بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: القرآن ونقض مطاعن الرهبان
المؤلف: د. صلاح عبد الفتاح الخالدي
دار النشر: دار القلم - دمشق
الطبعة الأولى: 1428 هـ - 2007 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
أولاً: جزى الله مؤلف الكتاب خيراً، لكنَّ الكتاب يحتاج إلى جهد أكبر، وهذا لا يقلل من شأن مؤلفه.
ثانياً: تَمَّ تدعيم الكتاب بتعليقات مهمة وضرورية في هوامش الكتاب.
من خلال بعض الكتب منها:
تفسير مفاتيح الغيب (للإمام فخر الدين الرازي)
الدر المصون (للسمين الحلبي)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (للبقاعي)
الانتصار للقرآن (للقاضي أبي بكر الباقلاني)
الروض الأنف (للسهيلي)
معترك الأقران (للسيوطي)
شبه المشككين (موقع وزارة الأوقاف المصرية)
نحو تفسير موضوعي (للشيخ محمد الغزالي)
الإسلام والاستبداد السياسي
المرأة في الإسلام
المال في القرآن (للشيخ محمود غريب) .
ثالثاً: تَمَّ إضافة كتاب مائة سؤال في النصرانية (وذلك بعد الفراغ من نص الكتاب) ليقف كل معادٍ للإسلام، وطاعن في القرآن صاغراً أمام كبرياء القرآن، خجلا من فضائح كتابه المحرَّف "المقدس"
رابعاً: هذا الكتاب ردٌّ على الفاسق الفاجر القسيس عبد الله الفادي، الذي يزعم - زورا وبهتانا - أنه وهب حياته للبحث وخرج بهذه النتائج، وما هو إلا مفترٍ كذوب، شأنه شأن غيره من المستشرقين الذين أعماهم التعصب عن إبصار الحق المبين.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل.
قال بعض العلماء:
ولو كان القرآن من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الإتقان والمتانة.
فإن قلت: هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل وقد أخذ على القرآن مناقضات وإشكالات جمة ربما ألف فيه التأليفات، وهي إشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنوية تعود إلى خطئه في آرائه وأنظاره وتعليماته، وقد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وارتضاء الفطرة السليمة.
قلت: ما أشير إليه من المناقضات والإشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها ومنها هذا الكتاب، فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.
ولا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلا وهي مذكورة في مسفورات المفسرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات وجمعوها ورتبوها وتركوا الأجوبة وأهملوها، ونعم ما قيل: لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.
وصدق الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/4)
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)
(وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) .(1/4)
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونتوبُ إِليه ونستغفرُه، ونَعوذُ باللهِ من
شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أَعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشهدُ أَنْ لا إِله إِلّا الله، وحْدَه لا شريكَ له، وأَشهدُ أَنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وعلى آلِه وصحبه أَجمعين.
أَما بعد:
فهذا الكتابُ هو الثاني عشر من السلسلةِ القرآنية التي أَعانَنا اللهُ على
إِصدارها " من كنوز القرآن "، وللهِ الحمدُ والشكر.
وقد خَصَّصْنا هذا الكتابَ " القرآن ونقض مطاعن الرهبان " للانتصار
للقرآن، والدفاعِ عنه أَمامَ هجماتِ أَعدائِه، الذين انْتَقَصوهُ وخَطَّؤُوه، وأَثاروا حولَه الشبهات، ووجَّهوا له الاتهامات، وتَعامَلوا معه بعَداوَةٍ وتَحامُل.
أَدَرْنا هذا الكتابَ لتفنيدِ اتهاماتٍ وجَّهها له أَحَدُ رجالِ الدين النصارى
- أَو مجموعةٌ من رجالِ الدين النصارى - وزَعَمَ أَنَّ القرآنَ ليس معصوماً من الأَخطاءِ، ففيه مجموعةٌ من الأَخْطاءِ، تُعَدُّ بالعَشَرات، في مختلفِ المجالات، وشَتّى الموضوعات.
الكتابُ الذي خَصَّصْنا كتابَنا للرَّدِّ عليه وتَفنيدِ شُبهاتِه واتهاماتِه هو: " هل
القرآنُ معصوم؟ " ونُسِب إِلى رجلِ دينٍ نصرانيّ، هو " عبد الله الفادي ".
ويَبدو أَنَّ هذا الاسْمَ مستعار.
وصَدَرَ الكتابُ عن مؤسسةٍ تنصيرية في النمسا، اسْمُها " ضوءُ الحياة "، وظهرتْ طبعَتُه الأُولى عام (1994م) ، وتوزِّعُه هيئاتُ ومراكزُ
التبشيرِ النصرانية، ودَعَتْ مؤسسةُ " ضوءِ الحياة " إِلى مراسلتِها، لإرسالِ الكتابِ لمن يَطلبونَه، كما أَنها أَنْزَلَتْه على " الإنترنت ".(1/5)
والظاهرُ أَنَّ هذا الكتابَ ثمرةُ جهودٍ مشتركةٍ لمجموعةٍ من رجالِ الدينِ
النصارى، تَفَرَّغوا للنظر في القرآن، بهدفِ انتقادِه، وبيانِ أَخْطائِه وتناقُضاتِه
- حسبَ مزاعِمهم - ويَبدو أَنهم رَدَّدوا ما قالَه اليهودُ والنصارى من قبلِهم، وظَنّوا أَنهم بذلك سيقضونَ على القرآن، ويوقفونَ انتشارَه، ولكنْ خابَ ظَنُّهم، فالقرآنُ غالبٌ منصور، ونورُه منتشرٌ مشرق، يفتحُ اللهُ له القلوبَ والعقول، في الغرب والشرق.
وبما أَنَّ الكتاب " هل القرآن معصوم؟ " في الظاهر من إِعدادِ مؤلِّفٍ
واحد، هو " عبد الله الفادي " فسننظرُ إِليه وننقدُه على هذا الأَساس، ونستعينُ عليه بالله.
أَخبرَ " عبدُ الله الفادي " في مقدمةِ كتابه أَنه " رجلُ دينٍ نصراني " حريصٌ
على القيام " بخدمةٍ منتجةٍ دائمةِ الأَثرِ للجنس البشري "، وأَنْ يُقَدِّمَ للناس عملاً عظيماً، يَخدمُهم ويُقدمُ فيه الخيرَ لهم.
فماذا سيقدِّمُ لهم، وبماذا سيخدمُهم؟.
رأى أَنَّ أَفضلَ ما يخدمُهم به هو أنْ يُحَذِّرَهم من خطرٍ كبير، ويُنَبِّهَهم
إِلى افتراءٍ عظيم، حتى لا يُخْدعوا به، إِنَّ هذا الافتراءَ هو القرآنُ، الذي ادَّعى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أَنه وَحيٌ أَوْحى اللهُ به إِليه، مع أَنَّ الفادي يوقنُ أَنَّه لا وَحْيَ بعدَ الإِنجيل، ولا رسولَ بعدَ المسيح!! فما أَتَى به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كَذِبٌ وإفكٌ مفترى.
قال في مقدمتِه: " ...
ولكنني كرجلِ دين، رأيتُ أَنْ أَدرسَ القرآنَ..
وبما
أَنَّ اللهَ واحدٌ، ودينَه واحد، وكتابَه المقدَّسَ واحد، الذي ختمهُ بظهورِ المسيح كلمتِه المتجسِّد، وقال: إِنَّ مَنْ يَزيدُ على هذا الكتاب يَزيدُ اللهُ عليه الضرباتِ المكتوبة فيه، وبما أَنَّ القرآن يقول: إِنه وحي، أَخذتُ على عاتِقي دراستَه ودراسة تفاسيرِه، فدرسْتُه مِراراً عديدة، ووقَفْتُ على ما جاءَ به، ووضعْتُ تعليقاتي في قالبِ مئتين وثلاثة وأَربعين سؤالاً، خدمةً للحق، وتَبصرة لأُولي الألباب..
"!!.
ادَّعى عبدُ الله الفادي أَنه وجدَ في القرآن مئتين وثلاثةً وأَربعين خطأً،(1/6)
وهذا معناهُ أَنَّ القرآنَ ليس معصوماً من الخطأ، ومعناهُ أَنه ليسَ وَحْياً من الله، وليس كلامَ الله، إِذْ لو كانَ كلامَ الله لما وُجدَ فيه خطأ واحد!! وإذا لم يكن القرآنُ كلامَ الله، لم يكنْ محمدٌ رسولاً من عندِ الله، وإِنما هو مُفْتَرٍ مُدَّعٍ، ومعنى هذا أَنَّ الإِسلامَ ليس ديناً من عندِ الله، وأَنَّ مَنْ يَعتنقُ الإسلام فهو كافرٌ وعلى دينٍ باطل! والدينُ الوحيدُ المقبولُ عند الله هو الدينُ اليهودي والدين النصراني، واليهودُ والنصارى هم وحدهم المؤمنون الموَحِّدون!!.
قَسَّمَ الفادي أَسئلتَه عن القرآن، التي عَرَضَ فيها أَخطاءَ القرآنِ، إِلى
عشرةِ أقسام " هي: أَسئلةٌ جغرافية، وأَسئلةٌ تاريخية، وأَسئلةٌ أَخلاقية، وأَسئلةٌ لاهوتية، وأَسئلةٌ لغوية، وأَسئلةٌ تشريعية، وأَسئلة اجتماعية، وأَسئلةٌ علمية، وأَسلةٌ فنية، وأَسلةٌ خاصةٌ بحياةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم.
وجاءَ الكتابُ في مئتين وتسعٍ وخمسين صفحة.
وتُوَزّعُ الكتابَ هيئاتٌ وجمعياتٌ تنصيرية، بطريقةٍ خاصة، وتوجّهه إِلى
المسلمين، بهدفِ تشكيكِهم، في القرآن، الذي يؤمنون به، وتَدْعوهم هذه
الهيئاتُ إِلى التعجبِ من وجودِ مئاتِ الأَخطاءِ في كتابهم!!.
ومن بابِ الكيدِ واللؤمِ والخبث، وضعت الجهةُ التنصيريةُ المشرفة على
تأليفِ الكتابِ وطَبْعِه ونَشْرِه وتوزيعِه بين المسلمين في آخرِ الكتاب مسابقةً
مكوَّنةً من عشرةِ أَسئلة، لتتأَكَّدَ اللجنةُ من أَنَّ القارئَ قرأَ الكتاب، واستوعَبَ ما فيه، وطالَبَتْهُ بالإِجابةِ على الأسئلة، وإرسالِ الإجاباتِ إِليها، لتُقَدّمَ له الجوائز.
قالت اللجنةُ في بدايةِ المسابقة: " أَيها القارئُ العزيز: إِنْ تعمقْتَ في
قراءةِ هذا الكتاب، تستطيعُ أَنْ تُجاوبَ على الأَسئلةِ بسهولة.
ونحنُ مستعدّون أَنْ نُرسلَ لك أَحَدَ كتبِنا الروحية، جائزةً على اجتهادِك..
لا تنسَ أَنْ تكتب اسْمَك وعنوانَك كاملاً، عند إرسال إِجابتِك إِلينا..
".
وَوَضَعَتْ عنوانَها في النمسا لمراسلتِها..(1/7)
ونَزلَت اللجنةُ المذكورةُ الكتابَ على الشبكةِ العنكبوتية " الإنترنت ".
المشكلةُ في القِسّيس عبدِ الله الفادي أَنه دَخَل عالمَ القرآنِ بمقررٍ فكريٍّ
مُسْبَق، هو أَنَ القرآنَ تأليفٌ بشريٌّ وليس كلامَ الله، وتعامَلَ معه على هذا
الأَساس، وزَعَمَ وُجودَ هذه الأَخطاءِ فيه.
ومن جَهْلِ الفادي بقواعدِ البحثِ العلميِّ الموضوعيّ المحايد أنه أَخذ
كلامَ المفسرين، وما فيه من أَخطاء، وحَمَّلَ القرآنَ مسؤوليتَه، كما أَنه أَلصقَ بالقرآنِ ما أَخذَه من خرافاتٍ وأَساطير.
لا يتحمَّلُ القرآنُ إِلا مسؤوليةَ ما فيه من كلام، أَمّا أَفهامُ المفسِّرين
لكلامِه فلا يتحملُ مسؤوليتَها، لأَنها فهمُ البشرِ لكلامِ الله.
وقد رأَيْنا من المناسبِ أَنْ نَرُدَّ على كتابِ الفادي " هل القرآن معصوم؟ "
وأَنْ نُبَيّنَ تَهافُتَ أَسئلتِه، وتَفاهَةَ انتقاداتِه..
والذي دَفَعَنا إِلى الرَّدّ عليه أَنه يمثلُ خُلاصةَ جُهودِ النصارى في فَحْصِ القرآن، وإِثارةِ الأَسئلةِ والشبهاتِ حوله، فهناك كتبٌ كثيرةٌ لنصارى عديدين، تنتقدُ القرآنَ، وتُثيرُ حولَه الاعتراضات، وتزعمُ الوقوفَ على أَخطاء، ولقد قرأنا بعضَ تلك الكتب، ولدى مقارنتها بهذا الكتاب، وجدناه خلاصةً لها، فالرّدُّ عليه رَدّ عليها، لأَنه لَخَّصَ ما في تلك الكتب من أَسئلةٍ وتشكيكات.
إِنَّ من اليقينِ عند كل مسلمٍ أَنَّ القرآنَ كتابُ الله، وأَن اللهَ قد تكَفَّلَ
بحفْظهِ حتى قيامِ الساعة، وأَنه لا خَطَأَ في القرآن، في أَيّ جانبٍ من جوانبه،
وأَنه أَعظمُ معجزةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تحدّى القرآنُ الكفارَ أَنْ يَجدوا ائيه أَيَّ خَطَأ أَو اختلافٍ أَو تناقُضٍ
أَو تَعارُضٍ أَو ضَعْف، قالى تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) .
الدعوةُ إِلى تَدَبُّرِ القرآنِ موجَّهَةٌ لجميعِ الناس، المؤمنين والكافرين، يتدبَّرُ
المؤمنونَ القرآنَ ليزدادوا يَقيناً أَنه مُنَزَّهٌ عن الأَخطاء، وأَنه كلامُ الله..(1/8)
ويتدبَّرُ الكفارُ القرآن، ويَنظرونَ فيه، لعلَّهم يَجدونَ فيه خطأً أَو اختلافاً،
فإِنْ فَعَلوا ذلك فلن يجدوا فيه ما يَبحثونَ عنه!!.
والقرآنُ لا يُوَجّهُ الدعوةَ للكفارِ لتدبرِه واكتشافِ الخَطَأ والاختلافِ فيه،
إِلّا وهو واثقٌ من عَدَمِ وجودِ ذلك فيه، فلو كان فيه خَطَأٌ أَو اختلافٌ لما دخلَ معركةَ التحدي!!.
ونظرَ الكفارُ في القرآن، وبَحَثوا عن أَخطاء فيه، واستمرتْ نظراتُهم فيه
أكثرَ من خمسةَ عَشَرَ قَرْناً، وما زالوا يبحثون، وما زالَ القرآنُ يَتَحَدَّاهم،
ويقولُ لهم: هاتوا ما وَجَدتُم عندي من خَطَأ أَو اختلاف!.
وقَدَّمَ الكفارُ ما زَعَموا أَنهم وَجَدوه في القرآن، ونَظَرَ فيه العلماء، فوجدوهُ
تافِهاً مُتَهافتاً، لا وَزْنَ ولا قيمةَ له، ولا يَقفُ أَمامَ النقدِ والتمحيصِ والرد!!.
ولقد قَدَّمَ القسيسُ عبد الله الفادي ما ذَكَرَه إِخوانُه الكفارُ ممَّا ظَنّوه
أَخطاءَ في القرآن، وجَمَعها في كتابِه، وهو يظنُّ أَنه بذلك يوجِّهُ الضربةَ
القاضيةَ للقرآن، ولنْ يَستطيعَ حَمَلَةُ القرآنِ وجنودُه الرَّدَّ عليها!! وتباهى القسيسُ فيما قَدَّم في كتابه، وافتخرَ إِخوانُه بما سَجَّلَه، وعملوا على توزيعِ الكتابِ على أَوسعِ مدى!!.
ونشهدُ أَنَّ كَلامَ الفادي المفترِي في كتابه تافِهٌ مُتَهافت، والرَّدُّ عليه
وإِظهارُ تهافتِه سهلٌ ميسور، والرَّدُّ على الأسئلةِ المثارةِ مقدورٌ عليه، ولم يَأخُذْ
منَّا جُهداً كبيراً ولله الحمد.
