8: 186 و 19: 2، وطبقات الشعراء 2: 299، والشعر والشعراء 1: 471.
(6) . البيت في ديوانه 536، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 67.(1/198)
ومثله [من الخفيف وهو الشاهد السابع والتسعون] :
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلا وضرب الرّقاب «1»
وقوله «2» [من الطويل وهو الشاهد الثامن والتسعون] :
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلّا حسن ظنّ بغائب «3»
باب الجمع
وأمّا تثقيل الْأَمانِيُّ فلأنّ واحدها «أمنيّة» مثقّل. وكلّ ما كان واحده مثقّلا مثل: «بختيّة» و «بخاتيّ» فهو مثقّل.
وقد قرأ بعضهم (إلّا أماني) فخفّف «4» ، وذلك جائز، لأنّ الجمع على غير واحده، وينقص منه، ويزاد فيه. فأما «الأثافي» فكلّهم يخفّفها، وواحدها «أثفيّة» مثقّلة، وإنّما خفّفوها، لأنّهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا، وتثقيلها في القياس جائز «5» . ومثل تخفيف «الأماني» ، قولهم: «مفتاح» و «مفاتح» «6» وفي «معطاء» «معاط» «7» قال الأخفش «8» : «قد سمعت بلعنبر تقول: «صحاري» و «معاطيّ» فتثقل.
وقوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) أي: «فما هم إلّا يظنّون» .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ [الآية 79]
__________
(1) . هو لابن الأيهم التغلبي، الكتاب، وتحصيل عين الذهب 1: 365، والبيت في شرح البطليوسي لسقط الزند 1:
175، وشرح المفصّل 2: 80.
(2) . هو النابغة الذبياني. ديوانه 55، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 365.
(3) . في الكتاب وتحصيل عين الذهب ب «صاحب» بدل غائب، وهي رواية أشار إليها الأخفش أيضا بعد البيت.
وكذلك في شرح النحاس لأبيات سيبويه.
(4) . في الطّبري 2: 264 قراءة بعض القراء، وفي المحتسب 94 إلى أبي جعفر وشيبة والحسن، بخلاف، والحكم بن الأعرج، وفي الجامع 2: 5 إلى أبي جعفر وشيبة والأعرج، وزاد في البحر 1: 276 عليه ابن جماز، عن نافع وهارون عن أبي عمرو.
(5) . في اللسان: «أنف» قال الأخفش اعتزمت العرب أثافي، أي أنهم لا يتكلمون بها إلّا مخفّفة.
(6) . في اللسان «فتح» والجمع مفاتيح أيضا، قال الأخفش هو مثل قولهم أماني وأماني يخفف ويشدد.
(7) . في اللسان (عطا) : قوم معاطي ومعاط، قال الأخفش: هذا مثل قولهم مفاتيح ومفاتح وأماني وأمان، ونسب إلى سيبويه أنه «لا يمتنع معاطي كأثافي» . وقد نقل عنه هذا الرأي مبتسرا، في البحر 1: 276 والجامع 2: 5.
(8) . هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، الذي نقل عنه سيبويه اللغات، انظر ترجمته في مراتب النحويين 32، وطبقات اللغويين 40، ونزهة الألباء 280، وإنباه الرواة 2: 57، أو بغية الوعاة 296. [.....](1/199)
يرفع «الويل» ، لأنّه اسم مبتدأ، جعل ما بعده خبره. وكذلك «الويح» ، و «الويل» ، و «الويس» ، إذا كانت بعدهنّ هذه اللام، ترفعهن. أمّا «التّعس» ، و «البعد» ، وما أشبههما فهو نصب أبدا، وذلك أنّ كلّ ما من هذا النحو تحسن إضافته بغير لام، فهو رفع باللام، ونصب بغير لام، نحو وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) [المطففين] و «ويل لزيد» ولو ألقيت اللام قلت: «ويل زيد» ، و «ويح زيد» ، و «ويس زيد» ، فقد حسنت إضافته بغير لام، فلذلك رفعته باللام مثل فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) «1» . وأما قوله أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ [هود: 95] وأَلا بُعْداً لِثَمُودَ [هود: 68] ووَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ [محمد: 8] فهذا لا تحسن إضافته بغير لام. ولو قلت: «تعسهم» أو «بعدهم» ، لم يحسن. وانتصاب هذا كلّه بالفعل، كأنّك قلت: «أتعسهم الله تعسا» «وأبعدهم الله بعدا» . وإذا قلت «ويل زيد» ، فكأنّك قلت «ألزمه الله الويل» «2» . وأمّا رفعك إيّاه باللام، فإنّما كان، لأنّك جعلت ذلك، واقعا واجبا لهم في الاستحقاق. ورفعه على الابتداء، وما بعده مبني عليه، وقد ينصبه قوم، على ضمير الفعل، وهو قياس حسن، فيقولون: «ويلا لزيد» و «ويحا لزيد» . قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والتسعون] :
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويلا لتيم من سرابيلها الخضر «4»
قال الأخفش «5» «حدّثني عيسى بن
__________
(1) . تكرّرت هذه الآية الكريمة في عشرة مواضع من «المرسلات» وأمّا في «المطفّفين» فقد وردت مرّة واحدة في الآية العاشرة من هذه السورة أمّا في «الطور» 52: 11 فقد وردت الآية الكريمة بلفظ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) أي بزيادة الفاء، على أوّل الآية، كما وردت في المرسلات والمطفّفين.
(2) . نقل هذه العبارة، وأفاد المعنى في اعراب القرآن 1: 59، والجامع 2: 8، والإملاء 1: 46.
(3) . هو جرير بن عطية بن الخطفي، الشاعر المشتهر، الذي انتخب النقاد العرب من شعره، خير ما قالته العرب في فنون الشعر المختلفة. انظر ترجمته وأخباره في الأغاني 7: 37 و 10: 2 و 20: 169، وطبقات الشعراء 374، والشعر والشعراء 464.
(4) . في الديوان 1: 594 ب «فيا خزي تميم» ، وفي الفاخر 286 ب «فيا ويل تيم» ، وهو في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 167 وفي شرح المفصّل 1: 121، واللسان «ويل» .
(5) . هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، انظر ترجمته فيما سبق.(1/200)
عمر «1» أنّه سمع الأعراب ينشدونه هكذا بالنصب، ومنهم من يرفع ما ينصب في هذا الباب. قال أبو زبيد «2» [من الطويل وهو الشاهد المائة] :
أغار وأقوى ذات يوم وخيبة ... لأوّل من يلقى وغيّ ميسّر «3»
باب اللام
وقوله تعالى لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [الآية 79] ، فهذه اللّام إذا كانت في معنى «كي» ، كان ما بعدها نصبا على ضمير «أن» ، وكذلك المنتصب ب «كي» ، هو أيضا على ضمير «أن» ، كأنّه يقول: «الاشتراء» ، ف «يشتروا» لا يكون اسما إلّا ب «أن» ، ف «أن» مضمرة وهي الناصبة، وهي في موضع جرّ باللام. وكذلك كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً [الحشر: 7] «وأن» مضمرة، وقد جرّتها «كي» ، وقالوا: «كيمه» ، ف «مه» اسم، لأنّه «ما» التي في الاستفهام، وأضاف «كي» إليها. وقد يكون «كي» بمنزلة «أن» ، هي الناصبة وذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا [الحديد: 23] فأوقع عليها اللام. ولو لم تكن «كي» وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام، وكذلك ما انتصب بعد «حتّى» ، إنّما انتصب بإضمار «أن» ، قال تعالى حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ [الرعد: 31] ، وحَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الآية 120] ، إنّما هو «حتّى أن يأتي» و «حتّى أن تتبّع» ، وكذلك جميع ما في القرآن من «حتّى» . وكذلك وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
[الآية 214] أي: «حتّى أن يقول،» لأنّ «حتّى» في معنى «إلى» ، تقول «أقمنا حتّى الليل» أي: «إلى اللّيل» . فإن قيل: إظهار «أن» هاهنا قبيح، قلت: «قد تضمر أشياء يقبح إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها» . ألا ترى أنّ قولك: «إن زيدا ضربته» ، منتصب بفعل مضمر لو أظهرته لم يحسن. وقد قرئت هذه الآية
__________
(1) . هو عيسى بن عمر الثقفي، وقد مرت ترجمته قبلا.
(2) . هو أبو زبيد حرملة بن المنذر الطائي المتوفّى من زمن عثمان، انظر ترجمته وأخباره في الأغاني 4: 181 و 11:
24، والشعر والشعراء 301، وطبقات الشعراء 593.
(3) . البيت في الديوان 61 ب «اقام» بدل أغار وب «شرّ» بدل «غيّ» ، وفي المخصّص 12: 184 ب «أقام» بدل «أغار» ، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 157، كما في المخصّص.(1/201)
(وزلزلوا حتّى يقول الرّسول) «1» يريد:
«حتّى الرّسول قائل» ، جعل ما بعد «حتّى» مبتدأ. وقد يكون ذلك نحو قولك: «سرت حتّى أدخلها» ، إذا أردت: «سرت فإذا أنا داخل فيها» ، و «سرت» أمس حتّى أدخلها اليوم» ، أي: حتّى «أنا اليوم أدخلها فلا أمنع» .
وإذا كان غاية للسير نصبته. وكذلك ما لم يجب، ممّا يقع عليه «حتّى» نحو لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) [الكهف] وأمّا وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج: 47] فنصب ب «لن» كما نصب ب «أن» وقال بعضهم: إنّما هي «أن» جعلت معها «لا» كأنه يريد «لا أن يخلف الله وعده» فلمّا كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميع «لن» في القرآن.
وينبغي لمن قال ذلك القول أن يرفع «أزيد لن تضرب» لأنّها في معنى «أزيد لا ضرب له» . وكذلك ما نصب ب «إذن» تقول: «إذن آتيك» تنصب بها كما تنصب ب «أن» وب «لن» فإذا كان قبلها الفاء أو الواو رفعت، نحو قول الله عزّ وجل وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) [الأحزاب] وقوله فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) [النساء] وقد يكون هذا نصبا أيضا عنده على إعمال «إذن» . وزعموا أنّه في بعض القراءة منصوب «2» وإنّما رفع، لأنّ معتمد الفعل صار على الفاء والواو، ولم يحمل على «إذن» ، فكأنه قال: «فلا يؤتون الناس إذا نقيرا» و «ولا تمتّعون إذن» . وقوله تعالى لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ [الحديد:
29] و (وحسبوا ألّا تكون فتنة) «3»
__________
(1) . هي في معاني القرآن: 1: 132 إلى مجاهد وبعض أهل المدينة، وفي 1: 133 أنّها للكسائي دهرا، ثمّ عاد عنها إلى النّصب. وفي الكشف 1: 289 و 290 و 291 إلى نافع والأعرج ومجاهد وابن محيصن وشيبة، وفي التيسير 80، والجامع 3: 34، والبحر 2: 140، إلى نافع. أمّا الرفع فهو في معاني القرآن 1: 133 إلى القرّاء عدا نافعا والكسائي في أوّل أمره، وفي السبعة 181 كذلك، وفي الكشف 1: 291 إلى الحسن وأبي جعفر وابن أبي إسحاق وشبل وغيرهم، وقال إنّ عليه جماعة القرّاء، وفي البحر 2: 140 إلى الجمهور، وفي التيسير 80، والجامع 3: 34 إلى غير نافع.
(2) . في معاني القرآن 2: 337 ذكر النصب، ولم ينسب قراءة، وفي الطّبري 21: 138 كذلك، وفي الجامع 14: 151 ذكرت القراءة، ولم تنسب.
(3) . المائدة 5: 71 القراءة المشهورة: أَلَّا تَكُونَ.(1/202)
وأَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] فارتفع الفعل بعد «أن لا» ، «1» ، لأنّ ( «أن» ) هذه مثقّلة في المعنى، ولكنها خفّفت، وجعل الاسم فيها مضمرا والدليل على ذلك، أنّ الاسم يحسن فيها والتثقيل. ألا ترى أنّك تقول:
«أفلا يرون أنّه لا يرجع إليهم» ، وتقول: «أنّهم لا يقدرون على شيء» و «أنّه لا تكون فتنة» . وقال تعالى آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ [آل عمران: 41 ومريم: 10] نصب، لأن هذا ليس في معنى المثقّل، إنّما هو آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ كما تقول: (آيتك أن تكلّم) ، وأدخلت «لا» للمعنى الذي أريد من النفي. ولو رفعت هذا، جاز على معنى آيتك أنّك لا تكلّم «2» ، ولو نصب الاخر جاز على أن تجعلها «أن» الخفيفة التي تعمل في الأفعال «3» .
ومثل ذلك قوله تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) [الانشقاق] وقوله تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) [القيامة] . وقال إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الآية 230] وتقول:
«علمت أن لا تكرّمني» و «حسبت أن لا تكرمني» . فهذا مثل ما ذكرت لك.
فإنّما صار «علمت» و «استيقنت» ما بعده رفع لأنّه واجب. فلمّا كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده «أن» التي تعمل في الأفعال، لأنّ تلك إنّما تكون في غير الواجب، ألا ترى أنك تقول «أريد أن تأتيني» فلا يكون هذا إلّا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم، لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنّه. وأما «خشيت أن لا تكرمني» فهذا لم يقع.
ففي مثل هذا تعمل أن الخفيفة، ولو رفعته على أمر قد استقرّ عندك، وعرفته، كأنّك جرّبته، فكان لا يكرمك، فقلت: «خشيت أن لا تكرمني» أي: خشيت أنّك لا تكرمني جاز.
__________
(1) . أي إِلَّا.
(2) . في معاني القرآن في آية آل عمران 1: 213، والمشكل 1: 95 بلا نسبة، وفي البحر 2: 452 إلى ابن أبي عبلة، وفي الطّبري 1: 387 لم ينسب قراءة. وفي آية مريم في البحر 6: 176 إلى ابن أبي عبلة وزيد بن علي، وفي معاني القرآن 2: 162 لم ينسب قراءة.
(3) . النصب في آية آل عمران، في معاني القرآن 1: 213، والطّبري 6: 387، والمشكل 95 بلا نسبة. والنصب في آية مريم في البحر 6: 176 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 2: 162 بلا نسبة، ولا إشارة ما إلى أنه قراءة. [.....](1/203)
وزعم «1» يونس «2» ، أنّ ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان «كي» «3» ، وأنشدوا هذا البيت، فزعم أنّه سمعه مفتوحا [من الوافر وهو الشاهد الحادي بعد المائة] :
يؤامرني ربيعة كلّ يوم ... لأهلكه وأقتني الدّجاجا «4»
وزعم خلف «5» ، أنّها لغة لبني العنبر، وأنه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا [من الطويل وهو الشاهد الثاني بعد المائة] :
فقلت لكلبيّي قضاعة إنّما ... تخبّر تخبرتماني أهل فلج لأمنعا «6»
يريد «من أهل فلج» . وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أنّ أصل اللام الفتح، وإنما كسرت في الإضافة ليفرّق بينها وبين لام الابتداء. وزعم أبو عبيدة «7» أنّه سمع لام «لعلّ» مفتوحة في لغة من يجرّ بها ما بعدها في قول الشاعر «8» [من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المائة] :
لعلّ الله يمكنني عليها ... جهارا من زهير أو أسيد «9»
__________
(1) . في خزانة الأدب 4: 376 نقل هذا النص للاخفش من المسائل البصرية لأبي علي الفارسي، حتى نهاية البيت «لعلّ الله» مع تقديم وتأخير فيه.
(2) . يونس بن حبيب البصري، وقد مرت ترجمته فيما سبق.
(3) . انما تكلم على لام كي، إشارة إلى قوله تعالى في الآية [79] لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا.
(4) . في شرح الأبيات للفارقي 51 ب «تواعدني» و «لا هلكها» ، وفي الخزانة 4: 376 كذلك وبلا عزو فيهما، ونص الفارقي هو أنه نقل نص أبي علي في المسائل البصرية، وكذلك نص البغدادي في الخزانة، وكان نص أبي علي عند الفارقي «وأحفظ من كتاب أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش.» وعند البغدادي: قال أبو الحسن الأخفش.» .
(5) . هو أبو محرز خلف بن حيان النحوي المتوفّى في حدود ثمانين ومائة. انظر ترجمته في مراتب النحويين 46، وطبقات النحويين 161، ونزهة الألبّاء وإنباه الرواة 1: 348، وبغية الوعاة 242.
(6) . لم تفد المراجع والمصادر شيئا في القائل والقول.
(7) . هو ابو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. انظر ترجمته في اخبار النحويين البصريين 52 ومراتب النحويين 44 وطبقات النحويين 175 ونزهة الألباء 68 وإنباه الرواة 1: 276 وبغية الوعاة 295.
(8) . في الخزانة 4: 375، أنّه خالد بن جعفر بن كلاب العبسي. الأغاني 10: 12.
(9) . البيت في شرح الأبيات للفارقي 51 أما في الخزانة 4: 375 في العنوان فموافق في اللفظ لما رواه الأخفش، ولكن ورد في ص 377 ب «يقدرني» وفي الأغاني 10: 12 ب «يقردني» .(1/204)
يريد «لعلّ عبد الله» فهذه اللام مكسورة لأنها إضافة. وقد زعم انه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام «كي» .
وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد «كيما» وأنشد «1» [من الطويل وهو الشاهد الرابع بعد المائة] :
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجّى الفتى «2» كيما يضرّ وينفع
فهذا جعل «ما» اسما وجعل «يضرّ» و «ينفع» من صلته جعله اسما للفعل وأوقع «كي» عليه وجعل «كي» بمنزلة اللام. وقوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «3» وقوله أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) «4» فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة «ما» ويكون الذي بعد الفاء بدلا من «أن» التي قبلها. وأجوده أن تكسر «إن» وأن تجعل الفاء جواب المجازاة. وزعموا أنه يقولون «أخوك فوجد» ، «بل أخوك فجهد» ، يريدون «أخوك وجد» و «بل أخوك جهد» فيزيدون الفاء. وقد فسّر الحسن «5» حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزمر: 73] على حذف الواو. وقال: «معناها: قال لهم خزنتها» ، فالواو في هذا زائدة.
قال الشاعر «6» [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمّة حالم بخيال «7»
__________
(1) . هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقيل النابغة الذبياني، وقيل الجعدي، وقيل عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وقيل قيس بن الخطيم، وقيل عبد الملك بن عبد الله «ديوان عبد الله بن معاوية 59، وخزانة الأدب 3: 591، والمقاصد النحوية 3: 345 و 4: 379، وشرح شواهد ابن الناظم 216، وشرح شواهد المغني 173، والدرر اللوامع 2: 4، وهو في المراجع كلها مترجح بين نصب الفعلين ورفعهما وبين لفظ «يرجى» و «يراد» .
(2) . في الأصل: يرجى الفتي.
(3) . التوبة 9: 63. القراءة المشهورة: فَإِنْ.
(4) . الأنعام 6: 54: القراءة المشهورة: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ وفَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(5) . هو الحسن البصري، أحد كبار التابعين. [.....]
(6) . هو تميم بن أبيّ بن مقبل. ديوانه 259، واللسان «لمم» ، والخزانة 4: 420.
(7) . وهو في الديوان ب «كحلمة» ، وفي اللسان بكسر لام «لمة» ، وانظر الصحاح «لمم» .(1/205)
وقال «1» [من الكامل وهو الشاهد السادس بعد المائة] :
فإذا، وذلك ليس إلّا حينه ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل «2»
كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الآية 83] .
وقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [الآية 84] فرفع هذا، لأنّ كلّ ما كان من الفعل على «يفعل هو» و «تفعل أنت» و «أفعل أنا» و «نفعل نحن» ، فهو أبدا مرفوع، لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك، من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة. وليس شيء من ذلك هاهنا، وإنّما رفع لموقعه في موضع الأسماء. ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: «استحلفناهم لا يعبدون» أي: قلنا لهم: «والله لا تعبدون» ، وذلك أنها تقرأ (يعبدون) «3» وتَعْبُدُونَ «4» . وقال تعالى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) [الصافات] لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ [الصافات: 8] . فإن شئت جعلت (لا يسّمّعون) مبتدأ، وان شئت قلت: هو في معنى «أن لا يسّمّعوا» فلمّا حذفت «أن» ارتفع، كما تقول: «أتيتك تعطيني وتحسن إليّ وتنظر في حاجتي» ومثله «مره يعطيني» إن شئت جعلته على «فهو يعطيني» ، وإن شئت على «أن يعطيني» . فلما ألقيت «أن» ارتفع. قال الشاعر «5» [من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المائة] :
__________
(1) . هو أبو كبير الهذلي. ديوان الهذليين 2: 100، والصناعتين 443 والخزانة 4: 420. وهو كثير في إعراب القرآن للزجّاج 3: 889، وجاء في الأصل «وقوله» .
(2) . في الخزانة ورد مرتين في إحداهما ب «ذكره» و «لم أفعل» ، وفي التمام 248 بفتح ياء «يفعل» ، وفي الصناعتين ومجالس ثعلب 126 ب «ذكره» .
(3) . في المصاحف 57 إلى الأعمش وفي السبعة 162 إلى ابن كثير وحمزة والكسائي، وكذلك في التيسير 74 والجامع 2: 13 والبحر 1: 282، وفي الطّبري 2: 288 بلا نسبة، وفي معاني القرآن 1: 54 بلا نسبتها، قراءة.
(4) . في السبعة 162 إلى أبي عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، وفي التيسير 74 إلى غير ابن كثير أو حمزة والكسائي، وفي الجامع 2: 13 بالجزم إلى أبيّ وابن مسعود، وفي البحر 1: 282 مثل التيسير.
(5) . هو طرفة بن العبد البكري.(1/206)
ألا أيّهذا «1» الزّاجري أحضر الوغى «2» وأن أتبع اللّذّات هل أنت مخلدي «3» ف «أحضر» في معنى «أن أحضر» .
وقوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الآية 83] فجعله أمرا، كأنّه يقول:
وإحسانا بالوالدين» أي: «أحسنوا إحسانا» .
وقال تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الآية 83] فهو على احد وجهين: إمّا أن يكون يراد ب «الحسن» «الحسن» ، وكما تقول: «البخل» و «البخل» «4» ، وإمّا أن يكون جعل «الحسن» هو «الحسن» في التشبيه كما تقول: «إنّما أنت أمل وشرب» . قال الشاعر «5» [من الوافر وهو الشاهد الثامن بعد المائة] :
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع
«دلفت» : «قصدت» فجعل التحية ضربا. وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثير وقد جاءت في القرآن. وقد قرأها بعضهم (حسنا) «6» يريد «قولوا لهم حسنا» وقرأ بعضهم (قولوا للنّاس حسنى) «7» يؤنثها ولم ينوّنها، وهذا لا يكاد يكون، لأنّ «الحسنى» لا يتكلّم بها إلّا بالألف واللّام، كما لا يتكلّم بتذكيرها إلّا بالألف واللّام فلو قلت:
«جاءني أحسن وأطول» لم يحسن حتّى تقول: «جاءني الأحسن والأطول» فكذلك هذا، يقول: «جاءتني الحسنى
__________
(1) . في الأصل: أيها ذا.
(2) . في الأصل: الوغا.
(3) . هو أحد أبيات معلقته، وهو في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 452 ب «أن أشهد» ، وفي معاني القرآن 3:
265 ب «الزاجري وأن أشهد، وفي الديوان 31 بلفظ رواية الأخفش.
(4) . نقل هذا الرأي بعبارته عنه، في إعراب القرآن 1: 60، والمحتسب 2: 363، والجامع 2: 16.
(5) . هو عمرو بن معديكرب الزبيدي. ديوانه 130، وتحصيل عين الذهب 1: 365، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 429، ونوادر أبي زيد 149، وفي الخزانة 4: 53 إليه، وبعجز ثان إلى عنترة، وبعجز ثالث إلى الخنساء، وبعجز رابع إلى الأعرابي.
(6) . في الطّبري 2: 294 إلى عامة قراء الكوفة غير عاصم، وفي السبعة 162 إلى حمزة والكسائي، وفي الكشف 1:
250، والتيسير 74 والجامع 1: 16 وزاد في البحر 1: 284 ويعقوب، وفي حجة ابن خالويه 60 بلا نسبة.
(7) . في الطّبري 2: 294 إلى بعض القرّاء، وفي الشواذ بالإمالة للأخفش عن بعضهم 7، وفي البحر 1: 285 إلى أبيّ وطلحة بن مصرف. وقد نقلت هذه القراءة والآراء، في إعراب القرآن 1: 60 والمحتسب 2: 363 والجامع 2: 16. [.....](1/207)
والطّولى» . إلّا أنهم قد جعلوا أشياء من هذا أسماء نحو «دنيا» و «أولى» . قال الراجز «1» [وهو الشاهد التاسع بعد المائة] :
في سعي دنيا طالما قد مدّت «2»
ويقولون: «هي خيرة النساء» [ «هنّ خيرات النّساء» ] «3» لا يكادون يفردونه، وإفراده جائز.
وفي كتاب الله عز وجل فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) [الرحمن] وذلك أنّه لم يرد «أفعل» ، وإنما أراد تأنيث الخير، لأنّه لما وصف فقال: «فلان خير» ، أشبه الصفات، فأدخل الهاء للمؤنث «4» .
وقرأ: (تظّاهرون عليهم بالإثم والعدوان) [الآية 85] فجعلها من «تتظاهرون» ، وأدغم التاء في الظاء وبها يقرأ من ذكر في الحاشية «5» . والقراءة المشهورة التي بها نقرأ هي:
تَظاهَرُونَ «6» مخففة، بحذف التاء الاخرة، لأنّه زائدة، لغير معنى.
وقرئ (وإن يأتوكم أسرى) [الآية 85] «7» وقرئت أَسْرى «8» . وذلك لان
__________
(1) . هو العجاج. ديوانه 267، والخزانة 3: 508 و 509، والتمام 173، والمخصّص 15: 193.
(2) . في الديوان ب «هن» بدل في، وكذلك في الخزانة في الموضعين، وفي التمام والمخصص، وفي الديوان بضم الميم في (مدت) .
(3) . زيادة يقتضيها السياق.
(4) . نقل في الصحاح واللسان «خير» عنه هذا الرأي بعبارة مغايرة.
(5) . رسمت في المصحف بفتح للتّاء وتخفيف الظاء. أما تضعيف الظاء فقراءة في السبعة 163 إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 250 والتيسير 74 إلى غير الكوفيين، وفي البحر 1: 291 إلى غير عاصم وحمزة والكسائي من السبعة، وفي الجامع 2: 20 إلى أهل المدينة وأهل مكّة، وفي الطّبري 2: 308، وحجّة ابن خالويه 60 بلا نسبة.
(6) . في السبعة 163 إلى أبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي البحر 1: 291 إلى أبي حياة. أمّا فتح التاء وتخفيف الظاء ففي الكشف 1: 250 إلى الكوفيين، وكذلك في الجامع 2: 20، وعليها رسم المصحف كما أشرنا. وفي الأصل تظاهرون بضم التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء، ولا ينسجم رسمها مع ما بعدها من كلام.
(7) . رسم المصحف على القراءة الثانية بألف بعد السين. أمّا هذه القراءة فهي في السبعة 163، والكشف 1: 251، والتيسير 274: 21، والبحر 1: 291، إلى حمزة وفي الطّبري 2: 311، وحجّة ابن خالويه 61 بلا نسبة.
(8) . في السبعة 163 إلى أبي عمرو وابن عامر ونافع وعاصم والكسائي، وفي الكشف 1: 251 والتيسير 74 إلى غير حمزة، وفي القرطبي 2: 21 إلى الجماعة، وفي البحر 1: 291 إلى الجمهور، وفي الطّبري 2: 311 وحجة ابن خالويه 61 بلا نسبة.(1/208)
«أسير» «فعيل» وهو يشبه «مريض» لأنّ به عيبا كما بالمريض، وهذا «فعيل» مثله. وقد قالوا في جماعة «المريض» :
«مرضى» وقالوا «أسارى» ، فجعلوها مثل «سكارى» و «كسالى» ، لأنّ جمع «فعلان» الذي به علّة قد يشارك جمع «فعيل» وجمع «فعل» نحو: «حبط» و «حبطى» و «حباطى» «1» و «حبج» و «حبجى» و «حباجى» «2» . وقد قالوا أَسْرى كما قالوا سُكارى «3» .
وقرأ بعضهم (تفدوهم) [الآية 85] «4» من «تفدي» وبعضهم تُفادُوهُمْ «5» من «فادى يفادي» وبها نقرأ، وكلّ ذلك صواب.
وقال تعالى فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ [الآية 85] ، وقال ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:
24 و 33] ووَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [القمر: 50] رفع، لأن كل ما تحسن فيه الباء من خبر «ما» ، فهو رفع لأن «ما» لا تشبّه في ذلك الموضع بالفعل، وإنّما تشبّه بالفعل، في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى «ليس» ، لا يشركها معه شيء.
وذلك قول الله عز وجل ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] . وتميم ترفعه، لأنّه ليس من لغتهم أن يشبهوا «ما» بالفعل.
وأما قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 83] ثم قال وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [الآية 83] ثم قال ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [الآية 83] فلأنه جلّ جلاله خاطبهم من بعد ما حدّث عنهم، وذا في الكلام والشعر كثير.
__________
(1) . في الأصل بكسر الفاء.
(2) . في الأصل بكسر الفاء.
(3) . في الأصل بضم الفاء في كلتيهما، ولا مفاد لذلك الا التكرار، وقد أشار إلى هذا مكي في المشكل 1: 103 على انه وجه أجازه أبو إسحاق ومنعه أبو حاتم، وفي الإملاء 1: 49 انها قراءة، وبلا نسبة وكذلك في الجامع 2: 21. وعدّ أبو إسحاق القراءتين بالألف بضم الهمزة وفتحها على أنّهما جمع الجمع «لأسرى» اللسان «أسر» .
(4) . رسم المصحف على القراءة الثانية بعد الفاء. أما هذه، ففي المصاحف 57، ما يوحي أنها إلى الأعمش، وفي السبعة 163 إلى ابن كثير وأبي عمرو وحمزة، وفي الكشف 2: 251 إلى غير نافع وعاصم والكسائي، وكذلك في التيسير 74 والبحر 1: 291، وفي الجامع 2: 21 أبدل بعاصم حمزة، وفي الطّبري 2: 311 وحجّة ابن خالويه 61 بلا نسبة.
(5) . في السبعة 163 والكشف 1: 251 والتيسير 74 والبحر 1: 291 إلى نافع وعاصم والكسائي، وفي الجامع 2:
21 أبدل بعاصم حمزة، وفي الطّبري 2: 311 وحجّة ابن خالويه 61 بلا نسبة.(1/209)
قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد العاشر بعد المائة] :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت «2»
وإنّما يريدون «تقلّيت» . وقال عنترة [من الكامل وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائة] :
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم «3»
إنّما أراد «فأصبحت ابنة مخرم عسرا عليّ طلابها» . وجاز أن يجعل الكلام، كأنه خاطبها، لأنّه حين قال: «شطّت مزار العاشقين» ، كأنه قال: «شططت مزار العاشقين» لأنه إيّاها يريد بهذا الكلام. ومثله ممّا يخرج من أوله قوله «4» [من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائة] :
إنّ تميما خلقت ملموما فأراد القبيلة بقوله: «خلقت» ، ثمّ قال «ملموما» على الحي أو الرجل، ولذلك قال:
مثل الصّفا لا تشتكي الكلوما ثم قال:
قوما «5» ترى واحدهم صهميما فجاء بالجماعة، لأنّه أراد القبيلة أو الحيّ ثم قال:
لا راحم «6» النّاس ولا مرحوما وقال الشاعر «7» [من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر بعد المائة] :
أقول له «8» والرّمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا إنّني أنا ذلك
و «تبيّن خفافا» ، يريد «أنا هو» . وفي
__________
(1) . هو كثير عزّة. [.....]
(2) . ديوانه 101. اللسان «قلا» وقيل هو جميل بن معمر «معاني القرآن 1: 441» .
(3) . ديوانه 190 وهو من أبيات معلقته، وانظر مجاز القرآن 1: 252 و 273.
(4) . هو المخيّس بن أرطاة الأعرجي، مجاز القرآن 2: 71، والجمهرة 2: 373 باب ما جاء على «فعيل» ، والصحاح «صهم» ، واللسان «صهم» ، وقيل بل هو رؤبة بن العجاج. ديوانه 185، واللسان «صهم» .
(5) . في المخصص 3: 57 ب «قوم» .
(6) . في الأصل «زاحم» بالزّاي، وفي المخصّص كالسابق ب «يرحم» بدل «راحم.
(7) . هو خفاف بن ندبة السّلميّ. ديوانه 64، ومجاز القرآن 1: 29، والدرر 1: 51.
(8) . في الدرر ب «وقلت له» وكذلك في الخزانة.(1/210)
كتاب الله عز وجل حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة، لأنّ ذلك يدلّ على المعنى. وقال الأسود «1» [من البسيط وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائة] :
وجفنة كإزاء الحوض مترعة ... ترى جوانبها بالشّحم مفتونا
فيكون على أنه حمله على المعنى، أي: ترى كلّ جانب منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام. وقوله «يأطر متنه» . يثني متنه.
وكذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة] ثم قال تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] لأنّ الذي أخبر عنه هو الذي خاطب. قال رؤبة «2» [من الرجز وهو الشاهد الخامس عشر بعد المائة] :
الحمد لله الأعزّ الأجلل ... أنت مليك الناس ربّا فاقبل «3»
وقال زهير «4» [من الوافر وهو الشاهد السادس عشر بعد المائة] :
فإنّي لو ألاقيك اجتهدنا ... وكان لكلّ منكرة كفاء «5»
فأبرئ موضحات الرّأس منه ... وقد يشفي من الجرب الهناء «6»
وقال الله تبارك وتعالى ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
__________
(1) . ليس البيت في ديوان الأسود بن يعفر، ولا فيما ذكر في الأغاني من شعر للأساود كلهم. ولا أفادت المراجع والمصادر شيئا عن القائل والقول.
(2) . هو رؤبة بن العجاج الرجاز بن الرجاز المعروف توفي سنة 145 أو 147 هـ، ترجمته في الأغاني 21: 84، والشعر والشعراء 2: 594 وطبقات الشعراء 2: 761.
(3) . ليس في ديوان رؤبة، وإنما يوجد في الطرائف الأدبية 57، مطلع أرجوزة لأبي النجم العجلي، أوّلها:
الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل
والمصراع الأوّل معزوّ إلى أبي النجم منفردا، أو مع هذا المصراع، أو مع آخر هو: الواسع الفضل الوهوب المجزل، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 302.
(4) . هو زهير بن أبي سلمى أحد شعراء المعلّقات، الأغاني 2: 147 و 9: 146، والشعر والشعراء 137، وطبقات الشعراء 63، وخزانة الأدب 1: 375.
(5) . في الديوان 81 ب «لو لقيتك واتجهنا» و «لكان» .
(6) . في الديوان 81 فأبرئ، وفي طبعة التوفيق الادبية لشرح الأعلم ص 76 ب «لو لقيتك فاجتمعنا وكان لكلّ مندية فابرئ» والمندية الداهية التي تندي صاحبها عرقا لشدتها.(1/211)
[الذاريات] فذكّر بعد التأنيث كأنه أراد:
هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون.
ومثله فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام: 78] فيكون هذا على: الذي أرى ربّي أي:
هذا الشيء ربّي «1» ، وهذا يشبه قول بعض المفسّرين، في قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الآية 187] قال: إنّما دخلت «إلى» لأن معنى «الرّفث» و «الإفضاء» واحد، فكأنه قال: الإفضاء إلى نسائكم» ، وإنّما يقال: «رفث بامرأته» ولا يقال:
«إلى امرأته» وذا عندي كنحو ما يجوز من «الباء» في مكان «إلى» في قوله تعالى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] وإنّما هو «أحسن اليّ» فحذف «إلى» ووضع «الباء» مكانها «2» وفي مكان «على» في قوله تعالى فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران: 153] إنّما هو «غمّا على غمّ» وقوله تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ «3» أي: «على قنطار» كما تقول: «مررت به» و «مررت عليه» كما قال الشاعر «4» - وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب [من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون] :
إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها «5»
يريد «عنّي» . وذا نحو وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [الآية 14] لأنك تقول:
«خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا» و «خلوت به» . وإن شئت جعلتها في معنى قوله تعالى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52 والصف: 14] أي: «مع الله» ، وكما قال وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: 77] أي: «على القوم» «6» .
__________
(1) . في الجامع 7: 27 و 28 نقل هذا الرأي منسوبا مع تغيير في اللفظ وإشراك في النسبة إلى الكسائي، وفي إعراب القرآن 1: 322 كذلك، وفي البحر 4: 167 كذلك، مع عدم إشراك الكسائي. [.....]
(2) . ولم تذكر كتب النحو في معاني حروف المباني، الّا فيام الباء مقام إلى في قوله تعالى وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] المغني حرف الباء المغني الثالث عشر. وفي الأصل «إلى مكان الباء» وقد صححت العبارة فنسقت على العبارة التي بعدها. انظر الخبر الداني 101.
(3) . آل عمران 3: 75 في الأصل «بدينار» في الموضعين، وهو اللفظ الذي عليه الجملة الثانية في الآية الكريمة.
(4) . هو القحيف العامري. مجاز القرآن 2: 84، والكامل 2: 538 3: 824، وأدب الكاتب 365.
(5) . في الأصل لعمرو بالواو وفي المجاز «لعمر أبيك» .
(6) . سبق للاخفش في الكلام على هذه الآية، أن أورد هذه الأمثلة نفسها، وهذه الشواهد تقريبا.(1/212)
وقال ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ [الآية 85] وفي موضع آخر ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [النساء: 109] كبعض ما ذكرنا، وهو كثير في كلام العرب، وردّد التنبيه توكيدا. وتقول: «ها أنا هذا» و «ها أنت هذا فتجعل «هذا» للذي يخاطب، وتقول: «هذا أنت» . وقد جاء أشدّ من ذا، قال الله عز وجل ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] والعصبة هي تنوء بالمفاتيح. قال «1» [وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة من مجزوء الوافر] :
تنوء بها فتثقلها ... عجيزتها.
يريد: «تنوء بعجيزتها، أي: لا تقوم إلّا جهدا بعد جهد» قال الشاعر «2» [من البسيط وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائة] :
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوآتهم هجر «3»
وهو يريد أن السنوات بلغت هجرا، و «هجر» رفع لأنّ القصيدة مرفوعة ومثل ذا قول الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائة] :
وتلحق خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر «5»
والضياطرة، هم يشقون بالرماح.
و «الضياطرة» هم العظام وواحدهم «ضيطار» مثل «بيطار» ومثل قول الشاعر «6» [من الطويل وهو الشاهد العشرون بعد المائة] :
لقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعل بذي الفقارة عاقل «7»
__________
(1) . في الأصل رسم القول، بحيث يشير ضمنا إلى أنه شعر ولم تفد المراجع والمصادر شيئا فيه، إنما ورد في مجاز القرآن 2: 110، بحيث لا يميّزه من النثر مائز مّا، وسيعود الأخفش إلى الاستشهاد بهذا النص فيما بعد.
(2) . هو الأخطل غياث بن غوث التغلبي. ديوانه 110، ومجاز القرآن 2: 39، والكامل 1: 322.
(3) . في الديوان ب «على العيارات» بدل «مثل القنافذ» و «حدثت» بدل «بلغت» ، وفي الكامل «نجران» ، والمغني 2:
699 كذلك.
(4) . هو خداش بن زهير. الكامل 2: 406، والصحاح «ضطر» واللسان «ضطر» .
(5) . البيت فيما سبق من المظان، وفي مجاز القرآن 2: 110، والصاحبي 203، والمقاييس 2: 102، والمخصص 2: 77، وأضداد اللغوي 722 ب «تركيب» بدل تلحق، واللسان ب «نركب خيلا» وفي مجاز القرآن ب «تركب» .
(6) . هو النابغة الذبياني. ديوانه 68، ومجاز القرآن 1: 65 و 139.
(7) . في الأصل عافل بالفاء الموحدة، وفي الديوان ب «وقد» و «ذي المطارة عاقل» والبيت في مجاز القرآن 1: 65 و 139 ب «وقد» و «القفارة عاقل» ، ومعاني القرآن 1: 99 ب «ذي المطارة عاقل» ، وفي 3: 272 ب «في المكاره عاقل» ، وفي معجم البلدان» «مطارة» ب «وقد» و «من ذي مطارة عاقل» .(1/213)
يريد: حتّى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي.
وقال تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (89) وتفسيره: «فقليلا يؤمنون» و «ما» زائدة كما قال تجلى شأنه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] يقول:
«فبرحمة من الله» وقال إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات] أي:
لحقّ مثل أنّكم تنطقون، وزيادة «ما» في القرآن والكلام، نحو ذا كثير.
قال «1» [من المنسرح وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائة] :
لو بأبانين جاء يخطبها ... خضّب ما أنف خاطب بدم «2»
أي: خضّب بدم أنف خاطب.
وقال تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الآية 89] فان قيل فأين جواب وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ [الآية 89] قلت: «جوابه في القرآن كثير» ، واستغني عنه في هذا الموضع إذ عرف معناه «3» . كذلك جميع الكلام إذا طال تجيء فيه أشياء ليس لها أجوبة في ذلك الموضع ويكون المعنى مستغنى به، نحو قول الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] فيذكرون ان تفسيره:
«لو سيّرت الجبال بقرآن غير هذا لكان هذا القرآن ستسيّر به الجبال» فاستغني عن اللّفظ بالجواب، إذ عرف المعنى.
وقال تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران:
188] ، ولم يجئ ل «تحسبنّ» الأول بجواب، وترك للاستغناء بما في القرآن
__________
(1) . هو المهلهل بن ربيعة التغلبي، الكامل 3: 816، والجمهرة 3: 211، والاشتقاق 77، واللسان «ابن» ، المغني 1: 312، وشرح شواهد المغني 247، ومعجم البلدان «أبانان» .
(2) . في اللسان ب «رمل» ، وفي المغني وشرح شواهده ب «زمل» ، وفي سائر المراجع الأخرى ب «ضرج» بدل «خضب» ، وأعاد ذكره بين الأبيات في شرح شواهد المغني، ب «ضرج» أيضا» . [.....]
(3) . نقل عنه هذا في إعراب القرآن 1: 63، والجامع 2: 27، والبحر 1: 303.(1/214)
من الأجوبة. وقال تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [آل عمران: 180] معناه «لا يحسبنّه خيرا لهم» وحذف ذلك الكلام، وكان فيما بقي دليل على المعنى. ومثله وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) [يس] ثمّ قال تعالى وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [يس: 46] من قبل أن يجيء بقوله «فعلوا كذا وكذا» لأنّ ذلك في القرآن كثير، استغني به. وكان في قوله جل شأنه وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ «1» دليل على أنّهم أعرضوا فاستغني بهذا وكذلك جميع ما جاز فيه نحو هذا. وقال تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) [الإسراء] ولعلّ معنى قوله تعالى وَلِيُتَبِّرُوا على معنى: «خلّيناهم وإيّاكم لم نمنعكم منهم بذنوبكم» .
وقال لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، ولم يذكر أنّه خلّاهم وإيّاهم على وجه الترك في حال الابتلاء بما أسلفوا ثمّ لم يمنعهم من أعدائهم أن يسلّطوا عليهم بظلمهم.
وقال وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الأنعام: 93] فليس لهذا جواب.
وقال تعالى وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: 165] فجواب هذا إنّما هو في المعنى، وهذا كثير «2» .
وسنفسّر كل ما مررنا به إن شاء الله.
وزعموا أنّ هذا البيت ليس له جواب [من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائة] :
ودويّة قفر تمشّى نعامها ... كمشي النّصارى في خفاف الأرندج «3»
يريد «وربّ دويّة» ثمّ لم يأت له بجواب. وقال «4» [من البسيط وهو
__________
(1) . يس 36: 46، والأنعام 6: 4 أيضا.
(2) . نقل عنه هذا الرأي في إعراب القرآن 1: 86 و 87، والجامع 2: 205، والبحر 1: 472.
(3) . في الأصل: يمشي. البيت للشمّاخ بن ضرار الذبياني، وهو في ديوانه 83 ب «داوية» و «تمشّى نعاجها» و «اليرندج» ، وفي الكتاب 1: 454 ب «تمشّي» ، ورواه الأصمعي في شرح ديوان العجاج 353 ب «تمشّي نعاجها» و «اليرندج» وفي المقاييس 2: 262 ب «اليرندج» وبلا عزو. وفي الصحاح «دوى» كما في رواية الأخفش بلا عزو. وفي اللسان «ردج» معزوا ب «اليرندج» وفي «دوا» معزوا أيضا برواية الأخفش.
(4) . هو عبد مناف بن ربيع الهذلي. ديوان الهذليين 2: 42، ومجاز القرآن 1: 37 و 331، و 2: 192 والصحاح، «قتد» و «شرد» و «جمل» و «سلك» ، والجمهرة 2: 9 ب «أسلكوهم» و 110 و 3: 45، والإنصاف 2: 245، والتمام بلا عزو 55، وتاج العروس «شرد» و «قتد» ، ومختار الصحاح «عز» ، والصّاحبي بلا عزو «39» ، والاشتقاق 246 بلا عزو وادب الكاتب 333، والمخصّص بلا عزو 16: 101، وتفرّد الأزهري في التهذيب 10: 63 إلى ابن أحمر، وبلفظ «سلكوهم» ، بلا ألف، والأنباري في شرح القصائد السبع 56 بلفظ «أسلموهم» ، وورد في سائر المصادر الأخرى ب «أسلكوهم» ، الّا ما نصصت عليه، وفيها جميعا ب «تطرد» أمّا في الأصل ف «طرد» .(1/215)
الشاهد الثالث والعشرون بعد المائة] :
حتّى إذا أسلكوه في قتائدة ... شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا
فهذا ليس له جواب إلّا في المعنى.
وزعم بعضهم أنّ هذا البيت [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] :
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا كلمّة حالم بخيال
قالوا: الواو فيه ليست بزائدة ولكن الخبر مضمر.
وقال تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [الآية 90] ف «ما» وحدها اسم، وأَنْ يَكْفُرُوا تفسير له نحو: «نعم رجلا زيد» «1» وأَنْ يُنَزِّلَ بدل من بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.
وقال تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [الآية 91] بنصب مُصَدِّقاً لأنه خبر معرفة.
وتَقْتُلُونَ في معنى «قتلتم» . كما قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائة] :
ولقد أمرّ «3» على اللّئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
__________
(1) . في إعراب القرآن 1: 64 نقل عنه شاهدا غير هذا، وفي الجامع 2: 28 كذلك، واستنتج القرطبي ومكّي في المشكل 1: 104 من المثال أنّ «ما» في موضع نصب على التمييز عند الأول، والتفسير عند الثاني، وكذلك البحر 1: 304، 305، والإملاء 1: 51.
(2) . هو رجل مولّد من بني سلول. الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 416، والمقاصد النحوية 4: 58، شواهد المغني 107، والخزانة 1: 173، وشرح شواهد ابن الناظم 303، وقيل هو شمر بن عمرو الحنفي، الأصمعيات 126.
(3) . في الإنصاف 1: 65 بلفظ «مررت» والأصمعيات 126، وفي شرح شواهد ابن الناظم 303- «ثمّ أقول» ، وفي المقاصد 4: 58 ب «واعف ثمّ أقول ما» ، وفي الصّاحبي 219 ب «عنه» بدل «ثمّت» ، وفي الكامل 3: 806 ب «فأجوز ثمّ أقول» ، وفي شرح ابن الناظم 202 ب «فاعف ثمّ أقول ما» . ويمكن النظر في الخصائص 3: 330 و 332، والكشاف 1: 16، وشرح ابن عقيل 1: 157، وأوضح المسالك، والصحاح «ثمم» ، واللسان «ثمم» ، والمغني 1: 102، وشرح سقط الزند للبطليوسي 4: 1659 بالمخصّص 16: 116 والتمام 28 و 67.(1/216)
يريد: «لقد مررت» بقوله «أمرّ» .
وقوله تعالى وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [الآية 96] فهو نحو «ما زيد بمزحزحه أن يعمّر» و «ما زيد بضارّه أن يقوم» ف «أن يعمّر في موضع رفع وقد حسنت الباء كما تقول: «ما عبد الله بملازمه زيد» .
وقوله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [الآية 97] ، فمن العرب من يقول: (لجبرئيل) فيهمزون ولا يهمزون، وكذلك (إسرائيل) «1» منهم من يهمز ومنهم من لا يهمز، ويقولون (ميكائيل) «2» فيهمزون ولا يهمزون ويقولون وَمِيكالَ كما قالوا وَجِبْرِيلَ. وقال بعضهم (جبرعل) ولا أعلم وجهه إلّا أني قد سمعت (إسرائل) وقال بعضهم (إسراييل) فأمال الراء»
. وقال أبو
__________
(1) . وردت في ثلاثة وأربعين موضعا من الكتاب العزيز أوّلها البقرة 2: 40، وآخرها الصف 61: 14، المعجم المفهرس 33» ، وفي الجامع 1: 331 عدم الهمز إلى الأعمش وعيسى، وزاد في البحر 1: 171 أبا جعفر، وفي البحر 1: 171 الهمز إلى الجمهور.
(2) . من الآية القادمة.
(3) . في «اللهجات» 243- 267، ولهجة تميم 85، والقراآت القرآنية هـ 101، أنّ الهمزة عامّة لهجة تميم، ونراه عامّة لهجة الحجاز «وفي اللهجات 247» أنّ جبريل لغة الحجاز وجبرئيل لغة تميم، وكذلك في الطّبري 2:
388 والجامع 2: 37 والبحر 1: 318، وفي الطّبري 2: 388 «ميكائيل» بهمزة وياء لغة تميم وقيس وبعض نجد، وعليها قرّاء أهل الكوفة وفي السبعة 166 و 167 إلى ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبي بكر وحمزة والكسائي وفي الكشف 1: 255 والتيسير 75 إلى غير نافع وأبي حفص وعمرو وفي الجامع 2: 38 إلى حمزة وابن كثير، وفي البحر 1: 318 كما في السبعة مع إسقاط ابن كثير وعاصم، واضافة قنبل والبزّي. أما «ميكاييل» بياءين فهي في الطّبري 2: 389 لغة لبعض العرب، ولم يشر إلى أنّها قراءة، وفي المحتسب 97 والبحر 1: 318 إلى الأعمش، وفي الجامع 2: 38 إلى نافع وابن كثير وعن الأعمش باختلاف. أما «ميكال» فهي في الطّبري 2:
388، والجامع 2: 318، لغة أهل الحجاز وهي في الطّبري قراءة أهل المدينة والبصرة، وفي الكشف 1: 255 والتيسير 75 والبحر 1: 318 إلى أبي عمرو وحفص، وفي السبعة 166 إلى أبي عمرو وعاصم وزاد في الجامع انها عن عاصم وعن ابن كثير. أمّا إمالة الراء من «إسرييل» فهي قراءة حمزة والكسائي. الكشف 1: 178 وهي كما في «لهجة تميم 140» لهجة تميم. وفصّل ذلك في الكتاب 2: 259 و 260، واللهجات العربية 203، وما بعدها ان الإمالة لهجة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس، وقد أوردها ابو حيان في البحر 1: 171 ولم ينسبها. أما «جبرعل» بالعين فهي من العنعنة وقد خصّت بها تميم وقيس وأسد وكلاب بن عامر بن صعصعة، كما في اللهجات العربية 283، وأضاف الفرّاء «ومن جاورهم» ، لهجة تميم 90، وفي الطّبري 2: 388 ساق لفظ «جبرعيل» و «ميكاعيل» مثالا لوزن اللفظ «جبرئيل» و «ميكائيل» ولم ينسبهما قراءة. أما «اسرائل» فكسر الهمزة كما في البحر 1: 171 قراءة ورش، ولم يشر إلى حذف الياء. وهي لهجة قيس وأسد وهوازن، كما في «اللهجات 549 و 554» .(1/217)
الحسن «1» : في «جبريل» «ست لغات: جبراييل «2» وجبرئيل «3» وجبرئل «4» جبراعيل جبرعيل جبرعل وجبريل «5» وجبريل «6» فعليل فعليل وجبرائل «7» جبراعل.
وقال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) فأظهر الاسم وقد ذكره في أوّل الكلام، قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائة] :
ليت الغراب غداة ينعب دائبا ... كان الغراب مقطّع الأوداج «8»
وقال تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً [الآية 100] فهذه واو تجعل مع حرف الاستفهام، وهي مثل الفاء التي في قوله: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ [الآية 87] . فهذا في
__________
(1) . هو المؤلّف أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش.
(2) . في التكملة والتاج «جبر» .
(3) . في الصحاح والتكملة واللسان والتاج «جبر» ، واللّسان أيضا «جبر» ، وهي قراءة بلا نسبة في حجّة ابن خالويه 62 والكشاف 1: 169، وفي السبعة 167 قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وأسقط في الكشف 1: 254 عاصما والتيسير 75 كذلك، وفي الجامع 2: 37 قراءة أهل الكوفة، وهي لغة تميم وقيس. [.....]
(4) . في الصحاح والتكملة «وفيها بتضعيف اللام» ، واللسان والتاج «جبر» ، وفي الكشاف 1: 169، وباختلاف الهمز في حجّة ابن خالويه، قراءة بلا نسبة. وفي السبعة 166، وقراءة عاصم في رواية، وفي الكشف 1: 254 إلى أبي بكر وفي التيسير 75 كذلك وفي الجامع 2: 37 كذلك عن عاصم.
(5) . في التكملة والتاج «جبر» ، وفي الكشاف 1: 169، وحجّة ابن خالويه 62، قراءة بلا نسبة وفي السبعة 1: 166 إلى ابن كثير، والكشف 1: 254، والتيسير 75، وكذلك وزاد الجامع 2: 37 الحسن.
(6) . في الصحاح واللسان والتاج «جبر» ، واللسان أيضا «جبر» ، وفي الكشّاف 1: 169 وحجّة ابن خالويه 62 قراءة بلا نسبة، والكشف 1: 254 و 255 والتيسير 75 إلى غير ابن كثير وأبي بكر وحمزة والكسائي، وفي الجامع 2: 37 لغة أهل الحجاز.
(7) . في التكملة، وفي التاج «جبر» وفيه بلا تضعيف. وفي الكشاف 1: 169 قراءة بلا تضعيف. وفي الكشّاف 1: 169 قراءة بلا تضعيف وبلا نسبة، وفي الأصل «جبرعل» بلا ألف.
(8) . لم تفد المراجع والمصادر شيئا في هذا الشاهد، سوى أنّه مستشهد به لهذا المعنى، في الأمالي الشّجريّة، بلا عزو 1: 243.(1/218)
القرآن والكلام كثير، وهما زائدتان في هذا الوجه «1» . وهي مثل الفاء، التي في قولك: «أفا لله لتصنعنّ كذا وكذا» وقولك للرجل: «أفلا تقوم» . وإن شئت، جعلت الفاء والواو، هاهنا، حرف عطف.
وقوله تعالى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ [الآية 102] ف هارُوتَ ومارُوتَ معطوفان على الْمَلَكَيْنِ، وبدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان وموضعهما جر. و «بابل» لم ينصرف لتأنيثه «2» ، وذلك أن اسم كل مؤنث، على حرفين أو ثلاثة، أوسطها ساكن، فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنّث فهو لا ينصرف ما دام اسما للمؤنّث.
وقال تعالى حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما [الآية 102] فليس قوله فَيَتَعَلَّمُونَ جوابا لقوله فَلا تَكْفُرْ [الآية 102] ، إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [الآية 102] .
وقال يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [الآية 102] لأنّ كلّ واحد منهما زوج، فالمرأة زوج والرجل زوج. قال تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] وقال مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:
40 والمؤمنون: 27] . وقد يقال أيضا «هما زوج» للاثنين، كما يقول: «هما سواء» و: «هما سيّان» «3» . [والزوج أيضا:
النمط يطرح على الهودج] «4» . قال الشاعر «5» [من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة] :
من كلّ محفوف يظلّ عصيّه ... زوج عليه كلّة وقرامها
__________
(1) . نقل رأيه في زيادة الواو في اعراب القرآن 1: 68، والمشكل 1: 105، والجامع 2: 39، والبحر 1: 323، والبيان 1: 13.
(2) . نقله في الصحاح «بيل» ، وعبارته قال الأخفش: «لا ينصرف لتأنيثه وذلك أنّ اسم كلّ شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف فإنه لا ينصرف في المعرفة» .
(3) . في الصحاح «زوج» ويقال: «هما زوجان» و «هما زوج» كما يقال «هما سيان» و «هما سواء» .
(4) . زيادة يقتضيها السياق، مستفادة من الجمهرة 2: 92، والصحاح «زوج» ، واللسان «زوج» .
(5) . هو لبيد بن ربيعة العامري. والبيت من معلّقته في ديوانه 300، وشرح المعلّقات السبع 112، وشرح القصائد العشر 138.(1/219)
وقد قالوا: «الزوجة» . قال الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة] :
زوجة أشمط مرهوب بوادره ... قد صار «2» في رأسه التخويص والنّزع «3»
وقال تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [الآية 102] فهذه لام الابتداء تدخل بعد العلم وما أشبهه ويبتدأ بعدها، تقول:
«لقد علمت لزيد خير منك» قال تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) [ص] وقال لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا [يوسف: 8] .
وقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [الآية 103] ، فليس لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا جواب في اللفظ، ولكنّه في المعنى يريد «لأثيبوا» فقوله لَمَثُوبَةٌ يدل على «لأثيبوا» فاستغني به عن الجواب «4» . وقوله لَمَثُوبَةٌ هذه اللام للابتداء كما فسرت لك.
وقال تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ [الآية 102] ثم قال لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) يعني بالأوّلين الشياطين، لأنّهم قد علموا ولَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني الانس «5» .
وكان في قوله سبحانه لَمَثُوبَةٌ دليل على «أثيبوا» فاستغني به عن الجواب.
وقال تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [الآية 105] أي: «ولا من المشركين» لا يودّون أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ [الآية 105] .
وقال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [الآية
__________
(1) . هو الأخطل غياث بن غوث. الديوان 69، والتهذيب 7: 475 واللسان «خوص» .
(2) . في الديوان «كان» ، وفي التهذيب واللسان كذلك، وفي الجمهرة 2: 228 شاع.
(3) . في الجامع 1: 240، عن الأصمعي أنّه: لا تكاد العرب تقول زوجة، وفي المذكّر والمؤنّث للفرّاء 95 أن التذكير للرجل والمرأة قول أهل الحجاز، وأنّ أهل نجد يلحقون الهاء فيقولون «زوجة» ، وهو أكثر من زوج، «اللهجات العربية 503 كذلك» .
(4) . نقل عنه هذا الرأي في المشكل 1: 108، وإعراب القرآن 1: 69، والجامع 2: 56، والبحر 1: 335. [.....]
(5) . نقل عنه هذا الرأي في الجامع 3: 56.(1/220)
106] وقرأ بعضهم (ننسأها) «1» أي نؤخّرها، وهو مثل إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] لأنّه تأخير.
«النسيئة» و «النسيء» أصله واحد من «أنسأت» ، إلّا أنّك تقول: «أنسأت الشيء أي: أخّرته ومصدره: النسيء.
و: «أنسأتك الدّين» أي: جعلتك تؤخّره. كأنه قال: «أنسأتك» ، ف «نسأت» «2» و «النسيء» ، أنّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر. وقرأ بعضهم (أو ننسها) «3» كل ذلك صواب. وجزمه بالمجازاة. والنسيء في الشهر:
التأخير.
وقال تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ [الآية 108] ومن خفّف قال: (سيل) «4» ، فإن قيل: كيف جعلتها بين بين، وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة والياء الساكنة لا تكون بعد ضمّة، والسين مضمومة؟ قلت أمّا في «فعل» فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة لأنهم قد قالوا «قيل» و «بيع» وقد تكون الياء في بعض «فعل» واوا خالصة لانضمام ما قبلها وهي معه في حرف واحد كما تقول: «لم توطؤ الدابّة» وكما تقول: «قد رؤس فلان» «5» .
__________
(1) . في الطّبري 2: 477 قراءة جماعة من الصحابة والتابعين، وجماعة من قرّاء الكوفيين والبصريين، وخصّ عبيد بن عمير، وأنّه هو وابن أبي نجيح ومجاهد وعطية تأوّلوا بها. وفي السبعة 168 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وفي الكشف 1: 258 و 259 زاد عمر وابن عبّاس وعطاء ومجاهدا وأبيّ بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وعطاء بن أبي رباح وابن محيصن، وفي الجامع 2: 67 كذلك، وفي البحر 1: 343 أسقط أبيّ بن كعب وابن محيصن، وأضاف ابن كثير وأبا عمرو من السبعة، وفي التيسير 76 إلى ابن كثير وأبي عمرو.
(2) . في الصحاح «نسأ» قال الأخفش: أنسأته الدّين: إذا جعلته له مؤخرا ونسأت عنه دينه، إذا أخّرته نساء، قال:
وذلك النّساء في العمر ممدود. ومنه قولهم «من سرّه النّساء ولا نساء، فليخفّف الرّداء وليباكر الغداء وليقلّ غشيان النّساء» .
(3) . في البحر 1: 343 أنّها قراءة طائفة «ولم يعيّن أسماء هم» ، وأنّ أبا عبيد البكري وهم في نسبتها إلى سعد بن أبي وقاص، ووهم ابن عطية أيضا في ذلك.
(4) . في السبعة 169: أنّ قراءة ابن عامر مهموزة من غير إشباع، وفي الشواذ 9 أن اختلاس الضمة من غير همزة إلى ابن عامر وفي الجامع 2: 70 أنّ كسر السين من غير همز للحسن وفي البحر 1: 346، أنّ الجمهور قرأ (سيل) «ولم يشكل» ، وقرأ الحسن وأبو السمال بكسر السين وياء، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري بإشمام السين وياء، وقرأ بعض القرّاء بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين. وفي الإملاء كان قراءة (سيل) «بلا شكل» على لغة من قال: أسلت بغير همزة، مثل خفت تخاف، والياء منقلبة عن واو، لقولهم سوال وساولته، ويقرأ (سيل) بجعل الهمزة بين بين، أي بين الهمزة وبين الياء.
(5) . هي لغة قيس وعقيل ومن جاورهم، وعامّة بني أسد. اللهجات 452.(1/221)
وقال تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [الآية 111] ، فزعموا أن «الهود» : جماعة «الهائد» . و «الهائد» :
التائب الراجع الى الحقّ. وقال تعالى في مكان آخر وَقالُوا كُونُوا هُوداً [الآية 135] أي: كونوا راجعين الى الحق، «هائد» و «هوّد» مثل «ناقه» و «نقّه» ، و «عائد» و «عوّد» ، و «حائل» و «حوّل» ، و «بازل» و «بزّل» «1» وجعل مَنْ كانَ واحدا لأنّ لفظ «من» واحد وجمع «2» في قوله هُوداً أَوْ نَصارى. وفي هذا الوجه تقول: «من كان كان صاحبك» . قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الآية 114] إنّما هو «من أن يذكر فيها اسمه» ، ولكنّ حروف الجرّ تحذف مع «أن» كثيرا ويعمل ما قبلها فيها، حتى تكون في موضع نصب، أو تكون أَنْ يُذْكَرَ بدلا من «المساجد» يريدون: «من أظلم ممّن منع أن يذكر» .
وقال تعالى وَسَعى فِي خَرابِها [الآية 114] فهذا على «منع» و «سعى» ثم قال أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ [الآية 114] فجعله جميعا لأنّ «من» تكون في معنى الجماعة.
وقال تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الآية 115] لأنّ «أينما» من حروف الجزم من المجازاة والجواب في الفاء.
وقال جلّ شأنه وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [الآية 117] بالرفع على العطف، كأنّه إنّما يريد أن يقول:
«إنّما يقول كن فيكون» وقد يكون أيضا بالرفع على الابتداء. وقال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل] فان جعلت (يكون) ها هنا معطوفة، نصبت، لأنّ أَنْ نَقُولَ نصب ب «أن» كأنه يريد: أَنْ نَقُولَ (فيكون) . فان قيل: «كيف والفاء ليست في هذا المعنى؟ فإنّ الفاء والواو قد تعطفان على ما قبلهما وما بعدهما، وإن لم يكن في معناه نحو «ما أنت وزيدا» ، وإنّما يريد «لم تضرب زيدا» ، وترفعه على «ما أنت وما زيد» ، وليس ذلك معناه. ومثل قولك: «إيّاك والأسد» . والرفع في قوله تعالى فَيَكُونُ على الابتداء نحو
__________
(1) . كان يمكن أن يحمل على «فاعل» «فعل» ، لولا ورود «ناقه» التي لا تجمع على «فعل» «نقه» بل «فعل» «نقّه» .
(2) . نقله عنه في اعراب القرآن 1: 71، والجامع 2: 75.(1/222)
قوله: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] .
قال الشاعر «1» فرفع على الابتداء [من الوافر وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائة] :
يعالج عاقرا أعيت «2» عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا
وقال الشاعر «3» أيضا [من الطويل وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائة] :
وما هو إلّا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتّى ما أكاد أجيب
والنصب في قوله «فأبهت» على العطف والرفع على الابتداء.
وقال تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وقد قرئت «4» (ولا تسأل) وكلّ هذا رفع، لأنّه ليس بنهي، وإنّما هو حال، كأنّه قال «أرسلناك بشيرا ونذيرا وغير سائل أو غير مسؤول» ، وقد قرئتا جزما جميعا على النهي «5» .
وقال تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [الآية 121] كما يقولون: «هذا حقّ عالم» وهو مثل «هذا عالم كلّ عالم» .
وقال تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الآية 124] أي: اختبره.
و «إبراهيم» هو المبتلى فلذلك انتصب.
وقال تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الآية 124] لأنّ العهد هو
__________
(1) . هو ابن أحمر. الديوان 73، والكتاب 1: 430، وتحصيل عين الذهب 1: 431.
(2) . في الديوان «عاصت» بدل «أعيت» .
(3) . هو عروة بن حزام العذري. شعر عروة بن حزام 28، والخزانة 3: 615 وشرح ابن يعيش 7: 38، وقيل كثير عزّة. الخزانة 3: 615، ولا وجود له في شعره، وقيل بعض الحجازيين. الكتاب 1: 430، كما أضاف الجرمي. وقيل بعض الحارثيين، تحصيل عين الذهب 1: 430.
(4) . في الحجة 63، ذكرت من غير نسبة، وانتصر لها بقراءة عبد الله وأبي (ولن تسأل) .
(5) . قراءة «تسأل» هي في معاني القرآن 1: 75 لابن عبّاس وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وبعض أهل المدينة، وأنّ التفسير جاء بذلك. وفي الكشف 1: 262 إلى نافع وابن عبّاس، وفي الحجّة 63 بلا نسبة. وقراءة «تسأل» في معاني القرآن 1: 75 أنّ التفسير عليها، وفي الحجة 63 بلا نسبة، وفي التيسير 76 والجامع 2: 92 إلى نافع، وزاد في البحر 1: 368 يعقوب، وفي الطّبري 2: 558 إلى بعض أهل المدينة، وتأوّل بها النبي (ص) في رواية محمد بن كعب القرطبي وداود بن أبي عاصم. وفي إعراب القرآن 1: 72، والجامع 2: 92، نقلت آراء الأخفش هذه بنصوص فيها.(1/223)
الذي لا ينالهم، وقرأ بعضهم: (لا ينال عهدي الظالمون) «1» والكتاب بالياء.
وإنما قرءوا (الظالمون) لأنّهم جعلوهم الذين لا ينالون.
وقال: إن قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الآية 125] على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الآية 122] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وألحقت الهاء في «المثابة» لمّا كثر من يثوب إليه كما تقول: «نسّابة» و «سيّارة» لمن يكثر ذلك منه «2» .
وقال في قوله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الآية 125] «3» يريد (واتّخذوا) كأنّه يقول «واذكروا نعمتي وإذ اتّخذوا مصلّى من مقام إبراهيم» ووَ اتَّخِذُوا بالكسر وبها نقرأ «4» لأنّها تدلّ على الغرض.
وأمّا وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الآية 125] ف (السّجود) جماعة «السّاجد» كما تقول: «قوم قعود» و «جلوس» .
قال تعالى وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الآية 126] ف مَنْ آمَنَ بدل على التبيان، كما تقول «أخذت المال نصفه» و «رأيت القوم ناسا منهم» . ومثل ذلك يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الآية 217] يريد: عن قتال فيه. وجعله بدلا. ومثله وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ومثله قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] شبيه هذا أيضا إلا أنه قدر فيه حرف الجرّ.
وقرأ (ومن كفر فأمتعه قليلا) [الآية
__________
(1) . في معاني القرآن 1: 76 هي قراءة عبد الله بن مسعود، ومثله في الشواذ 9 والطّبري 3/ والجامع 2: 108. [.....]
(2) . نقله عنه في الجامع 2: 110، والبحر 1: 379 و 380.
(3) . كلام المؤلّف يشير إلى فتح الخاء، بدليل قوله فيما بعد وَاتَّخِذُوا بالكسر أجود. وما في الكتاب الكريم بالكسر. وهي في الطّبري 3: 32 قراءة بعض قرّاء أهل المدينة والشام، وفي السبعة 169 والتيسير 76 والجامع 2: 111 والبحر 1: 380 إلى نافع وابن عامر، أمّا في معاني القرآن 1: 77 وحجّة ابن خالويه 64/ فبلا نسبة.
(4) . هي في الطّبري 3: 30 و 31 قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل المدينة، وقد نقل خبرها عن عمر، وفي 33 عن جابر بن عبد الله. وفي السبعة 169 والبحر 1: 380 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وزاد في البحر الجمهور. وفي الجامع 2: 111 قصرها على الجمهور، وفي التيسير 76 إلى غير نافع وابن عامر، وفي معاني القرآن 1: 77، وحجّة ابن خالويه 64 بلا نسبة.(1/224)
126] على الأمر ثُمَّ أَضْطَرُّهُ [الآية 126] فجزم (فأمتعه) على الأمر «1» ، وجعل الفاء جواب المجازاة. وقرأ بعضهم فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ، وبها نقرأ «2» ، رفع على الخبر وجواب المجازاة الفاء.
وقال تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [الآية 127] أي كان إسماعيل هو الذي يدعو: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا.
قال تعالى وَأَرِنا مَناسِكَنا [الآية 128] وقرأ بعضهم (وأرنا) بإسكان الراء «3» كما تقول «قد علم ذلك» «4» وبالكسر نقرأ «5» . وواحد «المناسك» :
«منسك» مثل «مسجد» «6» ويقال أيضا:
«منسك» «7» .
وقال تعالى إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الآية 130] فزعم أهل التأويل أنه في
__________
(1) . في معاني القرآن 1: 78 والطّبري 3: 54 إلى ابن عباس، وفي البحر 1: 384 زاد مجاهدا وغيرهما، وفي الجامع 2: 119 زاد قتادة، وفي التيسير 76 قصرها على ابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 64، والمشكل 50، بلا نسبة.
(2) . في الطّبري 3: 53 إلى أبيّ بن كعب وابن إسحاق، و 54 إلى مجاهد، وفي السبعة 170 إلى القرّاء جميعا إلّا ابن عامر، وكذلك في التيسير 76، وفي الجامع 2: 119، كما في الطّبري وفي البحر 1: 384 إلى الجمهور من السبعة.
(3) . في السبعة 170 إلى ابن كثير، وزاد في الكشف 1: 241 أبا عمرو، في رواية الرقيين عنه وفي التيسير 76 أبدل أبا شعيب بأبي عمرو، وفي البحر 1: 290 إلى ابن كثير، ومع الاختلاس والإشباع أيضا إلى أبي عمرو. وفي الجامع 2: 127 إلى عمر بن عبد العزيز وقتادة، وابن كثير وابن محيصن والسّدّيّ وروح، عن يعقوب ورويس والسوسي، واختارها أبو حاتم، وفي حجّة ابن خالويه 55 بلا نسبة. وفي الطّبري 3: 76 كذلك مع إشمامها كسرة.
(4) . هي لغة نجدية تميميّة، اللهجات 173، وخص بها مؤلف لهجة تميم، من الأفعال ما كان من هذا الباب، «أي فرح» فاؤه حرف حلق، في 197.
(5) . هي في الطّبري 2: 75 قراءة عامّة أهل الحجاز والكوفة، وفي السبعة 170 إلى نافع وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 242 إلى جماعة من القرّاء، واختيار اليزيدي وإشباع الحركة إلى أبي أيوب، وفي التيسير 71 الاختلاس إلى أبي عمرو واليزيدي، والإشباع إلى غيرهما وغير ابن كثير وأبي شعيب، وفي الجامع 2: 128 إلى غير من قرأ بإسكان الراء.
(6) . في الإملاء 1: 63 أفاد اللغتين، ولم تميّز كتب اللغة «الصحاح» واللسان «نسك» إحداهما بشيء عن الأخرى، إلّا ما قيل من أن المنسك [بكسر السين] الموضع الذي تعتاده والمنسك [بفتح السين] الموضع الذي تذبح فيه النسيكة أي ذبيحة الحجّ.
(7) . في الإملاء 1: 63 أفاد اللغتين، ولم تميّز كتب اللغة «الصحاح» واللسان «نسك» إحداهما بشيء عن الأخرى، إلّا ما قيل من أن المنسك [بكسر السين] الموضع الذي تعتاده والمنسك [بفتح السين] الموضع الذي تذبح فيه النسيكة أي ذبيحة الحجّ.(1/225)
معنى «سفّه نفسه» «1» وقال يونس «2» :
«أراها لغة» «3» . ويجوز في هذا القول:
«سفهت زيدا» ، وهو يشبه «غبن رأيه» و «خسر نفسه» ألا أنّ هذا كثير، ولهذا معنى ليس لذاك. تقول: «غبن في رأيه» و «خسر في أهله» و «خسر في بيعه» . وقد جاء لهذا نظير، قال:
«ضرب عبد الله الظّهر والبطن» «4» ومعناه: على الظّهر والبطن» كما قالوا:
«دخلت البيت» وإنّما هو «دخلت في البيت» وقوله: «توجّه مكّة والكوفة» وإنّما هو: إلى مكّة والكوفة. ومما يشبه هذا قول الشاعر [من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون] :
نغالي اللّحم للأضياف نيئا ... ونبذله إذا نضج القدور
يريد: نغالي باللحم. ومثل هذا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [الآية 233] يقول: «لأولادكم» وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [الآية 235] أي: على عقدة النّكاح «5» . وأحسن من ذلك أن تقول: إنّ «سفه نفسه» جرت مجرى «سفه» إذ كان الفعل غير متعدّ، وإنّما عدّاه الى «نفسه» و «رأيه» وأشباه ذا ممّا هو في المعنى نحو «سفه» إذا لم يتعدّ.
وأمّا «غبن» و «خسر» فقد يتعدّى الى غيره تقول: «غبن خمسين» و «خسر خمسين» .
وقال تعالى وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ [الآية 132] فهو- والله أعلم- «وقال يعقوب يا بنيّ» ، لأنّ قوله تعالى وَوَصَّى بِها يتضمّن أنه قال لهم شيئا، فأجري الأخير على معنى الأوّل وإن شئت قرأت وَيَعْقُوبُ لأنّه معطوف، كأنك قلت: «ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب» «6» ثمّ فسّر ما قال يعقوب، قال: «يا بنيّ» .
__________
(1) . نقل رأيه في التهذيب 6: 131 «سفه» ، ونقله» عنه المؤلّف في الجامع 2: 132 وزاد المسير 1: 147، واللسان:
«سفه» .
(2) . هو يونس بن حبيب، وقد مرت ترجمته.
(3) . انظر الجامع 2: 132، وزاد المسير 1: 147.
(4) . في الجامع 2: 132 نسبت هذه الآراء وهذه الأمثلة إلى سيبويه، نقلا عن الأخفش نفسه. [.....]
(5) . نقل هذا الرأي الرّضيّ الأستراباذي في شرحه على الكافية 269، واستشهد بهذه الشواهد وبغيرها ناسبا إيّاه إلى الأخفش الأصغر، كما نسبه إلى الأخفش في إعراب القرآن 1: 77 مستشهدا بالآية الثانية. والقرطبي 2: 132.
(6) . أفاده في الكشاف 1: 191، والإملاء 1: 64، وأفاده أيضا والمعنى السابق في الجامع 1: 135.(1/226)
وقال تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الآية 133] استفهام مستأنف.
ثمّ قال إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ [الآية 133] فأبدل «إذ» الاخرة من الأولى «1» .
وقال تعالى إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الآية 133] على البدل «2» ، وهو في موضع جرّ، إلّا أنها أعجمية فلا تنصرف «3» .
وأمّا قوله تعالى إِلهاً واحِداً [الآية 133] فهو على الحال «4» .
وقال تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ [الآية 134] كأنّه يقول: «قد مضت» ثم استأنف فقال: لَها ما كَسَبَتْ «5» .
وقال بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الآية 135] (بالنصب) .
وقال صِبْغَةَ اللَّهِ [الآية 138] بالنصب. لأنّهم حين قيل لهم كما ورد في التنزيل: كُونُوا هُوداً [الآية 135] كأنه قيل لهم: «اتّخذوا هذه الملّة» فقالوا: «لا» بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي:
نتّبع ملّة إبراهيم، ثمّ أبدلت «الصّبغة» من «الملّة» «6» فقرئ: صِبْغَةَ اللَّهِ بالنّصب. أو يكون المعنى: «كونوا أصحاب ملّة» ثم حذف لفظ «أصحاب» كما في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الآية 177] يريد: «برّ من آمن بالله» . والصّبغة: هي الدين «7» .
وقرأ: (أتحاجّونّا) «8» [الآية 139] مثقّلة لأنهما حرفان مثلان فأدغم أحدهما في الاخر «9» ، واحتمل الساكن قبلهما إذا
__________
(1) . افاده في الإملاء 1: 64.
(2) . أفاد هذه المعاني في المشكل 1: 112، وأضاف التعريف إلى العجمة. كما أفادها في البيان 1: 124، وأفاد المعنى الأوّل في الإملاء 1: 65، وأفاد المعنيين في الجامع 2: 138، وفي الأصل ينصرف بالياء.
(3) . أفاد هذه المعاني في المشكل 1: 112، وأضاف التعريف إلى العجمة. كما أفادها في البيان 1: 124، وأفاد المعنى الأوّل في الإملاء 1: 65، وأفاد المعنيين في الجامع 2: 138، وفي الأصل ينصرف بالياء.
(4) . أفاده في المشكل 1: 112، والبيان 1: 124، والإملاء 1: 65، والجامع 2: 138.
(5) . أفاده في المشكل، ونعت التركيب بالانقطاع، وأنّه لا محلّ له من الاعراب 1: 112، وفي البيان 1: 124، والإملاء 1: 65.
(6) . في إعراب القرآن 1: 80 نقله عنه، ونسبه إليه، وفي الجامع 2: 144 كذلك.
(7) . نقله في اعراب القرآن 1: 80.
(8) . في الأصل أَتُحَاجُّونَنا كما هي في المصحف، ولكن الكلام الذي بعدها يدل على إدغام النّونين.
(9) . في الشواذ 10، أنّها قراءة زيد بن ثابت وابن محيصن، وفي الجامع 2: 145 اقتصر على ابن محيصن، وفي البحر 1: 412 زاد عليها الحسن والأعمش.(1/227)
كان من حروف اللّين الياء والواو والألف إذا كنّ سواكن. وقرأ بعضهم أَتُحَاجُّونَنا [الآية 139] «1» فلم يدغم ولكن أخفى فجعل حركة الأولى خفيفة وهي متحرّكة في الوزن، وهي في لغة الذين يقولون: «هذه مائة دّرهم» يشمّون شيئا من الرفع ولا يبيّنون، وذلك الإخفاء. وقد قرئ هذا الحرف على ذلك ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يوسف: 11] بين الإدغام والإظهار «2» .
ومثل ذلك إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف: 13] وأشباه هذا كثير، وإدغامه أحسن «3» حتّى يسكّن الأوّل.
قرأ بعضهم من الآية 140 من المائدة: (أم يقولون إنّ إبراهيم) «4» وقد قرأ بعضهم «أم تقولون» [الآية 140] «5» على قُلْ أَتُحَاجُّونَنا و «أم تقولون» .
ومن قرأ (أم يقولون) جعله استفهاما مستأنفا كما تقول: «إنّها لإبل» ثمّ تقول: «أم شاء» «6» .
قال تعالى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [الآية 143] قال: يعني «القبلة» »
ولذلك أنّث.
وقال تعالى
__________
(1) . في الجامع 2: 145 إلى الجماعة عدا ابن محيصن، وفي البحر 1: 412 إلى الجمهور.
(2) . في معاني القرآن 2: 38 أورد القراءتين ولم ينسبهما، وفي تأويل ابن قتيبة 39 ذكر إشمام الضمّ مع الإدغام، وفي السبعة 345 ذكر إجماعهم على فتح الميم، وإدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضمّ. وفي التيسير 127 نسب إلى كلّهم الإدغام مع إشمامها الضم. أمّا في الجامع 9: 138 فإلى يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري، قراءة الإدغام بغير إشمام، وإلى طلحة بن المصرف لا تأمننا بنونين ظاهرتين على الأصل، وإلى سائر الناس الإدغام والإشمام، وفي البحر 5: 285 إلى زيد بن علي وأبي جعفر والزهري وعمرو بن عبيد، الإدغام بلا إشمام، وإلى الجمهور الإدغام والإشمام.
(3) . في البحر 5: 286، قراءة تشديد النون إلى زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن وقراءة الفكّ إلى الجمهور. [.....]
(4) . في المصحف بالتاء المثناة من فوق في «يقولون» والقراءة بالياء في السبعة 171، إلى ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وإلى أبي عمرو. وفي الكشف 1: 266 إلى غير من قرأ بالأخرى، وأخذ بها الحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر يزيد وشيبة، وهي اختيار أبي حاتم، وفي التيسير 77 إلى غير من أخذ بالأخرى، وفي حجّة ابن خالويه 66 والكشّاف 1: 97 والاملا 1: 66 بلا نسبة.
(5) . في السبعة 171 إلى ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وفي الكشف 1: 266، والتيسير 77، والجامع 2: 146 كذلك، وفي حجّة ابن خالويه 66، والكشاف 1: 197، والاملا 1: 66 بلا نسبة.
(6) . في إعراب القرآن 1: 80، أنّ الأخفش يرى في هذا قيام «أم» مقام «بل» .
(7) . في الجامع 2: 157 وقال الأخفش: أي: وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة» . فلعلّ القرطبي أفاد هذه المعاني من كتب أو روايات أخرى للأخفش. وفي البحر 1: 425، جاء رأي الأخفش مقصورا على القبلة.(1/228)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [الآية 145] قال لأنّ معنى قوله تعالى وَلَئِنْ أَتَيْتَ. ولو أتيت. ألا ترى أنّك تقول: «لئن جئتني ما ضربتك» على معنى «لو» كما في قوله تعالى وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم:
51] قال: يقول تعالى: «ولو أرسلنا ريحا» لأنّ معنى «لئن» «1» مثل معنى «لو» لأنّ «لو» لم تقع وكذلك «لئن» كذا يفسّره المفسّرون «2» . وهو في الإعراب على أنّ آخره معتمد لليمين، كأنّه قال «والله ما تبعوا» أي: ما هم بمتّبعين.
وقال الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [الآية 147] على ضمير الاسم ولكن استغني عنه لمّا ذكره كأنّه قال. «هو الحقّ من ربّك» .
قال تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[الآية 148] على: «ولكل أمّة وجهة» .
وقد قرأ قوم (ولكلّ وجهة) «3» فلم ينوّنوا «كلّ» . وهذا لا يكون لأنك لا تقول: «لكلّ رجل هو ضاربه» ولكن تقول: «لكلّ رجل ضارب» فلو كان «هو مولّ» كان كلاما. فأما «مولّيها» على وجه ما قرأ، فليس بجائز.
وقال تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الآية 150] ، فهذا معنى «لكن» «4» وزعم يونس «5» أنّه سمع أعرابيا فصيحا يقول: «ما أشتكي شيئا إلّا خيرا» وذلك أنّه قيل له: «كيف تجدك» . وتكون «إلّا» بمنزلة الواو نحو قول الشاعر «6» [من الكامل وهو الشاهد الثلاثون بعد المائة] :
وأرى لها دارا بأغدرة السيدان ... لم يدرس لها رسم
__________
(1) . في الأصل «لأنّ» ، ونقلت آراء الأخفش هذه، في إعراب القرآن 1: 81 و 82، والجامع 2: 161 و 162 والبحر 1: 431.
(2) . في معاني القرآن 1: 84، ذكر الفرّاء تساوق معنى «لئن» و «لو» في المعنى، وإن كان يؤكّد كون الأولى للاستقبال، والثانية للمضيّ.
(3) . في الشواذ 10 إلى ابن عبّاس، وفي البحر 1: 437 إلى ابن عامر، وفي الكشّاف 1: 205 والإملاء 1: 69 والجامع 2: 165 والطّبري 3: 195، بلا نسبة.
(4) . نقل رأي الأخفش في التهذيب 15: 424 و 425 «الا» .
(5) . هو يونس بن حبيب، وقد سبقت ترجمته.
(6) . هو المخبّل السّعدي، الصحاح «خلد» ، ومعجم البلدان «أغدرة» .(1/229)
إلّا رمادا هامدا دفعت ... عنه الرياح خوالد سحم «1»
أراد: أرى لها دارا ورمادا. وقال بعض أهل العلم إنّ الذين ظلموا هاهنا هم ناس من العرب كانوا يهودا أو نصارى، فكانوا يحتجّون على النبي (ص) ، فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة، وكانت حجّة من يحتجّ منكسرة. إلّا أنّك تقول لمن تنكسر حجته «إنّ لك علي الحجة ولكنّها منكسرة، وإنّك تحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة» .
وقال تعالى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الآية 150] كأنه يقول: «لأنّ لا يكون للناس عليكم حجّة ولأتمّ عليكم» عطف على الكلام الأوّل «2» .
وقوله تعالى كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الآية 151] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الآية 152] أي كما فعلت هذا فاذكروني.
وقال تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [الآية 154] على: ولا تقولوا هم أموات. وقال تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: 169] بالنصب «3» على «تحسب» ، ثمّ قال بَلْ أَحْياءٌ أي: بل هم أحياء.
ولا يكون أن تجعله على الفعل: لأنّه لو قال: «بل احسبوهم أحياء» كان قد أمرهم بالشك.
وقال تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الآية 158] ف «اطّوّف» «يطّوّف» وهي من «تطوّف» . فأدغم التاء في الطاء، فلما سكنت جعل قبلها ألفا حتّى يبتدأ بها. وإنّما قال تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِ لأنّ ذلك كان مكروها في الجاهليّة، فأخبر سبحانه أنه ليس بمكروه عنده.
وقال تعالى أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [الآية 161] لأنه أضاف اللعنة ثمّ قال خالِدِينَ فِيها [الآية 162] بالنّصب على الحال.
__________
(1) . في الصحاح واللسان «خلد» ثانيهما وحده، ووردا كلامها في الصاحبي 135، ومختار الصحاح «ءل ا» ومعجم البلدان «أغدرة» والبيتان في القصيدة العشرين، من شرح اختيارات المفضّل للتبريزي 535 من الجزء الأوّل.
(2) . نقله منسوبا في الجامع 2: 170.
(3) . في الكشاف 1: 439، أنه قرئ بالنصب، ولم تنسب القراءة.(1/230)
وقرأ بعضهم (ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ القوّة لله جميعا) [الآية 165] ف «1» ف «إنّ» مكسورة على الابتداء إذ قال: (لو ترى) «2» . وقرأ بعضهم: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [الآية 165] «3» . كأنّ السّياق: «ولو يرون أنّ القوّة لله» أي: «لو يعلمون» ، لأنّهم لم يكونوا علموا، قدر ما يعاينون من العذاب. ويجوز أن تكسر همزة إنّ، ويقرأ ب وَلَوْ يَرَى أو (ولو ترى) تقول للرجل: «أما والله لو تعلم» ، و «لو يعلم» قال الشاعر «4» [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة] :
إن يكن طبّك الدّلال فلو في ... سالف الدّهر والسنين الخوالي «5»
فهذا ليس له جواب إلّا في المعنى.
وقال «6» (من الخفيف وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائة) :
فبحظّ ممّا تعيش ولا تذ ... هب بك التّرّهات في الأهوال «7»
فأضمر «فعيشي» . وقرأ بعضهم (ولو ترى) وفتح «أن» «8» على (ترى) وليس ذلك، لأن النبيّ (ص) لم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك النّاس كما قال
__________
(1) . في المصحف الكريم رسمت «يرى» بالياء المعجمة المثناة من تحت، وفتح همزة «أن» . [.....]
(2) . هي قراءة نسبها الطّبري 3: 281 إلى عامّة أهل المدينة والشام، وكذلك في الجامع 2: 204، وفي السبعة 173، والكشف 1: 271، والتيسير 78، إلى نافع وابن عامر، وفي البحر 1: 471 إلى الحسن وقتادة وشيبة وأبي جعفر ويعقوب، وفي حجّة ابن خالويه 68، ومعاني القرآن 1: 97 و 98، بلا نسبة.
(3) . نسبها الطّبري 3: 283 إلى عامّة قرّاء الكوفيّين البصريّين، وأهل مكّة وفي السبعة 173 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 271 والتيسير 78 إلى غير نافع وابن عامر، وفي الجامع 2:
204 إلى أهل مكّة وأهل الكوفة وأبي عمرو، وهي اختيار أبي عبيد وفي البحر 1: 471 إلى الكوفيين وأبي عمرو وابن كثير، وفي معاني القرآن 1: 97، وحجّة ابن خالويه 68، بلا نسبة.
(4) . هو عبيد بن الأبرص. ديوانه 107، والمقاصد النحوية 4: 461، وشرح شواهد المغني للسيوطي 317.
(5) . في الديوان: «. العصر والليالي الخوالي» . وقد ورد في المغني 2: 649، وشرح شواهده للسيوطي 317.
(6) . هو عبيد بن الأبرص أيضا. ديوانه 108.
(7) . في الديوان 108 ب «وبحظ» و «نعيش فلا» .
(8) . في الطّبري 3: 281 إلى عامّة أهل الشام والمدينة، وفي البحر 1: 471 إلى الكوفيين وأبي عمرو وابن كثير. وفي معاني القرآن 1: 98 بلا نسبة، وكذلك في المشكل 1: 55.(1/231)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «1» ليخبر النّاس عن جهلهم، وكما قال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية 107] «2» .
وقال: إنّ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [الآية 173] إنّما هي «الميّته» خففت وكذلك قوله تعالى بَلْدَةً مَيْتاً [ق: 11] يريد به «ميّتا» ولكن يخففون الباء كما يقولون في «هيّن» و «ليّن» :
«هين» و «لين» خفيفة. قال الشاعر «3» [من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائة] :
ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء
فثقّل وخفّف في معنى واحد. فاما «الميتة» فهي الموت.
وقال تعالى فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الآية 175] ، فزعم بعضهم أنه تعجّب منهم كما قال جلّ شأنه قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) [عبس] تعجّبا من كفره. وقال بعضهم فَما أَصْبَرَهُمْ أي: ما أصبرهم، و: ما الذي أصبرهم «4» .
وقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الآية 176] فالخبر مضمر كأنه يقول: «ذلك معلوم لهم، بأنّ الله نزّل الكتاب» لأنه قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك قد قيل لهم، فالكتاب حق.
وقال تعالى وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [الآية 177] ، ثم قال وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الآية 177] ووَ أَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ [الآية 177] فهو على أوّل الكلام «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله وأقام الصلاة وآتى الزّكاة» ثم قال تعالى
__________
(1) . ورد في خمسة مواضع من القرآن الكريم، أوّلها يونس 10: 38، وآخرها الأحقاف 46: 8، المعجم المفهرس 517 و 518.
(2) . والمائدة 5: 40. وقد نقلت آراء الأخفش في إعراب القرآن 1: 86 و 87، والجامع 2: 205، والبحر 1: 472.
(3) . هو عديّ بن الرعلاء. الأصمعيات 152، ومجاز القرآن 1: 149 و 2: 161، والحماسة الشّجرية 1: 195.
والبيان 1: 198 والبارع «موت» ، والحيوان 6: 507، والخزانة 4: 187، والصناعتين 315، واللسان وتاج العروس «موت» والاشتقاق 51 وهو في التهذيب 4: 343 والقسطاس المستقيم 205، والجامع 2: 216، والبيان والتبيين 1: 119، وأضداد اللغوي 1: 318.
(4) . في معاني القرآن 1: 103 ومجاز القرآن 1: 64 بلفظ «صبرهم» ، وقصره في البيان 1: 138 على الأخفش وحده.(1/232)
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ [الآية 177] ، ف وَالْمُوفُونَ رفع على «لكنّ الموفين» يريد «برّ الموفين» ، فلمّا لم يذكر «البرّ» ، أقام السّياق وَالْمُوفُونَ مقام البرّ، كما في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
[يوسف: 82] بنصبها على وَسْئَلِ والمراد «أهل القرية» ، ثمّ نصب الصَّابِرِينَ على فعل مضمر كما لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ [النساء: 162] ثم ورد وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ بالنصب على فعل مضمر، ثمّ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ، بالرّفع على الابتداء، أو بعطفه على «الرّاسخين» . قال الشاعر «1» [من الكامل وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة] :
لا يبعدن قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك ... والطّيّبون معاقد الأزر
ومنهم من يقول «النازلون» و «الطيبين» «2» . ومنهم من يرفعهما جميعا «3» ، وينصبهما جميعا «4» ، كما فسّرت لك. ويكون الصَّابِرِينَ معطوفا على ذَوِي الْقُرْبى [الآية 177] أي «وآتى الصّابرين» .
وأمّا «البأساء» و «الضّراء» في قوله تعالى: فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الآية 177] فبناهما على «فعلاء» التي لها «أفعل» لأنهما اسمان كما قد جاء «أفعل» في الأسماء ليس معه «فعلاء» نحو «أحمد» «5» . وقد قالوا «أفعل» في الصّفة ولم يجيء له «فعلاء» ، قالوا:
«أنت من ذاك أوجل» و «أوجر» ولم يقولوا: «وجلاء» ولا «وجراء» وهما من الخوف. ومنه «رجل أوجل» و «أوجر» .
وقال تعالى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [الآية 187] أي: «فعليه
__________
(1) . هي خرنق بنت هفان أخت طرفة بن العبد لأمّه، وقد سبق الكلام على الشاهد. وقد جاء بالياء في «النّازلين» والواو في «الطيّبون» في الكتاب 1: 246 و 249، ومجاز القرآن 1: 143، والخزانة 2: 301، والمقاصد النحوية 3: 602، والتنبيه للبكري 75، والهمع 2: 119، والدرر 2: 150، والجامع 2: 239، والبيان 1: 276.
