الفصل السابع نقض المطاعن الاجتماعية(1/441)
لماذا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟
اعترضَ الفادي الجاهلُ على تفريقِ القرآنِ بينَ الرجلِ والمرأةِ في الشهادة،
حيثُ جعلَ شهادةَ المرأةِ على النصفِ من شهادةِ الرجل، وذلك في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
الموضوعُ الذي تأمُرُ الآيةُ بالإِشهادِ عليه هو الدَّيْن، وهو موضوغ ماليّ
تفصيليّ إِجرائي، يقومُ على المعاملاتِ بينَ الناس، ومعلومٌ أَنَّ هذه التفاصيلَ
الدقيقة تَعْني الرجال غالباً وتَستهويهم، أَمّا النساء فإِنهنَّ لا يَنتبهنَ لها غالِباً،
لأنها لا تتفقُ مع ميولِهنَّ.
وإِذا طُلِبَ من المرأةِ أَنْ تَنْتَبِهَ لهذه التفصيلات وتخفظَها فإِنَّها لا تَضبطُ ذلك، وإِنْ طُلِبَ منها أَنْ تَذكرَ تلك التفصيلاتِ بعدَ فترةٍ فإِنها لا تُحسنُ أَداءَ ذلك.
فإذا جُعلت المرأةُ شاهدةً على تلك التفصيلاتِ المالية، وطُلبَ منها أَداءُ
الشهادة، فإِنها غالِباً لا تَستحضرُ تلك التفصيلات، وبذلك لا تُؤَدِّي الشهادةَ على أُصولِها، وبذلك قد يَضيعُ الحَقُّ على صاحبِه!!.
وإِنَّ اللهَ العليمَ الحكيمَ الذي خَلَقَ المرأةَ على هذه الصورةْ، يَعلمُ ذلك منها،
ولذلك جعلَ شهادةَ المرأَتَين مُقابلَ شهادةِ الرجلِ الواحد، وعَلَّلَ ذلك بقوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
أي: تَأْتي المرأَتانِ لأَداءِ شهادتِهما على تَفْصيلاتِ الدَّيْن، وتوقَفُ الشاهِدَتان معاً، فإِذا نَسيتْ إِحداهُما بعضَ تلك التفصيلاتِ ذَكَّرَتْها صاحبتُها، وبذلك تتكامَلُ شَهادَتَاهما على تقريرِ الحقيقة!.
ولكنَّ الفادي لا يَعرفُ هذا المعنى، لذلك اعترضَ على القرآنِ وخطَّأَهُ،(1/443)
واعتَبَرَهُ امتهاناً للمرأة.
قال: " ونحنُ نَسأل: كم هو مقْدارُ الغبْنِ والمهانة، التي تَشعرُ
بها السيداتُ من هذا المبدَأ المُهين، البَعيدِ كُلَّ البعدِ عن مبدأ المساواةِ في الشخصيةِ الإِنسانية؟
كم من امرأةٍ واحدةٍ فاضِلةٍ خيرٌ من عديدٍ من الرجالِ الجُهّال؟! ".
وكلامُه دليلُ جَهْلهِ وغبائِه، فالأَمْرُ ليس كما تَصَوَّرَه، وليس الكلامُ عن
الغبنِ والظلم، والاحتقارِ والمهانَة، وليس فيه تفضيلُ جنسِ الرِّجالِ على جنسِ النساء، بل هو موضوعٌ ماليّ إِجرائيّ تَفصيليٌّ خاصّ كما ذكرنا.
والمرأةُ مساويةٌ للرجلِ في الإِنسانية، وفْقَ التصور الإِسلامي، ثم تَفترقُ
عنه بعدَ ذلك في فُروق خاصَّةٍ بها، جعلَها اللهُ في كيانِها، لتُحققَ رسالتها
الإِنسانية، كما يفترقُ الرجلُ عنها في فروقٍ خاصَّةٍ به، ليُحققَ رسالسَه الإِنسانية.
ولا ننكرُ أَنَّ بعضَ النساءِ المؤمناتِ الصالحاتِ الفاضلات، أَفضلُ مِن
كثيرٍ من الرجالِ غيرِ الصالحين؛ لأَنَّ التَّقوى هي أَساسُ التكريمِ عندَ الله.
***
لماذا ميراث المرأة نصف ميراث الرجل؟
اعترضَ الفادي المفترِي على قولِ الله - عز وجل - (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
تجعلُ الآية ُ ميراثَ الرجلِ ضعْف ميراثِ الأُنثى، فالرجلُ يأخذُ مثلَ
نصيبِ المرأَتَيْن.
وهذا أَثارَ اعتراضَ الفادي، فقال: " ونحنُ نسأل: لماذا لا يَتساوى الولدُ والبنتُ في الميراث؟
أَليسَ لكل منهما جَسَدٌ يَحتاجُ للِكساء، ومعدةٌ تحتاجُ للقوت؟
أَليستْ مطالبُ المعيشةِ على كلَيْهما واحدة؟
بل قد تكونُ أقسى على البنتِ وهي قاصرٌ أو عانس أَو أَرملة! ".
يَقترحُ الفادي أَنْ يَتَساوى الرجلُ والمرأةُ في الميراث، بحجةِ تَساويهما في(1/444)
الحاجاتِ من طَعامٍ وشَرابٍ وكِساء، بل إِنَّ المرأةَ أَكثرُ حاجةً في ذلك من الرجل.
ويَعتبرُ أَخْذَ الرجل ضعْفَ نصيبِها من الميراث ظُلْماً لها، وتفضيلاً للرجلِ عليها.
إِنَّ إِعطاءَ الرجلِ ضعْفَ نصيبِ المرأةِ ليس مرتَبطاً بالتفضيل، أَيْ ليس
الرجلُ أَفضَلَ من المرأةِ تَفْضيلاً جنسيّاً، فلا يُفَضلُ لِأَنَّه رَجُل..
ويَقومُ التفضيلُ عندَ اللهِ على أَساسِ العملِ، بدونِ اعتبارٍ للجنسِ أو اللونِ أَو اللغةِ أَو العمر أَو التملكِ أَو النَّسَبِ، فالأَكرمُ عندَ اللهِ هو الأَتْقَى، سواء كانَ رَجُلاً أو امرأة، غنياً أَو فقيراً، شَريفاً أَو وضيعاً، أَبيضَ أَو أسود.
لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .
وهذا معناهُ أَنَّ المرأةَ الصالحة التقية أَفضلُ عند اللهِ من آلافِ الرجالِ غيرِ الصالحين.
وتوزيعُ الميراثِ لا يُنْظَرُ فيه إِلى حاجاتِ الجسمِ من طَعامٍ وشَرابِ
وكساء، لأَنَّ الرجلَ والمرأةَ يَتَساويان في ذلك.
لقد أُعْطِيَ الرجلُ ضعفَ نَصيبِ المرأة بسببِ المسؤولياتِ الموكولةِ إِليه،
فالرجلُ هو المسؤولُ مَهْما كانَ وضْعُه العائليّ، سواء كان أَباً أَو زوجاً أَو أَخاً
أَو ابناً، هو المعيلُ لمن عنْدَه من النساء، الزوجاتِ والأُمهاتِ والأَخَواتِ
والعَمّاتِ، وهو المتكفلُ بحاجاتِهنّ، والمُنْفِقُ عليهن..
أما المرأةُ فإنه لا يجبُ عليها إِنفاقُ أَيِّ شيء من مالها، مهما كان وَضْعُها العائلي، ومهما كانَ مالُها، إِلّا إِذا أرادَتْ أَنْ تُنفقَ من مالِها كَرَماً منها!! أَيْ أَنَّ الرجلَ هو الذي يَدفعُ دائَماً، والمرأةُ هي التي تأخذُ وتَكْسِبُ دائماً ...
ألا يتطلَّبُ ذلك إِعطاءَ الرجلِ ضِعْفَ نَصيبِ المرأةِ من الميراث؟.
***
حول تعدد الزوجات
اعترضَ الفادي المفترِي على الآيةِ التي تُبيحُ تَعَدُّدَ الزوجات، وهي
قولُ الله - عز وجل -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .(1/445)
وبعدما سَجَّلَ الفادي خُلاصَةَ تفسيرِ البيضاوي للآية أَعلنَ رَفْضَه لها.
قال: " ونحنُ نسأل: أَليست الأُسرةُ هي خليَّةً مصغَّرَةً للمجتمع؟
إِنَّ وُجودَ رجلٍ واحدٍ بينَ أَربعِ نساء، وعَدَدٍ كبيرٍ من السَّراري مصنَعٌ للمظالم، وميدانٌ للبغضاءِ والمشاحنات، ومعملٌ لتخريجِ المطلَّقات والمشَرَّدينَ من الأَطفالِ الأَبرِياء، وإِذا تزوَّجَ الرجلُ بأَربعٍ أو أَكثرَ في آنٍ واحد، فلماذا لا تتطلَّعُ المرأةُ للتزوُّجِ بأربعةِ رجالٍ في آنٍ واحد؟
أَليسَ العدلُ أَنْ تُراعِيَ القانونَ الأَصْليَّ وهو: حواءُ واحد " لآدمَ واحد؟ ".
وقد سبقَ أَنْ أَثارَ المفترِي الشبهاتِ حولَ تَعَدّدِ الزوجات، وناقَشْناهُ في
ذلك، وذَكَرْنا أَنَّ التعدُّدَ رخصة مشروطة، وليسَ واجباً عينياً على كُلِّ رجل، وهو مشروطٌ بعدْلِ الرجلِ بين زوجاتِه، فإِنْ لم يعدلْ كان آثماً، وعندما يَعدلُ الرجلُ بين زوجاتِه تزولُ المخاطرُ التي أَثارَها المفترِي حولَ التعدد، إِذْ يجعلُ البيتَ الذي فيه أَكثرُ من زوجةٍ مَصنَعاً للمَظالم، ومَيْداناً للبَغْضاءِ والمشاحنات، ومَعْملاً لتخريجِ المَطلَّقاتِ والمشَرَّدينَ من الأَطفالِ الأبرياء!! فبالعدلِ بين الزوجاتِ يكونُ البيتُ واحةَ سَلامٍ وأَمان، ومكانَ مودَّةٍ ومحبةٍ، ويَنشأُ الأَطفالُ فيه نشأةً سويةً سعيدة..
هكذا كانت بيوتُ الصحابة، الذين أخذوا برخصةِ التعَدُّد، وكانوا عادِلينَ بينَ زوجاتهم.
وإِذا كان بعضُ المسلمينَ الآخِذين برخصةِ التَّعَدُّدِ يُسيئونَ استخدامَ هذه
الرخصة ويَظلمونَ زوجاتِهم، فهم المؤاخَذونَ أَمامَ الله، وهم الذين يَتَحمَّلونَ تبعةَ ظُلْمِهم وسوءَ تصرُّفِهم، ولا يتحمَّلُ ذلك القرآنُ الذي أَباحَ التعددَ مَشْروطاً بالعَدْل.
وافترى الفادي على الله عندما زَعَمَ أَنَّ سنةَ اللهِ هي تزوُّجُ الرجل بامرأةٍ
واحدة، لأَنَّ آدَمَ تزوَّجَ بحواءَ فقط..
وهذا كذبٌ من المفترِي، فآدمُ تزوَّجَ بحواءَ فقط، لأَنه لم يكنْ عنْدَه أُنثى غيرُها من البَشَر.
وقد تَزَوَّجَ كثيرٌ من الأَنبياءِ بأَكثرَ من امرأةٍ واحدة، مثلُ سيدِنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومثلُ داودَ وسليمان - صلى الله عليهما وسلم -، اللَّذان تزوَّجا بأكثرَ من زوجةٍ واحدة.(1/446)
وبما أَنَّ اللهَ أَذِنَ بتعدُّدِ الزوجاتِ في هذ الآيةِ الصريحةِ، فهذا هو الحقُّ
والصواب، والحكمةُ دائماً تتحقَّقُ من كلّ ما أَبَاحَهُ اللهُ أَو أَمَرَ به.
واعتراضُ الفادي على حْكُمِ اللهِ دليلُ جَهلِهِ، وكُفْرِه بالله، وعدمِ تقديرِه سبحانَهُ حَق قَدْرِه.
وأَيُّهما أَفْضَلُ وأَطهرُ وأَكرمُ للمرأة، أهو تعدُّدُ الزوجاتِ، بِأَنْ تعيشَ أَكثرُ
من امرأةٍ تحتَ رعايةِ رجلٍ واحد، أَمْ تعدُّدُ " العشيقات "، الذي يَقومُ على امتهانِ المرأةِ، وتحوِيلها إلى مجردِ جَسَدٍ يُشْتَهى، ويُؤدّي إِلى شيوع الفواحش؟.
أما ما يطالبُ به من تعدُّدِ الأَزَواجِ للمرأةِ، مقابلَ تعدّدِ الزوجاتِ للرجل،
فهذا من فُحْشِه وبذاءَتِه، ودليلٌ على جهْلهِ وغبائِه، فاللهُ خلقَ الرجل طالِباً للمرأة، وجَعَلَ المرأةَ تابعةً للرجل! فيكفي المرأةَ رجلٌ واحدٌ يقومُ عليها ويتكفَّلُ بها.
ثُمَّ إِنَّ تَعَدُّدَ الأَزواجِ للمرأةِ يؤَدِّي إِلى اختلاط الأنساب، فلا يَعرفُ الولَدُ
مَنْ أَبوه، لاحتمالِ أَنْ يكون كلُّ واحدٍ من أزواجها أَباً له، وفي هذا من
المفاسدِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ والإنسانيةِ ما فيه!!.
***
ضرب الزوجات: لماذا؟ ومتى؟ وكيف؟
اعترضَ الفادي على إِباحةِ ضربِ الزوجاتِ في بعضِ الحالات، وهي
التي أَشارَ لها قولُ اللهِ - عز وجل -: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) .
وعَلَّقَ على الآيةِ بقولِه: " يُصرحُ القرآنُ أَنه إِذا خافَت المرأةُ من إِعراضِ
زوجِها عنها فلْتلجأ إِلى هيئةِ تَحكيم، من أَهْلِها وأَهْلِه، ليُصْلِحا بينَهما صُلْحأ: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) .
ولكنَّه يقولُ: إنه إذا خافَ الرجلُ من إعراضِ زوجتِه عنه فعلَيْه أَنْ يَعِظَها، ثم يَهْجُرَها، ثم يضربَها، سواءٌ صَفْعاً باليد، أَو لَكْماً بجمعِ اليَد، أَو رَفْساً ورَكْلاً بالرِّجْل، أَو نهشاً بالكُرباج، أَو لَفْحاً بالعَصا ... ".(1/447)
ثم أَوردَ نَصاً من الإِنجيلِ على محبةِ الرجلِ لامرأتِه، لأَنها جُزْءٌ منه..
ويَهدفُ الخبيثُ من ذلك إِلى المقارنةِ بينَ القرآنِ والإِنجيلِ في النظرِ إِلى
الزوجة، واتِّهامِ القرآنِ بأَنه دَعا إِلى ظلمِ المرأةِ وإِهانَتِها، بينما دَعا الإِنجيلُ
إِلى مَحَبَّتِها وتكريمها.
وقد دَعَا القرآنُ الرجلَ إِلى السكونِ إِلى امرأتِه، وجَعَلَ ذلك آيةً من
آياتِ الله، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) .
ونهى اللهُ الرجالَ عن ظلمِ نسائِهم وإِيذائِهن، وأَوجبَ عليهم معاشرتَهُن
بالمعروف " قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) .
وفي حالاتٍ نادرةٍ قد تختلفُ المرأةُ مع زوجها، وتبدأُ بالنشوز والتمرُّدِ
على زوجها، عند ذَلك لا بُدَّ أَن يُعالجَ زوجُها الأَمْرَ، ويَقضي على النُّشوز،
قبلَ أَنْ يَصِلَ إِلى الطلاق..
وقد أَرْشدَه اللهُ في هذه الحالةِ إِلى القيامِ بثَلاثِ خطواتٍ متدرِّجَة: يبدأُ بوعْظِها وتذكيرِها بالله، وتحذيرِها من عواقبِ النشوز، فإِنَ لم تنفعْ معها هذه الوسيلةُ لجأَ إِلى هجرِها في المضجع، فإِنْ لم تتوقَّفْ عن نُشوزِها ضَرَبَها ضَرْباً خفيفاً غيرَ مُبَرِّح!.
وإنَّ اللهَ الحكيمَ الذي شَرَعَ هذه الوسائلَ لعلاجِ النشوزِ لَيعلم أَنَّ بعضَ
حالاتِ النشورِ والتمردِ لا يَنفعُ معها إِلا الضربُ الخفيفُ، ولذلك شَرَعَهَ وأَذِنَ به.
وقد كانَ الفادي مفترياً كاذباً عندما وَصَفَ الضربَ وَصْفاً همجيّاً
وحشيّاً.
حيثُ قال: " ثم يَضربُها، سواءٌ صَفْعاً باليَد، أَوَ لَكْماً بجمْعِ اليَد، أَو
رفْساً ورَكْلاً بالرِّجْل، أَو نهشاً بالكرباج، أَو لَفْحاً بالعَصا ".(1/448)
ولم يَأذَن القرآنُ ولا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بهذا الضرب، ولم يَصِفْهُ أَيّ عالمِ أَو مفسِّر أَو فقيهٍ بهذا الوصف، ولا يَجوزُ استعمالُ الكرباجِ أَو العصا أَو الرَّجْلِ في ضربِ الزوجة؛ لأَنَّ هذا ضربُ انتقام، وليسَ وسيلةَ تربيةٍ وأُسلوبَ علاج.
إِنَّ ضَرْبَ الزوجةِ الناشزِ كأُسلوبِ علاجٍ لا بُدَّ أَنْ يكونَ ضرباً خفيفاً،
بِكَفٍّ أَو إِصبع، على أن يتجنب الوجه لأنه مكرم عند الله، وعلى أن لا يترك أثراً، وأن لا يكون مبرِّحاً، ونكرر أن معظم الأزواج لا يضطرون إلى هذا الأسلوب مع زوجاتهم، وأنه لا يستعمل إلا في حالات نادرة جدّاً.
***
ماذا بعد الطلقة الثالثة؟
وَرَدَ في القرآنِ أَنه إِذا طَلَّقَ الرجلُ زوجتَه الطلقةَ الثالثة، فإِنّها لا تحلُّ له
إِلّا بعدَ أَنْ تَنكحَ زوجاً غيرَه.
قال تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) .
والمعنى أَنه إِنْ طَلَّقَها زوجُها الطلقةَ الثالثة فإنها لا تحلّ له حتى تنكحَ
زَوْجاً غيرَه، وذلك بأَنْ يتزوَّجَها الثاني، ويدخُلَ بها، ويُجامعَها، فإِنْ طَلَّقَها
زوجُها فلا جناحَ على زوجِها الأَوَّلِ أَنْ يتزوَّجَها من جَديد.
أَما إِذا عَقَدَ الزوجُ الثاني العقدَ عليها فقط، بهدفِ تحليلِ عودتِها إِلى
زوجِها الأَول، ولم يُجامعْها، فهذا لا يَجوز، وقدْ لعنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرجلَيْن، المحلِّلَ وهو الزوجُ الثاني، والمحلَّلَ له، وهو زوجُها الأَوَّل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ المحلِّلَ والمحَلَّلَ له ".
وهذا التشريعُ كُلُّه لم يُعْجب الفادي المجْرِم، وأَثارَ عليه اعْتِراضَه
وإِنْكِارَه، وخَظَأَ القرآنَ، وشَتَمَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ببذاءَة.
قال: " ونحنُ نَسأَل: أَلا يَستنكرُ العُقلاءُ هذا النظامَ الغَريب؟
لماذا يُصَرّحُ القرآنُ بصُلْحِ المطَلقةِ(1/449)
ورُجوعِها إلى زوجِها، بشرطِ أَنْ تُجامِعَ رَجُلاً غيرَه يُسَمَّى مُحَلِّلاً؟
ولماذا لَعَنَ محمدٌ المحَلّلَ والمحَلَّلَ له؟
أَليسَ الأَحَقُّ باللَّعن هو المُشرِّع؟! " (1) .
وكلامُ المجرمِ يَقومُ على التلاعبِ والتحريفِ، والتَّدْليسِ والتَّمويه، إِنه
لإِجْرامِه وشيطنَتِه يُريدُ أَنْ يُمَوِّهَ على القارئ!.
إِنه يَدْعو العُقَلاءَ إِلى استنكارِ هذا النِّظام الغَريب، ويزَعُمُ أَنَه لا يتقبَّلُه
العقلُ السَّليم..
ولا أَدري أَينَ مصادمَتُهُ للعقل.
لقد شرَعَ اللهُ الطَّلاق، وحَدَّدَ عَدَدَ الطلقات بالثَّلاث، بعدَ أَنْ كانَ مَفْتوحاً مُطْلَقاً في الجاهلية، فقد يُطلِّقُ الرجلُ منهم زوجَتَه مئةَ طَلْقَة، ويُبْقيها زوجةً له، فجاءَ الإِسلامُ وحَدَّدَه بثَلاثِ طَلْقات..
ويمكنُ للمرأةِ أَنْ تتزوَّجَ رجُلاً آخَرَ بعد انقضاءِ عِدَّتِها من زوجِها الأَوَّل.
وماذا في هذا من تَصادُمٍ مع العقل؟
ويمكنُ لزوجِها الثاني أَنْ يُطَلِّقَها إِذا أَراد، وماذا في هذا؟
وما المانعُ من أَنْ تَعودَ إِلى زوجِها الأَوَّل بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها من زوجِها
الثاني؟
أَينَ الذي يرفُضُه العقلُ السَّليمُ من هذا التشريع؟
ثم أَليس هو شرعَ الله، جاءَ صَريحاً في القرآن؟
وهل في شرعِ اللهِ ما يتناقَضُ مع العقلِ السليم؟.
وجملةُ المجرمِ مَلْغومَة: " بشَرْطِ أَنْ تُجامِعَ رَجُلاً غيرَه يُسَمّى المحَلِّل "،
ويَقصدُ المجرمُ بالجماعِ هنا الجماعَ المُحَرَّمَ الذي هو الزِّنى، لأَنه يستنكرُ
زواجهَا الثاني ويعتبرُه زنى، والجِماعُ المباحُ في الإِسلام هو الذي يكونُ بينَ
الزوجَيْنِ زَواجاً شرعياً.
والزوجُ الثاني إِنْ تزوَّجَ المرأةَ على الأُصولِ الشرعيةِ زوجٌ كاملُ
المواصفاتِ الزوجيةِ وحقوق الزوج، ولا يُسَمّى محلّلاً، إِنما يُسَمّى مُحَلِّلاً إِذا
تزوَّجَها بهدف تحليلِ إِعادتِها إِلى زوجِها الأَوّل، واشترطَ عليه أَنْ لا يُجامِعَها!.
وكم كانَ الفادي مُجْرِماً بَذيئاً مَلْعوناً عندما وَجَّهَ لعنة مباشرةً لرسولِنا - صلى الله عليه وسلم -، وذلكَ في قوله: " ولماذا لَعَنَ محمدٌ المحَلّلَ والمحَلَّلَ له؟
أليسَ الأَحَقّ باللعنةِ هو المشَرِّع؟ ".
__________
(1) بل لعائن الله ومقته وغضبه عليك وعلى والديك وعلى كل من آذى الإسلام والمسلمين، خاب ظنك وضل عملم أيها الخاسر السفيه.(1/450)
ولا نقولُ إِلَّا أَنَّ هذا المجرمَ عليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجْمعين.
***
حول حجاب المرأة
اعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ لأَنه أَمَرَ المرأةَ المسلمةَ
بالاحْتِجاب، وذلكَ في قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) .
قال: " والخُمُرُ جمعُ خِمار، وهو ما تُغَطّي به المرأةُ رأْسَها.
و" جيوبهن " جمعُ جيب، وهو القَلْبُ أَو الصدْرُ، والجيبُ أَيضاً هو طَوْقُ القَميص، فيكونُ المعنى: يَسْتُرْنَ أَعناقَهن بغطاء رؤوسهن.
- ونحنُ نسأَل: كيفَ توضَعُ المرأةُ في حِجابِ يُشْبِهُ السِّجْن؟
إِنَّ الحجابَ يقتلُ في المرأةِ روحَ العمل والنشاطِ والحريةِ الشخَصية، ويَرجِعُ بالإِنسانيةِ إِلى عهودِ الرِّقِّ والعبودية ".
لا أَدري لماذا يُهاجمُ الفادي الحِجابَ، ويَصفُه بهذه الصفاتِ المذمومة؟
وهو رَجُلُ الدّينِ النَّصْراني، الذي يَزعمُ حِرْصَه على العَفافِ والطُّهْر، ومُحاربةِ الانحلالِ والعُهْر، وإِنَّ الحجابَ صيانةٌ وحفظٌ للمرأة، ونَشْرٌ للطهارةِ والفضيلةِ في المجتمع.
ومَن الذي قالَ: إِنَّ الحجابَ سجنٌ للمرأة؟
ولماذا يُرَدِّدُ الفادي دِعاياتِ الشَّياطِين.
إِنَّ دُعاةَ الشهوات، الحريصين على نَشْرِ الفواحِش، يُريدونَ فتنةَ
الناسِ بالمرأة، فيُخْرِجونَها متبرجةً متزينةً مغرية، ويُحاربونَ حِجابَها وسِتْرَها،
وما الفادي إِلَّا واحدٌ من هؤلاءِ الشياطينِ المفسدين، ولذلك يُهاجمُ الحجاب
ويَجعلُه مُدمِّراً للمرأة، قاتِلاً لروحِ العمل والنشاطِ فيها، علماً أَنَّ المحَجَّباتِ
من أَنشطِ النساءِ في المجتمع!.(1/451)
حول قتال مانعي الزكاة
ذَكَرَ الفادي آياتٍ من سورةِ التوبة تتحدَّثُ عن إخراج الزكاة، ثم ذَكَرَ
قِتالَ أَبي بكرٍ الصّدّيق - رضي الله عنه - مانعي الزكاة، حيثُ أَرسلَ خالدَ بنَ الوليدِ - رضي الله عنه - فقاتَلَهم وأَعادَهم للإسلام.
ثم اعترض على ذلك بقولِه: " ونحنُ نسأل: إذا كانت الزكاةُ رُكْناً من
أَركانِ الدين، والدينُ لله، فهل يُعْتَبَرُ الدِّينُ قَيِّماً إِذا كُنّا نُمَارسُهُ لا رغبةً
وتَطَوّعاً، بل جَبْراً وقَسْراً، وإِنَّ زكاةً يجمعُها سيفُ خالدِ بنِ الوليد وأَمثالِه،
يَرفُضها الله! لأنها ليستْ إِحْساناً ".
إِنَّ اعتراضَه هنا خارجٌ عن موضوعِ الكتابِ، فالكتابُ مُخَصَّصٌ للحديثِ
عن أَخطاءِ القرآنِ في زَعْمِه، وهذا الاعتراضُ على ما فَعَلَه أَبو بكر وخالدٌ - رضي الله عنهما - من قِتالِ مانعي الزكاةِ من المرتَدين العرب!.
ومع ذلك نقول: صَحيح أَنَّ الزكاةَ رُكْنٌ من أَركانِ الإِسلام، وأَنه لا بدَّ
للمسلمِ من أَنْ يَدْفَعَها وهو منشرح مُتَفاعِل، وأَنْ يَتَفاعَلَ كيانُهُ كُلّه بإِعطائِها، كما قالَ الله - عز وجل -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) .
والمسلمونَ يقومونَ بشعائِر الإِسلام رغبةً وتَطَوّعاً، لأَنهم يَتَقَرَّبون بذلك
إِلى الله، ويَفرحونَ لأنهم بذلك يَنالونَ جَنَّتَه ورِضوانَه.
وقتالُ مانِعي الزكاةِ زمنَ الصدّيقِ - رضي الله عنه - ليسَ من أَجْلِ إِكراهِهم على دفْع الزكاةِ جبراً وقَسْراً، كما ظَنَّ الفادي الجاهل، بل من أَجْلِ أَنهم مُرْتَدّون كُفّار "
لأَنهم أَنكروا وُجوبَ الزكاة، وإِنكار وُجوبِها خروجٌ من دينِ الله..
ومن المعلومِ أَنَّ قِتالَ المرتَدّين واجب.(1/452)
فلما عَادوا للإِسلامِ دَفَعوا الزكاةَ راضين مُتَقَرِّبينَ بذلك إِلى الله!.
***
حول توزيع الغنائم
اعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ في توزيعِه الغنائم، وذلك في قولِه
تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) .
والغنائمُ هي كُلُّ ما أَخِذَ من الكفارِ بعد هزيمتِهم واستسلامِهم.
وهذه الغنائمُ أَحَلَّها اللهُ للمؤمنين المجاهدين، ولم يُبِحْها للمسلمين السابقين، فلما كان السابقونَ يُجاهدونَ الكافرين ويَهزمونَهم، ويَأخُذون منهم الغنائم، كانوا يَجْمَعون تلك الغنائمَ ويَحْرِقونَها بالنار، وعلى هذا قولُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " وأُحِلَّتْ لي الغنائم، ولم تُحَلَّ لأَحَدٍ من قبلي.. ".
وأَمَرَ اللهُ بتَخْميسِ الغنائم.
أَيْ: تَقْسيمها إِلى خمسةِ أَخْماسٍ متساوية، تُعْطى أَربعةُ أَخْماسٍ منها للمجاهِدين تكريماً ومكافأةً لهم.
والخُمسُ الخامسُ يَقَسَّمُ على خمسةِ أَصناف، ذَكَرَتْهم الآية: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) .
وقد اعترضَ الفادي على هذا، فقال: " ونحنُ نسأَلُ: كيفَ تُستباحُ أَموالُ
الناسِ بعد إِراقةِ دمائِهم باسمِ الله؟
وكيفَ يأخُذُ القائدُ الدينيُّ غنيمة؟! ".
يُنكرُ الفادي المفترِي قِتالَ الكافرين، حتى لو بَدَؤوا هم بالعُدْوان على
المسلمين وقتالِهم، ويَعتبرُ قَتْلَهُمْ سَفْكاً للدمِ بالباطل، ويعتبرُ المسلمين
معتدين!.
وإذا كان الفادي الجاهلُ يَعترضُ على القرآنِ لإِباحتِه قِتال الكفار، فإنه(1/453)
يعترضُ على القرآنِ أَيضاً لأَنه أَباحَ أَخْذَ الغنائم من الكفارِ المعتدين، وقَسَّم
تلكَ الغنائمَ عليهم، وأَعطى النبيَّ جُزْءاً من تلك الغنائم!.
واعتراضُ الفادي مردود؛ لأَنه يعترضُ على أَمْرٍ أَباحَه الله، وَوَرَدَ النصُّ
عليه في كتابِ الله - عز وجل - قال تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) .
***
حول أخذ الجزية من أهل الكتاب
اعترضَ الفادي المفترِي على قولِ الله - عز وجل -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
لأَنَّ الآيةَ تأمرُ المؤمنين بقتالِ الكفارِ من اليهودِ والنصارى من أهلِ الكتاب، وتُبَيِّنُ المبرراتِ التي تَدْعو إِلى قِتالِهم، ولا يتوقفُ قِتالُهم إِلّا بخضوعِهم للمسلمين، ودفعِهم الجزيةَ وهم صاغرون.
ونَقَلَ من تفسيرِ البيضاوي تفسيرَ الآية وبيانَ مَعْناها، ومعنى الجزية،
ومَن الذين تُؤْخَذُ منهم، وكَيفيةَ أَخَذِها منهم، واختلافَ المذاهبِ في ذلك.
وقالَ بعدَ ذلك: " ونحنُ نسأَل: كيفَ يُبيحُ قَوْمٌ لِأَنْفُسِهم أَنْ يُقاتِلوا الناس
باسمِ الدين، ويُخَيِّروهُم بينَ الإِسلام أَو الموت أَو الجزية؟ " (1) .
أَيْ أَنَّ الفادي المفترِي لا يُجيزُ قِتال الآخرين، ولا أَخْذَ الجزيةِ منهم؛ لأَنَّ هذا ظلْم لهم واعتداءٌ عليهم.
إنّ قِتالَ الكفارِ من أَهلِ الكتابِ وأَخْذَ الجزيةِ منهم، ليس اجتهاداً من
المسلمين، حَتّى نقولَ: إِنْ هذا اجتهاد خاطِئ، وفَعْلٌ باطل، ولكنَّ هذا أَمْرٌ
صريحٌ من اللهِ سبحانه وتعالى، أَنزلَه في كتابِه الكريم، والمسلمونَ مكُلَّفونَ
بتنفيذِه..
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
122- تحليل النهب
إن الله حلل الغنائم، وهذا أمر بقتل الناس ونهب أموالهم.
الرد على الشبهة:
إن تحليل الغنائم فى التوراة. ففى سفر التثنية: " وغنيمة المدن التى أخذنا.. الجميع دفعه الرب إلهنا أمامنا " [تث 2: 35 - 36] ، وفى سفر التكوين فى صفات بنيامين: " فى الصباح يأكل غنيمة، وعند المساء يقسم نهباً " [تك 49: 27] أى محارب.
ومن أوصاف محمد رسول الله فى التوراة أنه يقسم غنائم. ففى نبوءة العبد المتألم: " ومع العظماء يقسم غنيمة " [إش 53: 12] ولكن النصارى يفسرونها على المسيح مع أنه لم يحارب أحداً. وفى المزمور الثامن والستين عن محمد صلى الله عليه وسلم: " الملازمة البيت تقسم الغنائم " [مز 68: 12] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/454)
وبما أَنَّه أَمْرٌ من اللهِ فهو صواب، لا خَطَأَ فيه، ولا اعتراضَ عليه؛ لأَنَّ اليقينَ عند كُلّ مسلمٍ وجوبُ الالتزامِ بأَحكامِ الله، وتنفيذِ أَوامِرِه.
لماذَا أَمَرَ اللهُ بقتالِ أَهل الكتابِ من اليهودِ والنصارى؛ لأَنَّهم كُفّار أَوَّلاً:
(لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) .
ثم لأَنهم يتآمَرونَ على المسلمين، ويَعْتَدُونَ عليهم، ويَطْمَعون فِي
بُلدانِهم، ولا يتوقَّفونَ عن قتالِهم، وإنْ ظَهَروا عليهم وغَلَبوهم ارْتَكَبوا ضِدَّهم الجرائمَ الفَظيعة: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) .
ولماذا أَخْذُ الجزيةِ منهم؟.
إِنَّ دفْعَ هؤلاء الكافرين المعتدينَ الجزيةَ لليسلمين دليل على خُضوعِهم
لسلطانِ المسلمين، وتوقفِهم عن العدوانِ عليهم، وهذا معناهُ أَنْ يتكفَّلَ
المسلمونَ بحمايتِهم والدفاعِ عنهم، والمحافظةِ على دمائِهم وأموالِهم، وهم
يَدْفَعون مبلغاً من المال للمسلمين، مقابلَ هذه الحماية، وسُمّيَتْ جزيةً من
الجَزاء، وهو دَفْعُ شيءٍ جَزاءً لشيء، فهم يكسبونَ من المسلمين الحماية
والأَمان، ويَبْذُلونَ المال جزاءً ومكافأةً لذلك!.
***
حول إكراه الجواري على الزنى
اعترضَ الفادي المفترِي على قولِ الله - عز وجل -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) .
نَقَلَ الفادي عن تفسيرِ البيضاويّ سببَ نُزولِ هذه الآيةِ وتفسيرَها.
وخلاصَةُ ذلك أَنه كانَ لعبدِ الله بنِ أُبَيّ ستّ جَوارٍ من الإماء، وكان(1/455)
يُكْرِهُهُن على الزنى، ويُطالبهنَّ بِدْفعِ ضريبةٍ ماليةٍ له مقابل ذلك، فشكا بعضُهنَ الأَمْرَ إِلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم..
فأَنزل اللهُ الآيةَ لِذَمِّ ابنِ أَبَيّ ومَنْعِه من فعْلِهِ.
والمعنى: لا يجوزُ إِكراهُ الجواري على الزِّنى أَصْلاً، ولا يَجوزُ إِرسالُهنَّ
إِلى الزنى أَصلاً، حتى لو لم تَكُنَّ مُكْرَهات، فالموافقةُ على زناهُنَّ حَرام،
وإِرسالُهنّ للزِّنى حَرام، وإِكراههنَّ على الزّنى حرام.
والشرطُ في قولِه: (إن أردنَ تحصناً) ليس قَيْداً للنَّهي، لأَنَّ النهيَ عن زناهُنَّ عامّ، سواءٌ أَرَدْنَ تَحَصناً أَمْ لا، لكنَّ هذا الشرط لبيانِ الواقع، لأَنَّ الآيةَ نَزَلَتْ في إماءٍ تَعفَّفْنَ وأَردْن التحصُّن..
فإِذا كُنَّ هؤلاء الإماءُ يُردْنَ التحصُّنَ والتعففَ وهنَّ إِماء، فكيفَ
بغيرِهن من الحرائر، اللَّواتي يَنْفُرْنَ من الزنَى أساساً؟!.
وقد اعترضَ الفادي على الآيةِ وصياغَتِها.
قال: " ونحنُ نسأل: أليس الأَولى أَنْ يَأمُرَ الفتياتِ أَنْ يُشهِرْنَ الطاعةَ لله، والعصيانَ على البشر، فلا يَقْبَلْنَ ارتكابَ المنكر؟
وكان الأَوْلَى بدَل أَنْ يقول: (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أنْ يقول: إن الله شديد العقاب، إلا على من تاب ".
واقتراحُ الفادي دَليلٌ على جهْلِه وغَبائِه، فهو يَرى أَنَّه كانَ الأَوْلى بالآيةِ
أَنْ تَأَمُرَ أُولئك الفتياتِ الجواري بإِعلانِ الطاعةِ لله، ورفْضِ ارتكابِ المنْكَرِ.
ومَنْ قال: إِنَّهُنَ لم يفعَلْنَ ذلك؟!
لقد عَصَيْنَ سيدَهُن عبدَ الله بنَ أَبَيّ، ورفضنَ تنفيذَ طَلَبه، وشَكَوْنَهُ إِلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفعَلْنَ ذلك من بابِ طاعَتِهنَ لله!
فلماذا يَقترحُ الغبيُّ على الآيةِ طَلَبَ شيءٍ منهنَّ فعلْنَه ونَفَّذْنَه؟!.
ويُنكرُ الجاهلُ على الآيةِ خَتْمَها بجملةِ: (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ويقترحُ خَتْمَها بجملةِ: "فإن الله شديد العقاب إلا على من تاب".
يَتَعالَمُ الجاهلُ ويَتَفاصَحُ على القرآنِ العظيم المعْجِز، ويَرى عِبارتَهُ أَبْلغَ
وأَفصحَ من عبارةِ القرآن، فيرَى أَنَّ خَتْمَ آيةٍ تَنهى عن الحَرَامِ والمْنكَرِ بالترغيبِ بالمغفرةِ والرحمةِ غَيْرُ مناسِب، وكانَ الأَوْلى أَنْ تُخْتمَ الآية ُ بالتهديدِ بالعِقاب!.(1/456)
إِنَّ الأَنْسَبَ هو خَتْمُ الآيةِ بالترغيبِ بالمغفرةِ والرحمة، وهذا التَّرغيبُ
ليسَ للذي يُكْرِهُهُنَّ على البِغاء، إِنما هو ترغيِبٌ لهن، فقد يَزْنينَ مُكْرَهاتٍ
نافرات، فَتَدْعوهُنَّ الآيةُ إِلى التوبةِ والاستغفار، واللهُ غفورٌ رحيم، يَغفرُ لهنَّ
ويَرْحَمُهُن!.
أَمّا الذي يُكْرِهُهُنَّ فإنَّ الله سيحاسِبُه ويُعَذِّبُه.
والتقدير: ومَنْ يُكْرِهْهُنَّ فسوفَ يُحاسبه الله، أَمّا هُنَّ فإِنَّ اللهَ سيغفرُ لهنّ؟
لأَنَّه غَفورٌ رحيم.
***
حول الشهود على الزنى
اعترض الفادي المجرمُ على قولِ اللهِ وَبَئ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) .
تُحَذِّرُ الآية ُ من الحديثِ عنِ الأَعراضِ والاتِّهامِ بالزِّنى، وتُطالِبُ
المُسْلِمِينَ بالاحتياطِ والحَذَرِ والتَّشَدُّد، وذلكَ بالإِتيانِ بأَربعةِ شُهود، شاهَدوا
الرجلَ يَزْني بالمرأة، فإِنْ لم يَشْهد الأَربعةُ على ذلك جُلِدوا حَدَّ القَذْف.
وعَلَّق الفادي على ذلك مُعْتَرِضاً فقال: " ونحنُ نسأل: كيِفَ يَتَسَنّى لأَربعةٍ
أَنْ يَكونوا شُهوداً لحادثةٍ فِيها دائماً كتمان وسِرِّيَّة؟
وكيفَ يُحْكمُ بالجلدِ ثمانينَ جلدةً على ثلاثةِ شُهود، ولو رأوْا بأَعْيُنِهم ارتكابَ الحادث وشهِدُوا عليه؛ لأَنَّه ليسَ معهم شاهِدٌ رابع؟
إِنَّ المطالبةَ بأَربعةِ شهودٍ أَقربُ إِلى المستحيل، وتعجيزٌ وتعطيل، بهدفِ تبرئةِ المذنب " (1) .
يعترضُ الفادي على طلبِ إِحضارِ أَربعةِ شُهود، رَأَوُا الزّنى بأَعينهِم " لأَنَّ
هذا شِبْهُ مستَحيل، ولأَنَّ الزِّنى يكونُ غالِباً في مكانٍ خاصّ، فالهدفُ من
اشتراطِ أَربعةِ شُهودٍ هو تبرئةُ الزَّانِيَيْنِ، وتَعطيلُ الحَدّ!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
128- حد الزنا
الرد على الشبهة:
إن جريمة الزنا لهى من أقذر الجرائم حتى أنكرها كل دين، بل وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما فى قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء، ورعاية وبذلٍ سخى لهم بما يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس، الأمر الذى لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء وذلك لا يكون إلا إذا وقع فى قلوب الآباء وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم.
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها فى لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها، وذلك شفاء لما فى نفوسهم من شكوك فى صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم حتى لقد تحولت هذه الشكوك إلى عواطف من الجنون الذى أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنسانى نحو الأبناء المشكوك فى نسبهم، وهيهات أن يخلو شعور أوروبى من الشك فى نسبة أبنائه إليه مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال فى أى مكان وأى زمان.
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة - الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن - كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه فى الصحارى.
ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مرائى ومسمع من الناس؟ ثم كيف تصل الوحشية فى قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان فى حفرة ثم تتناوله الأيدى رجماً بالحجارة إلى أن يموت.
هكذا يقولون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) (1) .
ولا ننكر أن فى شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة] (3) .
والنظام الإسلامى كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا فى نسق واحد.
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى " الأجنبيات " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه] (4) . وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة. قال الله تعالى: (يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) (5) ، وقال:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) (6) . وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما] .
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لئن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به رأس خير لك من أن تمس امرأة لا تحل لك] . وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الضمير فى الرجل والمرأة على حد سواء على ضوء ما جاء فى قصة ماعزو الغامدية.
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها الشرعى بالزواج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء] (7) أى قاطع للشهوة.
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل.
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا فى مهور بناتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير] (8) . وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب فى نفقات الزواج. وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين.
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام فى تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع، والحقيقة أن مثل هذه الشنيعة لا تحصل فى المجتمع المسلم - الذى تسوده الفضيلة - إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروط من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة.
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هى الشروط:
1 - لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
2 - إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أى شك فى شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ادرءوا الحدود بالشبهات] (9) .
3 - فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) (10) .
4 - رغبت الشريعة الإسلامية فى التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت وقعت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[لرجل جاء يشهد: هلا سترتهما بثوبك] يقول الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (11) .
أبعد هذا كله يتخرص متخرص ويقول: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر أدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط. وفضح بين الملأ من الناس.
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يعالى بها بعض الآدميين من غير استحياء ثم لا يضرب على أيديهم أحد. إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة. ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد فى هذا الوضع. إن إنساناً فى مثل هذا الحال لهو إنسان مفسد ضال مضل ولو لم يتم بتره أو تربيته فإن هذا يشكل خطراً على المجتمع كله.
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس قترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين فى الضلال ليضلا الناس عن طريق رب الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذى يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب.
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت " حال تنفيذ العقوبات " إلا فى أعداد محدودة ولا ضرر فى هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الكهف: 5.
(2) النور: 2.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الحاكم فى المستدرك.
(5) الأحزاب: 59.
(6) النور: 31.
(7) رواه البخارى.
(8) رواه ابن ماجه.
(9) رواه الترمذى.
(10) النور: 4.
(11) النور: 19.(1/457)
إِنّ ما ذكَرَتْه الآية من اشتراطِ أَربعةِ شُهودٍ هو الحَقُّ والصَّواب، وحكمَةُ
ذلك المحافَطةُ على الأعراضِ وصِيانَتُها وعَدَمُ جَعْلِها وسيلةً للإِشاعاتِ
وأَحاديثِ المجالس.
تَتَناقَلُها وتُرَدّدُها الأَلسنة، وبهذا تنتشرُ الرذيلة، وتُوحي
بسهولةِ ارْتكَابِها بينَ الناس، وتُغْري رُوّادَ الفواحشِ بيُسْرِ الحصولِ عليها.
لذلك حَرَّمَ الإِسلامُ الحديثَ في الأَعْراض، وقَذْفَ الناسِ بالزنى، واشْتَرَطَ
على المتحدّثِ تَقْديمَ أربعةِ شُهودٍ شاهَدوا ارتكابَ الفاحشةِ بعُيونِهم، فإِنْ لم يَتِمَّ ذلك أُقيمَ على المتكلّمين حَدُّ القَذْف، وجُلِدَ كُلّ واحدٍ منهم ثَمانين جلدة.
صحيحٌ أَنه من المتَعَذِّرِ رؤيةُ أَربعةِ رجالٍ الزَّانِيَيْنِ وهما يَزْنِيان " لأَنَّ
الزِّنى فية إِسرارٌ وتكتُّمٌ واخْتِفاء، لكن لا بُدَّ من شهودٍ وبَيِّنَة، ثم إِنه ليس من
هدفِ القرآنِ إِقامةُ حَدّ الزِّنى على الزانِيَيْن، بل هدفُه تطْهيرُ المجتمعِ الإِسلاميّ
من فاحشةِ الزِّنى، ومحاربتُها ومطاردتُها، وإبعادُها عن تفكير ومشاعرِ الراغِبين فيها، بحيثُ يضطرُّ المجرمان المتَّفِقانِ على الزِّنى إِلى الاختفاءِ عَن عيونِ
الناس، وارتكابِ الفاحشةِ في غُرْفَةٍ محكمةِ إِغلاق الأَبوابِ والنوافذِ! وهما إِنْ
نَجَيا من إِقامَةِ الحَدِّ في الدنيا، فلن يَنْجُوا من عذَابِ اللهِ في الآخرة!.
وعجيبٌ أَمْرُ هذا الفادي المجرم: إِنَّ أَيَّ آيةٍ في القرآنِ تُثيرُ اعْتراضَه
وإِنكارَه، فاشتراطُ الآيةِ أَربعةَ شهودٍ جَعَلَها تلاَعباً وتبرئةً للزانيَيْن، ولو تساهَلَت الآيةُ في إِثباتِ الزنى لجعَلَها قاسيةً شديدةً! فمهما قال القرآنُ فهو عنْدَه خطأ!!.
***
لماذا جلد الزاني أمام الناس؟
عندما أَمَرَ اللهُ بإِقامةِ حَدّ الجَلْدِ على الزانيةِ والزاني، أَوجبَ أَنْ يَكونَ
ذلك أَمامَ المؤمنين؟
قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) .(1/458)
واعترضَ الفادي المفترِي على ذلك، فقال: " ونحنُ نَسأل: أَليسَ
الأَجْدَرُ أَنْ يُعالَجَ أَمثالُ هؤلاء المذنبين بروحِ الوداعةِ والشفقة؟
والمسيحيةُ لا تأمُرُ بطرْدِ المخطئ، بل بفرزِهِ من الجماعةِ تَخْجيلاً له، ثم قَبولُه والترحيبُ به إِذا نَدِمَ وأَعْلَنَ توبَتَه ".
يَرى الفادي أَنَّ جَلْدَ الزاني عقوبةٌ قاسيةٌ شديدة، فيها انتقامٌ ووحشيةٌ
وعُنْف، لا سِيَّما أَنَّ الجَلْدَ لا بُدَّ أَنْ يكون علنيّاً، وأَن يشهدَه طائفةٌ من
المؤمنين.
ويُفَضِّلُ الفادي عقوبةَ الزاني في الإِنجيلِ على عقوبتِه في القرآنِ، لأَنَّ العقوبةَ في الإِنجيلِ تتمُّ بروحِ الوَداعةِ والشفقة، وتقومُ على فرْزِهِ وفصْلِه
عن الجماعةِ تَخْجيلاً له، وإِذا ندمَ وتابَ يُعادُ إِلى الجماعة!!.
وإِنَّ اعتراضَ الفادي مردودٌ باطل، لأَنه مُوَجَّهٌ إِلى حكمٍ صادِرٍ عن اللهِ،
وإِنَّ اللهَ العليمَ الحكيمَ يَعلمُ أَنه بتطبيقِ هذا الحكمِ يرتدع الزُّناةُ ويتأَدَّبونَ، لأَنهم يخشونَ الفضيحةَ العلنية، والعقوبةَ المرئية، ويحسِبون لها كُلَّ حساب: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وبعضُ الذين لا يَخافون من حسابِ اللهِ وعقابِه، قد يخافونَ من الفضيحة، فيتوقَّفونَ عن ارتكابِ الحَرام إِذا نتجَ عنه فضيحة.
ودَعا الله المؤمنين إلى عقاب الزانيةِ والزاني بمئةِ جَلْدَة، ونَهاهُما عن
إيقاف العقابِ بحجَّةِ الرأفةِ بهما: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
وهذا رَدّ على تَعالُمِ المعْتَرِضين على حُكْمِ الله، من أَمْثالِ الفادي، الذينَ
يَظُنّونَ أَنهم أَرأَفُ وأَرحمُ بالعُصاةِ من اللهِ ربِّهم، فيرفُضونَ حكْمَه، ويُقَدّمونَ
بديلاً له، يَظُنُّونَهُ أَفضلَ..
إِنَّ الأَفضلَ للناسِ هو تطبيقُْ حُكْمِ الله، ولا يُرَبّيهم ويُزَكّيهم إلّا حُكْمُ الله، ولا بَديلَ لحُكْمِ الله..
ونقولُ للفادي وأمثالِه ما عَلَّمَنا القرآنُ: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) .(1/459)
المنسوخ والناسخ في حد الزنى
اعترضَ الفادي على آيةٍ تتحدَّثُ عن عقوبةٍ منسوخةٍ للزنى، وهي
قولُ الله - عز وجل -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
النساءُ اللواتي يرتكبنَ فاحشةَ الزِّنى، يَجبُ أَنْ يَشهدَ - عليهنَّ أَربعةُ شُهود، فإِنْ شهِدوا عوقِبنَ بالحبسِ في البيوت، حتى يَحينَ أَجَلُهُنَّ
وتَنتهي أَعمارُهن، أَو يأتيَ حكْمٌ جديدٌ من اللهِ يَنسخُ هذا الحكم: (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
وهذا الحكمُ أَثارَ اعتراضَ الفادي المفترِي، فقال: " ونحنُ نسأَلُ: هَلْ
يُصْلِحُ الحبسُ المؤَبَّدُ في مثلِ هذه الحالةِ المذْنِبَ؟
كَيفَ يَحْبِسونَ فَتاةً في السادسةَ عشرةَ من عمرِها مَثَلاً، إِذا قُدِّرَ لها أَنْ تَعيش ثمانينَ سنة؟
الأَصلحُ أَنْ تُعطى الخاطئةُ فُرْصَةً للتوبةِ والحياةِ المقدسةِ الجديدة.
ويقولُ عُلماءُ المسلمين: إِنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بِحَدِّ الجَلْدِ للزانيةِ غيرِ
المحصَنَة في سورةِ النور، وبحَدّ الرجمِ للزانيةِ المحصَنَة، ولو أَنَّ آيةَ الرجْمِ
نُسِخَتْ تِلاوة..
ويقولُ القرآنُ: إِنَّ حَدَّ الإِماءِ نصفُ حَدِّ الحرائر، ولكنَّنا لا نعلمُ ما هو نِصْفُ الرَّجْم "!.
يَرى الفادي أَنَّ حبسَ المرأةِ الزانيةِ في البيت لا يُصْلِحُها، والأَصْلَحُ لها
أَنْ تُعطى فرصةً جديدةً للتوبة، والتخلّي عن الفاحشة، ولا أَدري كيفَ تُعْطى لها هذه الفُرصة! ويتهكَّمُ على الحكم على الزانيةِ بالحبسِ حتى الموتِ بأَنه حُكمٌ بالسجنِ المؤَبَّدِ، وسيكون هذا عشراتِ السنين!.(1/460)
وكلامُه يدل على جَهْلِه، فهو لا يَعلمُ بأَنَّ الحكْمَ بحبسِ الزانية إِنما هو
حُكُمٌ مُؤَقَّت، وسينسخُه اللهُ فيما بَعْد.
ولم يُطبَّقْ هذا الحُكْمُ على عهدِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم تُسَجِّل الرواياتُ الصحيحةُ حادثةً واحدةً حُكِمَ فيها على امرأةٍ زانيةٍ بالحبْسِ في البيتِ حتى الموت، ولم تَمُتْ زانيةٌ واحدو وهي محبوسةٌ في بيتها؛ لأَنه لم تَثْبُتْ حالةُ زنى واحدةٌ خلال هذه الفترة.
والدليلُ على أَنَّ الحكمَ بالحبسِ مُؤَقَّتٌ قول الله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) أيّ: سيأتي اللهُ بحكْمٍ آخرَ، يَنسخُ هذا الحكْمَ.
وجاءَ الحكمُ الناسخُ في سورةِ النور، قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) .
نَسَخَ اللهُ حكْمَ حَبْسِ الزانياتِ في البيوتِ بجِلْدِهِنَّ مئةَ جَلْدة، إِذا كُنَّ غيرَ
متُزَوِّجاتٍ وقد صَرَّحَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّ آيةَ سورةِ النورِ ناسخةٌ لآيةِ سورةِ النساء، والسبيلَ الذي وعَدَتْ به آيةُ سورةِ النساء هو ما ذكَرَتْهُ آيةُ سورةِ النور.
روى مسلمٌ عن عبادةَ بنِ الصامت - رضي الله عنه -، عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " خُذُوا عَنّي، خُذُوا عَنّي، قد جَعَلَ اللهُ لهنَّ سبيلاً، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مئةٍ ونفيُ سَنَة، والثيبُ بالثيبِ جَلْدُ مئةٍ والرَّجْم".
وإذا كان حَدُّ الزاني البكرِ الجلدُ مئةَ جلدةٍ، قد ثَبَتَ في سورةِ النور، فإنَّ حَدَّ الزاني المتزوج الرجمَ حتى الموتِ، قد ثَبَتَ في حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ رَجَمَ زُناةً متَزوِّجين!.
والراجحُ أَنَّ الرجْمَ لم يُذْكَرْ في القرآن، كما أَنَّ الراجحَ أَنه لا توجَدُ آيَةٌ
منسوخةُ التلاوةِ في القرآن، وأَنَّ النسخَ الذي في القرآنِ هو نسخُ الحكمِ مَعَ
بقاءِ التلاوة.
روى مسلمٌ عن عبد الله بنِ عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - وهو جالسٌ على منبر رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ بَعَثَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالْحقّ، وأَنزل(1/461)
عليه الكتاب، فكانَ مما أَنزلَ عليه آيةُ الرجم، قرأناها ووَعَيْناها وعَقلناها،
فَرَجَم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورَجْمنا بَعْدَه، فأخشى إِنْ طالَ بالناسِ زَمان أَنْ يقول قائل: ما نَجدُ الرجمَ في كتابِ الله، فيَضلّوا بتركِ فريضةٍ أَنزلَها الله، وإنَّ الرجْمَ في كتابِ اللهِ حَقٌّ على مَنْ زنى إِذا أُحْصِنَ، من الرجالِ والنساء، إِذا قامت البينةُ أَو كانَ الحَبَلُ أَو الاعتراف ".
ومعنى كلامِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّ الله هو الذي أَمَرَ برجْمِ الزاني المحْصَن، وأوحى بهذا الحكمِ لرسولِ اللهِ - عليه السلام -، وعَدَمُ وُجودِه في القرآنِ منصوصاً عليه، لا يَعْني أَنه غَيْرُ مَشْروع، فوجودُه في السُّنَّةِ كافٍ لإِثباتِ مشروعيتِه!.
أَمّا الجواري الإِماءُ فإِن عقوبتَهنَّ نِصْفُ عقوبةِ الحَرائر، كما صرَّحَ بذلك
القرآن، قال تعالى: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) .
ومعنى قولِه: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) : إِذا تَزوَّجْنَ، فإِذا زَنَت الأَمَةُ بعدَ الزواج
أُقيمَ عليها الحَدُّ، وهو على النِّصْفِ من الحَدِّ الذي يُقامُ على الحُرَّة، وبما أَنَّ
حَدَّ الحرةِ المحصنةِ هو الرجم، فإِنه لا يُقامُ على الأَمَةِ نصفُ الرجم " لأَنَّ
الرجْمَ لا يُنَصفُ.
وقد كانَ الفادي خَبيثاً عندما قالَ مُشَكِّكاً: " ويَقولُ القرآنُ: إِنَّ حَدَّ الإِماءِ
نصفُ حَدِّ الحَرائِر، ولكنَّنا لا نَعْلَمُ ما هو نصْفُ الرجم! ".
بما أَنَّ الرجمَ لا يتنصَّفُ، فينقل الحكْمُ إِلى الجلدِ مئهَ جَلْدَة، وبما أَنَّ
الحرةَ تُجْلَدُ مئةَ جلدة فإِنَّ الأَمَةَ تُجْلَدُ خمسينَ جلْدَة!!.
***
هل أخد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بثأر حمزة؟
وَقَفَ الفادي أَمامَ قولِ الله - عز وجل -: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) .(1/462)
وكان نزولُ هذه الآيةِ بعد غزوةِ أُحُد، في السنةِ الثانيةِ من الهجرة، التي
جَرى فيها للمسلمين ما جَرى، وقد استشهدَ حمزةُ - رضي الله عنه -، بعد أَنْ بَقَرَ المشركونَ بَطْنَه ومَثَّلوا به.
وقد نَقَلَ الفادي عن البيضاويِّ أَنَّه لما رأى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حمزةَ وقَدْ مُثِّلَ به، قال: " واللهِ لئن أَظْفَرني اللهُ بهم، لأَمَثِّلَنَ بسبعينَ منهم مكانَك "، فأنزلَ اللهُ الآية، وكَفَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينِه.
وعَلَّقَ الفادي المغرضُ على ذلك بقولِه: " ونحنُ نَسأل: هل الأَخْذُ بالثأرِ
يُهَذّبُ النفسَ ويَحفظُ الأَمْن؟
إِنّنا نُعاني من عادةِ الأَخْذِ بالثأرِ ويلاتٍ مُرَّة..
قال المسيح: إِنَّ الذينَ يأخُذونَ السيفَ بالسيفِ يَهْلِكون..
وما أبعدَ الفرق بينَ قولِ محمدٍ: " والله لئن ظَفِرْتُ بهم لأُمَثلَنَّ بسبعينَ مكانك " وبين قولِ المسيح: إِنْ أَخْطَأَ إِليكَ أَخوكَ سبعينَ مَرَّةً سبْعَ مراتٍ فاغفِرْ له ".
تُبيحُ الآيةُ لمن اعْتُدِيَ عليه وعُوقِبَ وظُلِمَ من المسلمين أَنْ يَنتصفَ
ويَأخذَ حَقَّه ممنْ ظَلَمَه واعتدى عليه، وترشدُه إِلى ما هو أَوْلى، وهو الصبرُ
على الأذَى، والعفوُ عنِ العِقابِ.
واعترضَ الفادي على الآية، لأَنها تُبيحُ الأَخْذَ بالثأر، وهو ينشرُ الفَسادَ
ويُخَرّبُ الأَمْنَ، ولا يُهَذّبُ النَفْسَ.
والعِقابُ بالمثْل، والإِذْنُ بِرَدِّ الاعتِداء، ليسَ من بابِ الأَخْذِ بالثَّأْرِ " لأَنَّ
الأَخْذَ بالثأرِ عادَةٌ عشائرية، والعِقابُ بالمثْلِ مبدَأٌ إِسلامي، وفَرْقٌ بين الأَمْرَيْن.
ورغمَ أَنَّ القرآنَ أَجازَ الانتصافَ من الظالمِ والمعْتَدي إِلّا أَنَّه وَجَّهَ
المسلمينَ إِلى الأَفضل، وهو العَفْوُ والصفْح.
قالَ تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) .(1/463)
وقد انتقصَ الفادي المفْتَري رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَنه قالَ: " واللهِ لئن أَظْفَرَني اللهُ بهم لأُمَثِّلَنَّ بسبعينَ مكانَك " لأَنه أَخْذٌ بالثَّارِ على الطريقةِ الجاهلية، حيث سيَقْتُلُ سَبْعين شَخْصاً مقابلَ حمزَة - رضي الله عنه -، وقارَنَ بين هذا الموقِف، وموقفِ عيسى - صلى الله عليه وسلم -
الذي دَعا فيه إِلى العَفْوِ عن مَنْ أَخْطَأَ على الإِنسانِ سَبْعينَ مَرَّة.
وكَلامُ الفادي مَرْدود، لأَنه مبنيّ على باطِل، فلم يَقُلْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " ما نُسِبَ إِليه، وقد رَدَّ المحَدِّثونَ والمفَسّرونَ هذا الحديثَ لأَنه لم يَصِحّ.
قالَ الإِمامُ ابنُ كثير في حُكْمِه على الحديث: " وقالَ محمدُ بنُ إِسحاق:
عن بعضِ أَصحابِه، عن عطاءِ بن يسارِ قال: قُتِلَ حمزَةُ - رضي الله عنه -، ومُثّلَ به يومَ أُحُد، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لئن أَظْهَرَني اللهُ عليهم لأُمَثِّلَنَّ بثلاثين رَجُلاً منهم، فلما سمعَ المسلمونَ ذلك قالوا: واللهِ لئنْ أظْهَرَنا اللهُ عليهم لنُمَثِّلَنَّ بهم مُثْلَةً لم يُمَثِّلْها أَحَدٌ من العربِ بأَحَدٍ قط، فأَنزلَ الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... ) إِلى آخرِ السورة.
وهذا مُرْسَلٌ، وفيه رَجُلٌ مُبْهَمٌ لم يُسَمَّ!!.
وقد رُوِيَ هذا من وجْه آخَر مُتصل.. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ
رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ على حَمزةَ بن عبدِ المطلب - رضي الله عنه - حين اسْتُشْهِد، فَنَظَرَ إِلى مُنْظرٍ لم يُنْظَرْ إِلى مَنظرٍ أوجع للقَلْب منه، وقد مُثِّلَ به، فقال: " رحمةُ اللهِ عليك، إِن علمتُكَ إِلّا وَصولاً للرَّحِم، فَعولاً للخَيْرات، واللهِ لولا حُزْنُ مَنْ بَعْدَكَ عليك، لسَرَّني أَنْ أَتركَك حَتَّى يَحشُرَك اللهُ من بُطونِ السِّباع، أَما واللهِ لأُمَثّلَنَّ بسبعينَ كمُثْلَتِك " فنزل جبريلُ - عليه السلام - على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بهذه السورةِ: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، فكَفَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن يَمينِه، وأَمسكَ عن ذلك ".
وهذا إِسنادٌ فيه ضَعْف، لأَنَّ صالِحاً هو ابنُ بشيرٍ المرّي، ضعيفٌ عند
الأئمة.
وقال البخاري: هو منكرُ الحديث ".
وبَنى الفادي لجهلِه كَلامَه على حديثٍ ضعيفٍ مردودٍ عندَ المحَدّثين،
ورَتَّبَ عليه نتائج، وانتقصَ فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما أَنَّ الأَساسَ الذي اعتمدَ عليه مَرْدود، فكلُّ النتائج التي خرجَ بها مردودة.(1/464)
والذي صَحَّ في هذه الحادثةِ هو ما رواهُ الترمذيُّ وأَحمدُ وابنُ حِبّان
والحاكمُ والطبرانى عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ - رضي الله عنه - قال: أُصيبَ من الأَنصارِ يومَ أَحُدٍ أَربعةٌ وستّون، وأُصيبَ من المهاجرين ستّة، فيهم حمزةُ، فَمَثَّلوا بقَتْلاهم، فقالَت الأنصار: لئن أَصَبْنا منهم يَوماً من الدهْر لَنَرْبِيَنَّ عليهم..
فلما كان يومُ فتحِ مكَّة، نادى رجلٌ لا يُعْرَف: لا قُريشٌ بعدَ اليوم! فأنزَلَ اللهُ - عز وجل - على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ..) .
فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُفوا عن القوم ... ".
ثم ماذا فَعَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ أَنْ أَظفرَهُ اللهُ بقُرَيْش، وذلك يومَ فتْحِ مكة؟
هل مَثَّلَ بسبعينَ رجلاً منهم؟..
لم يَقْتُلْ منهم أَحَداً، ولقد عَفا عنهم جميعاً، حتى وَحْشِي بن حَرْبٍ، الذي قَتَلَ حمزةَ مباشرة عفا عنه، وحتى هند بِنت عتبة، التي لاكَتْ كَبِدَ حمزةَ عَفا عنها.
ولما جَمَع رجالَ قريشٍ قال لهم: " ماذا ترونَ أَنّي فاعل بكم؟
قالوا: خيراً، أَخٌ كريمٌ وابنُ أَخٍ كريم.
قال: اذْهَبوا فأنتم الطُّلَقاءُ! ".
وإِنَّ الفادي المفترِي يَعْلَمُ هذا قَطْعاً، لكنّه يتعمَّدُ أَنْ لا يذكُرَه، ويذكُرَ
الكلامَ الضعيفَ المردودَ بَدَلَه، ليَذُمَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وينتَقِصه!!.
***
حول الإعداد للأعداء
اعترضَ الفادي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) .(1/465)
وأَخَذَ من تفسير البيضاوي بعضَ ما قالَه في تفسيرِ الآية، وهي تأمرُ
المسلمينَ بإِعدادِ كلّ ما استطاعوا إعدادَه من قوةٍ وسلاحٍ لمواجهةِ أَعداءِ اللهِ
وأَعدائِهم، ومنْعِ عدوانِهم.
وعلَّقَ على ذلك بقولِه: " ونحنُ نسأل: كيفَ يأمُرُ القرآنُ بحملِ السلاحِ،
والاستعدادِ للغزوِ والفَتْحِ في سبيلِ الله، فَتُزْهَقُ أَرواحُ البَشَر، وتُنْهَبُ الأَموالُ في سبيلِ الدين، وقَهْرِ الناسِ على قَبولِه؟
إِنَّ السيفَ هو حُجَّةُ الذي لا يَحتملُ المناظرة "!.
لا يُريدُ الفادي المفترِي من القرآنِ أَنْ يُوَجِّهَ المسلمين إِلى حَمْلِ السِّلاحِ
لقتالِ ألأَعداء المحاربين، الطّامعين في بلادِ المسلمين وأَموالِهم، لأَنه يُريدُ أَنْ
يُواجِهَ المسلمونَ العُدوان بالاستسلام، والحربَ بالسَّلام، وإِذا ما قاتَلَهم
أَعداؤُهم كَفّوا أَيديهم عنهم! وعلى القرآنِ أَنْ يَكونَ كتابَ محبة، يأمُرُ
المسلمين بفتْحِ قُلوبِهم وأَيدِيهم لأَعدائِهم!!.
لن يكفَّ الأَعداءُ عن الطمعِ في المسلمين، والتآمر عليهم، وتَحَيُّنِ
الظرفِ المناسبِ لقتالِهم، والهجومِ عليهم، واحتلالِ بلادِهم.
وقد سَجَّلَ التاريخُ الإِسلاميُّ الشواهدَ العمليةَ الكثيرةَ على مصداقيةِ هذه الحقيقة، ولم تَخْلُ فترةٌ من حربِ الأَعداءِ ضدَّ المسلمين، في صورةٍ من صورِ الحربِ العديدة.
وإِنّ ما يقولُه الفادي المفترِي في اعتراضِه على الآية لا يَتفقُ مع المنطق!
إِنَّ أَيةَ أُمةٍ - مهما كان دينُها - تَقفُ أَمامَ أعدائِها الطامعين فيها، والمحاربينَ
لها؛ لَأَنَّ الدفاعَ عن النفسِ والمالِ والأَرض، وصَدَّ عُدوانِ المعتدين، فطرةٌ
إِنسانية، فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها، ولا تبديلَ لهذه الفطرة.
مَنْ هم الذينَ أَمَرَ اللهُ المسلمين بمواجهتِهم؟
إِنهم أَعداؤُهم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) .(1/466)
إِنَّ إِعدادَ السلاحِ والقوةِ للأَعْداء واجب، والأَعداءُ هم الكفارُ الذين
يُعادونَ المسلمين، ويتآمرون عليهم، ويُخَطّطونَ لقتالِهم، ويَقِفُونَ أَمامَ دينهم، والهدفُ من هذا الإِعدادِ هو " إِرهابُ " أولئكِ الأعداء، وتخويفُهم وردْعُهم، ليتوقَّفوا عن مخططاتِهم..
و" إِرهابُ " أَعداءٍ آخرين، يتهيَّؤُون للهجومِ على المسلمين.
لم يكن هدفُ المسلمين من التسلحِ والاستعدادِ غزوَ الكفار، واحتلالَ
بلادِهم، وإِزهاقَ أَرواحِهم، ونَهْبَ أموالِهم، وِإكرا هَهم على الدخول في
الإِسلام، كما قال الفادي المفترِي.
وصحيح أَن السيفَ هو حجةُ الذي لا يَحْتملُ المناظرة، وِإنّ الإِسلامَ
يُقَدِّمُ نفسَه بالحُجةِ والبرهان، ويَدخلُ إِلى العقولِ والقلوب.
والمسلمون مأمورون بالدعوةِ إِلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، فهذا هو الأَصلُ في الدعوةِ إلى الله.
فإذا ما وقفَ الظالمونَ الكافرونَ أَمامَ الدعاةِ إِلى اللهِ بالحجةِ والحكمةِ
والمنطق، وفَتَنوهم وَعذَّبوهم وقَتَلوهم، فلن يقفَ المسلمون ساكتينَ على هذا
العدوان، وسينتَصرون لإِخوانِهم الدعاة، وسيُواجهون أُولئك الأَعداءَ.
فالإِعدادُ والاستعدادُ إنما هو للأَعْداء المقاتِلين المعْتَدين، وليس
للشعوبِ المسالمةِ الوادعة، التي تَكُفُّ أَيْدِيَها عن الدعاةِ، المبلِّغين لدينِ الله!.
***
حول النهي عن موالاة الكفار
اعترضَ الفادي المفترِي على القرآن، لأَنه نهى المؤمنين عن موالاةِ
الكفارِ من اليهودِ والنصارى، وذلك في قولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) .(1/467)
ذَكَرَ ما قالَه الإِمامُ البيضاويّ في تفسيرِها، ثم عَلَّقَ على ذلك بقولِه:
" ونَحنُ نسأل: ما هي نتيجةُ هذه النصيحةِ القرآنية، إِلّا الانكفاءُ على الذات؟
وكيف يُوَفِّقُ المسلمُ بين الزواجِ من كتابيةٍ، تُرَبّي عِيالَه وتتولّى أُمورَ بيتِه، وبينَ هذه الآيةِ المنغلقةِ الفكرِ؟
وما أَكثرَ الكفاءاتِ التي أُهدرَتْ بسببِ التفرقةِ الدينية!
إِنَّ المسيحية تَدْعو للسلامِ والمحبةِ وخدمةِ الجميع، على مِثالِ ما فعلَ
المسيحُ رَبُّ السلام، الذي عَلَّمَنا في مَثَلِ السامريِّ الصالحِ كيفَ نُضحِّي،
ونخدُم جميعَ الناسِ على السواء، من جميعِ الأَجناسِ واللُّغاتِ والأَديان.
إِنَّ نصيحةَ القرآنِ مناسبةٌ ما دامَ المسلمونَ غالبين، أَمّا اليومَ فهي تُقَوِّضُ روحَ
التآخي بينَ شعوبِ الأرض، وتُعَطِّلُ تَقَدُّمَ المسلمين ".
يَعتبرُ الفادي المفترِي عَدَمَ مُوالاةِ المسلمين للكافرين انكفاءً على
الذات، وتَقَوْقُعاً على النفس، وقَطْعاً للصلَةِ بالآخرين، وهَدْراً للكفاءات،
وتَفْريقاً للناس، وهذا يُعَطِّلُ تَقَدّمَ المسلمين، ويُقَوِّضُ روحَ التآخي بين
الشعوب.
ويَعتبرُ الفادي القرآنَ مُنغلقاً، وداعِياً إِلى العزلة، وهذا ليس في مصلحةِ
المسلمين، ويُقارِنُ بين القرآنِ والنصرانية، ففي الوقتِ الذي يَدْعو القرآنُ
المسلمين إِلى العزلة والتقوقعِ والانكفاءِ على الذات - حَسب رأْيِ الفادي -
تَدْعو النصرانيةُ إِلى المحبَّةِ والانفتاحِ على الآخرين، وخِدمَتهم ومساعدتِهم،
على اختلافِ أَجناسِهم ولغاتِهم وأَديانهم.
ولا يدري الفادي المفترِي كيفَ يوفق بين هذه الآيةِ المنغلقةِ الفكرِ وبين
زواجِ المسلمِ من الكتابية، التي تُرَبّي عِيالَه وتُدَبِّرُ بيتَه!.
إِنَّ الفادي لا يفرقُ - لجهْلِه - بين الولاء المحَرَّم وحسنِ المعامَلَةِ المباح،
فالولاءُ يَقومُ على التحالُفِ والتناصُرِ والتوادُدِ، وربطِ المصير بالمصير، ومحبةِ
هؤلاءِ الكفار، والرِّضا بهم، والانحيازِ إليهم، والأَنسِ بهم، وجعلِهِم أعواناً(1/468)
وأَنصاراً وأَحباباً، وخبراءَ وناصحين ومستشارين، وإطلاعِهم على أَسرارِ
المسلمين، مع أَنهم كفارٌ أَعداء للمسلمين، حَريصون على إِفسادِهم وإِضلالِهم.
والآياتُ القرآنيةُ التي تُحَرِّمُ هذا النوعَ من الصلةِ بينَ المسلمين وأَعدائِهم
الكافرين كثيرة.
أَمّا حسنُ المعاملةِ بين المسلمين والكفارِ المسالمين فهي مَطلوبة، وتَتمُّ
بها خدمةُ الآخَرين ومساعدتُهم.
وقد فَرَّقَ القرآنُ بين الولاءِ المُحرَّم والمعاملةِ الحسنة، فقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) .
***
هل يدعو القرآن إلى الكراهية؟
وَقَفَ الفادي أَمامَ آيتَيْن، معتَرِضاً عليهما، لأَنَّهما تَدْعُوانِ في نظرِهِ
إِلى كراهيةِ كُلِّ البَشَر، وهما قولُ اللهِ - عز وجل -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) .
وقول الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) .
وسَجَّلَ المفترِي فريتَه الكبيرة قائلاً: " لَمّا كانَ محمدٌ بمكةَ كان يُسالِمُ
جميعَ الناس، ويَحترم اليهودَ والنَّصارى والصابئين، ويَقولُ: إِنَّ لهم الجَنَّة
انظر: سورة المائدة: الآية 69،، ولكن لما اشْتَدَّ ساعِدُهُ في المدينةِ بالأَنْصار أَمَرَ بقَتْلِ جميعِ غيرِ المسلمين، أو يَدْفَعوا الجزية، أَوْ يَدْخُلوا الإِسلام، وهذا يَعْني الاقتصارَ على الأُخُوَّةِ الإِسلامية، وهَدْمَ أَركانِ الأُخُوَّةِ العَامَّة، وقَطْعَ أَواصِرِ المحبةِ وحُسْنِ المعاملةِ بينَ طَبَقاتِ البَشَر، وهكذا حَرَّمَ المسلمونَ الاستيطانَ(1/469)
في كُل بلادِ الحجازِ على كل غيرِ المسلمين ".
وفي هذا الكلامِ المفترى مجموعةٌ من المغالطات والأَكاذيب:
1 - يَزعمُ المفترِي أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان في مَكَّةَ يُسالمُ جَميعَ الناس، ويَحترمُ اليهودَ والنَّصارى والصابئين، ويَقولُ: إنَّ لهم الجَنَّة.
وهذا زَعْمٌ باطِل، فلم يكنْ في مكَّةَ وُجودٌ لليهودِ أَو النَّصارى أَو الصابئين.
لأَنَّ أَهلَ مكةَ كانوا من قريشٍ والعرب، وكان فيها ثلاثةٌ أَو أَربعةٌ
من النَّصارى، فكيفَ يزعُمُ الفادي المفترِي أَنه كان يحترمُ اليهودَ والنَّصارى
والصا بئين؟!.
ولم يكنْ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مُسالماً للنّاسِ في مكة، إِنما كانَ داعيةً مُذَكِّراً مُبَلِّغاً للدين، يُنذرُهم من عذابِ الله، وكان مأموراً هو وأَتْباعُه المؤمنون بكَفِّ أَيديهم عن قتالِ المشركين لحِكَم كَثيرة..
لكِنَّه كانَ يعلمُ أَنه ستأتي مرحلةٌ جديدة، يكون فيها قِتالٌ ومُواجهة.
2 - يَكْذِبُ المفترِي عندما يزعمُ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخبرَ وهو في مكةَ أَنَّ اليهودَ والنَّصارى والصابئين في الجنة، وأَحالَ على قولِه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) .
إنَّ هذه الآيةَ مدنيّة، لأَنَّ سورة المائدةِ مدنية، وليستْ مكيهً كما ادَّعى
المفتري!.
ثم إِنَّ الآيةَ لا تُخبرُ أَنَّ اليهودَ والنَّصَارى والصابئين في الجنة، إِنما
تُخبرُ أَنَّ المؤمنين المسلمين المتَّبِعين لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هم المؤمنون حقاً، وهم أَهلُ الجنة، أَمّا اليهودُ والنصارى والصابئون، فلا يُقْبَلُ إِيمانُ أَحَدٍ منهم، إِلّا إِذا آمَنَ باللهِ وعَمِلَ صالحاً وآمَنَ باليومِ الآخر، ولَنْ يتحقَّقَ ذلك إِلّا إِذَا آمَنَ بكل كُتُبِ الله، ومنها القرآنُ، وآمَنَ بكُلِّ رسلِ الله، ومنهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -،(1/470)
فإذا لم يُؤْمن اليهودي أو النصرانيُّ أَو الصابِئُ بالقرآنِ وبالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ مؤمِناً، ولم يكنْ من أَهْلِ الجنة، لأَنَّهُ فَرَّقَ بين رسلِ الله، فآمَنَ ببعضِهم وكَفَرَ بآخَرين، وهذا هو الكُفْرُ الصريح.
قالَ اللهُ - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) .
3 - يَزعُمُ المفترِي أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لما هاجَرَ إِلى المدينةِ واشْتَدَّ ساعِدُه، وتَقَوّى بالأَنْصار، وزادَ عَدَدُ أَتْباعِه، غَيَّرَ أَفكارَه ونظرَتَه إِلى الآخرين، وتَخَلّى عن مسالمةِ الناس، وأَعلنَ الحرْبَ عليهم، وأَمَرَ بقَتْلِ كُلِّ مَنْ كانَ غيرَ مُسْلِم، إِذا لم يَدْفَع الجزية، وكانَ أَمامَهُ أَحَدُ خياراتٍ ثلاثة: الإِسلامُ أَو الجزيةُ أَو القِتال.
وهذا الزعْمُ والافتراءُ يعني أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - يُغَيِّرُ مبادِئَه وأَفكارَه من عنْدِه، ويُؤَلِّفُ القرآنَ من عِنْدِه، ويَضَعُ أَحكامَ الإِسلامِ من عنْدِه!.
إِنَّ اللهَ هو الذي أَمَرَ المسلمينَ في مكةَ بكَفّ أَيْديهم عن قتالِ المشركين،
والصَّبْرِ على أَذاهم، وهو سبحانَه الذي فَتَحَ لهم بابَ الفَرَج في المدينة، ونَصَرَ دينَه بالأَنصارِ فيها، وهو الذي أَنزلَ السورَ المدنيّةَ وأَمَرَ فيها بقتالِ المعْتَدين، وَوَرَد هذا في سورِ البقرةِ وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة ومحمد والصف وغيرها.
4 - يَزعمُ المفْتَرِي أَنَّ القرآنَ بدعوتِه إِلى الأُخُوَّةِ الإِسلاميةِ بينَ المسلمين
يَدْعو إِلى هَدْمِ أَركانِ الأُخُوة العامّة، وقَطْعِ أَوَاصرِ المحبةِ وحُسْنِ المعاملةِ بينَ
الناس.
وهذا افتراءٌ منه على القرآن، فدعوةُ القرآنِ إلى تعميقِ وتوثيقِ الأُخوةِ
الإِسلامية بين المسلمين لا تَعْني قَطْعَ الأُخُوَّةِ بين الناس، فاللهُ أَمَرَ المْسلِمين
أَنْ يُوَثقوا صِلَتَهم بغيرهم، ويُحْسنوا معامَلَتَهم، ويُقدِّموا لهم الخير، واعتبرَ(1/471)
هذا من البِرِّ والإِحسان، يتقرَّبونَ به إلى الله - عز وجل - قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) .
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) .
أَما تحريمُ إِقامةِ غيرِ المسلمين في بلادِ الحجاز، فلأَنَّ الحجازَ والجزيرةَ
العربية كلَّها صارَتْ دارَ إِسلام، وقد أَسلمَ أهْلُها جَميعاً في حياةِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وبما أنهم مسلمونَ فإِنَّ مَنْ تَرَكَ الإِسلامَ منهم يكونُ مرتدّاً، والمرتَدُّ يُقْتَلُ إِنْ لم يَعُدْ للإِسلامِ، وغيرُ المسلمين من البلدانِ الأُخرى ليسوا من أَهْلِ الحجاز، فلماذا يُقيمونَ ويستَوْطِنون فِيها؟!.
لو طَرَدَ المسلمونَ أَحَدَ أَهلِ الحجازِ الأَصلِيِّين يمكنُ أَنْ يُلامُوا، لكنَّهم
لا يُلامونَ على عَدَمِ السماحِ للمسلمِ بالردة، ولا على عدمِ السماحِ لابنِ غيرِ المنطقةِ الكافرِ بالإِقامةِ فيها.
***
حول تقبيل الحجر الأسود
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ شعائرَ الحَجِّ التي يُؤَدّيها المسلمون، ليستْ من
عندِ الله، وإنما هي من أعمال الجاهلية، بما في ذلك تقبيلُ الحَجَرِ الأَسودِ
عند الطَّواف.
قال: "معلومٌ أَنَّ الحَجَّ إِلى الكعبةِ وشعائِرَهُ هي من شعائرِ الجاهلية، بما في ذلك تقبيلُ الحجرِ الأَسود!
قال عمرُ بنُ الخَطَّاب للحَجَرِ الأَسود: أَما والله لقد عَلمتُ أَنك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَع، ولولا أًني رأيتُ رسول اللهِ يقبّلُك ما قَبَّلْتُك "!.
وقد سبقَ أَنْ أَثارَ المفترِي فريةَ أَخْذِ شعائرِ الحَجّ من الجاهلية، وسَبَقَ أَنْ
رَدَدْنا عليه، وذَكَرْنا أَمْرَ اللهِ بالحَجِّ من أَيامِ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ الجاهليّين(1/472)
توارثوه من أَيامِ إِبراهيمَ - عليه السلام -، لكنَّهم أضافوا له كثيراً من ممارساتِهم الجاهليةِ الباطلة، فأزالَ اللهُ ذلك، وأَعادَ لشعائر الحَجِّ صِفَتَها الإِيمانيةَ الخالصة، فعندما يُؤدّي المسلمونَ مناسِكَ الحَجّ فإِنهم يُنَفِّذونَ بذلك أَمْرَ اللهِ سبحانه..
قالَ تعالى في أَمرِ إِبراهيم - عليه السلام - بالحج: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .
أَمّا تَقبيلُ الحجرِ الأَسود فقد تهكَّمَ الفادي السفيهُ عليه بسوءِ أَدَب " قال:
" ونحنُ نَسْأَلُ: هل في الحجر الأَسودِ روحٌ حتى يحسَّ بحرارةِ القُبْلَةِ التي
يَطبَعُها المسلمون عليه، أَو هل فيه عَقْلٌ يُدركُ تَقديرَ المسلمينَ له وِإِكرامَهم
إِيَّاه؟
ولماذا يُعطي المسلمونَ كَرامةً لحَجَر، كان يُؤَدّيها عَرَبُ الجاهليةِ
لأَوثانِهم أو كيفَ أَقْدَمَ محمدٌ على هذا الإِكرام الديني للحَجَر؟
وكيفَ أبقى محمدٌ هذا الحَجَرَ في الكعبةِ، ولم يَعْزِلْه
كما عَزَلَ بقيةَ الأَصنام؟! ".
إِننا نتركُ الأُسلوبَ البذيء الذي صاغ المجرمُ به أَسئلتَه الوقحة، ونُقَرِّرُ
أَنَّ العَرَبَ الجاهليين لم يَكونوا يَلْمَسون الحَجَرَ الأَسودَ أَو يُقَبِّلونَه، عندما كانوا يطوفونَ بالكعبة.
وإنَّ لَمْسَ الطائفينَ له وتقبيلَه تَشريعٌ إسلاميّ، وليس عادَةً جاهلِية.
وهذا لا يَعني إِكرامَ المسلمينَ له لأَنه مجرَّدُ حَجَر، ولكنهم بذلك يُنَفَذون
أَمْرَ الله، وهم بذلك يَعْبُدونَ الله، وتَقبيلُهم الحَجَرَ الأَسودَ كالطوافِ بالكعبة، وهم عابِدونِ للهِ عندما يَطوفون بالكعبة، وعابِدونَ لله عندما يُقَبّلونَ الحَجَرَ الأَسود.
وما أَجملَ ما قالَه عمرُ بن الخطابِ - رضي الله عنه - وهو يُقَبل الحَجَرَ الأَسودَ أَثناءَ طوافِه: " واللهِ إِنِّي لأَعلمُ أنك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنفع، ولولا أَنّي رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبّلُك ما قَبَّلْتُك ".(1/473)
إِنَّ هذا الكلامَ الرائعَ لِعُمر أَبلغُ رَدٍّ على مزاعمِ المفَتري، وهو صريحٌ في
نظرةِ المسلمينَ إِلَى الحجرِ الأَسود وهم يُقَبِّلونَه، كما أَنه دَليلٌ على صفاءِ
توحيدِ الله في تصوُّرِ المسلمين.
***
حول عدم الاستعانة بالكافرين
نهى اللهُ المسلمينَ عن اتِّخاذِ الكافرينَ الأَعداءَ أَولياءَ، وأَشارَ إِلى ذلك
قولُه تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) .
ونَقَلَ الفادي كلامَ البيضاويِّ في تفسيرَ الجملةِ الأَخيرةِ من الآية: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) : يَعني جانِبوهم رأساً، ولا تَقْبَلوا منهم ولايةً ولا
نصرةً ولا نصيراً تَنْتَصِرونَ به على عدُوّكُم.
وعَلَّقَ على ذلك بقولِه: " ونحنُ نسأل: هل يَتفقُ هذا مع تاريخِ
المسلمين، الذين اسْتَعانوا بالمسيحيّين في عصورٍ كثيرةٍ؟
إِنَّ الضرورةَ الاجتماعيةَ والعسكرية تُحَتّمُ التعاونَ مع الغير، فالعزلة السياسيةُ تتعَارضُ مع القوانينِ المدنية، وقد لَفَظَها المجتمعُ لعدمِ صلاحيَّتِها ".
دَعا الإِسلامُ المسلمين إِلى عدمِ موالاةِ الكافرين، وعدمِ الاستعانةِ بهم،
وخاصةً إِذا كانوا مُحارِبين، وهذا لَم يُعجب الفادي، ولذلك رَفَضَهُ لأَنَّه يَدْعو إِلى العزلةِ السياسيةِ للمسلمينَ، ويَتعارَضُ مع القوانينِ المدنية.
ويزعمُ الفادي أَنَّ هذه الدعوةَ القرآنيةَ لم يَلتزمْ بها المسلمون أَنفسُهم،
بل خَرَجوا عليها في تاريخِهم، واستعانوا بالمسيحيين في عصورٍ كثيرة.(1/474)
ونحنُ لا يُهِمُّنا ما - فعلَه المسلمون في تاريخِهم، ولا نقرُّهم على
مخالفتِهم توجيهات القرآن، ونعترفُ أَنَّ كثيراً منهم لم يلتزموا بالقرآن، في
تحدِيدِ صِلاتهِم وارتباطاتِهم بغيرِهم، فمِنهم مَن استعانَ بالنَّصارى المحارِبين،
ومنهم مَنْ تحالَفوا مع الأَعداءِ ضدَّ إِخوانِهم المسلمين، وقاتَلوا إِخوانَهم
المسلمين بهم!!
وهذه التصرفاتُ كلُّها مخالِفَة للإِسلام، نرفضها وننكرُها، في الوقتِ الذي يعتزُّ بها الفادي المفترِي؛ لأَنها مظهر من مظاهرِ مخالفةِ المسلمين لدينِهم!.
إِنَّ الآيةَ التي اعترض عليها الفادي المفترِي تتحدَّثُ عن كُفارٍ أَعداءٍ
للمسلمين، محاربين لهم، حَريصين على رِدَّتِهم عن إِسلامِهم، وبسببِ هذه
المعاداةِ فإِنَّ الآيةَ تدعو المسلمين إِلى الحَذَرِ والانتباه، وعدمِ موالاةِ هؤلاء
الأعداءِ، وعدم الاستنصارِ بهم، إِذ كيفَ يُوالونَ مَنْ هذه صِفَتُهم وكيفَ يَطلبونَ النصرةَ من الحريصين على إِضعافِهم وردَّتِهم؟
ولماذا يعترضُ المفترِي على هذه الدعوةِ القرآنية؟!.
***
حول انتشار الإسلامِ في العالم
وقفَ الفادي أَمامَ سورةِ النصر، التي تُبَشَرُ بنصْرِ الإِسلامِ وانتشارِه؟
قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) .
واعترضَ الفادي على السورة، واعتبرَ انتشارَ الإِسلامِ ليسَ فَضلاً من الله،
ولا دليلاً على أَنه من عندِ الله، ولذلك عَلَّقَ على ذلك قائلاً: " ونحنُ نسأل: إِذا كانَ من المعلومِ أَنَّ الناسَ بطبيعتِهم مُقَلِّدون، وأَنَّ تَأَثُّرَ الجماعاتِ والقبائل بَعضهم من بعض، قادَ العربَ وغيرَهم للدُّخول في الإِسلام ...
واعتبرَ المسلمونَ أَنَّ هذا تيسيرٌ من الله لم يَخطرْ على بال أَحَد، وأَنَ هذا شهادةٌ للإِسلام ...(1/475)
فماذا يقولُ المسلمون في انتشارِ الدينِ الوثنيّ، وعَدَدُ أَتْباعِه
أَضعافُ المتدينين بدينِ محمد، وله من الأَديرةِ والمعابد ما لا يُحصى عَدّاً.
وكثيرٌ منها غايةٌ في الجَمالِ والغِنى، وهو ممتدٌّ من غربِ الهندِ إِلى حدودِ
سَيْبيريا، فهل تكونُ الوثنيةُ من عندِ الله؟ ".
للمفتري تفسيرٌ خَبيثٌ لسرعةِ انتشارِ الإِسلام قُبيلَ وَفاةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخالفُ التفسيرَ الصحيحَ، الذي يتفقُ مع المنطقِ والمنهجيةِ! إِنه يَعْزو ذلك إِلى البُعْدِ القَبَلِيّ والعَشائري، فالناسُ في العُرْفِ القبليّ يَتَّبِعونَ شيخَ القبيلة، ولا يُناقشونه ولا يَعترضونَ عليه، ولهذا قَلَّدَ رجالُ القبائلِ الأَقوياءَ منهم، الذين دَخَلوا في الإِسلام، وتابَعَ الناسُ شُيوخَ قبائلِهم!!.
ولو كانَ كَلامُه صحيحاً لأَسلمَ الناسُ في الجزيرةِ العربيةِ منذُ السنواتِ
الأُولى..
لقد حارَبَتْ قُريشٌ الإِسلامَ عشرينَ سنةً بكلِّ ما أُوتيتْ من قوة، ولم
تَدخُلْ في الإسلامِ إِلاّ بعدَ هزيمتِها أمامَه.
وإنَّ الله هو الذي جاءَ بالنصرِ والفتح، وهو الذي شَرَحَ له صُدورَ
الناس، فصاروا يَدخلونَ فيه أَفواجاً، وهو الذي وَعَدَ المسلمينَ بذلك قبلَ
تَحَقُّقِه ومجيئِه في أَكثرَ من آية، منها قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) .
ومنها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) .
وقولُ الفادي: إِنَّ الوثنيين أَضعافُ عدِد المسلمين، كَذِبٌ وافتراء،
فالمسلمونَ هم الملةُ الثانيةُ في العَدَدِ بعد النصارى!.(1/476)
وما زالَ الدينُ الإِسلاميّ قَويّاً، رغمَ تصعيد الأَعداء حربَهم له، وكُلُّ يومٍ
يدخل فيه أَفرادٌ جُدُد في مختلفِ بِقاع العالمِ، مع أَنه لا توجَدُ دولة تحملُه
وتُطبقُه بصدقٍ في هذا الزمان، فهو دينٌ زاحفٌ، رغم أنفِ الأعداءِ وكثرةِ
المعَوِّقات!.
وقد أَخبرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَ الإِسلام سينتشرُ في الأَرض كُلِّها، ويدخلُ كلَّ بيتٍ عليها، وسيبلغُ ما بَلَغُ الليلُ والنهار، وسيَقضي على كُلِّ الأَديانِ الباطلة..
ونقول للفادي: حَلِّلْ كما تَشاء، ومُتْ بغَيْظِك!!.
***
حول تقاتل المسلمين
امتَنَ اللهُ على المسلمينَ بأَنه أَلَّفَ بين قلوبهم، وجَعَلهم إِخْواناً مُتحابّين.
قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) .
ولكنَّ الفادي المفترِي اعترضَ على الآيةِ وكَذَّبَها، وذَكَرَ أَمثلةً ونماذجَ
لاختلافِ المسلمين وتقاتُلِهم وتَطاحُنِهم، وقالَ: إِنَّ الحروبَ التي وَقَعَتْ بين
المسلمين في صَدْرِ الإِسلامِ أَكثرُ وأعنفُ وأَشَدُّ من الحروبِ التي وقَعَتْ بين
العربِ الجاهليّين!.
قال: " يَرى المسلمونَ أَنه من فضائلِ الإِسلامِ الدالَّةِ على أَنه من عندِ الله،
أَنَّه أَلَّفَ بينَ قُلوبِ العرب، بعدَ أَنْ كانوا قبائلَ تَشُنُّ الحروبَ بعضُها على
ونحنُ نَرُدُّ: إِنَّ هذا القول باطل، فالحروبُ والغزواتُ كانت على أَشُدِّها
بين العربِ أَيامَ محمد.
ولما ماتَ قامَ أَبو بكر بحروبِ الرِّدَّة، وبعدَ موتِ عُمَرَ أَعملَ المسلمون السيفَ بعضُهم برقابِ بَعْض، فماتَ عمرُ وعثمانُ مقتولَيْن،(1/477)
وحَدَثَتْ حَرْبُ الجَمَلِ بين عائشة وعلي، ثم بينَ معاويةَ وعلي وابنِه
الحسين ...
ثم كانت فتنةُ عبد الله بن الزُّبَيْر والحربُ بينه وبينَ الحَجّاجِ في
خلافةِ عبدِ الملك بن مروان ...
هكذا كان حالُ العربِ في صَدْرِ الإِسلام، يقتلُ بعضهم بعضاً، مُواجهةً وخِدعةً وغَدْراً، فأَين التآلفُ وإِصلاحُ ذاتَ البينِ الذي أَتى به الإسلام؟! ".
إِنَّ من المتفقِ عليه أَنَّ العداوةَ والبغضاءَ كانتْ شديدةً بين العربِ في
الجاهلية، وأَنَّ حياتَهم كانت تَقومُ على الغزوِ والقَتْل، والسلبِ والنهب،
والظلمِ والعدوان، وكانت تنشبُ بينهم الحروبُ الطويلةُ لأَتْفَهِ الأَسباب..
وجَمَعَهم اللهُ بعدَ ذلك لما أَسلموا على القرآن، وامتنَّ اللهُ على المسلمين
بذلك، ودعاهم إِلى الاعتصام به، وتَذَكُّرِ ما كانوا عليه من العَداوة، وما صَاروا إليه من الأُخُوَّةِ والمحبَّة، وشَتّانَ بين ماضيهم الجاهليِّ وحاضرِهم الإِيمانيّ!.
ونَعتَرفُ بأَنهُ حَصَلَ للمسلمين تَفَرُّقٌ واختلافٌ بعد وفاةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَدّى هذا إِلى تَقاتُلٍ ونزاعٍ، ونَشَبَت المعاركُ بين المسلمين، في البصرةِ وصفّين، واستشهدَ كثيرٌ من خِيارِ المسلمين.
لكنَّ هذه الفترةَ كانت غاشيةً غشيت المسلمين، ثم تَلاشَتْ وزالَتْ، وحَلَّ
مَحَلَّها اتفاقُهم واجتماعُهم وتَلاقيهم.
ثم إِنَّ هذا الاختلافَ والتقاتُلَ لم يُؤَدِّ إِلى خروجهم عن الإِسلام، ومع أَنَّ الأَصْلَ أَنْ لا يكون، لكنَّ وُقوعَه أَمْر حتميّ بينَ مختلفِ الناس.
كما قال الله - عز وجل -: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) .
ولا يَزالُ القرآنُ عاملَ اجتماعِ وتعاونِ المسلمين، تَأتلفُ عليه
قلوبُهم، ويُخففُ آثارَ الاختلافِ الذي لا بُدَّ أَنْ يقعَ بين البَشَر!.(1/478)
الفصل الثامن نقض المطاعن العلمية(1/479)
هل لتمثال العجل خوار؟
أَخبرَ اللهُ أَنه في غيبةِ موسى - عليه السلام - عن بَنِي إِسرائيل، فَتَنَهم وأَضَلَّهُم السامريُّ الكافر، فأَخَذَ حُليَّهُم وزينَتَهم، وصَنَعَ منها تمثالاً ذَهَبِيّاً، على شَكْلِ عجل، ودَعَاهُم إِلى عبادَتِه، على أَنه إلهُهُم، ومن بابِ فتنتِهم كان لهذا التمثالِ خُوَارٌ كخوارِ العِجْل.
قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) .
وقال تعالى: (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) .
وقد اعترضَ الفادي على كلام القرآن، واعتبرَه مُتَناقضاً مع حقائق
العلم، إِذْ كيفَ يُمكنُ للبشرِ أَنْ يَصْنَعُوا تِمثالاً ناطِقاً متكَلِّماً؟
قال: " ونَحْنُ نَسأل: من أَينَ استقى القرآنُ هذا الخَبر، الذي ليس له أَساسٌ تاريخي؟
وهل من المعقولِ أَنَّ العجلَ الذهبيَّ يَخورُ كالعجلِ الطبِيعيّ؟
وهل يتمنّى السامريُّ المزعومُ ذلك، ويَطلبُه هارونُ من الله، فيوافقُ اللهُ على تَحسينِ الصَّنَمِ فيخورُ، ليُغريَ الناسَ ليَعْبُدوهُ من دونِ الله؟
وهل صارَ السامريُّ وهارونُ واللهُ شركةً واحدةً في صُنعِ العجل؟! ".
يتساءَلُ الفادي بخُبْث: " من أَينَ اسْتَقى القرآنُ هذا الخبرَ؟
الذي ليس له أَساسٌ تاريخي؟ " إِنَّهُ بهذا التَّساؤُل يُريدُ أَنْ يُقَرِّرَ بشريةَ القرآن، فلأَنَّه من عند
البَشَر فلا بُدَّ أَنْ يكونَ لما يَقولُه مصدَرٌ يأخُذُه منه، فمن أَينَ أَخَذَ القرآنُ فِكرةَ العجْلِ البشري؟.(1/481)
ونحنُ نوقنُ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وكلّه صادق، لأَنَّه لا أَحَدَ أَصْدَقُ
حَديثاً وَقْولاً من الله، ولا يَجوزُ أَنْ نبحثَ عن مصدَرٍ بشري لما يذكُرُه القرآن، ويَكفي ذِكْرُ الخبر في القرآنِ دَليلاً على تَصديقه.
ويُكَذِّبُ الفادي المفترِي القرآنَ عندما يَزعمُ أَنَّ إِخبارَه عن عجلِ السامريِّ
ليس له أَساسٌ تاريخي، ونقول له: مرجعيَّتُنا هي القرآن، لأَنه كلامُ الله،
ويَجبُ أَنْ نؤمنَ بكلِّ ما وردَ فيه، وَمَنْ كَذَّبَ شيئاً مما ذُكِرَ فيه، فهو
مُكَذّبٌ لله، كافرٌ به.
وبعدَ ذلك نقول للفادي: لقد ذَكَرَ كِتَابُكَ المقَدَّسُ الذي تُؤمنُ به قصةَ
صنْعِ العجل، لكنَّ الحاخامات الذين أَلّفوا أَسفارَ العهد القديم كَذَبوا على الله وعلى هارونَ النبيِّ - عليه السلام -، حيثُ زَعَموا أَنه هو الذي صنَعَه، ودَعا قومَه إِلى عبادتِه!.
وَرَد في سِفْرِ الخُروجِ ما يلي: " ورأى الشعبُ أَنَّ موسى قد تَأَخَّرَ في
النزول من الجبل، فاجتمعَ الشعبُ على هارون، وقالوا له: قُمْ فاصنعْ لَنا آلهةً تسيرُ أَمامَنا، فإنَّ موسى ذلك الرجل الذي أَصْعَدَنا من أَرضِ مصر لا نَعلمُ ماذا أَصابَه!!.
فقال لهم هارون: انْزعوا حَلَقاتِ الذَّهَبِ التي في آذانِ نسائِكم وبَناتِكم
وبَنيكم، وأتوني بها ...
فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ حَلَقاتِ الذَّهَبِ التي في آذانِهم، وأَتَوْا بها هارون ...
فأَخَذَها وصَبَّها قالباً، وصَنَعَها عِجْلاً مسبوكاً ...
فقالوا: هذه آلهتُكَ يا إِسرائيل، التي أَصعدَتْكَ من أَرضِ مصر، فلما رأى هارونُ ذلك بنى مَذْبحاً أَمامَ العجل، ونادى قائلاً: غداً عيدٌ للرّبّ! فَبكَّروا في الغَدِ، وأَصْعَدوا مُحَرَّقات، وقَرَّبوا ذبائح، وجَلَسَ الشعبُ يأكلُ ويشربُ، ثم قامَ يَلْعَب ...
ولما عادَ موسى - عليه السلام - إلى قومِه غَضْبانَ أَسِفاً، لامَ هارونَ لَوْماً شَديداً على ما فَعَلَه، وقال له: ماذا صَنَعَ بك هذا الشعبُ، حتى جَلَبْتَ عليهم خطيئةً عظِيمة.(1/482)
فقالَ هارون: أَنتَ عارفٌ أَنه شعبٌ شِرّير، قالَ لي: اصنَعْ لنا آلهةً
تَسيرُ أَمامَنا، فإنَّ موسى ذلك الرجل الذي أَصعَدَنا من أَرضِ مِصْر، لا نَعْلمُ
ماذا أَصابه..
فقلْتُ لَهم: مَنْ له ذَهَبٌ فلينزَعْه..
فأْتوني به، فأَلقيتُه في النّار، فخرجَ هذا العجل ...
" [سفر الخروج: 32/ 1 - 6 و: 32/ 21 - 24] .
الفادي يقول: هل من المعقولِ أَنَّ العجلَ الذهبيَّ يَخورُ كالعجلِ
الطبيعي؟
ونقول: نَعَمْ من المعْقول، إِذْ ليس في هذا ما يَتناقضُ مع العَقْلِ،
لأَنه لم يحدُثْ بفعلِ السّامريّ، إِنما حَدَثَ بإرادةِ الله، والسّامريُّ لم يخلقْ
عجْلاً طبيعيّاً حقيقيَّاً، لأَنَّ الخالقَ هو الله، كلُّ ما فعلَه أَنه صَنَعَ من الذهبِ
والحِلِيّ عِجْلاً جَسَداً، وتمثالاً مُجَسداً، واللهُ هو الذي جَعَلَ لهذا العجلِ
التمثالِ خُواراً، وجَعَلَ له صَوْتاً كصوتِ العِجْل، مُبالغةً في ابتلاءِ وامتحانِ بني إِسْرائيل، ولقد رَسَبوا في الامتحان، وخَسِروا في الابتلاء، وكانوا كُلَّما سَمِعوا خُوارَ العجلِ التمثالِ ازْدادوا إِقْبالاً عليه وفَرَحاً به!
ومن المعلوم أَن الله يَبْتَلي عبادَه بالخيرِ والشَّرّ، كما قالَ تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) .
ثم ما هو الذي يتعارَضُ مع العقلِ في خُوارِ العجلِ الجَسَد؟
أَلا يُمكنُ تَقريبُ ما جرى من خلال تَذَكُّرِ آلاتِ العَزْفِ الموسيقية، حيثُ يُخرجُ العازفُ أَلْحاناً موسيقيةً من ضربه على بعضِ الآلاتِ الجامدة، أَو نَفْخِهِ في آلاتٍ أُخرى؟
فإذا كانَ الإِنسانُ يَستطيعُ إِخْراجَ أَلَحانٍ مختلفةٍ من الآلاتِ التي يَتعامَلُ معها،
أَيعجِزُ الله سبحانه عن إِخراجِ صوتِ خُوارِ العجلِ من تمثالِ عجلٍ مجسَّد؟!.
المشكِلةُ ليستْ في إِخْبارِ القرآنِ عن خُوارِ تِمثالِ العجل، إِنما المشكلةُ
في ما نَسَبَهُ الأَحبارُ الكُفارُ إِلى النبيِّ هارونَ - صلى الله عليه وسلم - من كفر! فهل يُعقلُ أَنْ يستجيبَ النبيُّ هارونُ - صلى الله عليه وسلم - إِلى طلباتِ قومِه الكافرة، ويَصنعَ لهم من حُلِيِّهم عِجْلاً، ويَقولُ لهم: إِنَّ هذا هو إِلهُكُم، فتَعالوا واعْبُدوه؟!.
وقد نَصَّ القرآنُ على أَنَّ هارونَ - صلى الله عليه وسلم - أَنكرَ عليهم عبادتَهم العجلَ، قال تعالى: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) .(1/483)
أسطورة خاتم سليمان
حَمَّلَ الفادي المسلمين أُكذوبةَ خاتَمِ سليمانَ - عليه السلام -، التي ذَكَرَها بعضُ المَفسِّرينَ، الذينَ يَذْكرُونَ الإِسرائيلياتِ والخرافاتِ والأَساطير، وذلك أَثناءَ تفسيرِهم لقولِ الله - عز وجل -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) .
قالَ: " قالَ مفسرو المسلمين: إِنَّ سُليمانَ قَتَلَ مَلِكَ صَيْدون، وأَخَذَ ابْنَتَهُ
جَرادَةَ لجَمالِها، فكانَتْ تَبْكي في بيتِ سليمانَ على أَبيها.
فأَوصى سليمانُ الشياطينَ، فعَمِلوا تِمثالاً لأَبيها، وضعَتْه أَمامَها، وكانتْ تسجدُ له أَربعين يوماً ...
وكان لسليمانَ خاتمٌ يلبسُه، وكان إِذا دَخَلَ للطهارةِ يُعْطِيه لزوجتِه
أَمينة! فَمَرَّةً دخلَ للطهارة، وظهَرَ الشيطانُ لأَمينَة في شكْلِ سُليمان، وأَخَذَ
الخاتم، وجَلَسَ على سَريرِ الملِك، وتَزَوَّجَ بنساءِ سليمان، واستمرَّ في المُلْكِ
أَربعين يوماً، وسليمانُ مطرودٌ، يستنكرُه كلُّ مَنْ رآه..
وطارَ الشيطان، وسَقَطَ منه الخاتمُ في البحر، وصادَ الصَّيّادون سَمَكاً، وأَعْطوا سليمانَ سمكتَيْن أُجْرَةً له، على خدمتِه في حَمْلِ السَّمَك، فَوَجَدَ الخاتمَ في جوفِ السمكة، ولما لبسَه عادَ إِليه المُلْك! "..
وعَلَّق الفادي على هذه الأُسطورةِ بقوله: " فما معنى هذا الخاتم
السحري، الذي مَنْ يلبسُه من الإِنسِ أَو الجنِّ يَصيرُ مَلِكاً؟
وكيفَ يتزوَّجُ الشيطانُ النِّساءَ وهو من الأَرواح؟
ومتى كان سليمانُ الملكُ شَحّاذاً وحَمّالَ سَمَكٍ أَرْبعين يوماً؟! ".(1/484)
إِنَّ هذا الكلامَ مردودٌ مكذوب، لم يَرِدْ في كتابِ الله، ولا في حديثِ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقلْه واحد من الصحابةِ أَو التابعين، وهو من الإِسرائيلياتِ والخرافاتِ والأَساطيرِ الباطلة، التي لا يَجوزُ أَنْ نُفَسِّرَ بها كلامَ الله..
وسامَحَ اللهُ الإِخباريّينَ والرواةَ من المسلمين، الذين أَجازوا
لأَنفسِهم تفسيرَ كلامِ اللهِ بهذا الهراءِ التافه، حتى يأتيَ إِنسان مُغْرِض مثلُ
الفادي يجعلُه مَطْعَناً يوجِّهُه إِلى كتابِ الله - عز وجل -.
ثم إِنَّ هذا الكلامَ الباطِلَ يَطعنُ في نبوةِ سليمانَ - صلى الله عليه وسلم - وعصمتِه وإِيمانه، ويُصوِّرُهُ بصورةِ الذي يَرضى بالشِّرْكِ بالله في بيته، بل يَرضى أَنْ يَصنعَ الأَصنامَ لامرأتِه المشركة، ويَدْعوها لعِبَادَتِها، إِنَّ هذا لا يفعَلُه مسلمٌ عادي، فكيفَ يفعلُه النبيُّ الملكُ القويُّ سليمانُ - صلى الله عليه وسلم -؟!.
وما هو هذا الخاتمُ السحريُّ الذي كان يَحكمُ به سليمانُ الإِنسَ والجنّ؟
وكيفَ يرضى اللهُ أَنْ يُسْلَبَ سُليمانُ الملكَ؟
وأَنْ يَحلَّ محلَّه شيطانٌ رجيم؟
وكيفَ يَطَأُ ويُجامعُ هذا الشيطانُ الكافرُ أَزواجَ سليمانَ واحدةً واحدة؟
وكيف؟ وكيف؟ وكيف؟ ...
إِنَّنا نبرأُ إِلى الله من هذه الأُسطورةِ المكذوبة، ونُبَرِّئُ سليمانَ - عليه السلام - منها!.
***
لماذا إنكار عذاب القبر؟
يُنكرُ الفادي المفترِي عَذابَ القبر، ويَعتبرُه مما لا يتفقُ مع العلم، ومما
يَتَناقَضُ مع العقل، ويُخَطِّئُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِه عنه.
وإِنَّ إِنكارَه عذابَ القبرِ لا يَتفقُ مع موضوعِ كتابِه، الذي خَصَّصَه لانتقادِ
القرآن، وهو في هذا الموضوعِ يَنتقدُ حديثَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -!.
ذَكَرَ قولَ اللهِ - عز وجل - (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) .(1/485)
وذِكْرُه للآيةِ في معرضِ حديثِه عن عذابِ القبرِ دَليلُ جهْلِه، فالآيةُ
لا تتحدَّثُ عن عذابِ القبر، وإِنما تتحدَّثُ عن الموت، الذي لا بُدَّ أَنْ يُصيبَ الإِنسانَ مهما فَرَّ منه.
والآيةُ شبهُ الصريحةِ في عذابِ القبر هي قولُ اللهِ - عز وجل -:
(وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) .
وذكَرَ الحديثَ الذي رواهُ البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ عجوزان من عجائزِ يهودِ المدينة، فقالَتا: إِنَّ أَهلَ القُبورِ يُعَذَّبونَ في قبورِهم، فكذَّبْتُهما، فَخَرَجَتا..
ودَخَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلْتُ له ما قلْتُ لهما، وإِني لم
أُصَدِّقْهما في ذلك، فقال: " صَدَقَتا، إِنهم يُعَذَّبون في قُبورِهم عذاباً تَسمعُه
البهائمُ كلُّها.
فما رأيْتُه بعدَ ذلك في صلاةٍ إِلّا تعوَّذَ من عذابِ القبر ".
ثم ذَكَرَ حديثاً آخَرَ في تَعَوُّذِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من العجزِ والكسلِ والجبنِ والبخلِ وعذابِ القبر، وحَديثاً ثالثاً في سؤالِ الملَكَيْن لمن يوضَعُ في قبرِه.
وعَلَّقَ على تلك الأَحاديثِ الثلائة قائلاً: " ونحنُ نسأَل: إِذا كان الميتُ
يَسمعُ ويتعذَّبُ في القبر، فلماذا لا يَسمعُ عذابَ أَهلِ القبرِ إِلّا البهائم؟
وإِذا كان أَهلُ المقابرِ الذين يَعترفونَ بنبوَّةِ محمدٍ يُعْفَوْنَ من العذاب، فلماذا كان النبيُّ نفسُه دائماً يتعوَّذُ من عذابِ القبر؟
لعلَّ خُرافةَ العجوزَيْن (اللتَيْن كذَّبَتْهما عائشة) تَعودُ إِلى أنهما سمعتا عن شخصٍ دُفِنَ بسرعةٍ بعدَ أَنْ ظَنّوه مات، ولما أَفاقَ في القبرِ استغاث، وليسَ مَنْ يُغيث، فماتَ، فخرجَتْ إِشاعَةُ أَنَّ أَهلَ القبورِ يُعَذَّبون!! ".
بهذا التفسيرِ الساذج، الذي يدلُّ على الغَباء، يُفَسِّرُ الفادي الجاهلُ
عذابَ القبر: شابّ أُغْمِيَ عليه، فظُنَّ أَنه مات، فدُفِنَ في قبرِه، وهناك
استيقَظ، فصاحَ وصَرَخَ واسْتَغاث، وماتَ الموتَ الحقيقي..
ولما سمع الناسُ صُراخَه (ولا أدري كيفَ سمعوه) أَشاعوا إِشاعةَ عَذابِ القبر!!.(1/486)
وكلامُ الفادي مردود، ونحنُ نؤمنُ بأَنَّ عذابَ القبرِ حَقّ، لأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخبرَ بذلك، وإِذا صَحَّ الحديثُ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَبَ الأَخْذُ به، والإِيمانُ بما وَرَدَ فيه.
***
حول ناقة صالح - عليه السلام -
لما بَعَثَ اللهُ صالِحاً - عليه السلام - رسولاً إِلى قومِ ثَمودَ آتاهُ الناقةَ آية، وطَلَبَ منهم أَنْ لا يَمَسّوها بسوء، لكنَهم لم يَستجيبوا له، ولما عَقَروها وَقَعَ بهم العَذاب..
قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) .
ولما أَرادَ الفادي أَنْ يتعرفَ على قصةِ الناقةِ ذَهَبَ إِلى المفسّرين
المولَعين بذكْرِ التفاصيلِ المستمدَّةِ من الإِسرائيليات، والتي لا دليلَ عليها من
الكتابِ والسُّنَّة، وأَخَذَ منهم تلك التفاصيل، ثم رَدَّها وأَنكَرَها، بحجَّةِ مخالفتِها للعلمِ والعَقْل، وحَمَّلَها للقرآن، وخَطَّأَه بسببها، مع أَنَّ القرآنَ لم يَقُلْ بها!.
زَعَمَ هؤلاءِ أَنَّ قومَ ثمودَ طَلَبوا من صالحٍ - عليه السلام - آية، فأَخْرَجَ لهم ناقَةً من الصَّخرة، وأَخرجَ من الصخرةِ ابنَها، فآمَنَ به بعضُهم وكَفَرَ به آخرون، وكانت الناقةُ تُخيفُ أَنعامَهم، وتَشربُ ماءَهم، وهم في المقابلِ يَشْرَبون لَبَنَها، فاتَّفَقوا على قَتْلِها واقتسام لَحْمها، ولما قَتَلوها أَخْفَت الأَرضُ داخلَها ابنَها، وبعدَ ثلاثةِ أَيام وَقَعَ بهم العذابُ، وأَنْجى اللهُ صالحاً - عليه السلام - إِلى فلسطين.
وعَلَّقَ الفادي على ذلكَ بقوله: " هل من المعقولِ أَنَّ الصخرةَ تَلِدُ ناقة؟
وأَنَّ الناقةَ تَشربُ كُلَّ البئر، وتُطعمُ كُلَّ المدينة؟
وهل من المعقولِ أَنه عندما تتسبَّبُ الناقةُ في أَذِيَّة المدينة بَطرْدِ الأَنعامِ شِتاءً وصَيفاً، فيذبَحُها الناس،(1/487)
فيُهلكُ اللهُ المدينةَ كُلَّها مقابلَ ذبْح نَاقة؟
وهلْ من المعقولِ أَنْ تَسمعَ الصخرةُ رُغاءَ الفَصيل، فتنشقَّ ويدخلَ فيها، ويَعودَ جُزْءاً من الصخرة كما كان؟
أَليسَ هذا أَشبهَ بحكاياتِ أَلْفِ لَيْلَةٍ ولَيْلَة؟! " (1) .
الواجبُ علينا أَنْ نبقى مع حديثِ القرآنِ عن ناقةِ صالح - عليه السلام -، لا سيما أَنه لا يوجَدُ حَديثٌ صحيحٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفَصِّلُ ما أَجْملَه القرآنُ عنها، ولا يجوزُ لنا أَنْ نَذهبَ إِلى الأَساطيرِ والرواياتِ غير الصحيحة، كما فَعَلَ الفادي الجاهل!.
لم يَقُل القرآنُ: إِنَّ الناقةَ خرجَتْ من الصخرة، وأَنَّ ابْنَها خَرَجَ منها
بَعْدَها، ولم يَقُل القرآن: إِنّ الناقةَ كانت تُلاحِقُ وتُطارِدُ أَنعامَ ثَمود، ولم يَقُل
القرآنُ: إِنَّ ابْنَها عادَ إِلى الصخرةِ بعدَ ذبْحِ أُمِّه، ولم يُفَصل القرآنُ كيفيةَ ذبْحِ الناقة، ولم يَقُل القرآنُ: إِنَّ وجوهَ قومِ ثمودَ اصْفَرَّتْ في اليومِ الأَوَّلِ بعدَ ذبْح الناقة، واحمَرَّتْ في اليومِ الثاني، واسْوَدَّتْ في اليومِ الثالث.
وبهذا تُصبحُ كلّ الأَسئلةِ الإِنكاريةِ التي أَثارَها الفادي لاغية، لأَنَّها تُوَجَّهُ إِلى التفاصيلِ الأُسطورية، ولا تُوَجَّهُ إِلى القرآن!.
كُلُّ ما قالَه القرآنُ: إِنَّ اللهَ جَعَلَ الناقةَ آيةً لقومِ ثمود، ولا نَعرفُ كيفَ
كانَتْ آية، وأَنهم لم يَلْتَزِموا بتحذيرِ صالحٍ لهم من ذَبْحها، وأَنهم عُذِّبوا بعدَ
ثَلاثةِ أَيامٍ من ذَبْحِها!!.
***
حول إهلاك قوم مدين
أَخبرَ اللهُ عن قصةِ قومِ مَدْيَن مع نبيّهم شعيبٍ - عليه السلام -، ووردَتْ قصتُهم في أَكثرَ من سورةٍ في القرآن.
__________
(1) لا وجه لما استبعده هذا الفاسق الفاجر، فالكلام في عن معجزة أيد الله بها نبيه صالحاً - عليه السلام - وهي أمر خارق للعادة، ومن ثَمَّ فلا وجه للاستبعاد ولا الإنكار إلا إذا تعارض مع نص الكتاب العزيز أو السنة المطهرة. والله أعلم.(1/488)
وقد ذَكَرَ الفادي خمسَ عشرةَ آيةً تحدثَتْ عن قصةِ قومِ مَدْيَنَ في سورةِ
الشعراء [الشعراء: 176 - 190] ، ثم ذَكَرَ كلاماً مَنْسوباً لابنِ عباسٍ في كيفيةِ إِهلاكِ قومِ مدين، خُلاصتُه أَنَّ اللهَ بَعَثَ عليهم حَرَّاً شديداً من جَهَنَّم، بحيثُ لم ينفَعْهم ظِلّ ولا ماء ولا سِرْداب، فَهَرَبوا إِلى البريَّة، فأَرسلَ اللهُ لهم سَحابَةً أَظَلَّتْهم، فوجَدوا لها بَرْداً ونَسيماً، ولما تَنادَوْا إِليها وصاروا تَحْتَها، جَعَلَها الله عليهم ناراً فأَحرقَتْهم!.
وعَلَّقَ الفادي على ذلك بقولِه: " ونحنُ نسأل: لا نَجِدُ في الكتابِ
المقَدَّسِ كلمةً عن رجلٍ اسْمُه شُعَيب، أُرسلُ إِلى مَدْيَن، ولا أَنَّ مَدْيَن هلكَت
بالنّار، وهل من المعقولِ أَنَّ سَحابة تَبعَثُ نَسيماً عَليلاً وهَواءً طيباً، وهي نارٌ
حاميةٌ تَحرقُ المدُنَ فتُفْنيها؟ ".
إِنّ الفادي المفترِي يُكَذِّبُ كلامَ القرآنِ عن نبوَّةِ شُعيبِ - عليه السلام -، وعن إِهْلاكِ مَدْيَن، لأَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ الذي يؤمنُ به لم يَذْكُرْ ذلك، ونحنُ نؤمنُ بأَنَّ شُعَيباً - عليه السلام - هو رسولُ اللهِ إِلى مَدْيَن، وأَنهم لما كَذَّبوه أَهلكَهم الله، لأَنَّ اللهَ ذَكرَ ذلك في القرآن.
والخلافُ بَيْنَنا وبين الفادي في المرجعية، إِنَّ مرجعيَّتَه هي ما يسمِّيه
بالكتابِ المقَدَّس، وهو يؤمنُ بكلِّ ما وَرَدَ فيه، ويُكَذِّبُ كُلَّ ما لَم يَرِدْ فيه،
لأَنه عنده كلامُ الله! ونحنُ لا نُؤمنُ بذلك، لأَنَّ اللهَ أَخْبَرَنا أَنَّ اليهودَ حَرَّفوا
التوراة، وأَنَّ النصارى حَرَّفوا الإِنجيل، فكَثيرٌ مما ذُكِرَ في أَسفارِ الكتاب
المقَدَّس من كَلامِ الأحبارِ والرُّهبان المشكوكِ فيها!.
ومرجعيتُنا نحنُ هي القرآن، لأَنه كلامُ الله، وكلُّ ما وردَ فيه نؤمنُ به
ونصَدِّقُه، ولكنَّه يُنكرُ أَنْ يكونَ القرآنُ من عندِ الله، ولذلك يُكَذِّبُ ما وَرَدَ فيه!.
نحنُ نؤمنُ أَنَّ اللهَ بَعَثَ شُعَيْباً - عليه السلام - نبيّاً رسولاً إِلى قومِ مَدْيَن، وأَنَّ معظمَهم كَذَّبوه وكَفَروا به، فعذَّبَهم اللهُ بالرجفةِ والظُّلَّةِ فأَهلَكَهم وقَضى عليهم.(1/489)
ولا دليلَ على ما ذَكَرَهُ الفادي من تَفْصيل عَذابِهم بالحَرّ، ولم يَصِحَّ هذا
الكلامُ إِلى ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، ولذلك نحنُ لا نَقولُ به ونَرُدُّه، فلم يَبعثْ لأَهْلِ مَدْيَنَ سَحابةً منعشةً فوقَهم، نسيمُها طَيِّبٌ وظِلُّها لطيف، فلما تجمعوا تَحتَها تَحَوَّلَ ذلك النَّسيمُ إِلى لهب وتَحَوَّلَت السحابةُ إِلى نارٍ حارقة! لا نَقولُ بذلك لأنه لم يُذْكَرْ في القرآنِ الكريم، ولا في حديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
ثم مَنْ قالَ: إِنَّ اللهَ عَذبَ قومَ مَدْيَن بالظُّلَّةِ (السحابةِ الباردة) ، فلما
تَجَمَّعوا تَحْتَها حَوَّلَها اللهُ إلى نارٍ حارقة؟!.
لقد أَخبرَ اللهُ أنه أَهلكَ قَوْمَ مدينَ بالرَّجفَةِ والصيْحةِ والظُّلَّةِ:
قالَ تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) .
والرَّجْفَةُ هي حركةُ الأَرضِ من تحتِهم، حيثُ زُلزلتْ ورَجفتْ وتَحركتْ
واضْطربتْ.
وقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) .
والصيحةُ هي الصوتُ العالي المدَوّي، الناتجُ عن زلزالٍ أَو انفجارٍ
هائل.