ونُقَدِّمُ هذا الكتابَ " القرآن ونقض مطاعن الرهبان " إِلى المسلمين،
ليَزْدادوا يَقيناً بأَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وأَنه مُنَزَّهٌ عن الأَخطاءِ والمطاعن، ولِيَقفوا على تهافُتِ وتَفاهةِ أَسئلةِ واعتراضاتِ الكفارِ عليه، وليعرفوا كيفيةَ الرَّدِّ عليها..
فقد يَلتقي أَحَدُهم مع أَحَدِ المنَصِّرينَ المُشكَكينَ في القرآن، فيقدِّمُ له أَسئلةً مثلَ ما في هذا الكتاب، وعندما يقرأُ الردودَ التي في هذا الكتاب تسهلُ عليه الإجابةُ على تلك الأَسئلة.(1/9)
لقد صَعَّد أَعداءُ القرآنِ المعاصرون من شبهاتِهم ضدَّ القرآن، وحَرصوا
على نَشْرِها بين المسلمين، وكثيرٌ من المسلمين سمعوا كثيراً من الأَسئلةِ
المُشَكِّكة الموجودةِ في هذا الكتاب، ونَدْعوهم إِلى الوقوفِ على نَقْضِها ورَدّها
في هذا الكتاب.
ونقدمُ هذا الكتابَ ليكون خُطوةً نحوَ الأَمامِ في الانتصارِ للقرآن،
ومواجهةِ أَعدائِه، ونقضِ مطاعنهم، وإطْلاع القرّاء على نماذجَ من مكائدِ
الأَعداء، وتمكينِهم من دَحْضِها.
ونسألُ اللهَ حُسْنَ القبول، وجزيل الأجر والثواب.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الخميس 28/ 10 / 1426/ هـ
1 / 12 / 2005
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي(1/10)
تعريف بكتاب " هل القرآن معصوم؟ "
" هل القرآن معصوم؟ ".
عنوانٌ مثير، لكتابٍ حول القرآن، ظهرتْ طبعَتُه الأُولى عام (1994 م) ،
وقد صَدَرَ بثلاثِ لغات: الأَلمانيةِ والإِنجليزيةِ والعربية.
وجاءَ في صفحةِ العنوانِ أَنَّ مؤلِّفَه هو " عبدُ الله الفادي "، وهو اسْمٌ
مُسْتَعار، ويَبدو أَنه لم يُؤَلِّفْهُ رجلٌ واحد، وإِنما أَعَدَّه مجموعةٌ من القساوسةِ
والرهبان.
وقد طُبعَ فى النمسا، وصَدَرَ عن مؤسسةٍ تنصيرية، اسْمها: Light of Life
ومعناه: " نور الحياة "!!.
وعنوانُ الكتابِ مقصود، والاستفهامُ للإثارة، فمَعْنَى سؤالِهم: " هل
القرآنُ معصوم؟ " تقرير أَنَّ القرآنَ ليس مُنَزَّهاً عن الخَطَأ، وإِنما فيه عَشَراتُ
الأَخطاءِ المختلفة، وهذا معْناهُ أَنه ليسَ من عندِ الله، فلو كانَ من عندِ الله لما وُجِدَ فيه خَطَأٌ واحد!.
وقد قَسَّمَ مؤلِّفو الكتابِ كِتابَهم إِلى عشْرَةِ أَجزاء، ادَّعَوْا أَنهم وَجَدوا في
كُلِّ جزءٍ منها مجموعةً من الأَخطاءِ في القرآن.
الجزءُ الأَول: أَسئلةٌ جغرافيةٌ.
زَعَموا فيه وجودَ اثْنَي عَشَرَ خَطَأً جغرافيّاً في القرآن.
الجزءُ الثاني: أَسئلةٌ تاريخية.
زَعَموا فيه وجودَ خمسةٍ وخَمسينَ خَطَأً
تاريخيّاً في القرآن.
الجزء الثالث: أَسئلةٌ أَخلاقية.
زَعَموا فيه وُجودَ تسعةِ أَخطاءٍ أَخْلاقية في
القرآن.(1/11)
الجزءُ الرابع: أَسئلةٌ لاهوتية.
زَعَموا فيه وُجودَ تسعةٍ وعشرين خطأً
لاهوتيّاً في القرآن.
الجزءُ الخامس: أَسئلةٌ لغوية.
زَعموا فيه وجودَ خمسةٍ وعشرين خَطَأً
لغويّاً في القرآن.
الجزءُ السادس: أَسئلةٌ تشريعية.
زَعَموا فيه وُجودَ ستةٍ وعشرين خطأً
تشريعيّاً في القرآن.
الجزءُ السابع: أَسئلةٌ اجتماعية.
زَعَموا فيه وُجودَ واحدٍ وعشرين خطأً
اجتماعيّاً في القرآن.
الجزءُ الثامن: أَسئلةٌ علمية.
زَعَموا فيه وُجودَ اثْنَيْن وعشرين خطأً علميّاً
في القرآن.
الجزءُ التاسع: اسئلةٌ فنيَّة.
زَعَموا فيه وُجودَ أَحَدَ عَشَرَ خَطأً فنيّاً في
القرآن.
الجزءُ العاشر: أَسئلةٌ خاصَّةٌ عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
زَعَموا فيه وجودَ ثلاثةٍ وثلاثين خطأً يتعلقُ بحياةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في القرآن.
أَيْ أَنَّ الذينَ أَلَّفوا الكتابَ وَجَدوا في القرآنِ مئتين وثلاثةً وأَربعين خَطَأً،
في مختلفِ موضوعاتِه، وهذا رقمٌ كَبير، لو صَحَّ لكانَ القرآنُ باطِلاً مَليئاً
بالأَخطاء!!.
وقد وَضَعَ مُؤلِّفو الكتابِ في آخرِهِ قائمةً بالمراجعِ التي رَجَعوا إِليها،
واستَخْرَجوا منها أَخطاءَ القرآن، وكانت اثنين وعشرين كتاباً، معظمُها لمؤَلّفين من النَّصارى، خَصَّصوها لانْتقادِ القرآنِ وإِثارةِ الشبهاتِ حولَه.
ومن بابِ المبالغةِ في الكيدِ أَرادَ مُؤلفو الكتاب أَنْ ترسخَ شُبهاتُهم في
ذهنِ القارئ، فَوَضَعوا في آخِرِ الكتابِ مسابقة، طَلَبوا فيها من القارئ الإِجابةَ على أسئلةٍ اختاروها من الكتاب، وإِرسالَ الإِجاباتِ إِليهم في النمسا، ليُرسلوا له جائزةً قيمةً بسببِ اجتهادِه! وقالوا في مقدمةِ المسابقة: " أَيُّها القارئُ العزيز:(1/12)
إِنْ تَعَمَّقْتَ في قراءةِ هذا الكتاب تَستطيعُ أَنْ تُجاوِبَ على الأسئلةِ بسُهولَة..
ونحنُ مُسْتعدّونَ أَنْ نرسلَ لك أًحَدَ كتُبِنا الروحية جائزةً على اجتهادِك..
ولا تَنْسَ أَنْ تَكتبَ اسْمَك وعنوانَك كامِلاً عند إِرسال إِجابتِك إِلينا..
".
ومن الأَسئلةِ التي طَلَبوا من القارئِ الإِجابةَ عليها:
السؤالُ الأَول: في القرآنِ عشرةُ أَنواعٍ من الأَخطاء.
ما هي؟.
السؤالُ الثاني: اذكُرْ خمسةً من الأَخطاءِ الجغرافية، التي وَرَدَتْ في هذا
الكتاب!.
السؤالُ الثالث: ذَكَرَ المؤَلِّفُ خَمساً وخمسينَ غلطةً تاريخيّة في القرآن،
اكْتُبْ عَشْرَ غَلْطاتٍ منها، واشْرَحْ ثلاثاً من هذه العَشْر.
السؤالُ الرابع: يُحَلِّلُ القرآنُ تسعَ خَطايا.
ما هي؟
اذْكُرْ أَكْثَرَ ما ساءَكَ منها.
السؤالُ الخامس: أَثارَ المؤلِّفُ تسعةً وعشرين سؤالاً لاهوتياً حَوْل
القرآن.
اشرحْ خمسةً منها.
السؤالُ السادس: وَجَدَ المؤلِّفُ ستّاً وعشرينَ غَلْطَةً لغويةً في القرآن.
اذْكُرْ خمساً منها.
السؤالُ السابع: وَجَدَ المؤَلِّفُ ستةً وعشرينَ خطأً تشريعيّاً في القرآن
اذْكُرْ خمسة منها.
السؤالُ الثامنْ وَجَدَ المؤَلِّفُ إِحْدى وعشرين غَلطةً اجتماعيةً في القرآن.
اذْكُرْ خمساً منها.
السؤالُ التاسع: تَساءَلَ المؤَلِّفُ عن اثْنَيْن وعشرينَ أَمْراً عِلْمِيّاً خاطِئاً في
القرآن.
اذكُرْ خمسةً منها.
السؤالُ العاشر: وَجَدَ المؤلِّفُ في حياةِ نبيِّ الإِسلام ثلاثاً وثلاثين أَمْراً
مَعيباً.
اذكُرْ ما تعتبرُ أَنه أَسوَؤُها، واشرَحْه..
ثم اذكُرْ ما تعتبرُه أَنه ليس
مَعيباً، ودافِعْ عن وجهةِ نظرِك.
ويَلبسُ المفْتَرونَ ثوبَ الموضوعيهِ والإِنصافِ و "الديمقراطية" عندما(1/13)
يَسمحونَ للإِنسانِ أَنْ يُخالِفَهم، ويَأذَنونَ له أَنْ يُدافِعَ عن وجهةِ نَظَرِه، كما جاءَ في السؤالِ العاشر!!.
وهذا الكتابُ حلقةٌ عنيفةٌ حادَّةٌ صاخبةٌ من مسلسلِ " الهجومِ على
القرآن "، الذي يَشُنُّهُ عليه أَعداؤُه، من اليهودِ والنصارى، وسائرِ الأَعداء، الذين لا يَعترفونَ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، ولا يُؤمنونَ أَنَّ محمداً هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإِنما يعلنونَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - مُفْتَرٍ كَذّاب، ادَّعى أَنه نبيّ، وزَعَمَ أَنَّ القرآنَ وَحْيٌ
من اللهِ إِليه، مع أَنه هو الذي أَلَّفَه، وأَعانَه عليه قومٌ آخَرون!!.
هذا وإِنَّ الحملةَ على القرآنِ طويلةٌ مستمرة، مضى عليها خمسةَ عَشَرَ
قَرْناً، وباءَتْ بالفشلِ ولله الحمد، وبقيَ القرآنُ ثابِتاً قويّاً، وغالِباً مَنْصوراً
ظافراً، ولن يكونَ هذا الكتابُ الكِتابَ الأَوَّلَ في الهجومِ على القرآن، فقد
سبَقَهُ آلافُ الكتبِ الحاقدةِ المسمومة، طواها الزمَنُ في مَلَفّات التاريخِ
المنسية، فَنَسِيَها الناسُ ونسوا أصحابَها، وبقيَ القرآنُ حَيّاً مُؤَثّراً، مَحْفوظاً
مَتْلُوّاً، مَعْروفاً مُفَسَّراً!! كما أَنَ هذا الكتابَ لن يكونَ الأَخيرَ في هذا المسلسلِ الحاقدِ الخَبيث، إِذْ سَتَتْلوهُ وتتبعُه كُتُبٌ أُخرى، يُؤَلِّفُها أَعداءٌ حاقِدونَ في القرونِ القادمة، وسَيَبْقى القُرآنُ مُحارَباً مُهاجَماً من قِبَلِ أَعدائِه حتى قيامِ الساعة، ولكنّه سيبقى غالِباً بإِذْنِ اللهِ حتى قيامِ الساعة، فنحنُ لا نَخافُ على القرآنِ الهزيمة، لأَننا موقنونَ من انتصارِهِ بإِذْنِ الله.
وقبلَ البَدْءِ بتفْنِيدِ كلامِ هؤلاءِ الحاقدين في شُبهاتِهم التي اعْتَبَروها
أَخطاءً، نُقَرِّرُ أَنه لا يوجَدُ أَيّ خَطَأ في القرآن، في أَيِّ موضوعٍ من
موضوعاتِه، لا في اللغة، ولا في العقيدة، ولا في الفقه، ولا في التاريخ،
ولا في الجغرافيا، ولا في الاجتماع، ولا في الأَخلاق، ولا في العلم، ولا
في السياسة، ولا في السيرة! وما اعْتَبَرَه هؤلاءِ المفترونَ أَخطاءً في القرآن،
إِنما هو وفقَ ما صَوَّرَتْه عُقولُهم القاصرة، وأَفهامُهم السقيمة، ونَظَراتُهم
العاجزة، ويَصْدُقُ على كلامِهم قولُ الشاعر:
وَكَمْ مِنْ عائِبٍ قَوْلاً صَحيحاً ...
وآفَتُه هي الفَهْمُ السَّقيمُ(1/14)
نقد مقدمة الكتاب
سبقَ أَن قلنا: إِنَّ كتابَ " هل القرآن معصوم؟ " صادرٌ عن لجنةٍ من
المنَصّرين، جَمعوا ما ظَنّوه خَطَأً في القرآن، من مختلفِ المراجعِ والمصادر،
ولكنَ الكتابَ منسوبٌ إِلى اسمٍ مستعار، هو " عبدُ اللهِ الفادي "، الذي زَعَمَ أَنه هو الذي أَلَّفَه! وسَتَكُونُ ردودُنا على عبد الله الفادي الذي نُسِبَ الكتابُ إليه!!.
مما قالَه المفترِي الفادي في مقدمةِ الكتاب: " رَغِبْتُ منذُ حَدَاثَتي أَنْ أَقومَ
بخدمةٍ مُنتجةٍ دائمةِ الأَثَرِ للجنسِ البشري، وليس في مَقْدوري أَنْ أَكتشفَ قارة، مِثْلَ ما فَعَلَ " كولُمْبُس "، ولا أَنْ أَخترعَ مِذْياعاً، كما فعلَ " ماركوني "، ولا أَنْ أُسَخِّرَ الكهرباء، مثلَ ما فَعَلَ " أَديسون "، ولا أَنْ أُحَلّلَ الذَّرَّة، كما فعلَ " أَيْنِشْتايْن "، فليسَ شيءٌ من هذا يَدخلُ في دائرةِ اخْتِصاصي..
ولكنَّني كرجلِ دين، رأيتُ أَنْ أَدْرُس القرآنَ..
".
المؤَلّفُ " عبدُ الله الفادي " قِسّيس، وَرَجُلُ دينٍ نصراني، وبما أَنه
مُتَخَصصٌ في الدين، فهو يُريدُ أَنْ يَقومَ بدراسةٍ دينيّة، يَخدِمُ بها الجنسَ البشريَّ خدمةً دائمة.
وأَيُّ دينٍ سيَدْرُسُه دراسةً فاحصة؟
هل هو الدينُ اليهوديّ أَم الدينُ النصرانيُّ أَم الدينُ الإِسلامي؟.
العهدُ القديمُ أَساسُ الدينِ اليهودي، وهو جزءٌ من الدينِ النصراني، لأَنَّ
العهدَ القديمَ والعهدَ الجديد يُكَوِّنان " الكتابَ المقَدَّس " الذي يُؤْمِنُ به النَّصارى أَنهُ من عندِ الله.
لم يَبْقَ أَمَامَه إِلّا إِلاسلامُ ليَدْرُسَه، وبما أَنَّ القرآنَ هو أَساسُ الإِسلام،
فلْيُوَجِّه القِسّيسُ " الفادي " نَظَراتِه الكنسيَّةَ النصرانيةَ إِليه، ليَدْرُسَه دراسةً مفصَّلَةً، يقدمُ بها خدمةً للبشرية!.(1/15)
ولا مانعَ من أَنْ يدرسَ أَيُّ إِنسانٍ القرآن، والقرآنُ لا يَخْشى من أَنْ
يَدرسَهُ أَيُّ إِنسان، سواء كانَ مُسْلِماً أَو يَهودياً أَو نصرانيّاً، قِسّيساً أَو باحِثاً أَو عالِماً، لكنَّه يَشترطُ على الذي سَيدرُسُه شَرْطاً واحداً، هو: أَنْ لا يُقْبِلَ على القرآن بمقَرَّر فكري أَو عقيديٍّ مُسْبَق، وأَنْ لا يَحملَ فكرةً يُريدُ إِثْباتَها في القرآن! إِنَّه إِنْ فَعَلَ ذلك تكونُ دراستُه مُنحازةً مُتحاملة، ومن ثَمَّ سيخرجُ من هذه الدراسةِ بنتائجَ خاطئة، تَقومُ على التحامُلِ والهوى والمزاجية.