(2) . جاء على هذا في الديوان 29، والكتاب 1: 249، والخزانة 2: 302، رواية ليونس والأنصاف 2: 249 و 299.
(3) . جاء على هذا في الكتاب 1: 104، والأمالي 2: 158. [.....]
(4) . جاء على هذا في مجاز القرآن 1: 66، ومعاني القرآن 1: 105 و 453، والكامل 2: 751.
(5) . نقلت هذه العبارة في الصحاح «بأس» ب «بني» بدل «فبناه» و «يجيء» بدل «جاء» وفي اللسان «بأس» كذلك.(1/233)
اتباع بالمعروف أو أداء إليه بإحسان» على الذي يطلب.
وقال تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 180] ف الْوَصِيَّةُ على الاستئناف، كأنه- والله أعلم- إِنْ تَرَكَ خَيْراً فالوصيّة «1» لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا.
وقال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الآية 183] .
ثمّ قال أَيَّاماً [الآية 184] أي:
كتب الصّيام أيّاما. لأنّك شغلت الفعل بالصيام، حتّى صار هو يقوم مقام الفاعل، وصارت الأيّام، كأنّك قد ذكرت من فعل بها.
وقال تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الآية 184] ، يقول «فعليه عدّة» رفع، وإن شئت نصبت «العدّة» على «فليصم عدّة» إلّا أنّه لم يقرأ «2» .
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [الآية 185] ، وهو معطوف على ما قبله، كأنّه قال «ويريد لتكملوا العدّة» «3» وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [الآية 185] . وأمّا قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] فإنّما معناه يريد هذا ليبيّن لكم. قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائة] :
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل فمعناه: أريد هذا الشيء، لأنسى ذكرها، «أو يكون أضمر» «أن» بعد اللام، وأوصل الفعل إليها بحرف الجر. قال تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الآية 213] فعدّى الفعل بحرف الجرّ، والمعنى: عرّفهم الاختلاف حتّى تركوه.
وقال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [الآية 184] وقد
__________
(1) . نقله عنه في المشكل 1: 119، وإعراب القرآن 1: 91، والإملاء 1: 79، والمغني 1: 165 و 2: 636، والجامع 2: 258، والبحر 2: 20، والأشباه والنظائر 4: 34.
(2) . جاء في الكشّاف 1: 225 «قرئ بالنصب بمعنى» «فليصم عدة» على سبيل الرخصة.
(3) . نقله في إعراب القرآن 1: 95.
(4) . هو كثير عزّة. الديوان 108، والكامل 3: 823، وذيل الأمالي 119.(1/234)
قرئت: (فدية طعام مساكين) «1» وهذا ليس بالجيّد، إنما الطّعام تفسير للفدية، وليست الفدية بمضافة الى الطعام.
وقوله تعالى يُطِيقُونَهُ يعني الصيام.
وقرأ بعضهم (يطوّقونه) «2» ، أي يتكلّفون الصيام. ومن قرأ:
(مساكين) «3» ، فهو يعني جماعة الشهر، لأنّ لكلّ يوم مسكينا. ومن قرأ مِسْكِينٍ، فإنّما أخبر ما يلزمه في ترك اليوم الواحد.
وقال تعالى وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 184] ، لأنّ «أن» الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم، كأنه قال: «والصيام خير لكم» .
ثمّ قال شَهْرُ رَمَضانَ [الآية 185] على تفسير الأيام، كأنّه حين قال أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الآية 184] فسّرها سبحانه فقال: «هي شهر رمضان» «4» وقد نصب بعضهم، فقرأ: (شهر رمضان) «5» وذلك جائز على الأمر، كأنه قال: «شهر رمضان فصوموا» ، أو بجعله «6» ظرفا على
__________
(1) . قراءة الاضافة في الطّبري 3: 438، إلى معظم قرّاء أهل المدينة وفي السبعة 176، إلى نافع وابن عامر وفي الكشف 1: 282 أبدل بابن عامر ابن ذكوان، وكذلك التيسير 79، والبحر 2: 37 وفي الجامع 2: 287 إلى أهل المدينة والشام. أما قراءة إبدال الطعام من الفدية ورفعه، ففي الطّبري 3: 439 إلى معظم قرّاء أهل العراق، و 440 إلى أبي عمرو وفي السبعة 176 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1:
282 و 283 إلى ابن عبّاس، وإلى غير نافع وابن ذكوان وابن عمر ومجاهد وفي التيسير 89 إلى غير نافع وابن ذكوان وإلى هشام، وفي البحر 2: 37 إلى الجمهور.
(2) . في الطّبري 3: 418 و 429 و 430 و 431، إلى ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وعائشة وعطاء ومجاهد وفي المصاحف 89 إلى سعيد بن جبير وفي الشواذ 11 إلى مجاهد وفي المحتسب 118 نسبت إلى ابن عباس بخلاف، وعائشة وسعيد بن المسيّب وطاوس بخلاف، وسعيد بن جبير ومجاهد بخلاف، وعكرمة وأيوب السختياني وعطاء وفي الجامع 2: 286، والبحر 2: 25، إلى ابن عبّاس، وقرّاء إلى غير من أخذ بالأخرى.
(3) . في الطّبري 3: 440 إلى الحسن، وفي السبعة 176 إلى نافع وابن عامر، وأضاف في الكشف 1: 282 ابن عمر ومجاهدا، وفي التيسير 79 إلى ابن ذكوان ونافع وهشام، واقتصر في البحر 2: 37 على هشام، وفي الجامع 2:
287 إلى أهل المدينة والنساء.
(4) . نقله في زاد المسير 1: 185.
(5) . في معاني القرآن 1: 112 أنها للحسن، وفي الشواذ 12 إلى عاصم في رواية، ومجاهد وفي الجامع 2: 297 إلى مجاهد وشهر بن حوشب وزاد في البحر 2: 38 هارون الأعور عن أبي عمرو، وأبا عمارة عن حفص عن عاصم وفي الطّبري 3: 445، والمشكل 61، بلا نسبة.
(6) . في الأصل: يجعله. وقد نقله عنه في الجامع 2: 297.(1/235)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الآية 183] (شهر رمضان) أي: «في شهر رمضان» و «رمضان» في موضع جر، لأنّ الشّهر أضيف اليه، ولكنّه لا ينصرف.
وقال تعالى الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى [الآية 185] ، فموضع هُدىً وبَيِّناتٍ نصب، لأنه قد شغل الفعل ب الْقُرْآنُ، وهو كقولك: «وجد عبد الله ظريفا» .
وأمّا قوله تعالى وَالْفُرْقانِ [الآية 185] فجرّ على «وبيّنات من الفرقان» .
وقوله تعالى يَرْشُدُونَ [الآية 186] لأنها من: «رشد» «يرشد» «1» ولغة للعرب «رشد» «يرشد» «2» وقد قرئت (يرشدون) «3» .
وفي قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] جزم على العطف، ونصب إذا جعل جوابا بالواو.
وقوله تعالى هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الآية 189] بجرّ وَالْحَجِّ لأنه لمّا عطف على «الناس» انجرّ باللام.
وقال تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [الآية 189] يريد به «برّ من اتّقى» .
وقال تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الآية 195] كأنه يقول: أيديكم «إلى التهلكة» . والباء زائدة «4» قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائة] :
كثيرا بما يتركن في كلّ حفرة ... زفير القواضي نحبها وسعالها
يقول: «كثيرا يتركن» وجعل الباء و «ما» زائدتين.
وأما قوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [الآية 194] ، فإنّ الله لم يأمر بالعدوان، بل طلب إليهم أن: «ائتوا إليهم الذي يسمّى بالاعتداء» أي: افعلوا بهم كما فعلوا بكم، كما تقول: «إن تعاطيت
__________
(1) . ومصدرها «رشد» «الصحاح» . وهي في البحر 2: 47 قراءة الجمهور، وكذلك في الإملاء 1: 82.
(2) . ومصدرها «رشد» الصحاح. وهي في الكشّاف 1: 229 قراءة غير منسوبة، والإملاء 1: 83 كذلك. [.....]
(3) . في البحر 2: 47 هي قراءة ولم تنسب، وكذلك في الإملاء 1: 83 وفي الكشّاف 1: 229 قراءة أخرى غير منسوبة، جاء الفعل فيها من باب «ضرب» هي «يرشدون» .
(4) . نقله في إعراب القرآن 1: 98.(1/236)
مني ظلما تعاطيته منك» والثاني ليس بظالم. قال عمرو بن شأس «1» [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائة] :
جزينا ذوي العدوان بالأمس مثله ... قصاصا سواء حذوك النّعل بالنّعل
وأما قوله تعالى فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) فيريد: إنّ الله لهم.
وكذلك قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) لأنه قال فَإِنِ انْتَهَوْا وهو قد علم أنّهم لا ينتهون إلّا بعضهم، فكأنه قال: «إن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم» فأضمر، كما في فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ [الآية 196] أي: فعليه ما استيسر «2» كما تقول «زيدا أكرمت» وأنت تريد «أكرمته» وكما تقول «إلى من تقصد أقصد» تريد إليه.
وأمّا قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [الآية 196] فإنّك تقول: «أحصرني مرضي» «3» أي: جعلني أحصر نفسي.
وتقول: «حصرت الرجل» أي:
حبسته، فهو «محصور» «4» . وزعم يونس «5» عن أبي عمرو «6» أنّه يقول:
«حصرته إذا منعته عن كلّ وجه» وإذا منعته من التقدّم خاصّة فقد «أحصرته» ، ويقول بعض العرب في المرض وما أشبهه من الإعياء والكلال:
«أحصرته» .
وقال تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ [الآية 196] أي: فعليه فدية.
وقال تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الآية 196] فإنما قال عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وقد ذكر سبعة وثلاثة، ليخبر أنّها مجزية، وليس ليخبر عن عدّتها،
__________
(1) . هو عمر بن شأس الأسدي الشاعر الجاهلي، وردت ترجمته في الأغاني 10: 63 والشعر والشعراء 1: 425، وطبقات الشعراء 1: 196، والبيت ليس في ديوانه، ولم تفد المصادر والمراجع شيئا عنه.
(2) . نقله في إعراب القرآن 1: 99، والبحر 2: 74.
(3) . في الأصل أحصرني قولي و «أحصرني مرضي» .
(4) . نقلها عنه في الصحاح «حصر» مع تقديم العبارة الثانية على الأولى، وكذلك في الجامع 2: 372 والبحر.
(5) . هو يونس بن حبيب، وقد مرت ترجمته فيما سبق.
(6) . هو أبو عمرو بن العلاء النحوي البصري المشهور ترجمته في أخبار النحويين البصريين 22، ومراتب النحويين 13، ونزهة الألباء 15، وطبقات اللّغويّين 35 وإنباه الرواة 4: 125، وبغية الوعاة 267.(1/237)
ألا ترى أن قوله تعالى كامِلَةٌ إنّما هي «وافية» .
وقد ذكروا أنّه في حرف ابن مسعود «1» «تسع وتسعون نعجة أنثى» «2» وذلك أن الكلام يؤكد بما يستغنى به عنه، كما قال تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30 وص: 73] .
وقد يستغنى بأحدهما، ولكنّ تكرير الكلام، كأنه أوجب. ألا ترى أنك تقول: «رأيت أخويك كليهما» ولو قلت: «رأيت أخويك» ، استغنيت فتجيء ب «كليهما» توكيدا. وقال بعضهم في قول ابن مسعود «أنثى» ، إنّه إنّما أراد «مؤنّثة» ، يصفها بذلك، لأنّ ذلك قد يستحبّ من النساء.
وقال تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 196] ، وإذا وقفت قلت: «حاضري» لأنّ الياء إنّما ذهبت في الوصل لسكون اللام من «المسجد» ، وكذلك غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: 1] وقوله تعالى عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) [النبأ] وفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) [النازعات] وأشباه هذا مما ليس هو حرف إعراب. وحرف الإعراب الذي يقع عليه الرفع والنّصب والجرّ، ونحو «هو» و «هي» ، فإذا وقفت عليه، فأنت فيه بالخيار، إن شئت ألحقت الهاء، وإن شئت لم تلحق. وقد قالت العرب في نون الجميع ونون الاثنين في الوقف بالهاء فقالوا: «هما رجلانه» و «مسلمونه» و «قد قمته» إذا أرادوا: قد قمت» «3» وكذلك ما لم يكن حرف إعراب، إلّا أنّ بعضه أحسن من بعض، وهو في المفتوح أكثر. فأمّا «مررت بأحمر» و «يعمر» فلا يكون الوقف في هذا بالهاء، لأنّ هذا قد ينصرف عن هذا الوجه. وكذلك ما لم يكن حرف
__________
(1) . هو عبد الله مسعود الصحابي، وقد مرت ترجمته فيما سبق.
(2) . ص 38: 23 وقد أثبتت في المصحف الشريف، على هذا النحو تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، والقراءة مذكورة في معاني القرآن 2: 403، والطّبري 23: 143، وإعراب ثلاثين سورة 44، والشواذ 130، والجامع 15: 174.
(3) . هي في الخزانة 4: 492 لغة عليا تميم وسفلى قيس، مع «أنا» ضمير المتكلم، وأنكر ذلك الجندي في اللهجات 397، وعزاها إلى طيّئ، استنادا إلى شرح الشافية 2: 294، وأوردها ابن جنّي في المنصف 1: 9 على أنها سمة عامة في العربية، ولم يخصّ بها جماعة من العرب معيّنة. وقال أبو زيد في النوادر 171 إنّها لغة أهل العالية، فإذا حملنا لفظ «غير» على الخطأ في النسخ جاز لنا تصوره «نميريّا» وتصوّر اللغة تميريّة أيضا. وفي الكتاب 1:
278 بلا نسبة.(1/238)
إعراب ثم كان يتغير عن حاله، فإنه لا تلحق فيه الهاء، إذا سكت عليه. وأمّا قوله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] فإذا وقفت قلت «تبوء» ، لأنّها «أن تفعل» ، فإذا وقفت على «تفعل» ، لم تحرّك. قال تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا [يونس: 87] ، إذا وقفت عليه قلت: «أن تبوّأ» لأنه «أن تفعّلا» ، وأنت تعني فعل الاثنين، فهكذا الوقف عليه. قال تعالى وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يونس: 93] فإذا وقفت قلت: «مبوّأ» لا تقول «مبوّءا» ، لأنه مضاف، فإذا وقفت عليه لم يكن ألفا. ولو أثبت فيه الألف، لقلت في وقف غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ: «محلّين» ، ولكنه مثل «رأيت غلامي زيد» فإذا وقفت قلت:
«غلامي» . وقال تعالى فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ [الشعراء: 61] ، فإذا وقفت قلت: «تراءى» ، ولم تقل: «تراءيا» ، لأنّك قد رفعت الجمعين بذا الفعل، ولو قلت: «تراءيا» ، كنت قد جئت باسم مرفوع بذا الفعل، وهو الالف، ويكون قولك «الجمعان» ليس بكلام إلّا على وجه آخر.
وقال تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [الآية 198] ، فصرف «عرفات» لا لأنّها تلك الجماعة التي كانت تنصرف، وإنّما صرفت لأنّ الكسرة والضمة في التاء، صارت بمنزلة الياء والواو في «مسلمين» و «مسلمون» لأنه تذكيره، وصارت التنوين في نحو «عرفات» و «مسلمات» ، بمنزلة النون فلما سمّي به ترك على حاله، كما يترك «مسلمون» «1» ، إذا سمّي به على حاله حكاية. ومن العرب من لا يصرف ذا، إذا سمّي به، ويشبّه التاء بهاء التأنيث في نحو «حمدة» ، وذلك قبيح ضعيف «2» . قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد المائة] :
تنوّرتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
__________
(1) . نقلت عبارته مع تغيير طفيف في الصحاح «عرف» ، والرأي في الكتاب 2: 18.
(2) . نقله عنه وعن الكوفيين في المشكل 1: 124، وزاد في اعراب القرآن 1: 101، والجامع 2: 414، والبحر 2:
83 و 84 رواية الشاهد الشعري.
(3) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي. ديوانه 31، والكتاب 2: 18. [.....](1/239)
ومنهم من لا ينوّن «أذرعات» ولا «عانات» وهو مكان.
وقال تعالى وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى [الآية 203] ، كأنّه حين ذكر هذه الرّخصة، قد أخبر عن أمر، فقال لِمَنِ اتَّقى: أي: ذلك لمن اتّقى «1» .
وقال تعالى وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ [الآية 204] إذا كان هو يشهد «2» وقرأ بعضهم: (ويشهد الله) «3» أي أن الله سبحانه هو الذي يشهد.
وقال تعالى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الآية 204] من «لددت» «تلدّ» و «هو ألدّ» و «هم قوم لدّ» و «امرأة لدّاء» و «نسوة لدّ» .
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [الآية 207] يقول: «يبيعها» كما تقول «شريت هذا المتاع» أي: بعته و «شريته» : اشتريته أيضا، يجوز في المعنيين جميعا، كما تقول: «إنّ الجلّ لأفضل المتاع» ، وإنّ «الجلّ لأردؤه» «4» ، وعلى ذلك يجوز مع كثير مثله، وكذلك «الجلل» ، يكون العظيم، ويكون الصغير. وكذلك «السّدف» يكون الظلمة والضّوء. وقال الشاعر «5» [من الرمل وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائة] :
وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزء ذو جلل «6»
أي: عظيم. وقال الاخر «7» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائة] :
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1: 102 والجامع 3: 14.
(2) . هي قراءة لجمهور القرّاء وعاميتهم، الطّبري 4: 233، والجامع 2: 15، والبحر 2: 114، وتأوّل بها ابن زيد والسدّي وأسباط ومجاهد والطّبري، كما سبق، وفي معاني القرآن 1: 123 بلا نسبة، والكشاف 1: 251، والإملاء 1: 89 كذلك.
(3) . في الطّبري 4: 234، والجامع 3: 15 إلى ابن محيصن، وزاد في البحر أبا حياة، وفي الطّبري أنّ ابن عباس تأوّل بها، وفي معاني القرآن 1: 123 بلا نسبة، والكشاف 1: 251، والإملاء 1: 89 كذلك.
(4) . الجلّ: من الاضداد فالجلّ من المتاع: القطف، الأكسية، والبسط، ونحوه والجلّ والجلّ قصب الزرع وسوقه، إذا حصد عنه السنبل، «اللسان» .
(5) . هو لبيد بن ربيعة العامري. الديوان 197 والكامل 1: 63، وأضداد اللغوي 1: 147 والأضداد للسجستاني 84.
(6) . والبيت في المقاييس 2: 290 بلا عزو، وهو في أضداد السجستاني ب «ومن الرزء» ردي غير جلل.
(7) . هو طرفة بن العبد البكري. ديوانه 93، وفيه ب «قاس» بدل «صاد» .(1/240)
ألا إنّما أبكي ليوم لقيته ... بجر ثم صاد كلّ ما بعده جلل
أي: صغير.
وأما قوله تعالى ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الآية 207] فإن انتصاب (ابتغاء) على الفعل، وهو على يشري، كأنه قال «لابتغاء مرضاة الله» فلمّا نزع اللام، عمل الفعل. ومثله حَذَرَ الْمَوْتِ [الآية 243] وأشباه هذا كثير.
قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الأربعون بعد المائة] :
وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما
لما حذف اللّام عمل فيه الفعل.
وقال تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [الآية 208] و «السّلم» :
الإسلام. وقوله تعالى وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [محمد: 35] ذلك:
الصلح. وقال بعضهم في «الصلح» : «السّلم. وقال تعالى وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء: 91] وهو الاستسلام. وقال تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) [الفرقان] أي:
قالوا «براءة منكم» لأنّ «السّلام» في بعض الكلام هو: البراءة. تقول: «إنّما فلان سلام بسلام» أي: لا يخالط أحدا. قال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائة] :
سلامك ربّنا في كلّ فجر ... بريئا ما تغنّثك «3» الذّموم
يعني تأوّبك، يقول: «براءتك» .
وقال تعالى إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] وهذا فيما يزعم المفسّرون: قالوا خيرا. كأنه- والله أعلم- سمع منهم التوحيد، فقد قالوا خيرا، فلما عرف أنهم موحّدون قال:
«سلام عليكم» ، فسلّم عليهم. فهذا الوجه رفع على الابتداء. وقال بعضهم: «ما كان من كلام الملائكة فهو نصب، وما كان من الإنسان فهو رفع في السلام» . وهذا ضعيف ليس بحجّة وقال تعالى:
__________
(1) . هو حاتم الطائي مضرب المثل بالكرم ديوانه 82. الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 184، والنوادر 110.
(2) . هو أميّة بن أبي الصّلت ديوانه 238، والكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 164.
(3) . وجاء في الهامش: «قال أبو عبد الله» : سألت أبا العبّاس أحمد بن يحيى فقال: «تغنثك» : يلزق بك. هذا البيت عن ابن الاعرابي.(1/241)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: 89] فهذا يجوز على معنى: «سلام عليكم» في التسليم. او يكون على البراءة إلّا أنه جعله خبر المبتدأ، كأنه قال «أمري سلام» . أي:
أمري براءة منكم، وأضمر الاسم كما يضمر الخبر. وقال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر] :
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا ءاأنت أم أمّ سالم
على: «أنت هي أم أمّ سالم» أي:
أشكلت عليّ بشبه أمّ سالم بك. وكلّ هذا قد أضمر الخبر فيه. ومثل ذلك لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الحديد: 10] فلمّا قال أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا كان فيه دليل على معنى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ «ومن أنفق من بعد الفتح» أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء.
وقال تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الآية 208] لأنّ كل اسم على «فعلة» خفيف، إذا جمع حرّك ثانيه بالضمّ، نحو «ظلمات» و «غرفات» ، لأنّ مخرج الحرفين بلفظ واحد، إذا قرب أحدهما من صاحبه كان، أيسر عليهم. وقد فتحه بعضهم فقال:
«الرّكبات» و «الغرفات» ، و «الظلمات» ، وأسكن بعضهم ما كان من الواو، كما يسكّن ما كان من الياء، نحو «كلّيّات» أسكن اللام، لئلا تحوّل الياء واوا، فأسكنها في «خطوات» «2» لأنّ الواو أخت الياء. وما كان على «فعلة» ، نحو «سلوة» و «شهوة» ، حرّك ثانيه في الجمع بالفتح، نحو «سلوات» و «شهوات» ، فإذا كان أوّله مكسورا، كسر ثانيه نحو «كسرة» و «كسرات» ، و «سدرة» ، و «سدرات» . وقد فتح بعضهم، ثاني هذا، كما فتح ثاني المضموم، واستثقل الضمّتين والكسرتين. وما كان من نحو هذا، ثانيه واو أو ياء، أو التقى فيه حرفان من جنس واحد، لم يحرّك، نحو:
«دومة» و «دومات» ، «وعوذة»
__________
(1) . هو ذو الرّمّة، وقد مر الاستشهاد بهذا الشاهد سابقا.
(2) . في الصحاح «ركب» : أورد اللغات الثلاث في فتح العين وضمّها وسكونها، إلّا ما جاءت عينه ياء فلا تضمّ، وأشار إلى اللغات الثلاث في «غرف» و «ظلم» ، وذكر هذه اللغات أيضا في «خطا» ولم ينسب في أيّ من هذه المواضع.(1/242)
و «عوذات» وهي: المعاذة، و «بيضة» و «بيضات» ، و «ميتة» و «ميتات» . لأنّ هذا لو حرّك، لتغيّر وصار ألفا فكان يغيّر بناء الاسم، فاستثقلوا ذلك.
وقالوا: «عضة» و «عضات» فلم يحرّكوا لأنّ هذا موضع تتحرّك فيه لام الفعل، فلا يضعّف، ولولا أنّه حرك، لضعّف وأكثر ما في «الظلمات» و «الكسرات» وما أشبههما، أن يحرّك الثاني على الأوّل «1» . وقد دعاهم ذلك إلى أن قالوا «أذكر» فضمّوا الألف لضمة الكاف، وبينها حرف، فذلك أخلق.
وقد قال بعضهم: «أنا أنبوك» ، «أنا أجوك» ، فضم الباء والجيم، لضمّه الهمزة ليجعلها على لفظ واحد، فهذا أشدّ من ذاك. وقال: «هذا هو منحدر من الجبل» يريد «منحدر» ، فضم الدال لضمه الراء، كما ضم الباء والجيم، في «أنبوك» و «أجوك» .
وقرءوا كلمة «الملائكة» ، بالجرّ «2» والرفع «3» قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الآية 210] لأنه قد قال ذلك في غير موضع. قال تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] وقال إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:
158] و «الملك» في هذا الموضع جماعة كما تقول: «أهلك النّاس الدّينار والدّرهم» و «هلك البعير والشّاء. وقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ يعني أمره، لأنّ الله تبارك وتعالى، لا يزول كما تقول: «قد خشينا أن تأتينا بنو أميّة» ، وإنما تعني حكمهم.
وقال تعالى وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية 213] أي: «وما اختلف فيه إلّا الذين أوتوه بغيا بينهم من بعد ما جاءتهم البيّنات» .
__________
(1) . في شرح الرضيّ على الكافية 232 و 233 تفصيل لهذه اللغات من غير نسبة، إلّا في لغة هذيل في فتح ما عينه واو أو ياء، وجاء مثل ذلك في شرح الرضي على الشافية 104، مع إيجاز شديد أحال معه إلى شرح الكافية.
وفي اللهجات العربية 428 و 429 نسبت هذه اللغة عينها إلى هذيل تارة، وتميم تارة أخرى حسب اختلاف المراجع والمصادر لديه.
(2) . في معاني القرآن 1: 124 إلى بعض أهل المدينة، وفي الشواذ 13 إلى أبي جعفر المدني، وفي البحر 2: 125 إلى الحسن وأبي حياة وأبي جعفر، وفي الطّبري 4: 261 بلا نسبة. [.....]
(3) . في الطّبري 4: 261 إلى أبيّ بن كعب، وفي البحر 2: 125 إلى الجمهور، وفي القرطبي 3: 25 أنّ قراءة ابن مسعود (الله والملائكة في ظلل) وهي التي انتصر بها الفرّاء في معاني القرآن 1: 124 لقراءة الرفع.(1/243)
وقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الآية 216] وقرأ بعضهم (حملته أمّه كرها) «1» والوجه هو:
كَرْهاً، بالضم، وبه نقرأ، وهما لغتان «2» مثل «الغسل» و «الغسل» و «الضّعف» و «الضّعف» إلّا أنّه قد قال بعضهم إنه إذا كان في موضع المصدر كان «كرها» كما تقول: «لا تقوم إلّا كرها» وتقول: «لا تقوم الأعلى كره» وهما سواء مثل «الرّهب» و «الرّهب» وقال بعضهم: «الرّهب» كما قالوا:
«البخل» و «البخل» و «البخل» . وإنما قال تعالى: كُرْهٌ لَكُمْ أي: ذو كره وحذف «ذو» كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] .
وقال تعالى وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 217] .
وقال جل شأنه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 217] ، على «وصدّ عن المسجد الحرام» .
ثم قال: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ [الآية 217] على الابتداء.
وقرأ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ [الآية 217] فضعّف لأن أهل الحجاز، إذا كانت لام الفعل ساكنة ضعّفوا، وهي هاهنا ساكنة، أسكنها بالجزاء. وقرأ: (ومن يرتدّ منكم عن دينه فسوف) [المائدة: 54] فلم يضاعف «3» في لغة من لا يضاعف لأنّ من لا يضاعف «4» كثير.
وقال: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «5» [الآية 219] إذا جعلت
__________
(1) . الأحقاف 46: 15، وقراءة فتح الكاف في الكشف 2: 272، والتيسير 199 إلى غير الكوفيين وابن ذكوان، وفي الجامع 16: 193 إلى العامة وهي اختيار أبي عبيد، وفي البحر 8: 60 إلى شيبة وأبي جعفر والأعرج والحرميين وأبي عمرو، وإلى أبي رجاء ومجاهد وعيسى في رواية.
(2) . الفتح لغة تميم، والضم لغة الحجاز، وقيل العكس اللهجات 191 و 192 و 193، ولهجة تميم 158 وما بعدها، وفي اللهجات العربية 81 ونسب هذا القول للكسائي في «الصحاح كره» .
(3) . وقراءة التضعيف (اي الإدغام والتشديد) في السبعة 245 إلى ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1: 412، والتيسير 99 إلى غير نافع وابن عامر، وفي الجامع 6: 219 إلى غير أهل المدينة والشام، وفي حجة ابن خالويه 106 بلا نسبة، أمّا قراءة الفكّ بدالين ففي السبعة 245، وفي الكشف 1: 412، وفي التيسير 99، إلى نافع وابن عامر، وفي الجامع 6: 219 إلى أهل المدينة والشام.
(4) . «يضاعف» هنا، في هذا السياق، بمعنى «يفكّ التشديد» .
(5) . في السبعة 182 إلى القرّاء جميعا إلّا أبا عمرو، وفي الكشف 1: 292 و 293 والتيسير 80 كذلك، وأهمل في البحر 3: 159 أبا عمرو، وزاد على أبي عمرو في الجامع 3: 61 قتادة والحسن وابن أبي إسحاق، أمّا في المشكل 68 فبلا نسبة، وكذلك في الكشّاف 1: 262، والبيان 1: 153، والإملاء 1: 93(1/244)
ماذا بمنزلة (ما) . وان جعلت ماذا بمنزلة «الذي» ، قلت: (قل العفو) «1» والأولى منصوبة، وهذه مرفوعة، كأنه قال: «ما الذي ينفقون» فقال: «الذي ينفقون العفو» . وإذا نصبت فكأنه قال: «ما ينفقون» فقال:
«ينفقون العفو» لأن «ما» إذا لم تجعل بمنزلة «الذي» ، ف «العفو» منصوب ب «ينفقون» . وان جعلت بمنزلة «الذي» ، فهو مرفوع بخبر الابتداء، كما قال ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) [النحل] ، جعل ماذا بمنزلة «الذي» ، وقال ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: 30] ، جعل ماذا بمنزلة «ما» . وقد يكون إذا جعلها بمنزلة «ما» ، وحدها، الرفع على المعنى. لأنّه لو قيل له: «ما صنعت» ؟
فقال: «خير» ، أي: الذي صنعت خير، لم يكن به بأس. ولو نصبت إذا جعلت «ذا» بمنزلة «الذي» ، كان أيضا جيّدا، لأنّه لو قيل لك: «ما الذي صنعت» فقلت: «خيرا» أي: صنعت خيرا. كان صوابا. قال الشاعر (من الوافر وهو الشاهد الثلاثون) :
دعي ماذا علمت سأتّقيه ... ولكن بالمغيّب نبّئيني
جعل «ما» و «ذا» بمنزلة «ما» وحدها، ولا يجوز أن يكون «ذا» بمنزلة «الذي» في هذا البيت لأنك لو قلت: «دعي ما الذي علمت» لم يكن كلاما. وقال أهل التأويل في قوله تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24] ، لأنّ الكفّار جحدوا أن يكون ربّهم أنزل شيئا، فقالوا لهم: «ما تقولون أنتم أساطير الأوّلين» أي: «الذي تقولون أنتم أساطير الأوّلين» ، ليس على «أنزل ربّنا أساطير الأوّلين» . وهذا المعنى فيما نرى- والله أعلم- كما قال تعالى وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [الآية 220] أي: فهم إخوانكم.
قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [الآية 222] والمحيض هو: الحيض.
وإنّما أكثر الكلام في المصدر إذا بني
__________
(1) . في السبعة 182 والكشف 1: 292 والتيسير 80، والبحر 2: 159 إلى أبي عمرو، وزاد في الجامع 3: 61 عليه الحسن وابن أبي إسحاق. وفي المشكل 68 والكشّاف 1: 262، والبيان 1: 153، والإملاء 1: 93 بلا نسبة.(1/245)
هكذا، أن يراد به «المفعل» نحو قولك: «ما في برّك مكأل» أي: كيل.
وقد قيلت الأخرى أي: قيل «مكيل» وهو مثل «محيض» من الفعل، إذا كان مصدرا للّتي في القرآن، وهي أقل.
قال الشاعر «1» [من الكامل وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائة] :
بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة ... لا يستطيع بها القراد مقيلا
يريد: «قيلولة» . ويقول: «جئت مجيئا حسنا» . فبنوه على «مفعل» وهو مصدره.
وقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [الآية 222] لأنك تقول:
«طهرت المرأة» ف «هي تطهر» . وقال بعضهم «طهرت» . وقالوا: «طلقت» «تطلق» و «طلقت» «تطلق» أيضا. ويقال للنّفساء إذا أصابها النّفاس: «نفست» فإذا أصابها الطلق (قيل) : «طلقت» .
قال تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [الآية 225] تقول: «لغوت في اليمين» ف «أنا ألغو» «لغوا» ومن قال:
«هو يمحا» قال: «هو يلغا» «لغوا» و «محوا» . وقد سمعنا ذلك من العرب «2» .
وتقول: «لغيت باسم فلان» ف «أنا ألغى به» أي: أذكره.
وقال تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الآية 226] ، تقول: «آلى من امرأته» ، يؤلي «إيلاء» و «ظاهر منها» «ظهارا» ، كما تقول «قاتل» «قتالا» .
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ جعل ذلك لهم أجلا فَإِنْ فاؤُ [الآية 226] يعني: «فإن رجعوا» لأنك تقول:
«فئت إلى الحقّ» .
وقال: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الآية 228] ممدودة مهموزة وواحدها «القرء» خفيفة مهموزة مثل: «القرع» وتقول:
«قد أقرأت المرأة» «إقراء» بالهمز، إذا صارت صاحبة حيض. وتقول: «ما قرأت حيضة قطّ» مثل: «ما قرأت قرآنا» . و: «قد قرأت حيضة أو حيضتين» بالهمز، و «ما قرأت جنينا قطّ» مثلها. أي: ما حملت.
و «القرء» : انقطاع الحيض، وقال
__________
(1) . هو الراعي النّميري. ديوانه 126، والكتاب وتحصيل عين الذهب 2: 247، واللسان «زلل» والمخصّص 16:
122، وهو في المخصّص 9: 55، وفيه وفي اللسان ب «مزلّة» .
(2) . هي لغة أزد شنوءة. اللهجات 456.(1/246)
بعضهم: «ما بين الحيضتين «1» قال الشاعر «2» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائة] :
ذراعي بكرة أدماء بكر ... هجان اللّون لم تقرأ جنينا «3»
وأما قول الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائة] :
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمال فان «المقراة» : المسيل، وليس بمهموز.
وقال تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الآية 232] ، ينهى أزواجهنّ أن يمنعوهنّ من الأزواج.
وقال تعالى حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [الآية 233] . تقول:
«بيني وبينك رضاعة» و «رضاع» وتقول: «اللّؤم والرّضاعة» وهي في كل شيء مفتوحة. وبعض بني تميم يكسرها، إذا كانت في الارتضاع يقول: «الرّضاعة» «5» .
وقرأ قوله تعالى لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ [الآية 233] برفع «تضارّ» على الخبر، يقول: «هكذا في الحكم أنّه تضارّ» في موضعه، صار على لفظه. ومثله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الآية 234] فخبر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، يَتَرَبَّصْنَ [الآية 234] «بعد موتهم» «6» ولم يذكر «بعد
__________
(1) . نقلها في الصحاح «قرأ» واجتزأ بشيء يسير، فمنها في التهذيب «قرأ» ، والجامع 3: 113، والبحر 2: 175.
(2) . هو عمرو بن كلثوم التغلبي.
(3) . البيت في معلّقته، وهو في شرح القصائد السبع 79 ب «عيطل» بدل بكرة، وعجزه: تربّعت الأجارع والمتونا» ، في شرح القصائد التسع 2: 620 كذلك، وفي 2: 783 ورد ب «عيطل» ، وفي شرح المعلّقات السبع 143 ب «عيطل» ، وفي شرح القصائد العشر ب «عيطل» وتربّعت الأجارع والمتونا» . وفي مجاز القرآن 1: 2 ب «حرّة» بدل «بكرة» ، وفي شرح ديوان العجاج 23 برواية الأخفش. وفي المقاييس 5: 79، والتهذيب 2: 166، والصحاح «عطل» و «هجنى» ، وأضداد اللغوي 575، واللسان «قرأ» و «عطل» و «هجني» ، والتاج «قرأ» وكلها ب «عيطل» . وفي اللسان «بكر» ، والتاج «بكر» ، وعجزه ب «غذاها» الخفض لم تحمل جنينا» .
(4) . هو امرؤ القيس بن حجر الكندي والبيت ثاني أبيات معلقته المشتهرة. ديوانه 8، وشرح القصائد العشر 5.
(5) . ذكر الكسائي الكسر، وعزاه إلى بعض العرب بلا تعيين معاني القرآن 1: 149، وفي الكشّاف 1: 278، أنّه قرئ بكسر الراء. وأشار في الإملاء 1: 97 إلى القراءتين، وفي الجامع 3: 162، أنّ كسر الراء قراءة أبي حياة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة، وقال هي لغة كالحضارة والحضارة. [.....]
(6) . نقله في المشكل 1: 131، وإعراب القرآن للزجاج 1: 175، والبحر 2: 222.(1/247)
موتهم» كما يحذف بعض الكلام يقول: «ينبغي لهنّ أن يتربّصن» ، فلمّا حذف «ينبغي» ، وقع «يتربّصن» موقعه.
قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائة] :
على الحكم المأتيّ يوما إذا قضى ... قضيّته أن لا يجوز ويقصد
فرفع «ويقصد على قوله:
«وينبغي» «2» . ومن قرأ لا تُضَارَّ [الآية 233] جعلها على النهي، وهذا في لغة من لم يضعّف، فأمّا من ضعّف، فإنّه يقول (لا تضارر) إذا أراد النهي، لأنّ لام الفعل ساكنة، إذا قلت «لا تفاعل» وأنت تنهى. إلا أنّ «تضار» ها هنا غير مضعّفة، لأنّ ليس في الكتاب إلّا راء واحدة «3» .
وقال تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ [الآية 235] ف «الخطبة» الذّكر، و «الخطبة» :
التشهّد «4» .
وقال تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [الآية 235] لأنه لمّا قال فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ كأنه قال: «تذكرون» وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا [الآية 235] استثناء خارج على «ولكن» .
قال تعالى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [الآية
__________
(1) . هو عبد الرحمن بن أمّ الحكم، كما في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1: 431، واللسان «قصد» في رواية مرجوحة. وقيل هو أبو اللّحام أو اللّجام التغلبي، كما في الخزانة 3: 613، والتاج «قصد» ، واللسان «قصد» في رواية راجحة وشرح المفصّل لابن يعيش 7: 38، والبيت ايضا في الصحاح «قصد» .
(2) . نقله في الصحاح «قصد» ، مع الشاهد الشعري.
(3) . قراءة الرفع براء واحدة في الطّبري 5: 47 إلى بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة، وفي السبعة 183 إلى ابن كثير وأبي عمروا وأبان عن عاصم، وفي الكشف 1: 296 والتيسير 81 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وفي الجامع 3: 167 أضاف أبان عن عاصم وجماعة، وفي البحر 2: 214 لم يذكر الجماعة بل أضاف يعقوب، وفي معاني القرآن 1: 149 و 205 وحجّة ابن خالويه 73، بلا نسبة. أمّا قراءة فتح الراء الواحدة، ففي الطّبري 5: 46 إلى عامة قراءة أهل الحجاز والكوفة والشام، وفي 5: 49 و 50 و 51 أنّ مجاهدا وقتادة والحسن والضحاك والسدّيّ وابن شهاب وسفيان وابن زيد وعطاء وعكرمة، قد تأوّلوا بها. وفي السبعة 183 إلى نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي، وأنها لأهل الشام وفي الكشف 1: 296 والتيسير 81، إلى غير ابن كثير وأبي عمرو. وفي الجامع 3: 167 إلى نافع وعاصم وحمزة والكسائي، وفي البحر 2: 215 إلى غير من قرأ بغيرها من السبعة.
وفي الجامع 3: 167 أنّ عمر بن خطاب قرأ براءين مفتوحة أولاهما، وأنّ أبا جعفر بن القعقاع قرأ براء واحدة ساكنة، وأنّ ابن عبّاس والحسن وأبان في رواية عن عاصم، قرءوا براءين مكسورة أولاهما.
(4) . في الأصل: الشهد.(1/248)
237] أي: فعليكم نصف ما فرضتم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [الآية 237] وإن شئت نصبت (نصف ما فرضتم) على الأمر «1» .
قال تعالى وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الآية 237] «2» .
وقرأ بعضهم (ولا تناسوا) «3» ، وكلّ صواب. وقرأ بعضهم (ولا تنسوا الفضل) «4» فكسر الواو لاجتماع الساكنين كما قرأ بعضهم: (اشتروا الضّلالة) «5» .
قال تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [الآية 239] يقول: «صلّوا رجالا أو صلّوا ركبانا» .
وقال تعالى ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ [الآية 232] وذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ [الآية 232] لأنّه خاطب رجالا، وقال في موضع آخر قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] لأنّه خاطب نساء، ولو ترك «ذلك» كما هي، ولم يلحق بها أسماء الذين خاطب كان كان جائزا. وقال: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب: 30] ولم يقل «ذلكنّ» وقال: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) [التوبة] . وقال: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ [المجادلة: 12] .
وليس بأبعد من قوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] فخاطب، ثمّ حدّث عن غائب، لأنّ الغائب هو الشاهد، في ذا المكان.
وقال هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً [المائدة: 60] .
وقال تعالى:
__________
(1) . في الجامع 3: 204 أنّ ضم الفاء قراءة الجمهور والامام علي بن أبي طالب، وفتح الفاء قراءة فرقة لم يعيّنها.
(2) . في الجامع أنّ ضمّ الواو قراءة الجمهور 2: 208، وأشار إليها الخليل في الكتاب 2: 276.
(3) . في الشواذ 5 إلى الامام علي بن أبي طالب مع كسر الواو، وفي المحتسب 127 إلى الإمام علي بن أبي طالب وأبي رجاء وجؤية بن عائذ، وفي الجامع 3: 208 إلى الإمام علي بن أبي طالب ومجاهد وأبي حياة وابن أبي عبلة، وكذلك في البحر 2: 238.
(4) . في الجامع 3: 208، والبحر 2: 238 إلى يحيى بن يعمر، وأشار إليها الخليل في الكتاب 2: 276.
(5) . البقرة 2: 19، وهي في الشواذ إلى يحيى بن يعمر، وزاد في المحتسب 54 ابن أبي إسحاق وأبا السمال، وفي الجامع 1: 210 أسقط أبا السمال، وفي الكشف 1: 275، والمشكل 1: 20، والبحر 1: 71 بلا نسبة.(1/249)
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [الآية 241] أي: أحقّ ذلك حقّا «1» .
وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الآية 245] بالنّصب، على إضمار «أن» بعد الفاء في فَيُضاعِفَهُ. وليس قوله تعالى يُقْرِضُ اللَّهَ لحاجة بالله ولكن هذا كقول العرب: «لك عندي قرض صدق» و «قرض سوء» لأمر تأتي، فيه مسرّته أو مساءته «2» . وقال الشاعر «3» [من البسيط وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائة] :
لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة ... اخلع ثيابك منها وانج عريانا «4»
كلّ امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيّئا أو مدينا مثل ما دانا «5»
ف «القرض» : ما سلف من صالح أو من سيّئ.
قال تعالى: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 246] ف «أن» هاهنا «6» [في ألّا] زائدة، كما زيدت بعد «فلمّا» ، و «لما» ، و «لو» ، فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. ومعناه «ومالنا لا نقاتل» ، فأعمل «أن» وهي زائدة، كما قال: «ما أتاني من أحد» فأعمل «من» وهي زائدة، قال الفرزدق «7» [من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة] :
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا «8»
المعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب. و «لا» زائدة، وأعملها.
وقال تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 248] . و «السّكينة» هي:
__________
(1) . نقلها في اعراب القرآن 1: 121.
(2) . نقلها عنه في البحر 2: 248 و 253.
(3) . هو أميّة بن أبي الصّلت. ديوانه 258، تحقيق الحديث والتهذيب 8: 340، واللسان «قرض» .
(4) . وفيه «وهدينا كالذي دانا» . [.....]
(5) . في التهذيب «ومدينا» ، وكذلك في الصحاح «قرض» ، وفي اللسان «قرض» أو «مدينا» .
(6) . نقله في المشكل 1: 134، وإعراب القرآن 1: 122، والجامع 3: 244، واعراب القرآن للزجّاج 10: 110 و 3: 859، والبيان 1: 165.
(7) . هو همّام بن غالب، مرّت ترجمته فيما سبق.
(8) . ديوان الفرزدق 1: 230، وفيه «لام» بلا تاء. والبيت في الخصائص 2: 36.(1/250)
الوقار. وأما الحديد فهو «السّكّين، مشدد الكاف. وقال بعضهم: «هي السّكّين» ، مثلها في التشدّيد، إلا أنّها مؤنثة فأنث «1» . والتأنيث ليس بالمعروف، وبنو قشير يقولون:
«سخّين» للسكين «2» . وقال تعالى وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً [يوسف:
31] .
وقال تعالى وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الآية 251] «3» .
بنصب النَّاسِ على إيقاع الفعل بهم، ثمّ الإبدال منهم بَعْضُهُمْ للتفسير.
وقال تعالى مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [الآية 253] أي كلّمه الله، فلفظ الجلالة في ذا الموضع، رفع.
وقال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [الآية 253] أي رفع الله بعضهم درجات.
وقال لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الآية 255] تقول «وسن» «يوسن» «سنة» و «سنا» .
وقال وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [الآية 255] لأنه من «آده» «يؤوده» «أودا» وتفسيره:
لا يثقله.
وقال قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [الآية 256] وإن شئت (الرّشد من الغيّ) «4» مضمومة ومفتوحة.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [الآية 257] ، «فالطّاغوت» جماعة في المعنى، وهو في اللفظ واحد، وقد جمع، فقالوا «الطّواغيت» .
وأمّا قوله تعالى:
__________
(1) . لم تحدّد كتب التأنيث والتذكير، ولا كتب اللهجات معاد التذكير والتأنيث هذا.
(2) . في اللسان «سخن» : الساخين: المساحي، واحدهما سخّين بلغة عبد القيس وهي مسحاة منعطفة. ويقال للسكّين: السخينة. والسخاخين: سكاكين الجزّار.
(3) . في الأصل «دفاع» ، وهي قراءة منسوبة في السبعة 187 إلى نافع وإلى عاصم في رواية واقتصر في الكشف 1:
304، والتيسير 82، والبيان 1: 167، والإملاء 1: 105، والجامع 3: 256، على نافع، أمّا قراءة «دفع» ففي السبعة 187 إلى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، أمّا في الكشف والتيسير والجامع «كما سبق» فقد نسبتها إلى غير نافع. وأمّا في حجة ابن خالويه 75، والبيان 1: 167، والإملاء 1: 105، فقد ذكرت القراءتان بلا نسبة.
(4) . أشار في الإملاء 1: 107 إلى القراءتين ولم ينسب، وفي الجامع 3: 279 أنّها قراءة أبي عبد الرحمن والحسن والشّعبي.(1/251)
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 257] فبمعنى: «يحكم بأنّهم كذاك» ، كما تقول: «قد أخرجك الله من ذا الأمر» ، ولم تكن فيه قطّ.
وتقول: «أخرجني فلان من الكتبة» ، ولم تكن فيها قطّ. أي: لم يجعلني من أهلها ولا فيها.
وقال أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الآية 259] الكاف زائدة والمعنى- والله أعلم- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الآية 258] «أو الذي مرّ على قرية» والكاف زائدة. وفي كتاب الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] يقول: «ليس كهو» لأنّ الله سبحانه ليس له مثيل.
قال تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ [الآية 259] فتثبت الهاء للسكوت، وإذا وصلت حذفتها «1» مثل «اخشه» . وأثبتها بعضهم في الوصل، فقال لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ «2» فجعل الهاء من الأصل وذلك في المعنى: لم تمرر عليه السنون ف «السّنة» منهم من يجعلها من الواو، فيقول: «سنيّة» ومنهم من يجعلها من الهاء، فيقول: «سنيهة» يجعل الذي ذهب منها هاء، كأنّه أبدلها من الواو كما قالوا: «أسنتوا» : إذا أصابتهم السّنون. أبدل التاء.
ويقولون: «بعته مساناة» و «مسانهة» .
ويكون: لَمْ يَتَسَنَّهْ أن تكون هذه الهاء للسكون. ويحمل قول الذين وصلوا بالهاء، على الوقف الخفيّ، وبالهاء نقرأ في الوصل.
وقال تعالى: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) إذا عنى نفسه.
قرأ بعضهم (قال اعلم) بجزم على
__________
(1) . هي في الطّبري 5: 460 إلى عامّة قراء الكوفة، وفي السّبعة 189 أنّ إبقاءها في السكون للجميع، وأنّ حذفها في الوصل إلى حمزة والكسائي وفي التيسير 82 والجامع 3: 292 والبحر 2: 292 إلى الأخوين حمزة والكسائي وفي الكشف 1: 307 اقتصر على حمزة وفي معاني القرآن 1: 172، وحجّة ابن خالويه 76، والمشكل 78، بلا نسبة، وأورد السجستاني في المصاحف 49، إلى أنها كانت تكتب بتضعيف النون، وأنّ الحجّاج هو الذي أدخل عليها الهاء.
(2) . في الطّبري 5: 461- 466 أنّها قراءة عامة قراء أهل المدينة والحجاز، وأيّدها بنقل عن عثمان وأبيّ وزيد بن ثابت، وأنّه تأوّل بها وهب بن منبّه وقتادة والسّدّي والضّحّاك وابن عباس وابن زيد وبكر بن مضر ومجاهد والربيع، ونسبها في السبعة 189 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الكشف 1: 307 إلى غير حمزة، وفي التيسير 82 إلى غير حمزة والكسائي، وفي الجامع 3: 292 إلى الجمهور، وفي المشكل 76، ومعاني القرآن 1: 172 و 173، وحجّة ابن خالويه 76، فبلا نسبة.(1/252)
الأمر، كما يقول: «اعلم أنّه قد كان كذا وكذا» كأنه يقول ذاك لغيره، وإنّما ينبّه نفسه والجزم أجود في المعنى، إلا أنه أقل في القراءة «1» والرّفع قراءة العامة، وبه نقرأ «2» .
وأمّا قوله تعالى: على لسان النبي إبراهيم (ع) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الآية 260] فلم يكن ذلك شكّا من إبراهيم (ع) ولم يرد به رؤية القلب، وإنما أراد به رؤية العين «3» .
وقول الله عز وجل له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [الآية 260] كأنّه يقول: «ألست قد صدقت» أي: أنت كذلك. قال الشاعر «4» [من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون] :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقوله تعالى، على لسان إبراهيم (ع) : لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الآية 260] أي:
قلبي ينازعني إلى النظر، فإذا نظرت اطمأنّ قلبي.
قال تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الآية 260] أي: قطّعهنّ وتقول منها: «صار» «يصور» «5» . وقال
__________
(1) . هو في معاني القرآن 1: 173 و 174 قراءة ابن عباس وأبي عبد الله، وفي الطّبري 5: 481 و 482 و 483 إلى عامة قراء أهل الكوفة، وأيّدها بقراءة عبد الله وابن عباس، ورجّحها وفي السبعة 189 والتيسير 82 والجامع 3: 296، إلى حمزة والكسائي وزاد في الكشف 1: 312 ابن عباس وأبا رجاء وأبا عبد الرحمن وفي البحر 2: 296 زاد على حمزة والكسائي، أبا رجاء وعبد الله والأعمش.
(2) . في معاني القرآن 1: 174 إلى العامّة، وفي الطّبري 5: 482 و 483 إلى عامّة قراء أهل المدينة، وبعض قراء أهل العراق، وتأوّل بها وهب بن منبّه وقتادة والسديّ والضّحّاك وابن زيد وفي السبعة 189 إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر، وفي الشّواذ 16 إلى ابن مسعود وفي الكشف 1: 312 و 313 إلى الحسن والأعرج وأبي جعفر وشيبة وابن أبي إسحاق وعيسى وابن محيصن، وعليها الحرميّان وعاصم وابن عامر وأبو عمرو، وفي التيسير 82 إلى غير حمزة والكسائي وفي الجامع 3: 296 إلى الأكثر من القرّاء، وتأوّل بها قتادة ومكّي وفي البحر 2: 296 إلى الجمهور.
(3) . نقلها عنه في الجامع 3: 298.
(4) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. وقد مرت ترجمته قبل، والبيت في ديوانه 1: 89 من شواهد الشعر المعروفة. [.....]
(5) . وهي في معاني القرآن 1: 174 إلى العامة، وفي الطّبري 5: 504 إلى عامة قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة، وفي السبعة 190 والتيسير 82 إلى غير حمزة، وأضاف في الكشف 1: 313 إلى علي بن أبي طالب والحسن وأبي عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد، وفي البحر 2: 300 إلى غير من أخذ بالأخرى من السبعة، وفي الجامع 3: 301، وحجّة ابن خالويه 77 بلا نسبة.(1/253)
بعضهم فَصُرْهُنَّ «1» فجعلها من «صار» «يصير» وقال إِلَيْكَ لأنّه يريد: «خذ أربعة إليك فصرهنّ» .
وقوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الآية 265] «2» وبعضهم قرأ (بربوة) «3» ، (وبرباوة) «4» . و (برباوة) «5» ، كلّ من لغات العرب «6» وهو كلّه من الرابية وفعله «ربا» «يربو» «7» .
قال تعالى كَمَثَلِ صَفْوانٍ [الآية 264] والواحدة «صفوانة» . ومنهم من يجعل «الصّفوان» واحدا «8» فيجعله:
الحجر. ومن جعله جميعا جعله:
الحجارة مثل: «التمرة» و «التمر» . وقد قالوا «الكذّان» : و «الكذّانة» وهو شبه الحجر من الطّين.
قال تعالى فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ [الآية 265] وقال مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الأنعام: 141] و «الأكل» : هو:
ما يؤكل. و «الأكل» هو الفعل الذي يكون منك. تقول: «أكلت أكلا» و «أكلت أكلة واحدة» وإذا عنيت الطعام قلت: «أكلة واحدة» . قال [من الطويل وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائة] :
__________
(1) . في معاني القرآن 1: 174 إلى اصحاب عبد الله استنادا إلى لغة هذيل وسليم، وفي الطّبري 5: 495 إلى جماعة من أهل الكوفة وهي لغة هذيل وسليم، وفي السبعة 190 والتيسير 82 إلى حمزة، وفي الكشف 1: 313 إلى حمزة وابن عباس وشيبة وعلقمة وابن جبير وأبي جعفر وقتادة وابن وثاب وطلحة والأعمش، واختلف عن ابن عباس وفي البحر 2: 300 إلى حمزة ويزيد وخلف ورويس وفي حجّة ابن خالويه 77، والجامع 3: 301، بلا نسبة.
(2) . فكلمة «ربوة» في المصحف، بفتح الراء وضمّها في الطّبري 5: 536 إلى عامة قراء أهل المدينة والحجاز والعراق، وفي السبعة والكشف 1: 313 والتيسير 83 والبحر 2: 312 إلى غير ابن عامر وعاصم وفي الجامع 3: 316 إلى ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبي عمرو وفي الحجّة 78، والإملاء 1: 113 بلا نسبة.
(3) . في الطّبري 5: 536، والبحر 2: 312، إلى ابن عباس وزاد في الجامع 2: 316 أبا إسحاق السبيعي وفي الإملاء 1: 113، بلا نسبة.
(4) . في الجامع 3: 316، والبحر 2: 312، إلى الأشهب العقيلي.
(5) . في الجامع 3: 316، والبحر 2: 312، إلى أبي جعفر وابن عبد الرحمن. وأورد في الإملاء 1: 113، القراءة بالألف بلا تعيين حركة الراء، وبلا نسبة.
(6) . في اللسان «ربا» أنّ فتح الراء في «ربوة» لغة تميم، وأنّ ضم الراء، وهو الاختيار، لأنّها أكثر اللغات.
(7) . في الأصل: يربوا بألف بعد الواو. وقد أفاده في إعراب القرآن 1: 130.
(8) . وقد نقل رأي الأخفش في المشكل 1: 140، وإعراب القرآن 1: 129، والجامع 3: 313.(1/254)
ما أكلة أكلتها بغنيمة ... ولا جوعة أن جعتها بغرام
ففتح الألف لأنه يعني الفعل.
ويدلّك عليه «ولا جوعة» ، وإن شئت ضممت «الأكلة» ، وعنيت به الطعام.
وقال تعالى لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ [الآية 266] وقال في موضع آخر ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: 9] وكل سواء لأنّك تقول: «ظريف» و «ظراف» و «ظرفاء» ، هكذا جمع «فعيل» .
وقال تعالى فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ [الآية 265] «1» .
وتقول في «الوابل» وهو: المطر الشّديد: «وبلت السّماء» «2» و «أوبلت» مثل «مطرت» و «أمطرت» ، و «طلّت» و «أطلّت» من «الطلّ» ، و «غاثت» و «أغاثت» من «الغيث» . وقوله تعالى:
أَخْذاً وَبِيلًا (111) [المزّمّل] من ذا، يعني: شديدا «3» . وقال تعالى الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [الآية 268] وقرأ بعضهم (الفقر) «4» مثل «الضّعف» و «الضّعف» وجعل «يعد» متعدّيا إلى مفعولين.
قال تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الآية 270] تحمل الكلام على الاخر، كما في قوله تعالى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء:
112] وإن شئت جعلت تذكير هذا على «الكسب» في المعنى كما في قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 271] كأنّه يقول:
«فالإيتاء خير والإخفاء» .
وأمّا قوله تعالى وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الآية 231] فهذا على ما. وأما قوله تعالى أَوْ نَذَرْتُمْ [الآية 270] فتقول: «نذر» ينذر على نفسه» «نذرا» و «نذرت مالي» ف «أنا
__________
(1) . نقلها في الجامع 3: 313.
(2) . زيادة يقتضيها السياق، لتسويغ كلامه الآتي على الوابل، والفعل منه، والفعل من الطلّ.
(3) . نقلها في الجامع 3: 313.
(4) . في الشواذ 17 إلى عيسى بن عمر وذكرها في البحر 2: 319، والجامع 3: 328 بلا نسبة، وكذلك في الكشّاف 1: 315.(1/255)
أنذره» «نذرا» أخبرنا بذلك يونس «1» عن العرب «2» وفي كتاب الله عز وجل إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: 35] . قال الشاعر «3» [من مجزوء الكامل وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائة] :
هم ينذرون دمي وأ ... نذر أن لقيت بأن أشدّا
وقال عنترة «4» [من الكامل وهو الشاهد الخمسون بعد المائة] :
الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم ألقهما دمي
قال تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الآية 274] بجعل الخبر بالفاء لأنّ «الذي» في معنى «من» . و «من» يكون جوابها بالفاء في المجازاة لأنّ معناها «من ينفق ماله فله كذا» . وقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) [محمد] وقال وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) [محمد] وهذا في القرآن والكلام كثير ومثله «الذي يأتينا فله درهم» .
قال تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [الآية 279] تقول «قد أذنت منك بحرب» و «هو يأذن» .
وقال تعالى لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) «5» . وقرأ بعضهم (لا تظلمون ولا تظلمون) «6» كلّه سواء في المعنى.
وقال: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الآية 280] فكأنّه يقول:
__________
(1) . هو يونس بن حبيب النحوي. وقد مرّت ترجمته فيما سبق. [.....]
(2) . في الصحاح «نذر» ، نقل العبارة مع بعض التغيير وفي اللسان «نذر» كذلك، واستشهد بالآية التالية أيضا.
(3) . هو عمرو بن معدي كرب الزبيدي. وهو في ديوانه 69.
(4) . هو عنترة بن شدّاد العبسي. ديوانه 222، ومعاني القرآن 1: 387 و 3: 240، والبيت يعدّ من معلّقته، وهو في شرح القصائد التسع 2: 535، وشرح القصائد السبع 364.
(5) . هي في الجامع 3: 370، والبحر 2: 339، إلى جميع القرّاء وفي السبعة 192 استثنى عاصما وفي حجة ابن خالويه 80 بلا نسبة وفي الإملاء 1: 117، والكشّاف 1: 322، بلا نسبة.
(6) . في الجامع 3: 370 إلى عاصم برواية المفضّل، وفي البحر 3: 339 إلى أبان والمفضّل عن عاصم، واقتصر في السبعة 192 على عاصم وفي حجة ابن خالويه 80 بلا نسبة، وفي الكشّاف 1: 322 إلى المفضّل عن عاصم، وفي الإملاء 1: 117 بلا نسبة.(1/256)
«وان كان ممّن تقاضون ذو عسرة فعليكم ان تنظروا الى الميسرة» وقال بعضهم (فنظرة) «1» وإن شئت لم تجعل ل «كان» خبرا مضمرا وجعلت «كان» بمنزلة: «وقع» وقال بعضهم (ميسره) «2» وليست بجائزة لأنّه ليس في الكلام «مفعل» «3» . ولو قرءوها (موسره) لجاز، لأنّه من «أيسر» مثل: «أدخل» ، ف «هو مدخل» «4» . وقرأ بعضهم (فناظره «5» الى ميسرة) فجعلها «فاعل» من «ناظر» ، وجزمها للأمر.
وقال تعالى وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 280] فكأنّه يقول:
«الصّدقة خير لكم» . ف وَأَنْ تَصَدَّقُوا اسم مبتدأ خَيْرٌ لَكُمْ خبر المبتدأ.
وقال تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ [الآية 282] أي: إن لم يكن الشهيدان رجلين، ثم قال فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فالذي يستشهد رجل وامرأتان.
وقال تعالى وَلا تَسْئَمُوا [الآية 282] من «سئمت» «تسأم» «سامة» و «سأمة» و «ساما» و «سأما» «6» .
وقال تعالى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ [الآية 282] بالجزم لأنّه نهي، وإذا وقفت قلت «يأب» فتقف بغير ياء.
وقال تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [الآية 282] على النّهي، والرّفع
__________
(1) . في الجامع 3: 373 إلى مجاهد وأبي رجاء والحسن، وزاد في المحتسب 143 أنّ الخلاف في النسبة إلى الحسن، وزاد في البحر 2: 340 الضّحّاك وقتادة، وقال إنها لغة تميمية، وفي التيسير 85 إلى غير نافع.
(2) . في المحتسب 143 إلى عطاء بن يسار في رواية. وفي البحر 2: 340 إلى مجاهد وعطاء. وزاد في الجامع 3:
374 إثبات الياء في الدرج بعد الهاء، وفي المشكل 1: 81 والكشاف 1: 323 والإملاء 1: 117 بلا نسبة.
(3) . نقله في الصحاح «يسر» .
(4) . نقلها في إعراب القرآن مع إبدال بهاء الضمير هاء تأنيث في «موسرة» ، وإلحاقها «مدخل» 1: 135.
(5) . في الشواذ 17 إلى عطاء بن رباح، وفي المحتسب 143 إحدى قراءتين إلى عطاء بن أبي رباح، وكذلك في البحر 2: 340 وفي الجامع 3: 374 إلى مجاهد وعطاء. أمّا «ناظره» بهاء التأنيث، ففي الجامع 3: 374 بلا نسبة.
(6) . نقلها عنه في إعراب القرآن 1: 137 والجامع 3: 400 باختلاف في ترتيب المفردات، وزاد في الجامع قوله: كما قال الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم.
وفي الصحاح «سأم» نسب سرد هذه المصادر إلى أبي زيد. وفيها جميعا بفتح الهمزة في «سأم» .(1/257)
على الخبر «1» . وهو مثل لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها [الآية 233] إلّا أنّه لم يقرأ (لا تضارّ) رفعا «2» .
وقال تعالى فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [الآية 283] تقول: «رهن» . و «رهان» مثل:
«حبل» و «حبال» «3» . وقال أبو عمرو «4» «فرهن» «5» وهي قبيحة لأنّ «فعلا» لا يجمع على «فعل» إلّا قليلا شاذا «6» ، رغم أنّهم يقولون: «سقف» وسقف «7» وقرءوا هذه الآية (سقفا من فضّة) «8» وقالوا: «قلب» و «قلب» و «قلب» من «قلب النّخلة» و «لحد» و «لحد» ل «لحد القبر» ، وهذا شاذّ لا يكاد يعرف. وقد جمعوا «فعلا» على «فعل» ، فقالوا:
«ثطّ» و «ثطّ» ، و «جون» ، و «جون» و «ورد» و «ورد» . وقد يكون «رهن» جماعة» ل «الرّهان» كأنّه جمع الجماعة «9» و «رهان» أمثل «10» من هذا الاضطرار. وقد قالوا: «سهم خشن» في «سهام خشن» خفيفة. وقال أبو
__________
(1) . قراءة الرفع في المحتسب 149 والبحر 2: 354 إلى ابن محيصن، وفي حجّة ابن خالويه 73 بلا نسبة.
(2) . سبق للأخفش أن أورد في كلامه على هذه الآية قراءة الرفع ووجهها، وتمّ تخريجها.
(3) . هي قراءة منسوبة في الطّبري 6: 96 إلى عامة قرّاء الحجاز والعراق، وفي البحر 2: 355 إلى الجمهور، وفي الكشف 1: 322 والتيسير 85 إلى غير ابن كثير وأبي عمرو، وفي المشكل 1: 83 وحجّة ابن خالويه 80، بلا نسبة. [.....]
(4) . هو أبو عمرو بن العلاء. وقد مرت ترجمته فيما سبق.
(5) . في معاني القرآن 1: 188 إلى مجاهد، وفي السبعة 194 إلى ابن كثير وأبي عمرو، وأنّهما في رواية أخرى أسكنا الهاء وفي الشواذ 18 إلى أبي عمرو وشهر بن حوشب وجماعة وقصرها في حجّة ابن خالويه 80 على أبي عمرو وفي الكشف 1: 322 والتيسير 85 والبحر 2: 355 إلى أبي عمرو وابن كثير وفي الجامع 3: 408 زاد عاصما وابن أبي النّجود وأهل مكّة وفي المشكل 83 بلا نسبة، وكذلك في الكشّاف 12: 328 والبيان 1: 184 والإملاء 1: 121.
(6) . نقلها في الصحاح «رهن» والمحكم «صقر» .
(7) . نقلها في الصحاح «رهن» .
(8) . الزخرف 43: 33، وقد نقله في الصحاح: «سقف» وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، كما في الجامع 16: 84 والسبعة 585 والتيسير 196 والكشف 2: 258 وذكرت من غير عزو، في البيان 2: 353 وحجّة ابن خالويه 294. والقراءة التي عليها رسم المصحف الشريف هي: سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ.
(9) . نقله في الصحاح «رهن» والمحكم «صقر» والجامع 3: 408.
(10) . أفاد ما جاء عن «ورد» و «جون» في الصحاح، ولم ينسبه.(1/258)
عمرو «1» : «قالت العرب: «رهن» ليفصلوا بينه وبين رهان الخيل قال الأخفش «2» : «كلّ جماعة على «فعل» فإنّه يقال فيها «فعل» .
وقال تعالى فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [الآية 283] «يؤدّ» من «أدّى» «يؤدّي» فلذلك كان الهمز و «اؤتمن» بالهمز لأنها من «الأمانة» ، وموضع الفاء منها همزة، إلّا أنك إذا استأنفت، ثبتت ألف الوصل فيها، فلم تهمز موضع الفاء، لئلّا تجتمع همزتان.
وقال تعالى غُفْرانَكَ رَبَّنا [الآية 285] فغفران بدل من اللفظ بالفعل، كأنه قال: «اغفر لنا غفرانك ربّنا» ومثله «سبحانك» إنّما هو «تسبيحك» أي «نسبّحك تسبيحك» وهو البراءة والتنزيه.
وفي قوله تعالى إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [الآية 282] فقوله بِدَيْنٍ تأكيد، نحو قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر وص: 73] لأنّك تقول «تداينّا» ، فيدلّ على قولك «بدين» ، قال الشاعر «3» [من الرجز وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد المائة] :
داينت أروى والدّيون تقضى ... [فمطلت بعضا وأدّت بعضا] «4»
تقول: «داينتها وداينتني فقد تداينّا» كما تقول: «قابلتها وقابلتني فقد تقابلنا» .
وقال تعالى أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ [الآية 282] بإضمار «الشاهد» ثمّ قال إِلى أَجَلِهِ أي إلى الأجل الذي تجوز فيه شهادته، والله أعلم.
__________
(1) . هو أبو عمرو بن العلاء، وقد سبقت ترجمته.
(2) . هو المؤلّف أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش.
(3) . هو رؤبة بن العجّاج الراجز المعروف، انظر ديوانه في مجموع أشعار العرب ص 79، والكشّاف 1: 324.
(4) . والمصراع الثاني من مراجع الشاعر، ومن الكتاب 2: 300، والبيان 2: 481، والخصائص 2: 96 و 97.(1/259)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البقرة» «1»
لم قال تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 2] على سبيل الاستغراق، وكم ضال قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [الآية 23] .
قلنا: المراد أنّه ليس محلّا للرّيب، أو معناه: لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفي معناه النّهي:
أي لا ترتابوا في أنه من عند الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [الحج: 7] .
فإن قيل: لم قال تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) والمتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيلا لحاصل؟
قلنا: إنّما صاروا متّقين بما استفادوا من الهدى، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى وزيادة فيه، أو خصّهم بالذكر لأنّهم هم الفائزون بمنافعه حيث قبلوه واتّبعوه، كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات] أو أراد الفريقين من يتّقي ومن لم يتّق، واقتصر على أحدهما، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] .
فإن قيل: المخادعة إنّما تتصوّر في حق من تخفى عليه الأمور ليتحقّق الخداع في حقّه يقال: خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم، والله تعالى لا يخفى عليه شيء فلم قال سبحانه يُخادِعُونَ اللَّهَ [الآية 9] ؟
قلنا معناه يخادعون رسول الله، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وقوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، المؤلف: محمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(1/261)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] أو سمّى نفاقهم خداعا، لشبهه بفعل المخادع.
فإن قيل: لم حصر الفساد في المنافقين، بقوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الآية 12] ومعلوم أنّ غيرهم مفسد؟
قلنا: المراد بالفساد، الفساد بالنفاق وهم كانوا مختصّين به:
فإن قيل: لم قال الله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الآية 15] والاستهزاء من باب العبث والسخرية وهو قبيح، والله تعالى منزه عن القبيح؟
قلنا: سمي جزاء الاستهزاء استهزاء، مشاكلة، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] فالمعنى الله يجازيهم جزاء استهزائهم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الآية 19] ومعلوم أنّ الصّيب لا يكون إلّا من السماء؟
قلنا: الحكمة فيه، أنّ السّياق ذكر السماء معرفة، وأضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها لا من أفق واحد، إذ كل أفق يسمّى سماء قال الشاعر:
ومن بعد أرض بيننا وسماء
فإن قيل: لم قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين، أنّه لا ندّ له سبحانه ولا شريك له، بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا وشركاء؟.
قلنا: معناه: وأنتم تعلمون، أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية. أو وأنتم تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ [الآية 24] فعرّف النار هنا، ونكّرها في سورة التحريم؟
قلنا: لأنّ الخطاب في هذه مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرّفت بلام الاستغراق أو العهد الذهني وفي تلك مع المؤمنين والذي يعذّب من عصاتهم بالنار يكون في جزء من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة قبل هذه الآية فلم تكن النار التي وقودها النّاس والحجارة معروفة فنكّرها ثم نزلت هذه الآية بالمدينة، فعرفت إشارة بها إلى ما عرفوه أولا.(1/262)
فإن قيل: إنّ «تلبسوا» و «تكتموا» في قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [الآية 42] ، ليسا فعلين متغايرين فينهوا عن الجمع بينهما، بل أحدهما داخل في الاخر؟
قلنا: هما فعلان متغايران، لأنّ المراد بتلبيسهم الحق بالباطل، كتابتهم في التوراة ما ليس منها، وبكتمانهم الحقّ بقولهم لا نجد في التوراة صفة محمد (ص) .
فإن قيل: قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) ما فائدة الثاني، والأوّل يدل عليه ويقتضيه؟
قلنا: قوله تعالى: مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي ملاقو ثواب ربّهم، ما وعدهم على الصبر والصلاة، وقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ أي موقنون بالبعث، فصار المعنى أنّهم موقنون بالبعث، وبحصول الثواب الموعود، فلا تكرار فيه.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الآية 59] ، وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم، لأنّهم قيل لهم قولوا حطّة فقالوا حنطة؟
قلنا: معناه فبدّل الذين ظلموا قولا قيل لهم، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم؟
فإن قيل: قوله سبحانه: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (63) .
العثو: الفساد، فيصير المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا: معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي.
فإن قيل: لم قال تعالى: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الآية 61] وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟
قلنا: المراد أنّه دائم غير متبدّل، وإن كان نوعين.
فإن قيل: لم قال جلّ جلاله:
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الآية 61] وقتل النبيين لا يكون إلّا بغير الحق؟
قلنا: معناه بغير الحقّ في اعتقادهم، ولأنّ التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل، كما في عكسه، كقوله تعالى.
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] .
فإن قيل: لم قال تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) وانتقالهم من(1/263)
صورة البشر إلى صورة القردة، ليس في وسعهم؟
قلنا هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، فهو من قبيل قوله عزّ وجلّ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47 وسورة يس: 82] .
فإن قيل: لم قال سبحانه: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الآية 68] ولفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا، فكيف جاز دخولها على ذلك، وهو مفرد؟
قلنا: ذلك يشار به إلى المفرد والمثنّى والمجموع، ومنه قوله تعالى:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] وقوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) [آل عمران] وقوله تعالى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران:
14] إلى قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فمعناه عوان بين الفارض والبكر، وسيأتي تمامه في قوله عزّ وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [الآية 74] كلاهما بمعنى واحد، فما فائدة الثاني؟
قلنا: التفجّر يدلّ على الخروج بوصف الكثرة، والثاني يدلّ على الخروج نفسه: وهما متغايران فلا تكرار.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [الآية 79] والكتابة لا تكون إلّا باليد؟
قلنا: الحكمة فيه تحقيق مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم، وذلك زيادة في تقبيح فعلهم، فإنّه يقال: كتب فلان كذا وإن لم يباشره بنفسه، بل أمر غيره به من كاتب له، ونحو ذلك.
فإن قيل: التولّي والإعراض واحد، فلم قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) .
قلنا: معناه: ثمّ تولّيتم عن الوفاء بالميثاق والعهد، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الآية 96] ما الحكمة في قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهم من جملة الناس؟
قلنا: إنّما خصّوا بالذكر بعد العموم،(1/264)
لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ، لأنّهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
فإن قيل: قوله عزّ وجل: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الآية 102] يدلّ على أن علم السحر لم يكن حراما.
قلنا: العمل به حرام، لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر ليجتنبوه، كما قال الله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الآية 102] . نظيره لو سأل إنسان: ما الزنا؟
لوجب بيانه له ليعرفه فيجتنبه.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) لم أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم، ثم نفاه عنهم.
قلنا: المثبت لهم، أنّهم علموا علما إجماليّا، أنّ من اختار السحر ماله في الاخرة من نصيب والمنفي عنهم، أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه، من تحسّر الاخرة، ولا يكون لهم نصيب منها فالمنفي غير المثبت، فلا تنافي.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) وإنّما يستقيم أن يقال: هذا خير من ذلك، إذا كان في كل واحد منهما خير، ولا خير في السحر؟
قلنا: خاطبهم على اعتقادهم أنّ في تعلم السحر خيرا، نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيويّ به.
فإن قيل: لم قال سبحانه هنا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [الآية 126] وقال في سورة إبراهيم صلوات الله عليه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ؟
قلنا: في الدّعوة الأولى كان مكانا قفرا، فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرّفه وطلب له الأمن، أو كان بلدا آمنا فطلب له ثبات الأمن ودوامه.
فإن قيل: أيّ مدح وشرف لإبراهيم صلوات الله عليه في قوله تعالى:
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) مع ما له من شرف الرسالة.
قلنا: قال الزجاج: المراد بقوله تعالى: لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) أي لمن الفائزين.
فإن قيل: الموت ليس في وسع(1/265)
الإنسان وقدرته حتّى يصحّ أن ينهى عنه، على صفة أو يؤمر به على صفة، فلم قال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) .
قلنا: معناه: اثبتوا على الإسلام، حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام، فهو في المعنى أمر بالثبات على الإسلام والدوام عليه، أو نهي عن تركه.
فإن قيل: قوله عزّ وجل: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الآية 137] . إن أريد به الله تعالى فلا مثل له، وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له أيضا، لأن دين الحق واحد؟.
قلنا: كلمة مثل زائدة. معناه: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، يعني بمن آمنتم به وهو الله تعالى، أو بما آمنتم به وهو دين الإسلام، و «مثل» قد تزاد في الكلام كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وقوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] ومثل بمعنى واحد وقيل الباء زائدة كما في قوله تعالى: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] أي مثل إيمانكم بالله أو بدين الإسلام.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الآية 143] وهو لم يزل عالما بذلك؟
قلنا: قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أي لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه، أنّه يكون ويوجد، أو أراد بالعلم التمييز للعباد، كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] .
إن قيل: لم قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الآية 144] وهذا يدل على أنّه (ص) ، لم يكن راضيا بالتوجّه إلى بيت المقدس، مع أنّ التوجّه إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟
قلنا: المراد بهذا، رضا المحبّة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد الأمر الله تعالى.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [الآية 145] ولهم قبلتان:
لليهود قبلة، وللنصارى قبلة؟.
قلنا: لمّا كانت القبلتان باطلتين مخالفتين لقبلة الحقّ، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.
فإن قيل: كيف يكون للظالمين من اليهود أو غير هم حجة على المؤمنين، حتّى قال تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ(1/266)
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
[الآية 150] ؟.
قلنا: معناه إلّا أن يقولوا ظلما وباطلا، كقول الرجل لصاحبه: مالك عندي حق، إلّا أن تظلم أو تقول الباطل وقيل معناه: والذين ظلموا منهم، ف «إلّا» هنا بمعنى واو العطف، كما في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل] وقيل:
«إلّا» فيهما بمعنى لكن. وحجّتهم أنّهم كانوا يقولون، لمّا توجه النبي (ص) إلى بيت المقدس: ما درى محمّد أين قبلته حتّى هديناه، وكانوا يقولون أيضا: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا، فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة فعادوا يقولون:
لم تركت قبلة بيت المقدس؟ إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا، وإن كانت حقّا فقد انتقلت عنها فهذا هو المراد به بقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وقيل: المراد به قولهم:
ما ترك محمّد قبلتنا إلّا ميلا لدين قومه وحبّا لوطنه، وقيل: المراد به قول المشركين: قد عاد محمّد إلى قبلتنا لعلمه أنّ ديننا حق، وسوف يعود إلى ديننا، وإنما سمّى الله باطلهم حجة لمشابهته الحجة في الصورة، كما قال الله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ [الشورى:
16] أي باطلة، وقال سبحانه: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَلا تَكْفُرُونِ بعد قوله سبحانه: وَاشْكُرُوا لِي [الآية 152] والشكر نقيض الكفر، فمتى وجد الشكر انتفى الكفر؟
قلنا: قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي معناه استعينوا بنعمتي على طاعتي، وقوله سبحانه وَلا تَكْفُرُونِ معناه لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي. وقيل:
الأوّل أمر بالشكر. والثاني أمر بالثبات عليه.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) [آل عمران] وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟.
قلنا: المراد بالناس المؤمنون فقط، أو هو على عمومه وأهل دينه يلعنونه في الاخرة، قال الله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] وقال سبحانه: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف: 38] .(1/267)
فإن قيل: ما الحكمة في لفظ «إله» في قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية 163] .
قلنا: لو قيل: وإلهكم واحد، لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية، يعني لا إله غيره، ولم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته، بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله، والآية إنّما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته، ونفي ما يقوله النّصارى أنه واحد، والأقانيم ثلاثة:
أي الأصول كما أنّ زيدا واحد وأعضاؤه متعددة فلما قيل إله واحد دل على أحديّة الذات والصفة. ولقائل أن يقول: قوله تعالى واحِدٍ يحتمل الأحديّة في الذات، ويحتمل الأحدية في الصفات، سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرر، فلا يتم الجواب.
فإن قيل: ما الحكمة في التشبيه في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [الآية 171] وظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟.
قلنا: فيه إضمار تقديره: ومثلك يا محمّد مع الكفار كمثل الرّاعي مع الأنعام، أو تقديره: ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي، أو ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم، أو ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الرّاعي.
فإن قيل: لم خصّ المنعوق بأنّه لا يسمع إلّا دعاء ونداء، مع أنّ كلّ عاقل كذلك أيضا لا يسمع إلّا دعاء ونداء؟
قلنا: المراد بقوله تعالى: لا يَسْمَعُ [الآية 171] أنّه لا يفهم كقولهم:
أساء سمعا، فأساء إجابة، أي أساء فيهما.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 174] وقال في موضع آخر فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر] ؟
قلنا: المنفي كلام التلطّف والإكرام، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي.
فإن قيل: لم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الآية 178] أي فرض، والقصاص ليس بفرض، بل الوليّ مخيّر فيه، بل مندوب إلى تركه؟
قلنا: المراد به فرض على القاتل التمكين، لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.(1/268)
فإن قيل: لم قال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 180] عطف الأقربين على الوالدين، وهما أقرب الأقربين، والعطف يقتضي المغايرة؟
قلنا: الوالدان ليسا من الأقربين، لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة، كالأخ والعمّ ونحوهما، والوالدان ليسا كذلك، ولو كانا منهم لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما، كقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الآية 98] .
فإن قيل: لم قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الآية 183] وصوم هذه الأمة، ليس كصوم أمّة موسى وعيسى عليهما السلام؟.
قلنا: التشبيه في أصل الصوم لا في كيفيّته أو في كيفيّة الإفطار، فإنّه، في أول الأمر كان الإفطار مباحا من غروب الشمس إلى وقت النوم فقط، كما كان في صوم من قبلنا، ثم نسخ بقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الآية 187] ، أو في العدد أيضا على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض على النصارى صوم رمضان بعينه، فقدّموا عشرة أو أخّروا عشرة لئلّا يقع في الصيف، وجبروا التقديم والتأخير بزيادة عشرين، فصار صومهم خمسين يوما، بين الصيف والشتاء.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الآية 185] بعد قوله تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ.
قلنا: ذكر سبحانه أوّلا أنه هدى، ثم ذكر أنّه بيّنات من الهدى: أي من جملة ما هدى الله به عبيده، وفرّق به بين الحق والباطل، من الكتاب السماوية الهادية الفارقة بين الحق والباطل، فلا تكرار.
فإن قيل: ما الحكمة في إعادة ذكر المريض والمسافر؟
قلنا: الحكمة فيه أنّ الآية المتقدمة نسخ مما فيها تخيير الصحيح، وكان فيها تخيير المريض والمسافر أيضا.
فأعيد ذكرهما لئلّا يتوهم أنّ تخييرهما نسخ، كما نسخ تخيير الصحيح.
فإن قيل: قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية 186] يدلّ على أنّه يجيب دعاء الداعين،(1/269)
ونحن نرى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهم؟
قلنا: روي عن النبي (ص) ، أنّه قال: «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم، إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إمّا أن يعجّل دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الاخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ولأنّ قبول الدعاء شرطه الطاعة الله تعالى، وأكل الحلال، وحضور القلب وقت الدعاء فمتى اجتمعت هذه الشروط حصلت الإجابة، ولأن الداعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة، والله تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل، أو في منعه، فيجيبه إلى مقصوده الأصلي، وهو طلب المصلحة، فيكون قد أجيب وهو يعتقد أنّه منع عنه.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [الآية 196] ومعلوم أنّ ثلاثة وسبعة عشرة، ثم ما الحكمة في قوله تعالى: كامِلَةٌ والعشرة لا تكون إلّا كاملة، وكذا جميع أسماء الأعداد، لا تصدق على أقل من المذكور، ولا على أكثر منه؟
قلنا: الحكمة في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو، كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] وألا تحل التسع جملة، فنفى بقوله سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ ظنّ وجوب أحد العددين فقط، إما الثلاثة في الحج، أو السبعة بعد الرجوع، وأن يعلم العددين من جهتين جملة وتفصيلا، فيتأكّد العلم به، ونظيره فذلكة الحساب، وتنصيف الكتاب.
وأما قوله تعالى: كامِلَةٌ فتأكيد كما في قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [الآية 233] أو معناه كاملة في الثواب مع وقوعها بدلا من الهدى، أو في وقوعها موقع المتتابع مع تفرّقها، أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة مع وقوع بعضها في غير مكّة، فالحاصل أنّه كمال، وصفا لا ذاتا.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار الأمر بالذكر في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الآية 198] .
قلنا: إنّما كرره تنبيها على أنّه سبحانه أراد ذكرا مكرّرا، لا ذكرا واحدا، بل مرّة بعد أخرى، ولأنه زاد في الثاني فائدة أخرى، وهي قوله(1/270)
تعالى: كَما هَداكُمْ يعني اذكروه بأحديّته كما ذكركم بهدايته، أو إشارة الى أنّه جلّ وعلا أراد بالذكر الأوّل الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، وبالثاني الدعاء بعد الفجر بها، فلا تكرار.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [الآية 198] إلى أن قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [الآية 199] وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذّكر فيها مرتين، كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات.
قلنا: فيه تقديم وتأخير تقديره: من ربّكم ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس، فإذا أفضتم من عرفات.
فإن قيل: لم قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الآية 203] ومعلوم أنّ المتعجّل التارك بعض الرمي، إذا لم يكن عليه إثم، لا يكون على المتأخّر الآتي بالرمي كاملا؟
قلنا: كان أهل الجاهلية فريقين، منهم من جعل المتعجّل آثما، ومنهم من جعل المتأخّر آثما، فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا، أو معناه لا إثم على المتأخّر في تركه الأخذ بالرخصة، مع أنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه، أو أنّ معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى، لا على مجرّد الرخصة أو العزيمة في الرمي ثمّ قيل المراد به تقوى المعاصي في الحجّ، وقيل تقوى المعاصي بعد الحجّ في بقيّة العمر، بالوفاء بما عاهد الله تعالى عليه، بعرفة وغيرها من مواقف الحجّ من التوبة والإنابة. والمشكل في هذه الآية قوله تعالى: فِي يَوْمَيْنِ والتعجيل المرخّص فيه، إنّما هو التعجيل في اليوم الثاني من أيام التشريق.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) وهو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره، كقولهم: رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟
قلنا: هو خطاب لمن كان يعبد غير الله تعالى، وينسب أفعاله إلى سواه فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة، ردّوا ما أضافوه لغيره بسبب كفرهم وظلمهم ولأنّ رجع يستعمل بمعنى صار ووصل، كقولهم: رجع عليّ من فلان مكروه، قال الشاعر [بحر الطويل] :(1/271)
وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ولأنّها كانت إليه قبل خلق عبيده، فلمّا خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم، ومنه قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] وقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] وإنّما قال سبحانه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) ولم يقل إليه، وإن كان قد سبق ذكره مرة، لقصد التعميم والتعظيم.
فإن قيل: لم طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الآية 215] فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا عن بيان المصرف؟.
قلنا: قد تضمّن قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بيان ما ينفقونه وهو كلّ خير، ثمّ زيد على الجواب بيان المصرف، ونظيره قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ
[طه] .
فإن قيل: لم جاء «يسألونك» ثلاث مرات بغير واو: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [الآية 215] ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [الآية 217] ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [الآية 219] . ثم جاء ثلاث مرات بالواو: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [الآية 219] ، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [الآية 220] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ؟ [الآية 222] .
قلنا: لأنّ سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرّقا، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . وعزمهم الطلاق ممّا يعلم، لا ممّا يسمع؟
قلنا: الغالب أنّ العزم على الطلاق، وترك الفيء، لا يخلو من دمدمة، وإن خلا عنها، فلا بدّ له أن يحدّث نفسه ويناجيها بما عزم عليه، وذلك حديث لا يسمعه إلّا الله تعالى، كما يسمع وسوسة الشيطان.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [الآية 228] ولا حقّ للنساء في الرجعة، وأفعل يقتضي الاشتراك؟
قلنا: المراد أنّ الزوج إذا أراد الرجعة وأبت، وجب إيثار قوله على قولها، لأنّ لها حقا في الرجعة.(1/272)
فإن قيل: لم قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [الآية 228] والزوج أحقّ بالرجعة، سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها، بتطويل العدّة؟
قلنا: المراد أنّ الرجعة أصوب وأعدل، إن أراد الزوج الإصلاح، وتركها أصوب وأعدل، إن أراد الإضرار.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [الآية 243] وقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] .
قلنا: المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [الآية 56] لأنّها كانت إماتة عقوبة، أو كان إحياؤهم آية لنبيّهم على ما عرف في قصّتهم، فصار كإحياء العزيز حين مرّ على قرية وآيات الأنبياء نوادر مستثناة، فكان المراد بالآية الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء أو إحياء قوم موسى آية له أيضا، فكان هذا جوابا عاما، مع أنّ في أصل السؤال نظرا، لأنّ الضمير في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ للمتّقين، والمقصود في قوله تعالى فِيها الجنّات، على ما يأتي بيانه في سورة الدخان، إن شاء الله على وجه يندفع به السؤال من أصله.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ [الآية 247] والله تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟
قلنا: المراد بهذا الملك السلطنة، والرياسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت وليس المراد بأنّه يعطي ملكه لأحد، لأنّ سياق الآية يمنعه.
فإن قيل: لم قال تعالى في الماء:
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ [الآية 249] ولم يقل ومن لم يشربه، والماء مشروب لا مأكول؟
قلنا: طعم بمعنى أكل، وبمعنى ذاق، والذوق هو المراد هنا، وهو يعمّ.
فإن قيل: لم خصّ موسى وعيسى (عليهما السلام) من بين الأنبياء بالذكر في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [الآية 253] ؟(1/273)
قلنا: لما أوتيا من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، مع الكتابين العظيمين المشهورين.
فإن قيل: لم قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الآية 254] وفي يوم القيامة شفاعة الأنبياء وغيرهم بدليل قوله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الآية 255] وقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] وقوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] .
قلنا: هذه الآيات لا تدل على وجود الشفاعة يوم القيامة، بل تدل على أنّها لا توجد ولا تنفع من غير إذنه تعالى، ولا توجد لغير مرضيّ عنده، وهذا لا يتعارض مع وجودها، بل المتعارض معه هو الإخبار عن وجودها، لا الإخبار عن إمكان وجودها، ولو سلّم، فالمراد به نفي شفاعة الأصنام والكواكب التي كانوا يؤمنون بها.
ولهذا عرّض بذكر الكفّار، بقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) وقيل: المراد، أنّه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات، لأنّ الشّفاعة في الاخرة في زيادة الفضل لا غير، والخطاب مع المؤمنين في النفقة الواجبة وهي الزّكاة.
فإن قيل: لم قال الله تعالى:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ على وجه الحصر، وغيرهم ظالم أيضا؟
قلنا: لأنّ ظلمهم أشدّ، فكأنّه لا ظالم إلّا هم، نظيره قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر:
28] .
فإن قيل لم قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الآية 257] بلفظ المضارع، ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي، والإخراج قد وجد، لأنّ الإيمان قد وجد؟
قلنا: لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج، من الله تعالى في الزمان المستقبل، في حقّ من آمن، بزيادة كشف الشبه ومضاعفة الهداية، وفي حقّ من لم يؤمن، ممّن قضى الله أنّه سيؤمن بابتداء الهداية وزيادتها، أيضا، ولفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى.
فإن قيل: متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر، والكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟(1/274)
قلنا: الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدخول، يقال لمن امتنع عن الدخول في أمر خرج منه وأخرج نفسه منه، وإن لم يكن دخله فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضلال، إخراج لهم منها وتزيين قرناء الكفّار لهم الباطل الذي يصدّونهم به عن الحقّ، إخراج لهم من نور الهدى ولأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنبي عليه الصّلاة والسلام قبل أن يظهر كان نورا لهم، وكفرهم به بعد ظهوره خروج منه إلى ظلمات الكفر، ولأنّه لمّا ظهرت معجزاته عليه الصّلاة والسلام، وكان موافقه ومتّبعه خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومخالفه خارجا من نور العلم إلى ظلمات الجهل.
فإن قيل: لم انتقل إبراهيم (ع) إلى حجّة أخرى، وعدل عن نصرة الأولى، مع أنّه لم ينقطع بما عارضه به نمرود، من قتل أحد المجوسيين وإطلاق الاخر، فإن إبراهيم (ع) ما أراد هذا الإحياء والإماتة؟
قلنا: إمّا لأنّه رأى خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء والاماتة التي أضافهما إبراهيم (ع) إلى الله تعالى، حيث عارض معارضة لطيفة، وعمي عن اختلاف المعنيين أو لأنّه علم أنّه فهم الحجة لكنه قصد التمويه والتلبيس على أتباعه وأشياعه فعدل إبراهيم (ع) إلى أمر ظاهر يفهمه كل أحد، ولا يقع فيه تمويه ولا تلبيس.
فإن قيل: لم طبع الله على قلبه فلم يعارض بالعكس في طلوع الشمس؟
قلنا: لأنّه لو عارض به لم يأت الله بها من المغرب، لأنّ ذلك أمارة قيام الساعة، فلا يوجد إلّا قريبا من قيامها، ولأنّه وأتباعه كانوا عالمين أن طلوعها من المشرق سابق على وجوده، فلو ادّعاه لكذّبوه.
فإن قيل: لم قال عزير عليه السلام- كما ورد في التنزيل- منكرا مستبعدا أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [الآية 259] وهو نبيّ، والنبي لا تخفى عليه قدرة الله تعالى، على إحياء قرية خربة، وإعادة أهلها إليها؟
قلنا: لم يقله منكرا مستبعدا لعظيم قدرة الله تعالى، بل متعجبا من عظيم قدرته تعالى، أو طلبا لرؤية كيفية الإعادة، لأنّ كلمة «أنّى» بمعنى كيف أيضا. وقد نقل مجاهد أنّ المارّ على القرية القائل ذلك، كان رجلا كافرا(1/275)
شاكّا في البعث، وإن كان الأول هو المشهور.
فإن قيل: لم قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [الآية 260] وقد علم أنّه أثبت الناس إيمانا؟
قلنا: ليجيب بما أجاب به، فتحصل به الفائدة الجليلة، للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى.
فإن قيل: ما المقصود بقول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل:
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الآية 260] مع أنّ قلبه مطمئنّ بقدرة الله على الإحياء؟
قلنا: معناه ليطمئنّ قلبي، بعلم ذلك عيانا، كما اطمأن به برهانا أو ليطمئن بأنّك اتخذتني خليلا، أو بأني مستجاب الدعوة.