وقال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) .
والظُّلَّةُ هي السَّحابة، وكانت تلك السحابةُ سحابةً بركانيةً حارقة، وليستْ
باردةً أَو منعشة.
وقد يَتهمُ بعضُهم القرآنَ بالتناقضِ في حديثهِ عن إِهلاكِ قومِ مَدْيَن،
فسورةُ الشعراءِ تُخبرُ أَنَّ إِهْلاكَهم كانَ بالظُّلَّة، وسورةُ الأَعرافِ تُخبرُ أَنَّ
إِهلاكَهم كانَ بالرجفة، وسورةُ هودٍ تُخبرُ أَنَ إِهلاكَهم كان بالصيحةِ! فبماذا
كان إِهلاكُهم؟
ولماذا تَناقضت السُّوَرُ الثلاثُ في حديثِها عن إِهلاكِهم؟.(1/490)
وعند تدبُّرِ الآيات ِ في السورِ الثلاث، المتحدثةِ عن إِهلاكِهم، فإِننا لا
نَجدُ فيها تَعارضاً أَو تَناقضاً، إِنما نَجِدُ فيها تَكامُلاً في الإِخبارِ عن ما جَرى.
لقد كان إِهلاكُهم على ثَلاثِ.
مراحلَ مُتدرّجةٍ مُتَعاقبة، وتحدثَتْ كُلُّ سورةٍ عن مرحلةٍ منها، ولا بُدَّ من جَمْعِ المراحلِ والخطواتِ الثلاث:
المرحلةُ الأُولى: في سورةِ الأَعراف..
حيثُ أَخبرتْ أَنهم أُهْلِكوا بالرَّجْفَة، وهي الزلزلة، حيث زَلْزَل اللهُ الأَرضَ من تحتِهم، فَرَجَفَتْ وتحركَتْ واضطربَتْ وانشَقَّتْ.
المرحلةُ الثانية: في سورة هود..
حيثُ أَخبرتْ أَنهم أُهلكوا بالصيحة، وهي الصوتُ المدَوِّي العالي، الذي يَصُمُّ الآذان من شدَّتِهِ وعُلُوِّه، وهذه الصيحةُ ناتجةٌ عن الرجفةِ والزلزلة، فلما انشَقَّتِ الأَرض، حَدَثَ انفجارٌ بركانيٌّ كبير مُدَوٍّ، وسَمعوا صوتَ ذلك الانفجارِ، فأُصيبوا بالفَزَع والهَلَع!!.
المرحلة الثالثة: في سورةِ الشعراء..
حيثُ أَخبرتْ أَنهم أهلكوا بالظُّلَّة، وهي السحابةُ التي أَظَلَّتْهم، وهي ليستْ سحابةً عاديةً كباقي السُّحُب، ولكنها سحابَةٌ بركانيةٌ نارية حارقة، وهذه السحابةُ ناتجةٌ عن ذلك الانفجارِ البركانيِّ الضخْم، الذي قَضى عليهم.
فالرجفةُ في الأَرض، أَحْدَثَتْ صيحةً مُدَوّيَةً، ونتجَ عنها ظُلَّة نارية
حارقة.
أَين هذا من الأَساطيرِ التي يذكُرُها الفادي، ثم يَنسبُها للقرآنِ، ويُخَطِّئُهُ
بسببِها؟!.
***
كيف مُسخ اليهود قردة؟
ذَكَرَ القرآنُ قصةَ أَصحابِ القريةِ من اليهود، الذين اعْتَدَوْا في السَّبتَ،
وخالَفوا حُكْمَ اللهِ في تحريمِ صيدِ السَّمَكِ يومَ السَّبْتَ، ولم يَستَمِعوا لنُصْحِ(1/491)
إِخْوانِهم، الملْتَزِمينَ بحكمِ الله، فأَوقعَ اللهُ بهم العِقاب، وأَنجى إِخوانَهم
الملْتَزِمين الناصحين!.
وكانَ عِقابُهم اَيةً من آياتِ الله، حيثُ مَسَخهم اللهُ قردةً خاسِئين " قال
تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) .
ونَقَلَ الفادي الجاهلُ من تفسيرِ البيضاويِّ كَلاماً في تفسيرِ مَسْخِهم قردَةً،
ثم عَلَّقَ على ذلك مُنْكِراً حُصولَه، لأَنه يتعارضُ مع العقلِ والعلمِ الحديثِ.
قال: " ونحنُ نسأل: هل من المعقولِ أَنْ نُقابِلَ إِنْساناً مُسِخَ قِرْداً أَو خِنزيراً؟
أَلا تُعَلِّمُنا الطبيعةُ أَنَّ كُلَّ شيءٍ يُبْذَرُ بِذْراً كجنْسِه؟
أَليسَ مَنْ يَقولُ: إِنَّ القمحَ صارَ شعيراً، وإِنَّ العِنَبَ صارَ تيناً، كمنْ يَقولُ: إِنَّ الإِنسانَ صارَ قِرداً أَو خِنزيراً؟ ".
وللرَّدِّ على استغرابِ الفادي وإِنكارِه نَقول: ذَهَبَ بعضُ المفَسِّرين إِلى أَنَّ
مَسْخَ اليهود قِرَدَة، لم يَكُنْ مسخاً حقيقيّاً، أَيْ لم يَتَحَوَّلوا من بَشَرٍ إِلى قُرود،
وِإنما مُسخَتْ أَرواحُهم وقُلوبُهم، بمعنى أَنهم تَخَلّوا عن فطرتِهم الإِنسانية،
ومشاعِرِهم واهتماماتِهم العالية، وصارُوا كالقُرودِ في الاكتفاءِ بالطعامِ
والشَراب.
وممن قالَ بهذا القولِ المفسّرُ التابعي مجاهدُ بنُ جَبْر.
ولَسْنا مع الإِمام مجاهدٍ في قولِه بالمسْخ المعنويّ، ونحنُ مع جمهورِ
المفسّرين في أَنَ المسخَ كانَ مَسْخاً حقيقيّاً، بحيثُ حَوَّلَهم اللهُ من بَشَر آدَميّين
إِلى قُرود، عقاباً لهم على عُدوانِهم في السبت.
والراجحُ أَنُ هؤلاء القُرودَ لم يُعَمِّروا طويلاً، وإِنما تُوُفُّوا بعدَ المسخِ مباشرة، فالقرودُ الموجودةُ هي حيواناتٌ حقيقية، وليستْ يَهوداً مُتحوِّلينَ إِلى قرود.
واعتراضُ الفادي على هذا المسخ دَليلُ جَهْلِه وغَبائِه، وتَساؤُلُه في غيرِ
مَحَلّه، والمثالُ الذي ذَكَرَهُ هنا لا يَنطبقُ على المَسخ، لأَنَّ القمحَ لا يَصيرُ(1/492)
شَعيراً، والعنبَ لا يَصيرُ تيناً، في الوضع الطبيعي، لأَنَّ القمحَ قمحٌ، والشَّعيرَ شعيرٌ..
لكن لو أَرادَ اللهُ أَنْ يَجعَل القمح شعيراً فَعَل، فلا رادَّ لمشيئته.
والإِنسانُ لا يَصيرُ قِرْداً في الوضع الطبيعي، لأَنَّ الإِنسانَ إِنْسان، والقِردَ
قِرْد، واليهودُ سكانُ تلك القريةِ لم يَكونوا أَصلاً قُروداً، ولم يَصيروا قُروداً
برغبتِهم واختيارِهم وإِرادتِهم.
إِنَّ اللهَ هو الذي مَسَخَهم قُروداً، وحَوَّلَهم من بَشَرٍ إِلى قُرود، ومَنْ نَظَر
إِليهم رآهُم قُروداً، وكان هذا المسخُ والتحويلُ خارقةً من الخوارق، وآيةً من آياتِ الله، ولذلك لا يَدْعو الأَمْرُ إِلى الاستغرابِ والإنكار والاعتراض،
ومرجعيّتنا هي القرآنُ الكريم، وكلُّ ما وردَ فيه نؤمنُ به، ونصَدقُه، وبما أَنَّ اللهَ قالَ لأولئك القومِ: كُونوا قردةً خاسئين، فقد صاروا قردةً خاسئين، لأَنَّ اللهَ يَقول: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) .
***
حول عالم الجن
للفادي المفترِي موقفٌ خاص من الجنّ، فهو يَرفضُ وُجودَ هذا العالَم
الخَاصّ، الذي أَخبرَ عنه القرآن، ولذلك هو يُخَظَئُ القرآنَ في كلامِه عنه..
وقد سَجَّلَ الفادي آياتٍ من سبعِ سورٍ تتحدَّثَ عن الجن: سورةُ الحجر: 27، وسورةُ هود: 119، وسورةُ الأَحقاف: 29 - 30، وسورةُ الذاريات: 56، وسورةُ الجن: 1 - 17، وسورةُ سبأ: 12 - 13، وسورة النمل: 17 و 38 - 39.
وقالَ بعدَ تلك الآيات: "يُخبرُ القرآنُ بوجودِ خليقةٍ غيرِ الشياطينِ اسْمُها
الجنُّ والعَفاريت، مخلوقونَ من نارِ جهنّم، وهم يأكُلونَ ويَشربون،
ويتزوَّجون، ويَحيون ويَموتون، ومنهم المسلمونَ الذينَ كانوا يزدَحِمون حول محمدٍ عندَ قراءَتِه القرآن، وأَنهم كانوا مُسَخَّرين من سليمانَ لبناءِ الهيكل والقصور والتماثيل وغير ذلك ".(1/493)
وقد أَخطأَ الفادي عندما قالَ عن المادَّةِ التي خَلَق اللهُ منها الجنّ، حيثُ
قال: " وهم مخلوقونَ من نارِ جَهَنَّمَ "! وكأَنه لا نارَ إِلّا نارُ جهنَّم!!.
خَلَقَ اللهُ الجنَّ من نارِ السَّموم، لقوله تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) .
ولكنَّ هذه النارَ الحارةَ الحاميةَ نارٌ في الدُّنيا، وليستْ نارَ جَهَنَّمَ..
وكأَنَّ الفادي الجاهلَ لا يَرى إِلّا نارَ جَهَنَّمَ!! إِنهما ناران: نارُ
الدنيا المعروفَة..
ونارُ جَهَنَّمَ التي أَعَدَّها اللهُ للكافرين.
والنارُ التي خَلَقَ اللهُ منها الجنَّ هي نارُ الدنيا.
وعَلَّقَ على ذلك بأَسئلتِه التشكيكيةِ التي أَثارَها: " ونحنُ نسأل: إِن كانت
العفاريتُ مخلوقةً من نار، وهي روحانيةٌ تَصْعَدُ وتَنزل، وتخترقُ جميعَ
الأَماكن، فكيفَ تتزوَّجُ؟ وكيفَ تموت؟ ".
إِنه يريدُ أَنْ يَقيسَ عالَمَ الجنِّ على عالَمِ الإِنس، فعالَمُ الإِنسِ عالَمٌ مادِّيّ
مشاهَدٌ محسوس، يأكلُ ويَشرب، ويَتزوجُ ويَعملُ ويَتحرك..
لكنَّ عالَمَ الجنِّ عالمٌ آخَرُ خاصٌّ، وهو عالمٌ غيبيّ، له مقاييسُه الغيبيةُ الخاصَّة، التي لا تُقاسُ على مقاييسِ عالَمِ الإِنسِ الماديّ.
وطريقُنا إِلى معرفةِ عالمِ الجنِّ الغيبيِّ هي النَّصّ، القائمُ على آياتِ
القرآن، وما صَحَّ من حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فما قالَه اللهُ عن عالَمِ الجنِّ يَجبُ قبولُه وأَخْذُهُ والإيمانُ به.
وللإِجابةِ على تَساؤُلاتِ الفادي الجاهلِ نَقول: خَلَقَ اللهُ الجِنَّ من مارجٍ
من نار، وهم ذُكورٌ وإِناث، ولذلك يَتَزوَّجون ويَتَناسَلونَ ويَتكاثرون، وهم
يَأكلونَ ويَشربون، ويَصْعَدون ويْنزِلون، ويَعْمَلون، ويَتحركون، ويعيشونَ
ويموتون..
ومنهم المؤمنودن الصالحون، ومنهم الكافرون المجرمون، وهم
مُكَلَّفونَ مِثْلَنا بكلّ تكاليفِ الإِسلام، فمنهم مَنْ يُطيعُ ويُنفِّذُ، ومنهم مَنْ يَعصي ويُخالف..
وليس في الإِيمانِ بِالجنِّ ما يُخالِفُ العلمَ، أَو يتناقَضُ مع العقل!.(1/494)
حول التداوي بالعسل
أَخبرَ اللهُ أَنَّ في العسل شِفاءً للناس، قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) .
واعترضَ الفادي المفترِي على الآية، وعلى حديت لرسول اللهِ - عليه السلام - بشأنِ العَسَل.
وارتكبَ المجرمُ أَثَناءَ اعتراضِه جريمةَ التحرِيفِ والافتراء، فلما ذَكَرَ
حديثَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يذكُرْه كامِلاً، وإِنما اجتزأ منه ما وَظَّفَهُ ضدَّ القرآن، وحَذَفَ منه ما لا يَتفقُ مع ذلك، وأَوهم القارئَ أَنه لم يَحذفْ منه شيئاً.
قال: " عن قتادةَ: أَنَّ رَجُلاً جاءَ إِلى رسول اللهِ - عليه السلام - فقال: إِنَّ أَخي يَشتكي بَطْنَه.
فقال: اسْقِهِ العسل، فَذَهَبَ ثم رجعَ، فقال: قد سقَيْتُه فما نَفَعَ، فقال: اذْهَبْ واسْقِه عَسَلاً، فقد صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك ".
وعَلَّقَ على الحادثةِ مُكَذِّباً القرآن، ومكَذِّباً رسول اللهِ - عليه السلام - فقال: " ونحنُ نسأَل: إِذا كانَ المريضُ لم يَنَل الشِّفاء، فكيفَ يُصَدَّق اللهُ ويُكَذَّبُ بَطْنُه؟
وهل هذا الرَّدُّ يُبَيِّنُ صِدْقَ محمد؟
أَمْ صِدْقَ تَأْثيرِ العَسَل؟ ".
يُريدُ المفترِي أَنْ يُخبِرَنا أَنَّ الرجلَ لم يتمَّ شِفاء بَطنِه، رغمَ أَنه شرِبَ
العَسَلَ مرتَيْن، وهذا معناهُ أَنَّ العسلَ ليس فيه شفاءٌ للناس كما ذَكَر القرآن!
ولذلك كان تَعليقُ المفترِي على الحديثِ خَبيثاً، فبما أَنَّ المريضَ لم يَنَل
الشّفاء، فكيفَ يُصَدَّقُ اللهُ وتُكَذَّبُ بَطْنُ أَخيه؟.(1/495)
فهل بقيَ بَطْنُ المريضِ بدونِ شِفاء؟
أَمْ شفي بعدَ شُرْبِ العَسَلِ؟
لِنَنْظُر: روى البخاري ومسلم عن أَبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً أَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَخي يَشْتَكي بَطْنَه.
فقال: " اسْقِه عَسَلاً! ثم أَتاهُ الثانية، فقال: اسْقِهِ عَسَلاً، ثم أَتاهُ الثالثة، فقال: اسْقِهِ عَسَلاً.
ثم أَتاهُ، فقال: قد فَعَلْت!
فقال: صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ بَطْنُ أَخيك.
اسْقِه عَسَلاً..
فسَقاهُ فَبَرَأ ".
أُصيبَ ذلك الرجلُ بمرَضٍ في بطْنهِ، حيثُ أُصيبَ بالإِسهال - (استطلَقَ
بطْنُه) في روايةٍ ثانيةٍ للحديث - ومعلومٌ أَنَّ المصابَ بالإِسهال يُمْنَعُ عنه الشَرابُ الحُلْو، والعَسَلُ شَرابٌ حلو.
فلما ذَكَرَ أَخو الرجلِ الأَمْرَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، طَلَبَ منه
أَنْ يَسقيَه عَسَلاً، على اعتبارِ أَنَّ في العسلِ شِفاءً، ولكنَّ إِسهالَ الرجلِ ازداد، فأَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُسقى عَسلاً للمرةِ الثانية، ثم للمرةِ الثالثة، ولكنَّ الإِسهَال لم يتوقَفْ بل ازداد.
فأمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُسقى عَسَلاً للمرةِ الرابعة، وقال للرجل: صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ بَطْنُ أَخيك!..
فلما أُسقيَ العسلَ للمرةِ الرابعة بَرأَ!!.
وكأَنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُريدُ أَنْ يَقول للرجل: لقد أَخبرَ اللهُ أَنَّ في العسلِ شِفَاءً للناس، وهو صادِقٌ في إِخبارِه، وبَطْنُ أَخيك كاذب، لأَنه لم يَشْفَ بعدَ شُرْبِ العسلِ ثَلاثَ مَرّات، ولا بُدَّ أَنْ يَشفى! ولعلَّ السببَ في أَنَّه لم يَشْفَ إِلّا في المرةِ الرابعةِ أَنَّ الميكروباتِ المسبِّبَةَ للإِسهال كانت متمكِّنَةً من بَطْنِه، فاحتيجَ إِلى جرعاتٍ كثيرةٍ من العسل للقَضَاءِ عليها.
وتُعْجِبُكَ الثقةُ المطلقةُ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن، بحيثُ أَيْقَنَ يَقيناً جازماً أَنَّ العسلَ لا بُدَّ أَنْ يشفيَ للرجلِ بَطْنَه بإِذْنِ الله، وبما أَنَّ بَطْنَه لم يتجاوَبْ مع العسل فهو كاذب! وقد بَرَأَ الرجلُ بعدَ ذلك، لما قضى العسلُ على المسبِّبِ للإِسْهال.
ونحنُ نَقْتَدي برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في تصديقِنا المطلَقِ بالقرآن، فنقول: صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ الفادي المفتري! ففي العَسَلِ شِفاءٌ للناس.
وبقيَ أَنْ نُشيرَ إِلى أَنَّ القرآنَ لم يَقُلْ: إِنَّ العسلَ شفاءٌ لكلِّ الأَمراض،
إِنما ذَكرَ أَنه شِفاءٌ لبَعْضِ الأَمراض: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) ، ولو كانَ العسلُ شِفاءً لكُلِّ الأَمراضِ لقال: " هو الشِّفاءُ للناس "! (1) .
__________
(1) من الأمراض ما يحتاج إلى تكرار الدواء - حسب حالة المريض - وليقرأ هذا الفاسق الكذوب الأبحاث العلمية المتعلقة بعسل النحل.(1/496)
أين شهود الإسراء والمعراج؟
وَقَفَ الفادي المفترِي أَمامَ قولِ اللهِ وَبَئ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) .
ونَقَلَ من تفسيرِ البيضاويِّ خُلاصَةَ حادثةِ الإِسراءِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجدِ الحرامِ في مكةَ إِلى المسجدِ الأَقصى في بيت المقدس، ثم عروجِه إِلى السمواتِ العُلى، ثم عودَتِه إِلى مكة، واستغرابِ المشركين الحادثة، وتصديقِ المؤمنين بها.
وعَلَّقَ على ذلك بقولِه: " ونحنُ نسأل: مَنْ هم شُهودُ معجزةِ الإِسراءِ
المحمدية؟
إِنَّ من شروطِ المعجزةِ أَنْ تكونَ أَمامَ شُهود، وأَنْ تَكونَ ذاتَ
فائدة، وهذا ما لا يتوفَّرُ للإِسراءِ والمعراج، كما أَنَّ المسجدَ الأَقصى لم يكنْ
مَوْجوداً زمنَ محمد، بل بُنِيَ بعدَ موتِه بنحوِ مئةِ سنةِ، فكيفَ صَلّى فيه وَوَصَفَ أَبوابَه ونوافذَه؟! ".
يُكَذِّبُ المفترِي الحادثة، ويُنْكِرُ وُقوعَها، ويُخَطِّئُ القرآنَ في حديثهِ عنها،
- لأَنَّها تَتَعارَضُ مع العقلِ والعلمِ في زَعْمِه، إِذ كيفَ يَنتقلُ إِنسان قبلَ خمسةَ
عشرَ قَرْناً من مكةَ إِلى القُدس، بدونِ وسيلةِ نَقْل، ثم يَصعَدُ إِلى السماء، ثم
يَعودُ إِلى مكة، في جزءٍ من الليل؟.
ونقولُ له: نَعَمْ. الأَمْرُ مُستحيل! أَنْ يَنتقلَ شخص من مكةَ إِلى القدس،
ثم يَصعَدَ إِلى السماء السابعة، ثم يهبطَ من السماءِ السابعةِ إِلى القُدس، ثم
يعودَ إِلى مكة، بدونِ وسيلةِ نَقْل!! ولو زَعَمَ أَحَدٌ أنه فعلَ ذلك بنفسِه لحكَمْنا
عليه بالكذب!.
والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لم يَدَّعِ ذلك، والقرآنُ لم ينسبْ ذلك لرسولِ - صلى الله عليه وسلم -.(1/497)
فإِذا كانَ الحَدَثُ قد تَمَّ بأَمْرِ الله، القادرِ على كُلِّ شيء، فليس فيه ما
يَدْعو إِلى الاستغراب أَو الاعتراضِ أَو التكذيب، لأَنَّ اللهَ فَعّالٌ لما يُريد، ولا
يُعجزُه شيءٌ في الأَرضِ ولا في السماء.
أَسندَ القرآنُ الحادثةَ إِلى اللهِ سبحانَهُ: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ... ) ، فاللهُ هو الذي أَسْرى بعبدِه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ثم عَرَجَ به إِلى السماء، ثم أَعادَهُ إِلى مكة، ولا يُسْتَبْعَدُ صدورُ ذلك الحدَثِ عن اللهِ العليِّ العظيم.
وإِنكارُ الفادي المفترِي للحَدَث، تكذيبٌ منه للهِ وللرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وللقرآن، وهذا كُفْرٌ منه بالله - عز وجل -.
أَمّا نحنُ فإننا نؤمنُ أَنَّ الحَدَثَ وَقَع، كما أَخْبَرَ اللهُ عنه.
ومن أَدِلَّةِ الفادي على عَدَمِ وُقوعِ حادثةِ الإِسراءِ والمعراج عَدَمُ وُجودِ
شُهود، شاهَدوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - عندَ إِسرائِه ومِعْراجِه، ومن شروطِ المعجزةِ عندَه حتى يُؤْخَذَ بها أَنْ يشاهدها الناسُ ويَشْهَدوا عليها!.
ولا أَدري من أَيْنَ جاءَ المفترِي بهذا الشَّرْط! فهناكَ مُعجزاتٌ شاهدَهَا
أُناس، وهناك معجزات لم يُشاهِدْها أَحَد.
إِنَّ نُزولَ جبريلَ بالوحي على أَيّ رسولٍ من رسلِ اللهِ معجزةٌ شخصية، لم يُشاهِدْها أَحَد، ومع ذلك آمَنَ بها المؤمن!.
ويكفي لثُبوتِ المعجزةِ عندنا ذِكْرُها في القرآن، أَو فيما صَحَّ من حديثِ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
فصحةُ النقل عندَنا هي شرطُ المعجزة، وبما أَنَّ معجزةَ
الإسراءِ والمعرَاجِ مذكورةٌ في القرآنِ والسنة فنُثبتُ وُقوعَها ونَجزمُ بذلك.
وخَطَّأَ المفترِي القرآنَ في ذِكرِه المسجدَ الأَقصى: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا ... ) .
فكيفَ يجعلُه مَسْجِداً ولم يكنْ له وجودٌ ليلةَ الإِسراء، وكيفَ يكونُ رسولُ - صلى الله عليه وسلم - قد صَلّى فيه، ورأى أَبوابَه ولم يَكُنْ مَبْنِيّاً، لأَنه بُنِيَ في خلافةِ الوليدِ بنِ عبدِ الملك؟.
وتَخطئَتُه دَليلُ جهْلِه فلم يكنْ بِناءُ المسجدِ الأَقصى زمنَ الوليدِ بنِ
عبدِ الملك، وإِنما كانَ بناؤُه قبلَ الإِسلامِ بمئاتِ السّنين.(1/498)
الراجحُ أَنَّ الذي بَنى المسجدَ الأَقصى هو إِبراهيمُ - عليه السلام -، وقد أَخْبَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أَوَّلَ مسجدٍ بُنِيَ هو المسجدُ الحرام، وأَنّ الثاني هو المسجدُ الأَقصى..
روى مسلم عن أَبي ذَر الغفاريِّ - رضي الله عنه - قال: قلْتُ: يا رسولَ الله!
أَيُّ المساجِدِ بُنِيَ أَوَّلاً؟
قال: " المسجدُ الحرام ".
قلت: ثم أَيّ؟
قال: " المسجدُ الأَقصى ".
قلتُ: كم بَيْنَهما؟
قال: " أَربعونَ سَنَة! ".
وأَوَّلُ مَنْ بنى المسجدَ الحرامَ هو إِبراهيمُ وابنُه إِسماعيلُ - عليهما السلام -.
قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) .
فإذا كانَ إِبراهيمُ هو باني المسجدِ الحرامِ يكونُ هو الذي بنى المسجدَ الأَقصى بعدَ ذلك بِأَربعينَ سَنَة!.
وقد عَدَت العوادي على المسجدِ الأَقصى بعدَ ذلك، وتَأَثَّرَ بالأَحداث،
فَهُدِمَ، ثم أُعيدَ بِناؤُه، ثم هُدِمَ، ثم أُعيدَ بِناؤُه ...
ومن الذين أَعادوا بناءَه بعدَ ذلك النبيُّ الملكُ سليمانُ بنُ داود عليهما
الصلاة والسلام، حيث جَدَّدَ بناءَ المسجدِ الأَقْصى، ولم يَبْنِ الهيكلَ المزعوم،
الذي يزعُمُه اليهود.
فلما أُسريَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كان المسجدُ الأَقصى مُتَهَدِّماً، ولكنْ كانَتْ بعضُ معالِمه وأَطلالِه موجودة، فالأَرضُ هي أَرضُ المسجِد، وبعضُ حجارتِه مُتَناثرَة عليها، وبعضُ جدرانِه وأَعمدتِه موجودة، وبعضُ أَبوابِه موجودة، ولكنَّ البناءَ مُتَهَدِّم..
ولما نَزَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن "البُرَاقِ " - الدابَّةِ التي ركبَها في الإِسراء - رَبَطَهُ في حلقةِ بابِ المسجدِ الأَقصى، حيث كانَ الأَنبياءُ يَربطونَ دوابَّهم، وصَلَّى في المسجدِ بالأَنبياء، الذين جَمَعَهم اللهُ له.
وعند الفتحِ الإِسلاميِّ لبيتِ المقْدِس كانت أَطلالُ المسجدِ قائمة، ولما
دَخَلَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - القدسَ وَقَفَ على أَطلالِ المسجدِ وصارَ يُنَظِّفُه..
ثم بنى الخليفةُ الأَمويّ الوليدُ بنُ عبدِ الملك المسجدَ الأَقصى.
أَوْ قُلْ: جَدَّدَ بناءَ المسجدِ الأَقصى الذي بَناهُ إِبراهيمُ - عليه السلام - من قبل.(1/499)
حول مهمة الهدهد زمن سليمان - عليه السلام -
تَحدثَتْ آياتُ سورةِ النملِ عن قصةِ سليمانَ - عليه السلام -، وأَخبرتْ أَنه وَرِثَ أَباهُ داودَ - عليه السلام - في النبوَّةِ والملك، وأَنَّ اللهَ عَلَّمَهُ منطقَ الإِنسِ والجِنِّ والطيرِ والحَشَرات، وكانَ جنودُه من الإِنسِ والجِنِّ والطير، فَسارَ بهم يوماً حتى أَتَوْا على وادي النَّمل، وسمعَ سليمانُ - عليه السلام - نملةً تنصحُ باقي النملِ، أَنْ يَدخُلوا مساكنَهم تحتَ الأَرض، لئلا يَحطمَهم جنودُ سليمانَ وهم لا يَشْعُرون!
ولما سمعَها سليمانُ - عليه السلام - تَبَسَّمَ ضاحِكاً من قولها..
ثم تفقدَ الطيرَ في جيشِه، فلم يَجد الهدهدَ، فهدَّدَه بالعذابِ إِنْ لم يُبَرّرْ غيابَه، ولما عادَ الهدهدُ أَخبرَ سليمانَ - عليه السلام - عن مملكةِ سبأ وملكتِها وعرشِها، وإِشراكِ أَهْلها بالله، فأَرسلَ سليمانُ معه رسالةً إِلى ملكةِ سَبَأ، يطلبُ منها الإِيمانَ بِه، والإِسلامَ معه للهِ ربِّ العالَمين، ولما استشارت الملكةُ قومَها، ووكلوا الأَمْرَ إِليها، قَرَّرَتْ أَنْ تُرسلَ هديةً رشوةً لسليمان، ولما وصلتْ إِليه ردَّها وهَدَّدَ القومَ بغزوِ بلادهم، وطلبَ من رجالِ حاشِيتِه أَن يُحْضِروا له عرش ملكةِ سبأ، فعرضَ عفريت من الجنِّ أَنْ يأتيَ بالعرشِ قبلَ أَنْ يقَومَ سليمانُ من مقامِه، وعَرَضَ الذي عنْدَه علم من الكتابِ أَنْ يأتيَ بالعرشِ قبل أَنْ ترمش عينُه، وما هي إِلّا لحظةٌ حتى رأى سليمانُ - عليه السلام - عرش ملكةِ سبأ أَمامَه، فحمدَ اللهَ على ذلك.
ولما توجَّهتْ ملكةُ سبأ إِلى سليمانَ طلبَ أَنْ يُنَكِّروا لها عَرْشَها، ولما رأَتْه سُئلَتْ: أَهكذا عرشُكِ؟
قالتْ: كأَنَّه هو.
وأَعَدَّ سليمانُ - عليه السلام - لها مفاجأةً أُخرى، حيث جعلَ
لها بركةَ ماءٍ مغطاةً بالزُّجاج، ولما طُلِبَ منها اجتيازُ البركةِ حَسِبَتْها لجةَ ماء،
فكشفَتْ عن ساقَيْها فقيل لها: إِنّه صَرْحٌ من زجاج!!
عند ذلك اعترفَتْ لسليمانَ بالنصرِ والقوة، وقالَتْ: رَبّ إِنّي ظلمْتُ نفسي وأَسْلَمْتُ مع سليمانَ للهِ ربِ العالمين.
وتحدثَتْ عن قصةِ سليمانَ - عليه السلام - مع النملةِ والهدهدِ وملكةِ سبأ
آياتُ سورةِ النمل: (15 - 44) .(1/500)
واعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ في إخباره عن ذلك، واعتبرَه
يَتعارضُ مع العقل.
قال: " ونحنُ نسأَل: كيفَ يتصوَّرُ عاقلٌ أَنْ تكونَ حاشيةُ
سليمانَ الملك من الجنِّ والطُّيور؟
وكيفَ يكونُ الهدهدُ أَكثرَ حكمةً وعلماً، ويتحدّى سليمانَ قَائلاً: أَحطتُ بما لم تُحِطْ به، وجئْتُكَ من سبأ بنبأ عظيم؟
وكيفَ يهجو الهدهدُ عِبادَةَ الأَوثانِ ويمتدحُ الوحدانية؟
وكيفَ يقوم الهدهدُ بدوْرِ المراسلة؟
وكيفَ يتصرفُ الهدهدُ في مملكة سليمان تَصَرُّفاً يفوقُ تَصرُّفَ
الملوكِ والوزراءِ والفلاسفة؟ ".
زعَمَ الفادي أَنَّ القرآنَ جَعَلَ حاشيةَ سليمانَ - عليه السلام - مكوَّنَةً من الجنّ والطيور، واعتبرَ هذا كلاماً لا يُصدِّقُه عاقل! وهو بهذا يُكذِّبُ قولَ الله - عز وجل -: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) .
ولم يَجعل القرآنُ حاشيةَ سليمانَ من الجِنّ والطيورِ فقط، والكلامُ في
الآيةِ عن جَيْشِ سليمان، حيثُ كانَ مُكَوَّناً من " الجِنِّ والإِنْسِ والطير ".
ولا غَرابَةَ في هذا، فاللهُ أَخْضَعَ له الجنّ، وجَعَلَهم يُنَفّذونَ أَمْرَه، واللهُ عَلَّمَه لُغَةَ الجنِّ والطيرِ! فالأمْرُ أَمْرُ الله، وليس على اللهِ شيءٌ غريب، فهو الفَعّالُ لما يريدُ، سبحانه.
وحَديثُ القرآنِ عن الهدهد لا يَدْعو للاستغراب، وليسَ فيه ما يتناقَضُ
مع العلمِ والعقل، وأسئلةُ المفترِي حولَه مردودَةٌ عليه!
فالهدهدُ طائرٌ من خَلْقِ الله، مؤمنٌ بالله، مُسَبِّحٌ بحمدِ الله، كَباقي المخلوقاتِ الِحية التي خلَقها اللهُ مُسَبّحَةً ساجدةً له.
قالَ الله - عز وجل -: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .
وقالَ أيضاً: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) .
وهذا الهدهدُ المؤمنُ باللهِ جَعَلَ اللهُ عندَه بعضَ العلمِ والحكمة، وبعضَ(1/501)
الجهدِ والاهتمامِ، وبعضَ الفهمِ والإِدراك، وبعضَ الحرصِ في الدعوةِ إِلى الله، وكانَ هذا معجزةً من اللهِ، جعلَها في هذا الطائر، ومَيَّزَهُ بهذا عن باقي
" الهَداهِدِ " الطيورِ، ليقومَ بهذه المهمةِ الخاصَّةِ، ويَكتشفَ مملكةَ سبأ، لتدخُلَ بعد ذلك في الإِسلام! لقد أَرادَ اللهُ الحكيمُ أَنْ يَعرفَ سليمانُ - عليه السلام - مملكةَ سبأ عن طريقِ ذلك الهدهد، وليس عن طريقِ الوحيِ المباشر ...
وأَخبرَنا اللهُ عن مهمةِ الهدهدِ ودوْرِه في الدعوةِ إِلى الله، ليكونَ هذا عبرةً لنا، وليوجِدَ عندَنا نوعاً من الباعثِ على الدعوة، والاقتداءِ بذلك الهدهدِ الداعية!.
ولم يكن الهدهدُ أَكثرَ علماً وحكمةً من سليمانَ - عليه السلام -، فكلامُ الفادي عنه باطل، وذلك عندما تَساءَل: " كيفَ يكونُ الهدهدُ أَكثرَ حِكْمَةً وعلماً؟! ".
سليمانُ رسولٌ كريمٌ عليه الصلاةُ والسلام، وهو الأَكثرُ عِلْماً وحكمة، وعِلْمُ الهدهدِ خاصٌّ بمملكةِ سَبَأ! وعَلَّمَهُ اللهُ ذلك ليتعلَّمه سليمانُ - عليه السلام -، فهو وسيلةٌ ربانيةٌ لتعليمِ سليمانَ - عليه السلام -.
وقالَ المفترِي الجاهل: " كيفَ يَتَحَدّى الهدهدُ سليمانَ قائلاً: أَحطتُ بما
لم تُحِطْ به.. "؟
ولا أَدري كيفَ فهمَ الفادي تَحَدّي الهدهدِ لسليمانَ - عليه السلام -،
عندما أَخْبرَهُ عن مملكةِ سبأ، وهو المهَدَّدُ بالتعذيبِ لغيابِه؟
قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) .
إنَّه يُخاطِبُ سليمانَ - عليه السلام - بافتخارٍ واعتزاز، وليسَ بتَحَدٍّ وتَكَبُّر، ويُخبرُهُ أَنَّ اللهَ عَلَّمَه عِلْماً لم يُعَلِّمْه سليمانَ - عليه السلام -: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) ، ولم يُنكرْ سليمانُ - عليه السلام - عليه قولَه، ولم يُعاقِبْه عليه، وهو القائِدُ الحازم، لأَنه فهمَ الإِشارةَ من الهدهد، فعليه أَنْ " يَتَواضَعَ " بينَ يديه، وهو النبيُّ المعَلِّمُ - عليه السلام -، ويَعترفَ بقُصورِ عِلْمِه، فاللهُ أَعطى الهدهدَ عِلْماً لم يُعْطِه منه وهو النبي!!.
ويَستغربُ الفادي من ذَمِّ الهدهدِ لشركِ ملكةِ سبأ وقومِها بالله، وعبادتِهم(1/502)
للشمسِ من دونِ الله، فلم يَستوعبْ عَقْلُه " الصغيرُ " فهمَ طائرٍ للإِيمانِ والشرك، ودعوتِه إِلى وحدانيةِ اللهِ والسجودِ له وحْدَه! ولقد قُلْنا: إِنه هدهدٌ خاصٌّ، عَلَّمَهُ اللهُ وفَهَّمَه بتعليمٍ وتفهيم خاص، وأَخْبَرَنا عن بيانِه الدعويّ في قولِه تعالى: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) .
ونقول: لقد كانَ هذا الهدهدُ المؤمنُ أَكثرَ عِلْماً من الفادي المفترِي،
وأَعمقَ إِيماناً وتَوحيداً لله منه، فهذا الفادي المتعالمُ المتفلسفُ لا يَتبعُ الحَقَّ
الموجودَ في الإِسلام، ويُصِرُّ على الإِيمانِ بالأَقانيمِ الثلاثة: الآبِ والابنِ
والروحِ القُدُس، ويجعلُ المسيحَ - عليه السلام - ابْناً لله، وها هو الهدهدُ يَدْعو إِلى توحيدِ اللهِ بهذا المنطقِ الدعويّ الرائعِ، وهذا الحماسِ الإيمانيِّ المؤَثِّر!!
ويتساءل الفادي الجاهلُ بإِنكار؟ " كيفَ يَقومُ الهدهدُ بدوْرِ المراسَلَة؟! ".
وقد سبقَ أَنْ قُلْنا: إِنه هدهدٌ خاصٌّ، عَلَّمَه اللهُ ومَيَّزَهُ عن باقي الطيور، ومَكَّنَهُ من أَنْ يَقومَ بمهمتِه الدعويةِ في مملكةِ سبأ، فَحَمَلَ الرسالةَ الخاصة، وقَطَعَ المسافَةَ الطويلة، وأَلقى الرسالةَ إِلى ملكةِ سَبَأ، وتوقَّفَ عندَ قَصْرِها يُراقبُ ويَرصد، ويَرى ماذا سيكون رَدُّ فعْلِها هي وقومُها! إِنه ليسَ مجرَّدَ طائر، ولكنّه هدهدٌ خاصّ، جعلَ اللهُ فيه فهماً وإدراكاً خاصّاً!! وقد أَخبرَ اللهُ عن مهمةِ الهدهد، والكتاب الذي حَمَلَه.
قال تعالى: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) .(1/503)
ولا تَدُلُّ مهمةُ الهدهدِ الدعويةُ على أَنَه أَعلى منزلةً من كُلِّ الوزراءِ عند
سليمان - عليه السلام -، وكان الفادي غبيّاً في تَساؤُلِه: " وكيفَ يتصرَّفُ الهدهدُ في مملكةِ سليمانَ تَصرُّفاً يَفوقُ تَصَرفَ الملوكِ والوزراءِ والفلاسفة؟! ".
فمن غيرِ المعقولِ أَنْ يُعَيِّنَ سليمانُ - عليه السلام - الهدهدَ الطائرَ وَزيراً عنْدَه، مَسؤولاً عن الوزراءِ البَشَر..
كلُّ ما في الأَمْرِ أَنَّ هذا الهدهدَ قامَ بمهمةٍ دعويَّة، أَعانَهُ اللهُ على القيامِ بها، ووفَّقَهُ إِليها، ونتجَ عنها دخولُ ملكةِ سبأ وشعْبِها في الإِسلام، ومتابعةِ النبيِّ الملكِ سليمانَ - عليه السلام -.
***
ما هي الدابة التي تخرج في آخر الزمان؟
تحتَ عنوان: " دابةٌ بينَ الأَنبياء " اعترضَ الفادي على حديثِ القرآنِ عن
الدابَّةِ التي تَخرجُ في آخِرِ الزمان، وذلك في قولِه تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) .
وقد نقلَ الفادي من تفسير البيضاويِّ كَلاماً عن الدابةِ، يَذكرُ فيه كيفيةَ
ومَكانَ خروجِها، ويُقَدِّمُ لها بعضَ المواصفات، ويَنسبُ لها بعضَ الأَعمالِ
عند خُروجِها، وبعضُ ذلك الكلامِ مَسْنَدٌ إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم عَلَّقَ على ذلك بقوله: " ونحنُ نسأل: هل من المعقولِ أَنْ نتصوَّرَ دابَّةً
لها أَربع قوائمَ مثلُ الحيوان، وريشٌ وزغبٌ وجناحان مثلُ الطيور، وتتكلمُ مثلَ الإِنسان، وتعظُ مثلَ الأَنبياء، بسلطانِ موسى، وحكمةِ سليمان، وأَنها تحتفظُ بعصا موسى وخاتمِ سليمان؟! ".
المشكلةُ عنْدَ الفادي المفترِي هي جَهْلُه وغَباؤُه، وعدمُ اعترافِه بذلك،
وادِّعاؤُه العلمَ والمعرفة، وتعالُمُ الجاهلِ جريمةٌ مزدوجة، جَمَعَ فيها بينَ
الجهلِ والتَّعالُم!.(1/504)
لم يقف الجاهلُ عند - حديثِ القرآنِ عن الدَّابّة، وذهبَ إِلى بعضِ الكتبِْ
التي لا تتحرَّى الصحيحَ فيما تَذْكُر، وتَجمعُ كُلَّ ما وصلَ إِليها من أَخبارٍ
وروايات، ولو لم تصحّ، وأَخَذَ منها تلكَ الخرافاتِ التي نرفضها نحنُ أَيضاً،
وحَمَّلَها للقرآنِ، وأَدانَه وخَطَّاَه بسببِها!.
لم يصحّ حديثٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حولَ الدّابّةِ وخُروجِها وصِفاتِها وأَعمالِها، ونتوقَّفُ في الرواياتِ غيرِ الصحيحة التي تحدَّثُ عنها، والتي ذَكَرَها بعضُ المفسِّرين سامَحهم الله، ولا نَعتمدُها لعدمِ ثُبوتِها.
وهذا معناهُ أَنْ نبقى مع القرآنِ في إِشارتِه لها، ولا نَزيدُ عليه شيئاً آخَر.
ونقولُ للفادي الجاهل: ليس في كلامِ القرآنِ عِن الدَّابّة ما يَتَعارَضُ مع العقلِ
والعلم، لأَنَّ اللهَ هو الذي سيخلقُ هذه الدابة في آخرِ الزمان، قُبيلَ قيامِ
الساعة، وسيجعلُ لها مهمَّةً خاصَّة، وبما أَنَّ الأَمْرَ أَمْرُه، والفعلَ فعلُه
سبحانَه، فلا غرابةَ فيه، ولا اعتراضَ عليه.
يُخبرُ اللهُ أَنه: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) :
أَي اقتربَ وقْتُ تحقُّقِ ما أَخبرَ اللهُ عنه، وَوَعَدَ الناسَ به، وهو قربُ انتهاءِ الحياةِ الدُّنيا، وقيامِ الساعة.
(أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) : اللهُ هو الذي سيُخرجُ للناسِ تلك الدابة،
وهو الفَعّالُ لما يُريدُ سبحانَه، ولا يُعجزُهُ أَيُّ شيءٍ في الأرضِ ولا في
السماء.
ولقد أَبهمَ القرآنُ صفال الدابَّة، فلم يذكُرْ عنها شيئاً، واكتفى بذكْرِ كلمةِ
" دابّة " نَكِرَة، وتَنكيرُها لإِبهامِها، وهذا التنكيرُ دعوةٌ لنا لعدمِ الخوضِ في
الدابة، وعدمِ محاولةِ معرفةِ ذلك.
لعدمِ وجودِ دليلٍ عليه، ولعدمِ تَحَقُّقِ الفائدةِ منه.
وهذه الدابَّةُ سيُخرجها اللهُ من الأَرض، بدونِ تَحديدِ مَكانِ خُروجها أَو
كيفيةِ خروجِها.
وهذه الدابةُ ستكلمُ الناسَ الأَحياءَ وَقْتَ خُروجِها: (تُكَلِّمُهُمْ) ، واكتفى(1/505)
القرآنُ بذكْرِ أَنَّ الدابةَ ستكلمُ الناس، ونَبقى عندَ حديثِ القرآنِ عن كلامِها، ولا نُجاوزُهُ إِلى غيره، فهي ستكلمهم والسّلام! ولا نَعرفُ كيفَ تُكلمُهم، ولا بأيّ لغة ستكَلّمُهم، ولا بأَيّ جزءٍ من جِسْمِها ستكلّمُهم، ولا كيفَ سيسمَعون كلامَها، فعِلْمُ ذلك كلّه عندَ اللهِ وحدَه!.
واللهُ الذي خَلَقَ الدابَّة، وأَخرجَها من الأَرضِ، هو الذي جَعَلَها تتكلَّم،
وبما أَنَّ الدابَّة لا تتكلمُ بقدرتِها الذاتية، وإِنما بأَمْرِ اللهِ، فلا غرابةَ في ذلك.
واللطيفُ أَنَّ القرآنَ الذي أَبهمَ الكلامَ عن صفاتِ وأَعمالِ الدابة، أَخبرَ
عن ما سَتُكَلِّمُ الدابةُ الناسَ به، وما ستَقولُه لهم: (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) .
أَيْ: أَنَّ الناسَ يَكْفُرون بآياتِ الله، ويُنكرونَ ما أَخبرتْ عنه
تلكَ الآيات، ومن ذلك بَعْثُ الناسِ بعدَ الموت، وإِخبارُ الدابة بذلك قُبيلَ
قيامِ الساعة من بابِ ذَمّ الكفارِ الموجودين عند خروجها، لأَنهم ذاهبون إِلى
الموت، ثم البعثِ بعده!.
وبهذا نَعرفُ غَباءَ الفادي الجاهلِ في أَسئلتِه التي اعترضَ بها على
القرآنِ، في إخباره عن الدابة، ونعرفُ سفاهَتَه في عنوانِه: " دابَّة بين الأَنبياء "، فمنْ قالَ: إِنَ تلك الدابةَ ستكونُ بين الأَنبياء؟
ومَن الذي جمَع بين الدابةِ الحيوان وبينَ الأَنبياءِ الذين هم أفضلُ الناسِ عندَ الله؟!.
***
حول موت سليمان - عليه السلام -
اعترضَ الفادي المفترِي على حديثِ القرآنِ عن موتِ سليمانَ - عليه السلام -، وجَعَلَ عنوانَ اعتراضِه: " مَيِّت يتوكَّأُ على عَصا مدةَ سَنَة "!.
قالَ اللهُ عن وفاةِ سليمانَ - عليه السلام -: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) .(1/506)
أَخبرَ اللهُ أَنه لما قَضى على سليمانَ - عليه السلام - الموتَ وَحانَ أَجَلُه، تَوفّاهُ اللهُ وقبضَ روحَه، ولم يَعْلم الجنُّ بوفاتِه إِلّا بعدَ أَنْ أَكلتْ دابَّةُ الأَرضِ مِنْسَأَتَه، وهي عصاهُ التي كان يستعملُها، فبعدَما أَكلتْ دابَّةُ الأَرض عَصاه، خَرَّ سليمانُ - عليه السلام - على الأَرض، وسَقَطَ جثةً هامدة، ففوجئَ الجِنُّ بذلك وثبتَ لهم أَنهم لا يعلمونَ الغيب، فلو كانوا يَعلمونَ الغيبَ لعَرَفوا بموتِه.
وذهبَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاوي ليأخذَ منه تفسيرَ الآية، وأَخَذَ منه
كَلاماً لم يَثبت، وقَدَّمَ تفصيلاتٍ لموتِ سليمان - عليه السلام - ليس عليها دليلٌ صحيح.
تقولُ تلك الروايات: " بَدَأ داودُ - عليه السلام - بناءَ الهيكلِ في بيتِ المقْدِس، لكنّه ماتَ قبلَ إِتمامِ البِناء، فتولَّى ابنهُ سليمانُ - عليه السلام - إِتمام البناء، واستخدم الجنَّ في البناء، وكانَ شَديداً عليهم، ودَنا أَجلُه، وخشيَ إِنْ ماتَ قبلَ إِكمالِ البناء، أَنْ يتوقَّفوا عن العمل، فأَمرهم أَنْ يَبْنوا له بَيتاً من زُجاج، ليسَ له باب، ودَخَلَ سليمانُ البيتَ الزجاجي، وقامَ يُصلّي وهو مُتَّكِئٌ على عصاه، وهم يَعمَلونَ في البناء..
ومات وهو متكئٌ على عَصاه، وهم يرونَه يَنظرُ إِليهم.
وبقيَ مُتَّكئاً على العَصا حتى أَكَلَتْها الأَرَضَةُ، عند ذلك سَقَطت العصا، فخرَّ على الأَرض، ولما حَسَبَ الجنُّ الزمنَ وَجدوه قد مات قبلَ سنة، فتعَجَّبوا! ".
وعَلَّقَ الفادي على هذه الأُسطورةِ بقوله: " ونحنُ نسأَل: كيفَ يَموتُ
سليمانُ الملك، ويَستمرُّ سَنَةً دونَ أَنْ يَعلمَ به أَحَد؟
أَينَ نساؤُه؟ وأَينَ أَولادُه؟ وأَينَ حاشيتُه؟ وأَينَ شعبُه؟
ألا يوجَدُ واحدٌ من هؤلاء يَسأَلُ عنه؟
وهل يتصوَّرونَه قائماً يُصَلّي على عَصاهُ سَنَةً كاملةً، بدونِ نومٍ ولا أكلٍ ولا شربٍ ولا اسْتِحْمام؟
وكيفَ لما ماتَ على عَصا لم يَسْقُط؟
أَلم يتحلَّلْ جسدُه ويُصِبْهُ النَّتنُ والتَّعفنُ؟
ولما أَكلت الأَرَضَةُ جُزْءاً من العصا أَلَمْ يختلّ توازُنُه ويَسْقُط؟
أَليس تآكلُ العَصا في يوم يَكفي لسقوطِ الميتِ، كتآكُلِها إِلى آخِرِها لمدةِ سَنَة؟
وإِذا كان سليمانُ قد بنى على نفسِه صَرْحاً من قواريرَ لِيُعَمِّي عينَ الإِنسِ والجنِّ عن موتِه، فلماذا لم يَعلمْ مُقدَّماً الدور الذي ستَلْعبُه الأَرَضَة؟ ".(1/507)
الأَسئلةُ التي يُثيرُها الفادي هنا وجيهةٌ ومَعْقُولة، نحنُ معه في إِثارتِها،
ولكنَّها لا تُوَجَّهُ إِلى القرآنِ في حديثِه عن موتِ سليمانَ - عليه السلام -، وإنما تُوَجَّهُ إِلى تلك الأَسطورةِ، التي صَوَّرَتْ موتَ سليمانَ - عليه السلام - بهذه الصورةِ غير المعقولة، والتي يرفضُها كُلُّ عاقل.
إِنَّ هذه الأَسطورةَ التي أَخَذَها الفادي من تفسيرِ البيضاوي، والتي أَخذَها
البيضاويُّ من بعضِ التفاسيرِ السابقة، التي لا تَتَحَرّى الصحةَ فيما تُورده، هذه الأَسطورةُ مرفوضةٌ عندنا لأَنها لم تَصحّ عن رسولِ الله - عليه السلام -، ولا عن أصحابِه الكرام.
وقد سبقَ أَنْ قَرَّرْنا أَن قَصصَ السابقين لا تُؤْخَذُ تفاصيلُها إِلّا من آياتِ
القرآنِ الصريحة، وأَحاديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة.
والمشكلةُ عندَ الفادي المفترِي هي جهْلُه، فهو يَعتمدُ كَلاماً غيرَ مقبولٍ
عندَ العلماء والمحققين، ثم يُحَمِّلُ القرآنَ تِبعتَه، ويُخَطِّئُ القرآنَ بسببِه، مع أَنَّ القرآنَ لم يَقُلْه، وبذلك تتهاوى أَسئلةُ الفادي الجاهل.
إِنَّ القرآنَ لا يتحمَّلُ إِلّا ما يذكُرُه هو في آياتِه، وما يَذكُرُه لا خَطَأَ فيه
ولا اعتراضَ عليه، أَمّا الفهمُ البشريُّ لآياتِه الذي صَدَرَ عن المفَسِّرين فلا
يتحمَّلُه القرآن، لأَنَّ هذا الفهمَ البشريَّ قد يكونُ خاطئاً!.
لا بُدَّ أَنْ نفهمَ الآية التي تحدَّثَتْ عن موتِ سليمانَ - عليه السلام - فَهْماً - صحيحاً، لا سيما أَنه لا يوجَدُ عندنا حديثٌ صحيحٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يُضيفُ جَدِيداً إِلى ما ذَكَرَتْه الآيَة.
أَرادَ اللهُ أَنْ يَجعلَ موتَ سليمانَ - عليه السلام - آيةً وعبرةً للإِنسِ والجِنّ، ودَليلاً على عدمِ عِلْمِهم بالغيب، لأَنَّ عِلْمَ الغيبِ خاصّ باللهِ سبحانه..
فقد كانَ سليمانُ - عليه السلام - يَحكمُ الإِنْس والجِنَّ والطير، وكانَ يُسَخِّرُ الجِنَّ في الأَعمالِ الكبيرة، وكان مَلِكاً حازماً يَهابُهُْ الذين يَعملونَ عنده من الإِنْسِ والجِنّ.
ولما حانَ أَجَلُ سليمانَ - عليه السلام -، كان الجنُّ يَعملونَ بينَ يَدَيْه، وكانَ هو واقفاً أَمامَهم، مُتَّكِئاً على عصاه، يُراقِبُهم ويَضبطُهم، وهم يَنْشَطونَ في العمل، ولا يَرْفَعونَ رؤوسهم ناظِرينَ إِليه هيبةً له.(1/508)
وشاءَ اللهُ الحكيمُ أَنْ يَقبضَ روحَ سليمانَ - عليه السلام - وهو متكئٌ على عَصاه..
وبقيَ متكئاً على عَصاهُ بعد خروجِ روحه، والجنُّ منهمكون في العَمَل، لا
يَعلمونَ بموتِه..
وَوَجَّهَ اللهُ دودةَ الأَرض " الأَرَضة " إِلى عصاهُ فأَكَلَتْها ونَخَرَتْها،
وكُسِرت العصا وسَقَطَتْ، وخَرَّ سليمانُ - عليه السلام - جُثَّةً هامِدة..
وفوجئَ الجنُّ بذلك، وعَرفَوا قُصورَ علمِهم، فهم لا يَعلمونَ الشهادة، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَعْلَموا الغيب، فها هو سليمانُ ماتَ أَمامَهم وهم لا يَعلمونَ بموتِه!!.
والفترةُ الزمنيةُ بين موتِه وسقوطِه لم تكنْ سَنَواتٍ ولا سَنَة، ولم تكنْ
شُهوراً أَو أَياماً، إِنما كانَتْ فترةً قصيرةً، ونحن لا نحاولُ تحديدَ تلكَ الفترة،
لأَننا لا نجدُ دَليلاً على ذلك، فَنَكِلُ العلمَ بها إلى الله سبحانه وتعالى إ!.
***
رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل
اعترضَ الفادي المفترِي على إِخبارِ القرآنِ عن رَفْعِ جَبَلِ الطّورِ فوقَ بني
إِسرائيل، وجعلَ عنوانَ اعتراضِه: " جَبَل يُحَلِّقُ في الجَوّ! " وهو عنوانٌ للتهكمِ والاستهز اء.
والآيةُ التي اعترضَ عليها، واعْتَبَرَها متناقضةً مع العلمِ والعقل، هي
قولُ اللهِ - عز وجل - (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) .
وبعدَما نَقَلَ المفترِي بعضَ ما ذكَرَه البيضاويُّ في تفسيرِ الآية، استبعدَ ما
ذكَرَتْه فقالَ: " ونحنُ نسأل: هَلْ من المعقول أَنْ يَخْلَعَ اللهُ جَبَلاً من الأَرض، يَعْلو في الفضاء، ويَظَلُّ مُعَلَّقاً على لا شيء، ليُخيفَ الناس، ويُرغمَهم ليَقْبَلوا شريعتَه؟
وهل يوافِقُ هذا علميّاً ناموسَ الجاذبية؟
وأَدَبِيّاً ناموسَ المحبةِ الإلهِية؟ ".(1/509)
لم يَستوعِبْ عَقْلُ الفادي الصغيرُ أَنْ يخلعَ اللهُ جَبَلاً من الأَرض، وأَنْ
يرفعَه إلى الأَعلى وأَنْ يوقفَه فوقَ مجموعة من الناس! وكيفَ يَحصلُ هذا؟
ولماذا لم يَقعْ على رؤوسهم؟
فما ذكَرَه القرآنُ - في رأْيه - غيرُ صَحيح!!.
لو زَعَمَ إِنسانٌ قويٌّ أَنه خَلَعَ جبلاً ورَفَعَه في الجو لما صَدَّقْناه، لأَنَّ
القوةَ البشريةَ محدودة، ولا تَستطيعُ قوةُ أَيِّ شخصٍ أو دولةٍ فعلَ ذلك، مهما عَظمَتْ.
أما قوةُ اللهِ فإِنَّها مُطْلَقَة، لا حُدودَ لها، ولا قُيودَ عليها، وقُدْرَتُه نافذةٌ
فاعلة، لا يوقِفُها أَيُّ شيء، فاللهُ قويٌّ قادرٌ على قَلْعِ الجبلِ من الأَرضِ،
وإِيقافِه في الجوِّ بين السماءِ والأَرض، بدونِ أَعمدة، وإِعادتِه مكانَه، يَفعلُ
هذا، ويفعلُ ما هو أَكْبرُ منه! وبما أَنه أَخْبَرَنا عن ذلك في القرآن، فإِننا نجزمُ
أَنَّ ذلك حَصَل، لأَننا نُصدِّقُ كُلَّ ما وَرَدَ في القرآن!.
ولا أَدري لماذا يَستبعدُ الفادي ذو العقلِ الصغيرِ هذه الحادثة، وقد وَرَدَ
في كتابِه المقَدَّسِ حوادِثُ أَكبرُ منها، وهو يؤمنُ بها لأَنها واردةٌ في كتابِه.
من ذلك شَقُّ البحرِ لموسى - عليه السلام -، ونجاتُه هو وأَتباعه من بني إِسرائيل، عندما لحقَهم فرعونُ وجنودُه.
وقد أخبرَنا اللهُ عن ذلك في القرآن، قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) .
موسى - عليه السلام - يقفُ أَمامَ البحر، ويأْمُرُه اللهُ أَنْ يضربَه بعصاه، ولما فَعَلَ فَلَقَ اللهُ البحرَ فلقتَيْن، وقَسَمَه إِلى قِسْمَيْن، بينهما فاصِلٌ من الأرضِ الصلبةِ اليابسة، ووقفَ الماءُ على الجانبَيْنِ كالجبلِ العظيم، لا يمسكُه سَدّ أَو حاجِز!
فمن الذي فَعَلَ ذلك؟
ومَن الذي أَوجَدَ الطريقَ اليَبَسَ ليَمُرَّ عليه موسى ومَنْ معه؟
ومَن الذي أَمسكَ الماءَ على الجانبين فلم يُغْلِقِ الطريقَ ولم يجتمعْ مع بعضه؟
إِنه الله!.(1/510)
أَيهما أَوضحُ وأَكبرُ معجزةً، وأَعظمُ وأَضخمُ آيةً؟
شَقّ البحرِ أَمْ رفعُ الجبلِ، إِنَّ شَقّ البحر أَضخمُ وأَعظمُ.
فلماذا آمَنَ الفادي به وكَذَّبَ وأَنكرَ ما دونَه؟
أَلأنَّه وَرَدَ في كتابه صَدَّقَه، ورفعُ الجبل لم يَرِدْ في كتابِه فاعتَبره مُسْتَحيلاً
عقليّاً؟
أَيْنَ المنهجيةُ والموضوعيةُ التي ادَّعاها في بحثِه؟
ولماذا لم يَقِسْ رَفْعَ الجبل على شَقِّ البحر؟.
أَما نحنُ المسلمين فإِننا نؤمنُ بشَقِّ البحر ورفْعِ الجبل، لأَنَّ الله ذكَرَ
المعجزتَيْن في القرآن، ولأَنهما من فعلِ الله، والله فَعّالٌ لما يُريدُ سِبحانهَ.
***
هل تتكلم الجبال؟!
تحتَ عنوان: " جَبَلٌ يتكلَّم "!
اعترضَ الفادي على إِخبارِ القرآنِ عن تَكَلّمِ الجبال، وقد ذَكَرَ القرآنُ ذلك مرتَيْن.
المرةُ الأولى: في حديثِه عن قصةِ داودَ - عليه السلام -، فعندما كانَ يُسَبِّحُ اللهَ سبحانَه كانت الجبالُ والطيورُ تُسَبِّحُ معه.
قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) .
ومعنى (أَوِّبِي) : رَدّدي ورَجِّعي مَعَه.
أَيْ: سَبِّحي مَعَه عندما يُسَبّحُ.
فكانَ داودُ - عليه السلام - عندما يُسَبِّحُ اللهَ يَسمعُ الجبالَ
تُسَبِّحُ اللهَ معهِ، ويَسمعُ الطيورَ تُسَبّحُ اللهَ مَعَه!!.
إِنَّ اللهَ هو الذي سَخَّرَ الجبالَ للتسبيحِ معه، وأَمَرَ الطيرَ أَنْ تُسَبّحَ معه.
قال تعالى: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) .
ولم يُصَدِّق الفادي المفترِي القرآنَ في إخبارِه عن ذلك، واعْتَبَرَه مما
يتناقَضُ مع العِلْمِ والعَقْل.
قال: " وهل للجبالِ عَقْلٌ وتَمييزٌ وعَواطفُ، لِتُرَدّدَ صلواتِ واعترافاتِ وتسابيحَ داودَ؟! ".
ونَقولُ له: نَعَم.
إِنَ اللهَ خالِقَها هو الذي أَرادَ أَنْ تُسَبحَ، وأَمَرَها أَنْ(1/511)
تُسَبِّح، فنفَّذَتْ أَمْرَه سبحانه وسَبحَتْ، ولا نَدري كيفَ سَبَّحَتْ، وهي الجمادُ الذي لا عَقْلَ عندَه ولا إِدْراك.
المهمُّ أَنَّ اللهَ هو الذي أَوجَدَ عندَها القدرةَ على التسبيح فَسَبَّحَتْ!
والأَمْرُ ليس غريباً على الله، وليس مستَبْعَداً عند الله، فهوعلى كُلًّ شيء قدير!.
والمرةُ الثانية: في حديثِه عن الأَمانةِ التي حَمَلَها الإِنسانُ الظَّلومُ الجَهول.
قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) .
عَرَضَ اللهُ أَمانَةَ التكليفِ على السمواتِ والأَرضِ والجبال، لكنهنَّ أَبينَ أَنْ يحملْنَها ويُكَلَّفْنَ بِها، لأنهنَّ أَشفقْن منها، وخِفْنَ من التقصيرِ فيها.
ولما عُرِضَت الأَمانةُ على الإِنسانِ استَعَدَّ أَنْ يَحملَها، رغمَ المسؤوليةِ والتبعةِ والحساب، وهو بذلك ظلوم جهول!!.
وقد اعترضَ الفادي على ذلك، فقال: " ونحنُ نَسأَل: هل للجبالِ فَهْمٌ،
يَجعلُها تُدركُ ما لا يُدركُه أَكثرُ البَشَر، فترفضُ الأَمانَةَ المعروضة عليها؟! ".
ونَقولُ له: وما المانعُ العقليُّ من ذلك؟
إِنَّ اللهَ هو الذي جعلَ فيها نوعاً من الإِدْراك، بحيثُ تَسمعُ وتَفهمُ وتُجيب، وهو ليسَ كسَماعِنا وفَهْمِنا وإدْراكِنا وكَلامنا وجوابِنا، وإِنما نوعٌ خاصٌّ على مُستواها، وهو ليس أمْراً عاديّاً، وإنما هو خارقةٌ من الخوارق، ومعجزةٌ من المعجزات!! واللهُ يَفعلُ ما يشاء، ويوجِدُ فيه ما يَشاء، ولا شيءَ مستحيلٌ على إِرادةِ الله.
ولماذا يَستبعدُ الفادي ذو العقلِ الصَّغيرِ كلامَ الجبال، ويَجعلُهُ مُستحيلاً
عَقْلاً، ولم يَستبعدْ تحويلَ العَصا اليابسةِ إِلى أَفْعى فيها روحٌ وحياة!..
كانَ موسى - عليه السلام - يُمسكُ عَصا يابسةً بيدِه، ولما أَلْقاهَا بأَمْرِ اللهِ جَعَلَ اللهُ فيها حياة، وحَوَّلها إِلى أَفعى تَسعى، وَحَمَلها موسى بيدِه وهي حَيَّة، ولما أَلْقاها على الأَرضِ ثانيةً أَعادَها اللهُ عصا يابسة!! وكان هذا كُلّه بأَمْرِ اللهِ، فالذي جَعَلَ العصا الخشبيةَ حَيَّة تَسعى هو نفسُه الذي جعلَ الجبالَ تتكلم.(1/512)
وليستْ هذه أَوَّلَ مَرَّةٍ يَجعلُ اللهُ في السمواتِ والأَرضِ والجبال قُدرةً
على الفهم والكلامِ والجَوابِ على السُّؤال - على مُسْتَواها الضعيف المحدود -، فلما خَلَقَها اللهُ خاطَبَها وأَجابَتْ؟
قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) .
سَمعت السمواتُ والأَرضُ خِطابَ اللهِ لهما، وفَهِمَتاهُ على طريقَتِهما،
وأَجابَتا اللهَ قائلَتَيْن: أَتَيْنا طائِعين!
ولا نَدري كيفَ حَصَلَ ذلِك، لأَنَّ هذا معجزةٌ من الله، أَوجَد فيهما سبحانَه إِدْراكاً خاصّاً، وسَماعاً خاصّاً وفَهماً خاصّاً، وأَجابَتا جَواباً خاصّاً أَيضاً!
فالأَمْرُ أَمْرُه، والإِرادَة إِرادَتُه - عز وجل -.
***
الله يلين الحديد لداود - عليه السلام -
تَحتَ عنوانِ: " الحَديدُ يَلينُ كالشَّمْع "
اعترضَ الفادي على كَلامِ القرآنِ عن إِلانَةِ الحَديدِ لداودَ - عليه السلام -.
وذلك في قولِه تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) .
وذَكَر كلامَ البيضاويِّ في تفسير الآية: " قالَ البيضاوي: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جعلناهُ في يَدِه كالشمع يُصَرِّفُهُ كيفَ يشاء، من غيرِ إِحْماءٍ وطَرْقٍ بآلاتِه
أو بقُوَّتِه ".
وعَلَّقَ على ذلك بقوله: " ونحنُ نسأل: كيفَ يُغَيِّرُ الحديدُ خاصِّيتَه بينَ
يَدَيْ داودَ، فيفقدُ صلابَتَه، ويتحوَّلُ إِلى لُيونَةِ ومُرونَةِ الشمعِ، بغرِ إِحماءٍ أَو
طَرْق؟
وما هو الهَدَفُ من هذهِ المعجزةِ التي لو كانَتْ قد جَرَتْ فِعْلاً لَذَكَرَتْها
التوارةُ المقَدَّسَة؟.
اكتفى القرآنُ بقولِه: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) .
ولم يَقُل القرآنُ: جعلْنا الحديدَ في يَدِه كالشمعِ، يُصرِّفُه كيفَ يَشاء، من غيرِ إِحماءٍ وطَرْقٍ بآلاتِه.(1/513)
والذي قالَ هذا هو البيضاوي فإِذا اعتَرضَ الفادي على كلامِ البيضاويّ، فلْيعترضْ عليه، والبيضاويُّ هو الذي يتحمَّلُ مسؤوليةَ وتبعةَ كلامِه، فلماذا يُحَمِّلُ الفادي القرآنَ مسؤوليةَ كَلامٍ لم يَقُلْه؟.
علينا أَنْ نَبقى مع القرآن، ولا نُضيفَ عليه شَيْئاًْ، إِلّا ما صَحَّ من حديثِ
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي موضوعِ إلانةِ الحديدِ لداودَ - عليه السلام -، أجملَ القرآنُ الكلامَ عنها، ولم يُفْصِّلْه، والأَولى أَنْ نُبقيهِ على إِجمالِه، وأَنْ لا نَخوضَ في تفصيلِه، لعدم وُجودِ دَليلٍ صَحيحٍ معتمدٍ عليه في ذلك.
إِنَ الفعلَ (وَأَلنًّا لَهُ الْحَدِيدَ) مُسْنَدٌ إِلى الله، فاللهُ هو الذي أَلانَ الحديدَ
لداودَ - عليه السلام -، وعَلَّمَه صنعَ الصناعاتِ الحديدية منه: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ... ) وهذه الجملةُ تفسيرٌ للإِلانة، وبيانٌ لما نتجَ عنها من أَعمالٍ وصناعات! وهي متعلِّقَةٌ بفعلٍ مُقَدَّر، تقديرُه: وأَلَنّا له الحديد، وقُلْنا له: اعملْ سابغاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْد.
و (سَابِغَاتٍ) : صفة لموصوفٍ محذوف، تقديرُهِ: دُروعاً سابغاتٍ، ومَعنى
(سَابِغَاتٍ) طويلة، بحيثُ تُغَطِّي الجسمَ كُلَّه، وذلك ليَقِيَ أجسامَ الجنودِ في
الحربِ من الخَطَر
و (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : بمعنى إِتقانِ صُنْع الدروعِ السابغاتِ الحربية،
وتوصيلها بالمسامير، وذلك بأَنْ يكونَ هناك تَناسُبٌ بينَ المسمارِ وفَتْحَتِه، فلا
تكونُ تلك الفتحةُ أَكبرَ منه، بحيثُ لا تتماسَكُ أَجزاءُ الدّرع، ولا تكونُ أَصغرَ منه فلا يُحْكَمُ الصُّنْع!!.
وبمعنى هذه الآيةِ قولُ الله وَبَئّ: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) .
ويُفهمُ من الآية: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) .
أَنَّ لداودَ - عليه السلام - جُهْداً في الدروعِ الحديديةِ التي صَنَعَها، فهو يَصنعُ المسامير، ويَقُصُّ الحديدَ، ويَفتحُ فيه فتحاتٍ مقدَّرةً، مناسبةً للمسامير.(1/514)
أَما إِنكارُ الفادي المفترِي لهذه الآية، لعدمِ ذِكْرِها في التوارة، فهو
مردودٌ عليه، لأَنَّ القرآنَ أَضافَ كثيراً على المذكورِ في الكتابِ المقَدَّسِ فيما
يتعلَّقُ بقَصَصِ الأَنبياء، وهذا مَعناهُ أَنَّهُ لا يَجوزُ إِنكارُ الخَبَر الذي ذَكَرَهُ القرآن إِذا لم يَذْكُرْهُ الكتابُ المقَدَّس، فذِكْرُه في القرآنِ كافٍ لقَبولِه!.
***
حول نوم أصحاب الكهف
ذَكَرَ اللهُ قصةَ أَصحابِ الكهفِ في ثماني عشرةَ آيةً من سورةِ الكهف،
وقد سَجَّلَ الفادي المفترِي آياتِ القصة، ثم اعترضَ عليها بقولِه: " ونحنُ
نسأل: كيفَ يَتسَنّى لسبعةِ غِلمانٍ وكلبِهم أَنْ يَعيشوا ثلاثمئةٍ وتسعَ سنين، بدونِ أَكْلِ ولا شُربٍ ولا مَشْيِ ولا تَبَوُّلٍ ولا تَبَرُّز، تحسبُهم أَيقاظاً وهم رُقود، يتقلًّبونَ ذاتَ اليمينِ وذاتً الشّمال، وكلبُهم باسط ذراعيه بفناء المغارة؟
وما هو الدرسُ المستفادُ من هذه القصةِ لنا اليوم؟ ".
يَنظرُ المفترِي للمعجزاتِ المذكورةِ في القرآن نظرةً ماديَّةً دائماً، ويَقيسُها
بالأُمور العاديّة المألوفة للناس، وبما أَنها لا تُقاسُ بها لأَنها معجزات، لذلك
يُنكرُ وُقوعَها ويُكذِّبُ بها، وبما أَنَّ القرآنَ ذَكَرَها، لذلك يُخَطِّئُ القرآنَ
ويَعترضُ عليه، ويتهمُه بذكْر أَشياءَ لم تَحْدُث، وعَرْضِ أُمورٍ لا يُصَدّقُها العقل!
أَما المعجزاتُ المذكورةُ في كتابِه المقَدّس فإِنه يؤمنُ بها، مع أَنها لا تُقاسُ
بالأمور العادية! فلماذا يَكيلُ المفْتَري بمكيالَين، وَيُصَدِّقُ المذكورَ في كتابِه
المقدس، ويُكَذِّبُه إِذا ذُكِرَ في القرآن؟
مع أَن الموضوعَ فيها واحد!!
إِنه التحاملُ على القرآن!.
ذَكَر القرآنُ قصةَ أصحابِ الكهف الذينَ جعلَهم الله آيةً وعبرة، وأَكرمَهم(1/515)
ببعضِ الكراماتِ المعْجزات، في مقدمتِها أَنه جعلَهم يَنامونَ ثلاثَمئةٍ وتسعَ
سنوات، بدونِ موتٍ أَو تَعَفُنٍ أَو فساد، ثم أَيقَظَهم من نومِهم لفترةٍ قصيرة، ثم أَماتَهم الموتَ الحقيقي.
قال تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) .
ويُنكِرُ الفادي المفترِي صحةَ ذلك، ويَعْتَبِرُه مُتَناقِضاً مع العلمِ
والعَقْل، إِذْ كيفَ يَنامونَ ثلاثمئةٍ وتسعَ سنوات، بدونِ أَكْلٍ ولا شُرْبِ ولا
مَشْيٍ ولا تَبَولٍ ولا تَبَرُّز؟!.
ولو كانَ الأَمْرُ عادياً وفقَ مألوفِ الناسِ وعاداتِهم لقُلْنا: هذا مستحيلٌ
وغيرُ معقول.
ولكنَّه من أَمْرِ الله، واللهُ فَعَّالٌ لما يريد، وهو معجزةٌ خارقةٌ
للعادة، ولو لم تكن خارقةً لما كانَتْ معجزة.
شاءَ اللهُ أَنْ يُبْقِيهم نائمينَ هذه المدةَ الطويلة، وهَيَّأَ الأَمورَ حولَهم لئلا
يَبْلوا ويَتَعَفَّنوا، فضربَ على آذانِهم، وفَتَحَ عيونَهم، وجعلَ الشمسَ تَميلُ عنهم في الصباحِ ذاتَ اليمينِ، وتبتعدُ عنهم عند المساءِ ذاتَ الشمال، حتى لا تُؤْذيهم بأَشعتِها وحرارتِها، وقَلَّبَهم على الأرضِ ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، لئلا تَقْضي عليهم الرطوبةُ والعَفَن ...
ثم بَعَثَهم بعدَ ذلك من نومِهم وأَيقظَهم ...
وطالما أَنَّ الأَمْرَ معجزةٌ خارقة، من فِعْلِ اللهِ سبحانه، فلا استبعادَ أَو إِنكارَ له.
والفادي المفترِي دائمُ الافتراءِ والتلاعب والتحريف، فاللهُ يقولُ عن
أَصحابِ الكهف: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) ، وقد أَسندت الآيةُ تَقْليبَهم إِلى الله، لأَنَ الأمْرَ معجزةٌ وليس عادياً..
ولكنَّ الفادي أَسندَ التقليبَ إليهم، فقال: تحسبُهم أَيقاظاً وهم رُقود، يتقلَّبون ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال!! وفَرْقٌ بعيدٌ بين قولِ الله تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) ، وبينَ قولِ المفتري
المتلاعِب: " يَتَقَلَّبونَ ذاتَ اليمين.. "!!(1/516)
حول الريح المسخرة لسليمان - عليه السلام -
ذَكَرَ القرآنُ الريحَ التي سخَّرَها اللهُ لسليمانَ - عليه السلام -
قال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) .
وقال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) .
وقال تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) .
ونَقَلَ الفادي كعادتِه من تفسيرِ البيضاويِّ بعضَ كلامِه عن الريح.
قال: (الرِّيحَ عَاصِفَةً) : شَديدَة الهُبوب، من حيثُ إنها تَبْعُدُ بكرسِيِّه في مدَّةٍ يَسيرة، كما قال تعالى: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) .
وكانت (رُخَاءً) في نفسِها طيبة.
وقيل: كانَتْ رُخاءً تارة وعاصفةً أُخرى، حسبَ إِرادتِه.
(إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) إِلى الشام.
وعَلَّقَ على ذلك مُشَكِّكاً فيه، فقال: " ونحنُ نسأل: ما الفائدةُ من تسخيرِ
الريحِ لسليمان، فتحملُ عرشَه مَتى شاء إِلى أَينَ شاء، وتشتَدُّ إِذا رَغِب، وتَلينُ إِذا رَغب؟
وما هو الهدَفُ من كُلِّ هذا؟
ماذا عادَ على بَني إِسرائيل أَو عَلى مملكةِ اللهِ من كلِّ هذا؟ ".
أَخَذَ الخُرافةَ، وحَمَّلَها للقرآن، وكَذَّبَه وخَطَّأَهُ بسببها!.
ذَهَبَ رُواةُ الخرافاتِ والرواياتِ غيرِ الصحيحة إِلى أَن الريح كانَتْ
خاصَّةً لسليمانَ - عليه السلام -، فقد كانَتْ تَحملُ عرشَه وكُرْسِيَّه وهو جالسٌ عليه، وتَطيرُ به في الجَوِّ، وتأْخُذُه حيثُ يَشاء، وهو راكب على " بِساطِ الريح "! وهي تُشبة طيرانَ الطائراتِ وسفنِ الفضاءِ في زماننا!.
ولذلك اعتبرَ الفادي هذه الريحَ بدونِ فائدةٍ لبني إِسْرائيل، فهي كأَنها طائرةٌ(1/517)
شخصيةٌ لسليمانُ - عليه السلام -، يُسافِرُ عليها إِلى مختلفِ البلدان، ولذلك قال: " ما هو الهَدَفُ من كُلِّ هذا؟
وماذا عادَ على بني إِسرائيل ومملكةِ اللهِ من كُلِّ هذا؟ ".
ونقول للفادي: المستفيدُ من هذه الريحٍ هم بنو إِسْرائيل، ولم تكن الريحُ
تَطيرُ بسليمانَ - عليه السلام - وعرشِه وكرسِيِّه، إِنما كانتْ تأَتي بالغيثِ والمَطَر، وتَحملُ معها الرّخاءَ والخصْب..
وكانت تبقى ومعَها الغيثُ فوقَ الأَرضِ المباركةِ مُدَّةً طويلة، متمثلةً في منخفضٍ جَوِّيٍّ عمَيق، وتستمرُّ شهراً في غُدُوِّها، وشهراً في رَواحِها، نعمةً من اللهِ على سليمان - عليه السلام - وقومِه.
***
حول أصحاب الفيل والطير الأبابيل
اعترضَ الفادي المفترِي على سورةِ الفيل، التي تَحدثَتْ عن أَصحابِ
الفيل، وسَجَّلَ اعتراضَه وتساؤُلَه تحتَ عنوان: " الطيرُ تُحاربُ بالحجارة "!.
وأَخَذَ من تفسيرِ البيضاويِّ خُلاصَة حادثةِ أَصحابِ الفيل، التي أَشارَتْ
لها السورة، والمعروفةُ للباحثين والدارسين..
ثم عَلَّقَ على ذلك بإِثارةِ أَسئلةِ تافهة، فقال: " ونحنُ نسأل: كيفَ آثَرَ الفيلُ أَنْ يُعاوِنَ الوثنيّين، ويَهْرُبَ من معاونة المسيحيّين، فكلَّما وجَّهوه لكعبةِ الأَوثانِ رَفَضَ السير، وكلَّما وَجَّهوهُ إِلى اليمنِ هَرْوَل؟
وكيفَ أَدركت الطيرُ ذلك، فاشتركَتْ في الحربِ معِ الوثنيِّين
ضدَّ المسيحيّين؟
وكيف تفاهَمت جماعاتُ الطير، وعرفَتْ مكانَ المعركة، وأحضرت الحجارة، وملأَتْ أَفواهَها وأَرجلَها، ورمَتْ بها جيشَ المسيحيينَ دون الوثنيّين؟
وكيفَ انحازَ الرَّبُّ للفيلِ وللطيرِ، ولأَصحابِ الكعبةِ الوثنيين
ضدَّ المسيحيين؟
وكيفَ يَنزل الحجرُ الذي هو أَصغرُ من الحمصةِ من فمِ الطائرِ
إِلى رأْسِ الرجلِ، فيخرقُ رأْسَه وعنُقَه وصَدْرَه وبَطنَه، ويَخرجُ من دُبُرِه؟! ".(1/518)
التساؤلاتُ التي أَثارَها المفترِي على الحادثةِ تُفيدُ إِنكارَه لها، وتكذيبَه
لوقوعِها، مع أَنَّ القرآنَ كانَ صريحاً في إِثباتِها: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) .
لقد صوَّرَ له عقْلُه الصغيرُ أَنَّ المعركةَ كانت بينَ الأَحباشِ النَّصارى وبين
العرب الوثنيّين، والنَّصارى أَقربُ إِلى اللهِ منِ الوثنيّين، فكيفَ انحازَ الله ُ إِلى
الوثنيّين ضدَّ النَّصارى المؤمنينَ به؟!
هذا غيرُ معقول، وأَخْطَأ القرآنُ في القولِ به!!
والكعبةُ عندَه " كعبة الأوثان " وبَيْت تُجْمَعُ فيه الأَصنام، فكيفَ يُدافعُ اللهُ عنها؟!.
وكيفَ آثَرَ الفيلُ أَنْ يكونَ مع العربِ الوثنيّين ضدَّ النَّصارى؟
إِنَ هذا غيرُ معقولٍ!
وكيفَ تداعَتْ جَماعاتُ الطيرِ واشتركَتْ في المعركة، وانحازَتْ إِلى
الوثنيّين، وحارَبَت النَّصارى المؤمنين بالحجارة؟
هذا كلّه لا يُصَدِّقُه العَقْل، ولذلك لم يَحدث!!.
إِنَّ الأَمْرَ ليس على هذه الصورةِ التي فَهِمَها الفادي خَطأ، وإنَ اللهَ لم
يَنْحَزْ للعربِ الوثَنيّين ضد المسيحيّين، إِنما دافَعَ اللهُ عن بيتِه المحَرَّمِ المعَظَّم.
لقد توجهَ أَبرهةُ بجيشِه وفيلِه ليهدِم الكعبة، لا ليقاتِلَ قُرَيْشاً، فمعركَتُه
ليستْ ضدّ قريشٍ الوثنيّين، وإنما هي ضدَّ البيتِ المحرَّم! ولذلك لما وَصَلَ إِلى
ضواحي مكةَ لم يشتبكْ في حَرَبٍ مع قُرَيْش، ورِجالُ قريشٍ عَرَفوا هذا، حيثُ أَخْلَوْا له مَكَّة، وصَعَدوا إِلى الجبالِ، يُراقبونَ ما سيَحْدُث، ولما راجَع
عبدُ المطلبِ زعيمُ مكة أَبرهةَ بشأَنِ إِبلِهِ التي أَخَذوها منه، قال له: أَنا رَبُّ
الإِبل، وللبيتِ رَبّ يَحْميه!!.
وإنَّ اللهَ يَعلمُ أَنَّ قريشاً مَلؤوا الكعبة بالأصنام، التي عَبَدوها وجَعَلوها
آلِهَة، وهو سبحانه لم يُدافِعْ عنهم ولا عن أَصنامِهم.
إِنَّ حادثةَ الفيلِ كانتْ دِفاعاً عن الكعبةِ المُشَرَّفَة، حمى اللهُ فيها الكعبةَ
من الهَدْم، هذه الكعبةُ ضمنَ بيتِ اللهِ الحرام، أَوَّلِ بيتٍ بُنِيَ في الأَرضِ(1/519)
لعبادَةِ الله، والذي بَناهُ إِبراهيمُ وإِسماعيلُ - عليهما السلام - لعبادَةِ الله، وستكونُ هذه الكعبةُ المشرفَةُ قِبْلَةً للأُمةِ المسلمةِ القادمة، التي سَيستخلِفُها اللهُ على الأُمم، وسيولَدُ بالقربِ من الكعبةِ محمدُ بنُ عبدِ الله، الذي سيكونُ النبيَّ الخاتم - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أَجْلِ هذه المعاني حمى اللهُ الكعبةَ من جيشِ أَبْرَهَة، لا من أَجْلِ
قريشٍ الوثنيّين، وأَمَرَ اللهُ الفيلَ أَنْ لا يَستجيبَ لأَمْرِ أَبرهَةَ بالسيرِ نحو الكَعْبَة، ونَفَّذَ الفيلُ أَمْرَ رَبِّه، وكان ذلك الفيلُ أَعْقَلَ من هذا الفادي صاحبِ العَقْلِ الصَّغير الذي أَنكرَ الحادثة!.
ولم تتوجّه الطيرُ الأَبابيلُ إِلى أَصحابِ الفيلِ بنفسها، إِنما اللهُ هو الذي
وَجَّهَها وأَرسَلَها، واللهُ هو الذي حَمَّلَها الحجارةَ من سِجّيل، وأَمَرَها أَنْ
تقصفَ بها أَصحابَ الفيل.
إِنَّ الأَفعالَ في سورةِ الفيلِ مسنَدَة إِلى الله، فاللهُ هو الذي فَعَلَ بأَصحابِ
الفيل ما فَعَل، وهو الذي أَرسلَ عليهم الطيرَ الأَبابيل، وهو الذي أمَرَها أَنْ
تَرميهم بالحِجارة، وهو الذي أَهْلَكَ أَصحابَ الفيل، وهو الذي جَعَلَهم كعصفٍ مأكول ...
وكانت حادثةُ أَصحابِ الفيل " إِرْهاصاً " ومُقَدّمَةً للإِسلام، وتهيئَةً له،
والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وُلِدَ عام الفيل، وبَعَثَهُ الله ُ نبيّاً بعدَ أَربعينَ سنةً من الحادثة.
ولذلك ذَكَرَها اللهُ في القرآن، باعتبارِها آيةً من آياتِه.
***
هل خاف يعقوب على أبنائه من العين؟
عندما تَوَجَّهَ أَبناءُ يَعقوبَ الأَحَدَ عَشَرَ إِلى عَزيزِ مِصر - الذي هو أَخوهم
يوسُفُ وهم لا يَعرفونَه - طَلَبَ منهم أَبوهم أَنْ لا يَدْخُلُوا من بابِ واحد،
وإِنما يَدخلونَ من أَبوابٍ متفرقَة، قالَ اللهُ - عز وجل -: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) .(1/520)
لماذا طلبَ يعقوبُ - عليه السلام - من أَبنائِه هذا الطَّلَب؟
أَتْعَبَ بعضُ المفَسِّرينَ والإِخباريّين أَنفسَهم في محاولةِ معرفةِ ذلك..
وذَهَبَ الفادي كعادَتِه إِلى تفسير البيضاوي، ونَقَلَ منه قولَه: " قال البيضاوي: لأَنهم كانوا ذَوي جَمالٍ وأُبَّهَة، مُشْتَهرينَ في مِصرَ بالقُرْبِ والتَّكريمِ عندَ الملِك، فخافَ عليهم أَنْ يَدْخُلوا كوكبةً واحدةً فَيُعانُوا - أَيْ يُصابُوا بالعَيْن - ولعَلَّهُ لم يُوصِهِم بذلك في المرةِ الأَولى لأَنهم كانوا مَجْهولين حِينئذٍ، أَو كانَ الداعي إِليها الخَوْف على بُنْيامين..
وللنفس آثارٌ منها العين ... ".
وعَلَّقَ الفادي على كلامِ البيضاويِّ بقوله: " ونحنُ نسأل: مِنْ أَينَ جاءَ
القرآنُ بهذه القصَّةِ التي لم تَذْكُرْها التوراة، فَنَسَبَ لواحدٍ من أَنبياءِ اللهِ خُرافَةً تُنافي العِلْم، وتُنافي الإِيمانَ بعنايةِ الله؟! ".
مَن الذي أَخبرَ رُواةَ الإِسرائيلياتِ أَنَّ يَعقوبَ - عليه السلام - كان يَخشى على أَبنائِه أَنْ يُصابُوا بالعين، لجَمالِهم وكثرتِهم وتَقريبِ العَزيزِ لهم؟
وحتى يَنْجوا من شَرِّ العَيْن أَمْرَهُم أَنْ يَدْخُلوا من أَبواب متفرقَة! لم يُذْكَرْ هذا التعليلُ في حديثٍ صحيحٍ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا نتوقًّفُ في قَبولِ هذا التعليل!.
وقد أَبهمَ القرآنُ الحديثَ عن ذلك، ودَعا إِلى عَدَمِ الخوضِ فيه، لِعَدَمِ
وُجودِ دليلٍ عليه.
ولْنقرأ هاتَيْنِ الآيتَيْن بإِمعانٍ، قالَ تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) .
قالَ يَعقوبُ - عليه السلام - لأَبنائِه مُعَلِّلاً دُخولَهم من أَبوابِ متَفَرّقة: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) .
أَيْ: دُخولكُم من أَبوابٍ متفرقَةٍ لاَ يُغْني عنكم شيئاً من الله، ولا يَدْفعُ عنكم شَيْئاً من قَدَرِ الله، ومهما حَذِرْتُم فإِنَّه لا يُغْني حَذَرٌ من قَدَر!.(1/521)
وأَكملَ كلامَه لهم بالإِشارةِ إِلى أَنَّ الحُكْمَ حُكْمُ الله، نافذ على عبادِه،
وهو متوكَلٌ على الله، مُسَلّم أَمْرَهُ لها: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) .
وأَشارَ القرآنُ إِلى أَنَّ يَعقوبَ - عليه السلام - قَضى وحَقَّقَ حاجَةً في نفسه، عندما نَفَّذَ أَبناؤُه طَلَبَه، ودَخَلوا من حيثُ أَمَرَهم: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) .
وإِبهامُ القرآنِ لتلك الحاجةِ دَعوة لنا لعَدمِ البحثِ فيها، وعَدَمِ مُحاولةِ
بَيانِها، ومعرفَتُها لا دلَيلَ عليها ولا فائدة منها، ولا يَضيرُنا الجهلُ بها، ولو
علمَ اللهُ في ذِكْرِها خَيْراً لنا لَذَكَرَها.
وليتَ الذينَ حَدَّدوا تلك الحاجةَ فَهموا هذه الإِشارة القرآنية، ولم يُتْعِبوا أَنفسَهم في تحديدِ تلك الحاجةِ بأَنها لدفْعِ العَيْن!.
وبهذا نعرفُ أَنَّ يعقوبَ - عليه السلام - كان كل متوكّلاً على الله عندما طَلَبَ من أَبنائِه أَنْ يَدْخلُوا من أَبوابٍ متفرقة، وأَنَّ هذا ليس خرافةً تُنافي العلْمَ والإِيمان، كما زَعَمَ المفْتَري.
وقد نفى الفادي هذه الحادثة، رَغْمَ وُرودِها في القرآن لأَنها لم تُذْكَرْ في
التوراة وهذا باطل، ومرجَعِيَّتُنا ليست التوراة، إِنما هي القرآن، وذِكْرُ الحادثةِ في القرآن يَكفي لقَبولِها والإِيمانِ بها، سواءٌ ذَكَرَتْها التوراةُ أَمْ لا.
***
حول بقرة بني إسرائيل
ذَكَرَتْ سورةُ البقرةِ قصةَ بقرةِ بني إسرائيل في سَبْعِ آياتٍ منها 67 - 73.
وخُلاصَتُها أَنه قُتِلَ قَتيلٌ من بني إِسْرائيل، زَمَنَ موسى - عليه السلام -، ولم يُعْرَف القاتل، ولما رَفَعوا القضيةَ إِلى موسى - عليه السلام -، أَخْبَرَهم بأَمْرِ اللهِ لهم أَنْ يَذْبَحوا بقرة، فعَجِبوا من ذلك، وظَنّوهُ يَهزأُ بهم ما فنفى ذلك، ولما سَأْلوهُ عن عمرِها(1/522)
ولونِها وعملِها أَخبرهم، عند ذلك ذَبَحوها مُكْرَهين.
وضُربَ القَتيلُ بجزءٍ من تلك البقرة، فأَحياهُ اللهُ وأَخبرَ عن القاتِل!!.
وقد رَفَضَ الفادي المفترِي ما قالَه القرآنُ عن قصةِ البقرة، واتَّهمَ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأَخْذِ القصةِ من التوراة، لأَنَّ القرآنَ عندَه ليس كلامَ الله، وإِنما هو من تأليفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهُ من مصادرَ بشرية؟
قال: " وتَاريخُ بني إِسرائيل من أَوَّلِه إِلى آخرِه خالٍ من هذه القصة.
ولعلَّ صاحبَ القرآنِ أَخَذَ طَرَفاً من روايتِه من التوراة ".
القصةُ عندَه غيرُ صَحيحة، لأَنها لم تَرِدْ في التوراة، ومرجعيَّتُه هي
التوراة، فما ذُكِرَ فيها فهو الصواب، وما لم يُذْكَرْ فيها فهو الخَطَأ..
مع العلمِ بأَنَّ التوراةَ مُحَرَّفَة، أَضافَ الأَحبارُ فيها كلامَ البشرِ إِلى كلامِ الله ...
أَما نحن المسلمين فإِنَّ القرآنَ هو مرجعيَّتُنا، ما ذُكِرَ فيه نجزمُ بأَنه هو الصوابُ
والصحيح، وما لم يُذْكَرْ فيه نتوقَّفُ في قَبولِه! وما خالَفَه نجزمُ بأَنه خَطَأ.
وبما أَنَّ قصةَ البقرةِ مذكورةٌ في سورةِ البقرة، فإِننا نجزمُ بوقوعِ أَحداثِها
التي ذَكَرَها القرآن، ولْيَقُل الفادي ما شاء!!.
ولاحِظْ عبارةَ الفادي القبيحة: " ولعلَّ صاحبَ القرآنِ أَخَذَ طَرَفاً من
روايتِه من التوراة "، فقد صَرَّحَ فيها بأَنَّ القرآنَ من كلام البشر، وليس كلامَ الله.
وبعدَما استعرضَ بعضَ كَلامِ التوراة حولَ القتلِ وأَحكامِه أَجرى مقارنَةً
بين كلامِ التوراة وما وَرَدَ في القرآن.
قال: " فهذه هي شريعةُ التوراة، التي تبيّنُ بَشاعةَ القَتْل، وتُعلنُ اعترافَ شيوخِ الشعبِ أَنهم لا يَعرفون القاتِل، بغسْلِ أيديهم على الذبيحةِ رمز البَراءَة، ثم يَطلبونَ الغُفْرانَ لتلك الخطيةِ المجهولَةِ الفاعِل! وهذا كُلُّه مَعْقول.
ولكنْ هل من المعقولِ أَنَّ قطعةَ لَحْمٍ من العجلةِ يُضْرَبُ بها القتيل، فيَحيا ويَتَكَلَّم؟! ".
يُنكرُ الفادي المعجزةَ في قصةِ البقرة، وهي التي أَشارَ لها قولُه تعالى:(1/523)
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) .
بعدما ذَبَحوا البقرة، أَخذوا قطعةَ لَحْمٍ منها، وضرَبوا القَتيل بها،
فأَحياهُ الله، وعَرَّفَ على قاتِلِه ثم مات.
وهذا غيرُ معقول عند الفادي الجاهل، لأَنه يَظُنُّهُ فِعْلاً عاديّاً، كباقي
أَفعال البشر..
لأَنه لا يُفَرِّقُ بينَ الفعلِ البشريِّ العادي، وبين المعجزةِ الربانية، التي يُجريها الله، ويَجعلُها آيةً لعباده، وهذه المعجزةُ لا بُدَّ أَنْ تكونَ
خارقةً لعاداتِ البشر!.
***
هل الرعد ملاك؟
وَقَفَ الفادي المفترِي أمامَ قولِ اللهِ - عز وجل - (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) .
ونَقَلَ كلامَ البيضاوي في تفسيرِ الآية، الذي ذَكَرَ فيه بعضَ الرواياتِ عن
الرعد، بأَنه مَلَكٌ من الملائكة، ومعه مخاريقُ من نارٍ يَسوقُ بها السَّحاب،
والبرقَ بأَنه مَلَكٌ آخُر من الملائكة!.
وعَلَّق الفادي على ما نَقَلَه عن البيضاويِّ بقولِه: " ونحنُ نَسأل: إِذا كانَ
الرعدُ والبرق من الظواهر الطبيعيةِ الناتجةِ عن احتكاكِ السَّحابِ ببعضها،
فكيفَ يقولونَ إِنها ملائكة؟! ".
إِنَّ البرقَ والرعدَ من الظواهرِ الطبيعيةِ الجوية، ولَيْسا مَلَكَيْنِ من الملائكةِ
يَسوقانِ السحاب، وما نَقَلَه البيضاويُّ في تفسيرِه إِنما هو أَقوالٌ ذَكَرَها بعضُ
السابقين، الذين لا يُقَدِّمونَ الدليلَ على ما يَقولون، ولا يَتَحَرَّونَ الدقةَ فيما
يَنْقُلون..
وما نَقَلَه من أَحاديث عن رسولِ الله - عليه السلام - لم تَصحّ.(1/524)
وبما أَنه لم يثبُتْ شيءٌ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في أَنَّ الرعدَ والبرقَ مَلَكان من الملائكة، فإِننا لا نقولُ بذلك!.
واعتراضُ الفادي على الآيةِ مردود، واتهامُه للقرآنِ بأَنه يجعلُ الرعْدَ
مَلَكاً مردودٌ أَيضاً، لأَنَّ القرآنَ لم يَقُلْ بذلك.
الذي قالَه القرآنُ أَنَّ الرعْدَ يسبحُ بحمدِ الله، لأَنَّ الرعدَ مخلوقٌ من
مخلوقاتِ الله، وكُلُّ المخلوقاتِ تُسَبِّحُ اللهَ، قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .
وليس معنى إِسناده التسبيح للرَّعْد أَنْ يكونَ الرعْدُ مَلَكاً يُسَبِّحُ، بل هذا
من حيويةِ التعبيرِ القرآني، الذي يستخدمُ طريقةَ التصوير، حيث قَدَّمَ الرعد في صورةٍ حيةٍ شاخصة، في صورةِ رجلٍ خاشعٍ عابدٍ يسبحُ اللهَ - عز وجل -.
***
حول سحر الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وَقَفَ الفادي أَمامَ سورةِ الفَلَق، وما قيلَ في سببِ نُزولِها، من أَنَّها نزلَتْ
في سِحْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -..
ونَقَلَ كلامَ البيضاويِّ في تفسيرِ السورة..
" رُويَ أَنَّ يهوديّاً سَحَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في إِحْدى عشرةَ عُقْدَة، في وترٍ دَسَّهُ في بئْر، فمرضَ النبيُّ، ونزلتِ المعوِّذَتَان..
وأَخبرَه جبريلُ بموضعِ السِّحْر، فأَرسلَ عليّاً، فجاءَ به، فقرَأهما عليه، فكانَ كُلَّما قَرَأ آيةً انحلَّتْ عُقْدَة، وَوَجَدَ بعضَ الخِفَّة..
ولا يوجبُ ذلك صِدْقَ الكَفَرَةِ في أَنه مَسْحور، لأَنهم أَرادوا به أَنه مجنون بواسطةِ السحر ".
ثم ذَكَرَ الفادي الآيةَ التي تتحدَّثُ عن قصةِ هاروتَ وماروت، وفيها قولُه
تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وتَدُلّ الآيةُ على أَنَّ السِّحْرَ قد يَضرُّ المسحورَ بإِذْنِ الله، وأَنَّ السحرةَ قد يُؤْذونَ الإِنسان، ويُفَرِّقونَ بين المرْءِ وزوْجِه.(1/525)
وذَكَرَ الفادي أقوالاً من الكتابِ المقَدَّس، تَنْهى عن تَعَلُّمِ السِّحر، منها
أَقوالٌ لبولُسَ وبطرس.
وخرجَ من ذلك بأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس رسولَ الله، لأَنَّه لو كانَ رسولَ الله لما أَثَّرَ فيه السحرُ، ولنهى عن السحر كما نهى عنه بولُسُ وبطرس! قال: " ونحنُ نسأَلُ: كيفَ يُصيبُ السحرُ المؤمنَ المحفوظَ بعنايةِ الله؟..
ولقد نهتْ شريعةُ اللهِ عن السحر.. " ...
وبعدما ذَكَرَ أَقوالَ بولسَ وبطرسَ في النهيِ عن السحرِ قال:
" هذه هي شريعةُ اللهِ حقّاً، وهؤلاء هم الرسلُ اللهِ فِعْلاً، يَنتهرون السَّحَرَةَ، ويُعطلونَ أَعمالَهم، وقوةُ الله فوقَ قوى السَّاحرين ".
حادثةُ سِحْرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثابتةٌ في الحديثِ الصحيح.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ - رضي الله عنها -، قالت: سَحَرَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يهوديّ من يَهودِ بني زريق، يُقالُ له: لَبيدُ بنُ الأَعْصَم، حتى كانَ يُخَيَّلُ إليه أَنه يفعلُ الشيءَ، وما يَفْعَلُه ...
حتّى إِذا كانَ ذاتَ يوم، دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دَعا، ثم دَعا، ثم قالَ: " يا عائشة! أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتاني فيما استفتيتُه فيه، أَتاني رَجُلان، فقعدَ أَحَدُهما عندَ رأسي، والآخَرُ عند رجْلَي.
فقالَ الذي عند رأسي للآخَر: ما بالُ الرجل؟
قال: مَطْبوب.
قال: ومَنْ طَبَّهُ؟
قالَ: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَم.
قالَ: في أَي شيء؟
قال: في مِشْطٍ ومُشاطَة.
قال: أَيْنَ؟
قال: في جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، تحتَ راعوفةٍ في بئرِ ذَرْوان ".
قالَتْ عائشة: فأَتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - البئرَ في أُناسٍ من أَصحابِه، حتى استخرجَه..
ثم قالَ: " يا عائشةُ! هذه البئرُ التي أُريتُها، وكأَنَّ ماءَها نُقاعَةُ
الحِنَّاء، وكأَنَّ نَخْلَها رؤوسُ الشياطين.. ".
فقلتُ: يا رسولَ الله، أَفلا أَحْرَقْتَه!
قال: " لا؟
أَمّا أَنا فقد عافاني اللهُ، وكرهتُ أَنْ أُثيرَ على الناسِ شَرّاً..
فأَمَرْتُ بها فدُفِنَتْ ... ".(1/526)
خُلاصَةُ حادثةِ سِحْرِ رسولِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اليهوديَّ لَبيدَ بنَ الأَعْصَمِ كان ساحِراً، وأَرادَ أَنْ يسحر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَخَذَ مِشْطاً كان يَمتشِطُ فيه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَخَذَ " مُشاطة " - وهي بقايا الشَّعْرِ الذي كان يَسقطُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويَبْقى في المشْط - ونَفَثَ في ذلك المشطِ والمُشاطة، ولَفَّهُما على سِحْرِه، ووضَعَهما في " جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَر "، وهو الغِشاءُ الذي يَكونُ على طَلْعِ النخل، ثم وَضَعَ الوعاءَ تحتَ راعوفةٍ في بئرِ ذَروان، والرّاعوفةُ هي الحجرُ الكبيرُ تكونُ في قَعْر البئر، يَنزلُ الإِنسانُ إِليها، ويَقِفُ عليها، إِذا احتاجَ إِلى النزولِ للبئر ...
وبئرُ " ذَرْوان " واقعةٌ في بستانٍ في المدينة.
وشاءَ اللهُ أَنْ يُؤَثِّرَ هذا السحرُ في الجانبِ البشري لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولَفْظُ الحديثِ دَقيق: " حتى كانَ يُخَيَّلُ إليه أنه يَفعلُ الشيءَ، وما يَفعلُه "..
أَي: كانَ أَثَرُ السحرِ على بَصَرِه فَقَط - صلى الله عليه وسلم -، بحيثُ يدفعُه إِلى مجردِ التخيُّلِ بالبَصَر!.
ولم يستمرّ هذا طَويلاً، فلما أَحسَّ رسولُ اللهِ بالتخيُّل على بَصَرِه لَجَأَ
إِلى اللهِ بالدُّعاء، فدعاهُ - صلى الله عليه وسلم - ثم دَعاهُ، ثم دَعاهُ، وطَلَبَ منه أَنْ يُزيلَ عنه ما يَجدُه..
واستجابَ اللهُ دعاءَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - وأَزالَ عنه أَثَرَ السحر بفضْلِه سبحانه، ولم يَعُدْ يتخيَّلُ ببصرِه غيرَ الموجود..
وأَحَسَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلِك فحمدَ اللهَ،
ثم قالَ لعائشةَ - رضي الله عنها -: "لقد أَفْتاني اللهُ فيما استَفْتَيْتُه "، أَيْ: عافاني ممّا أَجِدُه، واستجابَ دعائي!.
وأَرسلَ اللهُ اثنَيْنَ من الملائكةِ في صورةِ رجلَيْن، فقعَدَ أَحَدُهُما عند
رأسِه، وقَعَدَ الآخرُ عند رجلَيْه، وتحاوَرا فيما بينَهما ليَسمعَ كلامَهما، فعرفَ منهما أَنه مَسْحور، وأَنَّ الذي سَحَرَهُ هو اليهوديُّ لبيدُ بنُ الأَعصم، وعَرَف مكانَ السحْر..
فذهبَ مكل مجموعةٍ من الصحابةِ فاستخرجَه.
وقد اقترحَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - عليه أَنْ يحرقَه، ولكنَّه أَبى ذلك، حتى لا يُثيرَ على الناس شَرّاً.
وأَمَرَ به فدُفِنَ في الأَرض.(1/527)
وإِنَّ حَادِثةَ سِحْرِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على بشريَّتِه، وأَنه تُؤَثّرُ فيه الأَحْداثُ، ويَجري عليه قَدَرُ الله، كما أَنها تَدُل على أَنَّ السحْرَ يَضُرُّ بإِذْنِ الله.
ولا إِشكالَ في سحرِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّ جانبَ النبوةِ لم يَتَأَثَّرْ بالسِّحر، فهو محفوظٌ بحفظِ الله، إِنما كانَ تأثيرُه على حاسَّةِ بصرِه فقط، بحيثُ كان يتخيَّلُ أَنه فَعَلَ الشيءَ، مع أَنه لم يفعَلْه، أَما عقْلُه وقلْبُه وروحُه وأَعصابُه فقد بقيَتْ سليمة ...
وسرعانَ ما أَزالَ اللهُ عن بَصَرِه أَثرَ السحر، بعد أَنْ دَعاهُ
وتَضَرَعَ إِليه.
وقد كانَ الفادي جاهلاً عندما وَظَّفَ حادثةَ سِحْرِه - صلى الله عليه وسلم - دَليلاً على عدم نبوَّتِه، وذلك عندما تساءَلَ بخُبْث: " كيف يُصيبُ السحرُ المؤمنَ المحفوظَ بعناية الله؟! ".
إِنَّ اللهَ يَحفظُ عبادَه المؤمنين، ومع ذلك يَبْتَليهم بالضّرِّ، ويَأْذَنُ أَنْ يُصابوا
بالأَذى، وليس وقوعُ هذا بهم دليلاً على عدمِ محبَّتِه لهم، أَو تخلّيه عنهم..
وهم عندما يُصابونَ بالضُّرِّ والأَذى يلجؤون إِليه، ليكشفَ عنهم ما بهم..
وبذلك يَزدادونَ قُرْباً منه سبحانه.
وهذا ما حَصَلَ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولكنَّ الفادي مطموسٌ على قلبه، لذلك يجهلُ هذه الحقائق والمعاني والدروسَ والدلالات! (1) .
__________
(1) قال الله تعالى في حق موسى - عليه السلام - (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) .(1/528)
الفصل التاسع نقض المطاعن الفنية(1/529)
ما المراد بالحروف المقطعة؟
اعترضَ الفادي المفترِي على القرآن، لإِيرادِه الحروفَ المَقطَّعَةَ في بدايةِ
بعضِ سورهِ، وذَكَرَ اعتراضَه تحتَ عنوانٍ قبيح، هو " الكلامُ العاطِل " أَيْ أَنَّ في القرآنِ كَلاماً عاطِلاً، وهذه صفةٌ مرذولةٌ، يوصَفُ بها الشيءُ التافهُ الساقط، ولقد أَرادَ المجرمُ بهذا العنوانِ شَتْمَ القرآنِ شَتْماً سوقيّاً بَذيئاً!!.
ومعلومٌ أَنَّ السورَ المفتتحة بالحروفِ المقطَّعَةِ تسع وعشرون سورة، على
عددِ حروفِ الهجاءِ في اللغةِ العربية.
والحروفُ المذكورة فيها هي:
- (الم) : في سور: البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة.
- (الر) : في سور: يونس وهود ويوسف وِإبراهيم والحجر.
- (حم) : في سور: غافر وفصلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف.
- (طسم) : في سورتي: الشعراء والقصص.
- وسورةٌ واحدةٌ لكلٍّ مما يلي: (المص) : سورة الأعراف.
و (المر) : - سورة الرعد.
و (كهيعص) : سورة مريم.
و (طه) : سورة طه.
و (طس) : سورة النمل.
و (يسَ) : سورة يس.
و (حم عَسق) : سورة الشورى.
و (ص) : سورة صَ.
و (ق) : سورة قَ.
و (ن) : سورة القلم.
وقالَ الفادي المفترِي في بدايةِ اعتراضِه: " جاءَ في فواتحِ تسعٍ وعشرين
سورة بالقرآن حروفٌ عاطِلَة، لا يُفْهَمُ معناها! ".
وبعدما ذَكَرَ أَسماءَ تلك السور قال: " ونحنُ نسأل: إِنْ كانتْ هذه
الحروفُ لا يعلمُها إِلّا الله كما يَقولون، فما فائدتُها لنا؟
إِن اللهَ لا يوحي إِلّا بما يُفيد، فكلامُ الله بلاغَ وبَيانٌ وهدى للناس " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
5- الكلام العاطل
يدعى المشكِّكُون أنه جاء فى فواتح 29 سورة بالقرآن الكريم حروف عاطلة، لا يُفهم معناها نذكرها فيما يلى مع ذكر المواضع التى وردت فيها:
الحروف: السورة
الر: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر
الم: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة
المر: الرعد
المص: الأعراف
حم: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف
حم عسق: الشورى
ص: ص
طس: النمل
طسم: الشعراء، القصص
طه: طه
ق: ق
كهيعص: مريم
ن: القلم
يس: يس
ونحن نسأل: " إن كانت هذه الحروف لا يعلمها إلا الله (كما يقولون) فما فائدتها لنا، إن الله لا يوحى إلا بالكلام الواضح فكلام الله بلاغ وبيان وهدى للناس ".
الرد على هذه الشبهة:
أطلقوا على هذه الحروف وصف " الكلام العاطل " والكلام العاطل هو " اللغو " الذى لا معنى له قط.
أما هذه الحروف، التى أُفتتحت بها بعض سور القرآن، فقد فهمت منها الأمة، التى أُنزل عليها القرآن بلغتها العريقة، أكثر من عشرين معنى (1) ، وما تزال الدراسات القرآنية الحديثة تضيف جديداً إلى تلك المعانى التى رصدها الأقدمون فلو كانت " عاطلة " كما يدعى خصوم الإسلام، ما فهم منها أحد معنى واحداً.
ولو جارينا جدلاً هؤلاء المتحاملين على كتاب الله العزيز من أن هذه " الحروف " عاطلة من المعانى، لوجدنا شططاً فى اتهامهم القرآن كله بأنه " كلام عاطل " لأنها لا تتجاوز ثمانى وعشرين آية، باستبعاد " طه" و" يس " لأنهما اسمان للنبى صلى الله عليه وسلم، حذف منهما أداة النداء والتقدير: يا " طه " يا " يس " بدليل ذكر الضمير العائد عليه هكذا:
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (2) و (إنك لمن المرسلين) (3) .
وباستبعاد هاتين السورتين من السور التسع والعشرين تُصبح هذه السور سبعاً وعشرين سورة، منها سورة الشورى، التى ذكرت فيها هذه الحروف المقطعة مرتين هكذا:
"حم، عسق " فيكون عدد الآيات موضوع هذه الملاحظة ثمانى وعشرين آية فى القرآن كله، وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية. فكيف ينطبق وصف ثمانٍ وعشرين آية على 6208 آية؟.
والمعانى التى فُهمتْ من هذه " الحروف " نختار منها ما يأتى فى الرد على هؤلاء الخصوم.
الرأىالأول:
يرى بعض العلماء القدامى أن هذه الفواتح، مثل: الم، والر، والمص ". تشير إلى إعجاز القرآن، بأنه مؤلف من الحروف التى عرفها العرب، وصاغوا منها مفرداتهم، وصاغوا من مفرداتهم تراكيبهم. وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً، ومع ذلك كان القرآن معجزاً؛ لا لأنه نزل بلغة تغاير لغتهم، ولكن لأنه نزل بعلم الله عز وجل، كما يتفوق صانع على صانع آخر فى حذقه ومهارته فى صنعته مع أن المادة التى استخدمها الصانعان فى " النموذج المصنوع " واحدة وفى هذا قطع للحُجة عنهم.
ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى:
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) (4) .
يعنى أن اللغة واحدة، وإنما كان القرآن معجزاً لأمر واحد هو أنه كلام الله، نازل وفق علم الله وصنعه، الذى لا يرقى إليه مخلوق.
الرأى الثانى:
إن هذه الحروف " المُقطعة " التى بدئت بها بعض سور القرآن إنما هى أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين، يقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة. فمثلاً " الم " فى مطلع سورة البقرة، وهى تنطق هكذا.
" ألف لام ميم " تستغرق مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لتسعة أصوات، يتخللها المد مد الصوت عندما تقرع السمع تهيؤه، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله تعالى بعد هذه الأصوات التسعة:
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (5) .
وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالى، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه " الحروف " فى فواتح السور عبارة " قرع عصى " (6) وهى وسيلة كانت تستعمل فى إيقاظ النائم، وتنبيه الغافل. وهى كناية لطيفة، وتطبيقها على هذه " الحروف " غير مستنكر. لأن الله عز وجل دعا الناس لسماع كلامه، وتدبر معانيه، وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى:
(وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) (7) .
الرأى الثالث:
ويرى الإمام الزمخشرى أن فى هذه " الحروف " سرًّا دقيقاً من أسرار الإعجاز القرآنى المفحم، وخلاصة رأيه نعرضها فى الآتى:
" واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه فى الفواتح من هذه الأسماء يقصد الحروف وجدتها نصف حروف المعجم، أربعة عشر سواء، وهى: الألف واللام والميم والصاد، والراء والكاف والهاء، والياء والعين والطاء والسين والحاء، والقاف والنون، فى تسع وعشرين سورة، على حذو حروف المعجم ".
ثم إذا نظرت فى هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها:
من المهموسة نصفها:
" الصاد، والكاف، والهاء والسين والخاء ".
ومن المجهورة نصفها:
الألف واللام والميم، والراء والعين والطاء، والقاف والياء والنون.
ومن الشديدة نصفها:
" الألف والكاف، والطاء والقاف ".
ومن الرخوة نصفها:
" اللام والميم، والراء والصاد، والهاء والعين، والسين والحاء والياء والنون ".
ومن المطبقة نصفها:
" الصاد والطاء ".
ومن المنفتحة نصفها:
" الألف واللام، والميم والراء، والكاف، والهاء والعين والسين والحاء، والقاف والياء والنون ".
ومن المستعلية نصفها:
" القاف والصاد، والطاء ".
ومن المنخفضة نصفها:
" الألف واللام والميم، والراء والكاف والهاء، والياء، والعين والسين، والحاء والنون ".
ومن حروف القلقلة نصفها: " القاف والطاء " (8) .
يريد أن يقول: إن هذه الحروف المذكورة يلحظ فيها ملحظان إعجازيان:
الأول: من حيث عدد الأبجدية العربية، وهى ثمانية وعشرون حرفاً. فإن هذه الحروف المذكورة فى فواتح السور تعادل نصف حروف الأبجدية، يعنى أن المذكور منها أربعة عشر حرفاً والذى لم يذكر مثلها أربعة عشر حرفا:
14+14 = 28 حرفاً هى مجموع الأبجدية العربية.
الثانى: من حيث صفات الحروف وهى:
الهمس فى مقابلة الجهارة.
الشدة فى مقابلة الرخاوة.
الانطباق فى مقابلة الانفتاح.
والاستعلاء فى مقابلة الانخفاض.
والقلقلة فى مقابلة غيرها.
نجد هذه الحروف المذكورة فى الفواتح القرآنية لبعض سور القرآن تعادل نصف أحرف كل صفة من الصفات السبع المذكورة. وهذا الانتصاف مع ما يلاحظ فيه من التناسب الدقيق بين المذكور والمتروك، لا يوجد إلا فى كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وهو ذو مغزى إعجازى مذهل لذوى الألباب، لذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى يقول مُعقباً على هذا الصنع الحكيم:
" فسبحان الذى دقت فى كل شىء حكمته. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته. فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التى منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحُجة إياهم (9) .
ثم أخذ الإمام الزمخشرى، يذكر فى إسهاب الدقائق والأسرار واللطائف، التى تستشف من هذه " الحروف " التى بدئت بها بعض سور القرآن، وتابعه فى ذلك السيد الشريف فى حاشيته التى وضعها على الكشاف، والمطبوعة بأسفل تفسير الزمخشرى. وذكر ما قاله الرجلان هنا يخرج بنا عن سبيل القصد الذى نتوخاه فى هذه الرسالة. ونوصى القراء الكرام بالاطلاع عليه فى المواضع المشار إليها فى الهوامش المذكورة وبقى أمرٌ مهمٌّ فى الرد على هذه الشبهة التى أثارها خصوم الإسلام، وهى شبهة وصف القرآن بالكلام العاطل. نذكره فى إيجاز فى الأتى:
لو كانت هذه " الحروف " من الكلام العاطل لما تركها العرب المعارضون للدعوة فى عصر نزول القرآن، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة، والمهارة فى البيان إنشاءً ونقداً؛ فعلى قدرما طعنوا فى القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه " الفواتح " وهم أهل الذكر " الاختصاص " فى هذا المجال. وأين يكون " الخواجات " الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه؟!
وقد ذكر القرآن نفسه مطاعنهم فى القرآن، ولم يذكر بينها أنهم أخذوا على القرآن أىَّ مأخذ، لا فى مفرداته ولا فى جمله، ولا فى تراكيبه. بل على العكس سلَّموا له بالتفوق فى هذا الجانب، وبعض العرب غير المسلمين امتدحوا هذا النظم القرآنى ورفعوه فوق كلام الإنس والجن.
ولشدة تأثيره على النفوس اكتفوا بالتواصى بينهم على عدم سماعه، والشوشرة عليه.
والطاعنون الجدد فى القرآن لا قدرة لهم على فهم تراكيب اللغة العربية، ولا على صوغ تراكيبها صوغاً سليماً، والشرط فيمن يتصدى لنقد شىء أن تكون خبرته وتجربته أقوى من الشىء الذى ينقده. وهذا الشرط منعدم أصلاً عندهم. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) انظر للوقوف على هذه المعانى: التفسير الكبير " للفخر الرازى. تفسير سورة البقرة.
(2) طه: 2.
(3) يس: 3.
(4) هود: 13-14.
(5) البقرة: 2.
(6) يعنى الضرب بالعصى على الأرض لتنبيه المراد تنبيهه.
(7) الأعراف: 204.
(8) الكشاف (ج1 ص 100- 103) .
(9) الكشاف: (ج1 ص 103) .(1/531)
وللردّ عليه، نقررُ أنه لا يوجَدُ في القرآنِ حروفٌ أَو كلمات أَو جُمَل
عاطلة، لا معنى لها، أو لا يمكنُ أَنْ يُفْهَمَ معناها، كما أَنه لا توجَدُ في
القرآن حروفٌ أَو كلماتٌ زائدة..
وكلُّ حرفٍ في القرآن له معنى ووظيفة، ويُؤدّي معناه ضمنَ السياقِ الذي وَرَدَ فيه، وإِذا حُذِفَ اختلَّ المعْنى، وضعُفَ التركيبُ، ونَقَصت الدِّلالة!!.
وهذا معناهُ أَنَ الحروفَ المقطَّعَةَ في افتتاحياتِ بعضِ السور ليستْ عاطلةً
أَو مهملةً، أَو ليس لها معنى ودلالة، أو ليس لورودها على هذه الصورة حكمةٌ أَو فائدة.
ونعترفُ أَنَّ العلماءَ والمفسرين اخْتَلَفوا في نظرِهم إِلى الحروفِ
المقطَّعَة، وانقسموا في ذلك إِلى فريقين:
- الفريق الأول: لم يَخوضوا فيها، ولم يُحاوِلوا تفسيرَها، أَو بيانَ
مَعْناها والحكمةِ منها، وقالوا: هي مما استَأثَرَ اللهُ بعلمِه، فلا يعلمُها إِلّا هو،
ونحنُ لا نخوضُ فيها.
- الفريق الثاني: وَقَفوا أَمامَها، وتأَمَّلوا فيها، وحاولوا بيانَ معناها،
والحكمة من ورودِها!.
والراجحُ هو ما ذَهَبَ إِليه الفريقُ الثاني، لأَنَّ الله َ أَوجبَ علينا تَدَبُّرَ
القرآن، وفَهْمَ معانيه، ولم يَجعلْ فيه ما ليسَ له معنى، أَو ما لا يمكنُ أَنْ
نفهمَه، فكل ما في القرآنِ له معنى، وكلُّ ما فيه يمكنُ أَنْ نفهمَه.
والراجحُ أَن افتتاحَ بعضِ السورِ القرآنية بالحروفِ المقطّعَةِ للتَحدي
والإِعجاز، وإِثباتِ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله.
وبيانُ هذا، أَنه لما سمعَ المشركونَ القرآنَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَفَضوا الاعترافَ بأَنه من عندِ الله، واتَّهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأليفه، ثم ادَّعوا بأَنَّ عندهم القدرةَ على الإِتيانِ بمثْلِه لو أَرادوا..
فتحدَّاهم الله، وطَلَبَ منهم الإِتيانَ بمثْلِه، أَو بعشْرِ سورٍ مثْلِه، أَو بسورةٍ مثلِه ...(1/532)
ومن بابِ المبالغةِ في التحدي افتتحَ بعضَ السورِ بالحروف المقَطَّعَة، باعتبارِ الحروفِ هي المادَّة الأولية للكلامِ العَرَبي، لأَنَّ الكلمةَ مكوَّنَة من تلك
الحروفِ البنائية..
وكأَنَه لي قولُ لهم: القرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مُبين، مكوَّن من هذهِ
الحروف، ولغتُكم العربيةُ مكوَّنَة من هذه الحروف، وأَنتم تُحسنونَ الكلامَ بهذهِ اللغة وتَزعمونَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَلَّفَ القرآنَ من هذه الأَحرف..
فخُذوا هذه الأَحرفَ مفكوكَةً مَفْرودَة، وصُوغوا منها سورةً أَو عَشْرَ سُوَرٍ مثلَ هذا القرآن!
فإِن استطعْتُم ذلك ثَبَتَ أَن القرآنَ من تأليفِ محمد - صلى الله عليه وسلم - ...
وإنْ لم تَستطيعوا وعَجَزْتُم عن الإِتيانِ بالمطلوب ثبتَ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وأَنَّ محَمَّداً هو رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ووجبَ عليكم تصديقُه والدخولُ في دينه!.
والدليلُ على أَنَّ هذا هو الرأيُ الراجح، أَنَّ الحروفَ المقطَّعَة الواردةَ في
بدايةِ بعضِ السور أَربعةَ عَشَرَ حرفاً.
بعدَ إِسقاطِ المكرر منها، وأَنَّ بعضَهم جمعَها في جملةٍ مفيدةٍ ذاتِ دلَالة، وهي: نَصّ حَكيمٌ قاطِعٌ لَهُ سِرٌّ.
ومما يُشيرُ إِلى هذه الدلالةِ والحكمةِ والنتيجةِ من ورودِ الحروفِ المقطعةِ في
افتتاحياتِ بعضِ السور، ورودُ آيةِ التحدي في سورةِ هود، وهي مفتتحةٌ بقوله تعالى: (الر) .
وقالَ اللهُ فيها يتحدّى المشركين: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) .
***
هل في القرآن كلام أعجمي؟
وَقَفَ الفادي أَمامَ بعضِ الكلماتِ القرآنية التي ظَنَّها أَعجمية، واعتبرَ
وُجودَها في القرآن يَتعارضُ مع الآياتِ التي تتحدَّثُ عن عربيةِ القرآن، كقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) .
وقوله تعالى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) .(1/533)
وتساءَلَ بخبْثٍ قائلاً: " ونحنُ نسألُ: كيفَ يكونُ القرآنُ عَربيّاً مُبيناً، وبه
كلماتٌ أَعجميةٌ كثيرة، من فارسيةٍ وآشوريةٍ وسريانيةٍ ويونانيةٍ ومصرية وحبشية، وغيرها؟! " (1) .
والكلماتُ غيرُ العربية التي ذَكرها تسعٌ وعشرون كلمة، ما بين عبريةٍ
وفارسيةٍ وآشورية، ومصرية ويونانية وآرامية، وسريانيةِ وحبشية ولاتينية.