يَطلبُ القرآنُ من كُلِّ إِنسانٍ أَنْ يَضَعَ فكرتَه المسبقةَ عن القُرآنِ جانباً،
وأَنْ يَدْخُلَ عالمَ القرآنِ وهو خالي الدهْن، وأَنْ يكونَ هدفُه من ذلك البحثَ
عن الحقيقة، والرغبةَ في المعرفة، ومُتابعةَ الحَقّ، وبذلكَ تكونُ دراستُه
موضوعيةً عادلةً مُنصفَة، وسيخرجُ منها بنتائج صحيحة.
ولقد قامَ بدراسةِ القرآن كثيرون من مُفَكِّري الغربِ النَّصارى، وكانتْ
دراستُهم مَوضوعيةً مُحايدةً مُنْصفة، غيرَ قائمةٍ على المقَرَّرِ الذهنيِّ المسْبَق،
والانحيازِ الدينيِّ المسبقِ ضدَّه.
وقد قادَتْهم تلك الدراسةُ إِلى اليقينِ بأَنَّ القرآنَ حَقّ لا خطأَ فيه، وأَنه من عندِ الله، وفي مقدمةِ هؤلاء البروفسورُ الفرنسي " موريس بوكاي "، والقِسّيسُ الكندي " جاري ميللر "، والقسّيسُ السوداني
" أَشوك يانق "!.
أَمّا إِذا وَضَعَ الدارسُ في ذهْنِه مُقَرَّراً مُسْبَقاً عن القرآن، وأَقبلَ عليه
يدرسُه لتحقيقِ وتأكيدِ ذلك المقَرَّر، فسوفَ تكونُ دراستُه مُتَحاملةً مُنحازةً
ضدَّه، وسيكونُ نظرُهُ في القرآن نَظَراً خاطِئاً.
كأَنْ يوقِنَ القِسّيسُ أَنَّ القرآنَ ليس وَحْياً من الله، وإِنما هو من تأليفِ البشر، وأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليسَ رسولاً، وإنما هو مُدَّعٍ مُفْتَرٍ، وأَنَّ في القرآنِ أَخطاءً عديدة، ثم يَدرسُ القرآنَ ليأخذَ منه الأَدلَّةَ والأَمثلةَ على ما يُؤْمِنُ به! عند ذلك سَيَخرجُ بنتائجَ خاطئة، ويَزعمُ أَنه وَجَدَ الأَدلةَ على ما يُريد!.
وهذا ما فعلَه القِسّيسُ " عبد الله الفادي " في دراستِه " هل القرآنُ معصوم؟ "(1/16)
وقد صَرَّحَ هو بدراستِه المتحاملةِ المنحازَة، ومُقَرَّرِه المسْبَقِ الذي أَقبلَ به على
القرآن، وذلك بقولِه في المقدِّمَة: " وبما أَنَّ اللهَ واحد، ودينَه واحد، وكتابَه المقَدَّسَ واحد، الذي خَتَمَهُ بظهورِ المسيحِ كلمتِه المتَجَسِّد، وقال: إِنَّ مَنْ يَزيدُ على هذا الكتاب، يَزيدُ اللهُ عليه الضرباتِ المكتوبةَ فيه، وبما أَنَّ القرآنَ يَقول: إِنه وَحْي، أَخَذْتُ على عاتِقي دراستَه! ".
هكذا إِذَن، يُؤْمِنُ القِسّيسُ أَنَّ كتابَ اللهِ المقَدَّسَ واحد، وهو العهدُ
القديمُ والعهدُ الجديد، وأَن اللهَ أَنرْل العهدَ الجديدَ على عيسى - صلى الله عليه وسلم -، وهَدَّدَ أَيَّ إِنسانٍ يَزيدُ شيئاً على هذا الكتاب.
أَيْ: يُؤمنُ القِسّيسُ " الفادي " أَنه لا وَحْيَ بعدَ الإِنجيل، ولا نبيَّ بعدَ
عيسى - عليه السلام -! وهذا مَعناه أَنه يُؤمنُ أَنَّ القرآنَ ليس وَحْياً من عندِ الله، وأَنَّ محمداً ليسَ رسول الله، فالقرآنُ صناعةٌ بشرية، فهو غيرُ معصوم، وإِنما هو مليءٌ بالأَخْطاء.
آمَنَ القِسّيسُ بهذه الفكرة، وتَسَلَّحَ بهذا السِّلاح، ووضعَ هذا المنظارَ
على عينيه، وأَقبلَ على القرآنِ يَدرسُه ويَنظرُ فيه، ويُقَدِّمُ بذلك خدمةً للجنسِ البشريّ!.
فماذا سيجدُ فيه؟
سيجدُ فيه مجموعةً من الأَخطاء، في مختلفِ
المجالات والموضوعات، تُقاربُ مئتين وخمسين خطأً!!.
ونقول: أَينَ الباحثونَ الغربيّونَ النَّصارى، الذين دَرَسوا القرآنَ دراسةً
موضوعيةً، من هذه الأَخطاء، التي اكتشفَها " الفادي "؟
لماذا لم يَرَها موريس بوكاي، ولا جاري ميللر وغيرهما؟!.
ثم ما الذي دَرَسَه القِسّيس " الفادي "؟
دَرَسَ القرآنَ دراسةً متحاملةً
منحازة، ودرسَ التفاسيرَ القرآنية، قال في المقدمة: "..
وبما أَنَّ القرآنَ
يَقول: إِنه وَحْيٌ، أَخَذْتُ على عاتِقي دراستَه، ودراسةَ تَفاسيره، فدرَسْتُه مِراراً عديدة، ووقَفْتُ على ما جاءَ به..
".(1/17)
والتفسيرُ الوحيدُ الذي أَثبتَه الفادي في قائمةِ المراجعِ هو تفسيرُ
البيضاوي، ولا أَدري لماذا تَفسيرُ البيضاوي دونَ غيرِه؟
فهناكَ تَفاسيرُ مأثورة
أَفضلُ منه، كتفسيرِ الطبري وتفسيرِ ابن كثير.
ثم ما دَخْلُ التفاسيرِ في الدراسةِ الموضوعية للنَّصِّ القرآني؟
إِنَّ التفاسيرَ هي الفهمُ البشريّ لمعاني القرآن، كما سَجَّلَه السادةُ المفَسِّرون لها، وهذا الفهمُ البشريُّ يَنطبقُ عليه ما ينطبقُ على كُلِّ الأَعمالِ البشريةِ القاصرة، ومهما بَلَغَ أَصحابُها من العلمِ والدقةِ والإِتقان، فإِنها ليستْ معصومةً من الخطأ، ولا مُنَزَّهَةً عن الضعفِ والنقص.
ولذلك وُجِدَتْ في التفاسيرِ المختلفةِ أَخطاءٌ عديدة، باعتبارِها جُهْداً
بشريّاً، ولا يوجَدُ تفسيرٌ خالٍ من الخطأ، سواء كانَ قَديماً أَو معاصراً.
وهدْا معناهُ أَنَّ النَّصَّ القرآني لا يَتَحَمَّلُ الخَطَأَ الموجودَ في تلك التفاسير، ولا يَجوزُ أَنْ نَنسبَ الخَطَأَ إِلى القرآنِ، لأَنَّ هذا الخَطَأَ وُجِدَ عند
الطبريِّ أَو الرازيّ أَو البيضاويِّ أَو القرطبيِّ أو غيرهم.
فالفهمُ البشريُّ للقرآن ليسَ حُجَّةً على القرآن، إِلّا عندَ أَصحابِ النظراتِ الحاقدةِ على القرآنِ!.
وقالَ الفادي في مقدمتِه: " وَوَضَعْتُ تعليقاتي على قالَبِ مئتين وثلاثةٍ
وأَربعين سؤالاً، خِدمةً للحق، وتبصرةً لأُولي الأَلباب..
".
وسوفَ نُتابعُ الفادي في أَسئلتِه وشبهاتِه واعتراضاتِه، التي ادّعى أَنه
اكْتَشَفَها في القرآن، وسننظرُ فيها بمنظارِ القرآن، لنعرفَ تهافُتَها وتَفاهَتَها،
وصَدَقَ اللهُ القائل: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) .(1/18)
الفصل الأول نقض المطاعن الجغرافية(1/19)
هل تَغيبُ الشمسُ في بئرِ ماء؟
زَعَمَ " الفادي " أَنَّ القرآنَ أَخطأَ في حديثِهِ عن مَغيبِ الشمس، حيثُ أَخبرَ
أَنَّ الشمسَ تَغيبُ في بئْرِ ماء!.
وذلك في قولهِ تعالى عن رحلةِ ذي القرنَيْنِ الأُولى نحوَ مغربِ الشمس:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ... ) .
نَسَبَ الفادي إِلى " البيضاويِّ " أَنه قالَ في تفسيرِه عن ذي القرنين: " إِنَّ
اليهودَ سأَلوا محمداً عن إِسكندر الأَكبر؟
فقال: إِنَّ اللهَ مَكَّنَ له في الأَرض، فسارَ إِلى المكانِ الذي تَغربُ فيه الشمس، فَوَجَدَها تغربُ في بئرٍ حَمِئَة، وحولَ البئْرِ قومٌ يَعْبُدونَ الأَوثان! ".
هل كان الفادي أَميناً في النقلِ عن البيضاوي؟
هل هذا الكلامُ موجودٌ في تفسيرِ البيضاوي؟
لِننظرْ!.
قال البيضاوي: " ... واخْتُلِفَ في نبوةِ ذي القَرْنَين، مع الاتفاقِ على إِيمانِه وصَلاحِه..
والسائلونَ هم اليهود، سأَلوهُ امتحاناً، أَو مشركو مكة ... ".
لم يكن الفادي أَميناً في النقل، وإِنما كان مُحَرِّفاً، ونَسَبَ إِلى البيضاويِّ
ما لم يَقُلْه، وكَذَبَ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم.
ذَكَرَ البيضاويُّ قولَيْن في الذينَ سأَلوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين،(1/21)
هل هم اليهودُ أَو المشركون؟
والراجحُ أَنَّ الذينَ أَوْصَوْا أَنْ يُسْأَلَ عن ذي القرنين والذين صاغوا السؤالَ هم اليهود، وأَنَّ الذينَ وَجَّهوا له السؤالَ هم
مشركو مكة، فلا تعارضَ بين القولَيْن اللذين ذَكرهما البيضاوي، مع أَنَّ الأَوْلى أَنْ نَعتبر السائلين مشركي مكة، لأنهم هم الذين وَجَّهوا له السؤالَ مباشرة!.
ولما سُئِلَ عن ذي القرنين انتظرَ حتى يأْتيَه الجوابُ من الله، لأَنه لم يكنْ
يعلمُ عنه شيئاً، وآتاهُ اللهُ الجوابَ في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) .
وقد تلاعَبَ الفادي في كلام البيضاوي وحَرَّفَه، لحاجةٍ في نفسِه، فَزَعَمَ
أَنَّ اليهودَ سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإِسكندر الأكبر، مع أَنهم سأَلوهُ عن ذي القرنين، وليس عن الإِسكندرِ الأَكبر، والراجحُ عند علماءِ المسلمين أَنَّ ذا القرنَيْن ليس هو الإِسكندرَ الأَكبر!.
وافترى الفادي على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، عندما نَسَبَ له حَديثاً موضوعاً، لم يَقُلْه، وهو: " إِنَّ اللهَ مَكَّنَ له في الأَرض، فسارَ إِلى المكانِ الذي تَغربُ فيه الشمس، فوجَدَها تَغربُ في بئرٍ حَمِئَة، وحولَ البئرِ قومٌ يَعبدونَ الأَصنام ".
ونَشهدُ أَن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُلْ هذا الكلامَ الذي نَسَبَهُ له الفادي المفترِي، فهو ليسَ حَديثاً صَحيحاً ولا حَسَناً ولا ضَعيفاً، وإِنما هو مكذوبٌ موضوع.
وبعدما كَذَبَ الفادي المفترِي على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، افترى على البيضاويِّ فَنَسَبَهُ له، مع أَنه لا يوجَدُ في تفسيرِه إ!.
وتابَعَ المفترِي افتراءَه على رسولِ إلله - صلى الله عليه وسلم - وعلى البيضاوي، عندما قال: " ...
وَسارَ إِلى المكانِ الذي تَطلعُ منه الشمس، فاكتشفَ أَنها تطلعُ على قومٍ لا يَسترُهم من الشمسِ بُيوتٌ أَو ثياب! وسارَ في طريقٍ معترضٍ بين مطلع الشمسِ ومغربها إلى الشمال، فوجَدَه يَنْتَهي إِلى جَبَلَيْن، فصَبَّ بينَهما رَدْماً من(1/22)
الحدِيد، وكَوَّنَ بذلك سَدّاً مَنيعاً، لا يُدرِكُه إِلّا الله يومَ قيامِ الساعة..
"!!
وهذا كلامٌ مفترىً، لم يَقُلْه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَذْكُرْه البيضاوي..
ونَقَلَ الفادي عن تفسيرِ البيضاوي قولاً آخر، وذلك في قولِه: " وقال
البيضاوي: إِنَّ ابنَ عباس سمعَ معاويةَ يَقرأُ " حامِيَة "، فقالَ: (حمَئَةٍ) فبعثَ
معاويةُ إِلى كعبِ الأَحبار: كيفَ تجدُ الشمسَ تَغرُب؟
قال: في ماءٍ وطين.. ".
وكانَ الفادي مُفْتَرِياً على البيضاوي في هذا النقلِ أَيْضاً، فالذي في تفسيرِ
البيضاوي هو: " في عينٍ حَمِئَة: ذاتِ حَمَأ..
من: حَمِئَت البئرُ " إِذا صارَتْ ذاتَ حَمْأَة..
وقرأَ ابنُ عامر وحمزةُ والكسائيّ وأَبو بكر: " حامِيَة ".
أَيْ: حارَّة..
ولا تَنافي بينَهما، لجَوازِ أَنْ تكونَ العينُ جامعةً للوصْفَين ...
ولعلَّه بلغَ ساحلَ المحيطِ فرآها كذلك..
وقيلَ: إِنَّ ابْنَ عباسٍ سمعَ معاويةَ يقرأُ
" حامِيَة "، فقال: (حمَئَةٍ) ..
فبعثَ معاويةُ إِلى كعبِ الأَحبار: كيفَ تجدُ
الشمسَ تَغْرُبُ؟
قال: في ماءٍ وطين، كذلك نجدُه في التَّوراة! " (1) .
وأَدْعو إِلى المقاربةِ بينَ كلامِ البيضاوي، والكلامِ الذي نَسَبَهُ له الفادي،
لمعرفةِ افترائِه وتَحريفِه وتَلاعُبه.
الإِمامُ البيضاويُّ يُريدُ أَنْ يُفَسِّرَ كلمةَ (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .
فقال: إِنَها عينٌ ذاتُ حَمَأ.
وذَكَرَ مِثالاً على هذا المعنى للتَّوضيح.
فقال: " يقال: حَمِئَت البئر؟
إِذا صارَتْ ذاتَ حمأة ".
والحَمَأُ هو: الطينُ الأَسودُ المنتنُ المتغَير.
ويُقال: حَمِئَ الماءُ حَمَأً: إِذا كَثُرَ فيه الحَمَأُ، وهو الطِّين، فَتَكَدَّرَ وتَغَيَّرَتْ رائحتُه.
ويقال: حَمَأَت البئرُ:
أَيْ: أَخْرَجَتْ حَمْأَتَها.
والعينُ الحَمِئَةُ هي: التي فيها الحَمَأُ.
وهو الطّين.
وقد أَخْبَرَنا اللهُ أَنه خَلَقَ الإِنسانَ من حَمَأ، فقال تعالى:
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
44- حول غروب الشمس فى عين حمئة ومخالفة ذلك للحقائق العلمية
تغرب الشمس فى عين حمئة، حسب القرآن [الكهف: 86] وهذا مخالف للعلم الثابت. فكيف يقال إن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة؟ (انتهى) .