فإن قيل: فما الحكمة في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [الآية 260] أي فضمّهنّ، ولفظ الأخذ مغن عنه؟
قلنا: الحكمة فيه تأمّلها ومعرفة أشكالها وصفاتها، لئلّا يلتبس عليه بعد الإحياء، فيتوهّم أنّه غيرها.
فإن قيل: لم مدح الله سبحانه المتّقين بترك المنّ، ونهى عن المنّ أيضا، مع أنّه وصف نفسه بالمنّان، في نحو قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 164] ؟
قلنا: منّ بمعنى أعطى، ومنه المنّان في صفات الله تعالى. وقوله سبحانه:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنعم عليهم، ونحو ذلك قوله تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [سورة ص: 39] . أما وقوله:
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ [محمد: 4] ، فهو من الإنعام بالإطلاق من غير عوض. المنّ هنا بمعنى الاعتداد بالنعمة، وذكرها واستعظامها، وهو المذموم.
فإن قيل: قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] من القسم الثاني.
قلنا: ذلك اعتداد بنعمة الإيمان، فلا يكون قبيحا، بخلاف نعمة المال، ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقّه، ذم في حقّ العبد كالجبّار، والمتكبّر، والمنتقم، ونحو ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [الآية 266] ثمّ قال فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الآية 266] ؟
قلنا: لمّا كان النخيل والأعناب أكرم(1/276)
الشجر، وأكثرها منافع، خصّهما سبحانه بالذّكر وجعل الجنّة منهما، وإن كان فيها غير هما تغليبا لهما وتفضيلا.
فإن قيل: قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [الآية 273] يدلّ بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق، فلم قال سبحانه: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [الآية 273] .
قلنا: المراد به نفي السؤال والإلحاف جميعا، كقوله تعالى: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [الآية 71] ، أو كقول الأعشى:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب معناه ليس بساقه أين، ولا وصب، فغمزها.
فإن قيل: لم قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا [الآية 275] ، ألحق الوعيد بأكله مع أنّ لابسه، ومدّخره، وواهبه، أيضا، في الإثم سواء؟
قلنا: لمّا كان أكثر الانتفاع والهمّ بالمال، إنّما هو الأكل، لأنه مقصود لا غناء عنه ولا بدّ منه، عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل كما يقال: أكل فلان ماله كلّه، إذا أخرجه في مصالح الأكل وغيره؟
فإن قيل: لم خص الأكل بذكر الوعيد، دون المطعم، وكلاهما آثم؟
قلنا: لأنّ انتفاعه الدنيويّ بالرّبا، أكثر من انتفاع المطعم.
فإن قيل: لم قال تعالى: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الآية 275] والكلام إذ ذاك في الربا، ومقصودهم تشبيهه بالبيع فقياسه إنّما الربا مثل البيع في حلّه؟
قلنا: جاءوا بالتمثيل على طريق المبالغة، وذلك أنّه بلغ من اعتقادهم استحلال الربا، أنّهم جعلوه أصلا في الحلّ والبيع، وفرعا كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفّه، إذا أرادوا المبالغة.
فإن قيل: كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وقد قال الله تعالى في حق آكل الربا: وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) ؟.
قلنا: الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء وإن لم يكن بصفة التأبيد، يقال:
خلّد الأمير فلانا في الحبس، إذا طال حبسه، أو أنّ قوله تعالى: فَأُولئِكَ إشارة إلى من عاد إلى استحلال الربا،(1/277)
بقوله جلّ وعلا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الآية 275] بعد نزول آية التحريم، وذلك يكون كافرا، والكافر مخلّد في النار.
فإن قيل: إنظار المعسر، فرض بالنصّ، والتصدّق عليه تطوّع، فلم قال تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 280] .
قلنا: كلّ تطوّع كان محصّلا للمقصود من الفرض، بوصف الزيادة كان أفضل من الفرض كما أنّ الزهد في الحرام فرض، وفي الحلال تطوّع والزهد في الحلال أفضل، كما بيّنا كذلك هنا.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: بِدَيْنٍ وقوله تعالى:
تَدايَنْتُمْ [الآية 282] مغن عنه.
قلنا: فائدته رجوع الضمير إليه في قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ [الآية 282] إذ لو لم يذكره لقال: فاكتبوا الدّين، فالأول أحسن نظما، أو لأنّ التداين مشترك بين الإقراض والمبايعة وبين المجازاة، وإنّما يميّز بينهما بفتح الدال وكسرها ومنه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة] ، أي الجزاء، ومنه أيضا قوله سبحانه يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) [الذاريات] ، فذكر الدّين ليتعيّن أيّ المعنيين هو المراد.
فإن قيل: لم شرط السفر في الارتهان بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ [الآية 283] ، وجواز الرهن لا يختصّ بالسفر؟
قلنا: لم يذكره سبحانه، لتخصيص الحكم به، بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب، والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد، لحفظ مال المسافرين بأخذ الرهان.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر القلب، في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الآية 283] مع أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟
قلنا: كتمان الشهادة، هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب، ومكتسبا له أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما يقال: هذا ما أبصرته عيني، وسمعته أذني، ووعاه قلبي.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ(1/278)
اللَّهُ
[الآية 284] ، وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله، إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه في الوسع والطاقة، أو بالحديث المشهور فيه؟
قلنا: قيل أريد بالآية العموم، ثمّ نسخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الآية 286] وقيل: لا نسخ فيه لأنّه خبر، لا أمر أو نهي، بل العموم غير مراد، وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه، وهو العزم القاطع والاعتقاد الجازم، لا مجرّد حديث النفس والوسوسة. ولأنّ السّياق أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة، فهو سبحانه يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وما أخفوا، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ثم يغفر لمن يشاء فضلا، ويعذّب من يشاء عدلا، كما أخبر جلّ وعلا في الآية.
فإن قيل: أيّ شرف للرسول (ص) ، في مدحه بالإيمان، مع أنّه في رتبة الرسالة ودرجتها، وهي أعلى من درجة الإيمان، فما الحكمة في قوله تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ [الآية 285] .
قلنا: الحكمة فيه أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان، حيث مدح به خواصّه ورسله ونظيره في سورة الصافات قوله تعالى في خاتمة ذكر كلّ نبيّ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) [الصافات] .
فإن قيل: روي عن ابن عباس أنّه قرأ: (ملائكته وكتابه) [الآية 285] فسئل عن ذلك، فقال كتاب أكثر من كتب فما وجهه؟
قلنا: قيل فيه إنّه أراد أن الكتاب جنس، والكتاب جمع، والجنس أكثر من الجمع، لأنّ حقيقته في الكل على ما ذهب إليه بعضهم ويردّ على هذا أن يقال: الكلام في الجمع المضاف، والمفرد المضاف للاستغراق عرفا وشرعا، كقوله لعبده: أكرم أصدقائي، وأهن أعدائي، وقوله: زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار، بخلاف قوله: صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي، فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر. فإن قيل: إنّ «بين» لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا، فلم قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الآية 285] ؟
قلنا: أحد هنا بمعنى الجمع، الذي هو آحاد كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقّة: 47] فإنّه ثم بمعنى الجمع بدليل قوله تعالى: عَنْهُ حاجِزِينَ(1/279)
[الحاقة: 47] فكأنّه قال: لا نفرق بين آحاد من رسله كقولك: المال بين آحاد الناس، ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث، وتثنيتهما وجمعهما نفيا وإثباتا، تقول: ما رأيت أحدا إلّا بني فلان، أو إلّا بنات فلان سواء، وتقول إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي، يستوي فيه الكلّ فالمعنى لا نفرّق بين اثنين منهم أو بين جماعة منهم، ومنه قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ [الأحزاب: 32] .
فإن قيل: من أين دلّ قوله تعالى:
لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الآية 286] على أنّ الأوّل في الخير، والثاني في الشر؟
قلنا: قيل هو من كسب واكتسبت، فإنّ الأول للخير والثاني للشر، وهذا الرأي ليس دقيقا، وليس لديه دليل، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
[النساء: 112] وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) [المدّثّر] وقوله:
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الشورى: 34] وقوله: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً [الشورى:
23] والاقتراف والاكتساب بمعنى واحد. وقيل: هو من «اللّام» و «على» ، وليس هذا الرأي بدليل أيضا، لقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) [الرعد] وقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [الآية 157] . اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ «اللّام» و «على» عند الإطلاق يقتضيان ذلك، أو لأنّهما يستعملان لذلك عند تقاربهما، كما في هذه الآية، لا نفرّق بين ذكر الحسنة والسيئة، أو الحسن والقبيح، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام: 164] أطلقه، وأراد به الشرّ بدليل ما بعده. وقولهم:
الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك.
وقولهم: فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك. ويقول الرجل لصاحبه: هذا الكلام حجّة عليك لا لك، قال الشاعر:
على أنّني راض بأن أحمل الهوى وأخلص منه لا عليّ ولا ليا وأمّا قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: 46] وإن كان مقيّدا، إلّا أنّ فيه دلالة أيضا، من جهة «اللّام» و «على» ، لأنّ القيد شامل للظرفية.(1/280)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البقرة» «1»
. ولكنّهم لما لم يعلموا هذه الآلات في مذاهب الاستدلال بها، كانوا كمن فقد أعيانها، ورمى بالآفات فيها. قال تعالى: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التوبة: 87] «2» كما قال سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الآية 7] لأنّ الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد. وإنّما فعل سبحانه ذلك بهم عقوبة لهم على كفرهم.
وقوله سبحانه: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الآية 7] استعارة أخرى. لأنّهم كانوا على الحقيقة ينظرون إلى الأشخاص، ويقلّبون الأبصار، إلّا أنّهم لمّا لم ينتفعوا بالنظر، ولم يعتبروا بالعبر وصف سبحانه أبصارهم بالغشي، وأجراهم مجرى الخوابط الغواشي، أو يكون تعالى كنّى هاهنا بالأبصار عن البصائر، إذا كانوا غير منتفعين بها، ولا مهتدين بأدلّتها. لأنّ الإنسان يهدى ببصيرته إلى طرق نجاته، كما يهدى ببصره إلى مواقع خطواته.
وقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الآية 10] والمرض في الأجسام حقيقة وفي القلوب استعارة، لأنّه فساد في القلوب كما أنّه فساد في الحقيقة، وإن اختلفت جهة الفساد في الموضعين.
وقوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) وهاتان
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . وفي الآية 3 من سورة «المنافقون» فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالفاء لا بالواو. [.....](1/281)
استعارتان. فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء سبحانه، والمراد بها أنّه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم، فسمّى الجزاء على الاستهزاء باسمه، إذ كان واقعا في مقابلته، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى، لأنه عكس أوصاف الحليم، وضد طريق الحكيم، والاستعارة الأخرى قوله تعالى:
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يمدّ لهم كأنّه يخلّيهم والامتداد في عمههم، والجماع في غيّهم، إيجابا للحجّة، وانتظارا للمراجعة، تشبيها بمن أرخى الطّول للفرس أو الراحلة، ليتنفّس خناقها، ويتسع مجالها.
وربما جعل قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الآية 9] «1» على أنّه مستعار في بعض الأقوال، وهو أن يكون المعنى أنّهم يمنّون أنفسهم ألّا يعاقبوا، وقد علموا أنّهم مستحقون للعقاب، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين، ولذلك قال سبحانه: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) «2» .
وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) وهذه استعارة.
والمعنى أنّهم استبدلوا الغيّ بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم، ولم تربح تجارتهم. وإنّما أطلق سبحانه على أعمالهم اسم التجارة لما جاء في أول الكلام، بلفظ الشّرى تأليفا لجواهر النظام، وملاحمة بين أعضاء الكلام.
وقوله سبحانه: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الآية 20] . وهذه استعارة، والمراد يكاد يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه وشدة التماعه. والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية 43 من سورة النّور: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ومحصّل المعنى: تكاد أبصارهم تذهب عند رؤية البرق، فجعل تعالى الفعل للبرق دونها لمّا كان السبب في ذهابها.
__________
(1) . كان من حق هذه الآية في الترتيب أن تأتي قبل الآية العاشرة التي سبق الحديث عنها في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إلخ ولا أدري أكان ذلك سهوا من المؤلف رضي الله عنه، أم سهوا من الناسخ حيث وضعها في غير موضعها، وأنزلها في غير ترتيبها.
(2) . في الأصل (وما يخادعون) على أنها قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ليتجانس اللفظان في الموضعين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «يخدعون» ، كما أثبتاه. وكما نقرأه في المصحف الذي بين أيدينا.(1/282)
وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الآية 22] وهذه استعارة. لأنّه سبحانه شبّه الأرض في الامتهاد بالفراش، والسماء في الارتفاع بالبناء.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الآية 29] أي قصد إلى خلقها كذلك. لأنّ الحقيقة في اسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، واستقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات.
وقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [الآية 42] وهذه استعارة.
والمراد بها: ولا تخلطوا الحقّ بالباطل، فتعمى مسالكه، وتشكل معارفه. وذلك مأخوذ من الأمر الملتبس، وهو المختلط المشتبه.
ويقول القائل قد ألبس عليّ هذا الأمر: إذا انغلقت أبوابه عليه، وانسدّت مطالع فهمه.
وقوله سبحانه: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [الآية 61] . وهذه استعارة والمراد بها صفة شمول الذّلّة لهم، وإحاطة المسكنة بهم، كالخباء المضروب على أهله، والرّواق «1» المرفوع لمستظلّه.
وقوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها [الآية 66] أي للأمم التي تشاهدها، والأمم التي تكون بعدها، أو للقرى التي تكون أمامها، وللقرى التي تكون خلفها.
ولقول العرب: كذا بين يديّ، كذا وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى تقدّم الشيء للشيء. يقول القائل لغيره: أنا بين يديك. أي قريب منك. وقد مضى فلان بين يديك، أي تقدّم أمامك.
وقوله تعالى في وصف الحجارة:
وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية 74] وهذه استعارة. والمراد ظهور الخضوع فيها لتدبير الله سبحانه بآثار الصنعة وأحلام الصنعة.
وقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الآية 81] وهذه استعارة فيها كناية عجيبة عن عظم الخطيئة، لأنّ الشيء لا يحيط بالشيء من جميع جهاته إلّا بعد أن
__________
(1) . وتقرأ أيضا: الرّواق، بكسر الرّاء.(1/283)
يكون سابغا غير قالص «1» ، وزائدا غير ناقص.
وقوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [الآية 88] فيه استعارة على التأويلين جميعا. إما أن تكون «غلف» جمع أغلف، مثل أحمر وحمر، يقال سيف أغلف، أو تكون جمع غلاف، مثل حمار وحمر، وتخفّف فيقال حمر، وكذلك يجمع غلاف، فيقال: غلف وغلف بالتثقيل والتخفيف. قال أبو عبيدة: كل شيء في غلاف فهو أغلف، يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يختتن.
فمن قرأ غلف، على جمع أغلف، فالمعنى أنّ المشركين قالوا: قلوبنا في أغطية عمّا يقوله، يريدون النبيّ (ص) .
ونظير ذلك قوله سبحانه، حاكيا عنهم:
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصّلت: 5] . ومن يقرأ:
(قلوبنا غلف) على جمع غلاف بالتثقيل والتخفيف، فمعنى ذلك: قالوا قلوبنا في أوعية فارغة لا شيء فيها. فلا تكثر علينا من قولك، فإنّا لا نعي منه شيئا.
فكان قولهم هذا على طريق الاستعفاء من كلامه، والاحتجاز عن دعائه.
وقوله سبحانه: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [الآية 93] وهذه استعارة. والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة في حبّ العجل، فكأنّها تشرّبت حبّه فمازجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ. وحذف حبّ العجل لدلالة الكلام عليه، لأنّ القلوب لا يصحّ وصفها بتشرّب العجل على الحقيقة.
وقوله سبحانه: بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) استعارة أخرى: لأنّ الإيمان على الحقيقة لا يصحّ عليه النطق، فالأمر إنّما يكون بالقول. فالمراد إذا بذلك- والله أعلم- أنّ الإيمان إنّما يكون دلالة على صدّ الكفر والضّلال، وترغيبا في اتّباع الهدى والرشاد، وأنّه لا يكون ترغيبا في سفاهة، ولا دلالة على ضلالة. فأقام تعالى ذكر الأمر هاهنا مقام الترغيب والدلالة، على طريق المجاز والاستعارة، إذ كان المرغّب في الشيء والمدلول عليه، قد يفعله كما يفعله المأمور به والمندوب إليه.
__________
(1) . قلص الثوب بعد غسله- انكمش، فهو قالص.(1/284)
وقوله تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) هذه استعارة: لأنّ بيع نفوسهم على الحقيقة لا يتأتّى لهم. والمراد به- والله أعلم- أنّهم لمّا أوبقوا أنفسهم بتعلّم السحر، واستحقّوا العقاب على ما في ذلك من عظيم الوزر، كانوا كأنّهم قد رضوا بالسّحر ثمنا لنفوسهم، إذ عرّضوها بعمله للهلاك، وأوبقوها لدائم العقاب. وكانت كالأعلاق الخارجة عن أبدانهم بأنقص الأثمان، وأدون الأعواض.
وقوله سبحانه: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [الآية 112] أي أقبل على عبادة الله سبحانه، وجعل توجّهه إليه بجملته لا بوجهه دون غيره.
والوجه هاهنا استعارة.
وقوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الآية 115] أي جهة التقرب إلى الطريق الدالّة عليه، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية اليه.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [الآية 130] والتقدير: سفه نفسا، على أحد التأويلات. وهذه استعارة. لأنّه تعالى علّق السّفه بالنفس. وقولنا:
نفس فلان سفيهة: مستعارة، وإنّما السّفه صفة لصاحب النفس لا للنّفس.
وقوله تعالى: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [الآية 133] أي ظهرت له علاماته، ووردت عليه مقدّماته، فهي استعارة. لأنّ الموت لا يصح عليه الحضور على الحقيقة.
وقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [الآية 138] أي دين الله، وجعله بمنزلة الصّبغ لأنّ أثره ظاهر، ووسمه لائح. وهذا من محض الاستعارة.
وقوله سبحانه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الآية 150] فهذه استعارة على قول من قال: إنّ الشطر هاهنا البعد. أي ولّ وجهك جهة بعده. إذ لا يصح أن تولّي وجهك جهة بعد المسجد على الحقيقة.
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الآية 168] أي لا تنجذبوا في قياده، لأنّ المنجذب في قياده «1» غيره
__________
(1) . في الأصل «في قيادة» . وقد جعلناها «قياد» بدلا من «قيادة» تمشيا مع ما جرى عليه المؤلف في قوله: «لا تنجذبوا في قياده) .(1/285)
تابع لخطواته. وهذه من شرائف الاستعارة. فهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعة الشيطان فيما يأمر به، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله.
وقوله تعالى: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [الآية 174] . وهذه استعارة.
كأنّهم إذا أكلوا ما يوجب العقاب بالنار، كان ذلك المأكول مشبها بالأكل من النار. وقوله سبحانه فِي بُطُونِهِمْ: زيادة معنى، وإن كان كلّ آكل إنّما يأكل في بطنه، ذلك أنّه أفظع سماعا، وأشدّ إيجاعا. وليس قول الرجل للآخر: إنّك تأكل النار، مثل قوله: إنّك تدخل النار في بطنك.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ [الآية 175] وقد مضى نظير ذلك، وأمثاله كثير في هذه السورة وغيرها.
وقوله تعالى في ذكر النساء: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [الآية 187] واللباس هاهنا مستعار، والمراد به قرب بعضهم من بعض، واشتمال بعضهم على بعض، كما تشتمل الملابس على الأجسام «1» . وعلى هذا المعنى كنّوا عن المرأة بالإزار.
وقوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الآية 187] وهذه استعارة، لأنّ خيانة الإنسان نفسه لا تصحّ على الحقيقة، وإنّما المراد أنّه سبحانه خفّف عنهم التكليف في ليالي الصيام، بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء، ولو منعهم من ذلك لعلم أنّ كثيرا منهم يخلع عذار الصبر، ويضعف عن مغالبة النفس، فيواقع المعصية بغشيانه النساء، فيكون قد كسب نفسه العقاب، ونقصها الثوب فكأنّه قد خانها في نفي المنافع عنها، أو جرّ المضارّ إليها. وأصل الخيانة في كلامهم:
النقص، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.
وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الآية 187] . وهذه استعارة عجيبة.
__________
(1) . استشهد ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» بقول النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنّت عليه فكانت لباسا
على أن اللباس معناه، أنّ المرأة والرجل يتضامّان، فيكون كلّ واحد منها للآخر، بمنزلة اللّباس.(1/286)
والمراد بها على أحد التأويلات: حتّى يتبيّن بياض الصبح من سواد الليل.
والخيطان هاهنا مجاز. وإنّما شبّها بذلك لأنّ خيط الصبح يكون في أوّل طلوعه مستدقّا خافيا، ويكون سواد الليل منقضيا مولّيا، فهما جميعا ضعيفان، إلّا أنّ هذا يزداد انتشارا، وهذا يزداد استتارا.
وقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] .
. وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الآية 245] . وهذه استعارة لأنّ الغنيّ بنفسه «1» لا يجوز عليه الاستقراض على حقيقته، ولكن المقرض في الشاهد لمّا كان اسما لمن أعطى غيره على أن يردّ عليه عوضه، أقام سبحانه توفية «2» العوض عليه مقام ردّ القرض.
وقوله سبحانه: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [الآية 250] فهذه استعارة. كأنّهم قالوا: أمطرنا صبرا، واسقنا صبرا وفي قوله تعالى: أَفْرِغْ، زيادة فائدة على القول: أنزل، لأنّ الإفراغ يفيد سعة الشيء وكثرته، وانصبابه.
وقوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الآية 257] وهذه استعارة. والمراد بها إخراج المؤمنين من الكفر إلى الايمان ومن الغيّ إلى الرشاد، ومن عمياء «3» الجهل إلى بصائر العلم.
وكلّ ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظّلمات إلى النور فالمراد به ما ذكرنا. وذلك من أحسن التشبيهات.
لأنّ الكفر كالظلمة التي يتسكّع فيها الخابط، ويضلّ القاصد. والإيمان كالنور الذي يؤمّه الحائر، ويهتدي به الجائر، لأنّ عاقبة الإيمان مضيئة بالإيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة
__________
(1) . في الأصل «الغني لنفسه» وهو تحريف من الناسخ، فالله سبحانه غنيّ بنفسه، لا غنيّ لنفسه.
(2) . في الأصل: «توفيه» بالهاء لا بالتاء المربوطة كما أصلحناه.
(3) . جرى الناسخ على عدم إثبات همزة الممدود فكتب «عميا» بدون همزة، وقد همزنا ما أغفله في جميع المواطن بالكتاب، فلا حاجة إلى التنبيه عليه.(1/287)
بالجحيم والعذاب. وفي لسانهم وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجليّة. يقال: قد غمّ عليه أمره، وأظلم عليه رأيه، إذا كان جاهلا بما يرتئيه ويفعله. ويقال في نقيض ذلك: هو على الواضحة من أمره، والجليّة من رأيه. إذا كان عالما بما يورد ويصدر، فيما يأتي ويذر.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الآية 283] . وذلك مثل قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [الآية 225] لأنّ الإثم والكاسب صاحب القلب، دون القلب، على ما تقدّم من القول.(1/288)
الفهرس
تقديم أتصدير ج استهلال هـ مقدمة وإهداء ط مدخل ف
سورة الفاتحة
المبحث الأول أهداف سورة «الفاتحة» 3 في أعقاب السورة 10 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الفاتحة» 13 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 13 الغرض منها وترتيبها 13 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «الفاتحة» 15 المبحث الرابع مكنونات سورة «الفاتحة» 19(1/289)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «الفاتحة» 21 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «الفاتحة» 23 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «الفاتحة» 37 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «الفاتحة» 39.
سورة البقرة
المبحث الأول أهداف سورة «البقرة» 43 قصة التسمية 43 الأهداف العامة لسورة «البقرة» 45 أصناف الخلق أمام دعوة الإسلام 47 اليهود في المدينة 48 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «البقرة» 51 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 51 الغرض منها وترتيبها 51 دعوة تنزيل القرآن 52 الاستدلال على تنزيل القرآن 52 الردّ على مقالة اليهود الأولى في القرآن 52 الردّ على مقالتهم الثانية 55 الردّ على مقالتهم الثالثة 56 الردّ على مقالتهم الرابعة 57(1/290)
الردّ على مقالتهم الخامسة 57 الردّ على مقالتهم السادسة 58 الردّ على مقالتهم السابعة 59 الردّ على مقالتهم الثامنة 59 حكم القصاص 62 حكم الوصية 62 حكم الصيام 62 تحريم الكسب الحرام 63 حكم الأهلة 63 حكم القتال 63 حكم الحج والعمرة 63 أحكام متفرّقة 64 حكم الإيلاء والعدة والطلاق 65 حكم الصلاة في الأمن والخوف 65 حكم الوصية للأزواج 65 حكم نفقة المطلقات 66 الترغيب في الجهاد بالنفس والمال 66 الخاتمة 68 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «البقرة» 71 المبحث الرابع مكنونات سورة «البقرة» 79 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «البقرة» 95 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «البقرة» 115(1/291)
هذا باب من المجاز 147 هذا باب الاستثناء 149 هذا باب الدعاء 150 هذا باب الفاء 150 باب الاضافة 159 باب المجازاة 164 باب تفسير أنا وأنت وهو 166 باب الواو 170 باب اسم الفاعل 171 باب من التأنيث والتذكير 175 باب أهل وآل 178 باب الفعل 180 باب زيادة «من» 183 باب من تفسير الهمز 184 باب إنّ وأنّ 191 باب من الاستثناء 197 باب الجمع 199 باب اللام 201 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «البقرة» 261 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «البقرة» 281.(1/292)
الجزء الثاني
سورة آل عمران
المبحث الأول أهداف سورة «آل عمران»
«1» سورة آل عمران سورة مدنية كلها، وهي مائتا آية باتفاق. ومن سماتها البارزة وصف غزوة أحد وتسجيل أحداثها، وتقديم الدروس والعبر للمسلمين من خلالها في نحو خمسين آية، (من الآية 121 إلى الآية 168) .
وفي أعقاب غزوة أحد، فضل الشهادة ومنزلة الشهداء عند ربهم، وحديث عن غزوة حمراء الأسد، ودعوة إلى الصبر والثبات. وفي ختام السورة نجد لوحة رائعة من دعاء المؤمنين واستجابة الله رب العالمين.
(1) قصة التسمية
جاء ذكر عمران في هذه السورة مرتين في آيتين متتاليتين، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) وقد ذهب فريق من المفسرين إلى أن عمران، الذي سميت السورة باسمه، هو عمران أبو موسى. والراجح أنه عمران والد مريم، وكان بين العمرانين، فيما يقول الرواة، أمد طويل.
ونحن، إذا تتبعنا أسماء السور في القرآن الكريم، نجدها تشير إلى أهمّ ما اشتملت عليه السورة وأغربه، فسورة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاتة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(2/3)
البقرة سمّيت بهذا الاسم لقصة عجيبة الشأن تتعلق ببقرة أمر بنو إسرائيل بذبحها، وكان ذلك سبيلا لمعرفة الجاني في حادثة قتل لم يعرف مرتكبها. وسورة المائدة سميت بهذا الاسم لقصة المائدة التي طلب الحواريّون إنزالها من السماء. وسورة النساء سميت بذلك لأنّ أهم ما عرضت له هو الأحكام التي أراد الله بها تنظيم أحوال النساء، وحفظ حقوقهنّ، وعدم الإضرار بهنّ، وهكذا. وسورة الأنعام عرضت لذكر الأنعام وأنواعها من الإبل والبقر والغنم. وسورة الأعراف عرضت لذكر الأعراف، وهو حاجز مرتفع بين الجنة والنار، عليه رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم. وسورة الأنفال عرضت لذكر الأنفال، وهي الغنائم وطريقة توزيعها. وسورة التوبة عرضت لذكر توبة الله على المؤمنين وعلى الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ثم تاب الله عليهم ليتوبوا.
وسورة يونس عرضت لذكر نبي الله يونس، وإيمان قريته كلها به. وسورة هود تعرّضت لذكر نبي الله هود ورسالته إلى قومه في قوله تعالى:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) [هود] .
وتتابعت السورة تصف رسالات السماء إلى ثمود قوم صالح، وإلى مدين قوم شعيب، ورسالة إبراهيم ولوط وموسى إلى قومهم. وسورة يوسف دارت كلها تقريبا حول قصة يوسف عليه السلام من بدايتها إلى نهايتها.
وهكذا نجد أنّ الأساس العام في تسمية السور هو أهم شيء ذكر فيها، أو أغرب شيء تحدّثت عنه. وإذا رجعنا إلى تسمية السورة الثالثة «1» من القرآن بسورة آل عمران، وراعينا أننا، إذا قرأنا السورة من أولها إلى آخرها، لا نجد فيها شيئا غريبا أو مهمّا يتعلق بموسى وهارون، بل نجد أنّ أبرز ما فيها وأغرب شؤونها هو ما عنيت بتفصيله من شأن عيسى وأمه، لدعانا ذلك إلى موافقة رأي من رأى من
__________
(1) . السورة الأولى هي سورة الفاتحة والسورة الثانية هي سورة البقرة.(2/4)
المفسرين أنّ عمران الذي سميت السورة بآله هو عمران أبو مريم، لا أبو موسى وهارون. فالسورة تذكر طبقات من اصطفاهم الله من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران، لتبيّن للقوم، من أول الأمر، أنّ اصطفاء الله من آل عمران عيسى وأمه، ليس إلا كاصطفائه لغيرهما ممّن اصطفى، وأنّ ما ظهر على يد عيسى من خوارق العادات التي يتخذونها دليلا على ألوهيته أو نبوته أو حلول الله فيه، لم يكن إلا أثرا من آثار التكريم الذي جرت به سنّة الله في من يصطفي من الأنبياء والمرسلين. ويقوّي هذا أنّ الله يقول، عقب هذه الآية، بيانا لاصطفاء آل عمران:
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً.
وأنّه يقول في جانب مريم:
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) .
وهكذا نجد أنّ اصطفاء آل عمران ذكر أولا مجملا ضمن من اصطفى الله، ثم بيّن باصطفاء مريم أو عيسى.
ومن هذا يتبين أنّ عمران الذي سمّيت السورة بآله هو أبو مريم، لا أبو موسى وهارون.
(2) مقاصد سورة آل عمران
سورة آل عمران سورة مدنية، وليست من أوائل ما نزل بالمدينة، ولكنها نزلت بعد فترة طويلة من حياة المسلمين بها، وبعد أن تقلبت عليهم فيها أحوال من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا اختلاطا واضحا بأهل الكتاب من يهود ونصارى، وجرى بينهم، من الحجاج والنقاش ما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها.
وقد ذكرت فيها غزوات بدر وأحد وحمراء وبدر الأخيرة. وكانت هذه في شعبان من السنة الرابعة. وقد نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال التي تكفلت بالكلام على بدر. ونزلت بعدها سورة الأحزاب التي نزلت في آخر السنة الخامسة.
العناية بأمرين عظيمين:
ونحن، إذ نقرأ السورة، نجد أنّها عنيت بأمرين عظيمين:(2/5)
أحدهما: تقرير الحق في قضية العالم الكبرى وهي مسألة الألوهية، وإنزال الكتب وما يتعلق بها من أمر الوحي والرسالة، وبيان وحدة الدين عند الله.
والثاني: تقرير العلّة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان عن التوجه إلى معرفة الحق والعمل على إدراكه والتمسك به «1» .
الأمر الأول: قضية الألوهية وتقرير الحق فيها
ولقد بدأت السورة بتقرير الأمر الأول فذكرت وحدانية الله، وأنه وحده هو الحي الذي لا يدركه الفناء، القيّوم الذي له الهيمنة والتدبير والقيام على شؤون الخلق بالإيجاد والتربية الجسمية والعقلية والإعزاز والإذلال. وقرّرت، في سبيل ذلك، علمه المحيط وقدرته النافذة القاهرة:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) .
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) .
تقرر السورة هذا في كثير من أمثال هذه الآيات ثم تؤكد اصطفاء الله لبعض خلقه:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [النساء/ 165] .
يعرفون مهمتهم التي كلفهم الله إياها، وهي دعوة الخلق إلى الحق، وأنّهم أعقل وأحكم من أن يقولوا للناس اتخذونا آلهة من دون الله:
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) .
__________
(1) . انظر رقم 4 فيما يأتي.(2/6)
وقد أخذ الله العهد على الرسل أن يصدق بعضهم بعضا في الحق ودعوة الناس إليه، وأن يصدق السابق منهم اللاحق. قال تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) .
هذا هو العهد الذي حفظه عيسى (ع) وتوفّي عليه، وسيجيب به ربه يوم القيامة، وسيتبرأ المسيح عليه السلام ممن عبده أو اتخذه إلها.
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة] .
(3) وحدة الدين عند الله
أبرزت سورة آل عمران وحدة الدين عند الله وكررت هذه الحقيقة على لسان رسله جميعا:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الآية 3] .
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) .
وتقرر أن هذا هو الدين الذي جاء من عند الله:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) .
ثم تتجه السورة إلى الذين غلبت عليهم شقوتهم فحاربوا الله في دينه، وأعرضوا عن رسله، وأخذوا يناوئون الحق على وضوحه، فتذكر كثيرا من أساليب ضلالهم، وألوان شبههم، التي كانوا يعززون بها مراكزهم، ويحاولون بها فتنة المؤمنين عن دينهم، حسدا وبغيا لا طلبا للحق، ولا التماسا للهدى.(2/7)
المسرفون في شأن عيسى (ع)
وقد خصت السورة جماعة المسرفين في شأن عيسى (ع) الزاعمين له الألوهية والبنوّة أو الحلول، فذكرت السورة أن عيسى خلق بقدرة الله ليكون معجزة للبشرية ودليلا على تفرد الله بالألوهية. فقد خلق الله آدم بلا أب ولا أم ثم خلق حواء من أب وبلا أم، ثم خلق عيسى من أم وبلا أب.
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
فظهور الخوارق والمعجزات أمر من سنّة الله في خلقه. فقد خلق الله يحيى لزكريا على كبر من أبيه، ويأس من أمه. وبشرت الملائكة زكريا بيحيى.
وتعجب زكريا من هذه البشارة مع حالته، فرده الله إلى مشيئته:
كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) .
وهكذا كان شأن عيسى وجد بلا أب بمشيئة الله، وبشرت الملائكة به أمه بأمر الله، وعجبت مريم لهذه البشارة:
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [مريم/ 20] .
فرد الله ذلك إلى مشيئته:
قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) .
ثم تعرض السورة بعد هذا أن الخوارق، التي ظهرت على يد عيسى، لم تكن إلا من سنة الله في تأييد رسله بالمعجزات الدالة على أنهم عباد الله، علّمهم الله الكتاب والحكمة وأن الله أرسله إلى بني إسرائيل بآيات من ربه.
وعلى لسان عيسى يقول القرآن الكريم:
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) .
(4) بيان أسباب انصراف الناس عن الحق
المقصد الثاني من مقاصد سورة آل(2/8)
عمران: بيان أسباب انصراف الناس عن الحق، وشرح أسباب العلة التي تستحوذ على عقول الناس، وتستولي على قلوبهم، فتصرفهم عن الاستماع للحق والالتفات إليه.
وقد بينت السورة أن هذه العلة هي غرور الناس بما لهم من أموال وأولاد وجاه وسلطان، فقد كانوا يتصورون أن في إيمانهم بصاحب الدعوة الجديدة زلزلة لما لهم من جاه وسلطان، وأنهم في غنّى عن هذه الدعوة بما لهم من الأموال والأولاد. ويظنون أن ذلك كان لهم عن استحقاق ذاتي وأنه دائم لا يزول، ولا يؤثر فيه إيمان ولا كفر، وكثيرا ما حدّثنا القرآن عن مثل هذا الوهم الفاسد الذي خدع كثيرا من الناس فأضلهم وأعمى أبصارهم، قال تعالى:
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) [الكهف] .
وقال سبحانه:
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) [القصص] .
وعلى هذا الأساس الذي أرشدنا الله إليه في كثير من آيات كتابه، أخذت سورة آل عمران تضرب على هذه العلة التي يتوارثها الجبارون، وترشد إلى أن حب المال والغرور بمتاع الحياة هما علة العلل، وهما الحائل بين الناس وبين الحياة الطيبة والإيمان الصادق.
وفي ذلك تقول:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) .
وجدير بالمسرفين في كل زمان ومكان أن يلتفتوا إلى أن الأموال التي ينفقونها في لذاتهم وشهواتهم وبسط سلطانهم على الناس بغير حق، لا بد أن تفسد عليهم في نهاية الأمر أخلاقهم(2/9)
وعقولهم وتهدم ما بنوا من حضارات وما شيدوا من قصور.
وبينما تعرض السورة أثر الافتتان وسوء عاقبة الغرور بالأموال والأولاد، نراها تقرر الحق في شأن حب الناس للأموال ومظاهر هذه الحياة. وتقول إنه شيء فطروا عليه، ولكنه ليس هو المقصد الأسمى من هذه الحياة، وإنما هو متاع وزينة، وهو في الوقت نفسه وسيلة للحصول على المتاع الخالد في الحياة الخالدة، إذا أحسن استعماله، قال تعالى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) .
ثم تصف هؤلاء الذين اتقوا والذين لهم ذلك الجزاء بأنهم هم الذين أدركوا الحق وأنفقوا ما آتاهم الله من مال ابتغاء مرضاة الله، وصبروا على ما انتابهم من بلايا ومحن ورجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار، قال تعالى:
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) .
(5) عظمة القرآن في تربية المؤمنين
تمثل سورة آل عمران قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، إلى ما بعد غزوة أحد في السنة الثالثة، وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتّى خلال هذه الفترة الزمنية، وفعل القرآن، إلى جانب الأحداث، في هذه الحياة وتفاعلها معه في مختلف الجوانب.
والنصوص هي، من القوة والحيوية، بحيث تستحضر صورة هذه الفترة وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة، وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة.
ويتنزل القرآن ليواجه الكيد والدس(2/10)
ويبطل الفرية والشبهة ويثبّت القلوب والأقدام، ويوجه الأرواح والأفكار ويعقب على الحادث ويبرز فيه العبرة، ويبني التصور ويزيل عنه الأوهام، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر، والكيد الماكر، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكنّ الصدور.
وإذا أعدنا قراءة سورة آل عمران وقصة بدر وأحد فيها، أدركنا أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وأي زمان، وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل، وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون ... ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور.
في هذه الفترة التي نزلت فيها السورة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول (ص) ، وكانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش، وكان هذا النصر بظروفه التي تمّ فيها، والملابسات التي أحاطت به، تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة، ومن ثم اضطرّ رجل كعبد الله بن أبيّ بن سلول، من عظماء الخزرج، أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ولنبيّه الكريم، وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم، وأن ينضم منافقا للجماعة المسلمة وهو يقول: «هذا أمر قد توجه» ، أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يردّه عنها رادّ.
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة أو نمت وأفرخت. وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين مثل ما يجد المنافقون بل أشد.
ولذلك نزل القرآن الكريم يوضح حقيقة الألوهية، ويبيّن الحق في الرسالة، ثم يوضح العلة التي أعمت الناس عن رؤية الحق، وهي علة الغرور بالمال والولد. وقد استنفدت سورة آل عمران أكثر من نصفها في توضيح هذين المقصدين.
ثم توجهت السورة إلى جماعة المؤمنين الذين جمعهم الحق، وتكوّنوا على أساس الرحمة بالخلق لتحذرهم(2/11)
من دسائس المنافقين، وحيل المبطلين وخداع اليهود والمشركين، وتذكّرهم أن يظلوا إخوة معتصمين بحبل الله متحدين برباط الأخوّة والمودة، متضامنين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تدوم لهم وحدتهم وتستقر دولتهم، قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وقال سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
(6) القرآن كتاب الوجود والخلود
هذا القرآن هو كتاب الدعوة الإسلامية، هو روحها وباعثها، هو قوامها وكيانها، هو حارسها وراعيها، هو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، هو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة، كما يستمد منه الدعاة، وسائل العمل ومناهج الحركة وزاد الطريق..
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسّنا، ونستحضر في تصورنا، أن هذا القرآن، خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية، وفي رقعة من الأرض كذلك، معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابة.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، ما دمنا نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه الإنسان والتي تواجه الأمة الإسلامية، في حين أن هذه الآيات قد نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات وجود واقعي حي، ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا نشأ عنه وجود ذو خصائص في حياة (الإنسان) بصفة عامة، وفي حياة الأمة الإسلامية بوجه خاص.(2/12)
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين، في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حوّلت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه، مع هذا، يعارض ويواجه، ويملك أن يواجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الأعداء من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل الناس وفي عالم الضمير بالحيوية نفسها، والواقعية نفسها، التي كانت له هنالك يومذاك.
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا: هذا نجم قديم رجعي يحسن أن نستبدل به نجما جديدا تقدّميا. أو أن هذا الإنسان مخلوق قديم رجعي يحسن أن يستبدل به كائن آخر تقدمي لعمارة هذه الأرض.
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن، خطاب الله الأخير للإنسان.
لقد عاش القرآن في ضمير الجماعة المسلمة، وأخذ بيدها خطوة خطوة، وسار معها وهي تتعثر وتنهض، وتحيد وتستقيم وتضعف وتقاوم، وتتألم وتحتمل وترقى في الدرج الصاعد في بطء ومشقة، في صبر ومجاهدة.
تتجلى فيها خصائص الإنسان كلها، وضعف الإنسان كله، وطاقات الإنسان كلها.
لقد واكب القرآن نصر المسلمين في بدر، وهزيمتهم في أحد، فكان القرآن في التربية السلوكية قد أعلمهم أن النصر من عند الله، وأن النصر سلاحه الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والثقة بالله والاعتماد عليه، والعمل الدائب المخلص. وفي أعقاب الهزيمة في أحد كان القرآن يبلسم الجراح، ويمسح الآلام، ويوضح أن الأيام دول، وأن الحرب سجال: يوم لك ويوم عليك.
وكانت للقرآن دعوات متكررة في سورة آل عمران تحث على الصبر والمصابرة والرباط والمرابطة، وتبين شرف الشهادة وأجر المجاهدين وثواب الصابرين، فيقول سبحانه:(2/13)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) .
(7) دروس من غزوة أحد
لقد عنيت سورة آل عمران بمقصدين عظيمين استغرقا نصفها الأول، هما الصدق في الإيمان، وعدم الاغترار بزخارف الحياة. وفي النصف الثاني من هذه السورة نجد دروسا عملية عن أسرار النصر في بدر والهزيمة في أحد.
تلفت السورة نظر المسلمين إلى موقعة بدر، وكيف انتصروا فيها بالإيمان والصبر والتقوى، مع قلتهم وضعفهم في المال والعدة، ومع كثرة أعدائهم ووفرة مالهم وقوة عددهم، فيقول سبحانه:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) .
وتلفت السورة نظر المسلمين إلى موقعة أحد وفيها اعتمد المسلمون على قوتهم وكثرتهم، وخطف أبصارهم شيء من زخارف الدنيا. وفيها انهزموا بسبب مخالفة الرماة أوامر القيادة الحكيمة، وفيها أرجف الأعداء بموت الرسول، فتزلزلت أعصاب كثير من المؤمنين، وفيها أفصح المنافقون عن نياتهم، وفي ذلك كله تقول سورة آل عمران:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [الآية 152] .
(والمعنى إذ تقتلونهم وتبطلون حسّهم بإذن الله) .
حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) .(2/14)
ويقول سبحانه:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) .
ثم تنبه السورة إلى أن الشأن في أرباب الحق أن ينالهم من نصراء الباطل كثير من الأذى بالقول والعمل، وأن واجب المؤمنين أن يتلقوا كل ذلك الصبر والاحتمال. قال تعالى:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) .
بعد هذا كله تختم السورة بأمرين عظيمين:
أحدهما: رسم الطريق الذي يصل به الإنسان إلى معرفة الحق والإيمان به، فيقول سبحانه:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) .
والثاني: هذه النصيحة الغالية التي ما تمسكت بها أمة إلّا تركزت وسمت وعزّت، وما تخلت عنها أمة إلّا أصيبت بالضعف والانحلال والتدهور والانحطاط والذل والهوان، وتتمثل هذه النصيحة في الآية الأخيرة من سورة آل عمران:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) .(2/15)
(8) سنن الله ماضية وقوانينه عامة
انتصر المسلمون في غزوة بدر في العام الثاني من الهجرة نصرا كاملا باهرا بأيسر الجهد والبذل. فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين غير مزودين بعدة ولا عتاد، إلا اليسير، فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم. ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزّر الباهر.
وكان هذا النصر في الواقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من الله ندرك اليوم طرفا من حكمته، ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة لتأخذ بعد ذلك طريقها.
ولعلّه قد وقع، في نفوس المسلمين، من هذا النصر، أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره، وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق، أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين.
غير أن سنّة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة. فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس وتكوين الصفوف، وإعداد العدة واتباع المنهج والتزام الطاعة والنظام، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان. وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في (غزوة أحد) على النحو الذي تعرضه سورة آل عمران عرضا حيا مؤثرا عميقا، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين، وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف المسلم على السواء.
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء، على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم، كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته، وتكسر سنه، ويسقط في الحفرة، ويغوص حلق المغفر في وجنته (ص) الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين. ويسبق استعراض (غزوة أحد) وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية(2/16)
التصور الإسلامي من كل شائبة، ولتقرير حقيقة التوحيد جليّة ناصعة، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب، سواء منها ما هو ناشئ من انحراف في معتقداتهم، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة.
وتذكر عدة روايات أن الآيات [1- 83] نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران من اليمن، الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة زمن نزول هذه الآيات، فواضح، من طبيعتها وجوّها، أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة، وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وسلوكها. وسواء أصحّت رواية أن الآيات نزلت في وفد نصارى نجران، أم لم تصح، فإنه واضح، من الموضوع الذي تعالجه، أنها تواجه شبهات النصارى وخاصة ما يتعلق منها بعيسى (ع) ، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء بها الإسلام، وتصحّح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه، وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن يصدّقها.
ومن مراجعة نصوص السورة يتبين المسلم أن هذا القرآن هو كتاب الحياة صحّح أوضاعها للمسلمين وصحح العقيدة، وناقش عقائد الآخرين، وحذّر المسلمين من كيد الأعداء ودسائسهم، وهذا القرآن مأدبة الله معروض للمسلمين، مفتوح للقارئين، دليل للحيارى ورحمة للضّالّين، وهداية للمسترشدين. إنه النور المبين، والركن الركين، والصراط المستقيم. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، لم تسمعه الجن حتى قالت:
إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) [الجن] .
(9) منهج القرآن في بناء العقيدة والدفاع عنها
القارئ لسورة آل عمران يتضح له أن أعداء الأمة الإسلامية كانوا يحاربونها في عدة ميادين، منها ميدان المعركة،(2/17)
ومنها ميدان الفكرة والإيمان وأنهم حاولوا تشكيك المسلمين في عقيدتهم وتوهين إيمانهم لأنهم كانوا يدركون- كما يدركون اليوم تماما- أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل، ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها، ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها، ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان، مرتكنة إلى ركنه، سائرة على نهجه، حاملة لرايته، ممثلة لحزبه، منتسبة إليه، معتزة بهذا النسب وحده.
ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة.
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي، قبل كل شيء، معركة هذه العقيدة. وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات والطاقة، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة، لأنهم يعلمون، بالتجارب الطويلة، أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا.
والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها، ملتزمة بمنهجها، مدركة لكيد أعدائها.
ومن ثمّ يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور. وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة والتشكيك فيها والتوهين من عراها، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة، ولكن للغاية القديمة نفسها:
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [الآية 69] .
فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة. لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أوّلا. كان يأخذ الجماعة المسلمة بتثبيتها على الحق الذي هي عليه، وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب، ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين، ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية.
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين، ويكشف لها نيّاتهم المستترة ووسائلهم القذرة، وأهدافهم الخطرة، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين.(2/18)
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود، فيبيّن لها هزال أعدائها وهوانهم على الله، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء. كما يبين لها أن الله معها، وهو مالك الملك المعزّ المذلّ وحده بلا شريك. وأنه سيأخذ الكفار، ويقصد بهم هنا اليهود، بالعذاب والنّكال كما أخذ المشركين في بدر من عهد قريب.
وكانت هذه التوجيهات تتمثل في نحو هذه النصوص من سورة آل عمران:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) .
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) .
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) .
(10) أعداء يكيدون للإسلام
القارئ لسورة آل عمران، والمتتبع لأهدافها، يتبين من خلالها عدة أمور:
أولها: ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها، وعمق الكيد وتنوع أساليبه، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها.
ثانيها: ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يحدثها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب.
ثالثها: ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة، من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها، وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها.
ومن ثم اقتضت إرادة الله الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي(2/19)
الضخم البعيد المطارح، لتراه الأجيال المسلمة قويّا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين.
(11) ثلاثة خطوط عريضة
ولا يتحقق التعريف بسورة آل عمران حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها تتناثر نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد.
أول هذه الخطوط: بيان معنى الدين ومعنى الإسلام، فليس الدين هو كل اعتقاد في الله. وإنما هو صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه سبحانه، صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع، توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية. وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله. فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى. ومن ثم يكون الدين والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتّباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب، وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد ... ، هو الإسلام. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء، والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل، كل في زمانه، متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة، والطاعة والاتّباع في منهج الحياة كله بلا استثناء. ويتكئ سياق السورة على هذا الخط، ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ملحوظ. نضرب له بعض الأمثلة بالآيات الآتية:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] .
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [الآية 31] .
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) .
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) .(2/20)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [الآية 85] .
ونصوص أخرى كثيرة تؤكد وحدانية الله، وأن الإسلام هو الدين الحق عند الله، وأن دعوة الرسل واحدة، وهدايتهم واحدة، هي الدعوة إلى توحيد الله وتدعيم الأخلاق، والحث على الفضائل، والتحذير من الرذائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الآية 110] .
أما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم، واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق، ونضرب له بعض الأمثلة من آيات سورة آل عمران:
يقول الله تعالى:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) .
ويقول سبحانه في بيان صدق المؤمنين وثقتهم بربهم وتوكّلهم عليه، حين سمعوا عن كثرة أعدائهم بعد غزوة حمراء الأسد، فلم يزدهم ذلك إلا ثقة ويقينا وإيمانا واعتمادا على الله بعد الأخذ بالعدّة والأسباب:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) .
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) .
والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون(2/21)
منهجه في الحياة. وهذه نماذج من هذا الخط العريض.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) .
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) - مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) .
هذه الخطوط الثلاثة متناسقة فيما بينها متكاملة في تقرير التصور الإسلامي، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه.
والنصوص في موضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء. لقد نزلت في معمعان المعركة، معركة العقيدة، ومعركة الميدان. المعركة داخل النفوس والمعركة في واقع الحياة.
ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب من الحركة والتأثير والإيحاء، فلو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو كلّم به الموتى لكان هذا القرآن، فإنه كتاب الحياة وكتاب الوجود وكتاب الخلود.(2/22)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «آل عمران» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال، وكان نزولها في السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة أحد، فتكون من السور التي نزلت بين غزوة بدر وصلح الحديبية. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة آل عمران فيها. وهي قصة امرأته وابنتها مريم، وتدخل فيها قصة عيسى أيضا، ويبلغ عدد آياتها مائتي آية.
الغرض منها وترتيبها
نزل صدر هذه السورة في وفد نصارى نجران، وكانوا قد وفدوا على النبي (ص) ، فدخلوا عليه المسجد وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير، مختتمين بالذهب، ومعهم بسط فيها تماثيل، ومسوح، جاءوا بها هدية له، فقبل المسوح ولم يقبل البسط، ثم جادلوه في الدين، وانضموا بهذا إلى أحبار اليهود في الشغب على الإسلام، فجاء صدر هذه السورة في تصوير ذلك الجدال الذي دار بينهم، وقد جاء أغلبه في جدال النصارى مع النبي (ص) ، وجاء قليل منه في جدال اليهود معه، وقد أشبهت سورة آل عمران سورة البقرة في ذلك الجدال، كما أشبهتها أيضا في طولها، ولهذا جعلت بعدها.
وقد مهّد السياق في أول السورة لذلك الجدال ببيان ما يجب لله من الأوصاف، ثم انتقل من هذا إلى الرد على مقالاتهم في ذلك الجدال. ثم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز.
المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، غير مؤرّخ.(2/23)
انتقل من الرد على مقالاتهم إلى تثبيت المؤمنين وتحذيرهم من التأثر بها. ثم انتقل من هذا إلى تثبيت المؤمنين بعد هزيمتهم في غزوة أحد. وقد استغلوها أيضا في التأثير عليهم، ثم ختمت السورة بالتنويه بالمؤمنين كما ختمت سورة البقرة.
وقد قصد من ابتداء هذه السورة ببيان ما يجب لله تعالى من الأوصاف أن يكون هذا أساسا للجدال مع وفد نجران في شأن عيسى (ع) .
ما يجب لله سبحانه من الأوصاف الآيات [1- 6]
قال الله تعالى: الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) فذكر أنه يجب له أن يكون واحدا حيا قيّوما، ومهّد بهذا لما سيذكره من نفي الألوهية عن عيسى في الجدال مع وفد نجران، ثم ذكر أنه نزّل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتب، وأنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس، وأنزل الفرقان وهو البرهان الذي لا بد منه مع النقل، ومهد بهذا أيضا لذلك الجدال، ليرجع فيه إلى ما اتفقت عليه هذه الكتب من التوحيد، وإلى تأييد العقل لها في ذلك، ثم ذكر مما يجب له أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يصورنا في الأرحام كيف يشاء لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) .
الرد على مقالة النصارى الأولى الآيات [7- 18]
ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [الآية 7] . فرد على مقالتهم الأولى وهي قولهم: يا محمد، ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ فقال: بلى. فقالوا: حسبنا. فرد عليهم بأن القرآن منه محكم، ومنه متشابه، وأن المتشابه يجب تأويله بما يوافق المحكم، فالذين في قلوبهم زيغ يتّبعون المتشابه ويؤولونه بما يوافق أهواءهم. والراسخون في العلم يؤولونه ذلك التأويل السابق، أو يفوضون الأمر فيه لله تعالى، ثم حذّر الأولين من عذابه الذي لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم منه شيئا، كما لم تغن أموال آل فرعون شيئا عنهم، وأنذرهم بأنهم سيغلبون وإن اغتروا بأموالهم وقوتهم، وساق لهم ما جرى(2/24)
في غزوة بدر عبرة يعتبرون بها، فقد غلب المسلمون فيها، على قلتهم، قريشا على كثرة عددها، ثم ذكر أنهم قد زيّن لهم حبّ أموالهم، وإنما هي متاع الحياة الدنيا، ولا قيمة لها بجانب ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الآخرة.
ثم ختم ذلك بتقرير أن تفرّده بالألوهية معروف قد شهد به في كتبه، وهذا في قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) .
الرد على مقالتهم الثانية الآيات [19- 64]
ثم قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] . فذكر الرد على مقالتهم الثانية، وكان النبي (ص) قد قال لهم: أسلموا فقالوا: قد أسلمنا.
فقال لهم: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ادّعاؤكم أن لله ولدا، وعبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير. وقد احتجوا أمامه على ألوهية عيسى بأنه كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، إلى غير ذلك مما ذكروه، وعلى أنه ابن الله بأنه لم يكن له أب يعلم، فرد عليهم ذلك أوّلا بإثبات أن الدين عنده هو الإسلام له وحده، لا ما هم عليه من جعله ثالث ثلاثة، وقد نزل كتابهم بذلك فحرفوه وبدلوا آياته، فإن حاجّوا في ذلك بمثل ما ذكروه فإنما هي شبه واهية لا قيمة لها، وعلى النبي (ص) والمسلمين أن يمضوا في إسلامهم ولا يلتفتوا إلى تلك الشبه الواهية. فإذا أسلم أهل الكتاب ومشركو العرب كإسلامهم، فقد اهتدوا وإن تولّوا، فلا عذر لهم بعد تبليغهم. ثم ذكر ما ينفي الإيمان به عن أهل الكتاب، من كفرهم بآياته، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وأوعدهم بما أعدّ لهم من عذابه، ثم ذكر من كفرهم أنهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فيتولّون عنه وهم معرضون، وأنهم يزعمون أن النار لا تمسّهم إلا أياما معدودات بقدر أيام الخلق، ثم أوعدهم بأنه سيجمعهم ويعاقبهم على ما كسبوا من ذلك الكفر، ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنه مالك الملك وحده، يعز من يشاء من خلقه، ويذل من يشاء منهم، فلا يمتاز أهل الكتاب بشيء على غيرهم، ثم أكد هذا بأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميّت ويخرج الميت من الحي،(2/25)
ويرزق من يشاء بغير حساب، ثم نهى المؤمنين أن يغتروا بهم ويوالوهم.
وذكر أن من يفعل ذلك فليس منه في شيء، وأنه يعلم ما يخفونه من ذلك وما يظهرونه. فإذا كانوا يحبونه، فليتبعوا رسوله ويوالوه وحده، وليطيعوه هو ورسوله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) .
ثم رد عليهم ثانيا بذكر قصة عيسى (ع) على حقيقتها من أولها إلى آخرها، فذكر اصطفاءه لآبائه الأولين، من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم إلى آل عمران على العالمين. ثم ذكر ما كان من أمر أمه مريم وكفالة زكريا لها، وقصّ خبرها مع زكريا وخبر زكريا إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم وإخبار الملائكة لها بأن الله اصطفاها على نساء العالمين، وبأنه يبشّرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، يخلقه منها بأمره، ويعلّمه الكتاب والحكمة، ويرسله إلى بني إسرائيل، فيخلق لهم من الطين طيرا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ثم ذكر ما كان من أمر بني إسرائيل معه إلى أن أرادوا قتله وصلبه فرفعه الله.
ولما وصل بذلك إلى نهاية قصته، ذكر أن ما قصّه فيها، من الآيات والذكر الحكيم، لا يقبل غيره في أمر عيسى، وأن مثل عيسى، إذ خلقه من غير أب، كمثل آدم إذ خلقه من تراب، وهذا هو الحق في أمر عيسى، وليس أمره فيه بأعجب من أمر آدم، فإذا حاجّوا النبي (ص) بعد هذا في أمره فليدعهم هم وأبناءهم ونساءهم لمباهلتهم هو وأبناؤه ونساؤه فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين. ثم ذكر أن ما جاء به في أمر عيسى هو القصص الحق، وأنه ما من إله إلا الله، فإن تولّوا بعد ذلك فهم مفسدون لا طلّاب حق، ثم ختم ذلك بدعوتهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه الرسالات قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) .
الرد على مقالتهم الثالثة الآيات [65- 78]
ثم قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ، فذكر الرد على(2/26)
مقالتهم الثالثة، وهي قول النصارى إن إبراهيم كان على ديننا. وكذلك قال اليهود مثل قولهم، فرد عليهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعده، فلا يعقل أن يكون يهوديّا أو نصرانيّا. وإذا كان لهم وجه أن يحاجّوه في مخالفة شريعة القرآن لما يعلمونه من شريعتهم، فإنه لا وجه لهم أن يحاجوه بمخالفتها لشريعة إبراهيم وهم لا يعلمونها، ثم قرر لهم أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ولم يك من المشركين كما أشرك النصارى بتأليه المسيح، وأن أولى الناس به الذين اتّبعوه ممن لم يحرّف دينه من أهل الكتاب، ومن النبي وأتباعه من المؤمنين، ثم ذكر أن أهل الكتاب يودون أن يضلّوا المسلمين بهذه المقالات، وما يضلّون المسلمين بهذه المقالات، وما يضلّون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون ثم وبّخهم على كفرهم بآياته وهم يعلمون صدقها بما عندهم من البشارات بها، وعلى أنهم لا يريدون بهذه المقالات إلا أن يلبسوا الحق بالباطل وهم يعلمون. ثم ذكر نوعا آخر من تلبيساتهم أقبح من هذه المقالات، وهو إظهار بعضهم الإيمان بالقرآن أول النهار، والكفر به آخره ليؤثّر بهذا في أتباعه، وذكر أنهم يتواصون عند إظهار هذا الإيمان الكاذب ألّا يخلصوا فيه، ولا يؤمنوا إلا بنبي يقرر شرائعهم. ثم رد عليهم بأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أن الهدى هدى الله لا هداهم، فلا يليق بهم أن يفعلوا هذا، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم به عند ربهم، ويأمره أن يذكر لهم أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء وليس وقفا عليهم. ثم ذكر أن هذه الأثرة فيهم في أمور الدين قد تعدّت بكثير منهم إلى أمور الدنيا.
فمنهم من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائما، لأنهم يعتقدون أن الله سبحانه لم يجعل عليهم سبيلا في الأميين من العرب، وهم يكذبون بذلك عليه، لأنه يحب الوفاء بالعهد لكل الناس، والذين لا يوفون بعهدهم لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة. ثم ذكر أن منهم من يستبيح في سبيل ذلك ما هو أقبح مما سبق، فيكتبون بأيديهم ما يدل على أن النبي (ص) ليس هو النبيّ المبشّر به، ويقولون هو من عند الله وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) .(2/27)
الرد على مقالتهم الرابعة الآيات [79- 92]
ثم قال تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 79] . فذكر الرد على مقالتهم الرابعة، وهي زعمهم أن عيسى (ع) كان يدّعي الألوهية، ويأمر قومه بعبادته، فرد عليهم بأنه ما كان لبشر أن يؤتيه الكتاب والحكمة والنبوة ثم يأمر الناس بمثل ذلك، فيصير بهم إلى الكفر بعد الإسلام الذي كانوا عليه من قبله، ثم ذكر أن هذا الإسلام كان ميثاقه على النبيين وأتباعهم أن يصدّقوا الرسول المنتظر الذي يجيء به، فمن تولّى عنه بعد ذلك يكون فاسقا. ثم أنكر عليهم أن يبغوا غير هذا الإسلام، لأنه دين الفطرة الذي يؤمن به كل من في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم طوعا وكرها، إذ يخضعون جميعا لله وحده. ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنه هو الدين الذي أنزل على إبراهيم والأنبياء بعده من ذريته، وأنه يؤمن بهم جميعا ولا يفرّق بينهم، وأن من يتّبع غير الإسلام الذي دعوا إليه فلن يقبل منه، ثم ذكر أن مثل هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم، وشهادتهم أن الرسول المنتظر حق، لا ترجى هدايتهم، وأن جزاءهم على ذلك اللعنة الخالدة والعذاب الشديد، وأن من تاب منهم بعد ذلك وأصلح فإن الله يغفر له ما سبق منه، وأن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا بعد ظهور الإسلام كفرا لن تقبل توبتهم، ولن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا تقرّب به إلى الله مع كفره، ولو افتدى به يوم القيامة لم ينفعه، فلن ينالوا البرّ حتى ينفقوا في دنياهم مما يحبون وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) .
الرد على مقالتهم الخامسة الآيات [93- 99]
ثم قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) . فذكر الرد على مقالتهم الخامسة، وهي قولهم للنبي (ص) : إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل مع أنها حرام في تلك الملة؟ وقد رد عليهم بأن ذلك كان حلالا في ملّة(2/28)
إبراهيم إلى أن حرّمه إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نفسه، فبقيت تلك الحرمة في أولاده، وذكر أن التوراة تشهد بذلك عليهم، ثم أمرهم بعد هذا أن يتبعوا ما جاء به النبي (ص) من ملة إبراهيم، وذكر أن البيت الحرام الذي يتوجه المسلمون إليه من بناء إبراهيم وابنه إسماعيل، وفيه آيات بينات، مقام إبراهيم وأمن الناس عنده وفرض الحج إليه على الناس جميعا. ثم وبخهم على كفرهم بآياته بعد هذا كله، إلى أن قال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) .
تثبيت المؤمنين بعد رد مقالاتهم الآيات [100- 120]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) ، فأخذ يثبّت المؤمنين ويحذرهم من التأثر بمقالاتهم، وذكر أنهم إن يطيعوهم يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم، ولا يليق بهم أن يعودوا إلى الكفر بعد هدايتهم. ثم أمرهم أن يتقوه حقّ تقواه فلا يسمعوا لأعدائه، وأن يعتصموا بحبله جميعا ولا يعودوا إلى ما كانوا عليه من التفرق، وأن يذكروا نعمته عليهم إذ كانوا أعداء فألّف بينهم، وأن يجعلوا منهم أمة متحدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تكون كأهل الكتاب الذين ضلّوا فجعلوا يدعون إلى الكفر، فاستحقوا عذاب الله في يوم تبيضّ فيه وجوه المؤمنين، وتسودّ وجوه الكافرين، ثم نوّه بشأن ما يتلوه من هذه الآيات الداعية إلى خير الناس، وذكر أن له ما في السماوات وما في الأرض وإليه ترجع الأمور كلها، ليحاسب الناس على خيرها وشرها.
ثم ذكر أن المؤمنين كانوا بهذه الهداية خير أمة أخرجت للناس، وأن أهل الكتاب لو آمنوا مثلهم لكان خيرا لهم، لأن أكثرهم فاسقون يفسدون في الأرض، ثم ذكر أنهم ضعاف لا يضرونهم إلا بمثل تلك المقالات، وأن اليهود منهم قد ضربت عليهم الذلة إلا أن يدخلوا في عهدهم، ثم ذكر أنهم ليسوا في هذا سواء، لأن منهم قوما انقطعوا لعبادته، ولم يدخلوا في ما دخل فيه جمهورهم من كفرهم، وذكر(2/29)
أنه لن يضيع عنده ما يفعلونه من خير، ثم ذكر أن الكافرين منهم لن تغني عنهم أموالهم شيئا من عذابه، وأن مثل ما ينفقون في ملاذهم كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فلم تبق منه شيئا.
ثم نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة منهم بعد أن حذّرهم من إطاعتهم، لأنهم يضمرون لهم العداوة، ولا يليق بهم أن يحبوهم وهم لا يحبونهم، وإن تمسسهم حسنة تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) .
تثبيت المؤمنين بعد أحد الآيات [121- 189]
ثم قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) ، فذكر هزيمة المؤمنين في غزوة أحد، وهي المصيبة التي ذكر أن أهل الكتاب فرحوا بإصابتهم بها، وقد حاولوا أن يؤثروا بها في إيمانهم، كما حاولوا أن يؤثروا في هذا الإيمان بمقالاتهم، فأمرهم أن يذكروا إذ غدا النبي (ص) يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال، وإذ همّت طائفتان منهم أن تفشلا في أول القتال بتأثير المنافقين من اليهود والمشركين، وكان المنافقون قد انهزموا عمدا ليؤثروا فيهم، ثم ذكر لهم أنّه نصرهم ببدر، وهم في ذلة وقلة، والمشركون في عزة وكثرة، ليخطّئهم في تأثرهم بانهزام المنافقين، ثم ذكر أنه نصرهم في بدر ليكون بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم به، وليقطع طرفا من المشركين أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم. فالأمر في ذلك له وحده يتصرف فيهم كما يشاء، وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
ثم ذكر بعد هذا تحريم الربا على المؤمنين، لأنه هو الذي كان يصل بينهم وبين اليهود، فأراد أن يقطع هذه الصلة بينهم بعد أن ظهرت في هذه الغزوة عداوتهم، لينقذهم من دسائسهم وتحكّمهم فيهم بأموالهم، ولينهض بهم في هذه المحنة التي حلّت بهم، وكان اليهود يقرضونهم بالربا الفاحش الذي أفقرهم وأضعفهم، وقد بدأ بهذا التدبير اهتماما بعد ذكر هذه الغزوة، ثم أمرهم أن يسارعوا إلى مغفرة تمحو ما حصل(2/30)
من مخالفاتهم فيها، وتوصلهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وهم الذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء، إلى غير ذلك مما ذكره من أوصافهم. ثم ذكر لهم أنه قد حصلت سنن من قبلهم فيما بين المؤمنين والمكذبين انتهت بهلاك المكذبين، وذكر أن في هذا بيانا وهدى وموعظة لهم، ونهاهم أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم وهم الأعلون، وإذا كانوا قد مسّهم قرح في غزوة أحد، فقد مس المشركين قرح مثله في غزوة بدر، والأيام دول بين الناس، ومثل هذا يميز الله به بين المؤمنين الصادقين وغيرهم، ويتخذ به شهداء يكونون قدوة في الشهادة لمن بعدهم، وقد كانوا يتمنون الشهادة فقد رأوها في إخوانهم وهم ينظرون. ثم ذكر لهم أن محمدا (ص) ما هو إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل، ووبخهم على فرارهم إلى المدينة حينما أشيع أنه قد قتل، وذكر أن كل نفس لها أجل لا يقدمه القتال ولا يؤخره الفرار، وأن من يرد ثواب الدنيا فيفرّ من القتال يؤته منها ويحرمه ثواب الآخرة، ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها ولا يحرمه ثواب الدنيا، ثم ذكر أن كثيرا من الأنبياء قاتل معهم ربّيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، فنصرهم الله على أعدائهم، وآتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ثم أخذ يحذر المؤمنين من إطاعة الكافرين في التأثير عليهم بهزيمتهم، لأنهم قالوا لهم: لقد وعدكم النصر ولو كان صادقا ما هزمتم. فذكر لهم أنه مولاهم وهو خير الناصرين، وأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرّعب مع انتصارهم في أحد فلا ينتصرون بعده، وأنه صدقهم وعده في أحد فنصرهم في أول الأمر، ولم يهزموا إلا بعد أن خالف الرّماة أمره، فلم يثبت إلا قليل منهم في أماكنهم التي أمروا بالثبات فيها ولو نصروا، وتركها أكثرهم إلى جمع الغنائم فأخذوا من ورائهم، ثم ذكر أنهم انهزموا بعد هذا لا يلوون على أحد ولا يسمعون دعاء النبي (ص) لهم بالرجوع إليه، فأثابهم الله غمّ أحد بدل غم المشركين في بدر، لكيلا يحزنوا على ما فاتهم ولا ما أصابهم. ثم ذكر أنه بعد هذا ثبّت قلوب الذين ثبتوا مع النبي (ص) فصمدوا للمشركين، وأن الذين انهزموا أهمتهم أنفسهم وظنوا بالله غير الحق فيما وعدهم به، وردّدوا ما قاله المنافقون في هزيمتهم، وما كان ذلك(2/31)
منهم إلّا زلة من الشيطان وقد عفا عنهم.
ثم رجع إلى تحذيرهم من أولئك الكافرين، وكانوا يقولون لهم: لو تركتم الغزو وأقمتم عندنا كما أشرنا عليكم ما متّم وما قتلتم، فأمر المؤمنين ألا يسمعوا لهم ولا يشاركوهم في مقالهم، ليكون ذلك حسرة في قلوبهم. وذكر أن كل إنسان يحيا ويموت على حسب ما قدّر له، وأن من يقتل أو يموت في سبيله، فله عنده خير من أموالهم التي يحرصون على الحياة من أجلها، وأنه لا بد من حشر كل من يموت أو يقتل ليلقى جزاءه على ما قدّم.
ثم ذكر أن لين النبي (ص) لهم بعد ما حصل منهم كان بما فطره الله عليه من الرحمة، وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، وأن يستمر في مشاورته لهم وإن أخطئوا في هذه المرة. فإذا عزم بعد المشاورة فليتوكل عليه لأن النصر بيده، وإذا أراد نصرهم فلا غالب له، وإذا أراد أن يخذلهم فلا ناصر لهم.
ثم ذكر أنه ما كان لنبي أن يغلّ في الغنائم ويحتجزها لنفسه، حتى يبادر رماتهم إليها ويكشفوا ظهرهم لعدوهم، وما يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، ثم توفّى كل نفس ما كسبت ولا يكون من غلى كمن لم يغلّ، لأنه لا يصح أن يكون من اتبع رضوانه بترك الغول كمن غلّ فباء بسخط منه ثم ذكر أنه قد منّ عليهم بأن بعث فيهم رسولا منهم يطهر هم من الرذائل ويعلمهم ما ينفعهم. ومن هذا شأنه لا يمكن أن يغلّهم في غنائم.
وذكر أنّه يلومهم على استكثارهم لمن قتلوا منهم بعد أن قتلوا أضعافهم من المشركين في بدر، وقد قالوا في استكثارهم (أنّى هذا) فأجابهم بأنه من عند أنفسهم لما حصل منهم من المخالفات، وأنه حصل بإذنه ليميز المؤمنين من المنافقين الذين أبوا أن يقاتلوا، وقالوا فيمن قتل من المسلمين لو أطاعونا ما قتلوا، وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن يدفعوا عن أنفسهم الموت إن كانوا صادقين في زعمهم أنهم لو أطاعوهم نجوا من القتل، ثم نهى النبي (ص) والمسلمين أن يحسبوا هؤلاء الشهداء أمواتا، وذكر أنهم أحياء عنده، وأنهم فرحون بما آتاهم من فضله، وأنهم مستبشرون(2/32)
بنجاة إخوانهم الذين ثبتوا في القتال، واستجابوا للنبي (ص) من بعد ما أصابهم القرح، وكان قد طلب منهم الذهاب وراء المشركين، حين بلغه أنهم أرادوا أن يرجعوا إليهم ثانيا ليقضوا عليهم، فلما علموا أن المسلمين يطلبونهم رجعوا عن عزمهم، وقد وعدهم على ذلك عظيم الأجر، وذكر أن بعض الناس ثبطوهم عن طلب المشركين وخوفوهم منهم فلم يسمعوا لهم، وأنهم مضوا في طلبهم ثم انقلبوا بنعمة منه وفضل، إلى غير ذلك مما ذكره في أمرهم.
ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لمسارعة المنافقين واليهود في مناصرة الكفر، لأنهم لن يضرّوا الله شيئا، وإنما يجنون على أنفسهم الحرمان من الثواب في الآخرة، ولهم فيها عذاب عظيم، ثم نهاهم أن يحسبوا أن إملاءه لهم خير لأنفسهم، لأنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين. ثم ذكر أنه ما كان ليترك المؤمنين على ما كانوا عليه حتى يميز الخبيث من الطيب بهذه المحنة، وأنه ما كان ليطلعهم على غيب القلوب، ولكنه يجتبي من رسله من يشاء للاطّلاع على ذلك الغيب، فيجب عليهم أن يؤمنوا بما يخبرونهم به من أسرارهم. ثم نهى الذين يبخلون من المنافقين بالجهاد بأموالهم أن يحسبوه خيرا لهم، لأنهم سيطوّقون ما بخلوا به في آخرتهم. وذكر أن ميراث السماوات والأرض من أموالهم وغيرها له دون غيره، فلا يصح لهم أن يبخلوا بها عليه. ثم ذكر أنه سمع ما تهكم به اليهود منهم حين طلبوا إلى بذل أموالهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] ، وأنه سيكتب ما قالوا من ذلك وما حصل منهم قديما من قتل الأنبياء بغير حق، ثم يذيقهم عليه في الآخرة عذاب الحريق، ثم ذكر أنهم تعللوا في ذلك بأنه عهد إليهم ألّا يؤمنوا ويجاهدوا إلا مع رسول يأتيهم بقربان تأكله نار تنزل من السماء، وكذبهم في ما تعللوا به بأنهم قد جاءتهم رسلهم بذلك فكذبوهم وقتلوهم. ثم ذكر أنهم إذا كذّبوه فليس هو بأول من كذّب من الرسل، فقد كذّب رسل من قبله جاءوا بالمعجزات والكتب والكتاب المنير، ثم هدّدهم بأن كل نفس ذائقة الموت، وإنما يوفّون أجورهم يوم القيامة، فالفائز من فاز في ذلك اليوم، ولا قيمة للحياة الدنيا التي يحرصون عليها.(2/33)
ثم ذكر للمؤمنين أنهم سيختبرون في أموالهم وأنفسهم بالجهاد بعد أحد، وأنهم سيسمعون من أهل الكتاب والمنافقين أذى كثيرا كما سمعوا في هذه الغزوة، وأنهم، إذا صبروا على ذلك وداروهم، فإن ذلك من عزم الأمور، وصواب التدبير. ثم ذكر لأهل الكتاب أنه قد أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما عندهم من البشارات بالنبي المنتظر، ثم نهى النبيّ (ص) أن يحسب الذين يفرحون منهم بما أوتوا من التلبيس والكيد للمسلمين ويحبون مع هذا أن يحمدوهم بمفازة من عذاب الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) .
الخاتمة الآيات [190- 200]
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) . فختم السورة بالتنويه بالمؤمنين بعد أن انتهى من المعاندين من أهل الكتاب والمنافقين، فذكر أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب من المؤمنين. وهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، إلى غير هذا مما ذكره من أفعالهم وأقوالهم. ثم ذكر ما وعدهم به أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عنده، وذكر ما أوعد به أولئك الكافرين على غرورهم بدنياهم وترك التفكر في آياته، وأنهم يتمتعون بذلك قليلا ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. ثم عاد إلى وعد المؤمنين فذكر أن لهم من تلك الجنات نعيما خالدا لا يزول، وذكر أن من أهل الكتاب الذين لم يقعوا في ذلك الغرور من هو مثل أولئك المؤمنين في إيمانهم وخشوعهم، وأن لهم أيضا أجرهم في آخرتهم، ثم ختم ذلك بأمر المؤمنين بالصبر على ما بيّنه من الأذى في هذه السورة فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) .(2/34)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «آل عمران»
«1» قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها.
قال الإمام: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة، وكالمكملة لها، افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك، وصرّح في منطوق مطلعها بما طوي في مفهوم تلك «2» .
وأقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات.
أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها، من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة التي قبلها، وذلك هنا في عدة مواضع.
منها: ما أشار إليه الإمام، فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه. وقال في آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الآية 3] . وذلك بسط وإطناب، لنفي الريب عنه.
ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملا، وقسمه هنا إلى آيات محكمات، ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله «3» .
ومنها: أنه قال في الآية 4 من سورة البقرة: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وقال هنا:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م. [.....]
(2) . مفهوم مطلع البقرة: الدعوة إلى الإيمان بالله في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة/ 3] . وهو مصرح به في مطلع هذه السورة بقوله جلّ وعلا: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) .
(3) . وذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [الآية 7] .(2/35)
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ مفصلا. وصرح بذكر الإنجيل هنا، لأن السورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها، وإنما صرح فيها بذكر التوراة خاصة، لأنها خطاب لليهود.
ومنها: أن ذكر القتال وقع في سورة البقرة مجملا بقوله المكرر في الآيتين 190 و 244: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقوله في الآية 216: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ. وفصلت هنا قصة أحد بكاملها «1» .
ومنها: أنه أوجز في الآية 154 من سورة البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله: أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وزاد هنا: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ (169) . وذلك إطناب عظيم.
ومنها: أنه قال في البقرة: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ [الآية 247] .
وقال هنا: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) ، فزاد إطنابا وتفصيلا.
ومنها: أنه حذر من الربا في البقرة، ولم يزد على لفظ الربا إيجازا «2» . وزاد هنا قوله: أَضْعافاً مُضاعَفَةً [الآية 130] ، وذلك بيان وبسط.
ومنها: أنه قال في البقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ [الآية 196] ، وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالا. وفصله هنا بقوله:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [الآية 97] ، وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله:
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [الآية 97] . ثم زاد: تكفير من جحد وجوبه بقوله:
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) .
ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [الآية 83] ، فأجمل القليل.
وفصله هنا بقوله:
__________
(1) . وذلك في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [الآية 152] إلى وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) .
(2) . وذلك في قوله تعالى من «البقرة» : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [الآية 275] ، وقوله منها: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الآية 276] .(2/36)
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) .
ومنها: أنه قال في البقرة: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) . فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضا لا تصريحا، وكذلك قوله في سورة البقرة: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الآية 143] . في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام، وأتى في هذه بصريح البيان فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [الآية 110] .
فقوله: كُنْتُمْ، أصرح في قدم ذلك من جعلناكم. ثم زاد وجه الخيرية بقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الآية 110] «1» .
ومنها: أنه قال في البقرة: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [الآية 188] . وبسط الوعيد هنا بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 77] .
وصدّره بقوله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [الآية 75] .
فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة، وفي آل عمران مفصّلة.
الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحادا، وتلاحما مؤكّدا، لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب، وتصديقه للكتب التي قبله، والهدى إلى الصراط
__________
(1) . ومن الربط الوثيق بين الفاتحة والبقرة وآل عمران: أن الصراط المستقيم ذكر مجملا في الفاتحة، ثم عينه في الآية الثاني من البقرة بقوله: ذلِكَ الْكِتابُ. ثم عين طريق السير عليه في آل عمران بقوله: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) .
ثم فصل وسيلة الاعتصام بالله، بالاعتصام بحبل الله، فلما كان الصراط المستقيم دقيقا جدا، ويحتاج السائر عليه الى غاية اليقظة، حث الله على الاعتصام بكتاب الله، وسماه حبلا ليناسب الصراط الدقيق، حيث يحمى السائر عليه من الزلل. وحذر من الفرقة، ودعا الى التذكير الدائم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعتبر بمثابة التعليم الدائم، وتصحيح الأخطاء الناشئة عن الهوى. وانظر لزيادة البيان (نظم الدرر للبقاعي الجزء الأول ورقة: 1177، ب) .(2/37)
المستقيم «1» . وتكررت في البقرة آية:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [الآية 136] بكمالها، ولذلك أيضا ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك، أو لازم في تلك، أو ملازم له.
فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام «2» . وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده «3» . وألطف من ذلك: أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب، وهو عيسى (ع) «4» ، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم، لأنها أول السور، وآدم أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل، وهذه كالفرع والتتمة لها، فمختصة بالإعراب [والبيان] .
ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم، لتثبت في أذهانهم، فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها.
ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله: كَمَثَلِ آدَمَ [الآية 59] . والمقيس عليه لا بد من أن يكون معلوما، لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم.
ومن وجوه تلازم السورتين: أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الآية 24] ، ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا «5» ، وقد ورد ذلك في سورة آل عمران بقوله جل وعلا: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) . فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة.
__________
(1) . وذلك قوله سبحانه وتعالى في أول آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
(2) . وذلك قوله عزّ وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الآية 6] .
(3) . خلق آدم في البقرة في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الآية 30] وخلق أولاده في آل عمران في قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 6] .
(4) . وذلك قوله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
(5) . وذلك قوله تعالى في البقرة: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) .(2/38)
وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها.
وأمر آخر استقرأته، وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد، فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد.
وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسبا لأولها. وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة، فإنها افتتحت بذكر المتقين، وأنهم المفلحون، وختمت آل عمران بقوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الآية 200] .
وافتتحت البقرة بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 4] وختمت آل عمران بقوله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [الآية 199] . ف لله الحمد على ما ألهم.
وقد ورد أنه لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة/ 245] .
قال اليهود: يا محمد، افتقر ربّك، فسأل القرض عباده، فنزل قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] «1» . فذلك أيضا من تلازم السورتين.
ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم:
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ [الآية 129] . ونزل في هذه:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ [الآية 164] . وذلك أيضا من تلازم السورتين.
__________
(1) . أخرجه ابن جرير في التفسير: 7/ 442، وعزاه الى ابن أبي سلم وابن مردويه.(2/39)
المبحث الرابع مكنونات سورة «آل عمران» «1»
58- قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [الآية 12] .
هم يهود بني قينقاع «2» .
59- فِئَةٌ تُقاتِلُ [الآية 13] .
هم أهل بدر، ثلاث مائة وثلاثة عشر «3» .
60- وَأُخْرى كافِرَةٌ [الآية 13] .
كانوا ألفا. أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود.
وأخرج عن الربيع قال: كانوا تسع مائة وخمسين.
61- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ [الآية 23] .
سمّي منهم: النّعمان «4» بن عمرو، والحارث بن زيد، أخرجه ابن جرير «5» وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
62- وَآلَ عِمْرانَ [الآية 33] .
أراد: موسى وهارون.
وقيل: عيسى وأمّه. حكاه الكرماني، ورجّحه ابن عسكر والسّهيلي.
63- امْرَأَتُ عِمْرانَ [الآية 35] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . كما رواه ابن إسحاق: انظر «سيرة ابن هشام» 1/ 252.
(3) . تخريجه في الفقرة التالية، وانظر البخاري (عدة أصحاب بدر) ، وانظر الفقرة رقم 47 وقد سقط هذا المبهم من النسخ المطبوعة. [.....]
(4) . كذا في «الدر المنثور» 2/ 14، وفي «الطبري» : «نعيم» والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!.
(5) . 3/ 145، وابن إسحاق وابن المنذر. «الدر المنثور» 2/ 14.(2/41)
أخرج ابن المنذر، عن عكرمة أن اسمها حنّة «1» . وقال ابن إسحاق:
اسمها حنّة بنت قابوذ «2» وقيل:
فاقوذ بن قبيل «3» . أخرجه ابن جرير.
64- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [الآية 39] .
قال السّدّي: جبريل. أخرجه ابن جرير.
65- وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [الآية 40] .
اسمها: إشياع بنت فاقوذ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن شعيب الجبائي «4» قال: كان اسمها أشيع.
66- إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [الآية 44] .
أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، عن سعيد بن إسحاق الدمشقي في قوله:
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قال: على نهر بحلب يقال له قويق «5» .
67- مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 39] .
قال ابن عباس: عيسى بن مريم.
أخرجه ابن أبي حاتم «6» .
68- كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الآية 49] .
هو الخفاش. أخرجه ابن جرير [عن ابن جريج] .
69- الْحَوارِيُّونَ [الآية 52] .
سمي منهم: قطرش، ويعقويس، ولحيس، واندراييس، وقيلس، وابن ثلما، ومتنا، ويوقاس، ويعقوب ابن حلقيا، ويداوسيس، وقياسا، ويودس، وكدمابوطا، وسرجس، وهو الذي ألقي عليه شبهه. أخرج ذلك ابن جرير عن ابن إسحاق «7» .
__________
(1) . وهو موافق لما في روايات «الدر المنثور» 2/ 18 و 19، «الطبري» 3/ 158، و «حنة» : اسم عبري، معناه:
«حنان، حنون، نعمة» ، كما في «قاموس الكتاب المقدس» ص: 324.
(2) . كذا في النسخ الخطية وفي «الطبري» ط شاكر وغيرها: «فاقوذ» .
(3) . كذا في النسخ الخطية، وفي «تفسير الطبري» ط شاكر 6/ 328: «فاقوذ بن قبيل» وفي ط الحلبي 3/ 235 والخشاب: «قتيل» بدل «قبيل» .
(4) . بلا تشديد للباء، راجع «الأنساب» 3/ 176 للسمعاني، وهي نسبة إلى جبل في بلاد اليمن
(5) . راجع «معجم البلدان» و «تهذيب ابن عساكر» 6/ 121.
(6) . و «الطبري» 3/ 172.
(7) . انظر أسماء الحواريين في «سيرة ابن هشام» 2/ 608، وفيها اختلاف عما هو مثبت في الخطيتين، وانظر أسماء الاثني عشر في «قاموس الكتاب المقدس» ص: 403.(2/42)
70- وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا [الآية 72] .
وقال السّدّي: هم اثنا عشر حبرا من اليهود. أخرجه ابن جرير. وسمي منهم: عبد الله بن الضّيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف «1» . أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
71- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [الآية 77] .
قال عكرمة: نزلت في أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب.
72- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [الآية 86] .
سمّي منهم: الحارث بن سويد الأنصاري. أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد، وابن جرير عن السّدّي.
وأخرج عن عكرمة: أنها نزلت في اثني عشر رجلا، منهم: أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن الأسلت.
زاد ابن عسكر: وطعمة بن أبيرق.
73- إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 100] .
قال زيد بن أسلم «2» : عنى به شاس بن قيس اليهودي. أخرجه ابن جرير.
قال السّهيلي: هم عمرو بن شاس، وأوس بن قبطي، وجبار بن صخر.
74- مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [الآية 113] .
قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم معهم من يهود. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: هم عبد الله بن سلام، وأخوه ثعلبة بن سلام، وسعية «3» ، ومبشر، وأسيد، وأسد ابنا كعب.
75- إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ [الآية 122] .
__________
(1) . في «الإتقان» 2/ 149: «عمرو» .
(2) . زيد بن أسلم: أبو عبد الله (أو أبو أسامة) المدني، ثقة عالم، فقيه مفسر، كان مع عمر بن عبد العزيز أيام خلافته، روي عنه الكثير من الآثار، توفي سنة 136.
(3) . «الطبري» : «شعية» .(2/43)
هما: بنو حارثة، وبنو سلمة.
أخرجه البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله «1» .
76- إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 149] .
قال السّدّي: يعني أبا سفيان بن حرب. أخرجه ابن أبي حاتم «2» .
77- وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [الآية 154] .
هم المنافقون. أخرجه البخاري «3» والترمذي، وغيرهما عن أبي طلحة.
78- يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [الآية 154] .
قال ذلك عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن جرير «4» ، عن ابن جريج.
79- يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [الآية 154] .
قال ذلك معتّب بن قشير. أخرجه ابن أبي حاتم، وغيره عن الزّبير.
و «5» : عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن «6» .
80- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [الآية 155] .
أخرج ابن مندة في «الصّحابة» «7» من طريق الكلبي، عن أبي صالح «8» . عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قال نزلت في عثمان «9» . ورافع بن المعلّى، وخارجة بن زيد.
__________
(1) . البخاري: (4051) في المغازي و (4558) في التفسير، ومسلم (2505) في فضائل الصحابة.
(2) . وابن جرير في «تفسير» 4/ 80. [.....]
(3) . الحديث في البخاري في التفسير، باب أَمَنَةً نُعاساً برقم: (4562) وفي المغازي: (4068) ، والترمذي (3011) في التفسير لكن تعيين المنافقين جاء في الترمذي فقط.
(4) . في «تفسيره» 4/ 94.
(5) . أي وممن قال ذلك أيضا.
(6) . انظر «الطبري» 4/ 94.
(7) . كتاب «الصحابة» هو «معرفة الصحابة» لم يطبع بعد ونسخه الخطية عزيزة.
(8) . هذا الإسناد من أوهى الأسانيد وأضعفها، حتى إن الحافظ بن حجر قال عنه: هذه سلسلة الكذب، لا سلسلة الذهب.
(9) . هو ابن عفان، كما في رواية ابن إسحاق عن «الطبري» 4/ 96.(2/44)
زاد عكرمة: والوليد بن عقبة، وأبي حذيفة بن عتبة، وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان، أخوين من زريق.
أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير «1» ، وابن المنذر.
81- وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ [الآية 156] .
قال ذلك عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد.
82- وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [الآية 167] .
القائل ذلك: عبد الله والد جابر بن عبد الله الأنصاري.
والمقول لهم: عبد الله بن أبيّ، وأصحابه. أخرجه ابن جرير عن السّدّي.
83- الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا [الآية 168] .
قال الرّبيع وغيره «2» : نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
84- وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [الآية 169] .
قال أبو الضّحى «3» : نزلت في قتلى أحد وهم سبعون: أربعة من المهاجرين، وسائرهم من الأنصار.
أخرجه «4» سعيد بن منصور.
85- الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [الآية 172] .
سمّي منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزّبير، وسعد، وطلحة، وابن عوف، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح، في سبعين رجلا.
__________
(1) . 4/ 96. لكن عكرمة لم يزد إلا أبا حذيفة بن عتبة. وأما سعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان، فقد زاده ابن إسحاق، فهو سبق نظر من المؤلف رحمه الله تعالى. ولم أر في «الطبري» ذكرا للوليد بن عقبة.
(2) . ابن إسحاق، والسّدّي، وابن جريج.
(3) . أبو الضّحى: مسلم بن صبيح الهمداني الكوفي، ثقة فاضل، مات سنة (100) هـ.
(4) . والأربعة الذين هم من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب: ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبد الله بن جحش. «الدر المنثور» 2/ 94- 95. وانظر «تفسير الطبري» 4/ 113.(2/45)
أخرجه ابن جرير «1» من طريق العوفي عن ابن عباس.
وسمّى عكرمة: جابر بن عبد الله.
أخرجه ابن جرير.
86- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [الآية 173] .
قائل ذلك أعرابيّ من خزاعة.
أخرجه ابن مردويه عن أبي رافع.
وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:
ركب من عبد القيس. أخرجه ابن جرير.
وقال السّهيلي: نعيم بن مسعود الأشجعي.
87- لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] .
قائل ذلك: فنحاص اليهودي من بني مرثد.
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن جرير عن السّدّي.
وأخرج «2» عن قتادة: أنه حييّ بن أخطب.
قال ابن عسكر: وقيل: هو كعب بن الأشرف.
88- لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا [الآية 188] .
قال ابن عباس: يعني فنحاص، وأشيع، وأشباههما من الأخبار.
أخرجه ابن جرير.
89- مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [الآية 193] .
قال محمد بن كعب «3» : هو القرآن.
__________
(1) . 4/ 117- 118. بسند ضعيف. وروى الحميدي في «مسنده» برقم (263) والطبري (8239) عن عائشة فذكرت: أبا بكر، والزبير بن العوام.
وروى نحو حديث الحميدي البخاري في «صحيحه» عن عائشة رضي الله عنها برقم (4077) في المغازي، وابن ماجة، وأحمد، والحاكم 2/ 298، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» كما في «الدر المنثور» 2/ 102. وقال الحافظ في «فتح الباري» 7/ 37: وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن ذكر الخمسة الأولى [أي: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمار بن ياسر] وعند عبد الرزاق من مرسل عروة ذكر ابن مسعود» .
ملاحظة: في «فتح الباري» زيادة عمار بن ياسر وهي ليست في «تفسير الطبري» .
(2) . «ابن جرير» 4/ 130.
(3) . محمد بن كعب القرظيّ: ثقة عالم، قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. وقال ابن سعد: كان ثقة، ورعا، كثير الحديث، روى له الأئمة الستة. [.....](2/46)
وقال ابن جريج: هو محمد (ص) .
أخرجهما ابن أبي حاتم وغيره «1» .
90- وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [الآية 199] .
نزلت في النّجاشي. كما أخرجه النّسائي من حديث أنس، وابن جرير «2» من حديث جابر.
وقال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. أخرجه ابن جرير.
__________
(1) . «الطبري» 4/ 141.
(2) . 4/ 146 رقم (8376) ط شاكر. وقال الشيخ أحمد شاكر: وهذا الحديث ضعيف. انتهى. وانظر تفسير «ابن كثير» 1/ 443.(2/47)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران»
«1» 1- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) .
أقول: القيّوم من أسماء الله- عز وجل- وكذلك القيّام، وهو الذي لا ندّ له. والقيّوم: فيعول، فهو قيووم، فأعلّت الواو، وأبدلت ياء، وأدغمت فيها. وكأنّ القيّوم مبالغة القائم. وأكثر ما جاء على فيعول يفيد الوصف ف «يوم صيخود» : شديد الحرّ، و «أتان قيدود» : طويلة.