وقد اختلف العلماءُ في القولِ بوجودِ كلماتٍ أعجميةٍ في القرآن:
- فمنهم مَنْ ذهبَ إِلى أَنَّ في القرآنِ كلماتٍ كثيرةً بلغاتٍ غيرِ عربية؟
ففيه كلمات فارسيةٌ وحبشيةٌ وسريانيةٌ وآراميةٌ ويونانية.
- ومنهم مَنْ نفى وُجودَ أَيّ كلمةٍ غيرِ عربيةٍ في القرآن، فكلُّ كلماتِه عربيةُ
الأَصل، حتى أَسماء الأَعلامِ للأَشخاصِ والأماكنِ والمواقع.
- ومنهم مَنْ تَوَسَّطَ، فقالَ: كلُّ كلماتِ القرآنِ عربية، إلّا أَسماءُ بعض
الأَشخاصِ والأَماكنِ والمواقع، مثلُ: آدمَ وإِبليسَ وإبراهيمَ وإِسماعيلَ وفرعونَ ومصر.
والراجحُ هو ما ذهب إليه الفريق الثالث، فما في القرآن من الكلمات
الأَعجمية أَسماءُ الأَعلامِ فقط، أَما غيرُ الأَعلامِ فكلُّها كلماتٌ عربيةٌ مشتقة،
يمكنُ إِعادتُها إِلى جذورِها وأُصولِها العربيةِ، ويمكنُ تحديدُ معناها العربي.
ووجودُ بعضِ الأعلامِ الأَعجميةِ في القرآنِ لا يَتعارضُ مع عربيةِ القرآن،
وأَنه نَزَلَ بلسانٍ عَربيٍّ مبين، لأَنها كلماتٌ مترجمةٌ إِلى العربية، ومسجلَةٌ في
القرآن بحروفٍ عربية.
ومعلومٌ أَنْ أَسماءَ الأَعلام تُنقلُ وتُترجمُ من لغتِها الأَصليةِ إِلى اللغاتِ الأُخرى، بحروفِ تلك اللُّغات، وهذا أَمْرٌ متفقٌ عليه بينَ اللغات.
فالأَعلامُ الأَعجميةُ هكذا هي في لغاتِها الأَصلية، وهي مترجمةٌ إِلى اللغةِ
العربية، ومذكورةٌ في القرآنِ بالحروفِ العربية.
ومن أَسماءِ الأَعلامِ الأَعجميةِ في القرآن، أَسماءُ بعضِ الأَنبياء: آدم،
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
4- الكلام الأعجمى
جاء فى سورة الشعراء: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين) (1) . وجاء فى سورة الزمر: (قرآنا عربياً غير ذى عوج) (2) . وجاء فى سورة الدخان: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) (3) . وجاء فى سورة النحل: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) (4) .
ونحن نسأل: " كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا، وبه كلمات أعجمية كثيرة، من فارسية، وآشورية، وسريانية، وعبرية، ويونانية، ومصرية، وحبشية، وغيرها؟ ".
هذا نص الشبهة الواردة فى هذا الصدد، وتأكيدا لهذه الشبهة ذكروا الكلمات الأعجمية حسب زعمهم التى وردت فى القرآن الكريم وهى:
آدم أباريق إبراهيم أرائك استبرق إنجيل تابوت توراة جهنم حبر حور زكاة زنجبيل سبت سجيل سرادق سكينة سورة صراط طاغوت عدن فرعون فردوس ماعون مشكاة مقاليد ماروت هاروت الله.
الرد على هذه الشبهة:
هذه هى شبهتهم الواهية، التى بنوا عليها دعوى ضخمة، ولكنها جوفاء، وهى نفى أن يكون القرآن عربيًّا مثلهم كمثل الذى يهم أن يعبر أحد المحيطات على قارب من بوص، لا يلبث أن تتقاذفه الأمواج، فإذا هو غارق لا محالة.
ولن نطيل الوقوف أمام هذه الشبهة، لأنها منهارة من أساسها بآفة الوهن الذى بنيت عليه. ونكتفى فى الرد عليها بالآتى:
- إن وجود مفردات غير عربية الأصل فى القرآن أمر أقر به علماء المسلمين قديماً وحديثاً. ومن أنكره منهم مثل الإمام الشافعى كان لإنكاره وجه مقبول سنذكره فيما يأتى إن شاء الله.
- ونحن من اليسير علينا أن نذكر كلمات أخرى وردت فى القرآن غير عربية الأصل، مثل: مِنْسَأَة بمعنى عصى فى سورة " سبأ " ومثل " اليم " بمعنى النهر فى سورة " القصص " وغيرها.
- إن كل ما فى القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هى كلمات مفردات، أسماء أعلام مثل: " إبراهيم، يعقوب، إسحاق، فرعون "، وهذه أعلام أشخاص، أو صفات، مثل: " طاغوت، حبر"، إذا سلمنا أن كلمة " طاغوت " أعجمية.
- إن القرآن يخلو تمامًا من تراكيب غير عربية، فليس فيه جملة واحدة إسمية، أو فعلية من غير اللغة العربية.
- إن وجود مفردات أجنبية فى أى لغة سواء كانت اللغة العربية أو غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها، ومن المعروف أن الأسماء لا تترجم إلى اللغة التى تستعملها حتى الآن. فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج إلى ذكر اسم من لغة غير لغته، يذكره برسمه ونطقه فى لغته الأصلية ومن هذا ما نسمعه الآن فى نشرات الأخبار باللغات الأجنبية فى مصر، فإنها تنطق الأسماء العربية نُطقاً عربيَّا. ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً، لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.
والمؤلفات العلمية والأدبية الحديثة، التى تكتب باللغة العربية ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية والمصادر التى نقلوا عنها، ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبى لا يقال: إنها مكتوبة بغير اللغة العربية، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها، والعكس صحيح.
ومثيرو هذه الشبهة يعرفون ذلك كما يعرفون أنفسهم فكان حرياًّ بهم ألا يتمادوا فى هذه اللغو الساقط إما احتراماً لأنفسهم، وإما خجلاً من ذكر ما يثير الضحك منهم.
- إنهم مسرفون فى نسبة بعض هذه المفردات التى ذكروها وعزوها إلى غير العربية:
فالزكاة والسكينة، وآدم والحور، والسبت والسورة، ومقاليد، وعدن والله، كل هذه مفردات عربية أصيلة لها جذور لغُوية عريقة فى اللغة العربية. وقد ورد فى المعاجم العربية، وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل هذه الكلمات عربيَّا فمثلاً:
الزكاة من زكا يزكو فهو زاكٍ. وأصل هذه المادة هى الطهر والنماء.
وكذلك السكينة، بمعنى الثبات والقرار، ضد الاضطراب لها جذر لغوى عميق فى اللغة العربية. يقال: سكن بمعنى أقام، ويتفرع عنه: يسكن، ساكن، مسكن، أسكن.
- إن هذه المفردات غير العربية التى وردت فى القرآن الكريم، وإن لم تكن عربية فى أصل الوضع اللغوى فهى عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن وفيه.. وكانت سائغة ومستعملة بكثرة فى اللسان العربى قبيل نزول القرآن وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربى، وعُدَّتْ عربية نطقاً واستعمالاً وخطاًّ.
إذن فورودها فى القرآن مع قلتها وندرتها إذا ما قيست بعدد كلمات القرآن لا يخرج القرآن عن كونه " بلسان عربى مبين "
ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة " الله " عبرى أو سريانى وإن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين. إذ ليس لهذا اللفظ الجليل " الله " وجود فى غير العربية:
فالعبرية مثلاً تطلق على " الله " عدة إطلاقات، مثل ايل، الوهيم، وأدوناى، ويهوا أو يهوفا. فأين هذه الألفاظ من كلمة " الله " فى اللغة العربية وفى اللغةاليونانية التى ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية حيث نجد الله فيها " الوى " وقد وردت فى بعض الأناجيل يذكرها عيسى عليه السلام مستغيثاً بربه هكذا " الوى الوى " وترجمتها إلهى إلهى.
إن نفى عروبة القرآن بناء على هذه الشبهة الواهية أشبه ما يكون بمشهد خرافى فى أدب اللامعقول. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الشعراء: 193-195.
(2) الزمر: 28.
(3) الدخان: 58.
(4) النحل: 103.(1/534)
نوح، لوط، إبراهيم، إسماعيل، زكريا، يحيى ...
وغيرهم عليهم الصلاة والسلام.
وأسماءُ بعضِ المواقع، مثل: مصر، والجودي، وأسماءُ بعضِ
الأَشخاص، مثلُ: إِبليس، وفرعون، وَوَدّ، وسُواعٌ، ويَغوثُ، ويَعوقُ، ونَسْرٌ.
ومن الأَسماءِ الأَعجميةِ التي ذكَرَها الفادي، والتي نوافقهُ على أَنها
أَعجمية، لكنها معربةٌ في القرآنِ بحروفٍ عربية: آدمُ، وإِبراهيمُ، وتوراة،
وإنجيل، وفرعون، وهاروت، وماروت.
وأَكثرُ من عشرينَ كلمةً من الكلماتِ القرآنيةِ التي زَعَمَها الفادي أَعجميةً
هي كلماتٌ عربية، لها جذورٌ وأُصولٌ عربية:
أباريق: مشتقةٌ من: بَرْقٌ..
و: أَرائك: مشتقةٌ من: أَرْكٌ..
و: إِستبرق: مشتقةٌ من: بَرْقٌ..
و: تابوتٌ: مشتقةٌ من: تَبْتٌ..
و: جهنمُ: مشتقَّةٌ من: جَهْمٌ..
و: خَبَرٌ: مشتقةٌ من: خَبْرٌ..
و: حُورٌ: مشتقةٌ من: حَوْرٌ..
و: زكاةٌ: مشتقةٌ من: زَكْوٌ..
و: زنجبيلٌ: مشتقّ من: زَنْجٌ..
و: السَّبْتُ: مشتقّة من: سَبْتٌ..
و: سِجّيل! : مشتقّة من: سَجْلٌ..
و: سُرادِقٌ: مشتقة من: سَرْدٌ..
و: سَكينَةٌ: مشتقة من: سَكْنٌ..
و: سورَةٌ: مشتقةٌ من: سَوْرٌ..
و: صِراطٌ: مشتقةٌ من: صَرْطٌ..
و: طاغوتٌ: مشتقّة من: طَغْوٌ..
و: عَدنٌ: مشتقةٌ من: عَدْنٌ..
و: فرْدَوسٌ: مشتقةٌ من: فَرْدٌ..
و: ماعونٌ: مشتقّة من: مَعْنٌ..
و: مشكاةٌ: مشتقةٌ من: شَكْوٌ..
و: مَقاليدُ: مشتقةٌ من: قَلْدٌ..
ولفظ الجلالة: اللهُ: مشتقٌ من: أَلْهٌ.
***
دعوى التناقض في القرآن
ذَكَرَ الفادي المفترِي قولَ اللهِ - عز وجل -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
وتدعو الآية ُ الناسَ جميعاً إِلى تدبُّرِ القرآن، وإمعانِ النظر فيه، وتَجزمُ بأَنهم لن يَجدوا فيه خَطَأً أو نقصاً،(1/535)
أَو اختلافاً أَو اضطراباً..
وعدمُ وجودِ ذلك فيه دَليل على أنه من عندِ الله، ولو كان من عندِ غيرِ اللهِ لما سَلِمَ من هذه العيوب.
وقد تحدّى القرآنُ الكفارَ أَنْ يَجدوا اختلافاً وتناقضاً فيه، ودَعاهُم إِلى
إِمعانِ النظر، وإِطالةِ التدبُّر..
واستمرَّ التحدي منذُ نزولِ القرآنِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما زالَ التحدي مستمراً خمسةَ عَشَرَ قَرْناً، وسَيبقى مستمراً
حتى قيامِ الساعة.
ونَظَرَ الكفارُ في القرآن، وتدبَّروه، وادَّعوا أَنهم وَجدوا فيه اختلافاً
وتناقضاً..
وقَدَّموا ما زعموهُ..
وعندما نظر العلماء في ما قدموه وَجدوهُ تافِهاً، يمكنُ الرَّدُّ عليه بمنتهى السهولة.
ومن هؤلاءِ الكفارِ الفادي المفترِي، الذي ادَّعى أَنّه وَجَدَ اخْتِلافاً
وتَناقضاً كَثيراً في القرآن.
ولذلكَ قالَ بعدَ أَنْ ذكرَ الآيَةَ السابقة: " ولكنّنا نجِدُ فيه التناقضَ الكثير ".
ثم سَجَّلَ المفترِي خمسةَ عَشَرَ موضوعاً في القرآن، ادَّعى أَنَ القرآنَ
متناقضٌ في حديثِه عن كلِّ واحدٍ منها، وكانَ يَضَعُ عمودَيْن ليبيِّنَ التناقضَ في
القرآن، يجعلُ في العمودِ الأَولِ الآياتِ التي تتحدَّثُ عن الموضوع، ويجعلُ
في العمودِ المقابلِ الآياتِ التي تتناقضُ مع الآياتِ المقابلة.
والموضوعاتُ التي ادعى تناقضَ القرآنِ في حديثِه عنها هي: تَبديلُ
وتَغييرُ كَلامِ اللهِ في القرآن.
ومقدارُ اليومِ عند الله.
ووقوعُ الشفاعةِ في الآخرة..
وعَدَدُ أَهْلِ الجنة..
وأَيُّ دينٍ هو المقبولُ عندَ الله..
والصفحُ عن المخالفين..
والنهيُ عن الفحشاء..
والقَسَمُ بمكَّة..
والنهيُ عن النفاق..
والنهيُ عن الهوى..
والموقفُ من الخمر..
والموقفُ من الكفار..
وكيف كانت نهايةُ فرعون..
وخَلْقُ الأَرض والسماء..
والإِحكامُ والتشابهُ في القرآن.. (1)
وسوفَ ننظرُ في الآيات ِ التي زَعَمَها متناقضة، ونَرُدُّ زعمَ التناقَضِ
فيها بعونِ الله..
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
6- الكلام المتناقض
" جاء فى سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) (1) .
ولكننا نجد فيه التناقض الكثير مثل:
كلام الله لا يتبدل: كلام الله يتبدل
(لا تبديل لكلمات الله) (2) : (وإذا بدلنا آية مكان آية..) (3)
(لا مبدل لكلماته) (4) : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) (5)
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (6) : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (7)
هذه طريقتهم فى عرض هذه الشبهة يقابلون بين بعض الآيات على اعتبار تصورهم، وهو أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها، على غرار ما ترى فى هذا الجدول الذى وضعوه لبيان التناقض فى القرآن حسب زعمهم.
الرد على هذه الشبهة:
الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس: (لا تبديل لكلمات الله) وآية النحل (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا. فالتناقض من أحكام العقل، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر، مثل الموت والحياة. فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد، ومحال أن يكون حيًّا وميتاً فى آن واحد؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد.
ومحال أن يكون إنسان ما لا حى ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلى إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون. والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) معناه لا تبديل لقضاء الله الذى يقضيه فى شئون الكائنات، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية. ومنها القوانين الكيميائية، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصرالموجودات،أو تغييرات تطرأ عليها. كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة، وتجمدها وانكماشها بالبرودة. هذه هى كلمات الله عزّ وجلّ.
وقد عبر عنها القرآن فى مواضع أخرى ب.. السنن وهى القوانين التى تخضع لها جميع الكائنات، الإنسان والحيوان والنبات والجمادات. إن كل شئ فى الوجود، يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية، التى ليس فى مقدور قوة فى الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها فى الكون.
ذلك هو المقصود به ب " كلمات الله "، التى لا نجد لها تبديلاً، ولا نجد لها تحويلاً.
ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) (8) . فهل فى مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً فى هذه الحياة الدنيا؟
فكلمات الله إذن هى عبارة عن قضائه فى الكائنات وقوانينه المطردة فى الموجودات وسننه النافذة فى المخلوقات.
ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية: (لا تبديل لكلمات الله) وآية: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) .
لأن معنى هذه الآية: إذا رفعنا آية، أى وقفنا الحكم بها، ووضعنا آية مكانها، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضون الأولى. قال جهلة المشركين: إنما أنت مفتِرٍ (9) .
فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى.
فالآية فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) والآية فى سورة النحل: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لكل منهما مقام خاص، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً. وهيهات هيهات لما يتوهمون.
أما الآيتان (لا مبدل لكلماته) و (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق.
هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود:
فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات. وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس.
وحتى لو كان المراد من " كلماته " آياته المنزلة فى الكتاب العزيز " القرآن " فإنه - كذلك - لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (10) .
أما آية البقرة: (ما ننسخ من آية) فالمراد من الآية فيها المعجزة، التى يجريها الله على أيدى رسله. ونسخها رفعها بعد وقوعها. وليس المراد الآية من القرآن، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل. بدليل قوله تعالى فى نفس الآية: (ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير) .
ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات؛ لأنها من صنع الله، والله على كل شىء قدير.
فالآيتان - كما ترى - لكل منهما مقام خاص بها، وليس بينهما أدنى تعارض، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض.
أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول، وهما آية الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وآية الرعد: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فلا تعارض بينهما كذلك؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمنى، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها. والإنجيل الذى أنزله الله على عيسى عليه السلام.
أما الآية الثانية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فهى إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد. فإرادته ماضية، وقضاؤه نافذ، يحيى ويميت، يغنى ويفقر، يُصحُّ ويُمْرِضُ، يُسْعِد ويُشْقِى، يعطى ويمنع، لا راد لقضائه، ولا معقب على حكمه (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) (11) . فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى. أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة؟ نكتفى بهذا الرد الموجز المفحم، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره.
وهناك شبه أخرى يمكن سردها بإيجاز:
1- إنهم توهموا تناقضاً بين قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) (12) . وبين قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (13) . وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية، التى تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة، ومع هذا الفارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض. ولماذا؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد، وعارجان لا عارج واحد.
فالعارج فى آية السجدة الأمر، والعروج عروج الأمر، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة.
اختلف العارج والعروج فى الآيتين. فاختلف الزمن فيهما قصراً أو طولاً. وشرط التناقض - لو كانوا يعلمون - هو اتحاد المقام.
2- وقالوا أيضًا: إن بين قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) (14) . وقوله تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) (15) تناقضا. وشاهد التناقض عندهم أن الله قال فى الآية (13) (وقليل من الآخرين (وقال فى الآية (40) (وثلة من الآخرين) إذ كيف قال أولاً: (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) ثم قال ثانياً (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين (ولو كان لديهم نية فى الإنصاف، ومعرفة الحق ناصعاً ونظروا فى المقامين اللذين ورد فيهما هذا الاختلاف لوصلوا إلى الحق من أقصر طريق. ولكنهم يبحثون عن العيوب ولو كلفهم ذلك إلغاء عقولهم.
هذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام؛ لأن الله عز وجل قسم الناس فى سورة الواقعة، يوم القيامة ثلاثة أقسام. فقال: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) :
*السابقون السابقون. *وأصحاب الميمنة. * وأصحاب المشئمة.
ثم بين مصير كل قسم من هذه الأقسام فالسابقون السابقون لهم منزلة: " المقربون فى جنات النعيم "
ثم بيَّن أن الذين يتبوأون هذه المنزلة فريقان:
كثيرون من السابقين الأولين، وقليلون من الأجيال المتأخرين
وذلك لأن السابقين الأولين بلغوا درجات عالية من الإيمان وعمل الباقيات الصالحات. ولم يشاركهم من الأجيال المتأخرة عن زمنهم إلا قليل.
أما أصحاب اليمين أو الميمنة فبلاؤهم فى الإسلام أدنى من بلاء السابقين الأولين. لذلك كانت درجاتهم فى الجنة أدنى من درجات السابقين الأولين ويشاركهم فى هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة بهم؛ لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين، متاحة فى كل زمان.
ويمكن أن نمثل للسابقين الأولين بأصحاب رسول الله (ولأصحاب اليمين) بالتابعين، الذين أدركوا الصحابة ولم يدركوا صاحب الرسالة. واذا صح هذا التمثيل، ولا أظنه إلا صحيحاً، صح أن نقول:
إن قليلاً منا، بل وقليل جداً، من يسير فى حياته سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثيراً منا من يمكن أن يسير سيرة التابعين رضى الله عنهم.
وعلى هذا فلا تناقض أبداً بين الآيتين:
(ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) .
و (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) .
3- وقالوا أيضًا: إن فى القرآن آية تنهى عن النفاق، وآية أخرى تُكره الناس على النفاق أما الآية التى تنهى عن النفاق - عندهم - فهى قوله تعالى (: وبشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليما) (16) .
وأما الآية التى تُكره الناس على النفاق - عندهم - فهى قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أَنَّى يؤفكون) (17) .
من المحال أن يفهم من له أدنى حظ من عقل أو تمييز أن فى الآية الأولى نهياً، وأن فى الآية الثانية إكراهاً ويبدو بكل وضوح أن مثيرى هذه الشبهات فى أشد الحاجة إلى من يعلمهم القراءة والكتابة على منهج: وزن وخزن وزرع.
ويبدو بكل وضوح أنهم أعجميو اللسان، لا يجيدون إلا الرطانة والتهتهة؛ لأنهم جهلة باللغة العربية، لغة التنزيل المعجز. ومع هذه المخازى يُنَصَّبُون أنفسهم لنقد القرآن، الذى أعجز الإنس والجن.
لا نهى فى الآية الأولى، لأن النهى فى لغة التنزيل له أسلوب لغوى معروف، هو دخول " لا " الناهية على الفعل المضارع مثل: لا تفعل كذا.
ويقوم مقامه أسلوب آخر هو: إياك أن تفعل، جامعًا بين التحذير والنهى، ولا إكراه فى الآية الثانية. وقد جهل هؤلاء الحقدة أن الإكراه من صفات الأفعال لا من صفات الأقوال أما كان الحرى بهم أن يستحيوا من ارتكاب هذه الحماقات الفاضحة.
إن الآية الأولى: (وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) تحمل إنذاراً ووعيداً. أما النهى فلا وجود له فيها والآية الثانية تسجل عن طريق " الخبر " انحراف اليهود والنصارى فى العقيدة، وكفرهم بعقيدة التوحيد، وهى الأساس الذى قامت عليه رسالات الله عز وجل.
وليس فى هذه الآية نفاق أصلاً، ولكن فيها رمز إلى أن اليهود والنصارى حين نسبوا " الأبنية " لله لم يكونوا على ثقة بما يقولون، ومع هذا فإنهم ظلوا فى خداع أنفسهم.
وكيف يكون القرآن قد أكرههم على هذا النفاق " المودرن " وهو فى الوقت نفسه يدعو عليهم بالهلاك بقبح إشراكهم بالله:
(قاتلهم الله) . اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) النساء: 82.
(2) يونس: 64.
(3) النحل: 101.
(4) الكهف: 27.
(5) البقرة: 106.
(6) الحجر: 9.
(7) الرعد: 39.
(8) آل عمران: 185.
(9) انظر تفسير فتح القدير (ج2/232)
(10) تفسير فتح القدير (ج3 - ص 333) .
(11) الأنبياء: 23.
(12) السجدة: 5.
(13) المعارج: 4.
(14) الواقعة: 13 - 14.
(15) الواقعة: 39 - 40.
(16) النساء: 138.
(17) التوبة: 30.(1/536)
أَوَّلاً: هل يتبدَّلُ كلامُ الله؟
: ذَكَرَ الفادي ثلاثَ آياتٍ تدلُّ على أَنَّ كلامَ اللهِ لا يَتَبَدَّلُ.
قال تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) ..
وقال تعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) .
وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) .
ما هو موضوعُ الآيةِ التي أَخبرتْ أَنَّه لا مُبَدِّلَ لكلماتِ الله؟.
آيةُ سورةِ يونس في سياقِ الحديثِ عن حفظِ اللهِ لأوليائه.
قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) .
المرادُ بكلماتِ اللهِ هنا قَدَرُ اللهِ وإِرادَتُه ومشيئَتُه سبحانه، وليس كلامَه
القرآنَ الكريم، فاللهُ قَدَّرَ سعادةَ وفوزَ أَوليائِه المتقينَ في الدنيا والآخِرة، وهذا لا بُدَّ أَن يَتَحَقَّقَ، لأَنَّ اللهَ هو الذي قَدَّره وأَرادَه، ولا رادَّ لأَمْرِه، ولا تَبديلَ لقَدَرِ اللهِ وإِرادتِه.
وآيةُ سورةِ الكَهفِ تأمُرُ بتلاوةِ القرآن، قال تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) .
" مُبَدِّلَ ": اسم فاعل.
وهو اسْمُ " لا " النافية للجنس.
والمرادُ بكلماتِه هنا آياتُ القرآنِ وجُمَلُه وأَلفاظُه.
والتقدير: لا يَقْدِرُ أَحَدٌ من المخلوقينَ على أَنْ يُبَدّلَ كلماتِ الله، التي أَنزلَها على رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.
ومصداق هذه الآية ما صَرَّحَتْ به آيةُ سورةِ الحجر: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) . فبما أَنَّ اللهَ تعهَّدَ بحفْظِ كتابه، فلا يَقْدِرُ أَحَدٌ على أَنْ يُغَيِّرَ أَوْ يُبَدِّلَ فيه ".
لِننظر الآنَ في الآياتِ التي زَعَمَ الفادي الجاهلُ تعارُضَها مع هذه الآيات!.(1/537)
قال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) .
وقال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) .
وقال تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) .
هل هذه الآيات ُ متعارضةٌ مع الآيات ِ السابقة؟
وما وَجْهُ معارضتِها لها؟
الآياتُ السابقةُ تقررُ أَنه لا يَقْدِرُ أَحَدٌ من المخلوقين على تبديلِ كلماتِ الله،
فهل تُقررُ هذه الآياتُ أَنه يمكنُ لأَحَدٍ من المخلوقين تبديلُ كلماتِ الله؟.
آيةُ سورةِ الرعدِ لا تتحدَّثُ عن آياتِ القرآن، وإِنما تتحدَّثُ عن المحوِ
والإِثباتِ والتغييرِ والتبديلِ في قَدَرِ الله، وتِجعلُ هذا بيَدِ اللهِ وحده.
فالله يَمحو ويُغيرُ ما يَشاءُ من قَدَرِه، ويُثْبِتُ ويُبْقي ما يَشاءُ من قَدَرِهِ، وله الحكمةُ في ما يَمْحو وما يُثْبِت، وعنده أُم الكتاب، وهو اللوحُ المحفوظ، الذي جعلَ فيه كُلَّ ما يريدُ فِعْلَه في هذا الكونِ، قبلَ خَلْقِ السمواتِ والأَرض.
وظَنَّ الفادي الجاهلُ أَنَّ المرادَ بأُم الكتابِ هنا القرآنُ كُلُّه، أَو سورةُ
الفاتحة، وهذا ظَنّ باطِل، فالمرادُ بأُمِّ الكتابِ هنا اللوحُ المحفوظ.
وتتحدَّثُ آيةُ سورةِ البقرةِ عن النسخ، وتجعلُه بيدِ اللهِ وحْدَه سبحانه، فإذا
نسخَ اللهُ آيةً من آياتِ القرآن، وأَلْغى حُكْمَها، فإِنه يأتي بآيةٍ أُخْرى، فيها حُكْم خيرٌ من حُكْمِ الآيةِ المنسوخة، أَو هو مثْلُه.
فاللهُ هو الذي ينسخُ ما يشاءُ من أَحكامِ القرآن، أَمّا المخلوقُ فإِنه
يَستحيلُ عليه نسخُ أَو تبديلُ القرآن، وكلُّ مسلمٍ يعتقدُ هذا عن يَقين.
وتَرُدُّ آيةُ سورةِ النحل على اتهاماتِ وإِشاعاتِ الكفار، فإذا نَسَخَ اللهُ اَيَةً
بآية، وبَدَّلَ آيةً مكانَ آية، اتهمَ الكفارُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالتلاعبِ والتحريف، وقالوا له: إِنما أَنتَ مُفْتَرٍ..
فتردّ عليهم الآيةُ بأَن النسخَ والتبديلَ لم يَصدرْ عن(1/538)
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وإِنما هو من فعل اللهِ وحدَه، فالكلامُ كلامُه، والأَمرُ أَمرُه، وهو أَعلمُ بما يُنزلُ من الآيات، وأَعلمُ بما يَنَسخُ ويُبدلُ ويُبقي من الأَحكام.
ولذلك لما طلبَ الكفارُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تغييرَ القرآنِ أَو تبديلَه، كان يردُّ عليهم بأَنه لا يكونُ له ذلك، لأَنه متَّبعٌ لشرعِ الله، قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) .
فلا تَعارضَ بين الآياتِ التي تَنفي إِمكانيةَ التبديلِ لكلماتِ الله، وتلك
التي تُثبتُ ذلك، لأَنَّ كُلَّ مجموعةٍ متوجهةٌ إِلى حالَة، بتَناسقٍ وتَوازنٍ وتَكامل.
الآياتُ التي تَنفي التبديلَ متوجهةٌ إِلى المخلوقين، فلا يُمكنُ لأَيِّ
مخلوقٍ - مهما عَلَتْ منزلتُه وعَظُمتْ قوتُه - أَنْ يُغيرَ أَو يُبدلَ كلماتِ الله، سواء كانتْ أَقدارَ الله، أَو كانت بعضَ آياتِ كتابِه.
والآياتُ التي تُخبرُ عن إِمكانيةِ تبديلِ آياتِ القرآن، تجعلُ ذلك بيدِ اللهِ
وحده، فهو صاحبُ الحَقِّ في نسخِ وتبديلِ ما يشاءُ من آياتِه، وفْقَ ما يعلمُه من الحكمة، وما يحققُه لعبادِه من المصلحة.
فأَينَ التعارضُ والتناقضُ بين الآيات؟
المشكلةُ في جهلِ الفادي المفترِي، الذي يصدقُ فيه قولُ الشاعر:
وَكَمْ من عائِبٍ قَوْلاً صَحيحاً ... وآفَتُه هي الفَهْمُ السَّقيمُ
ثانياً: التفاوت في مقادير أيام الله:
زعمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآن متناقِضٌ في حديثِه عن مقاديرِ الأَيامِ
عند الله، فما مقدارُ اليوم، هل هو أَلْفُ سنة، أم هو خمسونَ أَلْفَ سَنَة؟!.
هناك آية تُخبرُ أَنه أَلْفُ سنة، قال تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) .
وهناك آية أُحْرى تخبرُ أَنه خمسونَ أَلفَ سنة، قال تعالى:(1/539)
(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) .
لا تتحدثُ الآيتانِ عن يومٍ واحد، حتى يُظَنَّ التناقضُ بينَهما وإِنما
تتحدثانِ عن يومينِ مختلفَيْنِ في المقدار: اليومُ الأولىُ مقدارُه أَلْفُ سنة مما
نَعُدُّهُ نحن البَشَر.
واليومُ الثاني مقدارُه خمسونَ أَلْفَ سنة.
وحتى نفهمَ التفاوتَ بين ذَيْنِكَ اليومَيْن، نتذكَّرُ تفاوُتَ أَيامِنا في الدنيا،
فمن المعلومِ أَنَّ النهارَ في الشتاءِ يكونُ قصيراً، ما بينَ شروقِ الشمسِ
وغروبها، لكنَّ هذا النهارَ في الصيفِ يكونُ طويلاً قد يزيدُ سبعَ ساعاتٍ على
نهارِ الشتاء.
فإِذا كانَتْ أَيامُنا القصيرةُ متفاوتةً في الطول والمقدار، أَفلا تكونُ
الأَيامُ عندَ الله متفاوتةً في ذلك؟.
الذي يَعْرُجُ إِلى الله هو الأَمْرُ الذي يُدَبِّرهُ الله، ويُنزلُه على الأَرض،
ويكونُ عروجهُ إِليه في يومٍ مقدارُه أَلْف سنةَ، مما يَعُدُّهُ البشرُ من السنوات.
أَمّا عُروجُ الملائكةِ والروحِ إِلى الله، فإِنه يكونُ في يومٍ مقدارُه خمسونَ
أَلْفَ سنة، ليستْ مما نَعُدُّ من السنواتَ.
ولذلك لم تَقُلْ آيةُ سورةِ المعارج: في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ أَلْفَ سنةٍ مما تَعُدّون.
كما قالَتْ آيةُ سورةِ السجدة!.
إِنهما يومانِ مُختلفان، مُتفاوتانِ في المقدار، وفي كل منهما عروجٌ
يختلفُ عن العروجِ في اليومِ الآخَر، فعُروجُ الأَمْرِ إِلى الله يومُه أَقْصَرُ من يومِ
عُروجِ الملائكة، ولذلك ذُكِرَ عَدُّ سَنَواتِ البشرِ في اليومِ الأَقْصَر، ولم يُذْكَرْ
في اليومِ الأَطول.
ثالثاً: بين نفي الشفاعة وإثباتها في الآخرة:
نفى القرآنُ في بعضِ آياتِه وُجودَ شفاعَةٍ في الآخرة، وأَثْبَتَ في آياتٍ
أُخرى وُجودَها، فوقَعَ الفادي الجاهلُ في حَيْرَة، ومن ثَمَّ اتَّهَمَ القرآنَ
بالتناقض.
والذي أَوصلَه إِلى هذا جهْلُه وحِقْدُه، وتحامُلُه على القرآن.
من الآياتِ التي نَفَت الشفاعة عن غيرِ الله، وقَصَرتْها عليه وَحْدَه(1/540)
سبحانه، قوله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) .
فالشفاعَةُ لله وَحْدَه، وهي بيدِ اللهِ وَحْدَه، هو المالكُ لها وللبشرِ، وللسمواتِ والأَرض، وللدنيا والآخرة.
ومنها قوئه تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) .
وبعدما سَجَّلَ الفادي الجاهلُ الآيتَيْن، سجَّلَ آيةً كريمةً اعْتَبَرَها مُصرحةً
بالشفاعة، وهي قولُه تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) .
هل تتناقَضُ الآيةُ الثالثةُ مع الآيتَيْن السابقتَيْن؟
لا أَدري كيفَ يفهمُ الفادي الجاهلُ القرآنَ؟
وما عِلْمُه باللغةِ العربيةِ لغةِ القرآن؟.
آيةُ سورةِ الزمرِ تَجعلُ الشفاعةَ لله وحده: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)
ومن معاني قَصْرِها على الله، أَنه لا يَشفعُ أَحَدٌ إِلّا بإذْنِه سبحانه، لأَنَّ الأَمْرَ أَمْرُه سبحانه، ولا سلُطانَ لأَحَدٍ مع سُلطانِه، لا في الدَّنيا ولا في الآخرة.
وهذا ما تُقَرِّرُهُ الآيةُ الثانية: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) ، فإذا
أَذِنَ اللهُ للشفيعِ فإِنه يَشفع، وإِذا لم يَأْذَنْ له فإِنه لا يُمكنُ أَنْ يشفع، سواءٌ كان في الدنيا أَو في الآخرة.
وجاءت الآية ُ الثالثةُ مُؤَكِّدَةً لما قَرَّرَتْه الآية ُ الثانية: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) ، فلا يَشفعُ أَيّ شفيعٍ إِلّا من بعدِ أَنْ ياذَنَ اللهُ
له.
أَيْنَ التناقضُ بين قولِه تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) ، وقوله تعالى: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ؟
أَلا تَلْتَقي الآيتانِ على تقريرِ الحقيقةِ المتعلقةِ بالشفاعة، وهي أَنه لا يَشفعُ أَحَدٌ
لأَحَدٍ في الدنيا وفي الآخرةِ إِلّا بإذْنِ الله؟!.(1/541)
وقررتْ آيةُ الكرسي نفسَ الحقيقة: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
وهكذا نَفهمُ نفيَ الشفاعةِ عن الكافرين، الواردِ في قوله تعالى:
(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101.
وقوله تعالى الذي يقرر أنه لا يشفع الشافع إلا بأمر الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) .
رابعاً: هل أهل الجنة قليلون أم كثيرون؟
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَ حديثَ القرآنِ عن عَدَدِ أَهْلِ الجنةِ مُتناقض،
تَناقَضَ - في نظرِه - قولُه تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) .
مع قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
لننظر: هل تَتناقَضُ الآياتُ مع بعضها؟.
مَنْ هم (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) ؟
ومَنْ هم وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) ؟
وهل أَصحابُ الجنةِ كلُّهم صنفٌ واحد؟.
أَخبرتْ آياتُ سورةِ الواقعةِ أَنَّ الناسَ يومَ القيامة ثلاثَةُ أَصْناف:
السابقون، وأَصحابُ اليمين، وأَصحابُ الشمال.
قالَ تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) .
أَصحابُ المشأمَةِ هم أَصحابُ الشمال، وهم الكفارُ في جهنم؟
قال الله - عز وجل -: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) .
أَما السّابقون وأَصحابُ اليمين فهم المؤمنونَ في الجنة، وهما صنفان
مُتفاوتانِ في منازلِ الجنة: السابقون المقَرَّبون في أَعْلى منازلِ الجنة،
وأَصحابُ اليمينِ في أَوسطِ منازلِ الجنة.
قالَ اللهُ عن الصنفِ الأَول: السابقين: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) .
وقالَ اللهُ عن الصنفِ الثاني: أَصحابِ اليمين:(1/542)
(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
معنى " ثُلَّةٌ ": مجموعَة.
والمرادُ بالأَوَّلين: أَصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أَنهم أَفضلُ جيلٍ من أَجيالِ المسلمين.
والمرادُ بالآخِرين الأَجيالُ المتأخرةُ من المسلمين.
السابقون المقَرَّبون أَكثرهم من الأَوَّلين، وقَليلٌ منهم من الآخِرين: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
أَمّا الصنفُ الثاني أَصحابُ اليمين، فكثير منهم من الأوَّلين السابقين،
وكثيرٌ من الآخِرينَ المتأخرين: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
إِنَّ الفادي الجاهلَ غبيّ، لا يُحسنُ فهمَ القرآن، ولذلك قالَ بالتناقض،
وزالَ هذا التناقضُ المزعومُ، بمعرفةِ مَنْ تتحدثُ عنهم كُلُّ مجموعةٍ من
الآيات.
خامساً: هل اليهود والنصارى مؤمنون؟
زَعَمَ الفادي أَنَّ القرآنَ مُتناقضٌ في حديثهِ عن اليهودِ والنَّصارى، فاعْتَبَرهم مرةً مؤمنين، واعْتَبَرهم مرةً كافرين.
اعْتَبَرهم مؤمنين في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) .
واعْتبرَهُم كافِرين، عندما اعْتَبَر الإِسلامَ وَحْدَه هو الدينَ المقبولَ عندَ الله.
قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) .
فهل تَناقَضَ القرآنُ في حديثِه عن اليهودِ والنَّصارى؟
الجوابُ بالنفي..(1/543)
صرَّحَ القرآنُ بأَنَّ الإِسلامَ الذي جاءَ به رسولُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وحدَه الدينُ المقبولُ عند الله، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) .
وهذا مَعناهُ أَنَّ أَيَّ دينٍ آخَرَ غيرِ الإِسلامِ لا يُقْبَلُ من صاحبِه، أَيْ أَنه
كافرٌ مخلَّدٌ في نار جهنم، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
ولم يُصرحِ القرآنُ بأَنَّ اليهودَ والنَّصارى مؤمنون حتى نَتَّهِمَه بالتعارض.
والآيةُ التي أَوردَها الفادي أَخْطَأَ - كعادَتِه - في فَهْمِها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
ف (الَّذِينَ آمَنُوا) : المرادُ بهم أُمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
و (الَّذِينَ) : في محل نصبِ اسْمِ " إِنَّ ". وخَبَرُ " إِنَّ " محذوف.
والتقدير: إِنَّ المؤمنين فائزون مُخَلَّدون في الجنة.
والواوُ في (وَالَّذِينَ هَادُوا) : حَرْفُ استئناف.
وبَعْدَها جملة استئنافيةٌ جديدة.
(اَلَّذِينَ هَادُوا) : في مَحَلّ رفع مبتدأ.
(وَالصَّابِئُونَ) : معطوف على المبتدأ مرفوع.
(وَالنَّصَارَى) : مَعطوف عليه مرفوع أَيضاً.
و (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) : في محلِّ رفْع خَبر.
والتقدير: واليهودُ والصابئون والنصارى المؤمنُ باللهِ واليومِ
الآخر منهم هو المقبولُ عند الله.
إِنهما جملَتان مستقلَّتان إِذَنْ: الجملة الأولئ: (إِنَّ اَلَّذِينَءَامَنُوا)
أَيْ: إِنَّ المؤمنينَ مقبولون.
والجملةُ الثانية: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... )
أَيْ: إِنَّ المقبولَ من هذه الأَصنافِ الثلاثة هو المؤمنُ باللهِ
واليومِ الآخر، فإِنْ لم يكنْ مؤمناً باللهِ واليومِ الآخِر لم يُقْبَلْ منه شَيءٌ.
ومتى يكَونُ اليهوديُّ والنصرانيُّ والصابئيُّ مؤمِناً باللهِ واليومِ الآخِر؟
لا يكونُ كذلكَ إِلّا إِذا آمَنَ بأَركانِ الإِيمانِ الستة: الإِيمانِ باللهِ، وملائكتِه،
وكتبه، ورسلِه، واليومِ الآخر، والقَدَرِ خيرِه وشَرِّه..
لأَنَّ الإِيمانَ لا يَقبلُ التجزئةَ، وتحقيقَ بعضِه وإِنكارَ بعضه.(1/544)
وهذا معناهُ أَنه يجبُ على كُلّ واحدٍ من الطوائفِ الثلاثِ الإِيمانُ بكلِّ
الرسل، وعلى رأسِهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، كما أَنه يجبُ عليه الإِيمانُ بكلّ الكتب، وفي مقدِّمَتها القرآن.
فإِنْ آمَنَ بذلك يجبُ عليه الدخولُ في الإِسلام، وإِنْ لم يدخلْ
في الإِسلام لم يكنْ مؤمناً باللهِ واليومِ الآخر حقّاً!!
فلا تَعارُضَ بين الآيتَيْن.
سادساً: بين الأمر بالصفح والأمر بالغلظة:
يَرى الفادي الجاهلُ أَنَّ قولَه تعالى: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ، يَتناقَضُ مع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) .
ووجْهُ التناقضِ بينهما عندَه أَنَّ آيةَ سورةِ الحجرِ تأمُرُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصفحِ الجميلِ عن الكفار، وآيةَ سورةِ التوبة تأمُرُه بالغلظةِ على الكفارِ والمنافقين وجهادِهم، وهذا إِلغاءٌ لآيةِ الحِجْر.
إِنَّ الأَمْرَ بالصفح لا يَتَنَاقَضُ مع الأَمْرِ بالجهاد، لأَنَّ الصفحَ عن صنفٍ
من الكفار، والجهادَ لصنفٍ آخَرَ من الكفار.
الصفحُ عن كفارٍ مُسالمين، لا يَتآمرونَ على المسلمين، ولا يُحاربونَ
دينَهم، فهؤلاء تَجبُ دعوتُهم للإِسلام، فإِنْ لم يُلَبّوا الدعوة، وأَصرّوا على
كُفْرِهم، وانصرفوا إِلى أَنفسِهم، يَصفحُ عنهم المسلمون ويَتْرُكونَهم.
هذا ما تُقرر آيةُ سورةِ الحجر: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) .
وما تُقرره آيةُ سورةِ الزخرف: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) .
ثم إِنَّ الصفحَ عن الكفارِ كان في العهدِ المكي، حيثُ كانَ المؤمنون
مأمورينَ بكَفّ أَيديهم، وعَدَم قتالِ الكفار، لكنْ بعدَ الهجرة أَذِنَ اللهُ لهم
بالقتال، وأَمَرَهم بجهادِهم والغلظةِ عليهم.
فالأَمْرُ بالصفْح موقوتٌ بوقْت، وعندما يَنتهي ذلك الوقتُ، يأْتي الأَمْرُ بالجهاد.(1/545)
وهذا صريحٌ في قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) .
فالعفوُ والصفحُ مستمرّان إِلى أَنْ يأتيَ اللهُ بأَمْرِه، فيأمرَ المسلمينَ بأَمْرٍ
جَديد، وهو الجهادُ والقتال!.
أَما الأَمْرُ بجهادِ الكفارِ والمنافقين، والغِلظةِ عليهم فيه، فهذا مُوَجَّهٌ ضدَّ
صنفٍ آخَرَ من المنافقينِ والكافرين، وهم أولئك الحاقدونَ المتآمرونَ على
المسلمين، الذين يُحاربونَهم ويُهاجمونَ دينَهم.
وبذلك نجمعُ بين الأَمْرِ بالصفح والأَمْر بالغلظةِ في الجهاد، بأَنْ يُوَجَّهَ
كُلُّ أَمْرٍ إِلى صنف، ذي صفاتٍ خاصة، تختلفُ عن صفاتِ الصنفِ الآخَر،
وتَقييدِ أَحَدِ الأَمريْن بزمنٍ وعهدٍ خاصّ، فإِذا اختلفَ الزمانُ أَو المكانُ أَو
الأَشخاصُ فلا تَناقُضَ بين الأَمْرِ بالصلحِ والأَمرِ بالجهاد!!.
سابعاً: هل يأمر الله بالفحشاء؟
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَ القرآنَ تَناقَضَ في حديثِه عن الفحشاء، فهو يُخبرُ
أَنَ الله لا يامُرُ بالفحشاء، وذلك في قولِه تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) .
وهو يُثبتُ الأَمْرَ بالفحشاءِ لله، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) .
وليسَ الأَمْرُ كما فهمَه الجاهل، فمن المعلومِ أَنَّ اللهَ لا يأمُرُ بالفحشاء.
وهذا ما صَرَّحَتْ به آيةُ سورةِ الأَعراف، حيث رَدَّتْ على أَكاذيبِ الكافرين، فعندما كانوا يَفعلونَ الفاحشةَ كانوا يقولون: اللهُ أَمَرَنا بها، ويَرْضاها مِنّا، ولو لم يَرْضَها منّا ولم يأمُرْنا بها لأَهْلَكَنا عندما فَعَلْناها! فكَذبَهم اللهُ بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) .(1/546)
لقد حَرَّمَ اللهُ الفحشاءَ، فكيفَ يَامُرُ بها، واللهُ لا يَامُرُ إِلّا بالقِسْطِ
والخَيْر، ولذلكَ قالَ في الآيةِ التالية: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .
أَمّا آيةُ سورةِ الإِسراءِ فلا تَدُلُّ على أَنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالفحشاء، ولا تَتَناقَضُ
مع آيةِ سورةِ الأَعْراف، وإِنما تَلْتَقي معها في تقريرِ أَمْرِ اللهِ بالخيرِ والقسط،
ونهيِه عن الشَّرّ والفَحْشاء.
بماذا يَأمُرُ اللهُ المتْرَفين؟
هل يَأْمُرُهم بالفسق والفَحشاء؟
: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) .
يَستحيلُ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ المتْرَفين بالفسقِ والفحشاء، لأَنه سبحانه لا يَأمُرُ
بالفحشاء!
وفي قولِه: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) كلام مُقَدَّر، يَقْتَضيه السياقُ
والمعنى.
والتقديرُ: أَمَرْنا مُتْرَفيها بالطاعة، فَعَصوْا أَمْرَنا وفَسَقوا فيها، وبذلك
حَقَّ عليهم القولُ والحكمُ والعذاب، فأَهلكناهم ودَمَّرْناهم.
ومن المعلومِ أَنَ القرآنَ المعجزَ قد يَحذفُ بعضَ الكلماتِ من تعبيرِه قَصْداً،
حتى يُفَكَرَ فيه المتَدَبِّرون، ويُقَدِّروا الكلامَ الذي يَقْتَضيه السياق، ولا يَأْخُذوا الأَمْرَ على ظاهِرِه..
وهذا معنى لا يُدركُه الفادي الجاهلُ، المحجوبُ عن القرآن.
ثامناً: حول القسم بالبلد الأمين:
الْتَبَسَ على الفادي الجاهلِ قَسَمُ القرآنِ بالبَلَدِ الأَمينِ مكةَ المكرمة، فَظَنَّ
القرآنَ متناقضاً، لأَنه لا يقسمُ به في موضع، ويُقسمُ به في موضعٍ آخر!.
فهم قولَه تعالى: (لَاَ أقُسِمُ بِهَذَا البَلَدِ) نفياً للقَسَم به، واعْتَبَرَه مُنَاقضاً
للقَسَمِ الصَّريح به في قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) .
في سورةِ التينِ قَسَمٌ صريحٌ بالبَلَدِ الأَمين، حيثُ أَقْسَمَ اللهُ بأَربعةِ أَشْياء:
التينِ والزيتونِ وطور سينين والبلدِ الأَمين.
والمقسَمُ عليه الإِنسانُ، الذي خَلَقَه اللهُ في أَحسنِ تقويم، ثم رَدَّهُ أَسْفَلَ سافلين.(1/547)
وفي سورةِ البلدِ قَسَمٌ أَيْضاً، لكنَّه قَسَمٌ بأُسلوبِ آخَر: (لَاَ أقُسِمُ بِهَذَا
البَلَدِ) .
إِنَّ هذا ليسَ نفياً للقَسَم كما فَهِمَه الفادي الجَاهل، إِنما هو توكيدٌ
للقَسَم.
و" لا " هنا ليستْ حرفَ نَفْيِ في الحقيقة، إِنما هي للتوكيد، من باب
التلويحِ بالقَسَم.
وكأَنه يَقول: لا تجَعَلْني أُقسمُ بهذا البلد، فالأَمْرُ أَوضَحُ مِن
أَن يحتاج إِلى قَسَم.
وهذا أَبلغُ في القَسَمِ مما لو قال: أُقسمُ بهذا البَلَد.
تاسعاً: حول المنافقين:
لم يُوَضِّح الفادي الجاهلُ: " التناقضَ التاسع " الذي سَجَّلَه على القُرآن،
فَذَكَرَ عمودَيْن: الأَوَّل سَمّاه " النهيُ عن النفاق "، والثاني سَمّاه " الإِكراهُ على النفاق ".
وسَجَّلَ في العمودِ الأَوَّلِ قولَه تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) .
كما سَجَّلَ قولَه تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) .
في هذه الآياتِ التي سَجَّلَها تَهديدٌ شديدٌ من اللهِ للمنافقين، ووعيدٌ لهم
بالعذاب، وعرضُ بعضِ تصرفاتِهم وأَفعالِهم وأَقوالِهم القبيحة.
وسَجَّلَ في العمودِ الثاني الذي سَمّاهُ " الإِكراه على النفاق " قولَه تعالى:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) .
ولا حَديثَ في الآيةِ عن المنافقين، إِنما تتحدَّثُ عن اليهودِ والنصارى،
وكُفْرِهم بالله، ونسبتِهم إِلى الله الولد، مضاهاةً وتقليداً لأَقوالِ الكافرين(1/548)
من قبلِهم.
فكيف اعتبرَ الفادي الجاهلُ الآيةَ من بابِ " الإِكراه على النفاق "؟!
وما مقصودُه بهذا العنوان؟
هل يَقصدُ أَنَّ اللهَ يُكْرِهُ اليهودَ والنَّصارى على النفاقِ
إِكْراهاً، ويأْمُرُهم به أَمْراً؟
وهل الآيةُ تتحدَّثُ عن ذلك؟
لا أَدري كيفَ يُفكرُ هذا الجاهل، وكيفَ ينتقدُ القرآنَ!!.
ثم سجلَ قولَه تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) .
والآيةُ لا تتحدثُ عن المنافقين، وإنما تتحدثُ عن إِهلاكِ وتدميرِ السابقينَ من الكافرين..
فأَينَ الإِكراهُ على النفاق في كلماتِ الآية؟!.
كلامُ الفادي الجاهلِ حولَ التناقضِ التاسع غيرُ واضح، فضلاً عن أَنه
باطل، لأَنه لا تَناقُضَ في القرآن، ولا تَناقُضَ بين الآياتِ التي زَعَمَ هو
تناقُضَها.
عاشراً: بين النهي عن الهوى وإباحته:
افْتَرى الفادي المفترِي على القرآن، وعلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى المسلمين، فزعَمَ أَنَّ القرآنَ تناقَضَ بين تحريمِ الهوى وإِباحتِه، وزعَمَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان يَتبعُ هواه وشهوتَه.
أَثنى اللهُ على الصالحِ الملتزم الذي نهى نفسَه عن هواها؟
قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) .
وبعدَ أَنْ أَوردَ المفترِي الآيةَ زَعَمَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ أَوَّلَ مَنْ خالَفَها، لأَنه اتبع هواه، وأَباحَ ذلك لأَصحابه!!.
أ - قال المفترِي: " أَباحَ محمدٌ لأَتْباعِه القيامَ بالغاراتِ الدينية، والدخولَ
على الأَسيراتِ دونَ تطليقِهنَّ من أَزواجِهن، فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ..)
قالَ البيضاوىِ: إِلّا ما ملكتْ أَيمانُكم من اللّاتي سُبينَ، ولهنَّ أَزواجٌ كُفار، فهنَّ حَلالٌ للسّابين، والزواجُ مرتفعٌ بالسَّبْي،(1/549)
لقول أَبي سعيدٍ - رضي الله عنه -: أَصَبْنا سبايا يومَ أَوطاس، ولهنَّ أَزواجٌ كُفّار، فكَرِهْنا أَنْ نقعَ عليهن، فسأَلْنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية فاستحلَلْناهُنَّ.
وإِيّاهُ عنى الفرزدقُ بقوله:
وذَاتُ حَليلٍ أَنكحَتْها رِماحُنا ... حَلالٌ لمنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ "
الفادي خَبيثٌ مُغرضٌ في قوله: " أَباحَ محمدٌ لأَتْباعِه القيامَ بالغاراتِ
الدينية " لأَنه يَجعلُ الصحابةَ مجموعةً من العصاباتِ وقُطّاعِ الطرق، يُغيرونَ
على الآمِنين المسالمين، ويَجعلُ الجِهادَ في سبيلِ الله سَلْباً ونَهْباً وقَطْعاً
للطريق، مع أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابَه كانوا يُجاهدونَ في سبيلِ الله، ويُقاتلونَ المحاربينَ لهم، والطامِعين فيهم.
والفادي كان مُفْتَرٍ في قولِه: " والدخولَ على الأَسيراتِ دون تطليقِهن
من أَزواجهن "، فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) !! ولم يَقُلْ ذلك أَيُّ مذهبٍ إِسلامي، ولا أَيُّ عالمٍ مسلمٍ مُعْتَبَر.
الأَسيراتُ هُنَّ النساءُ الكافراتُ المحاربات، اللّواتي يَخْرُجْنَ مع الرجال
الكفارِ لحربِ المسلمين، وعندما تَنْتَهي المعركةُ بهزيمةِ الكفار، تَقعُ بعضُ
أولئك النساءِ المحارباتِ في السَّبْي، فهنَ سبايا، ولَسْنَ " أَسيرات " كما ادَّعى
المفتري الفادي؛ لأَنَّ للأَسيرِ الكافرِ المحاربِ أَحكاماً خاصة، غيرَ أَحكامِ
السبايا.
عندما يأخذُ المسلمون هذه النساءَ المقاتلاتِ سَبايا، ماذا يريدُ الفادي
المفتري من المسلمينَ أَنْ يَتصرفوا معهنّ؟
هل يعيدونهنَّ إِلى الجيشِ الكافرِ مجنَّداتٍ فيه، ليَعُدْنَ إِلى حربِ المسلمين من جديد؟.
الإسلامُ اعتبرهنَّ سبايا، وبما أَنهنَّ ليس لهنَّ أَهْل، فلَنْ يُتْرَكْنَ " على
رؤوسهن " في بلادِ المسلمين، يَنشرنَ الفاحشةَ والفساد، فلا بُدَّ أَنْ يُوَزَّعْنَ على المجاهدين، بحيثُ يُؤوي المجاهدُ السَّبِيَّةَ، ويتكفلُ بأُمورها وحاجاتِها.(1/550)
وهذه السَّبِيَّةُ تكونُ مِلْكاً له، لأَنه سيدُها والمسؤولُ عنها، ولذلك أَطْلَقَ
عليها القرآنُ (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ، وهو يُلَبّي لها حاجاتِها الجنسيةَ بالإِضافةِ إِلى باقي حاجاتِها.
لكن متى يُعاشرُ المسلمُ سبيتَه؟
ليس بمجردِ حصولِه عليها، ولكنْ بعدَ أَنْ " تَحيضَ " حيضةً عنده، وذلك " لاستبراءِ " رَحِمها، لأَنَّ مجيءَ الدورةِ الشهريةِ لها معناهُ أَنها ليستْ حامِلاً من زوجِها الكافر، فإِنْ كانَتْ " حامِلاً " لا يُعاشِرها سيدُها إِلّا بعدَ ولادتِها.
وبهذا نعرفُ كَذِبَ الفادي المفترِي عندما قال: " أَباحَ محمدٌ لأَتْباعِه
الدخولَ على الأَسيرات دونَ تطليقهِن من أَزواجهنّ ".
فالمسلمُ لا يُعاشرُ أَمَتَه إِلّا بعدَ حيضتِها.
ومعلوئم أَنَّ وُقوعَها في السَّبْيِ - وهي المحاربةُ للمسلمين -
يُنهي علاقَتَها بزوجِها الكافر، ولا تَحتاجُ إِلى تطليق منه!.
وهذا معنى كلامِ البيضاوي: " ما ملكتْ أَيمانُكم، من اللّاتي سُبينَ ولهنَّ
أَزواجٌ كُفار، فهنَّ حَلال للسّابين، والزواجُ مرتفعٌ بالسبي ".
ونُزولُ الآيةِ في سَبايا " أَوطاس " كما ذَكَرَ البيضاويُّ صحيح.
روى مسلمٌ عن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أَنَّ أَصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أصابوا سَبْياً يومَ أَوطاس، لهنَّ أَزواجٌ من أَهْلِ الشرك، فكانَ أُناسٌ من أَصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
كَفّوا وتَأَثَّموا من غِشيانِهنّ، فنزلَتْ هذه الآية.
وروى الترمذي الحادثة بلفْظٍ آخر، عن أَبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: أَصَبْنا سَبْياً من سَبْي أَوطاس، ولهنَّ أَزواج، فكَرِهْنا أَنْ نَقَعَ عليهنَّ ولهنَ أَزواج، فسأَلْنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلَتْ هذه الآية ...
وكانتْ غَزوةُ أَوطاس في السنةِ الثامنةِ من الهجرة بعدَ غزوةِ حنين، وقد
هُزِمَ فيها جيشُ المشركين، ووقعَتْ بعضُ المشركاتِ المحارباتِ في الأَسْر،
فأَخذهنَ المسلمون سبايا، ووَزَّعَهُنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المجاهدين، وكان بعضُهنَّ متزوجاتٍ من المشركين، فتحرَّجَ بعضُ المسلمين عن معاشرتِهن،(1/551)
ولما سألوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَباحَ لهم معاشرتَهن، وأَنزلَ اللهُ الآيةَ في إباحةِ ذلك، وهذا بعدَ استبرائِهن، بأَنْ تَحيضَ الأَمَةُ عند سيدِها حَيْضة، ويَثبتَ له عدمُ حَمْلِها.
ومعنى هذا أَنَّ وُقوعَ الكافرةِ المقاتلةِ في السَّبْيِ يُنهي زَواجَها من زوجِها
الكافر، لكنها لا تَحِلُّ لسَيِّدِها إِلّا بعدَ استبرائِها وحيضِها عندَه.
ولذلك قال ابنُ كثيرٍ في تفسير الآية: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) : إِلّا ما ملكْتُموهن بالسَّبْي، فإِنه يَحِلُّ لكم وَطْؤُهنَّ، إِذا استبرأْتُموهن ".
وبهذا نعرفُ أَنَّ ما فعلَه الصحابةُ بالسبايا يومَ أَوطاس اتِّباع لشرعِ الله،
وليس اتِّباعاً للهَوى، كما زَعَمَ المفْتري! وكان الصحابةُ مُحاربينَ لأَهوائِهم،
نَهوا نُفوسَهم عن الهوى، كما أَمَرَهم الله سبحانه.
ب - افترى الفادي على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عندما قالَ: إِنه كانَ مُتَّبِعاً لهَواه وشهوتِه، وذلك في قولِه الفاجر: " أَباحَ محمدٌ الزواجَ بأَيِّ مَنْ تَهواهُ ويَهْواها، بلا قَيْدٍ أَوْ شَرط، فوقَ زوجاتِه العديدات، وفوقَ ما ملكَتْ يمينُه، فقال: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
زعمَ الفادي أَنَّ القرآنَ من تأليفِ وكلامِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وليس وحياً من عندِ الله، ولذلك نَسَبَ الآيةَ من سورةِ الأَحزابِ إِليه، وليسَ إِلى اللهِ، وأَسندَ الحكمَ الذي فيها إِليه، وليسَ إِلى الله، فقال: أَباحَ محمدٌ لنفسِه الزواج ...
وانظرْ إِلى وقاحَتِه وسوءِ أَدبه وفجورِه، وهو يتكلَّمُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَباحَ محمدٌ الزواجَ بأَيّ مَنْ تَهواهُ ويَهْواها بلا قَيْدٍ أَو شَرْط ... ".
ونُنزهُ حَبيبَنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الكلامِ السوقيِّ الساقط، فكيفَ يُتَّهَمُ بأَنه يَهوى ويَعشقُ امرأةً ليستْ زوجاً له؟
وكيفَ تَهواهُ وتعشقُه امرأةٌ أَجنبيةٌ عنه؟!.
وما أَباحَتْه الآيةُ له ليس اتّباعاً للهَوى والشهوة، إِنما هي حالَةٌ خاصة،(1/552)
في امرأةٍ خاصةٍ واحدة، لم تتكرَّر له ولا لغيرِه: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
روى البخاريُّ ومسلمٌ عنْ سهلِ بنِ سعدٍ الساعديّ - رضي الله عنه - قال: إِني لفي القومِ عندَ رسولِ اللهِ - عليه السلام - إِذ قامت امرأةٌ، فقالَتْ: يا رسولَ الله! إِنها قد وَهَبَتْ نفسَها لك، فَرَ فيها رأَيَك.
فلم يُجِبْها شيئاً.
ثم قامت فقالَتْ: يا رسولَ الله!
إِنها قد وَهَبَتْ نفسَها لك، فَرَ فيها رأيَك.
فلَم يُجِبْها شيئاً.
ثم قامت الثالثةَ
فقالَتْ: إِنها قد وهبَتْ نفسَها لك، فَرَ فيها رأْيَكَ.
فقامَ رجل فقالَ: يا رسولَ الله: أَنْكِحْنِيها.
فقال: هل عندَك من شيء؟.
قال: لا.
قال: اذهَبْ فاطلُبْ ولو خاتَماً من حديد.
فذهَبَ وطَلَبَ، ثم جاءَ فقال: ما وجدْتُ شيئاً، ولا خاتَماً من حَدِيد!
قال: هل معكَ من القرآنِ شيء؟.
قال: معي سورةُ كذا وسورةُ كذا.
قال: أَنْكَحْتُكَهَا بما مَعَك من القرآن! ".
هذه المرأةُ وهبتْ نفسَها للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بمعنى أَنها فَوَّضَتْ أَمْرَها إِليه، لأَنه إِمامُ المسلمين، وهو أَوْلى بهم من أَنفسِهم، وصَرَّحَ القرآنُ بذلك، قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
عندما فَوَّضَتْ أَمْرَها إِليه قالَتْ له: فَرَ فيها رَأْيَك! وليس معنى هذا أَنها
رَمَتْ نفسَها عليه، وأَنها هَويَتْه وعشقَتْه، وطلبَتْ منه أَنْ يتزوَّجها، إِنما فوَّضَتْه في التصرُّف المناسب، وأَعَادَتْ عليه الكلامَ ثلاثَ مرات، فطلبَ رجَلٌ من المسلمين أَنْ يُزَوِّجَه إِياها، لأَنه وَليُّ أَمْرِها، فطَلَبَها منه كما يطلبُ أَيُّ خاطبٍ البنتَ من أَبيها، فزوَّجها له بما معه من القرآن!.
أَينَ هذا من اتِّهامِ الفادي المفترِي الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بالهوى والشهوةِ، وهو لم يتزوَّجْ تلك المرأة، إِنما زَوَّجَها لأَحَدِ أَصْحابه؟.
ب - استدلَّ الفادي المفترِي على أَنَّ المسلمينَ مُتَّبعون لأَهوائِهم
وشهواتِهم: بأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَدَهم بالاستمتاعِ الجنسيّ بالحورِ العينِ في الجنة!
قال: " كما أَنَّ محمداً جعلَ نِكاحَ النساءِ أَمَلَ المستقبلِ في الجنة، فقال:(1/553)
(حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) .. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) .. (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) .
الفادي وأَهْلُ ملَّتِه يُؤْمنون بأَنَ نَعيمَ الجنةِ معنويّ وليس ماديّاً، فليس في
الجنةِ طَعامٌ ولا شرابٌ ولا استمتاعٌ بالنساء! ولذلك اعتبرَ حديثَ القرآنِ عن
نساءِ الجنةِ من بابِ إِغراءِ المسلمين بذلك، لأَنهم مُتَبِعون للهوى.
أَما نحنُ المسلمين فإِنَنا نؤمنُ أَنَّ نعيمَ الجنةِ مادّيّ ومعنوي، ففيها طَعامٌ
وشَرابٌ واستمتاعٌ بالنساء، وفيها قُصورٌ وأَثاث، وأَرائكُ ولباس، وفيها بساتينُ وجنات، وفيها فوق هذا كُلّه رضوانٌ من اللهِ عليهم، وسَعادَةٌ غامرةٌ تَملأُ حياتَهم " قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) .
وهم لم يَدْخُلوا الجنةَ إِلّا بعدما صَدَقوا مع اللهِ في الدنيا، وأَحسنوا
عبادَتَه، ونَهوا نُفوسَهم عن الهوى والشهوةِ في الدنيا " قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) .
أحد عشر: التناقض في الخمر بين الحل والحرمة:
كيفَ حَرَّمَ اللهُ الخمرَ في الدنيا، وأَباحَها للمؤْمنين في الجَنَّة؟
اعتبرَ الفادي هذا تَناقُضاً في القرآن.
ذَكَرَ الآيةَ التي حَرَّمت الخمرَ في الدُّنيا، وهي قولُ اللهِ - عز وجل - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) .
وذَكَرَ مُقابِلَها الآيةَ التي أَباحت الخمرَ في الآخرة، وهي قولُ اللهِ - عز وجل -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى..)
وذكر بجانبها قوله تعالى عن شرب المؤمنين الخمر فىِ الجنة، وهي قوله تعالى: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) .(1/554)
ولا تَناقُضَ بين حديثِ القرآنِ عن حرمةِ الخمرِ في الدنيا وإِباحتِها في
الآخرة، لأَنَّ خمرَ الدنيا ليستْ كخمر الجَنّة.
خمرُ الدنيا من أَسلحةِ الشيطانِ في إِغواءِ وإِفسادِ الناس، وإِيقاعِ - العَداوةِ والبغضاءِ بينهم، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) .
وخمرُ الدنيا تذهبُ بعقولِ شاربيها، فعندما يَسكرونَ يَفقدونَ السيطرةَ
على أَقوالِهم وأَفعالهم، ولذلك حَرَّمَها اللهُ على الناس.
وخمرُ الجنة منزهةٌ عن هذه العيوبِ والمفاسد، فلا سُلطانَ للشيطانِ
عليها في الجنة، وهي لا تَغتالُ عُقولَ شاربيها المؤمنين، قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) .
وقال لعالى: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) .
فالخمرُ السيئةُ التي حَرَّمَها اللهُ في الدنيا أُمُّ الخبائث، وهي غيرُ الخمرِ
الطيبةِ التي أَباحَها اللهُ للمؤمنينَ في الجنة.
فلا تَناقُض بين حرمةِ هذه وإِباحةِ تلك!!.
ثاني عشر: بين النهي عن إيذاء الكفار والأمر بقتالهم:
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ مُتناقضٌ في حديثِه عن الكافرين، وفي
توجيهِ المسلمين إِلى كيفيةِ التعاملِ معهم، فأَوردَ خمسَ آياتٍ تَنْهى عن إِيذاءِ
الكفار، وتأمرُ المسلمين بحسنِ معاملتِهم، وأَوردَ في مقابِلِها خمسَ آياتٍ
تتناقضُ معها، وتأمرُ المسلمينَ بقتالِ الكفارِ وقَتْلِهم:
أ - نهى اللهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن إِيذاءِ الكفار، قال تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) .
الآيةُ محكَمة، وهي تَنهى عن إِيذاءِ الكافرين والمنافقين، صَحيح، لكن
مَنْ هم الذينَ تَنهى الآيةُ عن إِيذائِهم، إِنهم الكافرونَ والمنافقونَ الذين(1/555)
لا يُؤذونَ المسلمين، ولا يَتَآمرون عليهم، ولا يُحاربونَهم، وإِنما هم مُوادِعونَ مُسالِمون ساكتون، ومن المعلومِ أَنَّ إِيذاءَ المسالمِ الساكنِ عدوانٌ عليه، وهذا محرمٌ في الإِسلام.
ولا ننسى أَنَّ الآيةَ التي نهتْ عن إِيذاءِ الكافرين والمنافقين، نَهَتْ أَيْضاً
عن طاعتِهم ومتابعتِهم وموافقتِهم على باطلِهم، ولا بُدَّ أَنْ نجمعَ بينَ جملتي
الآية، ولا يَجوزُ أَنْ نُلغيَ الجملةَ الأولى ونُبقي الجملةَ الثانية: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) .
ب - أَوردَ الآيةَ التي تَنْهى عن الإِكراهِ في الدين؟
قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) .
تَنهى الآيةُ إِكْراهَ أَي كافرٍ على الدخولِ في الدينِ الإِسلامي، لأَنَّ
الدخولَ في الإِسلامِ لا بُدَّ أَنْ يكونَ عن اقتناع.
لكن لا يعني هذا أَن لا نَدْعوه للإِسلام، فلا بُدَّ أَنْ نُفَرقَ بين الدعوةِ والإِكراه ...
يَجبُ علينا أَنْ نَدعوَ كُلَّ كافرٍ للدخولِ في الإِسلام، مهما كان دينه، لأَن الإِسلامَ دعوةٌ للعالمين جميعاً.
وعندما نوجِّهُ له الدعوةَ نكون قد أَدَّيْنا الواجبَ الذي علينا، فإِن
استجابَ للدعوة واعتنقَ الإِسلام، فازَ وأَفْلح، وإِنْ رفضَ الدعوةَ وأَصَرَّ على كفره كان من الخاسرين، ونحن لا نُكرهُه على الإِسلام، ولا نُؤْذيه لِكفرِه طالما هو متوقّفٌ عن إِيذائِنا، فإِنْ آذانا دَفَعْنا الإِيذاء.
جـ - أَوردَ الآيةَ التي تُرشدُنا إِلى مساعدةِ الكفار مالِياً، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) .
ليسَ علينا هدى الكفار، لكن بَعْدَ أَنْ نُوَجِّهَ لهم الدعوةَ، ونُقدمَ لهم
المساعدةَ الماليةَ إِذا كانوا محتاجين، وهذا بعدَ أَنْ يُعْلِنوا خُضوعَهم لسلطانِ(1/556)
المسلمين، بدفْعِ الجزية، ويَكُفّوا أَيديهم عن إِيذاءِ المسلمين.
ومن روائع ما يُروى عن أَميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - أَنه رأَى نصرانياً عَجوزاً هَرِماً محتاجاً، فأَمَرَ بإِعطائِه مساعدةً من بيتِ مالِ المسلمين، وقال: ما رحمْنا الرجلَ إِذا أَخَذْنا منه المال - الجزية - شابّاً، وتخلَّينا عنه وهو هَرِم!.
د - زَعَمَ الفادي أَنَّ اللهَ أَمَرَ المسلمينَ بتَرْكِ الكفارِ وشأنهم، واستدلَّ
على ذلك بقوله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) .
وهذا استدلالٌ باطلٌ، فإِنَّ الآيةَ صريحةٌ في دعوتِهم للدخولِ في
الإِسلام، قال تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) .
إِنه لا يتركُهم وشأْنَهم، وإِنما يُحاججُهم ويُحاجّونَه، ويُكَلِّمُهم ويُكَلِّمُونَهُ،
فإِنْ لم يَسْتَجيبوا له صارحَهم بإِسْلامِه، وهو يَدْعوهم دعوةً صريحةً للدخولِ في الإِسلام: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ) .
فإِنْ رَفَضوا الدعوةَ وأَصَرّوا على الكفر، أَيْقَنّا أَنهم كافِرون خاسِرون
هالِكون، وإِنْ كَفُّوا أَيديَهم عن إِيذائِنا تَرَكْناهم وشأنهم.
واستدلَّ أَيضاً على تركِ الكافرين بقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) .
وهذا استدلال باطل أَيضاً، لأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - مأمورٌ بتبليغِ الكفارِ الدعوة، وإِقامةِ الحجةِ عليهم، فإِنْ رَفَضوا الدعوةَ تركَهم وشأنَهم، ويكونُ قد قامَ بواجبِه، ولم يجعَلْه اللهُ حَفيظاً ولا وكيلاً عليهم، ولم يأمُرْه بقذْفِ الإِيمانِ في قلوبِهم، لأَنَّ هذا بيدِ الله.
واستدلَّ الفادي الجاهلُ أَيضاً على وجوبِ تركِ الكافرين وشأنهم بقولِه(1/557)
تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
لا تَنفي الآيةُ وُجوبَ دعوةِ الكفارِ للإِسلام، فإِنّ هذا واجبٌ على
الدعاةِ، إِنما تَنفي إِكراهَ الكفارِ على الإِيمان، لأَنه لا إِكراهَ في الدينِ، وبعدَ
تبليغِ الدعوةِ وإِقامةِ الحجةِ يُتْرَكُ الكفارُ وشأنهم.
هـ - أَمَرَ اللهُ المسلمين بدعوةِ الكفارِ إِلى سبيلِ اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ
الحسنة، وأَوردَ الفادي قولَه تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) .
والآيةُ محكمة، وتوضحُ لنا أُسلوبَ الدعوة، وكيفيةَ التعاملِ مع
الآخَرين، وتقديمِ الدعوة لهم، وإِقامةِ الحجةِ عليهم.
وأَوردَ الفادي المفترِي خمسَ مَجموعاتٍ من الآياتِ، اعْتَبَرَها متناقضةً
مع المجموعاتِ السابقة، ولذلك اتهمَ القرآنَ بالتناقض.
1 - أَمَرَ اللهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتحريضِ المؤمنين على قِتالِ الكافرين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..) .
واعتبرَ الفادي الآيةَ متناقضةً مع الآيةِ التي تَنْهى عن إِيذاءِ الكافرين، وهي قولُه تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) .
ولا تَناقُضَ في الحقيقةِ بينَ النهيِ عن إِيذاءِ الكافرين، والأَمْرِ بالتَّحريضِ
على قِتالِهم، لأَنَّ الكفارَ نوعان: النهيُ عن الإِيذاءِ ينطبقُ على نوعٍ من الكفار، وهم الكفارُ المسالمونَ المحايدون، الذين لا يَتآمرونَ على المسلمين ولا يُحاربونهم.
أَمَّا الأَمْرُ بقتالِ الكفارِ فإِنه ينطبقُ على نوعٍ آخرَ من الكفار، وهم
الذين يَتَآمَرونَ على المسلمين ويُحاربونَهم، ويَطْعَنونَ في دينِهم، ويَمنعونَ
دعوتَهم، ويَفْتِنون الناسَ عن الإِسلام.(1/558)
2 - لا تَناقُضَ بين قولِه تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ، وبينَ قولِه تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) .
تمنعُ الآيةُ الأُولى إِجبارَ الكفارِ على اعتناقِ الإِسلام، لأَنَّ
الإِسلامَ لا يَقبلُ الإِكراهَ والإِجبار، ولا بُدَّ من أَنْ يَقتنعَ الإِنسانُ بالإسلامِ قناعةً خاصّة، ينتجُ عنها اعتناقُه الإِسلام، ولكنَّ عَدَمَ إِكراهِهم على اعتناقِ الإِسلام لا يُلْغي وُجوبَ دعوتهِم للدخولِ فيه، فعلى الدعاةِ أَنْ يَدعوهم لهذا الدين، لأَنه رسالةٌ عالمية، ودينُ اللهِ للعالَمين جَميعاً، فإِنْ رَفَضوا الدعوةَ وأَصَرّوا على كفرِهم تركْناهم وشأْنَهم، وحسابُهم عند اللهِ، على أَنْ يَخْضَعوا لسلطان المسلمين.
فإِذا وَقَفَ الكفارُ أَمامَ الدعاة، ومَنَعوهم من أَداءِ واجبِ الدعوةِ، وفتنوهم
وآذوهم وعَذَّبوهم واضطهدوهم، كانوا هم المعْتَدين الظالمين، وعند ذلك أَباحَ لنا اللهُ مواجَهَتهم، وأَمَرَنا بقتالِهم، والدفاعِ عن الناسِ المعَذَّبين المفتونين الذينَ تحتَ سُلطانِهم! وإِذا تَركوا الدعاةَ يَدْعونَ ويتحركون، ولم يَتَعَرَّضوا لهم بفتنةٍ ولا إِيذاء - وهذا نادراً ما يحصلُ من الكفار - فإِنهم لا يُقاتَلون.
3 - لا تَناقُضَ بين تقديمِ الأَموالِ والمساعداتِ للكفار، الذي أَشارَ له
قولُه تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) ، وبينَ الأَمرِ بقتالِهم حتى يَدفعوا الجزيةَ، الذي وَرَدَ في قولِه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
فإِنَّ القتالَ مُوَجَّهٌ للكفارِ المقاتلينَ المحاربينَ المعتدينَ على المسلمين، المتآمِرين عليهم، وهم يُقاتَلونَ لأَنهم هم البادئونَ بالعُدوانِ والقتال، والبادئُ
أَظلم..
فإِذا هُزِمَ الكفارُ المقاتِلون فلا بُدَّ أَنْ يَخْضَعوا لسلطانِ المسلمين،
ويَعْتَرفوا بقوَّتهم، والدليلُ على ذلك دفعُ الجزيةِ لهم، وهذه الجزيةُ على
القادرين منهم، يَدْفَعونَها للمسلمين مقابلَ حمايتِهم لأَنفسِهم ودمائِهم
وأَموالِهم، ودفاعِهم عنهم.(1/559)
وإِدْا كان هؤلاء الكفارُ المسالمونَ مُحتاجين إِلى المال، وَجَبَ على
المسلمين تَقديمُ المساعدةِ لهم، وهم مأجورونَ على ذلك: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) .
4 - لا تناقُضَ بين تركِ الكفار وشأنِهم الذي قد يُؤْخَذُ من قوله تعالى:
(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، ولا بين ملاحقتِهم والأَمْر بقتالِهم، الذي وَرَدَ في
قولِه تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) .
إِنَّ تركَهم وشأنَهم يكونُ بعد تقديمِ الدعوةِ الإِسلاميةِ لهم، وإِقامةِ الحجةِ
عليهم، فإِنْ أَصَرّوا على كُفْرِهم، تَرَكَهُم المسلمون وشَأنَهم، بشرطِ أَنْ لا
يَتَآمَروا على المسلمين، ولا يَقِفوا أَمامَ دينِهم، ولا يَطْمَعوا فيهم، وهذا ما
تُقررُه آيةُ سورةِ يونس.
أَما إِذا تآمَرَ الكفارُ على المسلمين، وحارَبوهم، أَو فَتَنوهم عن دينهم،
ونَشَروا بينهم الكفرَ والفساد، فإِنهم يكونونَ مُعْتَدين على المسلمين، وعند ذلك يُقاتِلُ المسلمون هؤلاء الكفارَ المُعْتَدين الظالمين، وهذا ما تصرحُ به آيةُ سورةِ النساء، فهي تتحدثُ عن صنفٍ خاصٍّ من الكفار، وهم الذين قالَتْ عنهم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) .
إِنهم يَحرصون على كفرِ المسلمين، ويَنشرونَ بينهم الكفر والانحراف، ليستووا معهم، فإِن لم يَتَوقَّفوا عن هذا العدوان وَجَبَ على المسلمين قِتالُهم وأَخْذُهم: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
5 - لا تَناقُضَ بين وُجوب دعوةِ الكفارِ بالحسنى، الذي وَرَدَ في قولِه
تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، وبينَ الأَمْرِ بقتالِهم، الذي وَرَدَ في قوله تعالى:(1/560)
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
إِنَّ الدعوةَ هي أَولُ ما يُوَجَّهُ إِلى الكفار، وهي لا تَكونُ إِلّا بالحكمةِ
والموعظةِ الحسنة، فإِنْ رَفَضوا الدعوة، وقاموا بقِتالِ المسلمين وَجَبَ على
المسلمين قِتالُهم لأَنهم معتدون ظالمون.
وكم كان الفادي مُفْتَرِياً عندما اعتبرَ قِتالَ الكفارِ المقاتِلينَ دعوةً بالسيف،
علماً أَنَّ السيفَ لم يكنْ يوماً أُسلوباً من أَساليبِ الدعوةِ إِلى الإِسلام، لأَنه
يَهدفُ إِلى تحطيمِ قوةِ الكفارِ العسكرية، التي يُحارِبونَ بها الإِسلام
والمسلمين، ويَحرمونَ شعوبَهم من نورِ الإِسلام، وعندما يَتحققُ هذا الهدفُ
بالقتالِ وتَتحطمُ قوةُ الكفارِ العسكرية، ويَخضعونَ لسلطانِ المسلمين، يتوقَّفُ المسلمونَ عن قتالِهم وقَتْلِهم، ويتوجَّهون إِلى شعوبِهم بالدعوة، التي لن تكونَ إِلَّا بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة.
وكان الفادي كاذباً على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عندما قالَ عنه: " لهذا فَتَكَ محمدٌ بمعارضيه في الدين، مثلُ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، وأَبي عَفْك، وأَبي رافعِ بنِ أَبي عَقيق ".
إِنه لا يُحسنُ قراءةَ الأَسماء، فالثاني ليس " أَبا عَفْك الشيخ "، وإِنما هو
" ابنُ أَبي عَفْك "، والثالث ليس: " أَبا رافع بنِ أَبي عَقيق "، وإِنما هو: " أَبو رافع بنُ أَبي الحقيق ".
ولقد أَمَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِ هؤلاءِ الثلاثة - وآخرينَ غيرِهم مَعْروفين في كتبِ السيرة - ليس لأَنَّهم كُفارٌ مُعارِضونَ له في الدين، فقد كان كُفار كَثيرون يُعارضونَه في الدّين، ويَسْتَحِبّونَ الكفرَ على الإِيمان، ومع ذلك لم يَقْتُلْهم، وكان منهم منافقون مثلُ عبدِ الله بن أُبَيّ، وكان منهم يهودٌ مثلُ كَعْبِ بنِ أَسَد، زعيمِ يهودِ بني قريظة، الذي عَقَدَ معه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَهْداً، ومثلُ حُيَيِّ بنِ أَخْطَب زعيمِ يَهودِ بني النضير، الذي عَقَدَ معه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عهداً آخر.(1/561)
قَتَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكفارَ الثلاثة: ابنَ الأَشرف، وابنَ أَبي عفك، وابنَ أَبي الحقيق، لأَنهم تآمَروا على المسلمين، وجَيَّشوا الجيوشَ ضدَّ المسلمين، وحَرَّضوا الآخَرين على قتالِهم، وشَنّوا على المسلمينَ حَرْباً إِعلاميةً شَعْواء، وبذلك كانوا مُعْتَدين، فَقَتَلَهم لعدوانِهم وليس لمجرد كفرِهم، كذلك قَتَلَ ابْنَ أَخطب وابْنَ أَسَد لأَنهما نقضا عَهْدَهما معه، وحارَباه مع جنودِ الأَحزاب.
"ثالث عشر: هل نجا فرعون أم غرق؟ :
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ تَناقَضَ في حديثِه عن نهايةِ فرعون، فذكَرَ
في سورتي الإِسراءِ والقَصصِ أَنه غَرِقَ مع جنودِه في اليَمّ، وذَكَرَ في سورةِ
يونس أَنَّ اللهَ نَجَّاه ببدنِه..
فهل نَجا أَمْ غَرِق؟!.
كانَ القرآنُ صَريحاً في إِخبارِه عن غَرَقِ فرعونَ مع جنودِه، وأَوردَ الفادي
آيتَيْن صريحتَيْن بذلك، هما: قولُه تعالى: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) .
وقولُه تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) .
والآيةُ التي لم يَفهم الفادي مَعْناها لجهْلِه، فاعْتَبَرَها إِخباراً عن نجاةِ
فرعونَ من الغرقِ هي قولُه تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) .
دليلُ عدمِ موتِ فرعونَ ونجاتِه من الغرقِ في نظرِ الفادي الجاهلِ جملَةُ:
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) ، أَيْ: أَنَّ اللهَ أَنْقَذَهُ من الغَرق، ونَجّاه ببدَنِه وروحِه(1/562)
وعادَ إِلى شعبه مَلِكاً عليهم! وهذا فهمٌ خاطئ يَدُلُّ على جهلِ الفادي بلغةِ
القرآن.
تتحدَّثُ آياتُ سورةِ يونس عن اللحظاتِ الأَخيرةِ من حياةِ فرعون..
لما لحقَ فرعونُ وجنودُه موسى - عليه السلام - وأَتْباعَه، وأَنْجى اللهُ موسى ومَنْ معه، ودَخَلَ فرعونُ وجنودُه الطريقَ اليَبَسَ في البحر، أَطبقَ اللهُ عليهم البحر، وصاروا تحتَ الماء، فأَهلكهم الله.
أَمّا فرعونُ فلم يكتفِ القرآنُ بذكْرِ وفاتِه، وإِنما ذَكَرَ اللحظاتِ الأَخيرةَ من
حياتِه، قبلَ خروجِ روحِه، وذِكْرِ ماذا قالَ وماذا قيلَ له..
أَطبقَ اللهُ عليه الماءَ، وصارَ هو تحتَ الماء، ولما أَدركَه الغرق وأَحاط به من كُلِّ جانب، وأَيقنَ بالموت، أَعلنَ إِيمانَه بالله، الذي حارَبه وهو في قمةِ مُلْكِه: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) .
وكان بجانِبه الملائكةُ الموكَّلون بقبضِ روحه، وسَمعوهُ وهو يُعلنُ إِيمانَه،
وأَحَبّوا أَنْ يُشْعِروهُ بخسارتِه، ليزدادَ نَدَماً وخِزْياً قبلَ موتِه، فأَمرهم اللهُ أَنْ
يقولوا له: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً..) .
والمعنى: آلآنَ أَعلنتَ إِيمانَك يا فرعون؟!
لقد جاءَ إِيمانُك متأَخِّراً، ولو جاءَ في وقتِه المناسبِ لقُبِلَ منك، أَما الآنَ فإِنه لَنْ يُقبلَ منك، وستموتُ تحتَ الماء، وسنُنَجيك ببدنِكَ بعدَ خروجِ روحِك، ولن يَسقطَ بدنُك في قاعِ البحر، ولن يكونَ طعاماً للسَّمك، وسنأْمُرُ موجَ البحرِ أَنْ يَقذِفك على شاطئ البحر، وسيَرى الناسُ بدنَك الهامدَ على الشاطئ، فتكونُ لمن خَلْفَك آيةً وعبرة، ودلالةً على أَنك مخلوق ضعيف، ولستَ إِلهاً وربَّاً للناس.
ونجَّى اللهُ بَدَنَ فرعونَ بعدَ خروجِ روحِه وموتِه، ولم يَسقطْ بدنُه في قعرِ
البحر، ولم تبتلِعْه الأَسماك، وأَمَرَ الموجَ أَنْ يقذفَه على الشاطئِ، ومَرَّ به
رجالُ دولتِه، وشاهَدوه جُثَّةً هامدة، وأَيْقَنوا أَنه ماتَ تحتَ الماء، وأَنَّ بَدَنَه(1/563)
على الشاطئ، أَخذوه وحَنَّطوه، ووَضعوهُ فِي تابوتِهِ، ودَفَنُوهُ في مدافنِ الملوك في وادي طيبةَ عاصمتهم.
واكتشفَ علماءُ الآثارِ جُثَّتَه، واسْتَخْرَجوها من المدافن، وعُرِضَتْ في متحفِ الآثار، وأَبقى اللهُ جثةَ فرعونَ آيةً على مدارِ القرون، وما زالتْ آيةً تنشرُ دروسَها وعِبَرَها بعد مرورِ آلافِ السنين على موتِ صاحبها!.
وبهذا نعرفُ التوافقَ بين قولِه تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) ، وقوله تعالى: (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) .
رابع عشر: السماء والأرض أيهما خلقت أولاً؟ :
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ مُتناقضٌ في حديثِه عن خَلْقِ السماءِ
والأَرض، ففيه آياتٌ تُخبرُ أَنَّ الأَرضَ خُلِقَتْ أَولاً، وفيه آياتٌ تُخبرُ أَنَ السماءَ خُلقتْ أوَّلاً.
فأَيهما خُلقتْ أَولاً؟.
سَجَّلَ الفادي آياتٍ من سورةِ فُصِّلَتْ، على أَنَّ اللهَ خلقَ الأَرضَ أَوَّلاً.
قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) .
وسجلَ مقابلَها آياتٍ من سورةِ النازعات، على أَنَّ اللهَ خلقَ السماءَ
أَوَّلاً.
قال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) .
وانطلاقاً من القاعدةِ اليقينيةِ من أَنه لا تَناقُضَ في القرآن، فمن الواجبِ
إِمعانُ النظرِ في هذه الآيات، والجمعُ بينها، وإِزالةُ التناقضِ الظاهري عنها.
توحي لنا آياتُ القرآنِ على أَنَّ خَلْقَ السمواتِ والأَرضِ كان على
مرحلتَيْن:(1/564)
المرحلة الأولى: خَلْقُهُما خَلْقاً أَوَّليّاً، بدون تفصيلٍ أَو تَقْدير.
خُلقت السماءُ أَوَّلاً، ثم الأَرضُ بعد ذلك، وهذا ما أَخبرتْ عنه آياتُ سورةِ
النازعات، فهي صريحةٌ في أَنَّ اللهَ خَلَقَ السماء أَوَّلاً: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) ..
ثم خَلَقَ الأَرضَ بعد ذلك: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) .
المرحلة الثانية: تقديرُ وتَفصيلُ وترتيبُ السمواتِ والأَرض.
وكانَ هذا في الأَرضِ أَوَّلاً، ثم صارَ في السماءِ بعد ذلك، وهذا ما أَخبرتْ عنه آياتُ سورةِ فصلت.
فاللهُ خَلَقَ الأَرضَ في يومين: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وفَصلَها وقَدَّرَها، وجعلَ فيها جبالَها وأَنهارَها، وقَدَّرَ فيها أَقواتَها،
في يومَيْن آخرين، فكانَ مجموعُ خَلْقِ الأَرض أَربعةَ أَيام: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) .
وبعدما تَمَّ تَفصيلُ وتَرتيبُ خَلْقِ الأَرص، استوى اللهُ إِلى السماء،
فسوّاهُنَّ سبعَ سمموات، وذلك في يومين: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) .
ويمكنُنا أَنْ نقولَ في ترتيبِ خَلْقِ السمواتِ والأَرض: السماءُ، ثم الأَرض.
وأَنْ نقولَ في تفصيلِ خلْقِهما: الأَرضُ، ثم السماءُ ...
أَيْ: سماء، أَرض.. ثم: أَرض، سماء..
خامس عشر: هل القرآن محكم أو متشابه؟ :
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ متناقضٌ في إِخبارِه عن طبيعتِه، فأَخبرَ أَنه
مُحْكَمٌ مُبينٌ واضح، وأَخبرَ في موضعٍ آخرَ أَنه متشابه!.
سَجَّلَ آيةً تُخبرُ أَن القرآنَ مُبين، وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
وسَجَّلَ مقابلَها آيةً تُخبرُ أَنَّ القرآنَ متشابه، وهي قولُه تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) .(1/565)
إِنَّ الذي يُقابلُ التشابهَ هو الإِحكامُ وليسَ الإِبانة، فنقول: هو مُحْكَم،
في مقابلِ قولِنا: هو مُتَشابه.
فَوَضْعُ الفادي " المبينَ " مقابل " المتشابه " دَليلُ جهلِه باللغةِ العربيةِ ومصطلحاتِ القرآن.
فالقرآنُ كُلّه مُبين، أَيْ: كُلُّهُ واضحٌ ظاهرٌ مَفهومٌ بَيَنٌ للناس.
أَما الإِحكامُ فهو الإِتقانُ والإِجادةُ والدقة، وحُسْنُ الترتيب والتفصيل،
والقرآنُ كُلُّه مُحْكَمٌ مُتقنٌ مفصَّلٌ بهذا الاعتبار؟
قال تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) .
وأَمّا التشابهُ فهو التماثلُ والتَّساوي، يقال: فُلانٌ يُشْبِهُ فُلاناً، أَيْ: هو
يُماثلُه ويُساويه، فَهما مُتَماثِلان مُتَشابهان.
والقرآنُ كُلُّه متشابهٌ بهذا المعنى، لأَنَّ سُوَرَهُ وآياتِه متماثلة، متساويةٌ في الوضوحِ والبيان، والفصاحةِ والبلاغة، وفي الدلالةِ على أَنها من عندِ الله.
وصَرَّحَ القرآنُ بأَنه كُلَّه متشابهٌ بهذا المعنى للتشابه.
قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
وللتّشابهِ معنى آخر هو: الاشْتِبَاه، بمعنى أَنَّ القارئَ يَقَعُ في اشتباهٍ
وشُبْهَة، ويَختلطُ عليه الأَمْرُ، ويَلتبسُ عليه المعنى، بسببِ لَبْسٍ في الكلامِ
الذي أَمامه، وغُموضٍ في معناه.
وفي القرآنِ بعضُ الآيات ِ المتشابهاتِ بهذا المعنى، كما وَضحَتْ سورةُ
آلِ عمران: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .
وتُشيرُ الآيةُ إِلى أَنَّ مُعظمَ آياتِ القرآنِ محكمات، أَيْ واضحاتُ الدلالة
على المعنى، لا تَحتاجُ إِلى آياتٍ أُخرى لحُسْنِ فهم المعنى، وهذه الآيات ُ
المحكماتُ هُنَّ أُمُّ الكتاب، وأَصْلُه الذي لا بُدَّ أَنْ يُعادَ كُلُّ شيء إِليه.(1/566)
كما تشيرُ الآيةُ إِلى أَنَّ بعضَ آياتِ القرآنِ متشابهات، وهذه الآياتُ المتشابهاتُ قليلةٌ بجانبِ المحكمات.
وسَببُ التشابهِ في الآياتِ القليلةِ المتشابهةِ هو " الغموضُ المقصود " في
معناها، واللَّبْسُ الذي قد يَقَعُ فيه بعضُهم عندما ينظرُ فيها، كما فَعَلَ هذا
الفادي الجاهلُ في تناقضاتِه الخمسة عشر التي زَعَمَ وُجودَها في القرآن، والتي
نَقَضْناها في هذا المبحث.
وأَخبرت الآية ُ عن اختلافِ نظرةِ الناسِ للآياتِ المتشابهات، فقالت:
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : هم الذين يَبحثونَ عن الشبهاتِ والإِشكالات،
ويُريدونَ اتباعَ الباطل، ويَهدفونَ إِلى فتنةِ الناس، من أَمثال هذا الفادي الجاهلِ مريضِ القلب، هؤلاءِ يَتَّبعونَ الآياتِ المتشابهاتِ لتحقيقِ أَهدافِهم المريضة.
(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) : هم المتمكِّنونَ من العلم، الذين يُحسنونَ فَهْمَ
القرآن، ولذلك يَحْملونَ الآياتِ المتشابهاتِ القليلةِ على الآياتِ المحكماتِ
الكثيرة، التي هي أُمُّ الكتابِ وأَصْلُ المتشابهات، ويَخرجونَ من ذلك بزيادةِ
الإِيمانِ واليقين، ويُعْلنونَ ذلك قائلين: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
أَيْ: آمَنَّا بالقرآن، وأَيْقَنّا أَنه كَلامُ الله، وكُلٌّ من آياتِه المحكَماتِ والمتشابهاتِ من عندِ ربنا.
وبالمثال يَتَّضِحُ المقال:
قال اللهُ عن عيسى ابنِ مريم - عليه السلام -: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
في معنى هذه الآيةِ لَبْسٌ وغُموض، فما معنى قول اللهِ له: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ؟
قد يَحتجُّ بها اليهودُ على أَنهم صَلَبوا عيسى - عليه السلام - وقَتَلوه، وقد
يحتجُّ بها النَصارى على أَنَّ عيسى - عليه السلام - قُتِلَ وصلِبَ، ودينُهم يقومُ على(1/567)
الصَّلْب، وشعارُه الصليب..
وقد يقولُ لنا قسّيسٌ جاهِلٌ مثلُ هذا الفادي: لماذا
لا تُصَدّقونَ قرآنَكم أَيها المسلمون، وهو يُصرحُ بأَنَّ عيسى توفَّاهُ الله، ومعناهُ أَنه ماتَ، وخرجَتْ روحُه على الصليب!!.
نقولُ لهؤلاء: حتى نَفهمَ هذه الآيةَ التي فيها تَشابُهٌ ولَبْس وغموض، لا بُدَّ
أَنْ نَحملَها على آيةٍ محكَمَة، هي لها أُمٌّ وأَصْلٌ، لإزالةِ لَبْسِها وغُموضِها " وهي قول الله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) .
إِنّنا نوقنُ بما صرَّحَتْ به هذه الآية ُ المحكَمَة، من أَنَّ اليهودَ لم يَقْتُلوا
عيسى - عليه السلام - ولم يَصْلُبوه، والذي قَتَلوهُ وصَلَبوهُ شخْصٌ آخرُ شُبِّهَ لهم، ورَفَعَ اللهُ عيسى حَيّاً إِلى السماء، بروحِه وجِسْمِه، وهو الآنَ حَيٌّ عندَ الله، بروحِه وجِسْمِه.
وعندما نَحْملُ قولَه: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) على قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) نقول: المرادُ بالتَّوَفّي هو القبضُ والتَّغييبُ، وذلك
عن طريقِ النوم، أَيْ: أَلْقى اللهُ على عيسى - عليه السلام - في تلك الليلةِ النَّوْمَ، وتوفَّاهُ وهو نائم، أَيْ غَيَّبَهُ وقَبَضَه وهو نائم، ورفَعَهُ إِليه وهو مُتَوفّى نائمٌ.
***
حول التكرار في القرآن
أَثارَ الفادي الجاهلُ إِشْكالاً حولَ التكرارِ في القرآن، تحتَ عنوان
" الكلامُ المتكرر "، واعتبرَ هذا الكلامَ عَيْباً وخَلَلاً، وداعياً إلى المَلَل، وقالَ
في آخِر اعتراضِه: " ونحنُ نسأل: أَليسَ في هذا التكرارِ عيبُ الخَلَلِ والملل،
والبُعْدُ عن ضُروبِ البلاغة؟ " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
8- الكلام المكرر
هذه الشبهة من الشبهات التى أكثروا اللغو حولها. واتخذوها كذلك منفذاً للطعن فى القرآن الكريم بأنه ليس وحياً من عند الله.
وركزوا كل التركيز على تكرار القصص فى القرآن وذكروا بعض القصص الذى تكرر، مع الإشارة إلى مواضعه فى سور القرآن، كما ذكروا تكرار بعض العبارات والجمل.
ولغوا لغواً كثيراً، حول تكرار قصة آدم فى القرآن، وقالوا إنها تكررت خمس مرات. ونحن نقول بل تكررت سبع مرات.
كما فعلوا الشىء نفسه مع التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " وادعوا أن القرآن إذا حُذف منه المكرر لم يبق منه إلا ما يملأ كراسة واحدة.
لذلك فإننا فى الرد عليهم سنقف وقفة متأنية، نلقنهم فيها درساً بليغاً حول التكرار الوارد فى القرآن المحفوظ وبخاصة فى سورة الرحمن، وتكرار قصة آدم (فى مواضع سبعة. لنقيم الحجة لله.
* الرد على هذه الشبهة:
يقع التكرار فى القرآن الكريم على وجوه:
مرة يكون المكرر أداة تؤدى وظيفة فى الجملة بعد أن تستوفى ركنيها الأساسيين.
وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها.
فاصلة تكرر فى سورة واحدة على نمط واحد.
قصة تتكرر فى مواضع متعددة مع اختلاف فى طرق الصياغة وعرض الفكرة.
بعض الأوامر والنواهى والإرشادات والنصح مما يقرر حكماً شرعيًّا أو يحث على فضيلة أو ينهى عن رذيلة أو يرغب فى خير أو ينفر من شر.
وتكرار القرآن فى جميع المواضع التى ذكرناها، والتى لم نذكرها مما يلحظ عليها سمة التكرار. فى هذا كله يباين التكرار القرآنى ما يقع فى غيره من الأساليب لأن التكرار وهو فن قولى معروف. قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب فيكون هدفاً للنقد والطعن. لأن التكرار رخصة فى الأسلوب إذا صح هذا التعبير والرخص يجب أن تؤتى فى حذر ويقظة.
* وظيفة التكرار فى القرآن:
مع هذه المزالق كلها جاء التكرار فى القرآن الكريم محكماً. وقد ورد فيه كثيراً فليس فيه موضع قد أخذ عليه دَعْ دعاوى المغالين فإن بينهم وبين القرآن تارات؛ فهم له أعداء وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه مع سلامته من المآخذ والعيوب يؤدى وظيفتين:
أولاهما: من الناحية الدينية.
ثانيهما: من الناحية الأدبية.
فالناحية الدينية باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع لا يخلو منها فن من فنونه، وأهم ما يؤديه التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون فى السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
أما الناحية الأدبية فإن دور التكرار فيها متعدد وإن كان الهدف منه فى جميع مواضعه يؤدى إلى تأكيد المعانى وإبرازها فى معرض الوضوح والبيان. وليكن حديثنا عنه على حسب المنهج الذى أثبتناه فى صدر هذا البحث.
* تكرار الأداة:
ومن أمثلتها قوله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحِيِم) (1) .
(ثم إن ربك للذيِن عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (2) .
والظاهر من النظر فى الآيتين تكرار " إنَّ " فيهما. وهذا الظاهر يقتضى الاكتفاء ب " إنَّ " الأولى. ولم يطلب إلا خبرها. وهو فى الموضعين أعنى الخبر " لغفور رحيم " لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت " إنَّ " مرة أخرى. ولهذه المخالفة سبب.
وهذا السبب هو طول الفصل بين " إنَّ " الأولى وخبرها. وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله " إنَّ " وهو التوكيد. لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد.
على أن هناك وظيفة أخرى هى: لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما " إنَّ " ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين: قلق وضعف فى الأولى، وتناسق وقوة فى الثانية.
ومن أجل هذا الطول كررت فى قول الشاعر (3) :
وإن امرأً طَالَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ *** عَلَى مِثْلِ هَذاَ إنَّهُ لَكَرِيمُ
يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأى: ".. فإذا وردت " إنَّ " وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام. فإعادة " إنَّ " أحسن فى حكم البلاغة والفصاحة كالذى تقدّم من الآيات " (4) .
* تكرار الكلمة مع أختها:
ومن أمثلتها قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم فى الآخرة هم الأخسرون) (5) .
فقد تكررت " هم " مرتين، الأولى مبتدأ خبرها: " الأخسرون ". والثانية ضمير فصل جئ به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهى: هُمْ الأولى بالأخسرية.
وكذلك قوله تعالى: (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال فِى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (6) .
تكررت هنا " أولئك " ثلاث مرات. ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسناً وروعة. فالأولى والثانية: تسجلان حكماً عامًّا على منكرى البعث: كفرهم بربهم وكون الأغلال فى أعناقهم.
والثالثة: بيان لمصيرهم المهين. ودخولهم النار. ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذى لا يعقبه خروج منها.
ولو أسقطت (أَولئك (من الموضعين الثانى والثالث لرك المعنى واضطرب. فتصبح الواو الداخلة على: (الأغلال فى أعناقهم) . واو حال. وتصبح الواو الداخلة على: (أَصحاب النار هم فيها خالدون) عاطفة عطفاً يرك معه المعنى.
لذلك حسن موضع التكرار فى الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته. وتأكيد النسبة فى المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير.
***
* تكرار الفاصلة:
سبق أن ذكرنا فى مبحث الفواصل بسوء المصير من تكرار الفاصلة مرتين بدءاً وثلاث مرات نهاية. وقد وجهنا أسلوب التكرار فى تلك الصور. ولكنَّا هنا أمام فاصلة لم تقف فى تكرارها عند حد المرات الثلاث. بل تعدت ذلك بكثير. لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هى بهذا الموضع أنسب (7) .
ونعتمد فى دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هى: " الرحمن القمر المرسلات ". وهى السور التى برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية. بشكل لم يرد فى غيرها، كما ورد فيها.
فقد تكررت: (فبِأى آلاء ربكما تكذبان) (8) فى " الرحمن ". وتكررت (فكيف كان عذابى ونذر) (9) فى " القمر ". وتكررت: (ويل يومئذ للمكذبين) (10) فى " المرسلات ".
* تكرار الفاصلة فى " القمر ":
ولهذا التكرار فى المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات. ففى سورة القمر " نجد العبارة المكررة وهى: (فكيف كان عذابى ونذر (قد صاحبت فى كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن، وكان أول موضع ذُكِرت فيه عقب قصة قوم نوح. وبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح عليه السلام ثم انتصار الله لنوح عليهم. حيث سلَّط عليهم الطوفان. فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله.
ونجد أن الله نجَّى نوحاً وتابعيه. ولكن تبقى هذه القصة موضع عظة وادكار، ولتلفت إليها الأنظار وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالى عقبها: (فكيف كان عذابى ونذر (مُصدَّراً باسم الاستفهام " كيف " للتعجيب مما كان، ولقد مهَّد لهذا التعجيب بالآية السابقة عليه. وهى قوله تعالى: (ولقد تركناها آية فهل من مدكِر) (11) .
والموضع الثانى لذكرها حين قص علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر الله وفى " عاد " هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية. قال تعالى: (كذبت عادُ فكيف كان عذابىِ ونذر *ِإنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى يومِ نحْسٍ مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابى ونذر) (12) .
وتكرار العبارة هكذا فى البداية والنهاية إخراج لها مخرج الاهتمام. مع ملاحظة أن أحداث القصة هنا صُورت فى عبارات قصيرة ولكنها محكمة وافية.. ولم يسلك هذا المسلك فى قصة نوح أعنى قصر العبارات والسبب فيما يبدو لى أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق فى الماء. وهى وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك. فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه.. أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والتفكر.
ولعل مما يقوى رأينا هذا. أن هذه القصة قصة عاد وردت فى موضع آخر من القرآن يتفق مع هذا الموضوع من حيث الفكرة، ويختلف معه قليلاً من حيث طريقة العرض وزيادة التفصيل.
جاء فى سورة الحاقة: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصرٍ عاتية* سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حُسوماً فترى القوم فيها صرعَى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية) (13) .
فإرسال الريح هكذا سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة والاعتبار.
ومثله: (وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (14) . (فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) (15) .
فقد بطرت " عاد " نعم ربها عليها. وغرها ما فيه من أسباب التمكين فى الأرض وقوة البطش أن تبارز ربها ومولى نعمها بالمعاصى، فأهلكها الله بما لا قبل لها به. وفى كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء، تأتى عباراته قوية هادرة واعظة زاجرة..
جاء فى موضع آخر: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يُخلق مثلها فى البلاد) (16)
وكانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع من طغى فى الأرض بغير الحق: (فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد) (17) .
أما الموضع الأخير الذى ذكرت فيه هذه العبارة: (فكيف كان عذابى ونذر (فحين قص الله علينا قصة " ثمود "، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة لتلقى صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع. ولفت نظره إليها: (فكيف كان عذابى ونذر* إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) (18) .
ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار. فليست إحدى العبارات فى موضع بمغنية عن أختها فى الموضع الآخر. إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين: الدينية والأدبية.
من الناحية الدينية حيث تحمل المومنين على التذكر والاعتبار عقب كل قصة من هذه القصص، ومن الناحية الأدبية لأن العبارة: (فكيف كان عذابى ونذر (تأتى عقب كل قصة أيضاً لافتة أنظار المشاهدين إلى " كنه " النهاية وختام أحداث القصة.
وقد مهد القرآن لهذا التكرار حيث لم يأت إلا بعد خمس عشرة آية تنتهى كلها بفاصلة واحدة تتحد نهاياتها بحرف " الراء " مع التزام تحريك ما قبلها. وذلك هو نهج فواصل السورة كلها. وقد أشاع هذا النسق الشاجى نوعاً من الإحساس القوى بجو الإنذار. والسورة فوق كل هذا مكية النزول والموضوع.
كما أن الطابع القصصى هو السائد فى هذه السورة. فبعد أن صور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة الجديدة. وبَيَّن ضلال مسلكهم. وقد كان الرسول (حريصاً على هدايتهم فى وقت هم فيه أشد ما يكونون إعراضاً عنه. لهذا اقتضى الموقف العام سوق عِبَر الماضين ليكون فى ذلك تسلية للرسول (ومن اتبعه وزجر لمن عارضه وصد عنه.
وما دام هذا هو طابع السورة فإن أسس التربية خاصة تربية الأمم تستدعى تأكيد الحقائق بكل وسيلة ومنها التكرار الذى لمسناه فى سورتنا هذه؛ حتى لكأنه أصيل فيها وليس بمكرر.
* تكرار آخر فى سورة " القمر ":
وفى هذه السورة " القمر " مظهر آخر من مظاهر التكرار، هو قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (19) . حيث ورد فى السورة أربع مرات، وهذه دعوة صالحة للتأمل فيما يسوقه الله من قصص.
وقد اشتملت هذه الآية: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (على خبر واستفهام، والخبر تمهيد للاستفهام الذى فيها ولفت النظر إليه.
***
* التكرار فى سورة " الرحمن ":
أما التكرار الوارد فى " الرحمن " فى قوله تعالى: (فبأى آلاء ربكما تكذبان (حيث تكررت الآية فيها إحدى وثلاثين مرة فله أسبابه كذلك. ويمكن أن نسجل هذه الملاحظات:
أولاً: إن هذا التكرار الوارد فى سورة " الرحمن " هو أكثر صور التكرار الوارد فى القرآن على الإطلاق.
ثانياً: إنه أى التكرار فى هذا الموضع قد مُهِّدَ له تمهيداً رائعاً. حيث جاء بعد اثنتى عشرة آية متحدة الفواصل. وقد تكررت فى هذا التمهيد كلمة " الميزان " ثلاث مرات متتابعة دونما نبو أو ملل:
(والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا فى الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (20) .
وهذا التمهيد قد أشاع كذلك لحناً صوتيًّا عذباً كان بمثابة مقدمة طبيعية لتلائم صور التكرار ولتألفها النفس وتأنس بها فلا تهجم عليها هجوماً؛ لأن القرآن قد راعى فى فواصل المقدمة التمهيدية ما انبنت عليه فواصل الآية المكررة.
ثالثاً: إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثَقَلين: الإنس والجن، وبعد كل نعمة أو نِعَم يعددها الله تأتى هذه العبارة: (فبأى آلاء ربكما تكذبان (.
وعلى هذا الأساس يمكن بيسر فهم عِلّة التكرار الذى حفلت به سورة الرحمن أنه تذكير وتقرير لنعمه. وأنها من الظهور بمكان فلا يمكن إنكارها أو التكذيب بها.
" فتكرار الفاصلة فى الرحمن.. يفيد تعداد النِّعَم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدَّد فى السورة نعماءه وذكَّرعباده بآلائه. ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها. وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها. ثم فيها إلى ذلك معنى التبكيت والتقريع والتوبيخ؛ لأن تعداد النِعَم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادى المنعَم عليه من الناس بتعديدها" (21) . ولقائل أن يسأل: إن هذه
الفاصلة قد تكررت بعدما هو ليس بنعمة من وعيد وتهديد. فكيف يستقيم التوجيه إذن بعد هذه الآيات؟
(يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (22) .
(يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والأقدام * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (23) .
(هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأى آلاء ربكما تكذبان) (24) .
وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنعم.
والجواب: ولكن المتأمل يدرك أن فى الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون مصيره مصيرهم.
ومن هذا الاعتبار يتبين أن هذه المواضع مندرجة تحت النعم، لأن النعمة نوعان: إيصال الخير. ودفع الشر. والسورة اشتملت على كلا النوعين فلذلك كررت الفاصلة.
* التكرار فى سورة " المرسلات ":
بقى التكرار الوارد فى سورة " المرسلات". وقد صنع ما صنع فى نظيريه فى " القمر " و " الرحمن " من التقديم له بتمهيد.. وله مثلهما هدف عام اقتضاه.
بيد أن التمهيد يختلف عما سبق فى " القمر و " الرحمن ". فقد رأينا فيهما اتحاد الفاصلة فى الحروف الأخيرة مع التزام نهج معين فيما قبله. أما هنا فإن الأمر يختلف. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) النحل: 110.
(2) النحل: 119.
(3) ديوان الحماسة: 2/105 ولم ينسب لقائل معين.
(4) المثل السائر (ج3 ص7) تحقيق د/ بدوى طبانة ود/ الحوفى.
(5) النمل: 5.
(6) الرعد: 5.
(7) انظر كتابنا: خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (مبحث الفواصل) مكتبة وهبة بالقاهرة
(8) وردت 31 مرة.
(9) وردت 4 مرات.
(10) وردت 10 مرات
(11) القمر: 15.
(12) القمر: 18 21.
(13) الحاقة: 6 8.
(14) الذاريات: 41 42.
(15) فصلت: 15 16.
(16) الفجر: 6 8.
(17) الفجر 13 14. (18) القمر: 30 31.
(19) القمر: 17، 22،32، 40.
(20) الرحمن: 7-9.
(21) خزانة الأدب للحموى: ص 144-145.
(22) الرحمن: 35 - 36.
(23) الرحمن: 41-42.
(24) الرحمن: 43-45.(1/568)
اعترضَ على تكرارِ قولِه تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة
الرحمن، حيث ذُكرت الآيةُ إِحدى وثلاثين مرةً.
وهذا ليسَ تِكراراً في الحقيقة، وإِنما هو " تَنْويعٌ " في العرض، وفَرْق بين
التكرارِ والتنويع، فالتكرارُ هو إِعادَةُ الآيةِ أَو القصةِ أَو الموضوعِ مرةً أُخرى، بدونِ إِضافةٍ معلومةٍ أَو جملةٍ أَو كلمة، وبدونِ هدفٍ وغَرَضٍ جَديد.
وهذا التكرارُ عيبٌ في التأليف، وضعفٌ في الأُسلوب، ودليلٌ على الخلل، والتدنّي في البلاغةِ والفصاحة، يُنَزِّهُ الكاتبُ البليغُ كلامَه عنه.
ولذلك نقول: لا تكرارَ في القرآن.
إِنّ الذي في القرآنِ هو التنويع، وذلك بأَنْ يُضيفَ القرآنُ الجديدَ في كُلِّ
مَرَّةٍ يُعيدُ فيها ذِكْرَ القصةِ أَو الآيةِ أَو الجملةِ أَو الكلمة، إِما معلومةٌ جديدة،
وإِما كلمةٌ جديدة، وإِمّا لهدفٍ جَديد، وإِمّا للتناسبِ مع سياق جديد..
وهذا ليسَ تكراراً كما زَعَمَ الفادي الجاهل، وإِنما هو تَنويع.
إِنَّ قولَه تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قد ذُكِرَ في سورةِ الرحمن
إحدى وثلاثين مرةً، ولكنَّ هذه الآيةَ كانت تُذْكَرُ في كُل مرةٍ لهدفٍ جديد،
وكانت متناسبةً مع الآياتِ التي سَبَتَتْها، وخاتمةً مناسبةً لها، لأَنَّ سورةَ
الرحمن كُلَّها معرضٌ لآلاءِ اللهِ وبعَمِه، وكانت كُلَّما تَذكُرُ بعضَ نِعَمِ الله أَو
أَفعالِه أَو الأَدلةِ على وحدانيتِه وعظمتِه تَختمُ ذلك بالآية: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) على اعتبار أَنَّ الموضوعَ الذي تتحدَّثُ عنه هو بعضُ آلاءِ الله..
فهي أَشبهُ ما تكونُ بلازمةٍ شعرية، كتلكَ اللّوازمِ الشعريةِ التي كانَت تُخْتَمُ بها رباعياتُ بعضِ القصائدِ الشعريةِ الموزونة.
ولْنأخذْ على ذلك مثالاً من السورة: ذُكِرَت: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)
في آية (18) لغيرِ الهدفِ الذي ذُكِرَتْ لأَجْلِه في آية (16) .
إِنها في الآيةِ السادسة عشرة مرتبطةٌ مع الآياتِ التي قبلَها، والتي تتحدثُ عن خلقِ الإِنسِ والجن، قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) .(1/569)
فهي تَذكيرٌ بنعمةِ خَلْقِ الإِنسِ والجِنَ.
أَما في الآيةِ الثامنة عشرة فإِنها مسبوقة بقولِه تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) ، فهي بهدفِ التذكيرِ بمُلْكِ اللهِ لكلِّ ما في الكون، ومنه مُلْكُه للمشرقَيْن وللمغربَيْن.
وهي في الآية (21) خاتمة لموضوع جَديد، وردَ في قولِه تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) .
وهو التذكيرُ بنِعَمِ اللهِ وقدرتِه وعظمتِه، في خلقِ الماءِ العذبِ والماءِ
المالح.
وهكذا في باقي مَرّاتِ وُرودِها، فليسَ الأَمْرُ تَكراراً مُخِلّاً، كما زعَمَ
الفادي الجاهل، وإِنما هو تَنويعٌ وإضافة.
وانتقدَ الجاهلُ وُرودَ بَعْضِ قَصصِ القرآنِ في أَكثرَ من سورة، واعْتَبَرَ
ذلك من التَّكرارِ المعنوي، قال: " وفي القرآنِ الكثيرُ من التكرارِ اللفظي، كما في سورةِ الرحمن، والتكرارِ المعنوي كما في قَصص الأَنبياء، فَضْلاً عما فيها من سَجْعٍ مُتَكَلَّفٍ ".
وذَكَرَ بعضَ القَصصِ التي اعْتَبَرَها مُكَررَة، والسورِ المذكورةِ فيها كُلُّ
قِصَّة، وهي: " قصة آدم، وقصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة لوط، وقصة موسى، وقصة سليمان، وقصة يونس - الذي سماه يونان، وقصة
عيسى - صلى الله عليهم وسلم -.
وكلامُ الجاهلِ باطل، وانتقادُه مردودٌ عليه، فهو يعيبُ ما لا عيبَ فيه،
وهو يُخَطِّئُ الصَّوابَ، ويَنتقدُ الصحيح، وإِنَ ذِكْرَ القصةِ القرآنيةِ في أَكثرَ من سورةٍ ليسَ من بابِ التكرارِ المُمِلّ والمُخِلِّ، وإِنما هو من بابِ التنويعِ
الهادف، والإِضافةِ الحكيمة، والتناسقِ المعجز.
وعندما نتدبَّرُ المواضعَ المختلفةَ التي وَرَدَتْ فيها القصةُ القرآنية، فسنجدُ
أَنَّ اللقطاتِ المعروضةَ من القصةِ متناسبة ومتناسقة ومترابطةٌ مع موضوعِ(1/570)
السورة، ومعَ السياقِ الذي وردَتْ فيه، ومتصلةٌ بما قبلَها وما بعدَها، وتَلْتقي مع السياقِ في تحقيق أَهدافِه العلميةِ والإِخباريةِ والتربوية ...
وفي كُلّ مرةٍ جديدةٍ تُعرضُ فيها بعضُ لقطاتِ القصةِ تكونُ فيها معلومةٌ جديدة، أَو فيها جزئيةٌ جَديدة، تضافُ للمعلومةِ المذكورةِ سابقاً.
ولا يَتسعُ المجالُ لتفصيلِ القولِ في هذا الموضوع، ولا لعرضِ الأَمثلةِ التطبيقيةِ من القصصِ القرآني، فإِنَّ الكلامَ في هذا يَطول!.
إِنَّ من الخطأ الكبيرِ أَنْ نَقولَ: تَكَرَّرَ ذِكْرُ قصةِ آدم - مَثَلاً - في سور:
البقرة، والأَعراف، والحجر، وطه، وصَ.
والواجِبُ أَنْ نقول: ما هو الجزءُ من القصةِ المعروضُ في سورةِ البقرة، وما الذي أَضافَتْهُ سورةُ الأَعرافِ على سورة البقرة، وما الذي ذَكَرَتْه سورةُ طه أَو الحِجْر أَو (ص) ، وما وَجْهُ الاتصالِ والارتباطِ بين المعروضِ في سورةِ الأَعراف - أَو أَيّةِ سورةٍ أُخرى - وبينَ موضوع السورة، والسياقِ الذي ورد فيه..
إِنَّ هذا التنويعَ الهادفَ الحكيمَ وَجْهٌ من وجوهِ الإِعجازِ القرآني، ومزيةٌ من مزايا القرآنِ العظيمة، وليس مَأخَذاً على القرآن.
***
هل في القرآن من كلام الآخرين؟
خَصَّصَ الفادي المفترِي الجاهلُ هذا المبحثَ من كتابه لاتِّهامِ القرآنِ بأَنَّه
من تأليفِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأَنه نَقَلَه عن كلامِ الآخرين، من العربِ واليهودِ والنَّصارى والفرسِ وغيرهم، فهو أَساطيرُ الأَوَّلين اكْتَتَبها.
ولْننظرْ في اتِّهاماتِه التي أَوردَها تحتَ عنوانِ " الكلام المنقول "، لنرى
سَخافَتَها وتَفاهَتَها، وجَهْلَ مَنْ أَطْلَقوها.
سَجَّل في بدايةِ اتهاماتِه قولَه تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) .(1/571)
ثم علق على الآيتَيْن تَعْليقاً فاجِراً قبيحاً، قال: "تدلُّ هذه الآية ُ على أَنَّ
محمداً قال: إِنَّ القرآنَ نَزَلَ عليه وَحْياً مِن الله ...
ولكنَّ مُعاصريه لم يَجِدوا في ما جاءَ به شيئاً جَديداً، فقالوا: إِنَّه جاءَ بأساطيرِ الأَولين، التي كانَ يَسمعُها، وكَتَبَها قرآناً.
فهي ليستْ وَحْياً!
لقد اقتبسَ محمدٌ أَشعارَ امرئ القيس، وأَقوالَ عمرَ بن الخطاب، وكُتُبَ جُهّالِ اليهودِ والمسيحيين، وكُتُبَ الفرسِ، وكُتُبَ الحنفاءِ، وغيرهم ... ".
هكذا بجملةٍ فاجرةٍ يُلْغي هذا الفاجرُ الوحيَ والنبوةَ والرسالة، ويَعتمدُ
اتهاماتِ الكفرةِ الفجرةِ السابقين، التي ذَكَرَها القرآن، ثم نَقَضَها وَرَدَّها، لكنه لكُفْرِه وفُجورهِ لا يَقْبَلُ رَدَّ القرآنِ عليها.
قالَ الكفارُ عن آياتِ القرآن: هيَ أَساطيرُ الأَوَّلين، وقَصصُ السابقين
وأَخبارُهم، طلبَ محمدٌ من الكُتّابِ أَنْ يكْتُبوها له، فَفَعَلوا وقَدَّموها له،
وصارَتْ تُملى عليه في الصباحِ والمساء، فأَخَذَها منهم، وزعَمَ أَنها جاءَتْه
وحياً من عندِ الله، وليس في المسألةِ وَحْيٌ ولا نبوَّة!!.
وَرَدَّ اللهُ على هذا الاتهامِ بتقريرِ حقيقةِ الوحي، وتَأكيدِ أَنَّ القرآنَ
كَلامُ الله - عز وجل - (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
واللهُ يَعلمُ السِّرَّ ويَعلمُ الجهر، لكنه ذَكَرَ هنا السِّرَّ دونَ الجهر، لأَنَّ إِنزالَ القرآنِ عن طريقِ جبريل - عليه السلام -، كان بطريقةٍ غيبيةٍ خفيَّةٍ سِرِّيَّة.
والفادي الحاقدُ أَغفلَ عامداً كلامَ اللهِ الذي رَدَّ على اتِّهامِ الكفار، وأَبْقى
كلامَهم مُعْتَمِداً له.
ومن أَكاذيبهِ الصارخةِ المتهافتةِ قولُه عن الكفار: " ولكنَّ مُعاصِريه لم
يَجِدوا في ما جاءَ به شَيْئاً جديداً ".
أَيْ أَنَّ القرآنَ تكرارٌ لما قالَه السابقون، وتَرديدٌ لكلامِهم، وليس فيه أَيُّ شيء جديد! علماً أَنَّ القرآنَ لم يتأَثَّرْ بما كانَ حولَه من معارفَ وثقافاتٍ وخرافات، وكُلُّ ما أَتى به فهو جَديد، لم يُسْبَقْ إِليه.(1/572)
أولاً: ماذا أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من امرئ القيس؟ :
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بعضَ كلامِ الشاعرِ الجاهليِّ المشهورِ " امرئِ القَيْس "، وسَجَّلَه في القرآن، ونَسَبَه إِلى الله، وادَّعى أَنَّ اللهَ أَنزلَه عليه! وقَدَّمَ الغبيُّ دليلاً على دعْواه وزعْمِه أَبياتٍ ركيكة، ادَّعى أَنها لامرئ القيس، مع أَنها ليستْ له، وإِنما هي في غايةِ الضعفِ والركاكة، وشعْرُ امرئ القيس في غايةِ الفصاحةِ والبلاغة.