الرد على الشبهة:
فى حكاية القرآن الكريم لنبأ " ذو القرنين " حديث عن أنه إبان رحلته: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قومًا..) (1) .
والعين الحمئة، هى عين الماء ذات الحمأ، أى ذات الطين الأسود المنتن.
ولما كان العلم الثابت قد قطعت حقائقه بأن الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس، فإن غروب الشمس ليس اختفاء فى عين أو غير عين، حمئة أو غير حمئة.. والسؤال: هل هناك تعارض بين حقائق هذا العلم الثابت وبين النص القرآنى؟.
ليس هناك أدنى تعارض - ولا حتى شبهة تعارض - بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية.. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس - غروبها - فى هذه البحيرة - العين الحمئة -.. وذلك مثل من يجلس منا على شاطئ البحر عند غروب الشمس، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص - رويدًا رويدًا - فى قلب ماء البحر.
فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة، أو فى البحر المحيط.. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.
وقد نقل القفال، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [429 - 507هـ - /1037 - 1114م] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية، متسقًا مع الحقيقة العلمية، فقال: " ليس المراد أنه [أى ذو القرنين] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها.. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة. وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [أى البقاع المعمورة والمأهولة] من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها فى رأى العين تغرب فى عين حمئة، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض، ولهذا قال: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِترا) (2) . ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.. " (3) .
فالوصف هو لرؤية العين، وثقافة الرائى.. وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس فى علاقتها بالأرض ودورانها، وحقيقة المعنى العلمى للشروق والغروب.
فلا تناقض بين النص القرآنى وبين الثابت من حقائق العلوم.. اهـ (شبهات المشككين)
__________
(1) الكهف: 86.
(2) الكهف: 90.
(3) القرطبى [الجامع لأحكام القرآن] ج11 ص 49، 50 - مصدر سابق -.(1/23)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) .
والحَمَأُ المسْنونُ هو الطينُ الأَسودُ المتغَيِّرُ.
فالعينُ الحمئةُ هي العينُ ذاتُ الحَمَأ، أَي التي اخْتَلَطَ فيها الماءُ بالطين.
وذَكَرَ الإِمامُ البيضاويُّ البِئْرَ لتَوضيحِ معنى الحمأ، فقال: مِن حَمِئَتِ البِئْر، إِذا صارَتْ ذاتَ حمأ.
أَي: اخْتَلَطَ ماءُ البئرِ بالطينِ، فصارت البئْرُ حَمِئَة، اخْتَلَطَ ماؤُها بالطين!.
وذَكَرَ البيضاويُّ أَنَّ في " حَمِئَة " قراءَتَيْن:
الأُولى: قراءةُ نافع وابنِ كثير وأَبي عمرو ويعقوب ورواية حفص عن
عاصم: (حِمَةٍ) بالهمز، ومَعْنى: (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) : عينٍ اخْتَلَطَ ماؤُها
بالحَمَأِ والطين.
الثانية: قراءةُ ابنِ عامر وحمزة والكسائي وخلف وأَبي جعفر ورواية أَبي
بكر عن عاصم: " حامِيَة ".
ومعنى: " في عينٍ حامِيَة ": عينٍ حارَّةٍ.
وذكرَ البيضاويُّ: أَنَّ ابنَ عباسٍ كان يقرأُ: (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) بالهمزة،
بينما كانَ معاويةُ بنُ أَبي سفيان - رضي الله عنهما - يقرأُ: " في عينٍ حامِيَة ".
وروى البيضاويُّ: أَنَّ معاويةَ - رضي الله عنه - بعثَ إِلى كعبِ الأَحبارِ يسأَلُه: كيفَ تجدُ الشمسَ تغرب؟
قال: " تغربُ في ماءٍ وطين، كذلك نجدُه في التوراة ".
وبدأَ البيضاويُّ الروايةَ بصيغةِ " قيل "، وهي صيغةٌ دالَّةٌ على التمريضِ
والتضعيف! ومعناها أَنَّ الروايةَ لم تَثْبُتْ!!.
ولما نَقَلَ الفادي المفترِي الروايةَ حَذَفَ من كلامِ كعبِ الأَحبار الجملةَ
الأَخيرة: " كذلك نجدُهُ في التوراة "، لئلا يُثبتَ هذا الكلامَ في التوراة!! مع أَنَّ الروايةَ لم تَثبت كما قلنا!!.
وبهذا نعرفُ أَنَّ الفادي كاذبٌ مُفْتَرٍ، عندما نَسَبَ للبيضاوي قولَه: إِنَّ
الشمسَ تغربُ في ماءٍ وطين، وهذا معناهُ أَنها تَغيبُ في بئرٍ حمئة! مع أَنَّ
البيضاويَّ لم يَقُلْ ذلك أَبَداً.(1/24)
وبهذا نعرفُ أَنَّ القرآنَ لم يَقُلْ: إِنَّ الشمسَ كانتْ تَغيبُ في بئْرٍ حَمِئَة،
والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُلْ: إِنها كانتْ تَغيبُ في بئْرٍ حمئة!.
وبهذا نعرفُ أَنَّ الفادي خبيثٌ مُغْرِض، عندما طَرَحَ سؤالَه المشَكِّكَ
قائلاً: " ونحنُ نسأل: إِذا كانت الشمسُ أَكبرَ من الأَرضِ مليوناً وثلاثمئة أَلْف مَرَّة، فكيفَ تَغْرُبُ في بئرٍ رآها ذو القَرنين، ورأى ماءَها وطينَها، ورأى النّاسَ الذينَ عندها؟
! ".
إِنَّ هذه الأُكذوبةَ الخُرافيةَ لم تَرِدْ في القرآن، ولم يَقُلْها أَحَدٌ من
المسلمين، وإِنما اخْتَلَقَها الفادي المفترِي، وجَعَلَها خطأً جغرافياً في القرآن!.
بَقِيَ أَنْ نُبينَ معنى قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .
عندما توجَّهَ ذو القرنين نحوَ الغربِ تابَعَ سيرَه حَتّى وَصَلَ إِلى مكانٍ
تَلْتَقي فيه اليابسةُ مع الماء، ولعلَّ هذا كان عندَ شاطئ أَحَدِ البِحار، ولا دَليلَ
على تحديد ذلك المكان، فهو من مبهماتِ القرآن!.
ولعلَّ المكانَ الذي وَقَفَ فيه ذو القرنين كان عندَ مَصَبِّ أَحَدِ الأَنهارِ في ذلك
البَحر، ويبدو أَنَّ ماءَ النهر في ذلك اليوم كان مختَلِطاً بالتراب، فكانَ " حَمِئاً ".
ولما وقفَ ذو القرنَين في ذلك المكان، نَظَرَ أَمامَه إِلى الشمسِ وهي
تَغربُ وَتَغيب، فرآها (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .
أَيْ أَنَّ قُرْصَ الشمسِ سَقَطَ أمامَه في الماءِ المختلطِ بالتراب، الذي يَقذفُه النهرُ في البَحر، وبذلك رآها تغربُ في عينٍ حَمِئَة!.
وهذا أَمْرٌ لا يَدعو للعجب أَو الغرابةِ أَو الإِنكار.
وقد عَلَّقَ الإِمامُ
البيضاويُّ على ذلك بقوله: " ولعلًّه بَلَغَ ساحلَ المحيط، فرآها كذلك، إِذْ لم
يكنْ في مَطمحِ بَصَرِه غيرُ الماء، ولذلك قال: (وَجَدَهَا تَغرُبُ) ولم يَقُل: كانتْ تَغْرُب..".(1/25)
وبهذا نعرفُ كَذِبَ وافتراءَ الفادي، عندما اتَّهَمَ القرآنَ والرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول بأَنَّ الشمس " تغرب في بئر حمئة ".
ثم طرحَ سؤالَه التشكيكي الخَبيث، والقرآنُ مُنَزَّهٌ عن ادِّعاءِ وافتراءِ الفادي، حتى البيضاوي لم يقلْ ما نسبَه له ادعاءً وافتراءً.
***
هل الأرض ثابتة لا تتحرك؟
زَعَمَ الفادي أَنَّ القرآنَ أَخطأَ في حديثِه عن خَلْقِ الأَرْض، عندما قال:
إِنَّ الأَرضَ ثابتةٌ لا تَتَحرك! وهذا خطأٌ جغرافيٌّ فَلَكي، لأَنَّ دورانَ الأَرضِ
بدهيةٌ مُسَلَّمة!.
وأَوردَ الفادي آياتٍ من سور: الرعد وَالنحل والحجر والأنبياء ولقمان،
كلُّها تُقرِّرُ ثَباتَ الأَرضِ وعدمَ حركتِها أَو دورانِها!.
قال: " جاءَ في سورةِ لقمان: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) .
وجاءَ في سورةِ الرعد: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) .
وجاءَ في سورةِ الحجر: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) .
وجاءَ في سورةِ النحل: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) .
وجاءَ في سورةِ الأَنبياء: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) .
اختارَ الفادي خمسَ آياتٍ من خمسِ سُوَر، تتحدثُ عن الجبال
الرواسي، التي ثَبَّتَ اللهُ بها الأَرض، لئلا تَميدَ وتضطربَ بأَهْلِها.
ورجعَ إِلى تفسيرِ البيضاوِيّ ليأخذَ منه تفسيرَ الآيات.
قال: " وقال البيضاويّ تفسيراً لآيةِ الأَنبياء: (أَن تَمِيدَ بِكم) " كراهةَ أَنْ تَميدَ بهم ".
وقال تفسيراً لآيةِ الرعد: (وَهُوَ اَلَذِى مَدَّ اَلارضَ) : " بَسَطَها طولاً وعَرْضاً،(1/26)
لتَثبتَ عليها الأَقدام، ويتفلَّبُ عليها الحيوان ".
وأَجملَ البيضاويّ تفسيرَ هذه الآياتِ بما فَسَّرَ به آية سورة النحل، فقال: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) : أَي: كراهةَ أَنْ تَميلَ بكم وتضطرب.
لأَنَّ الأَرضَ قبلَ أَنْ تُخْلَقَ فيها الجبالُ كانت كُرَةً خفيفةً، بَسيطةَ الطبع، وكانَ من حَقِّها أَنْ تتحركَ بالاستدارةِ كالأفلاك، أَو أَنْ تتحركَ بأَدنى سببٍ للتحريك..
فلما خُلقت الجبالُ على وجهِها تَفاوتَتْ جوانبُها، وتوجهَت الجبالُ نحو
المركز، فصارَتْ كالأَوتادِ التي تمنَعُها عن الحركة ...
وقيل: لما خَلَقَ اللهُ الأَرضَ جَعَلَتْ تَمور، فقالَت الملائكة: ما هي بِمَقَرّ أَحَدٍ على ظهرِها، فأَصبحتْ وقد أُرسيتْ بالجبالِ ...
الآياتُ الخمسُ التي أَوردَها الفادي صريحةٌ في أَنَّ اللهَ جَعَلَ الجبالَ رواسيَ
مُثَبِّتَةً للأَرض، لئلّا تَميدَ الأَرضُ وتضطربَ وتتحركَ بأَهلها، ولولا هذه الجبالُ لاضطربَت الأَرضُ بأَهْلِها.
فهي رَواسٍ تستقرُّ بها الأَرض، وهي أَوتادٌ تُثَبّت الأَرض.
قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) .
ونتحفَّظُ على كلامِ الإِمامِ البيضاويّ، الذي ذَكَرَ فيه أَنَّ الأَرضَ كانت
تَمورُ وتتحرك، لأَنه لا دليلَ له على ذلك، لا من القرآن ولا من السنّة، كما نتحفظُ على كلامِه الذي نَسَبَ فيه للملائكةِ قولَهم: إِنَّ الأَرضَ لا تصلحُ أَنْ تكونَ مَقَرًّاً لأَحَدٍ على ظهرِها! لأَنه لا دليلَ له على هذا الكلام الذي نَسَبَه لهم، لا من القرآنِ، ولا من السنّةِ الصحيحة! ومعلومٌ أَنَّ أَنباءَ الماضي لا تُؤْخَذُ إِلّا من آيةٍ صريحة، أَو حديثٍ صحيحٍ مرفوعٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد صَدَّرَ البيضاويُّ كلامَه بصيغةِ " قِيلَ "، الدالة على التشكيكِ والتَّوْهين!.
وبعدَ ذلك سَجَّلَ الفادي تَساؤُلَه الخَبيث، فقال: " ونحنُ نسأل: إِذا كان
واضحاً أَنَّ الأَرضَ تَدورُ حولَ نفسِها مرةً كُلَّ أَربعٍ وعشرينَ ساعة، وينشأُ عن تلك الحركةِ الليلُ والنهار، وتَدورُ حولَ الشمسِ مع كل سنة وينشأُ عن ذلك(1/27)
الدورانِ الفصولُ الأربعة، فكيفَ تكونُ الأَرضُ ممدودةً مبسوطةً ثابتةً لا
تتحرك، وأَنَّ الجبالَ تَمنَعُها عن أَنْ تَميد؟! ...
وهَدَفُ الفادي من طرحِ سُؤالِه تَخْطِئَةُ القرآنِ، في حديثِهِ عن الجبالِ
المثَبِّتَةِ للأَرض، التي تَمْنَعُها عن الحركة، لأَنَّ الأَرضَ تتحركُ حولَ نفسها،
وتَدورُ حولَ الشمس!!.
والفادي جاهلٌ باللغةِ وبالعلمِ وبالفلك، عندما اعتبرَ القرآنَ مُخطئاً، في
حديثهِ عن الجبالِ الرواسي، التي ثَبَّتَ اللهُ بها الأَرض، لئلّا تَميدَ وتضطربَ
بأَهْلِها.
لقد صَرَّحَ القرآنُ بأَنَّ الجبالَ مثبتةٌ للأَرض، حيثُ جعلَها الله رواسيَ
وأَوتاداً لئلّا تَميدَ الأَرضُ، كما نَصَّتْ على ذلك الآيات ُ السابقة.
وهذا هو الصوابُ بعينِه، فالجبالُ عاملُ تَوازنٍ في الأَرض، ولولاها لمادَت الأَرضُ واضطربَتْ، ولذلك سَمّاها اللهُ رواسيَ وأَوتاداً.
وسُمِّيتْ " رواسيَ " لأَنها أَشبهُ ما تكونُ برواسي السَّفينة، التي تحفظُ تَوازُنَها.
وسُميتْ " أَوتاداً " لأَنها أَشبهُ ما تكونُ بِأَوتادِ الخيمة، التي تُرْبَطُ بها حِبالُها، فتحفظُ تَوازُنَها ولا تَسقط.
فالجبالُ تحفظُ تَوازُنَ الأَرض، فلا تَميدُ ولا تَضطرب، ولا تَميلُ ولا تتأرجح..
وليس معنى هذا أَنَّ القرآنَ يُخبرُ أَنَّ الأَرضَ ثابتةٌ، لا تَتحركُ ولا تَجري
ولا تَسير، كما فَهمَ ذلك الفادي الجاهل، واعتَبَرَه خَطَأً جغرافيّاً فلكيّاً في
القرآن، واعْتَبَره متعارضاً مع دورانِ الأَرضِ حولَ نفسِها وحولَ الشمس، الذي هو " بدهية فلكية " في العصرِ الحديث.
لقد صَرَّح القرآنُ بأَنَّ الجبالَ تَحفظُ تَوازنَ الأَرض، فلا تَميدُ بأَهْلِها.
ولذلك خاطبَ الناسَ بذلك: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) .
فَمنْعُ المَيْدِ والاضطرابِ خاصّ بالبَشَر، ولكنَّ هذا لا يمنَعُ دورانَ
الأَرضِ حولَ نفسِها وحولَ الشمس، وكونُ الجبالِ رواسيَ وأَوتاداً لا يَعني(1/28)
أَنها لا تَدورُ دورانَها المعْروف، إِنَّنا نوقنُ أَنَّ الأَرضَ تدورُ حولَ نفسِها مرةً
كُلَّ أَربعٍ وعشرين ساعة، فينتجُ عن ذلك الليلُ والنهار، كما أَنَّنا نوقنُ أَنَّها
تَدورُ حولَ الشمسِ مرةً كُل سنة، فينتجُ عن ذلك الفصولُ الأَربعة.
ولكنَّ الأَرضَ ثابتةٌ أَثناءَ دورانِها وحركتِها، وهي " متوازنةٌ " أَثناءَ هذا
الدوران اليوميّ والسَّنَوي، والذي جعلَها ثابتةً متوازنة في دورانِها هو الجبالُ
الرواسي الأَوتاد.