وقد يأتي علما، نحو طيفور، وهو طويئر، واسم أبي يزيد البسطامي، وسيحون اسم نهر في ما وراء النهر.
وميسون اسم الزبّاء الملكة، وبنت بحدل أم يزيد بن معاوية.
ومن الأعلام الحديثة: صيهود وشيبوب.
2- وقال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
أقول: لقد انتهت الآية الثالثة كما في المصحف الشريف بكلمة الإنجيل، وكان يمكنها أن تنتهي بقوله تعالى:
مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، لأنها متعلقة بها، متصلة بالمعنى محتاجة إلى ذلك.
غير أن هذه التكملة الضرورية كانت من الآية 4، في حين كان يمكن الآية الرابعة أن تبدأ بقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ، ولكن بسبب من الحرص على أن تكون الآيات متناسبة في طولها كان ما هو ثابت في المصحف.
3- وقال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.(2/49)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [الآية 7] .
جاء في «لسان العرب» ، مادة «شبه» :
وفي التنزيل العزيز: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
قيل: معناه يشبه بعضها بعضا.
قال أبو منصور: وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فروي عن ابن عباس أنه قال: المتشابهات: الم، الر، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها.
قال أبو منصور: وهذا لو كان صحيحا عن ابن عباس كان مسلّما له، ولكن أهل المعرفة بالأخبار وهّنوا إسناده، وكان الفرّاء يذهب إلى ما روي عن ابن عباس.
وروي عن الضحّاك أنه قال:
المحكمات ما لم ينسخ، والمتشابهات ما قد نسخ.
وقال غيره:
المتشابهات: هي الآيات التي نزلت في ذكر القيامة والبعث، ضرب قوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ] .
وضرب قوله جلّ وعلا:
يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) [الواقعة] .
فهذا الذي تشابه عليهم، فأعلمهم الله الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر لو تدبّروه، فقال تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس] .
أي: إذا كنتم أقررتم بالإنشاء والابتداء فما تنكرون من البعث والنشور، وهذا قول كثير من أهل(2/50)
العلم، وهو بيّن واضح، ومما يدلّ على هذا القول قوله عزّ وجل:
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [الآية 7] .
أي: أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله أنّ تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، والدليل على ذلك قوله:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف/ 53] يريد قيام الساعة وما وعدوا من البعث والنشور.
وأما قوله سبحانه: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة/ 25] فإنّ أهل اللغة قالوا: معنى «متشابها» يشبه بعضه بعضا في الجودة والحسن.
وقال المفسرون: «متشابها» يشبه بعضه بعضا في الصورة، ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله تعالى من الآية نفسها: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ.
وفي الحديث في صفة القرآن:
«آمنوا بمتشابهه واعملوا بمحكمه» ، المتشابه: ما لم يتلقّ معناه من لفظه، وهو على ضربين:
أحدهما إذا ردّ إلى المحكم عرف معناه. والآخر ما لا سبيل إلى معرفة حقيقته، فالمتتبّع له مبتغ للفتنة لأنه لا يكاد ينتهي إلى شيء تسكن نفسه إليه.
أقول: لقد صرفت لغة القرآن مادة «تشابه» إلى مصطلح علمي من مصطلح التنزيل، ابتعادا عن الأصل في قولنا:
تشابه الشيئان مثل اشتبها، أي: أشبه كل واحد منهما صاحبه.
4- وقال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 9] .
قال الزمخشري «في الكشاف 1/ 339» :
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ، أي:
تجمعهم لحساب يوم، أو لجزاء يوم كقوله تعالى:
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن/ 9] .
وقرئ: (جامع الناس) ، على الأصل.
أقول: والقراءة الشهيرة والمثبتة في التنزيل العزيز هي بإضافة «جامع» إلى الناس. وهذا يعني أنه، سبحانه، سيجمعهم في يوم لا ريب فيه، وهو قيام الساعة.
والدلالة على الاستقبال، وهذا يخالف ما ذهب إليه النحويون كما سنبيّن:(2/51)
قال النحويون:
لا يخلو اسم الفاعل من أن يكون مقرونا ب «أل» أو مجرّدا، فإن كان مجرّدا عمل عمل فعله، من الرفع والنصب إن كان مستقبلا أو حالا، نحو:
هذا ضارب زيدا الآن، أو غدا، وإنما عمل لجريانه على الفعل الذي هو بمعناه، وهو المضارع. ومعنى جريانه عليه أنه موافق له في الحركات والسكنات، لموافقة «ضارب» ليضرب، فهو مشبه للفعل الذي هو بمعناه لفظا ومعنى.
وإن كان بمعنى الماضي لم يعمل لعدم جريانه على الفعل الذي هو بمعناه، فهو مشبه له معنى لا لفظا، فلا تقول: «هذا ضارب زيدا أمس» بل يجب إضافته، فتقول: «ضارب زيد أمس» ، وأجاز الكسائي إعماله، وجعل منه قوله تعالى:
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف/ 18] ، فذراعيه منصوب بباسط وهو ماض، وخرّجه غيره على أنه حكاية حال ماضية.
وقالوا:
وإذا وقع اسم الفاعل صلة للألف واللام، عمل ماضيا ومستقبلا وحالا، لوقوعه موقع الفعل، إذ حقّ الصلة أن تكون جملة فتقول هذا الضارب زيدا الآن أو غدا أو أمس، هذا هو المشهور من قول النحويين. وزعم جماعة ومنهم الرمّاني: أنه إذا وقع صلة للألف واللام، لا يعمل إلّا ماضيا ولا يعمل مستقبلا ولا حالا ...
أقول: وعلى هذا يكون اسم الفاعل في قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ دالّا على المضي لأنه أضيف إلى (الناس) ، ولكن الحقيقة أنه دالّ على الاستقبال، ومع ذلك كانت الإضافة.
وهذا يدل على أن استقراء النحاة غير واف، فلم يستوفوا ما ورد في لغة التنزيل.
ومثل هذا ما ورد في هذه السورة نفسها، وهو قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية/ 185] .
فالدلالة على المستقبل حاصلة، ومع ذلك أضيف اسم الفاعل.
وقرأ اليزيدي: (ذائقة الموت) على(2/52)
الأصل. وقرأ الأعمش: (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع النصب كقول أبي الأسود:
فذكّرته ثم عاتبته ... عتابا رقيقا وقولا جميلا
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
وقد أضيف اسم الفاعل (ذائقة) إلى (الموت) في آيتين أخريين هما:
[الأنبياء/ 35، والعنكبوت/ 57] .
5- وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [الآية 18] .
قال الزمخشري في «الكشاف 1/ 343» :
قائِماً بِالْقِسْطِ، مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض، والعمل على السويّة فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكّدة منه كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة/ 91] .
فإن قلت لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكبا لم يجز؟ قلت إنما جاز لعدم الإلباس كما جاز في قوله:
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء/ 72] أن انتصاب نافِلَةً حال عن يعقوب ...
أقول: هذه المشكلات اللغوية التاريخية من النماذج التي تقدمها لغة القرآن، والتي تدل على أن لبناء العربية أسلوبا قد أحكم إحكاما لأداء المعاني، فهو طورا واضح بيّن، وطورا فيه إشكال، وجماع هذا أمر يقتضيه البيان القرآني.
6- وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [الآية 19] .
قال الزمخشري في «الكشاف 1/ 345» :
« ... إن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين.
وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدي إليه، كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بيّن جليّ كما ترى ...
وقد رد الشيخ محمد عليان على قولة الزمخشري من أن الإسلام هو(2/53)
العدل والتوحيد فقال في حاشيته:
«قوله: «فقد آذن أن الإسلام هو العدل تعسف لا يقتضيه النظم الكريم، لكن دعا إليه التعصب ... وبالجملة فالعدل والتوحيد لم ينحصرا في مذهب المعتزلة» .
7- وقال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 20] .
القول في «اتّبعن» أن الأصل هو «اتبعني» بالياء التي هي ياء المتكلم.
فلم اجتزئ بالنون المكسورة عن مدة الياء التي يقتضيها المعنى، كما يقتضيها سنن العربية؟ ولم خرج خط المصحف على الأصل؟
لن يكون القول بأن خط المصحف توقيف لا يقاس عليه، جوابا عن هذين السؤالين على صدق هذا القول وأصالته.
وأرى أن لغة القرآن قد أصابت كل الإصابة في هذا الرسم، ذلك أن المسألة ليست مسألة رسم خاصة بلغة التنزيل، بل إنها مسألة تتصل بإجادة النظم والحفاظ على نسق موقّع موزون، يخدم الكلمة في بنائها الخاص، كما يخدمها في مجاورتها لما بعدها. ألا ترى أن الاجتزاء بهذا المدّ القصير الذي توفره الكسرة بعد النون عن المد الطويل الذي يتحقق بالياء، يخدم الآية من قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ، فيجنّبها شيئا من الطول، وبذلك يحسن الوقف، والوقف هنا شيء جائز لأرباب التلاوة الفنية، والوقف أحسن من الوصل على جوازه. كل ذلك من تمام حسن الأداء لهذه اللغة الشريفة المختارة.
ولو أنك استقريت النماذج الكريمة في آي القرآن التي صير فيها إلى المدّ، وإلى قصره ابتغاء حسن الأداء لوجدت من ذلك الشيء الكثير الذي يثبت أن العربية في القرآن، على إصابتها الفائقة في المعاني، والتحليق في مدارج الفكر، قد عنيت باللفظ وبنائه عناية توفر الحسن والجمال والفن والإبداع.
ألا ترى أن الهاء من «فيه» محركة بالكسرة، وأنها في «عنه» محركة بالضمة، ولكنك تجد هذه الهاء في «به» محركة بالكسرة تتبعها في الرسم المصحفي ياء صغيرة؟
إن هذه الياء الصغيرة بعد الهاء من ( «به» ي) ، إشارة إلى القارئ: أنه ملزم(2/54)
أن يطيل قليلا جدا من الكسرة بعد الهاء، بحيث يتولد من ذلك شيء من مدّ طويل. كل هذا يرمي إلى أن تجوّد التلاوة فيتأتّى من ذلك عربيّة فائقة الأداء ناصعة البيان.
ثم إنّ هذا يظهر أن للعربية نظاما في أصوات المد واللين، قصيرها وطويلها، وأن هذا النظام أداة حكيمة في مجيء هذه اللغة رشيقة البناء في مفرداتها وجملها، فقد يقصر الصوت حتى يؤول إلى حركة هي الفتحة والكسرة والضمة، وقد يطول فيكون أصوات المد التي تدعى ألفا وواوا وياء «1» .
على أن طول ما يدعى ب «الحركات» ليس ثابتا، فقد يختلف نفر عن آخر في هذا الطول، وقد تختلف الفتحة في طولها عن نظيرتها الفتحة الأخرى في الكلمة الواحدة، ومثل ذلك يقال في الكسرة والضمة، ألا ترى أن الضمة في «حسام» غير الضمة في «كسر» المبنيّ للمجهول.
وإذا كان الناس متفاوتين في إخراج هذه الأصوات القصيرة بحسب طولها، فهم متفاوتون أيضا في إعطاء شيء من هذه الفتحة إلى شيء من تلك الكسرة.
وهم متفاوتون أيضا في الأصوات الطويلة، فقد يختلف اثنان في مدّ كلمة «شاعر» مثلا، فبعضهم يمد الفتح فيكون الألف، وآخر يقصر الفتح قليلا، فيحمل الضيم على كسرة «العين» فتطول قليلا «2» .
ومن أجل حسن الأداء يصار إلى القصر كما أشرنا في أصوات اللين، ألا ترى أن «يا» ، أداة النداء يتحقق فيها المدّ كاملا، إذا وليها صوت متحرك فتقول: «يا عبد الله» ، ولكنها تقصر كثيرا حتى تتحول إلى صوت قصير هو الفتحة إذا وليها صوت ساكن نحو: «يا ابن مالك» .
ولقد كان مقدار المدّ مظهرا من مظاهر اللهجات الخاصة في العربية الواسعة الرقعة. وما أظن أن كلمة «سلسل» ، وكلمة «سلسال» ، وهما بمعنى، إلّا شيء من هذا.
__________
(1) . لعل من أهم المشكلات اللغوية الصوتية، عدم التفريق في التسمية بين طبيعتين مختلفتين في الأصوات، فالواو والألف والياء، وهي من أصوات المد أو اللين غير الأصوات الصامتة الأخرى في «أمر» و «وجد» ، و «ينع» فالألف في الأولى هي همزة، والواو في الثانية صوت صامت، ومثل ذلك الياء في الثالثة.
(2) . قد يتبين هذا واضحا في نطق المغاربة لهذه الألفاظ الفصيحة.(2/55)
ثم ألا ترى أن طائفة من العرب في عصرنا يقولون «عمود» ، وآخرين يقولون: «عامود» في نطقهم الدارج.
8- وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) .
تشتمل هذه الآية على فقر متسقة النظام، متساوقة يكاد يتصل بعضها ببعض، وهذا النظام يتيح لمن يتلو أن يعمد إلى ضرب من التقسيم يسعفه بوقفات إن شاء، لا تنال من الوحدة الموضوعية التي تجعل من هذه الأقسام ما يأخذ بعضها برقاب بعض.
ومثل هذا يتحقق في الآية اللاحقة 27:
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) .
قلت: إن هذه الفقر تتيح لمن يتلو أن يقف وقفات، إن أحسّ أنّ الوقف يحسن في تجويد التلاوة، والوقف جائز، على أنه أحسن من الوصل، وقد يكون العكس، وهو جواز الوقف في حين يكون الوصل أولى.
هذا كله من الرّخص فسحة للقارئ في تجويد التلاوة المحكمة.
9- وقال تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [الآية 37] .
أقول: لا بد من وقفة على الفعل «دخل» ، واستعماله في لغة التنزيل.
لقد دلّ استقراؤنا للآيات التي اشتملت على هذا الفعل أنه لا بد أن يتطلب ما يتعلق به من الأسماء التي تفيد «المكانية» . وفي هذه الحالة، يصل الفعل إلى مدخوله من غير أداة واسطة كحروف الخفض، ولنجتزئ من الآيات الكثيرة التي تفيد هذه الخصوصية بالآيات التي سنوردها:
قال تعالى:
1- وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص/ 15] .
2- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة/ 214] .
3- لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب/ 53] .
4- ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) [الحجر] .(2/56)
ومثل هذه الآيات آيات أخرى استعمل فيها الفعل هذا الاستعمال.
وقد يطوى ذكر المكان الذي يصير إليه الداخل، فيكون الدخول على الآدميين، وهنا لا بد من حرف الجر «على» كما في الآيات التي نوردها:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ [يوسف/ 69] .
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ [ص/ 22] .
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) [الرّعد] .
وقد يظهر المكان المدخول فيه مع ذكر الآدميين كقوله تعالى:
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [الآية 37] .
وقد استعمل فعل الدخول في بضع آيات، قاصرا لازما غير متصل بمتعلق به كقوله تعالى:
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها.
[الأعراف/ 38] .
وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب/ 53] .
لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف/ 67] .
ومن غير شك أن المتعلق وهو الاسم المكاني، أو المدخول عليهم من الآدميين قد طوي ذكره في هذه الآية لعدم الحاجة إليه، وعلى هذا فالاستعمال واحد.
هذا كله يتصل باستعمال فعل الدخول في المحسوسات من الأسماء الدالة على الأمكنة والظروف المكانية، واستعماله في الدخول على العاقل من الآدميين، فإذا كان الدخول في الأمور العقلية، أو ما يدعى بأسماء المعاني فالاستعمال يختلف، وذلك أن الفعل يتطلب في هذه الحال حرف الجر «في» أو «الباء» كقوله تعالى:
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) [النصر] .
وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة/ 61] .
وقد يحمل على استعمال الفعل في الأمور المعنوية قوله تعالى:
فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) [الفجر] .
والمراد بالدخول في العباد الاتصال بهم والعيش بينهم فجاز استعمال «في» ، في حين عطف عليه قوله:(2/57)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) وذلك لأن المدخول فيه من الأسماء الدالة على المكان.
ومن المفيد أن نشير إلى أن استعمال هذا الفعل يجاوز حقيقته مجازا لعلاقة من العلاقات، فيصير الدخول بالزوج أي: المرأة بمعنى البناء بها، والتزوج منها كقوله تعالى:
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [النساء/ 23] .
10- قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) .
أقول: لا أريد أن أعرض لمكر بني إسرائيل، وكيف قابلهم الله على مكرهم جزاء وعقوبة، ولكني أود أن أقف على المكر ومعناه، وكيف ساغ أن ينسب إلى الله، جلّ شأنه.
قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) [النمل] .
قال أهل العلم بالتأويل: المكر من الله تعالى جزاء سمّي باسم مكر المجازى، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى/ 40] .
فالثانية ليست بسيّئة في الحقيقة، ولكنها سمّيت سيئة لازدواج الكلام، وكذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة/ 194] .
فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه سمّي باسم الذّنب ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، ويجري مجرى هذا القول قوله تعالى:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء/ 142] .
وفي حديث الدعاء: «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» .
قال ابن الأثير: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه.
أقول:
هذه حقيقة المكر، وهذه حقيقة نسبته إلى الله، جلّ وعزّ، ولم يلتفت أهل العربية في عصرنا إلى حسن استعمال هذه الكلمة في لغة التنزيل، بل ظلّت الكلمة على ما نعرف من دلالة الخديعة والاحتيال.
11- وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [الآية 112] .
الفعل «ثقف» بهذه الدلالة عرفته لغة التنزيل في ست آيات، في أربع منها جاء مبنيا للمعلوم، وفي اثنتين ورد(2/58)
مبنيا للمجهول، والآية التي ذكرناها إحدى هاتين، والفعل فيها بمعنى الوجود. وقد كنا أشرنا إلى هذا بإيجاز كما في الآية 191 من سورة البقرة:
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: حيث وجدتموهم وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا بمعنى أينما وجدوا.
أقول:
لم يبق هذا الفعل بهذه الدلالة في العربية المعاصرة، على أننا لا نجده بهذه الدلالة في العربية القديمة، ولم يرد من ذلك إلا بيت واحد ذكره أهل المعجمات غير منسوب إلى قائل. إن هذا يعني أن لغة القرآن قد أكدت هذا الفعل بهذا المعنى الواضح.
أما دلالة الفعل الأخرى فهي قولنا:
ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة، أي:
حذقه.
ورجل بيّن الثّقافة وهو ثقف وثقف إذا كان ضابطا لما يحويه قائما به.
وثقف الخلّ ثقافة فهو ثقف وثقيف، أي: حذق وحمض جدا. والثّقافة والثّقافة: العمل بالسيف.
والثّقاف: ما تسوّى به الرماح، وتثقيفها تسويتها.
أقول:
هذا أكثر ما أثر في العربية من هذه الكلمة فما حالها اليوم. لعل من حياة المواد اللغوية، والمسيرة التي تنتابها، ما يذكّرنا بمختلف نماذج الكائن الحي في دنيانا هذه، فمن نشأة وحياة واستمرار إلى نكوص وانزواء ففناء، أو إلى استحالة أخرى تقطع الصلة بين الأول والآخر. ولعل من هذا أيضا ما كتب لمادة «الثقافة» في عصرنا هذا.
إن «الثقافة» ، في موادنا اللغوية المعاصرة، كلمة ذات مدلول كبير واسع، يتصل بالحضارة والفكر والعلم والخلق وسائر ضروب السلوك البشري. ولعل من الصعب أن يصار إلى تعريفها تعريفا يستوفى فيه ما يجب أن يشتمل عليه. وما كان لهذه الكلمة أن تنال ما نالته لولا الأثر الأجنبي، الذي عرض لما يحزبنا نحن العرب في شؤون الفكر والعلم، وسائر مواد الحضارة المعاصرة.
إن هذا الأثر الأجنبي هو ما نعانيه من الرغبة في ترجمة المعاني الأجنبية، وأخصّ منها الغربية في عصرنا الحديث. لقد واجه أهل الفكر في عصرنا مادة: وعرفوا شيئا من(2/59)
دلالاتها في اللغات الغربية، وقد أفضى إلى هذه الدلالات، من غير شك، علاقات عدة هي المشابهة والقرينة، كما أفضى إليها التطور اللغوي التاريخي، الذي يندرج في حقول مختلفة.
إذا كانت هذه الكلمة تعني «الفلاحة» ، أو «الزراعة» ، فلا شك أنها، بسبب من المشابهة بعد مسيرة تطورية، إنما تعني التربية والسلوك والمرانة.
ومن أجل هذا، اقتضى جماع هذه المواد والأفكار أن يثقل رصيد هذه الكلمة ويزداد ثقلا يوما بعد يوم.
فماذا صنع المترجمون العرب؟
لقد أخذوا هذه الكلمة الواسعة فنظروا إليها بما يخدم السلوك والتربية، فدخلت في عداد المعجم التربوي التعليمي، ثم كتب لها أن تتسع فتغزو دوائر أخرى.
ثم كيف اختاروا مادة «ثقف» للدلالة الجديدة الوافدة؟
لقد وجدوا أن في هذه المادة العربية كلمة «ثقاف» ، وهو من أسماء الآلات والأدوات، والثّقاف ما تقوّم به الرماح وتسوّى، فاشتقوا منه مصدرا هو «الثقافة» ، لما في الأصل، وهو اسم الآلة، من معنى التقويم والتسوية والتعديل، وكل ذلك يدخل في معاني التربية القائمة على تقويم السلوك البشري.
وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن العربية البدوية، بثروتها القديمة ذات الأصول البدوية، قد أمدّت العربية الحضارية بمصدر لغوي كبير، أفضى إلى مواد الحضارة المشهورة، كالعقل والحكمة، والحكم والحكومة، والنقد والبناء، والجمال وغير ذلك مما عرف في المعاني الحضارية. ولو أنك أعملت الفكر لاهتديت بيسر إلى تلك الأصول البدوية التي أوشك أن يمحي أثرها.
12- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [الآية 118] .
أريد أن أقف على الفعل «ألا، يألو» .
قالوا: ألا يألو ألوا وألوّا وأليّا، وألّى يؤلّي تألية.
ومثلهما ائتلى بمعنى قصّر وأبطأ، قال:(2/60)
وإنّ كنائني لنساء صدق ... فما ألّى بنيّ ولا أساؤوا
والعرب تقول: أتاني فلان في حاجة فما ألوت ردّه، أي: ما استطعت.
وأتاني في حاجة فألوت فيها، أي:
اجتهدت.
وقال الأصمعي: يقال: ما ألوت جهدا، أي: لم أدع جهدا.
وقوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا الآية، أي: لا يقصّرون في فسادكم.
وقولهم: لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا، والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه.
أقول: هذا هو المعنى الذي ما نزال نستعمله في عربيتنا المعاصرة فنقول:
فلان لا يألو جهدا في عمله، أي: لا يقصر، ولا ينقص من جهده.
ولكني أميل إلى أن أقرر أن المعاصرين التزموا، في عربيتهم المعاصرة، في الألفاظ والجمل والأبنية والصفات، نماذج لا يحيدون عنها قيد أنملة، وكأنّ العربية خلت من وجوه القول في هذه المسألة إلا ما ألفوا استعماله وسنشير إلى هذا الالتزام كلما عرض شيء من ذلك.
ألا ترى أنهم لزموا في الاستعمال الفعل المضارع المنفي ب «لا» ، ولم يدركوا أن الماضي «ألا» قد استعمله أهل الفصاحة طوال العصور. ولعل نفرا من العارفين بشيء من العلم اللغوي يقولون: «لم يأل جهدا» إذا ما أرادوا المضيّ.
وكنا قد مررنا بإيجاز على هذه المادة الغنية المعطاء.
13- وقال تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [الآية 122] .
أقول: لنا في هذه الآية قولان:
الأول في كلمة «همّت» ، والثاني في قوله: «تفشلا» .
فأما الأول، فقد قالوا: همّ بالشيء يهمّ همّا: نواه وأراده وعزم عليه.
وأهمّه الأمر: أقلقه وحزنه.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف/ 24] .
غير أني أريد أن أشير إلى الفعل «همّ» في الآية 122 من سورة آل عمران. في قوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ومثله في [الآية 113(2/61)
من سورة النساء] : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ.
إن الفعل «همّ» ، في كلتا الآيتين، قد أتبع بالمصدر المؤوّل من «أن والفعل» ، وهذا الاستعمال يذكّرنا بطائفة من الأفعال، أفرد لها النحاة بابا أسموه أفعال المقاربة والرجاء والشروع، وهي كاد وكرب وأوشك، وعسى وحرى واخلولق، وجعل وأخذ وشرع وقام وأنشأ ونحوها.
قلت: إن الفعل «همّ» في الآيتين يذكرنا بهذه الأفعال في استعمالها من حيث أنها يليها «أن والفعل» «1» .
ألا ترى أن في قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ شيئا من معنى «أوشك» واستعمالها واحد.
وكان على النحاة الأوائل أن يقفوا على هذا الاستعمال، ويشيروا إلى هذه العلاقة كما أفصحت عنها لغة التنزيل العزيز.
وأما القول الثاني، فهو في معنى «الفشل» ، لقد قالوا:
الفشل: الرجل الضعيف الجبان، وفشل الرجل فشلا، أي: كسل وضعف وتراخى وجبن ...
وعلى هذا يخرّج الفعل في الآية المذكورة.
ومثله في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [الآية 152] .
وقوله تعالى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [الأنفال/ 43] .
وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال/ 46] .
أقول: فكيف آل الفعل في العربية المعاصرة؟ لقد صار الفعل «فشل» ، بمعنى خاب وأخفق في مسعاه، يقال:
فشل الولد في المدرسة، وفشل المشروع الفلاني، وفشلت التجربة.
أيكون هذا التحول في المعنى والدلالة ضربا من الاتساع صارت
__________
(1) . إن قول النحاة إن لهذه الأفعال عملا كعمل الفعل «كان» ، أي: أنها تقتضي الاسم والخبر، وخبرها هو أن والفعل، قول ضعيف متهافت، ولا يمكن أن يكون أن والفعل مسندا كحال الخبر في «كان» من قولنا: كان زيد شاعرا.(2/62)
الكلمة به تعني الإخفاق والخيبة من الضعف والجبن والتراخي؟ «1» .
14- وقال تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [الآية 125] .
قال الزمخشري: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا من قولك: قفل من غزوته، وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبي حنيفة، رحمه الله: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سمّيت به الحالة التي لا ريث فيها، ولا تفريج على شيء من صاحبها. فقيل:
خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث.
أقول: إن الاستعمال الجديد في العربية المعاصرة «على الفور» في قولهم مثلا: جاء فلان وخرج على الفور، أو فورا، ليس جديدا ذلك أن العربية في العصر العباسي عرفت هذا ودليلنا قول أبي حنيفة المذكور قبل قليل.
__________
(1) . ولشيوع هذا التجاوز في الاستعمال المعاصر للفعل «فشل» ، ذهبوا إلى المزيد منه فقالوا: «أفشل» كقولهم: أفشل خطط العدو، بمعنى «أبطل» ، وكل ذلك تجاوز جديد.(2/63)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «آل عمران»
«1» أما قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) فإنّ الْقَيُّومُ على زنة: «الفيعول» ولكن الياء الساكنة إذا كانت قبل واو متحركة قلبت الواو ياء. وأصله «القيووم» و «الدّيّان» : «الفيعال» و «الدّيّار» :
«الفيعال» وهي من «دار» «يدور» وأصله «الديوار» ولكن الواو قلبت ياء.
وأما مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [الآية 3] فنصب على الحال.
وقال: هُدىً لِلنَّاسِ [الآية 4] ف هُدىً في موضع نصب على الحال ولكن هدى مقصور فهو متروك على حال واحد.
وقال هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [الآية 7] ولم يقل: «أمهات» كما تقول للرجل:
«ما لي نصير» فيقول: «نحن نصيرك» وهو يشبه «دعني من تمرتان» . قال «2» [من الرجز وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائة] :
تعرّضت لي بمكان حلّ ... تعرّض المهرة في الطول
تعرّضا لم تأل عن قتلا لي «3»
فجعله على الحكاية لأنه كان منصوبا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» ، للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هو منظور بن مرثد الأسدي، مجالس ثعلب، النشرة الثانية ص 534، واللسان «طول» و «قتل» وهي اللهجات، 283، أنه رجل من بني فقعس.
(3) . في «مجالس ثعلب» «بمجاز» بدل «بمكان» و «قتل لي» بدل «قتلا لي» وفي اللسان «عرض» ب «تعرضت لم تأل عن قتل لي» وتقديمه على المصراع الثاني وبلا نسبة. وفي «انن» كما أورد الأخفش ولكن بلا نسبة أيضا. وفي «طول» و «قتل» معزوا ب «قتل لي» وجاء في «طول» بتقديم المصراع الثالث على الثاني.(2/65)
قبل ذلك كما ترى، كما تقول:
«نودي» «الصلاة الصلاة» «أي: تحكي قوله: «الصلاة الصلاة» وقال بعضهم «1» : إنّما هي «أن قتلا لي» ولكنه جعله عينا لأنّ من لغته في «أن» «عن» «2» . والنصب على الأمر كأنك قلت: «ضربا لزيد» .
وقال: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [الآية 7] لأن «كلّ» قد يضمر فيها كما قال:
إِنَّا كُلٌّ فِيها [غافر/ 48] يريد: كلّنا فيها. ولا تكون «كلّ» مضمرا فيها وهي صفة انما تكون مضمرا فيها إذا جعلتها اسما فلو كان «إنّا كلّا فيها» على الصفة لم يجز لأن الإضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان.
وقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [الآية 11] يقول: «كدأبهم في الشرّ» من «دأب» «يدأب» «دأبا» .
وقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [الآية 12] أي:
أنّكم ستغلبون. كما تقول: «قل لزيد» :
«سوف تذهب» أي: أنّك سوف تذهب. وقال بعضهم: (سيغلبون) «3» أي: قل لهم الذي أقول. والذي أقول لهم «سيغلبون» . وقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا [الأنفال/ 38] فهذا لا يكون إلا بالياء في القرآن لأنه قال:
يُغْفَرْ لَهُمْ «4» . ولو كان بالتاء قال:
(يغفر لكم) «5» وهو في الكلام جائز
__________
(1) . هو الخليل بن أحمد. العين 1/ 31.
(2) . هي العنعنة وهي قلب الهمزة عينا، وهي لغة تميم وقيل قيس أيضا وقيل بل تميم وأسد قيل بل بني كلاب وقيل هذيل اللهجات 284.
(3) . القراءة بالياء كما في الطبري 6/ 226 الى جماعة من أهل الكوفة وفي السبعة 202، والكشف 1/ 335 والتيسير 86 والبحر 2/ 392 الى حمزة والكسائي وفي الجامع 4/ 24 الى نافع. وفي معاني القرآن 1/ 54 و 63 و 1/ 191 و 1982 وحجة ابن خالويه 82 بلا نسبة. اما القراءة بالتاء ففي الطبري 6/ 227، الى عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وفي السبعة 201 الى ابن كثير وابي عمرو وعاصم وابن عامر ونافع وفي الكشف 1/ 435 و 435 الى غير حمزة والكسائي، وان اجماع الحرميين وعاصم عليها، وفي التيسير 86 والبحر 2/ 392 الى غير حمزة والكسائي وفي الجامع 4/ 24 الى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وفي معاني القرآن 1/ 54 و 63 و 191 و 192 وفي حجة ابن خالويه 82 بلا نسبة.
(4) . في معاني القرآن 1/ 192 نسبها الفرّاء الى من هو منهم، فقال في قراءتنا، ولعله قصد قراءة الكوفة والكسائي وحمزة في مقدمتهم. [.....]
(5) . في معاني القرآن 1/ 192 الى ابن مسعود.(2/66)
بالتاء. وتجعلها «لكم» كما فسرت لك.
وقال: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [الآية 13] على الابتداء رفع، كأنه قال: «إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله» «1» وقرئت جرّا على أول الكلام على البدل «2» وذلك جائز. قال الشاعر «3» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد المائة] :
وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل بها ريب من الحدثان «4»
فرفع. ومنهم من يجرّ على البدل ومنهم من يرفع على: إحداهما كذا وإحداهما كذا. وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد المائة] .
[و] إنّ لها جارين لن يغدرا بها ... ربيب النبيّ وابن خير الخلائف «5»
رفع، والنصب على البدل. وقال تعالى: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ [ص] وان شئت جعلت «جنات» على البدل أيضا. وان شئت رفعت على خبر «إنّ» ، أو على «هنّ جنّات» فيبتدأ به. وهذا لا يكون على «إحداهما كذا» لأن ذلك المعنى ليس فيه هذا ولم يقرأه أحد بالرفع «6» .
وقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام/ 100] فنصب على البدل «7» وقد يكون فيه الرفع على «هم الجنّ» «8» .
__________
(1) . في الجامع 4/ 25 والبحر 2/ 393 الى الجمهور، وفي الطبري 6/ 231 أن إجماع الحجة من القراء على هذا، وفي معاني القرآن 1/ 192 بلا عزو.
(2) . في الشواذ 19 الى الزهري ومجاهد، وفي الجامع 4/ 25 الى الحسن ومجاهد، وفي البحر 2/ 393 الى مجاهد والحسن والزهري وحميد، وفي معاني القرآن 1/ 192 وفي الطبري 6/ 232 بلا نسبة.
(3) . هو النجاشي الحارثي قيس بن عمرو بن مالك، النوادر 10 الحماسة الشجرية 1/ 127 والوحشيات 113 والخزانة 1/ 400.
(4) . في النوادر: ورجل رمت فيها يد الحدثان، وفي الحماسة ب وكنتم و «سليمة» وفي الوحشيات به «وكنتم» أيضا.
(5) . استشهد به في معاني القرآن كما سبق من غير عزو. وجاء في ديوان معن بن أوس ص 35 ب «إنّ» .
(6) . قراءة الجر في البحر 7/ 404 الى الجمهور، وفي الكشاف 4/ 100 بلا نسبة، وقراءة الرفع في الشواذ الى عبد العزيز بن رفيع وابي حيوة، وفي البحر 7/ 405 زاد زيد بن علي.
(7) . في البحر 4/ 193 الى الجمهور، وفي معاني القرآن 1/ 348 والطبري 12/ 7 بلا نسبة.
(8) . الرفع في الشواذ 39 الى أبي حيوة، وزاد في البحر 4/ 191 يزيد بن قطيب.(2/67)
وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ [الأنعام/ 112] على البدل ورفع على «هم شياطين» كأنه إذا رفع قيل له، أو علم أنه يقال له «ما هم» ؟ أو «من هم» فقال: «هم كذا وكذا» . وإذا نصب فكأنه قيل له أو علم أنه يقال له «جعل ماذا» أو «جعلوا ماذا» أو يكون فعلا واقعا بالشياطين عَدُوًّا حالا، ومثله كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق] كأنه قيل أو علم ذلك فقال «بناصية» «1» وقد يكون فيه الرفع على قوله: «ما هي» فيقول (ناصية) «2» والنصب على الحال. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة] :
إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم ... كساعد الضّبّ لا طول ولا عظم «3»
على البدل أي ك «لا طول ولا عظم» ومثل الابتداء قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الحج/ 72] .
وقوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [الآية 15] كأنه قيل لهم: «ماذا لهم» ؟ و «ما ذاك» ؟ فقيل:
«هو كذا وكذا» . وأمّا بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة/ 60] فإنما هو على «أنبّئكم بشرّ من ذلك حسبا» و «بخير من ذلك حسبا» . وقوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [المائدة/ 60] موضع جرّ على البدل من قوله بِشَرٍّ ورفع على «هو من لعنه الله» .
قال تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [الآية 14] مهموز منها موضع الفاء لأنه من «آب» «يؤوب» وهي معتلة العين مثل «قلت» «تقول» «والمفعل» «مقال» . تقول: «آب» «يؤوب» «إيابا» قال الله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) [الغاشية] وهو الرجوع. قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد السادس والخمسون بعد المائة] :
__________
(1) . الجر هو في البحر 8/ 495 الى الجمهور.
(2) . في الشواذ 176 الى الكسائي في رواية.
(3) . في الحيوان 6/ 112 بغير نسبة، وفي الخزانة 2/ 364 كذلك وبلفظ «قصر» بدل «عظم» .
(4) . هو مضرس الاسدي، البيان والتبيين 3/ 40، وقيل معقّر بن حمار البارقي او سليم بن ثمامة الحنفي، او عبد ربه السلمي، اللسان «عصا» ، وفي الاشتقاق 481 انه لمعقر، وكذلك في «المؤتلف والمختلف» 128.(2/68)
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وأمّا «الأوّاب» فهو الراجع إلى الحق وهو من: «آب» «يؤوب» أيضا. وأمّا قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ/ 10] ، فهو كما يذكرون التسبيح أو هو- والله أعلم- مثل الأوّل يقول: «ارجعي إلى الحقّ» و «الأوّاب» الراجع إلى الحقّ.
وقال تعالى: الصَّابِرِينَ [الآية 17] الى قوله وبِالْأَسْحارِ [الآية 17] موضع جر على لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [الآية 15] فجرّ بهذه اللام الزائدة.
وقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [الآية 18] إنما هو «شهدوا أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط» نصب قائِماً على الحال.
وقال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية 19] يقول وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 19] بَغْياً بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ [الآية 19] «1» .
وقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ [الآية 28] بكسر يَتَّخِذِ لأنه لقيته لام ساكنة وهي نهي فكسرته.
وقال الله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [الآية 30] لأنّ «البين» هاهنا ظرف وليس باسم. ولو كان اسما لارتفع «الأمد» . فإذا جئت بشيء هو ظرف للآخر وأوقعت عليه حروف النصب فانصب نحو قولك: «إنّ عندنا زيدا» لان «عندنا» ليس باسم ولو قلت: «إنّ الذي عندنا» قلت: «زيد» لأن «الذي عندنا» اسم.
وقال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [الآية 34] فنصبه على الحال «2» : ويكون على البدل «3» على قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [الآية 33] وقال تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [الآية 35] فقوله مُحَرَّراً على الحال.
وقال تعالى:
__________
(1) . نقله عنه في إعراب القرآن، 1/ 149 و 150، واعراب القرآن للزجاج 2/ 719، والجامع 4/ 44. [.....]
(2) . نقله في اعراب القرآن 1/ 154 والجامع 4/ 64. وفيهما ان الكوفيين يرون النصب على القطع. و «القطع» يشير الى معنى الحال عند الكوفيين، وقد جاء النصب على القطع في هذا الموضع في معاني القرآن 1/ 207.
(3) . نسبه في الجامع 4/ 64 الى الزّجاج، والأخفش أسبق منه.(2/69)
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا [الآية 37] «1» وقال بعضهم (وكفلها «2» زكرياء «3» ) و (كفلها) «4» ايضا زَكَرِيَّا «5» وبه نقرأ وهما لغتان «6» وقال بعضهم (وكفلها زكرياء) بكسر الفاء. ومن قال: «كفل» قال «يكفل» ومن قال «كفل» قال «7» «يكفل» . وأما «كفل» فلم أسمعها وقد ذكرت «8» .
وقال الله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [الآية 38] لأن النون [في «لدن» ] ساكنة مثل نون «من» وهي تترك على حال جزمها في الاضافة لأنها ليست من الأسماء التي تقع عليها الحركة، ولذلك قال: مِنْ لَدُنَّا [النساء/ 67] «9» ، وقال تعالى مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل/ 6] فتركت ساكنة.
__________
(1) . تضعيف فاء «كفّلها» في الطبري 6/ 345 الى عامة قراء الكوفيين، وفي السبعة 204 و 205 الى عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي، وفي الكشف 1/ 341، والتيسير 87، والجامع 4/ 70، والبحر 2/ 442 الى الكوفيين، وفي معاني القرآن 1/ 208 وحجة ابن خالويه بلا نسبة والإملاء 1/ 122 كذلك.
(2) . في الطبري 6/ 345 الى عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة، وفي السبعة 204 الى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو، وفي الكشف 1/ 341، والتيسير 87، والجامع 4/ 70 الى غير الكوفيين، وفي البحر 2/ 442 الى السبعة غير الكوفيين، وفي حجة ابن خالويه 83، ومعاني القرآن 1/ 208، والإملاء 1/ 132 بلا نسبة.
(3) . رفع «زكريّاء» ولا يظهر إلا مع المد والهمز هو في السبعة الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وابن عامر، وفي التيسير 87 الى غير ابي بكر وحفص وحمزة والكسائي.
وفي الأصل (زكريا) .
(4) . في الجامع 4/ 70 الى عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني، وفي البحر 2/ 442 اقتصر على المزني.
(5) . قصر «زكريا» ، في الطبري 6/ 347 الى عامة قراء الكوفة، وفي الكشف 1/ 341 الى حفص وحمزة والكسائي، وكذلك في البحر 2/ 442 والتيسير 87 وسماه في الأخير ترك إعراب «زكريا» ، وفي معاني القرآن 1/ 208، وحجة ابن خالويه 83، والمشكل 93 بلا نسبة. أما همز «زكريا» ، ونصبه، ففي التيسير 87 الى أبي بكر، وفي حجة ابن خالويه 83 ومعاني القرآن 1/ 208 بلا نسبة.
(6) . في «اللهجات» 438، أن مدّ زكريا وقصرها لغتان حجازيتان، ويرى المؤلف أن المدّ لغة أهل الحضر والقصر لغة أهل المدر 440. وفي إعراب القرآن 1/ 157 عن الفرّاء أن المد والقصر لغة أهل الحجاز، وأن حذف الالف لغة أهل نجد.
وفي معاني القرآن 1/ 208، أن في «زكريا» ثلاث لغات.
(7) . مجاز القرآن 15/ 91 ذكرت اللغتان.
(8) . نقل عنه في إعراب القرآن 1/ 157 والجامع 4/ 70.
(9) . ورد في ستة مواضع في المصحف الشريف أولها [النساء 4/ 67] وآخرها [القصص/ 57] .(2/70)
وقال تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الآية 37] فهذا مثل كلام العرب «يأكل بغير حساب» أي: لا يتعصّب عليه ولا يضيّق عليه. وسَرِيعُ الْحِسابِ «1» وأَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام/ 62] يقول: «ليس في حسابه فكر ولا روية ولا تذكّر» .
وقال تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) مثل «كثير الدّعاء» لأنه يجوز فيه الألف واللام تقول: «أنت السّميع الدّعاء» ومعناه «إنّك مسموع الدّعاء» أي: «إنّك تسمع ما يدعى به» .
وقال تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ [الآية 39] «2» . ويقول من كسر همزة «إنّ» : لأنّه كأنه قال فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ فقالت: (إنّ الله يبشّرك) وما بعد القول حكاية. وقال بعضهم أَنَّ اللَّهَ «3» يقول: «فنادته الملائكة بذلك» .
وقال تعالى: بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً [الآية 39] وقوله وَسَيِّداً وَحَصُوراً معطوف على «مصدّقا» على الحال.
وقال تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ [الآية 40] كما تقول «وقد بلغني الجهد» أي: أنا في الجهد والكبر.
وقال: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [الآية 41] يريد: «أن لا تكلّم الناس إلّا رمزا» وجعله استثناء خارجا من أول الكلام «4» . والرمز: الإيماء.
وقال: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [الآية 42] ف «إذ» ها هنا ليس له خبر في اللفظ.
وقوله: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [الآية 45] ويَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [الآية 30] وأشباه هذا في «إذ» و «الحين» وفي «يوم» كثير. وإنما حسن ذلك للمعنى،
__________
(1) . ورد في سبعة مواضع في الكتاب الكريم أولها [البقرة/ 202] وآخرها [غافر/ 17] .
(2) . في المصحف بفتح همزة «أنّ» وكسرها قراءة هي في الطبري 6/ 366 الى بعض أهل الكوفة، وفي السبعة 205، والكشف 1/ 343، والتيسير 87، والبحر 2/ 446 الى حمزة وابن عامر، وفي الجامع 4/ 75، إلى الكسائي وابن عامر، وفي معاني القرآن 1/ 210 بلا نسبة.
(3) . هي القراءة الموافقة لرسم المصحف، وهي في الطبري 3/ 366 الى عامة القراء، وفي السبعة 205 والكشف 1/ 343، والتيسير 87، والبحر 2/ 446 الى غير حمزة وابن عامر، وفي معاني القرآن 1/ 210 بلا نسبة. [.....]
(4) . نقله في الجامع 4/ 81.(2/71)
لأن القرآن انما أنزل على الأمر والذي كأنه قال لهم: «اذكروا كذا وكذا» وهذا في القرآن وارد في غير موضع و «اتّقوا يوم كذا» أو «حين كذا» .
وقال الله تعالى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [الآية 44] لأنّ كل ما كان من طلب العلم فقد يقع بعده الاستفهام. تقول: «أزيد في الدّار» ؟
و: «لتعلمنّ أزيد في الدّار» . وقال:
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [الكهف/ 12] أي:
لننظر. وقال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود/ 7 والملك/ 2] وأمّا قوله: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) [مريم] فلم يرتفع على مثل ما ارتفع عليه الأول لأن قوله لَنَنْزِعَنَّ ليس بطلب علم. ولكن لما فتحت «من» و «الذي» في غير موضع «أي» ، صارت غير متمكّنة، إذ فارقت أخواتها تركت على لفظ واحد وهو الضم «1» وليس بإعراب. وجعل أَشَدُّ من صلتها وقد نصبها قوم وهو قياس «2» . وقالوا:
«إذا تكلّم بها فإنّه لا يكون فيها إلّا الإعمال» . وقد قرئ (تماما على الذي أحسن) [الأنعام/ 154] برفع «أحسن» وجعله من صلة «الذي» «3» وفتحه على الفعل أحسن «4» . وزعموا ان بعض العرب قال: «ما أنا بالّذي قائل لك شيئا» فهذا الوجه لا يكون للاثنين إلا «ما نحن باللّذين قائلان لك شيئا» .
وقال تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً [الآية 45] نصبه على الحال وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الآية 45] عطفه على وَجِيهاً وكذلك وَكَهْلًا [الآية 46] معطوف على وَجِيهاً لأن ذلك منصوب. وأما قوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [الآية 45] فانه جعل «الكلمة» هي «عيسى» لأنه في المعنى
__________
(1) . في الجامع 11/ 133، انها قراءة القراء كلهم إلا هارون القارئ الأعور.
(2) . في الجامع 11/ 133، الى هارون القارئ الأعور، والبحر 6/ 209 الى معاذ بن مسلم الهراء والى زائدة عن الأعمش، وفي الشواذ 86 الى معاذ أيضا وطلحة بن مصرف، وفي الكتاب 1/ 397 بلا نسبة وقصرها في المشكل على هارون القارئ 2/ 458.
(3) . في الطبري 12/ 236 والمحتسب 234 الى يحيى بن يعمر، وزاد في الجامع 7/ 142 و 4/ 255 ابن أبي إسحاق. وفي معاني القرآن 1/ 365 والكشف 101 بلا نسبة، وكذلك في الكتاب 1/ 270.
(4) . في الطبري 12/ 236 الى قراء الأمصار، وفي الجامع 7/ 142 ومعاني القرآن 1/ 365 بلا نسبة، وزاد في الأخير أن «أحسن» منصوب على نية الخفض صلة ل «الذي» وليس فعلا.(2/72)
كذلك كما قال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى [الزمر/ 56] ثم قال: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها [الزمر/ 59] وكما قالوا: «ذو الثديّة» لأن يده كانت مثل الثدي. كانت قصيرة قريبة من ثديه «1» فجعلها كأن اسمها «ثديّة» ولولا ذلك لم تدخل الهاء في التصغير.
وأما قوله: كَذلِكِ اللَّهُ [الآية 47] فكسر الكاف لأنها مخاطبة امرأة. وإذا كانت الكاف للرجل فتحت. قال للمؤنث وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ [يوسف/ 29] .
وقوله: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «2» [الآية 48] موضع نصب على وَجِيهاً. ورَسُولًا [الآية 49] معطوف على وَجِيهاً.
وقال تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ [الآية 50] على قوله وَجِئْتُكُمْ [الآية 50] مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ [الآية 50] لأنّه قال: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الآية 49] .
وقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [الآية 51] ف إِنَّ على الابتداء «3» .
وقال بعضهم: (أن) «4» فنصب على «وجئتكم بأنّ الله ربّي وربّكم» هذا معناه.
وقال تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ [الآية 52] لأنّ هذا من:
«أحسّ» «يحسّ» «إحساسا» وليس من قوله تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [الآية 152] إذ ذلك من «حسّ» «يحسّ» «حسّا» وهو في غير معناه لأن معنى «حسست» قتلت، و «أحسست» هو: ظننت «5» .
وقال تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [الآية 59] رفع على الابتداء ومعناه: «كن» «فكان» كأنّه قال: «فإذا هو كائن» .
وقال: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) يقول: «هو الحقّ من ربّك» .
__________
(1) . هو حرقوص بن زهير السعدي الخارجي، قتل في النهروان، وأخباره في مروج الذهب 2/ 417 وشرح نهج البلاغة 2/ 275- 277، والملل والنحل 1/ 106، والكنى والألقاب 2/ 415.
(2) . في الأصل: ونعلمه بالنون، وهي قراءة الإملاء 1/ 135.
(3) . وهي في الطبري 6/ 441 الى عامة قراء الأمصار.
(4) . في الطبري 6/ 441، والشواذ 20، والبحر 2/ 469 بلا تعيين لمن نسبت اليه.
(5) . نقله في الصحاح «حسس» ، ونسب اليه أيضا رأي الفرّاء في أن أحسّ معناها وجد.(2/73)
وقال سبحانه وتعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [الآية 64] فجر سَواءٍ «1» لأنها من صفة الكلمة وهو «العدل» «2» .
أراد «مستوية» ولو أراد «استواء» لكان النصب «3» . وإن شاء ان يجعله على الاستواء ويجرّ جاز، ويجعله من صفة الكلمة مثل «الخلق» ، لأن «الخلق» قد يكون صفة ويكون اسما، قال الله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج/ 25] لأن «السّواء» للآخر وهو اسم ليس بصفة فيجري على الأول، وذلك إذا أراد به الاستواء. فان أراد «مستويا» جاز أن يجري على الأول، فالرفع في ذا المعنى جيد لأنها صفة لا تغير عن حالها ولا تثنّى ولا تجمع على لفظها ولا تؤنّث، فأشبهت الأسماء. وقال تعالى: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
[الجاثية/ 21] ف «السواء» للمحيا والممات، فهذا المبتدأ. وإن شئت أجريته على الأول وجعلته صفة مقدمة من سبب الأول فجرى عليه، فهذا إذا جعلته في معنى مستو فالرفع وجه الكلام كما فسرته لك من قوله أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [الآية 64] فهو بدل كأنه قال «تعالوا إلى أن لا نعبد إلّا الله» .
وقال عز وجل: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 77] فهذا مثل قولك للرجل «ما تنظر إليّ» إذا كان لا ينيلك شيئا.
وقال تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [الآية 72] جعله ظرفا.
وقال تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ [الآية 73] يقول: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [الآية 73] أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّوكم «4» .
وقال تعالى: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [الآية 75] لأنّها من «دمت»
__________
(1) . في البحر 2/ 483 الى الجمهور، وفي الطبري 6/ 486، والمشكل 97 بلا نسبة.
(2) . «عدل» بدل «سواء» قراءة عبد الله، معاني القرآن 220.
(3) . في الشواذ 21 والمشكل 97 والبحر 2/ 483 الى الحسن، وفي الطبري 6/ 486 بلا نسبة.
(4) . نقله في إعراب القرآن 1/ 169، والجامع 4/ 114. وكلامه على تتمة الآية أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [الآية 73] . [.....](2/74)
«تدوم» . ولغة للعرب «1» «دمت» وهي قراءة «2» مثل «متّ» «تموت» جعله على «فعل» «يفعل» فهذا قليل.
وقال تعالى: بِدِينارٍ [الآية 75] أي: على دينار كما تقول: «مررت به» و «عليه» .
وقال تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [الآية 78] بفتح الياء «3» . وقال (يلوّون) «4» بضم الياء وأحسبها يَلْوُونَ، لأنّه قال لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء/ 46] «5» فلو كان من (يلوّون) لكانت «تلوية بألسنتهم» .
وقال تعالى: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ [الآية 79] نصب على ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ [الآية 79] ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ لأنّ «ثمّ» من حروف العطف.
ووَ لا يَأْمُرَكُمْ [الآية 80] أيضا معطوف بالنّصب على أَنْ وإن شئت رفعت تقول (ولا يأمركم) لا تعطفه على الأوّل تريد: هو لا يأمركم «6» .
قال الله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [الآية 81]
__________
(1) . هي لغة تميم. الشواذ 21 واللهجات 468 والبحر 2/ 500، وقد نقله عنه في إعراب القرآن 1/ 170 والجامع 4/ 117.
(2) . في الشواذ 21 الى يحيى بن وثاب، وفي الجامع 4/ 117 الى طلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما، وفي البحر 2/ 500 الى أبي عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والأعمش وابن أبي ليلى والغياض بن غزوان وطلحة وغيرهم، وفي المشكل 99 بلا نسبة.
(3) . في البحر 2/ 503 الى الجمهور وفي المشكل 99 بلا نسبة.
(4) . في الجامع 4/ 121 الى أبي جعفر وشيبة، وفي البحر 2/ 503 الى أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح وأبي حاتم عن نافع، وأن الزمخشري نسبها الى أهل المدينة.
(5) . لعله قصد (يلون) بواو واحدة وهي قراءة حميد كما في المشكل 1/ 164، وفي الإملاء 1/ 141 بلا نسبة.
وعللها بأنها في أصلها «يلوون» كقراءة الجمهور، ثم همز الواو لانضمامها، ثم ألقى حركتها على اللام.
(6) . نقل وجه الرفع في إعراب القرآن 1/ 172 وقال هي قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرميين وفي الطبري 6/ 547 الى عامة قراء الحجاز والمدينة، وفي السبعة 213 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي، وفي البحر 2/ 507 الى الحرميين والنحويين والأعشى والبرجمي، وفي الكشف 1/ 350 والتيسير 89 والجامع 4/ 123 الى غير عاصم وحمزة وابن عامر، وفي معاني القرآن 1/ 224 وحجة ابن خالويه 87 والمشكل 99 بلا نسبة. أما النصب ففي الطبري 6/ 547 الى بعض الكوفيين والبصريين وفي السبعة 213 والكشف 1/ 350 والتيسير 89 والجامع 4/ 123 والبحر 2/ 507 الى عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، وفي معاني القرآن 1/ 224 الى أكثر القراء، وفي حجة ابن خالويه 87 والمشكل 99 بلا نسبة.(2/75)
فاللام التي مع «ما» في أول الكلام هي لام الابتداء نحو «لزيد أفضل منك» ، لأن (ما آتيتكم) اسم والذي بعده صلة.
واللام التي في لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [الآية 81] لام القسم كأنه قال «والله لتؤمننّ به» فوكد في أول الكلام وفي آخره، كما تقول: «أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا» ، وقد يستغنى عنها. ووكّد في لَتُؤْمِنُنَّ باللام في آخر الكلام وقد يستغنى عنها. جعل خبر (ما آتيتكم من كتاب وحكمة) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ مثل «ما لعبد الله؟ والله لتأتينّه» . وإن شئت جعلت خبر (ما) مِنْ كُتُبٍ تريد (لما آتيتكم كتاب وحكمة) وتكون «من» زائدة «1» .
وقال تعالى: مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [الآية 91] مهموزة من «ملأت» وانتصب (ذهبا) كما تقول: «لي مثلك رجلا» أي: لي مثلك من الرجال، وذلك لأنك شغلت الاضافة بالاسم الذي دون «الذهب» وهو «الأرض» ثم جاء «الذهب» وهو غيرها فانتصب كما ينتصب المفعول إذا جاء من بعد الفاعل. وهكذا تفسير الحال، لأنك إذا قلت: «جاء عبد الله راكبا» فقد شغلت الفعل «2» ب «عبد الله» وليس «راكب» من صفته لأن هذا نكرة وهذا معرفة.
وإنما جئت به لتجعله اسما للحال التي جاء فيها. فهكذا تفسيره، وتفسير «هذا أحسن منك وجها» ، لأن «الوجه» غير الكاف التي وقعت عليها «من» و «أحسن» في اللفظ إنّما هو الذي تفضله ف «الوجه» غير ذينك في اللفظ.
فلما جاء بعدهما وهو غيرهما، انتصب انتصاب «3» المفعول به بعد الفاعل.
وقال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 93] لأنه يقال:
«هذا حلال» و: «هذا حلّ» ، و «هذا حرام» و «هذا حرم» ويقال
__________
(1) . نقله في المحتسب 1/ 164، واعراب القرآن 1/ 172، والمشكل 1/ 165، والتهذيب 15/ 411 لام التوكيد.
والجامع 4/ 125، والبحر 2/ 511 و 512.
(2) . أي اكتفى الفعل بعبد الله فهو فاعله، أما «راكب» فلا يكون مرفوعا، لأنه ليس مسندا اليه ولا صفة للمسند اليه» .
(3) . كل هذا مبني على ما قاله الخليل في غير موضع من الكتاب. فالاسم قد ينتصب في الجملة لأنه ليس من الاسم الأول ولا هو هو، اي ليس جزا من الاسم الأول كأن يكون مضافا اليه ولا صفة له. والصفة التي تتبع الموصوف هي التي تكون من المنعوت أو الموصوف وكأنها هو.(2/76)
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ [الأنبياء/ 95] «1» ويقال «وحرم على قرية» «2» وتقول: «حرم عليكم ذاك» ولو قال «وحرم على قرية» «3» كان جائزا [ولو قال] «وحرم على قرية» «4» كان جائزا أيضا.
قال الله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الآية 95] نصب على الحال.
وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [الآية 96] فهذا خبر «إنّ» .
ثم قال: مُبارَكاً [الآية 96] لأنه قد استغنى عن الخبر «5» ، وصار مُبارَكاً نصبا على الحال. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [الآية 96] في موضع نصب عطف عليه.
والحال في القرآن كثير، ولا يكون إلا في موضع استغناء.
وقال تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [الآية 97] فرفع مَقامُ إِبْراهِيمَ لأنه يقول: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ منها مَقامُ إِبْراهِيمَ على الإضمار «6» .
وقال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً [الآية 103] على التفسير بقطع الكلام عند قوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ثم فسر آية التأليف بين قلوبهم وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول «أسمك الحائط أن يميل» .
__________
(1) . وهي قراءة نسبت في معاني القرآن 2/ 211 الى أهل المدينة والحسن، وفي الطبري 17/ 86 الى عامة قراء أهل المدينة والبصرة وعكرمة وأبي جعفر محمد بن علي، وفي المصاحف 82 الى عبد الله بن الزبير، وفي السبعة 431 الى ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم. وفي الكشف 2/ 114 والتيسير 155 الى غير أبي بكر وحمزة والكسائي، وفي الجامع 11/ 340 الى زيد بن ثابت واهل المدينة، وهي اختيار ابي حاتم وابي عبيد وفي البحر 6/ 338 وفي حجة ابن خالويه 226 بلا نسبة.
(2) . في معاني القرآن 2/ 211 الى ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وفي الطبري 17/ 86 الى عامة قراء أهل الكوفة وابن عباس، وزاد في الجامع 11/ 340 علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وفي السبعة 431 الى حمزة والكسائي والى عاصم في رواية وفي الكشف 2/ 114 والتيسير 155 أبدل بعاصم أبا بكر، وفي البحر 6/ 338 زاد على ما في الكشف والتيسير طلحة والأعمش وأبا حنيفة وأبا عمرو في روايته.
(3) . في الجامع 11/ 340 الى ابن عباس ايضا وابي العالية فتح الحاء وضم الراء، والى ابن عباس أيضا ضم الحاء وكسر وتضعيف الراء.
(4) . في الشواذ 93 الى عكرمة، وفي المحتسب 2/ 65 الى ابن عباس بخلاف، وفي الجامع 11/ 340 الى قتادة ومطر الورّاق، وزاد في البحر 6/ 338 محبوبا عن أبي عمرو.
(5) . إن السياق يقتضي أن يكون بالخبر. [.....]
(6) . نقله في إعراب القرآن 1/ 175 والجامع 4/ 139.(2/77)
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ [الآية 103] ف «الشّفا» مقصور مثل «القفا» وتثنيته بالواو تقول: «شفوان» لأنه لا يكون فيه الإمالة «1» ، فلما لم تجيء فيه الإمالة عرفت أنّه من الواو «2» .
وقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [الآية 104] و «أمّة» في اللفظ واحد، في المعنى «3» جمع، فلذلك قال يَدْعُونَ.
وقال عز وجل: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) فثنى الاسم وأظهره، وهذا مثل «أمّا زيد فقد ذهب زيد» .
قال الشاعر «4» [من الخفيف وهو الشاهد السابع والخمسون بعد المائة] :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأظهر في موضع الإضمار.
وقال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [الآية 111] استثناء يخرج من أول الكلام. وهو كما روى يونس «5» عن بعض العرب، أنه قال: «ما أشتكي شيئا إلّا خيرا» . ومثله لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) [النبأ] .
وقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 112] فهذا مثل لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء خارج من أول الكلام في معنى «لكنّ» وليس بأشدّ من قوله لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم/ 62] .
وقال: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الآية 113] لأنه قد ذكرهم ثم فسره فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ [الآية 113] ولم يقل «وأمّة على خلاف هذه الأمّة» لأنه قد ذكر هذا كله قبل. وقال تعالى:
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فهذا قد دل على أمة خلاف هذه.
__________
(1) . لو كان فيه إمالة لرسم بالياء: شفى.
(2) . نقله في الصحاح «شفا» والجامع 4/ 165.
(3) . نقله في الصحاح امم.
(4) . هو عدي بن زيد العبادي: ديوانه 95 والخزانة 1/ 183، وقيل سوادة بن عدي بن زيد الكتاب 1/ 30 وتحصيل عين الذهب 1/ 30 وإعراب القرآن للزجّاج 3/ 913 وشواهد سيبويه 92، وقيل أمية بن أبي الصلت وتحصيل عين الذهب 1/ 30 وشواهد سيبويه 92، ولا وجود له في ديوانه.
(5) . هو يونس بن حبيب الضبي النحوي البصري، وقد مرت ترجمته قبل.(2/78)
وأما قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [الآية 106] على «فيقال لهم أكفرتم» . مثل قوله:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر/ 3] وهذا في القرآن كثير.
وقال تعالى: آناءَ اللَّيْلِ [الآية 113] وواحد «الآناء» مقصور «إنى» فاعلم وقال بعضهم: «إني» كما ترى و «إنو» وهو ساعات الليل. قال الشاعر «1» [من البسيط وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد المائة:]
السّالك الثّغر مخشيّا موارده ... في كلّ إني قضاه اللّيل ينتعل «2»
قال: وسمعته «يختعل» «3» .
وقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [الآية 110] يريد «أهل أمّة» لأنّ الأمّة الطريقة. والأمّة أيضا لغة «4» . قال النابغة «5» [من الطويل وهو الشاهد التاسع والخمسون بعد المائة] :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع «6» وقال تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا
__________
(1) . في الصحاح «أنا» هو الهذلي، وفي مجاز القرآن 1/ 102 هو أبو أثيلة، وفي هامشه أبو أثيلة وهو المتنخل الهذلي مالك بن عمرو، وفي اللسان «اني» هو الهذلي المتنخل.
(2) . في اللسان رواية عن الزجاج مطابقة لما رواه الأخفش إلا في إبدال الباء ب «في» وبعد قال: قال الأزهري: كذا رواه ابن الأنباري. وأنشد الجوهري:
حلو ومر كعطف القدح مرّته.
وما في الصحاح «أنا» مطابق لما رواه الأخفش. وفي مجاز القرآن 1/ 102: «حلو ومرّ كعطف الليل مرّته» . وفي ديوان الهذليين 2/ 35:
حلوّ ومرّ كعطف القدح مرته ... بكل إنّي حذاه الليل ينتعل
وجاء في 2/ 34 بيت في القصيدة نفسها هو:
السالك الثغرة اليقظان كالئها ... مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل
وقد نقل هذه الآراء كلها في الصحاح «أنا» واللسان «إنّي» ونسبها الى الزّجّاج.
(3) . وردت في الأصل بهذا الرسم ولا معنى لها.
(4) . في اللهجات 183 وما بعدها، يبدو أن كسر همزة «امة» لغة الحجاز، وضمها لغة تميم، قياسا على همزة «أسوة» .
(5) . هو النابغة الذبياني زياد بن معاوية، وقد مرت ترجمته من قبل.
(6) . البيت في ديوانه 51 واللسان امم والصحاح «امم» ، وفي الصحاح واللسان نقل هذا وزاد بعد قوله «أهل أمة» قوله:
أي خير أهل دين، وكذلك في الجامع 4/ 170، وفي الجامع 4/ 175، وإعراب القرآن 1/ 180 باختلاف قليل.(2/79)
[الآية 118] لأنها من «ألوت» و «ما آلو» «ألوا» .
وقال تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ [الآية 118] يقول لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً [الآية 118] وَدُّوا أي: أحبّوا ما عَنِتُّمْ جعله من صفة «البطانة» ، جعل ما عَنِتُّمْ في موضع «العنت» .
وقرأ من ذكر في الحاشية: (لا يضركم كيدهم) [الآية 120] «1» لأنه من «ضار» «يضير» و «ضرته» خفيفة «فأنا أضيره» ، وفي الرسم القرآني: لا يَضُرُّكُمْ «2» جعله من «ضرّ» «يضرّ» وحرّك للسكون الذي قبله، لأن الحرف الثقيل بمنزلة حرفين، الأول منهما ساكن. وقرأ بعضهم: (لا يضركم) «3» جعلها من «ضار» «يضور» وهي لغة.
وقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 121] لأنها من «بوّأت» و «إذ» ها هنا إنّما خبرها في المعنى كما فسرت لك.
وقال: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآية 125] «4» لأنهم سوّموا الخيل. وقال بعضهم (مسوّمين) معلمين لأنّهم هم سوّموا، وبها قرأ من قرأ «5» .
__________
(1) . في المصحف: يضركم بضم الضاد والراء المضعّفة. أما كسر الضاد وسكون الراء فهي في الطبري 7/ 57 الى جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين، وفي السبعة 215 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والى حمزة في رواية، وفي الكشف 1/ 355 الى أهل الحرمين وأبي عمرو والى غير الكوفيين وابن عامر، وفي التيسير 90 الى غير الكوفيين وابن عامر وفي الجامع 4/ 184 الى الحرميين وأبي عمرو وزاد في البحر 3/ 43 حمزة، وفي معاني القرآن 1/ 232 الى بعض القراء وفي حجة ابن خالويه 88 بلا نسبة.
(2) . في الطبري 7/ 157 الى جماعة من أهل المدينة وعامة قراء أهل الكوفة، وفي السبعة 215 الى ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وفي الشواذ 22 الى المفضّل عن عاصم مع فتح الراء، وفي الكشف 1/ 355 الى الكوفيين وابن عامر، وكذلك في التيسير 90 والبحر 3/ 43، وأسقط في الجامع 4/ 84 ابن عامر وفي معاني القرآن 1/ 150 وحجة ابن خالويه 88 والمشكل 106 بلا نسبة. [.....]
(3) . في المشكل 106، والجامع 4/ 184 الى الكسائي وفي الطبري 7/ 57 بلا نسبة قياسا على لغة «ضار يضور» .
وكذلك في معاني القرآن 1/ 232. وقال بها استنادا الى لغة لبعض أهل العالية سمعها الكسائي.
(4) . في الطبري 7/ 184 الى بعض قراء أهل الكوفة والبصرة، وفي السبعة 216 والكشف 1/ 355 والتيسير 90 والجامع 4/ 196 والبحر 3/ 51 الى أبي عمرو وابن كثير وعاصم وفي حجة ابن خالويه 89 بلا نسبة.
(5) . في الطبري 7/ 184 الى عامة قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 216 الى ابن عامر ونافع وحمزة والكسائي، وكذلك في الجامع 4/ 196، وفي البحر 3/ 151 الى الصاحبين والأخوين، وفي الكشف 1/ 355 والتيسير 90 الى غير ابن كثير وابي عمرو وعاصم. وزاد في أولها أن الجماعة عليها.(2/80)
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [الآية 128] على لِيَقْطَعَ طَرَفاً [الآية 127] عطفه على اللام.
وقال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [الآية 140] «1» قرأ بعضهم (قرح) «2» مثل «الضعف» و «الضعف» «3» وتقول منه «قرح» «يقرح» «قرحا» و «هو قرح» .
وبعض العرب يقول: «قريح» «4» مثل «مذل» و «مذيل» .
وقال تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الآية 143] توكيدا كما تقول:
«قد رأيته والله بعيني» و «رأيته عيانا» «5» .
وقال تعالى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ [الآية 144] ولم يقل (انقلبتم) فيقطع الألف لأنه جواب المجازاة الذي وقعت عليه إن وحرف الاستفهام قد وقع على إن فلا يحتاج خبره إلى الاستفهام لأن خبرها مثل خبر الابتداء. ألا ترى أنك تقول:
«أزيد حسن» ولا تقول: «أزيد أحسن» وقال الله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الأنبياء/ 34] ولم يقل (أفهم الخالدون) لأنه جواب المجازاة.
وقال الله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [الآية 145] فقوله سبحانه كِتاباً مُؤَجَّلًا توكيد، ونصبه على «كتب الله ذلك كتابا مؤجّلا» . وكذلك كل شيء في القرآن من قوله حَقًّا «6» انما هو «أحقّ ذلك حقّا» . وكذلك وَعَدَ اللَّهُ
__________
(1) . في معاني القرآن 1/ 234 الى أكثر القراء، وفي الطبري 7/ 237 الى عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة، وفي السبعة 216 الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والى عاصم في رواية، وفي الكشف 1/ 356 الى غير حمزة وأبي بكر والكسائي، وفي التيسير 90 استبدل أبا عمرو بأبي بكر، وفي الجامع 4/ 417 الى محمد بن السميفع مع فتح الراء، وفي البحر 3/ 63 زاد أبا السمال واقتصر عليه في الكشاف 1/ 418، وفي حجة ابن خالويه 89، والمشكل 108، والإملاء 1/ 150 بلا نسبة.
(2) . في معاني القرآن 1/ 234 الى أصحاب عبد الله، وفي الطبري 7/ 236 الى عامة قراء الكوفة، وفي السبعة 216 الى حمزة وعاصم والكسائي، وفي الكشف 1/ 356 استبدل أبا بكر بعاصم وكذلك في التيسير 90، وفي البحر 3/ 62 الى الأخوين وأبي بكر والأعمش وفي حجة ابن خالويه 89 والمشكل 108 والإملاء 1/ 150 بلا نسبة.
(3) . الضم في «قرح» لغة تميم والفتح لغة الحجاز والضم في «ضعف» لغة الحجاز والفتح لغة تميم اللهجات 191 و 193.
(4) . لعلهم التميميون قياسا على ما جاء في اللهجات 415 وما بعدها.
(5) . نقله في زاد المسير 1/ 468 والجامع 4/ 221 والبحر 3/ 67.
(6) . ورد هذا التعبير في سبعة عشر موضعا من الكتاب الكريم، أولها في البقرة/ 180 وآخرها لقمان 31/ 9.(2/81)
[النساء/ 122] «1» ورَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الكهف/ 82] «2» وصُنْعَ اللَّهِ [النمل/ 88] وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء/ 24] إنما هو من «صنع الله ذلك صنعا» فهذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا، وهو كثير.
وقال تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الآية 147] : وقال: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأعراف/ 82] «3» وقال: ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الجاثية/ 25] ف أَنْ قالُوا هو الاسم الذي يرفع ب وَما كانَ لأن أن الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم، تقول: «أعجبني أن قالوا» وإن شئت رفعت أول هذا كله وجعلت الآخر في موضع نصب على خبر كان «4» . قال الشاعر [من الطويل هو الشاهد الستون بعد المائة] :
لقد علم الأقوام ما كان داءها ... بثهلان إلّا الخزي ممّن يقودها «5»
وان شئت «ما كان داؤها الا الخزي» .
وقال تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [الآية 153] لأنك تقول: «أصعد» أي: مضى وسار و «أصعد الوادي» أي: انحدر فيه. وأما «صعد» فانه: ارتقى «6» .
وقال: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [الآية 153] أي: على غمّ. كما قال:
__________
(1) . ورد هذا التعبير في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم، أولها النساء/ 122 وانظر «المعجم المفهرس» 754.
(2) . وانظر المعجم المفهرس 305، لغير هذا الموضع.
(3) . اما في النمل 27/ 56 والعنكبوت 29/ 24 و 29 فبالفاء: فَما كانَ.
(4) . جاء ضم الاسم على انه اسم كان، وأن المصدر المؤول خبرها في آية النمل الى الأعمش، و «الكشاف 3/ 374» ، وفي العنكبوت 24 الى سالم الأفطس وعمرو بن دينار «الجامع 3/ 338» وفي الكشاف 3/ 450 بلا نسبة. وجاء في الجاثية بلا نسبة في الكشاف 4/ 291، أما نصب الاسم خبرا لكان على أن يكون المصدر المؤول اسمها، فجاء في آل عمران بلا نسبة في الجامع 4/ 231 وفي العنكبوت 24 الى العامة في الجامع 13/ 338 وبلا نسبة لنسبه في الكشاف 3/ 450، وفي الجاثية كذلك في الكشاف 4/ 291.
(5) . الشاهد في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 24 وشواهد الكتاب 79 ب «وقد» وهو في شرح المفصّل لابن يعيش 7/ 96 كما رواه الأخفش. ولم يشر اليه النحاس في شرح أبيات الكتاب. مما يدل على خرم في مخطوطته. [.....]
(6) . نقله في التهذيب «صعد» 2/ 7 وفي الصحاح «صعد» وزاد فقال: «وأصعد» في الوادي وصعّد تصعيدا أي انحدر فيه، وأهمل «صعد» .(2/82)
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه/ 71] ومعناه على جذوع النخل وكما قال: «ضربني في السيف» يريد «بالسيف» وتقول: «نزلت في أبيك» أي: على أبيك.
وقال تعالى: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [الآية 154] «1» بنصب «كله» ، ولك رفعها إذا جعلت «كلّا» اسما كقولك: «إنّ الأمر بعضه لزيد» . وإن جعلته توكيدا نصبت. وإن شئت نصبت على البدل، لأنك لو قلت «إنّ الأمر بعضه لزيد» لجاز على البدل، والصفة لا تكون في «بعض» . قال الشاعر «2» [من الكامل وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائة] :
إنّ السّيوف غدوّها ورواحها ... تركا فزارة مثل قرن الأعضب «3»
فابتدأ «الغدوّ» و «الرواح» وجعل الفعل لهما. وقد نصب بعضهم «غدوّها» و «رواحها» وقال: «تركت هوازن» فجعل «الترك» ل «السيوف» وجعل «الغدوّ» و «الرواح» تابعا لها كالصفة حتى صار بمنزلة «كلّها» .
وتقول إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [الآية 154] على التوكيد «4» أجود وبه نقرأ.
وقال تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [الآية 154] وقد قال بعضهم (القتال) «5» و «القتل» أصوب فيما نرى، وقرأ بعضهم: (إلى قتالهم) و «القتل» أصوبهما إن شاء، لأنه قال: إِلى مَضاجِعِهِمْ.
وقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ [الآية 154] : أي: كي يبتلي الله.
وقال تعالى: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الآية 166] فجعل الخبر بالفاء لأنّ ما بمنزلة «الذي»
__________
(1) . نقله في إعراب القرآن 1/ 89، والمشكل 1/ 177، والجامع 4/ 242.
(2) . هو الأخطل التغلبي غياث بن غوث، ديوانه 28، والكامل 2/ 726، والخزانة 2/ 372.
(3) . في الديوان «تركت هوازن» بدل «تركا فزارة» ، وكذلك في الكامل والخزانة وفي شرح الأشموني 3/ 135.
(4) . في الطبري 7/ 323 الى عامة قراء الحجاز والعراق، وفي السبعة 217 والتيسير 91 الى القراء كلهم إلا أبا عمرو، وزاد في الجامع 4/ 242 يعقوب. وفي معاني القرآن 1/ 243 والحجة 90 بلا نسبة. اما الرفع، ففي الطبري 7/ 323 إلى بعض قراء أهل البصرة وفي السبعة 217 والتيسير 91 إلى أبي عمرو، وفي الجامع 4/ 242 زاد يعقوب، وفي معاني القرآن 1/ 243 والحجة 90 بلا نسبة.
(5) . في البحر 3/ 90 الى الحسن والزهري، وفي الكشاف 1/ 429 بلا نسبة.(2/83)
وهو في معنى «من» ، و «من» تكون في المجازاة ويكون جوابها بالفاء.
وقال تعالى أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا [الآية 156] وواحد «الغزّى» «غاز» مثل «شاهد» و «شهّد» .
وقال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [الآية 157] . فان قيل كيف يكون لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ [الآية 157] جواب ذلك الأول؟ فكأنه حين قال وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ذكر لهم مغفرة ورحمة، إذ كان ذلك في السبيل، فقال لَمَغْفِرَةٌ يقول:
«لتلك المغفرة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الآية 157] «1» » .
وقال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) وان شئت قلت (قتلتم) .
وقال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 159] يقول: «فبرحمة» وما زائدة.
وقال تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [الآية 161] «2» وقرأ بعضهم:
(يغلّ) «3» وكلّ صواب، والله أعلم، لأنّ المعنى «أن يخون» أو «يخان» .
وقال: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [الآية 165] فهذه الألف ألف الاستفهام دخلت على واو العطف، فكأنه قال:
«صنعتم كذا وكذا ولمّا أصابتكم» ثم أدخل على الواو ألف الاستفهام.
وقال: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [الآية 166] فجعل الخبر بالفاء لأنّ ما أَصابَكُمْ [الآية 166] : الذي أصابكم.
__________
(1) . في المصحف: يجمعون بالياء، وهي في السبعة 218 الى عاصم في رواية، وفي الكشف 1/ 362 والتيسير 91 الى حفص، وفي البحر 3/ 96 الى حفص عن عاصم. اما تجمعون بالتاء، فهي في البحر 3/ 96 الى الجمهور، وفي السبعة 218 استثنى عاصما برواية حفص وفي الكشف 1/ 362 والتيسير 91 الى غير حفص.
(2) . في معاني القرآن 1/ 246 الى ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي وفي الطبري 7/ 348 الى جماعة من قراء الحجاز والعراق، وفي السبعة والتيسير 91 والكشف 1/ 363 الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وزاد في الأخير ان النبي (ص) وابن عباس قرءا بها، وفي البحر 3/ 101 لم يذكر قراءة النبي (ص) ، اما في الحجة 91 والجامع 4/ 255، فبلا نسبة.
(3) . في معاني القرآن 1/ 246 الى بعض أهل المدينة وأصحاب عبد الله، وفي الطبري 7/ 353 الى معظم قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 218 والكشف 1/ 363 والتيسير 91 الى غير ابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وفي البحر 3/ 101 الى ابن مسعود وباقي السبعة من لم يأخذ بالأخرى، وفي حجة ابن خالويه 91 والجامع 4/ 255 بلا نسبة.(2/84)
وقال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ لأنّ معناه:
«فهو بإذن الله» «وهو ليعلم» .
وقال: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [الآية 168] أي: قل لهم:
فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ وأضمر «لهم» .
وقال تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً [الآية 173] يقول: «فزادهم قولهم إيمانا» .
وقال: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [الآية 175] يقول: «يرهب النّاس أولياءه» أي: بأوليائه.
وقال: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [الآية 187] «1» يقول: «استحلفهم ليبيّننّه ولا تكتمونه» وقال «لتبيّننّه ولا تكتمونه» أي: قل لهم: «والله لتبيّننّه ولا تكتمونه» .
وقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [الآية 195] أي:
فاستجاب: بأنّي لا أضيع عمل عامل منكم. أدخل فيه من زائدة كما تقول «قد كان من حديث» ومن ها هنا لغو لأنّ حرف النفي قد دخل في قوله لا أُضِيعُ.
وقال: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ [الآية 180] فأراد «ولا تحسبنّ البخل هو خيرا لهم» فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان وهو «البخل» ، لأنّه قد ذكر الحسبان وذكر ما آتاهم الله من فضله فأضمرهما إذا ذكرهما. وقد جاء من الحذف ما هو أشدّ من هذا، قال الله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الحديد/ 10] ولم يقل «ومن أنفق من بعد» لأنه لما قال أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ [الحديد/ 10] كان فيه دليل على أنه قد عناهم.
وقال تعالى:
__________
(1) . في المصحف الشريف: لتبيننه ... تكتمونه. بالتاء، وهي في الطبري 7/ 462 الى معظم قراء أهل المدينة والكوفة، وفي السبعة 221 الى نافع وابن عامر وحمزة والى عاصم في رواية، وفي التيسير 93 الى غير أبي عمرو وابن كثير، وفي الجامع 4/ 305 الى أبي عمرو وعاصم في رواية ابي بكر وأهل مكة، وفي البحر 3/ 136 الى السبعة ما عدا أبا بكر وأبا عمرو وابن كثير. أما القراءة بالياء في كل فهي في الطبري 7/ 462 الى «آخرون» وفي السبعة 221 الى ابن كثير وأبي عمرو والى عاصم في رواية، وأغفل في التيسير 93 عاصما، وأغفل في البحر 3/ 136 عاصما وزاد أبا بكر، وفي الجامع 4/ 305 الى غير أبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة والى ابن عباس.(2/85)
سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [الآية 181] وقد مضى لذلك دهر، فإنّما يعني:
«سنكتب ما قالوا على من رضي به من بعدهم أيام يرضاه» .
وأما قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [الآية 188] فإنّ: الآخرة بدل من الأولى والفاء زائدة. ولا تعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء «1» إذ ليس لذلك مذهب في العربية، لأنه إذا قال: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا فإنّه لم يوقعه على شيء.
__________
(1) . في الطبري 7/ 428 الى غير من قرأ بقراءة التاء، وفي السبعة 219 الى ابن كثير وابن عمرو ونافع والكسائي مع كسر السين، وفي 220 الى ابن عامر وعاصم مع فتح السين، وفي البحر 3/ 128 الى السبعة إلّا حمزة وفي حجة ابن خالويه 92 بلا نسبة. أما القراءة بالتاء، ففي الطبري 7/ 431 الى جماعة من أهل الحجاز والعراق، وفي السبعة 220 والجامع 4/ 290 والبحر 3/ 127 الى حمزة، وفي حجة ابن خالويه 92 بلا نسبة.(2/86)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «آل عمران»
«1» إن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى:
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الآية 3] ثم قوله بعد ذلك: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) ؟
قلنا: إنّ القرآن أنزل منجّما، والتوراة والإنجيل نزّلا جملة واحدة.
كذا أجاب الزمخشري وغيره، يرد عليه قوله تعالى بعد ذلك: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ [الآية 4] فإن الزمخشري قال: أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصا، أو أراد به الزّبور، أو أراد به القرآن، وكرر ذكره تعظيما.
ويردّ عليه أيضا قوله تعالى بعد ذلك:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [الآية 7] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة/ 4] وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان/ 32] والذي وقع لي فيه- والله أعلم- أن التضعيف في «نزّل» والهمزة في «أنزل» كلاهما للتعدية، لأن نزل فعل لازم في نفسه، وإذا كانا للتعدية لا يكونان لمعنى آخر وهو التكثير أو نحوه، لأنه لا نظير له، وإنما جمع بينهما والمعنى واحد، وهو التعدية جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه على وجوه شتى، ويؤيّد هذا قوله تعالى:
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام/ 37] وقال في موضع آخر لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس/ 20] .
فإن قيل: لقد قال تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «اسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(2/87)
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [الآية 7] و «من» للتبعيض وقال في موضع آخر: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود/ 1] ، وهذا يقتضي كون آياته جميعها محكمة؟
قلنا المراد بقوله مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [الآية 7] أي ناسخات وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [الآية 7] أي منسوخات، وقيل المحكمات العقليات، والمتشابهات الشرعيات، وقيل المحكمات ما ظهر معناها، والمتشابهات ما كان في معناها غموض ودقة، والمراد بقوله كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أن جميع القرآن صحيح ثابت، مصون من الخلل والزّلل فلا تنافي فيه.
فإن قيل: لم قال سبحانه وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ جعل بعضه متشابها وقال في موضع آخر: كِتاباً مُتَشابِهاً [الزّمر/ 23] وصفه كله بكونه متشابها.
قلنا: المراد بقوله جلّ وعلا وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ما سبق ذكره، والمراد بقوله كِتاباً مُتَشابِهاً أنه يشبه بعضه بعضا في الصحة وعدم التناقض وتأييد بعضه بعضا فلا تنافي فيه.
فإن قيل: ما الحكمة من إنزال المتشابهات بالمعنى الأخير، والمقصود من إنزال القرآن إنما هو البيان والهدى، والغموض والدقة في المعاني ينافيان هذا المقصود أو يبعدانه؟
قلنا: لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا ولا يحتمل غير ظاهره، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح، والمعاني فيه متعارضة متزاحمة، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع في كلامهم، نزل القرآن بالنوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز، كأنه قال: عارضوه بأي النوعين شئتم، فإنه جامع لهما. وأنزله الله عز وجل محكما ومتشابها ليختبر من يؤمن به كله، ويرد علم ما تشابه منه إلى الله فيثيبه. ومن يرتاب فيه ويشك، وهو المنافق، فيعاقبه، كما ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره، أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم بالنظر والاستدلال والبحث والاجتهاد فيثابون على هذه العبادة. ولو كان كله ظاهرا جليا لاستوى فيه العلماء والجهال، ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستنباط، فإن نار الفكر إنما تنقدح بزناد المشكلات، ولهذا قال بعض الحكماء: عيب الغنى أنه يورث البلادة، ويميت الخاطر وفضيلة الفقر أنه يبعث على إعمال الفكر، واستنباط الحيل في الكسب.(2/88)
فإن قيل: قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [الآية 13] أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها، أو بالعكس على اختلاف القولين. وكيفما كان، فهو مناف لقوله تعالى في سورة الأنفال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال/ 44] لأنه يدل على أن الفئتين تساوتا في استقلال كل واحدة منهما للأخرى، فكل منهما ترى الأخرى قليلة؟
قلنا: التقليل والتكثير في حالين مختلفين، قلل الله المشركين في نظر المؤمنين أوّلا، والمؤمنين في نظر المشركين حتى اجترأت كل فئة على قتال صاحبتها فلما التقتا كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين حتى جبنوا وفشلوا فغلبوا، وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين أو أراهم إياهم على ما هم عليه، وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين ليعلموا صدق ما وعدهم الله تعالى بقوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال/ 66] ، الآية، فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي غزاة بدر. مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين وقيل: أرى الله المسلمين المشركين مثل عدد المسلمين وكانوا ثلاثة أمثالهم لكنه قلّلهم في أعين المسلمين، وأراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد أن المائة من المؤمنين يغلبون المائتين منهم.
فإن قيل: ما الحكمة من تكرار قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الآية 18] ؟
قلنا: الأول قول الله عزّ وجلّ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم. وقال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: الأول وصف، والثاني تعليم أي قولوا واشهدوا كما شهدت.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَهُمْ مُعْرِضُونَ في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) والتولي والإعراض واحد كما سبق في البقرة، فلم جمع بينهما؟
قلنا: معناه: يتولون عن الداعي ويعرضون عما دعاهم إليه وهو كتاب الله، أو يتولون بأبدانهم ويعرضون عن الحق بقلوبهم، أو قلنا الذين تولوا(2/89)
علماؤهم، والذين أعرضوا أتباعهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [الآية 26] خص الخير بالذكر، وبيده تعالى الخير والشر والنفع والضر أيضا؟
قلنا: لأن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعد الله تعالى به نبيّه (ص) على لسان جبريل عليه السلام من فتح بلاد الروم وفارس، ووعد النبي (ص) الصحابة بذلك، فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال، أو أراد الخير والشر فاكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل/ 81] وإنما خص الخير بالذكر لأنه المرغوب فيه المطلوب للعباد من الله تعالى.
فإن قيل: لم قال تعالى يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج/ 61] وإيلاج الشيء في الشيء يقتضي اجتماع حقيقتهما بعد الإيلاج، كإيلاج الخيط في الإبرة والإصبع في الخاتم ونحوهما، وحقيقة الليل والنهار أنهما لا يجتمعان؟
قلنا: الإيلاج قد يكون كما ذكرتم، وقد يكون مع تبدل صفة أحدهما بغلبة صفة الآخر عليه مع بقاء ذاته فيه، كإيلاج يسير من الخبز في لبن كثير أو بالعكس، فإن الحقيقتين مجتمعتان ذاتا، وصفة إحداهما غالبة على الأخرى. كذلك الليل والنهار إذا كان الليل أربع عشرة ساعة بالنسبة إلى زمن الاعتدال، ففيه من النهار ساعتان قطعا وكذا على العكس. أو معناه يولج زمن الليل في زمن النهار وبالعكس. أو يولج الليل في النهار وبالعكس باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين وبالعكس، أو معناه أنه خلق ليلا صرفا خالصا، وخلق ما هو ممتزج منهما وهو ما قبيل طلوع الشمس وقبيل غروبها. والجواب الثالث والرابع يعمان السنة بأسرها.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [الآية 36] وهو معلوم من غير ذكر؟
قلنا: الحكمة اعتذارها عما قالته ظنا، فإنها ظنت أن ما في بطنها ذكر، ولهذا نذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس، وكان من شريعتهم صحة هذا النذر في الذكور خاصة. فلما وضعت أنثى استحيت لمّا خاب ظنها ولم يتقبّل نذرها، فقالت ذلك معتذرة، تعني ليست الأنثى بصالحة لما يصلح(2/90)
له الذكر في خدمة المسجد، لا أنها أرادت أن الأنثى ليست كالذكر صورة أو قوة أو نحو ذلك. فلما قالت ذلك، منكرة خجلة، منّ الله عليها بتخصيص مريم بقبولها في النذر دون غيرها من الإناث فقال تعالى فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [الآية 37] .
فإن قيل: المستعمل في مثله إدخال حرف النفي على القاصر، وحرف التشبيه على الكامل كقولهم: ليست الفضة كالذهب، وليس العبد كالحر، فوزانه: وليست الأنثى كالذكر.
قلنا: لما كان جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا في التشبيه في حالة الإثبات، يقتضي المبالغة في المشابهة كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفه، كان جعل الأصل فرعا والفرع أصلا، في حالة النفي، يقتضي نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة، وذلك هو المقصود هنا، لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف وأغلبها. ولهذا يقاد أحدهما بالآخر. وإنما أرادت أم مريم نفي المشابهة بينهما في صحة النذرية خادما للبيت المقدس لا غير، فلذلك عكس الثاني أن ذلك قوله تعالى، والمعنى:
ليس الذكر الذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت لما علم الله من جعلها وابنها آية للعالمين. وهو تفسير للتعظيم والتفخيم المجمل في قوله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [الآية 36] وهي لا تعرف مقدار شرفه، واللام في الذكر والأنثى للعهد. هذا كله قول الزمخشري وتمامه في الكشاف.
وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله تعالى: قال بعضهم: هذا قول الله تعالى لمحمد (ع) : أي وليس الذكر كالأنثى يا محمد. وقال بعضهم: هو من كلام أم مريم.
فإن قيل: كيف نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب وأجابها وهو في الصلاة، كما قال الله تعالى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي [الآية 39] ؟
قلنا: المراد بقوله يصلي: أن يدعو كقوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء/ 110] ، أي بدعائك.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص يحيى (ع) بقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 39](2/91)
وكل واحد من المؤمنين مصدق بجميع كلمات الله تعالى؟
قلنا: معناه مصدقا بعيسى الذي كان خلقه بكلمة من الله تعالى، وهو قوله «كن» من غير واسطة أب في الوجود، وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كل أحد في الوجود أو في الرتبة.
فإن قيل: زكريا سأل الولد بقوله هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [الآية 38] والله تعالى بشّره بيحيى (ع) على لسان الملائكة، فكيف أنكر بعد هذا كله قدرة الله تعالى على إعطائه الولد حتى قال رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [الآية 40] .
قلنا: إنما قاله على سبيل الاستفهام والتعجب من عظيم قدرة الله تعالى، لا على طريق الإنكار والاستبعاد، أو اشتبه عليه كيف ينجب الولد وهو شيخ وامرأته عاقر، أو تزول عنهما هاتان الصفتان لكشف الحال تقديره: أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر. ولقائل أن يقول: آخر الآية لا يناسب هذا الجواب.
فإن قيل: ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ [الآية 42] .
قلنا: الاصطفاء الأول: العبادة التي هي خدمة البيت المقدس وتخصيصها بقبولها في النذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني: لولادة عيسى (ع) ، أو أعيد ذكر الاصطفاء ليفيد بقوله عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) فيندفع بأنها مصطفاة على الرجال.
فإن قيل: لم نفى حضور النبي عليه الصلاة والسلام في زمن مريم بقوله تعالى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [الآية 44] ، وذلك معلوم عندهم لا شك فيه، وترك نفي استماعه ذلك الخبر من حفّاظه، وهو الذي كانوا يتوهمونه؟
قلنا: كان معلوما أيضا عندهم علما يقينيّا أنه ليس من أهل القراءة والرواية، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة والحضور وهما في غاية الاستحالة، فنفيا من طريق التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية، ونظيره قوله تعالى:
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ (44) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [القصص] .
فإن قيل: لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم والخطاب مع مريم،(2/92)
وهي تعلم أن الولد الذي بشرت به يكون ابنها؟
قلنا: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فأعلمت، بنسبه إليها، أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه.
فإن قيل: أي معجزة لعيسى (ع) في تكليم الناس كهلا، وأي خصوصية له في هذا حتى قال وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [الآية 46] ؟
قلنا: معناه ويكلم الناس في هاتين الحالتين بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل وينبأ فيها الأنبياء، فكأنه قال: ويكلم الناس في المهد كما يكلمهم كهلا. وقال الزّجّاج: هذا خرج مخرج البشارة لمريم أنه عليه الصلاة والسلام سيبقى إلى زمن الكهولة، فهو بشارة لها بطول عمره، وقيل المقصود منه أن الزمان يؤثر فيه كما يؤثر في غيره، وينقله من حال إلى حال ولو كان إلها لم يجز عليه التغيّر.
فإن قيل: لم قال تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [الآية 55] والله تعالى رفعه ولم يتوفّه؟
قلنا: لما هدده اليهود بالقتل بشّره الله بأنه إنما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل، والواو لا تفيد الترتيب، فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه. الثاني أن فيه تقديما وتأخيرا: أي أني رافعك ومتوفيك. والثالث أن معناه: قابضك من الأرض تاما وافيا في أعضائك وجسدك لم ينالوا منك شيئا، من قولهم: توفيت حقي على فلان إذا استوفيته تاما وافيا. الرابع أن معناه:
أني متوفيك في نفسك بالنوم من قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر/ 42] ورافعك إليّ وأنت نائم حتى لا تخاف، بل تستيقظ وأنت في السماء.
فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [الآية 59] ، وآدم خلق من التراب وعيسى خلق من الهواء، وآدم خلق من غير أب وأم، وعيسى خلق من أم.
قلنا: المراد به التشبيه في وجوده بغير واسطة أب، والتشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه بل من بعضها.
فإن قيل: لم خص أهل الكتاب بأن منهم أمينا وخائنا بقوله سبحانه وَمِنْ(2/93)
أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
[الآية 75] ، والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك منهم الأمين والخائن.
قلنا: إنما خصهم باعتبار واقعة الحال، فإن سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام أودع ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأدى الأمانة فيها، وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا فخانه، ولأن خيانة أهل الكتاب للمسلمين تكون عن استحلال بدليل آخر الآية، بخلاف خيانة المسلم للمسلم فلذلك خصهم بالذكر.
فإن قيل: لم قال تعالى وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الآية 83] وأكثر الجن والإنس كفرة؟
قلنا: المراد بهذا الاستسلام والانقياد لما قضاه الله عليهم وقدره من الحياة والموت والمرض والصحة والشقاء والسعادة ونحو ذلك.
فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [الآية 90] ومعلوم أن المرتد، وإن ازداد ارتداده كفرا، فانه مقبول التوبة؟
قلنا: نزلت الآية في قوم ارتدّوا ثم أظهروا التوبة بالقول لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس.
وقيل نزلت في قوم تابوا عن ذنوبهم غير الشرك وقيل معناه: لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت.
فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [الآية 96] وكم من بيت بني قبل الكعبة من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليه السلام؟
قلنا: معناه أن أول بيت وضع قبلة للناس ومكان عبادة لهم، أو وضع مباركا للناس، أو لأن ابن عباس قال:
أول من بناه آدم (ع) ، لما هبط من السماء أوحى الله تعالى إليه أن ابن لي بيتا في الأرض، وافعل حوله نحو ما رأيت الملائكة تفعل حول عرشي، فبناه وجعل يطوف حوله.
فإن قيل: لم قال الله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [الآية 110] ولم يقل أنتم خير أمة؟
قلنا: معناه كنتم في سابق علم الله، أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية، فأراد الإعلام بكون ذلك صفة أصلية فيهم لا عارضة متجددة، أو معناه خلقتم ووجدتم، فهي «كان» التامة،(2/94)
و «خير أمة» نصب على الحال وتمام الكلام في «كان» يذكر في قوله تعالى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً [النساء/ 22] .
فإن قيل: لم قال تعالى وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [الآية 110] ولا يصحّ أن يقال: هذا خير من هذا إلا إذا كان في كل واحد منهما خير، مع أن غير الإيمان لا خير فيه حتى يقال: إن الإيمان خير منه؟
قلنا: معناه أنّ إيمانهم بمحمد (ص) مع إيمانهم بموسى وعيسى (ع) ، خير من إيمانهم بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقط.
فإن قيل: لم قال تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
[الآية 117] ، والمقصود:
تشبيه نفقة الكفار وأموالهم في تحصيل المفاخر وطلب الصيت والسمعة، أو ما ينفقونه في الطاعات مع وجود الكفر، أو ما ينفقونه في عداوة رسول الله (ص) ، تشبيه ذلك كله بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد فأهلكته فضاع ولم ينتفع به، والتشبيه في الحقيقة بالزرع، وفي لفظ الآية بالريح؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، ونظيره قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة/ 261] ، وقوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [البقرة/ 171] الآية. وقال ثعلب: فيه تقديم وتأخير تقديره: كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته.
فإن قيل: لم قال تعالى إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [الآية 120] فوصف الحسنة بالمس، والسيئة بالإصابة؟
قلنا: المس مستعار بمعنى الإصابة توسعة في العبارة: وإلا كان المعنى واحدا، ألا ترى إلى قوله تعالى في الفريقين: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء/ 79] وقوله إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) - وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) [المعارج] .
فإن قيل: لم قال تعالى وَسارِعُوا [الآية 133] والنبي عليه أفضل التحية يقول: «العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن» ؟
قلنا: قد استثنى النبيّ (ص) خمسة(2/95)
مواضع فقال: «إلا في التوبة من الذنب، وقضاء الدّين الحالّ، وتزويج البكر البالغ، ودفن الميت، وإكرام الضيف إذا نزل» . والمسارعة، المأمور بها في الآية، هي المسارعة إلى التوبة وما في معناها من أسباب المغفرة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [الآية 135] فعطف عليه بكلمة «أو» ، وفعل الفاحشة داخل في ظلم النفس، بل هو أبلغ أنواع ظلم النفس؟
قلنا: أريد بالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس وهو الزنى، أو كل كبيرة، فخصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 135] وقال في موضع آخر وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) [الشورى] وقال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية/ 14] .
قلنا: معناه ومن يستر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله، ومثل هذا الغفران لا يكون إلا من الله.
فإن قيل: لم قال تعالى أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [الآية 144] ولم يقتصر على قوله أَفَإِنْ ماتَ والقتل متضمّن في الموت؟
قلنا: القتل، وإن كان موتا، لكن إذا أطلق الميت في العرف، لم يفهم منه المقتول، فلذلك عطف أحدهما على الآخر.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 161] . وقال في موضع آخر وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام/ 94] .
قلنا: معناه: يأتي به مكتوبا في ديوانه، أو يأتي به حاملا إثمه، ومعنى «فرادى» منفردين عن الأموال والأهل، أو عن الشر كله في الغي، أو عن الآلهة المعبودة من دون الله. وتمام الآية يشهد للكل.
فإن قيل: قد جاء في الصحيحين عن النبي (ص) أن الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه على عنقه، صامتا كان أو ناطقا. هذا معنى الحديث، فاندفع الجواب.
قلنا: على هذا يكون المراد بالآية الأخرى فرادى عن مال وأهل يعتزّون(2/96)
بهما ويستنصرون، ويشهد بصحته تمام الآية.
فإن قيل: لم قال تعالى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [الآية 163] وليس العبيد في الدرجات نفسها؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: هم ذوو درجات أو أهل درجات، فحذف المضاف لعدم الإلباس. وقيل المراد بالدرجات الطبقات، فلا يكون فيه إضمار معناه أنهم طبقات عند الله، متفاوتون كتفاوت الدرجات.
فإن قيل: كيف يجعل لكلّ من الفريقين درجات، وأحد الفريقين لهم دركات لا درجات؟
قلنا: الدرجات تستعمل في الفريقين بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام، بعد ذكر الفريقين وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام/ 132] وتحقيقه: أن بعض أهل النار أخف عذابا فمكانه فيها أعلى، وبعضهم أشد عذابا فمكانه بها أسفل. ولو سلم اختصاص الدرجات بأهل الدرجات كان قوله هُمْ دَرَجاتٌ راجعا إليهم خاصة تقديره:
أفمن اتبع رضوان الله وهم درجات عند الله كمن باء بسخط من الله وهم دركات، إلا أنه حذف البعض لدلالة المذكور عليه.
فإن قيل عن قوله تعالى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [الآية 181] ، كانوا في زمن النبي (ص) قالوا ذلك لما سمعوا قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة/ 245] ، فكيف قال: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [الآية 181] أي ونكتب قتلهم الأنبياء، وهم لم يقتلوا نبيا قط؟
قلنا: لما رضوا بقتل أسلافهم الأنبياء، كأنهم باشروا ذلك فأضيف إليهم، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا.
فإن قيل: لم قال تعالى وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الآية 182] وظلام صيغة مبالغة من الظلم، ولا يلزم من نفي الظلام نفي الظالم، وعلى العكس يلزم، فهل قال ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟
قلنا: صيغة المبالغة جيء بها لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم، كما قال الله تعالى وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) [الكهف] وقال: عالِمِ الْغَيْبِ(2/97)
[المؤمنون/ 92] وعَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) [المائدة] لما أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة، ونظيره قولهم: زيد ظالم لعبده، وعمرو ظلام لعبيده، فهما في الظلم سيّان. وكذلك قال الله تعالى مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح/ 27] فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل، أو أن الصيغة هنا للنسب أي لا ينسب إليه ظلم فالمعنى: ليس بذي ظلم.
الثاني أن العذاب من العظيم القدر، الكثير العدل، لولا سبق الجناية، يكون أفحش وأقبح من الظلم ممن ليس عظيم القدر كثير العدل، فيطلق عليه اسم الظلام باعتبار زيادة قبح الفعل منه لا باعتبار تكرره، فحاصله أن صيغة المبالغة تارة تكون باعتبار زيادة ذات الفعل، وتارة باعتبار صفته، ففعل الظلم، لو صدر عن الله تعالى وتقدس، لكان أعظم من ألف ظلم يصدر عن عبيده، باعتبار زيادة وصف القبح ونظيره قوله تعالى وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) [الأحزاب] على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: في قوله تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 184] : من حق الجزاء أن يتعقب.
الشرط، وهذا سابق له؟
قلنا: جواب الشرط محذوف، وقوله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الآية 184] جوابا لأنه سابق عليه، ومعناه: وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك، وضعا للسبب، وهو تكذيبهم، موضع المسبب، وهو التأسي بهم.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَلا تَكْتُمُونَهُ في قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [الآية 187] والأول مغن عن الثاني؟
قلنا: معناه ليبيّننّه في الحال، ويدومون على ذلك البيان ولا يكتمونه في المستقبل. الثاني أن الضمير الأول للكتاب، والثاني لنعت النبي (ص) وذكره، فإنه قد سبق ذكر النبي (ص) قبيل هذا.
فإن قيل: متى بينوا الكتاب لزم من بيانه صفة النبي (ص) وذكره لأنه من جملة الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل، فقوله بعد ذلك ولا يكتمونه تكرارا.(2/98)
قلنا: على هذا يكون تأكيدا.
فإن قيل: لم قال تعالى رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [الآية 192] وقال في موضع آخر يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم/ 8] ويلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنين النار كما قالت المعتزلة والخارجية؟
قلنا: أخزيته بمعنى أذللته وأهنته من الخزي وهو الذل والهوان، وقوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من الخزاية وهي النكال والفضيحة، فكل من يدخل النار يذل وليس كل من يدخلها ينكل به ويفضح، أو المراد بالآية الأولى إدخال الإقامة والخلود، لا إدخال تحلّة القسم المدلول عليها بقوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم/ 71] أو إدخال التطهير الذي يكون لبعض المؤمنين بقدر ذنوبهم، وقيل إن قوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله.
فإن قيل: لم قال تعالى سَمِعْنا مُنادِياً [الآية 193] والمسموع نداء المنادي لا نفس المنادي؟
قلنا: لما قال «مناديا ينادي» ، صار تقديره: نداء مناد، كما يقال سمعت زيدا يقول كذا: أي سمعت قول زيد.
ف «مناديا» مفعول سمع، وينادي حال دالة على محذوف مضاف للمفعول.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا [الآية نفسها] وتكفير السيئات داخل في غفران الذنوب؟
قلنا: المعنى مختلف، لأن الغفران مجرد فضل، والتكفير محو السيئات بالحسنات.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) مع انه لا ينفع التوفّي مع الأبرار، بل النافع ان يكون المرء من الأبرار، سواء أتوفي معهم، أم قبلهم، أم بعدهم؟
قلنا: معناه وتوفّنا مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، كما يقال أعطاني الأمير مع أصحاب الخلع والجوائز: أي جعلني من جملتهم، وإن تقدم إعطاؤه عنهم أو تأخر.
فإن قيل: كيف قال وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [الآية 194] أي على لسان رسلك دعوه بإنجاز الوعد مع علمهم، وقولهم أيضا إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) ؟(2/99)
قلنا: الوعد من الله تعالى على ألسنة الرسل للمؤمنين وعد عام يحتمل أن يراد به الخصوص كما في أكثر عموميات القرآن، فسألوا الله تعالى أن يجعلهم من الداخلين في حكم الوعد.
الثاني أنهم سألوا تعجيل النصر الذي وعدوا، فإنه تعالى وعدهم النصر على أعدائهم غير موقت بوقت خاص.
فإن قيل: كيف يجوز أن يغتر الرسول بنعم الذين كفروا حتى نهى عن الاغترار بقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) أي تصرفهم فيها بالنّعم؟
قلنا: معناه لا يغرنكم أيها المؤمنون، فإن رئيس القوم ومقدمهم يخاطب بشيء، والمراد به أتباعه وجماعته. الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مغتر بحالهم، فقيل له ذلك تأكيدا وتثبيتا على الدوام عليه، كما قيل له: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) [القصص] ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) [القصص] ، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) [القلم] .
فإن قيل: كيف ينهى عن التقلب وهو مما ليس ينهى عنه؟
قلنا: معناه لا تغتر بتقلبهم، فيكون تقلبهم قد غرك، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبّب، لأن تقلبهم لو غرّه لاغترّ به فمنع السبب وهو غرور تقلبهم إياه، ليمتنع المسبّب وهو اغتراره بتقلبهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) ولم يقل لا يغرنك نعمهم وأموالهم، والذي يحتمل أن يغر الرسول والمؤمنين النعم والأموال، لا التقلب في البلاد؟
قلنا: المراد بتقلبهم تصرفهم في التجارات والنعم والتلذذ بالأموال، والفقير إنما يتألم وينكسر قلبه إذا رأى الغني يتقلب في النعمة ويتمتع بها، فلذلك ذكر التقلب، وقيل معناه: لا يغرنك تقلبهم في المعاصي غير مأخوذين بذنوبهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) مع أن قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ موضع البشارة بالثواب، وسرعة الحساب إنما تذكر في موضع التهديد والعقاب؟
قلنا: معناه لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا خوفا من حسابه فإنه سريع الحساب، فهو راجع إلى ما قبل.(2/100)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «آل عمران»
«1» قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [الآية 7] . هذه استعارة.
والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله. فهي بمنزلة الأم، كأن سائر الكتاب يتبعها ويتعلق بها، كما يتبع الولد آثار أمه، ويفزع إليها في مهمّه.
وقوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [الآية 7] . وهذه استعارة. والمراد بها المتمكنون في العلم، تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوّانة. وهو أبلغ من قوله:
والثابتون في العلم.
وقوله تعالى: وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) وهذه استعارة.
والمعنى: بئس ما يمتهد ويفرش.
ونظيره قوله وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) [الكهف] ، وقوله سبحانه: وَبِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم/ 29] .
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية 22] وهذه استعارة، والمراد فسدت أعمالهم فبطلت. وذلك مأخوذ من الحبط، وهو داء ترم له أجواف الإبل، فيكون سبب هلاكها، وانقطاع آكالها.
وقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الآية 27] وهذه استعارة، وهي عبارة عجيبة عن إدخال هذا على هذا، وهذا على هذا.
والمعنى أن ما ينقصه من النهار يزيده في الليل، وما ينقصه من الليل يزيده في النهار. ولفظ الإيلاج هاهنا أبلغ،
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرخ.(2/101)
لأنه يفيد إدخال كلّ واحد منهما في الآخر، بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة.
وقوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [الآية 39] وهذه استعارة. لأن المراد بهذا القول عيسى (ع) . والعلماء مختلفون في هذه اللفظة، وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتاب «حقائق التأويل» . فمن بعض ما قيل في ذلك أن بشارة الله تعالى سبقت بالمسيح (ع) في الكتب المتقدمة، فأجرى تعالى اسم «الكلمة» عليه لتقدّم البشارة به. والبشارة إنما تكون بالكلام.
وقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) . وهذه استعارة. لأن حقيقة المكر لا تجوز عليه تعالى. والمراد بذلك إنزال العقوبة بهم جزاء على مكرهم. وإنما سمّي الجزاء على المكر مكرا للمقابلة بين الألفاظ على عادة العرب في ذلك.
قد استعارها لسانهم، واستعادها بيانهم.
وقوله تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [الآية 72] وهذه استعارة. والمراد أول النهار. ولم يقل رأس النهار. لأن الوجه والرأس وإن اشتركا في كونهما أول الشيء، فإن في الوجه زيادة فائدة، وهي أنه به تصح المواجهة، ومنه تعرف حقيقة الجملة.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [الآية 73] وهذه استعارة.
والمراد بها إما سعة عطائه، وعظيم إحسانه، أو اتساع طرق علمه، وانفساح أقطار سلطانه وعزه.
وقوله سبحانه: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الآية 77] وهذه استعارة.
وحقيقتها: ولا يرحمهم الله يوم القيامة. كما يقول القائل لغيره إذا استرحمه: انظر إليّ نظرة. لأن حقيقة النظر تقليب العين الصحيحة في جهة المرئي التماسا لرؤيته. وهذا لا يصح إلا على الأجسام، ومن يدرك بالحواس، ويوصف بالحدود والأقطار. وقد تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.
وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [الآية 103] وهذه استعارة.
ومعناها: تمسكوا بأمر الله لكم، وعهده إليكم. والحبال: العهود، في(2/102)
كلام العرب. وإنما سميت بذلك لأن المتعلق بها ينجو مما يخافه، كالمتشبث بالحبل إذا وقع في غمرة، أو ارتكس في هوة. فالعهود يستأمن بها من المخاوف، والحبال يستنقذ بها من المتالف. فلذلك وقع التشابه بينهما.
وقوله تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [الآية 103] .
وهذه استعارة. لأنه تعالى شبّه المشفي، بسوء عمله، على دخول النار، بالمشفي، لزلة قدمه، على الوقوع في النار.
وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [الآية 112] وقد مضى الكلام على مثل ذلك في «البقرة» فلا معنى لإعادته.
وقوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 127] أي ينقص عددا من أعدادهم، فيوهن عضدا من أعضادهم.
وهذا من محض الاستعارة.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وهذه استعارة، لأن الموت لا يلقى ولا يرى. وإنما أراد سبحانه رؤية أسبابه، من صدق مصاع «1» ، وتتابع قراع. أو رؤية آلاته، كالرماح المشرعة، والسيوف المخترطة.
وقوله سبحانه: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [الآية 144] وهذه استعارة. والمراد بها الرجوع عن دينه، والتقاعس عن اتّباع طريقه. فشبّه سبحانه الرجوع في الارتياب، بالرجوع على الأعقاب.
وقوله سبحانه: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى [الآية 156] وهذه استعارة. لأن الضرب هاهنا عبارة عن الإنجاد في السير، والإيغال في الأرض، تشبيها للخابط في البر بالسابح في البحر، لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقّا لها، واستعانة على قطعها.
وقوله سبحانه: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) .
وهذه استعارة. لأن الإنسان غير
__________
(1) . المصاع: مصدر ماصع: أي قاتل وجالد. [.....](2/103)
الدرجة. وإنما المراد بذلك: هم ذوو درجات متفاوتة عند الله، فالمؤمن درجته مرتفعة، والكافر درجته متّضعة.
وقوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (185) وهذه استعارة. لأن الغرور لا متاع له على الحقيقة، وإنما المراد بذلك أن ما يستمتع به الإنسان من حطام الدنيا ظلّ زائل، وخضاب ناصل.
وقوله تعالى في صدر هذه الآية:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [الآية 185] مستعار أيضا، لأن حقيقة الذوق ما أدرك بحاسة، وإنما حسن وصف النفس بذلك لما يحسّ به من كرب الموت وعذابه، فكأنها تحسّه بذوقه.
وقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) . فهذه استعارة. لأن الأمور لا عزم لها، وإنما العزم للموطّن نفسه على فعلها، وهو الإنسان، فالمراد: فإن ذلك من قوة الأمور. لأن العازم على فعل الأمر قويّ عليه.
وقوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [الآية 187] . وهذه استعارة.
والمراد بها: أنهم غفلوا عن ذكره، وتشاغلوا عن فهمه، يعني الكتاب المنزل عليهم، فكان كالشيء الملقى خلف ظهر الإنسان، لا يراه فيذكره، ولا يتلفت إليه فينظره.
وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [الآية 188] ومنجاة من العقاب. والمفازة: الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز بقطعها، وأمن من خوفها.
وقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ وهذه استعارة. والمراد بالتقلب ها هنا كثرة الاضطراب في البلاد، والتقلقل في الأسفار، والانتقال من حال إلى حال.(2/104)
سورة النساء 4(2/105)
المبحث الأول أهداف سورة «النساء»
«1» سورة النساء سورة مدنية، وتسمى سورة النساء الكبرى، لتمييزها من سورة النساء الصغرى، وهي سورة الطلاق.
وقد عنيت سورة النساء ببيان أحكام النساء واليتامى والأموال والمواريث والقتال وتحدثت عن أهل الكتاب وعن المنافقين وعن فضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها وحثّت على التضامن والتكافل والتراحم وبيّنت حكم المحرّمات من النساء. كما حثت على التوبة ودعت إليها وسيلة للتطهّر ودليلا على تكامل الشخصية واستعادة الثقة بالنفس والشعور بالأمن والاطمئنان.
وعدد آيات سورة النساء 176 آية، وعدد كلماتها 3745 كلمة.
الوصية بالنساء واليتامى
بيّنت سورة النساء أن الزواج شركة تعاونية أساسها المودة والرحمة والوفاء والألفة. وساوت السورة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، ثم بينت أن للرجال درجة على النساء، وهي درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل على المرأة، وبحكم الكدّ والعمل في تحصيل المال الذي ينفقه على الزوجة والأسرة. وليست هذه الدرجة درجة الاستعباد أو التسخير، وإنما هي زيادة في المسؤولية الاجتماعية.
وقد حث القرآن الزوجة على طاعة زوجها، في ما تجب الطاعة فيه، والاحتفاظ بالأسرار المنزلية والزوجية
__________
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(2/107)
التي ينبغي ألّا يطّلع عليها غير الزوجين، كما أمر الرجل أن يقوم بحق الأسرة وأن ينفق عليها وأن يفي بالتزاماته نحوها. وجعل نفقة الرجل على أولاده، ورعايته لهم، نوعا من الكفاح والجهاد السلمي يثاب المؤمن على فعله، ويعاقب على تركه.
اليتامى
أمرت السورة بعد ذلك برعاية اليتامى والمحافظة على أموالهم، وإكرام اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه. وحذّرت السورة من إتلاف أموال اليتامى أو تبديدها، وحثّت على القيام بحقوقهم واختبارهم في المعاملات قبيل سن البلوغ، حتى يكون اليتيم مدربا على أنواع المعاملات والبيع والشراء عند ما يتسلّم أمواله.
وقد توعّدت السورة آكل مال اليتيم بالنار والسعير، والعذاب الشديد. وقد مهدت لهذه الأحكام في آياتها الأولى، فطلبت تقوى الله وصلة الرّحم، وأشعرت أنهم جميعا خلقوا من نفس واحدة، أي أن اليتيم، وإن كان من غير أسرتكم، فهو رحمكم وأخوكم فقوموا له بحق الأخوّة وحق الرحم، واعلموا أن الله الذي خلقكم من نفس واحدة، وربط بينكم بهذه الرحم الإنسانية العامة، رقيب عليكم يحصي أعمالكم، ويحيط بما في نفوسكم ويعلم ما تضمرون من خير أو شر فيحاسبكم عليه. وبعد هذا التمهيد، الذي من شأنه أن يملأ القلوب رحمة، يأمرهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسلموها كاملة غير منقوصة، ويحذرهم من الاحتيال على أكلها من طريق المبادلة، أو من طريق المخالطة قال تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [الآية 2] .
أي لا تخلطوا مال اليتيم بمالكم ليكون ذلك وسيلة تستولون بها على مال اليتيم، تحت ستار الإصلاح بالبيع أو الشراء، بذريعة أنه منفعة لليتيم أو بالخلط والشركة، بذريعة أنه أفضل لليتيم.
وقد تحرّج أتقياء المسلمين من مخالطة اليتيم فأباح الله مخالطة اليتامى ما دام القصد حسنا والنية صادقة في نفع اليتيم، والله سبحانه مطلع على السرائر ومحاسب عليها.
وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [الآية 6] .(2/108)
المال والميراث
عنيت سورة النساء وغيرها بشأن المال، من طريق المحافظة عليه وتثميره، ونهت عن الإسراف والتبذير، وأمرت بالتوسط في النفقة والاعتدال فيها، لأن المال عصب الحياة، ولأن كل ما تتوقف عليه الحياة في أصلها وكمالها وسعادتها وعزّها، من علم وصحة وقوة واتساع عمران، لا سبيل للحصول عليه إلا بالمال. وقد نظر القرآن إلى الأموال هذه النظرة الواقعية فحذّر من تركها في أيدي السفهاء الذين لا يحافظون عليها ولا يحسنون التصرف بها. كما أمر بتحصيلها من طرق فيها الخير للناس، وفيها النشاط والحركة، وفيها عمارة الكون. لقد أمر بتحصيلها من طريق التجارة ومن طريق الصناعة والزراعة، وسمّى طلبها ابتغاء من فضل الله، كما وصفها نفسها بأنها زينة الحياة الدنيا ومتاعها. وبلغ من عناية القرآن بالأموال أنه طلب السعي في تحصيلها بمجرد الفراغ من أداء العبادة المفروضة. قال تعالى:
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة/ 10] .
وتحدثت سورة النساء عن المواريث ونصيب كل وارث، فأمرت أن نبدأ أولا بتنفيذ وصية الميت وتسديد ديونه، ثم وضعت المبادئ الأساسية للميراث ونستخلص منها ما يأتي:
أولا- إن مبنى التوريث في الإسلام أمران: نسبي وهو القرابة، وسببي وهو الزوجية.
ثانيا- إنه، متى اجتمع في المستحقين ذكور وأناث، أخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن بعض خصوم الإسلام قد اتخذوا التفاوت، بين نصيبي الذكر والأنثى، مطعنا على الإسلام، وقالوا إن هذا من فروع هضم الإسلام لحق المرأة، والمرأة إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذّكر تتعدد مطالبه وتكثر تبعاته في الحياة: فهو ينفق على نفسه، وعلى زوجه، وعلى أبنائه.
ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوّج بها. أما الأنثى، فإنها لا تدفع مهرا ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها. وبينما نرى بعض التشريعات الوضعية تقضي بحرمان(2/109)
الأنثى كلّيا، أو حصر الميراث في أكبر الأبناء وحده، كما كانت الحال في بعض البلاد الأوروبية إلى وقت قريب، فإننا نجد تشريعا آخر يقضي بمساواتها بالذكر.
ونقارن ذلك بالإسلام فنجد أن منهجه في التوريث منهج وسط، لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو لم يحرم الأنثى الميراث، بل أعطاها نصيبا مناسبا لظروفها في الحياة، وأعطى أخاها نصيبا مناسبا لتبعاته في الحياة.
وهذا هو شأن الإسلام في أحكامه وشرائعه، فهو يعتمد على الحكمة والعدل لأنه تشريع الحكيم العليم.
تعدد الزوجات
تحدثت سورة النساء عن تعدد الزوجات، فأباحته بشرط العدل بينهن.
فإذا خاف الإنسان من عدم العدل، فعليه الاقتصار على زوجة واحدة، فإن ذلك أدعى إلى صفاء الحياة ويسرها وتحقيق الهدف من الزواج، وهو المودة والرحمة.
ويرى الإمام محمد عبده أنّ تعدّد الزوجات أمر مضيّق فيه كل التضييق، فكأن الله سبحانه قد نهى عن التعدد.
قال تعالى:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) .
أي إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتيمات اللواتي تحت وصايتكم، كأن يكون الدافع لكم على الزواج بهن الطمع في مالهنّ، لا الحبّ ولا الرغبة في معاشرتهن، أو كأن تكون فوارق السن بينكم وبينهن كبيرة، أو كأن تهضموهن حقوقهن في مهر أمثالهن، إن خفتم ألا تعدلوا في اليتيمات فاطلبوا الزواج بسواهن من النساء.
وبمناسبة الحديث عن الزواج، امتد السياق إلى بيان حدود المباح من الزوجات فإذا هو مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، ولكن بشرط العدل بينهن، العدل في المعاملة وفي الحقوق الظاهرة. أما العدل في الشعور الباطن، فلا قبل به لإنسان، ولا تكليف به لإنسان، ما اتّقى إظهاره في المعاملة، وتأثيره على الحقوق المتعادلة. فإن وجد في نفسه ضعفا عن ذلك العدل، وخاف ألا يقدر على تحقيقه، فالحلال واحدة فقط وما سواها محظور:(2/110)
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً والنص الشرطي يحتم هذا المعنى هنا ويعلله بأن ذلك التحديد بواحدة في هذه الحالة أقرب إلى اجتناب الظلم والجور.
ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) .
أي لا تجوروا وتظلموا.
والظلم حرام فالوسيلة إليه حرام، واجتناب الظلم واجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب.
فإذا كان العدل يتحقق بترك التعدد، فالاقتصار على الزوجة الواحدة واجب.
وفي ختام الآية وصية جديدة بالاقتصار على الزوجة الواحدة لأنه أدعى إلى العدل والاستقرار، والبعد عن الظلم وكثرة العيال.
شبهة تفتضح، وحجة تتّضح
تكلم الأوروبيون بكثير من الكلام المعسول، فمثلا (كانتى) يقول: «إن شرف الإنسان أسمى من أن يمتهن أو أن يجعل أداة متعة» .
والحقيقة أن الأوروبيين هم الذين جعلوا الأخدان أداة متعة، فقط ومنعوهن حقوق الزوجية في النفقة أو الميراث أو إلصاق الولد، في حين أن الإسلام يحرم اتخاذ الأخدان والخليلات، يقول تعالى:
مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [الآية 25] . ويقول الرسول (ص) :
«إنّ الله لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا» .
ونشأ عن كثرة الأخدان وانتشارهن في أوروبا انتشار الأمراض السارية الفظيعة، وقلة النسل لأن النسل إما أن يخنق، أو تجهض الحامل، أو يمنع الحمل. وهل غفل الأوروبيون عن المصير السيّئ الذي ينتظرهم إذا استمر الحال، فالكبير يموت والنشء يقتل؟ ... تنبهوا لذلك، فصدرت قوانين تقول مثلا: أبناء الزواج الحر، إذا اعترف بهم أبوهم، ألحقناهم به فينال الأولاد كل حقوق الأبناء. فهم تفادوا اسم الزوجة فقط، والأبناء منها يتمتعون بكل الحقوق.
وقد ذكر لنا أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز، أنه شاهد أثر الحروب في ألمانيا، ورأى النساء يطالبن هناك بتعدد الزوجات لتجد(2/111)
المرأة التي مات زوجها في الحرب من يكفلها وينفق عليها وعلى ما ينجب منها. وذكر لنا أن جمعية تألفت في ألمانيا تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في الزواج والطلاق.
ومع ذلك فالإسلام لم يحرض على تعدد الزوجات بل قال:
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) .
وإذا استلهمنا روح النص ومراميه وجدنا أن التعدد رخصة، وهي رخصة ضرورية لحياة الجماعة في حالات كثيرة، وهي صمام أمان في هذه الحالات، ووقاية ليس في وسع البشرية الاستغناء عنها. ولم تجد البشرية حتى اليوم حلا أفضل منها، سواء في حالة إخلال التوازن بين عدد الذكور وعدد الإناث، عقب الحروب والأوبئة التي تجعل عدد الإناث في الأمة أحيانا ثلاثة أمثال عدد الذكور، أم في حالات مرض الزوجة أو عقمها، ورغبة الزوج في الإبقاء عليها أو حاجتها هي إليه، أو في الحالات التي يكون الرجل فيها ذا طاقة حيوية فائضة لا تستجيب لها الزوجة، أو لا تجد كفايتها في زوجة واحدة. وكلها حالات فطرية وواقعية لا سبيل إلى تجاهلها. وكل حل فيها، غير تعدد الزوجات، يفضي إلى عواقب أوخم خلقيا واجتماعيا. ضرورة تواجه ضرورة. ومع هذا، فهي مقيدة، في الإسلام، باستطاعة العدل والبعد عن الظلم والجور، وهو أقصى ما يمكن من الاحتياط.
التضامن الاجتماعي
حثت سورة النساء على صدق العقيدة والإخلاص لله في العبادة، كما حثت على الإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام اليتامى والمساكين والإحسان إلى الجار ورحمة الفقير والمحتاج ومساعدة الخدم والضعفاء، وحذّرت من البخل والكبر والرياء، ونهت عن الكفر والجحود ومعصية الله والرسول. وذلك في جملة آيات تبدأ بقوله تعالى:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36) .
وهذه الآية وما بعدها دعوة عملية(2/112)
إلى «الضمان الاجتماعي» ، وتحذير من البخل والشح، وبيان أن المال مال الله، وأن الغنيّ مستخلف عن الله في إدارته وتثميره وإنفاقه في نواحي الخير والبر. وقد فرض الله حقوقا للفقراء من مال الأغنياء فأوجب الزكاة والصدقة وحث على الإنفاق في سبيل الله.
وجعل طرق البر متعددة، منها صدقة الفطر في عيد الفطر، والأضحية في عيد الأضحى، والهدى في موسم الحج. وجعل الله موردا لا ينقطع لصلة الفقراء، ألا وهو الكفّارات التي أوجبها، ككفارة الظّهار، وكفارة اليمين، وكفارة صوم رمضان. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الكفارات إطعام المساكين أو كسوتهم. كما أوجب الله الوفاء بالنذر ولم يجعل الزكاة تطوّعا بل جعلها فريضة لازمة يثاب فاعلها ويعاقب جاحدها. ونلحظ أن الزكاة تتفاوت في نسبتها فتبدأ من 5، 2 وهي زكاة المال، وتصل إلى 20 وهي زكاة الركاز والمعادن والبترول. وكلما كان عمل العبد أظهر، كانت نسبة الزكاة أقل كما في زكاة المال، وزكاة التجارة. وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر، كانت نسبة الزكاة أكثر كما في زكاة الزراعة وزكاة الركاز.
المحرّمات من النساء
انفردت سورة النساء بكثير من أحكام المجتمع، ولا سيما أحكام الأسرة والزوجية، كما انفردت ببيان مفصّل للمحرّمات من النساء، وبدأت ذلك بقوله تعالى:
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22) .
ولا شك أن توارد رجل وابنه على امرأة واحدة، أمر ممقوت تنفر منه الفطر السليمة، وتمجّه الأذواق.
ثم جاءت بقية السورة ببقية المحرمات، فحرّمت زواج الإنسان بأمه وبابنته وبأخته من الرّضاعة ومن النسب، وحرمت زواج الرجل من بنات الأخ وبنات الأخت والأم من الرّضاعة، وحرمت أم الزوجة التي دخل بها زوجها، كما حرمت زواج الإنسان من زوجة ابنه وحرمت الجمع بين الأختين.
الحكمة من هذا التّحريم
إن الزواج وسيلة مشروعة لإمتاع النفس وإنجاب الذرية وتكوين الأسرة.(2/113)
فإذا أبيح وتزوج الإنسان من أقرب الناس إليه كالأم والبنت، اصطدمت حقوق هؤلاء الأقارب بحقوق الزوجية، فالأم مثلا لها حق الطاعة والاحترام فلو اتخذها الإنسان زوجة، لكان له عليها حق القوامة وحق الطاعة والخضوع. فضلا عما هو غنيّ عن البيان من نفور الإنسان من هذا اللون من المتاع، فبهيميّة، أيّ بهيمية، أن يتمتع الرجل بأمه. ومثل هذا يقال في درجات القرابة الأخرى. فالخالة لها ما للأم، والعمة لها ما للأب، والأخت وابنتها وابنة الأخ، وابنة الإنسان التي هي قطعة منه، كل هؤلاء تستقبح الأذواق نكاحهن وافتراشهن، ولا يمكن أن يتصور المرء في هذا الوضع، إذا أبيح، إلا المفارقات والصعاب، وضعف النسل وسوء المنقلب.
ومثل هذا يقال أيضا في نكاح من حرمن من جهة الرضاع، فإن المرضع أمّ في الكرامة ولها حق الأم في وجوب الرعاية، وليس من شأن الإنسان أن يلتمس منها ما يلتمسه الرجل بالزوجية.
وقد حرمت السورة الجمع بين الأختين، والجمع بين الأم وابنتها حتى لا تقطع الأرحام، فإن المرأة تغار من ضرتها، وتفعل الكثير في سبيل إبعادها عن زوجها. ولو أبيح الجمع بين الأقارب لطعنت المرأة في أختها وفي أمها، ولأدركها نوع من الغيرة الشديدة فانقطعت بذلك صلاتها من النسب، وتعرضت بذلك الأمر إلى خطر شديد.
قال تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) .
مصادر التشريع في الإسلام
أمرت سورة النساء بالعدل في الحكم وأداء الأمانات إلى أهلها.
وبينت أن الأمانة والعدالة من أسباب الرقي والتقدم والسعادة في الدنيا والآخرة.(2/114)
وبهذه المناسبة ذكرت السورة مصادر التشريع التي يجب أن يرجع إليها المسلمون في تصرفاتهم وأحكامهم وهي:
أولا- القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله.
ثانيا- سنة الرسول قولية كانت أم فعلية والعمل بها هو طاعة الرسول.
ثالثا- رأي أهل الحل والعقد في الأمة من العلماء وأرباب النظر في المصالح العامة كالجيش، والزراعة، والصناعة، والتعليم، كلّ في دائرة معرفته واختصاصه، والعمل بالرأي هو إطاعة أولي الأمر.
وهذه المصادر في الرجوع إليها مرتّبة على هذا النحو، فلا نرجع إلى السّنّة إلا بعد عدم العثور على الحكم في القرآن، فنرجع إلى السنة حينئذ، إما لمعرفة الحكم الذي لم يرد في القرآن، وإما لبيان المراد مما ورد في القرآن. ولا نلتجئ إلى رأي أولي الأمر إلا بعد عدم العثور على الحكم في السنة، وعندئذ نرجع إليهم ليجتهدوا رأيهم. وهذا الاجتهاد هو عنصر «الشورى» الذي عليه أمر المسلمين.
ومتى تحقق الاتفاق وجب العمل به ولا يصح الخروج عنه ما دامت وجوه النظر التي أدت إليه قائمة، وهو أساس فكرة الإجماع في الشريعة الإسلامية.
وقد انتفع به المسلمون كثيرا، واتسع به نطاق الفقه الإسلامي، وبخاصة في ما ليس منصوصا عليه في كتاب الله وسنة الرسول وهو يشمل إصدار حكم على حادثة مثل حادثة سابقة للاشتراك بينهما في المعنى الموجب لذلك الحكم، وهذا هو المعروف، في لغة الفقهاء والأصوليين، باسم «القياس» وقد بحثوه بحثا مستفيضا، بيّنوا فيه أركانه، وشرائطه، وعلته، وما ينقضه، وما لا ينقضه وما يجري فيه، وما لا يجري فيه، وقد تكفلت به كتب الأصول فليرجع إليها من يشاء.
الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا
ويشمل أيضا النظر في تعرف حكم الحادثة من طريق القواعد العامة وروح التشريع التي عرفت من جزئيات الكتاب، وتصرفات الرسول، وأخذت في نظر الشريعة مكانة النصوص القطعية التي يرجع إليها في تعرف الحكم للحوادث الجديدة. وهذا النوع(2/115)
هو المعروف بالاجتهاد من طريق الرأي وتقدير المصالح. وقد رفع الإسلام بهذا الوضع جماعة المسلمين عن أن يخضعوا في أحكامهم وتصرفاتهم لغير الله، ومنحهم حق التفكير والنظر والترجيح واختيار الأصلح، في دائرة ما رسمه من الأصول التشريعية، فلم يترك العقل وراء الأهواء والرغبات، ولم يقيده، في كل شيء، بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجد من شؤون الحياة، كما لم يلزم أهل أي عصر باجتهاد أهل عصر سابق دفعتهم اعتبارات خاصة إلى اختيار ما اختاروا.
وهنا نذكر بالأسف هذه الفكرة الخاطئة الظالمة التي ترى وقف الاجتهاد وإغلاق بابه، ونؤكد أن نعمة الله على المسلمين بفتح باب الاجتهاد لا يمكن أن تكون عرضة للزوال بكلمة قوم هالهم، أو هال من ينتمون إليهم من أرباب الحكم والسلطان، أن يكون في الأمة من يرفع لواء الحرية في الرأي والتفكير، فالشريعة الإسلامية شريعة عامة خالدة، صالحة لكل زمان ومكان.
وما على أهل العلم إلا أن يجتهدوا في تحصيل الرسائل التي يكونون بها أهلا للاجتهاد في معرفة حكم الله الذي أوكل معرفته، رأفة منه ورحمة، إلى عباده المؤمنين:
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [الآية 83] .
واقرأ في هذا الموضوع كله قوله تعالى من السورة:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) .
القتال وأسباب النصر
عنيت سورة النساء بتنظيم شؤون المسلمين الداخلية، وحفظ كيانهم الخارجي. وقد حثت السورة على القتال ودعت إليه حيث يقول تعالى:
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) .(2/116)
وبينت السورة أهداف القتال في الإسلام. وهذه الأهداف تنحصر في رد العدوان وإشاعة الأمن والاستقرار، وحماية الدعوة، والقضاء على الفتن التي يثيرها أرباب المطامع والأهواء.
ومن ذلك نعلم أن الإسلام، حينما شرع القتال، نأى به عن جوانح الطمع والاستئثار، وإذلال الضعفاء، واتخذه طريقا إلى السلام العام بتركيز الحياة على موازين العدل والمساواة. وليصل المسلمون بالقتال إلى الغاية السامية التي أمر بها الله، لفت القرآن أنظار المؤمنين إلى أن للنصر أسبابا ووسائل هي:
1- تقوية الروح المعنوية للأمة: فقد نزل القرآن روحا وحياة ومنهجا ورسالة، وتحول العرب بالقرآن إلى أمة عزيزة، متمسكة بالحق، ثابتة عليه، متحملة صنوف الأذى وألوان الاضطهاد. فلما أذن الله لها بالجهاد كانت لها راية النصر في أكثر معاركها، لأن لها، من يقينها وإيمانها، ما يكفل لها النصر والغلبة.
2- إعداد القوة المادية وتنظيمها، قال تعالى:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال/ 60] .
ويشمل ذلك فنون الحرب وأساليبها، ومعرفة أحدث أدواتها، وكيفية استعمالها.
3- الشكر على النعماء ثقة بأن النصر من عند الله، فينبغي ألّا تأخذ المحارب نشوة النصر، فيخرج عن اتزانه، بل عليه أن يزداد تواضعا وخشوعا لعظمة الله، ويزيد في طاعة الله ونصره، لقوله سبحانه:
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد/ 7] .
4- الصبر على البأساء ثقة والتزاما بأن مع اليوم غدا، وبأن الأيام دول:
يوم لك ويوم عليك، وأن الشجاعة صبر ساعة وليس الصبر هنا صبر الذليل المستكين، بل صبر المطمئن إلى قضاء الله وقدره، والمؤمن بحكمته، والمستعد ليوم آخر ينتصف فيه من عدوه. قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) [آل عمران] .
5- ومن أسباب النصر ثقة المؤمن بأن الأجل محدود، وأن الرزق محدود. فالشجاعة لا تنقص العمر، والجبن لا يزيده. ومن أسباب النصر(2/117)
طاعة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى:
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران/ 126] .
6- ومن أسباب النصر أخذ الحذر والحيطة والابتعاد عن اتخاذ بطانة مقرّبة من المنافقين والملحدين والخونة، قال تعالى:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) .
7- تذكّر فضل الجهاد وثواب البذل والتضحية، وعقوبة التثاقل والفرار من الجهاد، وتذكر ما أعده الله للمجاهدين والمكافحين في سبيل الحق من عز الدنيا وشرف الآخرة، قال تعالى:
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) .(2/118)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النساء»
«1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة النساء بعد سورة الممتحنة، ونزلت سورة الممتحنة عقب صلح الحديبية. وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة النساء في ما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأن كثيرا من الأحكام التي ذكرت فيها تتعلق بالنساء. وتبلغ آياتها ستا وسبعين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة في كثير من الأحكام التي شرعت بعد سورة البقرة، فذكر فيها ما شرع من هذه الأحكام، كما ذكر في سورة البقرة ما شرع من الأحكام في عهدها. وقد اشتملت سورة النساء مع هذا على بيان حال أهل الكتاب والمنافقين في الزمن الذي نزلت فيه، وكانوا قد غلوا في أمرهم مع المسلمين، وزادوا في إيذائهم عما كانوا عليه في الزمن الذي نزلت فيه سورتا البقرة وآل عمران، فقوبلوا، في هذه السورة، بما يليق بذلك من الشدة في الخطاب، وأمر المسلمون فيها باستعمال الشدة معهم، وكانوا يؤمرون في سورتي البقرة وآل عمران باللين معهم والصبر على أذاهم.
وقد ابتدأت هذه السورة بآية جاءت مطلعا بارعا لما جاء بعدها من
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز.
المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(2/119)
الأحكام، ثم جاء بعدها آيات كثيرة من الأحكام والشرائع، ثم استطرد منها إلى شرح أحوال اليهود من أهل الكتاب، ثم عاد السياق بعد ذلك إلى ما كان عليه من بيان الشرائع والأحكام، ثم استطرد منه إلى الكلام ثانيا في أحوال المنافقين وأهل الكتاب، ثم ختمت السورة بالعودة إلى سياقها الأول، ليكون آخرها مشاكلا، بهذا، لأولها.
وقد جاءت سورة النساء بعد سورتي البقرة وآل عمران: لأنها تشبههما في الطول، وفي ما تناولته من بيان بعض الأحكام العملية، وشرح بعض أحوال أهل الكتاب والمنافقين.
براعة المطلع
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [الآية الأولى] ، فأمر الناس بالتقوى لما سيأتي في السورة من الأحكام. والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي. ثم ذكر أنه خلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها، لأن كثيرا من هذه الأحكام قد شرع لتنظيم العلاقة بين الزوجين ثم كرر الأمر بتقوى الله الذي يتساءلون به والأرحام إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) .
أحكام اليتامى والسفهاء الآيات [2- 6]
ثم قال تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [الآية 2] ، فأمرهم بأن يؤتوا اليتامى أموالهم بالإنفاق عليهم منها وتسليمها لهم بعد بلوغهم. ونهاهم أن يضموا أموالهم في الإنفاق، لتتميز أموالهم وحدها، ولا يدخل شيء منها في أموالهم. ثم أمرهم أن يتركوا نكاح اليتيمة إذا خافوا أن يطمعهم ذلك في أموالها وأموال إخوتها فلا يقسطوا فيها. ووسّع عليهم في نكاح غيرها إلى أربع، حتى لا يكون لهم عذر في نكاح اليتيمة في تلك الحالة، ثم أمرهم أن يؤتوا النساء مهورهن حتى لا يظنوا أنها بخلاف مهر اليتيمة يحلّ لهم الطمع فيها، وأحل لهم أن يأخذوا منها ما تطيب نفوسهن به، لأنهن يحلّ لهن التصرف فيها بخلاف اليتيمة لرشدهن، ثم نهاهم أن يؤتوا السفهاء من اليتامى وغيرهم أموالهم، وأمرهم أن يبتلوا اليتامى عند بلوغهم، فإذا ظهر أنهم غير سفهاء دفعت إليهم أموالهم. ثم(2/120)
أمر من كان منهم غنيا أن يعفّ عن أموال اليتامى، ومن كان فقيرا أن يأكل بالمعروف: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) .
أحكام الميراث الآيات [7- 14]
ثم قال تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) فذكر أن للرجال والنساء نصيبا في الميراث، وكانوا في الجاهلية يورثون الرجال دون النساء، وأمرهم إذا حضر قسمة الميراث أولو القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين أن يرزقوهم منه ما يليق بحالهم على طريق الهبة أو الهدية، وذكر أن الصغار يرثون كما يرث الكبار، وكانوا في الجاهلية لا يورثونهم لضعفهم. ثم حذرهم من أكل نصيبهم في الميراث كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وجعل ذلك جاريا مجرى أكل النار لأنه يستلزمه، ثم ذكر نصيب كل وارث ووعد من يطيعه بإعطاء كل وارث نصيبه جنات يخلد فيها، وأوعد من يتعدى ذلك ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) .
حكم الزنا واللواط الآيات [15- 18]
ثم قال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) ، فذكر أنه لا يقبل في الزنا أقلّ من أربعة شهود، وأن من يثبت عليهن الزنا يحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو ينزل فيهن حكم آخر. ثم ذكر أنه يجب في اللّذين يأتيان فاحشة اللّواط إلى أن يتوبا، وأن التوبة إنما تقبل منهما ومن غيرهما إذا تابوا من قريب، ولا تقبل منهم إذا أخروها إلى ما قبيل الموت، ولا من الذين يموتون وهم كفار أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) .
أحكام متفرقة في النساء الآيات [19- 28]
ثم قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [الآية 19] . فحرّم عليهم إرث النساء(2/121)
كرها، وكان الرجل إذا مات في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، وحرم عليهم عضلهن لأخذ شيء من مهورهن، ثم ذكر أن المهور تدفع نظير الاستمتاع بهن لا لتملك بها رقابهن حتى يورثن أو يعضلن، ثم ذكر محرّمات النكاح من امرأة الأب، والأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأم الرضاع، وأخت الرضاع، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وأخت الزوجة ما دامت في العصمة، وذات البعل إلا السبية إذا ملكت ولها بعل، ثم أحل ما وراء ذلك من النساء، إلى غير هذا من الأحكام، ثم ذكر أنه يريد بذلك أن يبين لهم سنن من قبلهم في الحلال والحرام من النساء، وأن يتوب عليهم مما كانوا فيه أيام جاهليتهم، وأن يخفف عنهم ما كان فيها من العادات الضارة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) .
تحريم التعدي على المال والنفس الآيات [29- 33]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [الآية 29] . فحرم أكل أموال الناس بالباطل من غصب أو سرقة أو نحوهما، وأحلّ أكلها بالتجارة عن تراض منهم، ثم حرّم عليهم أن يقتلوا أنفسهم، وأوعد من يفعل ذلك وعيدا شديدا، ووعد من يترك ذلك ونحوه من الكبائر أن يكفر عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما، ثم نهاهم أن يتمنى بعضهم ما عند الآخر من المال، لأنه كسب له فهو أحق به من غيره، وأمرهم أن يسألوه إعطاءهم مثل ما أعطي غيرهم، فإن هذا من الغبطة الممدوحة، وذلك من الحسد المذموم، ثم ذكر أن لكل مال مما ترك الوالدان والأقربون والمعتقون موالي يلون أمره بإرثهم له، فهم يملكونه بذلك الحق الثابت لهم، ولا يحلّ لغيرهم ما يحل لهم منه فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً [الآية 33] .
قوامة الرجال على النساء الآيتان [34- 35]
ثم قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [الآية 34] . فجعل الرجال(2/122)
قوامين على النساء بما فضلهم عليهن في القدرة على مشاقّ الحياة، وبما أنفقوا عليهن من أموالهم. فالصالحات منهن مطيعات لبعولتهن، حافظات لغيبهن. واللاتي يخافون نشوزهن لهم حق تأديبهن، وإن وقع شقاق بين الرجل وامرأته، اختير لهما حكمان من أهلهما. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) .
حقوق الله وبعض العباد الآيات [36- 42]
ثم قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الآية 36] . فأمرهم بعبادة الله وحده، وأن يحسنوا إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانهم، وأن يقوموا بذلك من غير اختيال وتفاخر عليهم، لأن هذا شأن أولئك الكفار الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ولا ينفقون شيئا إلا رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ثم ذكر أنه سيجازيهم على ذلك ولا يظلم أحدا مثقال ذرّة، وإن تك حسنة يضاعفها، وهدّدهم بأنه سيجيء من كل أمة بشهيد ويجيء بالنبي (ص) شهيدا عليهم يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) .
تحريم الصلاة على السكارى والجنب الآية [43]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [الآية 43] . فحرم عليهم الصلاة في حال السكر وهم جنب حتى يغتسلوا، ثم شرع لهم التيمّم بالتراب عند فقد الماء فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) .
التحذير من أهل الكتاب الآيات [44- 57]
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وكان اليهود قد بالغوا في عداوة المسلمين حتى حالفوا المشركين عليهم، وزيّنوا لهم ما هم فيه من الشّرك على الإسلام. فلما ذكر تلك الأحكام(2/123)
العظيمة، شرع في تحذير المسلمين من اليهود أن يضلّوهم عنها، ويعودوا بهم إلى ما كانوا عليه من ضلال الشرك، فذكر أن أولئك اليهود قد ضلوا ويريدون أن يعودوا بهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، وذكر من ضلالهم تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأن النبي (ص) كان، إذا أمرهم بشيء، يقولون سمعنا وعصينا، إلى غير ذلك مما ذكره من ضلالهم. ثم أمرهم أن يؤمنوا بالقرآن من قبل أن يطمس وجوههم فيردّها على أدبارها. وهذا كناية عن تغيير حالهم من عز إلى ذل.
ثم ذكر عظم ذنب الشرك الذي آثروا نصر أهله على المسلمين، وذكر تزكيتهم لأنفسهم بأنهم شعب الله المختار، وأنهم، مع هذا فضلوا عبدة الأصنام على المؤمنين، ثم ذكر أنهم لم يحملهم على ذلك إلا حسد النبي (ص) على ما آتاه الله من فضله، وأنهم إذا حسدوه على ذلك، فقد آتى قبله آل إبراهيم النبوة والكتاب والحكمة والملك، فمنهم من آمن بما آتاهم من ذلك، ومنهم من صدّ عنه حقدا وحسدا، ثم أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به، ووعد الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) .
عودة إلى الأحكام الآيات [58- 70]
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) فأمرهم بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، وأن يطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منهم، وأن يردّوا ما يتنازعون فيه إلى كتاب الله وسنّة رسوله، ثم ذكر أن المنافقين يعدلون عن ذلك إلى التحاكم إلى الأوثان كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وأنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صدّوا صدودا، وأنهم، إذا أصابتهم مصيبة بما فعلوا من ذلك، جاءوا إلى النبي (ص) يحلفون أنهم ما أرادوا، بتحاكمهم إلى غيره، إلا إحسانا وتوفيقا، وأنه يعلم أنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، وأنهم، لو كانوا مخلصين في ذلك، لوجدوه توّابا رحيما، وأنهم لا يؤمنون حقا حتى يحكّموا النبي (ص) في كل(2/124)
ما شجر بينهم عن رضيّ منهم، ثم ذكر أنه، لو كلّفهم ما يشقّ عليهم من قتل أنفسهم، أو الخروج من ديارهم، لم يفعله إلا قليل منهم وضاقوا به، وأنهم لو فعلوا ما يوعظون به مما يطيقونه لكان خيرا لهم. ثم ذكر أن من يطيعه ورسوله يكون مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصّدّيقين ومن إليهم ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) .
أحكام القتال الآيات [71- 104]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) فأمرهم بأخذ الحذر وهو السلاح، وأن ينفروا إلى القتال جماعات متفرقة أو مجتمعين. ثم ذكر لهم أن منهم من يثبّطهم عن القتال، وهم المنافقون. فإن أصابتهم فيه مصيبة فرحوا بعدم خروجهم معهم، وإن أصابهم فيه فوز تمنّوا أن لو كانوا معهم. ثم أمرهم بالقتال ووعدهم عليه عظيم الأجر، قتلوا أو غلبوا، وحثّهم على هذا بأنهم يقاتلون في سبيله وفي سبيل المستضعفين منهم بمكة، وأن أعداءهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، ومن يقاتل في سبيل الطاغوت يكون من أولياء الشيطان، ومن يتولاه الشيطان يكون ضعيفا. ثم ذكر ما كان من المنافقين من طلب القتال قبل شرعه لهم. فلما كتب عليهم هابوه وتمنوا لو أخّر عنهم إلى أجل قريب حذرا من الموت، وأمر النبيّ (ص) أن يرد عليهم بأن متاع الدنيا قليل ولو طال، وبأن لكل منهم أجلا لا بد أن يدركهم ولو كانوا في بروج مشيدة. ثم ذكر أنهم، بعد استثقال القتال، إذا خرجوا إليه فأصابتهم حسنة، يقولون إنها من عند الله، وإن أصابتهم سيئة ألقوا فيها اللوم على النبي (ص) ، وأمره أن يردّ عليهم بأن الحسنة والسيئة جميعا من عند الله، وإذا كان هناك سبب من العبد في إصابة السيئة فهو من نفسه لا من غيره، فلا يصحّ أن يلوم في ذلك إلا نفسه، وليس للنبي (ص) في الأمر شيء، لأنه ليس إلا رسولا من الله. فمن يطعه فقد أطاع الله، ومن يتولّ عنه فلا شيء عليه في تولّيه، ثم ذكر أنهم إذا أمروا بالقتال أظهروا الطاعة في حضرة النبي (ص) .
فإذا خرجوا من عنده أضمروا خلافها، والله يعلم ما يضمرون من ذلك ويكتبه(2/125)
لهم. ولو أنهم تدبروا في ما يظهره القرآن من خفاياهم لعلموا أنه من عند الله، لأن ما يظهره منها لا يختلف عما في ضمائرهم، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، ثم ذكر أنهم، إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، أذاعوه وزادوا فيه ليربكوا المسلمين بإرجافاتهم، ويخفوا أمره عليهم.
ثم أمر النبي (ص) أن يقاتل في سبيله ويدع أولئك المنافقين، وأن يحرّض المؤمنين على القتال، لأنه بهذا يشفع شفاعة حسنة، ومن يشفع شفاعة حسنة، يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة، كالمنافقين المثبطين، يكن له كفل منها، ثم أمرهم إذا قابلهم أعداؤهم بالسلام أن يقابلوهم بأحسن منه، لأنه لا يأمرهم إلا بقتال من يقاتلهم.
ثم لا مهم على اختلافهم في قوم، من أولئك المنافقين بمكة، كانوا يعينون المشركين على المسلمين، فقال بعضهم إنهم مسلمون يحرّم قتلهم، وقال بعضهم إنهم كفار يجوز قتلهم فذكر لهم أنه ما كان لهم أن يختلفوا فيهم وقد أركسهم بما كسبوا، وردّهم إلى أحكام الكفار من الذل والصّغار والسّبي والقتل، ونهاهم أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا من مكة إليهم، فإن تولّوا عن الهجرة، فحكمهم حكم المشركين من أهل مكة، ثم استثنى منهم فريقين: أولهما قوم دخلوا في عهد من كان داخلا في عهد المسلمين، وثانيهما قوم ضاقت صدورهم عن القتال، فلا يريدون قتال المسلمين ولا قتال قومهم. ثم ذكّر قوما آخرين من غطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا ليأمنوا المسلمين، وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ليأمنوهم، فأمرهم بقتالهم إن لم يعتزلوهم ويسالموهم ويتركوا مظاهرة قومهم عليهم.
ثم ذكر أنه لا يصح لمؤمن أن يقتل مؤمنا في الحرب إلا خطأ، بأن يرى عليه شعار الكفار فيظنّه مشركا، وقد أوجب فيه الدّية إلى أهله إلا أن يصّدّقوا، ثم ذكر حكم المؤمن المقتول خطأ إذا كان في دار الحرب، وحكم المؤمن المقتول خطأ إذا كان بين أهل العهد، ثم ختم ذلك بما ذكره من الوعيد الشديد على قتله عمدا، تأكيدا لما ذكره من أنه لا يصحّ قتله إلا خطأ.
ثم أمرهم أن يتبينوا حال الكفار قبل(2/126)
قتالهم، ولا يقتلوا من يلقي إليهم السلام منهم طمعا في أموالهم، وذكر لهم أنهم كانوا كفارا مثلهم فمنّ عليهم بالإسلام، وقد يمنّ عليهم بالإسلام مثلهم.
ثم ذكر أنه لا يستوي القاعدون عن الجهاد والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، واستثنى من القاعدين أولي الضّرر لأنه لا جهاد عليهم، ثم ذكر من فضل المجاهدين على القاعدين ما ذكر، وأتبعه بوعيد من قعد عن الجهاد في دار الكفر، وأوجب عليهم الهجرة منها إلى دار الإسلام، واستثنى منهم المستضعفين الذين لا يمكنهم الهجرة، ثم رغّبهم في الهجرة بأنهم يجدون بها في الأرض مراغما كثيرا وسعة، وهذا إلى ما يكون لهم عند الله من عظيم الأجر.
ثم بيّن لهم كيف يؤدون الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو، فأباح لهم قصر الصلاة إذا ضربوا في الأرض للجهاد، فإذا صلّوا خلف النبي (ص) في حال الحرب، فليقسموا أنفسهم في الصلاة خلفه، ولا يصلّوا خلفه دفعة واحدة، فإذا زال الخوف أتوا بالصلاة على وجهها المعروف، ثم ختم الكلام على القتال وأحكامه بقطع العذر عليهم فيه فقال وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) .
تحريم المحاباة في الحكم الآيات [105- 126]
ثم قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وكان طعمة بن أبيرق سرق درعا، فلما طلبت منه رمى بها واحدا من اليهود، فجاء قومه يطلبون من النبي (ص) أن يعينهم عليهم، فذكر له أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بين الناس بما يريه إياه، ونهاه أن يخاصم للخائنين وأمره أن يستغفره من ذلك، تعريضا بمن فعل ذلك من قوم طعمة، ثم وبّخهم على ما كان منهم، وذكر أنهم إذا جادلوا عن الخائنين في الدنيا، فمن يجادل عنهم يوم القيامة، وأن من يعمل سوءا ويستغفر الله ولا يرم به بريئا يغفره الله له، ومن يعمل سوءا ثم يرم به بريئا، فقد أضاف إليه إثما أشنع(2/127)
منه، ثم ذكر أنه لولا فضله على النبي (ص) لأضلوه بذلك، وأنهم لا يضلون إلا أنفسهم، وأنه أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلّمه ما لم يكن يعلم فتضاعف بهذا فضله عليه، ثم ذكر أن ما يتناجون به من ذلك وغيره لا خير فيه، وإنما الخير في التناجي بالأمر بالصّدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فله عظيم الأجر، ومن يمض في شقاقه إلى أن يرتدّ عن دينه كأولئك المنافقين فله شديد العقاب، ولا يغفر الله له أبدا، لأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء. ثم ذكر من قبائح شركهم أنهم لا يدعون من دونه إلا إناثا كاللّات والعزّى، وإلا شيطانا مريدا يضل الناس ويزين لهم القبائح ويمنّيهم أنه لا بعث ولا حساب، ثم ذكر أنه لا صحة لأمانيهم ولا لأمانيّ أهل الكتاب أنه لن يدخل الجنة غيرهم، فمن يعمل سوءا يجز به في يوم الجزاء، ومن يعمل صالحا يدخله الجنة ولا يظلمه شيئا، وليس هناك أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله واتّبع ملة إبراهيم في توحيده وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) [الآية 126] .
أحكام أخرى في النساء الآيات [127- 134]
ثم قال تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [الآية 127] .
وكانوا قد سألوا التخفيف في ما نزل في أول السورة في يتامى النساء اللاتي كانوا ينكحوهن طمعا في أموالهن، وفي اليتامى الذين كانوا يحرمونهن من الميراث، وفي العدل مع الزوجات في عشرتهن وعند مفارقتهن، فذكر لهم أن ما تلاه عليهم أول السورة في اليتامى هو الذي يفتيهم الآن به، لأنه لا سبيل إلى تغييره، وأن الصلح بين المرأة وبعلها عند خوفها من نشوزه أو إعراضه خير من التسريح والفراق، ولو اقتضى ذلك أن تتنازل المرأة عن بعض حقوقها في القسم والنفقة ونحوهما، وتتغلب بذلك على ما جبلت عليه الأنفس من الشّحّ، ثم ذكر أن ما أمر به في أول السورة من العدل بين الزوجات لا يمكن الإتيان به على وجهه الكامل، فليأتوا منه ما في استطاعتهم من العدل في القسم ونحوه. فإذا لم يمكنهم ذلك(2/128)
العدل المستطاع، ولم ترض الزوجات أن ينزلن عن حقهن فيه، فليتفرّقا يغن الله كلّا من سعته، ثم ذكر أن ما أمرهم به في ذلك من التقوى التي وصّى بها أهل الكتاب من قبلهم، ويوصيهم بها من بعدهم، وأنهم إذا كفروا ولم يتّقوه فإنه غنيّ عنهم، وأنه إن يشأ يذهبهم ويأت بغيرهم، وأن من يريد ثواب الدنيا بالطمع في أولئك الضعاف فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الآية 134] .
تحريم المحاباة في الشهادة الآية [135]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [الآية 135] .
فأمرهم أن يكونوا قوامين بالعدل في كل أمورهم، وأن تكون شهادتهم لله ولو كان فيها ضرر على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وإذا كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا يكتموا الشهادة لرضا الغني أو الترحم على الفقير، ونهاهم عن متابعة الهوى ليستطيعوا القيام بما أمروا به من ذلك وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) .
عود إلى المنافقين وأهل الكتاب الآيات [136- 175]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 136] . فعاد إلى الكلام على المنافقين وأهل الكتاب، وقد بدأ بالمنافقين وأهل الكتاب، وقد بدأ بالمنافقين فأمرهم أن يؤمنوا إيمانا صادقا بما أمرهم أن يؤمنوا به، وذكر أنه لا يغفر لمن يتذبذب في إيمانه مثلهم، ثم أمر النبي (ص) أن يبشرهم بما لهم من عذاب أليم تهكّما بهم، وذكر أنهم يتخذون الكافرين من اليهود أولياء من دون المؤمنين، فيجلسون إليهم ويسمعون إلى طعنهم في القرآن، مع أنهم قد نهوا عن سماع ذلك منهم، ثم ذكر تذبذبهم بين المسلمين والكفار، فإن كان للمؤمنين فتح طلبوا أن يشاركوهم في الغنائم، وإن كان للكفار ظفر امتنوا عليهم بمنعهم من المسلمين، وأنهم يخادعون الله بذلك وهو خادعهم، وأنهم يقومون إلى الصلاة متكاسلين يراءون الناس فيها. ثم ذمّهم على تلك الذبذبة، وحذر المؤمنين أن يتذبذبوا مثلهم، فيوالوا الكفار كما والوهم. وذكر أنه أعدّ للمنافقين أشنع عقاب، مبالغة في التحذير منهم، واستثنى من ذلك من(2/129)
تاب من نفاقه وأخلص دينه له، لأنه لا حاجة له في عذاب أحد، وإنما يعذب الناس ليحملهم على التوبة من ذنوبهم، ثم ذكر أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول كما يفعل أولئك المنافقون، وأباح لمن ظلم أن يجهر بما وقع عليه من الظلم، ولمن يأتي بخير أن يظهره أو يخفيه، وفضّل لمن ظلم أن يعفو عمن ظلمه.
ثم انتقل إلى اليهود فحكم بكفرهم لأنهم يريدون أن يؤمنوا ببعض كتبه ورسله دون بعض، ثم أوعدهم على ذلك عذابا مهينا، ووعد الذين يؤمنون بسائر الرسل بأنه سوف يؤتيهم أجورهم يوم القيامة، ثم ذكر من تعنّتهم على النبي (ص) أنهم سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يعاينونه حين ينزل، وأن تعنّتهم على موسى أكبر من ذلك، فطلبوا منه أن يريهم الله جهرة، وعبدوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات، إلى غير هذا من تعنتهم وعنادهم. ثم ذكر أنهم تعنتوا على مريم ونسبوها إلى الزنى، وأنهم تعنتوا على المسيح وزعموا أنهم قتلوه، وذكر أنهم لم يقتلوه يقينا بل رفعه إليه، وأنه لا يموت بعد رفعه حتى يؤمن به من كذبه منهم، ثم ذكر أنه جازاهم على تعنتهم بتشديده عليهم في الدنيا، فحرّم عليهم بعض ما أحلّ لهم من الطيبات، وأعدّ في الآخرة للكافرين منهم عذابا أليما. ثم استدرك على ذلك بأن الراسخين في العلم منهم لا يتعنتون على النبي (ص) ، بل يعلمون أنه النبي المبشّر به، ويؤمنون به وبما أنزل إليه وما أنزل من قبله، ثم ذكر أنه أوحى إلى النبي (ص) كما أوحي إلى الأنبياء من قبله، وأنهم إذا لم يشهدوا بذلك فإنه يشهد به هو والملائكة، ثم أوعدهم على كفرهم وتعنّتهم بما أوعدهم به، وختم الكلام معهم بدعوتهم الى الإيمان بما جاءهم من الحق، لأنه خير لهم من كفرهم وتعنتهم.
ثم انتقل إلى النصارى فنهاهم عن الغلوّ في دينهم بتعظيم المسيح إلى مرتبة الألوهية، وذكر أنه إنما هو رسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. ثم أمرهم أن يؤمنوا به وحده ويتركوا عقيدة التثليث، ونفى أن يكون له ولد كما يزعمون، وذكر أن المسيح والملائكة المقربين لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا له، وأوعد من يستنكف(2/130)
عن عبادته بما ذكره في وعيده، ووعد الذين يؤمنون به بما وعدهم به، ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن جاءهم برهان به وأنزل إليهم نورا مبينا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) .
حكم الكلالة الآية [176]
ثم قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [الآية 176] . فذكر أنهم استفتوه في الكلالة من الورثة، وهم الحواشي الذين يدلون بالوالدين إلى الميت، وقد ذكر في أحكام الميراث السابقة نصيب الكلالة إذا كانوا إخوة لأم، وذكر هنا نصيب الكلالة إذا كانوا من العصب، وقد أفتاهم في ذلك بأن الأخت لها النصف، وبأن أخاها يرث مالها كلّه إن لم يكن لها ولد فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) .(2/131)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النساء»
«1»
تقدّم وجوه مناسبتها
وأقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة.
فمنها: أنه أجمل في البقرة قوله:
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة 21] . وزاد هنا: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [الآية 1] .
وانظر كيف كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية، فجعلها في أول هذه السورة التالية لها مبدأ «2» .
ومنها: أنه أجمل في سورة البقرة:
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الآية 35] .
وبيّن هنا أن زوجته خلقت منه في قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [الآية 1] .
ومنها: أنه أجمل في البقرة آية اليتامى، وآية الوصية، والميراث، والوارث، في قوله: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة 233] . وفصّل ذلك في هذه السورة أبلغ تفصيل «3» .
وفصّل هنا من الأنكحة ما أجمله هناك، فإنه قال في البقرة: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ [الآية 221] .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . آية التقوى في البقرة هي: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) . وهي غاية، لأن الهداية بالكتاب وبآياته لا تكون إلا للمتقين، فالتقوى غاية الهداية. أما في سورة النساء فقد بدأ الله الأمر بها في قوله: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [الآية 1] . وبيّن وسائل تحقيقها في الآية نفسها.
(3) . وذلك في الآيات (7، 11، 12، 33، 176) من سورة النساء.(2/133)
فذكر نكاح الأمة إجمالا، وفصل هنا شروطه «1» .
ومنها: أنه ذكر الصّداق في البقرة مجملا بقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [الآية 229] . وشرحه هنا مفصّلا «2» .
ومنها: أنه ذكر هناك الخلع، وذكر هنا أسبابه ودواعيه، من النشوز وما يترتب عليه، وبعث الحكمين «3» .
ومنها: أنه فصّل هنا من أحكام المجاهدين، وتفضيلهم درجات، والهجرة، ما وقع هناك مجملا، أو مرموزا إليه «4» .
وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة:
تفسير: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
بقوله تعالى: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [الآية 69] .
وأما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه:
منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به «5» .
وهذا من أكبر وجوه المناسبات في ترتيب السّور، وهو نوع من البديع يسمّى: تشابه الأطراف.
ومنها: أن سورة آل عمران ذكرت فيها قصة أحد مستوفاة، وذكر في هذه السورة ذيلها، وهو قوله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [الآية 88] . فإنها نزلت لما اختلف الصحابة في من رجع من
__________
(1) . وذلك في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [الآية 25] .
(2) . وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [الآية 20] إلى وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) .
(3) . قال عن الخلع في البقرة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الآية 229] . وهنا قال:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [الآية 34] إلى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [الآية 35] . وهذا في أسباب الخلع.
(4) . قال هنا: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الآية 95] إلى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (99) . وقال هناك: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ [البقرة/ 154] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة/ 216] . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة/ 218] .
(5) . ختمت آل عمران بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وافتتحت النساء بقوله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ.(2/134)
المنافقين من غزوة أحد، كما في الحديث «1» .
ومنها: أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [الآية 172] «2» . وأشير إليها هنا بقوله: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ [الآية 104] «3» .
وبهذين الوجهين عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود، لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران، ولاحقه وتابعه، فكانت بالتأخير أنسب.
ومنها: أنه ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب، وأقيمت له الحجة بآدم، وفي ذلك تبرئة لأمه، خلافا لما زعم اليهود، وتقرير لعبوديته، خلافا لما ادعته النصارى، وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معا: فرد على اليهود بقوله: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [الآية 156] ، وعلى النصارى بقوله: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [الآية 171] ، إلى قوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
[الآية 172] .
ومنها: أنه لما ذكر في آل عمران:
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران/ 55] ، رد هنا على من زعم قتله بقوله:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
ومنها: أنه لما قال في الآية 7 من آل
__________
(1) . أخرجه البخاري في التفسير: 6/ 59 عن زيد بن ثابت. ومسلم في المنافقين: 8/ 128، وأحمد في المسند: 5/ 184، وفيه: أن الصحابة اختلفوا فيمن رجع عن غزوة أحد، فقال فريق: بقتلهم. وقال فريق: لا. فنزلت.
(2) . هو يوم حمراء الأسد، كان عقب أحد، وكان الكفار قد ندموا أن لم يدخلوا المدينة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين للخروج على ما بهم من جراح، ليريهم أن بهم قوة وجلدا. انظر البخاري:
5/ 130، والمستدرك: 2/ 298 وسيرة ابن هشام: 2/ 101.
(3) . ومن أسرار الترتيب أنه تعالى زاد في سورة «محمد» تفصيل سبب النهي عن الوهن في قوله: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) .(2/135)
عمران في المتشابه «1» : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، قال هنا: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الآية 162] .
ومنها: أنه لما قال في آل عمران:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [آل عمران/ 14] ، فصّل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية، ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه، وما حرّم فلا يتعدّى إليه، لميل النفس إليه.
فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء، ومباحاتها «2» ، للابتداء بها في الآية السابقة في آل عمران، ولم يحتج إلى تفصيل البنين، لأن تحريم البنين لازم، لا يترك منه شيء كما يترك من النساء، فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه، ومع ذلك أشير إليهم في قوله:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) .
ثم فصّل، في سورة المائدة، أحكام السراق، وقطاع الطريق «3» ، لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين. ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث.
ثم فصّل، في سورة الأنعام، أمر الحيوان والحرث، وهو بقية المذكور في آية آل عمران. فانظر إلى هذه اللطيفة التي من الله بإلهامها! ثم ظهر لي أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضا، لأنه لما أخبر بحب الناس لهم، وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث، وتخصيصهم به دونهن، تولى قسمة
__________
(1) . المتشابه في القرآن يأتي على معنيين: أولهما المتماثل في اللفظ، وهو غير مراد هنا، والثاني ما جاء مؤيدا للواجبات بأصله، رادّا بوصفه، فتشابه على السامع من حيث خالف حجة العقل من وجه دون وجه (الأمد الأقصى 120 أ) . [.....]
(2) . وذلك من قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [الآية 22] إلى قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) .
(3) . وذلك بقوله تعالى في المائدة: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الآية 33] .(2/136)
المواريث بنفسه، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [الآية 11] . وقال: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ [الآية 7] . فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث، لحبهم لهم، فكان ذلك تفصيلا لما يحل ويحرم من إيثار البنين، اللازم عن الحب، وفي ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة، وما يحرم.
ومن الوجوه المناسبة لتقدّم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب، وفي الافتتاح ب الم وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة، كيونس وتواليها، ومريم وطه، والطواسين، والم (1) العنكبوت وتواليها، والحواميم، وفي ذلك الدليل الأول على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور.
ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءا به سوى بين الأعراف ويونس اجتهادا لا توقيفا، والفصل بالزّمر بين حم (1) [غافر] وص وسيأتي.
ومن الوجوه في ذلك أيضا:
اشتراكهما في التسمية بالزهراوين في حديث: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» . فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس، المشتركتين في التسمية بالمعوّذتين.(2/137)
المبحث الرابع مكنونات سورة «النساء»
«1» 1- وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [الآية 1] .
روى ابن جرير «2» عن ابن إسحاق:
أنّ بني آدم من صلبه أربعون في عشرين بطنا فممّا حفظ من ذكورهم: قابيل، وهابيل، وإباذ، وشبوبة، وهند، ومرابيس، وفحور، وسند، وبارق، وشيش.
ومن إناثهم: إقليمة، واشوف، وجزروة، وعزورا.
قال ابن عسكر: وقد روي أنّ من صلب بني آدم عبد المغيث، وتوأمته أمة المغيث وذكر أيضا منهم: عبد الحارث.
وفي «مختصر العين» «3» في قول
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . في «تاريخه» 1/ 145، وفي الأسماء التالية المذكورة فيه اختلاف عما جاء في أصول هذا الكتاب وجاءت في «تاريخ الطبري» كما يلي: «عن ابن إسحاق، قال: فكان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلا وأربع نسوة منهم قين وتوأمته، وهابيل وليوذا. وفي نسخة من «تاريخ الطبري» كيوذا، وأشوث بنت آدم وتوأمتها، وشيث وتوأمته، حزروة وتوأمتها، على ثلاثين ومائة سنة من عمره، ثم أباد، وفي نسخة: إياد بن آدم وتوأمته، ثم بالغ وفي نسخة: بالع بن آدم وتوأمته، ثم أتاني. وفي نسخ: أثاث، أثاثي وتوأمته، ثم توبة وفي نسخة: ثوبة بن آدم وتوأمته، ثم بنان. وفي نسخ: بيان، لبنان بن آدم وتوأمته، ثم شبوبة. وفي نسخ: ثوبه، شوبه، سبوبه بن آدم وتوأمته، ثم حيان بن آدم وتوأمته، ثم ضرابيس وفي نسخة: صرابيس بن آدم وتوأمته، ثم هدز. وفي نسخ:
هزر، هوز، هرز، هدن بن آدم وتوأمته، ثم يحور. وفي نسخ: نجود، يحود، بحود بن آدم وتوأمته، ثم سندل بن آدم وتوأمته، ثم بارق بن آدم وتوأمته، كل رجل منهم تولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه» .
(3) . هذا الكتاب هو مختصر لكتاب الخليل بن أحمد المسمى «العين» ، وهو من تأليف أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي بالتصغير، نسبة لقبيلة، أندلسي توفي سنة 379 هـ. ووهم الزركلي في «الأعلام» فعزاه إلى محمد مرتضى الزبيدي، بفتح الزاي، نسبة إلى البلد زبيد، فكيف يستشهد به السيوطي المتوفى سنة 911 هـ هنا وقد ولد محمد مرتضى الزبيدي سنة 1145 هـ؟!.(2/139)
العرب: (هيّ بن بيّ) لمن لا يعرف:
أن هيّا كان من ولد آدم فانقرض نسله.
قال ابن عسكر: وجميع أنساب بني آدم ترجع إلى شيث، وسائر أولاده انقضت أنسابهم من الطّوفان «1» .
وذكر بقي «2» بن مخلد: أن ودّا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا كانوا أولاد آدم من صلبه. حكاه ابن عسكر. وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة.
2- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ [الآية 27] .
قال مجاهد: هم الزّناة.
وقال السّدّي: اليهود والنّصارى.
أخرجهما ابن جرير «3» .
3- الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الآية 37] .
نزلت في كردم «4» بن زيد، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري «5» بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، حين أمروا رجالا من الأنصار بترك النفقة على من عند رسول الله (ص) ، خوف الفقر عليهم. أخرجه ابن جرير «6» عن ابن عباس.
4- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [الآية 44] .
سمّي منهم: رفاعة بن زيد بن التابوت. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس «7» .
__________
(1) . انظر نحو ذلك في «تاريخ الطبري» 1/ 153.
(2) . وبقي بن مخلد الأندلسي القرطبي: حافظ مصنف، له «تفسير» قال فيه ابن بشكوال: «لم يؤلّف مثله في الإسلام» . وله «مسند» قال ابن حزم فيه: روى عن ألف وثلاث مائة صحابي ونيف، ورتبه على أبواب الفقه فهو مسند ومصنف ليس لأحد مثله.
(3) . 5/ 19.
(4) . في النسخ المطبوعة: «كدوم» ، والمثبت من الخطيتين و «سيرة ابن هشام» 1/ 515.
(5) . في النسخ المطبوعة: «محرى» وما أثبته هو الصواب.
(6) . 5/ 55.
(7) . و «الطبري» 5/ 74.(2/140)
وأخرج عن عكرمة: أنها نزلت في رفاعة، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن أبي رافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب.
5- يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا [الآية 47] .
قال السّدّي: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك بن الضّيف «1» .
وقال عكرمة: في كعب بن الأشرف، وعبد الله بن صوريا.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
6- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [الآية 49] .
قال قتادة، والضّحّاك، والسّدّي: هم اليهود. أخرجه ابن جرير «2» .
7- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [الآية 51] .
نزلت في كعب بن الأشرف. كما أخرجه أحمد من حديث ابن عبّاس «3» .
8- أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [الآية 54] .
أخرج ابن جرير «4» عن عكرمة قال:
«الناس» في هذا الموضع: النبيّ (ص) خاصّة.
9- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا [الآية 60] .
نزلت في الجلاس بن الصّامت، ومعتّب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر. أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس «5» .
10- أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [الآية 60] .
هو أبو برزة الأسلمي الكاهن.
أخرجه الطّبرانيّ «6» من طريق عكرمة، عن ابن عباس.
__________
(1) . انظر «الطبري» 5/ 78.
(2) . 5/ 80- 81. [.....]
(3) . لم أجده في مطبوعة «المسند» لأحمد وانظر «الطبري» 5/ 84 و «أسباب النزول» للواحدي: 114- 115، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 6 مضافا إلى كعب: «وحيي بن أخطب» . وقال: «رواه الطبراني، وفيه يونس بن سليمان الحجال، لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح» .
(4) . 5/ 87.
(5) . بسند ضعيف. وجاء في ق «قريش» بدلا من «قشير» ، كما سقطت «العوفي» منها.
(6) . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 6 وقال: ورجاله رجال الصحيح.(2/141)
أو: كعب بن الأشرف. أخرجه ابن أبي حاتم «1» عن طريق العوفي عن ابن عباس.
11- فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [الآية 65] .
أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيّب قال: نزلت في الزّبير بن العوّام، وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء فقضى النبي (ص) للزبير «2» .
12- ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ [الآية 66] .
قال النبيّ (ص) ، وأشار إلى عبد الله بن رواحة،: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» . أخرجه ابن أبي حاتم.
13- وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [الآية 72] .
قال مقاتل: هو عبد الله بن أبيّ.
أخرجه ابن أبي حاتم وغيره.
14- مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [الآية 75] .
قالت عائشة: هي مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم «3» .
15- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [الآية 77] .
سمّي منهم: عبد الرحمن بن عوف.
أخرجه النّسائي، والحاكم من حديث ابن عباس «4» .
16- بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [الآية 81] .
قال الضّحّاك: هم أهل النّفاق.
أخرجه ابن جرير «5» .
17- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [الآية 90] .
__________
(1) . بسند ضعيف.
(2) . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 6 وقال: «رواه الطبراني» وفيه يعقوب بن حميد، وثقه ابن حبان، وضعّفه غيره» انتهى وانظر تخريجا وافيا له في «تفسير ابن كثير» 1/ 520.
(3) . وأخرجه «الطبري» 5/ 107، عن مجاهد والسّدّي وابن عباس.
(4) . «النسائي» 6/ 3، و «ابن جرير» 170- 171، والحاكم في «المستدرك» 2/ 307 وقال: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وأقره الذهبي» . وذكر ابن جرير الطبري قولا آخر، أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في اليهود.
(5) . 5/ 113.(2/142)
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي، وفي خزيمة «1» بن عامر بن عبد مناف.
18- سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ [الآية 91] .
قال مجاهد: هم أناس من أهل مكة «2» .
وقال قتادة: حيّ كانوا بتهامة.
وقال السّدّي: جماعة، منهم نعيم بن مسعود الأشجعي.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
19- وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [الآية 94] .
المقول له ذلك، وهو المسلّم:
عامر بن الأضبط الأشجعي. أخرجه أحمد «3» ، من حديث عبد الله بن أبي حدرد. وفيه: أن القائلين له «لست مؤمنا» نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة، ومحلّم بن جثّامة.
وعند ابن حرير «4» من حديث ابن عمر: أن القائل هو محلّم، وهو الذي قتله.
وعند البزّار «5» من حديث ابن عبّاس: أن القائل هو المقداد بن الأسود.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن الزبير، عن جابر والثّعلبي «6» من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن
__________
(1) . كذا في «الطبري» 5/ 124، والأثر فيه عن عكرمة لا عن ابن عباس كما هو هنا.
(2) . انظر «تفسير الطبري» 5/ 127.
ووقع في «ق» : «بني جذيمة» وفي «خ» : «بني خذيمة» .
(3) . في «المسند» 6/ 11، وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 8 وقال: «رواه أحمد والطبراني، ورجاله ثقات» .
(4) . 5/ 140.
(5) . «كشف الأستار عن زوائد البزار» برقم: (2202) ، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 7/ 8: «إسناده جيد» . [.....]
(6) . الثعلبي: أحمد بن محمد، مفسر من أهل نيسابور، له اشتغال بالتاريخ، له «عرائس المجالس» في قصص الأنبياء، فيه رزايا وبلايا، وله «الكشف والبيان في تفسير القرآن» (توجد أجزاء خطية منه في دار الكتب المصرية والأزهرية) . قال ابن تيمية فيه: «لقد أجمع أهل العلم بالحديث أنه يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة.. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي والنقاش والواحدي، وأمثال هؤلاء المفسرين، لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا بل موضوعا» توفي المترجم عام 427 للهجرة.(2/143)
عباس «1» : أن اسم المقتول: مرداس.
زاد ابن عباس: واسم القاتل:
أسامة بن زيد.
20- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [الآية 97] .
سمّى عكرمة منهم: عليّ بن أميّة بن خلف، والحارث بن زمعة، وأبا «2» قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا العاص بن منبّه «3» بن الحجاج، وأبا قيس بن الفاكه. أخرجه ابن أبي حاتم، وعبد «4» .
21- إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [الآية 98] .
قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين. أخرجه البخاري «5» .
وسمّي منهم في حديث آخر «6» :
عيّاش بن أبي ربيعة، [والوليد] «7» وسلمة بن هشام.
22- وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الآية 100] .
نزلت في ضمرة «8» بن جندب.
أخرجه أبو يعلى بسند رجال ثقات عن ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: أنّه أبو ضمرة بن العيص.
وأخرج عبد عنه قال: هو رجل من خزاعة يقال له: ضمرة بن العيص.
__________
(1) . سبق في رقم (80) بيان أن هذا الإسناد من أوهى الأسانيد.
وقد سقط من النسخ المطبوعة حتى: «زاد ابن عباس» .
(2) . زيادة من «سيرة ابن هشام» 1/ 641 و «جمهرة النسب» 1/ 126.
(3) . وقع في «السيرة» : «العاص» وهو مخالف لما في «تفسير الطبري» وغيره.
(4) . و «الطبري» 5/ 148.
وعبد هو ابن حميد، صاحب «التفسير المسند» .
وانظر في ذكر هؤلاء الفتية «سيرة ابن هشام» 1/ 641.
(5) . برقم (4587) في كتاب التفسير، والطبري في «تفسيره» 5/ 149.
(6) . أخرجه «الطبري» 5/ 150.
(7) . زيادة من «الطبري» و «الدر المنثور» وهو ابن الوليد بن المغيرة، كما في «سيرة ابن هشام» 1/ 321، وكان من خيار المسلمين، كما في «جمهرة النسب» 1/ 126.
(8) . اختلف في اسمه وانظر في (جندع بن ضمرة) من «الإصابة» .(2/144)
وأخرج عن قتادة قال: يقال له سبرة.
وعن عكرمة قال: هو رجل من بني ليث. وأخرج ابن جرير «1» عن سعيد بن جبير قال: هو رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الزبير:
أنها نزلت في خالد بن حزام، هاجر إلى الحبشة فمات في الطريق.
وهو غريب جدّا! وقيل: هو أكثم بن صيفي. أخرجه أبو حاتم في «كتاب المعمّرين «2» » من طريقين عن ابن عباس، والأموي «3» في «مغازيه» عن عبد الملك بن عمير.
23- وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [الآية 105] .
هم بنو أبيرق: بشر، وبشير «4» ، ومبشّر. أخرجه الترمذي «5» ، من حديث قتادة بن النعمان.
24- ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[الآية 112] .
عنى به: لبيد بن سهل، كما في حديث الترمذي «6» .
وقيل: عنى به زيد بن السمين رجلا من اليهود. أخرجه ابن جرير «7» عن قتادة، وعكرمة، وابن سيرين.
25- لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
[الآية 113] .
هم أسير «8» بن عروة، وأصحابه.
كما في حديث الترمذي «9» .
__________
(1) . 5/ 151.
(2) . أبو حاتم: هو سهل بن محمد السجستاني، من كبار العلماء باللغة والشعر في البصرة، توفي سنة 248 هـ.
(3) . هو الوليد بن مسلم، عالم الشام في عصره، ومن حفاظ الحديث، له سبعون تصنيفا في الحديث والتاريخ يعزّ وجودها الآن و «مغازيه» هي في حكم المفقود من تراثنا، توفي سنة 195 هـ.
(4) . في «سيرة ابن هشام» 1/ 524 بفتح الباء. وقال الدارقطني: انما هو «بشير» بضم الباء.
(5) . برقم (3039) ، والحاكم، و «الطبري» 5/ 169- 170، وبنو أبيرق هم بطن من الأنصار من الأزد من القحطانية، كما في «معجم قبائل العرب» 1/ 4، [.....]
(6) . انظر «الترمذي» رقم: (3039) .
(7) . 5/ 173.
(8) . ق و «الإتقان» 2/ 149: «أسيد» . وكذا في نسخة من «سنن الترمذي» كما في التعليق عليه 8/ 206.
(9) . انظر الترمذي: (3039) .(2/145)
26- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [الآية 137] .
قال أبو العالية: هم اليهود، والنّصارى.
وقال ابن زيد: هم المنافقون. أخرج ذلك ابن جرير «1» .
28- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[الآية 142] .
قال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النّعمان. أخرجه ابن جرير «2» .
29- لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [الآية 143] .
قال مجاهد: لا إلى أصحاب محمد [ص] «3» ولا إلى [هؤلاء] اليهود.
وقال ابن جريج: لا إلى أهل الإيمان، ولا إلى أهل الشرك «4» أخرجهما ابن جرير «5» .
30- يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [الآية 153] .
سمّى منهم ابن عسكر: كعب ابن الأشرف، وفنحاص.
31- وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [الآية 157] .
أخرج ابن جرير «6» عن ابن إسحاق:
أن الذي ألقى عليه شبهه رجل من الحواريين، اسمه سرجس.
32- لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [الآية 162] .
قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام، وأصحابه. أخرجه ابن أبي حاتم «7» .
__________
(1) . 5/ 210.
(2) . 5/ 214- 215.
(3) . زيادة من «الطبري» .
(4) . 5/ 216.
(5) . ووقع في «الإتقان» 2/ 149 تفسير مبهم قوله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [الآية 127] ولم يأت به المؤلف هنا. قال في «الإتقان» «سمي من المستفتين: خولة بنت حكيم» .
(6) . 6/ 11.
(7) . قال السيوطي في «الدر المنثور» 2/ 246: أخرج ابن إسحاق، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس في قوله:
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [الآية 162] قال: نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، حين فارقوا يهود وأسلموا.(2/146)
33-ْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[الآية 172] .
أخرج ابن جرير «1» عن الأجلح «2» قال: قلت للضّحّاك: ما المقرّبون؟
قال: أقربهم إلى السماء الثانية.
34- يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [الآية 176] .
المستفتي: هو جابر بن عبد الله.
كما أخرجه الأئمة الستة من حديثه «3» .
__________
(1) . 6/ 26.
(2) . أجلح بن عبد الله: صدوق: شيعي، مات سنة 145 هـ. ووقع في النسخ المطبوعة «الأصلح» !.
(3) . البخاري (6743) ونحوه (4577) ، ومسلم (1616) ، وأبو داود: (2886) ، والترمذي (2098) وابن ماجة (2728) وأحمد، والحميدي في «مسنده» (1229) وابن خزيمة في «صحيحه» (106) ، والطبري 6/ 28، وانظر: «اسباب النزول» للواحدي: 139، وانظر حول شرح الحديث: «معالم السنن» للخطابي 3/ 309، و «شرح صحيح مسلم» للنووي 4/ 138، و «فتح الباري» 12/ 25، و «شرح ثلاثيات مسند أحمد» للسّفّاريني 1/ 203. [.....](2/147)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النساء»
«1» 1- قال تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) .
أقول: إن استعمال «الأكل» بمعنى الإفادة، والانتفاع، والاستحواذ على الشيء ولا سيما ما يدعى «مالا» ورد غير مرة، ومن ذلك:
قال تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) [الفجر] .
وقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ [الآية 161] .
ومن المفيد أن نشير إلى أن مادة «الأكل» ما زالت تستعمل هذا الاستعمال، على سبيل الاتساع في العربية المعاصرة، فصيحة، ودارجة.
2- قال تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [الآية 12] .
قال الزمخشري «2» : ... فإن قلت:
ما الكلالة؟ قلت: يطلق على ثلاثة:
على من لم يخلّف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلّفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد.
ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ، وما كفّ عن جبن.
والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء، قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقي محمّدا
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . «الكشاف» ، 1/ 485.(2/149)
فاستعيرت للقرابة من جهة الوالد والولد ...
أقول: واستعمال «الكلالة» في باب الإرث، وانصرافها إلى مخصوص بعلاقة وقرابة خاصة كما نصّوا على ذلك، بيان في أن لغة القرآن العزيز تمكنت من هذه العربية وحوّلت طائفة منها إلى المصطلح الفني بعد أن كانت لغة لا تشتمل على هذا النوع من المعجم الاصطلاحي الفني.
3- وقال تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) .
لقد ورد الفعل «أعتدنا» بهذه الصيغة المسندة إلى ضمير المتكلمين ثلاث عشرة مرة في آيات القرآن، كما ورد «أعتدت» مع تاء التأنيث في قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف/ 31] .
ونريد أن نقف وقفة خاصة على هذا الفعل.
قالوا: أعتد الشيء: أعدّه، وقوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، أي:
هيّأت وأعدّت.
وقوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [الآية 37] ، أي: هيّأنا.
والعتاد: العدّة، وما تعدّه لأمر مّا وتهيّئه له.
يقال: أخذ للأمر عدّته وعتاده، أي:
أهبته وآلته.
والعتاد: ما أعدّه الرجل من السلاح والدّوابّ وآلة الحرب.