ولْنقرأْ هذا الشعرَ الركيكَ، الذي صاغَه شاعِرٌ متأَخِّر، ونَسَبَه الفادي
الجاهلُ إِلى امرئ القيس:
دَنَت السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرْ ... عَنْ غَزالٍ صادَ قَلْبي ونَفَرْ
أَحْوَرٌ قَدْ حِرْتُ في أَوْصافِهِ ... ناعِسُ الطَّرْفِ بِعَيْنَيْهِ حَوَرْ
مَرَّ يَوْمَ العيدِ بي في زينةٍ ... فَرَماني فَتَعاطى فَعَقَرْ
بِسِهامٍ مِنْ لِحاظٍ فاتِكٍ ... فَرَّ عَنّي كَهَشيمِ المُحْتَظِرْ
وَإِذا ما غابَ عَنِّي ساعَةً ... كانَت السَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرّ
كَتَبَ الحُسْنُ على وَجْنَتِهِ ... بِرَحيقِ المِسْكِ سَطْراً مُخْتَصَرْ
عادَةُ الأَقْمارِ تَسْري في الدُّجى ... فَرَأَيْتُ اللَّيْلَ يَسْري بالقَمَرْ
بالضُّحى وَاللَّيْلِ مِنْ طُرَّتِهِ ... فَرْقُهُ ذا النَّورِكَمْ شَيءٌ زَهَرْ
قُلْتُ إِذْ شَقَّ العِذارُ خَدَّهُ ... دَنَت السّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرْ
ليسَ مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذي أَخَذَ بعضَ جُمَلِ هذه القصيدة، وَوَضَعَها في القرآن، كما ادَّعى الفادي الجاهل، وإِنما الشَاعِرُ الضعيفُ الركيكُ المتأَخِّر - الذي لم أَعرف اسْمَه - هو الذي حاكى القرآنَ كَلامَ الله، واقْتَبسَ من القرآنِ بعضَ جُمَلِه، زَيَّنَ بها قَصيدَتَه.
وديوانُ الشاعرِ الجاهليِّ البليغِ امرئ القيسِ مَطْبوعٌ مُتَداوَل، ونَتَحَدّى
الفادي الجاهلَ أَو أَيَّ واحدٍ من أَهْلِ مِلَّتِه أَنْ يُرينا هذه القصيدةَ الركيكةَ في
ديوانِ امرئِ القيس! فافتراءُ الفادي المفترِي لا يَثْبُتُ أَمامَ البحثِ العلمي.(1/573)
أَخَذَ الشاعرُ المتأخِّرُ من سورةِ القمرِ قولَه تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فافتتَحَ بها قصيدَتَه، كما خَتَمَها بها في الشطرِ الثاني من بيتِه
الأَخير، مع بعضِ التحوير.
حيثُ قال: دَنت الساعةُ وانشقَّ القمر.
كما أَخَذَ من السورة قولَه تعالى: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) ،
ووضَعَه في الشطرِ الثاني من البيتِ الثالث: فرماني فتعاطى فعقر.
وأَخَذَ من السورةِ قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ، ووَضَعه في الشطرِ الثاني من البيتِ الرابع: فَرَّ عَنّي
كهشيمِ المحتَظِر.
وأَخَذَ من السورةِ قولَه تعالى: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) ، ووضَعَه في الشطرِ الثاني من البيتِ الخامس: كانت الساعةُ أَدهى وأَمَرّ.
وأخذ من سورة الضحى قوله تعالى: وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) . ووضعه في الشطر الأول من البيت الثامن: بالضحى والليل من طُرَّتِه..
وذَكَرَ الفادي المفترِي بَيْتَيْنِ آخَرَيْن، لا يَختلفانِ عن الأَبياتِ السابقةِ في
الركاكةِ والضَّعف، والغَزَلِ الساقط، نَسَبَهما لامرئ القيس أَيْضاً، وزَعَمَ أَنَ
محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ منهما كلاماً في القرآن.
وهما: أَقْبَلَ وَالعُشّاق مِنْ حَوْلِهِ ... كأَنَّهم من كلِّ حَدْبِ يَنْسِلونْ
وَجاءَ يَوْمَ العيدِ في زينَتِه ... لِمِثْلِ ذا فَلْيَعْمَلَِ العامِلونْ
وما قلناهُ عن الأَبياتِ السابقةِ نقولُه هنا، ويَبدو أَنهما لنفسِ ناظمِ الأَبياتِ
السابقة، حاكى القرآنَ، وأَخَذَ منه بعضَ كلامِه، وَوَظَّفَهُ بوَقاحَةٍ للغزل بعشيقِه والثناءِ عليه.
أَخَذَ من سورةِ الأَنبياءِ قولَه تعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) .
ووضَعَه في الشطرِ الثاني من البيتِ الأَول: كأَنهم من كلِّ حَدَبٍ ينسلون.
وأَخَذَ من سورةِ الصافاتِ قولَه تعالى: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ..
وَوَضَعَه في الشطرِ الثاني من بيته الثاني.(1/574)
ثانياً: ماذا أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كللام عمر بن الخطاب؟ :
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ كَلاماً لعمرَ وَوَضَعَهُ في القرآن، وهو المسَمّى بموافقاتِ عُمَر.
والموافقاتُ التي ذَكَرَها صاغَها بأُسلوبه، وَوَظَّفَها دَليلاً لاتهاماتِه.
أ - موافَقَة عمر في عداوة الله عدوَّ جبريل:
قالَ عن هذه الموافقة: كانَ لعمرَ بن الخطاب أَرضٌ بأَعلى المدينة،
وكان مَمَرُّهُ على مِدْراسِ اليهود، فكانَ يَجلسُ إِليهم، ويَسمعُ كَلامَهم..
فقالوا يوماً: ما في أَصحابِ محمدٍ أَحَبُّ إِلينا منك، وإِنا لنطمعُ فيك! فقالَ عُمَر: واللهِ ما آتيكم لحُبِّكم، ولا أَسأَلُكم لأَني شاكٌّ في ديني، وإِنما أَدخلُ إِليكم لأَزدادَ بصيرةً في أَمْرِ محمدٍ.
فقالوا: مَنْ صاحبُ محمدٍ الذي يأْتيه من الملائكة؟
قال: جبريل.
قالوا: ذلكَ عَدُوُّنا.
فقال عمر: مَنْ كانَ عدوّاً للهِ وملائكتِه ورسلِه وجبريلَ وميكالَ فإِنَّ اللهَ عَدُوُّه.
فلما سمعَ محمدٌ بذلك قال: هكذا أُنزلَتْ، وأَوردَها في قرآنِه في سورةِ البقرة.
وقالَ محمد لعمر: لقد وافَقَكَ رَبُّك يا عمر.
وعَلَّقَ على ما أَوردَه بقوله: " ونحنُ نسأل: أَليسَ الأَصحُّ أَنْ يقولَ
محمد: إِنَّ عُمَرَ وافقَ رَبَّه، لا العكس؟
والأَغربُ من هذا أَنَّ محمداً يَنتحلُ أَقوالَ عمر، ويقولُ: إِنها هكذا نَزَلَتْ! وفي هذه الحالة: هل يُعْتَبَرُ عمرُ نبيّاً يوحى إِليه؟
أَمْ أَنَّ محمداً انتحلَ أَقوالَ غيره، وقال: إِنها وَحْي؟ ".
وهذه الروايةُ في سببِ نزولِ قولِه تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) .
التي اعتَمَدَها الفادي المفترِي لأَنها توافقُ هواه، رواية ضعيفة، مذكورة في بعضِ التفاسير عن الشعبيّ عن عمرَ بن الخطاب، ومذكورةٌ بأسانيدَ أُخرى عن قتادةَ عن عُمَر، وحكمَ عليها بالضعفِ الإِمامُ الحافظُ ابنُ كثير.(1/575)
قالَ ابنُ كثير عن روايةِ الشعبيِّ بعد أَنْ أَوْرَدَها بإِسنادَيْن: " وهذانِ
الإِسنادان يَدُلّانِ على أَنَّ الشعبيَّ حَدَّثَ به عن عمر، ولكن فيه انْقطاعٌ بينَه
وبينَ عمر، فإِنَّه لم يُدْرِكْ زَمانَه، واللهُ أَعلم ".
وقال عن إسنادِ روايةِ قتادة: " وهو أَيضاً منقطع ".
وإِذا كانت هذه الروايةُ منقطعةَ الإِسنادِ، فهي ضعيفةٌ مردودةٌ لم تَصح،
وبما أَنها مردودة، فإِنَّ تَساؤُلاتِ الفادي المفترِي عليها داحِضةٌ زائفة، وهو
مُجرمٌ مفترٍ، متحامِلٌ خَبيث، عندما قال: " والأَغْرَبُ من هذا أَنَّ محمداً يَنتحلُ أَقوالَ عُمَر ويقول: هكذا أُنزلَتْ!!.
والروايةُ الصحيحةُ في سببِ نُزولِ قولِه تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) .
تُصَرِّحُ بأَنَّ الحادثةَ جَرَتْ بينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود.
روى أَحمدُ والطبرانيُّ والبيهقيُّ عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - قال: حَضَرَتْ عصابة من اليهودِ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً، فقالوا: يا أَبا القاسم! حَدّثْنا عن خِلالٍ نسأَلُكَ عنهنّ، لا يعلمهنَّ إِلّا نبيّ.
قال: سَلُوني عما شِئْتُم.
ولكن اجْعَلوا لي ذِمَّةَ الله، وما أَخَذَ يعقوبُ - عليه السلام - على بَنيه، لئنْ حَدَّثْتُكُم شيئاً فعرفْتُموه، لَتُتابِعُنّي على الإِسلام!.
قالوا: فذلكَ لك.
قال: فَسَلوني عما شئْتُم.
فسأَلوهُ أَربعةَ أَسئلة، وأَجابَهم عليها، ووَافَقوهُ على الجَواب، وشَهِدوا
أَنه جَوابٌ صَحيح.
ولكنَهم تَهَرَّبوا من تنفيذِ ما وَعَدوهُ به - كعادتهم - وأَثاروا مشكلةً جديدة،(1/576)
فقالوا له: حَدِّثْنا مَنْ وَليُّك من الملائكة؟
فعندَها نُجامِعُك أَو نُفارِقُك!.
قال: فإِنَّ وَلِيِّي جبريلُ، ولم يَبعث اللهُ نبيّاً قَطّ إِلّا وهو وَلِيُّه.
قالوا: فعندَها نُفارقُك، لو كان وَلِيُّكَ سِواهُ من الملائكة لتابَعْناك
وصَدَّقْناك.
قال: فما يمنَعُكُم من أَنْ تُصَدقوه؟.
قالوا: إِنّه عَدُوُّنا!!.
فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) .
ب - ثلاث موافقات لعمر:
ذَكَرَ الفادي المجرمُ حديثَ البخاريِّ في موافقاتٍ ثَلاثٍ لعُمَرَ - رضي الله عنه -، لكنه عَلَّقَ عليها تَعليقاً خَبيثاً، حيثُ وَظَّفَها دَليلاً على أَنَّ القرآنَ من كلامِ البشر.
قال: " روى البخاريُّ وغيرُه عن عمرَ أَنه قال: وافَقْتُ رَبّي في ثلاث:
قُلْتُ: يا رسول الله! لو اتخذْتَ من مَقامِ إِبراهيمَ مُصَلّى.
فأَخَذَها من لسانِه،
وأَوردَها في قرآنه، بأَنْ قال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
وقلتُ: يا رسول الله إِنَّ نساءَكَ يدخلُ عليهنَّ البَرُّ والفاجر، فلو أَمرتَهنَّ أَنْ
يحتجِبْن.
فأَخَذَها محمدٌ من لسانِ عمر، وأَوردَها في آية (53) من سورة
الأحزاب.
واجتمعَ على محمدٍ نساؤُه في الغيرة، فقالَ عمرُ لهنَّ: عسى ربُّه إِنْ
طلقكُنَّ أَنْ يُبدِلَه أَزواجاً خيراً منكن.
فأَخَذَها محمد بنَصها، وأَوردَها في سورةِ ْالتحريم.
فهل يؤخَذُ كَلامُ اللهِ من أَفواهِ الناس؟ ".
إِنَّ الفادي الخبِيثَ غيرُ أَمينٍ على الكلامِ الذي يَنقلُه، وهو يُغَيِّرُ ويُبَدّلُ
فيه على هَواهُ، ويَتَلاعَبُ بأَلفاظِه، ويَزيدُ ويُنْقِصُ منها، ويُضيفُ لها ما يُريد.
روى البخاريُّ ومسلم وغيرهما عن أَنَسِ بنِ مالك ل به قال: قال عُمَرُ بنُ
الخطاب - رضي الله عنه -: وافَقْتُ ربي في ثلاث؟
فقلْتُ: يا رسول الله! لو اتَّخَذْنا من(1/577)
مقامِ إِبراهيمَ مُصَلّى.
فنزلَت الآية: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
وقلتُ: يا رسولَ الله! لو أَمرتَ نساءَك أَنْ يَحتجِبْن، فإِنه يُكَلِّمُهنَّ البَرّ
والفاجر، فنزلَتْ آيةُ الحجاب: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ..) .
واجتمعَ نساءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه، فقلْتُ لهنَّ: عسى ربُّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبدِلَه أَزواجاً خيراً منكنّ.
فنزلَت الآية: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ... ) .
موافقاتُ عمرَ - رضي الله عنه - ليستْ كما نَظَرَ إِليها هذا الفادي المجرمُ الخَبيث، وإِنما هي من " أَسباب النزول "، وأَسبابُ النزولِ علْمٌ ضروريٌّ من علوم القرآن، لا بُدَّ لكلِّ ناظرٍ في القرآنِ منْ أَنْ يتعلَّمَه ويَفْهَمه، فهناك بعضُ آياتِ القرآنِ نزلَتْ بعد حادثةٍ أَو مشكلةٍ وقعَتْ بين الصحابة.
وهذا من حيويةِ القرآنِ وأَثَره في المسلمين، وحَلِّه لمشكلاتِهم، وهذه مزيةٌ له، وليستْ مَطْعَناً يوجَّهُ له.
وأَشارَ إِليها قولُه تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
وموافقاتُ عمرَ - رضي الله عنه - دَليلٌ على فطنتِه وذكائِه، وعلى حُسْنِ تَفكيرِه ونَظَرِه، وعلى حُضورِ ذِهْنِه واهتمامِه بأَحوالِ المسلمين، فهو يُفكرُ ويَنظرُ ويَجتهدُ، ويَقترحُ ويَنصحُ ويُشير، وشاءَ اللهُ الحكيمُ أَنْ يُنزلَ الآياتِ الثلاث - الصلاةِ في مقامِ إِبراهيم، وأَمْرِ نساءِ النبيِّ بالحجاب، وتهديدِهنَّ إِنْ لم يتوقَّفْن عن الغيرة - بعدَ ثلاثةِ اقتراحاتٍ لعمر، وبذلك ويكونُ التفاعلُ والتأَثُّرُ بالآياتِ أكثر، ويكونُ ثناءً على عمرَ العبقريِّ - رضي الله عنه -..
واللهُ حكيم في ما كانَ يُنْزِلُه من آياتِ القرآن، يَختارُ بحكمتِه سبحانه الوقْتَ المناسب لإِنزالِ الآية أَو الآيات، ويَجعلُ ذلك الإِنزالَ مُتوافِقاً مع حالةِ المسلمين، أَوْ حَلّاً لمشكلة، أَو علاجاً لحادِثَة.
ولكنَّ الجاهلَ المفتريَ يَجعلُ مزيةَ القرآنِ مَطْعناً فيه، ويَعتبرُ مَنْقَبَتَه دَليلاً
على اتِّهامه، والسببُ هو تَحامُلُه وحِقْدُه وسَفَهُه وعُدوانيتُه!!.(1/578)
ثالثاً: ماذا أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتب اليهود؟ : وَضعَ الفادي المفترِي عنواناً مثيراً: " ما أَخَذَهُ من كُتُبِ جُهّالِ اليهود "،
وقالَ تحتَ هذا العنوان: " هاكُم جَدْولاً بالموضوعاتِ التي انتحلَها محمد،
ومكانُها في المؤلفاتِ اليهوديةِ التي أَخَذ عنها " (1) .
والموضوعاتُ التي ذكرها أَحَدَ عَشَرَ موضوعاً، وكان يذكُرُ موضِعَ كُلِّ
موضوعٍ في القرآن، وموضعَه في كتبِ اليهود.
والموضوعاتُ التي ذَكَرَها هي:
1 - تَعَلُّمُ " قايين " من الغرابِ كيفيةَ دَفْنِ أَخيه.
وهو ابنُ آدمَ الكافر، الذي سَمّاهُ اليهودُ والنصارى " قايين "، وسَمّاهُ بعضُ المسلمين " قابيل ".
علماً أَنَّ اسْمَه لم يُذْكَرْ في القرآن.
وقد ذُكرتْ قصةُ ابْنَي آدم في سورة المائدة: 30 - 35،.
وادعى الفادي أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أخذ هذا الموضوع من الكتاب اليهودي " فرقى ربي أليعزر، فصل: 21 ".
2 - طرحُ نمرودَ لإِبراهيمَ في النار، وعدمُ مقدرةِ النارِ على إِحراقه.
وقد ذكر هذا في السور التالية: الأنبياء 57 - 75،.
والصافات: 91 - 98،.
وادعى الفادي الجاهلُ أَنَّ قصةَ إِلقاءِ إِبراهيمَ في النارِ وَرَدَتْ في تسعِ
سُوَر، هي: البقرة: 260.
والأنعام: 74 - 84.
والأنبياء: 52 - 72.
والشعراء: 69 - 79.
والعنكبوت: 15 - 16.
والصا فات: 81 - 85.
والزخرف: 25 - 27.
والممتحنة: 4.
وهذا دليلُ جهْلِه بالعلمِ والبحثِ وبالقرآن، لأَنَّ الكلامَ ليس عن قصة إِبراهيمَ - عليه السلام -، ومواجهتِه لقومِه، وإِنما الكلامُ عن محاكمتِه بعد تحطيمِه الأَصنامَ، وحُكْمِهم عليه بالإِحراقِ بالنّار، وهذا لم يَرِدْ إِلّا في سورةِ الأَنبياء وسورةِ الصافات.
ولَسْنَا مع الإِخبارِيّين الذين جَعَلوا اسْمَ الملِكِ زمنَ إِبراهيم - عليه السلام -: " نمرود ".
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
11- الكلام المنقول عن غيره دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة
الشبهة التى تمسكوا بها وُرُودُ مواضع بينها تشابه فى كل من التوراة والقرآن الكريم. ومن أبرزها الجانب القصصى. وبعض المواضع التشريعية تمسكوا بها، وقالوا: إن القرآن مقتبس من التوراة، وبعضهم يضيف إلى هذا أن القرآن اقتبس مواضع أخرى من " الأناجيل ".
* الرد على هذه الشبهة:
كيف يتحقق الاقتباس عموماً؟
الاقتباس عملية فكرية لها ثلاثة أركان:
الأول: الشخص المُقتَبَس منه.
الثانى: الشخص المُقتَبِس (اسم فاعل) .
الثالث: المادة المُقتَبَسَة نفسها (اسم مفعول) .
والشخص المقُتَبَس منه سابق إلى الفكرة، التى هى موضوع الاقتباس، أما المادة المقُتَبَسَة فلها طريقتان عند الشخص المُقِتَبس، إحداهما: أن يأخذ المقتبس الفكرة بلفظها ومعناها كلها أو بعضها. والثانية: أن يأخذها بمعناها كلها أو بعضها كذلك ويعبر عنها بكلام من عنده.
والمقتبس فى عملية الاقتباس أسير المقتبس منه قطعاً ودائر فى فلكه؛ إذ لا طريق له إلى معرفة ما اقتبس إلا ما ذكره المقتبس منه. فهو أصل، والمقتبس فرع لا محالة.
وعلى هذا فإن المقتبس لابد له وهو يزاول عملية الاقتباس من موقفين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن يأخذ الفكرة كلها بلفظها ومعناها أو بمعناها فقط.
وثانيهما: أن يأخذ جزءً من الفكرة باللفظ والمعنى أو بالمعنى فقط.
ويمتنع على المقتبس أن يزيد فى الفكرة المقتبسة أية زيادة غير موجودة فى الأصل؛ لأننا قلنا: إن المقتبس لا طريق له لمعرفة ما اقتبس إلا ما ورد عند المقتبس منه، فكيف يزيد على الفكرة والحال أنه لا صلة له بمصادرها الأولى إلا عن طريق المقتبس منه.
إذا جرى الاقتباس على هذا النهج صدقت دعوى من يقول إن فلاناً اقتبس منى كذا.
أما إذا تشابه ما كتبه اثنان، أحدهما سابق والثانى لاحق، واختلف ما كتبه الثانى عما كتبه الأول مثل:
1- أن تكون الفكرة عند الثانى أبسط وأحكم ووجدنا فيها مالم نجده عند الأول.
2- أو أن يصحح الثانى أخطاء وردت عند الأول، أو يعرض الوقائع عرضاً يختلف عن سابقه.
فى هذه الحال لا تصدق دعوى من يقول إن فلانا قد اقتبس منى كذا.
ورَدُّ هذه الدعوى مقبول من المدعى عليه، لأن المقتبس (اتهامًا) لما لم يدر فى فلك المقتبس منه (فرضاً) بل زاد عليه وخالفه فيما ذكر من وقائع فإن معنى ذلك أن الثانى تخطى ما كتبه الأول حتى وصل إلى مصدر الوقائع نفسها واستقى منها ما استقى. فهو إذن ليس مقتبساً وإنما مؤسس حقائق تلقاها من مصدرها الأصيل ولم ينقلها عن ناقل أو وسيط.
وسوف نطبق هذه الأسس التى تحكم عملية الاقتباس على ما ادعاه القوم هنا وننظر:
هل القرآن عندما اقتبس كما يدعون من التوراة كان خاضعاً لشرطى عملية الاقتباس وهما: نقل الفكرة كلها، أو الاقتصار على نقل جزء منها فيكون بذلك دائراً فى فلك التوراة، وتصدق حينئذ دعوى القوم بأن القرآن (معظمه) مقتبس من التوراة؟
أم أن القرآن لم يقف عند حدود ما ذكرته التوراة فى مواضع التشابه بينهما؟ بل:
1 عرض الوقائع عرضاً يختلف عن عرض التوراة لها.
2 أضاف جديداً لم تعرفه التوراة فى المواضع المشتركة بينهما.
3 صحح أخطاء " خطيرة " وردت فى التوراة فى مواضع متعددة.
4 انفرد بذكر " مادة " خاصة به ليس لها مصدر سواه.
5 فى حالة اختلافه مع التوراة حول واقعة يكون الصحيح هو ما ذكره القرآن. والباطل ما جاء فى التوراة بشهادة العقل والعلم إذا كان الاحتمال الأول هو الواقع فالقرآن مقتبس من التوراة..
أما إذا كان الواقع هو الاحتمال الثانى فدعوى الاقتباس باطلة ويكون للقرآن فى هذه الحالة سلطانه الخاص به فى استقاء الحقائق، وعرضها فلا اقتباس لا من توراة ولا من إنجيل ولا من غيرهما.
لا أظن أن القارئ يختلف معنا فى هذه الأسس التى قدمناها لصحة الاتهام بالاقتباس عموماً.
وما علينا بعد ذلك إلا أن نستعرض بعض صور التشابه بين التوراة والقرآن، ونطبق عليها تلك الأسس المتقدمة تاركين الحرية التامة للقارئ سواء كان مسلماً أو غير مسلم فى الحكم على ما سوف تسفر عنه المقارنة أنحن على صواب فى نفى الاقتباس عن القرآن؟.
والمسألة بعد ذلك ليست مسألة اختلاف فى الرأى يصبح فيها كل فريق موصوفاً بالسلامة، وأنه على الحق أو شعبة من حق.
وإنما المسألة مسألة مصير أبدى من ورائه عقيدة صحيحة توجب النجاة لصاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أو عقيدة فاسدة تحل قومها دار البوار يوم يقدم الله إلى ما عملوا من عمل فيجعله هباءً منثوراً.
الصورة الأولى من التشابه بين التوراة والقرآن. لقطة من قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز
تبدأ هذه اللقطة من بدء مراودة امرأة عزيز مصر ليوسف (عليه السلام) ليفعل بها الفحشاء وتنتهى بقرار وضع يوسف فى السجن. واللقطة كما جاءت فى المصدرين هى:
أولاً: نصوصها فى التوراة: (1)
" وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينها إلى يوسف وقالت: اضطجع معى، فأبى وقال لامرأة سيده: هو ذا سيدى لا يعرف معى ما فى البيت وكل ما له قد دفعه إلى يدى، ليس هو فى هذا البيت أعظم منى. ولم يمسك عنى شيئا غيرك لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله، وكانت إذ كلمت يوسف يومًا فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها..
ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك فى البيت فأمسكته بثوبه قائلة اضطجع معى فترك ثوبه فى يدها وخرج إلى خارج، وكان لما رأت أنه ترك ثوبه فى يدها، وهرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة:
" انظروا قد جاء إلينا برجل عبرانى ليداعبنا دخل إلىّ ليضطجع معى فصرخت بصوت عظيم، وكان لما سمع أنى رفعت صوتى وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبى وهرب وخرج إلى خارج. فَوَضَعَتْ ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل إلىَّ العبد العبرانى الذى جئت به إلينا ليداعبنى وكان لما رفعت صوتى وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبى وهرب إلى خارج فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذى كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بى عبدك أن غضبه حمى..
فأخذ سيدُه يوسف ووضعه فى بيت السجن المكان الذى كان أسرى الملك محبوسين فيه ".
نصوص القرآن الأمين
(وَرَاوَدَتْهُ التى هوَ فى بيتها عن نفسه وغلّقتِ الأبوابَ وقالتْ هيت لك قال معاذ الله إنهُ ربى أحسنَ مثواى إنهُ لايُفلحُ الظالمون *ولقد هَمَّتْ به وَهَمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرفَ عنهُ السوءَ والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دُبرٍ وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاءُ من أراد بأهلكَ سوءًا إلا أن يُسجن أو عذابُ أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصَه قُد من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُد من دُبرٍ فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قُد من دُبرٍ قال إنه من كيدكُنَّ إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبكِ إنك كنتِ من الخاطئ ... (2) ثم بدا لهم من بعد مارأوا الآيات لَيَسْجنُنَّهُ حتى حين) (3) .
تلك هى نصوص الواقعة فى المصدرين:
وأدعو القارئ أن يقرأ النصين مرات قراءة متأنية فاحصة. وأن يجتهد بنفسه فى التعرف على الفروق فى المصدرين قبل أن يسترسل معنا فيما نستخلصه من تلك الفروق. ثم يكمل ما يراه من نقص لدينا أو لديه فقد يدرك هو ما لم ندركه، وقد ندرك نحن ما لم يدركه وربَّ قارئ أوعى من كاتب..
الفروق كما نراها
التوراة: القرآن الأمين
المراودة حدثت مرارًا ونُصح يوسف لامرأة سيده كان قبل المرة الأخيرة: المراودة حدثت مرة واحدة اقترنت بعزم المرأة على يوسف لينفذ رغبتها.
تخلو من الإشارة إلى تغليق الأبواب وتقول إن يوسف ترك ثوبه بجانبها وهرب وانتظرت هى قدوم زوجها وقصت عليه القصة بعد أن أعلمت بها أهل بيتها.: يشير إلى تغليق الأبواب وأن يوسف هم بالخروج فَقَدَّتْ ثوبه من الخلف وحين وصلا إلى الباب فوجئا بالعزيز يدخل عليهما فبادرت المرأة بالشكوى فى الحال.
لم يكن يوسف موجوداً حين دخل العزيز ولم يدافع يوسف عن نفسه لدى العزيز.: يوسف كان موجوداً حين قدم العزيز، وقد دافع عن نفسه بعد وشاية المرأة، وقال هى راودتنى عن نفسى.
تخلو من حديث الشاهد وتقول إن العزيز حمى غضبه على يوسف بعد سماع المرأة: يذكر تفصيلاً شهادة الشاهد كما يذكر اقتناع العزيز بتلك الشهادة ولومه لامرأته وتذكيرها بخطئها. وتثبيت يوسف على العفة والطهارة.
تقول إن العزيز فى الحال أمر بوضع يوسف فى السجن ولم يعرض أمره على رجال حاشيته.
يشير إلى أن القرار بسجن يوسف كان بعد مداولة بين العزيز وحاشيته.
تخلو من حديث النسوة اللاتى لُمْنَ امرأة العزيز على مراودتها فتاها عن نفسه، وهى فجوة هائلة فى نص التوراة.
يذكر حديث النسوة بالتفصيل كما يذكر موقف امرأة العزيز منهن ودعوتها إياهن ملتمسة أعذارها لديهن ومصرة على أن ينفذ رغبتها
هذه ستة فروق بارزة بين ما يورده القرآن الأمين، وما ذكرته التوراة. والنظر الفاحص فى المصدرين يرينا أنهما لم يتفقا إلا فى " أصل " الواقعة من حيث هى واقعة وكفى، ويختلفان بعد هذا فى كل شىء. على أن القرآن قام هنا بعملين جليلى الشأن:
أولهما: أنه أورد جديداً لم تعرفه التوراة ومن أبرز هذا الجديد:
(1) حديث النسوة وموقف المرأة منهن.
(2) شهادة الشاهد الذى هو من أهل امرأة العزيز.
ثانيهما: تصحيح أخطاء وقعت فيها التوراة ومن أبرزها:
(1) لم يترك يوسف ثوبه لدى المرأة بل كان لابساً إياه ولكن قطع من الخلف.
(2) غياب يوسف حين حضر العزيز وإسقاطها دفاعه عن نفسه.
اعتراض وجوابه:
قد يقول قائل: لماذا تفترض أن الخطأ هو ما فى التوراة، وأن الصواب هو ما فى القرآن؟! أليس ذلك تحيزاً منك للقرآن؛ لأنه كتاب المسلمين وأنت مسلم؟ ولماذا تفترض العكس؟ وإذا لم تفترض أنت العكس فقد يقول به غيرك، وماتراه أنت لا يصادر ما يراه الآخرون. هذا الاعتراض وارد فى مجال البحث. وإذن فلابد من إيضاح.
والجواب:
لم نتحيز للقرآن لأنه قرآن. ولنا فى هذا الحكم داعيان:
الأول: لم يرد فى القرآن - قط - ما هو خلاف الحق؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وقد ثبتت هذه الحقيقة فى كل مجالات البحوث التى أجريت على " مفاهيم " القرآن العظيم فى كل العصور. وهذا الداعى وحده كافٍ فى تأييد ما ذهبنا إليه.
الثانى: وهو منتزع من الواقعة نفسها موضوع المقارنة وإليك البيان: كل من التوراة والقرآن متفقان على " عفة يوسف "وإعراضه عن الفحشاء. ثم اختلفا بعد ذلك:
فالتوراة تقول: إن يوسف ترك ثوبه كله لدى المرأة وهرب والقرآن يقول: إنه لم يترك الثوب بل أمسكته المرأة من الخلف ولما لم يتوقف يوسف عليه السلام اقتطعت قطعة منه وبقيت ظاهرة فى ثوبه.
فأى الروايتين أليق بعفة يوسف المتفق عليها بين المصدرين؟! أن يترك ثوبه كله؟! أم أن يُخرق ثوبه من الخلف؟!
إذا سلمنا برواية التوراة فيوسف ليس " عفيفاً " والمرأة على حق فى دعواها؛ لأن يوسف لا يخلع ثوبه هكذا سليماً إلا إذا كان هو الراغب وهى الآبية.
ولا يقال إن المرأة هى التى أخلعته ثوبه؛ لأن يوسف رجل، وهى امرأة فكيف تتغلب عليه وتخلع ثوبه بكل سهولة، ثم لما يمتنع تحتفظ هى بالثوب كدليل مادى على جنايته المشينة؟!
وهل خرج يوسف " عريانًا " وترك ثوبه لدى غريمته..؟!
والخلاصة أن رواية التوراة فيها إدانة صريحة ليوسف وهذا يتنافى مع العفة التى وافقت فيها القرآن الأمين.
أما رواية القرآن فهى إدانة صريحة لامرأة العزيز، وبراءة كاملة ليوسف عليه السلام.
لقد دعته المرأة إلى نفسها ففر منها. فأدركته وأمسكته من الخلف وهو ما يزال فاراً هارباً من وجهها فتعرض ثوبه لعمليتى جذب عنيفتين إحداهما إلى الخلف بفعل المرأة والثانية إلى الأمام بحركة يوسف فانقطع ثوبه من الخلف.
وهذا يتفق تماماً مع العفة المشهود بها ليوسف فى المصدرين ولهذا قلنا: إن القرآن صحح هذا الخطأ الوارد فى التوراة.
.. فهل القرآن مقتبس من التوراة؟!
فهل تنطبق على القرآن أسس الاقتباس أم هو ذو سلطان خاص به فيما يقول ويقرر؟.
المقتبس لا بد من أن ينقل الفكرة كلها أو بعضها. وها نحن قد رأينا القرآن يتجاوز هذه الأسس فيأتى بجديد لم يذكر فيما سواه، ويصحح خطأ وقع فيه ما سواه.
فليس الاختلاف فيها اختلاف حَبْكٍ وصياغة، وإنما هو اختلاف يشمل الأصول والفروع. هذا بالإضافة إلى إحكام البناء وعفة الألفاظ وشرف المعانى (4) .
إن الذى روته التوراة هنا لا يصلح ولن يصلح أن يكون أساساً للذى ذكره القرآن. وإنما أساس القرآن هو الوحى الصادق الأمين. ذلك هو مصدر القرآن " الوضىء " وسيظل ذلك هو مصدره تتساقط بين يديه دعاوى الباطل ومفتريات المفترين فى كل عصر ومصر.
الصورة الثانية من صور التشابه بين التوراة والقرآن
قصة هابيل وقابيل ابنى آدم
نصوص التوراة:
" حدث من بعد أيام أن قابين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه، ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قابين. وقربانه لم ينظر. فاغتاظ قابين جداً وسقط وجهه. فقال الرب لقابين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا رفع؟؟. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها. وكلم قابين هابيل أخاه. وحدث إذ كانا فى الحقل أن قابين قام على هابيل أخيه وقتله. فقال الرب لقابين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أحارس أنا لأخى؟ فقال ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إلىَّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التى فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك متى عملت الأرض؟؟ تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون فى الأرض فقال قابين للرب: ذنبى أعظم من أن يحتمل أنك قد طردتنى اليوم على وجه الأرض، ومن وجهك أختفى وأكون تائهاً وهارباً فى الأرض فيكون كل من وجدنى يقتلنى فقال له الرب: لذلك كل من قتل قابين فسبعة أضعاف ينتقم منه. وجعل الرب لقابين علامة لكى لا يقتله كل من وجده. فخرج قابين من لدن الرب وسكن فى أرض نود شرقى عدن " (5) .
نصوص القرآن الأمين
(واتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبلُ الله من المتقين * لئن بسطت إلىَّ يدك لتقتلنى ما أنا بباسطٍ يدى إليك لأقتلك إنى أخافُ الله ربَّ العالمين * إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين* فطوعت له نفسهُ قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابًا يبحث فى الأرض ليُرِيَهُ كيف يوارى سوءة أخيه * قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارىَ سوءة أخى فأصبح من النادمين * من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك فى الأرض لمسرفون) (6) .
الفروق بين المصدرين
اتفق المصدران حول نقطتين اثنتين لا ثالث لهما واختلفا فيما عداهما. اتفقا فى: مسألة القربان. وفى قتل أحد الأخوين للآخر. أما فيما عدا هاتين النقطتين فإن ما ورد فى القرآن يختلف تماماً عما ورد فى التوراة، وذلك على النحو الآتى:
التوارة/القرآن الأمين
تسمى أحد الأخوين بقابين وهو " القاتل " والثانى " هابيل " كما تصف القربانين وتحدد نوعهما./ لايسميهما ويكتفى ببنوتهما لآدم كما اكتفى بذكر القربانين ولم يحددهما.
تروى حواراً بين قابين والرب بعد قتله أخاه،وتعلن غضب الرب على قابين وطرده من وجه الرب إلى أرض بعيدة./ لا يذكر حواراً حدث بين القاتل وبين الله، ولا يذكر أن القاتل طرده الله من وجهه إلى أرض بعيدة، إذ ليس على الله بعيد.
التوراة تخلو من أى حوار بين الأخوين./ يذكر الحديث الذى دار بين ابنى آدم ويفصل القول عما صدر من القتيل قبل قتله وتهديده لأخيه بأنه سيكون من أصحاب النار إذا قتله ظلماً..
لا مقابل فى التوراة لهذه الرواية ولمْ تبين مصير جثة القتيل؟! / يذكر مسألة الغراب، الذى بعثه الله لٍِيُرى القاتل كيف يتصرف فى جثة أخيه، ويوارى عورته.
تنسب الندم إلى " قابين " القاتل لما هدده الله بحرمانه من خيرات الأرض، ولا تجعله يشعر بشناعة ذنبه./ يصرح بندم " القاتل " بعد دفنه أخيه وإدراكه فداحة جريمته.
لا هدف لذكر القصة فى التوراة إلا مجرد التاريخ. فهى معلومات ذهنية خالية من روح التربية والتوجيه. /يجعل من هذه القصة هدفاً تربوياً ويبنى شريعة القصاص العادل عليها. ويلوم بنى إسرائيل على إفسادهم فى الأرض بعد مجىء رسل الله إليهم.
أضف إلى هذه ما تحتوى عليه التوراة من سوء مخاطبة " قابين" الرب، فترى فى العبارة التى فوق الخط: " أحارس أنا لأخى " فيها فظاظة لوصدرت من إنسان لأبيه لعد عاقًّا جافًّا فظًّا غليظًّا فكيف تصدر من " مربوب " إلى " ربه " وخالقه..؟!
ولكن هكذا تنهج التوراة فلا هى تعرف " قدر الرب " ولا من تنقل عنه حواراً مع الرب.
ولا غرابة فى هذا فالتوراة تذكر أن موسى أمر ربه بأن يرجع عن غضبه على بنى إسرائيل، بل تهديده إياه سبحانه بالاستقالة من النبوة إذا هو لم يستجب لأمره.
والواقع أن ما قصَّهُ علينا القرآن وهو الحق من أمر ابنى آدم مختلف تماماً عما ورد فى التوراة فى هذا الشأن.
فكيف يقال: إن القرآن اقتبس هذه الأحداث من التوراة وصاغها فى قالب البلاغة العربية؟!
إن الاختلاف ليس فى الصياغة، بل هو اختلاف أصيل كما قد رأيت من جدول الفروق المتقدم.
والحاكم هنا هو العقل فإذا قيل: إن هذه القصة مقتبسة من التوراة قال العقل:
* فمن أين أتى القرآن بكلام الشقيق الذى قتل مع أخيه، وهو غير موجود فى نص التوراة التى يُدعى أنها مصدر القرآن؟!
* ومن أين أتى القرآن بقصة الغراب الذى جاء ليُرى القاتل كيف يوارى سوءة أخيه وهى غير واردة فى التوراة المُدَّعى أصالتها للقرآن؟!
* ولماذا أهمل القرآن الحوار الذى تورده التوراة بين " الرب " وقابين القاتل وهذا الحوار هو هيكل القصة كلها فى التوراة؟!
إن فاقد الشىء لا يعطيه أبداً، وهذا هو حكم العقل. والحقائق الواردة فى القرآن غير موجودة فى التوراة قطعاً فكيف تعطى التوراة شيئاً هى لم تعرف عنه شيئاً قط..؟!
لا.. إن القرآن له مصدره الخاص به الذى استمد منه الوقائع على وجهها الصحيح، ومجرد التشابه بينه وبين التوراة فى " أصل الواقعة " لا يؤثر فى استقلال القرآن أبداً.
الصورة الثالثة من صورالتشابه بين التوراة والقرآن مقارنة بين بعض التشريعات
المحرمات من النساء
قارَنَّا فيما سبق بين بعض المسائل التاريخية التى وردت فى كل من التوراة والقرآن الأمين. وأثبتنا بأقطع الأدلة أن القرآن له سلطانه الخاص به فيما يقول ويقرر، ورددنا دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة. وبَيَّنَّا حكم العقل فى هذه الدعوى كما أقمنا من الواقع " المحكى " أدلة على ذلك.
ونريد هنا أن نقارن بين بعض المسائل التشريعية فى المصدرين؛ لأنهم يقولون: إن المسائل والأحكام التشريعية التى فى القرآن لا مصدر لها سوى الاقتباس من التوراة.
وقد اخترنا نص المحرمات من النساء فى التوراة لنقابله بنص المحرمات من النساء فى القرآن الحكيم ليظهر الحق.
النص فى المصدرين
أولاً: فى التوراة:
" عورة أبيك وعورة أمك لا تكشف. إنها أمك لا تكشف عورتها. عورة امرأة أبيك لا تكشف. إنها عورة أبيك. عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة فى البيت، أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها. عورة ابنة ابنك أو ابنة بنتك لا تكشف عورتها إنها عورتك. عورة بنت امرأة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف عورتها إنها أختك. عورة أخت أبيك لا تكشف إنها قريبة أبيك. عورة أخت أمك لا تكشف إنها قريبة أمك عورة أخى أبيك لا تكشف، إلى امرأته لا تقرب إنها عمتك. عورة كنتك لا تكشف. إنها امرأة ابنك لا تكشف عورتها.
عورة امرأة أخيك لا تكشف إنها عورة أخيك. عورة امرأة، وبنتها لا تكشف، ولا تأخذ ابنة ابنتها أو ابنة بنتها لتكشف عورتها إنهما قريبتاها. إنه رذيلة. ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها فى حياتها (7) .
ثانياً: فى القرآن الحكيم:
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا * حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيما والمحصنات من النساء..) (8) .
هذان هما النصان فى المصدرين. نص التوراة، ونص القرآن الحكيم. فما هى أهم الفروق بينهما ياترى؟!
وقبل إجراء المقارنة نفترض صحة النص التوراتى وخلوه من التحريف إذ لا مانع أن يكون هذا النص فعلاً مترجماً عن نص أصلى تشريعى خلا مترجمه من إرادة تحريفه.
والمهم هو أن نعرف هل يمكن أن يكون نص التوراة هذا أصلاً اقتبس منه القرآن الحكيم فكرة المحرمات من النساء، علماً بأن النص التوراتى قابل إلى حد كبير لإجراء دراسات نقدية عليه، ولكن هذا لا يعنينا هنا.
الفروق بين المصدرين:
التوراة:
1- لا تقيم شأنًا للنسب من جهة الرضاعة.
2- تحرم نكاح امرأة العم وتدعوها عمة.
3- تحرم نكاح امرأة الأخ لأخيه.
4- لا تذكر حرمة النساء المتزوجات من رجال آخرين زواجهم قائم.
5- تجعل التحريم غالباً للقرابة من جهة غير الزوج مثل قرابة الأب الأم العم 000 وهكذا.
القرآن الأمين:
1- يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
2- لا يحرم نكاح امرأة العم ولا يدعوها عمة.
3- لا يحرم نكاح امرأة الأخ لأخيه إذا طلقها أو مات عنها أخوه.
4- يحرم نكاح المتزوجات فعلاً من آخرين زواجاً قائماً ويطلق عليهن وصف المحصنات من النساء.
5- يجعل التحريم لقرابة الزوج ممن حرمت عليه. أو قرابة زوجته أحياناً.
هذه الفروق الواضحة لا تؤهل النص التوراتى لأن يكون أصلاً للنص القرآنى، علميًّا، وعقليًّا، فللنص القرآنى سلطانه الخاص ومصدره المتميز عما ورد فى التوراة. وإلا لما كان بين النصين فروق من هذا النوع المذكور.
وقفة مع ما تقدم:
نكتفى بما تقدم من التوراة وإن كانت التوراة مصدراً ثَرَاً لمثل هذه المقارنات، ولو أرخينا عنان القلم لما وقفنا عند حد قريب ولتضاعف هذا
الحجم مئات المرات. ومع هذا فما من مقارنة تجرى بين التوراة وبين القرآن إلا وهى دليل جديد على نفى أن يكون القرآن مقتبساً من كتاب سابق عليه، فالقرآن وحى أمين حفظ كلمات الله كما أنزلت على خاتم النبيين (وقد رأينا فى المقارنات الثلاث المتقدمة أن القرآن فوق ما يأتى به من جديد ليس معروفاً فى سواه إنه يصحح أخطاء وقعت فيما سواه وهذا هو معنى " الهيمنة " التى خَصَّ الله بها القرآن فى قوله تعالى: (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه) (9) .
فالأمور التى لم يلحقها تحريف فى التوراة جاء القرآن مصدقاً لها أو هو مصدق لكل من التوراة والإنجيل بالصفة التى أنزلها الله عليهما قبل التحريف والتبديل.
أما الأمور التى حُرفت، وتعقبها القرآن فقصها قصًّا صحيحاً أميناً، وصحح ما ألحقوه بهما من أخطاء، فذلك هو سلطان " الهيمنة " المشهود للقرآن بها من منزل الكتاب على رسله.
فالقرآن هو كلمة الله " الأخيرة " المعقبة على كل ما سواها، وليس وراءها معقب يتلوها؛ لأن الوجود الإنسانى ليس فى حاجة مع وجود القرآن إلى غير القرآن.
كما أن الكون ليس فى حاجة مع الشمس إلى شمس أخرى تمده بالضوء والطاقة بعد وفاء الشمس بهما.
ولنأخذ صورة مقارنة من العهد الجديد أيضًا حيث يختلف عن العهد القديم وذلك لأن نص الإنجيل الذى سندرسه يقابله من القرآن نصان كل منهما فى سورة مما يصعب معه وضع النص الإنجيلى فى جدول مقابلا بالنصين القرآنيين. ولهذا فإننا سنهمل نظام الجدول هنا ونكتفى بعرض النصوص، والموازنة بينها والموضوع الذى سنخضعه للمقارنة هنا هو بشارة زكريا عليه السلام بابنه يحى عليه السلام وذلك على النحو الآتى:
الصورة الرابعة من الإنجيل والقرآن
بشارة زكريا ب " يحيى " (عليهما السلام)
النص الإنجيلى:
" لم يكن لهما يعنى زكريا وامرأته ولد. إذ كانت اليصابات يعنى امرأة زكريا عاقراً. وكان كلاهما متقدمين فى أيامهما فبينما هو يكهن فى نوبة غرفته أمام الله حسب عادة الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر، وكان كل جمهور الشعب يصلى خارجاً وقت البخور. فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك: لاتخف يا زكريا؛ لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ولداً وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج. وكثيرون سيفخرون بولادته؛ لأنه يكون عظيماً أمام الرب. وخمراً ومسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس ويرد كثيرين من بنى إسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء. والعصاة إلى فكر الأبرار، لكى يهئ للرب شعباً مستعدًّا. فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتى متقدمة فى أيامها..؟!
فأجاب الملاك وقال: أنا جبرائيل الواقف قدام الله. وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا. وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذى يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامى الذى سيتم فى وقته. وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه فى الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا فى الهيكل. فكان يومئ إليهم. وبقى صامتاً.." (10) .
النصوص القرآنية:
(1) سورة آل عمران:
(هنالِكَ دعا زكريا ربَّهُ قال رب هب لى من لدُنك ذريةً طيبةً إنك سميعُ الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يُبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله وسيداً وحصوراً ونبيًّا من الصالحين * قال رب أنى يكون لى غلامٌ وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر قال كذلِكَ الله يفعلُ ما يشاء * قال ربِّ اجعل لى آية قال آيتك ألا تُكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار) (11) .
(2) سورة مريم:
(ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيًّا * قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا * وإنى خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقراً فهب لى من لدنك وليًّا * يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضيًّا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًّا * قال رب أًنَّى يكون لى غلام وكانتً امرأتى عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيًّا * قال كذلكَ قال ربكَ هو علىَّ هينٌ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًّا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًّا * وحناناً من لدنَّا وزكاةً وكان تقيًّا * وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيًّا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا) (12) .
ذلك هو نص الإنجيل. وذان هما نصا القرآن الأمين. والقضية التى نناقشها هنا هى دعوى " الحاقدين " أن القرآن مقتبس من الأناجيل كما ادعوا قبلا أنه مقتبس من التوراة.
وندعو القارئ أن يراجع النص الإنجيلى مرات، وأن يتلو النصوص القرآنية مرات، ويسأل نفسه هذا السؤال:
هل من الممكن علميًّا وعقليًّا أن يكون النص الإنجيلى مصدرًا لما ورد فى القرآن الأمين؟!
إن المقارنة بين هذه النصوص تسفر عن انفراد النصوص القرآنية بدقائق لا وجود لها فى النص الإنجيلى. ومن أبرز تلك الدقائق ما يلى:
أولاً: فى سورة آل عمران:
(أ) تقدم على قصة البشارة فى" آل عمران" قصة نذر امرأة عمران ما فى بطنها لله محرراً. وهذا لم يرد فى النص الإنجيلى.
(ب) الإخبار بأنها ولدت أنثى " مريم " وكانت ترجو المولود ذكرا وهذا لم يأت فى النص الإنجيلى.
(ج) كفالة زكريا للمولودة "مريم " ووجود رزقها عندها دون أن يعرف مصدره والله سبحانه وتعالى أعلم سؤاله إياها عن مصدره. وهذا بدوره لم يرد فى النص الإنجيلى.
(د) القرآن يربط بين قصة الدعاء بمولود لزكريا وبين قصة مولودة امرأة عمران. وهذا لا وجود له فى النص الإنجيلى.
(هـ) دعاء زكريا منصوص عليه فى القرآن وليس له ذكر فى النص الإنجيلى.
ثانياً: فى سورة مريم:
(أ) ما رتبه زكريا على هبة الله له وليًّا، وهو أن يرثه ويرث من آل يعقوب. ولم يرد هذا فى النص الإنجيلى.
(ب) السبب الذى حمل زكريا على دعاء ربه وهو خوفه الموالى من ورائه والنص الإنجيلى يخلو من هذا.
(ج) كون زكريا أوحى لقومه بأن يسبحوا بكرة وعشيًّا. ولا وجود لهذا فى النص الإنجيلى.
(د) الثناء على المولود " يحيى " من أنه بار بوالديه عليه سلام الله يوم ولادته ويوم موته ويوم بعثه حيًّا ورد فى القرآن ولا مقابل له فى النص الإنجيلى.
هذا كله جديد خاص بالقرآن لا ذكر له فى سواه. وهذا يعنى أن القرآن قد صور الواقعة المقصوصة تصويراً أمينًا كاملاً.
وهذه هى المهمة الأولى التى تعقب بها القرآن المهيمن ما ورد فى الإنجيل المذكور.
وبقيت مهمة جليلة ثانية قام بها القرآن المهيمن نحو النص الإنجيلى، كما قام بمثلها نحو النصوص التوراتية المتقدمة. وتلك المهمة هى: تصحيح الأخطاء التى وردت فى النص الإنجيلى.
ومن ذلك:
(أ) النص الإنجيلى يجعل الصمت الذى قام بزكريا عقوبة له من الملاك.
فصحح القرآن هذه الواقعة، وجعل الصمت استجابة لدعاء زكريا ربه. وقد حرص على هذا النصان القرآنيان معاً. ففى آل عمران (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً (وفى مريم: (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (.
فالصمت فكان تكريما لزكريا عليه السلام من الله، وليس عقوبة من الملاك، وقد انساق بعض مفسرى القرآن الكريم وراء هذا التحريف الإنجيلى فقال: إن الصمت كان عقوبة لزكريا، ولكن من الله لا من الملاك.
وها نحن نرفض هذا كله سواء كان القائل به مسلما أو غيرمسلم.
فما هو الذنب الذى ارتكبه زكريا حتى يعاقب من الله أو حتى من الملاك؟!
هل إقراره بكبر سنه وعقر امرأته هو الذنب؟!
لقد وقع هذا من إبراهيم عليه السلام حين بشر بإسحق، ووقع من سارة حين بشرت به فلم يعاقب الله منهما أحداً.
وقد وقع هذا من " مريم " حين بُشِّرَتْ بحملها بعيسى ولم يعاقبها الله عليه. فما السر فى ترك إبراهيم وسارة ومريم بلا عقوبة وإنزالها بزكريا وحده مع أن الذى صدر منه صدر مثله تماماً من غيره.
أفى المسألة محاباة..؟! كلا.. فالله لا يحابى أحداً.
إن أكبر دليل على نفى هذا القول هو خلو النصوص القرآنية منه، وليس هذا تعصباً منا للقرآن. وإنما هو الحق، والمسلك الكريم اللائق بمنزلة الرسل عند ربهم.
إن الصمت الذى حل بزكريا كان بالنسبة لتكليم الناس، ومع هذا فقد ظل لسانه يلج بحمد الله وتسبيحه فى العشى والإبكار كما نص القرآن الأمين.
(ب) النص الإنجيلى يحدد مدة الصمت بخروج زكريا من الهيكل إلى يوم أن ولد يحيى.
وهذا خطأ ثانٍ صححه القرآن المهيمن فجعل مدته ثلاثة أيام بلياليهن بعد الخروج من المحراب.
(ج) النص الإنجيلى يجعل البشارة على لسان ملاك واحد، بينما النصان القرآنيان يجعلانها على لسان جمع من الملائكة: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب) (13) .
(يا زكريا إنا نبشرك بغلام..) (14) .
وهذا خطأ ثالث وقع فيه النص الإنجيلى فصححه القرآن الأمين.
(د) النص الإنجيلى يجعل التسمبة ب " يحيى " يوحنا من اختيار زكريا بيد أن الملاك قد تنبأ بها.
وهذا خطأ رابع صححه القرآن الأمين فجعل التسمية من وحى الله إلى زكريا: (.. اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) (15) .
(هـ) النص الإنجيلى يقول: " إن زكريا حين جاءه الملاك وقع عليه خوف واضطراب ".
وقد خلا النص القرآنى من هذا.. فدل خلوه منه على أنه لم يقع.
ذلك أن القرآن الحكيم عَوَّدَنَا فى قَصِّهِ للوقائع المناظرة لهذه الواقعة أن يسجلها إذا حدثت ولا يهملها، بدليل أنه قد نَصَّ عليها فى واقعة السحرة مع موسى عليه السلام فقال: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى) (16) . وقال فى شأنه كذلك عند انقلاب العصى حية لأول مرة: (فلما رآها تهتز كأنها جَانُّ وَلَّى مُدبِراً ولم يُعَقِّبْ) (17) . وحكاها عن إبراهيم عليه السلام حين جاءته الملائكة تبشره فقال حكاية عن إبراهيم لضيوفه: (إنا منكم وجلون) (18) . وحكاها عن مريم حين جاءها الملك: (قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) (19) .
وحِرْصُ القرآن على ذكر هذا الانفعال (الخوف، إذا حدث) يدل على أن خلوه منه بالنسبة لزكريا دليل على أنه لم يقع منه خوف قط، وهذا " الخلو "يعتبر تصحيحاً لما ورد فى الإنجيل من نسبة حدث إلى زكريا هو فى الواقع لم يصدر منه.
فهذه خمسة أخطاء قام بتصحيحها القرآن الأمين نحو نصوص الإنجيل المذكورة هنا فى المقارنة. وبهذا نقول:
إن القرآن أدى هنا فى تعقبه للنص الإنجيلى مهمتين جليلتين:
الأولى: تصوير الواقعة المقصوصة تصويراً أميناً كاملاً.
الثانية: تصحيح الأخطاء الواردة فى النص الإنجيلى المقارن.
وقفة أخيرة مع دعوى الاقتباس:
موضوع الدعوى كما يروج لها المبشرون أن القرآن اقتبس من الكتاب المقدس كل قَصَصِهِ التاريخى.
والواقعة التى هى موضوع دعوى الاقتباس هنا هى حادثة تاريخية دينية محددة ببشارة زكريا عليه السلام بيحيى عبد الله ورسوله ووثائق تسجيلها هما: الإنجيل، ثم القرآن الأمين.
وصلة الإنجيل بالواقعة المقصوصة أنه سجلها فرضًا بعد زمن وقوعها بقليل؛ لأن عيسى كان معاصراً ليحيى عليهما السلام وصلة القرآن الأمين بها أنه سجلها بعد حدوثها بزمن طويل " حوالى سبعمائة سنة ".
وقرب الإنجيل من وقوع الحادثة المقصوصة، وبُعد القرآن الزمنى عنها يقتضى إذا سلمنا جدلاً بدعوى الاقتباس المطروحة أن يأتى الاقتباس على إحدى صورتين:
أولاهما: أن يقتبس القرآن جزءًا مما ورد من القصة الكلية فى الإنجيل. وتظل القصة فيه ناقصة عما هى عليه فى المصدر المقتبس منه (الإنجيل) على حسب زعمهم.
ثانيهما: أن يقتبس القرآن القصة كلها كما هى فى الإنجيل بلا نقص ولا زيادة، سواء أخذها بألفاظها أو صاغها فى أسلوب جديد (البلاغة العربية كما يدعون) ، بشرط أن يتقيد بالمعانى الواردة فى المصدر المقتبس منه؛ لأن الفرض قائم (حتى الآن) على أن القرآن لم يكن له مصدر يستقى منه الواقعة غير الإنجيل المقتبس منه.
ومحظور على القرآن عملا بهذه القيود التى تكتنف قضية الاقتباس للوقائع التاريخية من مصدرها الأوحد أن يأتى بجديد أو يضيف إلى الواقعة ما ليس فى مصدرها الأوحد.
فماذا صنع القرآن إذن؟
هل اقتبس من الإنجيل جزءًا من الواقعة؟ أم الواقعة كلها؟!
دائراً فى فلك الإنجيل دورة ناقصة أو دورة كاملة؟!
لو كان القرآن قد فعل هذا: اقتبس جزءاً من الواقعة كلها، وَلَوْ مع صياغة جديدة لم تغير من المعنى شيئا؛ لكان لدعوى الاقتباس هذه ما يؤيدها من الواقع القرآنى نفسه. ولما تردد فى تصديقها أحد.
ولكننا قد رأينا القرآن لم يفعل شيئًا مما تقدم. لم يقتبس جزءاً من الواقعة ولا الواقعة كلها.
وإنما صورها تصويراً أميناً رائعاً. سجل كل حقائقها، والتقط بعدساته كل دقائقها. وعرضها عرضاً جديداً نقيًّا صافياً، وربط بينها وبين وقائع كانت كالسبب الموحد لها فى بناء محكم وعرض أمين.
ولم يقف القرآن عند هذا الحد.. بل قام بإضافة الكثير جدًّا من الجديد الذى لم يعرفه الإنجيل. وصحح كثيراً من الأخطاء التى وردت فيه بفعل التحريف والتزوير. إما بالنص وإما بالسكوت. وهذا لا يتأتى من مقتبس ليس له مصدر سوى ما اقتبس منه.
وإنما يتأتى ممن له مصدره ووسائله وسلطانه المتفوق، بحيث يتخطى كل الحواجز، ويسجل الواقعة من " مسرحها " كما رآها هو، وعقلها هو، وسجلها هو. وكان هذا هو القرآن.
إن المصدر الوحيد للقرآن هو الوحى الصادق الأمين.. وليس ما سجله الأحبار والكهان، والفريسيون، والكتبة فى توراة أو أناجيل.
إن مقاصد القرآن وتوجيهاته وكل محتوياته ليس فى التوراة ولا فى الإنجيل منها شىء يذكر. وفاقد الشىء لا يعطيه. هذا هو حكم العقل والعلم، ومن لم يخضع لموازين الحق من عقل وعلم ونقل فقد ظلم نفسه. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) سفر التكوين الإصحاح (39) الفقرات (7 19) .
(2) لم نذكرالنص القرآنى الخاص بحديث النسوه إذ لا مقابل له فى التوراة.
(3) يوسف: 23-29 ثم آية 35.
(4) تأمل عبارة التوراة " اضطجع معى " تجدها مبتذلة فاضحة تكاد تجسم معناها تجسيماً. ثم تأمل عبارة القرآن (وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه (تجدها كناية لطيفة شريفة بعيدة عن التبذل والإسفاف. والألفاظ أوعية المعانى والمعانى ظلال الألفاظ..
(5) سفر التكوين (4-3-16)
(6) المائدة: 27-32.
(7) سفر اللاويين (18 7 18) .
(8) النساء: 22-24.
(9) المائدة: 48.
(10) إنجيل لوقا (7- 22) الإصحاح الأول.
(11) آل عمران: 38-41. وراجع قبله الآيات من 35-37 للأهمية
(12) مريم: 8 - 15
(13) آل عمران: 39.
(14) مريم: 7.
(15) مريم: 7.
(16) طه: 67.
(17) القصص: 31.
(18) الحجر: 52.
(19) مريم: 18.(1/579)
وهو الذي أَشارَ له قولُه تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، ويُلاحَظُ أَنَّ الآيةَ لم تَذْكُر اسْمَه، وبما أَنَّ اسْمَه لم يَرِدْ في حَديثٍ صَحيحٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإِنَّنا نتوقَّفُ في ذِكْرِ اسْمِه، ونَجعل ذلك من مبهمات القرآن، ونقول: الله أعلم باسمه.
وادَّعى الفادي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتاب اليهودي: " مدراس رباه " فصل: 14.
في تفسير تك: 15 - 17.
ولا أَدري من أَيْنَ أَخَذَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتابَ اليهودي، وهو الأُمّيُّ، والكتابُ المذكورُ مجهول عند حاخاماتِ اليهود؟!.
3 - اجتماعُ سليمانَ - عليه السلام - مع رجال جيشهِ من الجنِّ والإِنسِ والطير، وقصةُ الهدهدِ معَ ملكةِ سبأ، وإِحضاره عرشَ ملكةِ سبأ.
وقد وَرَدَ هذا الموضوعُ في سورةِ النمل: 17 - 44،.
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ قصةَ سليمانَ - عليه السلام - مع ملكةِ سبأ من الكتابِ اليهودي: " الترجوم الثاني عن كتاب أَستير ".
ولا أَدري كيفَ قرأَ الرسولُ الأُميُّ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتابَ اليهوديَّ المفقودَ، الذي لم يكنْ موجوداً عند اليهودِ في الحجاز؟!.
4 - لم يُحسن الفادي الجاهلُ فَهْمَ إِشارةِ القرآنِ إِلى قصةِ الملَكَيْن اللَّذَيْنِ
أَنزلهما اللهُ في مدينة بابل، والتي وردَتْ في الآيةِ: (96) من سورة البقرة.
وأَخَذَ تفاصيل إِسرائيلية باطلة، واتهمَ الملَكَيْن هاروت وماروت بالباطل.
قال عنهما: " تَركيبُ الشهوةِ في الملاكين هاروت وماروت، وارتكابُهما شربَ الخمرِ والزنى والقتلَ وتعليمَ الناس السحر ".
وادَّعى الجاهلُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ قصةَ هاروتَ وماروت من الكتابِ اليهودي: " مدراس بلكوت ": الفصل: 44.
وكَذَبَ اليهودُ في اتهامِهم المَلَكَيْن هاروتَ وماروتَ بارتكابِ جرائمِ
شربِ الخمرِ والزنى والقتل، بعدَ أَنْ رَكَّبَ اللهُ فيهما الشهوة.
ويَجِبُ علينا أَنْ(1/580)
نَبقى مع الإِشارةِ القرآنيةِ المجملةِ إِلى قصتهما، فهما مَلَكان كريمان، أَنزلَهما اللهُ من السماء على أَهل بابل، ليُحَذِّراهم من السحر، ويَنْهَيَاهُمْ عن ممارستِه، ثم صَعَدا إِلى السماء مَلَكَيْن كريمَيْن، لم يَفْعَلا ذنباً، ولم يرتكبا فاحشة.
5 - وَرَدَ رفعُ جبلِ الطورِ فوقَ رؤوسِ اليهودِ في سورة البقرة: (63)
و (93) .
وفي سورة الأعراف: (155) و (171) .
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليهودي: " عبوداه زاراه ": الفصل الثاني.
6 - ذَكَرَ القرآنُ عبادةَ بني إِسرائيل العجلَ الذهبيَّ الذي له خُوار، أَثناءَ
غيبةِ موسى - عليه السلام - عنهم، ذاهباً إِلى جبلِ الطور.
وورد ذلك في سورة الأعراف: (148 - 153) .
وورد في سورة طه: (86 - 98) .
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليهودي: " فرقى ربي أليعازر. فصل: 45 ".
7 - ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ اللهَ جَعَلَ من السماءِ سبعَ سمواتٍ في أَكثرَ من آية،
منها آيةُ (29) من سورة البقرة.
كما ذَكَرَ أَنَّ لجهنَّمَ سبعةَ أَبواب، كما وردَ في آيةِ (44) من سورة الحجر.
وَزَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليهوديِّ " حكيكا 5 " باب: 9. فصل: 2.
وكتاب: " زوهر " فصل: 2.
8 - أَخبرَ اللهُ أَنه لما خَلَقَ السمواتِ والأَرضَ كان عرشُه على الماء.
وَوَرَدَ هذا في الآية من سورةِ هود.
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من كتابِ اليهود: " تفسير راشي في تك " 1: 2.
9 - تكلَّمَ القرآنُ عن أَصحابِ الأَعراف، وما يقولونَه لأَصحابِ الجنة
وأَصحابِ النار.
وَوَرَدَ هذا في سورةِ الأَعراف: آيات 46 - 49،.
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليهوديِّ: " مدراس تفسير جامعة 7: 14 ".(1/581)
10 - أَخبرَ اللهُ أَنَّ علامةَ بَدْءِ الطوفان زَمَنَ نوحٍ - عليه السلام هو فورانُ الماءِ من وسطِ التَّنّور.
وَوَرَدَ هذا في سورةِ هود، آية (45) .
وادَّعى الفادي الجاهلُ أَنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليهودي: " روش هشاناه " فصل 2: 16.
11 - أَشارَ القرآنُ إِلى أَن اللهَ حَفِظَ القرآنَ المجيدَ في اللوحِ المحفوظِ
عنده، وَوَرَدَ هذا في آيَتَى (21 - 22) من سورةِ البروج.
وادَّعى الفادي المفتري أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليهودي: " فرقي أبوت " باب: 5، فصل: 6.
والكتبُ اليهوديةُ التي ذَكَرَها الفادي المفترِي لا يَعرفُها معظمُ الأَحْبارِ
والحاخامات اليهود، ولم تكنْ موجودةً عند اليهودِ في بلادِ الحجاز، فمن أَيْنَ
اطَّلَعَ عليها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؟!!
ومِنْ مَنْ أَخَذَها، وهو لم يُجالس اليهودَ والنصارى في مكة؟
وكيف يَقرأُ فيها باللغةِ العبرية وهو الأُمِّيُّ الذي لم يَقْرَا ولم يَكتبْ باللغةِ
العربية؟!.
رابعاً: ماذا أَخدْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتب النصارى؟
:
ادّعى الفادي المفترِي أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بعضَ موضوعاتِ القرآنِ من " كتب جهلة المسيحيين " على حَدِّ قولِه.
وذَكَرَ خمسة موضوعاتٍ في القرآن، وذكر في مقابلِها الكتبَ النصرانيةَ التي أَخَذَ منها.
1 - ادَّعى أَنَّ قصةَ أَصحابِ الكهف التي وَرَدَتْ في سورةِ الكهف 91 -
26، أَخَذَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من الكتابِ النصرانيِّ: " مجد الشهداء " فصل: 95. تأليف غريغوريوس.
2 - ذَكَرَ القرآنُ قصةَ مريم، منذُ أَنْ كانَتْ جَنيناً في رَحِمِ أُمِّها، إِلى أَنْ
كفَّلَها اللهُ زكريا - عليه السلام -، وَوَرَدَ هذا في الآيات: 351 - 48، من سورة آل عمران.(1/582)
وزَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ النصراني: " بروت يو أنجيليون ": إصحاح: 3، 4، 5، 7، 8، 19، 11، 15.
3 - ذَكَرَ القرآنُ حَمْلَ مريمَ بعِيسى - عليه السلام -، وكيف انْتَبَذَتْ من أَهْلِها مكاناً قصياً، وكيفَ أَنجبتْ عيسى، وبماذا أَرشدها وليدُها.
وَوَرَدَ هذا في آياتِ (16 - 26) من سورة مريم) .
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من الكتاب النصراني: " حكاية مولد مريم وطفولة المخلص " الفصل: 25.
4 - ذَكَرَ القرآنُ أَنّ عيسى - عليه السلام - كانَ يَصنعُ من الطينِ كهيئةِ.
الطير، ثم يَنفخُ فيه فيكونُ طَيْراً بإِذنِ الله.
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَْخَذَ هذا الموضوعَ من الكتابِ اليوناني: " بشارة هوما الإسرائيلي ". فصل: 2.
5 - صَرَّحَ القرآنُ بأَنَّ اليهودَ والرومانَ لم يَقْتُلوا عيسى - عليه السلام - ولم يَصْلُبوه، وإِنما شُبّهَ لهم، فقَتَلوا وصَلَبوا الشَّبيه.
وَوَرَدَ هذا في آية (157) من سورة النساء.
وادَّعى الفادي المفترِي أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا الموضوعَ من رجل نصراني اسْمُه " باسيليوس ".
قال عنه: " حَسْبَ بدعةِ باسيليوس، الذي قالَ: إِنَّ
المسيحَ أُلْقِيَ شَبَهُهُ على " سمعان القيرواني "، فصُلِبَ بَدَنُه، لأَنَّ المسيحَ ليس له جَسَدٌ حقيقي، بل أُخذ شبه جسد ".
وكيفَ يَدّعي هذا المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قرأَ كُتُباً نصرانية متخصصةً بعدَّةِ لغات، في أَماكنَ خاصة، في كنائسَ عديدة، في بلادِ الشامِ ومصر، بل وفي اليونان! وكأَنَّ النبيَّ الأُمّيَّ - عليه السلام - كان عالماً بعدةِ لُغاتٍ؟
منها: الآرامية واليونانية، اللَّتين كُتبت بهما الأَناجيل! وكأَنه - صلى الله عليه وسلم - سافَرَ إِلى كنائسِ الشام ومصر واليونان، وتَعَلَّمَ من رُهبانِها تلك الكتب، وأَخَذَ من كُلّ كتابٍ أَشطُراً أو صفحات!!(1/583)
لا أَدري أَينَ ذهبَ عَقْلُ هذا الفادي المفترِي وهو يكتبُ هذا الكلام؟!.
خامساً: ماذا أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتب الفرس؟ :
ادَّعى الفادي المجرمُ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ كَثيراً من القرآنِ من كتب الفرس، وأَنه سَمِعَ قَصَصَ ملوكِ الفرسِ وعَقَائِدَهُمْ من الناسِ حولَه، ثم أَلَّفَ منها قرآنَه.
قالَ المجرم: " ومن المعلوم أَنَ الفرسَ كانوا مُتَسَلِّطينَ على كثيرٍ من
قبائلِ العرب، قبلَ مولدِ محمدٍ وفي عصره، فانتشرَتْ قَصصُ ملوكهِم
وعقائِدُهُمْ وخرافاتُهم بين العرب، فتركَتْ تأثيرها على محمد، وَدوَّن منها
الشيءَ الكثيرَ في قرآنِه ".
ومَن الذي اكتشفَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو يَسطو على قَصصِ الفرسِ ويَضَعُها في قرآنِه، كما يَدَّعي الفادي المجرم؟
إِنه الزعيمُ القرشي " النَّضرُ بنُ الحارث "!
قالَ المجرم: " يَشهدُ القرآنُ أَنَّ النَّضْرَ بنَ الحارث كان يُعَيِّرُ محمداً بأَنه ناقلُ
أَقوالِ الفرس، ولم يأخُذ من الوحيِ شيئاً ...
وكان النَّضرُ بنُ الحارث يُحَدِّثُ الناسَ عن أَخبارِ ملوكِ الفرس، ثم يقول: واللهِ ما محمدٌ بأَحسنَ حَديثاً منّي، وما حديثُه إِلّا أَساطيرُ الأَولين، اكتتَبَها كما اكْتَتَبْتُها..
فردَّ عليه محمدٌ في قرآنِه بقولِه: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) .
وجعل يسب النضر قائلاً: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) ".
يُصَرّحُ المجرمُ في الفقرةِ السابقةِ أَنَّ القرآنَ ليسَ وحياً من عندِ الله، وإِنما
هو من صياغةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قالَ: " فَرَدَّ عليه محمدٌ في قراَنِه بقولِه: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) ".
أَيْ أَنَّ هذه الآيةَ من سورةِ القلمِ من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي صاغَها وَوَضَعَها في سورةِ القلم.
وسَجَّلَ المجرمُ آيتَيْن من سورةِ الجاثية اعتبَرَهما " سَبَّاً " صاغَهُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وشَتَمَ به النَّضْرَ بنَ الحارِث، وَوَضَعَهُ في السورة.
وصَدَّق المفترِي افتراءَه، وجعلَه حقيقةً يَقينيَّة، ورَتَّبَ عليه نتائجَ اعتبرها(1/584)
قاطعة، ولذلك قالَ: " ونحنُ نسأَل: كيفَ يَسمحُ محمدٌ لنفسِه أَنْ يَشْتُمَ النَّضْرَ، وقد اقتبسَ في قرآنِه من أَساطيرِ الفرس، ما كان من معراج أَرتيوراف، وَوَصْفَ الفردوس بِحورِه ووِلْدانِه؟
وقد جَعَلَ محمدٌ فِعْلاً مُعَلِّمَه " سلمانَ الفَارسيَّ " واحداً من الصحابة؟ ".
وللردّ على المفترِي المجرمِ نقول: لم يَشْتُم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - النَّضْرَ بْنَ الحارث، لأَنه لم يكن سَبّاباً ولا لَعّاناً ولا شاتِماً، ولم يكنْ فاحِشاً بذيءَ اللسان، وكان كَلامُه كلُّه رِقَّةً وأَدَباً وذوقاً، ولم تَصدُرْ عنه كلمةٌ واحدةٌ جارحة..
وأَخطأَ الفادي المجرمُ الجاهلُ في زعمِه أَنَّ آيةَ سورةِ القلمِ وآيتيْ
سورةِ الجاثية السابقة نزلَتْ في النَّضْرِ بنِ الحارثِ.
وقد وَرَدَتْ بعضُ الرواياتِ في أَنَّ الذي نزلَ في النَّضرِ بنِ الحارث قولُه
تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) .
ولكنَّ الراجحَ أَنه لم يَنْزلْ فيه، كما أَنه لم ينزلْ فيه آياتُ سورةِ القلمِ
والجاثية..
ولم تَصحّ قصةُ النضرِ بن الحارث، وأَنه كان " يُشَوِّشُ " على
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، بما كانَ يَحكي للناسِ من قَصصِ مُلوكِ الفرس، ولم يَصِحّ إِنزالُ آياتٍ في قصته.
ولكنَّ الفادي جاهل، وهو لجهلِه يَعتمدُ على رواياتٍ موضوعة، وأَخبارٍ
باطلة، ويَبْني عليها اتهاماتِه ضِدَّ القرآنِ والرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يَجمعُ بينَ الجهلِ والحِقْدِ والافتراءِ والادّعاء!!.
أ - هل أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حادثة المعراج من الفرس؟ :
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم تَحْدُثْ له حادثةُ الإِسراءِ والمعراج، وإنما قرأَ هذه القصةَ في كتابٍ فارسي، بلغةٍ فارسية، ونَسَبَها لنفسه، وادَّعى أَنه هو الذي عُرِج به!!.(1/585)
لِنقرأ هذه الفقرةَ الفاجرةَ من كلامِ الفادي الفاجر: " جاءَتْ قصَّةٌ فارسيةٌ
قديمةٌ في كتابٍ باللغةِ الفارسية، اسْمُه: " أرتيوراف نامك "، كُتِبَ سنةَ أَربعمئةٍ قبلَ الهجرة، وموضوعُ القصةِ أَنَّ المجوسَ أَرْسَلوا روحَ " أَرتيوراف " إِلى السماءِ، وَوَقَعَ على جسدِه سُبات، وكان الغرضُ من رحلتِه هو الاطلاع على كُلِّ شيء في السماء، والإِتيانَ بأَنبائِها..
فعَرَجَ إِلى السماء، وأَرشَدَهُ أَحَدُ رؤساءِ الملائكة، فَجالَ من طبقة إِلى طبقة، وترقى بالتدريج إِلى أَعلى فأَعلى ...
ولما اطَّلَعَ على كُلِّ شيء أَمَرَه " أُورمَزْد " الإِلهُ الصالحُ أَنْ يَرجعَ إِلى
الأَرضِ، ويُخبرَ الزرادشتيةَ بما شاهَد.
فأَخَذَ محمدٌ قصةَ مِعْراج " أَرتيوراف "، وجَعَلَ نفسَه بَطَلَها!
وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) .
وقال محمدٌ في الحديثِ عن ليلةِ الإِسراء: " أُتِيتُ بدابَّةٍ دونَ البَغْلِ وفَوْقَ
الحمارِ، أَبيض يُقالُ له: البُراق، يَضَعُ خَطْوَهُ عند أَقصى طَرْفِه، فجلَسْتُ عليه، فانْطلَقَ بي جبريل، حتى أَتى السماءَ الدنيا، فاستفتَحَ ورأى آدم، ثم صَعَدَ بي إِلى السماءِ الثانية، فرأيتُ عيسى ويحيى، ثم صَعَدَ بي إِلى السماءِ الثالثة فرأيتُ يوسف، ثم صَعَدَ بي إِلى السماءِ الرابعة فرأيتُ إِدريس، ثم صَعَدَ بي إِلى السماءِ الخامسة فرأيتُ هارونَ، ثم صَعَدَ بي إِلى السماءِ السادسة فرأيتُ موسى، ثم صَعَدَ بي إِلى السماءِ السابعةِ فرأيتُ إِبراهيم، ثم رجعْتُ إِلى سدرةِ المنتهى، فرأيتُ فيها أَربعةَ أَنهار، منها النيلُ والفرات، ثم أُتيت بإِناءٍ من خَمْرٍ وإِناءٍ من لَبَن، وإِناءٍ من عَسَل، فأَخَذْتُ اللَّبَن، فقال: هي الفطرةُ أَنتَ عليها وأُمَّتُكَ ... ".
إِذَنْ: لم يحدث الإِسراءُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا العروجُ به إِلى السمواتِ العُلَى، والذي اكتشفَ هذه الحقيقةَ هو هذا القِسّيسُ الفادي، حيث اطَّلعَ هذا الفادي على المرجعِ الذي أَخَذَ منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ادِّعاءَه.
إِنه كتاب فارسي قَديم، مُؤَلَّف بلغةٍ فارسيةٍ قديمة، يتحدَّثُ عن أُسطورةِ معراج " أَرتيوراف "،(1/586)
وقد اطَّلَعَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - على هذا الكتابِ الفارسي، وهو متمكِّنٌ من اللغةِ الفارسية في نظرِ الفادي المكتَشِف، لأَنه عالِمٌ باللُّغاتِ المختلفة، قراءةً وكتابةً ومحادثة،
ومنها العربيةُ والآراميةُ والحبشيةُ والفارسية واليونانية والرومانية والعبرية و ...
وأُعجبَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بقصةِ أَرتيوراف، وادَّعاها لنفسه، وكَذَبَ على الناس، وزَعَمَ أَنه هو الذي عُرِجَ بهِ إِلى السماءِ وليس أَرتيوراف!! وأَثبتَ ذلك في قرآنِه الذي أَلَّفَه، وادَّعى أَن اللهَ أَوحى به إِليه!!.
هكذا يُسجلُ الفادي المجرمُ كلامَه، ويُدَوِّنُ اتِّهاماتِه لرسولِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويَلْبَسُ ثوبَ الموضوعيةِ والحياد، ويقولُ كَلاماً حاقِداً لا يَصدُرُ عن منصفٍ مُحايد!!.
ب - هل أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف الحور العين من الفرس؟ :
ادَّعى الفادي المجرمُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ وَصْفَ الحورِ العينِ في الجنةِ عن كُتُبِ الفرس، ووَضَعَه في القرآن، ونَسَبَه إِلى الله، قال: " أَخَذَ القرآنُ الاعتقادَ بوجودِ الحورِ العينِ في الجَنَّةِ مما قَالَه الزرادشتيةُ القُدَماءُ، عن وُجودِ أَرواح الغاديات الغانياتِ المضيئاتِ في السماء، وأَنَّ مكافأةَ أَبطال الحروبِ هي الوجودُ مع الحورِ ووِلْدانِ الحور، وكانَ الاعتقادُ بوجودِ الحورِ سارِياً عندَ الهنودِ أَيْضاً، وكلمةُ " حوري " في لغةِ " أُوْستا " (وهي من لُغاتِ الفرسِ القديمة) تَعْني الشمسَ وَضَوْءَها، وفي اللغةِ البهلويةِ " هور "، وفي لغةِ الفرسِ الحديثةِ " حنورِ "، ولَفَظَها العَرَبُ " حُور " أكتاب " شرائع منوا " فصل: 5، البيت: 89، فَجَرْياً على هذهِ العقيدةِ الفارسيةِ والتعبيرِ الفارسيِّ قال القرآن: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) .
وقال: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) ".
رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مطلعٌ على كُتُبِ الفرسِ القديمة، وخبيرٌ باللغةِ الفارسية، يَذهبُ إِلى بلادِ الفرس، ويقرأُ تلك الكتب، ويأخُذُ منها ما يُريد، ويَصوغُه(1/587)
باللغةِ العربية، ويجعَلُه قرآناً، واكتشفَ الفادي الباحثُ ذلك، وذَكَرَ لنا الكتابَ الذي كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يأخذُ منه إ!.
من ما أَخذَه من ذلك الكتابِ القولُ بأَنَّ في الجنةِ نساءً من الحورِ العين،
فهذه عَقيدةٌ فارسيةٌ زرادشتيةٌ، وكلمةُ " حور " هنديةٌ فارسية، معناها الشمسُ، حَوَّرَها الفرسُ إِلى " هور "، وأَخَذَها منهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وحَرَّفَها إِلى كلمةِ " حور "..
هذا ما يقررُه الباحثُ المتمكِّنُ من فقهِ اللغات، الفادي أَفندي!!.
إِن كلمةَ " حَوْرٌ " كلمةٌ عربيةٌ.
أَصيلة، وكانَ يَستعملها العربُ في الجاهليةِ قبلَ الإِسلام، ويَجعلونَها وَصْفاً للنساءِ الحسانِ الجَميلات.
قالَ العالمُ اللغويُّ الإِمامُ ابنُ فارس: " الحَوَرُ: شِدَّةُ بَياضِ العينِ في
شِدَّةِ سَوادِها.
قالَ أَبو عمرو: الحَوَرُ: أَنْ تَسْوَدَّ العَينُ..
وإِنما قيلَ للنِّساءِ: " حورُ العين " لأَنهنَّ شُبّهْنَ بالظِّباء ".
وجاءَ في لسانِ العرب: " الحَوْرُ: الرُّجوعُ عن الشيء، وإِلى الشيء.
حارَ إِلى الشيء: رَجَعَ إِليه.
وأَحارَ عليه جوابَه: رَدَّهُ.
و: المحاورةُ: المجاوبة.
و: الحَوَرُ: أَنْ يَشتدَّ بياضُ العينِ وسَوادُ سَوادِها، وتَستديرَ حَدَقَتُها، وتَرِقَّ
جُفونُها، ويَبْيَضَّ ما حوالَيْها.
وقيل: الحَوَرُ شِدَّةُ سَوادِ المقلَةِ في شِدَّةِ بياضِها، في شِدَّةِ بَياضِ الجَسَد.
قال الأَزهري: لا تُسَمّى حوراءَ حتى تكونَ مع حَوَرِ
عَيْنَيْها بيضاءَ لونِ الجَسَدِ ...
والأَعرابُ تُسَمّي نساءَ الأَمصارِ حواريات لبياضهِنَّ، وتَباعُدِهنَّ عن قَشْفِ الأَعراب بنظافتِهنَّ ...
فالحواريّاتُ من النساء: النقيّاتُ الأَلوانِ والجُلودِ لبياضهِنَّ".
وبهذا نَعرفُ أَنَّ مادَّةَ " حَوْرٌ " عربيةٌ أَصيلة، في جَذْرِها واشتقاقاتِها
وتَصريفاتِها واستعمالاتِها، وليستْ فارسيةً أَو مُعَرَّبَةً عن الفارسية، كما زعمَ
هذا الفادي المفترِي.
وقد وَرَدَتْ مادَّةُ " حَوْرٌ " في القرآنِ ثلاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَوَرَدَ منها الكلماتُ(1/588)
التالية: يَحورُ بمعنى: يَرجعُ: مرةً واحدة.
و: يُحاورُ بمعنى: يُراجعُ ويُناقشُ
ويُجادلُ في الكلام. وَرَدَ مرتَيْن.
و: تَحاوُرٌ: بمعنى المراجعة والمناقشة. وَرَدَ مرةً واحدة.
و: حورٌ عين: صفةُ نساءِ الجَنَّة. وَرَدَ أَربعَ مرات.
و: الحواريّون: أَصحابُ عيسى - عليه السلام -. وَرَدَ خمسَ مرات.
قال اللهُ عن الحورِ العين: (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) .
وقال تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) .
وقال تعالى: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) .
وقال تعالى: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) .
ب - هل سلمان الفارسي هو مؤلف القرآن؟ :
من مفترياتِ الفادي المفترِي الكبيرةِ الفاجرةِ زَعْمُهُ أَنَّ مُعَلِّمَ النبيِّ - عليه السلام - هو سلمانُ الفارسيُّ - رضي الله عنه -، كان يُلَقِّنُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ، فيصوغُه بدوْرِه بالعربية، ويَنسبُه إِلى الله!!.
قال تحتَ عنوان: " مُلَقِّنُ محمدٍ: سلمان الفارسي ": " شهدَ القرآنُ أَنَّ
المقصودَ بإِملائِه القصصَ الفارسيةَ علي محمدٍ هو سلمانُ الفارسي، فقال:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
وسلمانُ هذا فارسيّ أَسلم، وكان من الصحابة، وهو الذي أَشارَ على
محمدٍ وَقْتَ حصارِ المدينة بحفْرِ الخندق، فنفَّذَ محمدٌ نصيحتَه، وهو الذي
أَشارَ على محمدٍ باستعمال المنجنيقِ في غزوةِ ثقيف في الطائف.
وقد اتهمَ العربُ محمداً أَنَّ سلمانَ هذا هو الذي ساعَدَه على تأليفِ قرآنه، ومنه اسْتَقى الكثيرَ من قَصَصه وعباراتِه، ومع أَن محمداً قال: إِن سلمانَ أَعجميّ والقرآنَ عربيّ، ولكن هذا لا يمنعُ أَنْ تكونَ المعاني لسلمان، وصياغتُها في أُسلوبها العربي لمحمد".(1/589)
يَكْذِبُ المفْتَري عندما يَزعُمُ أَنَّ القرآنَ شَهِدَ أَنَّ المقصودَ بإِملاءِ القَصصِ
الفارسيةِ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هو سلمانُ الفارسيُّ - رضي الله عنه -، وأَنه هو الأَعجميُّ المقصودُ بقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
لم يَقُلْ أَحَدٌ من العلماءِ المسلمين أَن الآيةَ نازلة في سلمانَ الفارسي، لأَنَّ سورةَ النحلِ مكية، ولم يكنْ سلمانُ مُسْلماً وقْتَ نزولِها، إِنما أَسلمَ في
المدينةِ بعدَ الهجرة.
والراجحُ أَنَّ المقصودَ بالآيةِ بعضُ العبيدِ الأَعاجمِ في مكة.
روى الواحديُّ في " أَسبابِ النزول "، والطبريُّ في تفسيرِه، عن عبدِ الله بنِ
مسلم الحضرميِّ - رضي الله عنه -: أَنه كانَ لهم عَبْدانِ من أَهْلِ غَيْرِ اليمن، وكانا طِفْلَيْن، وكان يُقالُ لأَحَدِهما: يَسار، وللآخَر. جَبْر.
فكانا يَقْرَأانِ التوراةَ، وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ربما جَلَسَ إِليهما.
فقالَ كفارُ قريش: إِنما يَجلسُ إِليهما يتعلَّمُ منهما، فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
وقالَ محمدُ بنُ إِسحاق في السيرة: كانَ الغلامُ النصرانيُّ واسْمُه " جَبْر "
عَبْداً لبعضِ بني الحَضْرَمي.
وقالَ عِكرمةُ وقَتادة: كان اسْمُه يعيش.
وقالَ ابنُ عباس: كان اسْمُه بلعام.
وبعدَ أَنْ ذكرَ الحافظُ ابنُ كثير الاختلافَ في اسمِ ذلك الغلامِ
الأَعجميّ، قال: " وقالَ الضَّحّاكُ بنُ مزاحم: هو سلمانُ الفارسي.
وهذا القولُ ضَعيف، لأَنَّ هذه الآيةَ مكية، وسلمانُ إِنما أَسلمَ بالمدينة ".
وقالَ ابنُ كثير في تفسيرِ الآية: " يَقولُ تعالى مُخْبِراً عن المشركين، ما
كانوا يقولونَه من الكذبِ والافتراءِ والبُهْت، أَنَّ محمداً إِنما يُعَلِّمُه هذا الذي
يَتْلوهُ علينا من القرآنِ بَشَر..
ويُشيرونُ إِلى رجلٍ أَعجمي كان بينَ أَظْهرِهم،(1/590)
غُلامٌ لبعضِ بُطونِ قريش، كان بَيّاعاً يَبيعُ عند الصفا، وربما كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجلسُ إِليه ويُكلمُه بعضَ الشيء، وذاك كانَ أَعجميَّ اللسانِ لا يَعرفُ العربية، أَو أَنه كانَ يَعرفُ الشيءَ اليسير، بقَدْرِ ما يَرُدُّ جَوابَ الخطابِ فيما لا بُدَّ منه، فلهذا قالَ اللهُ تعالى رَدّاً عليهم في افترائِهم ذلك: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
أَي: القرآنُ لسانٌ عربيٌّ مبين، فكيفَ يتعلَّمُ مَنْ جاءَ بهذا القرآنِ - في فصاحتِه وبلاغتِه ومعانيه التامةِ الشاملة، التي هي أَكملُ من كُلِّ كتابِ نَزَلَ على بني إِسرائيل - من رجلٍ أَعجميٍّ؟
لا يَقولُ هذا مَنْ له أَدنى مِسْكَةٍ من عَقْل.. ".
لقد كَذَبَ الفادي المفترِي كذبتَيْنِ كبيرتَيْن: كَذَبَ عندما زَعَمَ أَنَّ
الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ هذا القرآنَ عن رجلٍ أَعجمي، ولا نجدُ في الرَّدِّ عليه أَبلغَ من قولِه تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
والكِذْبةُ الثانيةُ عندما زَعَمَ أَنَّ هذا الأَعجميّ المعلِّمَ هو سلمانُ
الفارسيّ - رضي الله عنه -، وهو يقولُ هذا الكلامَ لأَنه جاهلٌ بالقرآنِ، وبالسيرةِ، وبالتاريخِ، وبأُسس البحثِ العلميِّ المحايدِ النزيه.
إِنه جاهِلٌ لا يَعرفُ أَنَّ سورةَ النحل مكيّة، وجاهلٌ لأَنه لا يَعرفُ أَنَّ
إِسلامَ سلمانَ الفارسيِّ كانَ في المدينة.
وهو حاقدٌ متحاملٌ، يُغالطُ عندما يَدَّعي أَنَّ سلمانَ الفارسيَّ كان يُعلمُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - العلومَ والقصصَ والأَخبارَ
والمعاني، باللغةِ الفارسية، فيتلقَّفُها منه، ويَصوغُها بلغتِه العربية: " ولكنَّ
هذا لا يَمنعُ أَنْ تكونَ المعاني لسلمان، وصياغتها في أُسلوبِها العربيِّ
لمحمد ".
وقد كانَ سلمانُ الفارسيُّ - رضي الله عنه - خبيراً بشؤونِ الحرب، ولذلك هو الذي أَشارَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بحَفْرِ الخندق، في السنةِ الخامسةِ من الهجرةِ،(1/591)
لما هاجمتْ أَحزابُ الكفارِ المدينة، ففوجئوا بذلك الخندق، الذي لم يَألَفوه من
قبل.
كما أَشارَ على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بضربِ الطائفِ بالمنجنيق، في السنةِ الثامنةِ من الهجرة.
سادساً: ما الذي أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتب الحنفاء؟ :
تكلمَ الفادي الجاهلُ عن " الحنفاءِ " كَلاماً باطلاً، دَل على جهلِه
وافترائِه، وزَعَمَ فيه أَنَّ هؤلاءِ الحنفاءَ كانوا من الذين عَلَّموا رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
أ - من هو الحنيف؟ :
من جهل الفادي أنه لم يَعْرِفْ معنى كلمة " حنيف " في اللغةِ العربية، فبَعْدَ
أَنْ دكَرَ بعضَ الآياتِ التي وَصفَتْ إِبراهيمَ - عليه السلام - بأَنه حَنيفٌ، كقوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) .
ادَّعى الجاهلُ الغبيُّ أَنَ كلمةَ " حَنيف " عبريةٌ وسريانيةٌ وليست عربية.
قال في افترائِه: " وكلمةُ (حنيف) في اللغةِ العبريةِ والسريانيةِ تَعْني " نَجساً " أَو " مُرْتَدّاً "، وُصِمَ بها العربُ الذين هَجَروا عبادةَ الأَصْنام، وارتَدُّوا عن دينِ أَسلافِهم ".
" حَنيف " عند الجاهلِ ليستْ صفةَ مَدْح، بل صفة ذَمِّ، بمعنى: نَجِس،
وهي عبريةٌ وليستْ عربية! هكذا يَدَّعي هذا الباحثُ الموضوعيُّ المحايد!!.
علماً أَنَّ الكلمةَ عربيةٌ أَصيلةٌ، ذاتُ جَذْرٍ لغويّ صحيح، ومعنى عربي:
واضح مفهوم.
هل الحنيفُ هو النجسُ؟ لِنَنْظُر:
قال ابنُ فارس: " الحَنَفُ هو الميْلُ.
ورجلٌ أَحْنَف: مائِلُ الرّجْلَيْن.
والحَنيفُ: المائل إِلى الدينِ المستقيم.
ويُقال: الحَنيفُ هو النّاسِك، والحَنيفُ هو المستقيمُ الطريقة، وهو يَتَحَنَّفُ.
أَيْ: يَتَحَرّى أَقومَ الطَّريق ".
وجاءَ في لسانِ العرب: " الحَنيفُ: المسلم، الذي يَتَحَنَفُ عن الأَدْيان،(1/592)
أَيْ: يَميلُ إِلى الحَقّ.
وقيلَ: هو الذي يَستقبلُ قبلةَ البيتِ الحرامِ على ملَّةِ
إِبراهيم، على نبيّنا وعليه الصلاةُ والسلام.
وقيلَ: هو المخْلِص، وقيل: هو مَنْ أَسْلَمَ في أَمْرِ الله، فلم يَلْتَوِ في شيء.
وقيل: كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ لأَمْرِ اللهِ ولم يَلْتَوِ فهو حَنيف.
فالحَنيفُ: المستقيم، والحَنَفُ: الاستقامة.
والدّينُ الحَنيفُ: الإِسلام.
والحنيفيةُ: مِلَّةُ الإِسلام.
وفي الحديث: " بُعِثْتُ بالحنيفيةِ السَّمْحَة ".
قالَ الزجاج: الحَنيفُ في الجاهليةِ: مَنْ كانَ يَحُجُّ البيتَ، ويَغتسلُ من
الجَنابة، ويَختتن، فلما جاءَ الإِسلامُ كانَ الحنيفُ المسلمَ.
وفي الحديثِ القدسيّ: " خَلَقْتُ عبادي حُنَفاء ".
أَيْ: طاهِري الأَعضاء من المعاصي ... ".
الحَنيفُ في اللغةِ العربيةِ هو الطاهرُ وليس النَّجس، وهو المسلمُ وليس
المرتَدّ، وهو المستقيمُ على الحَقّ، وليس المنحرفَ عنه، فهو صفةُ مدحٍ
وثناء، وليسَ صفةَ ذَم، كما ادّعى هذا الجاهلُ الغبيُّ.
ولذلك جاءَتْ هذه الصفةُ للمدحِ والثناء، وَوُصِفَ بها إِبراهيم - عليه السلام - أَكثرَ من مَرَّة.
كما في قولِه تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) .
وكما في قولِه تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) .
وكما في قولِه تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) .
ولذلك أَمَرَ اللهُ رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقْتديَ بإِبراهيمَ - عليه السلام -، وأَنْ يكونَ حَنيفاً مثْلَه.
قالَ تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) .
وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) .(1/593)
وأَمَرَ اللهُ كُلَّ عبادِه المسلمين أَنْ يَكونوا حُنَفاء، على اختلافِ زمانِهم أَو
مكانِهم.
قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) .
إِبراهيمُ - عليه السلام - حَنيفٌ، ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - حَنيفٌ..
والنَّجِسُ المرتَدُّ الخبيثُ المفتري هو هذا الفادي المجرمُ، الذي يتلاعَبُ حتى بمعاني الكلمات!.
ب - حول نشأة الحنفاء ونهايتهم:
يواصِلُ الفادي الجاهلُ جَهْلَه، فيتحدَّثُ عن نشأَةِ الحُنَفاء، ويَذْكُرُ أَمْراً
ساذجاً مُضْحِكاً، يَدَّعي أَنه نَقَلَه عن السيرةِ النبويةِ لابنِ هشام.
زَعَمَ أَنَّ قُريشاً اجتمعتْ في يومِ عيدٍ لهم، حول صنمٍ من أَصنامِهم،
يَعبدونَه ويُعَظّمونه ...
فاعتزلهم أَربعةُ نَفَر، وجَلَسُوا يتحدثون فيما بينهم، وهم: وَرَقَةُ بنُ نوفل، وعبيدُ الله بن جحش، وعثمانُ بن الحويرث، وزيدُ بن عمرو بن نفيل..
وقال بعضُهم لبعض: تَعلمونَ أَنَّ قومَكم ليسوا على شيء، وأَنهم تركوا دينَ أَبيهم إِبراهيم، وعبدوا أَحجاراً لا تَضُرُّ ولا تَنفع ...
وتواصى هؤلاء الأَربعةُ أَنْ يَتَفَرَّقوا في البلدان، للبحثِ عن الدينِ الحق.
وزَعَمَ الفادي أَنَّ وَرَقَة بنَ نوفل تَنَصَّر، وأَنَّ عُبيدَ اللهِ بنَ جحشِ بقيَ
حائِراً، إِلى أَنْ أَسلمَ ثم تَنَصَّر، وأَنَّ عثمانَ بنَ الحويرث تَنَصَّر، وزيدَ بنَ عمرو اعتزل قَومَه، وطَردوه من مكة، وأَقامَ على جبل حراء".
وهذا كلامٌ باطل، يَدُل على أَنَّ " الحنفاءَ " لم يوجَدوا إِلّا في قريش،
قُبيلَ بعثةِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنهم أَربعةُ رجالٍ فقط، انتهى ثلاثةٌ منهم إِلى النصرانية وصاروا نصارى، والرابعُ هو الذي عَلَّمَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - القراَن!!.
" الحُنَفاءُ " هم: الذينَ لم يُشركوا بالله، ولم يَعْبُدوا الأَصنام، وآمَنوا بالله
وحْدَه لا شريكَ له، وبَقوا على دينِ إِبراهيمَ - عليه السلام -، فقد كانوا يَعلمونَ أَنَّ(1/594)
إِبراهيمَ - عليه السلام - كان " حَنيفاً "، ولهذا أَعلنَ كُلُّ واحدٍ منهم أَنه حنيف، يَقْتَدي بإِبراهيم - عليه السلام -، وسُمّوا بالحنفاء.
أَيْ أَنَّ دينَهم كانَ " الحنيفية "، القائمةَ على توحيدِ الله، وعدمِ الشركِ به.
وكان هؤلاء قبلَ بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بمئاتِ السِّنين، ولم يتوقَّفْ وجودُ الحنفاءِ في بلادِ العرب منذُ إِسماعيلَ - عليه السلام -، ولم يكونوا في مكةَ وَحْدَها، إِنما كانوا موجودين في مختلفِ بلادِ العرب، كمكةَ والمدينةِ والطائف ونجد واليمن وعُمان وغيرها.
فلم يكونوا مجردَ أَربعةِ رجالِ كما زعم الفادي.
وكَذَبَ الفادي المفترِي عندما ادَّعى أَنَّ ورقةَ بنَ نوفل اعتنقَ النصرانية،
وذلك في قولِه: " فأَما وَرَقَةُ بنُ نوفل فاستحكَمَ في النصرانية، واتبعَ الكتبَ من أَهلِها، حتى عَلِمَ عِلْماً من علمِ أَهْلِ الكتاب ".
لقد بقيَ وَرَقَةُ على الحنيفية، ولم يَدخلْ في اليهوديةِ ولا في النصرانية،
لقد كان قارِئاً كاتِباً، مطَّلِعاً على التوراة، يقرأُ فيها، ويعرفُ النبوةَ والأَنبياء، لكنه لم يَعتنقْ أَيّاً من الديانتَيْن اليهوديةِ والنصرانية.
وبقيَ ورقةُ بنُ نوفلَ حَيّاً حتى بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وكان قَريباً لزوجِه خديجةَ - رضي الله عنها -، وقد قابلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ورقةَ بعدَ نزولِ الوحيِ عليه، وثَبّتَه على الحَقّ.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ - رضي الله عنها - حديثَ " بدءِ الوحي " الطويل، ونسجلُ هنا الجزءَ المتعلقَ بورقة، قالت: " ... فقالَتْ خديجةُ لورَقَة: أَي عَمّ! اسمعْ من ابنِ أَخيك.
فقالَ له ورقة: يا بنَ أَخي ماذا تَرى؟ فأَخبره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ ما رآه.
فقالَ له ورقَة: هذا الناموسُ الذي أُنزلَ على موسى - عليه السلام -، يا لَيْتَني فيها جَذَعاً، يا لَيْتَني أَكونُ حيّاً إِذْ يخرجُك قومُك! فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
((أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ؟ ".
قَالَ ورقَة: نَعَمْ. لم يأتِ رجلٌ قَط بمثْلِ ما جئْتَ به إِلّا عودِي، وإِنْ يدركْني يومُك أَنْصرْكَ نَصراً مُؤَزَّراً.
ثم لم يَنشِب ورقةُ أَنْ تُوُفَي ".(1/595)
وَرَقَةُ حَنيفٌ مُوَحِّد، يَعرفُ النبوةَ والأنبياء، لذلك عَرَفَ أَنَّ اللهَ بَعَثَ
محمداً رسولاً نبياً - صلى الله عليه وسلم -، وأَنزل عليه الوحيَ، وأَنَّ جبريلَ الذي أُنزلَ عليه هو الذي أَنزلَه اللهُ على كُل نبيٍّ قبلَه..
وأَخبرَ ورقةُ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَنْ قُريشاً
سيُخرجونَه من مكة، وسيُعادونَه ويُحاربونَه، لأَنَّ الأَقوامَ السابقين عادوا
أَنبياءَهم وحارَبوهم، وتمنّى لو كانَ في شبابِه وقُوَّتِه لينصُرَه ويؤَيدَه ويكونَ معه، وَوَعَدَه أَنْ يَدخلَ في دينِه إِنْ أَدركَه وبقيَ حَيّاً، لكنَّه سرعانَ ما توفي!.
أَيْ أَنَّ ورقةَ أَيقنَ أَنَّ محمداً هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتمنّى لو دَخَلَ هو في الإِسلام، وكان يَنْوي ذلك، لكنَّه ماتَ قبلَ أَنْ يبدأَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة.
ب - زيد بن عمرو ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
ادعى الفادي المجرمُ أَنَّ قُريشاً نَفَوا زيدَ بنَ عمرو، فأَقامَ في غارِ حراء،
وهناك كانَ يجتمعُ به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعلَّمَه زيدٌ القرآن!! قالَ الفاجرُ فَضَّ اللهُ فاه:
" وأَما زيدُ بنُ عمرو فلم يدخُلْ في يهوديةٍ ولا نصرانية، وفارَقَ دينَ قومِهِ،
فاعتزلَ الأَوثانَ، ونهى عن قتْلِ الموءودةِ، وقال: أَعبدُ رَبَّ إِبراهيم، ونادَى
قومَه بعيبِ ما هم عليه، وكان يَجهرُ في الكعبةِ بمبادئِه، فطردَه عَمُّه خَطَّاب من مكة، وأَلزمَه أَن يُقيمَ على جبلِ حراء أَمامَ تلك المدينة، ولم يَأذَنْ له بالدخولِ إِلى مكة..
وكان محمدٌ يَذهبُ إِلى جبلِ حِراء، ويَصرِفُ هناكَ شهراً كُلَّ سنة،
حَيثُ طبعَ زيدٌ على محمدٍ في ذلك الغارِ أَكبرَ أَثَرٍ في أَفكارِهِ وتوجيهِه ".
ما ادَّعاهُ المجرمُ غيرُ صَحيح، فلم تَنْفِ قريشٌ زيدَ بنَ عمرو من مكة،
ومن ثَمَّ لم يكنْ مُقيماً في غارِ حِراء، فقد كانَ مُقيماً في مكَّة، ويتجوَّلُ فيها،
ويَجلسُ عند الكعبة، ويَنشُدُ الأَشْعار، ويَنطقُ بالأَقوال في عَيْبِ الشركِ بالله، والجهرِ بتوحيدِ الله، وكانوا يَسمعونَه ولا يهتَمُّون به.
ولم يَلْتقِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بزيدِ بنِ عمرو في غارِ حِراء، كما ادعى المجرمُ، وماتَ زيدُ بنُ عمرو قبلَ بعثةِ رسولِ الله - عليه السلام -، والذي أَدرك النبوةَ هو ابنُه(1/596)
سعيدُ بنُ زيد، الذي كانَ من خَيارِ الصحابة، ومن العشرةِ المبَشَّرين بالجنة.
وانظر إِلى فُجورِ الفادي عندما يُوَظِّفُ الروايةَ الصحيحةَ تَوْظيفاً سيئاً،
يوافِقُ هواه، ويَستدلُّ بها على ادِّعاءاتِه واتهاماتِه.
فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - كان يَذهبُ إِلى غارِ حراءَ شَهْراً في السنة، هو شَهْرُ رمضان، هذا صحيح، حيثُ كان يَخْلو
إِلى نفسِه، يُفَكِّرُ ويتأَمَّل ...
لكنَّه لم يكن هناك مع زيدِ بنِ عمرو، ولم يُعَلِّمْه زيدٌ القرآنَ، ولم يُلَقّنْه التوحيدَ.
وعندما كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحيداً في غارِ حِراءَ فاجأَه الوحْيُ، وأَنزلَ اللهُ عليه جبريلَ - عليه السلام -.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ أُمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: " أَوَّلُ ما بُدِئَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحةُ في النومِ، فكانَ لا يَرى رؤيا إِلّا جاءَتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبْح ...
ثم حُبِّبَ إِليه الخَلاء، وكانَ يَخْلو بغارِ حِراء، فيتحنَّثُ فيه - وهو التعبّدُ - الليالي ذواتِ العَدَد، قبلَ أَنْ يَنْزعَ إِلى أَهْلِه، ويتزوَّدَ
لذلك، ثم يَرجعَ إِلى خَديجة، فيتزوَّدَ لمثْلِها ...
حتى جاءَهُ الحق وهو في غارِ حراء..
فجاءَه المَلَكُ، فقالَ: اقْرَأ ... ".
د - هل أَثَّرَ زيدُ بنُ عمرو في القرآن؟ :
ما زالَ الفادي المفْتَري مُصرًّاًعلى فُجورِه ومزاعمِه بأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - تَلَقّى القرآنَ عن زَيْدِ بنِ عمرو.
وأَورَدَ بعضَ الأَبياتِ الشعريةِ التي نُسبتْ لزيدِ بن عَمرو، ولَخَّصَ هو بعضَ أَفكارِها، الرافضةِ للشرك، والداعيةِ إِلى التوحيد، ثم زَعَمَ أَنَّ هذه الأَبياتِ أَثَّرَتْ في القرآن.
قال المجرم: " أَقوالُ زيدِ بنِ عمرو وأَثَرُها في القرآن:
قالَ زيدُ بنُ عمرو في فراقِ قومِه:
أَرَبّ واحدٌ أَمْ أَلْفُ رَبٍّ ... أَدينُ إِذا تَقَسَّمَتِ الأُمورُ
عَزَلْتُ اللَّاتَ والعُزّى جَميعاً ... كَذلكَ يَفْعَلُ الجَلِدُ الصَّبورُ
فَلا عُزّى أَدينُ وَلا ابْنَتَيْها ... وَلا صَنَمَى بَني عَمروٍ أَزورُ
وَلا هُبَلاً أَدينُ وَكانَ رَبّاً ... لَنا في الدَّهْرِ إِذ حِلْمِي يَسيرُ(1/597)
عَجِبْتُ وَفي اللَّيالي مُعْجباتٌ ... وَفي الأَيّامِ يَعْرِفُها البَصيرُ
بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَفْنى رِجالاً ... كَثيراً كانَ شَأْنُهُمُ الفُجورُ
وَأَبْقى آخَرينَ بِبِز قَوْمٍ ... فَيَكْبُرُ مِنْهُمُ الطفْلُ الصَّغيرُ
وَبَيْنا المَرْءُ يَفْتُرُ ثابَ يَوْماً ... كَما يَتَرَوَّحُ الغُصْنُ المَطيرُ
وَلكِنْ أَعْبُدُ الرَّحْمنَ رَبّي ... لِيَغْفِرَ ذَنْبِيَ الرَّبُّ الغَفورُ
فَتَقْوى الله رَبِّكُمُ احْفَظوها ... متى ما تَحْفَظوها لا تَبورُ
تَرى الأَبْرارَ دارَهُمُ جنانٌ ... وللكُفّارِ حامِيَةٌ سَعيرُ
وَخِزْيٌ في الحَياةِ وَإِنْ يَموتوا ... يُلاقوا ما تَضيقُ به الصُّدورُ "
وعَلَّقَ المفْتَري على شِعْرِ زيدِ بنِ عمرو بقوله: " فهذه القصيدةُ العامرةُ
تُبَيِّنُ مَبادئَ الحُنَفاءِ التي تَأَثَّرَ بها محمد، وجَعَلَها من مقوِّماتِ دينِه، فقصيدةُ
زيدِ بنِ عمرو قبلَ الإِسلام تُعلنُ المبادئَ التالية:
رفضُ عبادةِ الأَوثان.
والإِقرارُ بوحدانيةِ الله.
والوعدُ بالجنة.
والوعيدُ بالعذابِ في سَعيرِ جهنم.
وأَسماءُ اللهِ الرَّبِّ الرحمنِ الغفور.
والمناداةُ بدينِ إِبراهيم.
وقد أَخَذَ الإِسلامُ أَهَمَّ مبادِئِه عن الحنفاء، كما عَلمَها زيدُ بنُ عمرو
لمحمدٍ!! ".
صحيحٌ أَنَّ زيدَ بنَ عمرو قال بعضَ أبياتِ هذه القصيدة التي نُسبتْ له،
وبعضُ أَفكارِها التي وَرَدَتْ كانَ زيدٌ مؤمناً بها، لأَنه كانَ مُوَحِّداً حنيفاً، على
دينِ إِبراهيمَ - عليه السلام -.
ولكنَّ زيداً ماتَ قبلَ بعثةِ محمدٍ رسولِ الله - عليه السلام -، ولزيدٍ
أَبياتٌ وعباراتٌ توحيدية أُخرى، لأَنه كانَ مؤمناً مُوَحداً لله.
ولا يُسْتَغْرَبُ اتفاق بعضِ المبادئ والأَفكارِ التي كان يُؤمنُ بها زيدُ بنُ
عمرو - أَو غيرُه في العربِ الحنفاء - مع ما جاءَ في القرآنِ، لأَن تلكَ المبادئَ أَخَذوها عن دينِ إِبراهيمَ - عليه السلام -.(1/598)
لقد جاءَ إِبراهيمُ عليه السلام - بالتوحيد، وجاءَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، وجاءَ كُلُّ نبيٍّ بالتوحيد، ولا خِلافَ في العقيدةِ بينَ رسولٍ ورسول، فكلّهم جاؤوا بعقيدةٍ واحدة، ولا غرابةَ في اتفاقِ القرآنِ مع ما كان يؤمنُ به المؤمنُ الحنيفُ زيدُ بن عمرو.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) .
وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) .
سابعاً: ما الذي أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكتب السماوية؟ :
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ القرآنَ من الكتبِ السماوية السابقة، المتمثلةِ في أَسْفارِ العهدِ القديمِ وأناجيلِ العهدِ الجديد، وادَّعى أَنَّ القراَنَ اعترفَ بذلك، واستشهدَ على ذلك بقولِه تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) .
ومعنى الآيةِ عندَه أَنَّ آياتِ القرآنِ موجودةٌ في الصحف الأُولى، كصحفِ
إِبراهيمَ وموسى - عليهما السلام -.
أَيْ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ آياتِ القرآنِ من الصحفِ
الأُولى، التي أُنزلَتْ على إِبراهيمَ وموسى، وزَعَمَ أَنَّ اللهَ أَنزلَها عليه.
وهذا الفهمُ الخاطئُ للآيةِ سَبَبُهُ جهلُ الفادي وغباؤُه، اسْمُ الإِشارةِ " هذا "
في الآية: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى) يَعودُ في زعمِه على القرآن.
وهذا باطلٌ.
إِنَّ اسْمَ الإِشارةِ يَعودُ على المعنى الذي قَرَّرَتْه الآياتُ السابقةُ من
السورة، مثلُ قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) .
أَيْ: هذا المعنى في الآياتِ موجودٌ في الصحفِ الأُولى، كصحفِ إِبراهيمَ وموسى.
وهذه الآياتُ تُقررُ حقائقَ إِيمانيةً عقيدية، وهذه الحقائقُ موجودةٌ في(1/599)
الصحفِ الأُولى، فاللهُ أَخبرَ " في صحفِ إِبراهيمَ وموسى أَنَّ مَنْ تَزَكّى وذَكَرَ
اسْمَ ربِّه فصلّى، فهو مفلحٌ فائزٌ ناجح..
ولكنَّ معظمَ الناسِ لا يَأخذون بذلك، وإنما يُؤْثِرونَ ويُفَضلونَ الحياةَ الدنيا، وهم خاسرونَ مُخطئون في إِيثارِهم واختيارِهم، لأَنَّ الآخِرَةَ خَيرٌ وأَبقى.
فهذه الآيات ُ شاهدةٌ بوحدةِ الصحفِ والكتبِ التي أَنزلَها اللهُ على رسلِه،
ووحدةِ الرسالاتِ في الأُصول، وهي مسائلُ الإِيمانِ والعقيدة، وكلُّهم جاؤوا
بعقيدةٍ واحدةٍ، تقومُ على توحيدِ الله، وإفرادِه بالعبادةِ والاستعانة، وطالَبوا
بتحقيقِ أَركانِ الإِيمان، والخلافُ بينَهم إِنما كان في الشرائعِ، لقوله تعالى:
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .
وذَكَرَ الفادي المفْتَري بعضَ الموضوعاتِ التي أَخَذَها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من الكتبِ السابقة فقال: "..
وفي هذا اعترافٌ صريحٌ أَنَّ القرآنَ (عَدَا قصص نساءِ محمدٍ وغاراته) مأخوذٌ عن الكتابِ المقدس..
فمِنْ سِفْرِ التكوينِ اقتبسَ قصةَ الخليقةِ وآدمَ وحَوّاء وقايينَ وهابيلَ وأَخنوخَ ونوحٍ وإبراهيمَ ولوطٍ وإسحاق ويَعقوبَ ويوسُفَ ...
وعن سِفر الخروج أَخَذَ قصةَ موسى وفرعون وعامودَ السحاب والمنِّ والسلوى والصخرةِ والوصايا العشر والعجل الذهبي واللوحين
والتابوت ...
وعن سِفر اللّاويين أَخَذَ شريعةَ العينِ بالعينِ والسِّنِّ بالسن والذبائح الدموية ...
وعن سِفْرِ العددِ أَخَذَ قصةَ الجواسيس وقورح والبقرة
الحمراء وبلعام ...
وعن سفرِ التثنية أَخَذَ أَنَّ موسى كتبَ التوراة، وأَنَّ الكهنةَ
حفظوها ...
ومن سِفْرِ يَشوع اقتبسَ قصةَ دُخول بني إِسرائيلَ أَرضَ الموعد..
وأَخَذَ قصةَ جَدْعون عن سِفْرِ القضاة..
وقصةَ شاول وداود وجوليات وتوبةَ داود عن سِفْرَي صموئيل..
وقصةَ سليمان من سِفر المزامير وأَشعياء وحزقيال.
وقصةَ يونان عن سِفر يونان..
وقصةَ زكريا ويحيى ومريم العذراء
وميلاد المسيح ومعجزاتِه وموته وصعوده عن الأَناجيل.
وانتشار المسيحية ومجمع أورشليم ورسامة القساوسة عن أعمال الرسل..
وبعضَ الآياتِ اقتباساً من رسائل بولس الرسول إِلى أَهلِ رومية وكورنثوس وغلاطية وفيلبي(1/600)
وتسالونيكي والعبرانيين، ومن رسائل يعقوب وبطرس ورؤيا يوحنا
اللاهوتي ".
إِذا توافَقَ القرآنُ في أَيِّ قصةٍ أَو خَبَرٍ مع أَسفارِ التوراةِ والأَناجيل، فهو
دليلٌ على أَنَّ محمداً " - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ ذلك من تلك الكتب، أَيْ أَنه رجعَ إِليها وقرأَ فيها وحفظها، ثم أَخَذَ واقتبسَ وصاغَ منها ما يَشاء، وادَّعى أَنَّ اللهَ أَنزلَها عليه!!.
لا أَدري كيفَ يَلبسُ هذا الفادي الجاهلُ ثوبَ البحثِ العلميِّ الموضوعيِّ
المنصفِ المحايد، ولا كيفَ يَفهمُ الأُمورَ، ولا كيفَ يَقرأُ في الأَديانِ
والرسالات!!.
إِننا نؤمنُ أَنَّ اللهَ أَنزلَ التوراةَ على موسى - عليه السلام -، قبلَ أَنْ يُحَرّفَها اليهود، كما نؤمِنُ أَنَّ اللهَ أَنزلَ الإِنجيلَ على عيسى - عليه السلام -، قبلَ أَنْ يُحرفَه النَّصارى، وبما أَنَّ الكتبَ الثلاثةَ من عندِ اللهِ فلا بُدَّ أَنْ تكونَ متوافقةً متساندة، ولا يَجوزُ أَنْ تكونَ مُتعارضةً متناقضة.
ويَجبُ أَنْ يَكونَ الكتابُ اللاحقُ المتأَخِّرُ مُصَدِّقاً للكتابِ السابق، وإذا جاءَ مُناقِضاً له، أَو مُخَطِّئاً أَو مُكَذِّباً لما فيه، فأَحَدُ الكتابَيْنِ ليسَ من عند الله!!.
وإِنَّ من المتَّفِقِ مع التفكيرِ العقليِّ المنطقيِّ أَنَّ كَلامَ اللهِ صادقٌ صَحيحٌ
صائب، وأَنه لا يَجوزُ لبعضِ كلامِ اللهِ أَنْ يُخَطِّئَ أَو يكَذِّبَ أَو يَنْقُضَ أَو يَرُدَّ
بعضَ كَلامِ الله.
ولهذا نقول: يَستحيلُ عَقْلاً وشَرْعاً أَنْ يُخَطِّئَ الإِنجيلُ
التوراة، أَو أَنْ يُناقِضَ القرآنُ ما في الإِنجيلِ والتوراة!!
كلُّ ما وردَ في الإِنجيلِ النازلِ على عيسى - عليه السلام - مُوافقٌ ومُصدِّقٌ للتوراةِ النازلةِ على موسى - عليه السلام -.
وكلُّ ما وردَ في القرآنِ النازلِ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - موافِقٌ ومُصَدِّقٌ لما وَرَدَ في التوراةِ النازلةِ على موسى، والإِنجيلِ النازلِ على عيسى - عليه السلام -.
هذا أَمْرٌ بَدَهيّ عقليّ مُقَرّر!!.(1/601)
وقد أَخبرَ اللهُ أَنَّ عيسى جاءَ مُصَدّقاً لموسى - عليه السلام -، وأَنَّ الإِنجيلَ جاءَ مُصَدّقاً للتوراة.
قال تعالى عن ما قالَه عيسى - عليه السلام - لبني إِسرائيل: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) .
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
وقال تعالى عن موافقة وتصديق الإِنجيل للتوراة: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) .
ويُلاحَظُ أَنَّ الحالَ " مُصَدّقاً " وَرَدَ في الآيةِ مرتَيْن.
كان في المرةِ الأُولى حالاً لعيسى - عليه السلام -: (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ..) .
وكانَ في المرةِ الثانيةِ حالاً للإِنجيل: (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) .
ومن المعلومِ أَنَّ الإِنجيلَ مُكَمّلٌ للتوراة، حتى الأَناجيل المحرفة التي
كَتَبها النصارى، متوافقةٌ في كثيرٍ من أَفكارِها مع أَسفارِ العهدِ القديم المحرَّفَةِ
التي كتبها الأَحْبار.
فلماذا لم يَتَّهِم الفادي المجرمُ عيسى - عليه السلام - بأَنه أَلَّفَ الإِنجيلَ من عنده، لأَنه متوافقٌ مع التوراة في كثيرٍ من الأَخبارِ والقَصصِ والحكايات؟
بينما اتَّهَمَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأَنه أَلَّفَ القرآنَ من عندِه، لأَنه متوافقٌ مع التوراةِ والإِنجيل؟!
ولماذا حَرَّمَ على القرآنِ ما أَباحَه للإِنجيل؟
وأَينَ هذا من الموضوعيةِ والمنهجية؟!.
لو خالَفَ القرآنُ التوراةَ والإِنجيل، ولو كَذَبَ ما فيهما من حقائقَ صادقة
فسوفَ يُشَكُّ في أَنَّه من عندِ الله، لأَنَّ مَنْ ناقَضَ وكَذَّبَ كَلامَ الله فليس من
عندِ الله.
ولذلك نَعتبرُ موافقةَ القرآنِ للتوراةِ والإِنجيل، وتصديقَه لما فيهما،(1/602)
شهادةً له تُقررُ أَنه من عندِ الله، أَوحى به إِلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وليس شُبهةً تُوَْجَّهُ ضِدَّه، كما فَعَلَ ذلك الفادي المفترِي.
وأَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ أَنه جعلَ القرآنَ مُصدِّقاً لما قبلَه من التوراةِ
والإِنجيل، قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) .
والقرآنُ ليس مجردَ مصدّقٍ للتوراةِ والإِنجيل، وإِنما هو مهيمنٌ عليهما،
فهو الحاكمُ عليهما، وهو المرجعُ لما وَرَدَ فيهما، لأَنَّ اللهَ أَنزلَه بعدهما "
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) .
ونُذَكِّرُ بحقيقةٍ قاطعةٍ هي أَنَّ القرآنَ مُصَدِّق للتوراةِ الربانية، التي أَنزلَها اللهُ
على موسى - عليه السلام -، وللإِنجيلِ الربانيّ الذي أَنزلَه اللهُ على عيسى - عليه السلام -..
أَمّا التوراةُ التي بينَ أَيدي اليهودِ الآنَ فإِنَّ القرآنَ مُكَذِّبٌ لما فيها من أَخطاء
وأَكاذيب، لأَنها من تأليفِ الأَحبار الكافرين.
والأَناجيلُ التي بين أَيدي النصارى الآن يُكَذّبُ القرآنُ ما فيها من أَكاذيب، لأَنها من تأليفِ الرهبان!!.
***
حول إنزال القرآن مفرقاً
شاءَ اللهُ الحكيمُ إِنزالَ الكتبِ السابقةِ جملةً واحدة، وشاءَ الحكيمُ
سبحانه أَنْ لا يكونَ إِنزالُ القرآنِ كذلك، ولذلك أَنزلَه مُفَرَّقاً مُنَجَّماً، واستمرَّ إِنزالُه مدة البعثة، التي كانت ثلاثةً وعشرين عاماً.
وقد أَثارَ الكفارُ السابقونَ اعتراضاً وإِشكالاً على ذلك، واقترحوا أَنْ
ينزلَ القرآنُ جملةً واحدة، كالكتبِ السابقة، وذَكَرَ اللهُ قولَهم ورَدَّ عليه في أَكثر من آية.(1/603)
وأَعادَ الفادي المفترِي اعتراضَ السابقين، واعْتَبَرَه مَطْعَناً يوجَّهُ ضِدَّ
القرآن، ودَليلاً على أَنه ليسَ من عندِ الله.
وجعلَ اعتراضَه تحتَ عنوان: " الكلامُ المفَكَّك ".
أَيْ أَنَّ القرآنَ كلامٌ مُفَكَّك مُتقطع متفرِّق، لا يَجمعُه نظام أَو تناسُق، فهو
مُتَعارِض مُتَناقِض مع نفسِه، فما قالَه قبلَ عَشْرِ سنوات يُخالِفُه الآن، وما أَخبرَ عنه في الماضي يَتَراجَعُ عنه في الحاضر، وما أَباحَه سابقاً يتراجَع عنه لاحِقاً.
وهذا التعارضُ والاختلافُ دَليل على أَنه ليسَ من عندِ الله!!.
أَوردَ المفترِي قوله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
تُشيرُ الآيةُ إِلى حقيقةِ إِنزالِ القرآنِ مُفَرَّقاً منجماً، على حسبِ الحوادثِ والأَسباب، وتُبينُ الحكمةَ من هذا الإِنزال، وهي أَنْ يقرَأَهُ
الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على الناسِ على مُكْثٍ وتَمَهُّل.
ثم ذَكَرَ المفترِي تَفسيرَ البيضاوي للآيَة، وتَلاعَبَ في كلامِه كعادتِه،
وقَدَّمَ وأَخَّرَ وحَذَفَ.
وأَوردَ قولَه تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) .