فدورانُها لا يمنعُ توازُنَها، وتَوازُنُها لا يُلغي دورانَها، فهي
ثابتةٌ متوازنةٌ، متحركةٌ جارية، وليستْ ثابتةً ساكنةً، واقفةً جامدة!!.
***
كيفَ تُرْجَمُ الشياطينُ بالنجوم؟
خَطَّأَ الفادي المفترِي القرآن، لأَنه صَرَّحَ بأَنَّ اللهَ جعلَ النجومَ رُجوماً
للشياطين.
وقد نَصَّ القرآنُ على ذلك.
قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) .
وقال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) .
تَذْكُرُ هذه الآياتُ وظيفتَيْن من وظائفِ النجومِ والكواكب:
الأُولى: تَزيِينُ السماءِ الدُّنيا وتَجميلُها، فهي في الليلةِ الصافيةِ تكونُ
مضيئةً متلَأْلِئَة، تُرْسِلُ أَضواءَها الجميلة، فتبدو السماء في أَفضلِ أَحوالِها،
وأَجملِ صُوَرِها: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) .
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) .(1/29)
الثانية: حِفْظُ السماءِ من صُعودِ الشياطينِ إِليها، فالشياطينُ يُريدونَ
الصعودَ إِلى السماءِ الدنيا، لِيَتَسَمَّعوا إِلى الملأ الأَعْلى الذينَ فيها من
الملائكة، لعلَّهم يَسمعونَ منهم كلمةً مما أَمرهم اللهُ بإِنفاذِه في عالَمِ البشر،
فَيهبطون فَوراً إِلى الأَرض، ويُقَدمونَ ما سَمِعوه إِلى أَعوانِهم من الكهنةِ
والسحرةِ والدَّجّالين، فيُخبرونَ الناسَ بذلك، ويوهمونَهم بأَنهم يعلمونَ الغيب.
وحتى لا ينجحَ الشياطينُ في استراقِ السمع، فإِنَّ اللهَ جَعَلَ على السماءِ
حُرّاساً من الملائكة، يَحْفَظونها من الشياطين، وإِذا حاولَ أَحَدُ الشياطين
الاقترابَ من السماءِ قَذَفوهُ بشهابٍ ثاقب من تلك النجومِ والكواكب، بأَنْ
يَأخُذوا قطعةً من النجمِ المُشْتَعِل، فيضربوا بها الشيطان، فيَحترقَ ويَموت!!.
فمعنى قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) أَنَّ اللهَ يأمرُ الملائكةَ
الحُرَّاسَ على السماءِ الدنيا أَنْ يَأخُذوا رُجوماً وحجارةً وشُهُباً مشتعلةً من
النجوم، ويَرْجُموا ويَرْموا بها الشياطين.
ومعنى قوله تعالى: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) :
أَنَّ اللهَ حفظَ السماءَ بالنجومِ من كلِّ شيطانٍ مارد، وبذلك
امتنعَ الشياطينُ من التَّسمُّعِ لكلامِ الملائكةِ في الملأ الأَعلى، فإِذَا حاوَلوا
التسمُّعَ فإِنَّ الملائكةَ الحُرّاسَ يَقْذِفونهم بالشُّهُبِ الثاقبةِ من كُلِّ جانب، وإِذا
هَرَبَ شيطانٌ بكلمةٍ خَطَفَها فإِنَّ الحُرّاسَ يَتْبَعونَه ويَرْمونَه بشهابٍ ثاقبٍ من تلك النجومِ فيحترق.
فالآياتُ صريحةٌ في أَنَّ حُرّاسَ السماءِ الدنيا من الملائكة يَرْجُمونَ
الشياطينَ بشُهُبِ ثاقبةٍ مشتعلة من النجوم.
وهذا بَعْدَ نبوةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، أَمّا قبلَ نُبُوَّتِه فلم يكنْ ذَلك، وقد وَرَدَ هذا صريحاً في القرآن، عندما أَخْبَرَنا عن كلَامِ الجِنِّ المؤمنين.
قال تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) .(1/30)
يُخبرُ الجنُّ أَنَّهم كانوا يَقْتَرِبون من السماء، ويَتَسَمَّعونَ كلَامَ الملأ الأَعلى
فيها، ويُبَلِّغونَ ما يَسمعونَ إِلى الكهنةِ والسحرة، فلما بَعَثَ اللهُ محمداً نبياً - صلى الله عليه وسلم - حاوَلوا الاقترابَ من السماءِ للتَّسَمُّعِ، فَمُنِعوا من ذلك، وَوَجَدوها مليئةً بالحَرَسِ الأَشدّاءِ من الملائكة، وبالشُّهُبِ المشتعلةِ من النجوم، يَضربونَ بها مَنْ يُحاولُ الاقترابَ من السماء.
وبهذا المعنى فَسَّرَ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - الآيات.
روى الترمذيُّ والنَّسائيُّ وأَحمد عن ابنِ عباس قال: " كان الجِنُ يَصْعَدونَ إِلى السماء، يَسْمَعونَ الوحي، فإِذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تِسْعاً، فأَمَّا الكلمةُ فتكونُ حَقّاً، وأَمّا ما زادَ فيكونُ باطلاً، فلما بُعثَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنِعوا مَقاعِدَهم، فذَكَروا ذلك لإِبليس، ولم تكن النُّجومُ يُرْمى بها قبلَ ذلك، فقالَ لهم إِبليسُ: ما هذا إِلّا من أَمْرٍ قد حَدَثَ في الأَرض، فَبَعَثَ جُنودَه، فوَجدوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قائِماً يُصَلِّي
بينَ جبلَيْنِ بمكة، فأَتوهُ فأَخْبَروه، فقال: هذا الذي حَدَثَ في الأَرض ...
وهذه الحقيقةُ القرآنيةُ لم تُعجب القِسّيسَ الفادي، واعْتَبَرَها لجهلِه خَطأً
جغرافياً وَقَعَ فيه القرآن، لأَنه يَتعارضُ مع عِلْمِ الفَلَك، وبعدَ أَنْ أَوردَ كلاماً
للبيضاويِّ في تفسيرِ الآياتِ السابقةِ طَرَحَ سؤاله التشكيكيَّ، فقال: " ونَحنُ
نَسألُ: إِذا كانَ كُلُّ كوكبٍ هو عالم ضخم، والكواكبُ هي ملايينُ العوالمِ
الضخمة، تَسْبَحُ على أَبْعادٍ شاسعةٍ في فَضاءٍ لا نَهائِيّ، فكيفَ نتصوَّرُ الكواكبَ كالحجارة، يُمسكُ بها مَلاكٌ في حَجْمِ الإِنسان، ليضربَ بها الشيطان، مَنْعاً له من استماعِ أَصواتِ سُكانِ السماء؟
هل كلّ هذه الأَجرامِ السماويةِ خُلِقَتْ لتكونَ ذَخيرةً أَو عَتاداً حربيّاً كالحجارةِ لرجْمِ الشيطان، حتى اشْتَهَرَ اسْمُه بالشَّيْطانِ الرجيم؟
! وكيفَ يَطْرَحُ الملائكةُ الكواكبَ؟
وكيفَ يُحْفَظُ توازُنُ الكونِ إِذا سارَتْ في غير فَلَكِها؟! ".(1/31)
وقد طَرَحَ الفادي أَسئلتَه الاعتراضيةَ التشكيكيةَ بأُسلوبٍ تَهَكُّميٍّ، ولهجةٍ
ساخرة، تدلُّ على تهكُّمِه بالقرآن، وعَدَمِ احترامِه له، وعَدَمِ أَدَبِه معه، وهذا أُسلوبٌ لا يَليقُ به، باعتبارِه قِسّيساً ورجلَ دينٍ نصرانياً!.
واعتراضُه على كَلامِ القرآنِ يَدُلُّ على جَهْلِه، حيثُ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ النجومِ
والكواكبِ في الفضاءِ حجارةٌ وعَتادٌ حربي، لضَرْبِ الشياطين التي تُحاولُ
الصعودَ إِلى السماء، وظَنَّ أَنّ الملَكَ الحارسَ بحجْمِ الإِنسان، أَيْ أَنَّ حَجْمه
لا يَكادُ يَزيدُ على مئةِ كيلوغرام، فكيفَ يَحملُ بين يَدَيْه نَجْماً، يَزِنْ مَلايين
الكيلوغرامات؟!.
إِنَّ هذا الظَّنَّ السخيفَ يدلُّ على غَباءِ الفادي وسخافةِ تفكيره..
لقد ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ الملائكةَ الحُرّاسَ يَقْذِفونَ على الشياطينِ الصاعدةِ
شُهُباً ثاقِبَة، ولم يَقُلْ: إِنَ أَحَدهم يَحملُ كوكباً يَزِنُ ملايينَ الأَطْنان!.
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) .
فمعَ المَلَكِ شِهابٌ مُشْتَعِلٌ، وهذا الشِّهابُ يكونُ مأخوذاً من النجمِ المشتعل.
وهناك نجومٌ مشتعلةٌ ملتهبةٌ مثْلُ الشمس، وهناك نُجومٌ باردةٌ مظلمةٌ مثْلُ القَمَر ...
فلم يَقُل القرآنُ: إِنَّ كُلَّ النجومِ والكواكبِ التي تُعَدُّ بالمليارات حجارةٌ لضَرْبِ الشياطين، إنما أَخْبَرَ أَنَّ معَ الملائكةِ الحُرّاسِ شُهُباً مُبينَةً مُشْتَعِلَة، مأْخوذةً من النجوم النارية..
والشِّهابُ صَغيرُ الحجمِ يَقْدِرُ الطفلُ على حَمْلِه، فما بالك بالمَلَكِ الضخمِ القويِّ؟!.
ومَن الذي قالَ للفادي: إِنَّ حَجْمَ المَلَكِ بحَجْمِ الإِنسان؟
إِنَّ المَلَكَ
ضخمٌ كَبيرٌ عظيم، كما قل تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
وبما أَنَّ اللهَ أَخْبَرَنا في القرآنِ أَنه جعلَ النجومَ رُجوماً للشياطين، وأَنَّ
الملائكةَ الحُرّاس يأخُذونَ منها الشُّهُبَ الثاقبة يَرْمونَ بها الشياطين، فهو الكلامُ الصحيحُ الصائب، ولا نَجِدُ فيه خَطَأً فَلَكياً أَو جغرافياً، ولا يَتَعارَضُ مع العقل (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
67- هل النجوم رجوم الشياطين؟
الرد على الشبهة:
إن الإسلام دين، وهو موحى به من رب العالمين يخبرنا عن صدق ويقين، وهو القائل سبحانه: (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) (1) . والإسلام ليس بدعاً من الأديان ولذلك نرى أن الكتب المقدسة تذكر ذلك؛ فإن الله تعالى يقول:
(وأنا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصدا) (2) . قال ذلك حكاية عن الجن. وليس المعنى كما فهم المؤلف، وإنما المعنى هو أن الله جعل على السماء حراساً من الملائكة، وخلق لهم أدوات عقاب تناسب أجسام الشياطين. وهى الشهب. فإذا جاء شيطان رماه أحد الملائكة بشهاب وليست الشهب كواكب كالقمر والشمس، وإنما هى أدوات عقاب كالسيف فى يد الجندى المحارب.
وفى الإصحاح الثالث من سفر التكوين؛ أن الله لما طرد آدم من الجنة وهى جنة عدن، ليعمل الأرض التى أُخذ منها، أقام شرقى جنة عدن ملائكة تسمى الكروبيم، ووضع لهيب سيف متقلب فى أياديهم لحراسة طريق شجرة الحياة: " فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أُخذ منها؛ فطرد الإنسان، وأقام شرقى جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة " (3) .
ويقول المفسرون: " إن الكروبيم من الملائكة المقربين. وهو فى الفارسية بمعنى الحارس ". وكان عملهم وقت طرد آدم هو " حراسة الفردوس؛ لئلا يرجع الإنسان إليه ".
وفى القرآن تفسير الشهب بشواظ من نار. فى قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأى آلاء ربكما تكذبان * يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) (4) .
فقد جعل للجن غير ما جعل للإنس من أدوات العقاب. ولم يجعل للجن كواكب تُرمى بها كالقمر والشمس، وإنما جعل للجن " شواظ " أى " شهب ". اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الكهف: 51.
(2) الجن: 8 - 9.
(3) تك 3: 23-24.
(4) الرحمن: 33 - 35.(1/32)
وبهذا نَعرِفُ أَنَّ اعتراضَ الفادي في غيرِ مكانِه، وأَنَّ تَهَكُّمَه على
القرآنِ لعيبٍ فيه، وأَنَّهُ خَطَّأَ الصّوابَ!!.
***
هل السموات سبع والأراضي سبع؟
اعترضَ الفادي على كونِ السمواتِ سَبْعاً، وأَنَّ كلَّ سماءٍ منها سقفٌ
أَملسُ على وشَكِ السُّقوط، كما اعترضَ على كونِ الأَراضي سَبْعاً، واعتبرَ هذا خطأً في القرآن.
أَوردَ آياتٍ صريحةً في أَنَّ اللهَ خَلَقَ السمواتِ سَبْعاً؟
منها قولُه تعالى:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) .
ومنها قولُه تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ...
ومنها قولُه تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) .
واعترضَ لجهلِه على كونِ السمواتِ سَبْعاً، فقال: " واضحٌ من هذه الآيات، معَ تفسيرِ البيضاويِّ لها، أَنَّ اللهَ خَلَقَ السماءَ التي فوقَنا، وهي سقْفٌ أَمْلَسُ واسع، وفوقَهُ ستّ سموات، كالسُّقوف، بعضُها فوق بعض..
فكيفَ يكونُ الفضاءُ اللّامتناهي سَقْفٌ أَمْلس، وأَنه يوجَدُ فوقه سبعةُ سُقوفٍ من هذا النوع؟! " (1) .
واعتراضُه على هذه الحقيقة دال على جهلِه، واعتبارُه هذا خطأً فلكياً في
القرآن بسببِ تحامُلِه وحقدِه على القرآن.
وقد صَرَّحَ القرآنُ بأَنَّ اللهَ خَلَقَ سبعَ سموات، وجاءَ هذا التصريحُ القرآنيُّ
في سبعِ آياتٍ صريحة، وهذا " التَّوافُقُ العدديّ " مقصودٌ في القرآن!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
68- القرآن يتناقض مع العلم
إنه جاء فى القرآن أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن. فكيف يقول عن أرضنا وهى واحدة من ملايين الكواكب - إنه يوجد سبعة مثلها؟
وفى القرآن: (أن السماء سقفاً محفوظاً) ، وأن الله يمسكها لئلا تقع. فكيف يقول عن الفضاء غير المتناهى: إنه سقف قابل للسقوط؟
وفى القرآن أن الله زين السماء الدنيا بمصابيح. فكيف يقول عن ملايين الكواكب التى تسبح فى هذا الفضاء غير المتناهى إنها مصابيح؟
الرد على الشبهة:
هذا السؤال مكون من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: هو أنه ليس فى العالم سبعة أرضين. فكيف يقول عن الأرض: إنها سبعة كما أن السموات سبعة؟ وقول المؤلف إن الأرض سبعة؛ أخذه من بعض مفسرى القرآن الكريم. وهو يعلم أن المفسرين مجتهدون، ويصيبون ويخطئون. والرد عليه فى هذا الجزء من السؤال هو: أن نص الآية هو: (الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علماً) (1) .
إنه أتى ب - (مِنْ) التى تفيد التبعيض؛ لينفى العدد فى الأرض. وليثبت المثلية فى قدرته. فيكون المعنى: أنا خلقت سبع سموات بقدرتى، وخلقت من الأرض مثل ما خلقت أنا السماء بالقدرة. ولهذا المعنى علّل بقوله: (لتعلموا أن الله على كل شىء قدير) .
وبيان التبعيض فى الأرض: هو أن السماء محكمة، وأن الأرض غير محكمة. وهى غير محكمة لحدوث الزلازل فيها، وللنقص من أطرافها.
وقد عبّر عن التبعيض فى موضع آخر فقال: (أفلا يرون أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها) (2) . والنقص من الأطراف يدل على أن الباقى من الأرض ممسوك بقدرة الله، كما يمسك السماء كلها.
والجزء الثانى: هو أن السماء سقف قابل للسقوط.