أقول: لم يبق من هذه المادة الواسعة إلا العتاد في اللغة المعاصرة:
ويراد بها السلاح على اختلاف أنواعه، وما يتصل بالسلاح من أجزاء ولواحق.
كأن هذه الكلمة قد ضاقت رقعتها حتى قيّدت بهذه الخصوصية. ولم يبق شيء من استعمال الفعل «أعتد» في العربية المعاصرة.
4- وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [الآية 25] .
وردت كلمة الطّول في آيتين أخريين هما:
اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ [التوبة/ 86] .
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر/ 3] .(2/150)
قال الزجاج «1» في تفسير الطّول في [الآية 25 من آل عمران] :
معناه من لم يقدر منكم على مهر الحرّة، قال: والطّول: القدرة على المهر.
وقوله تعالى: ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [غافر/ 3] ، أي: ذي القدرة.
وقيل: الطّول: الغنى.
وقيل: الطّول: الفضل، يقال:
لفلان عليّ طول، أي: فضل.
أقول: أفادت العربية من كلمة «الطّول» ضد «العرض» فوائد كثيرة، أفعالا، ومصادر، وصيغا أخرى. وإن نظرة وافية إلى هذه المادة، في المعجم، لتهدي إلى القدر الكبير من الفوائد، التي حفلت بها لغة العرب من هذه المادة، اعتمادا على تغيير الأصوات القصيرة (الحركات) .
ألا ترى أنهم قالوا: طويل ثم طوال للمبالغة.
وأنهم قالوا: طول للحبل الطويل جدا كما في قول طرفة:
لعمرك إنّ الموت، ما أخطأ الفتى، ... لكالطّول المرخى وثنياه باليد
ومن المفيد أن نجد «التطاول» ، بمعنييه الحسي والعقلي، فندرك كم أفادت العربية من الأصول المادية الأولى، ففرّعت المعاني، وشقّقت الصيغ.
5- وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ [الآية 38] .
أريد أن أقف على «الرّئاء» ، وهو مصدر كالمراءاة، مثل السّباق والمسابقة، ويراد به الذين ينفقون أموالهم تظاهرا وزهوا.
وفي الرّئاء خداع وكذب، وهذا كقوله تعالى أيضا:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ [الأنفال/ 47] .
أقول: وهذا المصدر الصريح هو الذي تحول إلى «الرياء» ، واكتسب خصوصية معنوية نعرفها في الاستعمال.
وليس «الرياء» اسما كما ورد في «اللسان» ، بل هو المصدر نفسه كالمراءاة، وهو مقلوب «الرّئاء» وقد صير إلى هذا القلب التماسا للخفة، وهو كالقلب في آبار وآرام، والأصل
__________
(1) . «اللسان» (طول) .(2/151)
أبآر وأرءام. إن هذه الخفة لا تتحقق في اجتماع الهمزة مع المدّ (آ) .
وبسبب من القلب، حدث تطور في الدلالة، ألا ترى أن استعمال «رئاء» يختلف قليلا في الدلالة عن استعمال «رياء» ؟
6- وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [الآية 43] .
أقول: الأصل في «التيمّم» القصد.
ومنه قوله تعالى:
وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة/ 267] .
أي: ولا تقصدوا المال الرديء تخصّونه بالإنفاق.
أما «التيمّم» في سورة النساء، وفي الآية 43، فهو شيء آخر، وهو أمر من الله، جل وعلا، خصّ به المرضى، والذين كانوا عابري سبيل، أو من جاء من الغائط، أو لامس النساء، وطلب إليهم أن يتيمّموا بالتراب إن لم يجدوا ماء يتطهّرون به.
ولا بد أن نرجع إلى تاريخ الكلمة في مسيرتها وتطورها.
عرفنا أن التّيمّم هو القصد، وهذا يعني أنه صيغة أخرى لكلمة «الأمّ» ، (بفتح الهمزة) ، ومن هنا كان أصحاب المعجمات القديمة على حق في إدراج كلمة «التيمّم» في مادة «أمم» لأن المعنى واحد وهو القصد.
وجاء في كتب اللغة «1» :
وتيمّمته: قصدته. وفي حديث ابن عمر: من كانت فترته إلى سنّة فلأمّ ما هو، أي: قصد الطريق المستقيم، يقال: أمّه يؤمّه أمّا وتأمّمه وتيمّمه.
قال: ويحتمل أن يكون الأمّ (بفتح الهمزة) ، بمعنى المأموم، أي: هو على طريق ينبغي أن يقصد.
ومنه الحديث: كانوا يتأمّمون شرار ثمارهم في الصدقة، أي: يتعمّدون ويقصدون، ويروى: يتيمّمون، وهو بمعناه.
ومنه حديث كعب بن مالك:
وانطلقت أتأمّم رسول الله (ص) .
وقال ابن السكيت في قوله تعالى:
__________
(1) . انظر «اللسان» (مادة أمم) .(2/152)
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، أي: اقصدوا لصعيد طيّب، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمّم علما لمسح الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن سيده: التّيمّم التّوضّؤ بالتراب على البدل، وأصله من الأول، (يريد التأمّم) ، لأنه يقصد التراب فيتمسّح به. أقول: هذا طريق مسيرة الكلمة في تحولها من «القصد» العام الى المصطلح الفنّي بحيث صار التيمم، لدى الخاصة والعامة، التمسّح بالتراب. ولا بد من فائدة أخرى هي:
أن «الأمّ» ، (بفتح الهمزة) ، و «اليمّ» ، وكلاهما يعني القصد، أصلهما البعيد هو الظرف «أمام» ، وبشيء من لطف الصنعة، كما قالوا، صير إلى القصد فكأن من «يؤمّ» ، يذهب إلى «أمام» في الأصل ثم اتسع فيه.
وأرى أن «الإمام» ، وهو من يؤتمّ به، يلمح إلى هذا الأصل البعيد وهو الظرف «أمام» ، وكذلك الإمامة من غير شك.
وأسماء الجهات أمدّت العربية بطائفة كبيرة من المواد النافعة، ألا ترى أن «خلف» ، قد جاء منها الفعل «خلف» بفوائده الكثيرة، وصيغه المختلفة، ومن غير شك أن «الخليفة» ، و «الخلافة» من هذا.
ولا تحسبن كلمات «الخلف» ، و «الخلاف» ، و «الاختلاف» بعيدة عن الظرف «خلف» .
وإذا قلنا هذا، فإنما نقول مثله في «وراء» ، وليست التورية والمواراة إلا من هذا الظرف المكاني.
وهذا باب واسع لو استوفيته لتهيأ منه مجموع ظريف لطيف.
7- وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [الآية 66] .
أريد أن أشير إلى أن الآية الكريمة جعلت الخروج من الديار من الأمور الكبيرة التي تأتي بعد قتل النفس، فإذا كان قتل النفس عسيرا صعبا، لا يقدم عليه الإنسان إلا في أحوال نادرة، فإن الخروج من الديار من أشق الأمور على الإنسان.
8- وقال تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ [الآية 73] .
ليس من شيء في هذه الآية الكريمة(2/153)
يدفعني إلى وقفة خاصة، إلا استعمال «لئن» .
قال النحاة: إن اللام موطئة للقسم، وهذا يعني أن الجواب في هذه الجملة الإنشائية ينبغي أن يكون جوابا للقسم، وإذا كان جوابا للقسم فقد يكون مؤكدا بالنون إن كان مثبتا مستقبلا مقترنا بلام القسم كما هي الحال في الآية نفسها لَيَقُولَنَّ.
أقول: وعلى هذا جرى الأسلوب القرآني وذلك في قوله تعالى:
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي [فصّلت/ 50] .
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم/ 46] .
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم/ 7] .
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم/ 7] .
وآيات أخرى جرت على هذا الأسلوب، وهو كون الجواب للقسم لا للشرط. وعلى هذا جرى أسلوب الفصحاء في الجاهلية والإسلام، حتى إذا جاء العصر العباسي، وجدنا تحوّلا عن هذا الأسلوب وهو كون الجواب للشرط بدليل اقترانه بالفاء. ومن الشعراء العباسيين الذين جروا على هذا الأسلوب أبو نواس، والسّريّ الرفّاء، ومسلم بن الوليد، والشريف الرّضي وغيرهم. ولكننا نجد أبا تمام والمتنبي قد اتبعا الأسلوب الفصيح الذي استقريناه في الآيات الكريمة، على أننا نجد البحتري قد اتبع الأسلوبين، وها نحن نعرض نماذج من أقوال أبي تمام والشريف الرضي والبحتري.
قال أبو تمام من قصيدة يمدح بها حبيش بن المعافى «1» :
لئن ظمئت أجفان عين إلى البكا، ... لقد شربت عيني دما فتروّت
وقال من قصيدة يمدح بها الفضل بن صالح الهاشمي «2» :
لئن قليبك جاشت بالسماحة لي ... لقد وصلت بشكري حبل مائحها
__________
(1) . «ديوان أبي تمام» (ط بيروت 1887) ص: 58.
(2) . المصدر السابق ص 69.(2/154)
وقال من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف الطائي «1» :
لئن عمّت بني حوّاء نفعا ... لقد خصّت بني عبد الحميد
ونجتزئ بذكر هذه الأبيات الثلاثة عن الكثير غيرها مما اتبع فيه الشاعر هذا الأسلوب، وهو جعل الجواب للقسم المتقدم المتمثل باللام الموطئة ولقد جرى المتنبي على هذا الأسلوب فقد قال من قصيدة في رثاء جدّته «2» :
لئن لذّ يوم الشامتين بموتها، ... لقد ولدت منّي لآنفهم رغما
وقال من مقطوعة في إنسان ينشده شعرا في وصف بركة «3» :
لئن كان أحسن في وصفها ... لقد ترك الحسن في الوصف لك
وقال من قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويعاتبه «4» :
لئن تركنا ضميرا عن ميامننا، ... ليحدثنّ لمن ودّعتهم ندم
على أن هذا هو الأسلوب الذي جرى عليه الجاهليون بدلالة ما ورد في الآيات المحكمات، وهو الأسلوب الذي جرى عليه الإسلاميون كعمر بن أبي ربيعة، وجميل، وكثيّر، وغيرهم، وها هو الفرزدق يخاطب جريرا فيقول:
لئن فركتك علجة آل زيد، ... وأعوزك المرقّق والصّناب
لقد ما كان عيش أبي ممرّا ... يعيش بما تعيش به الكلاب
وعلى ذلك سار جرير أيضا، فقال يرثي جبير بن عياض الكليبي «5» :
لعمري لئن خلّى جبير مكانه، ... لقد كان شعشاع العشية شيظما
وقال يهجو التيم «6» :
لئن سكنت تيم زمانا بغرّة، ... لقد حديت تيم حداء عصبصبا
__________
(1) . المصدر السابق ص 97.
(2) . «ديوان المتنبي» (شرح الواحدي، ط. اوربا) ص: 263.
(3) . المصدر السابق ص: 362.
(4) . المصدر السابق ص: 485.
(5) . الديوان ص: 516.
(6) . الديوان ص: 13.(2/155)
ومما ينسب إلى المجنون قوله «1» :
لئن كان يهدى برد أنيابها العلى ... لأفقر منّي، إنّني لفقير
وإذا عدنا إلى عصر بني العباس وجدنا ابن الرومي يتّبع الأسلوب الفصيح، فيقول مادحا أحمد بن ثوابة «2» :
لعمري لئن حاسبتني في مثوبتي ... بخفضي، لقد أجريت عادة حاسب
وقال من قصيدة في الحسن بن عبيد بن سليمان «3» :
أقسمت حقا: لئن طابت ثمارهم، ... لقد سرى عرفهم في أكرم التّرب
وقال أيضا من قصيدة يرثي بها يحيى بن عمر «4» :
لئن لم تكن بالهاشميين عاهة ... لما شكّكم، تالله، إلا المعلهج
على أننا نجد البحتري قد جرى على الأسلوب الفصيح كما جرى على خلافه، فقد قال من قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان «5» :
فلئن جحدت عظيم ما أوليتني ... إنّي إذا واهي الوفاء ضعيفه
وقال أيضا من قصيدة يمدح بها الخليفة المتوكل «6» :
لئن أضحت محلّتنا عراقا ... مشرّقة وحلّتها شآما
فلم أحدث لها إلّا ودادا ... ولم أزدد بها إلّا غراما
وقد جرى الشريف الرضي على الأسلوب الذي استحدث خطأ، فجرى عليه الكثير من المعربين.
قال الشريف من قصيدة يمدح بها أباه ويهنئه بعيد الأضحى «7» :
لئن أبغضت منّي شيب رأسي، ... فإنّي مبغض منك الشبابا
__________
(1) . «شروح سقط الزند» 3/ 1042.
(2) . «ديوان ابن الرومي» (ط. دار إحياء التراث، بيروت) ص: 276. [.....]
(3) . «ديوان ابن الرومي» (تحقيق حسين نصار) 1/ 192.
(4) . المصدر السابق 2/ 498.
(5) . «ديوان البحتري» (دار القاموس الحديث، بيروت) ص: 42.
(6) . المصدر السابق ص 18.
(7) . «ديوان الشريف» (مطبعة نخبة الأخبار) ص: 42.(2/156)
وقال أيضا من مقطوعة في النسيب «1» :
لئن كنت أخليت المكان الذي أرى ... فهيهات أن يخلو مكانك من قلبي
وبعد، فكيف هو الأسلوب في العربية المعاصرة؟
لا نعرف في العربية المعاصرة إلا الأسلوب الذي جرى على خلاف ما اشتهرت فصاحته، ودلت عليه لغة التنزيل العزيز، وذلك أن المعربين جروا على أن الأسلوب هو أسلوب الشرط، وأن الجواب فيه جواب للشرط فيقال:
ولئن فاتنا شيء من ذلك، فلم يفتنا ما هو ضروري.
وأنت تجد مثل هذا الأسلوب جاريا شائعا في كتابة الأديب وغير الأديب.
9- وقال تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [الآية 100] .
قالوا:
والمراغم: السّعة والمضطرب، وقيل: المذهب والمهرب في الأرض.
وقال الزّجّاج في قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً معنى مراغما مهاجرا، المعنى يجد في الأرض مهاجرا لأنّ المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة، وإن اختلف اللفظان، وأنشد:
إلى بلد غير نائي المحلّ ... بعيد المراغم والمضطرب
وقال: وهو مأخوذ من الرّغام وهو التراب.
ويقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلّة تلحقه بذلك، قال النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمذهب أقول: وأكبر الظن أن «المراغم» من كلم القرآن، ذلك أن البيت الذي أنشده أبو إسحاق لا نعرف من أمره ونسبته شيئا، والنابغة الجعدي شاعر إسلامي.
على أن هذا لا يمنع أن تكون الكلمة معروفة في العربية قبل الإسلام، ولكني أقول بأن الاستعمال القرآني خصص هذه اللفظة باسم المكان فجاءت على زنة اسم المفعول، وذلك جار في غير الثلاثي من الأفعال.
__________
(1) . المصدر السابق ص: 79.(2/157)
ثم إن الأصل في هذه الكلمة، كما قال الزجاج، هو «الرّغام» أي التراب.
وهنا نقول إن قولنا: أرغمت فلانا، أي: أجبرته وقهرته لمحا إلى أن «المرغم» في الأصل من مسّ جبهته التراب، وقد امّحت هذه الحقيقة التاريخية اللغوية فبقي الإجبار والقهر، وعلى هذا لا يكون «المراغم» اسم مكان بمعنى المهرب والمضطرب فحسب، بل يضاف إلى ذلك أنه المهرب الذي يضطرّ الإنسان إلى أن يلجأ إليه ويكره على سلوكه.
10- وقال تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [الآية 102] .
أقول: أشار الفعل «فلتقم» إلى أن الفاعل مؤنث وهو طائفة، وهذا يعني أن العربية تراعي اللفظ كثيرا. فلما كان لفظ الفاعل مؤنثا أشار الفعل إلى التأنيث بالتاء في أوله. حتى إذا أسند إلى الفاعل فعل بعده ظهرت المراعاة للأصل والمعنى، وذلك لأن الطائفة مجموع من الناس قد تكون مساوية ل «قوم» ، أو «جمع» ، أو شيء من هذا.
ومثل هذا قوله تعالى:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
(113) .
في مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وهذا كثير في القرآن وكثير في العربية الفصيحة ولا سيما القديمة.
ومراعاة اللفظ في العربية كثيرة، وقد تكون سمة من سمات الفصاحة، ومن ذلك مثلا أن كلمة «بعض» ، تدلّ على الواحد في شواهد كثيرة كما تدل على الجمع في شواهد أخرى. غير أن دلالتها على الواحد تأتي مراعاة للفظها الذي هو مفرد، قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ [الشعراء] .
وقوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ [التحريم/ 3] .
وقوله تعالى: وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف/ 10] .
وفي كلام الفصحاء وأشعار العرب الشيء الكثير من هذه الدلالة على الواحد لمراعاة اللفظ.
على أن مراعاة المعنى وهو الجمع كثيرة أيضا.
11- وقال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ(2/158)
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
(112) .
أقول: ورد «الكسب» في لغة التنزيل ودلالته عامة، ينصرف إلى الخير كما ينصرف إلى الشر.
قال الله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور] .
وقال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان/ 34] .
وقال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [البقرة/ 134] .
وقال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة/ 281] .
وقد اجتزأنا بهذه الآيات عن كثير مما يدخل في هذا الخصوص.
غير أننا نجد آيات كثيرة تشير إشارة واضحة إلى أن المراد ب «الكسب» هو الشرّ، ومن ذلك:
قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ [البقرة/ 81] .
وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم/ 41] .
وقال تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا [آل عمران/ 155] .
وقال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا [الآية 88] .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [يونس/ 27] .
كما يتحقق هذا المراد من الكلمة بانصرافها إلى الشرّ في آيات كثيرة أخرى.
وقد نجد «الكسب» في آيات عدّة يعني الخير المحض كقوله تعالى:
.... لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام/ 158] .
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [البقرة/ 267] .
ومثل «الكسب» «الاكتساب» في آيات الله فليس الفعل المزيد خاصا بفائدة معنوية تميزه، وعلى ذلك فهو ينصرف إلى الخير كما ينصرف إلى الشرّ.
قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور/ 11] .(2/159)
وقال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «1» [البقرة/ 286] .
ولكنك تجد «الاكتساب» دالا على الكسب الحلال في قوله تعالى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [الآية 32] .
أقول: في هذا العرض لهذه الآيات بيان في عموم اللفظ، وخصوصه لأداء المعنى، وقد يكون ذلك أجزى وأوفى من التخصيص والتقييد، وقد كنا أشرنا إليه.
12- وقال تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(172) .
والمعنى: لن يأنف المسيح، ولن يذهب بنفسه عزّة، من نكفت الدمع إذا نحّيته عن خدّك «2» .
وقال الأزهري: سمعت المنذريّ يقول: سمعت أبا العبّاس، وقد سئل عن الاستنكاف في قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
فقال: هو أن يقول: لا، وهو من النّكف والوكف.
يقال: ما عليه في ذلك الأمر نكف ولا وكف، فالنكف أن يقال له سوء.
واستنكف ونكف إذا دفعه وقال:
لا «3» .
وعند المفسرين: الاستنكاف والاستكبار واحد.
أقول: والفعل «استنكف» من الأفعال المستعملة في العربية المعاصرة، ولكن المعنى شيء آخر فيقال: استنكف فلان عن المشاركة في الأمر، أي: عدل وتنحّى، واستنكف عن «التصويت» في مجلس النواب، أي: عدل وانصرف.
ولكننا نجد هذا الفعل في العامية الدارجة في الحواضر العراقية مستعملا كما أشارت إليه الآية الكريمة، فابن
__________
(1) . قد يقال: إن الفعل المجرد في هذه الآية انصرف إلى الخير، في حين أن المزيد انصرف إلى الشر، وهذا صحيح، ولكني أقول: إن هذا الانصراف لم يكن من البناء في كل منهما، بل هو من استعمال حرف الخفض اللام في الأول، و «على» في الثاني كقوله: ما له وما عليه، واستقراء الآيات ينفي هذا الاختصاص المزعوم.
(2) . «الكشاف» 1/ 594.
(3) . «التهذيب» (نكف) .(2/160)
المدينة يقول: فلان يستنكف أن يشتغل سائقا لسيّارة، والمعنى يأنف ويذهب بنفسه عزّة.
وهذا من الغرائب اللغوية التاريخية وذلك أننا نجد جمهرة من الألفاظ الفصيحة القديمة قد عفا أثرها في الفصيحة المعاصرة، وبقيت في العامية على أنها استعمال دارج.(2/161)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النساء»
«1» قال تعالى: تَسائَلُونَ بِهِ [الآية 1] خفيفة لأنها من تساؤلهم فإنهم «يتساءلون» فحذفت التاء الأخيرة، وذلك كثير في كلام العرب نحو (تكلّمون) وان شئت ثقّلت فأدغمت «2» .
قال الله تعالى وَالْأَرْحامَ [الآية 1] منصوبة أي: اتقوا الأرحام «3» . وقرأ بعضهم وَالْأَرْحامَ جرّا «4» . والأوّل أحسن لأنك لا تجري الظاهر المجرور على المضمر المجرور.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) تقول من «الرقيب» : «رقب» «يرقب» «رقبا» و «رقوبا» .
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . هي في الطبري 7/ 517 قراءة أهل المدينة والبصرة، وفي السبعة 226 إلى ابن كثير ونافع وابن عامر، وإلى أبي عمرو في رواية وأجاز ابن عباس القراءتين، وفي الكشف 1/ 375، والتيسير 93 الى غير الكوفيين، وفي الجامع 5/ 2 الى أهل المدينة وفي معاني القرآن 1/ 253 بلا نسبة. أما قراءة عدم التثقيل ففي الطبري 7/ 517 هي قراءة بعض قراء أهل الكوفة وفي السبعة 226 إلى عاصم وحمزة والكسائي وإلى أبي عمرو وفي رواية أن ابن عباس أجاز القراءتين وفي الكشف 1/ 375 والتيسير 93 والجامع 5/ 2 والبحر 3/ 156 الى الكوفيين.
(3) . في السبعة 226 هي قراءة القراء كلّهم إلا حمزة وفي الكشف 1/ 375 والتيسير 93 كذلك وفي البحر 3/ 157 الى الجمهور وفي الجامع 5/ 4 الى النبي الكريم وفي معاني القرآن 1/ 252 والطبري 7/ 520 و 523 وحجة ابن خالويه بلا نسبة.
(4) . في معاني القرآن 1/ 252 الى أبي عمران ابراهيم بن يزيد النخعي الكوفي وفي السبعة 226 والكشف 1/ 375 والتيسير 92 إلى حمزة وفي الجامع 5/ 2 والبحر 3/ 157 إلى ابراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة وفي الطبري 7/ 519 وحجة ابن خالويه 92 بلا نسبة.(2/163)
وقال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ (2) أي: «مع أموالكم» إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [الآية 2] يقول: «أكلها كان حوبا كبيرا» .
قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [الآية 3] لأنه من «أقسط» «يقسط» . و «الإقساط» : العدل. واما «قسط» فإنّه «جار» قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
(15) ف «أقسط» : عدل و «قسط» : جار. قال وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) [الحجرات] .
وقال: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [الآية 3] يقول: «فانكحوا واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي:
انكحوا ما ملكت أيمانكم. وأما ترك الصرف في مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [الآية 3] فإنه معدول عن «اثنين» و «ثلاث» و «أربع» ، كما أن «عمر» معدول عن «عامر» فلم يصرف. وقال تعالى:
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر/ 1] بالنصب. وقال أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى [سبأ/ 46] فهو معدول كذلك، ولو سمّيت به صرفت، لأنه إذا كان اسما فليس في معنى «اثنين» و «ثلاثة» و «أربعة» . كما قال «نزال» حينما كان في معنى «انزلوا» وإذا سميت به رفعته.
قال الشاعر «1» [من الوافر وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائة] :
أحمّ الله ذلك من لقاء ... أحاد أساد في شهر حلال «2»
وقال «3» [من الطويل وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائة] :
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب «4» تبغّى الناس مثنى وموحدا «5»
وقال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
__________
(1) . هو عمرو ذو الكلب الكاهلي وكان جار الهذيل ديوان الهذليين 3/ 117 واللسان «حمم» وفي مجاز القرآن 1/ 115 إلى صخر الغي الهذلي. [.....]
(2) . في ديوان الهذليين ومجاز القرآن وشرح المفصّل لابن يعيش 1/ 62 وهامش المخصّص 17/ 124 صدره: منت لك ان تلاقيني المنايا وفي اللسان «حمم» وديوان الهذليين ب «الشهر الحلال» .
(3) . هو ساعدة بن جوية الهذلي ديوان الهذليين 1/ 237 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 15 والاقتضاب 467،
(4) . في الديوان واللسان «سباع» .
(5) . في الكتاب والتحصيل وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 62 و 8/ 57 وأدب الكاتب 458 والاقتضاب وشرح ابن الناظم 262 وشرح شواهد ابن الناظم والمقاصد النحوية والجامع والمرتجل 81 ب «موحد» مرفوعة.(2/164)
[الآية 3] يقول: «لينكح كلّ واحد منكم كلّ واحدة من هذه العدّة» كما قال تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور/ 4] يقول: «فاجلدوا كلّ واحد منهم» .
وقال: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [الآية 4] وواحد «الصّدقات» «1» صدقة وبنو تميم تقول: «صدقة» «2» ساكنة الدال «3» مضمومة الصاد.
وقال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [الآية 4] فقد يجري الواحد مجرى الجماعة لأنه إنّما أراد «الهوى» و «الهوى» يكون جماعة. قال الشاعر «4» [من الطويل وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائة] :
بها جيف الحسرى أمّا عظامها ... فبيض وأمّا جلدها فصليب «5»
وأما «هنيء مريء» «6» فتقول: «هنؤ هذا الطعام ومرؤ» و «هنيء ومريء» ، كما تقول: «فقه» و «فقه» يكسرون القاف ويضمونها. وتقول: «هنأني» و «هنئته» و «استمرأته» «7» .
وقال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [الآية 6] وقال: آنَسْتُمْ ممدودة. تقول: «آنست منه رشدا وخيرا» وآنَسْتُ ناراً [طه/ 10 والنمل/ 7] مثلها ممدودة وتقول: «أنست بالرّجل» «أنسا» . ويقال «أنسا» .
وقال تعالى: إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا [الآية 6] يقول لا تأكلوها مبادرة أن يشبّوا.
وقال تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ [الآية 7] إلى قوله في الآية نفسها نَصِيباً مَفْرُوضاً فانتصابه كانتصاب كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران/ 145] .
__________
(1) . في البحر 3/ 166 أن الجمهور على القراءة بفتح الصاد وضم الدال. وفي الكشاف 1/ 469 بلا نسبة.
(2) . في الشواذ 24 أنّ أبا السمال وقتادة قرءا بضم الصاد وسكون الدال واقتصر في الجامع 5/ 24 على قتادة وزاد في البحر 3/ 166 قوله «وغيره» وفي الكشاف 1/ 469 بلا نسبة.
(3) . نقله في اعراب القرآن 1/ 205.
(4) . هو علقمة بن عبدة. ديوانه 40 والكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 107 والاختيارين 652.
(5) . في شرح أبيات الفارقي 4/ 274 ب «القتلى» بدل «الحسرى» وفي الاختيارين «به» بدل «بها» .
(6) . الكلام على تتمة الآية في قوله تعالى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً.
(7) . في الصحاح «مرأ» : نقل هذا مع اختلاف يسير.(2/165)
وقال تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ [الآية 8] ثم قال: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ لأن معناه المال والميراث فذكّر على ذلك المعنى.
وقال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [الآية 9] لأنه يريد «وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية يخافون عليهم» أي: فلا يفعلنّ ذلك حتى لا يفعله بهم غيرهم «فليخشوا» أي «فليخشوا هذا» أي:
فليتّقوا. ثم عاد أيضا فقال: «فليتّقوا الله» .
وقال تعالى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) فالياء تفتح «1» وتضم «2» ها هنا وكل صواب. وقوله فِي بُطُونِهِمْ [الآية 10] توكيد.
وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [الآية 11] . فالمثل مرفوع على الابتداء وإنما هو تفسير الوصية كما قال:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) [المائدة] فسر الوعد يقول: «هكذا وعدهم» أي: قال «لهم مغفرة» . قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائة] :
عشيّة ما ودّ ابن عرّاء أمّه ... لها من سوانا إذ دعا أبوان
في قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً [الآية 11] ترك الكلام الأول وقيل: «إذا كان المتروكات نساء» نصب وكذلك قوله: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً [الآية 11] .
وقال تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [الآية 11] فهذه الهاء التي في «أبويه» ضمير الميت لأنه لما قال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [الآية 11] كان المعنى: يوصي الله الميت قبل
__________
(1) . في الطبري 8/ 29 هي قراءة عامة قراء المدينة والعراق وفي السبعة 227 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية وفي الكشف 1/ 378 والتيسير 94 الى غير أبي بكر وابن عامر وزاد عليهما في الجامع 5/ 54 عاصما وأبا حيوة وفي البحر 3/ 179 الى الجمهور وفي حجة ابن خالويه 95 بلا نسبة وذكر انها لغة وفي الكشاف 1/ 479 والإملاء 1/ 169 كذلك.
(2) . في الطبري 8/ 29 الى بعض المكيين وبعض الكوفيين وفي السبعة 227 الى ابن عاصم وفي رواية الى عاصم وفي الكشف 1/ 378 والتيسير والبحر 3/ 179 الى أبي بكر وابن عامر وأبدل في الجامع 5/ 53 عاصما بأبي بكر في رواية ابن عباس كذا وفي الكشاف 1/ 479 والإملاء 1/ 169 وفي حجة ابن خالويه 95 بلا نسبة وذكر في الأخير انها لغة.(2/166)
موته بأنّ عليه لأبويه كذا ولولده كذا.
أي: فلا يأخذنّ إلّا ماله.
وقال: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [الآية 11] ، فيذكرون أن الإخوة اثنان ومثله «إنّا فعلنا» وأنتما اثنان، وقد يشبه ما كان من شيئين وليس مثله، ولكن الاثنين قد جعلا جماعة [في] قول الله عز وجل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم/ 4] . وقال تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة/ 38] ، وذلك ان في كلام العرب: أن كل شيئين من شيئين فهما جماعة وقد يكون اثنين في الشعر قال الشاعر «1» [من الطويل وهو الشاهد السادس والستون بعد المائة] :
بما في فؤادينا من الشوق والهوى ... فيجبر منهاض الفؤاد المشعّف «2»
وقال الفرزدق «3» [من الطويل وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة] :
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على النّابح العاوي أشدّ لجام «4»
وقد يجعل هذا في الشعر واحدا.
قال «5» [من الرجز وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائة] :
لا ننكر القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا «6»
وقال الآخر «7» [من الوافر وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائة] :
__________
(1) . الشاعر هو الفرزدق همام بن غالب. الديوان 2/ 554 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 202. [.....]
(2) . عن الكتاب وفي الأصل المسقف وفي التحصيل المعذب.
(3) . هو همام بن غالب. وقد مرت ترجمته والبيت في ديوانه 2/ 771 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 83 و 202 والخزانة 2/ 269 و 3/ 346.
(4) . في الديوان تفلا بدل نفثا ولجامي بالياء وفي الكتاب والخزانة ب «رجام» بدل لجام والبيت في الإنصاف 1/ 191 وفي الصحاح فمو ب «رجام» ايضا مع نقله لهذه المعاني.
(5) . هو المسيب بن زيد مناة الغنوي كما في تحصيل عين الذهب 1/ 107 وهو الغنوي كذا في مجاز القرآن 2/ 195 وهو طفيل الغنوي في شرح الأبيات للفارقي 275، وليس في ديوان طفيل.
(6) . المصراع الأول في مجاز القرآن 2/ 195 ب «ان تقتلوا اليوم فقد شرينا» . وجاء المصراع الثاني في 1/ 79 و 2/ 44 وورد المصراع الثاني في البيان 1/ 52 و 2/ 447.
(7) . لم تفد المراجع شيئا في الشاعر. والشاهد في الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 108 ومعاني القرآن 1/ 307 و 2/ 102 والأمالي الشجرية 1/ 311 و 2/ 38 و 343 وهو في معاني القرآن والأمالي بلفظ «نصف» بدل «بعض» .(2/167)
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص
ونظير هذا قوله: «تسع مائة» وانما هو «تسع مئات» أو «مئين» فجعله واحدا، وذلك ان ما بين العشرة إلى الثلاثة يكون جماعة نحو: «ثلاثة رجال» و «عشرة رجال» ثم جعلوه في «المئين» واحدا.
وقال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها [الآية 11] «1» فقد ذكر الرجل حين قال في الآية نفسها: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ وقرأ بعضهم يُوصِي «2» وكلّ حسن.
ونظير يُوصِي بالياء قوله تعالى:
تُوصُونَ [الآية 12] ويُوصِينَ [الآية 12] حين ذكرهن، واحتج الذي قرأ يُوصِي بالياء بنصبه وصيّة في قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [الآية 12] ونصب فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [الآية 11] كما نصب كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران/ 145] . وقرئ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [الآية 12] «3» ولو قرئت (يورث) «4» كان جيدا. وتنصب كَلالَةً وقد ذكر عن الحسن «5» ، فإن شئت نصبت كلالة على خبر كانَ وجعلت يُورَثُ من صفة الرجل، وإن شئت جعلت كانَ تستغني عن الخبر نحو «وقع» ، وجعلت نصب كَلالَةً على الحال أي: «يورث كلالة» كما تقول: «يضرب قائما» «6» ،
__________
(1) . في المصحف يوصي بكسر الصاد والقراءة بالألف المقصورة بالتاء للمجهول في الطبري 8/ 47 الى بعض أهل مكة والشام والكوفة وفي السبعة 228 الى ابن عامر وابن كثير وعاصم وفي الكشف 1/ 380 الى ابن كثير وابن عامر وابي بكر وكذلك في التيسير 94 وفي الجامع 5/ 73 الى ابن كثير وابي عمرو وابن عامر وعاصم في اختلاف عنه. وفي البحر 3/ 186 الى الابنين وابي بكر وفي حجة ابن خالويه 96 بلا نسبة.
(2) . في الطبري 8/ 47 و 48 قراءة أهل المدينة والعراق وفي السبعة 228 الى نافع وابي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم وفي الكشف 1/ 380 الى غير من ذكرهم في القراءة الأولى وكذلك فعل في التيسير 94 والبحر 3/ 186 وفي الجامع 5/ 73 انها اختيار ابي حاتم وابي عبيدة وفي حجة ابن خالويه 96 بلا نسبة.
(3) . في الطبري 8/ 53 قراءة عامة قراء أهل الإسلام. وفي البحر 3/ 189 الى الجمهور وفي الجامع 5/ 77 بلا نسبة وفي المشكل 1/ 192 والكشاف 1/ 485 والبيان 1/ 245 والإملاء 1/ 170 بلا نسبة.
(4) . في الطبري 8/ 53 الى بعضهم وفي البحر 3/ 189 الى الحسن وزاد في الجامع 5/ 77 أيوب وفي الشواذ 25 قصرها على الأعمش.
(5) . هو الحسن البصري. وقد مرت ترجمته قبل وانظر الهامش السابق.
(6) . نقل هذه الآراء في اعراب القرآن 1/ 210 مع تقديم وتأخير فيها.(2/168)
قال الشاعر «1» في «كان» التي لا خبر لها [من الطويل وهو الشاهد السبعون بعد المائة] :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «2»
في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا [الآية 12] يريد من المذكورين. ويجوز ان نقول للرجل إذا قلت: «زيد أو عمر منطلق» : «هذان رجلا سوء» أي:
اللذان ذكرت.
قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [الآية 22] لأن معناه: فإنكم تؤخذون به. فلذلك قال: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، أي: فليس عليكم جناح «3» .
ومثل هذا في كلام العرب كثير، تقول: «لا نصنع ما صنعت» «ولا نأكل ما أكلت» .
وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [الآية 25] على «ومن لم يجد طولا أن ينكح» يقول: «إلى أن ينكح» : لأن حرف الجر يضمر مع «أن» .
وقال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [الآية 25] برفع بَعْضُكُمْ على الابتداء.
وقال جل شأنه: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [الآية 25] : لأن «الأهل» جماعة ولكنه قد يجمع فيقال: «أهلون» ، كما تقول:
«قوم» و «أقوام» فتجمع الجماعة وقال كما في قوله تعالى: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الفتح/ 11] ، بالجمع وقال:
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم/ 6] فهذه الياء ياء جماعة فلذلك سكّنت، من هنا نصبها وجرّها بإسكان الياء، وذهبت النون للاضافة.
وقال تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [الآية 25] أي: «والصبر خير لكم» .
وقال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [الآية 26] أي: «وليهديكم» ومعناه: يريد كذا وكذا ليبين لكم. وإن
__________
(1) . هو مقاس مسهر بن النعمان العائذي الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 21 وشرح ابن يعيش 7/ 98.
(2) . البيت في المصادر السابقة وهو في شرح الأبيات للفارقي 235 بلا نسبة. [.....]
(3) . نقله في البحر 3/ 208.(2/169)
شئت أوصلت الفعل باللام الى «أن» المضمرة بعد اللام نحو: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) [يوسف] وكما قال وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى/ 15] ، فكسر اللام أي: أمرت من أجل ذلك.
وقال تعالى: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) لأنها من «أدخل» «يدخل» : والموضع من هذا مضموم الميم لأنه مشبه ببنات الأربعة «دحرج» ونحوها. ألا ترى أنّك تقول: «هذا مدحرجنا» ، فالميم، إذا جاوز الفعل الثلاثة، مضمومة. قال أميّة بن أبي الصلت «1» [من البسيط وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائة] :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا «2»
لأنه من «أمسى» و «أصبح» . قال تعالى رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء/ 80] . وتكون الميم مفتوحة إن شئت إذا جعلته من «دخل» و «خرج» . وقال سبحانه إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) [الدخان] ، إذا جعلته من «قام» «يقوم» ، فإن جعلته من «أقام» «يقيم» قلت: «مقام أمين» .
وحذفت الياء كما تحذف من رؤوس الآي نحو: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) [ص] يريد «عذابي» . وأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) [الواقعة] ، فإنما قرئ بكسر الظاء في (فظلتم) ، على اعتبار أن أصله «ظللتم» . فلما ذهب أحد الحرفين استثقالا حولت حركته إلى الظاء. قال أوس بن مغراء «3» [من البسيط وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائة] :
مسنا السّماء فنلناها وطالهم ... حتّى رأوا أحدا يهوي وثهلانا «4»
لأنها من «مسست» والقراءة المثبتة في المصحف الشريف هي: فَظَلْتُمْ بترك الظاء على فتحتها وحذف إحدى اللامين. وهذا الحذف ليس بمطّرد،
__________
(1) . الشاعر الجاهلي المعروف. انظر ترجمته وأخباره في الأغاني 3/ 186 و 16/ 71. وطبقات الشعراء 1/ 262 والشعر والشعراء 1/ 459.
(2) . الشاهد في الديوان 516 والكتاب وتحصيل عين الذهب 2/ 250 ومعاني القرآن 1/ 264 والخزانة 1/ 120 وشرح المفصل لابن يعيش 6/ 50 و 53 «صدره» .
(3) . هو أوس بن مغراء. طبقات الشعراء 2/ 572 والشعر والشعراء 2/ 687.
(4) . البيت في الصحاح «مس» والتهذيب «مس» 2/ 325 واللسان «مسس» وفيه «وطاء لهم» .(2/170)
وإنما حذف من هذه الحروف التي ذكرت لك خاصة ولا يحذف إلّا في موضع، لا تحرك فيه لام الفعل، فأمّا الموضع الذي تحرك فيه لام الفعل فلا حذف فيه.
وقال تعالى: شِقاقَ بَيْنِهِما [الآية 35] فأضاف إلى البين لأنه قد يكون اسما كما في قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام/ 94] «1» بالضم. ولو قرئ (شقاقا بينهما) في الكلام فجعل البين ظرفا كان جائزا حسنا. ولو قرأت (شقاق بينهما) تريد «ما» وتحذفها جاز، كما تقرأ، في النسخة الموحّدة:
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تريد «ما» التي تكون في معنى شيء. وقال تعالى تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران/ 64] . وتقول «بينهما بون بعيد» تجعلها بالواو وذلك بالياء. ويقال: «بينهما بين بعيد» بالياء.
وقال تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ [الآية 36] «2» وقرأ بعضهم (الجنب) «3» وقال الراجز [وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائة] :
الناس جنب والأمير جنب «4» يريد ب «جنب» : الناحية «5» . وهذا هو المتنحي عن القرابة فلذلك قال «جنب» و «الجنب» أيضا: المجانب للقرابة ويقال: «الجانب» أيضا «6» .
وأما وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [الآية 36] فمعناه: «هو الذي بجنبك» ، كما تقول «فلان بجنبي» و «إلى جنبي» .
قال تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) أي: لا تكتمه الجوارح أو
__________
(1) . وهي في معاني القرآن 1/ 345 قراءة حمزة ومجاهد وفي السبعة 263 أهمل مجاهدا وزاد أبا عمرو وابن عامر وابن كثير وعاصما في رواية وفي الكشف 1/ 440 الى غير نافع والكسائي وزاد في التيسير 105 استثناء حفص وزاد في الجامع 7/ 43 استثناء ابن مسعود وفي البحر 4/ 182 إلى الجمهور وفي الطبري 1/ 549 الى قراء مكة والعراقيين وفي حجة ابن خالويه 120 بلا نسبة.
(2) . وهي في السبعة 233 الى القراء كلهم إلا عاصما وفي الجامع 5/ 183 ان ابن عباس تأول بها.
(3) . في السبعة 233 والشواذ 26 الى عاصم وفي البحر 3/ 245 اليه في رواية المفضل عنه وفي الجامع 5/ 183 الى المفضل والأعمش.
(4) . المصراع في الصحاح واللسان «جنب» مرويا عن الأخفش وفي التهذيب «جنب» 11/ 122 مرويا عن الليث.
(5) . نقله في الصحاح واللسان «كما سبق» . والجامع 5/ 192.
(6) . نقله في اعراب القرآن 1/ 220 و 221.(2/171)
يقول: «لا يخفى عليه وإن كتموه» .
وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [الآية 47] إلى قوله من الآية نفسها: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي: من قبل يوم القيامة.
قال تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الآية 39] فان شئت جعلت ماذا بمنزلتها وحدها وان شئت جعلت ذا بمنزلة «الذي» .
وقوله تعالى: وَلا جُنُباً [الآية 43] في اللفظ واحد وهو للجمع كذلك، وكذلك هو للرجال والنساء، كما قال جل شأنه: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) [التحريم] فجعل «الظهير» واحدا. والعرب تقول: «هم لي صديق» . وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] وهما قعيدان. وقال نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
(16) [الشعراء] وقال: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء/ 77] لأن «فعول» و «فعيل» مما يجعل واحدا للاثنين والجمع.
وقال تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [الآية 42] قرأ بعضهم (تسوّى) «1» وكل حسن.
وقال تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [الآية 43] على قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [الآية 43] فقوله تعالى: وَأَنْتُمْ سُكارى في موضع نصب على الحال، ووَ لا جُنُباً على العطف كأنه قال: «ولا تقربوها جنبا إلّا عابري سبيل» كما تقول: «لا تأتي إلّا راكبا» .
وقال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الآية 46] كأنّه يقول «منهم قوم» فأضمر «القوم» . قال النابغة الذبياني «2» [من الوافر وهو الشاهد السادس والسبعون بعد المائة] :
كأنّك من جمال بني أقيش ... يقعقع بين رجليه بشنّ «3»
__________
(1) . في الطبري 8/ 372 هي قراءة عامة قراء أهل الكوفة وفي السبعة 234 الى حمزة والكسائي وكذلك في الكشف 1/ 390 والتيسير 96 والجامع 5/ 198 والبحر 3/ 253. اما قراءة ضم التاء فهي في السبعة 234 والبحر 3/ 253 الى ابن كثير وابي عمرو وعاصم وفي الكشف 1/ 390 والتيسير 96 الى غير نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وفي الجامع 5/ 198 الى غير من قرأ بغيرها وفي الطبري 8/ 372 الى «آخرون» يقصد غير من أخذ بالسابقة وفي معاني القرآن 1/ 369 وحجة ابن خالويه 99 بلا نسبة.
(2) . هو الشاعر الجاهلي زياد بن معاوية وقد مرت ترجمته قبل.
(3) . ديوان النابغة 198 والكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 375. [.....](2/172)
أي: كأنّك جمل منها. وكما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [الآية 159] أي: وإن منهم واحد إلّا ليؤمننّ به. والعرب تقول:
«رأيت الذي أمس» أي: رأيت الذي جاءك أمس» أو «تكلّم أمس» .
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا [الآية 46] وقوله تعالى: راعِنا أي:
«راعنا سمعك» . في معنى: أرعنا.
وقوله تعالى: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أي: لا سمعت. وأما (غير مسمع) أي: لا يسمع منك فأنت غير مسمع.
وقال تعالى: وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [الآية 46] . وإنّما قال: وَانْظُرْنا لأنّها من «نظرته» أي: «انتظرته» . وقال سبحانه انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد/ 13] أي: انتظروا. وأما قوله تعالى وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
[النبأ/ 40] فإنما هي: إلى ما قدّمت يداه. قال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائة] :
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما تنظر الأراك الظّباء
وان شئت كان نْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
على الاستفهام مثل قولك «ينظر خيرا قدّمت يداه أم شرّا» .
قال تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [الآية 56] فإن قال قائل: «أليس إنّما تعذّب الجلود التي عصت، فكيف يقول غَيْرَها» ؟
قلت: «إنّ العرب قد تقول: «أصوغ خاتما غير ذا» فيكسره ثم يصوغه صياغة أخرى. فهو الأول إلّا أن الصياغة تغيرت.
وقال تعالى وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) فهذا مثل «دهين» و «صريع» لأنك تقول: «سعرت» ف «هي مسعورة» وقال جلّ شأنه وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) [التكوير] «1» .
وقال تعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) أي: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [الآية 65] وحتى وَيُسَلِّمُوا هذا كله معطوف على ما بعد حتى.
وقرئ: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [الآية 66] برفع قَلِيلٌ لأن الفعل جعل لهم، وجعلوا بدلا من الأسماء المضمرة في الفعل.
__________
(1) . وقد نقل هذا كله في الصحاح «سعر» .(2/173)
قال تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) فنصب رَفِيقاً ليس على «نعم الرّجل» لأن «نعم» لا تقع الا على اسم فيه الالف واللام أو نكرة، ولكن هذا على مثل قولك: «كرم زيد رجلا» تنصبه على الحال «1» . و «الرفيق» واحد في معنى جماعة مثل «هم لي صديق» .
وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [الآية 72] فاللام الأولى مفتوحة لأنها للتوكيد نحو: «إنّ في الدّار لزيدا» واللام الثانية للقسم كأنه قال: «وإنّ منكم من والله ليبطئنّ» .
وقال تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [الآية 74] وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة/ 207] أي: يبيعها. فقد تقع «شريت» للبيع والشراء.
وقال تعالى: مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [الآية 75] فجررت «الظالم» لأنه صفة مقدمة ما قبلها مجرور وهي لشيء من سبب الأول، وإذا كانت كذلك جرّت على الأول حتى تصير كأنها له.
قال تعالى: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [الآية 79] فجعل الخبر بالفاء لأن «ما» بمنزلة «من» وأدخلت «من» «2» على السيئة لأن «ما» نفي و «من» تحسن في النفي مثل قولك: «ما جاءني من أحد» .
قال تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [الآية 81] أي: ويقولون: «أمرنا طاعة» «3» .
وان شئت نصبت الطاعة على «نطيع طاعة» «4» . وقال تعالى بَيَّتَ فذكّر فعل الطائفة لأنهم في المعنى رجال وقد أضافها إلى مذكرين. وقال: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ [الأعراف/ 87] .
وقال تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) على وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [الآية 83] إِلَّا قَلِيلًا.
__________
(1) . نقله في المشكل 1/ 202 واعراب القرآن 1/ 232 والجامع 5/ 272.
(2) . نقله في اعراب القرآن 1/ 235 والجامع 5/ 285.
(3) . الرأي في معاني القرآن 1/ 278، ونقله للاخفش في اعراب القرآن 1/ 236.
(4) . في معاني القرآن 1/ 278 والجامع كما مر ولم يشر إلى كونه قراءة.(2/174)
وقال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [الآية 88] بالنصب على الحال كما تقول: «مالك قائما» «1» أي:
«مالك في حال القيام» .
وقال تعالى في قراءة من قرأ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [الآية 90] أو حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ف (حصرة) اسم نصبته على الحال «2» وحَصِرَتْ «فعلت» وبها نقرأ «3» .
وقال تعالى: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [الآية 92] .
وقال تعالى: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ [الآية 92] أي: فعليه ذلك.
وقال تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [الآية 92] اي: فعليكم ذلك إلّا أن يصّدّقوا.
وقال تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [الآية 94] «4» وقرأ بعضهم (فتثبّتوا) «5» ، وكلّ صواب لأنك تقول:
«تبيّن حال القوم» و «تثبّت» . و «لا تقدم حتّى تتبيّن» و «حتّى تتثبّت» .
وقال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [الآية 95] مرفوعة لأنك جعلته من صفة
__________
(1) . نقله في اعراب القرآن 1/ 239 والجامع 5/ 307 وورد الرأي بتعليل كوفي وبالمثال المذكور في معاني القرآن 1/ 281.
(2) . في معاني القرآن 1/ 282 هي قراءة الحسن وفي الطبري 9/ 22 والجامع 5/ 309 كذلك وزاد في الشواذ 27 و 28 يعقوب وزاد في البحر 3/ 317 قتادة وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص.
(3) . وهي في الطبري 9/ 22 قراءة القراء في جميع الأمصار وعليها الإجماع وفي البحر 3/ 317 الى الجمهور وفي حجة ابن خالويه 100 بلا نسبة ولا إشارة الى الأخرى وفي معاني القرآن كالسابق أشار إليها ولم يقل بها قراءة.
ونقله في البيان 1/ 263، ونقله في المغني 2/ 430 والصحاح «حصر» .
(4) . هي في الطبري 9/ 81 قراءة عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين وفي السبعة 236 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وابن عامر وعاصم وفي الكشف 1/ 395 الى ابي عبد الرحمن والحسن وابي جعفر وشيبة والأعرج وقتادة بن جبير وهي اختيار ابي حاتم وابي عبيد وفي الجامع 5/ 327 اقتصر على ذكر الاختيار ونسبها الى «الجماعة» وفي البحر 3/ 328 الى غير حمزة والكسائي وهو ما قاله في الكشف 1/ 394 ايضا وفي معاني القرآن 1/ 283 وحجة ابن خالويه بلا نسبة.
(5) . في معاني القرآن 1/ 283 قراءة عبد الله بن مسعود وأصحابه وفي الطبري 9/ 81 الى معظم القراء الكوفيين وفي السبعة 236 والتيسير 97 والبحر 3/ 328 الى حمزة والكسائي واغفل منهما في الجامع 5/ 327 الكسائي وزاد عليهما في الكشف 1/ 394 انها قراءة ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وفي حجة ابن خالويه 101 بلا نسبة.(2/175)
القاعدين «1» . وإن جررته فعلى «المؤمنين» وإن شئت نصبته إذا أخرجته من أول الكلام فجعلته استثناء وبها نقرأ «2» . وبلغنا انها أنزلت من بعد قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ولم تنزل معها، وانما هي استثناء غنى بها قوما لم يقدروا على الخروج ثم قال وَالْمُجاهِدُونَ [الآية 95] يعطفه على القاعدين لأن المعنى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ وَالْمُجاهِدُونَ. وقال سبحانه وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ [الآية 96] يقول فعل ذلك درجات منه. وقال:
أَجْراً عَظِيماً لأنه قال: «فضّلهم» فقد أخبر انه آجرهم فقال على ذلك المعنى كقولك: «أما والله لأضربنّك إيجاعا شديدا» لأنّ معناه: لأوجعنّك.
قال تعالى: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ لأنه استثناهم منهم كما تقول: «أولئك أصحابك إلّا زيدا» و: «كلّهم أصحابك إلّا زيدا» . وهو خارج من أوّل الكلام.
وقال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [الآية 104] أي: توجعون. تقول: «ألم» «يألم» «ألما» .
وقال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ [الآية 114] يقول: «إلّا في نجوى من أمر بصدقة» .
وقال تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
[الآية 109] فردّ التنبيه مرتين كما قال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ [محمد/ 38] «3» أراد التوكيد.
وقال تعالى
__________
(1) . نقله في اعراب القرآن 1/ 243 والجامع 5/ 343.
(2) . الرفع قراءة في الطبري 9/ 85 الى عامة قراء أهل الكوفة والبصرة وفي السبعة 237 الى ابن كثير في رواية والى ابي عمرو وعاصم وحمزة وكذلك في البحر 3/ 330 وفي الجامع 5/ 343 الى أهل الكوفة وابي عمرو وفي التيسير 97 الى غير نافع وابن عامر والكسائي وفي الكشف 1/ 396 الى غير من أخذ بالآخريين وفي حجة الفارسي 1/ 116 وحجة ابن خالويه 101 بلا نسبة. أما قراءة الجر ففي الجامع 5/ 343 الى أبي حياة وفي البحر 3/ 330 زاد الأعمش. أما قراءة النصب ففي الطبري 9/ 85 الى عامة قراء أهل المدينة ومكة والشام وفي السبعة 237 الى نافع والكسائي وابن عامر وفي رواية الى ابن كثير وفي البحر 3/ 330 أهمل ابن كثير وزاد أنها رويت عن عاصم. وفي الكشف 1/ 396 أضاف أنها قراءة النبي الكريم وزيد بن ثابت وأبي جعفر وشيبة وأبي الزناد وشبل وابن الهادي وهي اختيار أبي عبيد والطبري وأبي طاهر. وفي التيسير 97 كما في السبعة مع إغفال ابن كثير وفي الجامع 5/ 344 الى اهل الحرمين وفي حجة ابن خالويه 101 وحجة الفارسي 116 بلا نسبة.
(3) . نقله في اعراب القرآن 1/ 251 والجامع 5/ 408.(2/176)
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [الآية 131] أي بأن اتّقوا الله.
وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية 134] فموضع «كان» جزم والجواب الفاء وارتفعت «يريد» لأنه ليس فيها حرف عطف. كما قال مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ [هود/ 15] . في قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشورى/ 20] جزم الجواب، لأن الأول في موضع جزم، ولكنه فعل واجب فلا ينجزم، و «يريد» في موضع نصب بخبر «كان» . وفي قوله تعالى:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [الآية 128] جعل الاسم يلي «إن» لأنّها أشدّ حروف الجزاء تمكنا.
وإنّما حسن هذا فيها إذا لم يكن لفظ ما وقعت عليه جزما نحو قوله «1» [من البسيط وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة] :
عاود هراة وإن معمورها خربا وقال تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [الآية 135] لأنّ «أو» ها هنا في معنى الواو «2» ، أو يكون جمعهما في قوله بِهِما لأنهما قد ذكرا «3» نحو قوله عز وجل: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا [الآية 12] . أو يكون أضمر (من) كأنه «إن يكن من تخاصم غنيّا أو فقيرا» يريد «غنيين أو فقيرين» يجعل «من» في ذلك المعنى ويخرج غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً على لفظ «من» .
وقال تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [الآية 135] لأنها من «لوى» «يلوي» «4» .
وقرأ بعضهم
__________
(1) . في الأصل: قولك. والقائل هروي معجم شواهد العربية 2/ 575 ويراجع المقتضب 4/ 256 واشعار الهذليين في قول عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي:
لكنه شاقه ان قيل ذا رجب ... يا ليت عدة حول كله رجب
[.....]
(2) . نقله في المشكل 1/ 210 واعراب القرآن 1/ 252 والجامع 5/ 413 والبحر 3/ 370 والبيان 1/ 269.
(3) . نقله في الإملاء 1/ 197.
(4) . في الطبري 9/ 310 هي قراءة عامة قراء الأمصار سوى الكوفة وفي السبعة 239 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو وعاصم والكسائي وفي الكشف 1/ 399 والتيسير 97 الى غير حمزة وابن عامر وفي معاني القرآن 1/ 291 وحجة ابن خالويه 102 والجامع 5/ 413 بلا نسبة.(2/177)
(وإن تلوا) «1» فان كانت لغة فهو لاجتماع الواوين، ولا أراها إلّا لحنا على معنى «الولاية» وليس ل «الولاية» معنى ها هنا الا في قوله «وإن تلوا عليهم» فطرح «عليهم» فهو جائز.
وقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [الآية 148] لأنه حين قال: لا يُحِبُّ اللَّهُ [الآية 148] قد أخبر أنه لا يحل. ثم قال إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «2» إنه يحل له أن يجهر بالسوء لمن ظلمه. وقرأ بعضهم (ظلم) «3» على قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [الآية 147] [فيكون] (إلّا من ظلم) على معنى «إلّا بعذاب من ظلم» .
وقال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [الآية 155] ف «ما» زائدة كأنه قال «فبنقضهم» .
وقال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ [الآية 156] وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [الآية 157] كله على الأول.
وقال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [الآية 164] فانتصب لفظ «رسلا» لأن الفعل قد سقط بشيء من سببه وما قبله منصوب بالفعل.
وقال تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية 170] فنصب خَيْراً لأنه حين قال لهم فَآمِنُوا أمرهم بما هو خير لهم فكأنه قال: «اعملوا خيرا لكم» وكذلك انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية 171] فهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة ولا يكون في الخبر، لأنّ الأمر والنهي لا يضمر فيهما وكأنّك أخرجته من شيء الى شيء. قال الشاعر «4» :
ففواعديه سرحتي مالك
__________
(1) . في تأويل مشكل القرآن 62 الى يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وفي الكشف 1/ 399 والتيسير 97 الى حمزة وابن عامر وكذلك في السبعة 239 واستبدل في الجامع 5/ 414 بحمزة الكوفيين وفي البحر 3/ 371 الى جماعة وابن عامر وحمزة وفي الطبري 9/ 310 الى جماعة من قراء أهل الكوفة وفي معاني القرآن 1/ 291 وحجة ابن خالويه 102.
(2) . هي في الطبري 9/ 343 الى عامة قراء الأمصار وفي الجامع 6/ 1 والبحر 3/ 382 الى الجمهور.
(3) . في الطبري 9/ 343 الى بعضهم وقال ابن زيد رواها عن أبيه وفي الشواذ 29 و 30 الى الضحاك بن مزاحم وفي الجامع 6/ 1 الى زيد بن اسلم وابن أبي إسحاق وفي البحر 3/ 382 الى ابن عباس وابي عمرو وابن جبير وعطاء بن السائب والضحاك وزيد بن اسلم وابن ابي إسحاق ومسلم بن يسار والحسن وابن المسيب وقتادة وأبي 652.
(4) . هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي. ديوانه 349 والكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 143.(2/178)
أو الرّبا بينهما أسهلا «1» كما تقول: «واعديه خيرا لك» وقد سمعت نصب هذا في الخبر. تقول العرب: «آتي البيت خيرا لي» و «أتركه خيرا لي» وهو على ما فسرت في الأمر والنهي.
قال تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ [الآية 176] مثل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ [الآية 128] تفسيرهما سواء.
وقال سبحانه وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) الكلام خلق من الله على غير الكلام منك، وبغير ما يكون منك. خلقه الله ثم أوصله الى موسى.
وقال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [الآية 25] أي: الله أعلم بإيمان بعضكم من بعض.
__________
(1) . في الديوان ب «سورتي» و «أوذ» الذي «بدل» «سرحتي» و «او الربا» .(2/179)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النساء»
«1» إن قيل عن قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [الآية الأولى] : إذا كانت حواء مخلوقة من آدم، ونحن مخلوقون منه أيضا، تكون نسبة حواء إلى آدم نسبة الولد: لأنها متفرعة منه، فتكون أختا لنا، لا أما.
قلنا: ثمة قولان: الأول أن بعض المفسرين قالوا: «من» لبيان الجنس لا للتبعيض، معناه: وخلق من جنسها زوجها كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة/ 128] . الثاني، وهو الذي عليه الجمهور، أنها للتبعيض، ولكنّ خلق حواء من آدم لم يكن بطريق التوليد كخلق الأولاد من الآباء، فلا يلزم منه ثبوت البنتيّة والأختية فيها.
فإن قيل: لم قال تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [الآية 2] واليتيم لا يعطى ماله حتى يبلغ اتفاقا؟
قلنا: المراد به إذا بلغوا وإنما سمّوا يتامى لقرب عهدهم بالبلوغ باعتبار ما كان، كما تسمى الناقة عشراء بعد الوضع، وقد يسمى البالغ يتيما باعتبار ما كان، كما يسمى الحي ميّتا والعنب خمرا باعتبار ما يكون، قال الله تعالى:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر] وقال إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف/ 36] ومنه قولهم للنبي (ص) بعد ما نبأه الله: يتيم أبي طالب.
فإن قيل: أكل مال اليتيم حرام وحده ومع أموال الأوصياء، فلم ورد النهي مخصوصا عن أكله معها لقوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(2/181)
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء/ 2] أي معها؟
قلنا: لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح، فلذلك خصّ بالنهي ولأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه، فجاء النهي على ما وقع منهم.
فإن قيل: لمّا قال تعالى مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [الآية 7] دخل فيه القليل والكثير، فما الحكمة في قوله سبحانه مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ [الآية 7] ؟
قلنا: إنما قال ذلك على جهة التأكيد والإعلام أن كل تركة ينبغي قسمتها، لئلا يتهاون بالقليل من التركات ويحتقر، فلا يقسم وينفرد به بعض الورثة.
فإن قيل: لم قال تعالى وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ [الآية 11] مع أنه لو كان الولد بنتا فللأب الثلث؟
قلنا: الآية وردت لبيان الفرض دون التعصيب، وليس للأب مع البنت بالفرض إلا السدس.
فإن قيل: كيف قطع على العاصي الخلود في النار بقوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها [الآية 14] ؟
قلنا: أراد به من يعص الله بردّ أحكامه وجحودها وذلك كفر، والكافر يستحق الخلود في النار.
فإن قيل لم قال تعالى: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [الآية 15] والتوفي والموت بمعنى واحد، فصار كأنه قال: حتى يميتهن الموت؟
قلنا: معناه حتى يتوفاهنّ ملائكة الموت. الثاني معناه: حتى يأخذهنّ ملائكة الموت وتتوفّى أرواحهنّ.
فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [الآية 17] ، ولم يقل إنما التوبة على العبد، مع أن التوبة واجبة على العبد؟
قلنا: معناه إنما قبول التوبة على الله بحذف المضاف. الثاني: أن معنى التوبة من الله رجوعه على العبد بالمغفرة والرحمة، لأن التوبة في اللغة الرجوع.
فإن قيل لم قال تعالى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [الآية 17] .
ولو عمله بغير جهالة ثم تاب قبلت توبته؟(2/182)
قلنا: معناه بجهالة بقدر قبح المعصية وسوء عاقبتها، لا بكونها معصية وذنبا، وكل عاص جاهل بذلك حال مباشرة المعصية معناه أنه مسلوب كمال العلم به بسبب غلبة الهوى وتزيين الشيطان.
فإن قيل لم قال تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [الآية 17] مع أنهم لو تابوا بعد الذنب من بعيد لقبلت توبتهم؟
قلنا: ليس المراد بالقريب مقابل البعيد إذ حكمهما واحد، بل معناه قبل معاينة سلطان الموت، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما بقرينة قوله حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [الآية 18] .
فإن قيل لم قال تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [الآية 20] ، مع أن حرمة الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد أعطاها المهر بل كان في ذمته أو في يده؟
قلنا: المراد بالإيتاء الضمان والالتزام كما في قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ [البقرة/ 233] أي ما غنمتم والتزمتم.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً [الآية 20] وأخذ مهر المرأة ظلم وليس ببهتان لأن البهتان الكذب؟
قلنا: ابن عباس وابن قتيبة قالا:
المراد بالبهتان الظلم. وقال الزجاج المراد به الباطل، والمشهور في كتب اللغة أن البهتان أن يقول الإنسان على غيره ما لم يفعله. قالوا: فالمراد به أن الرجل ربما رمى امرأته بتهمة ليتوصل بذلك إلى أن يأخذ منها مهرها ويفارقها. وقيل المراد به إنكاره أنّ لها مهرا في ذمته.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [الآية 22] فنهى عن الفعل المستقبل، وإلا ما قد سلف ماض، فكيف يصح استثناء الماضي من المستقبل؟
قلنا: قيل إن «إلّا» هنا بمعنى بعد كما في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان/ 56] وقيل هو استثناء من محذوف تقديره: فإنكم تعذبون به إلا ما قد سلف. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره: إنه كان فاحشة إلا ما قد سلف.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّهُ(2/183)
كانَ فاحِشَةً
[الآية 22] بلفظ الماضي، مع أن نكاح منكوحة الأب فاحشة في الحال وفي الاستقبال إلى يوم القيامة.
قلنا: كان تارة تستعمل للماضي المنقطع كقوله: كان زيد غنيا، وكان الخزف طينا، وتارة تستعمل للماضي المستمر المتصل للحال كقول أبي جندب الهذلي:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمّر حتّى ينصف الساق مئزري
أي وإني الآن، لأنه إنما يتمدح بصفة ثابتة له في الحال، لا بصفة زائلة ذاهبة، والمضوفة بالفاء: الأمر الذي يشفق منه، والقاف تصحيف، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (33) - وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) .
وما أشبه ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل، وسيأتي الكلام في «كان» بعد هذا إن شاء الله في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) .
فإن قيل: لم قال تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [الآية 23] قيد التحريم بكون الربيبة في حجر زوج أمها، والحرمة ثابتة مطلقا، وإن لم تكن في حجره؟
قلنا: أخرج ذلك مخرج العادة والغالب لا مخرج الشرط والقيد.
ولهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفي الدخول في قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [الآية 23] ، فتأمل.
فإن قيل: لمّا قال تعالى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [الآية 23] ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [الآية 24] ، علم، من مجموع ذلك، أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمها، فما الحكمة في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [الآية 23] ؟
قلنا: فائدته أن لا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج العادة والغالب، لا مخرج الشرط كما في الحجر.
فإن قيل: لم قال تعالى في نكاح الإماء فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الآية 25] والمهر ملك المولى، وإنما يجب تسليمه إلى المولى لا إلى الأمة؟(2/184)
قلنا: لما كانت الأمة وما في يدها ملك المولى كان أداؤه إليها كأدائه إلى المولى. الثاني أن معناه: وآتوا مواليهن أجورهن بطريق حذف المضاف.
فإن قيل: لم قال تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [الآية 25] وجواز نكاح الأمة ثابت من غير خوف العنت عند بعض العلماء؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: ذلك أصوب وأصلح لمن خشي العنت منكم فيكون شرطا لما هو الأرشد والأصلح كما في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور/ 33] .
فإن قيل: لم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [الآية 26] والإرادة إنما تقرن بأن يقال: يريد أن يفعل، وقال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [الآية 28] ؟
قلنا: قد ورد في الكتاب العزيز اللام بمعنى «أن» ورودا كثيرا قال الله تعالى وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى/ 15] وقال الله تعالى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) [الأنعام] وقال تعالى في موضع آخر يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف/ 8] فكذلك هذا.
فإن قيل: كيف خصّت التجارة بالذكر في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [الآية/ 29] مع أن الهبة والصدقة والوصية والضيافة وغيرها تقتضي الحل أيضا كالتجارة؟
قلنا: إنما خصّت بالذكر لأن معظم تصرف الخلق في الأموال إنما يكون بالتجارة، أو لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
فإن قيل: قوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [الآية 42] قالوا معناه أنهم يتمنون أن يجعلوا يوم القيامة ترابا كما جاء في آخر سورة النبأ. وظاهر اللفظ أنهم يتمنون أن تجعل الأرض مثلهم ناسا كما تقول سويت زيدا بعمرو، ومعناه جعلت زيدا، وهو المسوّى مثل عمرو، وهو المسوى به.
قلنا: قولهم سويت هذا بهذا له معنيان. أحدهما إجراء حكم الثاني على الأول كقولك سويت زيدا بعمرو، وكما تقول ساويت. والثاني أن يكون المسوّى مفعولا والمسوى به آلة كقولك: سويت القلم بالسكين والثوب بالمقراض، بمعنى أصلحته به. قلنا:
فقوله لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [الآية 42](2/185)
يحتمل وجهين: أن يكون بمعنى ساويت ويكون من المقلوب: أي لو يسوّون بالأرض بجعلهم ترابا كقوله تعالى لَتَنُوأُ [القصص/ 76] قوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة/ 6] في قول من لم يجعل الباء زائدة كقولهم:
أدخلت الخاتم في إصبعي ونحوه، وأن يكون بمعنى الآلة. معناه: ودّوا لو تمهّد بهم الأرض وتوطد، بأن يجعلوا ترابا ويبثّوا في وهادها وحضيضها لتساوى بقاعها وآكامها، وقوله تعالى:
لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) [طه] لا انخفاضا ولا ارتفاعا، وإن كان يدل على أن الأرض يوم القيامة متساوية بالسطوح، فجعلها متساوية بالسطوح إن كان قبل البعث، فإذا بعث الموتى من قبورهم، خلت منهم قبورهم وحفرهم، فحصل في الأرض تفاوت.
وإن كان بعد البعث، فيجوز أن يكون هذا التمني سابقا على جعلها متساوية السطوح.
فإن قيل: قولنا: «هذا خير من ذلك» يقتضي أن يكون في كل واحد منهما خير، حتى يصحّ تفضيل أحدهما على الآخر، لأن كلمة «خير» في الأصل أفعل تفضيل، فكيف قال لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ [الآية 46] بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟
قلنا: المراد بالخير هاهنا الخير الذي هو ضد الشر، لا الذي هو أفعل التفضيل كما تقول: في فلان خير.
فإن قيل لم قال تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) والمفعول مخلوق، وأمر الله وقوله غير مخلوق؟
قلنا: ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضد النهي، بل المراد به ما يحدث من الحوادث، فإن الحادثة تسمى أيضا أمرا، ومنه قوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) [الطلاق] وقوله أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً [يونس/ 24] .
فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [الآية 48] ، مع أن شرك الساهي والمكره والتائب مغفور؟
قلنا: المراد به شرك غير هؤلاء المخصوص من عموم الآية بأدلة من خارج أو نقول قيد المشيئة متعلق بالفعلين المنفي والمثبت، كأنه قال:
إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دونه لمن يشاء.
فإن قيل: هذه الآية تدل على أن غير الشرك من الذنوب لا يقطع بانتفاء مغفرته بل ترجى مغفرته، وقوله(2/186)
تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً يدل على القطع بانتفاء المغفرة في الكفر والظلم وهما غير الشرك، فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: المراد بالظلم هنا الشرك، قال مقاتل: والشرك يسمى ظلما، قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان] فكأنه قال: إن الذين أشركوا. الثاني أن قوله تعالى، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [الآية 116] ، ليس قطعا بالمغفرة لغير المشرك وهو تعليق للمغفرة له بالمشيئة ثم بين، بالآية الأخرى، أن الكافر ليس داخلا فيمن يشاء المغفرة له، فيتعين دخوله فيمن لا يغفر له، لأنه لا واسطة بينهما. الثالث أنه عام خص بالآية الثانية كما خص قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزّمر/ 53] بالآية الأولى، ويؤيد هذا إجماع الأمة على أن الكافر والمشرك سواء في عدم المغفرة والتخليد في النار، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البيّنة/ 6] .
فإن قيل لم قال تعالى، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [الآية 49] ذمّهم على ذلك، وقال أيضا: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) [النجم] ، وقد زكى النبي (ص) نفسه فقال: «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض» . ويوسف عليه السلام قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) [يوسف] ؟
قلنا: إنما قال ذلك حين قال المنافقون: اعدل في القسمة، تكذيبا لهم حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه من العدل والأمانة. وأما يوسف عليه السلام، فإنه إنما قال ذلك ليتوصل به إلى ما هو وظيفة الأنبياء، وهو إقامة العدل وبسط الحق وإمضاء أحكام الله تعالى، ولأنه علم أنه لا أحد في ذلك الوقت أقوم منه بذلك العمل، فكان متعينا عليه، فلذلك طلبه وأثنى على نفسه، ومع ذلك كله فإنه روى عن النبي (ص) أنه قال «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخّر ذلك سنة» .
فإن قيل لم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ(2/187)
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
[الآية 15] إلى أن قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [الآية 52] فحصر لعنته فيهم لأن هذا الكلام للحصر، وليست لعنة الله منحصرة فيهم بل هي شاملة لجميع الكفار.
قلنا: قوله سبحانه أُولئِكَ إشارة إلى القائلين: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) ، وهذا القول شامل لجميع الكفار، فكانت اللعنة شاملة للجميع.
فإن قيل لم قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [الآية 56] ، أخبر أنه يعذب جلودهم التي لم تعص مكان الجلود العاصية، وتعذيب البريء ظلم؟
قلنا: الجلود المجددة، وإن عذبت فالألم بتعذيبها إنما يحصل للقلوب، وهي غير مجددة بل هي العاصية باعتقاد الشرك ونحوه. الثاني أن المراد بتبديلها إعادة النضيج غير نضيج، والجلود هي الجلود بعينها، وإنما قال غيرها باعتبار صفة النضيج وعدمه، كما قال الله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم/ 48] وأراد تبديل الصفات لا تبديل الذات، وكما قال الشاعر:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... وما الدار بالدار التي كنت أعهد
فإن قيل لم قال تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) وليس في الجنة شمس ليكون فيها حر يحتاج بسببه إلى ظل ظليل أو غير ظليل؟
قلنا: هو مجاز عن المستقر المستلذ المستطاب جريا على المتعارف بين الناس، لأن بلاد الحجاز شديدة الحر، فأطيب ما عندهم موضع الظل، فخاطبهم بما يعقلون ويفهمون، كما قال عز وجل وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) [مريم] وليس في الجنة طلوع شمس ولا غروبها فيكون فيها بكرة وعشيّ، لكن لما كان في عرفهم تمام نعمة الغذاء وكمال وظيفته: أن يكون حاضرا مهيأ في طرفي النهار عبّر عن حضوره وتهيئته بذلك.
فإن قيل لم قال تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [الآية 69] وهذا مدح لمن يطيع الله والرسول، وعادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وهذا عكسه لأنه نزول من الأعلى إلى الأدنى؟
قلنا: هذا ليس من الباب الذي(2/188)
ذكرتموه، بل هو كلام المقصود منه الإخبار عن أن المطيعين لله ورسوله يكونون يوم القيامة مع الأشراف والخواص، ثم كأن سائلا سأل من الأشراف والخواص، ففصّل له زيادة في الفائدة بعد تمام المعنى المقصود بالذكر بقوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الآية 69] . وأتى في تفصيلهم بذكر الأشرف فالأشرف والأخص فالأخص، إذ هو الغالب في تعديد الأشراف والخواص كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [الآية 59] وقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران/ 18] والدليل على أن المراد من الآية الإخبار جملة لا تفصيلا، أنه لما علم عباده أن يسألوه هذا المعنى أرشدهم إلى طلبه مجملا بقوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة] .
فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) وقال في كيد النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) [يوسف] ومعلوم أن كيد الشيطان أعظم من كيد النساء؟.
قلنا: المراد أن كيد الشيطان ضعيف في جنب نصرة الله وحفظه لأوليائه المخلصين من عباده، كما قال الله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر/ 42] وقال حكاية عن إبليس إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [ص] والمراد بالآية الأخرى أن كيد النساء عظيم إذا قيس بكيد الرجال. الثاني القائل: إن كيدكن عظيم هو عزيز مصر، وليس الله تعالى، فلا تناقض ولا معارضة.
فإن قيل: لم عاب على المشركين والمنافقين قولهم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [الآية 78] وردّ عليهم ذلك بقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [نفسها] ثم قال بعد ذلك ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [الآية 79] وأخبره بعين قولهم المردود عليهم؟
قلنا: قيل إن الثاني حكاية قولهم أيضا، وفيه إضمار تقديره: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) فيقولون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ [الآية 79] .
وقيل معناه: ما أصابك أيها الإنسان من حسنة، أي رخاء ونعمة، فمن(2/189)
فضل الله، وما أصابك من سيئة، أي قحط وشدة، فبشؤم فعلك ومعصيتك، لا بشؤم محمد عليه الصلاة والسلام، كما زعم المشركون، ويؤيده قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) [الشورى] .
فإن قيل: لم قيل إن الشر والمعصية بإرادة الله، والله تعالى يقول وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [الآية 79] .
قلنا: ليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية، بل القحط والرخاء والنصر والهزيمة على ما اختلف فيه العلماء، ألا ترى أنه جلّ شأنه قال:
ما أَصابَكَ ولم يقل ما عملت من سيئة.
فإن قيل: قوله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) السؤال فيه من وجهين: أحدهما أنه يدل، من حيث المفهوم، على أن في القرآن اختلافا قليلا، وإلا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة، مع أنه لا اختلاف فيه أصلا. الثاني أنه إنما يدل عدم الاختلاف الكثير في القرآن على أنه من عند الله، أن لو كان كل كتاب من عند غير الله فيه اختلاف كثير، وليس الواقع كذلك، لأن المراد من الاختلاف إما الكذب والتباين في نظمه، وإما التناقض في معانيه، أو التفاوت بين بعضه وبعضه من الجزالة والبلاغة والحكمة وكثرة الفائدة.
قلنا: الجواب عن السؤال الأول أن التقييد بوصف الكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة، فكأنه قال: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل. لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف كثير ولا قليل فكيف يكون من عند غير الله؟ فهذا هو المقصود من التقييد بوصف الكثرة لا أن القرآن مشتمل على اختلاف قليل. وعن السؤال الثاني أن كل كتاب في فن من العلوم، إذا كان من عند غير الله وجد فيه اختلاف ما بأحد التفاسير المذكورة لا محالة يعرف ذلك بالاستقراء.
والقرآن جامع لفنون من علوم شتى، فلو كان من عند غير الله لوجد فيه بالنسبة إلى كل فن اختلاف ما، فيصير مجموع الاختلاف اختلافا كثيرا.
فإن قيل لم قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) استثنى القليل على تقدير(2/190)
انتفاء الفضل والرحمة، مع أنه لولا فضله بالهداية والعصمة ورحمته، لاتبع الكل الشيطان من غير استثناء؟
قلنا: الاستثناء راجع إلى ما تقدم، تقديره أذاعوا به إلا قليلا. وقيل لعلمه الذي يستنبطونه منهم إلا قليلا. وقيل معناه: ولولا فضل الله عليكم بإرسال الرسل لاتبعتم الشيطان في الكفر والضلال إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم إلى معرفة الله تعالى وتوحيده، كقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ونحوهما قبل بعث النبي عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: على الجواب الأخير إذا كان المراد أن من لوازم نفي الفضل والرحمة بالطريق الخاص، وهو بإرسال الرسل، اتباع الشيطان، ونفي الفضل والرحمة بالطريق الخاص معلوم حق في الرسول لأنه لم يرسل إليه رسول ومع هذا لم يتبع الشيطان؟
قلنا: لا نسلم أنه لم يرسل إليه رسول، بل أرسل إليه الملك وأنه رسول. الثاني التقييد في الفضل والرحمة بتعيين الطريق يكون في حق الأمة. أما في حق الرسل ومن آمن بغير رسول، فيكون اللفظ باقيا على ظاهره.
فإن قيل: هذه الآية تقتضي أن فضله ورحمته يمنعان أكثر الناس من اتّباع الشيطان، مع أنّ الواقع خلافه، فإن أكثر الناس كفرة، يؤيده قوله (ص) «الإسلام في الكفر كالشعرة البيضاء في الثور الأسود» .
قلنا: الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لا للناس كلهم.
فإن قيل: إذا كان الخطاب خاصا للمؤمنين فما معنى الاستثناء، فإنه، إن كان المراد به اتباعه فيما يدعو إليه ويوسوس من المعاصي، فأكثر المؤمنين متبعون له في ذلك ولو في العمر مرة واحدة في بعض الكبائر.
وإن كان المراد به اتباعه في دعائه إلى الكفر، فإنّ أحدا من المؤمنين لم يتبعه في الكفر.
قلنا: معناه: ولولا فضل الله عليكم، أيها المؤمنون، ورحمته بالهداية بالرسول، لا تبعتم الشيطان في الكفر وعبادة الأصنام وغير ذلك، إلا قليلا منكم كقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ونحوهما، فإنهم، لولا الفضل والرحمة بالرسول، لما اتبعوا الشيطان(2/191)
لفضل ورحمة، خصهم الله تعالى بها غير إرسال الرسول وهو زيادة الهداية ونور البصيرة.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) ، مع أنه لا تفاوت بين صدق وصدق في كونه صدقا كما في القول والعلم لا يقال هذا القول أقول، ولا هذا العلم أعلم، ولا هذا الصدق أصدق، لأن الصدق عبارة عن الإخبار المطابق للواقع، ومتى ثبت أنه مطابق للواقع لا يحتمل الزيادة أو النقصان؟
قلنا: أصدق هنا صفة للقائل لا صفة للقول، والقائلان يتفاوتان في الصدق في نفس الأمر وإن تساويا في قصة واحدة أخبرا بها وكان كل واحد منهما صادقا فيها. وحاصله أن هذا استفهام معناه النفي كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 135] معناه لا أحد يغفرها إلا الله، فمعناه هنا: لا أحد أصدق في حديثه من الله، فيكون ترجيحا للمحدث على المحدث في الصدق، لا ترجيحا لأحد الصدقين على الآخر، ولا شك أنه لا أحد أصدق في حديث من الله لأن غيره يجوز عليه غير الصدق عقلا، ويقع منه أيضا ولو نادرا، والله تعالى منزه عن الأمرين جميعا.
فإن قيل: قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها [الآية 91] يقال:
ركسه وأركسه: أي رده، فيصير معناه كلما ردوا إلى الفتنة ردوا فيها وهو تكرار.
قلنا: جوابه أن الفاعل مختلف فانتفى التكرار وصار المعنى: كلما دعاهم قومهم إلى الشرك ردهم الله إليه وقلبهم بشؤم نفاقهم، فالرد الأول بمعنى الدعاء، والركس بمعنى الرد والنكس.
فإن قيل لم قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [الآية 92] مع أنه ليس له أن يقتله خطأ.
قلنا: «إلا» بمعنى و «لا» كما في قوله تعالى إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل] وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة/ 150] . الثاني معناه أنه ليس له أن يقتله مع تيقن إيمانه، بل له أن يقتله إذا غلب على ظنه أنه ليس بمؤمن وهو في صف المشركين وإن كان في الأمر نفسه مؤمنا.(2/192)
فإن قيل: كيف يقال إن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) .
قلنا: معناه متعمدا قتله بسبب إيمانه، والذي يفعل ذلك يكون كافرا.
الثاني أن المراد بالخلود طول المكث، لأن الخلود إذا لم يكن بالأبدية يطلق على طول المكث، كما يقال: خلد السلطان فلانا في الحبس إذا أطال حبسه.
فإن قيل لم قال تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [الآية 95] ثم قال: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ.
قلنا: المراد الأول التفضيل على القاعدين من الغزاة بعذر، فإن لهم فضلا لكونهم مع الغزاة بالهمة والعزيمة والقصد الصالح، ولهذا قال: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الآية 95] يعني الجنة:
أي من المجاهدين والقاعدين بعذر، والمراد بالثاني التفضيل على القاعدين عن الغزاة بغير عذر، وأولئك لا فضل لهم بل هم مقصرون ومسيئون، فظهر فضل الغزاة عليهم بدرجات لانتفاء الفضل لهم؟
فإن قيل: كيف صح القول كما ورد في النصّ القرآني: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ [الآية 97] جوابا لقول الملائكة في الآية نفسها: فِيمَ كُنْتُمْ، مع أنه ليس مطابقا للسؤال، والجواب المطابق أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟
قلنا: معنى فيم كنتم التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حتى قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فصار قوله فِيمَ كُنْتُمْ مجازا عن السؤال: لم تركتم الهجرة؟ فقالوا كنا مستضعفين، اعتذارا عما وبخوا به تعللا، فردت عليهم الملائكة ذلك بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [الآية 97] يعني أنكم إن كنتم عاجزين عن الهجرة إلى المدينة لبعدها عليكم فقد كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد القريبة منكم التي تقدرون فيها على إظهار دين الإسلام.
فإن قيل لم قال تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الآية 100] أي وجب،(2/193)
والعبد لا يستحق على مولاه أجرا لأنه ليس بأجير له إنما هو عبد قنّ؟
قلنا: معناه وجب من جهة أنه وعد عباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، والخلف في وعده عز وجل محال، فالوجوب من هذه الجهة، مع أن ذلك الوعد ابتداء فضل منه.
فإن قيل: كيف شرط في إباحة القصر للمسافر خوف العدو بقوله سبحانه: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [الآية 101] ، والقصر جائز مع أمن المسافر؟
قلنا: خرج ذلك مخرج الغالب لا مخرج الشرط، وغالب أسفار رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم تخل من خوف العدو فصار نظير قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور/ 33] ، الثاني أن الكلام قد تم عند قوله تعالى أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [الآية 101] وقوله إِنْ خِفْتُمْ كلام مستأنف، وجوابه محذوف تقديره: فاحتاطوا أو تأهبوا. الثالث أن المراد به القصر من شروطها وأركانها حالة اشتداد الخوف بترك الركوع والسجود والنزول عن الدابة واستقبال القبلة ونحو ذلك، لا من عدد الركعات، وذلك القصر مشروط بالخوف.
فإن قيل لم قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) و «كان» لفظ دال على الماضي، والصلاة في الحال وإلى يوم القيامة أيضا على المؤمنين فرض موقت؟
قلنا «كان» في القرآن العزيز على خمسة أوجه: كان بمعنى الأزل والأبد كما في قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) . وكان بمعنى المضيّ المنقطع كما في قوله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [النمل/ 48] وهو الأصل في معاني «كان» كما تقول:
كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا ونحو ذلك. وكان بمعنى الحال كما في قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) . وكان بمعنى الاستقبال كما في قوله تعالى:
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) [ص] أي صار.
فإن قيل لم قال تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [الآية 104] والكافرون أيضا يرجون الثواب في محاربة المؤمنين، لأنهم يعتقدون أن دينهم حق، وأنهم ينصرون دين الله ويذبون عنه ويقاتلون أعداءه، كما يعتقد المؤمنون، فالرجاء مشترك؟(2/194)
قلنا: قيل إن الرجاء هنا بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) [نوح] وقوله تعالى:
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية/ 14] وقول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وعلى قول من قال إنه بمعنى الأمل تقول: قد بشر الله المؤمنين في القرآن ووعدهم بإظهار دينهم على الدين كله، ومثل هذه البشارة والوعد لم يوجد في سائر الكتب فافترقا. وقيل الرجاء ما يكون مستندا إلى سبب صحيح ومقدمات حقة، والطمع ما يكون مستندا إلى خلاف ذلك فالرجاء للمؤمنين، وأما الكافرون فلهم طمع لا رجاء.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[الآية 110] بعد قوله في الآية نفسها: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
وظلم النفس من عمل السوء، فلم لم يقتصر على الأول مع أن الثاني داخل فيه؟
قلنا: «أو» بمعنى الواو، فمعناه ويظلم نفسه بذلك السوء حيث دساها بالمعصية. وقيل المراد بعمل السوء التّلبّس بما دون الشرك، وبظلم النفس الشرك. وقيل المراد بعمل السوء الذنب المتعدي ضرره إلى الغير، ويظلم النفس الذنب المقتصر ضرره على فاعله.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
[الآية 113] ظاهره نفي وجود الهم منهم بإضلاله، والمنقول في التفاسير أنهم هموا بإضلاله، وزادوا على الهم الذي هو القصد القول المضل أيضا، يعرف ذلك من تفسير أول القصة وهو قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ.
قلنا: قوله تعالى: لَهَمَّتْ
[الآية 113] ليس جواب «لولا» بل هو كلام مقدم على لولا، وجوابها في التقدير مقول على طريق القسم، وجواب لولا محذوف تقديره لقد همت طائفة منهم أن يضلوك ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك.
فإن قيل: النجوى فعل «ومن» اسم، فكيف صح استثناء الاسم من الفعل في قوله تعالى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ(2/195)
نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
[الآية 114] ؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: إلا نجوى من أمر بصدقة، فيكون استثناء الفعل من الفعل، ونظيره قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ [البقرة/ 177] تقديره: برّ من آمن بالله.
فإن قيل لم قال تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ ثم قال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الآية 114] ؟
قلنا: ذكر الآمر بالخير ليدل به على خيرية الفاعل بالطريق الأولى، ثم ذكر الفاعل ووعده الأجر العظيم إظهارا لفضل الفاعل المؤتمر على الآمر الثاني. انه أراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر أنواع الفعل، وإذا كان الآمر موعودا بالأجر العظيم كان الفاعل موعودا به بطريق الأولى.
فإن قيل لم قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [الآية 117] أي ما يعبدون من دون الله إلا اللات والعزى ومناة ونحوها وهي مؤنثة، ثم قال: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً (117) أي ما يعبدون إلا الشيطان؟
قلنا: معناه أن عبادتهم للأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان، إما لأنهم أطاعوا الشيطان في ما سول لهم وزين من عبادة الأصنام بالإغواء والإضلال، أو لأن الشيطان موكل بالأصنام يدعو الكفار إلى عبادتها شفاها ويتزيا للسّدنة فيكلمهم ليضلهم.
فإن قيل: كيف يقال إن العبد يحكم بكونه من أهل الجنة بمجرد الإيمان، والله تعالى شرط لذلك العمل الصالح بظاهر قوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الآيتان 57 و 122] وقوله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الآية 124] وإلا لما كان للتقييد فائدة؟
قلنا: قيل إن المراد بالعمل الصالح الإخلاص في الإيمان، وقيل الثبات عليه إلى الموت، وكلاهما شرط في كون الإيمان سببا لدخول الجنة.
فإن قيل لم قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [الآية 123] والتائب المقبول التوبة غير مجزيّ بعمله، وكذلك من عمل سيئة ثم أتبعها حسنة، لأنها مذهبة لها وماحية بنص القرآن؟
قلنا: المراد: من يعمل سوءا ويمت(2/196)
مصرّا عليه، فإن تاب عنه لم يجز به.
الثاني أن المؤمن يجازى في الدنيا بما يصيبه فيها من المرض وأنواع المصائب، والمحسن كما جاء في الحديث، والكافر يجازى في الآخرة.
فإن قيل: لم خص المؤمنين الصالحين بأنهم لا يظلمون بقوله سبحانه وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [الآية 124] مع أن غيرهم لا يظلم أيضا؟
قلنا: قوله تعالى وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) راجع إلى الفريقين: عمال السوء وعمال الصالحات، لسبق ذكر الفريقين. الثاني: أن يكون من باب الإيجاز والاختصار فاكتفى بذكره عقب الجملة الأخيرة عند ذكر أحد الفريقين لدلالته على إضماره عقب ذكر الفريق الآخر، ولا يظلم المؤمنون بنقصان أعمالهم، ولا الكافرون بزيادة عقاب ذنوبهم. الثالث: أن المراد بالظلم نفي نقصان ثواب الطاعات، وهذا مخصوص بالمؤمنين، لأن الكافرين ليس لهم على أعمالهم ثواب ينقص من العقاب على ذنوبهم.
فإن قيل: طلب الإيمان من المؤمنين تحصيل حاصل، فكيف قال جلّ شأنه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية 136] .
قلنا: معناه: يا أيها الذين آمنوا بعيسى آمنوا بالله ورسوله محمد. وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق آمنوا الآن. وقيل معناه: يا أيها الذين آمنوا علانية آمنوا سرّا.
فإن قيل: قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الآية 141] وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ [الآية 141] لماذا سمى ظفر المؤمنين فتحا وظفر الكافرين نصيبا؟
قلنا: تعظيما لشأن المؤمنين وتحقيرا لحظ الكافرين، لأن ظفر المسلمين أمر عظيم يتضمن نصرة دين الله وعزة أهله، وتفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين ليس إلا حظا دنيئا وعرضا من متاع الدنيا يصيبونه، ولا يتضمن شيئا مما ذكرنا.
فإن قيل لم قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) وقد نصر الكافرين على المؤمنين يوم أحد وفي غيره أيضا إلى يومنا هذا؟(2/197)
قلنا: المراد به السبيل بالحجة والبرهان، والمؤمنون غالبون بالحجة دائما.
فإن قيل: كيف كان المنافق أشد عذابا من الكافر حتى قال الله تعالى في حقهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [الآية 145] مع أن المنافق أحسن حالا من الكافر، بدليل أنه معصوم الدم وغيره محكوم عليه بالكفر، ولهذا قال الله تعالى في حقهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [الآية 143] ، فلم يجعلهم مؤمنين ولا كافرين؟
قلنا: المنافق، وإن كان في الظاهر أحسن حالا من الكافر، إلا أنه عند الله في الآخرة أسوأ حالا منه لأنه شاركه في الكفر وزاد عليه الاستهزاء بالإسلام وأهله ومخادعة الله والمؤمنين.
فإن قيل: الجهر بالسوء غير محبوب عند الله تعالى أصلا، بل المحبوب عنده العفو والصفح والتجاوز فكيف قال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [الآية 148] : أي إلّا جهر من ظلم.
قلنا: معناه ولا جهر من ظلم ف «إلا» بمعنى ولا، وقد سبق نظيره وشاهده في قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [الآية 92] .
فإن قيل: كيف جاز دخول «بين» على أحد في قوله تعالى وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [الآية 152] و «بين» تقتضي اثنين فصاعدا، يقال فرقت بين زيد وعمرو، وبين القوم، ولا يقال فرقت بين زيد؟
قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة/ 68] في سورة البقرة أيضا.
فإن قيل: ما الحكمة من إعادة الكفر في الآية الثانية بقوله تعالى وَبِكُفْرِهِمْ [الآية 155] بعد قوله سبحانه في الآية نفسها: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ.
قلنا: لأنه قد تكرر الكفر منهم فإنهم كفروا بموسى وعيسى عليهما السلام، ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام، فعطف بعض كفرهم على بعض.
فإن قيل: اليهود كانوا كافرين بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف أقروا أنه رسول الله بقولهم، كما ورد في القرآن الكريم(2/198)
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [الآية 157] ؟
قلنا: قالوه على طريق الاستهزاء، ومثال ذلك ما أورده القرآن الكريم حكاية على لسان فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) [الشعراء] .