تَذْكُرُ الآيةُ اعتراضَ الكفارِ على إِنزالِ القرآنِ مُنَجَّماً، وتَرُدُّ عليهم بالإِشارةِ إِلى حكمةِ ذلك التنزيل.
ثم ذَكَرَ المفترِي تفسيرَ البيضاوي للآية، الذي سَجَّلَ فيه لسِتَّ حِكَم تبدو
من ذلك، وقَدَّمَ وأَخَّرَ في ما ينقلُه كعادتِه.
ثم سَجَّلَ اعتراضَه الفاجرَ بقوله: " ونحنُ نسأل: كيفَ يكونُ القرآنُ
وحياً، وهو متقطِّغ مُفَرَّق، يأتي بعضُه في وَقْتٍ، ويتأخَّرُ بعضُهِ إِلى وقتٍ آخَر؟
لقد كانَ محمدٌ يَرتبكُ عندما كان العربُ أَو اليهودُ أَو النَّصارى يسأَلونَه،(1/604)
وأَحياناً كان يَحْتجُّ بأَنَّ جبريلَ تَأْخَّرَ بسببِ وُجودِ الكلاب! ".
إِنَّ هذا الفادي المفترِي، مثله مثل باقي الكفار، لا يعجبُه شيء في ما
يتعلَّقُ بالقرآن، لأَنَّ القرآنَ عندَه مُتَّهَم دائماً، ومُخْطِئ دائماً.
فلو أَنَّ اللهَ أَنزله دفعةً واحدةً لاعترضَ عليه هذا الفادي، وقال: إِنَّ محمداً أَخَذَهُ من التوراة، وادَّعى أَنَّ اللهَ أَنزلَه عليه دفعةً واحدةً مثل التوراة!.
وبما أَنَّ اللهَ أَنزلَه عليه منجَّماً مفرَّقاً، فقد اعترضَ الفادي على ذلك، وقالَ - كما قالَ كفارُ قريش -:
لماذا لم يُنزلْه عليه دفعةً واحدةً مثلَ التوراةِ والإِنجيل؟!
وهذا الاعتراضُ المستمِرُّ منه على القرآنِ دليلُ انحرافِ فكرِه، وسَوادِ قلبِه، واتِّباعِه لهواه، ورفضِه الاستجابة لمنطقِ الحق.
ونصَّ القرآنُ على حكمةِ إِنزالِه منجَّماً مفرَّقاً، وذَكَرَ المفسِّرون ومؤَلّفو
الكتبِ في علومِ القرآنِ الحِكَمَ العديدةَ من هذا التفريقِ في إِنزاله.
فاللهُ يقول: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
الحكمةُ هي أَنْ يقرَأَهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على الناس، وأَنْ يُعَلِّمَهم إِياه، ويُربيهم به، وهم أُمّيّون لا يُحسنونَ الكتابةَ والقراءة، فكان من الحكمةِ إِنزالُه مفرقاً، ليُحْسِنوا التعاملَ والتفاعلَ معه، وتنفيذَ أَحكامِه، وتربيةَ نفوسِهم به..
ومعلوم أَنه لا بُدَّ في التربيةِ والمجاهدةِ من المكثِ والتَّأَنّي والتمهُّلِ والتدرُّج، وهذا يتطلَّبُ التفريقَ والتنجيم.
واللهُ تعالى يقولُ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) .
الحكمةُ التي ذَكَرَتْها الآيةُ هي تَثبيتُ فُؤادِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بمواساتِه على ما يَجِدُ من حَرْبِ وتَكْذيبٍ وعِداء، ففي كُلِّ موقفٍ من مواقفِ مواجهتِه للكفار، يُنزلُ اللهُ عليَه آياتٍ جديدة، يُحَدِّثُه فيها عن ما جَرى لنبي قَبْلَه، أَو يُفَرِّحُه بأَنه معه، ويَدْعوهُ إِلى الصبرِ والثبات.(1/605)
وقد ذَكَرَ العلماءُ حِكماً عديدةً من إِنزالِ القرآنِ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً، نَكتفي
بالإِشارةِ إِلى الحِكَمِ التي ذَكَرَها البيضاوي، ونَقَلَها عنه المفترِي رافضاً
لها:
1 - المساعَدَةُ على حِفْظِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - للآيات، لأَنه أُمِّىّ، فلو أُنزلَ عليه جملةً واحدة لَخُشِيَ أَنْ لا يَحْفَظَه.
2 - نُزولُه مُنَجَّماً بحسبِ الحوادثِ يساعِدُ على حُسْنِ فَهْمِ المؤمنين للآياتِ
وتدبُّرِها.
3 - استمرارُ تَحَدّي الكفار، ومطالبتهِم بالإِتيانِ بمثله، واستمرارُ إِظهارِ
عجْزِهم، وهذا يُؤَكِّدُ حقيقةَ كونِ القرآنِ من عندِ الله.
4 - تَثبيتُ فؤادِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وقلوبِ المؤمنين على الحق، في كُلّ دفعةٍ جديدةٍ من الآيات.
5 - تربيةُ المسلمين، فعندما تقع الحادثةُ تَنزلُ آياتٌ جديدةٌ تُعالجُها، وهذا ما
ثَبَتَ في علْمِ " أَسباب النزولِ "، الذي هو من أَهَمِّ عُلومِ القرآن.
6 - معرفةُ الحكمِ المتأَخِّرِ الناسخِ للحُكْمِ المنسوخِ المتَقَدّم.
والفادي غَبِيّ جاهِلٌ، لا يَعرفُ هذه الحِكَمَ من إِنزالِ القرآنِ مُنَجَّماً، ولذلك اعتبرَهُ كَلاماً مُفَكَّكاً.
عِلْماً أَنَّ القرآنَ كُلَّه وحدةٌ موضوعيةٌ واحدة، تَقومُ على التناسقِ
والتناسبِ والترابط، فرغْمَ أَنَّ نُزولَه استمرَّ ثلاثةً وعشرين عاماً، إِلّا أَنّه
مُتَكامِلٌ مُتَرابط، لا تَرى فيه تَفَكُّكاً أَو انفِصالاً أَو اختِلافاً أَو اضطِراباً، وأَكَّدَ هذه الحقيقةَ قول اللهِ - عز وجل -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
ويَبدو التناسقُ والترابطُ في الوحداتِ التالية: كلماتُ الجملةِ القرآنية،(1/606)
وجُمَلُ الآيةِ الطويلة، وآياتُ السورة، وسُورُ القرآنِ مجتمعة..
وهذا لا يوجَدُ في الكتبِ السابقة، التي حَرَّفَتْها أَيْدي البَشَر.
وقد اعتنى علماءُ ومفَسِّرونَ ببيانِ وإظهارِ التناسقِ بينَ آياتِ السورة، وفي
مقدمةِ هؤلاءِ الإِمامُ المفَسِّرُ البقاعيُّ في تفسيرِه " نَظْمُ الدُّرَر في تناسبِ الآيِ
والسور ".
وسيد قطب في تفسيرِه: " في ظلال القرآن ".
ويأتي بعد هذا المفترِي المجرمُ ليزعُمَ أَنَّ القرآنَ كَلامٌ مُفَكَّكٌ مُجَزَّأٌ،
ويَطرَحَ تَساؤُلَه الفاجرَ الدالَّ على خُبْثِه وجَهْلِه: " كيفَ يكونُ القرآنُ وَحْياً وهو منقطعٌ مُفَرَّقٌ، يأتي بعضُه في وَقْت، ويتأَخَّرُ بعضُه إِلى وَقْتٍ آخر؟ ".
وهو لا يتوقَّفُ عن الافتراءِ والكذبِ عندما يقولُ: " لقد كانَ محمَّدٌ
يَرتبكُ عندما يسأَلُه العَرَبُ أَو اليهودُ أَو النصارى، وأَحياناً كان يحتجّ بأَنَّ
جبريلَ تَأَخَّرَ بسببِ وُجودِ الكلاب ".
لم يَرتبِكْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مرةً واحدة، عندما وُجّهَ له أَيُّ سؤال، ولم يَضطربْ ويتلعْثَم لأَنه لم يَعرف الجواب..
إِذا كانَ يَعرفُ جوابَ السؤالِ ذَكَرَه، وإذا لم يَعرف الجوابَ يَنتظرُ الجوابَ من الله، والانتظارُ ليسَ ارْتِباكاً أَو اضطراباً كما ادَّعى الجاهل، إِنما هو تأكيدٌ على حقيقةِ نبوتِه وتَلَقّيه الوحْيَ من الله.
وهذا موجودٌ في مبحثِ " نُزولِ القرآن "، واسْمُه: " ما نزلَ بعد طولِ
انتظار "، مثلُ إِنزالِ الآياتِ بشأنِ خولةَ بنتِ ثعلبة وزوجِها أَوسِ بن الصامت، وإنزالِ الآيات ِ ببراءَةِ عائشة - رضي الله عنها - بعدَ حديثِ الإِفْك، وإنزالِ الآياتِ بشأْنِ قصةِ أَصحاب الكهف وذي القرنين والروح، وهي موجودَةٌ في كتبِ التفسيرِ والحديثِ لا يتسعُ المَجالُ لذِكْرِها.
وأَمَّا أَنَّ جبريلَ لم يَنزلْ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لوجودِ كلبٍ عندهُ فهذه أُكذوبةٌ مضحكةٌ وروايةٌ باطلة، وَرَدَتْ في بعضِ الكتبِ التي لا تتحرّى الدِّقَّةَ والصحة، فتلَقفَها الفادي المجرمُ المفترِي وَرَدَّدَها..
وتَزعمُ الروايةُ الأُكذوبةُ أَنَّ جبريلَ تَوَقَّفَ لعدةِ أَسابيع عن النزولِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرآهُ في الطريقِ وسأَلَه عن سببِ توقُّفِه، وقال له: لماذا لم تَنْزِلْ عَلَيَّ فأَنا مشتاقٌ إِليك؟(1/607)
فقالَ له: كيفَ أَنزلُ عليك وفي بيتك كَلْبٌ ميتٌ منذُ أَسابيع!
فأَخرجَ الرسولُ كَلْباً ميتاً تحتَ سريرِه، فنزلَ عليه جبريلُ فوراً بسورة الضحى، التي قال الله له فيها: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) .
إِنَّ أَيَّ إِنسانٍ عاقلٍ يرفضُ هذا الهُراء، والمَثَلُ يقولُ: إِذا كان المتكلِّمُ
مجنوناً فلْيكن المستمعُ عاقلاً!!
فهلْ يُعْقَلُ أَنْ يَدْخُلَ كلبٌ بيتَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا يَراه
هو أَو أَحَدٌ من أَهلِ بيتِه؟
ويَبْقى مختفياً تحتَ سريره؟
وهل يُعْقَلُ أَنْ يَموتَ الكلْبُ تحتَ سريره، وتبقى جُثَّتُه عدةَ أَسابيع، لم يُلاحِظْها أحد من أَهلِ بيتهِ؟
أَلم تَخرجْ منها الرائحةُ الكريهة؟
أَلم تَتَحَلَّلْ؟
أَلم يشمَّ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - رائحتَها وهو
نائمٌ على السرير، وهي متحللةٌ تحتَ السرير؟
يُريدُ المفترِي منّا أَنْ نُلغيَ عُقولَنا، وأَنْ نُصَدِّقَ هذا الهراءَ السخيف الذي قالَه، والذي يَصْدُقُ فيه كلامُ الشاعر:
هذا كَلامٌ لَهُ خَبيءٌ ... معْناهُ لَيْسَتْ لَنا عُقولُ
***
حول الكلمات الغريبة في القرآن
وَجَّهَ الفادي المفترِي انتقادَه لوجودِ كلماتٍ غريبةٍ في القرآن، وقال: " في
القرآنِ كثيرٌ من الكلماتِ الغريبة، وهاكُم جَدْولاً ببعضِها ".
وبعدَ أَنْ سجلَ عشرينَ كلمةً منها، ذَكَرَ موقفَ عمرَ بنِ الخطاب وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - من هذه الكلمات، قال: " قَرَأَ عمرُ بنُ الخطابِ على المنبر: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) .
فقال: هذه الفاكهةُ قد عرفْناها، فما الأَبُّ؟
ثم رجعَ إِلى نفسه فقال: إِنَّ هذا لهو التكلفُ يا عمر..
وقالَ ابنُ عباس: لا أَعرفُ غِسْلينَ وحَناناً وأَوّاه والرَّقيم "
وختمَ كلامَه بسؤالِه الخبيث: " ونحن نسأل: أَليستْ هذه الأَلفاظُ الغريبةُ
مخالِفةً للذوقِ السليمِ في فَنِّ الإِنشاء؟! ".(1/608)
ولنقضِ شبهاتِه ودحضِ افتراءاتِه نُقررُ أَنَّ الكلماتِ الغريبةَ في القرآنِ
كلماتٌ عربيةٌ أَصيلة، لها أُصول وجُذورٌ عربية فصيحة، وليستْ كلماتٍ
أَعجميةً أَو معرَّبة، ووجْهُ غرابتِها هو نُدرةُ استعمالِها في الأَساليبِ العربية،
ونُدرةُ دورانِها على أَلسنةِ وأَقلامِ العرب، مما جعلَها شبهَ مهجورةِ
الاستعمال، فغابَ عن الذهنِ العربيِّ المعنى المباشِرُ لها، مما تَطَلَّبَ العودةَ
إِلى القواميسِ والمعاجم لمعرفةِ معناها..
فهي ليستْ غريبةً على اللغةِ العربية في جذورِها واشتقاقاتِها، ولكنها غريبة على الثقافةِ العربية عند المتكلمينَ العرب، وإِذا جازَ توجيهُ اللومِ فإِنه لا يُوَجَّهُ إِلى القرآنِ الذي استعملَها، وإِنما يُوَجَّهُ إِلى القُرّاءِ والكُتّابِ والمثَقَّفينَ العرب، لأَنهم لم يَرْتَقوا إِلى مستوى البلاغةِ القرآنية..
وأَنت لا تَلومُ السامي في ارتقائِه، وإِنما تلومُ الذي لا يرتقي إِلى مستواه.
ثم إِنَّ غرابةَ معاني تلك الكلماتِ، تَزولُ بالعودةِ إِلى كتبِ التفسيرِ
المختصرة، ومَنْ أَرادَ التوسُّعَ والاستزادةَ فيمكنُه ذلك، بالعودةِ إِلى كتبِ
القواميسِ والمعاجم.
ويَكفي لمعرفةِ المعاني السريعةِ لهذه الكلماتِ وغيرِها اصطحابُ كتابِ " كلمات القرآن: تفسير وبيان " لحسنين مخلوف - رحمه الله -..
وقد طُبعَ هذا الكتابُ عدةَ طَبْعاتٍ على هامشِ المصحف، ويمكنُ لقارئ القرآنِ أَن يَنظرَ إِلى هامشِ الصفحةِ من القرآنِ، ليَعرفَ معنى الكلمةِ الغريبةِ في الآية.
وبهذا لم تَعُدْ تلك الكلماتُ الغريبةُ غريبةً، لا على القارئِ العادي للقرآن، ولا على الباحث في معاني وتفسيرِ القرآنِ!!.
إِننا نَعتبرُ وُجودَ هذه الكلماتِ الغريبةِ في القرآن شهادَةً للقرآنِ في
بلاغتِه وسُمُوّه وإِعجازِه، وجَمالاً جَديداً يُضافُ إِلى مظاهرِ جَمالِه في
أَساليبِ بيانِه، وهي ليستْ مخالِفةً للذوقِ السليمِ في فنِّ الإِنشاءِ كما زَعَمَ
الفادي الجاهل.
والروايةُ عن عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - في موقفِه من " الأَبِّ " في القرآنِ صحيحة، لكنَّ الفادي الجاهلَ لم يَعرفْ مَعْناها، فأَساءَ توظيفَها ضدَّ القرآن.(1/609)
إِنَّ عمرَ - رضي الله عنه - عربيٌّ فصيح، وهو يَعرِفُ معنى " الأَبِّ " في اللغة، ويَعرفُ معناها في الآية: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، ويَعلمُ أَنها مذكورو في مقابلِ الفاكهةِ المخصَّصةِ للإنسان، فهي طعامٌ للأَنعام.
ووجْهُ تَرَدُّدِه ولومِه لنفسِه أَنه أَرادَ أَنْ يُحددَ أَصنافَ الأَبِّ، من أَيِّ أَنواعِ النباتِ هو؟
فكأَنه يقول: عَرَفْنا الفاكهةَ، التي منها الزيتونُ والأَعنابُ والرمانُ والتمر، فما هو الأَبُّ الذي تأكله الأَنعام؟
هل هو " البَرسيمُ والفَصَّةُ"؟
وهل هناك أَسماءٌ غيرها؟
ثم تراجَعَ وقال: إِنَّ هذا لهو التكلُّفُ يا عمر.
فالتكلُّفُ ليسَ في محاولةِ معرفةِ معنى الأَبّ، لأَنه يَعرفُ معناه، ولكنَّه
في محاولةِ تحديدِ أَنواعِه وأَصنافِه وأَسمائِه.
أَما الروايةُ المنسوبةُ إِلى ابنِ عباس - رضي الله عنهما -: "لا أَعرفُ معنى غسلين وحناناً وأواه والرقيم " فهي ليسَتْ صحيحة، وهي مطعونٌ فيها، وتَتعارضُ مع علمِ ابنِ عباس - رضي الله عنهما - بمعاني القرآن، الذي كانَ أَعلمَ الصحابةِ بالقرآن، وقد استجابَ اللهُ دعاءَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - له: " اللهمَّ فَقهْهُ في الدينِ وعَلِّمْهُ التأويل ".
وهو الصحابيُّ الذي حازَ لَقَبَ: (حَبْرُ الأُمَّة وتُرجمانُ القرآن) .
وما من كلمةٍ من كلماتِ القرآن إلا وكانَ يَعرفُ معناها الدَّقيقَ،
وكانَ يحفظُ الشواهدَ عليها من الشعرِ العربيّ الجاهليّ.
وقد امتحنَه زَعيمُ الخوارجِ نافعُ بنُ الأَزرق، وسأَله عن معنى حوالي مئةِ كلمةٍ غريبةٍ في القرآن، وعندما كانَ يُجيبُهْ كانَ يطالبه بالشاهد الشعري، فيقول له: " وهل تعرف العرب ذلك من كلامها؟ "، فكان ابنُ عباس يُقَدمُ له المطلوب.
وقد جَمعتْ تلك الأَسئلةَ والأَجوبةَ والشواهدَ الشعريةَ الدكتورةُ عائشةُ
عبد الرحمن - بنتُ الشاطئ - في كتابها: " إِعجازُ القرآن البياني ومسائل
نافعِ بنِ الأَزرق " ...
والذي عنده هذا العلمُ لا يَقول: لا أَعرفُ معنى كذا في القرآن!.(1/610)
حول الناسخ والمنسوخ في القرآن
خَصصَ الفادي المفترِي حَيِّزاً كبيراً من كتابِه للاعتراضِ على النسخِ في
القرآن، وإِثارةِ الشبهاتِ والإِشكالاتِ عليه.
وجَعَلَ تلك الاعتراضاتِ في المباحثِ التالية: عُيوبُ الناسخِ والمنسوخ..
وأَمثلةٌ للناسخِ والمنسوخ..
والأَسبابُ الحقيقيةُ للناسخِ والمنسوخ.
وبدأَ كلامَه بذكرِ أَربعةِ آياتٍ أَخبرتْ
عن النسخِ في القرآن، هي: سورة البقرة: 106.
وسورة النحل: 151.
وسورة الرعد: 39.
وسورة الحج: 52.
وتحتَ عنوان: " عُيوب الناسخِ والمنسوخ " سَجَّلَ ستةَ عيوبٍ لوجودِ
النسخ في القرآن! وادَّعى أَنَّ القرآنَ وحْدَه الذي فيه ناسخٌ ومنسوخ، من بينِ سائرِ الكتبِ الدينية، ووجودُ النسخ في القرآن دَليلٌ على أَنه ليس كلامَ الله، لأَنَّ " كَلامَ اللهِ الحقيقيَّ لا يَجوزُ فيه الناسخُ والمنسوخ ".
ولا يهمُّنا البحثُ عن الناسخِ والمنسوخِ في التوراةِ والإِنجيل، وإِنما
يهمُّنا ثقريرُ الأَساسِ المنطقيِّ المنهجيِّ للنظرِ إِلى النسخِ في القرآن، فالنسخُ في
القرآنِ ليس مشكلة، ولا يَتناقَضُ مع العقلِ والمنطق، فاللهُ هو الحاكمُ المشرعُ سبحانه، يُشَرِّعُ ما شاءَ من الأَحكام وفقَ حكمَتِه سبحانه، ويَجعلُ بعضَ تلك الأَحكامِ موقوتةً بزمنٍ محدَّد، وفقَ حكمتِه سبحانه، وعندما يَنتهي ذلك الزمنُ ويُحقِّقُ ذلك الحكمُ هَدَفَه يَنسخُه اللهُ ويُلْغيه، وفقَ حكمتِه سبحانه..
فالحكْمُ السابقُ شَرَعَه الله، والحكمُ الناسخُ له فيما بعد شَرَعَه الله، وبما أَنَّ الناسخَ والمنسوخَ من عندِ الله، فاللهُ الحكيمُ العليمُ يَفعلُ ما يشاء، لا رادَّ لأَمْرِه، ولا مُعَقِّبَ لحكْمِه..
وهذا معناه أَنَّ الفادي المفترِي كاذبٌ في زعمِه أَنَّ كلامَ اللهِ
الحقيقيَّ لا يَجوزُ فيه النسخ.(1/611)
وبعد هذه المقدمةِ العقليةِ المنهجيةِ نَبحثُ عن النسخ في القرآن، هل
تَحَدَّثَ القرآنُ عن النسخ؟
فإذا وردتْ آيةٌ واحدةٌ في القرآن، فإِنها كافيةٌ لإِثباتِ النسخِ وإِيمانِنا به، لأَنَ القرآنَ يُعلِّمُنا المنهجيةَ العلمية، ويَجعَلُ عُقولَنا تَابعةً لكلامِ الله، فاهمةً متدبِّرَةً له، تَدورُ معه حيثُ دار، وتَقولُ بما قالَ به، وتُؤمِنُ
بما وردَ فيه، ولا يَجوزُ لأَيِّ عقلٍ أَن يكونَ فوقَ كلامِ الله، وأَنْ يكونَ هو
الحَكَمَ والمهيمنَ على كَلامِ الله.
أَكثرُ من آيةٍ قَررت النسخ، وجعلَتْه بيدِ الله، منها قولُه تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ، فاللهُ هو الذي يَنسخُ
الآيةَ أَو يُنْسِيْهَا، واللهُ هو الذي يأْتي بخيرٍ منها أَو مثلِها، واللهُ على كل شيء
قديرٌ، وهو الحكيمُ الخبير.
ومنها قولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) .
إِننا نعتمدُ على هاتيْن الآيتيْن في إِيمانِنا بالنسخِ في القرآن، وفي فهمِنا للناسخِ والمَنسوخِ أولاً: لا عيوب في النسخ في القرآن:
سَجَّلَ الفادي الجاهلُ ستةَ عيوبِ للنسخِ في القرآن..
وهي لا تَصمدُ أَمامَ النظرِ والبحث، ولا تَثبتُ أَمامَ المنَهجيةِ والعلمية:
1 - اعتبرَ الجاهلُ النسخَ مُتَناقِضاً مع الحكمةِ والصدقِ والعلم، فقال:
" لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ في كلام الله ضدّ حكمتِه وصدْقِه وعلْمِه، فالإِنسانُ
القصيرُ النظرِ هو الذي يَضعُ قوانين، ويُغَيّرُها ويُبدلُها بحسبِ ما يَبدو له من
أَحوالٍ وظروف..
لكنَّ اللهَ يَعلمُ بكلِّ شيء قبلَ حدوثِه، فكيفَ يُقالُ: إِنَّ اللهَ
يُغيرُ كلامَه ويبدلُه وينسخُه ويُزيلُه؟
أَليسَ من الأَوفقِ أَنْ ئنزهَ اللهَ فنقولَ: ليس اللهُ إِنْساناً فيكذب، ولا ابنَ إِنسانٍ فيندم؟! " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
9- الكلام المنسوخ
النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ، يعنى أزالته ومحته، وأحلت الضوء محله.
ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة، سواء كانت نقلاً عن مكتوب، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل.
والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ، مثل طبع الكتب الآن) .
أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية:
" النسخ هو وقْفُ العمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة، لِحكمة قصدها الشرع، مع صحة العمل بحكم النص السابق، قبل ورود النص اللاحق (1) والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت، وإحلال الحكم بالجلد مائة، والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس (2) .
النسخ ووروده فى القرآن، على أن القرآن ليس وحياً من عند الله. ونذكر هنا عبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة:
" القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.
لكن الله يعلم بكل شئ قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله؟
ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم؟!
* الرد على هذه الشبهة:
نحن لا ننكر أن فى القرآن نسخاً، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات، وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن (3) .
أما جمهور الفقهاء، وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه، قل من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين. والذى ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ فى القرآن عيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله. ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
إن الناسخ والمنسوخ فى القرآن، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية، فى فترة نزول القرآن، الذى ظل يربى الأمة، وينتقل بها من طور إلى طور، وفق إرادة الله الحكيم، الذى يعلم المفسد من المصلح، وهو العزيز الحكيم.
أما ما ذكرتموه من آيات القرآن، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان:
أحدهما فيه نسخ فعلاً (منسوخ وناسخ) .
وثانيهما لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه، ونحن نلتمس لكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
القسم الأول: ما فيه نسخ:
من الآيات التى فيها نسخ، وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان: (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) (4) .
ثم قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله 000) (5) .
هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ، أو يجعل الله لَهُنَّ حكماً آخر.
وكان ذلك فى أول الإسلام. فهذا الحكم حكم حبس الزانية فى البيت، حين شرعه الله عز وجل أومأ فى الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت، له زمان محدد فى علم الله أزلاً. والدليل على أن هذا الحكم كان فى علم الله مؤقتاً، وأنه سيحل حكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً (. هذا هو الحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقية قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
أما الناسخ فهو قوله تعالى فى سورة "النور" فى الآية التى تقدمت، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائة جلدة، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة. بل فى الزانية والزانى غير المحصنين. أما المحصنان، وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتى الموت.
وليس فى ذلك غرابة، فتطور الأحكام التشريعية، ووقف العمل بحكم سابق، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية فى الإسلام.
ولا نزاع فى أن حكم الجلد فى غير المحصنين، والرجم فى الزناة المحصنين، أحسم للأمر، وأقطع لمادة الفساد.
وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً آخر يحل محله، وهو الجلد والرجم حاشا لله.
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره، أمَّا أن يكون فيه مساس بكمال الله. فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.
ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام فى قوله لبنى إسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم) (6) .
وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم.
ومثيروهذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيداً وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد. ومع هذا يدعون بإصرار أن التوراة والأناجيل الآن متطابقان تمام الانطباق (7) .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (8) .
وقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) (9) .
والآيتان فيهما نسخ واضح. فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10) ، والآية الثانية توجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2) .
وهذا التطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباء القتالية فما الذى يراه عيباً فيه خصوم الإسلام؟
لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق، لأن الله عزوجل لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الآيتين. لكنهم يبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه، ثم ارتضاه للناس ديناً.
وقد قال الله فى أمثالهم:
(ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) (10) .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ... ) (11) .
وقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ... ) (12) .
أجل، هاتان الآيتان فيهما نسخ؛ لأن موضوعهما واحد، هو عدة المتوفى عنها زوجها.
الآية الأولى: حددت العدة بعام كامل.
والآية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال.
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى، وإن كان ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
والناسخ هو الآية الثانية، التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها.
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف، أدعى لامتثال الأمر، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.
القسم الثانى:
أما القسم الثانى، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل، لا يفرقون بين الحطب، وبين الثعابين، وكفى بذلك حماقة.
وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.
النموذج الأول:
(لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) (13) .
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (14) .
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش، لأن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.
والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه فى الدين) .
لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) له سبب نزول خاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون. وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها. فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء.
أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام. ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم، فلما نقضوا العهود، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
ويعلمون كذلك أن النبى (عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية، ثم أقرهم عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام، ورحابة صدره، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد.
فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برئ منه؟
إنه الحقد والحسد. ولا شىء غيرهما، إلا أن يكون العناد.
النموذج الثانى:
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (15) .
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (16) .
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى، فقد جاء فى الآية الأولى: " فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فأين النسخ إذن؟.
أما المنافع فى الخمر والميسر، فهى: أثمان بيع الخمر، وعائد التجارة فيها، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً، حتى لا يضر بمصالح الناس.
وبعد أن تدرج فى تضئيل دورها فى حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها، ونبه الناس على أن حسم الأمر بتحريمها آتٍ لا محالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى، جاءت آية التحريم النهائى فى سورة المائدة هذه: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هى حقيقة النسخ وحكمته التشريعية، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نادر فى القرآن. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح.
(2) الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة، فخصصت الجلد بغير المحصنين.
(3) منهم الدكتور عبد المتعال الجبرى وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة، والدكتور محمد البهى ومنهم الشيخ محمد الغزالى.
(4) النساء: 15.
(5) النور: 2.
(6) آل عمران: 50.
(7) انظر كتابنا " الإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى " طبعة دار الوفاء.
(8) الأنفال: 65.
(9) الأنفال: 66.
(10) الأنعام: 7.
(11) البقرة: 240
(12) البقرة: 234.
(13) البقرة: 256.
(14) التوبة: 29.
(15) البقرة: 219.
(16) المائدة: 90.(1/612)
اعتبرَ الجاهلُ النسخَ ثمرةً للبَداء، وهو ظهورُ الشيء بعدَ خَفائِه، واللهُ
منزَّهٌ عن البَداء، لأَنه سبحانه أَحاطَ بكلِّ شيء علْماً، وهو يعلمُ الشيءَ قبلَ
حُدوثِه..
ومن جهلِ الفادي قياسُه فعْلَ اللهِ على فعْل الإِنسان، وعدمُ ملاحظتِه
الفرق بينَ مَقامِ اللهِ وضَعْفِ الإِنسان.
فالإِنسانُ جاهلٌ قَصيرُ النظر، ولذلك يُغَيِّرُ ويُبَدّلُ في قوانينِه، بحسَب ما يَبدو له من علمٍ جَديد.
ونسخُ اللهِ لبعضِ أحكامِه ليس من هذا الباب، فلا بَداءَ في علْمِ الله،
وهو سبحانه يَجعلُ بعضَ أَحكامِه موقوتةً بزمنٍ مُحَدَّد، لتحقيق مصلحةِ
المسلمين، فإِذا انتهى زَمَنُها نَسَخها وأَتى بأَحكامِ أُخْرى بَدَلَها.
وهو العليمُ الخبيرُ الحكيم.
ويُشيرُ إِلى هذه الحقيقةِ قولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) .
فالآيةُ صريحةٌ في تَقريرِ حقيقةِ علْمِ اللهِ بما يُنزل، وجاءَ هذا التقريرُ في جملةٍ معترضةٍ للاستدراك (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) ..
فالنسخُ والتبديلُ في الآياتِ مبنيّ على علْمِ اللهِ بما يُنزلُ قبلَ أَنْ يُنزلَه، فلا بِداءَ فيه.
2 - ادَّعى الجاهلُ المفترِي أَنه لا يوجَدُ نَسخ في اليهوديةِ والنصرانية،
ونَقَلَ كَلاماً منسوباً لعيسى - عليه السلام - في نفيِه.
قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ ليس له وُجود في اليهوديةِ ولا في المسيحية.
قالَ المسيح: لا تَظنوا أَنِّي جئتُ لأَنقضَ الناموسَ أَو الأنبياء، ما جئتُ لأنقضَ بل لأُكملَ، فإِنِّي الحقَّ أَقولُ لكم: إلى أنْ تزولَ السمواتُ والأرضُ لا يَزولُ حرفٌ واحدٌ أَو نقطة واحدةٌ من الناموس، حتى يكونَ الكُلّ ".
وادّعاءُ الجاهلِ باطلٌ مردودٌ عليه، وهو مُفْتَرٍ في نفيِه النسخَ بين اليهوديةِ
والنصرانيةِ، وقد نَسَخَ اللهُ برسالةِ عيسى - عليه السلام - بعضَ الأَحكامِ التي جعلَها على اليهود، وجاءَ هذا المعنى صريحاً في قولِه تعالى: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) .(1/613)
لقد جمعَتْ هذه الآيةُ الحكيمةُ بينَ " الإِحكامِ والنسخ " في رسالةِ
عيسى - عليه السلام -.
- الإِحكامُ في قوله: ((وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) .
لقد كانَ عيسى - عليه السلام - مُصدِّقاً للتوراةِ ومُؤَيّداً لها في الجانبِ المحكَمِ منها الذي لا نَسخَ فيه، وهو الجانبُ الإِيمانى والأَخلاقيُّ والإِخْبارِيّ.
ومعلوم أَنه لا نَسخَ في العقائدِ أَو الأَخلاقِ أَو الأَخبارِ، فالإِنجيلُ موافقٌ تَماماً للتوراةِ النازلةِ على موسى - عليه السلام - في ذلك وهو لا يَعترفُ بأَسفارِ العهدِ القديمِ التي كَتبها الأَحبارُ ونَسبوها إِلى الله زوراً.
على هذا الجانبِ المحْكَم من التوراة نَحملُ الكلامَ الذي نَسَبَه الفادي
إِلى عيسى - عليه السلام - إِنْ صَحَّتْ نسبتُه له -! فهو لا يَنقضُ الناموسَ أَو الأَنبياء، وما جاءَ لينقضَ ما وردَ في التوراةِ بل ليُكَمّلَه ويُصَدّقَه، أَيْ: مسائلُ الإِيمانِ المذكورةُ في التوراةِ ثابتةٌ محكَمَة، لا نَسخَ لها، لا في الإِنجيلِ ولا في القرآن.
- والنسخُ في رسالةِ عيسى - عليه السلام - الموجهةِ إِلى بني إِسرائيلَ في قوله في الآية: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) .
إِنَّ هذه الجملةَ صَريحةٌ في نَسْخِ الإِنجيلِ لبعضِ أَحكامِ التوراة، فقد
كانت بعض الأَشياءِ محرمةً على اليهود، وجاءَ عيسى - عليه السلام - ليُحِلَّ لهم تلك الأَشياءَ المُحرَّمة، وإِذا كانَ هذا لا يُسَمّى نَسْخاً فماذا يُسَمّى؟!.
ومن الدليلِ على وُقوعِ النسخِ في الشريعةِ اليهوديةِ نفسِها أَنَّ بعضَ
الأَشياءِ كانت مُباحةً لليهود، وشرعَ اللهُ إِباحتَها في التوراةِ النازلةِ على
موسى - عليه السلام -، ثم حَرَّمَ اللهُ عليهم تلك المباحات، عِقاباً لهم على ظُلمِهم وعُدوانِهم.
قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) .
كانت بعضُ الطيباتِ مُباحةً لليهود، وبعدما ظَلَموا وبَغَوا عاقَبَهم الله، فنسخَ إِباحتَها، وحَرَّمَها عليهم!.(1/614)
لقد مَرَّتْ بعضُ الأَحكامِ التىِ شَرَعَها اللهُ لليهودِ بالمراحلِ التالية:
الإِباحةُ، ثم الحرمَةُ عِقاباً لهم، ثم الحِلُّ والإِباحةُ على لسان عيسى - عليه السلام -.
فكيفَ يتجرأُ الفادي المدَّعي بعدَ ذلك ليقول: لا نَسخَ في اليهوديةِ ولا
في النصرانية؟!.
3 - من عيوبِ النسخِ في نَظَرِ الفادي أَنه يفتحُ بابَ الكذبِ والادّعاء،
ولذلك لا بُدَّ من منعِه! قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ يَفتحُ بابَ الكذبِ
والادِّعاء، فإِذا قالَ مُدَّعي النبوةِ قَوْلاً وظَهَرَ خَطَؤُه، أَو إِذا اعترضَ عليه
سامِعوه، قال: إِنه منسوخ، ويَأتي بقولي آخَرَ..
فينسخ الله ما يلقي الشيطان، كما يَنسخُ إِلهُ محمدٍ ما يُلقيهِ عليه من قرآن ".
وهذه الشبهةُ مردودةٌ على الجاهل، ولا تُوَجَّهُ إِلى النسخِ في القرآن،
فالأَمْرُ ليس من بابِ الادِّعاءِ والتقوُّل والافتراء، وليسَ كما يفعلُه ويقولُه
الكَذّابون المدَّعون، وإِنما هو من فعْلِ اللهِ سبحانه، ولذلك أُسندَ إِلى اللهِ وليس إِلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
و (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ..)
وكَلامُ مُدَّعي النبوةِ باطلٌ مردودٌ عليه، سواء ادَّعى النسخَ أَم لا!!.
4 - تساءلَ الفادي بخبثٍ عن مصيرِ الآياتِ المنسوخة؟
قال: " لأَنَّ محمداً اعتبرَ الناسخَ والمنسوخَ من نفسِ كلامِ الله، فهل كانَ المنسوخُ كَلاماً إِلهيّاً مكتوباً في اللوحِ المحفوظ؟
وهل يَترتبُ على نسخِه في القرآن نسخُه أَيْضاً في اللوحِ المحفوظ؟
وكيفَ يَسمحُ اللهُ لكلامِه العزيزِ بالزوال والإِهمال؟
وإِلّا فلماذا كُتِبَ؟ ".
وهذه الأَسئلَةُ مردودةٌ ومتهافتةٌ ولا وَزْنَ لها، لأَنَّ الراجحَ هو أَنَّ النسخَ
في أَحكامِ القرآنِ وليسَ في آياتِه وكلماتِه، ولم يَثبتْ عندنا آياتٌ منسوخةٌ
بكلماتِها، حتى تُوَجَّهَ لها أَسئلةُ الفادي التشكيكية! فلم تُنْسَخْ كلمةٌ أو آيةٌ(1/615)
من القراَن، والآياتُ التي أَنزلَها اللهُ على رسولِه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بَقيتْ كما هي، لم تُنسخْ أَو تُغيّرْ أَو تُبدّلْ، هذا ما نقولُ به، وكلُّ كلام غير هذا مرجوحٌ مردودٌ عندنا.
5 - ادَّعى الفادي المفترِي أَنه يتعذرُ حصرُ المنسوخِ في القرآن، مما
يجعلُ القرآنَ مُبْهَماً مُلْتبساً مشكوكاً فيه، وإِذا جُرِّدَ القرآنُ من الناسخِ والمنسوخِ لم يبقَ منه شيء!!.
قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ متغلغلٌ في جميعِ أَجزاءِ القرآن، بحيثُ يتعذَّرُ على الراسخين في العلمِ معرفةُ الناسخِ والمنسوخِ بطريقَةٍ
لا تقبلُ الشك، مما يَجعلُ أَقوالَ القرآنِ مبهمةً ملتبسة ".
وادَّعى أَنَّ السورَ التي فيها منسوخٌ وليسَ فيها ناسخ أَربعونَ سورة،
والسورَ التي فيها ناسخٌ وليس فيها منسوخٌ سِتُّ سُور، والسورَ التي فيها ناسخٌ ومنسوخٌ خمس وعشرون سورة، والسورَ التي ليسَ فيها ناسخٌ ولا مَنسوخ ثلاثٌ وأَربعون سورة.
وخَتَمَ كلامَه بعبارةٍ فاجرةٍ خبجثة، قالَ فيها: " فإِذا جُرِّدَ
القرآنُ من الناسخ والمنسوخ كان كراسةً صغيرة! ومع ذلك ادَّعوا أَنه المعجزةُ
الكبرى "!.
إِنَّ المنسوخَ غيرُ متغلغلٍ في جميعِ أَجزاءِ القرآنِ وسورِه المكيةِ والمدنيَّة،
والأَرقامُ التي ذَكرها المفترِي لأَعدادِ السورِ التي فيها ناسخٌ أَو منسوخٌ مردودة، لأَنه مُبالَغٌ فيها.
والآياتُ التي فيها نسخٌ حَصرَها العلماءُ، والراجحُ أَن هذه
الآياتِ لا تَتجاوزُ عَدَدَ أَصابعِ اليدَيْن!.
ويُصِرّ المفترِي على القولِ بالنسخِ بالتلاوة، أَيْ إِلغاءِ كثيرٍ من آياتِ
القرآن، وهذا رأيٌ مرجوحٌ ومردودٌ عندنا، رغمَ أَنه قالَ به بعضُ علماءِ
المسلمين، والراجحُ عندنا أَنَّ النسخَ إِنما هو في الأَحكامِ فقط، والأَحكامُ
المنسوخةُ في القرآنِ لا تتجاوزُ عشرةَ أَحكام!!.
ومن غباءِ وسخفِ الفادي دعوتُه إِلى تجريدِ القرآنِ من الناسخ
والمنسوخ، وادّعاؤُه أَنه لو حصلَ ذلك لما بقيَ من القرآنِ إِلّا " كراسة صغيرة"!!.(1/616)
فإذا كانَ " نسخُ التلاوةِ " غيرَ موجودٍ في القرآن، وإِذا كانت الآياتُ
التي نُسختْ أَحكامُها لا تَزيدُ على عشرِ آيات، ولا تَكادُ تملأ صفحةً واحدة، فكيفَ يقولُ هذا الغبيُّ المفترِي ما قال؟!
إِننا نوقنُ أَنّه لم تنسخْ آيةٌ واحدةٌ من القرآن بكلماتِها وصياغتِها، وأَنه لا يمكنُ إِلغاءُ آيةٍ واحدةٍ من القرآن، كما أَننا نوقنُ أَنَّ القرآنَ هو المعجزةُ الكبرى حَقّاً، وأَنه كلامُ اللهِ المحفوظ، لم يُغَيَّرْ منه كلمةٌ واحدة.
6 - العيبُ السادسُ الذي سَجَّلَه الفادي على النسخِ قَسَّمَ فيه النسخ إِلى
ثلاثةِ أَقسام، وكُلُّها في نظرِه مردودة.
قال: " لأَنَّ النسخَ في القرآنِ عند علماءِ المسلمين ثلاثةُ أَنواع:
فالنوعُ الأَولُ ما نُسِخَ تلاوتُه وحكْمُه، أَيْ: بعدَ كتابتِه وقراءَتِه لم يَكتُبوه ولم يَقرؤوه..
والنوعُ الثاني: ما نُسِخَ حُكمُه وبَقيتْ تلاوتُه، وهو مقدار كبيرٌ من آياتِ القرآن، يَقْرؤونها ويَعتقدون أَنَّ أَحْكامَها ملغِيَّة، فلا يَعملونَ بها..
والنوعُ الثالث: ما نُسخَتْ تلاوَتُه وبقيَ حُكْمُه..
وأَمامَ هذا النوعِ نتساءَل: لماذا يُكلفُنا اللهُ أَنْ نَعملَ بآيةٍ غيرِ موجودة؟
أَلَم يَكن الأَوْلى أَنْ تَبْقى في كتابِه حتى يُحاسِبَنا بمقتضاها؟! ".
صحيحٌ أَنه لم يأتِ بأَقسامِ النسخِ الثلاثةِ من عنده، وأَنه نَقَلَها من بعضِ
المراجعِ الإِسلامية، وأَنه قال بها كثيرٌ من العلماءِ المسلمين، لكنَّ تعليقاتِ
المفتري واستنتاجاتِه مرذولةٌ باطلة.
النوعُ الأَول: ما نُسختْ تِلاوتُه وحُكْمُه.
وفَسَّرَهُ المفترِي بأَنَّ المسلمينَ لم يَكتبوه ولم يَقرؤوه، بعدَ كتابتِه وقراءتِه.
وهذا يَعني أَنهم هم الذين تَصَرَّفوا بالنسخِ في القرآنِ على هواهم، وأَنهم أَهملوا الاهتمامَ بالقرآن، وأَنهم أَسْقَطوا منه كثيراً من آياتِه، وأَضاعوا كثيراً من أَحكامِه.
ورغم أَنَّ كثيراً من السابقين قالوا بهذا النوعِ من النسخِ، إِلّا أَننا لا نقولُ
به، ونَعتبرُه مَرْدوداً، لأَنه لم يثبتْ عندَنا نَسْخُ شيء من أَلفاظِ وكلماتِ القرآن!(1/617)
النوعُ الثاني: ما نُسِخَ حكْمُه وبقيتْ تلاوتُه.
وعَلَّقَ عليه المفترِي بقولِه: " وهو مقدارٌ كبيرٌ من آياتِ القرآن، يَقرؤونَها ويَعتقدونَ أَنَّ أَحكامها ملغيةٌ فلا يَعملونَ بها ".
وهذا النوعُ هو الوحيدُ في القرآن، فالمنسوخ في القرآنِ هو بعضُ
الأَحكامِ فقط، مع أَنَّ الآياتِ التي عرضَتْ تلك الأَحكام المنسوخة بقيَتْ في
القرآن.
لكن هذه الآياتِ المنسوخة ليستْ كثيرةً كما زعمَ المفترِي، وإنما هي
- آياتٌ قليلة، لا تَتجاوزُ عَشْرَ آيات.
النوع الثالث: ما نُسختْ تلاوتُه وبَقيَ حُكْمُه.
وعَلَّقَ عليه المفترِي بأَنه كانَ الأَوْلى أَنْ تبقى تلك الآياتُ المنسوخةُ في القرآن، وأَنْ لا تُرفَعَ منه.
ومَثَّلَ العلماءُ لهذا النوع من النسخ برجْمِ الزاني والزانية إِذا كانا محصنَيْن
متزوجَيْن، ويَزعمونَ أَنه كانَتْ آيةٌ في القرآن، نَصُّها: " الشيخُ والشيخةُ إِذا زنيا فارجُموهما ألبتة "، فنَسخَها اللهُ من القرآنِ وأَبْقى حكمَها!.
ونحنُ لا نقولُ بهذا النوعِ من النسخ، ونَرى أَنَّ رجمَ الزاني المحصَنِ
ثبتَ بالسُّنَّة وليس بالقرآن، وثبوتُه بالسنة يكفي لاعتمادِه حُكْماً شرعياً.
والخلاصةُ أَنَّ النسخَ الوحيدَ في القرآنِ هو نسخُ الحكمِ مع بقاءِ التلاوة،
والآياتُ التي نُسِخَ حكمُها في القرآنِ قليلةٌ لا تَتجاوزُ عَشْرَ آيات.
ثانياً: أمثلة الناسخ والمنسوخ في القرآن:
عرضَ الفادي الجاهلُ خمسةَ أَمثلةٍ اعتبرَها من " الناسخِ والمنسوخ " في
القرآن، كان يَذكرُ الآيةَ المنسوخة، وبجانبها الآيةَ الناسخة، والحكمَ المنسوخ والحكمَ الناسخ، ومعظمُ هذه الأَمثلةِ لا نسخَ فيها.
ولْننظرْ في الأَمثلةِ التي ذكرها:
1 - الحكمُ المنسوخُ هو: السِّلْمُ في سبيلِ الدعوة، الذي قَرَّرَه قولُه
تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) .(1/618)
وقولُه تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) .
وادَّعى المفترِي أَنَّ الحكمَ الناسخَ هو: القتالُ في سبيلِ الدعوة.
وأَنَّ النصَّ الناسخَ هو قولُه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
وقولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) .
وكلامُ المفترِي دليلُ جهْلِه، فالدعوةُ إِلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة
أمر مُحْكَم وليس منسوخاً، وهو باقٍ حتى قيامِ الساعة، ودليلُه الآيةُ
المحكمةُ: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وآيةُ سورةِ البقرةِ التي ذَكَرَها الفادي محكمةٌ وليستْ منسوخَة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) إِنها تنهى عن إِكراهِ الكافرين من اليهودِ والنصارى وغيرهم على الدخولِ في الإِسلام، وإِجبارهم عليه، لأَنَّ الدينَ لا يَقبلُ الإِجبارَ والإِكراه، وإِنما يقومُ على الرضا والاختيار والاقتناع..
ولكنَّ عدمَ إِكراهِهم على الإِسلام لا يَعْني عدمَ دعوتِهم إِليه، فيجبُ على المسلمينَ أَن يَدْعوهم إِلى الإِسلامِ، ويُقيموا عليهم الحجة، وأَنْ تَكونَ دعوتُهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، فإن استجابوا - للدعوةِ أَفْلَحوا، وإِلّا كانوا خاسِرين..
فلا نسخَ في قولِه تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، ولا نسخ في قوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) .
والآياتُ التي تأمُر بقتالِ وجهادِ الكفارِ والمنافقين ليستْ ناسخةً لآياتِ
وجوبِ الدعوةِ إِلى الله، كقولِه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) .(1/619)
وقوله تعالى: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) .
لأَنه لا تَعارُضَ بين الآيات ِ الآمرةِ بالجهادِ والقتالِ والآياتِ الآمرةِ بالدعوةِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، لأَنَّ القتالَ موجَّهٌ إِلى الأَعداءِ المحاربين، الطامِعين في بلادِ المسلمين، أَو الذينَ يَمنعونَ الدعاةَ من تبليغِ الدعوة، والهدفُ من قتالِهم هو إِيقافُ عدوانِهم، وتحطيمُ قوتِهم، وليس إِكراهَهم على الدخولِ في الإِسلام.
فإِذا تَوقَّفَ الأَعداءُ عن العدوان، قام الدعاةُ بدعوتِهم إِلى هذا
الدين، فإِنْ رَفضوا الدعوةَ وأَصَرّوا على كفرهم، تُرِكوا وشأنهم، وعذابُهم
عندالله!!.
2 - الحكمُ المنسوخ: هو حبسُ الزانيات، الذي قَرَّرَه قولُه تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
إذا ارتكبت امرأة فاحشةَ الزنى، وثَبَتَ زِناها بشهادةِ أَربعةِ شهود، وَجَبَ
حبسُها في بيتِ أَهْلِها حتى تَموت، أَو يأتيَ اللهُ بحكْمٍ جديد.
والحكمُ الناسخُ هو جلْدُ الزانيةِ والزاني المحصنَيْن مئةَ جلدة، الذي قَرَّرَه
قولُه تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) .
وهذا المثالُ للنسخ في القرآنِ صَحيح، فآيةُ سورةِ النساء أَمَرَتْ بحبسِ
النساءِ الزانيات، ولكنَّ اللهَ نَسَخَ هذا الحكمَ بآيةِ سورةِ النور، حيثُ أَمَرَ بضربِ الزانيَيْن مئةَ جلدة.
وَأَكَّدَ هذا النسخَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم عن عبادةَ بنِ الصامت - رضي الله عنه - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خُذوا عَنّي، خُذوا عَنّي، قد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلاً.
البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مئةٍ ونَفْيُ سَنَة، والثَّيّبُ بالثيبِ جلدُ مئةٍ والرجمُ ".
3 - الحكمُ المنسوخ: ثَباتُ الواحدِ لعشرةٍ من الكفار في القتال، الذي
قرره قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) .(1/620)
أَمَرَ اللهُ المؤمنين بقتالِ الكفار، والثباتِ في قتالِهم، وعدمِ الفرارِ
منهم، وأَوجبَ على المسلمِ أَنْ يَثبتَ أَمامَ عشرةِ كفار.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) .
والحكمُ الناسخ هو ثباتُ الواحدِ لاثنين من الكفارِ في القتال، والذي قَرَّرَهُ
قولُه تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وهذا المثالُ صحيحٌ للنسخِ في القرآن، ويبدو أَنَّ وُجوبَ ثباتِ المؤمنِ
أَمامَ عشرةٍ من الكفارِ كانَ في بدايةِ الدعوةِ الإِسلامية، حيثُ كان عددُ
المسلمين قليلاً، وكانَ إِيمانُهم كبيراً، وكانتْ حماستُهم للقتالِ عالية، ويمكنُ
للمؤمنِ أَنْ يُقاتِلَ عشرةً، وأَنْ يَصمدَ أَمامَهم.
وفيما بعدُ انتشرَ الإِسلام، وازدادَ عددُ المسلمين، ولعلَّه تَدَنّى مستوى
حماسِهم، ودَبَّ فيهم الضعف، فخفَّفَ الله عنهم، ونَسَخَ الحكمَ السابق بحكْمٍ جديد، هو أَنْ يثبتَ المؤمنُ أَمامَ اثنيْن من الكفار.
4 - الحكمُ المنسوخُ هو: اعتدادُ المتوفّى عنها زوجُها سنةً كاملة،
والذي قَرَّرَهُ قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) .
والحكمُ الناسِخُ هو اعتدادُ المتوفّى عنها زوجُها أَربعةَ أَشهرٍ وعشرةَ أَيام،
الذي قَرَّرَه قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) .
والراجحُ أَنه لا نَسْخَ في عدةِ المتوفّى عنها زوجُها، وأَنَّ الآيةَ (234)(1/621)
من سورةِ البقرة التي تأمرُ المرأةَ المتوفّى عنها زوجُها بالعدةِ أَربعةَ أَشهرٍ وعشرةَ
أَيام ليستْ ناسخةً للآية (240) ، التي تتحدثُ عن الإِقامةِ حَوْلاً كاملاً، ولا
تَعارُضَ بين الآيتَيْن حتى نَلجأَ إِلى النسخ.
عِدَّةُ المرأةِ المتوفّى عنها زوجُها هي أَربعةُ أَشهرٍ وعشرةُ أَيام: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
ويَحرمُ عليها أَثناءَ العدةِ أَنْ تُخْطَبَ أَوْ تَتزوج، ويَجبُ عليها أَنْ تقضيَ هذه المدةَ في بيتِ زوجِها المتوفّى.
وقولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) يَجعلُ للمرأةِ المتوفّى عنها زوجُها الحَقَّ في أَنْ تُقيمَ في
بيتِ زوجِها المتوفّى حولاً كاملاً، وذلكَ بأَنْ تزيدَ على مدةِ العِدَّةِ الواجبةِ
عليها، وعلى أَهْلِ زوجِها المتوفّى أَنْ لا يَمنعوها من ذلك، ولكنَّ هذا الحَقَّ
ليس واجباً عليها، فإِنْ خرجَتْ قبلَ انقضاءِ الحولِ جازَ لها ذلك: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) .
الآيةُ (234) تتحدَّث عن العِدَّةِ الواجبةِ على المتوفّى عنها زوجُها،
والآيةُ (240) تتحدث عن المدَّةِ الزائدةِ التي يمكِنُ لها أَنْ تُقيمَها المعتدَّةُ في
بيتِ زوجِها المتوفّى، ويَجوزُ لها أَنْ تُقَلِّلَ مدةَ الإِقامةِ عن الحَوْل، لكنَّه لا
يجوزُ لها أَنْ تُنقصَ أَيامَ العِدَّةِ يوماً واحداً.
5 - الحكمُ المنسوخ: في الخمرِ والميسرِ إِثمٌ وَمنافعُ للناس، الذي قررَه
قولُه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) .
والحكمُ الناسخ هو تحريمُ الخمرِ والميسرِ لأَنهما رجسٌ من عملِ
الشيطان، والذي قَرَّرَهُ قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) .
والراجحُ أَنه لا نسخَ في الأَمْرِ، ولا تَعارُضَ بين آيةِ سورةِ البقرة وآيةِ سورةِ المائدة.(1/622)
فآيةُ سورةِ المائدة نَصتْ على تَحريمِ الخمرِ والميسر، وأَمَرت
المسلمين باجتنابهما، ووصفَتْهما بأَنهما رجسٌ من عملِ الشيطان، وهي الدليلُ القرآنيُّ على حرمةِ الخَمرِ والميسر، حيثُ استقرَّتْ حرمَتُهما حتى قيامِ الساعة.
وآيةُ سورةِ البقرة لا تَتعارضُ معها، حتى نقولَ: إِنها منسوخة، لأَنها
نَزَلَتْ جواباً على سؤالٍ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَخبرتْ أَنّ في الخمرِ والميسر إِثماً كبيراً ومنافعَ للناس: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) .
فيهما إِثم كبيرٌ لأَنهما رجسٌ من عملِ الشيطان، ولذلك حَرَّمَهما اللهُ في
سورةِ المائدة.
لكن فيهما منافعُ للناس، وتلك موجودةٌ فيهما حتى بعدَ
تحريمِهما، وتتمثَّلُ هذه المنافعُ في المتاجرةِ فيهما صناعةً وبيعاً واكتساباً،
حيثُ تُشادُ مصانعُ للخمر، وتُفتحُ محلاتٌ لبيعِ الخمر، وهذه المصانعُ
والمتاجرُ تَدرُّ رِبحاً ومالاً لأَصحابِها، وهي منافعُ مالية مادية لهم..
لكنَّ هذه المنافعَ لبعضِ الناس مفاسدُ لمعظمِ الناس، ولذلك حَرَّمَ اللهُ الخمرَ رغم هذه المنافعِ للبعض، وجعَلَها أُمَّ الخبائث، للمضارِّ والمفاسدِ التي تُوقِعُها بالناس!.
ثالثاً: الأسباب الحقيقية للناسخ والمنسوخ:
حَشَرَ الفادي المفترِي نفسَه في الناسخِ والمنسوخِ في القرآن، وتعامَلَ معه
بجهْلِهِ وغَبائِه، وفَسَّرَهُ على أَساسِ تَحامُلِه على القرآن، وسوءِ ظَنِّهِ به، واتِّهامِه له، وجَزْمِه بأَنه من كلامِ البَشَر وليس من كلامِ الله.
وحاوَلَ الوقوفَ على الأَسبابِ الحقيقية للنسخِ، وهو بهذهِ النفسيةِ الحاقدةِ العدائية، وزَعَمَ أَنه عَرَفَ الأَسبابَ الحقيقيةَ لسبعةِ أمثلةٍ من النسخِ في القرآن.
ونَنظرُ في الأَسبابِ التي ذَكَرَها لنقفَ على جَهْلِه وتحامُلِه وحِقْدِه:
1 - لماذا نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام؟ :
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ حَرَّمَ القتالَ في الشهرِ الحرام.
ولم يَذْكُر الآيةَ التي حَرَّمَتْ ذلك.
ثم زَعَمَ أَن هذه الحُرمةَ نُسخَتْ بالإِباحة، وذلك بآية:(1/623)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) .
والسببُ الحقيقيُّ للنسخِ في نظرِه هو رغبةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في السَّلْبِ والنهبِ والقتل، وتبريرُه لذلك، قالَ فَضَّ اللهُ فاه: " جاءت هذه الآية ُ الناسخةُ بعد القتالِ الذي قامَ به عبدُ اللهِ بنُ جحش الأَسديُّ في الشهرِ الحرام، وإِعطائِه خُمس السَّلْبِ لمحمد، وتعييرِ قريشٍ لمحمدٍ بِسببِ ارتكابِ المسلمين القتالَ في الشهرِ الحرام.
فلكَي يُسكتَهم ويُرضي أَصحابَه ويُبررَ سَلَبَه قالَ بهذه الآيةِ الناسخة! ".
محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في نظره - هو الذي يُؤَلِّفُ آياتِ القرآن، ويَنسبُها إِلى الله، وذلك ليُبررَ بها أَعمالَه ويُرضيَ أَصحابَه!!
هذا هو السببُ الحقيقيُّ عند المجرمِ لنسخِ حرمةِ القتالِ في الشهرِ الحرام.
فقد أَرسلَ عبدَ الله بنَ جحش، ومعه مجموعةٌ من أَصحابِه، فأَغَاروا على تجارةٍ لقريشٍ في الشهرِ الحرام، وقَتَلوا مَنْ فيها، وصادَروها، وأَعْطوا ما فيها للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فأَلَّفَ آيةً نَسَخَ فيها حرمةَ
القتالِ في الشهرِ الحرام، ليُبررَ فِعْلَه، ويُرضيَ أَصحابَه!!.
وكلامُ الفادي المجرمِ خَطَأ وباطل، وهو دَليلُ جهْلِه وغَبائِه.
لقد كانتْ حادثةُ سريةِ عبد اللهِ بنِ جحش - رضي الله عنه - في منتصفِ السنةِ الثانيةِ للهجرة، قبلَ غزوةِ بدر، وهي لم تَنسخْ حُرمةَ القتالِ في الشهرِ الحرامِ، ولم تَجعلْ ذلك القتالَ مباحاً، بل اعتبرَتْه مُحَرَّماً، لكنَّ جرائمَ قريشٍ كانت أَكبر.
وخلاصةُ حادثةِ تلك السَّرِيَّةِ أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - "شَكَّلَ " سريةً مجاهدةً بقيادةِ عبدِ الله بن جحش - رضي الله عنه -، وأَمرهم أَنْ يَتَوَجَّهوا إِلى منطقةِ " نَخْلَة "، على طريقِ مكة، وأَنْ يَرْصُدوا فيها قافلةً تجارية لقريش..
ولما كَمَنوا في المنطقةِ مَرَّتْ بهم القافلةُ المرصودة، واخْتلفَ أَصحابُ السريَّةِ في التاريخ: هل هذا اليومُ هو آخرُ أَيامِ شهرِ جمادى الثانية، الذي يَجوزُ القتالُ فيه، أَم هو أَولُ أَيامِ شهرِ رجب المحَرّم الذي يَحرمُ القتالُ فيه؟
ورجَّحوا أَنه آخرُ أَيامِ شهرِ جمادى،(1/624)
وهاجموا القافلةَ، فَقَتلوا أَحَدَ المشركين، وأَسَروا اثنَيْن، وهربَ الرابعُ إِلى
مكة، ليُخبرَ قُرَيْشاً بما جَرى، وأَتَوا بالقافلةِ والأَموالِ والأَسيرَيْن إِلى
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة.
وأَثارَتْ قريشٌ حرباً إِعلاميةً ضخمةً ضدَّ المسلمين، وقالَتْ لقبائلِ
العرب: انْظُروا إِلى محمد الذي يَزعمُ أَنه رسولُ الله، وأَنه يحترمُ الحُرُمات،
ها هو ينتهكُ حرمةَ الشهرِ الحرام، الذي أَجمعَ العربُ على تحريمِ القتالِ فيه،
ويَقتلُ أَحَدَ رجالِنا في رجب الحرام!.
فأَنزلَ اللهُ آيةً محكمةً تَرُدُّ على إشاعاتِ قريش، وتُدينُ قتْلَ الرجلِ في
الشهرِ الحرام، وتَذكرُ جرائمَ قريشٍ الكبيرةَ الفظيعةَ بجانبِ قَتْلِ ذلك الرجل!
وهي قولُ اللهِ - عز وجل -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) .
والمعنى: يَسألُ الكفارُ عن حكمِ القتالِ في الشهرِ الحرام، وعن حكمِ
القَتْلِ في الشهرِ الحرام، والجوابُ على سؤالهم أَنَّ القتالَ والقَتْلَ فيه كبيرٌ.
وهذا معناهُ: أَنَّ الصحابةَ الذين قَتَلوا الرجلَ في الشهرِ الحرام كانوا مُخطئين
في اجتهادِهم، لأَنه لا يَجوزُ القتالُ والقتلُ في الشهرِ الحرام.
لكنَّ خطأَ الصحابة في قَتْلِ الرجلِ في الشهرِ الحرام لا يَكادُ يُذْكَرُ أَمامَ
سلسلةِ الجرائمِ التي ارتكبَتْها قريشٌ ضدَّ المسلمين، وذَكرت الآيةُ تلك الجرائمَ بقولها: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .
والمعنى: إِذا أَخطأَ المسلمون بقَتْلِ رجلٍ كافرٍ في الشهرِ الحرام، فإِنَّ
كُفارَ قريشٍ قد ارتكبوا سلسلةً فاحشةً من الجرائم، منها: صَدُّهم عن سبيلِ الله، والكفرُ بالله، والكفرُ والشركُ وعبادةُ غيرِ الله في المسجدِ الحرام، وإِخراجُ أَهْلِ(1/625)
المسجدِ الحرامِ المؤمنين الصالحين من المسجد، وفتنتُهم المسلمينَ وتعذيبُهم
ليرتَدّوا عن دينهم..
هذه الجرائمُ أَكبرُ عندَ الله من قَتْلِ ذلك الرجل، فلماذا
تَتَباكى قريشٌ على الحرمات، وهي التي تَنتهكُ حرمَتَها؟!.
وبهذا نعرفُ أَنَّ الآيةَ لم تَنْسَخْ حرمةَ القتال في الشهبرِ الحرام، كما فَهم
منها الفادي الجاهل، وإِنما أَكَّدَتْ حرمةَ ذلك القتال، ولامَت الصحابةَ على
قَتْلِهم الرجلَ المشرك، واعتبرتْ ذلك الحادثَ كبيراً: (قُل قِتَالٌ فِيهِ كبِير) ،
لكنَّ جرائمَ قريشٍ أَكبرُ من القتل.
2 - لماذا نسخت القبلة إلى بيت المقدس؟ :
كانتْ قبلةُ المسلمين بيتَ المقدس، وصَلّوا إِليها سبعةَ عشرَ شهراً بعدَ
الهجرة، ثم نَسَخَ اللهُ تلك القبلة، وحَوَّلهم إِلى الكعبة، وذلك في قوله تعالى:
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
وادَّعى الفادي المفترِي أَنه اكتشفَ الأَسبابَ الحقيقيةَ لهذا النَّسخ.
قال: " جاءَتْ هذهِ الآية ُ الناسخةُ، بعدَ أَنْ كانَ المسلمون يُصَلُّون مستَقْبِلين بيتَ المقدس، وأَرادَ محمدٌ أَنْ يَستميلَ العربَ إِليه، ولكي لا يَتحوَّلوا إِلى اليهوديةِ التي كان يُقَدّسُ قبلَتَها، قال: إِنَّ اللهَ غَيَّرَ له القبلةَ إِلى القبلةِ التي يَرْضاها، فحُكْمُ النسخِ ليس حسبَ المشيئةِ الإِلهية الثابتة، بل حسبَ هوى محمدٍ ورضاه!! ".
يُفَسرُ المجرمُ المفترِي الأَحكامَ الشرعيةَ تفسيراً سياسيّاً ومصلحياً، ويُنَحّي
التفسيرَ الإِيماني، لأَنه يَنفي أَساساً كونَ القرآنِ من عند الله، ويجعلُه من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
كانَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يُقَدِّسُ قبلةَ اليهود، وكان يُصَلِّي إِليها، لكنه خشيَ أَنْ يتأَثَّرَ قومُه العربُ باليهود، وأَنْ يَتَحَوَّلوا إِلى الديانةِ اليهودية، وبذلك يغلبُه اليهود.(1/626)
وأَرادَ أَنْ يستميلَ العربَ إِليه، فحوَّلَ القبلةَ من بيتِ المقدسِ إِلى
الكعبة، التي كان قومُه العربُ يقدسونَها، ويَعتبرونَها قبلةً لهم..
وادَّعى أَنَّ اللهَ أَنزلَ عليه القرآنَ بنسْخِ القبلةِ السابقةِ والتحوُّلِ إِلى القبلةِ الجديدة!
فالنسخُ في القرآنِ ليس من عندِ الله، ولا بأَمْرِ الله، وإِنما هو وفقَ هوى ورغبةِ ورضا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، يَنسخُه متى يَشاء، ويُثبتُه متى يَشاء!!.
بهذا التحليلِ الخبيثِ يتعامَلُ المفترِي الحاقدُ مع مسألةِ تحويلِ القِبلة،
ويُلغي الجانبَ الربانيَّ الإِلهي، ويَجعلُ الإِسلامَ والقرآنَ والشريعةَ والأَحكامَ
نتاجَ اللهو واللعبِ والعبثِ والهوى والمزاج.
وقد كانتْ آياتُ القرآنِ صريحةً في إِسنادِ تحويلِ القبلةِ إِلى الله، وفي الردِّ
على السفهاءِ من الناس، الذين اعْتَرَضوا على تحويلِ القبلة.
وعند قراءةِ كلامِ الفادي المفترِي عن سببِ تحويلِ القبلةِ نجدُ أَنه أَحَدُ هؤلاء (السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) .
قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) .
الآياتُ صريحة في أَنَّ نسخَ القبلةِ إِلى بيتِ المقدس، وتحويلَها إِلى(1/627)
الكعبة، إِنما هو من الله، وله الحِكَمُ العديدةُ من القبلةِ الأُولى، ومن التحويلِ
إِلى القبلةِ الجديدة، حِكَمٌ تربويةٌ وتشريعية، ورَدَّت الآياتُ على شبهاتِ
واعتراضاتِ السفهاءِ من اليهود.
وهذه الآياتُ أَبلغُ رَدٍّ على تحليلاتِ الفادي
المفتري، ونقضٍ لاتهاماتِه ضد رسولِنا الحبيبِ - صلى الله عليه وسلم -.
3 - هل نسخ تمسك الرجل بزوجته؟ :
نَظَرَ الفادي المجرمُ نظرةً خبيثةً لحادثةِ زَواجِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من زينبَ بنتِ جحشٍ - رضي الله عنها -، بعدَ أَنْ طَلَّقَها مُتَبَنّاهُ زيدُ بنُ حارثة - رضي الله عنه -، لخلافاتٍ زوجيةٍ بينهما، وفَسَّرَ المجرمُ الحادثةَ تفسيراً فاجِراً حاقِداً لئيماً، اتهمَ فيه رسولَنا - صلى الله عليه وسلم - بأَنه متبعٌ للهوى والشهوة.
قالَ اللهُ - عز وجل -: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) .
ادَّعى المجرمُ المفترِي أَنَّ في الآيةِ نَسْخاً، وأَنه وفقَ هوى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -.
قال: " جاءت هذه الآية ُ الناسخةُ لزيدٍ أَنْ يتقيَ اللهَ ويتمسكَ بزوجتِه زينب، بعد أَنْ خافَ محمدٌ من تعييرِ العربِ له أَنه يتزوجُ بزوجةِ ابنِه بالتبنّي، مع ما سبقَ وأَضمَره محمدٌ في نفسِه ساعةَ رأى زينبَ واشْتهاها، فقال: سبحانَ مُقَلِّبِ القلوب.
ثم قال: إِنَّ اللهَ أَمَرَه بالزواجِ من زينب! ".
ادَّعى المجرمُ أَن جملةَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)
المذكورةَ في الآيةِ منسوخةٌ، وأَنَّ التي نسخَتْها هي الجملةُ التي بعدَها في الآية: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) .
وادَّعى الفاجرُ المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - رأى زينبَ زوجةَ ابنِه بالتَّبَنّي زيدِ بن حارثة، فأَحَبَّها واشْتَهاها، وأَضمرَ في نفسِه الزواجَ منها، ولكنه خشيَ(1/628)
من تَعييرِ العربِ له، بأَنه تزوجَ امرأةَ ابنِه، وكان قد أَوصى زيداً بها قائِلاً له: أَمْسِكْ عليك زوجَكَ واتَّقِ الله.
فَنَسَخَ هذه الوصية، وزعمَ أَنَّ اللهَ هو الذي زوَّجَه من زينب، وأَنزلَ عليه الآيةَ المذكورة، التي فيها جملة: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) .
مع أَنه لا يوجَدُ في الآيةِ منسوخٌ ولا ناسخ، وإِنما هذا ثمرةُ جَهلِ
الفادي المفترِي وإِجرامه وفجورِه، والأَسبابُ التي ذكرها لزعْمِ النسخِ نتَاجُ
حِقْدِه وخيالِه المريض.
وخلاصةُ حادثةِ زواج الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بإِيجازٍ هي:
كانت زينبُ بنتُ جحشٍ - رضي الله عنها - ابنةَ عمةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يَعرفُها منذ صغرِها، وكانَ قبلَ البعثةِ قد تَبَنّى زيدَ بنَ حارثة، واشتهرَ بين قريشٍ باسمِ: زيدِ بنِ محمد، وكان زيدٌ من السابقين إِلى الإِسلام - رضي الله عنه -.
وقد أَبطلَ اللهُ المَبني، وأَمَرَ بنسبةِ الأَبناءِ بالتبَنّي إِلى آبائِهم الحقيقيّين، وذلك في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) .
وبذلك أُعيدَتْ نسبةُ زيدٍ إِلى أَبيه حارثة، فلم يقولوا: زيدُ بنُ محمد،
وإِنما يقولون: زيدُ بنُ حارثة.
وأَرادَ اللهُ الحكيمُ الخبيرُ أَنْ يُبطلَ كُلَّ آثارِ التَبني، بتجربةٍ عمليةٍ على يدِ
رسولِه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فأَمَرَ اللهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُزَوِّجَ ابنةَ عمتِه زينبَ لزيدِ بنِ حارثة، فنفَّذَ أَمْرَ اللهِ وزوَّجَه بها..
وكانَ في زينبَ حِدَّةٌ وشِدَّة، وكانتْ تَرى نفسَها
أَفضلَ من زيد، لأَنها قرشيةٌ هاشمية، وهو عَبْدٌ مُحَرَّر..
ولذلك كانت تنشأُ بينهما خلافاتٌ عديدة، وكان زيدٌ يشكو زينبَ إِلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يوصيهِ بها، ويَدْعوه إِلى الصبرِ عليها، ولما أَخبره أَنه يُريدُ أَنْ(1/629)
يُطَلقَها نهاهُ عن ذلك، وقال له: أَمْسِكْ عليك زوجَك واتقِ اللهَ فيها.
وأَخبرَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الحياةَ الزوجيةَ لن تستمرَّ بينهما، وأَنَّ زيداً سيُطَلِّقُ زينب، وأَنه هو الذي سيتزوَّجُ زينبَ بعد تطليقِ زيدٍ لها، وذلك لإِبطال كُلِّ آثارِ التبني ...
وكان - صلى الله عليه وسلم - يَعلمُ أَنَّ قَدَرَ اللهِ لا بُدَّ أَنْ يَتم، وصارَ يفكرُ في ما سيقولُه عنه الناس بعد زواجِه بزينب.
وطَلَّقَ زيدٌ زينب، ولما انتهتْ عِدَّتُها أَمَرَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يتزوَّجَها، وأَثارَ المنافقون الخبثاءُ الشبهاتِ ضدَّ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لقد تزوَّجَ مُطَلَّقَةَ ابنهِ زيد!.
فأَنزلَ اللهُ الآيةَ، لإِبطالِ تلك الشبهات، وبَيَّنَ حكمةَ ذلك الزواج " قال
تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) .
ذَكرت الآية ُ ما قالَه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لزيد: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) .
ومعنى قوله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) : تُخْفي في نفسِك ما
أَخبرَكَ اللهُ به، من أَنَّ زيداً سَيُطَلِّقُ زينبَ، وستتزوجُها أَنت من بعدِه بأَمْرِ الله.
واللهُ سيُبدي هذا الأَمْرَ ويُظهِره للناس، وسيتمُّ الطلاقُ، وستتزوَّجُها أَنت فعلاً.
ومعنى قوله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) : تُفكرُ في كلامِ الناسِ
وشبهاتِهم واتهاماتِهم لك، ولحسبُ لهم حِساباً، مع أَنَّ الأَوْلى أَنْ لا تخشى
الناسَ، وأَن لا تهتمَّ بما سيقولونَه عنك، لأَنك على صواب، واللهُ هو الأَحَقُّ
أَنْ تَخْشاه.(1/630)
ونَصت الآيةُ على حكمةِ هذا الزواج: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) ، وأَدعياؤهم هم أَبناؤُهم بالتبني، ويَجوزُ للرجلِ أَنْ يتزوَّجَ مُطَلَّقَةَ ابنِهِ بالتبنّي، لأَنه ليس ابنَه حقيقة.
وأَخبرت الآيات ُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس أَباً لأَحَدٍ من
رجالِ المسلمين: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) .
وشاءَ اللهُ الحكيم أَنْ يموتَ أَبناؤُه وهم صغار.
وبهذا نعرفُ أَنه لا منسوخ ولا ناسخ في الآية التي تحدثَتْ عن ذلك
الزواج، وليس في الأَمْرِ هوى أَو شهوة، كما قالَ ذلك المجرمُ المفترِي.
4 - حولَ النسخ في معاشرة الزوجات في ليل رمضان:
أَثارَ الفادي المجرمُ سؤالاً خَبيثاً حولَ النسخِ في بعضِ أَحكامِ الصيام:
" لماذا نُسخَ الامتناعُ عن النساءِ وقتَ الصيام؟ ".
واعترضَ فيه على قولِ اللهِ - عز وجل -:
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) .
وعَلَّقَ المجرمُ على الآيةِ زاعماً اكتشافَه السببَ الحقيقيَّ للنسخ، فقال:
" جاءَتْ هذه الآيةُ الناسخةُ بعدَ اعترافِ أَصحابِ محمد، ومنهم عمرُ بن
الخطاب، أَنهم خانوا نِظامَ الصيامِ المتَّبَع، بإِتْيانِهم نساءهم بعد صلاةِ العشاء،
فجَعلت الآيةُ الناسخةُ الممنوعَ ممكِناً، والمحَرَّمَ مُحَلَّلاً "!!.
إِنَّ المجرمَ يأْبى إِلا الغَمز واللمزَ والإِيذاء، ولذلك عَلَّقَ على القصةِ
الصحيحةِ باعترافِ بعضِ الصحابة بمخالفتِهم بقوله: " فجعَلت الآيةُ الناسخةُ
الممنوعَ ممكِناً، والمحرمَ مُحَلَّلاً ".
مع أَنَّ النسخَ هنا ليس تَحليلاً للحرام، وإِنما هو إِلغاءٌ وإِبطالٌ للحرام، ووضْع للحَلالِ مكانَه.
ولذلك عَرَّفَ العلماءُ النسخَ قائلين: هو رَفْعُ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأَخّر.(1/631)
وسُؤالُ المجرمِ خَبيثْ: لماذا نُسِخَ الامتناعُ عن النساءِ وقْتَ الصيام؟
هَدَفُه منه التشكيكُ بالحكمِ الشرعي، عِلْماً أَنَّ الآيةَ لم تَنسخ الامتناعَ عن
النّساء وقتَ الصيام، فالامتناعُ عن النساءِ وقتَ الصيامِ في نهارِ رمضان ما زالَ قائماً، ومَنْ جامعَ امرأَتَه في نهارِ رمضان وجبَ عليه القضاءُ والكفارة، وذلك بعتْقِ رقبة، أَو صيامِ شهريْن متتابعَيْن، أَو إِطعامِ ستّين مسكيناً.
وحتى نعرف النسخَ في الآية لا بُدَّ أَنْ نتعرفَ على مناسبةِ نزولِها.
كانَ الإِمساكُ عن الطعامِ والشرابِ والجماعِ بمجردِ النوم في ليلِ
رمضان، فإِذا نامَ المسلمُ بعدَ الإِفطار وجبَ عليه الإِمساكُ حتى مغربِ اليومِ
التالي، ولو كان نومُه بعدَ صلاةِ العشاءِ مباشرة، وهذا الحكمُ ثابتٌ في السُّنَّةِ
وليسَ في القرآن.
وكانَ أَحَدُ الأَنصارِ - وهو قَيْسُ بنُ صِرْمَة - يعملُ في أَرضِه طولَ النهار،
وعادَ إِلى بيتِه في المساء، وقامت امرأَتُه لتعِدَّ له الإِفطار، ولكنَّه غلبَتْه عينُه فنام، وجاءَتْه امرأَتُه بالطعام فوجدَتْه نائماً، فأَمسكَ ولم يَأكل، وذهبَ في الصباحِ إِلى أَرضِه، ولكنه سقطَ في الأَرضِ مغشيّاً عليه من التعبِ والجوعِ والإِرهاقِ.
وجاءَ عمرُ بن الخطابِ - رضي الله عنه - إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله!
لقد هلكْتُ! لقد عدتُ إِلى بيتي ليلةَ أَمس، فوجدْتُ امرأَتي نائمةً، فوقعْتُ
عليها.
فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) .
لقد رحمَ اللهُ المسلمين وخَفَّفَ عنهم، فأَباحَ لهم ما كانَ منعَهم فى ليلِ
رمضان، وأَباحَ لهم الطعامَ والشراب ومعاشرةَ الزوجات طيلةَ ليلِ رمضان:
(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ) .(1/632)
أللهُ هو الذي شرعَ لهم الحكْمَ السابقَ بالإِمساكِ بمجردِ النَّوْم، واللهُ هو
الذي نَسَخَ ذلك الحكم، وأَباحَ لهم كلَّ المفطراتِ في ليلِ رمضان، وأَوجبَ
الإِمساكَ بطُلوعِ الفجر.
5 - حول نسخ ما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفسه:
طَرَحَ الفادي المجرمُ سُؤالاً قالَ فيه: " لماذا نَسَخَ ما حَرَّمَه على نفسِه،
وحَنَثَ بالقَسَم؟ ".
وقالَ في توضيح الأَمر: جاءَ في سورةِ التحريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) .
وعَلَّقَ المجرمُ على الآيةِ وما زَعَمَه فيها من نَسْخٍ بقولِه: "
روى محمد هذه الآيةَ بعد أَنْ أَتى بماريةَ القبطية في بيتِ زوجتِه حفصةَ بنتِ عمر بن الخطاب، وفي غيبتِها، فَشَقَّ ذلك على حَفْصَة، فأَرضاها، وقالَ لها: اكتمي عَلَيَّ، وقد حَرَّمْتُ ماريةَ القبطيةَ على نفسي، ولكنَّ حفصةَ أَخبرَتْ عائشةَ، فغضبَ محمدٌ، وطَلَّقَ حفصة.
فكيفَ السبيلُ لتحليلِ ماريةَ بعدَ أَنْ حَرَّمَها على نفسِه؟
وكيفَ السبيلُ لمراجعةِ حفصةَ التي طَلَّقها؟
أَتى الناسخ يُحللُ ذلك، ويُعفي من القَسَم! فقد أَقَرَّ اللهُ بمعاشرةِ ماريةَ المحَرَّمَة، وبرجوعِ حفصةَ المطَلَّقة ".
القصةُ التي أَوردَها المفترِي مرجوحةٌ وليست راجحة، فلا نَقولُ بها.
والراجحُ أَنَّ اللهَ أَنزلَ الآياتِ في عتابِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنه حَلَفَ يَميناً حَرَّمَ فيه شيئاً أَباحَهُ اللهُ له.
وخلاصةُ الحادثةِ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ يوماً إِلى امرأَتِهِ زينبَ بنتِ جحش - رضي الله عنها -، وشَرِبَ عندَها عَسَلاً، وكانَ يُحبُّ العَسَلَ.
ثم غادرَ حجرةَ زينب، وتوجَّهَ إِلى حفصةَ - رضي الله عنها -، فقالَتْ له حفصةُ: يا رسولَ الله! لقد أَكلتَ مَغافير!.(1/633)
والمغافيرُ اسْمٌ لنباتٍ حُلْوِ الطعمِ كَريهِ الرائَحة.
وكانَ - صلى الله عليه وسلم - يُحبُّ أَنْ تُشَمَّ منه دائماً رائحةٌ طيبة، فقال لها: لقد شربتُ عند زينبَ عَسَلاً، ولا أَشربُ
عندها العسلَ بعد ذلك..
وأَقسمَ على ذلك اليمين..
ففرحَتْ حفصةُ بذلك، وأَخبرتْ به عائشةَ - رضي الله عنها -.
فأَنزلَ اللهُ الايةَ يُعاتبُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) .
أَيْ: لِمَ تَمتنعُ من شربِ العسلِ عندَ زينب، وقد أَباحَ اللهُ لك ذلك.
ومعنى قولِه: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) :
شَرَعَ اللهُ لكم التحللَ من أَيْمانِكم التي تَحلفونَها، وذلك بدفعِ الكفارة.
وقد حَنثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيمينِه
بعدَما عاتبه اللهُ، فدفعَ الكفارة بأَنْ أَعتقَ رقبة، وعادَ إِلى شربِ العسل.
وبهذا نعرفُ أَنه لا مَنسوخَ ولا ناسخَ في الآيات، فمن أَينَ أتى الفادي
المجرمُ الجاهلُ بدعوى النسخ؟!
كُلُّ ماِ هنالك أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - حَلَفَ يَميناً
بالامتناعِ عن بعضِ المباح، فعاتَبَه الله، ودَعاهُ إِلى دَفْعِ الكفارة.
والمفتري كاذبٌ في دعوى تطليقِ حفصةَ، فلم يُطَلِّقْها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
6 - هل نسخَ تَحريمُ إِتلافِ أَشجارِ الأَعداء؟ :
ادّعى الفادي المجرمُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ إِتْلافَ أَشجارِ الأَعداء وقْتَ حربِهم، ثم نسخَ ذلك وأَباحَ إِتلافَ أَشجارِهم والعبثَ بمزارعِهم.
أَوردَ قولَه تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) .
وعَلَّقَ على الآيةِ قائلاً: " لما حاصرَ محمدٌ يهودَ بني النَّضير بجوارِ
يثرب، قَطَعَ نخيلَهم، فنادوه من الحصون: يا محمد! قد كُنتَ تَنهى عن
الفسادِ، وتُعيبُه على مَنْ صَنَعَهُ، فما بال قَطْعِ النخيلِ وتحريقِها؟
فارتابَ بعضُ الصحابة بِجَوازِ هذا الفعل، وتأَثَّروا من اعتراضِ بني النضير، فأَتى الناسخُ، وجعلَ هذه الأَفعالَ الفاسدةَ بإِذن الله! ".(1/634)
لا نَسْخَ في هذه الحادثةِ، ودعوى النسخِ في ذهنِ الفادي المجرم، ليتهكَّمَ على القرآن، ويُدينَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
لما حاصرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يهودَ بني النَّضيرِ في السنةِ الرابعةِ للهجرة، شَنَّ عليهم حرباً اقتصادية، فأَمَرَ الصحابةَ بقَطْعِ وحَرْقِ بعضِ نَخيلِهم في بساتينِهم، ليوقعَ الحسرةَ في نفوسِهم، فأَنكروا عليه ذلك، ونَادَوهُ من الحصونِ قائلين: يا أَبا القاسم: قد كنتَ تَنْهى عن الفسادِ، فلماذا تَقطعُ النخيلَ وتَحرقُه؟!.
وكأَنَّ بعضَ الصحابةِ تَحَرَّجوا من ذلك، فأَرادَ اللهُ أَنْ يُزيلَ ذلك التحرجَ
من قلوبهم، فأَنزلَ آيةً حكيمةً تبَيّنُ مشروعيتَه، وهي قولُه تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) .
أَيةُ نخلةٍ قَطعوها كان ذلك بإِذْنِ الله، وأَيةُ نخلةٍ تَركوها قائمةً على
أُصولِها كان ذلك بإِذن الله، والمرادُ بإِذْنِه سبحانه رِضاهُ عن ذلك وإِباحتُه،
ومنحُ الثوابِ للصحابةِ الذين فَعَلوه، ومن حِكَمِ ذلك أَنه أَرادَ سبحانه أَنْ يَنصرَ المؤمنين، ويُخزيَ اليهودَ الفاسقين الكافرين.
واللهُ هو الذي أَوحى إِلى نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهو أَمَرَ الصحابةَ به فنفَّذوه.
فأَينَ الناسخُ والمنسوخُ في الآية؟
وما الذي نسخَتْه الآيةُ؟
ولماذا زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنها ناسخة؟
وكيف يَصِفُ قطعَ النخيلِ الذي أَذِنَ اللهُ به ورضيَه وأَباحَه أَفعالاً فاسدة؟
وهل اللهُ يأذنُ ويُجيزُ أَفعالاً فاسدة؟!.
إِنَّ الآيةَ أَباحَتْ قطعَ نخيلِ اليهود، ودلَّتْ على مشروعيةِ الحربِ
الاقتصاديةِ ضدَّ الأَعداءِ المحاربين، وتَدميرِ اقتصادِهم وممتلكاتِهم، وهذا
التشريعُ الذي قررَتْه لا يُسمى نَسْخاً، لأَنه لم يَنسخْ حكْماً تشريعياً قبلَه! ولكنَّ الفادي المفترِي جاهل، ولذلك جَعَلَها ناسخةً لحرمةِ قَطْعِ النخيل، مع أَنه لم يَسبقْ أَنْ جاءَ حكمٌ شرعيٌّ بحرمةِ قَطْعِ النخيل!.
7 - لا نسخ في الصلاة على غير المسلم:
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ الصلاةَ على غيرِ المسلم كانت جائزة، ولما(1/635)
صَلّى الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على عبدِ الله بنِ أُبَيّ اعترضَ عليه عمرُ بنُ الخطاب، فنسخَ إِباحةَ الصلاةِ، وحَرَّمَها إرضاءً لعمر.
قالَ المجرمُ: " جاءَ في سورةِ التوبة (84) : (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) .
جاءَتْ هذه الآية ُ بعدَ فراغِ محمدٍ من صلاتِه على جثةِ المنافقِ عبدِ الله بنِ
أُبيِّ ابن سلول، وإِقامتهِ على قبرِه حتى نهايةِ دفنِه، وكان عمرُ يُمانعُ محمداً من
الصلاةِ عليه بسببِ نفاقِه، فلم يَمتنع، ولكن إِرضاءً لعمرَ نزلَ الناسخُ ليوقفَ تأثيرَ الصلاة ".
والحادثةُ ليستْ كما قال هذا المفترِي، ولم تكن الصلاةُ على المنافقِ أَو
الكافرِ إِذا ماتَ مُحَرَّمَة، ولو كانت كذلك لما فعلَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لأَنه كان ملتزماً بأَحكامِ الله، ولا يُمكنُ أَنْ يفعلَ شيئاً حَرَّمَهُ اللهُ عليه.
كانت الصلاةُ على غير المسلمِ مسكوتاً عنها، لا مُباحَةً ولا مُحَرَّمَة، لم
يَرِدْ نَصّ بإِباحتِها، ولا بحرمتِها.
وتُوفيَ عبدُ الله بنُ أُبَيِّ ابن سَلُول زعيمِ المنافقين، وكان مُسْلماً في
الظاهر، ومحسوباً على المسلمين، فَدَعا الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ إِلى الصلاةِ عليه.
فتدخَّلَ عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه -، وقال: كيفَ تُصلّي عليه وهو المنافق؟
فلم يلتفتْ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلّى على ابنِ أُبَي.
فأنزلَ اللهُ الآيةَ يَنهى الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاةِ على أَحَدٍ من الكافرين أَو المنافقين، كما ينهاهُ عن تَشييعِ جنازتِه، أَو الإِقامةِ على قبره.
ولم تَنزل الآية ُ إِرضاءً لعمر، كما ادَّعى ذلك المفترِي.
وهذه الآية ُ ليستْ ناسخةً، كما ادَّعى المفترِي الجاهل، لأَنه لم يسبقْها
حكْمٌ شرعيّ بإِباحةِ الصلاة على الكافرِ أَو المنافق، حتى تنسخَه وتُحَرِّمَ ذلك.
والنسخ هو رفعُ حكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأَخِّر.(1/636)
وبهذا نعرفُ جَهلَ الفادي المفترِي بأَحكامِ الناسخِ والمنسوخ، ومع ذلك
يَدَّعي وقوفَه على الأَسبابِ الحقيقيةِ للناسخِ والمنسوخ، والأَسبابُ التي عَرَضَها هي في مخيَّلتِه المريضة، وهدفُه منها التهكمُ على الإِسلام، واتهامُ القرآن، وإِدانَةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومعظمُ الأَمثلةِ التي ذكَرَها وحَلَّلَها لا نسخَ فيها!.
***
حول الكلام المتشابه في القرآن
اعترضَ الفادي المفترِي على وُجودِ الكلامِ المتشابهِ في القرآن، واعْتَبره
نَقصاً في إِحكامِ القرآنِ وبلاغَتِه، وأَنَّ المسلمَ يُلغي عَقْلَه أَمامَه ويُسَلِّمُ به تسليماً أَعمى.
قالَ: " جاءَ في سورةِ آل عمران: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
اعترفَ القرآنُ أَنَّ به آياتٍ مُحْكَمات، لا تَقبلُ الصرفَ عن ظاهرها، ولا الذهابَ في محتملاتِها مذاهبَ شَتّى..
كما قالَ: إِنَّ به آياتٍ متشابهات، لا يَتضحُ مَعْناها، لأَنها مجملة، أَو غيرُ موافقةٍ للظاهرِ إِلّا بتدقيقِ الفِكْر، وما يَعْلمُ تَأْويلَها إِلّا الله.
وإِنَّ على أَشَدِّ الناسِ رسوخاً في العلمِ أَنْ يُسَلِّموا بها تَسليماً أَعمى.
ونحنُ نسألُ: أَليسَ وجودُ هذه المتشابهاتِ نَقْصاً في البلاغةِ والإِحكام؟
فكيفَ نتأكدُ ممَّا لا يَعلمُ تأويلَه إِلّا الله؟.
قالَ الإِنجيل: " امْتَحِنوا كُلَّ شيء، تَمَسَّكُوا بالحَسَن ".
فهل يَحتملُ القرآنُ الامتحان؟ ".
آياتُ القرآن نوعان: آياتٌ محكَمات، وآياتٌ متشابهات.
قالَ تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(1/637)
ومعظمُ آياتِ القرآنِ محكَمات، والآياتُ المتشابهاتُ آياتٌ
قليلةٌ جدّاً.
والمحكَمات هنَّ أُمُّ الكتاب، والأَصْل الواضحُ الذي يَجبُ
حملُ الآيات ِ المتشابهاتِ عليها، لإِحسانِ فهمِها ومعرفةِ مَعْناها.
والمحكَماتُ واضحاتُ الدلالة، لا لَبْسَ ولا غُموضَ فيها، ولا إِشكالَ عليها.
أَمّا المتشابهات فإِنّ فيها لَبْساً وإِشكالاً، ومَعْناها غيرُ واضحٍ وُضوحَ معنى المحكَمات، ويقفُ العلماءُ أَمامَها باحِثينَ متفكِّرين، ويَجبُ عليهم أَنْ يَحْمِلوها على الآياتِ المحكمَات، لِيُزيلوا اللَّبسَ عنها، ويُحْسِنوا معرفةَ
مَعناها.
ولا يَستحيلُ معرفةُ معنى الآيات ِ المتشابهاتِ كما ادَّعى الفادي المفْتَري، فإِنَّ معرفةَ معناها ممكِنَة، بل هي واجبة، لأَنه يَجبُ علينا معرفةُ كُلِّ معاني القرآن، ولم يُخاطبنا اللهُ في القرآنِ بشيءٍ لا نَعرفُ معناه، فقد أَنزلَه علينا
بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وأَوجبَ علينا فَهْمَه، وتَدَبُّرَه، فكلُّ ما في القرآن مَفهومُ المعنى، ومنه الآيات ُ المتشابهات.
لكن معرفة معنى الآيات المتشابهات يحتاج إلى مزيد من النظر والتفكر والبحث، لأَنها ليستْ بوضوحِ الآياتِ المحكَمات، ولَنْ يُعْرَفَ معناها بدقَّةٍ وإِتْقانٍ إِلّا بَحَمْلها على أُصولِها من الآياتِ المحْكَمات، وهذا ممكنٌ يتمُّ على
أَيْدي الراسخين في العلم.
وهناكَ أَشخاصٌ في قلوبِهم مَرَض، من أَمثالِ هذا الفادي المفتري المجرم، يَتركونَ الآياتِ المحكَماتِ الواضحاتِ الكثيرة، ويَبْحَثونَ عن الآياتِ المتشابهاتِ القليلة، بهدفِ فتنةِ المؤمنين، وتَشكيكِهم في القرآن، ويُثيرون
الشبهاتِ والإِشكالاتِ على معاني الآيات ِ المتشابهات، ولو حَمَلوا الآياتِ المتشابهاتِ على أُصولِها المحكماتِ لأَحْسَنوا فهمَ تلك المتشابهات.
إِذنْ معرفةُ معنى الآياتِ المتشابهاتِ ممكنةٌ بل واجبة، والمؤمنُ يَتعاملُ معها بوعْي عقلي، ولا يُسلمُ بها تَسليماً أَعمى، كما ادَّعى هذا الفادي الأَعْمى.(1/638)
والذي لا يَعرفُهُ الراسخون في العلمِ من المتشابهاتِ هو كيفيتُها الواقعيةُ
العمليةُ المادية، لأَنها غيبية غيرُ مُدْرَكَةٍ بالعقل، والعقلُ عاجز عن تكييفِها،
فلذلك يَكِلونَ كيفيتَها إِلى الله، ويَقولون: آمَنّا بالقرآن، كُلّ قسمَيْه من المحْكَمِ والمتشابه من عندِ رَبِّنا.
والفادي لجهْلِه وغَبائِه وصِغَرِ عَقْلِه لم يُفَرِّق بين معرفةِ مَعاني الآيات ِ
المتشابهات الممكِنة، التي تتمّ على أَيدي الراسخين في العلم، وبينَ تَكييفِها
الواقعيّ العمليِّ الذي لا يُمكنُ أَنْ تَقومَ به عقولُ الراسخين في العلم، فيَكِلونَ
هذا التَّكييفَ إِلى الله!!.
ووجودُ الآياتِ المتشابهاتِ القليلةِ في القرآن، تأكيد على بلاغةِ القرآن
وسُمُوِّهِ وإحْكَامِهِ وإِعجازِهِ، وليس نَقْصاً في بلاغتِهِ وإِحكامِهِ، كما ادَّعى
الجاهلُ، والقرآنُ يَدعو الراسخينَ في العلم من أُولي الأَلباب إِلى إِمعانِ النظرِ
في الآياتِ المتشابهات، وإِطالةِ الوقفةِ أَمامَها، وحَمْلِها على أُصولِها
المحكَمات، لإِزالةِ اللَّبس الخارجيِّ عنها، وإِحسانِ فَهْمِها، وتَقديمِها
للآخرين.
وكان الفادي الجاهلُ غبيّاً عندما طَرَحَ سؤالَه في آخرِ كلامِه: " فهل
يَحتملُ القرآنُ الامتحان؟ ".
نقولُ: نعم.
القرآنُ يَحتملُ الامتحان.
وهو يَتَحَدّى الكافرين، ويَدْعوهم إِلى امتحانِه، ويحثُّهم على امتحانِه، ويُقررُ لهم أَنهم لن يَجدوا فيه خَطَأً أَو اختلافاً أَو تفاوتاً أَو تناقضاً أَو اضطراباً، ويَتَحَدّاهم باستخراجِ ذلك منه.
وأَوضحُ دعوةٍ قرآنيةٍ لهم في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
وامتحنَ الكفارُ القرآن، ونَظَروا فيه بهدفِ الوقوفِ على الخطأ والاختلافِ
والتعارضِ والتناقض، واستمرَّ امتحانُهم ونَظَرُهم خمسةَ عشر قرناً، وقَدَّموا في ذلك كلاماً تافِهاً لا وَزْنَ ولا قيمةَ له، مثلَ هذا الكلامِ الذي قَدَّمَه هذا الفادي(1/639)
المفتري الجاهل، ويُمكنُ الرَّدُّ على شبهاتِهم بسهولةٍ ويُسْر، ولم يَتَأَثَر القرآنُ بما قالوه عنه، وبَقيَ صخرةً قويةً ثابتة، يَصدُق عليهم وعليه قولُ الشاعر:
كَناطِحِ صَخْرَةٍ يَوْماً لِيوهِنَها ... فَما وَهاها وَأَوْهى قَرْنَهُ الوَعِلُ
***
هل القرآن مثل كلام الناس؟
وضَعَ الفادي المفترِي عِنواناًا ستفزازياً مُثيراًْ " الكلامُ المماثلُ لغيرِه من
كلامِ الناس " ادَّعى فيه أَنَّ القرآنَ مثلُ كَلامِ الناس.
وجاءَ في عرضِه لفكرتِه الخبيثة قولُه: " جاءَ في سورةِ الإِسراء (88) :
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) .
ونحنُ نسألُ: أَليست المعلَّقاتُ السبعُ ومَقاماتُ الحريريِّ أَفصحَ من
القرآن؟
أَو ليس امرؤُ القيس أَفصحَ من محمد؟
أَليستْ قصائدُ المتنبي وابن الفارضِ وخُطَبُ قِسّ بنِ ساعِدَة وغيرهم تُحاكي فَصاحةَ القرآن، وتُخرجُه عن كونِه معجزة؟
فليس القرآنُ من المعجزةِ في شيء، لأَنَّ المعجزةَ حَدَثٌ يحدُثُ
خِلافَ مَجرى الطبيعةِ وناموسِها، فإِماتةُ حَيٍّ بطريقةٍ ما لا يُعَدُّ مُعجزة، لحدوثِه وفقَ ناموسِ الطبيعة، ولكنَّ إِحياءَ الميتِ بواسطةِ دُعاءٍ وأَمْرٍ يُحْسَبُ مُعجزة..
وعليه فتأليفُ كتابٍ في نهايةِ البلاغةِ والفصاحةِ لا يُعَدُّ معجزة، بل يُعَدُّ من
نوادِرِ أَعمالِ الإِنسان.
وإِنْ حَسَبْنا القرآنَ بناءً على سموِّ بلاغَتِه وفصاحتِه معجزةً، سيلزَمُنا أَن
نَحْسِبَ كثيراً من أَشعارِ العَرَبِ وخُطَبِهم مُعْجزات!
وإِنْ كانَ القرآنُ يتحدّى الناسَ جَميعاً في فصاحتِه، فأَي مسلمٍ يَقرأُ للعربِ قصائِدَهم العامرةَ وخُطَبَهم الرنانة، ويتذرَّعُ بالشجاعةِ في الرأي ويُعلنُ الحقيقةَ السافرةَ أَنَّ محمداً كأَحَدِ هؤلاءِ العرب، أَو يقل عنهم!.(1/640)
وكم هم الذين يَزيدون فصاحةً من أُدباءِ اليهودِ في اللغةِ العِبْرِية، ومن
أُدباءِ اليونانِ في اللغةِ اليونانية، ومن أُدباءِ الرومانِ في اللغةِ الرومانية، كما هو معروفٌ أَنَّ لكلّ لغةٍ أُدباءَها.
أَما معلوماتُ القرآن فلم تَزِدْ عن أَقوالِ العربِ والمجوسِ واليهود
والنصارى، الذين أُخِذَ عنهم! ".
إِنَّ المجرمَ الفاجرَ يَرى أَنَّ القرآنَ من كلامِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وليس من كَلامِ الله، وأَنَّ بعضَ كلامِ العرب أَفصحُ من القرآن، كشعرِ امرئ القيس والمتَنَبي، وحتى مقاماتُ الحريري الركيكةُ أَفصحُ عنده من القرآن.
وهو يَرى أَنَّ القرآنَ ليس معجزةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّ المعجزةَ في نظرهِ حَدَثٌ يَحدثُ على خلافِ الطبيعة، كإِحياء الميت، والقرآنُ في نظرِه ليس على خلافِ الطبيعةِ البشرية، إِنه كتابٌ أَلَّفَه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - على مستوى من الفصاحةِ والبلاغة، فالقرآنُ صناعةٌ بشريةٌ من نَوادرِ أَعمالِ الإِنسان!
ولو كانَ القرآنُ معجزةً لكانتْ كُلُّ خُطَبِ العربِ وأَشعارِهم معجزات!!.
ويرى المجرمُ أَنَّ تحدّي القرآنِ الناسَ في فصاحتِه لا مَعنى له، لأَنَّ
مؤَلّفَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَقَلُّ من مستوى العربِ في الفصاحةِ والبلاغة!!.
إِنَّ المجرمَ يَهذي في هذا الكلام، ويُقدمُ كَلاماً تافِهاً ساقِطاً، يوحي به
إِليه حِقْدُه ولؤمُه وخبثُه وكيدُه، ولذلك يُغالطُ الحقائِق، ويطلبُ من القارئ
تَصديقَه!!.
هَبْ أَنَّ القرآنَ أَقَلُّ فصاحةً وبلاغةً من خُطَب وأَشعارِ العرب، فلماذا لم
يَأتوا بالمطلوبِ لما تَحَدّاهم القرآن؟
ولماذا لم يُؤَلًّفوا سورةً أَوْ عَشْرَ سُوَر؟
وما الذي مَنَعَهم من ذلك وهم الأَفصحُ والأَبلغ؟
وهم الحَريصونَ على أَنْ لا يَنْهَزِموا في ميدانِ البيانِ والفصاحةِ والبلاغة!!.(1/641)
ومَن الذي قالَ: إِنَّ القرآنَ ليس معجزة؟
إِنَّ المعجزةَ هي الأَمْرُ الخارقُ للعادة، يُجريهِ اللهُ على يَدِ النبيّ، وما ذَكَرَهُ من إِحياءِ الميتِ معجزةٌ، لكنَّها ليستْ خاصةً به.
إِنَّ المعجزاتِ نوعان:
النوعُ الأَول: معجزات ماديَّة، سالمةٌ من المعارضة، بحيثُ لا يَستطيعُ
الخصْمُ نَقْضَها ومعارضَتَها وإبطالَها، مثلُ عصا موسى - عليه السلام -، التي جعلَها اللهُ حَيَّةً تَسعى، والْتَقمتْ كُلَّ ما قَدَّمَ السحرةُ من حِبالٍ وعِصِي، ومثلُ النارِ التي جَعَلَها اللهُ بَرْداً وسلاماً على إِبراهيم - عليه السلام -، ومثْلُ إِحياءِ الميت الذي تَم على يَدِ عيسى - عليه السلام -.
النوعُ الثاني: معجزاتٌ معنويةٌ غيرُ محسوسةٍ ولا ملموسة، مثلُ القرآنِ
الذي جَعَلَهُ اللهُ آيةً بيانيةً عقليةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو معجزةٌ عقليةٌ يُخاطبُ اللهُ بها العقلَ الإِنساني، ويُقَدمُ الأَدلةَ العقليةَ العديدةَ على أَنه من عندِ الله، وشاءَ اللهُ الحكيمُ أَنْ تكونَ معجزةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الأُولى عقليةً بيانية، لأَنَ رسالتَه مستمرة حتى قيامِ الساعة، فلا نبيَّ بعده.
فحصْرُ الفادي المجرمِ المعجزاتِ بالنوعِ الأَوَّلِ دَليلُ جهْلِه وغبائِه.
ولقد كانَ لرسولِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - معجزاتٌ ماديةٌ ثانوية، مثلُ تكثيرِ الطعامِ والماءِ بين يديه، وتسبيحِ الحصى بين يدَيْه، ومعجزةِ الإِسراءِ والمعراج.
وعندما طلبَ المشركونَ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - تقديمَ معجزات مادية، كتلك التي أَتى بها الأَنبياءُ السابقون، رَدَّ اللهُ عليهم بلَفْتِ نظرِهم إِلى معجزتِه الأَهَم التي هي القرآن.
قالَ تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) .
ويُغالطُ الفادي المجرمُ، ويُخالفُ المنطقَ والموضوعيةَ، عندما يَدعي أَنَّ
أَشعارَ العربِ أَفصحُ من القرآن، وحتى مقاماتُ الحريري أَفصحُ من القرآن،(1/642)
وإِنَّ الباحثينَ المنصفينَ المُحايدين، الذين يَحتَرمونَ عُقولَهم وعقولَ القراء،
ويَحترمون الحقيقةَ والموضوعية، قَرّروا أَنه لا مجالَ للمقارنةِ بينَ القرآنِ وبين
الشعرِ العربي، لأَنَّ فصاحةَ القرآنِ وبلاغتَه بَلَغَتْ حَدَّ الإِعجاز، ولذلك عَجَزَ العربُ المشركون عن معارضةِ القرآن، والإِتيانِ بمثلِه، أَو بعشرِ سورِ مثلِه، أَو بسورةِ مثله.
ولقد أَخبرَ القرآنُ استحالةَ قدرةِ الناسِ على معارضةِ القرآنِ والإِتيانِ
بمثْلِه، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) .
وهذه الآيةُ الجازمة، يُصَدّقُها الواقعُ التاريخي، على مَدارِ خمسةَ عَشَرَ
قرناً، فكم حارَبَ القرآنَ من أَصنافِ الكفار، وكم حاوَلوا معارضَتَه ونَقْضَه، ولكنَّ جَميعَ محاولاتِهم باءَتْ بالفَشَل، ولم يتمكَّنوا من معارضتِه والإِتيانِ
بمِثْلِه، ويَبقى خَبَرُ الآيةِ قائماً: (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) .
ويَبْقَى هذا دليلاً قاطِعاً على أَنَّ القرآنَ من عندِ الله! وأَنه لا يُماثِلُ ولا يُشابِهُ
كَلامَ الناس.
***
حول الاختلاف والتناقض في القرآن
أَخبرَ اللهُ أَنَّ القرآنَ ليسَ مُختلفاً ولا مُتناقضاً، ولو كانَ من عندِ غير اللهِ
لكانَ فيه الكثيرُ من الاختلافِ والتناقض.
قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
ولكنَّ الفادي المجرمَ لم يُصَدِّق الآيةَ، وإِنما كَذَّبَها، وادَّعى أَنَّ القرآنَ
مختل مُضطرب مُتناقض.
وقالَ تحتَ عنوان: " الكَلامُ المختلف ": " جاءَتْ في القرآنِ اختلافاتٌ كثيرةٌ لاختلافِ قراءاتِه، وصارَتْ سُنَّة أَنَّ عباراتِ القرآنِ على سبعةِ أَحرفٍ أَو سبعةِ أَوجهٍ، حتى ليَصعبُ على الإِنسانِ أَنْ يُصدرَ حُكْماً(1/643)
صحيحاً، لعدمِ تأكيدِه إِلى أَيِّ قراءةٍ يَستند ... " (1) .
يَزْعُمُ المفترِي أَنَّ القراءاتِ تُؤَدّي إِلى الاختلافاتِ الكثيرةِ في القرآن.
وكأَنَّ هذه القراءات من وَضْعِ واختيارِ البشر، وهذا زعمٌ باطل.
وإِنَّ القراءاتِ الصحيحةَ عَشْرُ قراءات، هي: قراءةُ ابنِ كثيرٍ المكي،
ونافعِ المدني، وابنِ عامر الشامي، وأَبي عمرو البصري، وعاصمِ الكوفي،
وحمزةَ الكوفي، والكسائي الكوفي، وأَبي جعفر المدني، ويعقوبَ البصري،
وخَلَفٍ البغدادي.
وكُلُّ هذه القراءاتِ العشرِ أَنزلَها اللهُ على نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فكلُّها كَلامُ اللهِ قَطْعاً.
وشروطُ القراءةِ الصحيحةِ ثلاثة: أَنْ تكونَ صحيحةَ السَّنَد، وأَنْ تُوافِقَ رَسْمَ المصحف العثماني، وأَنْ تُوافِقَ اللغةَ العربية..
فإِذا اختلَّ واحِدٌ من هذه الشروطِ الثلاثة كانت القراءةُ شاذةً غيرَ صحيحة، وحكَمْنا بأَنها ليستْ قرآناً.
ولا اختلافَ بين القراءاتِ العشرِ كما زَعَمَ هذا الجاهل، لأَنها كُلها
متوافقةٌ مع رسمِ المصحف، والخلافُ بينها يسيرٌ في بعضِ الحركاتِ أَو
الحروف، وضمنَ المصحف، واللهُ أَنزلَ الآيةَ بأَكثرَ من قراءةٍ لحِكَمٍ عديدة.
وعلْمُ " القراءات " عِلْمٌ أَصيل، وقد حَصَرَ علماءُ القراءات تلكَ القراءات
حَصْراً دَقيقاً مضبوطاً، وحَدّدوا كيفيةَ النطقِ بكلّ قراءة، وأَلَّفوا في ذلك العديدَ من الكتب، وصارَ بإِمكانِ أَيِّ قارئٍ للقرآن أَنْ يُتقنَ قراءةَ أَيِّ إِمامٍ من القُرّاءِ العشرة.
ولكنَّ الفادي الجَاهلَ محجوب عن هذا العلمِ، لكُفْرِه وحِقْدِه وجَهْلِه
وغبائه.
وكما اعترضَ الفادي الجاهلُ على القراءات اعترضَ على الأَحرفِ
السبعة، التي أَنزلَ اللهُ القرآنَ عليها، واعتبرَها سَبَباً في وجودِ الاختلافِ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
3- تعدد قراءات القرآن
مقدمة: تعدد القراءات ألا يدل على الإختلاف فيه، وهو نوع من التحريف؟
القراءات: جمع قراءة، وقراءات القرآن مصطلح خاص لا يراد به المعنى اللغوى المطلق، الذى يفهم من اطلاع أى قارئ على أى مكتوب، بل لها فى علوم القرآن معنى خاص من إضافة كلمة قراءة أو قراءات للقرآن الكريم، فإضافة " قراءة " أو "قراءات " إلى القرآن تخصص معنى القراءة أو القراءات من ذلك المعنى اللغوى العام، فالمعنى اللغوى العام يطلق ويراد منه قراءة أى مكتوب، سواء كان صحيفة أو كتابًا، أو حتى القرآن نفسه إذا قرأه قارئ من المصحف أو تلاه بلسانه من ذاكرته الحافظة لما يقرؤه من القرآن ومنه قول الفقهاء:
القراءة فى الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء تكون جهرًا، فإن أسرَّ فيهما المصلى فقد ترك سُنة من سنن الصلاة، ويسجد لهما سجود السهو إن أسر ساهيًا. فقراءة القرآن هنا معنى لغوى عام، لا ينطبق عليه ما نحن فيه الآن من مصطلح: قراءات القرآن. وقد وضع العلماء تعريفًا للقراءات القرآنية يحدد المراد منها تحديدًا دقيقًا. فقالوا فى تعريفها:
" اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (البرهان فى علوم القرآن (1/318)) .
وقد عرفها بعض العلماء فقال:
" القراءات: هى النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبى صلى الله عليه وسلم.." (القراءات القرآنية تاريخ وتعريف) .
ومما تجب ملاحظته أن القراءات القرآنية وحى من عند الله عزَّ وجل، فهى إذن قرآنً، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُمْ) (1) . هذه قراءة حفص عن عاصم، أو القراءة العامة التى كُتب المصحف فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه عليها، والشاهد فى الآية كلمة "أنفُسِكُم" بضم الفاء وكسر السين، وهى جمع: " نَفْس " بسكون الفاء، ومعناها: لقد جاءكم رسول ليس غريبًا عليكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم لأنه منكم نسبًا ومولدًا ونشأة، وبيئة، ولغة.
وقرأ غير عاصم: " لقد جاءكم رسول من أَنْفَسِكُمْ " بفتح الفاء وكسر السين، ومعناها: لقد جاءكم رسول من أزكاكم وأطهركم.
و" أنْفَس " هنا أفعل تفضيل من النفاسة. فكلمة " أنفسكم " كما ترى قرئت على وجهين من حيث النطق. وهذا هو معنى القراءة والقراءات القرآنية.
مع ملاحظة مهمة ينبغى أن نستحضرها فى أذهاننا ونحن نتصدى فيما يأتى للرد على الشبهة التى سيوردها خصوم القرآن من مدخل: تعدد قراءات القرآن أن هذه القراءات لا تشمل كل كلمات القرآن، بل لها كلمات فى الآية دون كلمات الآية الأخرى، وقد رأينا فى الآية السابقة أن كلمات الآية لم تشملها القراءات، بل كانت فى كلمة واحدة هى " أنفسكم ".
وهذا هو شأن القراءات فى جميع القرآن، كما ينبغى أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوًّا تامًّا.
ومثال آخر، قوله تعالى:
" مالك يوم الدين " والشاهد فى الآية كلمة " مالك "، وفيها قراءتان:
" مالك " اسم فاعل من " مَلِكَ " وهى قراءة حفص وآخرين. " مَلِك " صفة لاسم فاعل، وهى قراءة: نافع وآخرين.
ومعنى الأولى " مالك " القاضى المتصرف فى شئون يوم الدين، وهو يوم القيامة.
أما معنى " مَلِك " فهو أعم من معنى " مالك " أى من بيده الأمر والنهى ومقاليد كل شىء. ما ظهر منها وما خفى.
وكلا المعنيين لائق بالله تعالى، وهما مدح لله عز وجل.
ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتبت فى الرسم هكذا "ملك " بحذف الألف بعد حرف الميم، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين.
ومثال ثالث هو قوله تعالى:
(يوم يُكشف عن ساق) (2) .
والشاهد فى الآية كلمة " يُكشَف " وفيها قراءتان الأولى قراءة جمهور القراء، وهى " يُكشف " بضم الياء وسكون الكاف، وفتح الشين. بالبناء للمفعول، والثانية قراءة ابن عباس " تَكْشِفُ " بفتح التاء وسكون الكاف، وكسر الشين، بالبناء للفاعل، وهو الساعة، أى يوم تكشف الساعة عن سياق. قرأها بالتاء، والبناء للمعلوم، وقرأها الجمهور بالياء والبناء للمجهول.
والعبارة كناية عن الشدة، كما قال الشاعر:
كشفت لهم ساقها * * * وبدا من الشر البراح (3) .
هذه نماذج سقناها من القراءات القرآنية تمهيدًا لذكر الحقائق الآتية:
- إن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل.
- إنها لا تدخل كل كلمات القرآن، بل لها كلمات محصورة وردت فيها، وقد أحصاها العلماء وبينوا وجوه القراءات فيها.
- إن الكلمة التى تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه.
- إن القراءات القرآنية لا تؤدى إلى خلل فى آيات الكتاب العزيز، وكلام الله الذى أنزله على خاتم رسله عليهم الصلاة والسلام.
ومع هذا فإن خصوم الإسلام يتخذون من تعدد قراءات بعض كلمات القرآن وسيلة للطعن فيه، ويرون أن هذه القراءات ما هى إلا تحريفات لحقت بالقرآن بعد العصر النبوى.
وكأنهم يريدون أن يقولوا للمسلمين، إنكم تتهمون الكتاب المقدس بعهديه (التوراة والإنجيل) بالتحريف والتغيير والتبديل، وكتابكم المقدس (القرآن) حافل بالتحريفات والتغييرات والتبديلات، التى تسمونها قراءات؟
وهذا ما قالوه فعلاً، وأثاروا حوله لغطًا كثيرًا، وبخاصة جيش المبشرين والمستشرقين، الذين تحالفوا إلا قليلاً منهم على تشويه حقائق الإسلام، وفى مقدمتها القرآن الكريم.
ونكتفى بما أثاره واحد منهم قبل الرد على هذه الشبهة التى يطنطنون حولها كثيرًا، ذلكم الواحد هو المستشرق اليهودى المجرى المسمى: " جولد زيهر " الحقود على الإسلام وكل ما يتصل به من قيم ومبادئ.
إن هذا الرجل لهو أشد خطرًا من القس زويمر زعيم جيش المبشرين الحاقدين على الإسلام فى عهد الاحتلال الإنجليزى للهند ومصر.
أوهام جولد زيهر حول القراءات القرآنية:
المحاولة التى قام بها جولد زيهر هى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله، نزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين، وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى؛ لأنه كان فى الفترة التى ظهرت فيها القراءات غير منقوط ولا مشكول، وهذا ساعد على نطق الياء ثاء فى مثل " تقولون " أو " تفعلون "! فمنهم من قرأ بالتاء " تقولون " ومنهم من قرأ بالياء " يقولون ".
هذا من حيث النقط وجودًا وعدمًا، أما من حيث الشكل أى ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلاً، وأرجع إلى هذا السبب قوله تعالى: (وهو الذى أرسل الرياح بُشرًا..) (4) .
فقد قرأ عاصم: " بُشرا " بضم الباء وقرأها الكسائى وحمزة: " نَشْرا " بالنون المفتوحة بدلاً من الباء المضمومة عند عاصم.
وقرأ الباقون: " نُشُرا " بالنون المضمومة والشين المضمومة، بينما كانت الشين فى القراءات الأخرى ساكنة (5) .
وفى هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام (6) :
" والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربى، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية، وفقدان الشكل (أى الحركات) فى الخط العربى يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب. فهذه التكميلات للرسم الكتابى ثم هذه الاختلافات فى الحركات والشكل، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن ".
إن المتأمل فى هذا الكلام، الذى نقلناه عن جولد زيهر، يدرك أن الرجل يريد أن يقول فى دهاء وخبث. إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم أصابها بعض الضياع إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف فى القرآن الحكيم.
ثم أخذ بعد ذلك يورد أمثلة من القراءات وينسبها إلى السببين اللذين تقدم ذكرهما، وهما:
- تجرد المصحف من النقط فى أول عهده.
- تجرد كلماته من ضبط الحروف.
فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى:
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) (7) .
والشاهد فى كلمة " تستكبرون " وهى قراءة الجمهور. وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة " تستكثرون " بإبدال الباء ثاء، يريد أن يقول: إن الكلمة كانت فى الأصل " يستكبرون " غير منقوطة الحروف الأول والثالث والخامس فاختُلِف فى قراءتها:
فمنهم من قرأ الخامس " باء " والأول تاء فنطق: تستكبرون، ومنهم من قرأ الخامس " ثاء " فنطق " تستكثرون.
هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده.
وكذلك قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه..) (8) .
والشاهد فى كلمة " إياه " ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر.
ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا " اباه " بإبدال الياء من " إياه " باء " اباه " أى وعدها إبراهيم عليه السلام أباه؟ (9) .
أما اختلاف القراءات للسبب الثانى، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضبط بالحركات، فمن أمثلته عنده قوله تعالى:
(ومَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب) (10) .
وقارن بين قراءاتها الثلاث: " مَنْ عنْدَهُ " " مِنْ عِنْدِه " "مَنْ عِنْدِهِ "؟ !
هذا هو منهجه فى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله، إلى كونها أوهامًا كان سببها نقص الخط العربى الذى كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها. واقتفى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين.
الرد على هذه الشبهة:
لقد حظى كتاب الله العزيز بعناية منقطعة النظير، فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته. ومن الحقائق الراسخة رسوخ الجبال أن طريق تَلَقِّى القرآن كان هو السماع الصوتى.
- سماع صوتى من جبريل لمحمد عليهما السلام.
- وسماع صوتى من الرسول إلى كتبة الوحى أولاً وإلى المسلمين عامة.
- وسماع صوتى من كتبة الوحى إلى الذين سمعوه منهم من عامة المسلمين.
- وسماع صوتى حتى الآن من حفظة القرآن المتقنين إلى من يتعلمونه منهم من أفراد المسلمين.
هذا هو الأصل منذ بدأ القرآن ينزل إلى هذه اللحظة وإلى يوم الدين، فى تلقى القرآن من مرسل إلى مستقبل.
وليست كتابة القرآن فى مصاحف هى الأصل، ولن تكون. القرآن يجب أن يُسمع بوعى قبل أن يقرأ من المصحف، ولا يزال متعلم القرآن فى أشد الحاجة إلى سماع القرآن من شيوخ حافظين متقنين، وفى القرآن عبارات أو كلمات مستحيل أن يتوصل أحد إلى نطقها الصحيح عن مجرد القراءة فى المصحف، ولو ظل يتعلمها وحده أيامًا وأشهرا.
وبهذا تهوى الأفكار التى أرجع إليها جولد زيهر نشأة القراءات إلى الحضيض، ولا يكون لها أى وزن فى البحث العلمى المقبول؛ لأن المسلمين من جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يتعلموا القرآن عن طريق الخط العربى من القراءة فى المصاحف، وإنما تعلموه سماعًا واعيًا ملفوظًا كما خرج من فم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قيض الله لكتابه شيوخًا أجلاء حفظوه وتلوه غضًا طريًا كما كان صاحب الرسالة يحفظه ويتلوه كما سمعه من جبريل أمين الوحى.
أجل.. كان سيكون لأفكار جولد زيهر وجه من الاحتمال لو كان المسلمون يأخذون القراءة قراءة من مصاحف. أما وقد علمنا أن طريق تلقى القرآن هو السماع الموثق، فإن أفكار جولد زيهر تذهب هباء فى يوم ريح عاصف.
ثانيًا: إن القراءات الصحيحة مسموعة من جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسموعة من محمد صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحى، ومسموعة من محمد ومن كتبة الوحى لعموم المسلمين فى صدر الإسلام الأول، ثم شيوخ القرآن فى تعاقب الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد سمع المسلمون من محمد المعصوم عن الخطأ فى التبليغ " فتبينوا " و " فتثبتوا " فى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (11) بالباء والياء والنون.
وسمعوها منه " فتثبتوا " بالتاء والثاء والباء والتاء وكلا القراءتين قرآن موحى به من عند الله. وليس كما توهم جولد زيهر، إنهما قراءتان ناشئتان عن الاضطراب الحاصل من خلو كلمات المصحف من النقط والشكل فى أول أمره؟.
والقراءتان، وإن اختلف لفظاهما، فإن بين معنييهما علاقة وثيقة، كعلاقة ضوء الشمس بقرصها: لأن التبين، وهو المصدر المتصيد من " فتبينوا " هى التفحص والتعقب فى الخبر الذى يذيعه الفاسق بين الناس، وهذا البَين هو الطريق الموصل للتثبت. فالتثبت هو ثمرة التبين. ومن تبيَّن فقد تثبت. ومن تثبت فقد تبين.
فما أروع هذه القراءات، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، إن قراءات القرآن لهى وجه شديد الإشراق من وجوه إعجاز القرآن، وإن كره الحاقدون.
وكما سمع المسلمون من فم محمد، الذى لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فى الآية السابقة: " فتبينوا " و " فتثبتوا " سمعوا منه كذلك، " يُفَصِّل " و " نُفصِّلُ " فى قوله تعالى:
(ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) (12) .
و" نفصل الآيات "
وفاعل الفصل فى القراءتين واحد هو الله عز وجل:
وقد اختلف التعبير عن الفاعل فى القراءتين، فهو فى القراءة الأولى " يفَصِّل " ضمير مستتر عائد على الله عز وجل فى قوله:
(ما خلق الله ذلك إلا بالحق) أى يفصل هو الآيات. فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد " الله ".
وفى القراءة الثانية عُبِّر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نُفَصِّل" أى نفصل نحن.
والله واحد أحد، ولكن النون فى " نفصل " لها معنى فى اللغة العربية هو التعظيم إذا كان المراد منها فردًا لا جماعة. ووجه التعظيم بلاغةً تنزيل الفرد منزلة " الجماعة " تعظيمًا لشأنه، وإجلالاً لقدره.
وفى هاتين القراءتين تكثير للمعنى، وهو وصف ملازم لكل القراءات.