والرد عليه فى هذا الجزء من السؤال هو: أن كل لغة فيها الحقيقة وفيها المجاز. والتعبير على المجاز. فإن السماء شبه سقف البيت، والمانع للسقف من السقوط على الحقيقة هو الأعمدة، وعلى المجاز هو الله؛ لأن كل شىء بقدرته. ولذلك نظير فى التوراة وفى الإنجيل: " بالكسل يهبط السقف ". وفى ترجمة أخرى: " من جراء الكسل ينهار السقف. وبتراخى اليدين يسقط البيت " [جامعة 10: 18] يريد أن يقول: إن الكسل يؤدى إلى الفقر، والفقر يؤدى إلى خراب البيوت. وعبر عن الخراب بانهيار السقف. والسقف لا ينهار بالكسل، وإنما بهدّ الأعمدة التى تحمله. وفى سفر الرؤية: " فسقط من السماء كوكب " [رؤ 8: 10] كيف يسقط كوكب من السماء بغير إرادة الله؟ وفى سفر الرؤية: " ونجوم السماء سقطت " (رؤ 6: 13] ، ويقول عيسى عليه السلام: إن العصفور لا يقع إلى الأرض إلا بإرادة الله: " أما يباع عصفوران بفَلْس واحد. ومع ذلك لا يقع واحد منهما إلى الأرض خفية عن أبيكم " [متى 10: 29] . وفى الرسالة إلى العبرانيين: " حقاً ما أرهب الوقوع فى يدى الله الحى؟ " [عب 10: 31] .
والجزء الثالث: وهو أنه كيف يقول عن الكواكب إنها مصابيح؟ والمؤلف دل بقوله هذا على إنكار الواقع والمشاهد فى الحياة الدنيا، ودل أيضاً بقوله هذا على جهله بالتوراة وبالإنجيل. ففى سفر الرؤية: " كوكب عظيم متقد كمصباح " [رؤ 8: 10] ، "وأمام العرش سبعة مصابيح " [رؤ 4: 5] ، وجاء المصباح على المجاز فى قول صاحب الأمثال: " الوصية مصباح والشريعة نور " [أم 6: 23] . اهـ (شبهات المشككين)
__________
(1) الطلاق: 12.
(2) الأنبياء: 44.(1/33)
ولا يَعرفُ العلمُ البشريُّ القاصرُ إلّا شيئاً قليلاً عن السماءِ الدنيا، وهو
لا يَعرفُ شيئاً عن السمواتِ السِّتِّ الأُخرى التي فوقَها، لأَنه غَيْرُ مُؤَهَّل
للبحث فيها، ويجبُ عليه أَنْ يعترفَ بعَجْزِه وقُصوره، وأَنْ يَكِلَ العلمَ بتلك
السمواتِ السِّتِّ إِلى اللهِ العليم الخبير، وأَنْ يأخذ ما ذكرَه اللهُ عنها في القرآن بالقَبولِ والتسليم، وأَنْ لا يُكَذِّبَ بما لا علْمَ له به!.
فالسمواتُ سبْعٌ طِباق، كلُّ سماء سقفٌ لما تحتَها، وأَساسٌ لما فوقَها.
قالَ تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) .
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) .
وقالَ تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) .
ولم يَخترق السمواتِ السبعَ إِلّا رسولُنا - صلى الله عليه وسلم -، عندما أَسرى اللهُ به من المسجدِ الحرامِ إِلى المسجدِ الأَقصى، ثم عَرَجَ به إِلى السماء، وَوَصَلَ به إِلى سدرةِ المنتهى..
وَوَصفَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السمواتِ السَّبْعَ في أَحاديثَ صحيحة!
وعلينا أَنْ نأخذَ المعلوماتِ الغيبيةَ المذكورةَ في القرآن، وأَنْ نَتَلَقّاها
بالقَبولِ والتسليم، وأَنْ نعترفَ بقُصورِ علْمِنا، بدلَ أَنْ " نَتَعَالَمَ " على القرآن، ونُخَطّئ ما فيه من صواب، كما فَعَلَ هذا الفادي!.
وكما خَطَّأَ الفادي القرآن في كلامِهِ عن السبعِ سموات خَطَّأَهُ في إِشارتِه
إِلى أَنَّ الأَرْضَ سبعُ أَرَضينَ أَيضاً.
ولم تَرِدْ هذه الإِشارةُ إِلّا مَرَّةً واحدةً في القرآن، ودْلك في قولهِ تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) .
واعترض على الآيةِ بقولِه: " وخَلَقَ اللهُ الأَرضَ، التي نحنُ عليها،
ولسِتَّ أَراضٍ مِثْلَها.. فجملةُ السمواتِ والأَراضي أَربع عَشرة ...
فكيفَ يقولُ القرآنُ: إِنَّ أَرضنا - وهي واحدةٌ من ملايينِ الكواكب والسياراتِ والأَقمارِ والشُموس - يوجَدُ سبعةٌ مثْلُها؟ "،(1/34)
لقد فهمَ الجاهلُ من قولِه تعالى: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أَنَّ القرآنَ يقولُ
بوجودِ سَبْع أَرضين، كلُّ واحدةٍ كوكبٌ مثلُ كوكَبنا، وأَرضٌ مثْلُ أَرْضنا، وكلُّ واحدةٍ مستقلَّةٌ عن الأُخْرَياتِ مثلُ أَرضِنا، وكلُّ واحدةٍ صالحةٌ للحياةِ مثلُ أَرضِنا، وكلّ واحدةٍ عليها أَحياءٌ مِثْلُنا!! وهذا ما لم يَقُلْهُ القرآن!.
كلُّ ما قالَه القرآنُ أَنَّ اللهَ خَلَقَ سبعَ سموات، وأَنه خَلَقَ من الأَرْضِ
مِثْلَهن: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
ونرى أَنَّ هذه الجملةَ ليستْ نَصاً قرآنيّاً صريحاً في أَنَّ اللهَ خَلَقَ الأَرضَ سَبْعَ أَرَضين، كما خَلَقَ السماءَ سَبْعَ سمواتٍ طباقاً، ولهذا اختلفَ المفسرون في فهم هذه الجملةِ القرآنية!!.
وفي المرادِ بالمثليةِ في قولِه تعالى: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) قولان:
الأَول: هي مثليةٌ في الخَلْق.
فاللهُ خَلَقَ سَبْعَ سموات، وخَلَقَ الأَرضَ مثْلَهن: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
وعلى هذا القولِ يكونُ حرفُ الجَرِّ " مِنْ " للبَيان.
وتكونُ (الْأَرْضِ) مجرورةً لفظاً، منصوبةً مَحَلّاً، لأَنها معطوفةً على (سَبعَ) المنصوبةِ قبلَها، لأَنها مفعولٌ به.
و (مِثْلَهنَّ) : حالٌ منصوب.
وصاحِبُ الحالِ هو " الأَرض ".
والتقدير: اللهُ الذي خَلَقَ سبعَ سموات، وخَلَقَ الأَرضَ مثْلَهن.
ووجْهُ الشبهِ بينَ السمواتِ السبعِ والأَرضِ هو الخلق، والمثليَّةُ هنا هي المثليةُ في الخَلْق.
فالسمواتُ السبعُ مخلوقة، والأَرضُ مثلهن مخلوقة!.
الثاني: هي مثليةٌ في العَدَدِ، بالإِضافةِ إِلى المثليةِ في الخَلْقِ.
فاللهُ خَلَقَ السماءَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً، وخَلَقَ الأَرضَ مثْلَ السماء، وجعلَها سبعَ أَرَضِين!.
ومع أَن الجملةَ تحتملُ القولَيْن، ولكنَّنا نرى أَنَّ القولَ الأَولَ هو
الراجح، أَما القولُ الثاني فإِنه مرجوح.
فالراجحُ أَنَّ الأَرضَ كلَّها كتلةٌ واحدة، وأَرضٌ واحدة، وأَنها - مخلوقة
مثل السمواتِ السبع، وأَنَّ الله هو الذي خَلَقَ السمواتِ وخَلَقَ الأَرض.
وقد وردَ حديثٌ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - " يُشيرُ إِلى أَنَّ الأَرَضينَ سَبْعٌ.(1/35)
فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ عنه - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال: " مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبرٍ من الأَرض، طُوقَهُ من سَبْعِ أَرَضين "..
وفي روايةٍ أُخرى: " خُسِفَ به إِلى سبعِ أَرَضين ".
وقد يُفْهَمُ الحديثُ على أَنه من بابِ الترهيبِ من الظلم وتهديدِ الظالمِ
بالعذاب، وقد يُؤْخَذُ الحديثُ على ظاهرِه، ويُعْتَبَرُ دَليلاً على أَنَّ الأَرضَ هي
سبعُ أَرضين.
وإِذا قُلْنا بأَنَّ الأَرضَ سبعُ أَرَضين، فهي سَبْعُ أَرَضينَ متصلةٌ ببعضِها،
ليس بينها فَراغ، أَمّا السمواتُ فهي سبعُ طبقاتٍ منفصلَة، بين كُل سماءٍ وسماءٍ مسافةٌ بعيدة لا يَعلمُها إِلا الله.
وبهذا نَعرفُ خطأَ وجهلَ القسيس الفادي، عندما اتَّهَمَ القرآنَ بالقولِ إِنَّ
الأَرَضين السبعَ هي سبعُ كُراتٍ أَرضيةٍ مستقلة، مثلُ كرتنا الأَرضيةِ التي نحنُ
عليها!.
واعترضَ الجاهلُ أيضاً على القرآنِ في إِخبارِه أَنَّ اللهَ هو الذي يمسكُ
السماءَ لئلَّا تقعَ على الأَرض، وذلك في قوله تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
وسَجَّلَ اعتراضَه في قوله: " ونحنُ نتساءَل: كيفَ يَقولُ عن الفَضاءِ
المتسامي سُمُوّاً لا مُتَناهي فَوقَنا: إِنه سَقْفٌ أَمْلَس قابلٌ للسقوط؟
..!.
واعتراضُه على القرآنِ دَليلُ جهْلهِ، ولم يُخطئ القرآنُ في إِخبارِه عن هذه
الحقيقة، وهَدَفُ الآيةِ تقريرُ حقيقةِ أَنَ كُلَّ شيءٍ في الكونِ إِنما يتمُّ بأَمْرِ الله،
وأَنَّ اللهَ هو الذي يُدَبِّرُ أَمْرَ الكونِ وما فيه، فهو سبحانه الذي خَلَقَ الأَرضَ
والسماء، وهو الذي جَعَلَ السماءَ فوقَ الأَرض، وهو الذي جعلَ الكواكبَ
والنجومَ في الفضاء، وحَدَّدَ لكل منها سَيْرَه ومدارَه ومكانَه.
وهذا واضح في الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) .(1/36)
وأكد القرآن على هذه الحقيقة في آياتٍ عديدة؟
منها قولُه تعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) .
وليسَ معنى قولِه تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)
أنَّ السماءَ على وَشَكِ الوقوعِ على الأَرض، وأَنها قابلةٌ للسقوط، كما فهمَ الجاهل، وإِنما مَعْناها أَنَّ اللهَ هو الذي يُمسِكُ السماءَ القويةَ المتينةَ المحْكَمَة، ولولاهُ سبحانَه لوقَعَتْ على الأَرض، ولولاهُ لزالت السماءُ والأَرض، ولولاهُ لَدُمِّرَت النجومُ والكواكبُ في الفضاء..
ولا يوجَدُ مخلوقٌ في الوجودِ يَقْدِرُ على الإِمساكِ بالنظامِ الكونيِّ المتوازن، الذي يُنَظّمُ السماءَ والأَرض والكواكبَ في الفضاء.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) .
- تُشيرُ الآيةُ إِلى القوةِ المتوازنةِ التي جعلَها اللهُ في الكون، والتي تمسكُ
ما فيه من نجومٍ وكواكب، وهي قوةُ " الجاذبيةِ " العجيبة.
وعندما يَحينُ وَقْتُ إِنهاءِ هذا الكون وما فيه، يُزيلُ اللهُ قوةَ الجاذبية، فتتناثَرُ النجومُ والكواكب، ويكونُ الانفطارُ والانشقاقُ والتكويرُ والانكدارُ والتسييرُ والتسجيرُ والتفجير!
وهذه مصطلحاتٌ قرآنيةٌ تتحدَّثُ عن يومِ القيامة!.
***
ما هو النسيء؟
اعتبرَ الفادي حديثَ القرآنِ عن النَّسيءِ خَطَأً جُغرافيّاً فَلكيّاً وَقَعَ فيه
القرآن، واعترضَ على آيتَيْنِ تَتَحدثان عن عِدةِ شهورِ السنة وعن النسيء؟
وهما قولُ اللهِ - عز وجل -: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) .(1/37)
ولم يَفْهَم الجاهلُ معنى النسيء، ولذلك طَرَحَ سؤالاً دالّاً على جَهْلِه
وغَبائِه، فقالَ: " ونحنُ نسأَلُ: يُؤَزخُ جَميعُ العلماءِ بالسَّنَةِ الشمسية، التي تَفْرُقُ عن السنةِ القمريةِ شَهْرَ النَسيء؟
فهل في هذا كُفْرٌ؟
وكيفَ نَعتبرُ الحسابَ الفلكيَّ الطبيعيَّ كُفْراً؟.
كان الفادِي كاذِباً مَفْتَرِياً عندما زَعَمَ أَنَّ جميعَ العلماءِ يُؤَرِّخونَ بالسنةِ
الشمسية، فمن المعلومِ أَنَّ هناكَ تقويمَيْن للتاريخ: التقويمَ الشمسيَّ، وهو
الذي يَتبعهُ العالمُ الغربيُّ، والذي أَخَذَه عن الرومان..
والتقويمَ القمريَّ، وهو الذي أَرَّخَ به المسلمون، منذُ هجرةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة..
وإذا كان الغربيّون قد دَخَلوا في القرنِ الحادي والعشرين الميلاديّ الشمسي، فإِنَّ المسلمينَ قد دَخَلوا في الربع الثاني من القرنِ الخامس عشر الهجريِّ القمري.
وكانَ الفادي جاهلاً عندما جَعَلَ الفرقَ بينَ السنةِ الشمسيةِ والسنةِ القمريةِ
شَهْراً، أَيْ أَنَّ السنةَ الشمسيةَ تَزيدُ على السنةِ القمرية شهراً كاملاً!! وهذا ما لم يَقُلْه أَحَدٌ إ!.
إِن السنةَ الشمسيةَ تَزيدُ على السنةِ القمريةِ ما بينَ عشرةِ أَيامٍ إِلى أَحَدَ
عَشَرَ يوماً.
قالَ المؤرخُ الإِسلامِيُّ المعاصر أحمد عادل كمال في الفرقِ بينَ التقويم
الشمسيِّ والتقويم القمري: " يزيدُ اليومُ الشمسيُّ عن اليومِ القمريّ ثَلاثَ
دقائق، وخَمْساً وخمسين ثانية، وتسعةً في العشرةِ من الثانية! (9، 3: 55) !(1/38)
واليومُ عندَ العرب يبدأُ من غروبِ الشمس، ويمتدُّ إِلى غُروبِها في اليوم
التالي!..
والشهرُ القمريُّ: (588 530، 29) يوماً! والسنةُ القمريةُ (354)
يوماً، وثماني ساعات، و (48) دقيقة، و (36) ثانية! أَما السنةُ الشمسيةُ فإِنَّها (365) يوماً، وستُّ ساعات، وتسعُ دقائق، و (5.9) ثانية!!
فالفرقُ بين السنةِ الشمسيةِ والسنةِ القمريةِ حوالي أَحَدَ عَشَرَ يوماً! ".
فكيفَ يقولُ القسيس بعد هذا الضبطِ الدقيقِ لجزءٍ من الثانية إِنَّ الفرقَ
بينَ التقويمَيْن شهرٌ كامل، وليس أَحَدَ عشر يوماً؟
وكيفَ يقعُ في هذا الخطأ
الحِسابيّ الفلكيِّ الشنيع؟
وكيفَ يدخُلُ في ما لا يَعرفُهُ؟
ويَتَعالَمُ بعد ذلك على القرآن!.
وانتقلَ الجاهلُ الذي يُريدُ أَنْ يُخَطِّئَ القرآنَ من خطئِه في الحساب إِلى
خَطَأ أَقبَح، حيثُ لم يَفْهَمْ معنى " النسيء " في الآية، فاعتبرَ النسيءَ هو
" التأريخ بالسنةِ الشمسية "، ولذلك تَساءَلَ بغَباء: كيف نَعتبرُ الحسابَ الفلكي الطبيعيَّ كُفراً؟.