فإن قيل: لم وصفهم بالشك بقوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [الآية 157] ثم وصفهم بالظن في الآية نفسها: بقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. والشك تساوي الطرفين، والظن رجحان أحدهما فكيف يكونون شاكين ظانّين، وكيف استثنى الظن من العلم وليس الظن فردا من أفراد العلم بل هو قسيمه؟
قلنا: استعمل الظن بمعنى الشك مجازا لما بينهما من المشابهة في انتفاء الجزم، وأما استثناء الظن من العلم فهو استثناء من غير الجنس كما في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم/ 62] وقيل لأن المراد بالشك هنا ما يشمل الظن، واستثناء الظن من العلم في الآية منقطع، ف «إلّا» فيها بمعنى لكن كما في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) [الواقعة] ، وما أشبهه.
فإن قيل: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته حتى قال سبحانه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [الآية 165] ؟
قلنا: الرسل والكتب منبهة من الغفلة، باعثة على النظر في أدلة العقل، مفصلة لمجمل الدنيا وأحوال التكليف التي لا يستقل العقل بمعرفتها، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا:
لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه/ 134] ، فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
فإن قيل لم قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [الآية 166] ولم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه وقدرته، مع أن الله تعالى لا يفعل إلا عن علم وقدرة؟
قلنا قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي عالما به، أو: وفيه علمه: أي معلومه أو معلمه من الشرائع والأحكام. وقيل معناه: أنزله عليك بعلم منه أنّك أولى بإنزاله عليك من سائر خلقه.
فإن قيل: كلام الله صفة قديمة قائمة(2/199)
بذاته، وعيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق وحادث فكيف صحّ إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى: رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ [الآية 171] ؟
قلنا: معناه أن وجوده في بطن أمه كان بكلمة الله تعالى، وهو قوله «كن» من غير واسطة أب، بخلاف غيره من البشر سوى آدم. وقيل المراد بالكلمة الحجة.
فإن قيل على الوجه الأول: لو كان صحة إطلاق الكلمة على عيسى صلوات الله على نبينا وعليه لهذا المعنى لصح إطلاقها على آدم (ع) :
لأن هذا المعنى فيه أتم وأكمل لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب ولا أم أيضا.
قلنا: لا نسلّم أنه لا يصح إطلاقها عليه لهذا المعنى، بل يصح.
فإن قيل: لو صح إطلاقها عليه، لجاء به القرآن كما جاء في حق عيسى عليه الصلاة والسلام؟
قلنا: خص ذلك بعيسى لأن المجيء في حق عيسى (ع) إنما كان للرد على من افترى عليه وعلى أمه ونسبه إلى أب، ولم يرد هذا المعنى في حق آدم عليه الصلاة والسلام لاتفاق الناس كلهم على أنه غير مضاف إلى أب ولا إلى أم.(2/200)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النساء»
«1» قوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [الآية 10] .
استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها في البقرة. والمعنى أنهم لما أكلوا المال المؤدي إلى عذاب النار شبّهوا، من هذا الوجه، بالآكلين من النار.
وقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [الآية 15] .
استعارة لأن المتوفي ملك الموت فنقل الفعل إلى الموت على طريق المجاز والاتساع، لأن حقيقة التوفي هي قبض الأرواح من الأجسام.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [الآية 33] .
استعارة. والمراد بها والله أعلم: «أن من عقدتم بينكم وبينه عقدا، فأدوا إليه ما يستحقه بذلك العقد عليكم» ، وإنما نسب المعاقدة إلى الأيمان على عادة العرب في ذلك. يقول قائلهم: أعطاني فلان صفقة يمينه على كذا، وأخذت يد فلان مصافحة على كذا، وعلى هذا النحو أيضا إضافة الملك إلى الأيمان في قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [الآية 36] لأن الإنسان في الأغلب إنما يقبض المال المستحق بيمينه ويأخذ السلع المملوكة بيده.
وقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [الآية 46] .
وهذه استعارة. والمراد بها، والله
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.(2/201)
أعلم، أنهم يعكسون الكلام على حقائقه، ويزيلونه عن جهة صوابه، حملا له على أهوائهم وعطفا على آرائهم.
وقوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [الآية 46] .
استعارة أخرى. والمراد بها يميلون بكلامهم إلى جهة الاستهزاء بالمؤمنين، والوقيعة في الدين.
وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها [الآية 47] .
وهذه استعارة. وهي عبارة عن مسخ الوجوه أي يزيل تخاطيطها ومعارفها، تشبيها بالصحيفة المطموسة التي عمّيت سطورها وأشكلت حروفها.
وقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى [الآية 77] .
استعارة. والمراد بها تخسيس قدر ما يصحب الإنسان في الدنيا، وأن المتعة به قليلة والشوائب له كثيرة.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [الآية 71] .
استعارة ومجاز لأن الحذر لا يؤخذ على الحقيقة، وإنما يصح الأخذ على ما يتأتى إمساكه بالأيدي من الأجسام، كالأسلحة المتعاطاة والآلات المستعملة، وما يجري مجرى ذلك، والمراد، والله أعلم: «تمسّكوا بالحذر وأديموا استشعاره، كما تتمسكون بالشيء الذي تشتمل عليه أكفكم، وتتعلق به أناملكم» .
وقوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ [الآية 90] .
استعارة. والمراد بها صفة صدورهم بالضيق عن القتال وذلك مأخوذ من الحصار وهو تضييق المذهب والمنع من التصرف.
وقوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [الآية 90] .
وهذه استعارة وحقيقتها: «إن طلبوا منكم المسالمة وسألوكم الموادعة» ، وفي قوله تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ عبارة عن طلبهم السلم عن ذل واستكانة وخضوع وضراعة.
وقوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [الآية 128] .
وهذه استعارة وليس المراد أنّ محضرا أحضر الأنفس شحّها، ولكنّ الشّحّ، لما كان غير مفارق لها، ولا متباعدا عنها، كان كأنه قد أحضرها، وحمل على ملازمتها، ومثل ذلك.(2/202)
سورة المائدة (5)(2/203)
المبحث الأول أهداف سورة «المائدة»
«1»
1- تاريخ النزول
نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
ونلحظ أن سورة المائدة من أواخر ما نزل من السور بالمدينة، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن المائدة من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه.
والمتأمّل يرى أن السورة قد امتد نزول آياتها خلال السنوات الأربع الأخيرة من حياة الرسول (ص) بالمدينة. فقد ابتدأ نزولها في السنة السابعة للهجرة، وفيها آية نزلت في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة قبل وفاة النبي (ص) بثمانين يوما وهي قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) .
وفي كتب التفسير أن سورة المائدة نهارية كلها أي نزلت آياتها جميعها نهارا. مدنية كلها إلا قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الآية 3] فإنها نزلت بعرفة.
وعدد آيات سورة المائدة: 120 آية، وعدد كلماتها: 2804 كلمات.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(2/205)
2- قصة التسمية
سميت سورة المائدة بهذا الاسم، لأنها السورة الوحيدة التي تحدثت عن مائدة طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن يسألها ربه. وذلك في قوله تعالى:
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) .
والحواريون هم خلصاء عيسى عليه السلام الذين صغت قلوبهم من الكفر والنفاق وبادروا إلى الإيمان بعيسى وتلقوا عنه التعاليم ثم انتشروا في القرى لبثّها بين الناس.
المائدة
تكلّم العلماء على المائدة التي سألها الحواريون عيسى: هل نزلت أم لا؟
وجمهور المفسرين منعقد على أنها نزلت بالفعل. وقد تعددت الروايات بعد ذلك عن أوصافها وما احتوت عليه من ألوان الطعام والشراب. وحسبك أن ترجع إلى أي تفسير من كتب التفاسير المتداولة لتقرأ في أوصافها وأوصاف ما وضع عليها الشيء الكثير، مما يجعلك ترجح أن كثيرا مما ورد في أوصاف هذه المائدة إنما هو من افتراء المفترين أو أساطير الإسرائيليين.
وألفاظ القرآن الصريحة تفيد أن عيسى (ع) طلب من ربه أن ينزل مائدة من السماء تكون كافية لقومه جميعا، وتكون عيدا وسعادة لأول قومه وآخرهم. والمائدة طعام ورزق، وكل طعام ورزق إنما هو من عند الله. وقد وعد الله أن ينزّلها عليهم. ولم يذكر القرآن: هل كانت بمفهومها الضيق كما طلبها الحواريون، أو بمفهومها المطلق، كما قد يريده الله، ويفهمه عيسى والحواريون، فيكون حينئذ وعدا بنعمة من الله عليهم، طعاما ورزقا، يشمل أولهم وآخرهم، وترجمة للمفهوم الضيق، الذي أرادوه للمائدة، بمفهوم أوسع، قد يشمل الطعام، وسواه من الرزق، ليكون ذلك ابتلاء وفتنة، لأتباع المسيح (ع) بوجه عام.
والله أعلم بما كان مما سكت عنه القرآن، وليس لنا من مصدر آخر نستفتيه، واثقين، في مثل هذه الشؤون، أنه ليس سوى رأي نبديه،(2/206)
بجوار آراء السلف، عليهم رضوان الله.
3- ظواهر تنفرد بها سورة المائدة
تنفرد سورة المائدة بجملة من الظواهر لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور، حتى في أطول سور القرآن وهي البقرة، ذلك أنها لم تتحدث عن الشرك، ولا عن المشركين، على النحو الذي ألف في القرآن: من محاجتهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير شركائهم وأنها لم تعرض، في قليل ولا في كثير، لما عهد في أكثر السور المدنية، التي نزلت قبلها، من الحث على القتال، والتحريض عليه، ورسم خطط النصر والظفر بأعداء الله المشركين، كما نراه في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والأنفال، والتوبة، لأن المسلمين في ذلك الوقت، لم يكونوا بحاجة إلى شيء من هذا الحديث، لقد اندحر الشرك وصار المشركون في قهر وذلة ويأس.
ولكن إذا كان المشركون قد انقضى عهدهم، والمسلمون قد علا شأنهم، فإنّ المسلمين في حاجة إلى إكمال التشريع المنظم لشئونهم، على وجه يضمن لهم دوام السعادة، ويحفظ لهم السيادة، ولهم بعد ذلك صلات خاصة بطوائف من أهل الكتاب، يعيشون في ذمتهم وعهدهم، ويخالطونهم في حياتهم ومعاملاتهم، ومن هنا نتبين أن المسلمين، في ذلك الوقت، كانوا في حاجة إلى ما يعنيهم في الجانبين:
جانب أنفسهم، وجانب علاقتهم بأهل الكتاب، وبذلك دار كل ما تضمنته سورة المائدة، على أمرين بارزين:
تشريع المسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وإرشادات لطرق المحاجة والمناقشة، وبيان الحق في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب، مما يتصل بالعقائد والأحكام، وفي سياق هذه المحاجة، تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين، من أسلاف أهل الكتاب، مع أنبيائهم تسلية للنبي (ص) من جهة، وتنديدا بهم عن طريق أسلافهم، من جهة أخرى.
4- تشريع القرآن
نزل القرآن على رسول الله (ص) لينشئ به أمة وليقيم به دولة ولينظم به(2/207)
مجتمعا، وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا وليربط ذلك كله برباط قوي يجمع متفرقه، ويؤلف أجزاءه ويشدها كلها إلى منزل هذا القرآن، وإلى خالق الناس الذي أنزل لهم هذا القرآن.
ومن ثم نجد في كثير من سور القرآن تشريعا إلى جانب موعظة، وقصة إلى جانب فريضة، ونجد التشريع الذي ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية، الى جانب التشريع الذي يحل ويحرم ألوانا من الطعام أو ألوانا من السلوك والأعمال.
وهذه السورة، سورة المائدة، مثل لتلك السور التي تلتقي فيها التربية الوجدانية بالتربية الاجتماعية بتشريع الحلال والحرام في الطعام والزواج، بتشريع المعاملات الدولية في ما بين المسلمين وغير المسلمين، بتعليم بعض الشرائع التعبّدية ببيان الحدود والعقوبات في بعض الجرائم الاجتماعية بالمثل والموعظة والقصّة، بتصحيح العقيدة وتنقيتها من الأسطورة والخرافة في تناسق واتساق.
5- الوفاء بالعقود
تبدأ سورة المائدة بنداء إلهي للمؤمنين أن يوفوا بالعقود فتقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] .
والعقود جمع عقد، وهو ما يلتزمه المرء لنفسه، أو لغيره، وأساسه قد يكون شيئا فطريا تدعو إليه الطبيعة، وقد يكون شيئا تكليفيا تدعو إليه العقيدة، وقد يكون شيئا عرفيا يدعو اليه الالتزام والتعاهد، والعقد العرفي، أي المتعارف عليه لدى عامة الناس، يكون بين الفرد والفرد، كما في البيع والزواج، والشركة، والوكالة، والكفالة، إلى آخر ما تعارفه الناس ويتعارفون عليه من وجوه الاتفاقات، والكلمة في الآية عامّة تأمر بالوفاء بالعقود، فتشمل العقود كلها على اختلاف أنواعها وأشكالها، وتدخل في العقود والمعاملات، والمعاهدات، بظاهر اللفظ، كما تدخل في إقامة الحدود، وتحريم المحرّمات، بوصفها داخلة في عقد الإسلام، بين الله ورسوله، والذين آمنوا بالله ورسوله.
وعلى وجه العموم، فإننا نجد سياق السورة كله يدور حول العقود والمواثيق، في شتى صورها، حتى حوار الله والمسيح يوم القيامة، الوارد في نهاية السورة، نجده سؤالا عمّا عهد(2/208)
به اليه، وعما إذا كان قد خالف عنه، كما زعم الزاعمون بعده.
6- الظروف التي نزلت فيها السورة
نزلت سورة المائدة، بعد أن قلّمت أظفار المشركين، وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة، وصار المسلمون في قوة ومنعة، كانوا بها أصحاب السلطان والصولة، في مكة وفي بيت الله الحرام، يحجون آمنين مطمئنين، وقد نكّست أعلام الشرك، وانطوت صفحة الإلحاد والضلال، وقد أتمّ الله نعمته على المسلمين بفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا.
وسورة المائدة، وإن ابتدأ نزولها في السنة السابعة، الا أنّ هذا النزول قد استمر إلى السنة العاشرة، بدليل أن فيها آية من آخر ما نزل من القرآن وهي قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الآية 3] .
روي أن رجلا من اليهود، جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال: إن في كتابكم آية تقرأونها، لو علينا أنزلت، معشر اليهود، لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيدا، قال عمر: وأي آية؟
قال:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الآية 3] .
فقال عمر: إني والله لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله (ص) عشية عرفة في يوم الجمعة، والحمد لله الذي جعله لنا عيدا.
وقد روي أن النبي (ص) قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال:
«يا أيّها النّاس إنّ سورة المائدة آخر ما نزل فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» .
7- أفكار السورة وأحكامها
انفردت سورة المائدة بعدّة مسائل، في أصول الدين وفروعه، وبتفصيل عدة أحكام، أجملت في غيرها إجمالا، ومن هذه الأحكام ما يأتي:
1- بيان إكمال الله تعالى للمؤمنين دينهم، الذي ارتضى لهم، بالقرآن وإتمام نعمته عليهم بالإسلام.
2- النهي عن سؤال النبي (ص) عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم، لما فيها من زيادة التكاليف.(2/209)
3- بيان أن هذا الدين الكامل مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد، والهداية في الأخلاق والأعمال، وأن التقليد باطل لا يقبله الله تعالى.
4- بيان أن أصول الدين الإلهي، على ألسنة الرسل كلهم، هي الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة، من ملل الرسل كاليهود والنصارى والصابئين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم في الآخرة، ولا هم يحزنون.
5- وحدة الدين واختلاف شرائع الأنبياء ومناهجهم فيه.
6- هيمنة القرآن على الكتب الإلهية.
7- بيان عموم بعثة النبي (ص) وأمره بالتبليغ العام، وكونه لا يكلّف من حيث كونه رسولا إلا التبليغ، وأن من حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم، وهو قسمان: قسم ضاع منهم قبل بعثة النبي (ص) ، وقسم كانوا يكتمونه اتّباعا لأهوائهم، مع وجوده في الكتاب كحكم رجم الزاني، ولولا أن محمدا الأمين (ص) مرسل من عند الله، لما علم شيئا من هذا ولا ذاك.
8- عصمة الرسول (ص) من أذى الناس، وهذا من دلائل نبوته (ص) ، فكم حاولوا قتله، فأعياهم وأعجزهم.
9- بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم، أفرادا وجماعات، وأنه لا يضرهم من ضل من الناس، إذا هم استقاموا على صراط الهداية.
10- تأكيد وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بما بينه الله تعالى من لعن الذين كفروا من بني إسرائيل، على لسان داود وعيسى بن مريم، وتعليله ذلك، بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
11- نفي الحرج من دين الإسلام.
12- تحريم الغلوّ في الدين، والتشدد فيه، ولو بتحريم الطيبات، وترك التمتّع بها.
13- قاعدة إباحة المحرّم للمضطر، ومنه أخذ الفقهاء قولهم: الضرورات تبيح المحظورات.
14- قاعدة التفاوت بين الخبيث والطيب، وكونهما لا يستويان في الحكم، كما أنهما لا يستويان في أنفسهما، وفيما يترتب عليهما.(2/210)
15- تحريم الاعتداء على قوم، بسبب بغضهم وعداوتهم، لأنه يجب على المؤمنين أن يلتزموا الحق والعدل.
16- وجوب الشهادة بالقسط، والحكم بالعدل، والمساواة فيهما بين غير المسلمين كالمسلمين، ولو للأعداء على الأصدقاء، وتأكيد وجوب العدل في سائر الأحكام والأعمال.
17- الحياة شركة ذات أطراف، لا يجوز أن يجور فيها طرف على طرف.
18- التعاون على البرّ والتقوى، بما له من وسائل وسبل، حسب الزمان والمكان، ومنه تأليف الجمعيات الخيرية والعلمية، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان.
19- بيان أن الله تعالى، جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناس، أي يقوم عندها أمر دينهم ودنياهم، فعندها يؤدّى الحج والعمرة، وعندها يكون الإحرام، والأمان، والسلام، ولها يتوجه المسلمون في الصلاة. فهي رمز للوحدة والأخوّة والإيمان.
20- النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين.
21- تفصيل أحكام الوضوء والغسل والتيمّم، مع بيان أن الله تعالى يريد أن يطهّر الناس، ويزكيهم بما شرع لهم، من أحكام الطهارة وغيرها.
22- تفصيل أحكام الطعام، وبيان حرامه وحلاله. وما حرم منه لكونه خبيثا في ذاته كالميتة وما في معناها، والخنزير، وما حرم لسبب ديني، كالذي يذبح لأصنام.
23- تحريم الخمر، وهو كل مسكر، وتحريم الميسر، وهو القمار.
24- بيان محظورات الإحرام في الحج.
25- تفصيل أحكام الصيد للمحرمين وغيرهم، في أوائل السورة وأواخرها.
26- حدود المحاربين الذين يفسدون في الأرض، ويخرجون على أئمة العدل، وحد السرقة وما يتعلق بالحد، كسقوطه بالتوبة الصادقة.
27- أحكام الأيمان وكفارتها.
28- تأكيد أمر الوصيّة قبل الموت، وأحكام الشهادة على الوصية.
29- الأمر بالتقوى في عدة آيات من السورة.(2/211)
30- بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله تعالى وحده.
8- النداءات الإلهية للمؤمنين
اشتملت سورة المائدة على ستة عشر نداء وجهت للمؤمنين خاصة، وكل نداء منها يعدّ قانونا ينظم ناحية من نواحي الحياة عند المسلمين تختص بأنفسهم، وتختص بعلاقتهم بأهل الكتاب.
فالنداء الأول: يطلب الوفاء بالعقود:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] .
والنداء الثاني: يطلب المحافظة على شعائر الله وعدم إحلالها:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] .
والنداء الثالث: يطلب الطهارة حين القيام إلى الصلاة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الآية 6] .
والنداء الرابع: يطلب القوامية لله والشهادة بالعدل ويحذر من الظلم.
والنداء الخامس: يطلب تذكر نعمة الله على المؤمنين بكفّ أيدي الأعداء عنهم. والنداء السادس: يدعو الى تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله. والنداء السابع: يحذّر من اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين.
والنداء الثامن: يلفت نظر المؤمنين إلى أن المسارعة في موالاة الأعداء ردة عن الدين. والنداء التاسع: يدعو إلى شدة الحذر من موالاة الأعداء. والنداء العاشر: يذكر تحريم الطيبات التي أحلها الله. والنداء الحادي عشر:
يحرّم الخمر والميسر. والنداءان الثاني عشر والثالث عشر: يتعلّقان بتحريم قتل الصيد في حالة الإحرام. والنداء الرابع عشر: يتعلق بالنهي عن سؤال ما ترك الله بيان حكمه توسعة على عباده:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [الآية 101] .
والنداء الخامس عشر: يتعلّق بتحديد المسؤولية التي يحملها المؤمنون في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والنداء السادس عشر: يتعلّق بكيفية الشهادة على الوصيّة في حالة السفر.(2/212)
وجملة هذه النداءات تربية عملية للمؤمنين، وبيان للطريق السوي التي يجب اتباعها في الشعائر والعبادات والمعاملات والمعاهدات. والنداء للمؤمنين بصفة الايمان تذكير لهم بأن عليهم أن يعملوا بمقتضى هذا الإيمان، وقوامه التصديق الباطني بوجود الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه.
الأمر بالتقوى:
حثّ القرآن على تقوى الله وطاعته وذيّل كثيرا من أحكامه ببيان شأن التقوى، وأهميّتها، وفي النداء السادس من سورة المائدة حثّ على تقوى الله والتماس الأسباب المساعدة على هذه التقوى فيقول سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) .
وتقوى الله هي تقدير العظمة الإلهية وامتلاء النفس بها امتلاء يدفع المؤمن إلى المسارعة وشدة الحرص على تحقيق أوامر الله وتشريعاته. والتقوى تدفع المؤمن إلى إنعام النظر وقوّة التفكير في ملكوت السماوات والأرض لمعرفة أسرار الله في كونه، وسنّته في خلقه، ثم الاتجاه إلى هذه الأسرار والعمل على إظهار رحمة الله فيها بعباده والوقوف على السنن التي ربط بها بين الأسباب والمسبّبات بين السعادة وأسبابها والشقاء وأسبابه، بين العلم وأسبابه والغنى وأسبابه والعزة وأسبابها ... وهكذا.
وبذلك ترى أن التقوى هي ذلك المعنى القلبي الذي تفنى به الإرادات الإنسانية في ملكوت العظمة الإلهية، وهي الباعث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهي المحقّقة للإحسان في طاعة الله ورسوله، فهي المبدأ، وهي المنتهى، وهي الأولى، وهي الآخرة.
9- أهل الكتاب
أرسل الله محمدا (ص) على حين فترة من الرسل، بعد أن درست معالم الحق والفضيلة، وبعد أن ضيّع أهل الكتاب بعض تعاليمه، وأخفوا بعضه ونقضوا ميثاقهم مع ربهم.
وقد واجهتهم سورة المائدة بأخطائهم، فوصفتهم بالتعصب المقيت، والغلوّ في الدين، واتباعهم أهواء من ضل قبلهم من الوثنيين وغيرهم، وادعائهم أنهم أبناء الله(2/213)
وأحباؤه. وقد بيّن الله لهم حقيقة الأمر، وهي أنّهم بشر ممن خلق الله، لا مزية لهم على سائر البشر، في أنفسهم وذواتهم، إنما يمتاز بعضهم على بعض بالعلوم الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والأعمال الصالحة، لا بالنسب والانتماء، إلى الأنبياء والصالحين، وصدق القائل:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي وقد وجّه الله الخطاب لأهل الكتاب عامة، بأن الرسول (ص) ، قد جاء ليكشف لهم عن كثير مما كانوا يخفونه، من كتاب الله الذي استحفظوا عليه، فنقضوا عهدهم مع الله فيه، ويعفو عن كثير مما أثقلهم به الله من تكاليف، وحرمه عليهم من طيبات، عقابا لهم على مخالفتهم وانحرافاتهم.
فالفرصة إذن سانحة ليتداركوا ما فات ولينجوا مما كتب عليهم في الدنيا والآخرة عقابا لهم على الخلاف والأخلاف:
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) .
وتوالى نداء القرآن لأهل الكتاب ليقطع حجّتهم ومعذرتهم أن يقولوا:
إن فترة كبيرة مرت عليهم، لم يأتهم فيها بشير يقربهم إلى الله، أو نذير يخوفهم الانحراف، فها هو ذا بشير ونذير:
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) .
وقد وصفت سورة المائدة التوراة والإنجيل أحسن وصف، وذكرت من أخبار التوراة قصّة ابني آدم بالحق، ومن أحكامها عقوبات القتل وإتلاف الأعضاء والجروح ومن أخبار الإنجيل والمسيح، ما هو حجّة على الفريقين وبينت أن الكتابين أنزلا نورا وهدى للناس وأنهم لو كانوا أقاموهما لكانوا في أحسن حال، ولسارعوا إلى الإيمان(2/214)
بما أنزله الله على خاتم رسله مصدقا لأصلهما، ولكنهم اتخذوا الإسلام هزوا ولعبا، في جملته، وفي عبادته، ووالوا عليه المناصبين له من أعدائه، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم.
10- اليهود
ناقشت سورة المائدة اليهود خاصة، فذكّرتهم بنعم الله عليهم وبميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل، النائبين عنهم، فما الذي كان من بني إسرائيل؟
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله. قتلوا أنبياءهم بغير حق، وبيّتوا الصلب والقتل لعيسى بن مريم، وحرفوا كلمات التوراة عن معانيها وعن مواضع الاستشهاد بها، واشتروا بهذا التحريف ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا، ونسوا بعض شرائع التوراة وأهملوها، وخانوا محمدا رسول الله وأحد الرسل الذين أخذ عليهم الميثاق أن ينصروهم، فباءوا بالطرد من رحمة الله وقست قلوبهم، ببعدهم عن هذه الرحمة.
وإنّ من صفات اليهود الغالبة عليهم الخيانة والمكر، وقول الإثم والمبالغة في سماع الكذب وأكل السّحت، والسعي بالفساد في الأرض، في إيقاد نار الفتن والحروب، وقد قتلوا رسل الله إليهم، وتمرّدوا على موسى إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة وقتال الجبارين، فعاقبهم الله بالتيه في الأرض، وأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين فعاقبهم الله على ذلك كله باللعن على ألسنة الرسل، وبالغضب والمسخ، وهذه الصفات التي غلبت عليهم في زمن البعثة، وقبل زمن البعثة تثبتها تواريخهم وتواريخ غيرهم. ومن المعلوم أنها لم تكن عامة فيهم ولا شاملة لجميع أفرادهم ولذلك قال سبحانه:
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [الآية 66] .
11- النصارى
ممّا جاء في النصارى خاصة، أنهم نسوا، كاليهود، حظا مما ذكروا به، وأنّهم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، وقد ردّ الله عليهم هذه العقيدة بالأدلّة العقلية وببراءة المسيح منها ومن منتحليها يوم القيامة، وبين لهم حقيقة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وروح منه. ولقد أخذ(2/215)
الله الميثاق عليهم، أن يلتزموا بتعاليم رسولهم، ولكنهم نسوا جانبا من تعاليمه، وأهملوا جانب التوحيد، وهو أساس العقيدة، وعند هذا الانحراف كان الخلاف بين طوائف النصارى، التي لا تكاد تعد. إذ أنّ هناك فرقا كثيرة صغيرة، داخل كل فرقة من الفرق المعلومة الكبيرة: الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والموارنة اليوم، ومن قبل كان اليعقوبيون والملكانيون والنساطرة.
وقد اشتدت العداوة بين هذه الفرق.
وشهدت المسيحية آثارها منذ القرن الأول للميلاد، وكانت على أشدها بين الملكانية واليعاقبة والنساطرة، وهي اليوم على أشدّها بين الفرق القائمة.
فلا يكاد الإنسان يتصور العداء الذي بين الكاثوليك والبروتستانت، أو بينهم وبين الأرثوذكس، أو بين الموارنة والبروتستانت، أو سواهم قال تعالى:
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) .
وقد بينت سورة المائدة أن اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، وأن النصارى أقرب الناس مودة إليهم:
ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) .
القرآن من عند الله
إنّ جملة الآيات الواردة في أهل الكتاب تشهد لنفسها، أنّها من عند الله تعالى لا من عند محمد بن عبد الله، العربي الأمي، الذي لم يقرأ شيئا من الكتب، على أن تلك الآيات، ليست موافقة لها ولهم، موافقة الناقل للمنقول عنه، وإنما هي، فوق ذلك، تحكم لهم، وعليهم، وفيهم، وفي كتبهم، حكم المهيمن السميع العليم.
12- عدالة أحكام السورة الخاصة بأهل الكتاب
لو كان هذا القرآن من وضع البشر، لشرع معاملة أهل الكتاب الموصوفين بما ذكر، ولا سيما الذين ناصبوا الإسلام العداء عند ظهوره، بأشدّ الأحكام وأقساها.
ولكنه تنزيل من حكيم حميد، أمر في هذه السورة بمعاملتهم بالعدل،(2/216)
والحكم بينهم بالقسط، وحكم بحلّ مؤاكلتهم، وتزوّج نسائهم وقبول شهادتهم، والعفو والصفح عنهم.
وهذه الأحكام التي شرّعت هذه المعاملة الفضلى لهم، نزلت بعد إظهار اليهود للمسلمين منتهى العداوة والغدر. ولكن السورة، تضّمنت تأليف قلوبهم، واكتساب مودّتهم.
وقد ختم الله سورة المائدة، بذكر الجزاء في الآخرة، وسؤال الرسل عن جواب أممهم لهم. ثم براءة المسيح ممن جعله إلها، وتفويضه الأمر كله لله الحق، فهو سبحانه المتفرد بالعلم، والقدرة، والألوهية.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) .(2/217)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المائدة»
«1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأنه ذكر فيها حديث المائدة التي أنزلت من السماء على حواريّي عيسى عليه السلام، وتبلغ آياتها عشرين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت سورة المائدة بعد صلح الحديبية، وكان النبي (ص) قد قصد مكة للعمرة هو وأصحابه، فصدتهم قريش عن عمرتهم، وجرت بين الفريقين حوادث انتهت بصلح رضيه النبي (ص) ، وكان كثير من أصحابه يرى أن فيه غبنا لهم، لأنه جاء على الشروط التي أرادتها قريش، وهي وضع الحرب بين المسلمين وقريش أربع سنين، وأن من جاء المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده، أن يرجع المسلمون من غير عمرة هذا العام ويقضوها في العام المقبل، وأن من أراد أن يدخل في عهد المسلمين من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
فنزلت هذه السورة وفي أولها الأمر بالوفاء بالعقود، ليفوا بما للمشركين في
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز.
المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(2/219)
ذلك العقد وإن كان فيه غبن لهم، ويقوموا بعمرة القضاء ولا يتثاقلوا عنها تهاونا بما استفادوه منه، وقد أطلقت العقود في ذلك إطلاقا لتشمل هذا العقد وغيره من العقود، سواء أكانت بين بعض العباد وبعض، أم كانت بين الله والعباد، ثم ذكر فيها ما أوقعه الله بالأولين من أهل الكتاب وغيرهم لنقضهم عهودهم، ليحذر المسلمين أن يصيبهم إذا نقضوا عهودهم مثل ما أصابهم، وقد جرّ ذلك إلى الكلام على نقض المنافقين واليهود لعهودهم مع النبي (ص) ، وما كان من موالاة المنافقين لليهود وإيثارهم عهودهم معهم على عهودهم مع المسلمين.
وقد جاء، بعد الأمر بالوفاء بالعقود في أول السورة، بيان حكم الذبائح والصيد في الحرم وتحريم التعرض لمن يؤمّه للنسك، وما إلى هذا من أحكام المناسك، وقد جاء معها قليل من الأحكام العملية الأخرى، فلما انتهى من الكلام على أهل الكتاب والمنافقين عاد إلى الكلام على تلك الأحكام العملية، وفصّل فيها بعض ما أجمله في أحكام المناسك، ليبين للمسلمين ما يحتاجون إليه من ذلك في عمرة القضاء، وليعلموا الفرق في ذلك بين الجاهلية والإسلام، ثم ختمت السورة بذكر أحوال يوم القيامة ليبين ما أعد فيها للذين يفون بعهودهم، ويتناسب في هذا بدؤها وختامها.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة النساء لأنها تشبهها في الطول، وفيما جاء فيها من الكلام على أهل الكتاب والمنافقين، كما تشبهها فيما جاء فيها من الأحكام العملية.
أحكام العقود والمناسك الآيات [1- 5]
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) .
فأمرهم بالوفاء بالعقود، وأحل لهم بهيمة الأنعام وهم حرم إلا ما يتلى عليهم، وحرّم عليهم الصيد وهم حرم، ثم نهاهم أن يحلوا شعائره أو الشهر الحرام أو الهدى أو القلائد أو الحجاج والمعتمرين، وأحل لهم ما حرّمه من الصيد إذا أحلوا، ونهاهم أن يحملهم صدّ المشركين لهم عن العمرة(2/220)
على الاعتداء عليهم، ثم فصل ما استثناه من بهيمة الأنعام، فحرم الميتة وغيرها إلى الاستقسام بالأزلام وهو الميسر، وكانوا، إذا اجتمعوا في الحرم، يهلون بذبائحهم للنّصب، ثم يلطخونها بالدماء ويضعون اللحوم عليها، ثم ينحرون جزورا ويسهمون عليها بالأزلام، ثم ذكر لهم أن الكفار قد يئسوا من التأثير عليهم في دينهم، ونهاهم أن يخشوهم إذا خالفوهم في مناسكهم، وذكر لهم أنه أكمل لهم دينهم، ورضي لهم الإسلام دينا، فيجب عليهم أن يرضوا ما يرضاه لهم، ولا يخشوا فيه لومة لائم.
ثم ذكر أنهم سألوا النبي (ص) قولا جامعا في ما أحل لهم من ذلك، فذكر أنه أحل لهم الطيبات وصيد ما علموا من جوارح الطير والسباع، وأن ذبائح أهل الكتاب حلّ لهم، كما أن ذبائحهم حلّ لهم، وأنه أحل لهم المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب، إذا أعطوهن مهورهن، محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) .
أحكام الوضوء والتيمم [الآية 6]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الآية 6] . فذكر حكم الصلاة بعد حكم الحج والعمرة، لأنهما ركنان من أركان الإسلام الخمسة، فأمرهم بالوضوء أو التيمم عند القيام للصلاة، ثم ذكر حكمة الوضوء والتيمم فقال:
ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) .
التحذير من نقض العقود [الآيات 7- 11]
ثم قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) . فعاد إلى المقصود الأول من السورة، وأمرهم أن يذكروا نعمته عليهم بظهورهم على المشركين، وأن يفوا بميثاقه عليهم، وأن يكونوا قوّامين، له شهداء بالعدل، ونهاهم أن تحملهم عداوتهم للمشركين على نقض ميثاقهم، ثم وعدهم على(2/221)
ذلك بالمغفرة والأجر، وأوعد الكفار بأنهم من أصحاب الجحيم، ثم أمرهم أن يذكروا نعمته عليهم إذ كانوا في مكة مغلوبين للمشركين، فكف أيديهم عنهم وجعلهم يرضون بصلحهم لشعورهم بقوتهم، ثم أمرهم أن يتقوه في ذلك ويتوكلوا عليه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) .
الاعتبار بناقضي العقود من الأولين [الآيات 12- 40]
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 12] ، فذكر أنه أخذ الميثاق عليهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان برسله الذين يبعثهم إليهم. فلما نقضوا ذلك الميثاق، أوقع عليهم لعنته في الأرض، فأذلهم وجعل قلوبهم قاسية لا تبالي بشيء، فحرفوا كتبهم ونسوا بعض ما أنزل إليهم، ولا يزال أثر تلك الخيانة فيهم بما فعلوه في عقودهم مع النبي (ص) .
ثم ذكر أنه أخذ على النصارى مثل ذلك العهد فلم يفوا به أيضا، فأوقع بينهم العداوة والبغضاء باختلافهم في دينهم، بعد نسيانهم بعض ما أنزل إليهم.
ثم ذكر أنه أرسل النبي (ص) إلى الفريقين ليبين لهم ما أخفوه من كتبهم، وأنزل عليهم كتابا يخرجهم من الظلمات إلى النور في أمر دينهم، ثم أظهر ما وقع فيه كل منهما بنقض عهودهم، من قول النصارى: إن الله هو المسيح بن مريم، مع أنه إن أراد أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعا لم يملك أحد منه شيئا، ومن قول اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، مع أنه يعذبهم بذنوبهم، ولا فرق عنده بينهم وبين غيرهم، ثم ذكر أنه أرسل إليهم النبي (ص) بعد انقطاع الرسل عنهم، ليبين لهم ما أحدثوه بعدهم، ويقطع بذلك العذر عنهم.
ثم ذكر ما كان من موسى (ع) حينما أمر قومه أن يذكروا نعمته عليهم، وأن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها لهم، ليقوموا بما عاهدوا الله عليه من محاربة أهلها، فأبوا أن يحاربوهم خوفا منهم، ثم ذكر عقابه لهم على ذلك بتحريمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.
ثم ذكر ما كان من أمر هابيل وقابيل(2/222)
ابني آدم عليه السلام، وقد اختلفا في أمر من الأمور، فقدّم كل منهما قربانا إلى الله ليحكم بينهما فيه، فتقبّل الله قربان هابيل دون قابيل، فلم يرض قابيل بذلك وهدد أخاه بالقتل، ولم يخف الله في ما عهد به إليهم من تحريم ذلك عليهم، وكف هابيل عن قتله خوفا من الله تعالى. ثم ذكر أن قابيل قتل بعد ذلك أخاه فأصبح من الخاسرين، وأدركه من الندم ما ساءت به حياته بعد أخيه.
ثم عقّب على هذا بأنه كتب من أجله على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها بإقامة القصاص فكأنما أحيا الناس جميعا، فنقضوا أيضا ما كتبه عليهم من ذلك، وأسرفوا في الأرض بالقتل وقطع الطريق والسرقة وغيرها، ثم ذكر أن جزاء الذين يبغون في الأرض بهذا الفساد أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، واستثنى منهم الذين يتوبون قبل القدرة عليهم، وأمر المؤمنين بالتقوى وابتغاء الوسيلة إليه وجهاد أولئك المفسدين، وأنذرهم بأن لهم من عذاب القيامة ما لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به منه ما تقبّل منهم، ثم ذكر أن جزاء السرقة من ذلك الفساد قطع الأيدي، وأن من تاب يقبل توبته ولا يعاقبه، لأنه المتفرد بالملك في السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) .
نقض المنافقين واليهود لعقودهم [الآيات 41- 86]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الآية 41] . فنهى النبي (ص) أن يحزن لمسارعة المنافقين واليهود في نقض عهودهم معه، وذكر من أمر اليهود في ذلك أنهم كانوا يجلسون إليه لكي يسمعوا منه، ويكذبوا عليه، ويتجسسوا لمن لا يحضر مجالسه من رؤسائهم، وأن رؤساءهم كانوا يحذرونهم، إذا تحاكموا إليه، أن يقبلوا منه ما يخالف ما حرفوه من أحكام التوراة في جاهليتهم، وكانوا قد حرفوا أحكامها في القصاص، وعدلوا عنها بالرشوة إلى أحكام جائرة ظالمة، فجعلوا دية(2/223)
القتيل من بني قريظة نصف دية القتيل من بني النّضير، ثم خيره في الحكم بينهم والإعراض عنهم، وأمره عند اختيار الحكم بينهم أن يحكم بالعدل الذي أنزله وهو القصاص، ثم عجّبه من أنهم يحكّمونه وعندهم التوراة فيها حكمه في القتل، ثم يتولّون عنه بعد التحكيم إذا علموا أنه سيحكم بينهم بذلك لا بما حرفوه في جاهليتهم، ثم ذكر أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور من الأحكام التي لم يحرفوها، وأن أسلافهم كانوا يحكمون بها لا بتلك الأحكام التي تواضعوا عليها ونهاهم أن يخشوا الناس في الرجوع إلى حكم التوراة في القصاص، وأمرهم أن يخشوه وحده ولا يشتروا بآياته تلك الرّشوة الزائلة، ثم ذكر ما جاء فيها من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسنّ والجروح، وأن عيسى، عليه السلام، جاء بعد ذلك مصدقا لأحكام التوراة، وأنه أنزل عليه الإنجيل مصدقا لها أيضا، وأنه أنزل القرآن بعد ذلك مصدقا لأحكام التوراة والإنجيل ومهيمنا عليهما. وقد توافقت الكتب الثلاثة على القصاص، فيجب الحكم بينهم به، ولا يصح اتباع أهوائهم في الحكم، ثم ذكر أنه جعل لكل من اليهود والنصارى والمسلمين شرعة ومنهاجا، وله في اختلاف تلك الشرائع حكمة الابتلاء فيها، وقد جعل شرعتنا خير الشرائع التي أنزلها، ثم حذر النبي (ص) من اليهود أن يفتنوه عما جاء فيها من القصاص، وعجّب من أنهم يبغون حكم الجاهلية الذي يفرق بين الدماء وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) .
ثم نهى المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء لنقضهم عهودهم، ولإيثارهم أعداءهم منهم عليهم، ثم ذكر أن المنافقين يتمسكون بحلفهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة من هزيمة أو نحوها فنحتاج إليهم، وكانوا أهل ثروة ومال يقرضونه بالربا وغيره، ثم ذكر أنه سيفتح على المؤمنين فيندم المنافقون على نفاقهم، ويقول المؤمنون متعجبين من أمرهم أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) .
ثم ذكر أن من يرتد من أولئك المنافقين عن دينه، فسوف يأتي بقوم خير منهم يجاهدون في سبيله، وأنه يجب أن يكون وليهم الله ورسوله والمؤمنون لينصرهم على أعدائهم.
ثم عاد إلى نهي المؤمنين عن موالاة أهل الكتاب والمنافقين ليذكر سببا آخر(2/224)
في ذلك، وهو أنهم يتخذون دينهم هزوا ولعبا، ويستهزئون بصلاتهم عند قيامهم بها، ثم أمر النبي (ص) أن يخبر أهل الكتاب بأنهم لا ينقمون منهم إلا أنهم يؤمنون بسائر الكتب المنزلة، وأن أكثرهم فاسقون، وأن يخبرهم بأن هناك من هو شرّ مثوبة عند الله ممن يظنونهم كذلك ويستهزئون بهم، وهو من لعنه الله وجعل منهم من هو على غرائز القردة والخنازير في الشره والطمع، ثم ذكر أن منهم من إذا جاءوا المؤمنين قالوا آمنا، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، وأن كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السّحت، وقد كان على ربّانيّيهم وأحبارهم أن ينهوهم عن ذلك، ولكنهم تركوه طمعا في ما يأخذونه منهم، ثم ذكر أنهم كانوا، إذا طلب منهم الإنفاق في سبيله، قالوا إن الإله الذي يستقرض شيئا من عباده فقير يده مغلولة، يتهكمون بذلك ويتعللون به في كف أيديهم عن الإنفاق، ويقولون على الله هذا القول الشنيع، وهو الغني المبسوط اليدين بالعطاء، ومن يكون هذا شأنه لا ينتظر منه إلا أن يزيده ما ينزل من القرآن طغيانا وكفرا، ثم ذكر أنه ألقى بينهم العداوة إلى يوم القيامة بسبب تكالبهم على الدنيا، فكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها بتفرقهم وتخاصمهم، ثم ذكر أنهم، لو آمنوا وأقاموا حكم التوراة والإنجيل في القصاص وغيره، بدل أحكام الجاهلية، لكفّر عنهم سيئاتهم، ورزقهم سعادة الآخرة والدنيا، وأن منهم من اقتصد في أمره وحافظ على عهده، ولم ينقضه كما نقضه كثير منهم.
ثم أمر النبي (ص) أن يمضي في تبليغ رسالته إليهم، ووعده بعصمته وحفظه منهم، ثم فصل ما يبلغه بأن يقول لهم إنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا عهد التوراة والإنجيل والقرآن في القصاص وغيره من الأحكام، وأخبره بأن تبليغه إليهم ذلك سيزيدهم طغيانا وكفرا، ونهاه أن يحزن على قوم كافرين مثلهم، وذكر ما أعده لمن آمن منهم ومن غيرهم ليقلعوا عن كفرهم، ثم ذكر، من خروجهم على عهد التوراة والإنجيل، أنه أخذ على بني إسرائيل ميثاقهم أن يؤمنوا برسله، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأن النصارى كفروا بعد إيمانهم، فقال بعضهم إن الله هو المسيح بن مريم،(2/225)
مع أنه قد أمرهم أن يعبدوا الله ربه وربهم، وقال بعضهم إن الله ثالث ثلاثة، مع أنه ما من إله إلا إله واحد، ثم رد عليهم جميعا بأن المسيح لم يكن إلا رسولا، وبأن أمه لم تكن إلا صدّيقة، وكانا يأكلان الطعام كما يأكل سائر البشر، ثم وبخهم على أن يعبدوا من دونه ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ونهاهم أن يغلوا في أمر المسيح، وأن يتّبعوا في ذلك من ضل قبلهم فقال بالتثليث ونحوه مما يقولون به.
ثم ذكر أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، وأن كثيرا منهم كانوا لا يتناهون عن المنكر فيما بينهم، وأن كثيرا منهم يتولون المشركين على المؤمنين، ولو كانوا يؤمنون بالله ونبيهم موسى عليه السلام ما اتخذوهم أولياء، ثم ذكر أن اليهود والمشركين الذين يوالي بعضهم بعضا أشد الناس عداوة للمؤمنين، وأن النصارى أقرب منهم مودة لهم، لأن منهم قسيسين ورهبانا قد أقبلوا على العبادة ولم يحرصوا على الدنيا حرص اليهود والمشركين، ومنهم من إذا سمعوا ما أنزل على النبي (ص) تفيض أعينهم من الدمع، ويؤمنون بأنه النبي الذي بشّروا به في التوراة والإنجيل، فكان جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) .
عود إلى ما سبق من الأحكام [الآيات 87- 108]
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) فنهاهم أن يحرموا شيئا من الطيبات التي أحلها لهم فيما سبق، وأمرهم أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيبا، ثم ذكر لهم أنه لا يؤاخذهم باللغو في أيمانهم، ولكن يؤاخذهم بما قصدوه منها، وبين لهم كفارته، ثم حرم عليهم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وذكر أن الشيطان يريد أن يوقع بينهم العداوة في الخمر والميسر، ثم ذكر أنه لا حرج عليهم فيما طعموا إذا ما اتقوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم ذكر أنه سيبلوهم في حال الإحرام بشيء من الصيد تناله أيديهم ورماحهم، وأعاد ذكر تحريمه ليبين حكم من يقتله(2/226)
متعمدا، وأن الذي يحرم صيد البر لا صيد البحر، ثم ذكر أنه جعل البيت الحرام أمنا للناس فلا يحل القتال فيه، وكذلك جعل الشهر الحرام أمنا لهم، وكذلك جعل الهدي والقلائد لتسير إلى البيت آمنة، ثم ذكر أنه شرع لهم ذلك بواسع علمه وحكمته، وهددهم على مخالفة ذلك بشديد عقابه، وذكر أنه ليس على الرسول (ص) إلا تبليغه لهم.
ثم ذكر أنه لا يستوي الخبيث الذي حرمه عليهم، والطيب الذي أحله لهم، ولو كان في كثرة الخبيث ما يدعو إلى الإعجاب به، ثم نهاهم أن يسألوا عن أشياء من ذلك يريدون التشديد فيها، لأنه قد سألها قوم من قبلهم ثم كفروا بها ولم يقووا عليها.
ثم أبطل ما كانوا يهدونه للأصنام، فذكر أنه ما جعل لهم من بحيرة ولا سائبة ولا غيرهما من هدايا الأصنام، وأنهم يفترون عليه في نسبة تشريعها إليه، وأنهم يقلدون فيها آباءهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، ثم أمر المؤمنين أن يعرضوا عنهم لأنهم لا يضرّونهم بشيء من ضلالهم، وذكر أن مرجعهم إليه فينبئهم بأعمالهم ثم ذكر أن أحدهم إذا كان مسافرا وحضره الموت، أشهد على وصيته اثنين من المسلمين، فإذا لم يجدهما أشهد عليها اثنين من غيرهم، ثم أكد في الشهادة على الوصية بما أكد به ليأتوا بها على وجهها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) .
الخاتمة [الآيات 109- 120]
ثم قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) . فذكر أنه يجمع رسله يوم القيامة ليسألهم عما فعله أتباعهم فيما عهدوا به إليهم، فيجيبوا بأنهم لا يعلمون ما أحدثوه فيها بعد وفاتهم، لأنهم غابوا عنهم ولا يعلم الغيب غيره، ثم خصّ النصارى بذكر ما أحدثوه في عهدهم لأنهم كانوا أشد انحرافا من غيرهم، فذكر أنه، في يوم القيامة، يذكر لعيسى عليه السلام ما أنعم به عليه وعلى والدته، وأنه علّمه الكتاب والحكمة إلخ، ومما ذكره في هذا حديث المائدة التي سميت هذه السورة باسمها، ثم ذكر أنه يسأله بعد(2/227)
هذا أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الآية 116] وأنه يجيبه بتنزيهه عن أن يكون له شريك، وبأنه ليس له أن يقول مثل هذا الذي نسبه أتباعه إليه، وبأنه إنما أمرهم بعبادة الله ربه وربهم، وكان عليهم شهيدا بذلك في حياته، فلما توفاه كان هو الشهيد عليهم، ثم فوض الأمر إليه في تعذيبهم والمغفرة لهم إظهارا لكمال العبودية، وإن كان الشرك لا يغفر لأصحابه.
ثم ذكر أنه يقول لرسله بعد ذلك هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] وهم الذين صدقوا في عهودهم ولم يغيروا فيها بعد وفاة رسلهم، وذكر أن لهم على ذلك جنات يتمتعون فيها برضاه عنهم ورضاهم عنه، وأن ذلك هو الفوز العظيم لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) .(2/228)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المائدة»
«1» وقد تقدم وجه في مناسبتها.
أقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة، فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة «2» .
وكذا ما أخرجه الكفار تبعا لآبائهم في البقرة موجز «3» وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الآية 103] .
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى «4» . وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال تعالى مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978 م.
(2) . قال تعالى هنا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [الآية 3] الى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [الآية 5] . أمّا في البقرة فلم يكن هذا التفصيل، إذ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة/ 172] . ثم قال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة/ 173] . [.....]
(3) . في البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [البقرة/ 168] .
(4) . من دلائل الترتيب أنه قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى في [البقرة/ 178] . ثم زاده بيانا في السورة نفسها فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة/ 179] . ثم قال تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الآية 194] . ثم ذكر قتل الخطأ والنسيان في النساء فقال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء/ 92] . وزاد تفصيل القصاص فيما ساقه المؤلف في الآية 32 من المائدة. ثم فصل أحكام القصاص في قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الآية 45] .
وهذا تدرج بديع يدل على إحكام الترتيب والتلاحم.(2/229)
[الآية 32] . وذلك أبسط من قوله تعالى في [البقرة/ 179] : وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.
وفي البقرة: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [البقرة/ 58] . وذكر في قصتها هنا: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] .
وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطا بذكر الكفارة «1» .
وفي البقرة، قال في الخمر والميسر: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة/ 219] . وزاد هنا في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها «2» .
وفي سورة المائدة من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [الآية 60] . وقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) .
وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدا. وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحة وضمنية.
فالصريحة: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ [النساء/ 33] . وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النساء/ 90] . وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ [النساء/ 92] .
والضمنية: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء/ 58] . فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود.
__________
(1) . قال هنا: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الآية 89] .
وقال في البقرة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) .
(2) . في هذه السورة قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.(2/230)
فكأنه قيل (في المائدة) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت. فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط.
ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة، وهو: أن تلك أولها: يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء/ 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المكي، وتقديم العام «1» وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين (النساء والمائدة) ، في التقديم والاتحاد، نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب، والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك «2» .
وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء «3» فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى.
ولما وقع في سورة النساء: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [النساء/ 105] . فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا «4» ، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين.
ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب للحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله
__________
(1) . يريد بالعام: الخطاب ب يا أيّها النّاس، فهو أعم من: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 1] . أو يا أَهْلَ الْكِتابِ [النساء/ 171] .
(2) . ختام المائدة قوله تعالى لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) . وأول النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء/ 1] . وهو دليل القدرة.
(3) . بدء الخلق في أول النساء قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النساء/ 1] . والمنتهى في ختام المائدة قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] .
(4) . قصة الدرع أخرجها ابن كثير في التفسير: 2/ 358، 359، وعزاها الى ابن مردويه، من طريق عطية العوفي.
ورواها الترمذي في حديث طويل فيه سرقة طعام وسلاح: 8/ 395- 399 بتحفة الاحوذي. وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 385- 388، وانظر ارشاد الرحمن في المتشابه والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وتجويد القرآن للاجهوري ورقة: 136 أ، ب لزيادة التفاصيل.(2/231)
تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآيات 44- 45 و 47] .
فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها.
وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي «1» .
__________
(1) . أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: 8/ 436، 437: (آخر سورة نزلت المائدة والفتح) . وقال المياركفوري: روى الشيخان عن البراء: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء/ 176] . وآخر سورة نزلت سورة التوبة. وردّ البيهقي هذا التعارض بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال الباقلاني: ليس في هذه الأقوال شيء مرفوع الى النبي (ص) وكل واحد قال بضرب اجتهاد (تحفة الاحوذي: 8/ 436، 437) .
وانظر (نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني ص 135) .(2/232)
المبحث الرابع مكنونات سورة «المائدة»
«1» 1- وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الآية 2] .
قال عكرمة: هو ذو القعدة. أخرجه ابن جرير «2» . واختار أنّ المراد: هو رجب.
2- وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الآية 2] .
قال عكرمة، والسّدّي: نزلت في الحطم بن هند البكري. أخرجه ابن جرير «3» .
وقال ابن زيد: في أناس من المشركين، من أهل المشرق، مرّوا بالحديبية، يريدون العمرة. أخرجه ابن أبي حاتم «4» .
3- شَنَآنُ قَوْمٍ [الآية 8] .
هم قريش.
4- الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 3] .
نزلت بعد عصر يوم عرفة عام حجّة الوداع كما في «الصحيح» «5» .
5- يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ [الآية 4] .
سمّى عكرمة من السائلين: عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي، تحقيق إياد خالد الطبّاع، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرخ.
(2) . 6/ 37.
(3) . 6/ 38- 39.
(4) . و «الطبري» نحوه، دون قوله: «من أهل المشرق» . 6/ 39.
(5) . «صحيح البخاري» كتاب التفسير برقم (4606) . [.....](2/233)
ساعدة. أخرجه ابن جرير «1» .
وقال سعيد بن جبير: عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل.
6- وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا [الآية 8] .
أخرج ابن جرير «2» ، من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال:
نزلت في يهود خيبر حين أرادوا قتل النبي (ص) .
7- إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا [الآية 11] .
قال ابن عباس: نزلت في قوم من اليهود صنعوا لرسول الله (ص) طعاما ليقتلوه.
وقال عكرمة: في كعب بن الأشرف، ويهود بني النضير. أخرجه ابن جرير «3» .
وأخرج عن أبي مالك: في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدروا برسول الله (ص) .
وأخرج عن يزيد بن أبي زياد: أنّ منهم حيي بن أخطب.
وأخرج عن قتادة: أنها نزلت في قوم من العرب أرادوا الفتك به، وهو في غزوة، فأرسلوا له أعرابيا ليقتله ببطن نخل، وهم بنو ثعلبة، وبنو محارب «4» .
8- وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [الآية 12] .
قال ابن إسحاق: هم شموع بن زكور من سبط روبيل، وشوقط ابن حوري من سبط شمعون، وكالب بن يوقنا من سبط يهودا، ويعوول بن يوسف من سبط أساخر، ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف، ويلطي بن زوفو «5» من سبط بنيامين، وكرابيل بن سودي «6» من سبط زبالون،
__________
(1) . 6/ 57. ووقع في النسخ المطبوعة: «عويمر» بدلا من «عويم» والصواب ما أثبته.
(2) . 6/ 91.
(3) . 6/ 93. وفي «الإتقان» زيادة: و «وحيي بن أخطب» .
(4) . «الطبري» 6/ 91.
(5) . «الإتقان» : «بلطي بن روفو» .
(6) . «الإتقان» : «سوري» بالراء.(2/234)
وكدّى بن سوسا «1» من سبط منشا بن يوسف، وعمائيل بن كسل من سبط دان، وستور بن مخائيل من سبط شيز «2» ، ويحنّى بن وقوسي من سبط تفتال «3» . وإأل بن موخا من سبط كادلوا.
أخرجه ابن جرير «4» .
9- وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [الآية 18] .
قالها من اليهود: نعمان بن أحي، وبحريّ بن عمرو، وشاس بن عدي «5» .
10- عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 19] .
قال قتادة: كان بين عيسى ومحمد خمسمائة وستون سنة.
وفي رواية عنه قال: ذكر أنّها ستمائة سنة.
وقال معمر عن أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة.
وقال الضّحّاك: أربعمائة سنة، وبضع وثلاثون سنة. أخرجها محمد بن جرير.
11- ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً [الآية 20] .
قال مجاهد: المنّ، والسّلوى، والحجر، والغمام. أخرجه ابن جرير «6» .
12- الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [الآية 21] .
قال ابن عباس: الطور وما حوله.
وقال قتادة: الشام.
وقال عكرمة عن ابن عبّاس: أريحا.
وقيل: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن.
أخرج ذلك ابن جرير «7» .
13- قَوْماً جَبَّارِينَ [الآية 22] .
__________
(1) . «الإتقان» : «سوساس» .
(2) . «الإتقان» : «أشير» .
(3) . «الإتقان» : «نفتال» .
(4) . «الإتقان» : «كاذلو» بالمعجمة 6/ 96. وفي ضبط الأسماء اختلاف بين نسخ هذا الكتاب والطبري، فصّلهما الأستاذ محمود محمد شاكر في تعليقه على «الطبري» 10/ 114- 115 ط دار المعارف.
(5) . أخرجه الطبري 6/ 105 عن ابن عباس.
(6) . 6/ 109.
(7) . 6/ 110.(2/235)
هم العمالقة «1» .
14- قالَ رَجُلانِ [الآية 23] .
قال مجاهد: هما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنّا أو ابن يوفنّة «2» .
وقال السّدّي: يوشع، وكالب بن يوفنّه: ختن «3» موسى. أخرجه ابن جرير «4» .
قال ابن عسكر: يوشع: ابن أخت موسى، وكالب: صهره. واختلف في اسمه، فقيل: كالوب. وقيل: كلاب.
وأبوه: قيل: يوفنا، بالنون بعد الفاء.
وقيل بالياء بعدها.
15- نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الآية 27] .
قال مجاهد: هابيل، وهو المتقبّل منه والمقتول وقابيل، وهو القاتل.
أخرجه ابن جرير «5» .
16- قُرْباناً [الآية 27] .
هو كبش «6» .
فائدة:
أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، عن عمرو بن خير الشّعباني «7» قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير مرّان «8» ، فأراني لمعة حمراء سائلة في الجبل، فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه، وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين «9» .
__________
(1) . انظر «الدر المنثور» 2/ 270. [.....]
(2) . رواه ابن منيع. قال البوصيري الحافظ. رواته ثقات: «المطالب العالية» (3590) وضبط في «سفر العدد» و «يفنّه» بفتح الياء وضم الفاء وتشديد النون.
(3) . الختن: كل من كان من قبل المرأة، كالأب والأخ.
(4) . 6/ 113.
(5) . انظر «الطبري» 6/ 120- 121.
(6) . المصدر السابق الموضع نفسه.
(7) . عمرو بن خير الشّعباني، قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» 3/ 259 وتبعه الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» :
«لا يعرف» .
(8) . دير مرّان: محلة كانت عامرة آهلة بالسكان في دمشق غرب قاسيون، ومحلها اليوم في السفح الواقع أسفل قبة سيار وأعلى بستان الدواسة يطل منها الإنسان على الربوة، وعرفت تلك الجهة بهذا الاسم لوجود دير يدعى بدير مران. انظر «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» 1/ 44 لابن طولون الصالحي.
(9) . في أعلى قاسيون في دمشق، مسجد صغير يسمى ب «مسجد الأربعين» تقع جانبه لمعة حمراء في الجبل، يزعمون أنها دم هابيل، ولا تزال حتى الآن.(2/236)
17- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ [الآية 33] .
نزلت في العرنيين، وكانوا ثمانية «1» .
18- لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الآية 41] .
قيل: هم اليهود «2» .
وقيل: المنافقون «3» .
وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا «4» .
حكاها ابن جرير «5» .
19- سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الآية 41] .
هم أهل فدك. كما أخرجه «الحميدي» «6» ، وابن أبي حاتم من طريق الشّعبي عن جابر بن عبد الله.
20- فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الآية 52] .
قال عطيّة: نزلت في عبد الله بن أبيّ. أخرجه ابن جرير «7» .
21- فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] .
قال (ص) لما نزلت: «هم قوم هذا» ، وأشار إلى أبي «8» موسى الأشعري. أخرجه الحاكم.
وأخرجه ابن أبي حاتم، من طريق محمد بن المنكدر «9» ، عن جابر قال:
سئل رسول الله (ص) عن هذه الآية
__________
(1) . انظر: «صحيح البخاري» رقم (6799) في الديات، باب القسامة.
(2) . أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس موقوفا.
(3) . أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس. «الدر المنثور» 2/ 281.
(4) . أخرجه البيهقي في «السنن» وابن المنذر، وابن إسحاق، عن أبي هريرة.
(5) . في «تفسيره» مسندة 6/ 149- 151.
(6) . في «مسنده» برقم (1295) من طريق زكريا، وهو ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن جابر. وسنده ضعيف لأن زكريا معروف بتدليسه عن الشعبي، وروايته عنه ما لم يسمع منه. انظر «تهذيب التهذيب» 3/ 330. [.....]
(7) . 6/ 180، وابن المنذر، وابن أبي حاتم «الدر المنثور» 2/ 291.
وعطية، راوي الأثر هو ابن سعد، كما في «تفسير الطبري» .
(8) . في «المستدرك» 2/ 313 على شرط مسلم وأقره الذهبي، والطبراني كما في «مجمع الزوائد» 7/ 16 ورجاله رجال الصحيح، وأبو بكر بن أبي شيبة عن عياض الأشعري كما في «المطالب العالية» برقم (3598) قال الحافظ البوصيري: رواته ثقات.
(9) . والحاكم في «الكنى» ، وأبو الشيخ، والطبراني في «الأوسط» ، وابن مردويه، بسند حسن. كما في «الدر المنثور» 2/ 292.(2/237)
فقال: «هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كنده، ثم من السّكون، ثم من تجيب «1» » .
وأخرج من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
وأخرج «2» عن الحسن قال: هم، والله، أبو بكر وأصحابه.
وأخرج عن الضّحّاك مثله.
وأخرج عن مجاهد قال: قوم من سبأ.
وأخرج عن أبي بكر بن عياش «3» قال: هم أهل القادسية.
22- وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الآية 64] .
أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن قائل ذلك النّبّاش بن قيس.
وأخرج أبو الشيخ عنه: أنه فنحاص «4» .
23- وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الآية 82] .
أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
وأخرج عن عطاء قال: ما ذكر الله به النصارى من خير، فإنما يراد به:
النجاشي، وأصحابه.
وأخرج عن سعيد بن جبير قال:
نزلت في ثلاثين من خيار أصحاب النجاشي.
وأخرج من طرق أخرى عنه: انهم سبعون رجلا.
وأخرج عن السدي: أنهم اثنا عشر رجلا.
وقد سماهم جماعة منهم إسماعيل الضرير «5» في «تفسيره» : ابرهد، وأيمن، وإدريس، وابراهيم، والأشرف، وتميم، وتمام، ودريد، وبحيرا، ونافع.
__________
(1) . تجيب: بفتح التاء، وضمها، بطن من كندة.
(2) . ابن جرير 6/ 182.
(3) . وفي «الدر المنثور» : رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
واسمه: «النباش» ، كذا وقع اسمه في «تفسير ابن كثير» 2/ 75: «شاس» .
(4) . من يهود بني قينقاع. كما في «الدر المنثور» . والرواية في الطبري عن عكرمة.
(5) . إسماعيل الضرير، إسماعيل بن أحمد الحيري النيسابوري، الضرير، المفسر، المقرئ، أحد أئمة المسلمين، والعلماء العاملين، ومن فقهاء الشافعية، من أهل نيسابور، له تصانيف في علم القرآن والقراءات والحديث. ولد سنة 361، وتوفي نحو 430. ( «طبقات المفسرين» للسيوطي 35، و «الأعلام» 1/ 309) .(2/238)
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المائدة»
«1» 1- قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] .
الشعائر جمع شعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: جعل شعارا وعلما للنّسك، من مواقف الحجّ، ومرامي الجمار، والمطاف، والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحجّ يعرف بها من الإحرام، والطواف، والسّعي، والحلق، والنّحر.
ولا بد لنا أن نبسط هذه المادة اللغوية، لنعرف شيئا مما يتصل بها، ولنبدأ بالشّعار فنقول:
الشّعار: العلامة في الحرب وغيرها.
وشعار العساكر أن يسموا لها علامة ينصبونها، ليعرف الرجل بها رفقته.
وفي الحديث: «إن شعار أصحاب رسول الله (ص) كان في الغزو: يا منصور أمت أمت!» وهو تفاؤل بالنّصر بعد الأمر بالإماتة. واستشعر القوم: إذا تداعوا بالشّعار في الحرب، قال النابغة:
مستشعرين قد الفوا في ديارهم دعاء سوع ودعميّ وأيّوب وشعار القوم: علامتهم في السّفر.
وأشعر القوم في سفرهم: جعلوا لأنفسهم شعارا.
قال الأزهري: ولا أدري مشاعر الحجّ إلّا من هذا، لأنها علامات له.
أقول: إذا كان من معاني الشّعار العلامة، فكأن «الشّعيرة» وهي البدنة
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة العربية، بيروت، غير مؤرّخ.(2/239)
المهداة تصبح علامة، فكانت من الشعائر للحاجّ، أي: علامة له، ولأنها تذبح، فقد صار «الإشعار» هو الإدماء، أي: الذّبح.
وفي حديث مقتل عمر، رضي الله عنه: أن رجلا رمى الجمرة فأصاب صلعته بحجر، فسال الدم، فقال رجل: أشعر أمير المؤمنين.
وإذا كانت الشعائر عامة مناسك الحج، فهي أيضا الشّعارة والمشعر، وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [البقرة/ 198] .
أي: مزدلفة.
والمشاعر: المعالم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام عليها.
أقول: من غير شك أن هذه المواد الاصطلاحية، التي أصبحت شيئا من المعجم التاريخي الإسلامي، تشير إلى الأصل البعيد، وهو مادة «الشعور» بمعنى «الحسّ» ، أو «الإحساس» .
وعلى هذا يكون «الشّعار» ، وهو العلامة، واسطة يشعر بها الرجل في الحرب وغير الحرب.
ثم كان من هذا الشعيرة- وهي البدنة- «المعلّمة» بعلامة، التي تنحر هديا، ثم كانت هذه الشعيرة العلامة لعامة ما يتصل بالحج، فأطلقت على المناسك كلّها.
ثم ماذا من هذه المواد القديمة؟
أقول: استقرّت الشعيرة والشعائر في استعمالها الاصطلاحي في الحجّ. وقد يتوسع الآن فتطلق «الشعائر» على جميع الواجبات الدينية، فيقال مثلا:
الشعائر الدينية، وهي الفرائض والسنن وغيرها.
أما الشعار والشعارات في عصرنا، فهي ما يتخذ، من قول أو عمل، واسطة، أو مظهرا للإعراب عن حقيقة ما، كأن يقال: شعار الطلاب: السعي والعمل الوطني، وشعار الجندي:
الطاعة، وشعار العامل: الإخلاص.
وليس هذا الاستعمال الجديد إلا شيئا من الاستعمال القديم.
وأما المشاعر، فهي في لغتنا المعاصرة تعني الشعور والإحساس، يقال: أظهر فلان لضيفه مشاعر الودّ مثلا. وليس لهذه المشاعر مفرد، كما أنه لا مفرد للمحاسن، أو المساوئ، أو المباهج أو غيرها مما شابهها.
2- وقال تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ(2/240)
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ
[الآية 5] .
أقول يحسن بنا أن نقرأ [النساء/ 25] :
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ.
والأخدان جمع خدن، الذكر والأنثى فيه سواء، والخدن والخدين:
الصديق. وخدن الجارية محدّثها، وكانوا في الجاهلية لا يمتنعون من خدن يحدّث الجارية فجاء الإسلام بهدمه.
والمخادنة: المصاحبة.
3- وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الآية 11] .
تشير الآية إلى أن النبي (ص) جاء قوما، وهم بنو قريظة، ومعه الشيخان وعلي، يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ خطأ يحسبهما مشركين. فأراد اليهود قتل النبي، والقصة معروفة في كتب السيرة والتفسير ونزلت الآية.
ويقال: بسط لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به.
ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به، ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى.
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، أي:
منعها أن تمدّ إليكم.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة/ 2] .
أي: يبطشوا بكم.
والذي نعرفه من استقرائنا للآيات الكريمة وغيرها من النصوص أن «البسط» ، و «البسطة» تفيد السرور والانبساط والاتساع، جاء في الحديث في الكلام على الزهراء عليها السلام:
يبسطني ما يبسطها، أي: يسرّني ما يسرّها. والبسط ضد القبض حقيقة ومجازا.
وجاء في الآية 26 من سورة الرعد:
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.
وتكرر مثل هذا في تسع آيات أخرى. والمعنى ينشر الرزق ويوسّعه.
أمّا «بسط اليد» بالمعنى الذي ورد في الآية التي يجري الكلام عليها فهو(2/241)
استعمال خاص، ورد في سورة الممتحنة، كما ورد في سورة المائدة أيضا وهو قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ [الآية 28] .
ملاحظة:
وبعد، ألا يحق لنا أن نقول: إن الذي جرى عليه عامة أهل المدن في العراق في قولهم: «بسط فلان ولده بسطة فأوجعه» ، أي: ضربه، له أصل فصيح في قول الأقدمين: وبسط فلان يده إليه، أي: بطش به كما صدق ذلك في الآيات الشريفة؟
4- وقال تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الآية 13] .
أي: هذه عادتهم وهجّيرهم، وكان عليهما أسلافهم، كانوا يخونون الرّسل و «على خائنة» ، أي: على خيانة، وقرئ: «على خيانة» .
أقول: والخائنة اسم فاعل، ولذلك قال المفسرون: المعنى فعلة ذات خيانة، أو على نفس، أو فرقة خائنة.
ولعل الخائنة هنا هي الخيانة كالعافية، وهي اسم فاعل تعني المصدر، ومثلها العاقبة وغيرها.
5- وقال تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الآية 14] .
المراد ب «أغرينا» ألصقنا وألزمنا، من «غري بالشيء إذا لزمه ولصق به، وأغراه غيره، ومنه الغراء الذي يلصق به «1» .
أقول: والأصل في كل ذلك الغراء وهو الذي تلصق به الأشياء، ويتّخذ من أطراف الجلود والسّمك. وغروت الجلد، الصقته بالغراء.
وإذا كان الفعل غري بالشيء، أي:
لصق ولزم فمنه «الإغراء» ، وهو الحثّ على عمل الخير ونحو ذلك.
وهكذا جرت العربية على «الإغراء» بهذا المعنى الحسن. وما زال هذا المعنى هو المعروف المشهور، أما ما جاء في الآية من استعمال «الإغراء» بمعنى إلقاء العداوة بينهم، فهو غير معروف في العربية المعاصرة.
6- وقال الله تعالى:
__________
(1) . اللسان: (غري) .(2/242)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) .
أي: أهؤلاء الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنّهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار.
والقسم جهد الأيمان هو القسم بأغلظ الأيمان. وهذا يعني أن المصدر «جهد» بهذا الاستعمال يفيد الغاية كما نقول سعى جدّ السّعي.
7- وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) .
الفعل «يتولّى» ، في هذه الآية بمعنى يجعل الله وليّا له، وكذلك الرسول والذين آمنوا، وهذا من الاستعمال الجميل الذي لا نعرفه لهذا الفعل فقد اشتهر الفعل «تولّى» بمعنى ذهب وانصرف.
وتولّى الأمر، أي باشره ولزمه وأخذه. وتولّى الله جعله وليا له، أي:
ناصرا. وهذا الاستعمال القرآني الأخير مما لا نعرفه في العربية المعاصرة.
8- وقال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا [الآية 59] .
وقرأ الحسن: (هل تنقمون) بفتح القاف، والفصيح كسرها، والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الايمان بالكتب المنزلة كلها «1» .
أقول: ومن هذا الاستعمال قول علي بن أبي طالب (ع) :
ما تنقم الحرب العوان منّي ... بازل عامين فتيّ سنيّ
ويقال: نقمت الأمر ونقمته، أي:
كرهته، وقال تعالى:
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج/ 8] .
أي: أنكروا منهم.
ومثله قوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة/ 74] .
وليس لنا من الفعل «نقم» إلا المزيد «انتقم» ، ومعناه مشهور. فأما المجرد فلا نعرف منه في العربية المعاصرة إلا المصدر «النقمة» .
__________
(1) . «الكشاف» 1/ 650.(2/243)
وما أرانا إلا أن نعود الى هذا الفعل وغيره، فنعيده إلى الاستعمال الحديث.
9- وقال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الآية 68] .
والمعنى: لستم على دين يعتدّ به حتى يسمّى شيئا لفساده وبطلانه.
أقول: وقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ [الآية 68] لبيان أنه لا قيمة له، نظير قولنا: إن هذا ليس بشيء مثلا، إقرارا منّا بأنه فاقد القيمة.
10- وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) .
موضع الإشكال في هذه الآية مجيء «الصابئون» بالواو وسنعرض لما قيل في ذلك من كلام طويل.
وعندي أن قراءة أبيّ غير المشهورة «والصابئين» وجيهة مقبولة تنفي عنا هذا الإشكال، والتعقيد الذي سنعرض له.
ماذا قيل في هذه المشكلة النحوية؟
«الصابئون» رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنيّة به التأخير عما في حيّز إنّ من اسمها وخبرها، كأنّه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وانشد سيبويه:
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق أي: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك فإن قلت: هلّا زعمت أنّ ارتفاعه للعطف على محل إنّ واسمها؟
قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان.
فإن قلت: لم لا يصحّ، والنيّة به التأخير، فكأنّك قلت: ان زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعته عطفا على محل إنّ واسمها، والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمهما «إنّ» في عملها، فلو رفعت «الصابئون» المنويّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فإن قلت: فقوله:
«والصابئون» معطوف لا بدّ له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: هو مع(2/244)
خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ولا محل لها كما لا محلّ للتي عطفت عليها، فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلّا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟
قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا، وأشدّهم غيّا، وما سمّوا صابئين إلّا لأنّهم صبئوا عن الأديان كلها. أي:
خرجوا «1» .... وفي حاشية الشيخ أحمد بن المنير الإسكندري المسماة (الانتصاف) جاء:...... ولكن ثمّ سؤال متوجّه، وهو أن يقال: لو عطف «الصابئين» ونصبه كما قرأ ابن كثير لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين، وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظنّ بالنصارى، ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا، والعطف إفرادي، فلم عدل عن النصب إلى الرفع وجعل الكلام جملتين. «2» .....
أقول: ما كان أغنانا عن هذه التوجيهات والأقوال النحوية التي لا تخلو من التعسّف والتكلّف، لو أخذنا بقراءة أبيّ وابن كثير على نصب «الصابئين» ، وهل من حاجة إلى هذه التأويلات لنجري هذه القراءة المشهورة التي ثبتت في المصحف، ولم يكتب للقراءة الأخرى هذه الشهرة؟
أقول هذا لأني أجد مثل هذه القراءة المرفوضة، أي: على النصب في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة/ 62] .
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج/ 17] .
أترى الزمخشري وغيره من المفسرين والنحاة، كانوا قد اتبعوا الأسلوب الذي سلكوه في توجيه «الصابئون» ، أي الآية التي هي موضع درسنا. ولو أن قراءة شاذة قد وردت في هاتين الآيتين من سورتي البقرة والحج، فجاءت كلمة «الصابئين» ،
__________
(1) . «الكشاف» 1/ 660- 661.
(2) . المصدر السابق.(2/245)
مرفوعة على شذوذ القراءة، لكان لهم أن يتبعوا الأسلوب الذي أتينا على ذكره بما فيه من الحذلقة والتزيّد.
كلمة أخيرة:
الذي أراه في توجيه «الصابئون» أن القراءة صحيحة، ولكن أقول: إن نحو العربية في باب الجمع المذكور بالواو والنون والياء والنون، في عصر القرآن، لم يكن قد استقر فتخلص من اللغات الخاصة، وهذا يعني أن الواو والنون كانتا سمة وعلامة للجمع كيفما كان موضع الكلمة من الإعراب، فالواو والنون علامة الجمع، كما أن الياء والنون علامة أخرى، وأما اختصاص كل منهما بحالة إعراب خاصة فقد استفادته العربية شيئا فشيئا حتى استقر على هذا النحو الذي نعرفه في النحو العام المشهور. ثم ألم يقولوا: إن «اللذون» لغة في «الذين» ، وأن الواو لازمة في هذا الموصول كما في الشاهد المعروف:
نحن اللذون صبّحوا الصّباحا ثم ألم يقرأ الحسن: (تنزّل الشياطون) «1» ؟
11- وقال تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [الآية 71] .
في هذه الآية مسألة تتصل ب «كثير» لا بد من الوقوف عليها.
قالوا: «كثير» بدل من الضمير، أو على قولهم: أكلوني البراغيث.
أقول:
ما أظن أن القول بأن الآية جرت على لغة «أكلوني البراغيث» قول سديد مقبول، وذلك لأن هذه اللغة قد خصت بها قبيلة واحدة هي بنو الحارث بن كعب، ولكني أقول: إن الفاعل هو «كثير» وهو أقوى في الفاعلية من «الواو» الذي سمّي «ضميرا» وليس الواو إلا إشارة إلى أن الفاعل «جمع» أو دالّ على الجمع وهو «كثير» في الآية.
__________
(1) . أقول: ألم يأتنا في كتب البلدان: فلسطون ونصيبون وصريفون في فلسطين ونصيبين وصريفين، أريد أن أقول كما تكون الواو والنون لازمة كذلك الياء والنون لازمة في جمع المذكر العاقل وغيره كالاسم الموصول مثلا. [.....](2/246)
المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المائدة»
«1» قال تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية 1] ، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [الآية 1] . ففي قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصبت (غير) على الحال «2» .
وقال تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] واحدها «شعيرة» .
وقال وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الآية 2] ف «الشنئان» متحرك مثل «الدرجان» و «الميلان» ، وهو من «شنئته» ف «أنا أشنؤه» «شنئانا» . لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يحقّنّ لكم «3» . لأنّ قوله تعالى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل/ 62] إنّما هو حقّ أنّ لهم النار.
قال الشاعر «4» [من الكامل وهو الشاهد الثمانون بعد المائة] :
ولقد طعنت أبّا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا «5» .
اي: حقّ لها.
وقوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن للأخفش» ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . نقله في الكشاف 1/ 601 ونقل في زاد المسير 2/ 269 واعراب القرآن 1/ 265 والجامع 6/ 36 والبحر 3/ 414.
(3) . نقله في التهذيب 11/ 65 «جرم» والجامع 6/ 44 و 45 واللسان جرم.
(4) . هو أبو أسماء بن الضريبة مجاز القرآن 1/ 358 والخزانة 4/ 314 واللسان «جرم» ، وقيل هو عطية بن عفيف مجاز القرآن 1/ 358 والخزانة 4/ 314، وقيل هو الفرزدق الخزانة كالسابق، وقيل الفزاري الكتاب، وتحصيل عين الذهب 1/ 469.
(5) . في معاني القرآن 2/ 9 ب «تغضبا» وفي الخزانة كما سبق «أبا عبيدة» وقد جاء في 4/ 310 كما جاء في رواية الأخفش.(2/247)
أَنْ صَدُّوكُمْ [الآية 2] «1» يقول: «لأن صدّوكم» وقد قرئت (إن صدّوكم) «2» على معنى «إن هم صدّوكم» أي: «إن هم فعلوا» أي:
إن همّوا ولم يكونوا فعلوا. وقد تقول ذلك أيضا وقد فعلوا كأنك تحكي ما لم يكن كقول الله تعالى قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف/ 77] وكانت السرقة عندهم قد وقعت.
وقال تعالى: أَنْ تَعْتَدُوا [الآية 2] أي: لا يحقّنّ لكم شنئان قوم أن تعتدوا. أي: لا يحملنّكم ذلك على العدوان. ثم قال وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [الآية 2] .
وقال تعالى: وَالْمَوْقُوذَةُ [الآية 3] من «وقذت» ف «هي موقوذة» .
وَالنَّطِيحَةُ [الآية 3] فيها الهاء [اي التاء المربوطة] لأنها جعلت كالاسم مثل «أكيلة الأسد» . وانما تقول «هي أكيل» و «هي نطيح» لأنّ كل ما فيه «مفعولة» ف «الفعيل» فيه بغير الهاء نحو «القتيل» و «الصريع» إذا عنيت المرأة و «هي جريح» لأنك تقول «مجروحة» .
وقال تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ [الآية 3] «3» ولغة يخففون «السبع» «4» .
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الآية 3] وجميعه: «الأنصاب» .
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [الآية 3] يقول: «وحرّم ذلك» وواحدها «زلم» و «زلم» «5» .
وقال تعالى: مَخْمَصَةٍ [الآية 3]
__________
(1) . هي في الطبري 9/ 487 إلى بعض أهل المدينة وعامة قراء الكوفيين وفي السبعة 242 الى نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وفي الكشف 1/ 405 والتيسير 98 والبحر 3/ 422 الى غير أبي عمرو وابن كثير من السبعة. وفي حجّة ابن خالويه 104 بلا نسبة وفي معاني القرآن 1/ 300 لم تنسب قراءة.
(2) . في الطبري 9/ 488 الى بعض قراء الحجاز والبصرة وانتصر لها بقراءة ابن مسعود «ان يصدوكم» ، وفي السبعة 242 والكشف 1/ 405 والتيسير 98 الى ابن كثير وابي عمرو وزاد في البحر 3/ 422 ابن مسعود، وزاد في الجامع 6/ 46 انها اختيار ابي عبيد وأنّ الأعمش قرأ «ان يصدوكم» وفي حجة ابن خالويه 104 بلا نسبة.
(3) . وعليها في الجامع 6/ 50 قراءة ابن مسعود وابن عباس.
(4) . وفي الجامع 6/ 50 قراءة الحسن وابي حيوة وفي البحر 3/ 423 زاد الفياض وطلحة بن سليمان، ورويت عن ابي بكر عن عاصم، ورويت عن الحسن. ويبدو مما في 173 «اللهجات» أنّ الإسكان لغة تميم، وقياسا على ما جاء في «لهجة تميم» 166 أيضا.
(5) . نقله في التهذيب 13/ 219 «زلم» منسوبا إلى الأخفش وحده.(2/248)
تقول: «خمصه الجوع» نحو «المغضبة» لأنّه أراد المصدر.
وقال يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الآية 3] مهموزة الياء الثانية وهي من «فعل» «يفعل» وكسر الياء الأولى لغة نحو «لعب» «1» ومنهم من يكسر اللام والعين «2» ويسكنون العين ويفتحون اللّام أيضا «3» ويكسرونها «4» وكذلك «يئس» . وذلك أنّ «فعل» ، إذا كان ثانيه احد الحروف الستة «5» ، كسروا اوله وتركوه على الكسر، كما يقولون ذلك في «فعيل» نحو «شعير» و «صهيل» «6» .
ومنهم من يسكن الثانية ويكسر الأولى نحو «رحمه الله» فلذلك تقول: «يئس» تكسر الياء وتسكن الهمزة «7» . وقد قرئت هذه الآية (نعم ما يعظكم به) [النساء/ 58] «8» على تلك اللغة التي يقولون فيها «لعب» «9» . وأناس يقولون «نعم الرّجل زيد» «10» فقد يجوز كسر هذه النون التي في «نعم» ، لأن التي بعدها من الحروف الستة، كما كسر «لعب» . وقولهم: «ان العين ساكنة من «نعمّا» إذا أدغمت خطأ لأنه لا يجتمع ساكنان. ولكن إذا شئت أخفيته فجعلته بين الإدغام والإظهار، فيكون في زنة متحرك، كما قرئت (إنّي ليحزنني) [يوسف/ 13] يشمون النون الأولى الرفع «11» .
__________
(1) . هي لهجة تميم «لهجة تميم 167» واللهجات العربية 167.
(2) . الهامش السابق
(3) . الهامش السابق أيضا
(4) . الهامش السابق أيضا [.....]
(5) . هي حروف الحلق الستة الهمزة والعين والهاء والحاء والخاء والغين.
(6) . ما جاء في المصادر الطبري 2/ 238 والكتاب 2/ 255 والمخصص 14/ 214 يقول ان هذه لغة تميم.
(7) . في الكتاب كالسابق بلا عزو وفي «لهجة تميم 167» و «اللهجات 167» نسبت الى تميم.
(8) . وهي في رسم المصحف الشريف «نعمّا» .
(9) . هي في السبعة 190 قراءة ابن كثير وقراءة عاصم ونافع في رواية. وفي الجامع 3/ 334 الى ابي عمرو ونافع في رواية ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير.
(10) . أورد هذه اللغة في الجامع 3/ 334 وهي لغة قريش «اللهجات 167 و 168 و 169» .
(11) قراءة تضعيف النون ولا يكون الإشمام الا بها، هي في البحر 5/ 286 إلى زيد بن علي وابن هرمز وابن محيصن وقراءة الفك الى الجمهور.(2/249)
وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الآية 3] لأن الإسلام كان فيه بعض الفرائض، فلما فرغ الله جل جلاله ممّا أراد منه قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الآية 3] لا على غير هذه الصفة.
وقال تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) كأنه قال: «فإنّ الله له غفور رحيم» . كما تقول «عبد الله ضربت» تريد: ضربته. قال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المائة] :
ثلاث كلّهنّ قتلت عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود»
وقال الآخر «2» [من الرجز وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد المائة] :
قد أصبحت «3» أم الخيار تدّعي عليّ ذنبا كلّه لم أصنع «4» وقال تعالى: ماذا أُحِلَّ [الآية 4] فان شئت جعلت «ذا» بمنزلة «الذي» وان شئت جعلتها زائدة كما قال الشاعر «5» [من البسيط وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة] :
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ... لا يستفقن الى الديرين تحنانا «6»
ف «ذا» لا تكون هاهنا إلّا زائدة. إذ لو قلت: «ما الذي بال نسوتكم» لم يكن كلاما.
وقال تعالى: الْجَوارِحِ [الآية 4] وهي الكواسب كما تقول: «فلان جارحة أهله» و «مالهم جارحة» أي:
مالهم مماليك «ولا حافرة» .
وقال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [الآية 4] ، فأدخل «من» كما أدخلها في: «كان من حديث» و «قد
__________
(1) . الشاهد في تحصيل عين الذهب 1/ 44، وأمالي ابن الشجري 1/ 326، والخزانة 1/ 177 بلا عزو.
(2) . هو أبو النّجم العجلي: الكتاب وتحصيل عين الذهب 1/ 44، وفي تحصيل عين الذهب وحده 1/ 218، ومجاز القرآن 2/ 84.
(3) . في معاني القرآن 1/ 140 و 242 و 2/ 95 ب «علقت» .
(4) . والشاهد بعد في الكتاب 1/ 69 س 5 و 73 س 10 قطعة منه.
(5) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. الديوان 1/ 167.
(6) . البيت بعد في مغني اللبيب 1/ 301.(2/250)
كان من مطر» . وقوله وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ [البقرة/ 271] «1» ووَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور/ 43] «2» . وهو فيما فسر «ينزّل من السّماء جبالا فيها برد» . وقال بعضهم في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ أي: في السّماء جبال من برد. أي: يجعل الجبال من برد في السّماء ويجعل الإنزال منها.
وقال تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ [الآية 5] فيعني به الرجال.
وقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الآية 5] (و) أحلّ لكم الْمُحْصَناتُ من النساء مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أي:
أحلّ لكم في هذه الحال.
وقال تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [الآية 6] فردّه الى «الغسل» في قراءة بعضهم «3» لأنه قال:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الآية 6] وقرأ بعضهم: (وأرجلكم) «4» على المسح أي: وامسحوا بأرجلكم. وهذا لا يعرفه الناس. وقال ابن عباس «5» :
«المسح على الرّجلين يجزئ» ويجوز
__________
(1) . قد نقل عنه في الإملاء 1/ 51 والبحر 1/ 306 وشرح المفصل لابن يعيش 8/ 13 والأشباه والنظائر 4/ 44 واعراب القرآن للزجاج 2/ 673 وزاد المسير 2/ 294. [.....]
(2) . وقد نقل عنه في الإملاء 2/ 158 واعراب القرآن 726 والجامع 12/ 289 وشرح المفصل لابن يعيش 8/ 14 والتمام لابن جني 149 والبحر 464.
(3) . هي في معاني القرآن 1/ 302 قراءة عبد الله بن مسعود، وفي الطبري 10/ 52- 57 الى جماعة من قراء الحجاز والعراق، والى علي بن أبي طالب وابن عباس وعروة وعبد الله واصحاب عبد الله ومجاهد والأعمش والضحّاك، وفي الجامع 6/ 91 الى نافع وابن عامر والكسائي، وزاد في البحر 3/ 438 والتيسير 98 حفصا، وكما زاد في السبعة 242 و 243، بدل حفص عاصما في رواية، وفي الكشف 1/ 406 و 407 كما في التيسير، وزاد نسبتها الى علي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة ومجاهد والسدي.
(4) . انتصر لها في معاني القرآن 1/ 302 بحديث وفي الطبري 10- 57- 64 الى جماعة من قراء الحجاز والعراق، وأنس، وقتادة، وعلقمة، والأعمش، ومجاهد، والشعبي، وابي جعفر، والضحاك، وفي السبعة 243 الى ابن كثير، وحمزة، وابي عمرو، والى عاصم، في رواية. وفي التيسير 98 الى غير من أخذ بالسابقة، وزاد في الكشف 1/ 406 نسبتها الى الحسن والحسين، وأنس بن مالك، وعلقمة، والشعبي، والحسن، والضحّاك، ومجاهد، وفي الجامع 6/ 91 الى ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وزاد في البحر 3/ 437 أبا بكر، وأنسا، وعكرمة، والشعبي، والباقر، وقتادة، وعلقمة، والضحّاك، وفي حجّة ابن خالويه 104 بلا نسبة.
(5) . عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي الكريم ترجمته في طبقات ابن الخياط 4، ووفيات الأعيان 3/ 62، ونكت الهميان 180.(2/251)
الجر على الإتباع وهو في المعنى «الغسل» «1» نحو «هذا جحر ضبّ خرب» . والنصب أسلم وأجود من هذا الاضطرار. ومثله قول العرب: «أكلت خبزا ولبنا» واللبن لا يؤكل. ويقولون:
«ما سمعت برائحة أطيب من هذه ولا رأيت رائحة أطيب من هذه» و «ما رأيت كلاما أصوب من هذا» . قال الشاعر «2» [من مجزوء الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد المائة] :
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا «3» .
ومثله لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الآية 2] .
وقال تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الآية 6] أي: ما يريد الله ليجعل عليكم حرجا.
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) كأنه فسر الوعد ليبين ما وعدهم أي: هكذا وعدهم فقال لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
وقال تعالى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [الآية 12] لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [الآية 12] فاللام الأولى على معنى القسم والثانية على قسم آخر.
وقال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ [الآية 14] . كما تقول: «من عبد الله أخذت درهمه» «4» .
وقال تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ [الآية 22] فعملت «إنّ» في «القوم» وجعلت الصفة «جبارين» لأنّ «فيها» ليس باسم.
وقال تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الآية 26] فهي من «أسي» «يأسى» «أسى شديدا» وهو الحزن.
و «يئس» من «اليأس» وهو انقطاع الرجاء من «يئسوا» وقوله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف/ 87] : أي
__________
(1) . نقل عنه في المشكل 1/ 301، و 302 والجامع 6/ 94، وإعراب القرآن 1/ 64 «المقدمة» و 1/ 270.
(2) . هو عبد الله بن الزبعرى. الكامل 1/ 289.
(3) . والبيت في معاني القرآن 1/ 121 و 473 وفي 3/ 123 ب «ورأيت زوجك في الوغى» وفي الإنصاف 2/ 322 ب «يا ليت بعلك في الوغى» .
(4) . هو جرير بن عطية بن الخطفي. الديوان 1/ 167.(2/252)
انقطاع الرجاء وهو من: يئست وهو مثل «أيس» في تصريفه. وإن شئت مثل «خشيت» في تصريفه. وأما «أسوت» «تأسوا» «أسوا» فهو الدواء للجراحة.
و «است» «أؤوس» «أوسا» في معنى:
أعطيت. و «است» قياسها «قلت» و «أسوت» قياسها «غزوت» .
وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [الآية 27] فالهمزة ل «نبأ» لأنها من «أنبأته» . وألف «ابني» تذهب لأنها ألف وصل في التصغير. وإذا وقفت قلت «نبأ» مقصور ولا تقول «نبا» لأنها مضاف فلا تثبت فيها الألف.
وقال تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ [الآية 30] مثل [فطوّقت] ومعناه:
«رخّصت» «1» وتقول «طوّقته أمري» أي: عصبته به.
وقال تعالى: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ [الآية 31] فنصب «فأواري» لأنّك عطفته بالفاء على «أن» وليس بمهموز لأنه من «واريت» وإنما كانت «عجزت» لأنها من «عجز» «يعجز» وقال بعضهم «عجز» «يعجز» «2» ، و «عجز» «يعجز» «3» .
وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 32] . وان شئت أذهبت الهمزة من أَجْلِ وحركت النون في لغة من خفف الهمزة «4» .
و «الأجل» : الجناية من «أجل» «يأجل» ، تقول: «قد أجلت علينا شرا» ويقول بعض العرب «من جرّا» من:
«الجريرة» ويجعله على «فعلى» .
وقال تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ
__________
(1) . نقله في زاد المسير 2/ 337 والبحر 464 والصحاح «طوع» اما في «طوق» فقال: «طوقت له نفسه» لغة في طوعت: أي: رخصت وسهلت حكاها الأخفش.
(2) . يبدو مما جاء في 445 من «اللهجات» ، أنّه لا اختصاص لقبيلة، بصيغة من هاتين الصيغتين.
(3) . هي لغة لبعض قيس في رأي الفرّاء، وعدها الكسائي لحنا، والميمني لغة رديئة اللهجات 448، وقد قرأ بها الحسن، كما ذكر ذلك الجامع 6/ 145.