وللبلاغيين إضافة حسنة فى قراءة " نفصل " بعد قوله: " ما خلق الله.. " هى الانتقال من الغيبة فى " ما خلق الله " إلى المتكلم فى " نفصل " للإشعار بعظمة التفصيل وروعته.
وبعد: إن إرجاع القراءات القرآنية لطبيعة الخط العربى الذى كان فى أول أمره خاليًا من النقط والشكل، كما توهم " جولد زيهر " ومن بعده " آثر جيفرى " فى المقدمة التى كتبها لكتاب المصاحف، لأبى داود السجستانى، وتابعهما المستشرق " جان بيرك "، إن هذه النظرية مجرد وَهْمٍ سانده جهل هؤلاء الأدعياء على الفكر الإسلامى، مبدؤه ومنتهاه الحقد على الإسلام والتطاول على القرآن، لحاجات فى نفوس " اليعاقيب ".
وقد قدمنا فى إيجاز ما أبطل هذه الأوهام، وبقى علينا فى الرد على هذه الشبهة أن نذكر فى إيجاز كذلك جهود علمائنا فى تمحيص القراءات، وكيف وضعوا الضوابط الدقيقة لمعرفة القراءات الصحيحة، من غيرها مما كان شائعًا وقت جمع القرآن فى عهد عثمان بن عفان " رضى الله عنه ".
تمحيص القراءات:
وضع العلماء الأقدمون ضوابط محكمة للقراءات الصحيحة التى هى وحى من عند الله. وتلك الضوابط هى:
1- صحة السند، الذى يؤكد سماع القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- موافقة القراءة لرسم المصحف الشريف، الذى أجمعت عليه الأمة فى خلافة عثمان رضى الله عنه مع ملاحظة أن الصحابة الذين نسخوا القرآن فى المصحف من الوثائق النبوية فى خلافة عثمان، نقلوه كما هو مكتوب فى الوثائق النبوية بلا تغيير أو تبديل. ورسم المصحف الذى بين أيدينا الآن سنة نبوية؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أقر تلك الوثيقة، واحتفظ بها فى بيته حتى آخر يوم فى حياته الطيبة.
ولذلك أجمع أئمة المذاهب الفقهية على تحريم كتابة المصحف فى أى زمن من الأزمان، على غير الرسم المعروف بالرسم العثمانى للمصحف الشريف. ونقل هذا الإجماع عنهم كثير من علماء تاريخ القرآن (13) .
3- أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه تراكيب اللغة العربية؛ لأن الله أنزل كتابه باللسان العربى المبين.
4- أن يكون معنى القراءة غير خارج عن قيم الإسلام ومقاصده الأصول والفروع.
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فلا تكون القراءة مقبولة ولا يعتد بها.
وعملاً بهذه الضوابط تميزت القراءات الصحيحة من القراءات غير الصحيحة، أو ما يسمى بالقراءات الشاذة، أو الباطلة.
ولم يكتف علماؤنا بهذا، بل وضعوا مصنفات عديدة حصروا فيها القراءات الصحيحة، ووجهوها كلها من حيث اللغة، ومن حيث المعنى.
كما جمع العلامة ابن جنى القراءات الشاذة، حاصرًا لها، واجتهد أن يقومها تقويمًا أفرغ ما ملك من طاقاته فيه، وأخرجها فى جزءين كبيرين.
أما ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه، حين أمر بنسخ الوثائق النبوية فى المصاحف، فقد أراد منه هدفين، ننقل للقارئ الكريم كلامًا طيبًا للمرحوم الدكتور/ محمد عبد الله دراز فى بيانهما:
" وفى رأينا أن نشر المصحف بعناية عثمان كان يستهدف أمرين:
أولهما: إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة، التى كانت تدخل فى إطار النص المدون يعنى المصحف ولها أصل نبوى مجمع عليه، وحمايتها فيه منعًا لوقوع أى شجار بين المسلمين بشأنها، لأن عثمان كان يعتبر التمارى (أى الجدال) فى القرآن نوعًا من الكفر.
ثانيهما: استبعاد ما لا يتطابق تطابقًا مطلقًا مع النص الأصلى (الوثائق النبوية) وقاية للمسلمين من الوقوع فى انشقاق خطير فيما بينهم، وحماية للنص ذاته من أى تحريف، نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعًا ما، أو أى شروح يكون الأفراد قد أضافوها إلى مصاحفهم " (14) .
هذه هى عناية المسلمين من الرعيل الأول بالقرآن الكريم وتعدد قراءاته، وحماية كتاب الله من كل دخيل على نصوص الوحى الإلهى.
هذا، وإذا كان جولد زيهر، وآثر جيفرى المبشر الإنجليزى، وجان بيرك قد أجهدوا أنفسهم فى أن يتخذوا من قراءات القرآن منفذًا للانقضاض عليه، والتشكيك فيه، فإن غيرهم من المستشرقين شهدوا للقرآن بالحق، ونختم ردنا على هذه الشبهة بمستشرق نزيه، أثنى على القرآن وقال إنه النص الالهى الوحيد، الذى سلم من كل تحريف وتبديل، لا فى جمعه، وفى تعدد مصاحفه، ولا فى تعدد قراءاته. قال المستشرق لوبلوا: [إن القرآن هو اليوم الكتاب الربانى الوحيد، الذى ليس فيه أى تغيير يذكر] . ومن قبله قال مستشرق آخر (د. موير) كلاما طيباً فى الثناء على القرآن، وهو: [إن المصحف الذى جمعه عثمان، قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أى تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أى تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أى تغييرعلى الإطلاق فى النسخ التى لا حصر لها، المتداولة فى البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية
المتنازعة وهذا الاستعمال الإجماعى لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المُنزل، الموجود معنا والذى يرجع إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه الذى مات مقتولا (15) . اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) التوبة: 128.
(2) القلم: 42.
(3) معانى القرآن للقراء (3/177) .
(4) الفرقان: 48.
(5) انظر: رسم المصحف (29) للدكتور / عبد الفتاح شلبى، مكتبة وهبة.
(6) المذاهب الإسلامية (ص4) ، ترجمة د. محمد يوسف موسى.
(7) الأعراف: 48.
(8) التوبة: 114.
(9) رسم المصحف (30) ، مرجع سبق ذكره.
(10) الرعد: 43.
(11) الحجرات: 6.
(12) يونس: 5.
(13) ينظر: البرهان فى علوم القرآن، مرجع سبق ذكره.
(14) " مدخل إلى القرآن الكريم " (ص43) مرجع سبق ذكره.
(15) حياة محمد: تأليف w.MUIR نقلا عن (مدخل إلى القرآن الكريم) .(1/644)
والاضطرابِ في القرآن.
وقالَ في اعتراضه: " قال محمد: " هذا القرآنُ أُنزلَ على سبعةِ أَحرف، فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه "..
قال محمدٌ هذا الكلامَ لعمرَ بن الخطّاب، لَمّا جاءَه عمرُ بهشامِ بنِ حكيم وقد لَبَّبَهُ بردائِه، لما سمعَهُ يقرأُ سورةَ الفرقان على غيرِ ما أَقرأَها محمدٌ لعُمَر.
فقالَ عمرُ: يا رسولَ الله! إِني سمعتُ هذا يقرأُ سورةَ الفرقانِ على حروفٍ لم تُقْرِئْنيها..
فقال له محمدٌ: " اقْرأَ يا هشام ".
فقرأَ عليه القراءةَ التي سمعَه عمرُ يقرؤُها.
فقال محمد: " هكذا أُنزلَتْ! "
ثم قالَ محمد: " اقرأْ يا عمرُ ".
فقرأَ بقراءَتِه التي أَقرأَه بها محمد، فقالَ محمدٌ: " هكذا أُنزلَتْ! " ثم قالَ: " إِنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على سبعةِ أَحرف، *
فاقرؤوأ ما تيسَّرَ منه! ".
قالَ المفَسِّرون: سبعةُ أَحْرف.
أَيْ: سبعةُ أَوْجُهٍ مختلفة، أَو سبعُ قراءاتٍ مختلفه ".
القصةُ التي ذَكَرَها الفادي صحيحة، وقد أَجازَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قراءهً هشامِ بنِ حكيم، وأَجازَ قراءةَ عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -، لأَنه أَقْرَأَ كُلَّ واحدٍ بما قرأَه، وكان الخلافُ بينَ قراءةِ هشام وقراءةِ عُمَر قليلاً، وعَلَّلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - الاختلافَ
بينهما بأَنَّ اللهَ أَنزلَ القرآنَ على سبعةِ أَحْرُف، وأَنه يَجوزُ قراءةُ القرآنِ بأَيِّ
حرفٍ منها، وكلٌّ من عمرَ وهشامٍ قرشيٌّ، ومع ذلك قرأَ كُلُّ واحدٍ بقراءةٍ
تَعَلَّمَها من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
والأَحْرفُ السبعةُ توقيفيةٌ، ولَيستِ اجتهاديةً باجتهادِ واختيارِ الصحابة،
اللهُ هو الذي أَنزلَها للتيسيرِ على الناس، وأَجازَ القراءةَ بأَيِّ حرفٍ منها.
والراجحُ أَنَّ الأَحرفَ السبعةَ هي " وُجوهُ التغايرِ السبعة " في قراءةِ الكلمةِ
القرآنية، بمعنى أَنَّ أَقْصى وجوهِ التغايرِ في قراءةِ الكلمةِ القرآنيةِ هو سبعةُ وجوه.
ومُعظمُ كلماتِ القرآنِ تُقرأُ على حرفٍ واحد، وبوَجْهٍ واحدٍ فقط، لكنَّ
بعضَها قد يُقرأُ على حرفين أَو ثلاثة، ولا تَزيدُ أَوجُهُ قراءَتِه عن سبعةِ وُجوه.(1/645)
والراجحُ أَنَّ الأَحرفَ السبعةَ موجودةٌ في القرآن، لم يُنسخْ ولم يُرفعْ منها
شيء، وأَنَّ رسمَ المصحف زمنَ عثمانَ - رضي الله عنه - احْتَواها وضَمَّها، وهذه الأَحرفُ السبعةُ آلَتْ إِلى القراءاتِ العشرِ الصحيحة، التي رَصَدَها ولسَجَّلَها العلماء، وقرؤُوا بها القرآن.
وبهذا نَعرفُ أَنَّ الأَحرفَ السبعةَ والقراءاتِ العشرَ أَنزلَها اللهُ على
رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وأَذِنَ للمسلمين القراءةَ بها، فهي كلامُ الله وليسَ تأليفَ المسلمين، وأَنَ رسمَ المصحفِ العثمانيِّ حوى وشملَ الأَحرفَ السبعةَ والقراءاتِ العشر، وأَنه يَجوزُ القراءةُ بأَي حرفٍ منها أَو أَيةِ قراءةٍ منها، وأَنَّ معظمَ كلماتِ القرآنِ لا تُقرأُ إِلّا على حرفٍ واحدٍ بقراءةٍ واحدة، وأَنها لا اختلافَ ولا تَعارضَ بينها، وأَنها تتكاملُ للدلالةِ على المعنى القرآني.
ونوردُ مثالاً على هذه القراءاتِ والأَحرفِ من سورةِ الفرقان لتتضحَ
المسألة.
قالَ تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) .
في كُلٍّ من (تَشَقَّقُ) و (نُزِّلَ) قراءتان:
في " تَشَقَّقُ " قراءتان:
الأُولى: قراءةُ عاصم وحمزة والكسائي وخلف وأَبي عمرو: " تَشَقَّقُ "
بتَخفيفِ التاءِ والشينِ.
على أَنه فعلٌ مضارع، حُذِفَتْ منه التاءُ الأُولى، لأَنَّ
أَصْلَه: تَتَشَقَّقُ، وماضيه: تَشَقَّقَ.
والمعنى: تَتَشَقَّقُ السماءُ بالغمام.
الثانية: قراءةُ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب: " تَشَّقَّقُ "
بتشديدِ الشين، على إِدغامِ التاءِ الثانيةِ في الشّين، لأَنَّ أَصْلَه: تَتَشَقَّقُ.
والقراءتانِ متقاربتانِ متكاملتان ولَيْستا مختلفتَيْن أَو متناقضتين، فهما
تَتفقان على أَنَ الفعلَ مضارع: " تَتَشَقَّقُ "، على وزْن " تَتَفَعَّلُ ".
لكنَّ القراءةَ الأُولى حَذَفت التاءَ الأُولى للتخفيف، والقراءةُ الثانيةُ أَدغمت التاءَ الثانيةَ في الشينِ للتخفيف أَيضاً.(1/646)
وفي " ونُزِّلَ الملائكة " قراءتان:
الأُولى: قراءةُ ابنِ كثير المكي: " وَنُنَزِّلُ الملائكةَ " على أَنَّ الفعلَ
المضارعَ مُسندٌ إِلى الله، و " الملائكةَ ": مفعولٌ به.
والمعنى: وننزلُ نحنُ الملائكةَ تنزيلاً.
الثانية: قراءةُ التسعة - نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبي
عمرو وأبي جعفر ويعقوب وخلف -: (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ) .
على أَنه فعلٌ ماض مبنيٌّ للمجهول، و " الملائكةُ ": نائبُ فاعلٍ مرفوع.
والمعنى: يُنَزَّلُ الملائكةُ تنزيلاً في ذلك اليوم.
والقراءَتان متكاملتان، وليستا مختلفتَيْن، فإِذا كانَ اللهُ يُنزلُ الملائكةَ
تنزيلاً على قراءةِ ابن كثير، فإِنَّ الملائكةَ يُنَزَّلونَ تَنزيلاً في ذلك اليوم، على
قراءةِ القراءِ التسعة.
مع أمثلة الفادي للاختلاف في القرآن:
قَدَّمَ الفادي الجاهلُ أَمثلةً على دَعواهُ الغبيةِ على وُجودِ الاختلافِ في
القرآن، وليتَه لم يُقَدّمْ تلك الأَمثلة، فقد فَضحَ نفسَه، وأَبانَ عن جَهْلِه وغَبائِه.
ذَكَرَ أَنَّ الاختلافَ اللفظي في القرآنِ له ثَلاثَةُ مظاهر: تَبديلُ اللفظِ، وتَبديلُ التركيب، والتبديلُ بالزيادةِ والنقصان.
لِننظرْ في الأَمثلةِ الدالَّةِ على الاختلافِ بتبديلِ الأَلفاظِ والتراكيبِ، والزيادةِ والنقصان.
- قالَ تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) .
ادعى الفادي أَنَّ الآيةَ: " وتكونُ الجبالُ كالصّوفِ المنفوش ".
فَتَم تَبديلُ " الصّوفِ " إِلى " العِهْنِ " ولا أَدري مَنْ أَدراهُ أَنَّ أَصْلَ الآيةِ بالصوفِ وليس بالعهن.
- قال تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) .
ادعى الفادي أَنَّ الآيةَ: " فَامْضُوا إِلى ذكر الله ".
فتمَّ تَبديلُ " فامضوا " إِلى (فَاسْعَوْا) .(1/647)
- قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ)
ادَّعى الفادي أَنَّ الآيَةَ: " فكانت كالحجارة "، فَتَمَّ تَبديلُ الفعلِ
" فكانت " إِلى الضمير: (فَهِىَ) .
- قالَ تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) .
ادَّعى الفادي أَنَّ الآيةَ:
" ضربت عليهم المسكنة والذلة "، فَقَدَّموا الذِّلَّةَ على المسكنة، وجَعَلوها:
(الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) .
- قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) .
ادَّعى الفادي أَنَّ الآيةَ: " وجاءت سكرة الحق بالموت "، فَتَمَّ تَبديلُ الآيةِ إِلى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) .
- قالَ تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
ادَّعى الفادي أَنَّ أَصْلَ الآية: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه
أمهاتهم وهو أب لهم ".
فَحَذَفوا جُملة: " وهو أب لهم ".
أَمّا الاختلافُ في المعنى فقد أَوردَ عليه الفادي الجاهلُ مثالَيْن:
- قال تعالى: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) .
ادَّعى الفادي أَنَّ الآيةَ بالجملةِ الخبرية، على أَنَّ " رَبُّنا " مبتدأ مرفوع،
و" باعَدَ " فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والجملةُ الفعلية: " بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا " في محلِّ رفْع خبر.
واعتبارُ الجملةِ خبريةً قراءةٌ قرآنية صحيحة، حيث قَرَأَ يَعقوبُ البصري:
" قَالُوا رَبُّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أسْفَارِنَا ".
وبما أَنها قراءو صحيحة فليس فيها اختلافٌ في المعنى كما ادَّعى الفادي الجاهل.
- قال تعالى: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) .
ادَّعى الفادي أَنَّ الجملةَ خطاب لعيسى - عليه السلام -: " يا عيسى ابْنَ مريم هَلْ تَستطيعُ رَبَّك ".
على أَنَّ " رَبَّكَ " مفعولٌ به ...(1/648)
وهذه قراءة عشرية صحيحة.
حيثُ قَرَأَ الكسائيّ الكوفي: " هل تَسْتَطيعُ رَبَّكَ ".
والمعنى على قراءةِ الكسائي: هل تَستطيعُ يا عيسى أَنْ تَدْعوَ رَبَّكَ أَنْ
يُنزلَ علينا مائدةً من السماء؟
وإِنْ دعَوْتَه فهل يَستجيبُ لك؟.
إِنَ ادِّعاءَ الفادي المفترِي وجودَ اختلافٍ في القرآن باطلٌ متهافت،
والأَمثلةُ التي ذَكَرَها دليلُ جَهْلِه وغَبائِه، فاللهُ يَقولُ: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) .
والغبيُّ يُكَذِّبُ ذلك ويقول: الآيةُ هكذا: " وتكونُ الجبالُ كالصوفِ
المنفوش "..
واللهُ يقول: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) . والغبيّ يُكَذّبُ ذلك
ويقول: الآيةُ هكذا: " وجاءت سكرةُ الحَقِّ بالموت "، ويُسمي هذا الهراءَ بَحْثاً علميّاً موضوعيّاً محايداً!!..(1/649)
الفصل العاشر نقض المطاعن الموجهة إلى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1/651)
تمهيد:
خَصصَ الفادي المفترِي الجزءَ العاشرَ من كتابِه المتهافتِ للاعتراضِ
على الآياتِ التي تتحدَّثُ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والادِّعاءِ أَنَّ فيها أَخطاءً، وأَنها تدلُّ على أَنَّ القرآنَ ليس كلامَ الله، وأَنه من تأليفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ولْننظرْ في هذه الاعتراضاتِ التي ذَكَرَها، والأسئلةِ التشكيكيةِ التي طَرَحَها.
***
حولَ أَزواجِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -
أَوردَ الفادي المفترِي مقاطعَ من ثلاثِ آياتٍ من سورةِ الأَحزاب، تتحدَّثُ
عن أَزواج رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) .
واعترضَ الفادي المجرمُ على هذِه الآياتِ، واعتَبَرَها من تأليفِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنه اتبعَ فيها هَواه، وأَباحَ لنفسِه ما حَرَّمَه على أَصحابه، وسمحَ لنفسِه أَن يتزوجَ بما شاء.
قال: " ونحنُ نسألُ: لماذا حَلَّلَ محمدٌ لنفسِه ما حَرَّمَه على غيره؟
أَلم يُحدِّد للمسلمِ أَربعَ زوجات، فقال: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ؟.(1/653)
فلماذا أَطلقَ العَنانَ لنفسِه دون المسلمين، وتزوجَ بأَكثر مما يَسمحُ به القانون، من أَيِّ امرأةٍ تَهبُه نفسَها، لو أَنه وَقَعَ في هواها، فكانَ له عند وفاتِه تسعُ نسوةٍ أَحياء، وسريَّتَيْن هما مارِيَة ورَيْحانَة؟ ...
وقالَ البيضاوي: إِنَّ النساءَ اللاتي وَهَبْنَ أَنفسهنَّ للنبيِّ هن: مَيمونَةُ بِنتُ الحارث، وزينبُ بنتُ خُزامَة، وأُمُ شريك بنتُ جابر، وخولةُ بنتُ حكيم! أَليس غَريباً أَنَّ محمداً أَوصى المسلمينَ بالعدلِ بينَ النِّساء، وأَباحَ لنفسِه حريةَ عَدمِ العَدْلِ بين أَزواجه، فقال: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) .
الفادي المجرمُ يُصِرُّ على استبعادِ البُعْدِ الربانيِّ للأَحكامِ الشرعية
والآياتِ القرآنية، ويُصِرُّ على نسبةِ الآياتِ وما فيها من أَحكامٍ إِلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويَظهرُ هذا في قوله: " حَلَّلَ محمدٌ لنفسِه ما حَرمَه على غيره " و " أَلَم يُحددْ للمسلمِ أَربعَ زوجات، فقال: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) ؟ " (1) .
ونُلاحظُ أَنَّ المجرمَ يَنسبُ الآيةَ إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنه هو الذي أَلَّفَها وصاغَها، ثم نَسَبَها إِلى الله!
إِنه لا يعترفُ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وأَنَّ محمداً هو رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّ الإِسلامَ هو دينُ الله؟
وإِذا كانَ هذا منطلقه في النظرةِ إِلى الإِسلامِ والقرآنِ ومحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فكلُّ تَفصيلاتِه وتحليلاتِه مرتبطةٌ بهذه النظرة، وهي ثمرةٌ طبيعية لها.
وفي كلامِ الفادي المجرمِ السابقِ مجموعَةٌ من المغالطات، منها:
1 - زَعْمُه أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حَدَّدَ للمسلمِ التزوجَ بأَربعِ نساء، وهذا كَذِب، فالذي حَدَّدَ ذلك هو اللهُ - عز وجل - في القرآنِ الكريم، قال تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) .
2 - زَعْمُه أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَباحَ لنفسِه ما حَرَّمَه على غيرِه، وأَطلقَ العَنانَ
لنفسِه، وتزوَّجَ بأَكثر مما يسمحُ به القانون.
وهذا كذبٌ مفضوح منه، فالذي أَباحَ له ذلك هو اللهُ في كتابِه الكريم.
__________
(1) قال الشيخ / محمد الغزالي - رحمه الله - ما نصه:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..) .
والمعروف أن للمسلم أن يتزوج بأربع لا يزيد. وقد أسلم رجل ولديه عشر زوجات، فأمره النبى بإمساك أربع وتسريح الباقيات. قد تقول فلماذا لم يطبق ذلك على نفسه؟ والجواب أنه بعدما اخترنه على أهلهن وآثرن البقاء معه على شظف العيش ما يسوغ ترك إحداهن! ثم ماذا تفعل من يسرحها؟ إن زواجها بغيره مستحيل لحرمة أمهات المؤمنين على سائر الأمة! فالحل أن يبقين، ولو كان من بينهن العجائز! ثم قيل للرسول عقب هذا الوضع " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا". والتعدد نظام قد يقبل مع شرف الأخلاق وتباين الطبائع والحاجة إلى الذرية، وقد عرف فى سير الأنبياء. وأشعر بريبة فيما ذكرته التوراة من أنه كان لسليمان ألف امرأة، وأحسب ذلك من المجازفات..! وليس للحضارة المعاصرة أن تخوض فى هذه القضية! فإن التعدد فيها كلأ مباح، وربما استطاع الصعلوك أن ينال أكثر مما نال! سليمان سفاحا لا نكاحا.. اهـ (نحو تفسير موضوعي. ص: 325)(1/654)
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) .
لقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ملتزِماً بشرعِ الله، وَقّافاً عند حُدودِ الله، مُنَفّذاً لأَوامِرِ الله.
3 - زَعْمُه أَنَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان مُتَّبِعاً لهواه، وأَنه أَباحَ لنفسِه أَنْ يتزوَّجَ أَيةَ امرأةٍ عشقَتْه ووهبَتْ نَفْسَها له، وهَوِيَها هو!..
وهذا كَذِب منه.
فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لم يَتبعْ هواه، وإِنما كانَ إِمامَ الزاهدين، واللهُ هو الذي أَباحَ له الزواجَ من المرأةِ التي وَهَبَتْ نَفسَها له: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
وكَذَبَ المجرمُ عندما ادَّعى أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ أَربعاً من أَزواجِه عن طريقِ الهِبَة، بعدَ أَنْ وَهبْنَ أَنفسهنَّ له.
فلم يتزوج الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - من أَيّ امرأةٍ
وهبتْ نفسَها له..
والذي حَصلَ أَنَّ امرأةً وَهَبَتْ نفسَها له، بأَنْ فوَّضتْه أَمْرَها، وجعلَتْه وليَّ أَمْرِها، وزَوَّجَها لأَحَدِ أَصحابه ...
روى البخاريُّ عن سهلِ بنِ سعدٍ الساعديّ - رضي الله عنه - قال: إِنّي لفي القومِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذْ قامَت امرأة فقالَتْ: يا رسولَ الله، إِنها قد وَهَبَتْ نفسَها لك، فَرَ فيها رأْيَكَ.
فلم يُجِبْها شيئاً.
ثم قامَتْ فقالَتْ: يا رسول الله! إِنها قد وَهَبَتْ نفسَها لك، فَرَ فيها رأْيَك..
فلم يُجِبْها شيئاً..
ثم قامَت الثالثةَ، فقالَتْ: إِنها قد وَهَبَتْ نفسَها لك، فَرَ فيها رأْيَك..
فقامَ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله! أَنْكِحْنيها.
قال: " هل عندَك من شيء؟ " قال: لا.
قال: " اذهبْ فالتمسْ ولو خاتماً من حديد..
" فَذَهَبَ وطَلَب، ثم جاءَ فقال: ما وجدْتُ شيئاً، ولا خاتماً من حديد.
قال: " هل معك من القبرآنِ شيء؟ " قال: معي سورةُ كذا وسورةُ كذا.
قال: " اذهبْ فقد أَنْكَحْتُكَهَا بما معكَ من القرآن..".
4 - زَعْمُه أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَوصى المسلمينَ بالعدلِ بين نسائِهم، وأَباحَ لِنفسِه عدمَ العَدْل، فقال: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ... ) .
إِنَّ الفادي المجرمَ يُصِرُّ على أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قالَ: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) ..
مع أَنَّ اللهَ هو الذي أَنزلَ هذه الآيةَ على رسولِه - صلى الله عليه وسلم -.(1/655)
ولم يُبِح الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لنفسِه عدمَ العدلِ بين الزوجات، وإِنما أَعفاهُ اللهُ من ذلك، وذلك في قولِه تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) .
ومع أَنَّ اللهَ أَعْفاهُ من وجوبِ العَدْلِ، إِلّا أَنه أَخَذَ بالأَفضلِ والأَكمل،
فكانَ يَعدلُ بين نسائِه.
روى البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَستأذنُ في يومِ المرأةِ مِنّا، بعدَ أَنْ أُنزلَتْ عليه هذه الآيةُ: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) .
فقالَتْ لها مُعاذَة: ماذا كنتِ تَقولين؟
قَالَتْ عائشة: " كنتُ أَقولُ له: إِنْ كانَ ذلك إِليّ، فإِنّي لا أُريدُ يا رسولَ اللهِ أَنْ أُوثرَ عليك أَحداً ".
حول حرمة نكاح أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -:
حَرَّمَ اللهُ على المسلمين نِكاحَ أَزواجِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من بعده.
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) .
وهذا لم يُعجِب الفادي المفترِي، وأَثارَ اعتراضَه واستنكارَه، قال:
" ولماذا يُعطي الحقَّ لجميعِ الأَرامِلِ أَنْ يتزوَّجْنَ، ويُحَرّمُ هذا الحقَّ على نسائه، فيوصي أَنْ لا يتزوَّجْنَ من بعدهِ أَبداً؟ " (1) .
لم يُحَرِّم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين نِكاحَ أَزواجِه من بعدِه، والذي حَرَّمَ ذلك هو اللهُ - عز وجل -، ووردَ ذلك التحريمُ في الآيةِ القرآنيةِ الحكيمة، التي أَوردْناها قبلَ قَليل.
واللهُ عليمٌ حكيمٌ في ما يُشَرِّعُ من الأَحكام، والإِنسانُ يتلَقّى حُكْمَ اللهِ
بالقَبولِ والرضا والتسليمِ واليقين.
وحكمةُ تحريمِ نكاحِ أَزواجِه أَنهنَّ أُمَّهاتٌ للمؤمنين، أُمومةً اعتباريةً
معنوية، تَقومُ على الاحترامِ والتكريمِ والتوقير.
قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
__________
(1) قال الشيخ / محمد الغزالي - رحمه الله - ما نصه:
ربما قال قائل: آمنا بأن تعدد الزوجات كان مألوفا فى الديانات الأرضية والسماوية حتى جاء الإسلام فوضع عليه القيود، فلماذا لم يلتزم نبى الإسلام بالعدد الذى وقف بالمسلمين عنده؟ ألم يجئ فى الأحاديث الصحاح أنه أمر رجلا لديه عشر زوجات أن يمسك أربعا ويسرح الباقيات؟ قلت: سؤال صحيح! فلنتدبر الإجابة عليه! أن النسوة الست التى طلقهن صاحب العشرة سيتركن بيته ويجدن بيوتا أخرى، فلهن حق الزواج ممن أحببن، ولاحرج على أحد فى التزوج منهن! لكن ماذا عسى يفعل زوجات الرسول إذا كان الوحى قد نزل من قبل يقول للمسلمين: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) لقد صرن أمهات للمؤمنين وفق النص القائل: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..) وما كان لمؤمن أن يتزوج أمه! فهل يسوغ بعد هذا تسريحهن ليعشن فى وحدة وإياس؟ ولنفرض زورا أن تسريحهن مطلوب فهل هذا هو الجزاء الإلهى لنسوة تحملن مع صاحب الرسالة شظف العيش ومشقات الحصار المضروب على أمته؟ لقد اخترن البقاء معه عندما خيرهن، وأبين العودة إلى أهلهن فى بيوت أملأ بالسمن والعسل، وحملهن الإيمان على البقاء فى جو التهجد والصيام والكفاح مع النبي الذى انتصب لمقاومة الضلال فى العالمين، فهل يكون الجزاء بعد هذا الوفاء الخلاص منهن؟ إن الله أذن ببقائهن، والاقتصار عليهن، وصدر لهن تشريع خاص (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا) .
حلف الأطلسى.، يحميهم وإنى أسائل الهاجمين على محمد من خلال هذه الثغرة المزعومة فى حياته، أهى محاكمة خاصة لهذا الإنسان الشريف؟ ومحاولة متعمدة للنيل منه وحده؟
أعرف أن مساءات كثيرة وجهت لأنبياء من قبله، وتعرض الرجال الصالحون لأقبح التهم! ألم يتهم النبي الطاهر لوط بأنه زنى بابنتيه كلتيهما بعد ما أفقدته الخمر وعيه وأنجب منهما؟ ألم يتهم النبي يعقوب بأنه سرق منصب النبوة من أخيه الأكبر عيصو بعد عملية احتيال ماكرة على أبيه الذى كف بصره؟ ألم يتهم سليمان بأنه انطلق فى شوارع القدس يبحث عن الحبيب المجهول ليأخذه إلى فراشه، مع أن عنده ألف امرأة؟ إن هذا البحث الماجن استغرق عدة صفحات مليئة بجمل طائشة تحت عنوان الإنشاد الذى لسليمان! من شاء قرأه فى العهد القديم.. ومع جنون الاتهام الذى سيطر على كاتبى هذه الصحف، فإن المتهمين بقوا أنبياء مكرمين! أما سليمان فقد جعله اليهود ملكا، ولكن أى ملك؟ إنه بانى الهيكل الذى يجب أن يعاد بناؤه ليكون مسكنا للرب يتجلى فيه بهاؤه ويحكم العالم كله من سدته بوساطة شعبه المختار من بنى إسرائيل!! أما محمد الصوام القوام الكادح لله طوال حياته، والذى جمع آخر عمره بضع نسوة من الأرامل والمصابات عشن معه على مستوى الضرورة، وتمحضن لله والدار الآخرة فهو وحده الذى يستباح وتتوارث الضغائن عليه، ويتجمع حلف الأطلسى لحماية شاتميه! ومن أولئك الشاتمون الغاضبون؟ أهم رهبان وقذتهم العبادة وكبتوا حب النساء فى دمائهم فهم يشتهون ويميتون شهواتهم ابتغاء رضوان الله كما يزعمون؟ كلا، إنهم أفراد وشعوب شربوا كئوس الشهوات حتى الثمالة، ولم يتركوا بابا للذة إلا افتتحوه دون تهيب أو حياء!
وحضارة أوروبا تميزت بأنها يسرت للدهماء من المتع ما كان حكرا على الملوك والرؤساء فأضحى الصعلوك قادرا على الاتصال بسبعين امرأة كلما ذاق جديدا طلب مزيدا ما تحجزه عن دناياه تقاليد ولا قوانين، وفى هذا الوسط من الدنس يذمون محمدا وينالون منه! أى منطق هذا المنطق الجائر الظلوم؟
إن الإسلام لم يأمر بتعدد الزوجات، فإن الزواج ليس نشدانا للذة فقط وإنما هو قدرة على التربية ورعاية الأسرة، فمن عجز عن ذلك كلفه الإسلام بالصوم، ونحن نوجه للأوربيين سؤالا لا مهرب منه: هل التعدد الذى أذن الإسلام به أفضل أم الزنى؟ إننى أسائل كل منصف صادق: هل المجتمعات الأوروبية تكتفى بالواحدة أم أن التعدد قانون غير مكتوب يخضع له الكثيرون؟ وثم سؤال آخر: هل الضرورات هى التى تدفع إلى التعدد الحرام أم أن الإثارات المتعمدة فى الاختلاط المطلق وفى تقاليد الرقص التى لا آخر لها من وراء هذا الفيضان من العلاقات الآثمة؟؟
وأختم هذا القول بسؤال حاسم: هل وعى التاريخ الجاد سيرة رجل أعف خلقا وأشرف ثوبا وأغير على الحرمات وأبعد عن الشبهات من محمد؟
هل حكى عن أحفال فى بيته رُصت فيها الموائد وعليها زجاجات الخمور، وأطايب الأطعمة، وأنواع المشهيات والهواضيم؟ لقد كانت عيدان الحصير تنطبع على جلده وهو نائم، أو جالس، فإذا ظفر مع أصحابه بالخبز واللحم عد ذلك من النعيم الذى يسأل الناس عنه يوم القيامة!! فهل هذا النبي الفارس المخشوشن الجلد يوصف بأنه من أصحاب الشهوات؟ ومن الذى يصفه؟ الذين ابتلاهم الله " بالإيدز" بعد ما ابتلاهم بالزهرى وغيره من أمراض الإسفاف والإسراف والسقوط!! امراتان.. نادرتان!! كانت أم المؤمنين " خديجة" سيدة ثاقبة البصيرة، خبيرة بأغوار الرجال، تعرف طبائعهم فلا يخفى عليها معدن نفيس، ولا يخدعها طلاء مزور! ولعل اشتغالها بالتجارة كون لديها هذه الملكة فالتجار من أعرف الناس بطوايا النفوس! وفى ميدان عملها التجارى عرفت خديجة محمدا - عليه الصلاة والسلام - وخطبته لنفسها، ولم يكن محمد مجهولا لدى جمهور العرب، كانت خلائقه الزاكية موضع إجماع وحب، وكثيرا ما تكون زكاة الباطن كصباحة الوجه أساسا لتقدير عام أو عنوانا لا يختلف فيه اثنان.. لكن خديجة بعد زواجها ازدادت خبرة برجلها وأدركت أى أفق من الكمال قد بلغه! فلما أخبرها بما عرض له فى غار حراء قاست المستقبل على الماضى، وأقسمت أن مثله لا يضيع، وأنه يستحيل أن يخذل الله رجلا قد أفاء عليه خلال النبل والشرف كلها، قالت: "والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق وتؤدى الأمانة ". إن الله لا يخزى فى الدنيا ولا فى الأخرى صاحب هذه السيرة! ذاك إنسان محصن من عدوان الشيطان (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا..) وخديجة من سروات قريش، أى من قمة المجتمع العربى، وهى أول من آمن من النساء، لكن الإسلام دين عام ينتظم البشر أكابرهم وأصاغرهم، فإذا كانت أفئدة بعض الأغنياء تهوى إليه، فإن جماهير من الفقراء تدخل فيه وتستبشر به، السادة والعبيد جميعا لهم مكان واحد فيه، كأبو بكر المرموق يعتنقه، وبلال المملوك يعتنقه، ثم يجىء عمر العظيم فيقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا!! لا طبقات فى هذا الدين، ولكن أخوة عامة، وإذا كانت خديجة أول من آمن، وهى من البيوتات الرفيعة، فإن أول من استشهد " سمية " أم عمار وهى من البيوتات المستضعفة التى لا يؤبه لها. واختبار الله لعباده فنون، إنه يختبر بالشهرة والخمول وبالثروة والعدم وبالصحة والسقام، والمهم هو الآخرة. اهـ (المرأة في الإسلام. 23 - 26)(1/656)
وإِذا كُنَّ أُمهاتٍ للمؤمنين، فهن مُحَرَّماتٌ عليهم، لأَنه لا يمكنُ لإِنسانٍ أَنْ يتزوَّجَ أُمَّه.
وإِذا كانَ لا يَجوزُ للإِنسانِ أَنْ يتزوَّجَ امرأةَ أَبيه، ولا يُمكنُ عَقْلاً أَنْ
يَخلفَ أَباه عليها، فمن الذي يرضى أَنْ يَخلفَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - على أَزواجه؟!.
***
حول جهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغزواته
اعترضَ الفادي المفترِي على جهادِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَساءَ تَفسيرَ غزواتِه وقتالِه للأَعداء.
وأَوردَ في بدايةِ اعتراضِه قولَ اللهِ - عز وجل - (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) .
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) .
وسَجَّلَ كلامَه الخبيثَ قائلاً: " ونحنُ نسأل: وهل يَحتاجُ اللهُ للعنفِ
والسيفِ لينشرَ فِكْرَه؟
لقد حَلَّلَ محمد لنفسِه ما سبقَ تَحريمُه، فحرَّضَ أَتْباعَه
على القتال، وأَوصى بالغزوِ والجهادِ في سبيلِ الدين..
مع أنه لما كان في مكة كان يُعلِّم أنه: (لَآ إِكرَاهَ فِى الدِّينِ) ، ويَقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) .
وكانَ يَقول: إِنَّ اللهَ قالَ له: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) .
ولكنْ لما اشتدَّ ساعِدُه في المدينةِ بعدَ الهجرة، وَوَجَدَ نفسَه مُحاطاً
بذوي السُّيوفِ البَتّارةِ من أَتْباعِه، هَجَمَ على اليهودِ بقربِ المدينة، وسَفَكَ دماءَ الأَكثرين، وأَوصى بمجاهدةِ جميع الخارجين عنه، ليكونَ الكُلّ من أَتْباعِه..
وقد فاتَه أَنَّ اللهَ لا يَسودُ العالمَ بالقَسْوةِ، بل بالمحبَّة، فاللهُ مَحَبَّة " (1) .
__________
(1) قال الشيخ / محمد الغزالي - رحمه الله - ما نصه:
منع الفتنة:
كما يحارب الإسلام دفعا للعدوان، يعبئ قواه كلها منعا للفتنة! والفتنة التى تكرر فى القرآن ذكرها على أن إطفاءها نهاية للحرب المعلنة من جانبه، تعنى استغلال السلطة لمصادرة الحق ومطاردة أهله، كما فعل ألوف الطغاة قديما وحديثا. وقد علمت أن الإسلام يبنى جهاده على أن الإكراه لا يؤسس عقيدة. فهو لا يضغط على أحد حتى يلجئه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وفى الوقت نفسه لا يقبل من قوة غاشمة أن تضطهد المؤمنين وترجعهم إلى الجاهلية التى طلقوها. والجو الذى ينشده الإسلام هو الجو الذى يتنفس فيه الإنسان هواء الحرية الطليق ملء رئتيه. يقبل المرء فيه على الرأى الذى يستصوبه، فلو ترك الإيمان بالله ورسوله لأنه يقتنع بذلك، فليس من سبيل لأحد على إرغامه أن يؤمن!. وهذا ما قرره القرآن الكريم فى مواضع شتى: " نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد". " ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ". " فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر ". " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ... ". وقد خلط قوم من الباحثين فى فهم هذه الآيات خلطا شنيعا، وساروا فيها على نهجين متناقضين كلاهما شارد عن الصراط المستقيم، فمنهم من فهم من هذه الآيات أنه لا حكم فى الإسلام!! وأن نفى الإكراه يقتضى إسقاط الحكومة من تعاليم الكتاب والسنة. كأن ثوار فرنسا لما أعلنوا حقوق الإنسان وحرية الرأى المطلقة امتنعوا عن تكوين حكومة تمثل مبادئ الثورة!.
إن الحكومة فى الإسلام حق لا يحتمل ريبة، وهى لا تعنى ـ إذا قامت ـ لتنفيذ أحكام الإسلام أن تقهر رجلا على دين يرفضه، فإن الحرية الدينية من أحكام الإسلام الذى تشرف الحكومة الإسلامية على تنفيذه. وهناك فريق فهم أن هذه الآيات نسخت بإقامة حكم يقاتل الكفار أبدا، ويعلن عليهم حربا شعواء، لا تنتهى حتى يبيدوا! كلا الفريقين مخطئ، بعيد عن إصابة الحق فى مقاصد القرآن، فإن الدولة التى يقيمها الإسلام ممثلة لدعوته لا يمكن ولا يجوز أن تخرج فى أساليب الدعوة عن الحدود التى رسمها الله ـ عز وجل ـ وإلا اعتبرت خارجة على نفسها، وأساس الدعوة الأول: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. ". وأساس استخدام القوة المقاصة: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ... ". وأساس إعلان الحرب هدم السلطات الفاجرة لتتوطد أركان الحرية العقلية وتتراوح عوائق الاستبداد عن طريق الناس. والقتال شر! ولكن لا بد منه لإزالة شر أشد، وعلى ذلك قبله الإسلام ودفع جنوده لخوضه. لما استكثر المشركون القتال فى الشهر الحرام، وافتعلوا ضجة كاذبة للإرجاف بالمسلمين نزل قوله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل..".
والفتنة هنا نشأت من تسلط الكفار على المؤمنين وإحراجهم بسبب دينهم الجديد حتى أخرجوهم من ديارهم، وحق على الدولة المسلمة أن تكافح هذه السلطة الجائرة، فلا تتركها إلا مقلمة الأظافر مهشمة الأنياب. وقد حض الله ـ سبحانه ـ على ذلك، وأمر بمتابعة الهجوم على ذوى السلطان الجائر ومصادر الاستبداد الأعمى حتى تطهر الأرض منهم. " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير * وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ". وهذا الأمر الواضح بالقتال، حتى تنتهى الفتنة، ذيل بمعان تشير إلى ملابساته التى فرضته، فإن ترك الفتانون جرائمهم فيها، فأمرهم إلى الله، ولا سبيل لنا عليهم، وإن رفضوا استعنا بالله على كف أذاهم.. واستعددنا لمعاودة قتالهم. ذلك ـ والغرض المتعين من هذه الحرب ـ تعبيد الطريق أمام الآراء كلها، ليتمحص الحق والباطل، وعندئذ تتخير النفوس ما تهواه. " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ". على أن هناك من يريد بالقوة إبطال الحق وإحقاق الباطل! والإسلام لا يترك أولئك أحرارا، وما ينبغى له ذلك بل يقاتل " ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ". اهـ (الإسلام والإستبداد السياسي. ص: 108 - 111)(1/657)
وفي هذا الكلامِ الخبيثِ بعضُ المغالطاتِ والأَكاذيبِ والجهالات،
1 - إِصْرارُه على أَنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُحَلّلَ ما يَشاء، ويُبيحُ لنفسِه ما حَرَّمَه على غيرِه، والتلاعبَ في التحليلِ والتحريم..
عِلْماً أَنَّ التحليلَ والتحريمَ لله وَحْدَه، فاللهُ سبحانه هو الذي يُنَزّل عليه الآيات، مُحَلّلاً ما يَشاء، ومُحَرِّماً ما يَشاء..
والآياتُ التي أَوردَها ليستْ من تأليفِه، وإِنما هي كلامُ اللهِ أَوحى به
إِليه.
2 - من جهالاتِ المفترِي الجاهلِ عدمُ تَفريقِه بين السورِ المكيةِ النازلةِ
في مكةَ قبلَ الهجرة، والسُّوَرِ المدنيةِ النازلةِ في المدينةِ بعدَ الهجرة.
وسَجَّلَ جَهْلَه في قوله: " مع أَنه لما كان في مكةَ كان يَعْلَمُ أَنَّه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ".
لقد جعل سورةَ البقرةِ مكية، وكل مُبتدئ في العلْمِ مُسلماً كان
أَو كافراً فإِنَّه يَعلمُ أَنَّ سورةَ البقرة مدنية، وفيها النهيُ عن الإِكراهِ في الدين، وإِجبارِ الآخَرينَ على الدخول في الإِسلام، وأَوردَ آيةَ سورةِ النحلِ الآمرةِ
بالدعوةِ إِلَى الله بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، واعتبرها لجهلِه مكية، مع أَنَّ
الراجحَ أَنَ سورةَ النحلِ مدنية، وأَنها أُنزلَتْ بعد غَزوةِ أُحُد، في السنةِ الثالثةِ
من الهجرة.
3 - ادَّعى المجرمُ أَنَّ الجهادَ طارئٌ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنه لما كانَ في مكةَ كانَ يَحُثُّ على عدمِ الجهادِ والقتال، ويُركزُ على الدعوةِ والبَلاغ.
ولما هاجَرَ للمدينةِ صارَ قوياً، واشتَدَّ ساعِدُه، ووجَدَ نفسَه مُحاطاً بذوي السيوفِ البتَّارةِ من أَتْباعِه، عند ذلك غَيَّرَ فِكْرَه وأُسلوبَه ودَعا إِلى الجهادِ والغَزْو.
علماً أَنَّ اللهَ هو الذي أَمَرَ المسلمين في مكةَ بكَفّ أَيديهم عن القِتال،
والصبرِ على أَذى المشركين، واللهُ هو الذي أَمَرَهم بالجهادِ والقتالِ في
المدينة، فالأَمْرُ أَمْرُ الله، ووردَ في آياتِ القرآنِ الحكيمة.
والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يتلَقّى أَمْرَ الله، ويلتزمُ به ويُبَلّغُه لأَتْباعِه ليلْتَزموا به.(1/658)
4 - يُغالطُ الفادي المجرمُ ويَكْذِبُ، عندما يدَّعي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي هَجَمَ على اليهودِ بالقربِ من المدينةِ وقَتَلَهم، أَي أَنه صَوَّرَ اليهودَ في صورةِ المظلومين، الذين تَعَرَّضوا لعدوانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
مع أَنَّ الحقيقةَ القاطعةَ أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لما هاجَرَ إِلى المدينةِ عَقَدَ معاهداتٍ مع قبائلِ اليهود، واتفقَ معهم على أَنْ لا يَعْتَدوا عليه، وأَنْ لا يُعاوِنوا أَعداءَه عليه.
وهو لم يَنقضْ عَهْدَه معهم، ولم يَبْدأْهم بالهجومِ والعدوانِ لمَّا شَعَرَ بالقوة، واليهودُ المجرمون هم الذين نَقَضوا عَهْدَهم معه، واعْتَدوا على المسلمين، وحاوَلوا قَتْلَه، وتآمَروا مع قريشٍ ضده.
في السنةِ الثانيةِ من الهجرة نقضَ يهودُ بَني قينقاع عَهْدَهم مع
الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، واعْتَدَوْا على مسلمةٍ، وقَتَلوا مسلماً، فأَدَّبَهم وأَجْلاهم عن المدينة..
وفي السنةِ الرابعةِ من الهجرةِ نَقَضَ يهودُ بَني النضيرِ عَهْدَهم معه،
عندما تآمَروا عليه وحاوَلوا اغتيالَه، فأَدَّبهم وأَجلاهم عن المدينة..
وفي السنةِ الخامسةِ من الهجرة نقضَ يهودُ بني قريظةَ عَهْدَهم معه، عندما تَحالَفوا مع جيوشِ الأَحزابِ المحاصِرَةِ للمدينة، فعاقَبَهم لخيانَتِهم العظمى وقَتَلَهم!.
5 - يَكْذِبُ المفترِي عندما يَدَّعي أَنَّ هدفَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من الجهادِ هو سفكُ دماءِ الآخَرين، ولذلك أًوصى بمجاهدةِ جميعِ الخارجين عليه ليَكونوا من أَتْباعِه.
علماً أَنَّ القتالَ ليسَ بهدفِ إِدْخالِ الكفارِ في الإِسلام؛ لأَنه لا إِكراهَ في
الدين، وليس بهدفِ جَعْلِهم أَتْباعاً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إِنما هو بهدفِ رَدِّ عُدْوانِ الكفارِ عن المسلمين، وتحطيمِ قُوَّتِهم التي يُؤْذونَ بها المسلمين، فإذا تحققَ ذلك أَوقفَ المسلمون قتالَهم، وهذا صريحُ قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) .
6 - يَكذبُ المفترِي عندما يَتهمُ الإِسلامَ بالقَسْوَة، وأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ فقط،
وأَنه لا يَسودُ العالمَ إِلا بالمحبة، فاللهُ غفورٌ رحيم، ولكنَّه أَيْضاً شديدُ(1/659)
العقاب، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) .
والصليبيّون الذين يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ محبّة، وأَنهم رسلُ محبة، هم الذين
سَفَكوا دماءَ المسلمين، واحتلّوا أَوطانَهم، وسَلبوهم أَموالَهم، في القديمِ وفي
الحديث!!.
***
ما الذي حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفسه؟
اعترضَ الفادي المفترِي على ما حَرَّمَه الرسولُ - عليه السلام - على نفسِه، والذي عاتَبَه الله عليه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) .
ونقلَ كلاما غيرَ صحيح بأُسلوبِه الخبيثِ البذيء، قالَ فيه: " كان محمدٌ
يوماً في بيتِ حَفْصةَ بنتِ عمر، وهي إِحدى أَزواجِه، فاستأذَنَتْ منه في زيارة
أَبيها، فأَذِنَ لها، فأَرسَل إِلى مارية، وهي إِحدى سراريه، وأَدخلَها بيتَ حَفْصَةَ وَواقعَها، فَرَجَعَتْ حَفصةُ وأَبصرتْ ماريةَ معهُ في بيتِها، فلم تَدخُلْ حتى خرجَتْ ماريةُ، تم دخَلَتْ، وقالَتْ له: إِنَّني رأيتُ مَنْ كانَتْ مَعَك في البيت..
وغَضِبَتْ وبَكَتْ وقالَتْ له: لقد جئتَ إِليَّ بشيء ما جئتَ به إِلى أَحَدٍ من نسائِك، في يومي، وفي بيتي، وعَلى فِراشي!..
فقالَ لها: اسْكُتي، أَمَا تَرْضينَ أَنْ أَحَرِّمَها على نفسي، ولا أَقربها أَبداً؟
قالَت: نعم.
وحَلَفَ أَنْ لا يَقْرَبَها.
ولكنْ لما عاوَدَتهُ الرغبةُ في ماريةَ حَنَثَ بالقَسَم، وأَقفلَ بابَ اعتراضِ
حفصةَ على رجوعِه في قَسمه، بقوله: إِنَّ اللهَ أَوحى إِليه.. " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
56- محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله
الرد على الشبهة:
استند الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم فى توجيه هذا الاتهام إلى ما جاء فى مفتتح سورة التحريم من قوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) (1) .
وهذه الآية وآيات بعدها تشير إلى أمر حدث فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدوافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة إذ كان صلى الله عليه وسلم قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعامًا لا يوجد فى بيوتهن، فأسر إلى إحداهن بالأمر فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرّم صلى الله عليه وسلم تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن.
والواقعة صحيحة لكن اتهام الرسول بأنه يحرّم ما أحل الله هو تصيّد للعبارة وحمل لها على ما لم ترد له..
فمطلع الآية (لم تحرم ما أحل الله لك) هو فقط من باب " المشاكلة " لما قاله النبى لنسائه ترضية لهن؛ والنداء القرآنى ليس اتهامًا له صلى الله عليه وسلم بتحريم ما أحل الله؛ ولكنه من باب العتاب له من ربه سبحانه الذى يعلم تبارك وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يحرّم شيئًا أو أمرًا أو عملاً أحلّه الله؛ ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته من خلقه العالى الكريم.
ولقد شهد الله للرسول بتمام تبليغ الرسالة فقال: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) (2) .
وعليه فالقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله من المستحيلات على مقام نبوته التى زكاها الله تبارك وتعالى وقد دفع عنه مثل ذلك بقوله: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) (3) .
فمقولة بعضهم أنه يحرّم هو تحميل اللفظ على غير ما جاء فيه، وما هو إلا وعد أو عهد منه صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه فهو بمثابة يمين له كفارته ولا صلة له بتحريم ما أحل الله. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) التحريم: 1.
(2) الحاقة: 44- 47.
(3) النجم: 3- 4.(1/660)
وقد سبقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي الجاهلَ في القصةِ التي أَوْرَدَها، وذكَرْنا أَنها
لم تَصِحّ، رغم وُرودِها في بعضِ الكتبِ الإِسلامية، كالسيرةِ الحلبية.
والراجحُ أَنَّ الله عاتَبَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - لأَنه حَلَفَ اليمينَ على أَنْ لا يَشْرَبَ العَسَلَ.
وخلاصَةُ الحادثةِ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شربَ عندَ امرأتهِ زينبَ بنتِ جحش - رضي الله عنها - عَسَلاً.
ولما ذَهَبَ إِلى حفصةَ - رضي الله عنها - أَخْبرتْه أَنَّ رائحةَ العسل الذي
شربَه عند زينبَ كَريهة، فَحَلَفَ على أَنْ لا يشربَ ذلك العسلَ عند زينب،
فأَنزلَ اللهُ الآيةَ في عتابه على يَمينِه، ويَدْعوهُ إِلى التكفيرِ عن يَمينِه.
ومعنى قوله تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) : لِمَ تَمْتَنِعُ عن أَكْل ما أَباحَ اللهُ لكَ؟
فالتحريمُ هنا امتناعٌ عن فعل بعضِ المباح، وليس تحريماً شرعيّاً للحَلَال.
وكَلامُ الفادي سَيِّئٌ مرذول، وذلك عندما وَصَفَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَصْفاً قبيحاً بقوله: " ولكنْ لما عاوَدَتْهُ الرغبةُ في ماريةَ حَنَثَ بالقَسَم، وأَقفلَ بابَ اعتراضِ حفصةَ على رجوعِه في قَسَمِه بقوله: إِنَّ اللهَ أَوحى إِليه.. "
وهذا الكلامُ لا يقولُه نبيّ رسول، إِنما يقولُه رجلٌ كاذبٌ مفْتَرٍ، بلا دينٍ ولا أَدب!.
***
حول أبوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
تَدَخَّلَ الفادي المفترِي في أَبَوَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعَلَّقَ على آية تَنْهى المؤمنين عن الاستغفارِ للمشركين ولو كانوا من أقاربِهم، وهي قول الله - عز وجل -: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) .
وقال تحتَ عنوانٍ استفزازي مُثير هو: " أهله من أصحاب الجحيم "..
" قالَ البيضاويّ: رُويَ أَنَّ النبيَّ قالَ لأَبي طالب لما حضرَتْه الوفاة: قُلْ كلمةً
أُحاجّ لك بها عِندَ الله، فأَبى.
فقال: لا أَزالُ أَستغفرُ لك ما لم أُنْهَ عنه.
فنزلَتْ.
وقيل: لما افتتحَ مكة خرجَ إِلى الأبواء، فَزارَ قَبْرَ أُمِّه، ثم قامَ(1/661)
مُسْتَعْبِراً، فقال: إِني أستأذنْتُ ربّي في زيارةِ قبرِ أُمّي فأذِنَ لي، واسْتَاذَنْتُه في
الاستغفارِ فلم يأَذَنْ لي، وأَنزلَ عَلَى الآيتَيْن.. ".
صحيحٌ أَنَّ هذا الكلامَ في تفسير البيضاوي، لكن ليس مُسَلَّماً، وليس
كُلُّه صحيحاً.
فهذه الآية ُ من سورةِ التوبة، وهي متأخرةٌ في النزول، حيثُ كان
نزولُها في السنةِ التاسعةِ من الهجرة، وكانتْ وَفاةُ أَبي طالِب في السنةِ الثامنة
من البعثة، قبلَ الهجرةِ بخمسِ سنوات، أَيْ أَنّ أَبا طالب تُوفىَ قبل نزولِ الآيةِ
بأكثرَ من أَربعَ عشرةَ سنة! فكيف يكونُ نزولُها في وفاته؟!.
إِنَ الذي صَحَّ في أبي طالب هو نزولُ آيةٍ مكيةٍ فيه.
روى البخاري ومسلم، عن سعيد بنِ المسيبِ عن أَبيه قال: لما حَضَرَتْ أَبا طالب الوفاة، جاءَه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فوجَدَ عندَه أَبا جهل، وعَبدَ الله بن أَبى أُمية بن المغيرة.
فقالَ له: أَيْ عَمّ! قُلْ: لا إِله إِلا الله، كلمةً أُحاجّ لك بها عندَ الله!.
فقالَ له أَبو جهل وعبدُ الله بن أَبي أُمية: أَترغبُ عن مِلَّة عبدِ المطلب؟!.
فلم يَزَلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعرضُها عليه، ويُعيدانهِ بتلك المقالة، حتى قالَ أَبو طالب آخرَ ما كَلَّمهم: على مِلَّةِ عبدِ المطلب.
وأَبى أَنْ يقول: لا إِله إِلّا الله.
فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) .
أَمّا سببُ نُزولِ آيتي سورةِ التوبة (113 - 114) فقد رَواهُ النسائي والترمذي عن عَلِيّ بن أَبي طالب - رضي الله عنه -، قال: سمعْتُ رَجُلاً يَستغفرُ لأَبَويْه وهما مشركان، فقلْتُ: تَستغفرُ لأَبويْك وهما مُشْركان؟
فقال: أَليس قد استغفرَ إِبراهيمُ لأَبيه وهو مشرك؟
قال عليّ: فذكرتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) .
أَمّا أَبوا رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقد ماتا على غيرِ الإِسْلام، وصَحَّ أَنَ(1/662)
رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: استأذَنْتُ ربي أَنْ أَزورَ أُمّي فأَذِنَ لي، واستأذنْتُه في أَنْ أَستغفرَ لأُمّي فلم يأذَنْ لي ".
ولكنَّ الآيَتَيْنِ (113 - 114) من سورةِ التوبة لم تَنْزِلا في أُمّه ولا في أَبيه.
ولم يَصِحَّ قولٌ نُسبَ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -: لأَستغفرنَّ لأَبي،
كما استغفرَ إِبراهيمُ لأَبيه، فأَنزلَ اللهُ عليه الآيتَيْن يَنهاهُ عن ذلك!!.
ومن أَكاذيبِ المفترِي وافتراءاتِه قولُه: " واتفقَ المفَسِّرونَ على أَنَّ محمداً
كان يَطلبُ المغفرةَ لأَبيه عبدِ الله، وأُمّه آمنة، وعَمّه أَبي طالب، وأَنَ اللهَ نَهاهُ وَزَجَره عن ذلك زَجْراً أَبكاه، لأَنَّهم مُشركون، وقد صاروا من أَصحابِ النار..
وما أَبعدَ الفرقَ بينهم وبين العذراءِ مريم وابنِها!! ".
إِنَّ هذا كَذِبٌ مفضوح، فلم يَستغفرْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبيه، ولا لأُمِّه، ولا لَعَمِّه أَبي طالب، لأَنهم ماتوا على غيرِ الإِسلام، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعلمُ أَنه لا يَجوزُ له أَنْ يَستغفرَ لكافر، ولو كان أَقربَ الناسِ إِليه.
وادَّعى الكاذبُ المفترِي أَنَّ اللهَ نَهاهُ عن الاستغفارِ لأَبيه وأُمِّه وعمِّه،
وزَجَرَه عن ذلك زجرا أَبكاه، وهذا ادِّعاءٌ كاذب، فلم يَنْهَهُ اللهُ عن ذلك ولم يَزجزه، لأَنه - صلى الله عليه وسلم - لم يَفعلْ ذلك أَصلاً.
والآيةُ نَفَتْ وُقوعَ هذا الاستغفار: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) ...
***
الزعم بأن القرآن وحي من الشيطان
ذَكَرَ الفادي المجرمُ تحتَ عنوان: " وَحْيٌ من الشيطان " قولَ الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) .(1/663)
وعَلَّقَ على الآيةِ تَعْليقاً خَبيثاً، فقال: " قالَ المفَسّرون: إِنَ محمداً لما
كانَ في مجلسِ قريش أَنزلَ اللهُ عليه سورةَ النجم، فقرأَها، حتى بَلَغَ قوله:
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) .
فأَلْقى الشيطانُ على لسانِه ما كانَ يُحَدِّثُ به نفسَه ويَتَمَنّاه، وهو: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى "،
فلما سمعَتْ قريش فَرِحوا به، ومضى محمد في قراءتِه، فقرأَ السورةَ كلَّها،
وسجدَ في آخرِها، وسجدَ المسلمون بسجوده، كما سجدَ جميعُ المشركين،
وقالوا: لقد ذَكَرَ محمد آلهتَنا بأَحسنِ الذكر، وقد عَرَفْنا أَنَّ اللهَ يُحيي ويُميت، ولكنَّ آلهَتنا تشفعُ لنا عندَه ".
وبعدَما أَوردَ هذه الروايةَ طَرَحَ سؤالَه وهُجومَه وبذاءَتَه، فقال: " ونحنُ
نسأل: كيفَ يتنكَّرُ محمد لوحدانيةِ الله، ويمدحُ آلهةَ قريش، ليتقَرَّبَ إِليهم، ويفوزَ بالرياسةِ عليهم بالأَقوالِ الشيطانية؟
وما الفرقُ بين النبيِّ الكاذبِ والنبيِّ الصادق، إِذا كانَ الشيطانُ يَنطقُ على لسانِ كليهما؟! " (1) .
الخُرافَةُ التي ذَكرَها الفادي الجاهلُ معروفة باسم " قصة الغرانيق ".
والغَرانيقُ جَمعُ " غُرْنوق "، وهو طَيْرُ الماء.
وقد ذَكَرَ تلك الخرافةَ بعضُ كتبِ التاريخِ والتفسيرِ والحديث، وردَّدَها عنهم الذين لا يتَحرونَ الدقة والصحةَ فيما يَنْقُلون، وتلَقَّفَها الفادي الجاهل.
وخُلاصَةُ تلك الخرافةِ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَوْماً عند الكعبة، وحولَه بعضُ المسلمين والكافرين، فتَلا سورة النجم، وهم يَستَمعونَ إِليه، حتى وَصَلَ إِلى قولِه تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) .
فَأَدخلَ الشيطانُ في قراءَتِه، وصارَ يتكلمُ بصوتِه، وأدرجَ فيه جملتَيْن،
سَمعوها بصوتٍ هو صوتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مع أَنه صوتُ الشيطان، والجملتان هما: " تلكَ الغرانيقُ العُلى، وإِنَّ شفاعتَهنَّ لترتُجى " وواصَلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قراءَتَه، وسطَ ذُهولِ المسلِمين، وفرح المشركين، الذين قالوا: الْتَقى محمد مَعَنا، ومَدَحَ آلهتَنا..
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
62- الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم
الرد على الشبهة:
الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم يستندون فى هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الصلاة بالناس سورة " النجم: فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى) (1) ؛ تقول الأكذوبة:
إنه صلى الله عليه وسلم قال: - حسب زعمهم - تلك الغرانيق (2) العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر صلى الله عليه وسلم فى القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين!!
وذاعت الأكذوبة التى عرفت بقصة " الغرانيق " وقال - من تكون أذاعتها فى صالحهم -: إن محمداً أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركى مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب.
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له.
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير فى تفسيره الآيات التى اعتبرها المرتكز الذى استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهى فى سورة الحج حيث تقول:
(وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (3) وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول: " ذكر كثير من المفسرين هنا قصة " الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة " ظنًّا منهم أن مشركى مكة قد أسلموا.
ثم أضاف ابن كثير يقول: ولكنها - أى قصة " الغرانيق " - من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، ثم قال ابن كثير: (4) عن ابن أبى حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة " سورة النجم " فلما بلغ هذا الموضع. (أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى (. قال بن جبير: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم.. فأنزل الله هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم (ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان.
وربما قيل هنا: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلاً من إلقاء ما يلقيه من الوساوس فى أمنيات الأنبياء
والجواب عنه قد جاء فى الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة:
أولاً: ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار وهو ما جاء فى الآية الأولى منهما: (ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) (5) .
ثانياً: لميز المؤمنين من الكفار والمنافقين فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم؛ وهو ما جاء فى الآية الثانية: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادى الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) (6) .
هذا: وقد أبطل العلماء قديمًا وحديثًا قصة الغرانيق. ومن القدماء الإمام الفخر الرازى الذى قال ما ملخصه (7) :
" قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول؛ أما القرآن فمن وجوه: منها قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) (8) .
وقوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى (. (9) وقوله سبحانه حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ) (10) .
وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقى:
روى الإمام البخارى فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم " فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث " الغرانيق " وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة " الغرانيق " بالمعقول فمن وجوه منها:
أ - أن من جوّز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وسلم كان لنفى الأصنام وتحريم عبادتها؛ فكيف يجوز عقلاً أن يثنى عليها؟
ب - ومنها: أننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق - فى منطق العقل - بين النقصان فى نقل وحى الله وبين الزيادة فيه. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) النجم: 19 -20.
(2) المراد بالغرانيق: الأصنام؛ وكان المشركون يسمونها بذلك تشبيهًا لها بالطيور البيض التى ترتفع فى السماء.
(3) الحج: 52.
(4) عن: التفسير الوسيط للقرآن لشيخ الأزهر د. طنطاوى ج9 ص 325 وما بعدها.
(5) الحج: 53.
(6) الحج: 54.
(7) التفسير السابق: ص 321.
(8) الحاقة: 44 - 47.
(9) النجم: 3- 4.
(10) يونس: 15.(1/664)
ومعلومٌ أَنَّ في آخرِ سورةِ النجمِ سَجْدَة، فلما فرغَ
رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من قراءَتِه سَجَدَ، وسَجَدَ معه المسلمونَ والمشركون..
ولما علمَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بما أَجرى الشيطانُ على لسانهِ حَزِنَ وتَألَّم، فأَمره اللهُ بحذْفِ جملتي الشيطانِ من سورةِ النجم: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ".
وأَنزلَ آيةً من سورة الحج تتحدَّثُ عن ذلك: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) .
وهذه الخرافةُ مكذوبة، لم تَردْ في روايةٍ صحيحة.
وإِنما هي من وضع الزنادقة، والكَذَّابين والوضّاعين، وقد رَدَّها المفَسِّرون والمحَدِّثونَ والمؤرِّخونَ، وأَلَّفَ بعضُهم كتُباً في رَدِّها، منهم الشيخُ محمد ناصر الدين الأَلباني، في كتابه: " نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ".
هذه الخرافةُ مردودةٌ عَقْلاً أَيضاً، إِذْ لا يُعقلُ أَنْ يَأَذنَ اللهُ للشيطانِ أَن
يتقمَّصَ صوتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنْ يُؤَلِّفَ كلاماً من عندِه يُدْخِلُه على القرآن، وهو يتعارضُ مع القرآن، فالقرآنُ يَذُمُّ اللاتَ والعُزّى، والشيطانُ يمدَحُهما، ويَجعلُ لهما شفاعةً عند الله! وأَينَ حِفْظُ القرآن؟
وأَينَ عِصمةُ اللهِ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -؟!.
أَما الفادي المفترِي الخبيثُ فقد طارَ فَرَحاً بالخرافة، وصَدَّقَها، واعتمدَها في التشكيكِ بالقرآنِ وإِدانةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال كلاماً فاجراً: " كيف يتنكَّرُ محمدٌ لوحدانيةِ الله، ويَمدحُ آلهةَ قُريش، ليتقربَ إليهم، ويَفوزَ بالرياسةِ عليهم بالأَقوالِ الشيطانية؟
وما الفرق بين النبيِّ الصادِقِ والنبيِّ الكاذبِ إِذا كان الشيطانُ ينطقُ على لسانِ كِلَيْهما؟ ".
أَمّا آيةُ سورة الحج التي زَعَمَ الفادي أنها جاءَتْ لمسْحِ ما أَلْقاهُ الشيطانُ
على القرآن، فإنها تتحدَّثُ عن أُمنياتِ الأَنبياء إِيمانَ أَقوامِهم، ومحاولاتِ
الشيطان تَيْئيسَهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ..) .(1/665)
يُخبرُ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كُل رسول ونبي قبلَه كان يتمنّى ويَرجو ويأمَلُ أَنْ يؤمنَ به قومُه ويُصَدِّقوه، وكان يَبذلُ جهدَه في دعوتِهم، ولكنَّ الشيطانَ كان يُحاولُ تيئيسَه، ولذلك كان يُلقي في أُمنيتهِ، ويُريه أَنها مستحيلة، وأَنَّ قومَه لن يؤمنوا به، فلا يُتْعِبُ نفسَه معهم..
وكان اللهُ يَتداركُ رسولَه برحمته، ويَمُنُّ عليه بالأَمَل، وبذلك كان يَنسخُ ما يلقي الشيطانُ من وساوس، ويُحكمُ آياتِه، ويُبقي الرسولَ على ثقتِه وأَملِه وجهودِه في الدعوة..
هذا هو الراجحُ في معنى الآية، والله أعلم.
***
هل مال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين؟
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - مَالَ إِلى مهادنةِ المشركينَ وموالاتِهم ومَدحِ آلهتِهم، وذَكَرَ آياتٍ أساءَ فَهْمَها وتَفسيرها.
ووضَعَ عنواناً مُثيراً: " كادوا يفتنونه "؟
قال فيه: " جاءَ في سورةِ الإِسراء (73) : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) .
وجاءَ في السورةِ نفسِها (39) : (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) .
وجاء في سورة الأَحزاب (1 - 2) : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .
وجاء في سورةِ الزمر: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) .
وجاء في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) .
ونحنُ نَسألُ: أَلا تدلُّ هذه الآيات ُ على ميل محمدٍ للمشركين، وموالاتِه
لمدْحِ آلهتِهم، ثم اعتذاره عن هذا بأَنَّ اللهَ نَهاهُ عن ذلك وزَجَرَه؟!.. ".(1/666)
لقد كان المشركونَ حريصين على فتنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليتنازَلَ عن الحَق ويَسيرَ معهم، وعَرَضوا عليه عُروضاً مغرية.
ومن أَعجبِ وأَطرف ما عَرضوه أنهم قالُوا له: يا محمد أَنتَ على حَقّ، ونحنُ على حَقّ، فنعبُدُ نحن ربَّك يوماً، على أَنْ تعبدَ أَنتَ آلهتنا يوماً!..
فأنزلَ اللهُ عليه سورة الكافرون: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) .
واجَهَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مساوماتِ وإِغراءاتِ المشركين بالرفضِ، والثباتِ على الحق، وقالَ قولته المشهورة: " واللهِ يا عَمّ لو وَضَعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شِمالي، على أَنْ أَتركَ هذا الأَمْرَ ما تركتُه، حتى يُظهرَهُ الله، أَو أَهلكَ دونَه ".
وقد فوضت قريشٌ أَحَدَ زعمائِها " الوليدَ بنَ المغيرة " ليُفَاوضَ
رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويُعطِيَه ما شاءَ من الدنيا، على أَنْ يَتَخَلّى عن رسالتِه ودعوتِه، فعرضَ عليه الوليدُ ما شاء من المالِ أَو الجاهِ والمركز، بأَنْ يكونَ زعيماً عليهم، أَو الزواج أَو العلاج، وهم مستعدّودن أَنْ يُعطوهُ ما أَرادَ، مقابلَ أَنْ يَسكتَ وَيَتوقَّفَ عن ذَمِّ آلهتِهم..
فردَّ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على عروضِه بأَنْ تَلا عليه
آياتٍ من سورةِ فصلت..
فقام الوليدُ يائساً..
وقد امتنَّ اللهُ على رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بأَنه هو الذي ثَبَّتَه على الحَق، وأَعانَه على رفْضِ مساوماتِ المشركين.
قال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) .
وأَمْرُ اللهِ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالتَّقْوى والثباتِ وتَبليغِ الدعوةِ لا يدلُّ على أَنَّهُ قَصَّرَ في ذلك، إِنما هو لمزيد توكيد، ولاستمرارِ التذكيرِ بالحقيقة، والذكرى تنفعُ المؤمنين، والتأكيدُ على الحقيقةِ لرسوخِها واستقرارها.(1/667)
كما أَنَّ نَهْيَ الله رسولَه - صلى الله عليه وسلم - عن الشركِ لا يَعْني أَنهَ فَكَّرَ في أَنْ يُشركَ، ونهيَه له عن جعْلِه إِلهاً آخَرَ مع الله لا يَعْني أَنه فَكَّرَ في ذلك.
وكانَ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ البعثة يَكفرُ بالأَصنامِ ولا يَعتبرُها آلهة، فهل يعتبرُها آلهة بعد النبوة؟!.
إِن قولَه تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) .
يدل على أَنَّ اللهَ لا يَتَسامَحُ في الشرك، ويُحبطُ عملَ المشركِ به، ويجعَلُه خاسِراً هالكاً، حتى لو كانَ هذا أَقْرَبَ الناسِ إِليه، وأفضلَهم عنده، وهو رسولُه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -..
فإِذا كانَ اللهُ يُعَذِّبُ رسولَه وحبيبَه إِذا أَشركَ - وهو لَنْ يُشرك - فكيف بالآخرين الذينَ أَشركوا فِعْلاً، إنهم عرضَةٌ لعَذابِ اللهِ إِنْ لم يَتَرَاجعوا عن ذلك، فالإِيمانُ باللهِ وتَوحيدُه وعِبادتُه وحده لا تَراجُعَ عنه، ولا مفاوضة عليه!!.
ولكنَّ الفادي الجاهلَ الكافرَ باللهِ لا يَعرفُ هذه الحقيقةَ القرآنيةَ
الإيمانية، ولذلك قال ما قال، واتهمَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما اتَّهَمَه به.
***
اتهام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتزوج زوجة ابنه
كلامُ الفادي الفاجر المجرمُ في هذا المبحثِ من أَرْذَل وأَفْجَرِ وأَقبحِ ما
سَجَّلَه في كتابِه القبيح، وقد جَعَلَ كَلامَه تحتَ عنوان: " يتزوَّجُ زوجةَ ابنِه!! ".
وعَلَّقَ على آيتَيْنِ من سورةِ الأَحزاب، تتحدَّثانِ عن زواجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من زينبَ بنتِ جَحْش - رضي الله عنها -، وفيهما قولُه تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) .
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا المجرمَ البذيءَ في هذا الأَمْرِ، وبَيَّنّا مُلابسةَ زَواجِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينبَ بنتِ جحش - رضي الله عنها -، وقَدَّمْنا المعنى الصحيحَ لآياتِ سورةِ الأَحزابِ التي تحدَّثَتْ عن ذلك.(1/668)
لكنّنا نسجلُ هنا كلامَ المجرمِ البذيء، ليعرفَ الإِخوةُ القُرّاءُ إِجرامَ
المجرمِ وقلةَ أَدَبِه، وهو الذي يَظهَرُ بمظهرِ الموضوعيِّ المحايِد، والباحثِ
المنصف.
قال - فَضَّ اللهُ فاه، وشَلَّ يَدَه -: " اتفقَ جميعُ المفَسِّرين على أَنَّ محمداً
قال هذه العبارةَ في زينبَ بنتِ جحش.
وكان قد زَوَّجَها لزيدِ بنِ حارثة، وهو ابنُه بالتَّبَنّي..
وفي ذاتِ يومٍ أَتى محمدٌ زيداً لحاجَة، وأَبصرَ زينبَ في دِرْعٍ
وخمار، وكانتْ بيضاءَ وجميلةً وذاتَ خُلُق، من أَتَمِّ نساءِ قريش، ولم يكنْ زيدٌ في البيت، فوقعَتْ في نفسِ محمد، وأَعجبَه حُسْنُها، فقال: سبحانَ اللهِ مُقَلِّبِ القُلوب..
فلما جاءَ زيدٌ، ذَكَرَتْ له ذلك، ففطِنَ للأَمْرِ، واحتاط لنفسِه من
عواقِبه، وذهبَ لمحمد، وقال له: إِنّي أَريدُ أَنْ أُطَلِّقَ صاحِبَتي! فقال محمد:
ما لَكَ؟
أَرابَكَ منها شيء؟
قال: لا.
ولكنْ لشَرَفِها تتعاظمُ عَلَيَّ..
فقال محمد: أَمْسِكْ عليكَ زوْجَك، واتَّقِ اللهَ في أَمْرِها.
قالَ محمدٌ هذا خشيةً من الناس، لئلا يُعَيِّروهُ بِأَخْذِ زوجةِ ابنِه، وأَخْفى في نفسِه شهوتَه إِليها!!..
ولكن الفضلَ لجبريلَ، الذي أَنزلَ عليه أَلَّا يخشى الناسَ، ولْيجاهرْ برغبتِه في أَخْذِها من ابنه، وأَلا يكونَ لجميعِ المسلمين حَرَج إِذا أَخذوا نساءَ أَدعيائِهم، بعدَ أَنْ يَقْضوا منهنَّ مُرادَهم.
فكيفَ ساغَ لمحمدٍ أَنْ يَمُدَّ عينَيْه، ويَشْتهي امرأةَ زيدٍ، أَقربِ الناسِ إِليه؟
وكيفَ يَدَّعي في مجلسِ العربِ بغير ما في نفسِه، ويَسْتَعدي جبريل على زيدٍ
ليحرمَهُ من زوجته، لياخُذَها لنفسِه، وَبَدَلَ أَنْ يَندمَ ويَستغفرَ، يُسَبِّحُ الله ويقول: سبحانَ الله، مُقَلِّبِ القلوب؟
وهل يَليقُ بجبريل الطاهرِ أَنْ يُوافِقَ هوى محمد، ويجعلَ هذا الاغتصابَ سُنَّةً، ويَرفعَ الحرجَ عن جميع المؤمنين، إِذا ما أَتوا مثلَ هذه الفضائح؟!..
ولهذا المنطقِ الأَخلاقيِّ كانت زينبُ تَتَباهى على سائِرِ
نساءِ النبيّ قائلة: إِنَّ اللهَ تولّى إِنكاحي، وأَنتنَّ زوَّجكُنَّ أَولياؤكُنّ.. " (1) (2) .
__________
(1) قال الشيخ / محمد الغزالي - رحمه الله - ما نصه:
وهناك شائعة أخرى من أخبث ما انطلق فى آفاق المعرفة الدينية، وأحق بالاحتقار! تلك هى رغبة النبى صلى الله عليه وسلم المفاجئة فى الزواج من زينب بنت جحش كما يرجف الخراصون! والنبى عليه الصلاة والسلام أبعد العالمين عن هذا التطلع؟ ويستحيل أن يمر بخاطره هذا الوهم. والذى يظهر لى أن دسا يهوديا خفيا من وراء هذه الشائعة، يريد القوم ـ بعدما افتروا على نبى الله داود ـ أن يجعلوا بينه وبين نبينا شبها. وكان هذا الكيد قمينا أن يموت فى مكانه لولا حفاوة بعض الرواة بالغرائب دون وعى! ولولا أن بعض الكتاب لا يبالى بنسبة الأخطاء أو الخطايا إلى الكبار كى يعطى العذر لنفسه ولغيره فى ارتكابها. والخلاصة الصحيحة للقصة أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يحب متبناه ـ سابقا ـ زيد بن حارثة، وكان معجبا بخصائصه النفسية والعقلية، ويراه سيدا قائدا، وأهلا للإمارة والإدارة فى السلم والحرب وقد ولاه قيادة جيش مؤتة وولى ابنه من بعده قيادة الجيش المتوجه إلى الرومان، وذكر أن ذلك عن جدارة لا عن محاباة. ومن إعزاز رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد أنه اختار له ابنة عمته زينب ليتزوجها، وكان يعتقد أن زينب ستكشف خلال زيد وتستريح إليه وتسعد. إن فؤاد زيد من الملوك، وإن كان قد جىء به رقيقا إلى مكة، مخطوفا من أسرته وبيع كما بيع يوسف الصديق من قبل وذاك لا يضيره. لكن زينب قبلت هذا الزواج مرغمة، كان أملها، وهى من ذؤابة قريش، أن تتزوج كفئا لها فى النسب وما عساها تصنع إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد ضغط عليها وعلى أخيها؟ وشعر زيد بأن امرأته تراه دونها، فثار إباؤه، واكفهر الجو فى البيت الذى سعى الرسول صلى الله عيه وسلم فى بنائه.
ومع تدخل الرسول عليه الصلاة والسلام الكثير لإصلاح ذات البين، وحرصه على بقاء الزوجية فإن الفجوة لا تزيدها الأيام إلا اتساعا. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعجب لنفور زينب من شاب ماجد عظيم، ويقول: سبحان مقلب القلوب. وفى ساعة شموخ وغضب طلق زيد امرأته، واستعلن الفشل الذى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداريه.. لقد حار: ماذا يصنع؟ ثم فوجى بأن الله يطلب منه أن يتزوج هو نفسه زينب! وفزع لهذا الطلب وتمثل أمامه كلام الناس وهم يقولون: تزوج محمد امرأة ابنه ـ أى متبناه ـ وبدلا من أن ينفذ مراد الله منه تراخى! بل ذهب إلى أبعد من ذلك وقال لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله.. أى راجع زوجتك. بيد أن الوحى نزل حاسما يطلب من الرسول صلى الله عيه وسلم قبول الأمر الواقع، وإقرار الطلاق الذى تم وتنفيذ الأمر الإلهى الذى صدر إليه بالزواج من زينب بعد انقضاء عدتها فلا معنى لإخفائه ولا معنى للوجل من كلام الناس، فشأن الأنبياء ارتبط بالخالق لا بالخلق.. نعم ما يجوز هذا الإخفاء بعد أن علم مراد الله بوضوح. ونحن نفهم سر الألم الذى خامر قلب النبى عليه الصلاة والسلام لفشل الزواج الذى أراد به إسعاد زيد، ونفهم كذلك سر القلق الذى استولى عليه لما صدر إليه الأمر بالتزوج من امرأة ابنه ـ أو بالتعبير الصحيح ـ متبناه. وشاء الله أن يتولى هو سبحانه هذا العقد كى يبطل قانون التبنى الذى شاع بين العرب. وتفسير الآيات الواردة فى سورة الأحزاب يتضح كل الاتضاح بعد هذا الشرح. ولكن بعض المغفلين قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب فجأة وهى عند زيد فأحبها من أول نظرة كما يقول مؤلفو الأغانى! وقال: " سبحان مقلب القلوب "! وأن ما كان يخفيه هو التدله فى حبها. وهذا كلام بادى الكذب والإسفاف، فإن زينب بنت عمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يعرفها جيدا عندما زوجها زيدا، فما هذا الحب المفاجئ إنه خيال سمج. وكلمة " سبحان مقلب القلوب " قيلت فى التعليق على كره زينب لرجلها الجدير بالقبول! كما أوضحنا آنفا. وتسويف الرسول صلى الله عيه وسلم للزواج منها بعدما طلقها زيد كان كرها لهذا الزواج وخشية من أقاويل الناس، ولو كان الأمر إليه ما تزوجها قط. غير أن القضاء الإلهى أعلى وأحكم، فعوتب النبى عليه الصلاة والسلام على تريثه أو تردده.
ونزل قرآن يلومه على ذلك! قالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتم شيئا من الوحى لكتم هذه الآيات: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) . فأين مكان الغرام، والعشق فى هذا السياق الصارم؟ على أن الله تبارك وتعالى ـ وهو الخبير بالعباد ـ واسى نبيه صلى الله عليه وسلم بعدما اجتاز هذه المحنة البشرية عظيما جليلا، فمدحه مدحا لم يذكر مثله فى سورة أخرى فقال له: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) . ثم قال فى أعقاب قصة زينب والزواج الذى نقلها بعد إلى أمهات المؤمنين: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) . ومع هذه الحقائق العلمية فإن بعض الكتابات المعاصرة عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تتحدث عن عشق أخذ بمجامع القلوب (!) لأن للشائعات، أو للأساطير المروية سوقا بين أهل الغفلة. وما أشد مصاب الإسلام من أولئك الرواة البله. اهـ (علل وأدوية. ص: 100 - 102)
(2) وجاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التى جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد فى هذه - المسألة وفى موضوع الزواج بزينب حيث تقول:
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) (6) .
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم) (7) .
(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً) (8) .
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبنى من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة فى المجتمع الجاهلى الذى كانت عادة التبنى أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير فى بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهى به ضراتها وتقول لهن: " زوجكن أهاليكن وزوجنى ربى من فوق سبع سمَوات " (9) .
أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته فى تطليق زينب؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا - وهى الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه - عند الزواج بها - كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
فهو - وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد فى عرف المجتمع المكى كله، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال - كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذى لا يمثل حُلم من تكون فى مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ فى نفسه توهج السعادة هو الآخر، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء فى البخارى من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [أمسك عليك زوجك واتق الله] (10) قال أنس: لو كان النبى كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
وزينب بنت جحش هى بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما سبقت الإشارة - وهو الذى زوجها لمولاه " زيد " ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؛
وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، وكان النساء فى المجتمع الجاهلى غير محجبات فما كان يمنعه - إذًا - من أن يتزوجها من البداية؟! ؛ ولكنه لم يفعل.
فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر قدرى شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين فى قضية إبطال عادة " التبنى " التى كانت سائدة فى المجتمع آنذاك.
يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التى تعلقت بالموضوع فى سورة الأحزاب.
أما الجملة التى وردت فى قوله تعالى: (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (11) . فإن ما أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب - يومًا ما - ستكون زوجًا له؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبنى (12) . اهـ (شبهات المشككين) .(1/669)
ولا نعلقُ على هذا الكلامِ الفاجرِ البذيء، ونُحيلُ على ما قُلْنَاهُ سابقاً في
هذا الأمر!
وقد بَيَّنَ كثيرٌ من العلماءِ حادثةَ زَواجِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من زينبَ بنتِ جحشٍ - رضي الله عنها -، وتَحَدَّثْنَا عنها بالتفصيلِ في كتابنا " عتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: تحليل وتوجيه ".
***
حول سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عَلَّقَ الفادي المجرمُ على حادثةِ سِحْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تحتَ عنوان: " النبيّ المسحور "
وأَخَذَ الحادثةَ من مصادرَ صحيحةٍ ومصادر باطلة، وخلط فيها الحقَّ
بالباطل، ثم وظَّفَها دليلاً على جُنونِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وقارنَ بينَه وبين موسى وعيسى - عليهما السلام -، اللَّذيْنِ غَلَبا السحرةَ والشياطين.
أَوردَ سورةَ الفلقِ وسورةَ الناس ثم نَقَلَ كَلاماً للبيضاوي في تفسيرِ
النفاثات في العُقَد.
وقال بعد ذلك: " جاءَ في كتابِ " السيرةِ النبوية الملكية ":
" رُوِيَ أَنَّ لَبيداً بنَ الأَعْصَمِ اليهودي سَحَرَ النبيَّ.
فكانَ يُخَيَّلُ للنبيِّ أَنه يَفعلُ الشيءَ، وهو لا يَفعلُه، مما لا تَعَلُّقَ له بالوحي، كالأَكْل والشربِ وإِتيانِ النِّساءِ، ومَكَثَ في ذلك سَنَةً، أَو ستة أَشهر، على ما قيل، حتى جاءَه جبريلُ، وأَخبرَه بذلك السِّحرِ ومكانِه، فأَرسلَ النبيُّ واستحضَره وفَك عُقَدَه، فَفُكَّ عنه السحر ".
وجاءَ في كتابِ العَقْد الفريد: " في مسندِ ابن أَبي شيبة: أَنَّ رَجُلاً من
اليهودِ سَحَرَ النبيّ، فاشتكى لذلك أياماً، فأَتاهُ جبريلُ فقال له: إِنَّ رجلاً من
اليهودِ سَحَرَك، عَقَدَ لك عُقَداً، وجَعَلَها في مكانِ كذا وكذا، فأَرسلَ عليّاً - فاستخرجَها وجاءَ بها، وجَعَلَ يَحُلُّها، فكلما حَلَّ عُقْدَة، وَجَدَ رسولُ الله خِفَّة، ثم قامَ رسولُ الله، وكأنما نَشَطَ من عِقال ".
قال البخاري: رَوَتْ عائشةُ قالت: كان رسولُ الله سُحِرَ، حَتَى كان يَرى
أَنه يأتي النساءَ وهو لا يأتيهن..
فقالَ محمد: يا عائشةُ! أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ أفتاني(1/670)
فيما أَنا اسْتَفْتَيْتُهُ فيه، أَتاني رَجُلان، فقعَدَ أَحَدُها عند رأْسي، والآخَرُ عند
رِجْلَيَّ، فقالَ الذي عندَ رأسي للآخَر: ما بالُ الرجل؟
قال: مَطْبوب.
قال: وَمَنْ طبَّهُ؟
قال: لَبيدُ بنُ الأعصم، رجلٌ من بني زريق، حليفُ اليهود، كان
منافقاً، قال: وَفيم؟
قال: في مُشْطٍ ومُشاطَةٍ.
قال: وأَيْنَ؟
قال: في جُفِّ بئر ذِروان ...
قالت: فأَتى النبيُّ البئرَ فاستَخْرَجَها ... ".
ما زَعَمَه الفادي المفترِي من أَنَّ سِحْرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - استمرَّ ستةَ أَشهرٍ أَو سنةً غيرُ صحيح، فلم يستمر ذلك إِلّا فترةً قصيرةً لم تَتَجاوزْ أَياماً قليلة.
والراجحُ أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يُرسلْ عليَّ بنَ أَبي طالب - رضي الله عنه - إلى البئرِ التي فيها السحرُ، ولم يستخرجْه منها، وما نَقَلَه الفادي عن العقدِ الفريدِ مرجوح مردود.
والصحيحُ في هذه الحادثةِ ما رواه البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: " سُحِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى إِنه ليُخَيَّلُ إِليه أَنه يفعلُ الشيءَ وما فَعَلَه ...
حتى إِذا كانَ ذاتَ يومٍ وهو عندي، دَعا اللهَ ودَعاه..
ثم قال: أَشعرتِ يا عائشةُ أَنَّ اللهَ قد أَفْتاني فيما اسْتَفْتَيْتُهُ فيه؟
قلتُ: وما ذاك يا رسولَ الله؟
قال: جاءَني رَجُلان، فجلسَ أَحَدُهما عند رأسي، والآخَرُ عند رِجْلَيَّ، ثم قالَ أَحَدُهما للآخَر: ما وَجَعُ الرجل؟
قال: مَطْبوب، قال: ومَنْ طَبهُ؟
قال: لَبيدُ بنُ الأَعْصَمِ اليهودي من بني زُريق.
قال: في ماذا؟
قال: في مُشْطٍ ومشاطَة وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر.
قال: فأَينَ هو؟
قال: في بْئرِ ذي أَروان.
قالَتْ: فذهبَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أُناسٍ من أَصحابِه إِلى البئر، فَنَظَرَ إِليها وعليها نَخْل..
ثم رجعَ إِلى عائشةَ، فقال: واللهِ لكَأَنَّ ماءَها نُقاعَةُ الحِنّاءِ، وكأَنَّ نخلَها
رؤوسُ الشياطين..
قلتُ: يا رسولَ الله، أَفَأَخْرَجْتَه؟
قال: لا..
أَمّا أَنا فقد عافاني اللهُ وشَفاني، وخشيتُ أَنْ أُثَوِّرَ على الناس منه شَرّاً.
وأَمَرَ بها فدُفنتْ ".(1/671)
لقد شاءَ اللهُ أَنْ يُسحرَ رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك تأكيدٌ لبشريَّتِه وضعْفهِ؛ لأَنَّ كُلَّ بشر مخلوقٌ ضَعيف، تؤثَرُ فيه الأَسبابُ بأَمْر الله، والذي سَحَرَه هو اليهوديُّ " لَبيدُ بنُ الأَعْصَم "، حيثُ أَخَذَ مِشْطاً كان يُمَشِّطُ فيه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَعْرَهُ، وفيه " مشاطةٌ "، وهي بقيةُ الشَّعْرِ الذي عَلِقَ من رأسِه بالمشط، وَرَبطَ المشط
والمشاطةَ في " جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر "، وهو الغشاءُ الذي على طَلْعِ البَلَحِ عند بدايةِ خروجِه من كُمِّه على النخلة.
وَوَضعَ المشْط والمشاطَةَ والجُفَّ الغشاءَ في قَعْر بئرِ ذي أَروان، والماءُ الذي فيها قليل.
وشاءَ اللهُ أَنْ يُؤَثِّرَ هذا السحرُ في الجانبِ المادِّيِّ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أَيْ أَنَّه أَثَّرَ في جِسْمِهِ فقط، ولم يُؤَثِّرْ في عَقْلِه وإدراكِه، كما أنه لم يُؤَثِّرْ في رسالتِه أَو الوحيِ الذي يَتَلَقّاهُ من الله، ولم يُؤَثَرْ في عبادَتِه ودعوتِه وذِكْرِه لله..
أَقصى ما أَثَّر فيه السحرُ كما أَخْبَرَتْ عائشة - رضي الله عنها - أَنه كانَ يُخَيَّلُ إليه أَنه فعل الشيءَ وما فعلَه، ولم يستمرَّ هذا فيه طويلاً، حيثُ كانَ - صلى الله عليه وسلم - يلجأُ إلى الله، يَدْعوهُ ويتضرَّعُ إليه، كي يُذهبَ عنه ما أَثَّر فيه..
وفي أَحَدِ الأَيّام كانَ - صلى الله عليه وسلم - عند عائشهَ - رضي الله عنها -، فدعا الله طويلاً، واستجابَ اللهُ دُعاءَه، وأَخبرَه عن حقيقةِ ما به،
وأَخبرَ عائشة - رضي الله عنها - عن ما حَصَلَ له، وأَنَّ اللهَ قد أَفْتاهُ فيما اسْتَفْتاهُ فيه، حيثُ أَرسلَ إِليه ملكَيْنِ في صورةِ رجلَيْن.
فجلسَ أَحَدُهما عند رأْسِه، وجلسَ الآخَرُ عند رجلَيْه، وجَرى بينهما حوارٌ على مسمَع منه - صلى الله عليه وسلم -، وعَرَفَ منهما أَنَّ لَبيدَ بن
الأَعصم اليهوديَّ سَحَرَه، وأَنه وَضَع السِّحْرَ في قعرِ بئرِ ذي أَروان.
وعافاهُ الله، وأَذْهَبَ عنه ما أَثَّر فيه.
وذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى البئر، وعادَ إلى عائشةَ - رضي الله عنها - وأَخْبَرَها عنها: ماؤُها قليلٌ أَحمرُ كأنَّه حِنّاء، وعليها نَخْلٌ مثمرة، ثَمَرُها كأَنه رؤوسُ الشياطين.
وأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بدفن المادَّةِ التي سُحِرَ فيها، ولما اقترحَتْ عليه عائشةُ - رضي الله عنها - أَنْ يُخرِجَها، وأَنْ يَتَنَشَّرَ، أَيْ أَنْ يُعالجَ نفسَه بالرُّقْيَة، رَفَضَ ذلك، وقال: لقد عافاني اللهُ وشفاني فلن أَتَنَشَّرَ، حتى لا أَثيرَ على الناسِ من ذلك السحرِ شَرّاً.
وبهذا انتهتْ هذا الحادثةُ العابِرة، التي مَرَّتْ برسولِ اللهِ - عليه السلام - مُروراً(1/672)
عابراً، ولم يتأَثَّرْ بها عَقْلُه أَو وَعْيُه أَو حِفْظُه وعبادَتُه، ولم تُؤَثِّرْ على نبوَّتِه
ورسالته.
أَمّا الفادي المجرمُ فقد وَظَّفَ الحادثةَ لَيُحققَ هَدَفَه بالإِساءَةِ إِلى
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ونَفْي نُبُوَّتِه.
وعَلَّقَ على الحادثةِ بقولِه: " ونحنُ نسأل: كيفَ
يكونُ محمدٌ نبياً وقد خَضَعَ لسطوةِ الشيطان، فتارةً يُذْهِبُ عَقْلَه بالسِّحْر، وتارةً يُلقي على لسانِه آياتٍ شيطانية، كالتي قالَها في سورةِ النجم؟
لهذا اتَّهَمَه أَعداؤه بأَنه مجنون، فدفعَ عن نفسِه هذه التهمة، في آياتٍ كثيرة، كقوله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) .
وقوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) .
فأَيْنَ هو من موسى الذي غَلَبَ السحر؟
وأَينَ هو من المسيحِ الذي أَخرجَ الشياطينَ وأَقامَ الموتى؟
وإِنْ كانَ في إِمكانِ جبريلَ فَكّ سِحْرِه، وشِفاؤُه، فلماذا تَرَكَه، ولم يَأتِه إِلّا بعدَ ستةِ أشهر أَو سَنَة؟
وكيفَ يُؤْتمَنُ مِثْلُه على أَقوالِ الوحي؟
لذلكَ قال له إِلهه: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) ".
اتهمَ الفادي المجرمُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بالجُنون، وَردَّدَ التهمةَ التي أَطلقها الكفارُ زمنَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد نَفَتْ آياتُ القرآنِ الصريحةُ هذه التهمة عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانَ - صلى الله عليه وسلم - مَجْنوناً لما نجحَ في دعوتِه هذا النجاح، ولما تكلمَ بما تكلمَ به، ولما تعامَلَ مع أَصحابِه بأَعْلى درجاتِ العلمِ والحلم
والحكمةِ وسَعَةِ الصَّدْر.
ونُكررُ أَنَّ السحرَ لم يُؤَثِّرْ في عَقلِه - صلى الله عليه وسلم - ووعيه!.
ومقارنةُ الفادي المجرم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينَ أَخَوَيْهِ موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لا دَاعيَ لها، لأَنَّ كُلَّاً منهم رسولٌ كريمٌ أَيَّدَهُ اللهُ بالمعجزات، وقد شاءَ اللهُ أَنْ يُؤَثّرَ السحرُ قليلاً في الجانب البشريِّ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، تأكيداً على بشريته.(1/673)
والسؤالُ الذي طَرَحَه المجرمُ خبيث مثلُ صاحبه: " وكيف يُؤْتَمَنُ مِثْلُه
على أَقوالِ الوحي؟ " لأَنَّ اللهَ ائتمنَه على الوحي، وَوَعَدهُ أَنْ لا يَنسى من القرآن حرفاً واحداً، وقال له: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) .
***
حول تقبيل الرسول للحجر الأسود
تَوَقَّفَ الفادي المجرمُ أَمامَ تقبيلِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحجرِ الأَسود، وأَساءَ فهمَ الحادثةِ وتفسيرَها، كعادَتِه، وجعلَ حديثَه عنها فرصةً لاتِّهامِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عقيدتِه وإِيمانِه وإِخلاصِه وتوحيدِه.
قَال فَضَّ اللهُ فاه: " جاءَ في سورةِ الأحزاب (21) : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، وقال عمرُ بنُ الخطابِ عن الحجرِ الأَسود: أَما واللهِ لقد علمْتُ أَنكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَع، ولولا أَني رأيتُ رسولَ اللهِ قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُك.
ونحنُ نسأل: لماذا جَعَلَ محمدٌ تقبيل الحجرِ الأَسودِ من شعائرِ الحَجِّ
كالوثنيين؟
وهل هذه هي الأُسوةُ الحسنة؟
ولماذا يُجاري ويُداري عربَ الجاهلية، فيشركُ في إكرامِ اللهِ إِكرام الأَحجار؟ " (1) .
يرفضُ المجرمُ اعتبارَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قدوةً حسنةً للمسلمين من بعدِه، لماذا؟
لأَنه قَبَّلَ الحجرَ الأَسودَ، وجعلَ تقبيلَه من شعائِرِ الحَجّ!!
وماذا في تقبيلِه له؟
إِنه بهذا يُداري ويُجاري الوثنيّين، ويَفعلُ مثلَ فِعْلِهم.
وهذا إِكرامٌ منه للحجر، وهذا إِشراك منه بالله - عز وجل -!!
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مشرك بالله بمجردِ تَقبيلهِ
الحجرَ الأَسود!!
هكذا يكونُ البحث، وهكذا يكونُ التحليلُ والتعليلُ
والاستنباطُ والاستدلال؟!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
58- محمد صلى الله عليه وسلم يعظم الحجر الأسود
الرد على الشبهة:
إنهم فى هذه المقولة - يريدون أن يتهموه بأنه كان يعظم الحجر الأسود - بل ويعظم الكعبة كلها بالطواف حولها وهى حجر لا يختلف فى زعمهم عن الأحجار التى كانت تصنع منها الأوثان فى الجاهلية وكأن الأمر سواء!!
وحقيقة الأمر أن من بعض ما استبقاه الإسلام من أحوال السابقين ما كان فيه من تعاون على خير أو أمر بمعروف ونهى عن منكر، من ذلك ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على حلف كان فى الجاهلية يسمى " حلف الفضول " وهو عمل إنسانى كريم كان يتم من خلاله التعاون على نصرة المظلوم، وفداء الأسير، وإعانة الغارمين، وحماية الغريب من ظلم أهل مكة وهكذا..
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الحلف وقال: لو دعيت إلى مثله لأجبت.
وأيضًا كان مما استبقاه الإسلام من فضائل السابقين مما ورثوه عن إبراهيم - عليه السلام - تعظيمهم للبيت الحرام وطوافهم به؛ بل وتقبيلهم للحجر الأسود.
وهناك بعض مرويات تقول إن هذا الحجر من أحجار الجنة.
وهنا فقط لا يكون أمامنا إلا ما ثبت من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحجر الأسود عند طوافه بالبيت، وهو ما تنطق به الرواية عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - أنه قال عن تقبيله لهذا الحجر: (والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) .
وهنا نقول:
من المستحيل أن يكون تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود من باب المجاراة أو المشاكلة لعبدة الأصنام فيما كانوا يفعلون.
ومستحيل أيضًا أن يكون صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك - أى تقبيل الحجر الأسود - دون وحى أو إلهام وجهه صلى الله عليه وسلم إلى تقبيل الحجر بعيدًا بعيدًا عن أى شبهة وثنية أو مجاراة لعبدة الأصنام.
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: [خذوا عنى مناسككم] فقد أصبح تقبيل الحجر الأسود من بعض مناسك الحجاج والعمار للبيت الحرام.
كما أن تعظيم الحجر الأسود هو امتثال لأوامر الله الذى أمر بتعظيم هذا الحجر بالذات، وهو سبحانه الذى أمر برجم حجر آخر كمنسك من مناسك الحج فالأمر بالنسبة للتعظيم أو الرجم لا يعدو كونه إقرارًا بالعبودية لله تعالى وامتثالاً لأوامره عز وجل واستسلامًا لأحكامه. اهـ (شبهات المشككين) .(1/674)
ومن المعلومِ عندنا أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يُشَرّعْ من عندِه، وإِنما كان يُبَلِّغُ المسلمين حكمَ اللهِ وشَرْعَه، فاللهُ سبحانه هو الذي شَرَعَ مناسكَ الحج، من إِحرامٍ وطوافٍ وسعي ورميِ للجِمار وغير ذلك، واللهُ هو الذي شَرَعَ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - والمسلميًن استَلامَ الحجرِ الأَسودِ عند الطوافِ وتقبيلهِ، كما أَمرهم باستقبالِ الكعبةِ في الصلاة، وعندما كان - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ الحجرَ الأَسودَ كان
يُطَبِّقُ أَمْرَ الله، ويُنَفِّذُ شَرعَ الله، وهو بهذا عابدٌ لله وليس مشركاً به!.
وكم كانَ عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - واعياً حكيماً فَطِناً، عندما قَرَّرَ أَنه يُقَبّلُ الحجرَ الأَسود؛ لأَنه يقتدي في ذلك برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوقنُ أَنه مجردُ حجرٍ، لا يَضُرُّ ولا يَنْفَع.
***
التشكيك في عفَّة عائشة - رضي الله عنها -
شَكَّكَ الفادي المجرمُ في عِفَّةِ عائشةَ - رضي الله عنها -، وكَرَّرَ ما قالَه المنافقون الكافرون في اتِّهامها.
وكانتْ وقفتُه الفاجرةُ الخبيثةُ أَمامَ قولِ اللهِ - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) .
ذَكَرَ خُلاصَةَ الحادثة كما وَرَدَتْ في تفسير البيضاويِّ: من أَنَّ
رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ في غزوةٍ من غزواتِه، واستصحبَ معه عائشة - رضي الله عنها -، ولما عاد من الغزوة إِلى المدينة، نَزَلَ بالجيشِ ليلاً ليستريحوا، ثم نادى بالرَّحيل، وكانتْ عائشةُ قد مَشَتْ قليلاً لتقضيَ حاجتَها، ولما عادَتْ إِلى الرَّحْلِ عرفَتْ أَنها أَضاعَتْ عُقْدَها الذي في عنقِها، فعادَتْ لتبحث عنه، وظنَّ المكلَّفُ بترحيلها أَنها داخلَ الهودج، فأَقامَ الناقة وسارَ بها مع الجيش، وهو يوقنُ أَنَّ عائشةَ في الهودَج، ولما عادَتْ إِلى المكانِ في الليل وَجَدَت الجيش قد تحركَ فجلَستْ على الأَرض مكانها..
وكان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/675)
قد كَلَّفَ صفوانَ بنَ المعَطِّلِ السلميَّ - رضي الله عنه - أَنْ يَسيرَ خَلْفَ الجيش، ليلتقطَ ما يسقطُ منه..
ولما وصلَ صفوانُ إِلى المكانِ رأى عائشة، فأَناخ راحلَتَه، فركبَتْها وساقَها حتى وَصَلَ الجيش..
ولما رآهُ المنافقون أَشاعوا حادثةَ الإِفك، واتَّهموها في عِفَّتها
وطهارتِها..
واستمرَّ الحديثُ حول الشائعةِ حوالي خمسين يوماً، وأَنزل اللهُ
بعدَ ذلك شهادةً ببراءةِ عائشةَ - رضي الله عنها -، وأَقامَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - حَدَّ القَذْفِ على الذينَ رَدَّدوا الإِشاعة، واتهموها في عِرْضها ...
وأَطلقَ الفادي المجرمُ سِهامَه الخبيثة المسمومة، وقَذَفَ عائشةَ - رضي الله عنها - في عِفَّتِها.
قال: " ونحنُ نسأل: هل كان زواجُ محمدٍ بعائشة بركةً له أَم لعنةً
عليه؟..
قال ابنُ هشام: إن محمداً تزوج ثلاثَ عشرة امرأة، منهنَّ عائشة، التي
كانَتْ بِنْتَ لسِتٍّ لَمّا عَقَدَ عليها، وبِنْتَ تِسعٍ لَمَّا بَنى بها..
فلماذا يتزوجُ محمدٌ وهو شيخٌ بطفلةٍ في التاسعة؟
وإنْ كانَتْ هذه عادةُ عربِ زمانِه، فلماذا لم يُصْلِحْ
نَبِيُّ العَرَبِ عادة أَهْلِ زمانه، بَدَل أَنْ يُمارِسَها معهم؟
ولماذا كان محمدٌ يصطحبُها معه في غَدْواتِه ورَوْحاته، حتى في الحروب، فتصبحَ سيرتُه وسيرتُها مضغةً في الأفواه، كما حَدَثَ مع صفوانَ بن المعَطِّل في غزوةِ بني المْصطَلِق؟.
ولقد كانَ عليُّ بنُ أَبي طالب حكيماً، وهو يُقدِّمُ النصحَ لابنِ عَمِّه وَحَميِّه، ويقول له: لم يُضَيِّق اللهُ عليك، والنساءُ سواها كثير..
ولكنَّ علياً لم يكنْ يعلمُ مكانةَ عائشةَ في قلبِ محمد، وقد كانَ يقول عنها: إِنها بينَ نسائِه كالثريد بينَ الطعام.
فذهبَ محمدٌ إِليها، وقال لها: " بَلَغَني عنك ما بَلَغني، فإِنْ كنت بِريئةً
فيبرِّئُكِ اللهُ، وإِنْ كنتِ أَلممْتِ بذنْبِ فاستْغفِري اللهَ وتوبي إِليه، فإِنَّ العبدَ إِذا اعترفَ بذنْبه ثم تابَ تابَ اللهُ عليَه ".
وسرعانَ ما جاءَ جبريلُ بوحيٍ يُبَرِّئُ عائشة، ويَلْعَنُ الذين اتَّهموها، وشَغَلَتْ شهادَةُ جبريلَ ولعناتُه ثماني عشرةَ آية من سورة النور.
قال ابنُ عباس - كما ذَكَر البيضاوي -: " لو فَتَّشْتَ وعيداتِ
القرآن لم تَجِدْ أَغلظَ مما نَزل في إِفْكِ عائشةَ - رضي الله عنها -".
أَلا يرى العاقلُ أَنَّ محمداً شَحَنَ قرآنَه بشؤونه الخاصةِ وشؤونِ نسائِه؟
وإذا كانتْ عائشةُ بريئةً، فلماذا لم يُبَرِّئْها في الحال؟..
ولماذا لَبِثَ الوحيُ مدةً طويلة، تاركاً إِياها في بيت أَبيها، ومحمد مرتابٌ في عِفّتها؟.. ".(1/676)
كلامُ الفادي المجرم وقحٌ قبيح، وكلُّه اتهامٌ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ولعائشةَ - رضي الله عنها -.
إِنه يَعتبرُ زواجَه بعائشةَ لعنةً عليه، وأَنه خسر كثيراً بسببه، علماً أَنَّ حياةَ
الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مع عائشةَ كانَتْ سعيدةً هانئة، وكانتْ عالشةُ مباركةً - رضي الله عنها -.
وأَثارَ المجرمُ إِشْكالاً حولَ عُمْرِ عائشة عندما تزوَّجَها - صلى الله عليه وسلم -، صَحيحٌ أَنه خَطَبَها وهي بنتُ لسِتِّ سنوات، ودخلَ بها وهي بنتُ تِسْعِ سنوات، - ولا غَرابَةَ في هذا الزواج، فقد كانَتْ كاملةَ الأُنوثةِ وهي في هذا السِّنِّ، ومعلوم أَنَّ البَناتِ في المناطقِ الحارَّةِ تكبرُ أَجسامُهُنَّ بِسُرْعة.
أَما اصطحابُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ في غَزواتِه وسَفراتِه فقد كانَ يَخرجُ بها عندما ي؟ أتي دورها، حيثُ كانَ يَعدِلُ بين زوجاتِه، ويخرجُ بمن هي على الدَّور!.
والفادي مجرمٌ وقح عندما قال عن الحادثة: " فتصبحُ سيرتُه وسيرتُها
مضغةً في الأَفواه ".
ولقد كانتْ سيرةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وسيرةُ عائشة أُمِّ
المؤمنين - رضي الله عنها -، عنوانَ العِفَّةِ والطهرِ والفَضيلة، ولم يكنْ في حياتِه أَو حياتها ما يُريب، والذينَ تَحَدَّثوا عن عائشةَ واتهموها في عِفَّتِها هم المنافقون، ومَنْ تَأَثَّر بهم من مرضى القُلوب، أما المسلمونَ الصادقون فقد كَذَّبوا حديثَ الإِفك وقالوا: سبحانَك هذا بهتان عظيم.
واستغربَ الفادي الجاهلُ حديثَ سورةِ النورِ عن حديثِ الإِفكِ، في
ثماني عشرةَ آية، وهذا دَليلُ جَهْلِه، فالقرآنُ كان يُرَبّي المسلمينَ بالأَحداث،
ويَجعلُها مناسبةً لعَرْضِ وتقريرِ حقائقِه، وقد كانت الدروسُ والعِبَرُ والتوجيهاتُ من حادثةِ الإِفْكِ كثيرة، ولذلك تَحَدَّثَ عنها القرآنُ في ثماني عشرة آية.
وكان الفادي وَقحاً مُجْرِماً عندما قال: " أَلا يرى العاقِلُ أَنَّ محمداً شَحَنَ
قرآنَه بشؤونه الخاصةِ وشؤونِ نسائه؟ ".(1/677)
إِنه يؤكدُ أَنَّ القرآنَ كلامُ النبى - صلى الله عليه وسلم - وليس كلامَ الله، وأَنه كان يَضَعُ فيه ما شاء من الآياتِ التي أَلَّفها ...
وهو يرى أَنَ القرآنَ مليءٌ بأخبار الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الشخصية! وهذا دَليلُ جْهلهِ وغبائه.
إِنَّ اللافتَ للنظر أَنَّ حديث القرآنِ عن أَخبارِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الشخصية قليل، وهذا دليلٌ على أَنَّ القرآنَ كَلامُ الله، ولو كانَ القرآنُ من تأليفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لملأَهُ بالحديث عن شؤونهِ وسيرتهِ وحياتِه، وعن رحلاتِه وأَسفارِه، وعن مشاعرِه وهمومِهِ، وأحزانِه وأفراحه..
كما يفعلُ المؤلِّفون عندما يكتبُ أَحدهم سيرتَه الذاتية.
لم يعرض القرآنُ من أخبارِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - إِلا ما جعلَه فرصةً لتقرير الدروس.
ويَتساءلُ الفادي بخبث: لماذا لم يُبرئ الوحيُ عائشة في الحال؟..
إِنَ تَأَخُّيرَ الوحي في إِعلان براءةِ وعِفَّةِ عائشة - رضي الله عنها - دليلٌ آخَرُ على أَنه كلامُ الله، فقد كانَ الموضوعُ خطيراً جداً، ويتعلَّقُ ببيتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وشرفِه وعِفَّة وعرضِ امرأتِه، ولو كانَ القرآنُ من تأليفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسارعَ بإِعلانِ براءَتِها، وادَّعى
إِنزالَ الآياتِ عليه!! لكنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بقيَ ينتظرُ الوحيَ أَياماً عديدة، وهو لا يَعلمُ الغيب، والقضيةُ حساسةٌ تتفاعَلُ وتتحركُ وتنتشرُ بين الناس، والمسلمونَ ينتظرونَ البيانَ من الله، ويتأخَّر إِنزالُ الآياتِ لحِكْمَة، ليوَظَّفَ هذا دليلاً على أَنَّ القرآنَ من عندِ الله! !.
***
حول قتلِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - خصومَه
أَثارَ الفادي المجرمُ الاعتراضاتِ والإِشكالاتِ على موقفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من خصومهِ الكافرينَ المعادين، حيثُ أَمَرَ بقتل بعضِهم.
وبدأ هذا المبحثَ بالحديثِ عن سَرِيَّةِ عبد اللهِ بنِ جحشٍ - رضي الله عنه -، التي(1/678)
كانت قُبيلَ غزوةِ بَدْر، والتي أَدَّتْ إِلى قَتْل رجلٍ مشركٍ خطأً، في أَولِ يومٍ من أَيامِ شهرِ رجبَ الحرام.
وقد سبقَ أَن اعترضَ الفادي المفترِي على هذه الحادثة، ورَدَدْنا على مغالطاتِه، وبَيَّنّا حقيقةَ أَحداثِ تلك السَّريَّة، ومعنى الآية (217) من سورة البقرة التي أُنزلَتْ بشأنِ تلك الأَحداث، وللرَّد على شبهاتِ الكافرين.
فلا داعيَ لإِعادَةِ كلامِه عن الحادثة، وإِعادَةِ توضيحِنا لمجريات الحادثة.
والذي نُشيرُ إِليه هنا هو عباراتُ المجرمِ الاستفزازيةُ، التي يُهاجمُ فيها
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويَصِفُه بأَقبحِ الصفات.
من ذلك قولُه في بدايةِ حديثهِ عن أَحداثِ السَّرِيَّة: " حَرَّمَت الجاهليةُ القِتَال في الأَشهرِ الحُرُمِ كما حَرَّمَه القرآنُ في سورة محمد، الآية (4) .
ولكنَّ محمداً خالَفَ كُلَّ هذا في سبيلِ الغَدْرِ بأَعدائِه ".
المجرمُ يتهمُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بالغَدْرِ، مع أَنَّ الغَدْرَ خُلُقٌ ذَميمٌ وفعْلٌ قَبيح، يُنَزَّهُ عنه المسلمُ العادي، فكيفَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟!.
وقد شهدَ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بعدمِ الغدرِ عَدُوُّه اللَّدودُ أَبو سفيان، ففي السنةِ السابعةِ من الهجرة الْتقى أَبو سفيان بملكِ الروم هرقل، فسأَلَه عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -: هل يَغْدِر؟
فقالَ أَبو سفيان: لا.
فقالَ هِرَقْل: وكذلك الرسلُ لا يَغْدِرون..
ويأتي هذا المجرمُ ليتهمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالغَدْرِ!.
ويَجمعُ الفادي بينَ الإِجرامِْ والجَهْل، ومِن جهلِه زَعْمُه أَنَّ الآية الرابعةَ
من سورةِ محمد تُحرّمُ القتالَ في الشهرِ الحرام.
فلْنقرأ الآيةَ ونَنظرْ مدى صحةِ كَلامِه.
قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) .
أَينَ الكلامُ عن حُرمةِ القتالِ في الأَشهرِ الحُرُمِ فِي الآية؟
وكيفَ اعتبرَها(1/679)
الفادي الجاهلُ دالَّةً على تحريمِ القتالِ في الأَشهرِ الحُرُم.
إِنَّ الآيةَ التي حَرَّمَت القتالَ في الأَشهرِ الحُرُمِ هي قولُه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) .
وقولُه تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
وحرمةُ القتالِ في الأَشهرِ الحُرُمِ مَشروطةٌ بالتزامِ الأَعداءِ بذلك، فإِنْ لم
يَلْتَزموا بهذه الحرمة، وقاتلوا المسلمينَ في شَهْرٍ حرام، رَدَّ المسلمونَ عليهم،
وقاتَلوهم مَأْجورين، حتى في ذلك الشهر الحرامِ.
قال تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
وقد خَتَمَ المجرمُ كلامَه على سريةِ عبدِ الله بن جحش المذكورةِ بسؤالٍ
وقحٍ فاجرٍ طَرَحَه، حيثُ قال: " ونحنُ نسألْ كيفَ حَلَّلَ اللهُ القِتال، مع أَنَّ
الوثنيّين كانوا يمنعونَه؟
كأَنَّ اللهَ أَشَدُّ عُنفاً من الوثنيّين؟ ".
أيوصَفُ اللهُ بهذه الصفة؟
وهل يتكلمُ مُؤمنٌ باللهِ عن اللهِ بهذا الكلام؟
ونؤكِّدُ ما قُلْناه قبلَ قليلٍ، من أَنَ اللهَ الذي حَرَّمَ على المسلمين بدءَ القتالِ في
الشهرِ الحرام، أَجازَ لهم الردَّ على عُدْوانِ المشركين عليهم وقتالهم.
ثم من الذي زَعَمَ أَنَّ عربَ الجاهليةِ الوثنيينَ كانوا مُلْتَزِمين بحرمةِ القتالِ
في الأَشهرِ الحُرُم؟
لقد كانوا يتوقَّفونَ عن القتالِ فميها إِذا كانَتْ لهم مصلحةٌ في
التوقُّف، فإِنْ كانَتْ لهم مصلحةٌ في القتالِ قاتلوا خُصومَهم في الشهرِ الحرام،
وتعامَلوا معه على أساسِ " النَّسيء ".
والنَّسيءُ بمعنى التَّاخير، وذلك بأَنْ يَنْقُلوا حرمةَ هذا الشهرِ الحَرامِ إِلى
شهرٍ آخَرَ بَدَلَه، ويُقاتِلوا أَعداءَهم فيه.
فقد تَكونُ لهم مصلحةٌ في القتالِ في شهر رجب الحرامِ مثلاً، فيقولُ شيخُ القبيلة: نَنقلُ هذه السنة حرمةَ رجب إِلى شعبان، فيكونُ رَجَب حَلالاً نُقاتلُ فيه، ويكونُ شَعبان حَراماً لا نُقاتِلُ فيه.(1/680)
وقد ذَمَّهم اللهُ على هذا التلاعبِ في قولِه تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) .
وبعدما اتهمَ الفادي المجرمُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بالغَدْرِ بخصومِه المخالفينَ له في الرأي، وقَتْلِهم عن طريقِ الغَدْرِ والاغتيال - وهو كاذبٌ في ما قال - ذَكَرَ بعضَ الأَمثلةِ على ذلك، وهي:
1 - مقتَلُ عصماءَ بنتِ مروان.
2 - مقتَلُ أَبي عَفك اليهودي.
3 - مقتَلُ كعبِ بنِ الأَشرفِ اليهودي.
4 - مقتلُ أَبي رافع بن عبد الله.
5 - مقتَلُ سلامِ بنِ أَبي الحُقيْقِ اليهودي: والراجحُ أَنَّ سلاماً هذا هو أَبو
رافعٍ نفسُه.
6 - مقتَلُ أُمِّ قِرفة.
7 - مقتَلُ ابنِ شيبينَة اليهودي.
8 - مقَتلُ يهودِ بني قريظة (1) .
وعَرَضَ هذه الأَمثلةَ بطريقته القائمةِ على الافتراءِ والكذب والتلاعبِ
بالأَحداث، مع أَنه جاهل لا يَعْرِفُ حقيقة ما حَدَث، ففي كلامهِ أًخطاءٌ علميةٌ وتاريخية، بالإِضافةِ إِلى سوءِ أَدَبه وقُبْح عبارتِه في كلامِه عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا نتوقَّفُ مع تفاصِيلِ مقتلِ هؤلاءِ، ولا أَسبابِ قَتْلِهم؛ لأَنه لا صلةَ
لذلك بموضوعِ الكتاب الذي خَصَّصَه الفادي لانتقادِ القرآنِ وبيانِ أَخطائِه،
والكلامُ على مقتلِ هؤلاء من مَباحثِ السيرةِ النبوية.
نُسجلُ فقط عبارتَه الفاجرةَ القبيحةَ، التي خَتَمَ بها كلامَه على تلك
__________
(1) هؤلاء مجرمو حرب، لابد من استئصال شأفتهم درءا للفتنة، وحماية للمجتمع، وقد لقوا جزاءهم العادل.
قال الشيخ / محمد الغزالي - رحمه الله -:
قابلنى الأستاذ الحمزة دعبس وقال لى: إن رئيسا لإحدى الجماعات الإسلامية يطلب عقد مناظرة حرة بينه وبين كبار علماء الأزهر فى أمر مهم. قلت: ما هذا الأمر؟ قال: هو يرى أن الإسلام يبيح الاغتيال! ... وقبل أن يتم كلامه قلت: ما هذا الحمق؟ قال: إنه يستدل بقتل كعب ابن الأشرف! قلت: يا صديقى هذا جهل بالكتاب والسنة والتاريخ مصيبة هؤلاء أن أحدهم يفتح كتاب حديث ثم يقرأ فيه خبرا مبتورا لا يدرى ما قبله ولا ما بعده، ثم يصدر حكما مكذوبا على الله ورسوله! لقد علمت أن الله لا يحب الخائنين! وعلمت أن الوفاء فرض مع الكافر والمؤمن على سواء. وكعب هذا نقض عهودا، وأعلن حربا، وشرع يلم فلول الكفر من هنا ومن هنا لحرب الإسلام فأصدر رئيس الدولة- وهو هنا رسول الله- حكما بقتله، ونفذ الحكم العدل واختفت بعد مقتله رءوس الفتنة، فكيف يوصف هذا الحكم بأنه اغتيال؟ أكان يراد أن يدخل كعب المدينة مارا بأقواس النصر؟ إنه رجل خائن غادر نال جزاءه! اهـ (المحاور الخمسة للقرآن الكريم. ص: 188)(1/681)
الأَمثلةِ، لمعرفةِ وقَاحَتهِ وإِجرامِه.
قالَ فَضَّ اللهُ فاه: " وما أَكثرَ القتالَ وحوادثَ الغَدْرِ والقتلِ المروّعَة، التي جَرَتْ في التاريخِ الإِسلامي، أَسوةً بمؤسِّسي دينهم، ويَكْفينا أَنْ نَذْكرَ قولَ عليِّ بن أَبي طالب:
السَّيْفُ والخَنْجَرُ ريحانُنا ... أُفٍّ على النّرْجُسِ والآسِ
شَرابُنا دَمُ أَعْدائِنا ... كَأسُنا جُمْجُمَةُ الرَّاسِ
والفادي مجرمٌ كاذبٌ في ما قال، وعليُّ بنُ أَبي طالب لم يَقُلْ ذلك
الكلام، وسيرةُ الصليبيّينَ الإِجراميةُ هي المظهرُ العمليُّ لهذا الكلامِ الحاقد،
فَهم الذي سَفَكوا دماءَ المسلمين، وشربوها في جَماجم رُؤوسهم.
ويَكْفينا تَذَكُّرُ ما قالَه شاعرٌ مسلمٌ يَنتقدُ ما فعلَه الكفارُ الصليبِيون ضدّ المسلِمين:
مَلَكْنا فكانَ العَدْلُ مِنّا سَجِيَّةً ... فَلَمّا مَلَكْتُمْ سالَ بِالدَّم أَبْطَحُ
ويَكفيكُم هذا التَّفاوُتُ بَيْنَنا فَكلُّ إِناءٍ بِالذي فيه يَنْضَحُ
***
موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم مكتوم
عبدُ الله بنُ أُمِّ مكتومٍ - رضي الله عنه - رجلٌ من السابقينَ إِلى الإِسلام، وكانَ أَعْمى، ووقعَتْ له حادثةٌ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعاتَبَهُ اللهُ عليها في القرآن.
ووقفَ الفادي المفترِي أَمامَ الحادثة، وجعلَ هُجُومَهُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تحتَ عنوان: " يَحتقرُ الأَعْمى "!.