ولا يَقولُ عاقل: إِنَّ النسيءَ هو التاريخُ الشمسي، وإِنَّه كفر! فضلاً عَنْ
أَنْ يقولَ القرآنُ بذلك!!
" النسيءُ " في قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) اسْم، بمعنى
التأخير، مُشْتَقٌّ من " نَسَأَ " بمعنى: أَخَّرَ.
ونَسْءُ الشيءِ تَأخيرُه.
وهو في الآيةِ تأخيرٌ خاص، إِنَّه " نَسيء" في حرمةِ الأَشهرِ الحُرُم، كانَ يمارسُه الكفارُ في الجاهلية.
لقد جَعَلَ اللهُ أَربعةَ أَشْهُبر حُرُماً، من شهورِ السنةِ الاثْنَي عَشَر: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ... ) .(1/39)
وهي أَربعةُ أَشهر، لأَنَّ اللهَ حَرَّمَ فيها القتال، وجعلَها أَشْهُرَ أَمْنٍ وأَمان،
وَسْطَ باقي الشهور، القائمةِ على القتل والسَّلْبِ والنهبِ والعُدوان.
والأَشهرُ الحُرُمُ هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.
ويُلاحَظُ أَنَّ الأَشهرَ الثلاثةَ مُتَتابعة، أَمّا الشهرُ الرابعُ رجب فهو مُتَأَخّرٌ عنها.
وكان الكفارُ في الجاهليةِ يَتَعاملونَ مع الأَشهرِ الحُرُمِ بالهوى والمزاجية،
ويَتَلاعَبونَ فيها، فإِنْ دَخَلَ عليهم شَهْرٌ من الأَشهرِ الحُرُم، وَوَجَدوا لهم مصلحةً في انتهاكِ حرمتِهِ وقتال الآخَرين فيه، " نَسَؤُوه ": أَيْ: نَقَلوا حرمَتَهُ إِلى شهرٍ آخَرَ بعْدَه، واسْتَباحوا القتال فِيهِ.
شَهْرُ " مُحَرَّم " مَثَلاً من الأَشهرِ الحُرُم، فإِنْ دَخَلَ عليهم شهرُ مُحَرَّم حَرُمَ
عليهم قِتال الآخرين فيه، فإِن وَجَدوا لهم مصلحةً في القتال فيه قالوا: نَنْقُلُ
حرمَتَهُ إِلى شهرِ " صفر " بعدَه، ونُقاتلُ أَعداءَنا فيه، فهو " نَسيءٌ "، بهذا
الاعتبار!!.
الذين وهذا تلاعُبٌ منهم بأَحكامِ الله، يقودُ إِلى زيادةٍ في كُفرِهم وجرائِمهم
وضلالِهم، فهو ليس مجردَ كُفْر، وإِنما هو زيادةٌ في الكفر! وعلى هذا قولُه
تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) .
وقد فَسَّرت الآيةُ معنى النَّسيء، وذلك في جملةِ (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) أَيْ أَنهم كانوا يُحِلُّونَ القتال في أَحَدِ الأَشهرِ الحُرُمِ عاماً، ويُحَرِّمونَ
القتال في نفسِ ذلك الشهرِ الحرامِ عاماً اَخر!.
ومعنى قوله: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) : أَنهم كانوا يقولون: نحنُ
نلتزمُ بعدَدِ الأَشهرِ التي حَرَّمَها الله، فالمهمُّ أَنْ نُحَرّمَ في السنةِ أَربعةَ أَشهر،
ولا يُهِمُّ عندنا أَسماؤُها أَيَّ أَشهرٍ تَكون.
كانوا يُريدونَ أَنْ " يُواطِئوا " ويُوافِقوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، أَربعةُ أَشهرٍ بأربعةِ أَشهر، ومع هذه المواطأةِ والموافقةِ كانوا(1/40)
يُحِلّونَ ما حَرَّمَ الله، فكانوا يُحِلّونَ القتالَ في شهر ذي القعدة أَحياناً، ويُحِلّونَه في شهر ذي الحجةِ أَحياناً أُخرى.
وبهذا نَعرفُ معنى " النسيءِ " الذي كان يفعلُه المشركونَ في الجاهلية،
وأَنه قائم على معنى التأْخيرِ والنقلِ والتلاعبِ والتغييرِ والتبديل! وليس بمعنى
تركِ التاريخِ بالحسابِ القمري، والتاريخِ بالحسابِ الشمسي، وأَنَّ استعمالَ
الحسابِ الشمسيِّ في التقويمِ والتاريخِ حرامٌ وكفر! كما فهم ذلك الجاهلُ
المتعالم! وصَدَقَ فيه قولُ الشاعر:
وكَمْ مِنْ عائِبٍ قَوْلاً صحيحاً ... وآفَتُهُ هي الفهمُ السقيم
***
بماذا تروى مصر؟
اعترضَ الفادي على حديثِ القرآنِ عن رِيّ أَرضِ مصر! وذلك في قولِه
تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) .
وقد فَهِمَ الفادي لجهلهِ الآيةَ فَهْماً خاطئاً، واعْتَبَرَها خطأً جغرافياً، وقالَ
في تخطئتها: " الإِشارةُ هنا إِلى القحطِ الذي أَصابَ مصرَ سبْعَ سنينَ متواليةً،
أَيامَ يوسف، فيُبشّرُهم بالخَصْبِ بعدَ الجَدْب، ويقولُ: إِنه في عام الخَصْبِ
يُمْطَرون، فكأَنَّ خَصْبَ مصر مُسَبَّبٌ عن الغيثِ أَو المطر.
وهذا خِلافُ الواقعِ، فالمطرُ قَلَّما يَنزلُ في مِصر، ولا دَخْلَ له في خَصْبِها الناتجِ عن فيضانِ النِّيل، فكيفَ يُنْسَبُ خَصْبُ مِصرَ للغيثِ والمطرِ؟ " (1) .
إِنَّ الآيةَ التاسعةَ والأَربعينَ من سورةِ يوسفَ مرتبطةٌ مع الآياتِ التي
قَبْلَها، والتي أَخبرتْ عن رؤيا رآها ملكُ مصر في زمنِ يوسفَ - صلى الله عليه وسلم -، وطَلَبَ من الملأ حولَه أَنْ يعبروها له، ولما عَجَزوا عن تعبيرها، تَوَجَّهوا إلى
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
70- رىّ مصر بالغيث!
إن أرض مصر تُروى بالنيل، ولا تروى بالمطر. وفى القرآن: (ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون) (1) .
وهذا يدل على غوثهم بالمطر. فكيف ينسب خصب مصر للغيث والمطر؟
الرد على الشبهة:
هنا كلمتان:
1- (يغاث (
2- (يعصرون (.
وكلمة الغوث على الحقيقة تدل على نزول ماء من السماء. وكلمة العصر على الحقيقة تدل على عصير العنب. لأن الشائع بين الناس فى العصر هو العنب. والمؤلف يوجه النقد على المعنى الحقيقى فى نزول المطر، ولم يوجه النقد لعصير العنب. وكلمة الغيث جاءت على الحقيقة مثل: " فامتنع الغيث ولم يكن مطر " [إرمياء 3: 3] ، وجاءت على المجاز مثل: " لأعرف أن أغيث المعيى " [إشعياء 50: 4] . أما على المجاز فالشبهة منتفية. وأما على الحقيقة فهذا هو غرض المعترض وهو مغرض فى ذلك.
وذلك لأن الأمر كله خارج على المألوف. وبيان خروجه على المألوف: أن المدة خمس عشرة سنة. سبع شداد يأكلن سبعًا سمانًا أو: سبع سمان يأكلهن سبع عجاف. والسنة الأخيرة يأتى فيها الخير قليلاً. والمناسب لقلة الخير؛ نزول المطر. وقلة المياه تكفى لرى العنب والفواكه فى أماكن زراعته، وتكفى لإنبات قمح يكون بذره بذرا للسنوات الآتية التى سيكثر فيها ماء النيل. وهذا أمر غير مستبعد فى العقل. فكيف يكون شبهة؟
أما عن العصر. فإنه يكون على الحقيقة مثل: " فأخذت العنب وعصرته فى كأس فرعون، وأعطيت الكأس فى يد فروع " [تكوين 40: 11] ، ويكون على المجاز مثل: " فألقاه إلى معصرة غضب " [رؤية14: 19] .
وإذا ثبت وجود العصر، وليس لماء النيل وجود. فكيف حيى النبات وعاش؟ وفى السنوات السبع العجاف كانت سنابل القمح تخرج من الأرض خروجاً هزيلاً. فكيف خرجت وهى هزيلة والنيل لا يروى الأراضى؟
لابد من القول بوجود مصدر للمياه غير النيل. إما آبار عيون، وإما مطر. ففى حلم فرعون: " وهو ذا سبع سنابل طالعة فى ساق واحد سمينة وحسنة. ثم هو ذا سبع سنابل رقيقة وملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها " [تكوين 41: 5-6] ، وكرر الكلام وقال فيه: " نابتة وراءها " [تك 41: 23] كيف تكون نابتة وليس لماء النيل من سواقى؟. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) يوسف: 49.(1/41)
يوسفَ - صلى الله عليه وسلم - ليعبرها، ففعل.
وقد رأى الملكُ سَبْعَ بقراتٍ سمانٍ يأكُلُهن سبعٌ
عِجافٌ وسبْعَ سنبلاتٍ خضر وأُخَرَ يابسات.
قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) .
لما عَبَّرَ يوسفُ - عليه السلام - رؤيا الملكِ أَخبرَ أَنَّ مصْرَ ستمرُّ بدورتَيْن، كُلُّ دورةٍ
منها سبعُ سنوات..
السبعُ سنوات الأُولى سنواتُ خَصْب، يستغلّونَها في الزراعةِ والإِنتاجِ: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ..
والسبعُ سنوات الثانية سنواتُ جَدْبٍ وقَحْطٍ ومَحْل: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) .
والسنةُ الخامسة عشرة ستكونُ عاماً للغيثِ والرّيّ: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) .
ولا يلزمُ من قولِه: (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) أَنْ يكونَ الغيثُ ناتِجاً عن أَمطارٍ
غزيرة، تهطُلُ عليهم من السماء، حتى يعترضَ الفادي على ذلك، ويعتبرَهُ
خَطَأً، لأَنَّ المَطَرَ قَلَّما يَهطُل على مصر.
إِننا نعلمُ أَنَّ رِيَّ مصرَ يكونُ من مياهِ نهرِ النيل، الذي يكونُ فَيَضانُه سَبَباً
في زيادةِ كمياتِ الأَراضي المروية، وفي زيادةِ الإِنتاجِ الزراعي، ونعلمُ أَنَّ
الأَمطارَ قَلَّما تنزل على مصر.(1/42)
إِنَّ غيثَ مصرَ من مياهِ نهرِ النيل، وستكونُ مياهُ النيلِ في العامِ الذي
أَخبرَ عنه يوسفُ - صلى الله عليه وسلم - غَزيرة، وسيكونُ فيضانُ النيلِ فيه غَوْثاً لمصْر.
وقد يكونُ الغيثُ بمياهِ الأَمطارِ النازلةِ من السماء، وهذا هو الأَكْثَرُ
والأَغلب، وقد يكونُ بمياهِ الأَنهار، وهذا قليل في البلدان، كما هو غيثُ
مصرَ بمياهِ النيل.
فاعتراضُ الفادي على الآيةِ في غيرِ مكانِه، وهو لجهلِه خَطَّأَ الصوابَ
الذي في الآية!!.
***
هل الرعد ملك من الملائكة؟
وكيف يسبح الله؟
اعترضَ الفادي على حديثِ القرآنِ عن الرَّعْد.
والذي وردَ في قولِه تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) .
كيفَ يُسبحُ الرعْدُ بحمدِ الله؟ وهل هو مخلوقٌ حَيّ يَتحركُ ويَتكلمُ
ويُسبحُ اللهَ بلسانِه؟.
رَجَعَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاوي، ونَقَلَ عنه كَلاماً عَجيباً! قال:
قالَ البيضاوي: " عن ابنِ عباس: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الرَّعْد، فقال: " هو مَلَك مُوَكَّلٌ بالسَّحاب، معه مخاريقُ من نار، يَسوقُ بها السحابِ "..
(وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) : من خوفِ اللهِ وإِجلاله..
وقيل: الضميرُ للرعد..
وأَخرجَ الترمذيُّ عن ابنِ عباس: " أَقبلت اليهودُ إِلى محمد، فقالوا: أَخْبِرْنا عن الرَّعد، ما هو؟
قال: هو مَلَكٌ من الملائكة، مُوَكَّلٌ بالسَّحاب، معه مَخاريقُ من نار، يَسوقُه
بها حيثُ يَشاءُ الله.
قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسْمَعُ؟
قال: زَجْرُه السَّحاب، حتى تَنْتَهي حيث أُمِرَتْ.
قالوا: صَدَقْتَ ".
ونحنُ نَسأل: إِذا كانَ الرَّعْدُ هو الكهرباءَ الناشئةَ عن تَصادمِ السحاب،(1/43)
فلماذا يقول: إِنَّ الرعدَ هو أَحَدُ الملائكة؟ ! " (1) .
لم يكن الفادي أَميناً في النقلِ عن البيضاوي.
حيث أسقط من كلامِه قِسْماً مُهِمّاً، وأَبْقى قِسْماً يوافقُ هدفَه في تخطئةِ القرآنِ.
قالَ البيضاويُّ: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) : أَيْ: يُسَبحُ سامعوه.
(بِحَمْدِهِ) : ملْتَبِسين به، فيضجّونَ بسبحانَ اللهِ والحمد لله أو يدلُّ الرعدُ بنفسِه على وحدانيةِ الله وكمالِ قدرتِه، ملْتَبِساً بالدلالةِ على فضْلِه ونزولِ رحمتِه ...
هذا هو رأيُ البيضاويِّ في معنى تسبيحِ الرعدِ بحمدِ الله، فإِمّا أَنْ يكونَ
المعنى أَن الناسَ الذين يَسمعونَ الرعدَ يُسَبّحونَ الله، ويكونُ تسبيحُهم ملْتَبِساً ومقروناً بحمدِ الله، فيقولون: سبحانَ الله والحمدُ الله، وإِمّا أَنْ يكونَ صوتُ الرعدِ دالّاً على وحدانيةِ اللهِ وكمالِ قُدرتِه، ملْتَبِساً بالدلالةِ على فَضلِ اللهِ ونزولِ رحمتِه.
وهذا هو التفسيرُ الصوابُ لتسبيحِ الرعدِ بحمدِ اللهِ، وهو الذي يَقولُ به
البيضا وي.
وبعدما قَرَّرَ البيضاويُّ التفسيرَ الصوابَ أَرادَ أَنْ يذكُرَ قولاً آخَرَ هو عنده
مرجوح، فأَوردَ روايةً عن ابنِ عباس رفعَها للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ذَكَرَ فيها أَنَّ الرعدَ أَحَدُ الملائكةِ، يسوقُ السحابَ وهو يَذْكُرُ اللهَ ويسبِّحُه.
ونَسَبَ الفادي إِلى البيضاويِّ روايةً لم يوردْها في تفسيرِه، وهي التي
أَخرجَها الترمذيُّ في سننهِ، والتي فيها جوابُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لسؤالِ اليهودِ عن أَنَّ الرعْدَ أَحَدُ الملائكة، وصوتُ الرعدِ هو صوتُ الملَكِ يَزجُرُ به السحاب.
هذه الروايةُ لم تُذْكَرْ في تفسيرِ البيضاوي، وكان الفادي مفترياً عندما
زَعَمَ وُجودَها في تفسيره.