(4) . انظر تخفيف الهمزة فيما سبق، وقراءة تخفيف الهمزة في «أجل» وفتح النون هي في حجة ابن خالويه 105، قراءة نافع برواية ورش، واقتصر في الشواذ 32 على ورش، وفي البحر 3/ 468 كذلك. وفي الكشّاف 1/ 627 بلا نسبة. وفي الجامع 6/ 145، والكشّاف 1/ 627، والبحر 3/ 468 نسبت القراءة، بكسر النون وتخفيف الهمزة، الى ابي جعفر يزيد بن القعقاع.(2/253)
[الآية 32] كأنه يقول «أو بغير فساد في الأرض» .
وقال تعالى: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [الآية 36] كأنّه يقول: «لو أنّ هذا معهم للفداء ما تقبّل منهم» .
وقال تعالى: لا يَحْزُنْكَ [الآية 41] خفيفة مفتوحة الياء «1» وأهل المدينة يقولون (يحزنك) «2» يجعلونها من «أحزن» والعرب تقول: «أحزنته» و «حزنته» .
وقال تعالى: الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ [الآية 41] أي: «من هؤلاء ومن هؤلاء» ثم قال مستأنفا: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الآية 41] أي: هم سمّاعون.
وان شئت جعلته على وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا [الآية 41] سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ثم تقطعه من الكلام الأول.
ثم قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [الآية 42] على ذلك الرفع للأول وأما قوله تعالى: لَمْ يَأْتُوكَ [الآية 41] فههنا انقطع الكلام والمعنى «ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب «3» يسمعون كلام النبيّ (ص) ليكذبوا عليه سماعون لقوم آخرين لم يأتوك بعد» اي: «يسمعون لهم فيخبرونهم وهم لم يأتوك» .
وقال تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الآية 45] إذا عطف على ما بعد «أنّ» نصب «4» والرفع على الابتداء «5» كما تقول: «إنّ زيدا منطلق وعمرو
__________
(1) . هي في الجامع 6/ 81 قراءة غير نافع. وهي لغة قريش عنده.
(2) . هي في الجامع 6/ 181 قراءة نافع وهي عنده لغة تميم وفي الكشاف 1/ 632 والإملاء 1/ 215 بلا نسبة. [.....]
(3) . نقله في زاد المسير 2/ 357.
(4) . نسبت في معاني القرآن 1/ 210 الى حمزة، وزاد في السبعة 244 عاصما وزاد نافعا، في رواية، وفي الكشف 1/ 409، والبحر 3/ 494، نسبت الى ثلاثتهم، بلا تمييز، وفي التيسير 99 الى غير ابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وفي حجّة ابن خالويه 105 بلا نسبة.
(5) . في معاني القرآن 1/ 210 الى الكسائي، ورفعها الى الرسول الكريم، وفي السبعة 244 الى ابن كثير، وأبي عمرو وابن عامر والكسائي، والى نافع في رواية، وأهمل في التيسير 99 نافعا، والكسائي، وفي الكشف 1/ 409 الى غير نافع، وحمزة، وعاصم، وخصّ الكسائي وحده بالذكر، من قرّائها وفي حجّة ابن خالويه 105 بلا نسبة. والرأي في معاني القرآن كما سبق.(2/254)
ذاهب» ، وإن شئت قلت: «وعمرا ذاهب» نصب ورفع.
وقال تعالى: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [الآية 46] لأن بعضهم يقول: «هي الإنجيل» وبعضهم يقول «هو الإنجيل» . وقد يكون على ان الإنجيل كتاب فهو مذكر في المعنى فذكروه على ذلك. كما قال تعالى:
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا ثم قال فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء/ 8] «1» فذكّر والقسمة مونثة لأنها في المعنى «الميراث» و «المال» ، فذكر على ذلك.
وقال تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية 48] أي: «وشاهدا عليه» بالنصب على الحال.
وقال تعالى: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الآية 48] ف «الشّرعة» : الدين، من «شرع» «يشرع» ، و «المنهاج» : الطريق من «نهج» «ينهج» .
وقال تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [الآية 51] ثم قال:
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الآية 51] على الابتداء.
وقال تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [الآية 60] أي: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [الآية 60] وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
وقال تعالى: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [الآية 63] وقال عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ [الآية 63] بنصبهما بإسقاط الفعل عليهما.
وقال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [الآية 64] . فذكروا [ان اليد، هنا] «العطيّة» و «النّعمة» .
وكذلك بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الآية 64] كما تقول: إنّ لفلان عندي يدا» أي:
نعمة. وقال تعالى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص/ 45] أي: أولي النّعم.
وقد تكون «اليد» في وجوه، تقول:
«بين يدي الدار» تعني: قدّامها، وليس للدار يدان.
وقال تعالى: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الآية 67] «2» قرأ بعضهم (رسالاته) «3»
__________
(1) . النساء 4/ 8 وقد سبق له الإشارة الى هذا في الآية المذكورة.
(2) . هي في السبعة 246 قراءة ابي عمرو، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وقراءة عاصم في رواية، وفي الجامع 6/ 244 الى ابي عمرو، وأهل الكوفة، وفي الكشف 1/ 415 والتيسير 100 الى غير نافع، وابن عامر، وابي بكر، وفي البحر 3/ 530 إلى غير من قرأ بالأخرى، وفي حجّة ابن خالويه 108 بلا نسبة.
(3) . في السبعة 246 الى نافع، والى عاصم في رواية، وفي الكشف 1/ 415 والتيسير 100 والبحر 3/ 530 الى نافع، وابن عامر، وأبي بكر، وفي الجامع 6/ 244 الى اهل المدينة، وفي حجّة ابن خالويه 107 بلا نسبة.(2/255)
وكلّ صواب لأنّ «الرسالة» قد تجمع «الرّسائل» ، كما تقول «هلك البعير والشّاة» ، و «أهلك الناس الدينار والدرهم» ، تريد الجماعة.
وقال تعالى: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى [الآية 69] ، وقال في موضع آخر وَالصَّابِئِينَ [البقرة/ 62 والحج/ 17] ، والنصب القياس على العطف على ما بعد إِنَّ فأما هذه فرفعها على وجهين، كأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الآية 69] في موضع رفع في المعنى لأنه كلام مبتدأ لأنّ قوله: «إنّ زيدا منطلق» و «زيد منطلق» من غير ان يكون فيه «إنّ» في المعنى سواء، فان شئت إذا عطفت عليه شيئا جعلته على المعنى. كما قلت: «إن زيدا منطلق وعمرو» . ولكنه إذا جعل بعد الخبر فهو أحسن واكثر. وقال بعضهم: «لما كان قبله فعل شبه في اللفظ بما يجري على ما قبله، وليس معناه في الفعل الذي قبله وهو الَّذِينَ هادُوا [الآية 69] أجري عليه فرفع به وان كان ليس عليه في المعنى «1» ، ذلك أنه تجيء أشياء في اللفظ لا تكون في المعاني، منها قولهم: «هذا جحر ضبّ خرب» ، وقولهم «كذب عليكم الحجّ» يرفعون «الحج» «بكذب» وإنما معناه عليكم الحج نصب بأمرهم «2» . وتقول: «هذا حبّ رمّاني» فتضيف «الرّمان» إليك وإنّما لك «الحبّ» وليس لك «الرّمّان» .
فقد يجوز اشباه هذا والمعنى على خلافه.
وقال تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [الآية 71] ولم يقل «ثمّ عمي وصمّ» وهو فعل مقدّم، لأنه أخبر عن قوم أنهم عموا وصمّوا، ثم فسّر كم صنع ذلك منهم كما تقول «رأيت قومك ثلثيهم» «3» ، ومثل ذلك قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء/ 3] وإن شئت جعلت الفعل للآخر فجعلته على لغة الذين يقولون:
«أكلوني البراغيث» «4» كما قال «5» [من
__________
(1) . نقله في اعراب القرآن 1/ 287 والجامع 6/ 246 مشركا معه فيه الكسائي ولعل هذا ما دفع الأخفش الى نسبة الرأي الى «بعضهم» والبيان 1/ 300 والإملاء 1/ 222.
(2) . نقله في الصحاح بشيء من التغيير «كذب» .
(3) . نقله في اعراب القرآن 1/ 288 والجامع 6/ 248.
(4) . وهي لغة ضعيفة لا يليق ان نخرّج بها النصّ القرآني.
(5) . هو الفرزدق همام بن غالب. الديوان 1/ 50 وامالي ابن الشجري 1/ 133.(2/256)
الطويل وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد المائة] :
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه بحوران يعصرن السّليط أقاربه وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الآية 73] وذلك انهم جعلوا معه «عيسى» و «مريم» . كذلك يكون في الكلام إذا كان واحد مع اثنين قيل «ثالث ثلاثة» كما قال تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة/ 40] وانما كان معه واحد. ومن قال:
«ثالث اثنين» دخل عليه أن يقول:
«ثاني واحد» . وقد يجوز هذا في الشعر وهو في القياس الصحيح. قال الشاعر»
[من الوافر وهو الشاهد السادس والثمانون بعد المائة] :
ولكن لا أخون الجار حتّى يزيل الله ثالثة الأثافي ومن قال: «ثاني اثنين» و «ثالث ثلاثة» قال: «حادي أحد عشر» إذا كان رجل مع عشرة. ومن قال: «ثالث اثنين» قال: «حادي عشرة» فأمّا قول العرب: «حادي عشر» و «ثاني عشر» فهذا في العدد إذا كنت تقول: «ثاني» و «ثالث» و «رابع» و «عاشر» من غير ان تقول: «عاشر كذا وكذا» ، فلما جاوز العشرة أراد أن يقول: «حادي» و «ثاني» ، فكان ذلك لا يعرف معناه إلّا بذكر العشرة، فضم إليه شيئا من حروف العشرة.
وقال تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ [الآية 94] على القسم أي: والله ليبلونّكم. وكذلك هذه اللام التي بعدها النون لا تكون إلا بعد القسم.
وقال تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [الآية 95] . أي فعليه جزاء مثل ما قتل من النّعم.
وقال تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً [الآية 95] انتصب على الحال بالِغَ الْكَعْبَةِ [الآية 95] من صفته وليس بالِغَ الْكَعْبَةِ بمعرفة لأن فيه معنى التنوين، لأنّه إذا قال: «هذا ضارب زيد» في لغة من حذف النون ولم يفعل بعد، فهو نكرة. ومثل ذلك قوله تعالى: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف/ 24] ففيه بعض التنوين غير أنّه لا يوصل اليه من أجل الاسم المضمر.
ثم قال تعالى:
__________
(1) . لم أجد ما يشير الى القائل والقول، إلّا ما جاء في المنصف 3/ 82 من عجزه: يخون الدهر ثالثة الاثافي.(2/257)
أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ [الآية 95] أي: أو عليه كفارة.
رفع منوّن «1» ثم فسّر فقال طَعامُ مِسْكِينٍ وقرأ بعضهم (كفّارة طعام مساكين) «2» بإضافة الكفارة اليه.
وقال تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [الآية 95] «3» أي: أو عليه مثل ذلك من الصيام. كما تقول: «عليها مثلها زبدا» .
وقرأ بعضهم: (أو عدل ذلك صياما) فكسر وهو الوجه «4» لأن «العدل» :
المثل. وأمّا «العدل» ، فهو المثل أيضا. وقال وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة/ 123] أي: مثل ففرقوا بين ذا وبين «عدل المتاع» كما تقول: «امرأة رزان» و «حجر رزين» .
وقال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الآية 97] وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الآية 97] أي:
وجعل لكم الهدي والقلائد.
وقرأ بعضهم (يضركم) بدلا من يَضُرُّكُمْ في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ [الآية 105] خفيفة، بالجزم لأنه جواب الأمر، من «ضار» «يضير» «5» . وقرأ بعضهم (يضرّكم) «6» فجعل الموضع جزما فيهما جميعا، الا انّه حرّك لأنّ الرّاء ثقيلة فأولها ساكن فلا يستقيم إسكان آخرها فيلتقي ساكنان وأجود ذلك لا يَضُرُّكُمْ «7» رفع على الابتداء لأنه ليس بعلة لقوله تعالى:
__________
(1) . هي في الطبري 11/ 30 الى قراء اهل العراق، وفي السبعة 248 إلى ابن كثير، وعاصم، وابن عمرو، وحمزة، والكسائي وفي البحر 4/ 21 إلى السبعة عدا الصاحبين، وأن الأعرج وعيسى بن عمر قرءا كذلك مع توحيد «مسكين» ، وفي الكشف 1/ 418 والتيسير 100 الى غير نافع وابن عامر، وفي حجّة ابن خالويه 109 بلا نسبة.
(2) . في الطبري 11/ 30 إلى عامة قراء أهل المدينة، وفي البحر 4/ 20 إلى الصاحبين، وفي السبعة 248، والكشف 1/ 418، والتيسير 100 إلى نافع وابن عامر، وفي حجة ابن خالويه 109 بلا نسبة. [.....]
(3) . القراءة بفتح العين في البحر 4/ 21 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 1/ 320 وجه إعرابي لم ينسب قراءة.
(4) . في الشواذ 35 قراءة منسوبة الى النبي الكريم (ص) ، وعبد الله بن عباس، وفي البحر 4/ 21 الى عبد الله بن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري، وفي معاني القرآن 1/ 320 لم ينسب قراءة، بل ذكر لغة لبعض العرب.
(5) . في البحر 35 قراءة يحيى وإبراهيم في المحتسب 220، والبحر 4/ 37 على إبراهيم وذكره في الثاني بقلبه، ونقله في اعراب القرآن.
(6) . هي في البحر 4/ 37 الى أبي حيوة، وفي معاني القرآن 1/ 323 وجه لم ينسب قراءة، وفي الكشاف 1/ 686 أن قراءة أبي حيوة: يضيركم.
(7) . في البحر 4/ 37 إلى الجمهور، وفي معاني القرآن 1/ 323 لم ينسب هذا الوجه قراءة.(2/258)
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وانما أخبر أنّه لا يضرّهم.
وقال تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [الآية 106] ثم قال اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [الآية 106] أي: شهادة بينكم شهادة اثنين. فلما القى «الشهادة» قام «الاثنان» مقامها، وارتفعا بارتفاعها، كما «1» وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] يريد:
أهل القرية. وانتصبت «القرية» بانتصاب كلمة «الأهل» وقامت مقامها. ثم عطف أَوْ آخَرانِ [الآية 106] على «اثنان» .
وقرأ بعضهم: (من الذين استحقّ عليهم الأوّلين) [الآية 107] «2» أي: من الأوّلين الذين استحقّ عليهم. وقرأ بعضهم (الأوليان) «3» وبها نقرأ. لأنّه حين قال: يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ [الآية 107] كان كأنه قد حدّهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى فقال الْأَوَّلِينَ فأجرى المعرفة عليهما بدلا «4» . ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير. قال الراجز [وهو الشاهد السابع والثمانون بعد المائة] :
عليّ يوم تملك الأمورا صوم شهور وجبت نذورا وبدنا مقلّدا منحورا فجعله على «أوجب» لأنه في معنى «قد أوجب» .
قال تعالى: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الآية 114] بجعل «تكون» من صفة «المائدة» كما
__________
(1) . نقله في إيضاح الوقف 2/ 626، مع نقص في بعض العبارات وتغيير طفيف.
(2) . في الطبري 11/ 194 الى عامة قراء الكوفة، وفي الكشف 1/ 420 والتيسير 100 الى أبي بكر وحمزة، وفي الجامع 6/ 359 الى ابن سيرين، وفي السبعة 248 الى حمزة والى عاصم في رواية، وفي حجة ابن خالويه 110.
(3) . في معاني القرآن 1/ 324 هي قراءة الامام علي بن ابي طالب وأبيّ بن كعب، وفي الطبري 11/ 196 الى عامة قراء اهل المدينة والشام والبصرة، وفي السبعة 248 الى ابن كثير ونافع وابي عمرو ونافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية، وفي التيسير 100 الى غير ابي بكر وحمزة، وزاد في الكشف 1/ 420 ان عليه الجماعة، وفي الجامع 6/ 359 الى ابي بن كعب، وفي البحر 4/ 45 الى الحرميين والعربيين والكسائي والامام علي بن ابي طالب وابي وابن عباس والى ابن كثير في رواية قرة عنه.
(4) . نقله في اعراب القرآن للزجاجي 2/ 577، وشرح الأشموني 3/ 61 والهمع 2/ 117، والاملا 1/ 230.(2/259)
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي [مريم] «1» برفع «يرث» «2» إذا جعل صفة، وبجزمه «3» إذا جعل جوابا «4» كما تقول: «أعطني ثوبا يسعني» إذا أردت واسعا و «يسعني» إذا جعلته جوابا كأنك تشترط.
وقال تعالى: وَآيَةً مِنْكَ [الآية 114] عطف على «العيد» كأنه قال:
«يكون عيدا وآية» ، وذكر أنّ قراءة ابن مسعود «5» (تكن لنا عيدا) .
وليس هَلْ يَسْتَطِيعُ [الآية 112] لأنهم ظنوا انه لا يطيق. ولكن معناه كقول العرب: أتستطيع أن تذهب في هذه الحاجة وتدعنا من كلامك» ، وتقول: «أتستطيع أن تكفّ عنّي فإنّي مغموم» . فليس هذا لأنه لا يستطيع ولكنه يريد «كفّ عنّي» ، ويذكر له الاستطاعة ليحتج عليه أي: إنّك تستطيع. فإذا ذكّره إياها علم أنها حجة عليه. وإنما قرئت (هل تستطيع ربّك) «6» فيما لديّ لغموض هذا المعنى
__________
(1) . مريم 19/ 6 وقراءة الرفع هي في الطبري 16/ 48 الى عامة قراء المدينة ومكة وجماعة من اهل الكوفة وفي السبعة 407 الى ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة في الكشف 2/ 84 والتيسير 148 الى غير ابي عمرو والكسائي وفي الجامع 11/ 81 الى اهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وفي البحر 6/ 174 الى الجمهور وفي المحتسب 2/ 38 الى علي بن ابي طالب وابن عباس وابن يعمر وابي حرب بن ابي الأسود والحسن والجحدري وقتادة وابي نهيك وجعفر بن محمد.
(2) . قراءة الرفع في آية المائدة في البحر 4/ 56 الى الجمهور وفي معاني القرآن 1/ 325 بلا نسبة.
(3) . الجزم في آية مريم هو قراءة في معاني القرآن 2/ 161 يحيى بن وثاب وفي الطبري 16/ 48 الى جماعة من اهل الكوفة والبصرة وفي السبعة 407 والكشف 2/ 84 والتيسير 148 الى ابي عمرو والكسائي وزاد في الجامع 11/ 81 يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وفي البحر 6/ 174 الى النحويين والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الاصفهاني وابن محيصن وقتادة. وفي الشواذ 83 الى ابن عباس والجحدري وفي الحجة 209 بلا كشف. أما قراءة الجزم في آية المائدة، ففي معاني القرآن 1/ 325 إلى عبد الله وفي الشواذ 36 إلى ابن مسعود والجامع 6/ 368 الى الأعمش وفي البحر 4/ 56 زاد عبد الله.
(4) . نقله في البحر 4/ 56.
(5) . هو عبد الله بن مسعود وقد مرت ترجمته فيما سبق. [.....]
(6) . هي في معاني القرآن 1/ 325 وقراءة الامام علي بن ابي طالب وعائشة، وقرأ بها معاذ ورفعها الى رسول الله (ص) 1/ 325 وفي الطبري 11/ 218 و 219 الى جماعة من الصحابة والتابعين منهم سعيد بن جبير وتأولت بها عائشة وفي السبعة 249 والتيسير 101 الى الكسائي وزاد في البحر 4/ 54 الامام علي بن ابي طالب ومعاذا وابن عباس وعائشة وابن جبير وفي الجامع 6/ 365 الى النبي الكريم (ص) برواية معاذ وفي حجة ابن خالويه 109 بلا نسبة. اما القراءة بالياء ففي معاني القرآن 1/ 325 الى اهل المدينة وعاصم بن أبي النجود والأعمش وفي الطبري 11/ 219 الى عامة قراء المدينة والعراق في التيسير 101 الى غير الكسائي وفي حجّة ابن خالويه 109 بلا نسبة وفي البحر 4/ 53.(2/260)
الآخر والله أعلم. وهو جائز كأنه أضمر الفعل فأراد «هل تستطيع أن تدعو ربّك» أو «هل تستطيع ربّك أن تدعوه» ، فكل هذا جائز.
و «المائدة» الطعام. و «فعلت» منها:
«مدت» «أميد» .
قال الشاعر «1» [من الرجز وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة] :
نهدي رؤوس المجرمين الأنداد إلى أمير المؤمنين» الممتاد «2» و «الممتاد» هو «مفتعل» من «مدت» .
__________
(1) . هو رؤبة بن العجاج. ديوانه 40 ومجاز القرآن 1/ 183 و 341.
(2) . ورد المصراع الثاني في مجاز القرآن 1/ 159 و 183، والمصراعان في مجاز القرآن 1/ 301 ب تهدي رؤوس المترفين الصداد، وكذلك في الصحاح «ميد» مع «الأنداد» ، وفي اللسان «ميد» نهدي رؤوس، وفي التاج «ميد» نهدي رؤوس المترفين الأنداد، وأيضا نهدي رؤوس المترفين الصداد، وب «نهدي» و «الأنداد وب «نهدي» و «الصداد» في التكملة «ميد» .(2/261)
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المائدة»
«1» فإن قيل: كيف الارتباط والمناسبة بين قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [الآية الأولى] وقوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [نفسها] ؟
قلنا: المراد بالعقود عهود الله عليهم في تحليل حلاله وتحريم حرامه، فبدأ بالمجمل ثم أتبعه بالمفصل من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وقوله بعده حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الآية 3] .
فإن قيل: ما أكله السبع وعدم أكله وتعذره، فكيف يحسن فيه التحريم حتى قال تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ [نفسها] ؟
قلنا: معناه وما أكل منه السبع، يعني الباقي بعد أكله.
فإن قيل: قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [نفسها] يدل من حيث المفهوم عرفا على أنه لم يرض لهم الإسلام دينا قبل ذلك اليوم، وليس كذلك، فإن الإسلام لم يزل دينا مرضيا للنبي (ص) وأصحابه عند الله منذ أرسله عليه الصلاة والسلام.
قلنا: قوله اليوم ظرف للجملتين الأوليين، لا للجملة الثالثة، لأن الواو الأولى للعطف والثانية للابتداء، فالجملة الثالثة مطلقة غير موقتة.
فإن قيل: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الآية 4] كيف صلح جوابا لسؤالهم والطيبات
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.(2/263)
غير معلومة ولا متفق عليها لأنها تختلف باختلاف الطباع والبقاع؟
قلنا: المراد بالطيبات هنا الذبائح، والعرب تسمي الذبيحة طيبا وتسمي الميتة خبيثا، فصار المراد معلوما لكنه عام مخصوص كغيره من العموميات.
فإن قيل: ما الحكمة من قوله تعالى مُكَلِّبِينَ بعد قوله وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ [الآية 4] والمكلّب هو المعلم من كلاب الصيد؟
قلنا: قد جاء في تفسير المكلب أيضا أنه المضري للجارح والمغري له فعلى هذا لا يكون تكرارا «1» وعلى القول الأول يقول إنما عمم ثم خصص فقال مكلبين بعد قوله: وَما عَلَّمْتُمْ لأن غالب صيدهم كان بالكلاب، فأخرجه مخرج الغالب الواقع منهم.
فإن قيل: ظاهر قوله تعالى وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ يقتضي إباحة الجوارح المعلمة وهي حرام.
قلنا: فيه إضمار وتقديره: مصيد ما علمتم من الجوارح، يؤيده ما في تمام الكلام من قوله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [نفسها] .
فإن قيل: المؤمن به هو الله لقوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة/ 136] فالمكفور به يكون هو الله أيضا، ويؤيده قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة/ 28] . وإذا ثبت هذا، فكيف قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ [المائدة/ 5] مع أنه لا يصح أن يقال آمن بالإيمان فكذلك ضده؟
قلنا: المراد به: ومن يرتدّ عن الإيمان يقال بشأنه: كفر فلان بالإسلام إذا ارتد عنه، فكفر بمعنى ارتد لأن الرّدة نوع من الكفر، والباء بمعنى «عن» كما في قوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) [المعارج] وقوله تعالى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) [الفرقان] . وقيل المراد هنا بالإيمان المؤمن به تسمية للمفعول بالمصدر كما في قوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة/ 96] ، أي مصيده، وقولهم: ضرب الأمير ونسج اليمن.
فإن قيل: لم قال تعالى:
__________
(1) . قوله «فعلى هذا لا يكون تكرارا» لا يخفي أن دفع التكرار لا يترتب على مجرد تفسير المكلبين بما ذكر، بل يجعله حالا من فاعل علمتم المفيد لهذا التفسير كما في البيضاوي، لا من الجوارح المبني عليه هذا الإشكال، فكان الأولى التعبير بذلك.(2/264)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) [المائدة] ، ولم يقل: وعملوا السيئات، مع أن الغفران يكون لفاعل السيئات لا لفاعل الحسنات؟.
قلنا: كل أحد لا يخلو من سيئة صغيرة أو كبيرة، وإن كان ممن يعمل الصالحات وهي الطاعات، والمعنى:
أن من آمن وعمل الحسنات غفرت له سيئاته قال تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود/ 114] .
فإن قيل: لم قال تعالى بعد قوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة/ 12] ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) [المائدة] ، مع أن الذي كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل؟
قلنا: نعم ولكن الضلال بعد ما ذكر من النعم أقبح، لأن قبح الكفر بقدر عظم النعم المكفورة، فلذلك خصّه بالذكر.
فإن قيل: لم قال تعالى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [المائدة/ 14] ، ولم يقل ومن النصارى؟
قلنا: لأن هؤلاء كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى، وذلك أنهم إنما سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله، ثم اختلفوا بعده نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصارا للشيطان، فقال ذلك توبيخا لهم.
فإن قيل: لم قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الآية 15] ، أي مما كتمتموه من الكتاب فلا يظهره ولا يبين كتمانكم إياه، فكيف يجوز للنبي (ص) أن يمسك عن إظهار حق كتموه مما في كتبهم؟
قلنا: إنما لم يبين البعض لأنه كان يتبع الأمر ولا يفعل شيئا من الأمور الدينية من تلقاء نفسه، بل اتباعا للوحي، فما أمر ببيانه بيّنه، وما لم يؤمر ببيانه أمسك عنه إلى وقت أمره ببيانه. وعلى هذا الجواب يكون لفظ العفو مجازا عن الترك، فيكون قد أعلمه الله به وأطلعه عليه ولم يأمره ببيانه لهم فترك تبيانه لهم. الثاني أن ما كان في بيانه إظهار حكم شرعي كصفته ونعته والبشارة به وآية الرجم ونحوها بيّنه، وما لم يكن في بيانه حكم شرعي(2/265)
ولكن فيه افتضاحهم وهتك أستارهم فإنه عفا عنه. الثالث أن عقد الذمة اقتضى تقريرهم على ما بدلوا وغيروا من دينهم، إلا ما كان في إظهاره معجزة له وتصديق لنبوته من نعته وصفته، أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم وتحاكموا إليه فيه كحكم الزّنى ونحوه.
فإن قيل: لم قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ مع أن العبد ما لم يهده أولا لا يتبع رضوانه فيلزم الدور؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتبع رضوانه، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت/ 69] أي والذين أرادوا سبيل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا.
فإن قيل: لم نر ولم نسمع «1» أن قوما من اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله، فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟
قلنا: المراد بقولهم أبناء الله خاصة الله، كما يقال أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. وقيل فيه إضمار تقديره: أبناء أنبياء الله.
فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ [الآية 18] مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم، ويدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل وما يذنبون بالليل يغفر بالنهار.
قلنا: هم كانوا مقرين أنه يعذبهم أربعين يوما وهي مدة عبادتهم العجل في غيبة موسى عليه السلام لميقات ربه، ولذلك قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة/ 80] . وقيل أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة كما فعل بأصحاب السبت، وخسف الأرض كما فعل بقارون، وهذا لا ينكرونه، وعلى هذا الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ والإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم، كأنه قال: فلم عذّب آباءكم.
فإن قيل: قوله تعالى:
__________
(1) . قوله (لم نر ولم نسمع إلخ ... ) لا يخفي ما في إيراد السؤال على هذا الوجه، مما ينبو عن ساحة الأدب في عظمة التنزيل.(2/266)
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [الآية 18] إن أريد به يغفر لمن يشاء منكم أيها اليهود والنصارى، ويعذب من يشاء يلزم جواز المغفرة لهم وأنه غير جائز لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء/ 48] ، وإن أريد به يغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب من يشاء لا يصلح جوابا لقولهم.
قلنا: المراد به يغفر لمن يشاء منهم إذا تاب من الكفر. وقيل: يغفر لمن يشاء ممن خلق وهم المؤمنون، ويعذب من يشاء وهم المشركون.
فإن قيل: لم قيل: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [الآية 20] ، ولم يكن قوم موسى عليه السلام ملوكا؟
قلنا: المراد جعل فيكم ملوكا، وهم ملوك بني إسرائيل، وهم اثنا عشر ملكا، لاثني عشر سبطا، لكل سبط ملك. وقيل المراد به أنه رزقهم الصحة والكفاية والزوجة الموافقة والخادم والبيت فسماهم ملوكا لذلك. وقيل المراد به أنه رزقهم المنازل الواسعة التي فيها المياه الجارية.
فإن قيل: من أين علم الرجلان أنهم الغالبون حتى قالا، كما روى القرآن الكريم: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [الآية 23] .
قلنا: من جهة وثوقهم بإخبار موسى (ع) بذلك كما ورد في التنزيل:
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الآية 21] . وقيل علما ذلك بغلبة الظن، وما عهداه مع صنع الله تعالى بموسى (ع) في قهر أعدائه.
فإن قيل: قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) يدل على أن من لم يتوكل على الله لا يكون مؤمنا، وإلا لضاع التعليق وليس كذلك.
قلنا: «إن» هنا بمعنى إذ، فتكون بمعنى التعليل كما في قوله تعالى:
وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) [البقرة] .
فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الآية 21] وبين قوله فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [الآية 26] .
قلنا: معناه كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد، قيل: فإنها محرمة عليهم. الثاني أن(2/267)
كل واحد منهما عام أريد به الخاص، فالكتابة للبعض وهم المطيعون، والتحريم على البعض وهم العاصون.
الثالث أن التحريم موقت بأربعين سنة والكتابة غير موقّتة، فيكون المعنى أن بعد مضي الأربعين يكون لهم. وهذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرمة وجعلها ظرفا. فأما من جعل الأربعين ظرفا لقوله تعالى (يتيهون) مقدما عليه، فإنه جعل التحريم مؤبدا فلا يتأتى على قوله هذا الجواب، لأن التقدير عنده: فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة، وهو موضع قد اختلف فيه المفسرون والقراء من جملة من جوز نصب الأربعين بمحرمة ويتيهون، والزجاج من جملة من منع جواز نصبه بمحرمة، ونقل أن التحريم كان مؤبدا، وأنهم لم يدخلوها بعد الأربعين، ونقل غيره أنه دخلها بعد الأربعين من بقي منهم وذرية من مات منهم، ويعضد الوجه الأول كون الغالب في الاستعمال تقدم الفعل على الظرف الذي هو عدد، لا تأخّره عنه، يقال: سافر زيد أربعين يوما وما أشبه ذلك، وقلّما يقال على العكس.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً [الآية 27] ، ولم يقل قربانين لأن كل واحد منهما قرب قربانا؟
قلنا: أراد به الجنس فعبر عنه بلفظ الفرد كقوله تعالى وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة/ 17] . الثاني: أن العرب تطلق الواحد وتريد الاثنين، وعليه جاء قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق] وقال الشاعر:
فإنّي وقيّار بها لغريب تقديره: فإني بها لغريب وقيار.
كذلك كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [البقرة/ 62] . وقيل إنما أفرده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع.
فإن قيل: أصلح قوله تعالى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) جوابا لقوله لَأَقْتُلَنَّكَ.
قلنا: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل، قال له ذلك كناية عن حقيقة الجواب وتعريضا، معناه إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا منّي فلم تقتلني؟(2/268)
فإن قيل: كيف قال هابيل لقابيل كما ورد في التنزيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الآية 29] أي تنصرف بهما مع أن إرادة السوء والوقوع في المعصية للأجنبي حرام، فكيف للأخ؟
قلنا: فيه إضمار حرف النفي تقديره:
إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل/ 15] ، أي أن لا تميد بكم وقوله تعالى تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف/ 85] وقول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
الثاني أن فيه حذف مضاف تقديره: إني أريد انتفاء أن تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة/ 93] ، أي حب العجل. الثالث أن معناه: إني أريد ذلك إن قتلتني لا مطلقا. الرابع أنه كان ظالما، وجزاء الظالم تحسن إرادة من الله تعالى فتحسن من العبد أيضا.
فإن قيل: قوله تعالى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) يدل على أن قابيل كان تائبا لقوله عليه الصلاة والسلام «الندم توبة» فلا يستحق النار.
قلنا: لم يكن ندمه على قتل أخيه، بل على حمله على عنقه سنة، أو على عدم اهتدائه إلى الدفن الذي تعلمه من الغراب، أو على فقد أخيه لا على المعصية، ولو سلمنا أن ندمه كان على قتل أخيه، ولكن يجوز أن الندم لم يكن توبة في شريعتهم بل في شريعتنا، أو نقول: التوبة تؤثر في حقوق الله تعالى لا في حقوق العباد، والدم من حقوق العباد فلا تؤثر فيه التوبة.
فإن قيل: كيف يكون قتل الواحد كقتل الكل «1» ، وإحياء الواحد كإحياء الكل والدليل يأباه من وجهين:
أحدهما أن الجناية كلما تعددت وكثرت كانت أقبح فتناسب زيادة الإثم والعقوبة، هذا هو مقتضي العقل والحكمة. الثاني أن المراد بهذا التشبيه إما أن يكون تساوي قتل الواحد والكل في الإثم والعقوبة، أو تقاربهما، وإنما كان يلزم منه أنه إذا قتل الثاني أو الثالث وهلم جرا أن لا يكون عليه إثم آخر، ولا يستحق عقوبة أخرى لأنه أثم إثم قتل الكل واستحق عقوبة قتل الكل
__________
(1) . اشارة الى الآية 32 من سورة المائدة.(2/269)
بمجرد قتل الأول أو الأول والثاني، لأن قتل الواحد إذا كان يساوي قتل الكل أو يقاربه، فقتل الاثنين يجعل عليه إثم قتل الكل وعقوبة قتل الكل، فكيف يزداد بعد ذلك بقتل الثالث والرابع وهلم جرا، ولو قتل الكل عن إثم، فلا يجوز أن يستحق بقتل الواحد أو الاثنين إثم قتل الكل، وبقتل الكل إثم قتل الكل؟
قلنا: أقرب ما قيل فيه أن المراد من قتل نفسا واحدة بغير حق كان جميع الناس خصومه في الدنيا إن لم يكن له ولي، وفي الآخرة مطلقا لأنهم من أب وأم واحدة. وقيل: معناه من قتل نفسا نبيا، وإماما عادلا، فهو كمن قتل الناس جميعا من حيث إبطال المنفعة على الكل، لأن منفعتهما عامة للكل.
وقيل المراد بمن قتل هو قابيل، فإن عليه من الإثم بمنزلة إثم قتل الكل لأنه أول من سن القتل، فكل قتل يقع بعده يلحقه شيء من وزره بغلبة التسبب لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة حسنة» الحديث، وهذا أحسن في المعنى، ولكن اللفظ لا يساعد عليه وهو قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الآية 32] لأن هذا المعنى إذ أريد به قابيل لا تختص كتابته ببني إسرائيل.
فإن قيل: كيف وجه قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الآية 33] ، وحقيقة المحاربة بين العبد والرب ممتنعة؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: يحاربون أولياء الله. وقيل أراد بالمحاربة المخالفة.
فإن قيل: لم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [الآية 36] ولم يقل بهما، والمذكور شيئان؟
قلنا: قد سبق جواب مثله قبيل هذا في قوله تعالى إِذْ قَرَّبا قُرْباناً [الآية 27] ، وهنا جواب آخر وهو أن يكون وضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قال ليفتدوا بذلك، وذلك يشار به إلى الواحد والاثنين والجمع.
فإن قيل، ما فائدة قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الآية 42] وحال النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الكتاب لا يخلو عن هذين القسمين، لأنه إما أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم؟(2/270)
قلنا: فائدته تخيير النبي عليه الصلاة والسلام بين الحكم بينهم وعدمه، ليعلم أنه لا يجب عليه أن يحكم بينهم كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه وقيل إن هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الآية 48] وهو القرآن يدل عليه قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الآية 48] ، أي في الحكم بالتوراة.
فإن قيل: لما أنزل الله القرآن صار الإنجيل منسوخا به، فكيف قال تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [الآية 47] ؟
قلنا: هو عام مخصوص: أي ما أنزل الله فيه من صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بعلاماته المذكورة في الإنجيل، وذلك غير منسوخ.
فإن قيل: لم قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [الآية 49] مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟
قلنا: أراد به عقوبتهم في الدنيا، وهو ما عجله من إجلاء بني النّضير وقيل بني قريظة وذلك جزاء بعض ذنوبهم لأنه جزاء منقطع، وأما جزاؤهم على شركهم فهو جزاء دائم لا يتصور وجوده في الدنيا وقيل أراد بذلك البعض ذنب التولي عن الرضا بحكم القرآن، وإنما أبهمه تفخيما له وتعظيما.
فإن قيل: حسن حكم الله وصحته أمر ثابت على العموم بالنسبة إلى الموقنين وغير الموقنين، فكيف قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) .
قلنا: لما كان الموقنون أكثر انتفاعا به من غيرهم، بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير، كانوا أخص به، فأضيف إليهم لذلك، ونظيره: قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات] .
فإن قيل: قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [الآية 51] يقتضي أن يكون من وادّ أهل الكتاب وصادقهم كافرا وليس كذلك لقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة/ 8] .
قلنا: المراد بقوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ: المنافقون، لأنها نزلت في شأنهم وهم كانوا من الكفار في الدنيا ضميرا واعتقادا، ومعناه أنه منهم في الآخرة جزاء، وعقابه أشد.(2/271)
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) [المائدة] وكم من ظالم هداه الله تعالى فتاب وأقلع عن ظلمه؟
قلنا: هاهنا ثلاثة معان: الأول أنه لا يهديهم ما داموا مقيمين على ظلمهم الثاني أن معناه: لا يهدي من قضى في سابق علمه أنه يموت ضالا الثالث أن معناه: لا يهدي القوم الظالمين يوم القيامة إلى طريق الجنة: أي المشركين.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الآية 54] ولم يقل أذلة للمؤمنين، وإنما يقال ذل له لا ذل عليه؟
قلنا: لأنه ضمن الذل معنى الحنوّ والعطف فعداه تعديته، كأنه قال حانين على المؤمنين عاطفين عليهم.
فإن قيل: كيف قال تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) وكم مرة غلب حزب الله تعالى في زمن النبي (ص) وبعده إلى يومنا هذا؟
قلنا: المراد به الغلبة بالحجة والبرهان لا بالدولة والصولة، وحزب الله هم المؤمنون غالبون بالحجة أبدا.
فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف قال تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [الآية 60] .
قلنا: لا نسلم أن الثواب والمثوبة مختص بالإحسان، بل هو الجزاء مطلقا بدليل قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) [المطففين] أي هل جوزوا، وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران/ 153] . وهو كلفظ البشارة لا اختصاص له، لغة، بالخبر السار، بل هو عام شامل للشر، قال الله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران] .
فإن قيل: ما فائدة إرسال الكتاب والرسول إلى أولئك الكثيرين الذين قال تعالى في حقهم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الآية 64] .
قلنا: فائدته إلزام الحجة عليهم.
الثاني تبجيل الكتاب والرسول إذا كان مرسلا إلى الخلق كلهم، كان ذلك أفخم وأعظم للرسول والمرسل.
فإن قيل: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [الآية 66] ،(2/272)
يقتضي تعلّق الرخاء وسعة الرزق بالإيمان بالكتاب والعمل بما فيه، وليس كذلك فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها ما لم ينسخ، عيشهم في الدنيا منكد ورزقهم مضيّق.
قلنا: هذا التعليق خاص بحق أهل الكتب، لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا (يد الله مغلولة) فأخبرهم الله تعالى أن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم وكفرهم، والله تعالى يجعل ضيق الرزق وتقديره نعمة في حق بعض عباده، ونقمة في حق بعضهم، وكذلك الرخاء والسعة فيعاقب بهما على المعصية، ويثيب بهما على الطاعة، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الأشخاص، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام، ولا من تضييقه الإهانة ولا يلزم عكسه أيضا، ولهذا رد الله تعالى ذلك بقوله فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ [الفجر/ 15] إلى قوله تعالى:
كَلَّا [الفجر/ 17] أي ليس الأمر كما ظن الإنسان وزعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة، وتضييقه دليل الإهانة، بل دليل الكرامة هو الهداية والتوفيق للطاعات، ودليل الإهانة هو الإضلال وحرمة التوفيق.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [الآية 67] .
ومعلوم أنه إذا لم يبلغ المنزل إليه لم يكن قد بلغ الرسالة؟
قلنا: المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود ومثالبهم.
فالمعنى بلغ الجميع، فإن كتمت منه حرفا كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل. وقيل أمر بتعجيل التبليغ كأنه (ص) كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه، إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفا على نفسه وحذرا مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال، فأمر بتعجيل التبليغ، يؤيد هذا القول قوله تعالى:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
فإن قيل: كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، ثم إنه (ص) شجّ وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟
قلنا: المراد به العصمة من القتل لا من جميع الأذى، فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم(2/273)
جامعون مكارم الأخلاق ومن أشرف مكارم الأخلاق تحمل الأذى. الثاني أن هذه الآية نزلت بعد أحد، لأن سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن.
فإن قيل: كيف قال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) «1» مع أن بعض الظالمين وهم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبي (ص) يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟
قلنا: المراد بالظالمين هنا المشركون، يعلم ذلك من أول الآية ووسطها «2» .
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) بعد قوله في الآية نفسها: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ قلنا: المراد بالضلال الأول ضلالهم عن الإنجيل، وبالضلال الثاني ضلالهم عن القرآن.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [الآية 79] والنهي عن المنكر بعد فعله ووقوعه لا معنى له؟
قلنا: فيه إضمار حذف مضاف تقديره: كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله كما يرى الإنسان أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر، ويجوز أن يريد بقوله لا يَتَناهَوْنَ لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصرون عليه ويداومون، يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه بمعنى واحد: أي امتنع عنه وتركه.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) والمراد بقوله منهم المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين وكلهم فاسقون؟
قلنا: المراد به فسقهم بموالاة المشركين ودسّ الأخبار إليهم لا مطلق الفسق، وذلك الفسق الخاص مخصوص بكثير منهم، وهم المذكورون في أول الآية السابقة في قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ [الآية 80] ، وليس شاملا لجميعهم.
فإن قيل: لم قال تعالى
__________
(1) . ورد قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) في موضعين آخرين هم: [البقرة/ 270] و [آل عمران/ 192] .
(2) . يقصد الآية 72 من سورة المائدة.(2/274)
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الآية 90] وهذه الأعيان كلها مخلوقات لله تعالى فأين عمل الشيطان في وجودها؟
قلنا: فيه إضمار تقديره: إنما تعاطي الخمر والميسر إلى آخره أو مباشرته إلخ.
فإن قيل: مع هذا الإضمار كيف قال تعالى من عمل الشيطان، وتعاطي الخمر والقمار ونحوهما من عمل الإنسان حقيقة؟
قلنا: إنما أضيف إلى الشيطان مجازا لأنه هو السبب في وجود الفعل بواسطته ووسوسته وتزيينه ذلك للفساق، فصار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه، فإنه يجوز أن يقال للمغري هذا من عملك.
فإن قيل: لم جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم خص الخمر والميسر في الآية الثانية؟
قلنا: لأن العداوة والبغضاء بين الناس تقع كثيرا بسبب الخمر والميسر وكذلك يشتغلون بهما عن الطاعة، بخلاف الأنصاب والأزلام فإن هذه المفاسد لا توجد فيها، وإن كانت فيها مفاسد أخر. وقيل إنما كرر ذكر الخمر والميسر فقط لأن الخطاب للمؤمنين بدليل قوله تعالى في الآية نفسها:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهم إنما يتعاطون الخمر والميسر فقط، وإنما جمع الأربعة في الآية الأولى لإعلام المؤمنين، وأن هذه الأربعة من أعمال الجاهلية، وأنه لا فرق بين من عبد صنما أو أشرك بالله تعالى بدعوى علم الغيب، وبين من شرب الخمر أو قامر مستحلّا لهما.
فإن قيل: كيف يحسن أن يفعل الله تعالى فعلا يتوسل به إلى تحصيل علم حتى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [الآية 94] .
قلنا: معناه ليميز الله الخائف من غير الخائف عند الناس. وقيل معناه ليعلم عباد الله من يخافه بالغيب وهو قريب من الأول. وقيل معناه ليعلم الخوف واقعا كما علمه منتظرا.
فإن قيل: لم قال تعالى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [الآية 95] ، ووصف العمدية ليس بشرط لوجوب الجزاء، فإنه لو قتله ناسيا أو مخطئا وجب الجزاء أيضا؟(2/275)
قلنا: عند ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وصف العمدية شرط لوجوب الجزاء، فلا يرد عليهم السؤال، وأمّا على قول الجمهور، فإنما قيّده بوصف العمدية، لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية، كانت عمدا على ما يروى عن الصحابة، أنه اعترض حمار وحش بالحديبية وهم محرمون، فطعنه ابو اليسر برمحه، فقطعه، فنزلت الآية، فخرج وصف العمدية، مخرج الواقع لا مخرج الشرط. وقال الزهري: نزل الكتاب بالعمد، ووردت السنّة بالوجوب في الخطأ.
فإن قيل: لم قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الآية 95] مع أن الشرط بلوغه الى الحرم لا غير؟
قلنا: لمّا كان المقصود من بلوغ الهدي الى الحرم تعظيم الكعبة، ذكر الكعبة تنبيها على ذلك. وقيل معناه بالغ حرم الكعبة.
فإن قيل: قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) ، أي دلالة لهذه الأمور المذكورة على علم الله تعالى بما في السماوات وما في الأرض، وأنه بكل شيء عليم.
قلنا: ذلك إشارة إلى كل ما سبق ذكره، من الغيوب في هذه السورة، من أحوال الأنبياء والمنافقين واليهود، لا الى المذكور في هذه الآية. الثاني ان العرب كانت تسفك الدماء وتنهب الأموال، فإذا دخل الشهر الحرام، أو دخلوا الى البلد الحرام كفّوا عن ذلك، فعلم الله تعالى أنّه لو لم يجعل لهم زمانا أو مكانا يقتضي كفهم عن القتل، ونهب الأموال لهلكوا، فظهرت المناسبة.
فإن قيل: لم قال تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [الآية 103] والجعل هو الخلق بدليل قوله تعالى ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزّمر/ 6] وقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام/ الآية الأولى] ، وخالق هذه الأشياء هو الله تعالى؟
قلنا: المراد بالجعل هنا الإيجاب والأمر: أي ما أوجبها ولا أمر بها.
وقيل المراد بالجعل التحريم.
فإن قيل: قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الآية 105] يدل(2/276)
على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان.
قلنا: معنى قوله أَنْفُسَكُمْ: أي أهل دينكم كما قال تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء/ 29] ، أي أهل دينكم.
وقيل المراد به آخر الزمان عند فساد الزمان، وتعذّر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو زماننا هذا.
فإن قيل: كيف يقول الرسل: لا عِلْمَ لَنا [الآية 109] ، إذا قال الله تعالى لهم: ماذا أُجِبْتُمْ [نفسها] وهم عالمون بماذا أجيبوا؟
قلنا: هذا جواب الدهشة والحيرة، حين تطيش عقولهم من زفرة جهنم، نعوذ بالله تعالى منها، ومثله لا يفيد نفي العلم ولا إثباته. الثاني: أنهم قالوا ذلك تعريضا بالتشكّي من قومهم ولإظهار الالتجاء الى الله تعالى في الانتقام منهم، كأنهم قالوا: أنت أعلم بما أجابونا به من التصديق والتكذيب.
الثالث معناه: لا علم لنا بحقيقة ما أجابونا به لأنا نعلم ظاهره وأنت تعلم ظاهره ومضمره، ويؤيد ما بعده.
فإن قيل: أيّ معجزة لعيسى (ع) في تكليم الناس كهلا حتى قال:
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [الآية 110] .
قلنا: قد سبق جوابه في سورة آل عمران «1» مستقصى.
فإن قيل: كيف قال الحواريون هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الآية 112] شكّوا في قدرة الله تعالى على بعض الممكنات وذلك كفر، ووصفوه بالاستطاعة وذلك تشبيه، لأن الاستطاعة إنما تكون بالجوارح والحواريون خلّص أتباع عيسى (ع) ، والمؤمنون به، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم: قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) .
قلنا: هذا استفهام عن الفعل لا عن القدرة، كما يقول الفقير للغنيّ القادر:
هل تقدر ان تعطيني شيئا، وهذا يسمّى استطاعة المطاوعة لا استطاعة القدرة، والمعنى: هل يسهل عليك ان تسأل ربك؟ كقولك لآخر: هل تستطيع ان تقوم معي؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك.
فإن قيل: لو كان المراد هذا
__________
(1) . هو قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران/ 46] .(2/277)
المعنى، فلم أنكر عليهم عيسى عليه السلام بقوله: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) ؟
قلنا: إن إنكاره عليهم إنّما كان لأنهم أتوا بلفظ يحتمل المعنى الذي لا يليق بالمؤمن المخلص إرادته، وإن كانوا لم يريدوه.
فإن قيل: كيف قال عيسى (ع) :
وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [الآية 116] وكل ذي نفس فهو ذو جسم، لأن النفس عبارة عن الجوهر القائم بذاته المتعلّق بالجسم تعلّق التدبير، والله تعالى منزه عن الجسم.
قلنا: النفس تطلق على معنيين:
أحدهما هذا، والثاني حقيقة الشيء وذاته كما يقال: نفس الذهب والفضة محبوبة: أي ذاتهما، والمراد به في الآية ثانيا هذا المعنى. [والنّفس ترد بمعنى عند، أي تعلم ما عندي، ولا أعلم ما عندك ولعل هذا المعنى أقرب المعاني للآية الكريمة] «1» .
فإن قيل: كيف قال عيسى (ع) : ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ [الآية 117] ، مع أنه قال لهم كثيرا من الكلام المباح غير الأمر بالتوحيد؟
قلنا: معناه قلت لهم فيما يتعلق بالإله.
فإن قيل: إذا كان عيسى لم يمت، وإنّما هو حي في السماء فكيف قال فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [الآية 117] .
قلنا: أراد بالتوفّي إتمام مدة إقامته في الأرض، وإتمامه قد سبق في قوله:
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران/ 55] والسؤال إنما يتوجّه على قول من قال: إن السؤال والجواب وجدا يوم رفعه الى السماء، وأمّا من قال: إن السؤال إنّما يكون يوم القيامة وعليه الجمهور، فالجواب مطابق ولا إشكال فيه.
في قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) .
فإن قيل: لو قال عيسى عليه السلام: إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك، كان أظهر مناسبة؟
__________
(1) . راجع لسان العرب، مادة نفس.(2/278)
قلنا: معناه إن تعذّبهم فإنهم عبادك، وتصرّف المالك المطلق الحقيقي بعبيده مباح: أيّ تصرف كان، وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم، الذي لا ينقص من عزه شيء، بترك العقوبة والانتقام ممن عصاه، الحكيم في كل ما يفعله من العذاب او المغفرة.
فإن قيل: لم قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] يعني يوم القيامة، والصدق نافع في الدنيا والآخرة، ولفظ الآية في قوة الحصر؟
قلنا: لمّا كان نعت الصدق في الآخرة، هو الفوز بالجنّة والنجاة من النار، ونفعه في الدنيا دون ذلك، كان كالعدم بالنسبة الى نفعه في الآخرة، فلم يقيّد به في مقابلته.
فإن قيل: قوله تعالى هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الآية 119] إن أراد به صدقهم في الآخرة، فالآخرة ليست بدار عمل، وإن أراد به صدقهم في الدنيا، فليس بمطابق لما ورد فيه، وهو الشهادة لعيسى (ع) بالصدق، فبما يجيب به يوم القيامة؟
قلنا: أراد به الصدق المستمرّ، بالصادقين في دنياهم وآخرتهم وعن قتادة رحمه الله: متكلمان صدقا يوم القيامة، فنفع أحدهما صدقه دون الآخر: أحدهما إبليس الذي قال:
إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم/ 22] . وصدق يومئذ فلم ينفعه صدقه، لأنه كان كاذبا قبل ذلك، والآخر عيسى (ع) الذي كان صادقا في الدنيا والآخرة، فنفعه صدقه.
فإن قيل: ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فلماذا لم يغلّب العقلاء على غير العقلاء ولم يأت بالموصول «من» ، بل أتى بالموصول «ما» فقال، جل من قائل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [الآية 120] ؟
قلنا: لأن كلمة «ما» تتناول الأجناس كلها تناولا عاما بأصل الوضع، و «من» لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع، فكان استعمال «ما» في هذا الموضع أوفى.(2/279)
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المائدة» «1»
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [الآية 2] . وهذه استعارة، والمراد مستبعدات الله التي أشعرها للناس، أي بينها لهم. من قولهم: أشعرت البدنة، إذا جرحتها في سنامها ليسيل دمها، فيعلم أنها هدي لبيت الله سبحانه: وهذا الفعل علامة لها، ودلالة عليها.
وقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [الآية 16] وهذه استعارة. والسلام هاهنا جمع سلامة. فالمراد أنه تعالى، يدلّ من أطاعه على طريق نجاته، وسبيل أمنته، لأن طاعته تعالى إمام «2» السلامة، فمن اتبع قياده نجا، ومن تقاعس عنه ضلّ وغوى.
وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [الآية 19] وهذه استعارة. والمراد على انقطاع الإرسال الى الأمم و ... الزمان من «3» .... الرسل. تشبيها بحال إرسال الأنبياء إلى أممهم، ثم حال توفّيهم بعد أداء شرائعهم بثقوب النار ثم خمودها، واضطرامها ثم فتورها.
وقوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) . وهذه استعارة.
ونظيرها قوله تعالى:
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق: محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2) . في الأصل «إدام» ولا معني للإدام هنا لأنه ما يؤتدم به. ولعل ما استظهرناه هو الصواب، لأن الإمام له مكان القيادة. فكأن الطاعة تقود الى السلامة.
(3) . موضع النقط كلمات لم تتبين بالأصل (المحقق) . [.....](2/281)
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران/ 144] أي لا تولّوا عن دينكم وتشكوا بعد يقينكم، فتكونا كالمتقهقر الراجع، والمتقاعس الناكص.
وقوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) وهذه استعارة. والمراد: سوّلت له، وقرّبت عليه نفسه، ففعل. وطوّعت:
فعّلت من الطوع، اي سهلت نفسه عليه ذلك، حتى أتاه طوعا، وانقاد إليه سمحا.
وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الآية 32] وأحياها هنا استعارة. لأن إحياء النفس بعد موتها لا يفعله إلا الله تعالى. وإنما المراد: من استبقاها وقد استحقت القتل، واستنقذها وقد أشرفت على الموت. فجعل سبحانه فاعل ذلك بها كمحييها بعد موتها. إذا كان الاستنقاذ من الموت، كالإحياء بعد الموت.
وقوله سبحانه مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الآية 41] ، وهذه استعارة. لأن صفة الإيمان والكفر إنما يوصف بها الإنسان دون القلب. والمراد: أنهم آمنوا بالظواهر، وكفروا بالبواطن.
قوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الآية 48] .
وهذه استعارة. وقد تقدّم مثلها.
والمعنى: مصدّقا بما سلف قبله من الكتاب الذي هو الإنجيل الصحيح.
واستعير ذكر اليدين هاهنا، كما يقول القائل إذا سأله غيره عن راكب مرّ به:
هو بين يديك. أي قد سار أمامك.
ومهيمنا عليه: أي شاهدا عليه. فهذه ايضا استعارة أخرى. والمراد: أنّ ما في هذا الكتاب من وضوح الدلالة، يقوم مقام النطق بصحة الشهادة.
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الآية 48] . وهذه استعارة. والمراد:
ولا تطع أمرهم، ولا تجب داعيهم، فأقام سبحانه أهواءهم مقام الدعاة إلى الرّدى، والهداة إلى العمى.
وقوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
[الآية 48] . وهذه استعارة عجيبة:
والمعنى: فبادروا فعل الخيرات إن كنتم على غير أمان من حضور الأجل، وتضييق الأمل. وذلك شبيه بسباق الخيل، لأن كل واحد من فرسانها(2/282)
يشاحّ غيره على بلوغ الغاية المقصودة، وينافسه في الإسراع الى البغية المطلوبة.
وقوله سبحانه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الآية 54] . وهذه استعارة. لأن الحبّ الذي هو ميل الطباع لا يجوز على القديم سبحانه.
وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [الآية 64] .
وهذه استعارة. ومعناها أن اليهود اخرجوا هذا القول مخرج الاستبخال لله سبحانه، فكذّبهم تعالى بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وليس المراد بذكر اليدين هاهنا الاثنتين اللتين هما اكثر من الواحدة، وإنما المراد به المبالغة في وصف النعمة. كما يقول القائل: ليس لي بهذا الأمر يدان، وليس يريد به الجارحتين، وإنما يريد المبالغة في نفي القوة على ذلك الأمر.
وربما قيل إن المراد بذلك نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. والله أعلم أيّ ذلك أصوب. وقد أشبعنا الكلام على هذا المعنى في كتابنا الكبير.
وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [الآية 64] وهذه استعارة.
لأن الحرب لا نار لها على الحقيقة، وإنما شبّهت بالنار لاحتدام قراعها، وجدّ مصاعها «1» ، وأنها تأكل أهلها، كما تأكل النار حطبها.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الآية 66] . فهذه استعارة. لأن التوراة لا يصح عليها القيام، وإنما المراد لو أنهم اتبعوا حكمها. وقوله تعالى:
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الآية 66] استعارة اخرى على احد التأويلين، وهو أن يكون المراد بهذا القول العبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش. كما يقول القائل: فلان مغمور في النعيم والنّعمة من قرنه الى قدمه. والتأويل الآخر لأكلوا من فوقهم، أي من ثمار الشجر التي تفوت بسطة اليد، ومن تحت أرجلهم، أي من نبات الأرض الذي يباشر موطئ القدم. وقيل المراد بذلك ما يكون عن مساقط الغيث من إخصاب منابت الأرض.
__________
(1) . ماصعه مصاعا: جالده بالسيف أو نحوه، اللسان، مادّة مصع.(2/283)
فهذا كقوله تعالى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف/ 96] .
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الآية 89] . على قراءة من قرأ عقدتم، وعقّدتم بالتخفيف والتشديد، دون من قرأ عاقدتم. فهذه استعارة. والمراد بها، تأكيد الأيمان، حتى تكون بمنزلة العقد المؤكد، والحبل المحصد. أو يكون المراد، أنكم عقدتموها على شيء، خلافا لليمين اللغو، التي ليست معقودة على شيء، لأنّ الفقهاء يسمّون اليمين التي على المستقبل، يمينا معقودة، فهي التي يتأتى فيها البرّ والحنث، وتجب فيها الكفّارة. واليمين على الماضي عندهم ضربان: لغو، وغموس، فاللغو كقول القائل: والله ما فعلت كذا. وفي شيء يظنّ انه لم يفعله، وو الله لقد فعلت كذا. في شيء يظنّ أنه قد فعله.
فهو اليمين على الماضي إذا وقعت كذبا. نحو قول القائل: والله ما فعلت. وهو يعلم انه قد فعل. وو اللَّه لقد فعلت. وهو يعلم انه لم يفعل.
فهذه اليمين كفّارتها التوبة والاستعفار لا غير.
وقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ [الآية 94] .
وهذه استعارة: لأنّ الفارس هو الذي ينال القنيص برمحه. ولكن الرمح، لما كان مباشرا، حسن لهذه الحال أن يسمى نائلا.
وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها [الآية 108] . وهذه استعارة. لأن الشهادة لا وجه لها.
وإنّما المراد أن يأتوا بالشهادة على جليتها وحقيقتها. وخبّر تعالى عن ذلك بالوجه لأن به تعرف حقيقة الجملة، ويفهم كنه الصورة، كما قلنا فيما تقدّم. وهذه من الاستعارات البديعة.
وقوله تعالى حاكيا عن المسيح (ع) :
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [الآية 116] . وهذه استعارة.
لأن القديم سبحانه لا نفس له.
والمراد: تعلم ما عندي ولا اعلم ما عندك، وتعلم حقيقتي ولا أعلم حقيقتك، أو تعلم مغيبي ولا أعلم مغيبك. فكأن فحوى ذلك: تعلم ما أعلم ولا اعلم ما تعلم. وقد استوفينا الكلام على ذلك في (حقائق التأويل) .(2/284)
الفهرس
سورة «آل عمران»
المبحث الأول أهداف سورة «آل عمران» 3 (1) قصة التسمية 3 (2) مقاصد سورة «آل عمران» 5 العناية بأمرين عظيمين 5 الأمر الأول: قضية الألوهية وتقرير الحق فيها 6 (3) وحدة الدين عند الله 7 المسرفون في شأن عيسى (ع) 8 (4) بيان أسباب انصراف الناس عن الحق 8 (5) عظمة القرآن في تربية المؤمنين 10 (6) القرآن كتاب الوجود والخلود 12 (7) دروس من غزوة أحد 14 (8) سنن الله ماضية وقوانينه عامة 16 (9) منهج القرآن في بناء العقيدة والدفاع عنها 17 (10) أعداء يكيدون للإسلام 19 (11) ثلاثة خطوط عريضة 20(2/285)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «آل عمران» 23 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 23 الغرض منها وترتيبها 23 ما يجب لله سبحانه من الأوصاف 24 الردّ على مقالة النصارى الأولى 24 الردّ على مقالتهم الثانية 25 الردّ على مقالتهم الثالثة 26 الردّ على مقالتهم الرابعة 28 الردّ على مقالتهم الخامسة 28 تثبيت المؤمنين بعد ردّ مقالاتهم 29 تثبيت المؤمنين بعد أحد 30 الخاتمة 34 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «آل عمران» 35 المبحث الرابع مكنونات سورة «آل عمران» 41 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «آل عمران» 49 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «آل عمران» 65 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «آل عمران» 87 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «آل عمران» 101(2/286)
سورة النساء
المبحث الأول أهداف سورة «النساء» 107 الوصية بالنساء واليتامى 107 اليتامى 108 المال والميراث 109 تعدد الزوجات 110 شبهة تفتضح وحجّة تتّضح 111 التضامن الاجتماعي 112 المحرّمات من النساء 113 الحكمة من هذا التحريم 113 مصادر التشريع في الإسلام 114 الاجتهاد من مصادر التشريع وبابه مفتوح أبدا 115 القتال وأسباب النصر 116 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «النساء» 119 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 119 الغرض منها وترتيبها 119 براعة المطلع 120 أحكام اليتامى والسفهاء 120 أحكام الميراث 121 حكم الزّنا واللواط 121 أحكام متفرقة في النساء 121 تحريم التعدي على المال والنفس 122 قوامة الرجال على النساء 122 حقوق الله وبعض العباد 123(2/287)
تحريم الصلاة على السكارى والجنب 123 التحذير من أهل الكتاب 123 عودة إلى الأحكام 124 أحكام القتال 125 تحريم المحاباة في الحكم 127 أحكام أخرى في النساء 128 تحريم المحاباة في الشهادة 129 عود إلى المنافقين وأهل الكتاب 129 حكم الكلالة 131 المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النساء» 133 تقدّم وجوه مناسبتها 133 المبحث الرابع مكنونات سورة «النساء» 139 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النساء» 149 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «النساء» 163 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النساء» 181 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النساء» 201
سورة المائدة
المبحث الأول أهداف سورة «المائدة» 205(2/288)
1- تاريخ النزول 205 2- قصة التسمية 206 المائدة 206 3- ظواهر تنفرد بها سورة المائدة 207 4- تشريع القرآن 207 5- الوفاء بالعقود 208 6- الظروف التي نزلت فيها السورة 209 7- أفكار السورة وأحكامها 209 8- النداءات الإلهية للمؤمنين 212 9- أهل الكتاب 213 10- اليهود 215 11- النصارى 215 القرآن من عند الله 216 12- عدالة أحكام السورة الخاصة بأهل الكتاب 216 المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «المائدة» 219 تاريخ نزولها ووجه تسميتها 219 الغرض منها وترتيبها 219 أحكام العقود والمناسك 220 أحكام الوضوء والتيمم 221 التحذير من نقض العقود 221 الاعتبار بناقضي العقود من الأولين 222 نقض المنافقين واليهود لعقودهم 223 عود إلى ما سبق من الأحكام 226 الخاتمة 227(2/289)
المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «المائدة» 229 المبحث الرابع مكنونات سورة «المائدة» 233 المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المائدة» 239 المبحث السادس المعاني اللغوية في سورة «المائدة» 247 المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «المائدة» 263 المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المائدة» 281(2/290)
الجزء الثالث
سورة الأنعام
المبحث الأول أهداف سورة «الأنعام» »
1 كيف أنزلت؟
سورة الأنعام سورة مكية، وهي أول سورة مكية في ترتيب المصحف. فالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة كلّها سور مدنيّة أمّا سورة الأنعام، فهي أوّل سورة مكّيّة توضع في السبع الطوال من سور القرآن الكريم.
وقد جاءت عدّة روايات تذكر فضل سورة الأنعام وتبيّن أنّها نزلت جملة واحدة مشيّعة بالملائكة.
قال الإمام الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» :
«إن هذه السورة اختصّت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنّها نزلت دفعة واحدة، والثاني أنها شيّعها ألف من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين» .
ويقول القرطبي:
قال العلماء: «هذه السورة أصل في محاجّة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذّب بالبعث والنشور.
وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرّف ذلك بوجوه كثيرة. وعليها بنى المتكلمون أصول الدين» .
وعدد آيات سورة الأنعام (165) آية وعدد كلماتها (3053) كلمة.
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.(3/3)
2- لم سميت بسورة الأنعام
سمّيت هذه السورة بسورة الأنعام، والأنعام ذوات الخفّ والظّلف: وهي الإبل والبقر والغنم بجميع أنواعها، لأنّها هي السورة التي عرضت لذكر الأنعام على تفصيل لم يرد في غيرها من السور، فقد ورد ذكر الأنعام في مواضع كثيرة من القرآن عرضا أمّا سورة الأنعام، فقد جاءت بحديث طويل عن الأنعام استغرق خمس عشرة آية، من أول الآية 136 إلى آخر الآية 150. وقد تناول الحديث عن الأنعام في هذه الآيات من السورة جوانب متعددة، تتصل بعقائد المشركين، فبينت السورة ما في عقائدهم من الخلل والفساد، إذ كانوا يحرمون بعض الأنعام على أنفسهم، ويجعلون قسما من الأنعام لآلهتهم وأصنامهم، وقسما لله، ثم يجورون على القسم الذي جعلوه لله فيأخذون منه لأصنامهم.
3- تاريخ نزول السورة
نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة المحمّديّة، أي عقب أمر النبي (ص) أن يصدع بالدعوة ويعلنها للناس بعد أن أسرّ بها ثلاث سنين.
وتميّزت الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام بقسوة المشركين وعنفهم في مقاومة الدعوة الإسلامية وإنكارها، فقد بدأت الدعوة سرّا، ثم جهر النبي (ص) بدعوته في مكة. ونزلت سورة الأنعام بعد الجهر بالدعوة بسنة واحدة، فاستعرضت الأدلة على توحيد الله وقدرته ثم ساقت أدلة المشركين وشبههم فأبطلتها وفندتها.
وقد أخذ المشركون بالنجاح الذي صارت عليه دعوة الإسلام حتى استطاعت أن تعلن عن نفسها بعد الخفاء، وأن تتحدّى بصوت عال ونداء جهير، بعد أن كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدّوا صلاتهم، ورأى المشركون أن محمدا (ص) ماض في إعلان دعوته وتلاوة ما أنزل عليه من الكتاب، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم، وتسفيه لآرائهم، وإنكار لآلهتهم، وتهكّم بأوثانهم وتقاليدهم البالية، فكان منهم من يستمع للقرآن متأثّرا بقوّته أو متذوّقا لبلاغته، ومنهم من يبعد عنه خوفا منه. يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدّية، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين، يشعرون(3/4)
في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم، ولا يجدون لهم حيلة إلّا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة، وبادّعائهم كذب الرسول (ص) ، وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم الملائكة وأنكر كفار مكة البعث والدار الاخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمدا (ص) عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيهم يوما قولة كاذبة، ولم يخن فيهم يوما أمانة اؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.
ولكنّهم فكروا فقط في أنّ الدعوة الجديدة يجب أن تموت في مهدها، ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ووجّهت الدعوة الإسلامية بهذا النضال، وتحملت جميع مقتضياته وأثقاله، وكانت سورة الأنعام مثالا لتحقيق هذه الدعوة الإسلامية في هذه الفترة. فقد جمعت العقائد الصحيحة كلها، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاضلة.
4- مميزات المكي والمدني
وضع العلماء ضوابط تميّز السور المكية من المدنية، واستنبطوا خصائص الأسلوب والموضوعات التي تناولتها كل مجموعة منهما.
فمن خصائص السور المكية ما يأتي:
1- الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله وحده وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها ومجادلة المشركين، بالبراهين العقلية والآيات الكونية.
2- وضع الأسس العامة للفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات.
3- ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرا للكافرين حتّى يعتبروا(3/5)
بمصير المكذّبين قبلهم، وتسلية لرسول الله (ص) حتى يصبر على أذاهم ويطمئنّ الى الانتصار عليهم.
4- قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخّ الآذان، ويشتدّ قرعه على المسامع، وينبّه القلوب ويحرّك الأفئدة.
ومن خصائص السور المدنية ما يأتي:
1- بيان العبادات والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.
2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنّيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسياتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرّر الشريعة ويوضح أهدافها.
5- خصائص السور المكية واضحة في سورة الأنعام
«سورة الأنعام مثل كامل للخصائص المكية، إنها حشد من الصور الفنية العجيبة واللمسات الوجدانية الموحية، والمنطق الطبيعي الحي.. وهي كلّها من أولها إلى آخرها تنبض بإيقاع واحد، وتترقرق بماء واحد تفيض بينبوع زاخر متدفق» .
إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة، بكلّ مقوّماتها وبكلّ مكوّناتها، وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية وتطوف بها في الوجود كله، وراء ينابيع الحقيقة وموحياتها المستترة والظاهرة في هذا الوجود الكبير. إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض، تلحظ الظلمات فيها والنور، وترقب الشمس والنجوم، وتسرح في الجنات المعروشة وغير المعروشة، والحياة الباطلة والجارية، وتقف على مصارع الأمم الخالية، وآثارها البائدة والباقية، ثم تسبح مع ظلمات البحر والبر وأسرار الغيب والنفس والحي يخرج من الميّت، والميّت يخرج من(3/6)
الحي، ومع الحبة المستكنة في ظلام الأرض، والنطفة المستكنة في ظلام الرحم. ثم تموج بالجن والإنس، والطير والوحش، والأوّلين والآخرين والأحياء والأموات، والحفظة من الملائكة على النفس بالليل والنهار..
إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس، وأقطار الحس، وأقطار اللمس وأقطار الخيال.. ثمّ إنّها اللمسات المبدعة المحببة، التي تنتفض المشاهد بعدها والمعاني، أحياء تمرح في النفس والخيال. وإذا كلّ مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر، جديد نابض، كأنما تتلقّاه النفس أول مرة، ولم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان. إلا أنّها القدرة المبدعة تتبدّى في صورة من صورها الكثيرة، فما يقدر على بث الحياة هكذا في الصور والمشاعر والمعاني، إلا الله سبحانه الذي بث في الوجود الحياة.
6- الأغراض الرئيسة لسورة الأنعام
إن الأغراض الرئيسة التي استهدفتها هذه السورة الكريمة هي تركيز العقائد الأساسية الثلاث التي كان المشركون يومئذ يتنازعون فيها، وهذه العقائد الأساسية هي:
أولا: توحيد الله. ويتصل بهذا إقامة الدليل على وحدة الألوهيّة، بلفت النظر إلى آثار الربوبية، وإلى صفات الله الخالق المتصرف، كما يتصل بها إبطال عقيدة الشرك، وشبهات المشركين، وتقرير أن العبادة والتوجّه والتحريم والتحليل، إنما ترجع إلى الله.
ثانيا: الإيمان برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل، وبيان وظيفة هذا الرسول، ورد الشبهات التي تثار حول الوحي والرسالة.
ثالثا: الايمان باليوم الاخر وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء. وسوف نتناول كل غرض من هذه الأغراض بالتوضيح:
(أ) وحدة الألوهيّة:
لقد بدأت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين وعلى لسان كل رسول، تلك الحقيقة التي تؤمن بها الفطر السليمة ويدل عليها العالم بأرضه وسمائه. وما فيه من مخلوقات ناطقة(3/7)
وصامتة ظاهرة وخفية وما فيه من تحوّلات وتقلّبات ونور وظلمات وهذه الحقيقة هي أن الإله الذي له (الحمد) المطلق والتنزيه الذي لا يحدّ هو الله، لأنه هو الذي «خلق» وهو الذي «جعل» فالخلق إنشاء وإبداع، والجعل تصريف وتقليب والعالم أجمع في دائرتيهما فلا ينفكّ شيء منه عن كلا هذين المظهرين: «خلق» و «جعل» . ومقتضى ذلك أنّ المخلوق المجهول، لا يمكن أن يتسامى إلى مرتبة الخالق الجاعل فيعبد كما يعبد، ويقصد كما يقصد، ذلك هو مطلع السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) . وكل ما جاء في هذه السورة إنما هو بيان وتفصيل، أو تمثيل وتطبيق على هذه الحقيقة أحيانا بصفة مباشرة، وأحيانا بوسائط تقرّب أو تبعد.
وهذا هو المعنى الذي يعبّر عنه بعض العلماء بأنه الحكم بتوحيد الألوهيّة استدلالا بوحدانيّة الربوبيّة، وذلك في القرآن كثير. فأوّل فاتحة الكتاب:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) .
وأول الكهف:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ.
وأول فاطر:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا.
ولو ذهبنا نتتبّع هذا المعنى لأوغلنا في التتبّع، ورأينا الكثير من الآيات، فإن هذا هو أصل الأديان كلّها وهو الحقيقة الأولى، كما تجلى ذلك في سورة الأنعام. وقد ساقت السورة عددا من الأدلّة على توحيد الله سبحانه، فهي تلفت إلى مظاهر الملك التام، والسلطان القاهر في الخلق والتصرّف الكامل، والعلم المحيط فتقول:
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الآية 12] .
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) .
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ [الآية 59] .
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الآية 60] .
وهي تلفت النظر إلى ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من(3/8)
شيء، لأنّ هذا النظر لا بد أن يثمر الإيمان بالله.
بل تلفت الإنسان إلى نفسه، ليتفكّر في داخله كيف خلق؟ وكيف يفكّر وكيف يعيش وكيف يموت؟
وبهذا، تكون الحجة عامّة، لكلّ ذي عقل سليم وفطرة صافية، وإخلاص في تطلّب الحقيقة من دلائلها المبثوثة في آفاق السماوات والأرض، ولذلك يقول جل شأنه:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت] .
(ب) قضية الوحي والرسالة
كما تحدثت سورة الأنعام عن الألوهيّة والربوبيّة، ولفتت الناس إلى مظاهر هما في الخلق والتصرف والتدبير المحكم، تحدثت عن حقيقة ثانية تنبني على الإيمان بهذه الحقيقة الأولى:
ذلك أنّ من شأن الإله، أن يهدي عباده، ويرشدهم إلى ما تصلح به أمورهم، وتقوم عليه سعادتهم في دنياهم وأخراهم.
ومن رحمة الله بعباده، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتاب لهداية الناس من الضلالة إلى الهدى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وقد عنيت سورة الأنعام بهذه الحقيقة، فتحدّثت، في كثير من آياتها، عن الوحي والرسالة من جوانب شتّى، بعضها يتّصل بإثبات الوحي وبيان حكمته والرد على منكريه وبعضها يرجع إلى بيان ما هو من وظيفة الرسول وما ليس من وظيفة وبعضها يتصل بموقف الناس أمام الرسالات الإلهية، وبعضها يتعلّق بالآداب التي رسمها الله للرسول، وما ينبغي أن يكون عليه سلوكه مع مخالفيه وموافقيه. قال تعالى:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الآية 19] .
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) .
تكذيب المرسلين:
عرضت السورة لموقف المكذّبين من الرسالة، وبينت أن التكذيب سنة قديمة. فعلى الرسول أن يصبر(3/9)
ويصابر، حتى لا يضيق صدره بتكذيبهم إياه، ولا ييأس من هدايتهم.
وبيّنت السورة حسن عاقبة المرسلين.
وسوء عاقبة المكذّبين قال تعالى:
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) .
نبوة محمد (ص) :
أثبت القرآن الوحي والرسالة ثم أثبت نبوّة محمد (ص) بالدليل القاطع والحجة البالغة. فقد نشأ هذا النبي يتيما فقيرا أمّيا في بيئة مشركة جاهلة فمن أين له هذا الكتاب المحكم الذي اشتمل على مبادئ الإصلاح العالمي كلها؟ والذي لم يستطع العلم، في أزهى عصوره، أن يهدم حقيقة من الحقائق التي جاء بها.
إن القرآن قد تحدّى العرب ببلاغته وقوّة بيانه فعجزوا عن الإتيان بمثله، أو بعشر سور منه، أو بسورة واحدة.
وقد تحدّى القرآن الزمان كله بخلوده وصحته، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الآية 91] .
(ج) قضية البعث والجزاء
نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمر الله رسوله أن يجهر بالدعوة، وأن يعلن عن العقيدة الإلهية، ويقرر حقيقة البعث والجزاء علنا أمام المشركين.
وقد سلكت سورة الأنعام طرقا شتّى في الاستدلال على قضية البعث فقد استدلت عليه بخلق السماوات والأرض في مقدّمتها العنوانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) .
فمن خلق السماوات والأرض بقدرته فهو قادر على إحياء الموتى واعادة خلق الإنسان. فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(3/10)
وكررت هذه الحقيقة وأكدت في آياتها بصور شتى فذكرت أن البعث حق، وأن الله بيده الخلق، والأمر، والبدء، والإعادة، والحساب، والجزاء قال تعالى:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الآية 12] .
وقال سبحانه:
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) .
وقد استدلّ القرآن في قضية البعث والجزاء، بعديد من الأدلّة، منها أن الحكمة والعدل يقضيان بالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما يقضيان بأن ينال المحسن إحسانه، والمسيء إساءته حتى يطهر المسيء من دنس النفس ويكون أهلا لرحمة الله الكاملة، وهذان شأنان هامّان، إذ كثيرا ما يرتحل الناس عن الدنيا دون أن يسهل طريق النقاء لمن دسّى نفسه، ودون أن يعرفوا الحق فيما اختلفوا فيه وإذا فلا بد من دار أخرى يلقى الإنسان فيها الجزاء أمام حاكم عادل، عليم خبير بكل ما قدّم الإنسان.
وقد تعرّض أحد القضاة الفرنسيين لتاريخ القضاء في فرنسا، وأصدر كتابا ذكر فيه عددا من الحالات، حكم فيها بالإعدام أو الإدانة على متّهمين، ثم برّأتهم الأيّام والحقائق وأحصى عددا من الحالات، برّأ القضاء فيها متّهمين ثم أثبتت الأيام وحقائق الأحداث أنّهم مدانون.
ثم عقّب القاضي بقوله: إنه لا بدّ من جزاء وحساب أمام قاض آخر، لا تخفى عليه خافية ولا تغيب عنه حادثة، في دار أخرى، ليعوّض الناس عن أخطاء القضاء في الدنيا، وليكون حكمه فيصلا ومنصفا للمظلومين، ورادعا للمجرمين، وفي القرآن الكريم آيات عدة تؤكد هذا المعنى، قال تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) [يونس] .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
(21) [الجاثية] .
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) .(3/11)
وقد لوّن القرآن ونوّع في أدلّته على إثبات البعث، وعرض مشاهد القيامة واضحة للعيان. وعرضت سورة الأنعام لشأن البعث باعتباره أمرا كائنا ليس موضع إنكار، ولا محلا لريب وصوّرت فيه مواقف المشركين، وما سيكونون عليه في ذلك اليوم، كأنهم حاضرون معروضون أمام الناس، يتأمّلهم الإنسان، ويرى فعلهم وقولهم قال تعالى:
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) .
إلى غير ذلك ممّا تضمّنته السورة من الوصف العينيّ لمظاهر البعث الذي يأخذ القلب وينير الوجدان.
7- قصة إبراهيم الخليل
حفلت سورة الأنعام بذكر طرف من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وإبراهيم أبو الأنبياء والرسول الذي دافع عن التوحيد، وتحدّى عبّاد الأصنام، وأخذ يتأمّل بفكره في ملكوت السماوات والأرض، ليرشد قومه، عن طريق الحوار، إلى فساد اعتقادهم ودليل خطأهم في تأليه الكواكب والقمر والشمس وغيرها.
جنّ عليه الليل، وستره الظلام، فرأى كوكبا ممّا يعبدون وهو بين جماعة منهم، يتحدّثون ويسمرون، فجاراهم في زعمهم، وحكى قولهم، فقال هذا ربي. فلما أفل هذا الكوكب، وغاب هذا النجم تحت الأفق، تفقّده فلم يجده، وبحث عنه فلم يره فقال لا أحب الالهة المتغيّرة من حال إلى حال.
ولما رأى القمر بازغا وهو أسطع نورا من ذلك الكوكب، وأكبر منه حجما، وأكثر نفعا قال كما ورد في التنزيل:
هذا رَبِّي.
لاستدراجهم واستهواء قلوبهم، فلما(3/12)
أفل هذا أيضا واحتجب، واختفى نوره واستتر، قال كما روى القرآن الكريم، ذلك حكاية عنه:
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) .
بيّن لهم أن الله خالق الهداية، ومانح التوفيق. ثم رأى إبراهيم الشمس بازغة يتألق نورها وينبعث منها شعاعها، وقد كست الدنيا جمالا، وملأت الأرض حياة وبهاء، وأرجاء الكون نورا وضياء، فقال: هذا ربي، هذا أكبر من كل الكواكب، وأكثر نفعا، وأجل شأنا، فلما أفلت كغيرها، وغابت عن عبادها، رماهم بالشرك وقال كما روى القرآن، حكاية عنه:
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) .
فهذه الكواكب التي تنتقل من مكان إلى مكان، وتتحوّل من حال إلى حال، لا بد لها من خالق يدبرها ويحركها، وإله ينظمها ويسيّرها فهي لا تستحق عبادة ولا تعظيما.
وبعد أن أعلن إبراهيم انصرافه عن آلهتهم، وبراءته من معبوداتهم أفاض الحديث عن إخلاصه لله بعبادته وخضوعه، فقال كما ورد في محكم التنزيل:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) .
ولقد كان إبراهيم جريئا في إعلان إيمانه، وإخلاصه لربّه، ومجادلة قومه، وإفهامهم أن غير الله لا ينفع ولا يضرّ، وأن الله وحده هو النافع الضارّ، والمعطي المانع، وهو على كل شيء قدير. وقد ناقش إبراهيم أباه، وأوضح له طريق الهدى، وأخلص الدعاء لأبيه أن يلهمه الله طريق الهداية والرشاد، فلما تبيّن لإبراهيم أنّ أباه عدوّ لله تبرّأ منه. وهكذا كان إبراهيم عمليا في دعوته، عمليّا في هجرته وعزلته.
وقد ظهرت قدرة إبراهيم وإخلاصه وتضحيته، حينما حطّم الأصنام، ولام قومه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، وظهرت بطولة إبراهيم حينما امتحنه الله بذبح ولده إسماعيل، فامتثل إبراهيم لأمر ربّه، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى:
يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) [الصافات] .(3/13)
وصدق الأب في طاعة ربه، وصدق الابن في الوفاء والامتثال وعزم الأب على ذبح ابنه، وأخلص النيّة فلما ظهر منه صدق النيّة، فدي إسماعيل بكبش عظيم، وأصبحت الأضحية سنّة في كل عام، يذبحها الغنيّ المقتدر ويوزّع من لحمها على الفقراء وعلى الأصدقاء، ذكرى للتضحية والفداء، واقتداء بإبراهيم الخليل. وكم لإبراهيم من مواقف جليلة عظيمة في مصر، وفي فلسطين، وفي جوار بيت الله الحرام، وفي بناء الكعبة وهو يخلص الدعاء لله في كل عمل. وقد مدحه القرآن، ووصفه بأحسن الصفات، إذ يقول جل جلاله:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) [النحل] .
8- الوصايا العشر
افتتح الربع الأخير من سورة الأنعام، بالدعوة إلى عشر وصايا هي النهي عن الإشراك بالله، والأمر بالإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قتل الأولاد مخافة الحاجة، والنهي عن مقاربة الفاحشة في السرّ أو العلن، والنهي عن قتل النفس التي حرّم الله قتلها. ثم أمرت الآيات بالإحسان إلى اليتيم، وإتمام الكيل والميزان كما أمرت بالعدل في كل شيء وأمرت بالوفاء بالعهد، والاستقامة على الصراط القويم.
الوصية الأولى:
من هذه الوصايا العشر التي وردت في سورة الأنعام قوله تعالى:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الآية 151] ، وهي الأساس الذي يصلح عليه أمر الناس، فإنّ المجتمع الذي يقوم على إيثار الله على كلّ ما سواه هو المجتمع الفاضل المثاليّ السعيد أما المجتمع الذي يشرك بالله أحدا أو يشرك بالله شيئا، فإنه مجتمع منحلّ، تسيّره المادة الصماء التي لا روح فيها ولا صلاح ولا قرار معها.
والوصية الثانية:
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الآية 151] .
فالوالدان سبب في حياة الولد فيجب أن يشكرهما ويحسن إليهما، خصوصا في حالة الكبر والشيخوخة.
والوصية الثالثة:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الآية 151] .(3/14)
أن قتل الإنسان لابنه اعتلال في الطبع أو خلل في العقل، فإن الولد بضعة من الوالد والشأن حتى في الحيوان أن يضحّي الوالد من أجل أولاده، ويحميهم، ويتحمل الصعاب في سبيلهم. وفي الحديث الصحيح، يقول النبي (ص) : «إن من أكبر الكبائر أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» .
إذ أن الله يبسط الرزق لمن يشاء وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] .
الوصية الرابعة:
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الآية 151] .
والفواحش هي كل فعل تنكره العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والمجتمع الذي يؤمن بأن هناك (فواحش) يجب أن تجتنب، و (محاسن) يجب أن تلتمس، هو المجتمع السليم الجدير بالنمو والارتقاء.
الوصية الخامسة:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) .
فالإنسان بنيان الله، ومن هدم بنيان الله ملعون، وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم الإنساني إلا بالحق ويعتبر من يعتدي على نفس واحدة بغير حق، كأنه اعتدى على الإنسانية كلها. وهو المبدأ الذي يعتبر أن الجريمة اعتداء على المجتمع كله.
والوصية السادسة:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الآية 152] .
فاليتيم عارض يعرض في كل مجتمع، ومن شأن المجتمعات الناضجة أن ترعى اليتامى، وأن تحافظ على صلاحهم في أنفسهم وفي أموالهم. وعلى الوصيّ أن يعامل اليتيم كما لو كان ابنا من أبنائه فيحسن توجيهه، وتأديبه، ورعايته، وكفالته حتى ينشأ اليتيم مواطنا صالحا وعضوا نافعا.
الوصية السابعة:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
[الآية 152] .
فالمؤمن عادل في بيعه وشرائه يضبط الكيل، ويعطي الحق، ويأخذ الحق.
الوصية الثامنة:
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
[الآية 152] .(3/15)
والعدل هو أساس الحكم السليم، العدل في القول، والعدل في الحكم، والعدل في الشهادة، والعدل في كل فعل وعمل.
الوصية التاسعة:
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
[الآية 152] .
والوفاء خلة حميدة، وصفة طيبة من الصفات التي يتحقّق بها الخير والصلاح وتستقر عليها أمور الناس.
الوصية العاشرة:
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الآية 153] .
وهذه الوصية الأخيرة هي الجامعة لكل ما جاءت به دعوة الحق. فهي تدعو إلى السير على طريق الله، وشرعة الله، وأوامر الله، والابتعاد عن طرق الشيطان فطريق الله سبيل النجاح في الدنيا والاخرة، وفي سورة الفاتحة:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) .(3/16)
المبحث الثاني ترابط الآيات في سورة «الأنعام» «1»
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الأنعام بمكّة بعد سورة الحجر، وقد نزلت سورة الحجر بعد ثلاث سور من سورة الإسراء، وكان الإسراء، قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، فتكون سورة الأنعام من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم، لأنه فصّل فيها حكم الأنعام من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، وتبلغ آياتها خمسا وستين ومائة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت سورة الأنعام دفعة واحدة في ذلك الزمن السابق، وتمتاز بطولها على كل السور المكّيّة ما عدا سورة الأعراف، فكان لها شأنها في ذلك حين نزولها، وقد اهتم النبي (ص) بها، فدعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم والغرض منها، إثبات التوحيد والنبوّة، ودحض مذاهب المبطلين والملحدين، وإبطال ما ابتدعوه من تحليل الحرام، وتحريم الحلال من الطيّبات، تقرّبا لأصنامهم وبهذا ينحصر الغرض منها في هذين المقصدين. وقد ابتدئت بإثبات التوحيد والنبوّة، تمهيدا لمناظرة المشركين فيهما وختمت ببيان أن النبي (ص) ليس في شيء منهم بعد أن قام بإبطال شبهاتهم، وأن ما أتاهم به من التوحيد هو دين أبيهم إبراهيم (ع) وأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم
__________
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب بالجمايز- المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة، القاهرة، غير مؤرّخ.(3/17)
من غير تكليف، وهو لم يخلقهم عبثا وإنما خلقهم، ليجعلهم خلفاءه في أرضه.
وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة المائدة، لأنها من الطوال مثلها، ولأنه ذكر فيها كثير من أحكام الحلال والحرام، كما ذكر في سورة المائدة.
إثبات التوحيد والنبوة الآيات [1- 7]
قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) ، فذكر سبحانه أنه المستحق للحمد، لأنه الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، واستبعد مع هذا أن يسوّي به المشركون أصنامهم التي لا تقدر على هذه الأشياء العظيمة ثم استدل على توحيده أيضا بخلقه الإنسان من طين، وبكونه لا يغيب عن علمه شيء في السماوات والأرض، وما يعمله الناس في سرهم وجهرهم، وما يكسبون من خير وشر ثم ذكر أن النبي (ص) لا يأتيهم بآية من ذلك تدلّ على نبوّته، إلا أعرضوا عنها وكذّبوا واستهزءوا بها وأنه سوف يأتيهم أنباء ما يستهزئون به، فيأخذهم بعذابه كما أخذ كثيرا من قرون قبلهم مكّنهم في الأرض ما لم يمكّن لهم ثم ذكر أنه بلغ من تعنّتهم على النبي (ص) أنه لو نزّل سبحانه وتعالى عليه كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) .
شبهتهم الأولى على التوحيد والنبوة الآيات [8- 36]
ثمّ قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) فذكر أنهم كانوا يقولون، تعنّتا واستهزاء، إنه لو كان نبيا لأنزل عليه ملك يصدّقه في ما يدعو إليه من التوحيد والنبوة وقد أجابهم تعالى بأنه لو أنزل عليه ملكا ولم يؤمنوا به لعجّل بإهلاكهم، وهو لا يريد ذلك لهم، وبأنه لو أنزل ملكا لجعله في صورة البشر ليروه ويسمعوا كلامه، فلا يصدقون أنه ملك، ويعودون إلى اقتراح ما اقترحوه ثم ذكر أن تعجيل الإهلاك هو ما جرت به سنّته في الأمم التي كانت تقترح الآيات على رسلها تعنّتا واستهزاء، ثم لا يؤمنون بها(3/18)
وأمرهم أن يسيروا في الأرض، ليروا بأنفسهم كيف كانت عاقبتهم.
ثم بيّن لهم- بعد أن ذكر أنه لا سبيل إلى هذه الآية- آياته على التوحيد، فأمر النبي (ص) أن يسألهم لمن ما في السماوات والأرض؟ وأن يجيبهم بأن ذلك له سبحانه، وحده لا لآلهتهم وبأن له ما سكن في الليل والنهار من الدواب وغيرها ثم أمره أن يقول لهم: إنه لا يمكنه بعد هذا أن يتّخذ غيره سبحانه وليا من أصنامهم، وإنه قد أمر أن يكون أوّل من أسلم له ولا يشرك به، وإنه يخاف، إن عصاه، عذاب يوم القيامة ثم ذكر أنه من يصرف عنه هذا العذاب فقد رحمه الله، وأنه إن يمسسه بضرّ فلا كاشف له غيره، وإن يمسسه بخير فهو على كل شيء قدير وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) .
ثم بيّن لهم الأدلة على النبوة، فأمر النبي (ص) أن يسألهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وأن يجيبهم بأن الله هو الأكبر شهادة لا غيره منهم ومن آلهتهم، وقد شهد له بالنبوة بما أوحي إليه من القرآن المعجز، وإذا كانوا يشهدون أن معه آلهة أخرى تساويه في الشهادة، فهو لا يشهد معهم بذلك ثم ذكر أنّ أهل الكتاب يشهدون بنبوّته أيضا، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن أولئك المشركين قد ضلوا وخسروا أنفسهم فلا سبيل إلى إيمانهم ثم ذكر أنه لا يوجد أضل منهم لافترائهم شركاء له وتكذيبهم بآياته، وأنه سيحشرهم جميعا ثم يسألهم عن شركائهم، فينكرون أنّهم كانوا مشركين: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) .
ثم انتقل إلى بيان بعض أسباب كفرهم، فذكر منها أنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وأنهم إن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها، وليس عندهم إذا جادلوا فيها إلّا أن يقولوا إن هذا إلا أساطير الأولين ثم ذكر أنهم ينهون الناس عن الاستماع إليه، وينأون عنه، ولا يضرّون بهذا إلا أنفسهم وأنهم سيندمون عليه حينما يعرضون على النار، ويتمنّون أن يردّوا إلى الدنيا ليؤمنوا بتلك الآيات التي كذّبوا بها، ولو أنهم ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكذيبهم ثم ذكر من تلك الأسباب أنهم لا يؤمنون إلّا بالحياة الدنيا، وينكرون أن يكون هناك بعث لهم(3/19)