ذَكَرَ الآياتِ الأُولى من سورةِ عبس: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) .
ثم بَثَّ سُمومَه قائِلاً: " رُوي أَنَّ ابنَ أُمِّ مكتوم أَتى محمداً، وهو يَتكلمُ مع
عُظماءِ قريش، فقالَ له: أَقْرِئْني وعَلِّمْني مما عَلَّمَكَ اللهُ، فلم يلتفتْ محمدٌ إِليه،(1/682)
وأَعرضَ عنه، وقالَ في نفسِه: يَقولُ هؤلاء الصَّناديدُ: إِنما اتَّبَعَه الصِّبيانُ والعَبيدُ والسَّفَلَةُ، فعبسَ وَجْهُهُ وأَشاحَ عنه، وأَقبلَ على القومِ الذين كانَ يُكَلّمُهم.
ونحنُ نسأل: كيفَ يُراعي محمدٌ أَصحابَ الجاهِ، ويَرفضُ الفقيرَ
والمسكين، ويُقَطِّبُ وَجْهَه للأَعمى؟
أَيْنَ هو من المسيح، الذي لما جاءَه الأَعمى أَحاطَه بعطفِه ورعايتِه وأَعادَ له البَصَر؟! ".
كَذَبَ المفترِي في عَرْضِه للحادثة، وذلك في زَعْمِه أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - لَمّا أَعرضَ عن ابنِ أُمِّ مكتومِ قالَ في نفسه: " يَقولُ هؤلاء الصَّناديدُ: إِنما اتَّبَعَه الصبيانُ والعبيدُ والسَّفَلةُ "!.
ولم يَذْكُرْ أَحَدٌ من العلماءِ المسلمين هذا، وإنما هو من وَضْعِ واختلاقِ الفادي المفْتَري..
إِنه يَزْعُمُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - قالَ هذا
القولَ في نفسه، ولم يُخبرْ بِه أَحَداً، فإِذا كانَ قالَه في نفسِه فكيفَ عرفَ
الفادي به؟
وكيفَ وَصلَ إِليه، وبينَه وبينَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - خمسةَ عشرَ قَرْناً؟
وهو لم يَنطقْ به؟
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
وخلاصَةُ الحادثةِ: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان مجتمعاً مع مجموعةٍ من زُعماءِ قريش، يَعرضُ عليهم الإِسلامَ، ويَطمعُ في إِسلامِهم، وفي هذه اللحظةِ دَخَلَ عليه عبدُ الله بنُ أُمِّ مكتوم - رضي الله عنه -، وبما أَنه أَعمى، فإِنه لم يَرَ الحالةَ التي عليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم، وخاطَبَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: يا رسولَ الله، عَلّمْني مما عَلَّمَكَ الله! فكَرِهَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قُدومَه وطَلَبَه، ولكنه لم يُكَلِّمْهُ ولم يَنْهَرْهُ ولم يَحْتَقِرْه، وعبسَ في وجهِه كارِهاً ذلك..
وفهمَ ابنُ أُمِّ مكتومٍ أَنه قَدِمَ في وقتٍ غير مناسب، فخرجَ من المكان، وتابَعَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - كلامه مع القومِ الذينَ لم يُسْلِموا.
وأَنزلَ اللهُ مطلعَ سورةِ عَبَس، يُعاتِبُ فيها رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم -، على عُبوسِه في وَجْهِ الأَعمى، ويُرشدُه إِلى أَنه كان الأَولى به أَنْ يُقبلَ عليه ويُعَلِّمَه..
ولم يَحتقرْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ أُمِّ مكتومٍ الأعمى كما ادَّعى الفادي المجرمُ، ولم يُخطئْ في حَقِّه، فهو لم يَزِدْ على أَنْ عَبَسَ في وجهه، والرجلُ أَعمى لم يُشاهِدْ عُبوسَه، وفَهِمَ الحقيقةَ، وخَرَجَ غيرَ غاضبٍ ولا حزين.(1/683)
ولكنَّ اللهَ عاتَبَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بشأنِه، وخَلَّدَ هذا العتابَ في القرآن، من بابِ توجيهِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لما هو أَوْلى، فهو لم يُخْطئْ مع ابنِ أُمِّ مَكْتوم، ولم يَنْهَرْهُ ولم يَشْتُمْه، وكان مَشغولاً بأَمْرٍ هامٍّ لمصلحةِ الإِسلام، وكان طامِعاً في إِسلامِ المجموعةِ ليُنقذَهم من النار، ولو كانَ أَحَدُنا مكانَه لفعلَ مثْلَ فِعْلِه، وما كان مخطئاً..
ولكنَّ اللهَ يريد لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - الأَكملَ والأَفضلَ والأَوْلى، ولذلك عاتَبَه هذا العتابَ، مُرْشداً له إِلى ما هو أَوْلى.
وكانَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يُكرمُ عبدَ اللهِ بنَ أُمِّ مكتومٍ - رضي الله عنه -، ويُرحبُ به كلَّما لَقِيَه، ويُداعبُه قائِلاً: " أَهْلاً بمنْ عاتَبَني فيه رَبّي! " وعندما كان يَخرجُ من المدينةِ لسفر أو غَزْوٍ، كان يُعَيِّنُ هذا الصحابيَّ والياً مكانَه على المدينة، وأميراً عليها، وتحتَ إِمرتِه كِبارُ الصحابة!.
وبهذا نعرفُ أَنَ كَلامَ الفادي المجرمِ قبيحٌ مرْذُولٌ مثلُ صاحبه، وهو
مردودٌ عليه، فليس في الأَمْرِ احتِقَارٌ لابنِ أُمَ مكتوم، وليس فيه مراعاةٌ
لأَصحابِ الجاهِ والمال من الكفار، وليسَ فيه تَخَلٍّ عن الفقراءِ والمساكين من
المسلمين..
ورسولُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لم يُخالفْ طريقَ أَخيه عيسى ابنِ مريم عليه الصلاة والسلام في التواضعِ والاهتمامِ بالضعفاءِ والمساكين، وكان خَيْرَ مُنَفِّذٍ لقولِ الله - عز وجل -: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) .
***
لم يطرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفقراء والعبيد
اتَّهَمَ الفادي المجرمُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَنه طَرَدَ الفقراءَ من أَتْباعِهِ من أَجْلِ كسبِ رضا الأَغنياءِ من الكفار!.
ذَكرَ تحتَ عنوان: " يَطْرُدُ الفقراء " قولَ الله - عز وجل -: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) .(1/684)
وعَلَّقَ على الآيةِ قائلاً: " جاءَ الأَقرعُ بنُ حابس التميمي وعيينةُ بنُ
حصن الفَزارِي، فوجَدوا محمداً قاعداً مع صُهيبٍ وبِلال وعمارٍ وخَبّاب،
في نَفَرٍ من ضعفاءِ المسلمين، فلما رأوهم حولَه حَقَّروهم، فقالوا لمحمد:
لو جلستَ في صَدْرِ المجلس، ونَفيتَ عَنّا هؤلاء وأَرواحَ جِبابِهم - وكانتْ
عليهم جِبابُ صوف، لها رائحةٌ كريهة - وأَخَذْنا عنك، ونحبُّ أَنْ تجعلَ لنا
منك مجلساً، تعرفُ به العربُ فَضْلَنا، فإِنَّ وُفودَ العرب تأتيكَ، فنستحيي
أَنْ تَرانا مع هؤلاءِ العبيد، فإِذا نَحْنُ جئْناكَ فأَقمهم عَنَّا، وإِذا نحنُ فَرَغْنا
فأَقْعِدْهم حيثُ شئتَ.
فقالَ لهم: نَعَم أَفعل.
قالوا: فاكتبْ لنا عليكَ بذلكَ كتاباً.
فأَتى بالصحيفة، ودَعا عَلِيّاً ليكتبَ..
ولما راجَعَ نفسه، ورأى أَنها أُحبولة، قالَ: إِنَّ جبريلَ نهاه.
وقالَ ابنُ عباس: إنّ ناساً من الفقراءِ كانوا مع النبيِّ، فقال ناسٌ من
أَشرافِ الناس: نؤمنُ بك، وإِذا صَلّيْنا فأَخِّرْ هؤلاء الناسَ الذين معك،
فلْيُصَلّوا خَلْفَنا، فكادَ أَنْ يُجيبَ الطلب، ولما رأَى ما فيه من الظلمِ قال:
إِنَّ اللهَ نَهاهُ عن ذلك ".
الروايةُ التي نقلَها الفادي عن بعضِ الكتبِ الإِسلاميةِ غيرُ صحيحة؛ لأَنَّ
الآية (52) هي من سورة الأَنعام، وسورةُ الأَنعام مكية، وكان نزولُها قبلَ
الهجرةِ بحوالي خمس سنوات، وكان إِسلامُ الأقرعِ بنِ حابس وعيينةَ بن حصن
في عامِ الوفود، في السنةِ التاسعةِ للهجرة.
أَيْ أَنَّ نُزولَ الآيةِ كان قبلَ وُقوعِ الحادثة بحوالي أَربعَ عشرة سنة، فكيف تَنزلُ الآيةُ قبلَ وقوعِ السببِ بهذه السنواتِ الطويلة؟!.(1/685)
إِنَّ الفادي جاهلٌ غَبيٌّ، لا يَعرِفُ معنى سببِ النزول، ولذلك وَقَعَ في
هذا الخطأ!
إِنَّ التعريفَ المعتمدَ لسببِ النزولِ هو: ما نَزَلَتِ الآيةُ تُبَيِّنُ حُكْمَه
عندَ نزولِها.
أَما آيةُ سورةِ الأَنعام المذكورةُ فإِنها نزلَتْ لتثبيتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الحقّ، وللرّدّ على طلبِ المشركينَ الغريب.
وخَيْرُ مَنْ يُخبرُ عن سببِ نزولِها أَحَدُ الذين أُنزلَتْ فيهم، وهو سَعْدُ بنُ أَبي وقاص - رضي الله عنه -.
روى مسلمٌ عن سعدِ بن أَبي وقاص - رضي الله عنه -، قال: كُنّا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر.
فقالَ المشركون للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اطردْ هؤلاء، لا يَجْتَرِئونَ علينا! قَال: وكنتُ أنا وابنُ مسعود، ورجلٌ من هُذَيْل، وبلالٌ، ورَجُلانِ لستُ أُسَمّيهما، فوقَعَ في نفسِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما شاءَ اللهُ أَنْ يَقَع، فأنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) .
تدلُّ الروايةُ على أَنَّ المشركينَ أَرادوا إبعادَ الفقراءِ والعبيدِ عن مجلسِ
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وطلبوا ذلك منه، لكنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لم يَستجبْ لهم، ولم يَطردْ هؤلاءِ الفقراء، كما ادَّعى الفادي الكاذبُ المفترِي..
وإِنزالُ الآية المذكورةِ عليه، وأَمْرُهُ أَنْ يَبقى مع هؤلاء الفقراء، لا يدلُّ على أَنه طَرَدَهم، أَو اتفقَ مع المشركين على طردهم، أَو فَكَّرَ في طَرْدِهم، والآيةُ توجيهٌ وتذكيرٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وتلتقي عدةُ آياتٍ على تَقريرِ وتأكيدِ وترسيخِ هذه الحقيقة، منها قوله تعالى:
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..) .
وقوله تعالى (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..) .
وقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) .(1/686)
استعاذة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان
جَعَلَ الفادي المجرمُ علاقةً للشيطان بالقرآن، وسَجَّلَ تحتَ عنوان:
" علاقةُ الشيطانِ بالوحي " قول الله عبن: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) .
ونَقَلَ خلاصةَ تفسير البيضاويِّ للآيات، الذي بَيَّنَ فيه مَعْنى النَّزغ.
ومِن جَهْلِ المجرمِ وغَبائِه أَنه لا يُحسنُ النقلَ عن البيضاويّ، فالنَّزْغُ في تفسيرِ
البيضاوي هو الغَرْزُ، بِالغَيْن، لكنَّ هذه الغينَ عند الجاهلِ صارَتْ فاءً، وصارَ الغَرْزُ فَرْزاً، وبذلك تَغَيَّرَ المعنى.
والنَّزْغُ هو الوسوسة، وكأَنَّ وسوسةَ الشيطانِ التي يُغْري الناسَ بها على
المعاصي غَرْزٌ وسَوْقٌ، كالرجلِ يَسوقُ دابّتَه ويَغْرِزُ عصاهُ فيها لتَسير.
ومِن جهْلِ الفادي المجرمِ وغبائِه ولؤمِه أَنه وَظَّفَ الآيةَ لإِدانةِ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّ الشيطانَ يَنزغُه ويَنخسُه، ويَغرزُ فيه مغارِزَه، ويَسوقُهُ أَمامَه، وهو مستسلمٌ لنزغ وغَرزِ وسَوْقِ الشيطان!!.
قال فَضَّ اللهُ فاه: " ونحنُ نسأل: إِذا كانَ إِبليسُ يَسوقُ محمداً وينخَسُه،
فكيفَ يكونُ نبياً؟!
ما أَعظمَ الفرقَ بينَه وبين المسيح، الذي لما جاءَه إبليسُ - على قولهم - ينخسُه، فَنَخَسَ في الحجاب، والذي قالَ عن نفسه: رئيسُ هذا
العالِم يأتي، وليسَ له فيَّ شيءٌ ".(1/687)
إِنَّ النزغَ هو الدخولُ للإفساد.
يقال: نَزَغَ بينهم.
أَي: دَخَلَ بينَهم ليُفْسِدَ صِلاتهم وعلاقاتِهم.
والشيطانُ حريصٌ على أَنْ يَنزغَ ويُفسدَ العلاقاتِ بين الناس، قال تعالى:
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) .
وقد صوَّرَ الفادي الملعونُ الشيطانَ مسيطراً على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ينزغُهُ ويَدفعُه أَمامَه، وهو مستسلمٌ له، وهذا معناهُ أَنَّه ليسَ نبيَّاً! وأَنَّ ما عندَه من القرآنِ ليسَ من عندِ الله، وإنما من وحْي الشيطان ونزغاتِه ووساوسِه!!.
ومن المعلومِ بَدَاهَةً أَنه لا سُلطانَ للشيطانِ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا غيرِه من الأنبياء، فاللهُ عَصَمَهم وحَفِظَهم، وحَماهُم من الشيطانِ ونزغاتِه ووساوسِه.
الخطابُ في قولِه تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)
للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في ظاهره، ولكنَّه ليس المقصودَ منه، لأَنَّ اللهَ حماهُ منه، وإنما المقصودُ كلُّ مسلمٍ من بعدهِ، يُعَلِّمُه الله كيفيةَ التخلصِ من وساوسِ الشيطانِ ونزغاتِه، وذلك بأَنْ يستعيذَ باللهِ ويلجأَ إِليهِ.
وكثيراً ما كانَ اللهُ في القرآنِ يُخاطبُ المسلمين من خلالِ خطاب الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقول: (يا ايُّهَا النَّبيُّ)
والمقصودُ بذلك أُمَّتُه، يوجِّهُهم أَو يأمُرُهم أَو يَنهاهم.
ومن خصوصياتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التي خَصَّهُ اللهُ بها، أَنَّ اللهَ جعلَ شيطانَه يُسلم.
فقد روى البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " كُلُّ إِنسانٍ وَكَّلَ اللهُ به شيطاناً.
قالت: حَتى أَنتَ يا رسولَ الله؟
قال: حتى أنا، ولكنَّ اللهَ أَعانَني عليه فأَسلمَ فلا يأمُرُني إِلّا بخير "!.
شيطانُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلم، وبذلك صارَ لا يأمره إِلّا بخَيْر، وذهبَتْ نَزغاتهُ ووساوسُه الشريرة.
وهذا كخصوصية عِيسى ابنِ مريم - عليه السلام - حيثُ حَماهُ الله من الشيطانِ عند ولادتِه، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مولودٍ يولَدُ ينخَسُه الشيطانُ حينَ ولادتِه،(1/688)
لذلك يستهلُّ صارِخاً، إِلّا عيسى ابن مريم، فإِنه حينَ ذَهَبَ ينخَسُه نَخَسَ في
الحِجاب ".
أي: لَمَّا نَخَسَه لم يُصِبْ بَدَنَه، وإِنما وَقَعت النخسَةُ في ملابِسه..
وقد استجابَ اللهُ دُعاءَ أُمِّ مريم - عليها السلام -، عندما عَوَّذَتْها بالله.
قال تعالى: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) .
ولا علاقةَ للشيطانِ بالقرآن، وقد كانَ القرآنُ صريحاً في نفي هذه العلاقةِ
في آياتٍ كثيرة، منها قولُه تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) .
وقوله تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) .
***
هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مذنب؟
عِنوانُ الفادي الخبيثِ هو: " وِزْرٌ ينْقضُ الظَّهرَ ".
أَيْ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ له من الأَوزارِ والذنوبِ ما أَتْعَبَه وأَنقضَ ظَهْرَه.
وَقَفَ أَمامَ قولِ اللهِ - عز وجل -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) .
ونَقَلَ عن تفسيرِ البيضاويِّ كلاماً غيرَ دَقيقٍ وغيرَ مُسَلَّمٍ في تفسيرِ الآية، وخَرَجَ منه بأَنَّ للرسولِ وزراً وذَنْباً ومعصية، وَضَعَه عنه الله.
وهذا كلامٌ باطل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ عن الذنوبِ والمعاصي.
والوِزْرُ في الآيةِ ليس هو الذنْبَ، وإِنما هو حملُ مهمةِ الدعوةِ وواجبِ الرسالة، والاهتمامُ بالناسِ ودعوتِهم وإِرشادِهم، وهذه مهمةٌ ثقيلةٌ شاقَّة، وقد أَعانَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - على حَمْلِها، وخَفَّفَ عليه أَداءَها، ولولا فَضْلُ اللهِ عليه لما تمكَّنَ من ذلك.
فالوزْرُ هنا حِمْلٌ معنويّ نفسي، وليس حِمْلاً ماديّاً على الظهر، وهو
وِزْرٌ إِيجابيٌّ فيه تبليغٌ للدعوة، وليس وِزْراً سَلْبِيّاً فيه ذنبٌ ومخالفةٌ ومعصية (1) .
__________
(1) قال الفخر الرازي ما نصه:
احتج بهذه الآية من أثبت المعصية للأنبياء عليهم السلام والجواب: عنه من وجهين الأول: أن الذين يجوزون الصغائر على الأنبياء عليهم السلام حملوا هذه الآية عليها، لا يقال: إن قوله: {الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يدل على كونه عظيماً.
فكيف يليق ذلك بالصغائر، لأنا نقول: إنما وصف ذلك بإنقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اغتمام النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه منه وتحسره مع ندمه عليه، وأما إنما وصفه بذلك لأن تأثيره فيما يزول به من الثواب عظيم، فيجوز لذلك ما ذكره الله تعالى.
هذا تقرير الكلام على قول المعتزلة وفيه إشكال، وهو أن العفو عن الصغيرة واجب على الله تعالى عند القاضي، والله تعالى ذكر هذه الآية في معرض الامتنان، ومن المعلوم أن الامتنان بفعل الواجب غير جائز الوجه الثاني: أن يحمل ذلك على غير الذنب، وفيه وجوه أحدها: قال قتادة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ذنوب سلفت منه في الجاهلية قبل النبوة، وقد أثقلته فغفرها له وثانيها: أن المراد منه تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها وحفظ موجباتها والمحافظة على حقوقها، فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له وثالثها: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل.
وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله، وقال له: {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} [النحل: 123] .
ورابعها: أنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه، ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فأمنه من العذاب في العاجل، ووعد له الشفاعة في الآجل وخامسها: معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك، لو كان ذلك الذنب حاصلاً، فسمى العصمة وضعاً مجازاً، فمن ذلك ما روي أنه حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع، فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد وسادسها: الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام، حين أخذته الرعدة، وكاد يرمي نفسه من الجبل، ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمي بنفسه من الجبل لشدة اشتياقه وسابعها: الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة، ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه، و (هو) يقول: «اللهم اهد قومي» وثامنها: لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة، فلقد كان فراقهما عليه وزراً عظيماً، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة فارتفع له الذكر، فلذلك قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وتاسعها: أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة، وذلك أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه، حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم، ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياء، لأنه عليه السلام كان يرى أن نعم الله عليه لا تنقطع، وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه، فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه، فحينئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال، فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة، والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة، فإنه يثقل ذلك عليه جداً، بحيث يميته الحياء، فإذا كلفه المنعم بنوع خدمة سهل ذلك عليه وطاب قلبه. اهـ (مفاتيح الغيب. 32 / 5 - 6)(1/689)
ووقفَ أَمامَ قولِ الله - عز وجل - (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (1) ، وقول الله - عز وجل -: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .
وقول الله - عز وجل - (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) .
وقد أَخَذَ الفادي المجرمُ هذه الآيات ِ على ظاهِرِها، وجَعَلَها إِدانةً
للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وشاهِدَةً على أَنه يُذنبُ ويُخطئُ ويَعصي.
وقالَ مُعَلّقاً عليها: " ونحنُ نسأَلُ: هل يَصِحُّ الادِّعاءُ أَنه شَفيعٌ وهو نفسُه
مُذْنِب؟! " (1) (2) .
من المتفقِ عليه عند المسلمين أَنَّ اللهَ عَصَمَ رُسُلَه وأَنبياءَه من الوقوعِ في
الذنوبِ والمعاصي، ولم يَجعلْ سُلْطاناً للشيطانِ على أَحَدٍ منهم، فلم يَصْدُرْ
من أَحَدٍ منهم معصيةٌ أَو ذَنْب.
وعلى أَساسِ هذه الحقيقةِ نفهمُ الآياتِ السابقة، التي يَدْعو اللهُ فيها رسولَه - صلى الله عليه وسلم - إِلى الاستغفارِ لذنبه.
ذَنْبُ الرسولِ - عليه السلام - ليس ذَنْباً حقيقياً، قائماً على فعلِ المعصية، وإِنما هو ذنبٌ معنوي يَقومُ على نوعٍ من تَرْكِ الأَوْلى، والسهوِ والغفلةِ والنسيان، الذي لا يُؤَدّي إِلى تَرْكِ واجبٍ أَو فعْلِ مُحَرَّم.
قد يفعلُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - خِلافَ الأَوْلى، فيعاتبُه الله، وقد يَمُرُّ بحالةٍ من السهوِ اليسير أو الغفلةِ البسيطة، فيتداركُه الله، وهذا نوعٌ من التقصير، يَستدعي أَنْ يستغفرَ اللهَ منه، ليبقى - صلى الله عليه وسلم - في كاملِ تَأَلُّقِهِ وارتقائِه.
وقديماً قيل: حَسناتُ الأَبرارِ سيئاتُ المقرَّبين.
إِنَ استغفارَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وتوبتَه نوعٌ من أَنواعِ ذكْرِه لله، وعلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنّه ليُغانُ على قلبي فأَتوبُ إِلى الله وأستغفرُه في اليومِ مئة مَرَّة ".
استغفارُه للهِ صورةٌ من صُوَرِ ذِكْرِه وشُكْرِه له.
__________
(1) قال الفخر الرازي ما نصه:
لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ذنب، فماذا يغفر له؟
قلنا الجواب عنه قد تقدم مراراً من وجوه أحدها: المراد ذنب المؤمنين ثانيها: المراد ترك الأفضل ثالثها: الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد، وهو يصونهم عن العجب رابعها: المراد العصمة، وقد بينا وجهه في سورة القتال.
المسألة الرابعة:
ما معنى قوله {وَمَا تَأَخَّرَ} ؟ نقول فيه وجوه أحدها: أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ثانيها: ما تقدم على الفتح، وما تأخر عن الفتح ثالثها: العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه، مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم رابعها: من قبل النبوة ومن بعدها، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة، وفيه وجوه أُخر ساقطة، منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر مارية، وما تأخر من أمر زينب، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام. اهـ (مفاتيح الغيب. 28 / 68) .
(2) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
61- محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما فى القرآن
الرد على الشبهة:
أخذوها من فهمهم الخاطئ فى مفتتح سورة " الفتح ": (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا) .
فقالوا: كتاب محمد يعترف عليه ويصفه بأنه مذنب!!
وسيرة محمد سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كتاب كبير مفتوح استوفى فيه كُتَّاب سيرته كل شىء فى حياته. فى صحوه ونومه وفى حربه وسلمه، وفى عبادته وصلواته، فى حياته مع الناس بل وفى حياته بين أهله فى بيته.
ليس هذا فحسب بل إن صحابته حين كانوا يروون عنه حديثًا أو يذكرون له عملاً يصفونه صلى الله عليه وسلم وصفًا بالغ الدقة وبالغ التحديد لكافة التفاصيل حتى ليقول أحدهم: قال صلى الله عليه وسلم كذا وكان متكئاً فجلس، أو قال كذا وقد امتلأ وجهه بالسرور وهذا ما يمكن وصفه بلغة عصرنا: إنه تسجيل دقيق لحياته صلى الله عليه وسلم بالصوت والصورة..
ثم جاء القرآن الكريم فسجل له شمائله الكريمة فقال عنه: إنه الرحمة المهداة إلى عباد الله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .
ووصفه بأنه الرؤوف الرحيم بمن أرسل إليهم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) .
ثم لخص القرآن مجمل شمائله صلى الله عليه وسلم فى قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) .
أكثر من هذا أن تكفل القرآن بإذاعة حتى ما هو من خلجات الرسول وحديث نفسه الذى بينه وبين الله مما لا يطلع الناس عليه على نحو ما جاء فى سورة الأحزاب فى أمر الزواج بزينب بنت جحش والذى كان القصد التشريعى فيه إبطال عادة التبنى من قوله تعالى: (وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً) .
أقول: مع أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هى كتاب مفتوح لم يخف التاريخ منه شيئاً بل وتدخل القرآن ليكشف حتى ما يحدث به نفسه صلى الله عليه وسلم مما لا يطلع عليه الناس، ولم يذكر له صلى الله عليه وسلم ذلةً ولا ذنبًا فى قول أو عمل.
أفبعد هذا لا يتورع ظالموه من أن يقولوا أنه " مذنب "؟ !!!
ولو كان هؤلاء الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم على شىء من سلامة النظر وصفاء القلوب لانتبهوا إلى بقية سورة الفتح، والتى كانت كلها تثبيتاً للمؤمنين وللرسول وتبشيرًا لهم بالتأييد والنصر.. لو كان محمد صلى الله عليه وسلم - كما ادعيتم - من المذنبين والعاصين لكان من المستحيل أن يجعله الله تعالى ممن يؤيدهم بنوره ويتم عليهم نعمته ويهديهم صراطًا مستقيماً؛ لأن النصر يكون للصالحين لا للمذنبين.
ونقف أمام الذنب فى منطوق الآية: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (فالذنب هنا ليس مما تعارف عليه الناس من الخطأ والآثام؛ لأن سنة الله تبارك وتعالى هى عصمة جميع أنبيائه وفى قمتهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه ويقره ويقرره أتباع كل الرسالات إلا قتلة الأنبياء ومحرّفى الكلم عن مواضعه من اليهود الذين خاضوا فى رسل الله وأنبيائه بما هو معروف.
فالذنب هو ما يمكن اعتباره ذنباً على مستوى مقام نبوته صلى الله عليه وسلم ذنبًا مما تقدره الحكمة الإلهية - لا ما تحدده أعراف الناس.
ومع هذا كله فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانت محل تقدير قومه وإكبارهم له لما اشتهر به صلى الله عليه وسلم من العفة والطهر والتميز عن جميع أترابه من الشباب حتى كان معروفًا بينهم بالصادق الأمين.
أفبعد هذا لا يستحى الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم والحاقدون عليه من أهل الكتاب أن يقولوا: إنه مذنب؟!!
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) . اهـ (شبهات المشككين)(1/690)
وهذا معناهُ وجوبُ التفريقِ بين استغفارِنا واستغفارِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاستغفارُنا بسببِ ذنوبِنا ومعاصينا الكثيرةِ المستمرة، وكلُّنا رجاءٌ في الله أَنْ يَغفَرها لنا..
أَمَّا استغفارُ رسولِنا - صلى الله عليه وسلم - فإِنه ذِكْرٌ منه لله، وقُرْبى يَتقربُ به إِليه.
وقد خَصَّ اللهُ حبيبَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بمقامِ الشفاعةِ المحمود، حيثُ يَأذَنُ له أَنْ يَشفعَ للناسِ يومَ القيامةِ الشفاعةَ العامَّةَ بفتح بابِ الحساب لهم، ثم يَأْذَنُ له أَنْ يَشفعَ لأَمَّتِه شفاعةً خاصةً بأَنْ يُدخِلَهم الجَنَّة، وشفاعتُه - صلى الله عليه وسلم - ثابتةٌ في الأَحاديثِ الصحيحةِ المتفقِ عليها، وكُلُّ مسلمٍ يَطمعُ في أَنْ يَسعدَ بتلكَ الشفاعة.
أَمّا الفادي الكافرُ المجرمُ فإِنه محرومٌ من الشفاعة، ولذلك يُنكرُها،
ويشتمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ْ
***
حول موقف عبد الله بن سعد بن أبي السرح
اتَّهمَ الفادي المجرمُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّه أَخَذَ القرآنَ من الناسِ من حولِه، حيث كانَ يُسجلُ أَقوالَهم، ومنهم كاتبُ الوحي عبدُ الله بنُ أَبي السَّرْح.
ذكَرَ تحتَ عنوان: " يُدَوِّنُ أَقوالَ كَتَبَتِه " قولَ اللهِ - عز وجل -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
ونقَل عن تفسيرِ البيضاويِّ أَنَّ الآيةَ نازلةٌ في عبدِ اللهِ بن سعدِ بنِ أَبي
السَّرْح، وأنه كان يكتبُ الوحْيَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأوردَ روايةً عن تفسيرِ البيضاويِّ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سعدِ بنِ أَبي السَّرْح كان
يكتبُ الوحْيَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنه استَدْعاهُ ليكتبَ الآياتِ الأُولى من سورةِ المؤمنون، وكانَ يُملي عليه ويَكتب، فأَملى عليه(1/691)
قولَه تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) .
فقال ابنُ أَبي السَّرْحِ مُتَعَجِّباً من تفاصيلِ خَلْقِ الإِنسان: " تبارك الله
أحسن الخالقين ".
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكْتُبْهَا فهكذا أُنزلَتْ.
فشكَّ عبدُ الله بنُ أَبي السَّرْح، وقال: لئن كان محمدٌ صادقاً لقد أُوحيَ إِليَّ كما أُوحيَ إِليه، ولئن كانَ كاذباً لقد قُلْتُ كما قال.
ونقلَ الفادي أَنَّ عبدَ اللهِ بن سعدٍ كان يقول بعدما ارتَدَّ: كنتُ أَصْرِفُ
محمداً حيثُ أُريد.
كان يُملي عَلَيَّ: " عَلِيّ حكيم " فَأَكتبُ " عَزيز حكيم ".
فيقول لي: اكتبْ كيفَ شِئْتَ، فكلّ سواء.
قال الفادي المجرم: ولما فَضحَ هذا الكاتِبُ محمداً، أوردَ في القرآنِ قولَه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) ؟.
صحيح أَنَّ عبدَ اللهَ بنَ أَبي السَّرْح ارتَدَّ عن الإِسلام، ولجأَ إِلى قريشِ
في مكة، لكنَّ الحادثةَ التي أَوردَها الفادي غيرُ صحيحة، وإِنما هي باطلَة
مردودة، فلم يَقُلْ: (تبارك الله أحسن الخالقين) .
ولمَ يأمُرْه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتابتِها بعدَ أَنْ نَطَق بها.
ولقد كانَ الفادي الغبيُّ جاهِلاً عندما اعتمدَ على روايةٍ باطلةٍ مَرْدودةٍ،
وبَنى عليها عنوانَه: " يُدَوِّنُ أَقوال كَتَبَتِه".
ولم يَنزل قولُه تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) بشأن عبدِ اللهِ بنِ سعد، لأَنه لم يَدَّعِ النبوةَ ولا الإِتيانَ بمثْلِ القرآن، وكلُّ ما فعَلَ أَنه فُتِنَ فارتَدَّ عن الإِسلام، وعادَ إِلى الكفر، وهَرَبَ إِلى مَكَّة.
ولما فَتَحَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة أَهْدَرَ دمَ مجموعةٍ من الأَعداءِ شديدي(1/692)
العداوة، الذين ارتكبوا جرائم يَستحقّونَ بها القَتْلَ، وأَمَرَ بقَتْلِهم، ومنهم
عبدُ اللهِ بنُ سعد.
ونَقَلَ الفادي هذه الحادثةَ بقوله: " ولما كان يومُ الفتحِ أَمَرَ محمدٌ بقَتْلِ
كاتبه، ففَرَّ إلى عثمانَ بنِ عفان، لأَنه كانَ أَخاه من الرَّضاعة، فغيَّبَه عثمانُ
عنه، ثم جاءَ به عثمانُ بعدما اطْمَأَنَّ الناس، واستأذَنَ له محمداً..
فصمَتَ محمدٌ طويلاً..
ثم قال: نَعَمْ..
فلما انصرفَ عثمانُ قالَ محمدٌ لمن حولَه:
ما صَمَتُّ عنه إِلّا لتَقْتُلوه.. ".
وعَلَّقَ الفادي المجرمُ الخبيثُ على ما رَواهُ بقولِه: " ونحنُ نَسأل: كيفَ
يكونُ محمدٌ نبياً وهو يستحسنُ أَقوالَ كَتَبَتهِ، ويأمرُ بتدوينِها على أَنَّها وحي؟!
وكيفَ يكونُ محمدٌ نبياً وهو يُؤَمِّنُ عبدَ اللهِ بنَ سعدٍ على حياتِه ثم يُحَرِّضُ
الناسَ على قَتْلِه؟! ".
والفادي مجرمٌ مُحَرِّفٌ، غيرُ أَمينٍ على ما يَنْقُلُهُ، يوردُ ما يتفقُ مع هَواه،
ويَحذفُ ما لا يَتفقُ مع هواه.
وقد روى سعدُ بنُ أَبي وَقّاص - رضي الله عنه - الحادثة، فقال: " لما كانَ يومُ فتْحِ مكةَ أَمَّنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ إِلّا أَربعةَ نَفَرٍ وامرأتين، وقال: اقْتُلوهم، وإِنْ وجدتُموهم متعلِّقينَ بأَستارِ الكعبة: عكرمةُ بنُ أَبي جهل، وعبدُ الله بنُ خَطل، ومقيسُ بنُ صبابة، وعبدُ الله بن سعد بن أبي السرح ... .
وأمّا عبدُ اللهِ بنُ سعد بن أَبي السَّرْحِ فإِنه اختبأَ عند عثمانَ بن عفان، فلما دَعا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ مكةَ إِلى البيعة، جاءَ بِه حتى أَوقفَه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بايعْ عبدَ الله..
فرفعَ إِليه رأْسَه، فنظرَ إِليه ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى.. فبايَعَه بعدَ ثلاثٍ ...
ثم أَقبلَ على أصحابه، فقال: أَما كانَ فيكم رجلٌ رشيد، يَقومُ إِلى هذا، حيتُ رآني كَفَفْتُ يدي عن بيعَتِه، فيقْتُلُه!..
فقالوا: وما يُدْرينا يا رسولَ الله ما في نفسِك، هلّا أَوماتَ إِلَيْنا برأسِك؟(1/693)
قال: إِنه لا يَنْبَغي لنبي أَنْ يكونَ له خائنةُ أَعين!! "..
أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم والبزار وأبو يعلى.
عفا الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - عن أهل مكةَ الذين حارَبوه، ولم يأْمُرْ إِلّا بقَتْلِ أَربعةِ رجالٍ وامرأتين، لارتكابهم جرائمَ توجبُ قَتْلَهم.
ومنهم عبدُ الله بنُ سعدِ بنِ أَبي السَّرْح، والذي أوجبَ قتْلَه هو ارتدادُه، فقد كانَ مسلماً ثم كَفَر، وحُكْمُ المرتَدِّ في الإِسلامِ هو القتلُ، لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَدَّلَ دينَه فاقْتُلوه ".
فالسببُ في إِهدارِ دَمِه والأمْرِ بقَتْلِه ليس مجردَ مخالفتِه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما زَعَمَ الفادي المفتري؛ لأَنَّ الرسولَ - عليه السلام - عفا عن آلافِ الكُفّارِ الذين خالَفوهُ وحارَبوه.
وبسببِ الأُخُوَّةِ في الرَّضاعِ بينَ عبدِ الله بن سعد وبينَ عثمانَ - رضي الله عنه -، فقد رَقَّ له عثمانُ ولم يَقْتُلْه، وأَخفاهُ عن المسلمين.
ثم أَتَى به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وطَلَبَ منه أَنْ يُبايعَه، وكَلَّمه في ذلك ثَلاث مَرّات، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ساكِت؟
لأَنه كارهٌ مبايعَتَه لارتدادِهِ.
وكان - صلى الله عليه وسلم - في سكوتِه يَنتظرُ قيامَ أَحَدِ الصَّحابَة بقَتْلِه، ولكنَّ ذلك لم يَحصل، فبايَعَه - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام! ثم لامَ الرسولُ أَصحابَه على عَدَمِ قَتْلِه، وأَخبرَهم أَنه بسكوتِه كان يُريدُ أَنْ يُعطيَهم الفرصةَ لقَتْلِه، لكن لم يَفْهَموا ذلك..
ولما أَخبروه أَنه كانَ يمكنُ أَنْ يومئَ لهم برأْسِه، بحركةٍ تَدُلُّ
على رغبتهِ في قَتْلِه، أَخبرهم أَنه لا يمكنُ أَنْ يفْعل ذلك؛ لأَنه لا يكونُ للنبيِّ
خائنةُ أَعين!!.
وقد حَسُنَ إِسلامُ عبدِ اللهِ بنِ سعد بن أَبي السَّرحِ - رضي الله عنه - بعد ذلك، وكان والياً على مِصرَ في خلافةِ عُثْمَانَ - رضي الله عنه -، وهو فاتحُ إفريقية، وخاضَ معاركَ عديدةً ظافرةً ضدَّ الكفارِ، في البَرِّ والبَحْر.
وهذا الموقفُ الأَخلاقيُّ العظيمُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ لم يَرْضَ بالإِشارةِ بحركةٍ غير مناسبة، واعتبرَها من خيانَةِ الأَعين، كانَتْ مثارَ انتقادِ واعتراضِ الفادي المجرم، واعتبرها تحريضاً منه على قَتْلِه: " وكيفَ يكونُ محمدٌ نبياً وهو يُؤَمِّنُ عبدَ الله بن سعد على حياتِه، ثم يُحرّضُ الناسَ على قَتْلِه؟! ".(1/694)
ولو حَرَّضَ الناسَ على قَتْلِه لقَتلوه..
ولم يَفعْل شيئاً بعَدَ تأمينه ومبايعتِه على الإِسلام، إِنما كان تَوقُّفُه وسكوتُه قبلَ مبايعتِه له.
فالفادي في كلامه يَكذبُ ويُغالط ويَفْتري ويُحَرّفُ، وهذه طريقتُه في بحثِه ...
***
هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدون معجزات؟
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان بدونِ معجزات، أَيْ أَنّه لم يُقَدِّمْ للناسِ أَيَّةَ آيةٍ أَو معجزة دالَّةٍ على نبوَّتِه.
وهذا كذبٌ وافتراءٌ منه.
وزَعَمَ أَنه لما طلبَ خصومُه منه معجزةً، اعترفَ بعجْزِه التامِّ عن ذلك.
قال: " حاوَلَ اليهودُ والعربُ مراراً أَنْ يَحْملوا محمداً على الإتيانِ بمعجزةٍ،
لتأييدِ دَعْواه بالنبوة.
فاعترفَ بعجْزِه التَّامِّ، وانتحلَ لذلك أَعذاراً ".
وهذا كَذِبٌ مَفْضوحٌ من الفادي المفترِي، فلم يكن الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بدونِ آياتٍ أَوْ معجزات.
وقد آتاهُ اللهُ الكثيرَ من المعجزاتِ المادية، وفي مقدمةِ آياتِه
ومعجزاتِه كان القرآن الكريم.
وعلى هذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ما من الأَنبياءِ من نبيٍّ إِلّا
أُوتيَ من الآياتِ ما مِثْلُه آمَنَ عليه البَشَر، وإنما كان الذي أوتيتُه وَحْياً أَوحاهُ اللهُ إِليَّ، وإِني لأَرجو أَنْ أَكونَ أَكثَرهم تابعاً يوم القيامة ".
ولما كانَ الكافرونَ يَطلبونَ منه معجزاتٍ ماديَّة، ويَزْعُمُونَ أَنه هو الذي
يَختارُ الآيات والمعجزاتِ من نفسهِ، كان يُخبرُهم أَنه لا اختيارَ له للمعجزات؛ لأَنَّها عندَ الله، هو الذي يُنزلُ منها ما يشاء، وقَرَّرَتْ هذه الحقيقةَ آياتٌ كثيرةٌ.
منها قولُه تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) .(1/695)
وقولُه تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) .
وليس هذا الموقفُ خاصّاً برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكلُّ إِخوانِه الأَنبياء هكذا، ومنهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
فلما كانَ أَقوامُهم يَطلبونَ منهم الآيات، كانوا يُخبرونَهم أَنَّ الله هو الذي يَأتيهم بها.
قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
أَمَرَ اللهُ رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يقولَ للكفارِ الذين طَلَبوا منه معجزاتٍ:
(قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) .
وأَمَرَ اللهُ الرسلَ أَنْ يقولوا لأَقوامِهم: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وبذلك يتكامَلُ القولان، ويكونُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كإخوانهِ الأَنبياء السابقين.
وعرضَ الفادي المجرمُ بعضَ آياتِ القرآن التي تُقررُ أَنَّ الآياتِ عندَ الله،
وأَنَّ الله يُنزلُ منها ما يَشاء وفْقَ حكمتِه، ولا اختيارَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لها.
وعَلَّقَ المجرمُ عليها تَعليقاً فاجراً، هاجمَ فيه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفيما يلي بعضُ تعليقاتِه على بعضِ الآياتِ التي أَوردَها:
1 - قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) .
نَقَلَ عن تفسيرِ البيضاويِّ قولَه: " (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) أيْ: ما
صَرَفَنا عن إِرسالِ المعجزاتِ التي اقترحَتْها قريش: (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) : إلّا تكذيبُ الأَوَّلين، الذين هم أَمثالُهم في الطبع كعادٍ وثمود، وإنها
لو أُرسلَتْ لكَذَّبوا بها كتكذيبِ أَولئك ".(1/696)
ثم عَلَّقَ على ذلك بوقاحةٍ وبَذاءَةٍ فقال: " ونحنُ نَسأل: إِنْ كانت الآياتُ
بلا فائدةٍ مُطلَقاً، عندَ الذين عُمِلَتْ معهم قديماً وحديثاً، فلماذا عَمِلَها الله؟
وما الذي يَمنعُ اللهَ عن عَمَلِها على يَدِ محمدٍ، كما عملَها على يَدِ جميعِ الأَنبياءِ الصادقين، كموسى وإيليا واليسع والمسيح؟
هذا عُذْرٌ أَبداهُ محمدٌ للتملُّص فقط، وإِذا كانت الآيات ُ ممتنعةً لتكذيبِ الناسِ إِياها، فلماذا لا يكونُ التبليغُ ممتنِعاً لتكذيبِ الناسِ إِياهُ أَيْضاً؟ ".
لم يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ الآياتِ بلا فائدة، وإِنَّ اللهَ يَعلمُ أهميةَ الآيات ِ للأَنبياء،
ولذلك كان يُعطي كُلَّ نبيٍّ آياتٍ لِقوْمِهِ، دالَّةٍ على صِدْقِ نبوَّتِه، وهذا ما صَرَّحَ به رسولُ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " ما من الأنبياء من نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ... ".
وآيةُ سورةِ الإِسراءِ لا تُلغي الآيات، ولا تَنفي فائدتَها مطلقاً، كما فهمَ
الفادي الجاهلُ منها ذلك لجهْلِه وغَبائِه، إِنما تَنفي استجابَةَ اللهِ لطلب
المشركين إِنزالَ الآيات، فلم يَستجب اللهُ لهم، ولم يُنزل الآياتِ التي طَلَبوها؛ لأَنه يَعلمُ أَنه لو أَنزلَها كما طلبوا فإِنهم لن يُؤْمِنوا بها، وبعدَ ذلك سيعَذَبُهم
ويُهْلكُهم، ولذلك لم يَستجب اللهُ لهم رحمةً بهم، لئلا يُعَذِّبَهم (1) ..
وليس معنى هذا أَنَّ اللهَ لم يُنزل الآياتِ على - النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا على غيرِه من الأَنبياء السابقين.
وهذا ما ذَكَرَهُ البيضاويُّ صَريحاً في تفسيرِ الآية: " وما صَرَفَنا عن إِرسالِ
المعجزاتِ التي اقترحَتْها قريش ...
" فهذا موضوعُ الآية، وهي لا تنفي إِنزالَ المعجزات مطلقاً.
وعلى هذا قولُه تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) .
__________
(1) في عدم استجابة الله تعالى لمقترحات مشركي مكة مدح وتكريم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم طلبوها على وجه الاستبعاد والسخرية، وقد علم الله تعالى أنها لو تحققت مقترحاتهم فلم يؤمنوا، وسنة الله في الأمم المكذبة لرسلها الاستئصال، وقد أكرم الله الأمة برسوله ومصطفاه - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) .
وقال (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) .(1/697)
2 - قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) .
ولما نَقَلَ الفادي المفترِي المجرمُ من تفسير البيضاوي، أَخَذَ بعضَه الذي
يتفقُ مع هَواه، وتركَ بعضَه الضروريَّ لفهمِ الآية.
قال في النقلِ عن البيضاوي: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) : مثلُ ناقةِ صالح، وعصا موسى، ومائدةِ عيسى.
(قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) : يُنزلُها كما يَشاء، لستُ
أَملكُها، فآتيكم بما تَقْتَرحونه..
(وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) : ليس من شأني إِلّا الإنذار ".
وحَذَفَ الفادي المجرمُ من تفسيرِ البيضاويّ الجملةَ الأخيرة، فكلامُ
البيضاويّ هكذا: " ليس من شأني إِلّا الإِنذار، وإِبانَتُهُ بما أُعطيتُ من الآيات"
فَحَذَفَ الجملةَ الأَخيرةَ قاصداً، لأَنها صريحةٌ في أَنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أُوتيَ ما أُوتيَ من الآيات، وهي لا تَخدمُ الفادي المجرم في اتِّهامِه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك حَذَفَها!
وعلى البحثِ والأَمانةِ العلمية السَّلام!!.
وسَجَّلَ الفادي المجرمُ تَساؤُلَه الخبيث: " ونحنُ نسأل: إِذا كانت الآياتُ
عندَ الله، وكان لمحمد صلةٌ بالله كالأَنبياءِ والرسل، فلماذا لم يَسمح اللهُ بتأييدِه بها؟ ".
وجوابُ تساؤلِه موجودٌ في تفسيرِ البيضاوي، الذي نجزمُ أَنَّ المجرمَ
قرأَه، ولكنَّه تجاهلَه ولم ينقُلْهُ، لأَنه يُصرحُ بأَنَّ اللهَ آتى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أَعظمَ آية، هي القرآنُ الكريم.
قال البيضاويّ في تفسير الآية الثانية: " (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
أَوَلَم يكْفِهم آيةٌ مغنيةٌ عما اقْترحوه، أَنا أَنزلْنا عليكَ الكتاب، تَدومُ عليهم تلاوتهُ، ويَدومُ تحدِّيهم به، فلا يَزال معهم آيةً ثابتةً(1/698)
لا تَضمحلّ، بخلافِ سائرِ الآيات، فهذا الكتابُ آيةٌ مستمرة، وحُجَّةٌ
مُبَيِّنة ... ".
3 - قولُه تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) .
اعتبرَ الفادي المفترِي الآيةَ خِطاباً من اللهِ لليهودِ في المدينة، وأَنها رَدّ
على ما طَلَبَه اليهودُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال المفترِي: " قالَ اليهودُ لمحمد: ائتنا بكتابٍ من السماء جُمْلَة، كما أَتى موسى بالتوراة، أَو فَجِّرْ لنا أنهاراً، نتبعْك ونُصدقْك، كما فَعَلَ موسى، فإِنه ضَرَبَ الصخرةَ فانفجرت المياه.
فقالَ لهم: أَم تريدونَ أَنْ تسألوا رسولَكم؟
وسألوه هذا السؤالَ مراراً، وعَجَزَ عن إِجابتِهم بإتيانِ معجزة.
ونحَنُ نسأل: أَليسَ لليهودِ حقّ في سؤالِهم؟
فكيفَ يَعتبرُ محمدٌ نفسَه نبياً، وهو لا يماثلُ الأَنبياءَ في شيء؟! ".
ادعى الفادي الجاهلُ أَنَّ الآيةَ خِطابٌ من اللهِ لليهودِ للإِنكارِ عليهم؛ لأَنهم سأَلوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ما نَسَبَهُ الفادي إِليهم، وهذا ادِّعاءٌ باطل، يدلُّ على جَهْلِهِ.
الخطابُ في الآيةِ من الله للمسلمين وليسَ لليهود، بدلالةِ إضافةِ الرسولِ
إِليهم: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) .
وهو رسولُ اللهِ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -.
والمسلمونَ لم يَسْأَلوا رسولَهم - صلى الله عليه وسلم -، بدلالةِ قوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) .
والهدفُ منه تحذيرهم من السؤال.
وإِذا كان معنى الآيةِ هكذا، يكونُ كلامُ الفادي باطِلاً مردوداً عليه،
عندما اعتبرَها دالَّةً على عدم نبوةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -.
وهناك آيةٌ أُخرى صَرَّحَتْ بأَنَّ اليهودَ سأَلوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إِنزالَ كتاب(1/699)
عليهم من السماء، ورَدَّتْ عليهم.
قال تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) .
يَذُمُّ اللهُ اليهودَ في طلبهم من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُنزلَ عليهم كتاباً من السماء، ويُذَكِّرهم بماضيهم الأَسودِ، فقد سأَلوا موسى - عليه السلام - أَنْ يُريهم اللهَ بعيونِهم، فعاقَبَهم اللهُ بالصاعقةِ التي أَخَذَتْهم.
ولماذا يطلبُ اليهودُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُنَزِّلَ عليهم كتاباً من السماء؟
أَلا يكفيهم القرآنُ الذي أنزلَه اللهُ عليه من السماء؟
وجعَلَهُ آيته البينةَ له!
قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
4 - قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) .
زَعَمَ المفترِي أَنَ اليهودَ لم يَطلُبوا من موسى - عليه السلام - أَنْ يَرَوا اللهَ جهرة.
قال في تعليقِه على هذه الآية: " قالَ رافعُ بنُ خزيمة لمحمد: إِنْ كنتَ رسولاً
من الله كما تقول فقُلْ لله يكلِّمنا حتى نسمعَ كلامَه، أَو اصْنَعْ آيةً حتى نؤمنَ بك..
فأَجابَه: إِنَّ اليهودَ سألوا موسى أَن يريهم اللهَ جهرة.
وهذا الجوابُ خَطَأ، لأَنَّ اليهودَ سأَلوا عَكْسَ ذلك، وقالُوا لموسى:
تكلَّمْ أَنتَ معنا فنسمع، ولا يتكلمُ اللهُ مَعَنا لئلا نَموت!.
ونحنُ نسأل: أليسَ من حَقِّ الناسِ أَنْ يَفْحَصوا كُلَّ رسالة يقولُ
صاحبُها: إِنها من عندِ الله ".
أَخبرَ اللهُ أَنَّ الذين لا يَعلمونَ طَلَبوا أَنْ يُكَلِّمَهم اللهُ مباشرة، أَو يأتيَهم
الرسولُ - عليه السلام - بآية.
والمرادُ بهم اليهودُ في المدينة، وهذا الطلبُ الذي طلَبوهُ من
الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يُشابِهُ الطلبَ الذي طَلَبَه آباؤُهُم من موسى - عليه السلام -.(1/700)
وقد أَخْبَرَنا اللهُ أَنهم طلبوا من موسى - عليه السلام - أَنْ يَروا اللهَ جهرة.
قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) .
ولما طلبَ اليهودُ في المدينةِ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُنزلَ عليهم كتاباً من السماءِ ذَكَّرَهُمُ اللهُ بما طَلَبَه آباؤُهم من موسى - عليه السلام -.
قال تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) .
ورغم هذه الآياتِ الصريحةِ التي أَخبرتْ عن قولِهم وطلبِهم إِلّا أَنَّ
الفادي المفتريَ المجرمَ خَطَّأَها وكَذَّبها، وقال في تكذيبه: " أَجابَهُ أَنَّ اليهودَ
سألوا موسى أَنْ يُريهم الله جهرة، وهذا خطأ، لأَنَّ اليهودَ سَألوا عكسَ
ذلك ... "!!.
5 - قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) .
نقلَ الفادي في سببِ نزولِ الآيةِ أَنها أُنزلَتْ للرَّدّ على طلبِ قريش،
عندما طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يأْتيهم بآيةٍ، مثل الآياتِ التي جاءَ بها الأَنبياءُ السابقون، كموسى وعيسى وصالح - عليهم السلام -، وزَعَمَ أَنه وافَقَهم ودعا الله.
قال: " قالَتْ قريش: يا محمد: إِنك تخبرُنا أَنَّ موسى كانت له عصا يَضربُ بها الحجر، فتنفجرُ منه اثنتا عشرةَ عيناً، وتخبرُنا أَنَّ عيسى كان يُحيي الموتى، وأَنَّ ثمودَ لهم ناقة، فأتِنا بآيةٍ حتى نُصَدِّقَك ونؤمنَ بك ...
فقال محمد: أَيّ شيءٍ تُحبون؟
قال: تجعلُ لنا الصفا ذهباً، وابعثْ لنا بعضَ موتانا نسأَلْهم
عنك: أحقٌّ ما تَقولُ أَم باطل؟
وأَرِنا الملائكة يَشهدونَ لك..
فقال محمد: إِنْ فعلْتُ بعضَ ما تقولون أَتصدقونَني؟
قالوا: نعم والله، لئن فعلْتَ لنتبعنَّك أَجمعين..
وسأَلَ المسلمون محمداً أَنْ يُنزلَها عليهم حتى يؤمنوا، فقامَ محمد
وجعلَ يدعو اللهَ أَنْ يَجعَل الصفا ذهباً، فجاءَه جبريل فقال: إِنْ شئتَ أَصبحَ(1/701)
الصَّفا ذَهباً، ولكن إِنْ لم يُصَدِّقوك لنعذبنَّهم، وإِنْ شئت تركْتَهم حتى يتوبَ
تائبُهم..
فقال محمد: أَتْرُكُهُم حتى يتوبَ تائبُهم..
وهكذا تخلَّص مَحمدٌ أَنْ يأتيَ بمعجزة!.. ".
صحيحٌ أَنَّ قريشاً طَلبُوا من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يأتيَهم بآياتٍ ليؤمنوا به، كتحويلِ الصَّفا ذَهَباً، أَو إِنزالِ الملائكةِ عليهم، أو إِحياءِ آبائِهم الأَموات، وهذا ما أَشارتْ له الآية..
لكنَّه ليس صحيحاً استجابةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لطلبِهم،
وأَنه دعا اللهَ أَنْ يَجعلَ لهم الصَّفا ذهباً، وأَنَّ جبريلَ حَدَّثَه بالأَمر، فتوقَّفَ عن الدُّعاء حتى لا يَهلكوا..
كما ادَّعى الفادي المفترِي، وخَرَجَ من هذه الروايةِ
المردودةِ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - تخَلصَ وتهرَّبَ من الإتيان بمعجزة.
لم يطلب الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - من ربِّه أَنْ ينفِّذَ لهم ما طَلَبوا منه؛ لأَنه يَعلمُ أَنَّ الآياتِ والمعجزاتِ بيد الله، وهذا ما صرَّحَتْ به آياتُ القرآن.
كقولِه تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) .
6 - قولُه تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) .
تُسجّلُ هذه الآياتُ بعضَ الطلباتِ التي طَلَبَها كفارُ قريشٍ من
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: طَلَبوا منه أَنْ يُفَجِّرَ لهم الينابيعَ من الأَرض، أَو تكونَ له جنةٌ(1/702)
من نخيلٍ وعنبٍ تتفجرُ الأَنهارُ خلالَها، أَو يُسقطَ السماءَ عليهم، أَو يصعدَ هو في السماء، وَيَنْزِلَ عليهم منها بكتابٍ خاص، موجَّهٍ من الله لهم،..
ورَدَّ على هذه الطلباتِ التعجيزيةِ بقولِه لهم: سبحانَ رَبّي، هل كنتُ إلّا بشراً رسولاً.
أَيْ ما أَنا إِلا بَشَرٌ رسول، لا دَخْلَ لي في المعجزات، فأَنا لا أَختارُها
ولا أَفْعَلُها؛ لأَنَّها عند الله، يُنزلُ عليَّ ما شاءَ منها، وأَنا أُقدمُ لكم ما آتاني
منها.
وقد فهمَ الفادي الجاهلُ الآياتِ فهماً خاطئاً، وجعلَها دالَّةً على عَدَمِ
نبوَّتِه.
قال المجرم: " ونحن نسأل: أَلم يكنْ موسى وإِيليا وأَليشع ودانيال من
البشر الرُّسُل؟
ومع ذلك كانوا أَصحابَ معجزات، فإِنْ كانَ محمدٌ صاحبَ
رسالةٍ سماويةٍ فلماذا لا تساندُ السماءُ رسالتَه؟! ".
إِنَّ الجاهلَ يَظُنُّ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بدونِ معجزات، ولو كانَ اللهُ أَرسلَه لسانَدَه وأَيَّدَه بها، وهذا ظَنٌّ باطلٌ وَقَعَ فيه المفترِي الجاهل!
لقد آتى اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أَعظمَ آيةٍ عقليةٍ بيانية، مستمرةٍ حتى قيامِ الساعة، وهي القرآنُ العظيم..
كما آتاهُ كثيراً من الآياتِ الماديةِ المحسوسة، مثلُ: شَقِّ صَدْرِه، والإِسراءِ والمعراج، وانشقاقِ القمر ...
والجاهلُ مصممٌ على جَهْلِه وافترائه، وسوءِ فهمِه للحقائق، ولذلك ذَكَرَ
سبْعَ آياتٍ متفرقة، واعتبرَها دَليلاً من القرآنِ على أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لم يُؤْتِه اللهُ أَيةَ معجزة!.
الآياتُ التي أَساءَ فَهْمَها والاستدلالَ بها هي:
1 - قولُه تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) .(1/703)
لا تَدُلُّ الآيةُ على أَنَّ الله لم يُؤْتِ رسولَه أَيَّةَ معجزة، إِنما تدلُّ على أَنه
مهما قَدَّمَ من الآياتِ والمعجزاتِ لأَهْلِ الكتاب فلن يُصَدِّقوهُ، ولن يَتَّبِعوا
قبلَتَه، لأَنهم يَتَّبعون أَهواءَهم.
2 - قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) .
لا تَدُلُّ الآيةُ على أَنَّ اللهَ لم يُنَزِّلْ على رسولِه أَيةَ معجزة، إِنما تَرُدُّ على
الكفار، الذين عَلَّقوا إِيمانَهم بالحقِّ على إِنزالِ الآيةِ التي طَلَبوها، وتُخبرُهم أَنَّ الإِيمانَ ليس مُعَلَّقاً على إِنزالِ الآيات، لأَنَّ اللهَ يُضِلّ مَنْ يَشاء، ويَهدي إِليه مَنْ أَناب.
3 - قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) .
لا تدلُّ الآيةُ على أَنَّ القرآنَ ليس آيةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإِنما تَدُلّ على أَنَّ اللهَ لو خاطَبَ بالقراَنِ الأَرضَ أَو الجبالَ أَو الموتى لأَثَّر فيهم، ولو أَرادَ ذلك لفَعَل، لأَنه لا يمنَعُه من ذلك أَحَد.
ولكنَّه لم يَشأْ، وإِنما خاطبَ بالقرآنِ الإنسانَ.
4 - قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) .
لا تَدُلُّ الآية ُ على أَنَّ الله لم يُؤْتِ رَسولَه مُعجزة، وإِنما تُصرحُ بأَنَّ اللهَ
كان يُؤْتِيه كثيراً من الآيات، ولكنَّ الكفَّارَ مُعانِدون، يَرفضونَ قَبولَ الحَقِّ، ْ
فعندما كانتْ تَأتيهم الآية ُ من عند الله، كانوا يُصِرُّون على كفرِهم ويقولون: لن نؤمن حتى نُؤْتى مثْلَ ما أُوتيَ رسلُ الله!!
5 - قولى تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) .(1/704)
لا تدلّ الآيةُ على أَنَّ اللهَ لم يُؤْتِ رسولَه معجزة، إِنما تَرُدُّ على طلبِ
الكفارِ آياتٍ مخصوصة، وتُخبرهم أَنَّ إِنزالَ الآياتِ ليس خاضِعاً لطَلَباتهِم
وأَهوائِهم، وإنما يُنزلُ اللهُ منها ما يَشاءُ وفقَ حكمتِه سبحانه.
6 - قوله تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) .
لا تدلُّ الآيةُ على أَنَّ الله لم يؤْتِ رسولَه معجزة، إِنما تُقَدِّمُ رَدّاً آخَرَ على
ما طَلَبَة منه المشركون، حيثُ كانوا يَطلبونَ منه أَنْ يَجْتبيَ ويَصطفيَ ويختارَ
الآياتِ التي يَطلبونها، أَيْ أَنه هو الذي يَأتي بها، فَرَدَّ عليهم بأَنه لا دَخلَ له
في اختيارِ المعجزات، لأَنه يَتَّبعُ وَحْيَ الله، ويتلَقّى الآياتِ التي يُؤْتيهِ اللهُ
إِياها، ويُقَدِّمُها لهم، وكلُّ ما آتاهُ الله من الآياتِ قَدَّمَه لهم ...
7 - قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) .
لا تدلُّ الآيةُ على أَنَّ اللهَ لم يُؤْتِ رسولَه معجزة، إِنما تَرُدُّ على طَلَبِ الكفارِ
إِنزالَ الآياتِ التي يَطلبونَها منه، وتُخبرهم أَنَّ إِنزالَ الآياتِ خاضغ لحكمةِ الله، وليس لطلباتِهم، ولا لاختيارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مُنذرٌ يبلِّغُهم وَحيَ الله.
وهكذا رأينا أَنه لم تَنْفِ آية واحدة من الآياتِ السبع وُجودَ معجزةٍ مع
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِنَّ كُلَّ آيةٍ رَدَّتْ على طلبٍ للمشركين، أَو قَدَّمتْ حقيقةً متعلقةً بالآياتِ والمعجزات.
ولْننظر الاَنَ كيفَ فهمَ الفادي المجرمُ هذه الآياتِ السبع، وكيفَ
استنْطَقَها، وما هي النتيجةُ التي خَرَجَ بها منها في نفي نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟
قال فَضّ اللهُ فاه: " ففي جميعِ هذه الآيات ِ يعترفُ القرآنُ أَنَّ محمداً لم يَأتِ
بمعجزةٍ واحدة.
وأَما الأَسبابُ التي انتحلَها واعتذَرَ بها فمردودة..
فالمعجزاتُ التي عملَها الأَنبياءُ أمامَ الشعوب الأَوَّلين، آمَنَ بها البعض، بينما
رفَضَها البعضُ الآخَرُ.
وعليه فالقولُ: (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) .(1/705)
عُذْرٌ مرفوض.
ولو كانَ القرآنُ معجزةً لكان قال: هاكمُ القرآنُ معجزة!! وما كانَ
ليقول: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)
لم يَأتِ محمدٌ بآيةٍ مُطْلقاً تُثْبتُ أَنه رسولٌ مُشرِّع، ولا حَتَّى القرآن ... ".
إِنَّ هذا القولَ الفاجرَ مردودٌ على الفادي المفترِي، ولقد آتى اللهُ نبيَّه
محمداً - صلى الله عليه وسلم - كثيراً من المعجزاتِ المادية، التي أَشَرْنا لها فيما مضى.
وهذا يُكَذّبُ قولَ المجرم: " لم يأتِ محمدٌ بآيةٍ مطلقاً تُثبتُ أَنه رسولٌ مُشَرّع "!.
أَما قولُه الفاجر: " لو كان القرآنُ معجزةً لكان قال: هاكم القرآنُ
معجزة ".
فإِنه يدلّ على جَهْلِه وغَبَائِه! إِنَّ هذا هو الذي حَصَل، فلما طَلَبَ
الكفارُ معجزةً من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال لهم: هاكم القرآنُ معجزة! وهذا ما وردَ في صريحِ قولِه تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) .
***
اتهامات الكفار للرسول - صلى الله عليه وسلم -
رَدَّدَ الفادي المفترِي الاتهاماتِ التي وَجَّهَها الكفارُ من المشركين
والمنافقينَ واليهود لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والتي ذَكَرَها القرآن، ثم نَقَضَها وأَبْطَلَها، لكنَّ الفادي المجرمَ اعتمدَها وقالَ بها، واتَّهمَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بها، واعتبرَها وثيقةَ(1/706)
إِدانةٍ له..
قالَ في مقدمةِ تلك الاتهامات: " انتقدَ العربُ محمداً، ولاموهُ على
الكثير.
وقد أَورَدَ ذلك في قرآنِه، مع الردودِ عليه.. ".
ما زالَ يؤكدُ على أنَّ القرآنَ منسوبٌ إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَنه هو الذي أَلَّفَه، وأَوردَ فيه ما يُريد، وحَذَفَ منه ما لا يُريد!!.
والاتهاماتُ الموجهةُ ضدَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هي:
1 - مَجنون: ووردَتْ في قولِه تعالى إِخباراً عن قولِ المشركين: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) .
وقد اعتمدَ المجرمُ هذه التهمةَ في قوله: " فقد اتَّهموهُ بالجنون، الذي هيأ
له أَوهامَ الوحي والملائكة ".
أَيّ أَنّه لا وحيَ في الحقيقة، وإِنما هو أوهامٌ وتخيُّلاتٌ كان يَمُرُّ بها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، فيصدِّقُ أَنه رأى جبريل، وأَنه تلقى منه
الوحي، مع أَنه لا جبريلَ ولا وحيَ؛ لأَنه مجنون!!.
وقد رَدَّ القرآنُ على هذه التهمةِ بعدة آيات، نكتفي منها بتذكُّرِ قولِه
تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) .
وقد كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَريصاً على تأكيدِ وعْيِه وحضورِه وانتباهِه، عندما يأتيه الوحي.
فقد سألَه الحارثُ بنُ هشام - رضي الله عنه - فقال: يا رسولَ الله!
كيفَ يأتيكَ الوحي؟
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحْياناً مثلُ صلصلةِ الجَرَس، فيفْصِمُ عَنّي وقد وعيتُ ما قال، وأَحياناً يتمثلُ لي المَلَكُ رَجُلاً فيكلِّمُني، فأَعي ما يقول ".(1/707)
ولا يُمكنُ أَنْ يكونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجنوناً، وشخصيتُه معروفَة، وأَقوالُه في حياتِه معلومة، وجهودُه في الدعوةِ والحركةِ معلومة، ونَجاحُه في دعوتِه وانتشارُ دينِه في حياتِه معروف، ولو كان مجنوناً لما كانت نتائجُ رسالتِه في حياتِه على ما هي عليه!.
2 - مُفْتَرٍ: والمفتري هو الكاذبُ المدَّعي، الذي يَقلبُ الحقائقَ، ويَنسبُ
القول إِلى غيرِ قائلِه كَذِباً وزُوراً.
وقد اتهَمَ الكفارُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأَنه مُفْتَرٍ كاذب، وأَخبرَ اللهُ عن اتّهامهم في قولِه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) .
وفي قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) .
وقد صَدَّقَ الفادي المجرم هذه التهمة، وأَلْصقَها برسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
قال: " لقد رأَوْا محمداً يأْمُرُ أَصْحابَه بأَمْر، ثم يَنهاهم عنه، ويأمُرُهم بخلافِه، ويقول اليومَ قولاً، ويَرجعُ عنه غداً.
فقالوا: إِنَّ ما تقولُه إِنما هو من تلقاءِ نفسِك؟
لأَنه لو كانَ كلامَ الله لكانَ ثابتاً، لا يُنْسَخُ ولا يَتَغَيَّرُ.. ".
وَنَزَّهَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - عن تهمةِ الافتراء، في آياتٍ كثيرة، منها قولُه تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) .
وبَيَّنَ اللهُ أَنه لا يَسمحُ لأَحَدٍ في أَنْ يتقوَّل ويَفْتَريَ ويكذبَ عليه، حتى لو
كان رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، وحاشاهُ أَنْ يَفعلَ ذلك.
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) .
أَيْ: لو تَقَوَّل وكَذَبَ وافترى علينا لذَبَحْناه! بأَنْ نأخُذَه من يَمينِه،(1/708)
ثم نقطعَ وَتينَه وعُنُقَه، ولن يَجِدَ أَحَداً ينصرُه أَو يحجزُه ويوقفُ عنه الذبح!!.
وبَيَّنَ أَنَّ المفتريَ على اللهِ هو أَظلمُ الظالمين، وأَنَّ اللهَ لن يُوَفِّقَ مفترياً
أَبداً.
قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
وهذه شهادةٌ من اللهِ لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - بالصِّدْق، فلو كان مفترياً لأَهلكَه اللهُ وقضى عليه، ولَمَا وَفَّقَه وأَيَّدَه
ونَصَرَه ونَشَرَ دَعوته.
إِنَّ هذا النجاحَ الكبير لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دليل على أَنَّ اللهَ هو الذي يَسَّرَه له، وهذا دليلٌ على أَنه رسولُ اللهِ فِعْلاً، - صلى الله عليه وسلم -.
والنسخُ في الفرآن الذي لا يَمَلُّ الفادي المفترِي من الكلامِ عليه
وانتقادِه، سَبَقَ أَنْ ناقَشْناهُ فيه في أَكْثَرَ من موضع، وهو لا يَدُلُّ على افترائهِ
وكذبِه - صلى الله عليه وسلم -، لأَنه لم يَدَّعِ أَنه هو الذي يَنسخُ ويُغَيِّرُ ويُبَدِّلُ في الأَحكام، وإِنما اللهُ هو الذي يَنسخُ ما يَشاء، وبما أَنَّ الفعلَ فعلُ الله، فهو فَعَّال لما يُريدُ - عز وجل -.
قال الله - عز وجل -: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) .
3 - مسحور: اتهمَ الكفارُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَنه مسحور، سيطرَ عليه الجنُّ والشياطين، وحَرَّكوه كما يريدون.
وقد ذَكَرَ القرآنُ هذه التهمة التي وَجَّهوها له.
قال تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) .
وقال تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) .
وقد رَدَّدَ الفادي المفترِي هذه التهمة، وأَلصقَها برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وحَكَم عليه بأَنه مسحورٌ قال: " لقد شاهَدوه مريضاً ناسياً، يَشكو من الساحراتِ النفاثات في العُقَد، ويَستعيذُ من فعلهنّ، فقالوا: لا شكَّ أَنه مسحورٌ مَغلوبٌ على عقله.. ".(1/709)
وقد سبقَ أَنْ ناقشْنا الفادي المفترِي في مسألةِ سِحْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّ السحرَ لم يُؤَثّرْ إِلّا في جانبٍ من بَدَنِه، وأَنَّ ذلك لم يستمرَّ إِلّا ساعات، ثم عافاهُ اللهُ منه!.
وهذا معناهُ أَنَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يكُنْ مَريضاً، ولم تُؤَثَرْ فيه الساحرات، ولم يكنْ مغلوباً على عَقْلِه، وما كلامُ الفادي السابقُ إِلّا افتراءً كبيراً.
4 - أُذُن: اتهمَ المنافقونَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بأَنه أُذُن، أَيْ أَنه ساذجٌ مُغَفَّل، يُصَدِّقُ كُلَّ ما يَسمع، ويُمكنُ خِداعُه بسهولةٍ، وقد ذَكَرَ القرآنُ هذه التهمة ثم رَدَّ عليها.
قال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) .
ونَقَلَ الفادي كلامَ البيضاويّ في معنى الآية.
ونَقَلَ ما قالَه المنافقون في اتهامِهم له: " روِيَ أَنهم قالوا: محمدٌ أُذُنٌ سامِعَة، نقولُ ما شئْنا، ثم نأتيه فيصدّقُنا بما نَقول ".
وذِكْرُه لقولِ المنافقين، وسكوتُه عنه، إِقرارٌ منه له.
أَيْ أَنّ الفادي المفتريَ مع المنافقينَ في اتهامِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بأَنه أُذُنٌ ساذج، يَسهلُ خداعُه!.
وما أَجملَ ما رَدَّ به القرآنُ هذه التهمةَ: إِنَّه - صلى الله عليه وسلم - أُذُنُ، يُحسنُ الاستماعَ بأُذُنِه، ويَعي ما يسمَعُه..
وقد استمعَتْ أُذُنُه الشريفةُ القرآنَ من جبريلَ - عليه السلام -، ثم قَدَّمَه للمسلمين، وبهذا كان أُذُنَ خيرٍ للمؤْمنين.
وقد كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذكى الناسِ، وأَكْثَرَهم فِطْنَة، وأَرجَحَهم عَقْلاً، مُنَزَّهاً عن السذاجةِ والبَلاهةِ والغَفْلة.(1/710)
هل مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسموماً؟
ذَكَرَ الفادي الجاهلُ عِنواناً مُثيراً هو: " موتُه بتأثيرِ السّمّ ".
وسَجَّلَ تحت هذا العنوانِ قولَه تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) .
ثم نَقَلَ الفادي عن البيضاويِّ معنى هذه الآية، ومناسبةَ نُزولها، وحادثةَ
اعتداءِ المشركين على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزوةِ أُحُد، وما أَشاعوهْ من أَنه قد قُتِلَ، وتَأَثُّرِ بعضِ الصحابة بما سمعوه، حتى حَزِنَ بعضُهم وأَلْقى السلاح.
ثم ذَكَرَ قصةَ الشاةِ المسمومة التي حَشَتْها اليهوديةُ في غزوةِ خَيْبَرَ، وقَدَّمَتْها للرسول - صلى الله عليه وسلم -، محاوِلةً قَتْلَه.
وخَرَجَ الجاهلُ منها بأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ماتَ مسموما" (1) .
صَحيحٌ أَنَّ المرأةَ اليهوديَّةَ سَمَّمَتْ شاةً ثم شَوتْها وقَدَّمَتْها للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وكَثرَتْ من السُّمِّ في الكَتِفِ؛ لأَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحبُّ الكَتِف..
ولما قُدِّمَ الكتفُ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَ في فَمِه لقمةً منها وَمَضَغَها، ثم لَفَظَها وأَخْرَجَها ولم يَبْلَعْها، وقال: إِنَ هذا الذراعَ يُخبرُني أَنه مسموم..
وقد تناول بِشْرُ بنُ البراءِ - رضي الله عنه - لُقمةً منه وابتعلها، وماتَ فوراً من شدةِ وقوةِ السّمّ.
واستدعى الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - اليهودية، وقالَ لها: ما حَمَلَكِ على ما صَنَعْتِ؟
قالَتْ: يا أَبا القاسم، إِني كنتُ أَعلمُ أَنك إِنْ كنتَ رسولاً فسيحْميك اللهُ، وإِنْ كنتَ كاذباً متَّ واسْتَرَحْنا منك!.
وأَمَرَ بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقُتِلَتْ قِصاصاً؛ لأَنها قَتَلَتْ بِشْرَ بنَ البراء بن معرور - رضي الله عنه - بالسّمّ.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
50- مات النبى صلى الله عليه وسلم بالسم
الرد على الشبهة:
حين تصاب القلوب بالعمى بسبب ما يغشاها من الحقد والكراهية يدفعها حقدها إلى تشويه الخصم بما يعيب، وبما لا يعيب، واتهامه بما لا يصلح أن يكون تهمة، حتى إنك لترى من يعيب إنساناً مثلاً بأن عينيه واسعتان أو أنه أبيض اللون طويل القامة، أو مثلاً قد أصيب بالحمى ومات بها، أو أن فلاناً من الناس قد ضربه وأسال دمه؛ فهذا كأن أو أن تعيب الورد بأن لونه أحمر مثلاً؛ وغير ذلك مما يستهجنه العقلاء ويرفضونه ويرونه إفلاسًا وعجزًا.
أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدمت له امرأة من نساء اليهود شاة مسمومة فأكل منها فمات صلى الله عليه وسلم.
وينقلون عن تفسير البيضاوى:
أنه لما فتحت خيبر واطمأن الناس سألت زينب بنت الحارس - وهى امرأة سلام بن مشكم (اليهودى) - عن أى الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: إنه يحب الذراع لأنه أبعدها عن الأذى فعمدت إلى عنزة لها فذبحتها ثم عمدت إلى سمّ لا يلبث أن يقتل لساعته فسمَّت به الشاة، وذهبت بها جارية لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا محمد هذه هدية أهديها إليك.
وتناول محمد الذراع فنهش منها.. فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع والكتف تخبرنى بأنها مسمومة؛ ثم سار إلى اليهودية فسألها لم فعلت ذلك؟ قالت: نلت من قومى ما نلت ... وكان ذلك بعد فتح " خيبر " أحد أكبر حصون اليهود فى المدينة وأنه صلى الله عليه وسلم قد عفا عنها.
ثم يفصحون عن تفسير البيضاوى:
أنه صلى الله عليه وسلم لما اقترب موته قال لعائشة - رضى الله عنها - يا عائشة هذا أوان انقطاع أبهرى (1) .
فليس فى موته صلى الله عليه وسلم بعد سنوات متأثرًا بذلك السُّم إلا أن جمع الله له بين الحسنيين، أنه لم يسلط عليه من يقتله مباشرة وعصمه من الناس وأيضًا كتب له النجاة من كيد الكائدين وكذلك كتب له الشهادة ليكتب مع الشهداء عند ربهم وما أعظم أجر الشهيد.
وأيضًا.. لا شك أن عدم موته بالسم فور أكله للشاة المسمومة وحياته بعد ذلك سنوات يُعد معجزة من معجزاته، وعَلَمًا من أعلام نبوته يبرهن على صدقه، وعلى أنه رسول من عند الله حقًا ويقينًا.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يموت فى الأجل الذى أجله له رغم تأثره بالسم من لحظة أكله للشاة المسمومة حتى موته بعد ذلك بسنوات. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الأبهران عرقان متصلان بالقلب وإذا قطعا كانت الوفاة.(1/711)
ولم يُؤَثِّر السّمُّ في رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنه اكتفى بمضْغِ اللقمةِ من اللَّحمِ المسَمَّم، ثم لَفَظَها وأَخْرَجَها، وقال: يُخْبِرُنِي هذا الذراعُ بأَنه مسمومٌ.
وهذا معناه أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يَمُتْ بتأثيرِ السُّمّ، كما زَعَمَ الفادي المفتري، ولو ماتَ بتأثير السُّمِّ لماتَ فوراً، أَو بعدَ ساعاتٍ أَو أَيامٍ أَو أَشهر، مثلُ بشْرِ بنِ البراء الذي ماتَ فوراً.
وقد عاشَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد حادثةِ السُّمِّ
أَكثرَ من ثَلاثِ سنوات! حيثُ كان فَتْحُ خيبرَ في محرم من السنةِ السابعة
للهجرة، وتُوُفِّي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأَول من السنةِ الحادية عشرة.
صحيحٌ أَنه بَلَعَ أَثَرَ السّمّ، لكنَّ هذا الأَثَرَ لم يُؤَدِّ إِلى وفاتِه " لأَنَّ اللهَ
تكفَّلَ بحمايتِه وعصمتهِ من الأَعداء، فكم حاولَ الأَعداءُ اغتيالَه وقَتْلَه،
ولكنَّ اللهَ عَصمَه وحَماه، وأَخبره عن ذلك في قولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) .
وصحيحٌ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعائشةَ - رضي الله عنها -: "ما زلْتُ أَجِدُ أَثَرَ السّمّ الذي قُدّمَ لي في خيبر ".
وأَنه قالَ لها أَيضاً: " هذا أَوانُ انْقِطاعِ أَبهَري ".
وهذا معناه أَنه كان يَمْرَضُ من أَثَرِ ذلك السم، وكانَ أكبرَ الأَثَرِ على
أَبهَره، وهو وَريدُه، لكنْ فرقٌ بين أَنْ نقول: كان يَمرضُ من أَثَرِ السم، وبينَ أَنْ نقولَ: ماتَ متأثراً بالسم.
***
حول أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الوحي
أَثارَ الفادي المفترِي الشبهاتِ حولَ أَحوالِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما كانَ يَأتيه الوحي، وَوَجَّهَ الاتهاماتِ له في عَقْلِه ونَفْسِه وأَعْصابِه، مما يدلُّ على أَنَّه ليس رسولاً، وأَنَّ الذي يتخيَّلُه ليس وحياً.(1/712)
1 - الرسول المزمل المدثر:
قالَ الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) .
والمُزَّمِّلُ هو المتَغَطي بثيابِه.
ونقلَ عن تفسرِ البيضاوي معاني الآيات الأولى من السورة.
وقال - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) .
والمُدَّثِّرُ هو المتَغَطّي بثجابِه أَيْضاً، ونقلَ عن تفسيرِ البيضاوي معاني آياتِ السورة.
ومع تحفُّظِنا على بعضِ ما وَرَدَ في تفسيرِ البيضاوي، من رواياتٍ وأَخبارٍ
غيرِ دقيقة، أَو مرجوحة، إِلّا أَنّنا لن نتوقَّف معها، وننتقلُ مع الفادي المفتري
لنرصدَ شبهاته واتهاماتِه وافتراءاتِه.
2 - هل صورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صورة السكران؟ :
قال الفادي المفترِي: " جاءَ في الأَحاديث الصحيحة أَنَّه إِذا نَزَلَ عليه
الوحْيُ يُغْشى عليه، لتغيُّره تَغَيُّراً شديداً، حتى تصيرَ صورَتُه كصورةِ السَّكْران.
وقال علماءُ المسلمين: إِنه كانَ يُؤْخَذُ من الدنيا ".
وفي هذا الكلامِ مُغالطاتٌ وافتراءات، أَطْلقَهَا الفادي المجرمُ ضدَّ
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونَسَبَها لعلماءِ المسلمين.
أَمّا أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَأَثَّرُ بالوَحْي، وأَنه كانَ يُغْشى عليه من ثقَلِ الوَحْي، فهو صحيح.
وهذا ما وَرَدَ في الأَحاديثِ الصحيحة.
ونكتفي من هذه الأَحاديث بالحديثِ الثاني من صحيحِ البخاري، حيثُ
روى البخاريُّ عن عائشة - رضي الله عنها -: أَن الحارثَ بنَ هشام - رضي الله عنه - سأَلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله، كيفَ يَأتيك الوَحْي؟
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحْياناً يأْتِيني مثل صَلصلة الجَرَسِ، وهو أشَدُّه علَيَّ، فيفصمُ عني وقد وَعَيْتُ عنه ما قالَ، وأحْيَاناً يتمثَّلُ لي المَلَكُ رَجُلاً فيكَلِّمُني، فأعي ما يقول ".
قالَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - " ولقد رأيْتُه يَنزِلُ عليه الوحْيُ في اليومِ الشَّديدِ البَرْدِ، وإِنَّ جبينَه ليتفَصَّدُ عَرَقاً ".(1/713)
يعترفُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنه كانَ يُعاني شِدَّةً من نُزولِ الوحي عليه، وتشهدُ عائشةُ - رضي الله عنها - لذلك بأَنها رأَتْه يَنزلُ العرقُ من جبينِه في اليومِ الشديدِ البَرْد.
لكنَّ هذه الشدةَ التي كانتْ تقعُ به عندما يَغشاهُ الوحيُ، لم تُؤَدّ إِلى تَغَيُّرِه
هو في بَدَنِه وجسْمِه، وفي نَفسيَّتهِ وأَعصابه، ولم تتغيَّرْ صورتُه تغيُّراً سلبيّاً.
وقد كانَ الفادي بَذيئاً فاجرا عندما شَبَّهَ صورَتَه بصورةِ السكران، وصورةُ
السكران صورةٌ كريهةٌ مُقَزّزة، وكيفَ تُشَبَّهُ بها صورةُ أَشرفِ الخلقِ وأَكرمِهم وأَطيبِهم - صلى الله عليه وسلم -، وهو في أَشرفِ أحوالِه، حيث يتلقّى كلامَ الله وهو في غايةِ السعادةِ والسرور، والوعي والانتباه..
لكنّ الفادي مجرمٌ مفتر، قالَ كَلاماً لم يَقُلْهُ أَحَدٌ من المسلمين.
وافترى المفترِي افْتراءً آخَرَ عندما نَسَبَ لعلماءِ المسلمين قولَهم: إِنَّ
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤْخَذُ من الدنيا! أَيْ أَنّه كان يَغيبُ عن الدنيا بفكْرِه وعَقْلِه، ويَسرحُ في تخيّلاتِه..
ونأخذُ من كلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبلغَ رَد على هذا، حيثُ كانَ يركزُ على وَعْيِهِ وحُضورِه وانتباهِهِ، للدلالةِ على أَنه يعيشُ الحَدَثَ بكيانِه كُلّه: " فيفْصمُ عنّي وقد وعيتُ ما قال ".
3 - غطيط الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند الوحي:
نَسَبَ الفادي إِلى أَبي هريرة - رضي الله عنه - قولَه: " كانَ محمدٌ إِذا نَزَلَ عليه الوحْيُ استقبلَتْهُ الرّعْدَة.
وفي روايةٍ: كَرِبَ لذلك، وتَزَبَّدَ له وجْهُه، وغَمَّضَ عَيْنَيْه،
وربما غَطَّ كغطيط الإِبِلِ ".
صَحيحٌ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَغُطُّ عندما يَغْشاهُ جبريلُ - عليه السلام -، وذلك من ثِقَلِ الوحي، والغَطيطُ قَريبٌ من الشَّخير، وهو إِخراجُ الصوتِ من الأَنْفِ، وهذا أَمْرٌ عاديّ يمرُّ به أَيُّ شخصٍ عندما يبذلُ جهداً كبيراً، أَو يصعدُ مرتقى، وقد يَصدرُ عن كثيرٍ من النائمين، وهو ليسَ حالَةً مرضيَّة.(1/714)
أَمَّا أَنْ يَرتعدَ جسْمُه ويَرتعشَ ويَنتفضَ، كما ادَّعى المفترِي، فهو غيرُ
صحيح، وأَمّا أَن يكونَ غَطيطُه بصوتٍ مُرتفعٍ مُزعجٍ كَغَطيط الإِبل، فهو غَيْرُ صحيحٍ أَيْضاً، وأَمَّا أَنه كان يَسْودُّ وجْهُه، ويخرجُ الزَّبَدُ من فمِه كما ادّعى هذا المجرمُ، فهو غيرُ صحيحٍ أَيضاً؛ لأَنَّ هذه حالةٌ مرضية، تدلُّ على أَمراضٍ نفسيةٍ عصبيةٍ حادة!
وهذه تَنَزَّه عنها أَشرفُ وأَعقلُ الخلقِ - صلى الله عليه وسلم -.
4 - صوت كدويِّ النحل:
نَقَلَ الفادي قولَ عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -: "كان إِذا نزلَ عليه الوحي، يُسْمَعُ عند وَجْهِه كَدَوِيِّ النَّحْل! ".
وهذا كلامٌ صحيح؛ لأَنَّ هذا الصوتَ الذي يُدَوّي هو صوتُ نُزولِ
جبريل - عليه السلام - عليه، ووصولِه إِليه.
5 - صوت كصلصلة الجرس:
نَقَلَ الفادي قولَ عائشةَ - رضي الله عنها -: سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ يَأتيكَ الوحي؟
فقال: " أَحياناً مثْلُ صَلْصَلَةِ الجَرَس، وهو أَشَدُّه عَلَيَّ، وأَحياناً يتمثَّلُ لي الملَكُ رَجُلاً يُكلِّمُني، فأَعي ما يقول ".
وهذا جزءٌ من حَديثٍ صحيحٍ عند البخاري، أَوْرَدْناهُ قبلَ قَليل..
وصلصلةُ الجَرَسِ: صوتُ ضَرْبِ الجَرَس عندما يُقْرَعُ، وصلصلةُ الجَرَسِ هو ما كانَ يُسمعُ أَمامَه كَدوِيِّ النحل، كما قالَ عمرُ - رضي الله عنه -.
6 - تصبب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عرقاً:
نَقَلَ الفادي قولَ عائشةَ - رضي الله عنها -: "ولقد رأيتُه يَنزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشَّديدِ البَرْد، وإِنَّ جَبينَه ليتفَصدُ عَرَقاً ".
وهذه تكملةٌ لحديثِ الحارثِ بن هشام السابقِ - رضي الله عنه -، في كيفيةِ نزولِ الوحي، حيث أخبرَ أَنَّ مجيئه كصلصلةِ الجَرَس، وكان هو الأَشَدَّ عليه، وشَهدَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - على ذلك، بأنها رأَتْ جَبِينَهُ يَتَفَصدُ عَرَقاً في اليومِ الشديدِ البَرْد.(1/715)
وهذا أَمْرٌ عاديّ، قد يمرُّ به أَيُّ شخصٍ منّا، وليسَ به مرضٌ نَفْسِيٌّ أَو
عضويّ، فقد يلبَسُ أَحَدُنا ملابسَ صوفيةً، ثم يَسيرُ في طريقٍ صاعداً في مُرْتَفَع، ويكونُ العَرَقُ يتصبَّبُ من وجْهِه وجسمه، مع أَنَّ الثلجَ يَتساقطُ بغَزارة!.
7 - هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصواتاً خفية؟ :
ادّعى الفادي أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تُسمعُ حولَه أصواتٌ خفية، لا يُعرفُ أَصحابُها، وادَّعى الفادي أَنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لخديجة - رضي الله عنها -: "إِذا خلوْتُ سمعْتُ نِداءً: يا محمد، يا محمد.
وقال لها في روايةٍ أُخْرى: أَرى نوراً يقظة، وأَسمعُ صوتاً، وقد خشيتُ من ذلك على نفسي.
وأَخشى أَنْ أَكونَ كاهناً، وأَنْ يكونَ الذي يُنادِيني تابِعاً من الجِنّ..
وأَخْشى أَنْ يكونَ بي جُنون.. ".
وادَّعاءُ الفادي باطلٌ مردود، وهذه الأَقوال لم تَصْدُرْ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رَدَّها علماءُ المسلمين؛ لأَنَ فيها اتِّهاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عَقْلِه، فهو يَسمعُ أَصواتاً لا يَدري مَصْدَرَها، وكأَنها تتشكَّلُ في مخيِّلَتِه، وهو يَخشى أَنْ يكونَ الجِنُّ مسيطراً عليه، وأَنْ يكون قد أَصابَه الجُنون!!.
ومن المعلوم أَنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يَخْشى على نفسِه أَو عَقْلِه، وكان يوقنُ أَنَّه رسول الله، وأَن ما يأْتيه هو الوحيُ من الله، وأَنه كان على بيّنَةٍ قاطعة، ويَقينٍ كبير.
قال تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) .
8 - هل كانت تصيبه الرعدة؟ :
ادَّعى الفادي أَنَّ الرعدة كانَتْ تُصِيبُ رسولَ اللَه - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يأْتيهِ الوحيُ، ونَسَبَ هذا الادّعَاءَ إِلى أَبي هريرةَ - رضي الله عنه -.
وهذا ادّعاءٌ غيرُ صَحيح، فلم يكنُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرتعدُ أَو يضطربُ، أو ينتفضُ جسْمُه، وإِنما كان متحكِّماً في جِسْمه، ضابطاً لأَعْصابِه، فَرِحاً سعيداً مسروراً.(1/716)
9 - هل كان رأسُه يؤلمه؟ :
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يشكو من آلامٍ شديدةٍ في رأسِه، ونَسَبَ إِلى أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - أَنهم كانوا يَضَعونَ الحِنّاءَ على رأْسِه، لتخفَّ عنه تلك الآلام!.
وهذا ادّعاءٌ باطل، فلم يكنْ - صلى الله عليه وسلم - يشكو من آلامٍ في رأسِه طيلةَ حياتِه، بل لم يكن يشكو من أَيةِ أَمْراض، إِنما أَصابَتْه الحُمّى في آخرِ أَيامِه - صلى الله عليه وسلم -.
وبعدما ناقَشْنا الفادي المفتريَ فيما أَوردَه من مظاهرِ التغييرِ والتأثيرِ
التسعةِ التي ادَّعى أَنها كانت تَطرأُ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عندما يأتيه الوحي..
ننظرُ في ما خَرَجَ من ذلك من اتّهام.
قال المفترِي: " ونحنُ نسأل: أَيّ وَحْي هذا الذي يُخرجُ الإِنسانَ عن وَعْيه، فيُغْشى عليه، ويُشبهُ السكران، ويَغُطًّ كغطيطِ الإِبل، وتَحْمَرُّ عَيناه، وتأخُذُه الرّعدة، ويتَصبَّبُ عَرَقاً، ويُصَابُ بألم الرأس، ويُحِسُّ بطنينٍ في أُذنيهِ ورَنينٍ في دِماغِه؟
ولقد كان مُصاباً بهذه الأَعراضِ عينِها قبلَ أَنْ يَدَّعيَ الوحي ".
لقد صَوَّرَ الفادي المجرمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مع الوحي بصورةِ الإِنسانِ المريض بالأَمراضِ النفسية، والمضطربِ في أَعصابه، الذي لا يُسيطرُ على كيانه..
وهو كاذبٌ في ادعاءاته، مجرمٌ في استنتاجاته!.
***
هل شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الانتحار؟
ادّعى الفادي المجرمُ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَرَعَ في الانتحار، ونَسَبَ هذا الادّعاءَ إِلى علماءِ المسلمين.
قال: " قالَ علماءُ المسلمين: إِنه لما فَتَرَ الوحيُ عنه حَزِنَ حُزْناً شَديداً، حتى كانَ يَغدو إِلى يَثرب مرة، وإِلى حِراء مرةً أُخرى،(1/717)
يُريدُ أَنْ يُلقيَ نفْسَه منه، فكلما وافى ذِرْوَةَ جَبَلٍ منهما كي يُلقي نفسَه، تَبَدّى له جبريل، فقالَ له: يا محمد! أَنت رسولُ الله حقاً، فيسكُنُ لذلك جأشُه، وتَقَرُّ عينُه، ويَرجع، وإِذا طالَتْ عليه فترةُ الوحيِ عادَ لمثْلِ ذلك..
واختلفوا في مدةِ هذه الفترة، فعند ابنِ إِسحاق أنها ثلاثُ سنوات.
وقالَ أَبو القاسمِ السُّهَيْلي:
جاءَ في بعضِ الأَحاديثِ المسندةِ أَنَّ مدةَ هذه الفترةِ كانتْ سنتَيْن ونصفاً، وقالَ السيوطي: إِنها كانتْ سنتين ... " (1) .
وعَلَّقَ الفادي المجرمُ على هذا الادِّعاءِ بقوله: " ونحنُ نسأَل: كيفَ
يُحاولُ نبيّ الانتحارَ؟
ويقولُ القرآنُ معاتباً محمداً: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... ) : أَيْ: قَاتِلُهَا غمّاً ".
وما نَقَلَه الفادي عن كتب إِسلامية مردودٌ وباطل، ولم يُنقلْ هذا بروايات
صحيحة.
فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لم يَشرعْ في الانتحار، ولم يُفكرْ في قَتْلِ نفسِه، ولم يكنْ يَتَنقلُ بين رؤوسِ جبالِ مكة، ليتردّى منها، فيلاحقُه جبريلُ ويُناديه، ويُطَمئنُه أَنه رسولُ الله.
لقد كانَ رسولُ الله - عليه السلام - يوقنُ أَنه رسولُ الله، منذُ أَنْ أَنزلَ اللهُ عليه الوحي، وكان على بينةٍ من ربِّه وقد شهدَ اللهُ له بتلك البينة في قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) .
ومن جهلِ الفادي وغَبائِه أَنه لم يُحسنْ فهمَ آيةٍ من القرآن، فيها تسليةٌ
لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهي قولُ الله - عز وجل - (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) .
لا تتحدَّثُ الآيةُ عن رغبةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في الانتحارِ والتخلُّصِ من الحياة، كما ادَّعى الفادي المجرم، وإِنما تشيرُ الآيةُ إِلى اهتمامِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بقومه، وحرصِه على هدايتهم، وتأَلمِه من تكذيبِهم وكفرِهم، وتَدْعوهُ الآية ُ إِلى
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
52- محاولة النبى محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار
الرد على الشبهة:
الحق الذى يجب أن يقال.. أن هذه الرواية التى استندتم إليها - يا خصوم الإسلام - ليست صحيحة رغم ورودها فى صحيح البخارى - رضى الله عنه -؛ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة، ولكن أوردها تحت عنوان " البلاغات " يعنى أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ، ومعروف أن البلاغات فى مصطلح علماء الحديث: إنما هى مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن (1) .
وقد علق الإمام ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى (2) بقوله:
" إن القائل بلغنا كذا هو الزهرى، وعنه حكى البخارى هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرمانى: وهذا هو الظاهر ".
هذا هو الصواب، وحاش أن يقدم رسول الله - وهو إمام المؤمنين - على الانتحار، أو حتى على مجرد التفكير فيه.
وعلى كلٍ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بشراً من البشر ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية.
والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان صلى الله عليه وسلم يعتنى بها، وقد قال القرآن الكريم فى ذلك: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً) (3) .
ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - فى علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق فهذا أمر عادى لا غبار عليه؛ لأنه من أعراض بشريته صلى الله عليه وسلم.
وحين فتر (تأخر) الوحى بعد أن تعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المكان الذى كان ينزل عليه الوحى فيه يستشرف لقاء جبريل، فهو محبّ للمكان الذى جمع بينه وبين حبيبه بشىء من بعض السكن والطمأنينة، فماذا فى ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما يأتى وما يدع؟
وإذا كان أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يستندون إلى الآية الكريمة: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (4) .
فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار، ولكنها تعبير أدبى عن حزن النبى محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
وهذا خاطر طبيعى للنبى الإنسان البشر الذى يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم اعترافه واعتزازه بأنه بشر فى قوله - رداً على ما طلبه منه بعض المشركين-: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أوتأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) . فكان رده: (سبحان ربى) متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم: (هل كنت إلا بشراً رسولاً) (5) .
أما قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليست له معجزة فهو قول يعبر عن الجهل والحمق جميعاً.
حيث ثبت فى صحيح الأخبار معجزات حسية تمثل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاءت الرسل بالمعجزات من عند ربها؛ منها نبع الماء من بين أصابعه، ومنها سماع حنين الجذع أمام الناس يوم الجمعة، ومنها تكثير الطعام حتى يكفى الجم الغفير، وله معجزة دائمة هى معجزة الرسالة وهى القرآن الكريم الذى وعد الله بحفظه فَحُفِظَ، ووعد ببيانه؛ لذا يظهر بيانه فى كل جيل بما يكتشفه الإنسان ويعرفه. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) انظر صحيح البخارى ج9 ص 38، طبعة التعاون.
(2) فتح البارى ج12 ص 376.
(3) الإسراء: 93.
(4) الشعراء: 3.
(5) الإسراء: 93.(1/718)
أَنْ لا يُهلكَ نفسَه هَمّاً وغَمّاً وحُزْناً عليهم، ومن المعلومِ أَنه إِذا زادَ الهَمُّ
والغَمُّ عند إِنساب، فإِنه قد يَقْضي عليه.
***
خرافة امتحان خديجة لجبريل
انتقلَ الفادي الجاهلُ من ادِّعاءِ محاولاتِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الانتحارَ إِلى ادِّعاءٍ آخَرَ، أَشَدَّ منه بُطْلاناً، وأَكْثَرُ غرابة.
وهو أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ متأكِّداً
أَنَّ الذي يأتيه هو جبريل، وظَنّ أَنه يُمكنُ أَنْ يكونَ جنّيّاً شيطاناً، فكلَّفَ امرأَتَه خديجةَ أَنْ تمتحنَه، فتأكَّدَتْ أَنه جبريلُ وليسَ شيطاناً.
قالَ المفترِي في افترائِه وادّعائِه: " مَنْ نَظَرَ في الأَحاديث التي هي عندَ
المسلمين بمنزلة القرآن، في الاعتقاداتِ والمعاملات، رأى أَنَّ محمداً كان
غيرَ متأكِّدٍ من وحْيه ".
كَذَبَ المفْتَري عندما ادَّعى أَنَّ الأَحاديثَ عند المسلمين بمنزلةِ القرآن..
ولم يَدَّعِ أَحَدٌ من المسلمين هذا الادّعاء، فمن البدَهيّات عندَ كُلّ مسلمٍ أَنَّ
الأَحاديثَ ليستْ بمنزلةِ القرآن، لأَنَّ القرآنَ كلامُ الله، والأَحاديث كَلامُ
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهما ليسا بمنزلةٍ واحدة.
وادَّعى المجرمُ أَنَّ الأَحاديث تدلُّ على أَنَّ محمداً كانَ غيرَ متأكّدٍ من
الوحي، مع أَننا ناقَشْناهُ في هذا الادعاء قبلَ قليل، وبَيّنّا أَنّه كان على يَقينٍ
كاملٍ أَنه رسولُ الله.
وزَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ خديجةَ - رضي الله عنها - طَلَبَتْ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أَن يُخبرَها بقدومِ جبريل، لأَنَّها نَوَتْ أَنْ تمتحنَه..
فلما قَدِمَ جبريلُ أَخبرها..
فطلبتْ منه أَنْ يَجلسَ على فَخذها، فجلسَ وما زالَ يَرى جبريل.
فأَلْقَتْ خِمارَها عن رأسِها وكَشَفَتْ شَعْرَها، ولما رأى جبريلُ شعْرَها خرجَ من البيت.
فقالَتْ خديجة: يا ابْنَ عَمّي! اثبتْ وأَبْشِرْ..
فواللهِ إِنه لَمَلَكٌ وليس بشيطان.(1/719)
وعَلَّقَ الفادي المفترِي على هذه الرواية بقوله: " ومن أَقوالِ العلماءِ هذه
نرى أَنَّ خديجة هي التي استنتجتْ بأَنَّ الذي كانَ يعرضُ له هو حاملُ الوحى،
الذي كان يأتي الأَنبياء.
ونحنُ نسأل: وهل تَرَبَّتْ خديجةُ بين الأَنبياء؟
أَو هل كانَ في عشيرتها نبيٌّ، كان يَعْتَريه مثلُ هذه الحالة، فتقيسُ عليه حالةَ محمد؟
وكيف عَرَفَتْ تلك القاعدة الغريبة أَنَّ المَلَكَ لا يرى الرأسَ المكشوفة، والجنُّ يراها؟
وأَيُّ نبي قبل محمدٍ جلسَ في حجرِ زوجتِه، فأكَّدَتْ له أَنَّ جبريلَ هو الذي يأْتيه؟ ".
هذه الروايةُ التي نُسبتْ لخديجةَ - رضي الله عنها - في امتحانِ جبريلَ روايةٌ مردودةٌ وباطلة، ولم تَردْ بسَنَدٍ صَحيحٍ عن أَحَدٍ من أَصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رَدَّها وأَنكرَها علماءُ الحديثِ الثقات، ولكنَّ الفادي لجهلهِ المطبقِ لا يُحسنُ انتقاءَ الرواياتِ الصحيحة، ولا التمييزَ بين الصحيحِ والمردود.
وإِذا كانت الروايةُ مردودة، فإِنَّ تعليقَ الفادي عليها مردود، والنتيجةُ التي
خرج بها منها مردود،؟!.
***
سخرية المجرم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!
وَضَعَ الفادي عنواناً مثيراً هو: " عَلامَ يَحسدونَه؟ ".
واعترضَ فيه على قولِ اللهِ - عز وجل - عن اليهود: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
تتحدَّثُ الآية ُ عن حَسَدِ اليهودِ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، لِما آتاهُ اللهُ من فضْلِه، وهي النبوةُ التي خَصَّهُ اللهُ بها.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) .(1/720)
كانَ اليهودُ يَطمعونَ أَنْ يَكونَ النبيُّ الخاتمُ منهم، فلما اختارَهُ الله من
غيرِهم كَفَروا به، وجَعَلوا المشركينَ أَقربَ منه إِلى الله، وفَعَلوا ذلك حَسَداً
منهم له، لقد حَسَدوهُ على ما آتاهُ اللهُ من النبوة، وحَسَدوا الأُمَّةَ المسلمةَ على ما آتاها اللهُ من الهدى، ولذلك كانوا أَشَدَّ الناسِ عداوةً للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّتِه.
وقد تجاوزَ الفادي المفترِي المجرمُ هذا المعنى الصحيح للآية، واعتمدَ
معنىً باطلاً، وتكلّمَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بسفاهةٍ وسخريةٍ وقلَّةِ أَدَب.
زَعَمَ المجرمُ أَنَّ الآيةَ تتحدَّثُ عن " فُحولةِ " الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّ اللهَ آتاهُ القدرةَ على معاشرةِ وجماع نسائِه كلِّهنَّ في يومٍ واحد!.
قالَ فَضَّ اللهُ فاه: " قالَ ابنُ عباس: قال أَهْلُ الكتاب: زَعَمَ محمدٌ أَنه
أُوتي ما أُوتيَ في تواضُع، وله تسعُ نسوة، وليس هَمُّه إِلّا النكاح..
فأَيُّ مُلْكٍ أَفضلُ من هذا؟
فقال محمدٌ: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
ويَفتخرُ المسلمونَ بأَنَّ محمداً كانَ يَدورُ على نسائِه (أَيْ يُجامعُهنَّ)
في الساعةِ الواحدةِ من النَّهارِ أَو الليل، وهُنَّ إِحْدى عشرةَ امرأة..
قالَ قتادةُ بنُ دعامة لأَنَسِ بنِ مالك: أَوَ كانَ يُطيقُ الدورانَ عليهنَّ كُلِّهن؟
فقالَ أَنس: كُنّا نَتَحَدَّثُ أَنه أُعطيَ قُوهَ ثلاثينَ رَجُلاً - وفي روايةٍ: قوةَ أَربعينَ رجلاً من أَهْلِ الجنةِ! وَوَرَدَ في الحديث: قالَ محمد: أُعطيتُ قوةَ أَربعينَ رجلاً من أَهل الجنةِ في البطشِ وفي الجماع!!
وَرَوَوا أَنَّ الرجلَ من أَهلِ الجنةِ ليُعطى قوةَ مئةِ رَجُلٍ في الأَكْلِ والشربِ والجماعِ والشهوة..
وقال محمد: أَتاني جبريلُ بقِدْرٍ، فأَكَلْتُ منها، فأُعطيتُ قُوةَ أَربعينَ رَجُلاً من رجالِ الجنة..
وشكا محمد إِلى جبريلَ قلةَ الجماع، فتبسَّمَ جبريلُ حتى تلأْلأَ مجلسُ محمدٍ
من بريقِ ثنايا جبريل، فقال له: أَينَ أَنتَ من أَكْلِ الهريسة؟! ".(1/721)
وكلُّ الرواياتِ التي أَوردَها الخبيثُ باطلةٌ مردودة، لم تَصحّ روايةٌ واحدةٌ
منها، فهو يَضَعُ في كتابهِ المتهافتِ الكلامَ الباطلَ الساقط، ثم يتحدثُ عن
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ببذاءةٍ وانعدامِ حياء، وبتهكُّمٍ وسخريةٍ واستهزاء، ويَجعلُ ذلك دليلاً على عدمِ نبوَّتِه - صلى الله عليه وسلم -.
***
حول المرأة التي وهبت نفسها للرسول - صلى الله عليه وسلم -
سَبَقَ أَن اعترضَ الفادي المجرمُ على القرآنِ في قولِه تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
وسَبَقَ أَنْ رَدَدْنا على اعتراضِه المتهافت.
وأَعادَ الكلامَ على هذه المسألةِ في اعتراضِه على سيرةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَدَدْنا على اعتراضِه..
وها هو يُعيدُ ويُكررُ القولَ عن هذه المرأةِ هنا، ونُذَكّرُ بما رَدَدْنا
عليه فيما مضى ونُحيل عليه.
***
حول إرجاء وإيواء الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يشاء من نسائه
وسَبَقَ أَن اعترضَ الفادي المجرمُ على القرآنِ وعلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في تخطئته لقوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) .
وَرَدَدْنا عليه في حينِه، فلا داعيَ لإِعادةِ ذكْرِ اعتراضِه، وإعادَةِ رَدِّنا عليه.
واعترضَ الفادي المجرمُ على تحريمِ أَزواجِه على المسلمين، الذي وَرَدَ
في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) .(1/722)
وادَّعى أَنَّه هو الذي حَرَّمَ ذلك على أَصحابِه.
وأَلَّفَ الآيةَ زاعِماً أَنَّ اللهَ أَنزلَها عليه.
وقد سبقَ أَنْ رَدَدْنا عليه في هذه المسألةِ أَيضاً.
***
هل أثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقوال أهل الكتاب في القرآن؟
اخْتارَ الفادي المفترِي عِنواناً مُثيراً هو: " اقتبسَ أَقوالَ أَهْلِ الكتاب " زَعَمَ
أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذُ أَقوالَ اليهودِ والنصارى، ويَضَعُها في القرآن، ويزعم أَنَّ اللهَ أَوحى إِليه بها.
واعترضَ على قولِ اللهِ وَبَئ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) .
نَقَلَ المجرمُ عن بعضِ المسلمين ما قيلَ عن سببِ نُزولِ الآية، وتَعيينِ
الأَشخاصِ الذين اتَّهمهم المشركون بتأْليفِ القرآن، وأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ القرآنَ منهم..
والذين نَقَلَ عنهم هم ابنُ عباس - رضي الله عنهما -، ومحمدُ بنُ إِسحاق
صاحب السيرة، والبيضاويُّ صاحبُ التفسير.
والأَعاجمُ في مكة الذين اتُّهِموا بتأليفِ القرآنِ بالأَعجمية، وعَلَّموهُ
للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فصاغَهُ بالعربية هم: الحَدّادُ النصراني " بَلْعام "، و " يَعيش " غلامُ بني المغيرة، و " جَبْر " الغلامُ الروميُّ لبعضِ بني الحضرميّ، و " يَسار " الغلامُ الفارسي من عينِ التمر، وكان جَبر ويَسار حَدّادَيْن يصنعانِ السّيوفَ في مكة، والغُلام " عائش " النصراني، عبدٌ لحويطبِ بن عبد العزى، و " عَدّاس " غلامُ عتبةَ بن ربيعة.
وبعدَما ذَكَرَ أَسماءَ هؤلاءِ عَلَّقَ المفترِي على القصةِ بقوله: " ونحن نسأل:(1/723)
اتهمَ العربُ محمداً أَنه يتعلمُ الأَخبارَ من غيرِه ثم ينسبُها لنفسِه، ويزعمُ أَنها
وحيٌ إِليه من الله، فلماذا لم يُقدم لهم البرهانَ أَنه يتلقى أَقوالَه منْ الله رأْساً؟
إِنَّ رَدَّه أَنَّ الذي يَسمعُ أَقوالَه أَعجميٌّ اعترافٌ بالاقتباس " لأَنه صاغَ ما سمعَ
من معانٍ بأُسلوبه العربيِّ الفصيح ".
زعمَ الكفارُ أَنَّ القرآنَ ليس كلامَ الله، وإِنما هو من تأليفِ بَشَرٍ كان يُعَلِّمُ
محمداً - صلى الله عليه وسلم -، واختلفَ الرواةُ في تحديدِ اسمِ ذلك الشخصِ الأعجمي، ومن الأَسماءِ التي رَدَّدَها الرواة: بلعام ويعيش وجبر ويسار وعداس.
ورَدَّت الآية ُ على هذا الزعمِ المتهافت بأَنَّ لسانَ ذلك الشخصِ
أَعجمي، والقرآنُ لسانٌ عربيٌّ مبين، فكيفَ للأَعجميِّ الذي لا يَعرفُ إِلّا
بضعَ كلماتٍ مكسَّرَةٍ عربية أَنْ يُؤَلِّفَ كلاماً عربيّاً بلغَ الذروةَ في البلاغةِ
والفصاحة؟!.
وهذا الرَّدُّ لم يُعجب الفادي المفترِي، وقد رَدَّدَ اتهاماتِ المشركين،
وادَّعى أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لم يُقَدّم للكفارِ البرهانَ على أَنه يتلقّى القرآنَ من الله!
وهذا ادّعاءٌ باطل، فكلُّ القرآنِ دليلٌ على أَنه كلامُ الله، وكُلُّ حياةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على أَنَّ القرآنَ وحيٌ من اللهِ إِليه، وأَنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتكفي الإِشارةُ إِلى آياتِ التحدي، التي طالَبَ اللهُ فيها الكفّارَ بالإِتيانِ
بعشْرِ سورٍ أَو بسورةٍ مثلِ القرآن، فإِنْ عَجَزوا عن ذلك فليعلموا أَنه من
عندِ الله.
قالَ الله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) .
ومن جهلِ الفادي أَنه لم يعرفْ معنى قولِه تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) حيثُ ادَّعى أَنه اعتراف بالأَخْذِ عن الأَعجمي: " إِنَّ رَدَّه(1/724)
بأَنَّ الذي يَسمعُ أَقوالَه أَعجميٌّ اعترافٌ بالاقتباس، وأَنه صاغَ ما سمعَ من
معانٍ بأُسلوبِه العربيِّ الفصيح! ".
لم يَعترف الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بأَنه يَسمعُ كلامَ الأَعجميِّ جبر أو يسار أَو غيرهما، باللغةِ الأَعجمية، ويأخذُ المعنى منه، ويقتبسُ الفكرةَ منه، ثم يصوغُ ذلك المعنى الأَعجميَّ بلسانِه العربي!.
إِنَّ معنى قوله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) : لسانُ الشخصِ الذي يَميلونَ إليه، ويَنسبونَ إِليه تأليفَ القرآن، ويَدَّعونَ أَنه من عندِه،
أَعجمي، فكيفَ للأَعجميّ أَنْ يأتي بهذا البجانِ العربيِّ المبين؟.
وقَدَّمَ الفادي المفترِي دَليلاً على أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - اقتبسَ الأَفكارَ القرآنيةَ من الأَعجميّ في مكة، ثم صاغَها بالعربية، هو انتشارُ قصص التوراةِ والإِنجيلِ في بلادِ العرب، وورودُها في أَشعارِ بعضِ الشعراء، وذَكَرَ أَبياتاً لأُميةَ بن أَبي الصلت زَعَمَ أَنه أَخَذَها من سِفْرِ التكوين، وأَبياتاً للسموأل زعم أنه أخذها من سفر الخروج.
كما ادَّعى أَنَّ النصرانيةَ كانتْ منتشرةً في بلادِ العَرَب، وكان لها كنائسُ
في نجران، وأَنَّ " قِسَّ بن ساعدة " كان نصرانياً، ولذلك انتشر الفكر النصراني في بلاد العرب.
وفَرْقٌ بين انتشارِ بعضِ الأَفْكارِ اليهوديةِ والنصرانيةِ في بعضِ بلادِ
العرب، وبينَ إِنزالِ القرآن على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
***
هل شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين شتموه؟
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُقابلُ شتمَ أَعدائِه بشتمِهم ولعْنِهم وسَبِّهم، ونسبَ له تسجيل هذه الشتائم في القرآن.
لما ماتَ ابنُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من خديجة عَيَّرَه بذلك العاصُ بنُ وائل، أَحَدُ(1/725)
زعماءِ المشركين، وقال: محمدٌ أَبترُ لا عَقِبَ له.
قال الفادي المفترِي: " فقالَ محمد: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) .
فإِنْ عَيَّروه بأَنه أَبترُ فإِنَّ شانئَه ومبغضَه هو الأَبتر "!.
فهو يُصرحُ بأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَلَّفَ سورةَ الكوثر، للردّ على شتْمِ العاصِ له بشتْمِه، ولا يَعترفُ بأَنَّ اللهَ هو الذي أَنزلَ سورةَ الكوثرِ عليه، وأَن اللهَ هو الذي دافعَ عن رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وهو سبحانه الذي وَصَفَ عدوَّه بأَنه أَبتر مقطوعُ الذِّكْر.
وادَّعى الفادي المفترِي بأنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي رَدَّ على شتْمِ عَمِّه أَبي لهب له بشتيمةٍ مقابلهّ.
فعندما جمعَ أَقاربَه، ودَعاهم إِلى الإيمان، شَتَمَه أَبو لهب قائلاً: تَبَّاً لك، أَلهذا جمعتنا؟.
قال الفادي المفترِي: " فَسَبَّهُ محمدٌ قائلاً: (تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) .
أَيْ: هلكَتْ نفسُ أَبي لهب، وسيدخلُ ناراً، وسبَّ امرأةَ عَمِّه قائلاً: إِنها حَمّالَةُ الحَطب، الذي يَحرقُها في جهنم، وإِنَّ في عنقِها حَبْلاً يَقْتُلُها ويَخنقُها..
فكانَ يُكيلُ اللعناتِ لكلّ مَنْ قاوَمَه!.
وأَينَ محمدٌ من السيدِ المسيح الذي " إِذا شُتِمَ لم يكنْ يَشْتُمُ عِوضاً " والذي
قال: باركوا لاعِنيكم؟ ".
ما زالَ المفترِي مُصِرّاً على أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أَلَّفَ القرآن، فلما شَتَمَه عَمُّه أَبو لهب أَلَّفَ سورةَ المسد شاتِماً عَمَّه وامرأةَ عَمِّه! فهو لا يعترفُ بأَنَّ اللهَ هو الذي أَنزل سورةَ المسد، وأَنَّهُ هو الذي حكمَ على أَبي لهبِ بالتَّبابِ والخسارةِ لكفْرِه، وأَنَّ اللهَ هو الذي لَعَنَه.
ويَكذبُ المفترِي عندما يَدَّعي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان " يَكيلُ اللعناتِ لكلِّ مَنْ قاوَمَه ".
فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على خُطا أَخيهِ المسيحِ رسولِ اللهِ عليه الصلاة والسلام، ولم يكنْ يَلْعَنُ إلّا مَنْ لَعَنَه الله، وكان - عليه السلام - عفيفَ اللّسان، فلم يكنْ سَبّاباً، ولا لَعّاناً، ولا شَتّاماً، ولا فاحِشاً بذيءَ اللّسان، وكان يَنهى أَصحابَه(1/726)
عن هذه التصرفاتِ والأَلفاظ، وكان يَعفو ويصفح، ولا يُقابلُ السيئةَ بالسيئة، ولا الشتيمةَ بشتيمة!!.
***
حول غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وَقَفَ الفادي أَمامَ جهادِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونَقَلَ أَسماءَ غزواتِه، التي بَلَغَتْ تِسْعاً وعشرينَ غَزوة، وهي المعاركُ التي خاضَها بنفسِه، وذَكَرَ أَنَّ سراياهُ زادَتْ على سبعين، فيكونُ مجموعُ الغزواتِ والسرايا مئة.
وذَكَرَ خُلاصةَ بعضِ الغزوات والسرايا، مثلُ سريةِ ابنِ الحَضْرَمي، وغزوةِ
أُحُد، وغزوةِ حُنَيْن، وغزوةِ بدر، وغزوةِ بني النضير.
وهو يتكلمُ عنها بأُسلوبِه القائمِ على اتهامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ورفْضِ نبوته، والزعمِ بأَنه هو الذي أَلَّفَ القرآن.
من ذلك قولُه: " وقد سجلَ محمدٌ في قرآنِه الكثيرَ من غزواتِه وسراياه "..
وقولُه عن سريةِ ابن الحضرميّ: " ...
وغَضِبَ محمدٌ لاستباحةِ أَصحابِه القتالَ في الشهرِ الحرام، ثم استحلَّ ذلك، وقَسَّمَ الغنائم لنفسِه وأَصحابِه.. ".
وقد سبقَ أَنْ ذَكَرْنا تفاصيلَ قصةِ سريةِ ابن الحضرمي، التي هي في الحقيقةِ سريةُ عبدِ الله بن جحش - رضي الله عنه -.
ومن ذلك قولُه عن غزوةِ أُحُد: " ...
فأَخَذَ محمدٌ في لعنِ الذين هَزموه، وحاولَ إِنْعاشَ أَفئدةِ الذين انْهزموا، فقال لهم: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) ".
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ عبارةً من إِحدى النساء، وسَجَّلَها في قرآنِه.
وهي عبارة: " يَتخذُ اللهُ من عبادِه الشهداء "، قال: " فقالت(1/727)
المرأة: يتخذُ اللهُ من عبادِه شهداء.
فاقتبسَ محمدٌ عبارتَها، وجَعَلَها وحْياً "!!.
وادَّعى المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أُعجبَ بكثرةِ أَصحابِه في غزوةِ حُنَيْن، فقال: " لن نُغْلَبَ اليومَ من قلة " فهزمَهم الله!.
والصحيحُ أَنَّ الذينَ قالوا هذا القولَ هم " الطُّلَقاء "، الذين أَسلموا يومَ فتحِ مكة، والذين لم يَتعمق الإِيمانُ في قلوبهم، فأُعجبوا بكثرتهم، فأَدَّبَهم الله، أَما الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - فإِنه لا يُمكنُ أَنْ يقولَ ذلك، لقوةِ توكُّلِه على الله.
ومع أَنَّ حديثَه عن أَهم غزواتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ مُخْتَصَراً، إِلّا أَنه لم يكنْ في مجملِه صحيحاً؛ لأَنه لم يأَخُذْه من المصادرِ الإِسلاميةِ الصحيحة، ولذلك أَخطأَ في عرضِ بعضِ الأَحداث، إِضافةً إِلى تأكيدِه المتواصلِ على أَنه هو الذي كان يُؤَلِّفُ القرآنَ من عنده، وأنه ليس رسولاً من عند الله!!.
***
إشاعة إبادة الكلاب في المدينة
ذَكَرَ الفادي المفترِي أُسطورةَ إِبادَةِ الكلابِ في المدينة.
قال: " عن أَبي رافعٍ قال: جاءَ جبريلُ إِلى محمدٍ يستأْذِنُه، فأَذِنَ له، فلم يَدْخُل.
فقال: إِنّا قد أَذِنّا لك فَلِمَ لَمْ تَدْخُل؟
فقال: إِنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كَلْب! قالَ أَبو رافع:
فأَمَرني أَنْ أَقتُل كُلَّ كَلْبٍ في المدينة! ففعَلْتُ، حتى انتهيتُ إِلى امرأةٍ عندها
كَلْبٌ ينبحُ عليها، فتركْتُه رحمةً لها، ثم جئتُ إِلى محمد، فأَمَرني بقتله..
فأَتى عديُّ بنُ حاتم وزيدُ بنُ المهلهل الطائِيَّيْن، فقالا: يا رسولَ الله، إِنّا قومٌ نَصيدُ بالكلاب، فماذا يحلُّ لنا؟
فقالَ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) ".
وعَلَّقَ على هذه الإِشاعةِ بقوله: " ونحنُ نسأل: إِنْ كانَ جبريلُ لم يدخُلْ
بيتَ محمدٍ لسببِ الكلابِ التي فيه، فلماذا لم يكتفِ محمدٌ بقَتْلِ كلابِ بيتِه
فقط؟
ولماذا أَمَرَ بقَتْلِ كَلْبِ المرأةِ المسكينة، التي رَقَ لها أَبو رافع ولم يشأ(1/728)
أَنْ يقتلَ كَلْبَها، وفي الوقتِ نفسِه استحيا كلابَ الأَغنياءِ للصيْد؟
ثم إِنَّ الكلابَ كانتْ في بيتِ محمدٍ وفي المدينة، قبلَ قَتْلِ الكلاب، فكيفَ كان جبريلُ يأتي محمداً قبلَ قتْلِها؟
إِنْ كانَ جبريلُ يكرهُ الكلابَ، أَلا نقول: إِنَّ الذي كانَ يأتي
محمداً أَوَّلاً هو غيرُ جبريل؟ ".
إِنَّ ما ذَكَرَه الفادي المفترِي أُسطورةٌ مكذوبة، فلم يكنْ في بيتِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَلْب، ومن ثم لم يحدثْ أَن امتنعَ جبريلُ من الدخول بسببِ الكلب، ولم يأْمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَبا رافعٍ بقَتْلِ جميعِ الكلابِ في المدينة.
وإِذا كانت القصةُ مكذوبةً باطلة، فكلُّ ما بناهُ الفادي المفترِي عليها من
نتائج فهو باطلٌ مردود.
***
حول تبشير عيسى بمحمد عليهما الصلاة والسلام
قالَ اللهُ - عز وجل -: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) .
تُخبرُ الآيةُ أَنَّ عيسى - عليه السلام - بَشَّرَ بالنبيِّ الخاتمِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولكنَّ الفادي المفتري لم يأخُذْ بما قَرَّرَتْه الآية، وسَجَّلَها تحتَ عنوانَ: " لم تَتَنَبَّأ التوراةُ به ".
وزَعَمَ أَنَّ القرآنَ يَشهدُ بحفظِ وسلامةِ التوراة، وأَوردَ آياتٍ لم يَفْهَمْ معناها
الصحيح.
قال: " يَشهدُ القرآنُ أَنَّ التوراةَ حُفظَتْ صحيحة سليمةً من كُلّ تحريفٍ
إِلى أَيامِ المسيح، قال في سورةِ آل عمران (48) : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) ..
وشهدَ القرآنُ في مواضعَ كثيرة أَنَّ التوراةَ بَقيتْ بغيرِ تحريف، من وقْتِ المسيحِ إِلى وقْتِ محمد، قال في سورةِ آلِ عمران:(1/729)
(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) .
وكذلك شهدَ القرآنُ بسلامةِ الإِنجيل، قالَ في سورةِ المائدة: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) .
فالكتابُ المقدس إِذَنْ صَحيح، لم يَعْتِرِهِ تَحريف أَو تَبديلٌ أَو زيادةٌ أَو
نقصان..
وها هو الكتابُ المقَدَّسُ كُلُّه، ليس فيه أَيةُ إِشارةٍ إِلى إِتيانِ محمدٍ
كنبيّ، فمنْ أَينَ جاءَ محمدٌ بأَنَّ عيسى بَشَّرَبه؟ ".
لم يُخبر القرآنُ أَنَّ التوراةَ محفوظةٌ وصحيحة وسالمةٌ من التحريفِ، كما
ادَّعى الفادي المفترِي، إِنما جَزَمَ بتحريفِ اليهودِ للتوراة، وجاءَ هذا صريحاً
في آياتٍ كثيرة.
منها قولُه تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .
ومنها قولُه تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) .
نَقَضَ اليهودُ ميثاقَهم مع الله، وحَرَّفوا كلامَه الذي أَنزلَه إِليهم في
التوراة، وكَتَبوا التوراةَ بأَيديهم، وأَلَّفوا أَسفارَها من عندهم، ثم نَسَبوها إِلى اللهِ زوراً وبهتاناً.
من اليقينِ عندَ العلماءِ أَنه لا تَناقُضَ بينَ آياتِ القرآن، فالآيتَانِ السابقتانِ
صريحَتانِ في تحريفِ اليهودِ للتوراة، وعلَيْنا أَنْ نَفهمَ الآياتِ التي أَوردَها
الفادي على أَساسِ الآيتَيْن السابقتَيْن، لنُحسنَ فهمَ تلك الآيات.
أَخبرَ اللهُ أَنه سيُعَلّمُ عيسى ابنَ مريمَ - عليه السلام - التوراة.
قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) .
فأَيّ توراةٍ سيُعَلّمُه اللهُ؟
هل هي التوراةُ التي بأَيدي الحاخامات، التي حَرَّفوها وأَلَّفوها من عندهم؟
كَلآ.(1/730)
سيُعلمُه التوراةَ التي أَنزلَها على موسى - عليه السلام -، والتي جعلَ الإنجيلَ مُصَدِّقاً لها؛ لأَنَّ الكتابَيْنِ من عندِ الله!
لقد عَلَّمَ اللهُ عيسى - عليه السلام - التوراةَ التي أَنزلَها على
موسى - عليه السلام -، وذلك بما أَنزلَ عليه من كلامِ الإِنجيل، وجعَلَه مُصَدِّقاً للتوراة، وناسِخاً لبعضِ أحكامها، ومُحَلِّلاً لبعضِ الأَشياءِ المحَرَّمَة فيها.
قال تعالى: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) .
ولَنْ يُعَلِّمَ اللهُ عيسى - عليه السلام - التوراةَ المحَرَّفَة، التي شهدَ أَنها مُحَرَّفَة، وأَخبرَ القرآنُ أَنها مُحَرَّفَة ...
فهما " توراتان "، التوراةُ التي أَنزلَها على موسى - عليه السلام -،
ثم عَلَّمَها لعيسى - عليه السلام -، والتوراةُ التي حَرَّفَها اليهودُ، والتي تَبَرَّأَ اللهُ سبحانه منها.
وإِذا ثَبَتَ أَنَّ الأَحبارَ حَرَّفوا التوراةَ قبلَ بعثةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإِنَّ التوراةَ التي كانتْ بين أَيدي اليهودِ في المدينةِ كانَتْ مُحَرَّفَةً أَيضاً.
وصَرَّحَ القرآنُ بأَنَّ اليهودَ في المدينةِ كانوا يمارسونَ جريمةَ التحريفِ المتواصلِ للتَّوراة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا.
وبما أَنَّ اليهودَ في المدينة حَرَّفوا التوراة، وأَضاعوا التوراةَ الربانيةَ التي
أَنزلَها اللهُ على موسى - عليه السلام -، فقد تَحَدّاهُم اللهُ بالإِتيانِ بالتوراةِ الأَصْلِيَّة.
قال تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) .
لا تُعتبرُ الآيةُ شاهدةً على اعتمادِ التوراة، وأَنها صحيحةٌ سليمةٌ من
التحريفِ، وأَنَّ اليهودَ في المدينة كانوا يَلْتَزمون بالتوراةِ الصحيحة، كما زعم الفادي المفترِي.(1/731)
إِنَّ الآية إِدانةٌ لليهودِ، بأَنهم تَلاعبوا بالتوراةِ وحَرَّفوها، وغَيَّروا
أَحكامَها، ومع ذلك زعموا أَنهم ملتزمونَ بها، فتحدَّتْهم الآيةُ بإِحضارِ التوراةِ
الأصلية، ولن يستطيعوا ذلك، لأَنهم أَضاعوها.
أَخبرَ اللهُ أَنَّ كُلَّ أَنواعِ الطعام كانتْ مباحةً لبني إِسرائيل، وأَنه لم يُحَرِّمْ
عليهم إِلَّا الطعامَ الذي حَرَّمَه أَبوهم إِسرائيل - يعقوب - عليه السلام - على نفسه، وهذا الطعامُ هو لحومُ الإِبل، وهذا كان قبلَ إِنزال التوراة؛ لأَنَّ إِنزال التوراةِ كان على موسى - عليه السلام -، ويعقوبُ عاشَ قبلَ ذلك بمئاتِ السنين: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) .
فإِذا لم يُسَلِّم اليهودُ في المدينةِ بهذه الحقيقةِ القرآنية، وكَذَّبوا القرآن،
وزَعَموا أَنَّ الذي في التوراةِ خلافَ المذكورِ في القرآن، فعليهم أَنْ يَأتوا
بالتوراة، وأَنْ يَتْلوها، ويَستَخْرِجوا منها الكلامَ المتعارضَ من القرآن، وأَنْ
يُقَدِّموا هذا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابِه: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) .
وهم لن يستطيعوا ذلك، ولَن يأتوا بالتوراة، لأَنَّ التوراةَ الأَصليةَ
مفقودو، فمِنْ أَيْنَ يأتونَ بها؟!.
وهكذا رأَيْنا الآيةَ تُدينُ اليهودَ ولا تُؤَيِّدُهم، وتُقررُ ضَياعَ التوراةِ، ولا
تَشهدُ لها بأَنها صحيحة وسالمة من التحريف، كما ادعى الفادي!.
وزَعْمُ الفادي شهادةَ القرآنِ بسلامةِ الإِنجيلِ من التحريفِ مردود عليه،
والذي قَرَّرَه القرآنُ هو عكسُ ذلك، فقد قَرَّر تَحريفَ الرهبانِ للإِنجيل،
وتأْليهَهُم لعيسى - عليه السلام -.
قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) .(1/732)
وقد أَمَرَ اللهُ أَهْلَ الإِنجيلِ بأَنْ يَحكموا بما أَنزلَ اللهُ فيه، وذلك في قوله
تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) .
ولا تدلُّ هذه الآيةُ على اعتمادِ الإِنجيل، والشهادةِ له بعدمِ التغييرِ أَو
التبديل، كما ادَّعى الفادي الجاهل، إِنما تُخبرُ الآية ُ عن أَمْرٍ تاريخي، يُقَرِّرُ
أَنَ اللهَ بعثَ عيسى - عليه السلام - رسولاً، وأَنزلَ عليه الإِنجيل، وأَمَرَ أَتْباعَه النصارى بالتحاكمِ إِليه.
وهذا قبلَ بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وقبلَ إِنزالِ القرآنِ عليه.
أَمّا بَعْدَ البعثةِ فإِنَّ أَهْلَ الإِنجيلِ مثلُ أَهْلِ التوراة، مأْمورون بالإِيمانِ
بالقرآن والحكمِ بما أَنزلَ اللهُ فيه.
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .
ولذلك أَمَرَ اللهُ رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحكمَ بين اليهودِ والنصارى بما أَنزلَ اللهُ عليه في القرآن.
قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) .
ولذلك أَخبرَ اللهُ أَنَّ اليهودَ والنصارى ليسوا على شيء، حتى يُقيموا
التوراةَ والإِنجيلَ والاقرآنَ.
قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) .
والذي أُنزلَ إِليهم من ربِّهم هو القرآن، وهذا معناهُ أَنَّ الإِيمانَ الصحيحَ بالتوراةِ والإِنجيلِ يَجبُ أَنْ يقودَ إِلى الإِيمانِ بالقرآن.
وبعد هذا التوضيح يظهرُ كذبُ الفادي في ما قاله في نهايةِ كلامِه:
" فالكتابُ المقَدَّسُ إِذنْ صحيح، لم يَعْتَرِهِ تحريف أَو تبديلٌ أَو زيادَ أَو
نقصان ".
فالقرآنُ جَزَمَ بأَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ - بقسمَيْهِ التوراةِ والإِنجيل - أَصابَه
ما أَصابَه من التحريفِ والتبديلِ والزيادةِ والنقصان!!.
وجَزَمَ الفادي المفترِي بأَنَّ عيسى - عليه السلام - لم يُبَشِّرْ بالنبيِّ الخاتم - صلى الله عليه وسلم -(1/733)
قال: " وها هو الكتابُ المقَدَّسُ كُلُّه، ليس فيه إِشارةٌ إِلى إِتيانِ محمدٍ كَنبيّ، فمن أَيْنَ جاءَ محمدٌ بأَنَّ عيسى بَشَّرَ به؟ ".
وهو في هذا الافتراءِ يُكَذّبُ القرآنَ تكذيباً صَريحاً مباشراً، وذلك في
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
وزَعَمَ أَنَّ الذي في الإِنجيلِ أَنَّ المسيحَ وَعَدَ أَنْ يُرسلَ إِلى تَلاميذِه
" الروحَ القُدُسَ " من بعدِه، وليس محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
قال: " قالَ المسيحُ: إِنَّه بعد صُعودِهِ سيرسلُ إِلى تلاميذِه " الروحَ القُدُسَ ".
وأَصْلُه باللغةِ اليونانية " البارقليط "، ومَعْناهُ " المعَزّي ".
وهذه الكلمةُ تُقاربُ في لَفْظِها كلمةً يونانيةً أُخْرى، معناها " مَشهورٌ " أَو " مَمْدوحٌ " وهو معنى اسمِ محمد، فَظَنَّ محمدٌ أَنَّ هذا الممدوحَ الذي سيُرسلُه المسيحُ هو محمد!.
ومنشأُ هذا الخطأَ هو الالتباسُ بين الكلمتَيْن اليونانيّتَيْن، ففهمَ العربُ غيرَ ما أَرادَهُ المسيح ".
نحنُ مع القرآنِ في جَزْمِه أَنَّ عيسى - عليه السلام - قد بَشَّرَ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
وما قالَه الفادي المفترِي تَلاعُبٌ وتَحريفٌ وكتمانٌ للحقائقِ الهادية.
أَمّا البارقليط ومَعنَاها فنحتكمُ إِلى رجلٍ متمكِّنٍ من الإِنجيلِ ولُغَتِه، عَرَفَ
الحَقَّ وآمَنَ به وانْحازَ إِليه، وفَضَحَ كاتمي الحَق من القساوسةِ والرهبان، إِنه
المهْتَدي عبدُ الأَحَد داود.
كانَ عبدُ الأَحَدِ داود قِسيساً كبيراً للكلدانيين التابعينَ للروم الكاثوليك،
وكان اسمه: " دافيد بنجامين كلداني ".
وقد دَرَسَ الكتابَ المقَدَّسَ دراسةً متأنِّيَة، ووَقَفَ فيه على بشاراتِ أَنبياءِ بني إِسرائيل بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وبشارةِ عيسى الصريحةِ به..
وقادَهُ البحثُ إِلى الحق، فاعتنقَ الإِسلام، وأَلَّفَ كتاباً رائعاً هو: " محمد في الكتاب المقدس ".(1/734)
ويهمُّنا هنا ذِكْرُ خلاصةِ ما قالَه عن البارقليط.
قالَ - رحمه الله -: " وَرَدَتْ بشارةُ عيسى بأَحمدَ - صلى الله عليه وسلم - في إِنجيل يوحنا، في الإِصحاحاتِ الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر.
العبارةُ الصحيحةُ التي في إِنجيل يوحنّا هي قولُ عيسى - عليه السلام -: " وسوفَ أَذهبُ إِلى الآب، وسيرسلُ لكم رسولاً، سيكونُ اسْمُه " البرقليطوس " لكي يبقى معكم إِلى الأَبَد..".
والبرقليطوس هو: أَحمد.
ولكنَ النَّصارى حَرَّفوا العبارةَ إِلى قولِهم: " وسوفَ أَسأَلُ الآب، وسوفَ
يُعطيكم برقليطوس آخر ".
وفَرْق بَعيدٌ - كما يقولُ عبدُ الأحَد داود - بين الكلمةِ الأَصلية:
" البرقليطوس " بالتعريفِ والتحديد، وبينَ الكلمةِ الأُخرى " برقليطوس آخر"
بالتنكيرِ والتعميم، التي تدلُّ على أَنَّ عيسى - عليه السلام - عنده مجموعة من " البرقليطيسيين ".
كلُّ واحدٍ منهم برقليطوس، أَيْ: هو مُعَز ووسيط ومعينٌ.
وإِنَّ كلمةَ عيسى - عليه السلام - المحددة: " البارقليطوس " كلمة يونانية، معناها المحدَّدُ باللغةِ العربية: " الأَمْجَدُ الأَشْهَر "، وهو معنى " أحمد " باللغة العربية.
والصيغةُ الآراميةُ التي كان يتكلمُ بها عيسى - عليه السلام - هي: " مَحامْدا "، وهي متناسقةٌ مع الصيغةِ العربيةِ " محمد " أَو " أحمد " تماماً!.
والخلاصةُ أَنَّ عيسى - عليه السلام - قالَ للحواريين باللغة الآرامية: " سوفَ أَذهبُ إِلى الآب، وسيرسلُ لكم رسولاً، سيكونُ اسْمُه " مَحامْدا "، لكي يبقى معكم إِلى الأَبد ".
ولما كتبَ يوحَنّا هذه العبارة، ونَقَلَها من الآراميةِ إِلى اليونانية، ترجمَ
كلمةَ " مَحامْدا " إِلى كلمةِ " البارقليطوس "، ومعناها الأَحْمَدُ الأَمْجَدُ الأَشْهَرُ.
وفعلُه صحيح.(1/735)
لكنْ لما أَعادَ الرهبانُ كتابةَ إِنجيلِ يوحَنّا باليونانية أَرادوا طمسَ بشارةِ
عيسى بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فَحَرَّفوا الكلمة، ونَقَلوها من معناها المحدَّدِ إِلى المعنى الأَعَمّ، وحوّلوا كلمةَ " البارقليطوس " إِلى كلمةِ " بارقليطوس آخر "، التي معناها: المعَزّي أَو المعين.
وزَعَمَ الفادي أَنَّ عيسى لم يُبَشِّرْ بمحمدٍ عليهما الصلاة والسلام، ودعا
إِلى قراءةِ الأَناجيلِ لاستخراجِ هذه البشارة..
وها هو البروفسورُ المهتدي عبدُ الأَحد داود يُقَدّمُ لنا تلك البشارة، ويُرينا تَحريفَ الرهبانِ لها!!.
***
ما معنى الأُمِّي والأميين؟
وَقَفَ الفادي أَمامَ وَصْفِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بالنبيِّ الأُمِّي، وهو الوصْفُ الذي وَرَدَ في قولِه تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) .
وزَعَمَ أَنَّ سبَب وَصفِه بذلك أنه لم يكنْ أَصْلُه يهودياً، ولم يكنْ من أَهلِ
الكتاب؛ لأَنَّ الأُمّيّين عند اليهودِ هم الأُمَمُ من غيرِ اليهود.
وزَعَمَ الفادي أَنَّ القرآن: " جرى على هذا القياس، فسمى اليهودَ والنصارى " أَهْلَ الكتاب "، وما عَداهم " الأُمّيّين ".
فأَهْلُ الكتابِ اسْم علم على اليهودِ والنَّصارى، والأُمّيّون
اسْمُ عَلَمٍ على جَميعِ العَرَبِ وغيرِهم..
ولهذا سُمّيَ محمدٌ بالنبيِّ الأُمّيّ، لأَنه غريب عن الشعب المختار، الذي أَقامَ اللهُ منه جميعَ الأَنبياء وجعلَ خاتمَهم كلمتَه المسيحَ مُخًلِّصَ العالَم ".
وزَعْمُ الفادي مردود، لا تَشهدُ له اللغة، ولا يُؤَيِّدُه المعنى.(1/736)
إِنَّ " الأُمِّيَّ " منسوبٌ إِلى " الأُمّ "، وهي والدةُ الإِنسانِ التي أَنجبَتْه، تقول:
أُمّ، وأُمِّيّ.
كما تقول: شافع وشافِعِي.
والأُمِّيُّ هو الذي لا يُحسنُ الكتابة؛ لأَنَّ الكتابةَ تَحتاجُ إِلى مَهارةٍ وتدريبٍ وخبرة.
وسُمّيَ الذي لا يُحسنُ الكتابةَ أُمِّيّاً، تَشبيهاً له بحالةِ خروجِه من رَحِمِ أُمِّه؛ لأَنه خَرَجَ وهو جاهل، لا يَعلمُ شيئاً، ثم حَصلَ التعليمَ فيما بَعْد.
قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) .
وَصَفَ اللهُ رسولَه الخاتَم - صلى الله عليه وسلم - بالأُمِّية.
قالَ تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) .
لأَنه - صلى الله عليه وسلم - لم يَتعلم القراءةَ والكتابة، وهذا الوصْفُ لا يَعْني الذَّمَّ والإِنْقاص، إِنما هو وَصْفٌ لحالةٍ وواقع، فلا يُعابُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على أُمِّيَّتِه؛ لأَنَه لم تُيَسَّرْ له ظروفُ التعلُّم والكتابة، لا سيَّما أَنَّ الأُميةَ كانتْ منتشرةً في بلادِ العربِ في ذلك العصر، والذين تَعَلَّموا الكتابةَ كانوا قليلين.
وجَعَلَ القرآنُ أُمِّيَّةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَليلاً على أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) .
ولم تأتِ الأُمِّيَّةُ وَصْفاً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَه، وإِنما كانَتْ وَصْفاً للعربِ في الجاهلية، وهي إِخبارٌ عن واقِعِهم، وليس ذَمَّاً لهم.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
وبهذا نَعرفُ خَطَأَ الفادي عندما جَعَلَ الأُمَيّينَ كُلَّ الأَقوامِ من غيرِ
اليهود، مهما كانت أَجناسُهم، عَرَباً أَو عَجَماً.
إِنَّ هؤلاء يُسَمّيهم اليهودُ " أُمَمِيِّين "، والمفرد: أُمَمِيٌّ، وهو منسوبٌ إِلى الأُمَم وليس إِلى الأُمّ.
تقول: أُمَمٌ، وأُمَمِيّ.
والأُمَمُ جمعُ أُمَّة، وهي المجموعةُ من الناس.
وأَطْلَقَ اليهودُ وَصْفَ " الأُمّيين " على العربِ الذين كانوا حولَهم.(1/737)
وعلى هذا قولُه تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) .
***
عودة إلى دعوى التناقض في القرآن
عادَ الفادي المفترِي إِلى ادِّعاءِ التَناقُضِ في القرآن، وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْناهُ
مُطَوَّلاً في الآياتِ التي زَعَمَها مُتَناقضة، وقد جَمَعْنا بينَها وأَزَلْنا ما يُظَنُّ أَنه
تناقُفق موهوم بينها، لكنَّ الفادي المفترِي خَتَمَ كتابَه بهذه الدعوى المردودة.
وعَرَضَ هذه الدَّعوى بأُسلوب استفزازيٍّ مُثير.
قال: " في القرآنِ نهجانِ متباينان، كأَنهما من نبييْنِ مختلفَيْنِ، تَعارَكا حتى هَزَمَ ثانيهما الأَوَّلَ، فأَسَرَهُ وعَطَّلَ رسالَتَه..
حَظَرَ الأَوَّلُ إِيذاءَ مَنْ لم يؤمنْ به، فقال: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) .
وقال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وقالَ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) .
ولكنَّ الثاني نَسَخَ حُكْمَ هذه الآيات، ولو أَنَّه لم يَمْحُ حَرْفَها من القرآن،
بل أَبقاها للتلاوةِ فقط.
واتَّخَذَ في موطنِ هجرتِه في المدينة مِنهاجاً جديداً، هو الحربُ والعنفُ والقتال! فكيفَ يوفقُ المسلمُ بين هذه الآيات ِ، المكيّ والمدنيّ، السلميّ والحربيّ؟ ".
يَدَّعي المفترِي أَن الآياتِ المدنيةَ تُناقضُ الآيات ِ المكيةَ السابقة،(1/738)
فالآياتُ المكيةُ تأمر بالسلمِ وحسنِ الكلامِ والدعوة، وتَنهى عن الإِيذاءِ والعنفِ والقَتْل، والآياتُ المدنيةُ تنسخُ هذا المنهج، وتضعُ مكانَه الأَمْرَ بالعنفِ والقَتْلِ والحربِ وسفكِ الدّماء.
وهذا الادّعاءُ يدلُّ على جَهْلِه، وقد أَورد هو آيةً مدنيةً لا تأمرُ بالقتْلِ
والعنفِ - على حَدِّ تعبيره - وهي قولُه تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) .
ونهى اللهُ عن الإِكراهِ في الدين في سورة البقرةِ المدنية.
قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) .
لم يُغَيِّرْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - منهجَه في الدعوة، بينَ الفترةِ المكيةِ والفترةِ المدنية، ولم تَنسخْ آياتُ الجهادِ والقتالِ آياتِ البلاغِ المكية، ولا تَعارُضَ بين هذه الآيات!!
إِنَّ الأَمْرَ بالدعوةِ والبَلاغِ المبينِ مستمرٌّ في المدينة، والآياتُ المدنيةُ تَنهى عن الإِكراهِ في الدين، كما هو واضحٌ في آيتي البقرةِ وآلِ عمران اللتَيْن أَوردْناهما، ومعناهما مستمرٌّ حتى قيامِ الساعة، لم يُنسخْ ولم يُغَيَّرْ ولم
يُبَدَّلْ.
وآياتُ الجهادِ والقتالِ مستمرةٌ أَيضاً حتى قيامِ الساعة، والجهادُ موجَّهٌ
للذين يَقفون أَمامَ هذا الدين، بهدفِ إِبطالِ مخططاتِهمِ ضدَّ الإِسلام،
والقتالُ موجَّهٌ للأَعداء الذين يُحاربون الدعاة، ويمنعونهم من واجبِ
التبليغ، وهو بهدفِ تحطيمِ القوةِ المادية الكافرة، التي تَفتنُ الناسَ،
وتمنعُهم من اعتناقِ الإِسلامِ عن قناعَة، وليس بهدفِ إِكراهِ الناسِ على
اعتناق الإِسلام.
وبهذا نعرفُ أَنه لا تَعارضَ بين آياتِ الدعوةِ والبلاغِ والنهيِ عن
الإِيذاءِ والإِكراه، وآياتِ الأَمْرِ بالجهادِ والقتال؟
لأَنَّ كُلَّ آياتٍ تُنَزَّلُ على حالةٍ خاصة.(1/739)
لماذا النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
أَخَبَر اللهُ المؤمنين أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَولى بهم من أَنفسِهم.
قالى تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
ولذلك أَوجبَ على المؤمنين أَن يَقْبَلوا حُكْمَه، ويُنَفِّذوا أَمْرَه؛ لأَنَّه لا يأمُرُ إِلّا بخَيْر.
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) .
ولم يُعجبْ هذا الفادي المفترِي، الذي جعلَ هدفَه الأَساسيَّ تخطئةَ
القرآنِ، وإِثارةَ الاعتراضِ عليه، واتهامَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ولذلك قال: " من هذه الآياتِ نرى كيفَ فرضَ محمدٌ إِرادَتَه المطلقة، فإِذا أَرادَ أَنْ يُزَوِّجَ زينبَ لابنِه زَيْد، فيجبُ أَنْ تَنْصاعَ للأَمْر، حتى لو اعترضَتْ هي وأَخوها، وإِذا أَرادَ محمد زينبَ فيجبُ أَنْ يتخلَّى عنها زيدٌ زوجُها!
وإِذا أَرادَ الغزوَ فعلى الشّبّانِ أَنْ يُطيعوا بدونِ استئذانِ والديهم ".
لم يَفرضْ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِرادتَه المطلقةَ على أَصحابِه، ولم يُخْضعْهم له، ولم يَجعل الأَمْرَ أَمْراً شخصياً، يبحثُ فيه عن زعامةٍ على حسابهم!.
لقد تعاملَ معه الصحابةُ على أَنه رسولٌ من عندِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يبلِّغُهم شرعَ الله، ويُطبِّقُ فيهم حُكْمَ الله، ولا يأمُرُهم إِلا بما أَمرهم اللهُ به، ولا يَنهاهم إِلّا عن ما نهاهُم اللهُ عنه..
وقد حفظ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، وعَصَمَه من
الوقوعِ في أَيِّ خطأ أَو ذَنْبٍ أَو معصية، ولذلك كان لا يأمُرُ إِلّا بطاعةِ الله.
لذلك أَمَرَ اللهُ المؤمنين بطاعةِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - كما أَمرهم بطاعتِه.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) .(1/740)
وجعلَ سبحانه طاعةَ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - طاعةً له، فقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) .
بهذا الاعتبارِ صارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى بالمؤمنين من أَنفسِهم.
قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) .
***********************
تَمَّ الكتاب بحمد الله وتوفيقه(1/741)
كتاب: مائة سؤال فى النصرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
أسئلة تبحث عن أجوبة
السؤال الأول
(التجسد) هل تجسد الله. أم أرسل ابنه الوحيد؟
يعتقد الأرثوذكس أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ جسد بشري وأتى بنفسه للعالم بينما نجد أن كاتب إنجيل يوحنا يقول: لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد. 3 عدد 16 وقال يوحنا في رسالته الأولى: إن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به.. يوحنا 4 عدد 9
ونحن نسأل: هل الله قد تجسد كما تزعمون وأتى بنفسه للعالم أم انه أرسل للعالم ابنه الوحيد كما تزعم النصوص؟ ومما لا شك فيه أن الراسل غير المرسل والباعث غير المبعوث. وهناك العديد من النصوص التي تنص على أن الله لم يتجسد وينزل ولكنه أرسل ابنه للعالم انظر الرسالة الأولى ليوحنا 4 عدد 14
السؤال الثاني
(الصلب والفداء) لماذا استمرار العقوبات حتى بعد الفداء؟
يؤمن النصارى بعدل الله وأنه إله عادل. وقد ذكر كتابهم المقدس العقاب الذي شمل آدم وحواء والحية بعد قصة السقوط وهذا العقاب قد شملهم بالآتي:
(1) أوجاع الحمل والولادة لحواء. [تكوين 4 عدد 2]
(2) دوام العداوة بين نسل المرأة والحية
(3) لعنة التربة التي يعتمد عليها الإنسان في حياته على الأرض [تكوين 3 عدد 17 - 19]
(4) عقوبة الرب للحية التي أغوت حواء بأن جعلها تسعى على بطنها [تكوين 3 عدد 14]
والسؤال المطروح هو: بما أن الله عادل. . وقد صالحنا بصلب المسيح المزعوم. . فلماذا لم تنتهِ هذه العقوبات.؟ لماذا ما زالت الحية تسعى على بطنها؟ لماذا ما زالت المرأة تصاب بأوجاع الحمل والولادة؟ لماذا لم تنتهي العداوة بين نسل المرأة والحية؟
ألستم تقولون أن الله صالحنا بموت المسيح على الصليب فلماذا ما زالت المرأة تلد بالأوجاع - لدرجة أن البعض منهن يستخدمن المخدر من شدة الألم - ولماذا عقاب الاشتياق ما زال موجوداً منها ومن الرجل؟ ولماذا ما زال عقاب الرب للحية بأن تمشي على بطنها مستمراً (تكوين 3 عدد 14) ؟؟!
أين هو عدل الله بحسب إيمانكم؟؟ ونلاحظ أيضا أن الله أعطى عقوبة لآدم " بعرق وجهك تأكل خبزاً.. ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها " (تكوين 3عدد 19،17) فإذا كانت قصة الخلاص المسيحية هي حقيقة فلماذا ما تزال هذه العقوبات قائمة؟! أم أنها باقية للذكرى كما قال البابا شنودة في إحدى كتاباته؟!!!
هل من عدل الله بعد أن خلصنا المسيح وصالحنا أن يُبقي هذه العقوبات؟
السؤال 3:
(صفات الرب) هل الله ينقض عهده أم لا ينقض عهده؟
مزمور89 عدد 34: لا انقض عهدي ولا اغيّر ما خرج من شفتيّ. (SVD)
هذا هو الطبيعي وهذا هو المقبول في صفات الله سبحانه وتعالى أن الله ليس بناقض للعهد كما في المزمور 89 عدد 34 وهو كلام الله لداوود ولكننا نجد أن الرب نقض عهده في موضع آخر فانظر ماذا يقول في زكريا الإصحاح 11 عدد10-11
زكريا11 عدد10: فأخذت عصاي نعمة وقصفتها لانقض عهدي الذي قطعته مع كل الأسباط. (11) فنقض في ذلك اليوم وهكذا علم أذل الغنم المنتظرون لي إنها كلمة الرب. (SVD)
السؤال 4:
(الصلب والفداء) السبب الرئيس هو إبليس فلماذا لم يمت إبليس؟(2/1)
لقد ادعى بولس مؤسس المسيحية المحرفة بأن أجرة الخطية الموت، فإذا كانت أجرة الخطية الموت فلماذا لم يمت إبليس المتسبب الرئيسي للخطية والذي هو صاحب كل خطية في العالم؟ نريد إجابة مقنعة بحسب عدل الله الذي تدعونه. ومع العلم أن الله إختار أن يفدي آدم أو ذرية آدم ولم يفدي إبليس مع أن إبليس كان من أبناء الله كما في سفر أيوب 1عدد 6: وكان ذات يوم انه جاء بنو الله ليمثلوا امام الرب وجاء الشيطان ايضا في وسطهم. (SVD) وغير هذا في أيوب 2 عدد 1 وإستمرت علاقة الشيطان بالرب وتكليف الرب للشيطان بمهام كما كلفه بضرب أيوب بقرح ردئ وغيره من الأمور , مما يعني إستمرار العلاقة بين الرب والشيطان فلماذا لم يعاقبه الله كما عاقب آدم؟ أو يكفر عنه كما كفر عن آدم؟ حقيقة نحتاج إلى إجابة.
السؤال 5:
(الأقانيم والتثليث) تدَّعون أن الأب والابن والروح القدس ثلاثة أقانيم متحدة، فهل تعتمد هذه الأقانيم على بعضها البعض؟ وهل لكل منهم وظيفة لا يستطيع الآخر أن يقوم بها؟ فإن كانوا يعتمدون على بعضهم فليس أي منهم إله، لأن الإله لا يعتمد على غيره. وإن كانوا لا يعتمدون على بعضهم، فيكونون حينئذٍ ثلاثة آلهه وليس إلهاً واحداً. وبالمثل إن كان لكل منهم وظيفة لا يستطيع الآخر القيام بها، لا يكون أى منهم إله، لأن الله كامل، وعلى كل شيء قدير. وإن كان لكل منهم وظيفة محددة، يكون كل منهم إله ناقص، ولا يُقرُّ دينكم هذا.
السؤال 6:
(التجسد) أين الدليل على أنه إنسان كامل؟
هل قال المسيح لتلاميذه وأتباعه، إنه يتكون من جزء لاهوتي وجزء ناسوتي؟ وأنه إله كامل وإنسان كامل؟ نطالب النصارى بالأدلة النقلية من الكتاب المقدس على لسان المسيح التي تثبت ذلك.
وإذا كان المسيح إنسان كامل فهل يعني هذا انه يشتهي النساء كأي إنسان كامل وان قضيبه الذكري كان ينتصب كأي إنسان كامل؟!
ثم إذا كان الناسوت واللاهوت هو ركيزة أساسية في النصرانية وسبب من أسباب الانقسام والحروب والاضطهاد والكراهية بين النصارى. فماذا قال المسيح عنها؟ كيف شرحها لهم؟
وإذا كان هذا من البدع التي ابتدعوها بعد السيد المسيح عليه السلام فكيف يكون أساس الدين وأكثر الأمور جدالا حولها لم يشرعه الله ولم يتكلم عنها المسيح؟
السؤال 7:
(أخطاء) هل أنجبت ميكال بنت شاول أم لا ?
(وَلَمْ تُنْجِبْ مِيكَالُ بِنْتُ شَاوُلَ وَلَداً إِلَى يَوْمِ مَوْتِهَا ( [صموئيل الثاني 6 عدد23] .
نفهم من النص السابق أنها لم تنجب أبداً حتى يوم مولدها , لكن نجد العكس في النص التالي:
(فَأَخَذَ الْمَلِكُ، أَرْمُونِيَ وَمَفِبيُوشَثَ ابْنَيْ رِصْفَةَ ابْنَةِ أَيَّةَ اللَّذَيْنِ وَلَدَتْهُمَا لِشَاوُلَ، وَأَبْنَاءَ مِيكَالَ ابْنَةِ شَاوُلَ الْخَمْسَةَ الَّذِينَ أَنْجَبَتْهُمْ لِعَدْرِيئِيلَ ابْنِ بَرْزِلاَيَ الْمَحُولِيِّ [صموئيل الثاني 21 عدد 8] .
فهل أنجبت ميكال بنت شاول أم لم تنجب؟ نريد إجابة أيها العقلاء.
السؤال 8:
(أخطاء الشريعة) هل القتل حرام أم حلال؟
قال الرب لموسى في الوصايا العشر: لا تقتل. لا تزني. لا تسرق. . خروج 20 عدد 13
إلا أننا نجد في سفر العدد 31 عدد 1 - 17 أن الرب يناقض الوصية بعدم القتل:
وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى. . 17فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَاقْتُلُوا أَيْضاً كُلَّ امْرَأَةٍ ضَاجَعَتْ رَجُلاً، 18وَلَكِنِ اسْتَحْيَوْا لَكُمْ كُلَّ عَذْرَاءَ لَمْ تُضَاجِعْ رَجُلاً.(2/2)
وجاء في سفر يشوع 6 عدد 16:
قَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: اهْتِفُوا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ وَهَبَكُمُ الْمَدِينَةَ. 17وَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ وَكُلَّ مَا فِيهَا مُحَرَّماً لِلرَّبِّ،. . . . أَمَّا كُلُّ غَنَائِمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَآنِيَةِ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، فَتُخَصَّصُ لِلرَّبِّ وَتُحْفَظُ فِى خِزَانَتِهِ. 20فَهَتَفَ الشَّعْبُ، وَنَفَخَ الْكَهَنَةُ فِي الأَبْوَاقِ. وَكَانَ هُتَافُ الشَّعْبِ لَدَى سَمَاعِهِمْ صَوْتَ نَفْخِ الأَبْوَاقِ عَظِيماً، فَانْهَارَ السُّورُ فِي مَوْضِعِهِ. فَانْدَفَعَ الشَّعْبُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ كُلٌّ إِلَى وِجْهَتِهِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا. وَدَمَّرُوا الْمَدِينَةَ وَقَضَوْا بِحَدِّ السَّيْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهَا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَطْفَالٍ وَشُيُوخٍ حَتَّى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحَمِيرِ.
وفي سفر هوشع 13 عدد 16 يقول الرب: ((تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق))
وفي سفر إشعيا 13 عدد 16 يقول الرب: ((وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم))
السؤال 9:
(صفات الرب) هل الرب يتراجع عن كلامه؟ ولا يوفي بوعده؟
إرميا33 عدد17: لأنه هكذا قال الرب. لا ينقطع لداود إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل. (SVD)
ما نفهمه من النص السابق في ارميا 33 عدد17 هو على كلام النبي ارميا أنه لا ينقطع نسل داود من الملوك الجالسين على كرسي حكم إسرائيل ولكن لنراجع سفر ارميا الإصحاح 33 عدد21 كما يلي:
إرميا33 عدد21: فان عهدي أيضا مع داود عبدي ينقض فلا يكون له ابن مالكا على كرسيه ومع اللاويين الكهنة خادمي. (SVD)
فنجد أن الرب ينقض عهده مع داوود فلا يكون لداود ابن يحكم على شعب إسرائيل كما قال من قبل.لن أطيل في التعليق على هذه التناقضات ولكن ليس أمامنا هنا إلا اختياران لا ثالث لهما:
أولاً هو كذب أحد الخبرين , ثانياً كذب الخبرين معاً.ولك الاختيار.
السؤال10:
(الأقانيم والتثليث) لماذا الأب أب؟ ولماذا لا يكون ابناً؟
يزعم النصارى أن المسيح مولود من أبيه أزلاً.......... ونحن نقول: إذا كان الأمر كما تقولون فيكونان موجودان أزليان الله الأب أزلي والله الابن أزلي فإن كان الأب قديماً فالابن مثله وإن كان الأب خالقاً كان الابن خالقاً مثله، والسؤال هو:
لم سميتم الأب أباً والابن ابناً؟
فإذا كان الأب استحق اسم الأبوة لقدمه فالابن أيضاً يستحق هذا الاسم بعينه لأنه قديم قدم الأب، وإن كان الأب عالماً قديراً فالابن أيضاً مثله، فهذه المعاني تبطل اسم الابوة والبنوة، لأنه إذا كان الأب والابن متكافئين في القدرة والقدم فأي فضل للأب على الابن حتى يرسله فيكون الأب باعثاً والابن مبعوثاً؟
ألم يقل يوحنا أن الأب أرسل الابن للعالم؟ ولا شك أن الراسل هو غير المرسل.
السؤال 11:
(أخطاء) هل يستطيع الإنسان رؤية الله I؟؟؟
على حسب كلام يوحنا 1عدد18 الله لم يره أحد أبداً اقرأ:
يوحنا 1 عدد18: الله لم يره احد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر (SVD)
لكننا نجد عكس ذلك كما يلي:
موسى رأى الله وجهاً لوجه
خروج 33 عدد11: ويكلم الرب موسى وجها لوجه كما يكلم الرجل صاحبه. وإذا رجع موسى إلى المحلّة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة (SVD)
وأيوب رأى الله بعينه:(2/3)
أيوب42 عدد 5: بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني. (SVD)
وداود رأى الله في قدسه:
مزمور63 عدد2: لكي أبصر قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك. (SVD)
وإبراهيم رأى الله عندما ظهر الله له:
أعمال7 عدد2: فقال أيها الرجال الإخوة والآباء اسمعوا. ظهر اله المجد لأبينا إبراهيم وهو في ما بين النهرين قبلما سكن في حاران (SVD)
ونعيد السؤال كالمعتاد , هل الله رآه أحد غير الابن أم لم يراه أحد؟ رجاً ادعم إجابتك بنصوص الكتاب المقدس
السؤال 12:
(هل معقول؟) ما قصة هؤلاء الملائكة؟
يعلّمنا كتاب الله أن الملائكة هم عباده المعصومون عن الخطأ والزلل إلا أن كتبة الأسفار زعموا أن من الملائكة من سار وراء رغباته وضل، ولم يبتعد عن هوان المعصية فاستحق بذلك العذاب المهين. . فقد جاء في رسالة بطرس الثانية 2: 4 قوله: الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء
وجاء في رسالة يهوذا 1: 6 الملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم الي دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام
والعجب العجاب أن بولس - مؤسس المسيحية الحالية - يزعم أنه سيحاكم وسيحاسب ملائكة الله في يوم الحساب.
فهو القائل: ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم. ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة. . كورنثوس الاولى 6: 2 _ 3
فهل يعقل هذا الكلام؟
السؤال 13:
(الكتاب المقدس) أين ذهبت تلك الكتب؟؟ أليست من كلام الله؟ كيف اختفت؟؟؟
عدد 21عدد 14: لذلك يقال في كتاب حروب الرب واهب في سوفه وأودية ارنون (SVD)
يشوع 10 عدد 13: فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر. فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل. (SVD)
وها هو سفر ياشر مرة أخرى
2صموائيل1 عدد 18: وقال إن يتعلم بنو يهوذا نشيد القوس هوذا ذلك مكتوب في سفر ياشر (SVD)
إذا كانت ليست وحياً إلهياً فكيف يستشهد الكامل بالناقص؟ كيف يستشهد الله بكلام بشر ويعلم أن هذا الكلام سيختفي من العالم؟
اعلم: يقول قاموس الكتاب المقدس عن سفر ياشر تحت حرف الياء ثم الاسم ياشر هكذا:
اسم عبري معناه ((مستقيم)) وهو ابن كالب ابن حصرون (1 أخبار 2: 18) .
سفر ياشر (سفر هياشار) :يلوح للمتعمق في العهد القديم أن ترنيمة يشوع (يش 10: 13) ، ومرثاة داود لشاول ويوناثان (2 صم 1: 18- 27) ، مقتبسة عن هذا السفر المفقود. ولربما كان خطاب سليمان عند تدشين الهيكل (1 مل 8: 12 الخ. ونشيد دبورة (قض 5) مستقيان منه أيضاً. ويظهر أن هذا السفر كان مجموع قصائد، قُدم له بديباجة نثرية، وتخللته تفاسير وشروحات نثرية، واختتم بها على غرار المزمور 18 و 51، أو كسفر أيوب، الذي يفتتح (أي 1: 1- 3: 1) نثرا ويختتم (ص 42: 7- 17) . نثراً. إن جمال هذا السفر الذي نلمسه في القطع المقتبسة منه في العهد القديم يبعث على الرجاء بأنه سيعثر عليه كاملاً في النهاية، سيما وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب قبل عصر داود وسليمان.
السؤال 14:
(الألوهية) لماذا إحتاج إلى من يدحرج الحجر؟
قال متى في إنجيله 28 عدد 2 وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ
والسؤال هو: إذا كان المسيح إله فهل الإله يحتاج الي ملاك من السماء ليزيح ويدحرج الحجر الذي كان بباب قبره؟(2/4)
وهذا الأمرفيه مسائل لا يمكن أن يتخطاها باحث عن الحق , فلو راجعت نفس القصة في الأناجيل الأربعة وجدت العجب من التناقضات والإختلافات ما عليك إلا أن تأتي بالأربع أناجيل وتراجع نفس القصة ذاتها وهي قصة قيام يسوع من القبر وإعتبر كل ما تجده من إختلاف هو سؤال يحتاج إلى إجابة منك.
السؤال 15:
(الألوهية) إن كان المسيح هو الله فلماذا نفى عن نفسه الصلاح؟
هل هناك أحد صالح غير الله؟؟؟
متى19 عدد17: فقال له لماذا تدعوني صالحا. ليس احد صالحا الا واحد وهو الله. ولكن ان اردت ان تدخل الحياة فاحفظ الوصايا. (SVD)
عجباً أن نجد في الكتاب أناس صالحين ولا يكون الله وحده هو الصالح كما قال يسوع:
إقرأ: يوسف كان رجلاً باراً وصالحاً:
لوقا23 عدد50: وإذا رجل اسمه يوسف وكان مشيرا ورجلا صالحا بارا. . (SVD)
إقرأ: برنابا كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس:
أعمال11 عدد22: فسمع الخبر عنهم في آذان الكنيسة التي في أورشليم فأرسلوا برنابا لكي يجتاز إلى إنطاكية. (23) الذي لما أتى ورأى نعمة الله فرح ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب. (24) لأنه كان رجلا صالحا وممتلئا من الروح القدس والإيمان. فانضم إلى الرب جمع غفير. (SVD)
ثم إذا كان يسوع غير صالح كما يقول الكتاب فهو قطعاً ليس إله لأنه من صفة الإله أن يكون صالحاً.
والسؤال هو: إن كان هناك بشر وصفهم الكتاب أنهم صالحين من قبل يسوع ومن بعد يسوع فكيف يكون يسوع وهو معلمهم أو إلههم على حب زعمكم غير صالح وباعترافه شخصياً؟
السؤال 16:
(الأقانيم والتثليث) من أين جئتم بكلمة التثليث؟ فهي غير موجودة بكتابكم المقدس!!
رجاءً إدعم كلامك بنصوص الكتاب المقدس, نحتاج إلى كلمة التثليث أو الثالوث المقدس, إنه أصل العقيدة عندك بل أصل الأصول ... فكيف لا يذكر ولا مرة واحدة هذه الكلمة في الكتاب كله؟
السؤال 17:
(تناقضات) ما آخر كلمة قالها يسوع على الصليب؟
لدينا خمسة روايات من أربع أناجيل وكل واحدة مختلفة عن الأخرى فهل عجز الوحي عن أن يصدق أو يبلغ التلاميذ ما هي آخر كلمة قالها يسوع على الصليب في هذا الحدث الرهيب؟ ننتظر الإجابة.
1- حسب إنجيل لوقا 23: (46) ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك استودع روحي. ولما قال هذا اسلم الروح. (SVD)
سؤالى بسيط ... أية روح أستودعها المسيح يدى ربه؟؟ الروح الأنسانية ... هل لديك دليل ... لا ... عظيم ... لماذا يستودع روحه فى يدى الآب ان كان هو مساوى للآب فى الجوهر ... وهل ثبت ان المسيح كما انه يحى يمكن ان يميت؟؟؟ وما معنى (ربه) هل المسيح له رب ... أذا فليس هناك تثليث.
2- بحسب إنجيل متى 27: (46) ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا ايلي ايلي لما شبقتني أي الهي الهي لماذا تركتني. (SVD)
3- بحسب إنجيل متى أيضاً ولكن في رواية أخرى: متى27 عدد50: فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم واسلم الروح (SVD)
4- وبحسب إنجيل مرقس15 عدد34: وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا ألوي ألوي لما شبقتني. الذي تفسيره الهي الهي لماذا تركتني. (SVD)
لو قلتم ان المصلوب هو المسيح ... فتكون هذه الصرخة دليل ان المسيح كان عاجزا ... محتاج للرب دائما وليس له قوة؟؟؟ ولماذا يحتاج الإله إلى أله آخر.. وكم ألاه هنا؟؟
5- وبحسب إنجيل يوحنا 19 عدد30: فلما اخذ يسوع الخل قال قد أكمل. ونكس رأسه واسلم الروح (SVD)
السؤال 18:
(الصلب والفداء) أين النص؟(2/5)
يمثل صلب المسيح كفارة عن خطيئة آدم الركن الأساسي في عقيدة النصرانية، وتزعمون أنه بسبب خطيئة آدم جاء المسيح عليه السلام، والسؤال هو:
أين نجد نصاً في الاناجيل الاربعة على لسان المسيح عليه السلام يقول فيه ويذكر انه جاء من اجل الخطيئة الأزلية لأبوهم آدم؟
ومن جهة أخرى: أين هو صليب المسيح المزعوم؟ ماذا حدث له؟
السؤال 19:
(صفات الرب) هل هو إله تشويش أم إله سلام؟
قال بولس)) : لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلَهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلَهُ سَلاَمٍَ. ((كورنثوس الأولى 33 عدد 14
وجاء في سفر التكوين: ((وَقَالَ الرَّبُّ: هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ وَهَذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالْآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ. 8فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ لِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا "بَابِلَ" لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ)) 11 عدد 6-9
وفي الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي 2 عدد 11 نجد أن الله يرسل إليهم عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب.
فمن نصدق رواية بولس، أم رواية سفر التكوين بالعهد القديم؟ وهل يتعارض كلام الله؟
وهل نفهم من ذلك أن تعلم اللغات الأجنبية محرم من الله حسب كتابكم المقدس؟
السؤال 20:
(هل معقول) هل الرب يحتاج إلى جحش؟
مرقس 11 عدد 2: وقال لهما اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت وأنتما داخلان إليها تجدان جحشا مربوطا لم يجلس عليه احد من الناس. فحلاه وأتيا به 3. وان قال لكما احد لماذا تفعلان هذا فقولا الرب محتاج إليه. فللوقت يرسله إلى هنا. (SVD)
فقط أعطوا الناس سبب واحد فقط يبرر احتياج الرب لجحش!! ليس من أجلي أنا ولكن من اجل الناس!! ما هو السبب الذي يحتاج الرب جحشاً من أجله؟
وهل من المنطق أنه لا يقول لتلاميذه أنكم لا تخبروا أصحاب الجحش عن سبب أخذكم للجحش إلا إذا سألوكم عن ذلك؟ ألا تعتبر هذه سرقة؟ سبحان الله! رب.. ويحتاج إلى جحش؟
السؤال 21:
(هل معقول) هل الحمير يوحى لها؟ وهل الحمار يردع نبي عن حماقة؟
رسالة بطرس الثانية 2عدد16: ولكنه حصل على توبيخ تعديه إذ منع حماقة النبي حمار أعجم ناطقا بصوت إنسان. (SVD)
وأصل هذه القصة كما هو معروف إقتبسها صاحب رسالة بطرس من العقد القديم سفر العدد 22عدد25-31
السؤال 22:
(هل معقول) كيف يركب رجل على حمار وجحش معاً في نفس الوقت؟
جاء في إنجيل متى 21عدد7: وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. (SVD)
السؤال 23:
(تناقضات) ممنوع اللمس أم مسموح اللمس؟
من التناقضات الموجودة في الإنجيل نجد انه قد ورد في إنجيل يوحنا 20عدد 17قول المسيح لمريم المجدلية: لا تلمسيني لأني لم اصعد بعد ... الا اننا نجد بعد ذلك في العدد 27 من نفس الإصحاح ان المسيح يقول لتوما: هات اصبعك. . وهات يدك وضعها في جنبي!!
السؤال 24:
(المسيح) من الذي أدخل الشيطان في يهوذا؟(2/6)
جاء في إنجيل يوحنا 13 عدد 26-27 قول السيد المسيح عن يهوذا: 26 اجاب يسوع هو ذاك الذي اغمس انا اللقمة واعطيه. فغمس اللقمة واعطاها ليهوذا سمعان الاسخريوطي. (27) فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع ما انت تعمله فاعمله باكثر سرعة. (SVD)
ومعنى هذا أن السيد المسيح هو الذي أدخل الشيطان على يهوذا!! وهل عرفت يد المسيح عليه السلام إلا الخير والإحسان؟
السؤال 25:
(أخطاء علمية) عهد آدم حتى ميلاد المسيح؟
يقول لنا الكتاب المقدس أن عمر البشرية بحساب التواريخ وعلماء اللاهوت والمفسرين كلٌ على حسب توراته كما هو الآتي:
1 - فى التوراة العبرية من عهد آدم حتى ميلاد المسيح هو (4004) سنة.
2- فى التوراة اليونانية من عهد آدم حتى ميلاد المسيح هو (5872) سنة.
3- فى التوارة السامرية من عهد آدم حتى ميلاد المسيح هو (4700) سنة.
والسؤال هنا للعقلاء فقط , يقول الدكتور عبد الجليل شلبي: تحدثنا من قبل عن أخطاء سفر التكوين في حديثه عن نشأة الكون، ونريد الآن أن نرى سلسلة الأنساب الذي جاءت به، وهي السلسلة من آدم إلى إبراهيم، وقد عاش آدم 930 عاماً، وإبراهيم هو الابن العشرون له وولد بعده بنحو 1948 سنة، وهذا تاريخ لا يصدق ولا يعقل، هذا لأن إبراهيم عليه السلام وفد على سوريا في القرن الثامن عشر ق. م. عصر انتشار الهكسوس وهو عصر كانت الحضارة الانسانية قد تقدمت فيه شوطاً بعيداً جداً، لا يحدث إلا في آلآف عديدة من السنين، وعلى سبيل المثال كان العصر الجليدي في أوربا في نحو 500.000 - 400.000 ق م، وفي الأرض التي عاش بها العبرانيون ترك أسلافهم أدوات حجرية وجدت في كهوف عدلون وجبل الكرمل وأم قطفة. . وغيرها وهي على حظ من الصنعة، ويقدر العصر الحجري في هذه البقاع أنه كان في نحو 150.00 سنة ق. م.
وإذن فتقدير ميلاد إبراهيم انه 1944 تقدير ظاهر السخف.
السؤال 26:
(الصلب والفداء) لماذا لم يفدي البشر في عهد آدم؟
عندما وقعت المعصية لم يكن هناك الا آدم وحواء، وبناء عليه لماذا ترك إله المحبة والسلام الانسانية تتوالد تحت ناموس اللعنة والخطية وان يعم الفساد وينتشر؟!!
إختر الإجابة من الآتي: ضع علامة صح أمام الإجابة الصحيحة:
أ - الرب لم يغفر للبشر ولم يقتل نفسه على الصليب من أجلهم في عهد آدم لأنه لم يكن مثلث الأقانيم في هذا الوقت.
ب - الرب لم يقتل إبنه في عهد آدم لأنه لم تكن خطرت على باله فكرة الصلب والفداء حينها وكان غاضب من آدم
ت - لم يقتل إبنه في هذا الوقت لأن الرب كان عقيدته زمان كما في حزقيال 18عدد20: النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من اثم الاب والاب لا يحمل من اثم الابن. بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون. (SVD) حتى غير رأيه وأصبح العكس وأن الإله ممكن يُقتل بدلاً عن البشر وأصبح الإبن يحمل خطيئة الأب.
ث - لأنه قال هكذا في سفر الخروج 14عدد9: فاذا ضل النبي وتكلم كلاما فانا الرب قد اضللت ذلك النبي وسأمد يدي عليه وابيده من وسط شعبي اسرائيل. (SVD) فكان غرضه أن يضل الناس من هذا الزمان حتى قتله إبنه من أجلنا. ولأنه قال هكذا أيضاً: في تيماثوس الثانية 2عدد11: ولاجل هذا سيرسل اليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب (SVD) فكان قصده إضلال البشرية.(2/7)
ج - قصة الصلب والفداء هي خرافة ومن المستحيل أن يقتل الله نفسه أو يقتل إبنه من أجل خطيئة إرتكبها آدم ولم يكن آدم يعلم من الأساس أنها خطيئة لأن الشجرة التي أكل منها آدم هي شجرة معرفة الخير والشر فقبلها لم يكن عارفاً للخير أو الشر. تكوين 2عدد17 , تكوين 3عدد22
السؤال 27:
(الصلب والفداء) أين العدل؟ وأين العقل؟
في قضية الصلب والفداء نرى الآتي:
_ الانسان يخطىء ضد الله! _ الله يتألم! _ الله يجعل نفسه ملعون وكفارة خطية! غلاطية (3عدد13) المسيح صار لعنة _ ليظهر للبشر بر الله!
وفي هذا نرى: أن الخاطيء هو الذي تكون خطيئته سبباً في تألم الله!!
ثم يحمل الله خطيئة هذا المذنب ويجعل نفسه مكانه ليظهر بره!!
فأي عدل هذا؟ ثم العجب انك تجد أن الله قتل نفسه من أجل أن يغفر للبشر خطيئة لم يرتكبوها في حقه نفسه!! أو قتل نفسه ليرضي نفسه , شئ عجيب.
السؤال 28:
هل كل من يقتل من الأنبياء يكون كذاب؟
جاء في سفر التثنية 18 عدد 20: ((وأما النبي الذي يطغي فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي.))
هل يعني ذلك طبقاً لهذا النص أن نبي الله يوحنا الذي كانت نهايته القتل كذاب؟ _ والعياذ بالله _ وهل ينطبق هذا النص أيضاً على نبي الله زكريا وغيرهم من الانبياء الذين قتلوا؟ أم ان النص من المحرف؟
السؤال 29:
(أخطاء علمية) كيف يفرق بين الدم والماء؟
كتب يوحنا في 19 عدد 33 حول حادثة الصلب المزعومة ما يلي:
واما يسوع فلما جاءوا اليه لم يكسروا ساقيه لانهم رأوه قد مات.34 لكن واحدا من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء35. والذي عاين شهد وشهادته حق وهو يعلم انه يقول الحق لتؤمنوا انتم.
والسؤال هو:
كيف تمكن الشاهد الذي عاين وشهد كما يقول يوحنا من التفريق بين الماء والدم من هذه الطعنة؟؟ لأنه من المعروف أن الماء إذا اختلط بالدم فإن الخليط سيصبح لونه أحمر أقل قتامة من الدم بحيث يستحيل على الرائي أن يفرق بين الدم والماء بالعين المجردة ... في عصرنا هذا يمكن الوصول إلى ذالك بالأدوات تحليل الدم ... وخصوصاً أن الحادثة وقعت والظلام قد حل على الأرض كلها مرقس 15 33 عدد
والنقطة الثانية والمهمة هي أن خروج الدم والماء من جنب يسوع لدليل دامغ على أنه لم يمت فمن المعروف أن دماء الموتى لا تسيل!!
السؤال 30:
(صفات الرب) من هي العروس امرأة الخروف؟
جا في سفر الرؤيا 12عدد9: ثم جاء اليّ واحد من السبعة الملائكة الذين معهم السبع الجامات المملوءة من السبع الضربات الاخيرة وتكلم معي قائلا هلم فأريك العروس امرأة الخروف. (SVD)
كاتب هذه الكلمات يقصد هنا بالخروف هو الله I كما قال في سفر الرؤيا (17عدد14) . هؤلاء سيحاربون الخروف والخروف يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون. (SVD)
والسؤال هنا هو من هي العروس امرأة الخروف؟ وهل هي آدمية أم من جنس الخراف؟ وأين سيقام الفرح؟ وهل هكذا يتحدث الأنبياء في كتابكم عن الله رب العزة؟ يصفونه بأنه خروف؟
السؤال 31:
(الألوهية) أين القطعة المقطوعة؟
قال لوقا في إنجيله عن ختان المسيح: ((ولما تمت ثمانية ايام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل ان حبل به في البطن)) [2 عدد 21] والسؤال هو: هل القطعة المقطوعة من يسوع عندما ختن هل كانت متحدة باللاهوت ام انفصلت عنه وأين رموا القطعة بعد الختان؟(2/8)
ثم الأهم من ذلك هل هذه القطعة هي من ضمن الفداء والصلب؟ هل هذه القطعة أيضاً تحملت خطيئة آدم؟ وهل صعود يسوع بعد القيامة كانت بهذه القطعة أم بدونها؟ ثم أن هذه القطعة أين دفنت؟ هل تخلصوا منها في القمامة؟ من العجيب أن يكون الإله له قطعة في جسدة ضارة وغير نافعة وهل هي قطعة مقدسة؟ والله لا أعرف إلى الآن كيف ختنوا الإله!!
السؤال 32:
(الأقانيم والتثليث) من الذي حبَّلَ مريم العذراء؟ وكم أقنوم؟
يقول لوقا: ((فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ " فَأَجَابَ الْمَلاَكُ: اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.)) لوقا 1: 34-35
ومعنى ذلك أن الحمل تمَّ عن طريقين: (اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ) (وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ) ، فهما إذن شيئان مختلفان وليسا متحدين.
فلو كان الروح القدس هو المتسبب في الحمل، فلماذا يُنسَب إلى الله؟
ولو كان هناك إتحاد فعلى بين الأب والابن والروح القدس لا ينفصل طرفة عين، فعلى ذلك يكون الابن (الذي هو أيضاً الروح القدس) هو الذي حبَّلَ أمَّه. وبهذا مشكلة كبيرة فالله كما حل في يسوع فصار يسوع إله فقد حل قبله في أمه مريم ومن المعلوم أنه لولا الأم ما وجد الإبن فهي السبب في وجود الإبن وبالتالي هي أم الإله وزوجته في نفس الوقت فإن كان بحلوله في يسوع أصبح يسوع إلهاً فقد حل في سبب وجود يسوع وهو أمه قبل أن يولد يسوع بل وإلتحم بها , فلماذا لا تكون مريم هي الأقنوم الرابع؟
السؤال 33:
(صفات الرب) هل الرب يخطأ في الأنساب؟
يقول متى: ((فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً.)) متى 1عدد 17 وهذا يُخالف ما ورد في سفر أخبار الأيام الأول، فقد ذُكِر أن أجيال القسم الثاني (ثمانية عشر) . فقد أسقط متى يواش (أخبار الأيام الأول 3عدد 12) وأمصيا (أخبار الأيام الأول 3عدد 12) وعزريا (أخبار الأيام الأول 3عدد 12) ويهوياقيم (أخبار الأيام الأول 3عدد 16) وفدايا (أخبار الأيام الأول 3عدد 19) .
فكيف نسى الرب أن يوحى بهذه الأسماء ولماذا نسيهم؟ هل تعلم أن الرب لا ينسى؟ هل تعلم أن الرب صادق ولا يتكلم إلا بالصدق؟ (أنا الرب متكلم بالصدق) إشعياء 45عدد 19، (فاعلم أن الرب إلهك هو الله، الإله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه، ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل) تثنية 7عدد 9، (ليس الله إنساناً فيكذب، هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلم ولا يفى؟) عدد 23عدد 19 فمن إذن الذي كتب هذا الكتاب؟(2/9)
فلماذا حذف متى خمسة أجيال من ترتيبه بين داود والسبى البابلى؟ ((وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ.)) متى 1عدد 6-11
وهل حذفهم من نفسه أو أوحى إليه ذلك؟ ولو أوحى الرب ذلك، فلماذا لم يُعدِّل الرب من كتابه الأول لو كان هو الذي أوحى هذا الكلام؟
السؤال 34:
ما علاقة عبدة النار المجوس بملك اليهود؟
يقول الكتاب: ((وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ.)) متى 2عدد 1-2 ((فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا)) متى 2عدد 9-11
إلى الآن لم نجد أي تفسير, ما علاقة عبدة النار من المجوس باليهودية وبمجيء ملك اليهود؟ وكيف عرفوا ذلك على الرغم من عدم معرفة اليهود أنفسهم بهذا الموعد؟ فبعد 33 سنة عاشوها معه سأله رئيس الكهنة: ((أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟)) متى 26عدد 63 ((فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي: أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟)) متى 27عدد 11
فلو صدقوا بذلك لكانوا من أتباع اليهودية! ولم نسمع ولم نقرأ ولم يسجل أحد المؤرخين القدماء أن المجوس سجدوا لأحد من ملوك اليهود، فلماذا تحملوا مشقة السفر وتقديم كنوزهم والكفر بدينهم والسجود لمن يقدح في دينهم ويسب معبودهم؟
ثم كيف أمكن للنجم الضخم تحديد المكان الصغير الذي ولد فيه يسوع من مكان يبعد عن الأرض بلايين السنوات الضوئية؟ فالمعتاد أن أشير بإصبعي لأحدد سيارة ما. لكن أن أشير بالسيارة لأحدد أحد أصابع شخص، فهذا غير منطقي.
السؤال 35:
(الكتاب المقدس) الكفار أبناء الزنا يكتبون كتابكم؟؟؟؟؟(2/10)
سليمان كما هو معروف في الكتاب المقدس هو بن داود من زوجة أوريا الحثي بثشبع التي إغتصبها داود من زوجها وقتل زوجها وأنجب منها من الزنا سليمان والقصة بكاملها موجودة ومسطورة في الكتاب في سفر صموائيل الثاني الإصحاح الحادي عشر ثم تولى سليمان الملك بعد أبيه ومن المعروف عند علماء الكتاب المقدس بالإجماع أن سليمان ليس بنبي بل لقد كفر سليمان وإرتد في آخر أيامه وعبد الأصنام وبنى لها المعابد كما يقول الكتاب المقدس في الملوك الأول 11عدد4 ((وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب الهه كقلب داود ابيه. (SVD) ولا يوجد ولا خبر واحد في التوارة تقول ان سليمان قد تاب من كفره بل الظاهر أنه مات على الكفر عابداً للأوثان ونحن نتبرأ إلى الله من هذا القول , وينسب علماء الكتاب المقدس إلى سليمان عدد من الكتب في العهد القديم وأشهرها النشيد الفسقي المسمى بنشيد الإنشاد وسفر الجامعة وبعض المزامير والأمثال ,.
والسؤال المهم هنا: إن كان سليمان ليس بنبي ولا رسول , وهو بن زنا كما زعمتم , وأنه كافر مرتد عابد للأوثان كما يقول كتابكم , فبأي صفة يكتب في الكتاب المقدس وتقولون على كلامه أنه كلام الله؟ هل الرب يوحي لرجل ليس بنبي ولا رسول وهو كافر بن زنا مرتد عابد للأوثان وبنى لها المعابد بل حتى لم يتوب؟ هل هؤلاء يتلقون الوحي عندكم؟
السؤال 36:
(المسيح) هل غسيل الأرجل يحتاج إلى خلع الملابس؟
يحكي لنا الإنجيل قصة يسوع وهو سهران في إحدى الليالي وبعد العشاء وشرب الخمر فعل هكذا:
يوحنا 13عدد4: قام عن العشاء وخلع ثيابه واخذ منشفة واتّزر بها. (5) ثم صبّ ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزرا بها. (SVD)
والسؤال هو: هل غسل أرجل الناس يستدعي التعري وخلع الملابس؟ لقد أضطر أن يتزر بالمنشفة حتى يداري عورته , فهل هذا سلوك طبيعي؟
السؤال 37:
(الصلب والفداء) من أرسل من؟
ورد في إنجيل (متى 21: 37) في قوله ((فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً يهابون ابني)) . ويقصدون أن الله أرسل ابنه المسيح إلى شعب اليهود لأنهم لم يهابوا الله وقد يهابوا ابنه- تعالى الله عن هذا الخرافات علواً كبيراً.
ولو صدَّق أحد هذا لوجب ألا يكون هناك ثلاثة في واحد، بل ثلاثة في ثلاثة، حيث إن الإله الأول لم يهبه أحد، فأرسل إليهم ابنه!! فالراسل غير المُرّسَل
وإذا كان الإله قد جاء في صورة الجسد ليَحْدُث التشابه بينه وبين الإنسان فيوقع إنتقامه على البشر وبذلك يخلصهم، فلماذا لم يُحيى آدم لينتقم منه بدلاً من الإنتقام من (شخص / أو إله / أو ابنه / أو نفسه) برىء مظلوم؟ ولماذا لم يجىء في صورة امرأة؟ ألم يقل بولس إنَّ المرأة هى التي أغويت، وآدمُ لم يَغْوَ ولكنَّ المرأة أُغوِيَتْ فَحَصَلَت في التعدِّى (تيموثاوس الأولى2: 14)
السؤال 38:
ما هو شكل تماثيل البواسير البشرية؟ وما الحكمة!
ورد في سفر صموائيل الاول 6عدد4-5 ما يلي:
1صموائيل 6عدد4: فقالوا وما هو قربان الاثم الذي نرده له. فقالوا حسب عدد اقطاب الفلسطينيين خمسة بواسير من ذهب وخمسة فيران من ذهب. لان الضربة واحدة عليكم جميعا وعلى اقطابكم. (5) واصنعوا تماثيل بواسيركم وتماثيل فيرانكم التي تفسد الارض وأعطوا اله اسرائيل مجدا لعله يخفف يده عنكم وعن آلهتكم وعن ارضكم. (SVD)(2/11)
والسؤال هنا هو: كيف هو شكل هذه التماثيل البواسيرية؟ وما الحكمة من صناعة تماثيل بواسير البشر من الذهب وتماثيل ذهبية للفئران؟ في أي تاريخ ذكر أن البشر صنعوا تماثيل لبواسيرهم؟ أليس هذا أمر بصناعة الأصنام؟ ننتظر الرد ولكن عفواً نستقبل الردود فقط من العقلاء.
السؤال 39:
(المسيح) هل المسيح كان من الأشرار؟
حسب الايمان المسيحي نعم. فقد قرر الكتاب المقدس أن ((الشرير فدية الصديق)) أمثال 21: 18، وقد قرر بولس أن المسيح صُلِبَ كفارة لخطايا كل العالَم (رسالة يوحنا الأولى 2 عدد 2) , بل وإعترف بولس بأن يسوع ليس شريراً فقط ولكنه أيضاً صار ملعون ,, ألا تصدق؟ في غلاطية 3عدد13 يقول هكذا: ((المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبة. (SVD) والسؤال هو هل يسوع شرير ملعون كما يقول كتابكم؟
السؤال 40:
(تناقضات) هل بطرس صديق طاهر أم مرائي منافق كذَّاب؟
أولاً: يقول مرقس عن سمعان صخرة الكنيسة ((فَأَنْكَرَ أَيْضاً. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: حَقّاً أَنْتَ مِنْهُمْ لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ. فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: "إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!)) مرقس 14: 70-71.
أين البر؟ وأين الفضيلة؟ وأين الأخلاق في كذب بطرس - صخرة عيسى عليه السلام الذي يملك مفاتيح السماوات والذى عليه بُنِيَت كنيسة يسوع، تلك الكنيسة التي لا تقوى أبواب الجحيم عليها؟
ثانياً: يقول إنجيل متى 26عدد72 عن قصة إنكار ولعن بطرس ليسوع عند المحاكمة هكذا:انكر ايضا بقسم اني لست اعرف الرجل. (73) وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس حقا انت ايضا منهم فان لغتك تظهرك. (74) فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف اني لا اعرف الرجل. وللوقت صاح الديك. (SVD)
فكيف جاز لبطرس صخرة الكنيسة أن يقسم كذباً وينكر إلهه بل ويلعن إلهه يسوع كما تدعون؟ الحق أنه على هذا ليس عنده مثال حبة من خردل من الإيمان كما قال وصف يسوع تلاميذه الرسل في لوقا 17عدد5-6 ((5 فقال الرسل للرب زِد ايماننا. (6) فقال الرب لو كان لكم ايمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم (SVD)
ثالثاً: وصف بولس بطرس بأنه مرائي منافق كما ورد في رسالته إلى أهل غلاطية 2عدد11: ((11. ولكن لما أتى بطرس الى انطاكية قاومته مواجهة لانه كان ملوما. (12) لانه قبلما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الامم ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفا من الذين هم من الختان. (13) وراءى معه باقي اليهود ايضا حتى ان برنابا ايضا انقاد الى ريائهم. (SVD)
فنعيد السؤال مرة أخرى هل من مثل هؤلاء تاخذون دينكم؟ وهل نصف بطرس صخرة الكنيسة صفا بانه مؤمن صديق أم كاذب منافق مرائي؟ لك الحكم
السؤال 41:
(خرافات) فسر مايلي:
عدد 5عدد22: ويدخل ماء اللعنة هذا في أحشائك لورم البطن ولإسقاط الفخذ. فتقول المرأة آمين آمين. (SVD)
رؤيا 6عدد6: وسمعت صوتا في وسط الأربعة الحيوانات قائلا ثمنية قمح بدينار وثلاث ثماني شعير بدينار وأما الزيت والخمر فلا تضرهما
السؤال 42:
(تناقضات) متى نزلت الحمامة بالضبط؟
بعد أن صعدَ من الماء متى 3عدد 16-17
أثناء صعوده من الماء مرقس 1عدد 9-11
أثناء صلاته أى بعد التعميد لوقا 3عدد 21-22(2/12)
ألا يعنى نزول روح الرب كحمامة وظهورها منفصلة أنه لا إتحاد بين روح الرب ويسوع؟ فقد ظهرا منفصلين. وهل روح الرب صغيرة لدرجة أنها تتشكل في جسم حمامة؟ ولماذا لم تظهر روح الرب لكل الناس لتعلمهم بذلك؟ لماذا خصَّت المعمدان بهذا الشرف وحده؟
السؤال 43:
(تناقضات) صوت مَن؟
يقول صاحب إنجيل لوقا عند قصة تعميد يسوع في لوقا 3عدد22 هكذا ((22 ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة وكان صوت من السماء قائلا انت ابني الحبيب بك سررت (SVD)
وبغض النظر عن قصة الحمامة لكن السؤال هو صوت مَن المتحدث؟ إن كان يوحنا يقول عن الله في يوحنا 5عدد37 هكذا: ((والآب نفسه الذي ارسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط ولا ابصرتم هيئته. (SVD)
فعلمنا أنه لا أحد يسمع صوت الله أبداً ولا يبصر أحد هيئته , وإن كان الإبن هو يسوع وهو لم يقل أنت إبني الحبيب ولكن الصوت كان قادماً من السماء والروح القدس هي الحمامة وهي لم تقل هذا أيضاً والله لا أحد يسمع صوته قط!! فمن الذي قال أنت إبني الحبيب؟ ؟؟؟
السؤال 44:
(هل معقول) بني إسرائيل ليس فيهم عقيم ولا عاقر ولا في بهائمهم ولا تصيبهم الأمراض؟؟؟
تثنية7عدد14: مباركا تكون فوق جميع الشعوب. لا يكون عقيم ولا عاقر فيك ولا في بهائمك. (15) ويرد الرب عنك كل مرض وكل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها لا يضعها عليك بل يجعلها على كل مبغضيك. (SVD)
!!!!!!!!!!!!!!
السؤال 45:
(تناقضات) هل طريق يسوع هيِّن وخفيف على سالكيه أم ضيق ملىء بالصعوبات؟
ضيق: ((مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!)) متى 7عدد 14
هيِّن: ((اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ.)) متى 11عدد 29-30
السؤال 46:
هل الرب يأمر بالنذور للشيطان؟
جاء في سفر اللاويين أمر الرب لموسى هكذا: سفر اللاويين الإصحاح 7عدد5-10 ((5 ويأخُذُ مِن عِندِ جَماعةِ بَنى إسْرائيلَ تَيسَينِ مِنَ المَعِزِ لِذَبيحةِ الخَطيئَة وكَبْشاً لِلمُحرَقَة. 6 فيُقَرِّبُ هارونُ عِجْلَ ذَبيحةِ الخَطيئَةِ الَّتي علَيه وُيكَفِّرُ عن نَفْسِه وعن بَيتِه. 7 ثُمَّ يأخُذُ التَّيسَينِ وُيقيمُهما أَمامَ الرَّبّ عِندَ بابِ خَيمَةِ المَوعِد. 8 وُيلْقي هارونُ علَيهما قُرعَتَين، إِحْداهما لِلرَّبّ والأُخْرى لِعَزازيل. 9 وُيقَرِّبُ هارونُ التَّيسَ الَّذي وَقَعَت علَيه القُرعَةُ لِلرَّبّ، وَيصنَعُه ذَبيحةَ خَطيئَة. 10 والتَّيسُ الَّذي وَقَعَت علَيه قُرعةُ عَزازيل يُقيمُه حَيّاً أَمامَ الرَّبّ، لِيُكَفِّرَ عَلَيه ويُرسِلَه إِلي عزازيلَ في البَرِّيَّة.
وعزازيل هو الشيطان كما هو معروف وكما يُعرِّفَه قاموس الكتاب المقدس هروباً من الموقف هكذا نصاً: الشيطان أو الجن في الصحاري والبراري أو ملاك ساقط (بحسب سفر اخنوخ ومعظم المفسرين الحديثين) إنتهى بالنقل حرفياً.
فالعقلاء أسأل: هل الرب يأمر بالنذر للشيطان؟ هل في هذا مثقال ذرة من التوحيد؟ وأي حكمة في أن تهب للرب تيس وللشيطان تيس؟ لم يجبنا أحد حتى الآن.
السؤال 47:
هل الله يأمر الناس بعبادة الأصنام؟(2/13)
سفر حزقيال 20عدد39: ((39 اما انتم يا بيت اسرائيل فهكذا قال السيد الرب. اذهبوا اعبدوا كل انسان اصنامه وبعد ان لم تسمعوا لي فلا تنجسوا اسمي القدوس بعد بعطاياكم وباصنامكم. (SVD)
السؤال 48:
(المسيح) ماذا فعل يسوع بعد أن أنهى الشيطان تجربته معه؟
((ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ. 12وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. 13وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرِنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ)) متى 4عدد 11-13
((وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلَى الْجَلِيلِ وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ. وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ مُمَجَّداً مِنَ الْجَمِيعِ. وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى.)) لوقا 4عدد 14
فترى يسوع عند متى كان في الناصرة وانصرف منها إلى الجليل واستقر في كفرناحوم
أما عند لوقا فقد رجع إلى الجليل واستقر في الناصرة.
السؤال 49:
ما هو تمثال الغيرة؟
حزقيال 8عدد3: ومد شبه يد وأخذني بناصية راسي ورفعني روح بين الارض والسماء واتى بي في رؤى الله الى اورشليم الى مدخل الباب الداخلي المتجه نحو الشمال حيث مجلس تمثال الغيرة المهيج الغيرة (4) واذا مجد اله اسرائيل هناك مثل الرؤيا التي رأيتها في البقعة (SVD)
ما هو شكل هذا التمثال؟ ألا توافقني إنها أمور وثنية أخذها كتبة الكتاب المقدس من الحضارات التي عايشوها فتأثروا بها؟ لكن أيضاً لم نعرف ما هو هذا التمثال؟
السؤال 50:
متى أعطى يسوع التلاميذ القدرة على إخراج الشياطين؟
حدثت أولاً قصة المجنون الأخرس في (متى 9عدد 32-34) ، ثم أعطاهم القدرة على إخراج الشياطين وإشفاء المرضى في (متى 10عدد 1-10)
وعند لوقا أعطاهم أولاً القدرة على إخراج الشياطين وإشفاء المرضى (9عدد 1-6) ، ثم حدثت قصة التجلى (9عدد 28-36) .
السؤال 51:
(الصلب والفداء) قد أكمل ماذا؟؟؟؟؟
في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر نأخذ منه فقرتين 3 , 4 فيقول (يوحنا 17عدد3-4)
:3 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته. (4) أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. (SVD)
كيف يكون العمل الذي أعطاه الله للمسيح قد أكمل والمسيح لم يصلب بعد؟ المسيح حتى لم يكن وضع على الصليب وكما تقولون أنتم فإن العمل الذي جاء من أجله هو أن يصلب ليخلص البشرية , فكيف يقول المسيح قبل الصلب بأن العمل الذي أعطاه الله له قد أكمله؟ هل كان يكذب؟
ثم كيف يقول المسيح للإله هذه هي الحياة الأبدية أيها الإله أن يعرفوك أنك أنت الإله الحقيقي ولاحظ قال كلمة (وحدك) ثم اعترف أن الله هو من أرسله؟ أليس المسيح هو الإله؟ لو كان هو الله حقاً كما تزعمون لقال ليعرفوك أني الإله الحقيقي وحدي أو ليعرفوا أنك أنت الأب وأنا الابن وهناك الروح القدس ونحن إله واحد؟ أليس هذا من الدجل؟
السؤال 52:
(عقائد وعبادات) لماذا لاتسجدون في صلاتكم، كما كان يصلي المسيح؟
جاء عند متى عن المسيح ((ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَكَانَ يُصَلِّي)) متى 26عدد 39(2/14)
وفى متى أيضاً أن يسوع قال لإبليس: عندما طلب منه إبليس أن يسجد له وَقَالَ لَهُ: ((أُعْطِيكَ هَذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي". حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ.)) متى 4عدد 9-10 ولوقا 4عدد 7-8
وجاء عند مرقس: ((ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ.)) مرقس 14عدد 35
وأيضاً: ((مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ، لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ.)) رؤيا يوحنا 15: 4
السؤال 53:
هل جهنم هى الفردوس عندكم؟ وأين كان يسوع عقب موته؟ هل كان في الفردوس أم في جهنم؟
لقد قال بولس: ((وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. 10اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ الْكُلَّ.)) أفسس 4عدد 9-10
أى أن يسوع نزل إلى الهاوية وجهنم لكى يخلِّص الخطاة ويحررهم من خطيئة أدم وحواء.
إلا أن يسوع نفسه قال: ((وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا! 40فَانْتَهَرَهُ الآخَرُ قَائِلاً: أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ. 42ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ. 43فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.)) لوقا 23عدد 39-43
السؤال 54:
(تناقضات) هل شهادة المسيح لنفسه حق أم ليست حقاً؟
أعلم ستقول أن شهادته حق ولن ينفع كلامي معك لذا سأعطيك النصوص مباشرة فاقرأ: " إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً " يوحنا 5 عدد 31
بما يناقضه تماما في يوحنا 8 عدد 31 " وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق "
السؤال 55:
(الصلب والفداء) هل من الرحمة والعدل أن يسلم إبنه المظلوم؟
هل من الرحمة أن يُسلم الأب ابنه للصلب دون أن يقترف إثماً أو جريمة ما تستحق هذه العقوبة؟ وما الفائدة التربوية التي نتعلمها من مثل هذا التصرُّف؟ فما بالك إذا كان الآخر ابن الإله؟ وكيف يثق خلقه به إذا كان قد ضحى بالبار البريء من أجل غفران خطيئة مذنب آخر؟ هل يُعجبه أن يصفه أحد خلقه بالقسوة وعدم الرحمة؟ ((اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ)) رومية 8 عدد 31-32
ولو كان الصلب والفداء لغفران خطيئة آدم وحواء - فكيف يكفر عن خطيئة الشيطان؟ وهل سيضطر إلى النزول مرة أخرى والزواج من شيطانة لينجب شيطاناً يصلب عن الشياطين؟ أليست خطيئة الشيطان أعظم وأجل؟
وهل يعقل أن تكون قوانين الأمم المتحضرة اليوم أعدل من قانون الله، حيث إنها لا تحاسب الإنسان على فعل غيره ولو كان ابنه أو أباه؟ كيف تكون عملية الصلب والقتل وإسالة دم البريْ رحمة وهبة للبشرية؟
السؤال 56:(2/15)
(هل معقول) هل صوت البشر يهدم صور مدينة بني من أجل تحصينها؟
انهيار السور بالهتاف
يقول كاتب سفر يشوع 6 عدد 5: ((ويكون عند امتداد صوت قرن الهتاف عند استماعكم صوت البوق ان جميع الشعب يهتف هتافا عظيما فيسقط سور المدينة في مكانه ويصعد الشعب كل رجل مع وجهه))
هتف بنو إسرائيل فانهار سور اريحا. انهار السور كله حول المدينة عن طريق الهتاف!!!! هل هذا هو السلاح الجديد الذى لم يسمع به أحد لا من قبل ولا من بعد؟.. نعم أنه هو!!!
والسؤال هنا هو: أذكر كتاب تاريخ واحد أو مؤرخ واحد ذكر هذه الحادثة في كتابه أو تأريخه!
إن حصار مدينة كأريحا وسقوطها بعد الحصار في حرب مشهورة كهذه وسقوط سور المدينة بهذه الخطة الرائعة لهو حدث تسير به الركبان ويتناقله المؤرخون وينتشر كانتشار النار في الهشيم , فأي مؤرخ أو كتاب تاريخ ذكر هذه المعجزة؟
السؤال 57:
(الصلب والفداء) كيف كانوا أطهاراً وهم يحملون خطية آدم؟
لقد شهد إلهكم قبل أن يموت على الصليب المزعوم ويفدى البشرية من خطيئة أدم أن تلاميذه من الأطهار باستثناء واحد منهم: ((قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: "يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ.)) يوحنا 13عدد 9-10 ألا يكذب هذا بدعة الصلب والفداء؟
السؤال 58:
تضلون إذ لا تعرفون الكتب؟ أي كتب يقصد؟
جاء في إنجيل متى الإصحاح الثاني والعشرون الفقرة (متى 22عدد23-30) الصدوقيين يسألون المسيح عن المرأة يرثها أخو زوجها إن مات زوجها ففي الآخرة لمن تكون المرأة زوجة فقال هكذا:
23. في ذلك اليوم جاء إليه صدوقيون الذين يقولون ليس قيامة فسألوه (24) قائلين يا معلّم قال موسى إن مات احد وليس له أولاد يتزوج أخوه بامرأته ويقيم نسلا لأخيه. (25) فكان عندنا سبعة إخوة وتزوج الأول ومات. وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه. (26) وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة. (27) وآخر الكل ماتت المرأة أيضا. (28) ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة. فإنها كانت للجميع. (29) فأجاب يسوع وقال لهم تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله. (30) لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء. (SVD)
وسؤالنا من شقين كالآتي:
الشق الأول: أين في كتب الأنبياء أو في العهد القديم مكتوب أو موجود انهم في القيامة لا يزوجون أو يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء؟ رجاءً ادعم إجابتك بالنصوص من العهد القديم.
الشق الثاني: المسيح لم يعترض على كون المرأة يتوارثها إخوة زوجها بعد وفاة زوجها , بل كل ما استنكره أن يكون هناك زواج في الآخرة كما قرأت , والسؤال هو: لماذا ترك النصارى هذا الجزء من شريعة موسى؟ تحت أي سبب وما هي الحجة؟ المسح قال ما جئت لأنقض بل لأكمل (متى 5عدد17) , وهو لم يعترض على كون الإخوة يتوارثون زوجة أخيهم الميت بالتتابع عند وفاة الأكبر منهم فالذي يليه كما ترى , لماذا لا يطبق النصارى هذه الشريعة اليوم؟؟ رجاءً ادعم إجابتك بالنصوص من الكتاب المقدس.
السؤال 59:
(الصلب والفداء) هل كان يريد الصلب أم لا يريد؟(2/16)
تزعمون أن المسيح جاء برضاه إلى الدنيا لكي يقتل على الصليب ولكي يصالح البشرية مع الله ويفديهم بدمه ليخلصهم من خطيئة أبيهم آدم. وهذا يتناقض مع ما جاء في الأناجيل، فقد بينت الأناجيل أن المسيح لم يكن راضياً على صلبه، وأنه أخذ يصلي ويستغيث بالله، أن ينجيه من أعدائه، حتى أن عرقه صار كقطرات دم نازلة على الأرض، واستمر في دعائه قبل القبض عليه وبعد أن وضع على الصليب حسب اعتقادكم: ((حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: اجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ. ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا هَهُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي. ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ)) (متى 26عدد 36-44) و (مرقس 14عدد 32-39) و (لوقا 22عدد 41-44)
السؤال 60:
(الصلب والفداء) لماذا حزنوا؟
لماذا حزن تلاميذه والمؤمنون لو كانوا قد علموا بفرية الفداء والصلب؟ ألم تكن هذه الحادثة مدعاة إلى سرور الناس جميعاً؟ ((وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ.)) لوقا 23عدد 48
السؤال 61:
(الأقانيم والتثليث) هل كان الأنبياء الكبار قبل ديانة بولس يؤمنون بالتثليث وأن الله ثلاثة في واحد؟ وأين الدليل؟ رجاءً أيد إجابتك بالنصوص التوراتية.
السؤال 62:
) هل معقول (كيف يموت الأسد مرتان؟
يقول كاتب سفر صموئيل الأول 17 عدد 34:
((فقال داود لشاول كان عبدك يرعى لابيه غنما فجاء اسد مع دب واخذ شاة من القطيع. 35 فخرجت وراءه وقتلته وانقذتها من فيه ولما قام عليّ امسكته من ذقنه وضربته فقتلته.!!!)) ترجمة الفانديك
لاحظ عزيزي القارىء كيف تم امساك الأسد من ذقنه! ولا حظ أنه أمسكه من ذقنه وضربه في الوقت ذاته! ولا حظ أنه قتل الدب أيضاً!!!! والسؤال هنا هو: كيف يموت الأسد مرتان؟
السؤال 63:
(الألوهية) فسر ما يلي:
ماذا تعنى عندكم هذه الفقرة: ((لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!)) متى 23 عدد 39؟
لو كان المسيح هو الله فكيف سيأتي باسم الرب لماذا لا يأتي باسمه هو؟
السؤال 64:
(أخطاء الشريعة) لماذا لم يقيم اليهود الحد على مريم العذراء؟
هل تكلم عيسى فى المهد؟
لو لم يتكلم عيسى عليه السلام فى المهد ويُبرِّأ أمه، لحكم اليهود على أمه بالحرق تبعاً لشريعتهم: (9 واذا تدنست ابنة كاهن بالزنى فقد دنست اباها. بالنار تحرق) لاويين 21عدد 9، وبما أن اليهود لم يحرقوها ولم يمسوها بأذى، فلابد أن تكون قد أتت بالدليل. أو بكل وضوح كانت متزوجة من يوسف النجار ولن يخفى على أحد في هذا الزمان إن كانت زوجته بالفعل أم أنها حبلت من الزنا , فالسؤال هو لماذا لم يقم عليها اليهود حد الزنى؟
السؤال 65:
قاله إضربني, قاله لأ, قاله الأسد هايكلك, وأكله الأسد!!!!
عفواً على اللغة العامية أعلاه لكن إطلع على النص ولك الحكم(2/17)
جاء في سفر الملوك الأول 20 عدد 35 ((ان رجلاً من بني الانبياء قال لصاحبه. عن امر الرب اضربني. فأبى الرجل ان يضربه. فقال له من اجل انك لم تسمع لقول الرب فحينما تذهب من عندي يقتلك أسد. ولما ذهب من عنده لقيه أسد وقتله)) (ترجمة الفانديك دار الكتاب المقدس)
تخيل.. رجل يقول لصاحبه إن الله يأمرك أن تضربني!!! هل هذا معقول؟ هل يُنزل الله وحياً على رجل ما، يقول له فيه عليك أن تطلب من رجل آخر أن يضربك؟ على كل حال وكما هو متوقع من العقلاء فإن الرجل رفض أن يضرب صاحبه فغضب طالب الضرب على صاحبه ودعا عليه فأكله أسد!!!! ولماذا يدعو عليه؟ وما ذنبه؟ دعا عليه لأنه رفض أن يضربه!!!! والمدهش أن الرب استجاب دعائه (حسب النص) فأكل الأسد هذا الرجل المسكين الذي رفض أن يضرب صاحبه!!!! وهل هذه العقوبة مناسبة لرفض الرجل أن يضرب صديقه؟ ننتظر الإجابة ولكن عفواً نريدها من العقلاء.
السؤال 66:
(هل معقول) هل أراد عيسى u حقاً إفناء البشرية؟
فلماذا قال إذاً؟ ((لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هَكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ.)) متى 19عدد 12
وأين حق النساء في الزواج والإستمتاع بأزواجهن؟ ألم يعلم إلهكم بعلمه الأزلى أن الساقطات سوف يستخدمن مثل هذا القول من أجل تبرير السحاق؟
ولم يكن هو نفسه أو أحد الأنبياء مخصياً أو حتى أحد الحواريين، فمن المعروف أن بعض الحواريين كان متزوجاً مثل بطرس وبولس، بل ويندد سفر التثنية بمن يفعل ذلك قائلاً: ((لا يَدْخُل مَخْصِيٌّ بِالرَّضِّ أَوْ مَجْبُوبٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ.)) تثنية 23 عدد 1
السؤال 67:
هل يوحنا المعمدان هو إيليا؟
أولاً: جاء في إنجيل متَّى 17 عدد10-11 هكذا: وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولا. (11) فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتي أولا ويردّ كل شيء. (SVD)
فيفهم منه بصريح النص أن إيليا من المفروض أن يسبق مجيئه مجئ المسيح وإن لم يشر التلاميذ من أين أتوا بهذه الفرضية ولكن يسوع قد أكد هذه الفكرة وأيد رأي التلاميذ أنه من المفروض أن يأتي إيليا أولاً قبل مَجئ المسيح المنتظر وهذا حسب ما جاء على لِسان المسيح أيضاً في إنجيل مرقس 9 عدد12 هكذا: فأجاب وقال لهم إن إيليا يأتي أولا ويرد كل شيء. وكيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أن يتألم كثيرا ويرذل. (SVD) ,
ولكن لما خرج يوحنا يعمد الناس بمعمودية التوبة فقد اعتقد الناس أنه إما أن يكون إيليا لأن إيليا يسبق مجئ المسيح , ولما أنكر أنه إيليا وقال لست أنا إيليا , فظنوا أنه المسيح لأنه لو لم يكن إيليا فربما كان المسيح المنتظر فأنكر أيضاً كونه المسيح , فلابد أنه النبي المنتظر ولكنه أنكر أيضاً كونه النبي المنتظر وهذا كما هو وارد في إنجيل يوحنا 1 عدد21 هكذا: فسألوه إذا ماذا. إيليا أنت؟ فقال لست أنا. النبي انت؟.فأجاب لا. (SVD)
فظهر بصريح النص أن يوحنا أنكر كونه إيليا وقريب من هذا ما هو في نفس إنجيل يوحنا 1 عدد25 هكذا: فسألوه وقالوا له فما بالك تعمّد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي. (SVD)(2/18)
ولكن بنص قول المسيح في إنجيل متى 17 عدد12-13 هكذا: ولكني أقول لكم أن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم. (13) حينئذ فهم التلاميذ انه قال لهم عن يوحنا المعمدان (SVD)
فَيُفهم من هذا القول إما حسب فهم التلاميذ أو حسب كلام يسوع أن يوحنا هو إيليا ولكن يوحنا أنكر كونه إيليا وكذب هذا الكلام كما قلنا من قبل , وليس من المعقول أن يكون يوحنا نبي ولا يدري أهو إيليا أم لا!!! فالأصدق قول يوحنا أنه ليس إيليا لأنه أدرى بنفسه من الكلام الذي فهمه التلاميذ من يسوع فبعدم إتيان إيليا ينفي مجيء المسيح المنتظر على حسب قول اليهود والتلاميذ , وقول النصارى أن يوحنا هو إيليا بالروح فهذا قول لا يُنظر إليه إذ أن يوحنا أنكر كونه إيليا ولم يشر إلى أنه إيليا بالروح أو بالجسد فالأولى تصديق يوحنا لا تصديق غيره. فالآن نعيد السؤال بصيغة أخرى إذا كان من المفترض أن يسبق مجيء المسيح نزول إيليا من السماء كما قال المسيح للتلاميذ وأيد رأيهم في ذلك , وإذا كان كاتب الإنجيل إدعى زوراً وبهتاناً أن إيليا قد جاء وأن إيليا هو يوحنا المعمدان وأنكر يوحنا u ها الأمر ورفض أن يكون إيليا بصريح النص أعلاه؟ فكيف يكون يسوع هو المسيح المنتظر مع مراعاة إنكار يحي أنه إيليا؟ ننتظر إجابة من عقلاء النصارى.
السؤال 68:
من هو الكاهن الذي قتلته اليهود في بيت الرب؟
((وَلَبِسَ رُوحُ اللَّهِ زَكَرِيَّا بْنَ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنَ فَوَقَفَ فَوْقَ الشَّعْبِ وَقَالَ لَهُمْ: [هَكَذَا يَقُولُ اللَّهُ: لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصَايَا الرَّبِّ فَلاَ تُفْلِحُونَ؟ لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ الرَّبَّ قَدْ تَرَكَكُمْ] . 21فَفَتَنُوا عَلَيْهِ وَرَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ بِأَمْرِ الْمَلِكِ فِي دَارِ بَيْتِ الرَّبِّ.)) أخبار الأيام الثاني 24عدد 20
((لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. 36اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هَذَا الْجِيلِ!)) متى 23عدد 35-36
لقد أخطأ الكاتب بين زكريا ابن يهويا داع الكاهن الذي قتل (أخبار الأيام الثاني 24عدد 20-22) وبين زكريا ابن برخيا (زكريا 1عدد 1، 7) .
إنظر هامش إنجيل متى صفحة 6-11 من الكتاب المقدس (Einheitsübersetzung)
السؤال 69:
هل يريد الرب أن يُخلص الناس أم يصدقوا الكذب ويهلكون؟
((لأَنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، 4الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ.)) تيموثاوس الأولى 2عدد 3-4
((وَلأَجْلِ هَذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ اللهُ عَمَلَ الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ، 12لِكَيْ يُدَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا الْحَقَّ، بَلْ سُرُّوا بِالإِثْمِ.)) تسالونيكى الثانية 2عدد 11-12
السؤال 70:
(هل معقول) هل ملائكة الله تأكل لحماً وخبزاً؟!
هل سمعتم عن كتاب يزعم أن ملائكة الله تأكل لحماً وخبزاً؟
الكتاب المقدس يزعم أن ابراهيم عليه السلام حين مرت به الملائكة لهلاك قوم لوط ضيفهم وأطعمهم خبزاً ولحماً!!!(2/19)
((فَأَسْرَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى دَاخِلِ الْخَيْمَةِ إِلَى زَوْجَتِهِ سَارَةَ وَقَالَ: هَيَّا أَسْرِعِي وَاعْجِنِي ثَلاَثَ كَيْلاَتٍ مِنْ أَفْضَلِ الدَّقِيقِ وَاخْبِزِيهَا. ثُمَّ أَسْرَعَ إِبْرَاهِيمُ نَحْوَ قَطِيعِهِ وَاخْتَارَ عِجْلاً رَخْصاً طَيِّباً وَأَعْطَاهُ لِغُلامٍ كَيْ يُجَهِّزَهُ. ثُمَّ أَخَذَ زُبْداً وَلَبَناً وَالْعِجْلَ الَّذِي طَبَخَهُ، وَمَدَّهَا أَمَامَهُمْ، وَبَقِيَ وَاقِفاً فِي خِدْمَتِهِمْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهُمْ يَأْكُلُونَ.)) تكوين 18 عدد 1 أيها العقلاء , إن الملائكة هي أرواح لا أجساد , فهل الأرواح تأكل لحم وخبز؟ وإن كان الملائكة التي جاءت لإبراهيم هي الله ومعه الإلهين الآخرين فيكون الثالوث فهل الثالوث يأكل لحم وخبز؟
السؤال 71:
ما معنى قول بطرس (ولو أضطررت أن أموت معك) ؟
جاء في انجيل مرقس 14عدد 27-31 ((وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. 28وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ". فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ! 30فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ". 31فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ: وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ. وَهَكَذَا قَالَ أَيْضاً الْجَمِيعُ.))
ان قول بطرس والتلاميذ هنا ((وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ)) لدليل على معرفة التلاميذ له بأنه إنسان مُعرَّض للهلاك والموت، وأن هرطقة الاتحاد بينه وبين الله والروح القدس من الخرافات التي دخلت فيما بعد على دين عيسى عليه السلام وأفسدت رسالته الحقة. وكيف يكون هو الإله والله هو الحى الباقى الذي لا يموت؟
السؤال 72:
هل الله I يعاقب على شئ مستحيل الحدوث؟؟
إني أتسائل هَل يضع الله \ عقاباً لجريمة لا يمكن ان تحدث أساسا أو مستحيلة الحدوث؟؟ ولأوضح السؤال أقول هل من المعقول أن يقول الله أن من يصعد إلى السماء السابعة ويصنع ثقباً قطره 10.5 متر يعاقب بأن يدخل النار!!!!!
هل هذا الكلام منطقي أو معقول عن الله؟؟ بالطبع لا , لكن أصدقائنا النصارى يقولون باستحالة تحريف الكتاب المقدس ولا يتخيلون ذلك أساساً , إذاً يا أعزائي إذا كان هذا الأمر مستحيلا فلماذا وضع الله عقاباً له؟؟؟ هل يضع الله عقاباً لجريمة مستحيلة الحدوث؟؟
اقرأ ماذا يقول ربك في كتابك كما في رؤيا يوحنا 22 عدد 18-19:ـ
رؤيا 22 عدد 18: لاني اشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب إن كان احد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. (19) وان كان احد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوّة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب (SVD)
لماذا وضع الوعيد والتهديد في نهاية السفر لكل من يحاول التحريف إن كان التحريف مستحيل الوقوع كما تزعمون؟؟ ؟(2/20)
وفي التثنية يوصيهم ألا يزيدوا على كلام الرب أو ينقصوا منه.. هل كلام الرب قابل للزيادة والنقصان؟ اقرأ الإصحاح الرابع من التثنية الفقرات 4 عدد 1-2 كما يلي: 1 فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعملوها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي الرب اله آبائكم يعطيكم. (2) لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها.
الرب يوصيهم ألا يزيدوا أو ينقصوا من هذا الكلام.. هل الرب يوصيهم بشئ من المستحيل وقوعه؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السؤال 73:
(الكتاب المقدس) ماذا تعرف عن هؤلاء؟
من هو مترجم كل إنجيل؟ وما هي كفاءته العلمية واللغوية بكلا اللغتين؟ وما هي درجة تقواه وتخصصه؟ وما هي جنسيته؟
السؤال 74:
(الكتاب المقدس) هل معقول أنك تجهل من كتب كتابك المقدس؟
يقول علماء الكتاب المقدس إن أغلب أسفار الكتاب المقدس مجهولة الهوية ومجهول هوية من كتبوها وإن أطلق إسم رجل على سفر معين كتسمية المزامير باسم داود مثلاً فلا يعني أبداً أن دواد هو كاتب كل المزامير هذا إن كان قد كتب بعضها وبهذا قياساً على باقي أسفار الكتاب المقدس فامسك ورقة وقلم وإبدأ من التكوين حتى رؤيا يؤحنا سفر سفر وجهز لي قائمة أمام كل سفر إسم الشخص الذي كتبه بالدليل , ومعلومات عن تاريخ كتابة كل سفر وحال من كتبه هل هو نبي أو رسول أم وثني أم مرتد كحال سليمان مثلاً , أم مجهول هوية من كتب هذا السفر؟ وسنرى كم سفر ستصل إلى كاتبه , ثم كيف يثق الناس بأسفار مجهول هوية من كتبوها ولا يعرف دينهم أو مدى صحة ما كتبوه؟
السؤال 75:
(الصلب والفداء) لماذا حُسب هؤلاء أبرار أتقياء قبل الصلب والفداء؟
هل بخطيئة واحد أخطأ الجميع رومية 5عدد 12 أم أخطأ الكثيرون رومية 5عدد 19؟
وما رأيكم في قول يعقوب في رسالته: ((وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: "فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً" وَدُعِيَ خَلِيلَ اللَّهِ.)) يعقوب 2عدد 23، وأيضاً ((وبارك الرب إبراهيم في كل شىء)) تكوين 24عدد 1، فقد كان إبراهيم إذاً من الأبرار، من قبل أن يتجسد الإله ويُصلَب.
وكذلك ((وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه)) تكوين 5عدد 24
وأيضاً ((بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ - إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ.)) عبرانيين 11عدد 5 وكذلك ((صعد إيليا في العاصفة إلى السماء)) ملوك الثاني 2عدد 11
السؤال 76:
(التجسد) أخرج الشاهد من أقوال المسيح:
هل قال عيسى لتلاميذه وأتباعه، إنه يتكون من جزء لاهوتي وجزء ناسوتي؟ وأنه إله كامل وإنسان كامل؟ أيَّد إجابتك بالأدلة النقلية من الكتاب المقدس على لسان المسيح!
السؤال 77:
(الألوهية) أخرج الشاهد من أقوال المسيح:
أين نجد قول عيسى عليه السلام نفسه لتلاميذه إنه الله وقد نزل إلى الدنيا لكي يغفر للبشر خطاياهم بالصلب؟ وأين قال لهم أنه جاء من أجل خطيئة آدم؟ فإن كان الجواب بالإيجاب، فأيِّد إجابتك من الأناجيل!
السؤال 78:
(تناقضات) كم عدد الشهود على المسيح؟
كم عدد الشهود الذين شهدوا أنه قال إنه ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام؟(2/21)
حسب انجيل متى: كانوا اثنين فقط ((.. .. .. وَلَكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ وَقَالاَ: "هَذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ.)) متى 26عدد 60-61
ولكن حسب انجيل مرقس كانوا قوماً: ((ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً قَائِلِينَ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ.)) مرقس 14عدد 57-58
السؤال 79:
هل كانوا شهود زور؟ أم شهدوا بما قاله المسيح؟
من العجيب أن كتبة الأناجيل نسبوا شهادة الزور للذان أو للذين شهدوا على يسوع أنه يقول أني أنقض الهيكل وأبنيه في ثلاثة أيام ولا ندري عددهم أهم شخصان أم مجموعة من الناس فالأناجيل إختلفت في ذلك ولكن يقول إنجيل متى 26عدد60-61 ((60 فلم يجدوا. ومع انه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا. ولكن اخيرا تقدم شاهدا زور (61) وقالا. هذا قال اني اقدر ان انقض هيكل الله وفي ثلاثة ايام ابنيه. (SVD) لاحظ أنهما هنا شاهدان فقط
ثم يقول أيضاً في إنجيل مرقص 14عدد57-58 ((57 ثم قام قوم وشهدوا عليه زورا قائلين. (58) نحن سمعناه يقول اني انقض هذا الهيكل المصنوع بالايادي وفي ثلاثة ايام ابني آخر غير مصنوع باياد. (SVD) ولاحظ هنا أنهم قوم (مجموعة)
فالعجب كل العجب أن نسب كتبة الأناجيل للشهود الذين شهدوا على يسوع أنهم شهدوا زوراً لأن يسوع قال هذا بالفعل كما في إنجيل يوحنا 2عدد19 ((19 اجاب يسوع وقال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة ايام اقيمه. (20) فقال اليهود في ست واربعين سنة بني هذا الهيكل أفانت في ثلاثة ايام تقيمه. (SVD)
فلا أدري أين شهادة الزور هنا؟ الناس شهدوا بما قاله يسوع بالفعل! فلماذا نسبتموهم إلى شهادة الزور؟
السؤال 80:
أين في إرميا؟
ورد في متى 27 عدد 9 قوله: حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمَّن الذي منوه من بني إسرائيل
اعترف المستر جوويل، في كتابه المسمى (بكتاب الاغلاط) المطبوع سنة 1841 أنه غلط من متى، وأقر به هورون في تفسيره المطبوع سنة 1822 حيث قال: في هذا النقل إشكال كبير جداً لأنه لا يوجد في كتاب إرميا مثل هذا ويوجد في [11 عدد 3] من سفر زكريا لكن لا يطابق ألفاظ متى ألفاظه
والسؤال هو: هذه العبارة غير موجودة في سفر إرميا فلماذا كذب كاتب إنجيل متى وقال أنها موجودة في إرميا؟ وهل هذا خطأ من الوحي أم من الكتبة والمترجمين المدلسين؟ ولا تنسى قول إرميا نفسه طالما نتحدث عن إرميا حينما قال في إرميا 8 عدد 8 هكذا: 8 كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا. حقا انه الى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب. (SVD)
السؤال 81:
هل تصدق هذه العبارة؟
يوحنا 21 عدد 25 " واشياء أخر كثيرة صنعها يسوع ان كتبت واحدة واحدة فلست اظن ان العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين "(2/22)
العقلاء أسأل: هل يتخيل عاقل على وجه الأرض أن يوحنا صادق في هذه العبارة؟ إن القارئ لهذه العبارة قد يتخيل أن يوحنا يقصد كل معجزات يسوع أو تاريخ حياة يسوع , لكن الأمر غير ذلك فإن يوحنا يتحدث عن المعجزات التي فعلها يسوع بعد قيامته من القبر وهو في خلال أربعين يوماً كما يقول في أعمال الرسل 1عدد3: الذين اراهم ايضا نفسه حيّا ببراهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم اربعين يوما ويتكلم عن الامور المختصة بملكوت الله. (SVD)
بالله عليكم هل ما يقوله الرجل معقول؟ لو فرضنا أنه صنع خمسة معجزات وليكن عشرة في اليوم الواحد الذي يظهر لهم فيه في خلال الأربعين يوماً أي عشرة في اليوم الواحد في خمس مرات أو ستة مرات ظهر فيها ما يساوي ستين معجزة على أقصى تقدير ... فهل كتب العالم كلها لا تسع ستين معجزة من معجزات يسوع؟
السؤال 82:
(هل معقول) هل يحل للرجل بيع إبنته؟
الكتاب المقدس يعطي للرجل الحق في أن يبيع ابنته!
قال الرب في سفر الخروج 21 عدد 7: ((إِذَا بَاعَ رَجُلٌ ابنته كَأَمَةٍ، فَإِنَّهَا لاَ تُطْلَقُ حُرَّةً كَمَا يُطْلَقُ اْلعَبْدُ.)) [ترجمة كتاب الحياة]
السؤال 83:
(عقائد وعبادات) ما قصة الصور والتماثيل في الكنيسة؟
جاء في سفر التثنية 5 عدد 8: لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن، ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور. .
وجاء في تثنية 4 عدد 15: فَاحْذَرُوا لأَنْفُسِكُمْ جِدّاً، فَأَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً مَا حِينَ خَاطَبَكُمُ الرَّبُّ فِي جَبَلِ حُورِيبَ مِنْ وَسَطِ النَّارِ. لِئَلاَّ تَفْسُدُوا فَتَنْحَتُوا لَكُمْ تِمْثَالاً لِصُورَةٍ مَا لِمِثَالِ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ.
وفي سفر اللاويين 26 عدد 1.. لاَ تَصْنَعُوا لَكُمْ أَصْنَاماً، وَلاَ تُقِيمُوا لَكُمْ تَمَاثِيلَ مَنْحُوتَةً، أَوْ أَنْصَاباً مُقَدَّسَةً، وَلاَ تَرْفَعُوا حَجَراً مُصَوَّراً فِي أَرْضِكُمْ لِتَسْجُدُوا لَهُ
هذه هي نصوص توراتية وردت في النهي عن عمل الصور والتماثيل وعن عبادتها، والسجود لها. ولا شك أن التوراة تعتبر كتابا مقدساً لدى المسيحيين، بالإضافة إلى أن العهد الجديد خال من هذه البدعة، لكن يأبى النصارى إلا مخالفة شريعة الله والجري وراء أهوائهم ورغباتهم، فيدخلون شعيرة تقديس الصور والتماثيل والفطيرة والخمرة - وهي شعيرة وثنية - ضمن شعائرهم، شأنها في ذلك شأن كافة الشعائر والبدع التي اقتبسوها عن الوثنين.
أكثر النصارى يسجد للتصاوير في الكنائس. وهو من كفرهم. وأي فرق بين عبادة الأصنام والسجود للتصاوير.. وإذا زرت - عزيزي القارىء - كاتدرائية القديس بولس في لندن أو كنيسة القديس بطرس في روما، فإنك لا تكاد تفرق بينهما وبين معبد (سومناث) في الهند!
والسؤال هو: لماذا تخالفون نصوص العهد القديم وتحلون لأنفسكم بناء الأصنام والصور في الكنائس والسجود لها؟
السؤال 84:
ما هو تاريخ ميلاد المسيح؟ ولماذا 25 ديسمبر؟(2/23)
يختلف المسيحيون الغربيون عن الشرقيين في موعد احتفالاتهم بعيد ميلاد السيد المسيح. فبينما في الغرب هو يوم 25 ديسمبر (كانون الاول) عند الكاثوليك والبروتستانت، فانه عند الارثوذوكس في الشرق يوم 7 يناير (كانون الثاني) من كل عام. والاحتفال الذي يسمى بالانجليزية "كريسماس" والفرنسية "نويل" اصله "ناتيفيتاس" في اللاتينية. ولم يبدأ الاحتفال بعيد الميلاد الا منذ منتصف القرن الرابع الميلادي، بعدما تحولّت الدولة الرومانية الى الديانة الجديدة على يد الامبراطور قسطنطين. ولا احد يدري كيف اختير يوم 25 ديسمبر، فقد كان هذا اليوم هو يوم الاحتفال بهيليوس الذي يمثل الشمس عند الرومان قبل ذلك.
اناجيل العهد الجديد الاربعة لم يتحدث عن تاريخ ميلاد المسيح إلا متى ولوقا، واختلف متى ولوقا سواء في تحديدهما لتاريخ الميلاد او لموقعه. فبينما يذكر انجيل متى ان مولده كان في ايام حكم الملك هيرودوس، الذي مات في العام الرابع قبل الميلاد، فان انجيل مرقص يجعل مولده في عام الاحصاء الروماني، اي في العام السادس الميلادي.
كما يقول الأسقف بارنز أن هذا التاريخ التاريخ 25 ديسمبر قد صادف يوم احتفال كبير بعيد وثني قومي في روما، ولم تستطع الكنيسة أن تلغي هذا العيد _ بل باركته كعيد قومي لشمس البر فصار ذلك تقليدي منذ هذا الوقت.وقد تم الاتفاق على الاحتفال بعيد الميلاد في ديسمبر بالنسبة للغربيين بعد مناقشات طويلة حوالي عام 300.وهذا الرأي الذي ذهب إليه الأسقف بارنز أخذت به دائرة المعارف البريطانية ودائرة معارف شامبرو (انظر ذلك في الصفحة 642، 643 من دائرة المعارف البريطانية ط:15 مجلد: 5)
والسؤال هو: ما هو تاريخ ميلاد المسيح على وجه الدقة وبالدليل؟ ولماذا يتم الإحتفال به في 25 ديسمبر أو في 7 يناير؟
السؤال 85:
أين الدليل على تحريم تعدد الزوجات؟
الثابت تاريخياً أن تعدد الزوجات ظاهرة عرفتها البشرية منذ أقدم العصور كالأنبياء وغيرهم، وفي العهد الجديد نجد نصوصاً تبيح التعدد كالنص الوارد في رسالة بولس الاولى الي تيموثاوس 3 عدد 2: ((فعلى الاسقف أن يكون منزها عن اللوم، زوج امرأة واحدة)) وهذا يعني أن اللوم على اكثر من واحدة خاص بالاسقف فلا يشمل كل الرعية والناس. وكذلك ما جاء في نفس الرسالة 3 عدد 12: ((ليكن الشمامسة كل بعل امرأة واحدة مدبرين اولادهم وبيوتهم حسنا.)) وبهذا نستشف ان التعدد غير مباح للشماس أو المدبر في الكنيسة فلا يشمل بقية الناس والرعية.
والمسيح نفسه ضرب مثلاً في متى 25 عدد 1 - 11 بعشرة من العذراى كن في انتظار العريس وأنهن لجهالة بعضهن لم يستطعن الدخول معه فأغلق الباب دون هذا البعض لأنهن لم يكن قد أعددن ما يلزم - فلو أن التعدد كان غير جائز عنده ما ضرب المثل بالعذراى العشر اللائي ينتظرن عريساً واحداً.
وكم طالبنا النصارى أن يأتوا بدليل واحد على لسان المسيح يمنع فيه التعدد فعجزوا، وكل ما يستدلوا به إنما هو تمويه وليس فيه ما يصلح للإحتجاج فنراهم يستدلون بما جاء في متى (19 عدد 3 و 4 و 5) :
((وجاء اليه الفريسيون ليجربوه قائلين له هل يحل للرجل ان يطلق امرأته لكل سبب. فاجاب وقال لهم أما قرأتم ان الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وانثى وقال.من اجل هذا يترك الرجل اباه وامه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا))(2/24)
في الحقيقة هذه العبارات ليس فيها منع التعدد، ولا نجد جملة واحدة تقول ممنوع التعدد او لا يجوز الزواج بأكثر من واحدة، وغاية الكلام هنا هو منع الطلاق وليس غير، وهذا ما سأله الفريسيون من البداية وهذا ما عناه المسيح عليه السلام. فكما أن إتحاد الرجل بزوجته ليس حقيقياً بل مجازاً فكذلك من الممكن بكل سهولة أن يكون إتحاده بإمرأة أخرى ويصيرا جسداً واحداً أيضاً.
والسؤال هو: أين نجد نص واحد صريح من الكتاب المقدس يحرم تعدد الزوجات؟
وهل كان هناك تحريم لتعدد الزوجات في العهد القديم؟
السؤال 86:
(الصلب والفداء) هل جاء من أجل أن يُصلب؟
من أساس العقيدة المسيحية الحالية أن المسيح جاء من أجل أن يصلب وأن الرب إتخذ جسداً بشرياً مخصوص من أجل الصلب والفداء , وأنه قد ضحى بابنه مختاراً وراضٍ بذلك من أجل أن يكفر عن الخطيئة , ولا يختلف في هذا إثنان من النصارى في عصرنا الحالي , والسؤال هو: إن كان الرب جاء خصيصاً من أجل أن يُصلب , فقد كان يصلي لنفسه بتضرعات ودموع حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة طالباً من نفسه أن ينجي نفسه من الصلب , دع عنك هذه القصة , ولكني أقول لو أنه جاء لأجل الصلب , فلماذا أرسل رؤيا إلى زوجة بيلاطس الحاكم الذي أمر بصلب يسوع يحاول تنجية نفسه من هذا الصلب كما في إنجيل متى 27 عدد 19: ((واذ كان جالسا على كرسي الولاية ارسلت اليه امرأته قائلة اياك وذلك البار. لاني تألمت اليوم كثيرا في حلم من اجله. (SVD) لو أنه جاء من أجل الصلب وهو راضي به فلماذا أرسل رؤيا كهذه لزوجة بيلاطس؟
السؤال 87:
(التجسد) هل يجوز أن يتجسد الله؟
هذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر يسبقه وهو هل التجسد هو صفة كمال أم صفة نقصان؟
إن كان التجسد صفة كمال وهذا ما يصرخ به النصارى فالله كان ناقصاً حاشا لله قبل أن يتجسد فبإجماع النصارى الله لم يتجسد قبل المسيح أبداً , وأول تجسده كان في المسيح , ولم يكن متجسداً أزلاً , فبغض النظر أن هذا يعتبر جديد جَدَّ على الله , فإن كان الله أول ما تجسد تجسد في المسيح والتجسد هو صفة كمال فسبحانه وتعالى كان ناقصاً حتى إكتمل بتجسده في المسيح فأصبح متصفاً بالتجسد الذي هو صفة كمال كما تقولون وقبلها لم تكن فيه هذه الصفة فبدونها كان ناقصاً. وهذا كفر صريح لا شك في ذلك فالله لا يوصف بالنقصان أبداً فسبحانه وتعالى علواً كبيراً عن هذا.
وإن كان التجسد هو صفة نقصان فهذا كلام جيد ولكن هو كفر أيضاً إن نسبنا لله انه تجسد فمن الكفر وصف الله بأنه متصف بصفة نقصان حاشاه سبحانه
والسؤال مرة أخرى هل يجوز التجسد لله أم لا يجوز؟ ننتظر إجابة مقنعة؟
السؤال 88:
(الألوهية) أليس هو الله؟ فما حاجته لملاك يقويه؟
هذا ما يقوله لوقا في إنجيله 22عدد43 ((وَابْتَعَدَ عَنْهُمْ مَسَافَةً تُقَارِبُ رَمْيَةَ حَجَرٍ، وَرَكَعَ يُصَلِّي 42قَائِلاً: يَاأَبِي، إِنْ شِئْتَ أَبْعِدْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ، لِتَكُنْ لاَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَتُكَ. وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ ليقويه. وَإِذْ كَانَ فِي صِرَاعٍ، أَخَذَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ إِلْحَاحٍ؛ حَتَّى إِنَّ عَرَقَهُ صَارَ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.)) كان يدعوا حتى ينجيه ربه من الصلب.(2/25)
إذا كان يسوع الناصري هو الله فكيف يظهر له ملاك من السماء يقويه؟ إن قلت أنه جاء يقوي ناسوته فأنت تدعوني للضحك , لأن نص الفقرة تقول ((. وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ ليقويه)) لم يقل ليقوي ناسوته دون لاهوته , ثم العجب لماذا لم يقوي لاهوته ناسوته؟ إنسان يحمل داخله لاهوت الله يحتاج بعدها لملاك ليقويه؟ أين العقلاء؟ إن هذا شبيه حينما تقول إن رافعة عملاقة ترفع حجر صغير وزنه كيلو جرام واحد ثم جاءت نملة لتقوي الرافعة على رفع الحجر!! كلام ليس له معنى , الله يحتاج إلى ملاك ليقويه هل تتخيل ذلك؟
السؤال 89:
هل في الجنة أكل وشرب ومتع حسية؟
جاء في إنجيل متى26عدد 9: واقول لكم اني من الآن لا اشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك اليوم حينما اشربه معكم جديدا في ملكوت ابي. (SVD)
وفي نفس الإنجيل متى19عدد 29: وكل من ترك بيوتا او اخوة او اخوات او ابا او اما او امرأة او اولادا او حقولا من اجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الابدية.
وفي نفس الإنجيل متى10 عدد 28: ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون ان يقتلوها. بل خافوا بالحري من الذي يقدر ان يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم. (SVD)
وفي إنجيل لوقا 22 عدد 30: لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون اسباط اسرائيل الاثني عشر.
وفي نفس إنجيل لوقا 14 عدد 15 فلما سمع ذلك واحد من المتكئين قال له طوبى لمن يأكل خبزا في ملكوت الله. (SVD)
وجاء في سفر الرؤيا رؤيا 2 عدد 7: من له اذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب فسأعطيه ان يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله (SVD)
مذهب النصارى في هذا العصر وبالإجماع أنه لا أكل ولا شرب ولا متع حسية في الجنة , وحينما نطالع كل هذه النصوص أعلاه يتضح لنا قطعاً أن هناك أكل وشرب ومتع حسية في الجنة, وهناك أيضاً عذاب وألم للجسد في جهنم , والسؤال هو كيف تقولون أنه لا متع حسية في الجنة بل نكون أرواح؟ وهل الأرواح تأكل وتشرب؟
السؤال 90:
(الأقانيم والتثليث) مسحه الله بالروح القدس!
يقول بطرس عن المسيح: " يسوع الذي في الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس.. " اعمال 10 عدد 38. من المعلوم ان المسيحيون يؤمنون بعقيدة التثليث والتي تنص على ان الروح القدس هو الله. وهكذا فإن النص يصبح هكذا: " مسح اللهُ الله بالله " فكيف يكون الله ماسحاً وممسوحاً وممسوحاً به في الوقت ذاته؟
السؤال 91:
(الألوهية) من الذي أقامه من الموت؟ وهل هناك إله يقيم إله؟ لماذا لم يقيم نفسه من الموت؟
أعمال2عدد 32: فيسوع هذا اقامه الله ونحن جميعا شهود لذلك. (SVD)
أعمال2عدد 24: الذي اقامه الله ناقضا اوجاع الموت اذ لم يكن ممكنا ان يمسك منه. (SVD)
السؤال 92:
(هل معقول) هل الحية تأكل تراب؟
تكوين 3عدد 14: فقال الرب الاله للحيّة لأنك فعلت هذا ملعونة انت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل ايام حياتك. (SVD)
السؤال 93:
(الألوهية) أليس هو الله؟ لماذا لم يغفر لهم هو؟
لوقا 23عدد 34: فقال يسوع يا ابتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون. وإذ اقتسموا ثيابه اقترعوا عليها (SVD)
السؤال 94:
(الأقانيم والتثليث) هل روح القدس افضل من الإبن؟
لماذا يسمح بالتجديف على الإبن ولا يسمح على الروح؟
لوقا 12عدد 10: وكل من قال كلمة على ابن الانسان يغفر له. وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له. (SVD)(2/26)
السؤال 95:
(الأقانيم والتثليث) كيف يجلس عن يمين نفسه؟
مرقس 16عدد 19: ثم ان الرب بعدما كلمهم ارتفع الى السماء وجلس عن يمين الله. (SVD)
السؤال 96:
(الألوهية) إن كان يسوع هو الله فكيف يطلب الشيطان من الله أن يسجد له؟
لوقا 4عدد 7: فان سجدت امامي يكون لك الجميع (8) فأجابه يسوع وقال اذهب يا شيطان انه مكتوب للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد.
السؤال 97:
(أخطاء) كيف يكون يهوذا الخائن ديان؟
متى 19عدد 28: فقال له يسوع الحق اقول لكم انكم انتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الانسان على كرسي مجده تجلسون انتم ايضا على اثني عشر كرسيا تدينون اسباط اسرائيل الاثني عشر. (SVD)
كيف يشهد يسوع أن يهوذا الخائن سيكون ديان؟ أم أن يسوع لم يكن يعلم بعد أن يهوذا سيخونه؟ وأن أحد تلاميذه سيكون في الجحيم؟
السؤال 98:
(أخطاء) كم عدد بنو يعقوب إخوة يوسف وأهله حينما دخلوا إلى مصر؟
يقول العهد القديم في سفر التكوين 46عدد 26-27: جميع النفوس ليعقوب التي اتت الى مصر الخارجة من صلبه ما عدا نساء بني يعقوب جميع النفوس ست وستون نفسا. (27) وابنا يوسف اللذان ولدا له في مصر نفسان. جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت الى مصر سبعون (SVD)
بينما يقول العهد الجديد أعمال 7عدد 14: فارسل يوسف واستدعى اباه يعقوب وجميع عشيرته خمسة وسبعين نفسا. (SVD)
السؤال 99:
من هو فلان الفلاني
راعوث 4عدد 1: فصعد بوعز الى الباب وجلس هناك واذا بالولي الذي تكلم عنه بوعز عابر. فقال مل واجلس هنا انت يا فلان الفلاني فمال وجلس. (SVD)
لا يعقل أن يكون كتاب من عند الله فيه الوحي ويقول فلان الفلاني! فمن هو فلان الفلاني هذا؟
السؤال 100:
لمن يقول يسوع هذه العبارة لليهود ام للمسلمين؟؟ أم للنصارى الذين يقولن أننا نخرج الشياطين باسم الرب؟
متى 7عدد 22: كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك اخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. (23) فحينئذ أصرّح لهم اني لم اعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الاثم (SVD)
وختاماً فهذا هو السؤال رقم 100 وعليه نرجوا من أعزائنا الذين يقولون أن القساوسة يصنعون المعجزات ويشفون المرضى ويخرجون الشياطين باسم يسوع , فلمن يقول يسوع هذه الكلمات أعلاه؟ هل لليهود أم للنصارى أم للمسلمين؟ وحقيقة لا أدري إن كان القساوسة يفعلون هذا حقيقة فما فائدة المستشفيات؟ وما فائدة علم الطب؟ ولماذا كان بابا الفاتيكان يوحنا يبول على نفسه ولا يستطيع أن يتحكم في بوله أو برازه؟ وهذا منشور في المجلات عن حالة البابا الصحية؟ لماذا لم يشفي نفسه؟ أو يشفيه صانعي المعجزات من المؤمنين والقساوسة؟ وأذكركم بهذا النص في لوقا 17 عدد 6: فقال الرب لو كان لكم ايمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم (SVD)
فلو كان عندكم مقدار من حبة خردل من الإيمان لشفيتم المرضى وحركتم الجبال ولكن يسوع يقول هذه آيات تتبع المؤمنين ويبدوا أنه ليس فيكم مؤمن واحد لأن يسوع يقول إنجيل مرقس 16 عدد 17-18: وهذه الآيات تتبع المؤمنين. يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة. (18) يحملون حيّات وان شربوا شيئا مميتا لا يضرهم ويضعون ايديهم على المرضى فيبرأون
كتبه: خطاب المصري AYOOP2(2/27)