لم يذكر القرآنُ أَنَّ الرعْدَ مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللهَ بلسانِه، - وأَنه يسوقُ السحاب،
ويَصْرُخُ فيه ويَزْجُرُه، وهذا الزجْرُ والصراخُ هو الصوتُ الذي نسمعُه منه!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
71- الرعد ملك من الملائكة
إن فى القرآن أن الرعد يسبح الله. وإن فى الأحاديث النبوية أن الرعد ملك من ملائكة الله. ونحن نعلم أن الرعد هو الكهرباء الناشئة عن تصادم السحاب فكيف يكون الرعد ملكاً؟
الرد على الشبهة:
إن المؤلف لا ينكر تسبيح الرعد لله؛ وذلك لأن فى التوراة أن الرعد يسبح لله. وكلُّ شىء خلقه؛ فإنه يسبحه. وإنما هو ينكر كون الرعد مَلَكاً. فمن أكّد له أن الرعد ملك؟ ليس فى القرآن أنه ملك. والأحاديث النبوية تذكر أن للرعد ملكًا؛ وليس أن الرعد ملك، والفرق واضح. ففى التوراة عن التسابيح لله: " شعب سوف يُخلق؛ يسبح الرب "؛ يقصد شعب محمد صلى الله عليه وسلم [مزمور 102: 18] ،وفى سفر الزبور: " تسبحه السموات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها " [مز 69: 34] . وفى سفر الزبور: " سبحوا الرب من السموات، سبحوه فى الأعالى، سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا كل جنوده، سبحيه يا أيتها الشمس والقمر، سبحيه يا جميع كواكب النور، سبحيه يا سماء السموات، ويا أيتها المياه التى فوق السموات. لتسبح اسم الرب. لأنه أمر فخُلقت، وثبتها إلى الدهر والأبد. وضع لها حداً فلن تتعداه.
سبحى الرب من الأرض يا أيتها التنانين وكل اللجج. النار والبرد. الثلج والضباب. الريح العاصفة كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمر وكل الأَرز. الوحوش وكل البهائم، الدبابات والطيور ذوات الأجنحة. ملوك الأرض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الأرض. الأحداث والعذارى، أيضًا الشيوخ مع الفتيان. ليسبحوا اسم الرب؛ لأنه قد تعالى اسمه وحده. مجده فوق الأرض والسموات " [مزمور 148] .
وفى الأناجيل الأربعة: " يسبحون الله بصوت عظيم " [لوقا 19: 37] ، " وهم يمجدون الله ويسبحونه " [لو 2: 20] ، " وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوى مسبحين الله وقائلين: المجد لله فى الأعالى، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة " [لو 2: 13] ، وكان عيسى - عليه السلام - يسبح الله تعالى مع الحواريين. ففى مرقس: " ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون " [مر 14: 26] ، وفى متى: " ثم سبّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون " [متى 26: 30] . ومن يسبح الله كيف يكون هو الله أو إله مع الله؟.
وفى القرآن الكريم: (سبح اسم ربك الأعلى) (1) ، وفى الزبور: " سبحوا اسم الرب. سبحوا يا عبيد الرب " إلى أن قال: " كل ما شاء الرب صنع فى السموات وفى الأرض. فى البحار وفى كل اللجج. المصعد السحاب من أقاصى الأرض. الصانع بروقا للمطر. المخرج الريح من خزائنه (2) .. " [مز 135] . اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الأعلى: 1.
(2) فى سورة الحجر: (وأرسلنا الرياح لواقح) [آية رقم 22]- (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه) [آية رقم 21] .(1/44)
وإنما وردَ هذا في روايةٍ منسوبةٍ لابنِ عباس، رَفَعها بدورِه لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،
وهذه الروايةُ تَحتاجُ إِلى تخريج، المهمُّ أَنَّ القرآنَ لم يَقُلْ ذلك!.
وأَسْنَدَ القرآنُ إِلى الرعْدِ التسبيح، على طريقةِ القرآنِ المعجزةِ في التعبير،
وهي " التصوير "، يَعرضُ فيها الأَفكارَ والمعاني بطريقةٍ مُصَوَّرَة، كأَنَّ القارئَ
يرى أَمامَه صُوَراً حيةً متحركة، وليسَ مجردَ كلماتٍ وعبارات.
الرعْدُ صوتٌ مسموعٌ من السحاب، وهو ظاهرةٌ جويةٌ معروفة، ناشئةٌ عن
تصادُمِ السحبِ في الجَوّ، وارتطامِها بعضها ببعض، وهو غيرُ ملموسٍ ولا
مُجَسَّم، لكنَّ الآيةَ عرضَتْه بصورةٍ مجسَّمةٍ شاخصةٍ متخيَّلَة، حيثُ حَوَّلَتْه إِلى
جسمٍ مادي، وشخصٍ حيّ، يتحركُ ويَتكلم، وله لسانٌ يُسَبِّحُ به ربَّه ويَحمدُه!
وليس مجردَ صوتٍ قاصف، ناتجٍ عن ارتطامِ السُّحُب!!.
وعندما يَسمعُ المسلمُ الآية، يَتَخَيَّلُ في خيالِه الرعد، رَجُلاً جالِساً وسْطَ
السحاب، يَذْكُرُ اللهَ ويُسَبِّحُه ويَحمدُه، بصوتٍ عالٍ مرتفع!.
فالقرآنُ لم يُخطئْ عندما تكلَّمَ عن الرعد بهذه الطريقةِ المعجزة، وعَرَضَهُ
في هذه الصورةِ الحيةِ المتحركة.
لكنَّ الفادي الجاهلَ لا يَعرفُ طريقةَ القرآنِ في التعبير، ولا يستمتعُ بما فيه من روائعِ التصوير!! (1) .
أَما حديثُ الترمذيِّ عن ابنِ عباس فقد اختلفَ فيه العلماء، فمنهم مَنْ ضَعَّفَه، ومنهم مَنْ صَحَّحَه، وهذا أَمْرٌ حديثيّ لا يَعنينا هنا، لأَنَّ موضوعَنا هو القرآن!!.
***
بين وادي طوى وجبل حوريب
اعترضَ الفادي على حديثِ القرآنِ عن المكانِ الذي سمعَ فيه موسى - صلى الله عليه وسلم - كلامَ الله، لأَنَّه يتعارضُ مع ما وردَ في الكتابِ المقَدّس!.
قال الله - عز وجل -: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) .
وقال وَجمسَّ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) .
__________
(1) الراجح عند المحققين أن تسبيح الرعد على وجه الحقيقة لا المجاز بدليل قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) .
ولا شأن لنا باعتراض هذا الجاهل فلا شبهة له فيه فضلا عن دليل. والله أعلم.(1/45)
تُصرحُ هذه الآياتُ بأَنَّ اسْمَ الوادي الذي نادى اللهُ فيه موسى - صلى الله عليه وسلم - هو " طُوى ".
وكانَ اسْمُه " طُوى " في زمنِ موسى - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا معناهُ أَنه اسْمُ علمٍ أَعجمي، وليس عربيّاً مشتقّاً، فلا نبحثُ له عن معنى في العربية.
ووادي " طوى " المقدسُ بجانبِ جبلِ الطّور، وهو في جانبهِ الأَيمنِ.
قال تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) .
وقال تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) .
ولكنَّ الفادي يرفضُ كلامَ القرآن، ويَعتبرُه خَطَأً جغرافيّاً، يَتَعارضُ مع ما
وردَ في العهدِ القديم، الذي هو جزءٌ من دينِ القِسّيسِ الفادي.
وقد اعترضَ على كلامِ القرآنِ قائِلاً: " قالَ المفسرونَ المسلمون: إِنّ " طُوى " اسْمُ الوادي.
ولكنَّ الكتابَ المُقَدَّسَ يُعَلِّمُنا أَنه لما كانَ موسى يَرعى غَنَمَ يَثْرونَ حَمِيه كاهنِ
مِدْيان، سادقَ الغَنَمَ إِلى ما وراء البريّة، وجاءَ إِلى جبلِ اللهِ حوريب، وظَهَرَ
ملَاكُ الرَّبِّ بلهيب نارٍ من وَسَطِ عُلّيقَةَ، ونظر، وإِذا بالعُلّيقة تتوقَّدُ بالنَّارِ دونَ أَنْ تحترق..
فَناداهُ الرَّب، وقال له: " لا تَقتربْ إِلى هاهُنا، اخْلَعْ حِذاءَك من
رِجْلَيْك، لأَنَّ الموضعَ الذي أَنتَ واقفٌ عليه أَرضٌ مُقَدَّسَة "خروج 3: 1 -
5 ".
إِذَنْ موسى كانَ في جبلِ اللهِ حوريب، فمن أَيْنَ جاءَ القرآنُ باسْم طوى،
مع أَنَّ حوريبَ اسْمُ جبلٍ مشهورٍ في شبهِ جزيرةِ سيناء؟ ! ".
ذَكَرَ العهدُ القديمُ أَنَّ اسْمَ الجبل " حوريب "، وذكرَ القرآنُ أَنَّ اسْمَه
" الطور "، والقِسيسُ الفادي يرفضُ اسْمَ القرآن، ويَعتمدُ اسْمَ العهدِ القديم ...
أما نحنُ المسلمين فإننا نؤمنُ بالقرآن، ونعتمدُ الاسْمَ المذكورَ فيه، ونرفضُ أَيَّ اسْم آخَرَ يَختلفُ معه، لأَنَّ القرآنَ هو الذي تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ، فكلُّ ما فيه حَقّ وصَواب، أَما الكُتُبُ الأُخرى فقد عَدَتْ عليها يَدُ التحريفِ فلا يوثَقُ بها.(1/46)
اسْمُ الجبلِ الذي وَقَعَتْ بجانبهِ الحادثةُ هو جبلُ الطور، كما صَرَّحَ
القرآن، ولا أَدري من أَيْنَ أَتى اليهودُ والنَصارى باسم " جَبَلِ حوريب ".
واسْمُ الوادي الواقعِ بجانبِ جبلِ الطورِ هو وادي " طوى "، ولا يَجوزُ تركُ ما وَرَدَ في القرآنِ صريحاً!.
والواجبُ اعتمادُ ما وَرَدَ في القرآن، وَرَدّ كُلِّ ما يتعارضُ معه! (1) .
***
هل في طور سيناء زيتون؟
اعترضَ الفادي على القرآن، في حديثِه عن شجرةِ الزيتون، التي تَخرجُ
من طورِ سَيْناء، واعتبرَ هذا خطأً جغرافياً في القرآن.
والآيةُ التي أَخبرتْ عن ذلك هي قولُ اللهِ: (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) .
تتحدثُ الآيَتانِ عن بعضِ النّعَمِ التي تَنشأُ عن إِنزالِ الماءِ من السَّماء،
ويتنَعَّمُ بها النّاسُ على وجْهِ الأَرض، منها الفواكهُ الكثيرةُ التي يأكلونَ منها،
ومنها جَنّاتُ النخيل وجَنّاتُ الأَعناب.
ومن تلك النعمِ شجرةُ الزيتون المباركة، التي تَخرجُ من طورِ سَيْناء،
والتي يُؤْخَذُ منها الزَّيْت، الذي يَصلُحُ أَنْ يكونَ دُهْناً للشَّعَر والجِسْم، ويَصلحُ أَنْ يَكونَ صِبْغاً للآكلين، يَصبغُ به الآكِلونَ طعامَهم، ويَأكلونَه مع الزعتر أَو غَيْرِه.
وخَطّأَ الفادي هذا الكلام، فقال: " ونحنُ نَسأل: لَمْ تشتهرْ صَحراءُ سيناء
الجرداءُ بِشَجَرِ الزيتون.
أَلم يكن الأَجْدَرُ أَنْ تُذْكَر فلسطينُ بزيتونِها،
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
72- الوادى طوى
إنه لا يوجد وادى اسمه " طوى " فى سيناء. فمن أين جاء به القرآن؟.
الرد على الشبهة:
إنه فهم من قوله تعالى: (إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) (1) أن (طوى) اسم للوادى المقدس. وفهمه خاطئ. وذلك لأن الله لما عبر عن السموات بأنها (مطويات بيمينه) (2) يعنى بذلك: أن لا إله غيره يملك من أمر السموات من شىء. عبر عن الأرض بأنها فى ملكه وليس لإله آخر فيها من شىء. فالطى فى السماء كناية عن القدرة والطى فى الأرض كناية عن القدرة. والكناية مناسبة للواد المقدس؛ والمقصود الأرض كلها لئلا يُظن أن التقديس لغيره. وكرر الله المعنى فى السموات فقال: (يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب) (3) . وشبهه أن تكون الأرض (طوى) أى فى قبضته.
وفى الرسالة إلى العبرانيين: " وأنت يا رب فى البدء أسست الأرض، والسموات هى عمل يديك. هى تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها؛ فتتغير، ولكن أنت أنت، وسنوك لن تفنى " [عب 1: 20 - 22] فقد عبر عن طيها بطى الرداء.
فيكون المعنى (إنك بالوادى المقدس (الذى سيصير (طوى) بمعنى مطوى كما أن السماء ستكون مطوية بقدرته.
وهنا هو لا يعترض على القرآن بل على التفاسير، وهو جانب آخر من إعجاز القرآن يزيد فى إثباته وذلك أن كلام البشر من العلماء والمفسرين قد يختلف ويؤخذ منه ويُرد؛ ولكن كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، شىء عجيب حقاً ذلك القرآن الذى يقف أمام هؤلاء جميعاً بكل ذلك الفهم الخاطئ والتصيد المستمر وإذ به يتعالى عليهم ويبقى فى عليائه معجزاً للبشر إلى يوم الدين. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) طه: 12.
(2) الزمر: 67.
(3) الأنبياء: 104.(1/47)
لا سيناءُ التي من قَحْطِها أَرسلَ اللهُ لبني إِسرائيل فيها المَنَّ من السماء؟ (1) .
نقول بداية: المرادُ بطورِ سَيْناءَ في الآية شبهُ جزيرةِ سيناءَ المعروفة،
وفيها جبلُ الطورِ المعروف، الذي ناجى موسى - صلى الله عليه وسلم - ربَّه عليه.
وذُكرتْ " سَيْناءُ " مَرَّتَيْن في القرآن: المرةُ الأُولى في سورةِ المؤمنون،
والمرةُ الثانيةُ في سورة التين، في قول الله - عز وجل -: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) .
و" سَيْناءُ " الآنَ صحراءٌ في معظمِها، وفيها مناطقُ زراعيةٌ خَصْبَة، وفي
هذه المناطقِ الزراعيةِ أَشجارُ زيتونٍ جيدة، فزراعةُ الزيتونِ ناجحةٌ فيها.
واعتراضُ الفادي على الآية مردود، لوجودِ أَشجارِ زيتونٍ حتى الآنَ في
الأَراضي الزراعيةِ في سيناء، ووجودُ هذه الأَشجارِ حتى الآنَ يدل على أَنَّ
منطقةَ سَيْناءَ كانتْ منطقةَ زَيْتونٍ في الماضي البعيد، يوم كانَتْ أَراضيها خصبة، قبلَ أَنْ تتحوَّل إِلى صحراء!.
والدليلُ على هذا كلماتُ الآيةِ نفسِها، حيثُ قال تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) ..
إِنَّ كلمةَ " شجرةً " منصوبة، لأَنها معطوفة على " جَناتٍ "
قبلَها، التي هي مفعول به لفعْلِ " أَنشانا ".
في قوله: (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ) والتقديرُ: أَنشانا لكم بالماءِ جناتٍ من نخيل، وأَنشأنا لكم به شجرةً
خارجةً من طورِ سَيْناء!.
وإِنشاءُ الشيءِ إِيجادُه من العَدَمِ أَوَّل مَرَّة.
واختيارُ فعْلِ " أَنشأَ " في الآيةِ مقصود، لأَنه يشيرُ إِلى أَول مَرَّةٍ في التاريخ، ظهرتْ فيها جناتُ النّخيل والأَعناب وأَشجارِ الزيتون، ولعلَّ إِنشاءَ أَشجارِ الزيتون على الأَرضِ كانَ قبلَ خَلْقِ آدمَ - صلى الله عليه وسلم - بفترةٍ طويلة.
ولا يَعلمُ إِلّا اللهُ كيفَ كانَتْ " سيناء " عندما أُهبطَ
آدمُ إِلى الأَرض!!.
فالآيةُ تتحدثُ عن إِنشاءِ شجرةِ الزيتونِ لأَوَّل مَرَّة، وليس عن المناطقِ
والأَراضي التي تَنبتُ فيها شجرةُ الزيتونِ في هذا الزمان.
ثم إِنَ حرفَ الجَرِّ " مِنْ " في الآيةِ يُقَرِّرُ هذا المعنى، فهو هنا للابتداء،
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
73- هل الزيتون يخرج من طور سيناء، وهو يخرج من فلسطين، فكيف ذلك؟
الرد على الشبهة:
أن سيناء من فلسطين وفلسطين والشام هى شمال مصر، وهذا المعنى يوجد فى التوراة ففى سفر الزبور: [سينا فى القدس] مز 68: 17.
ولا تعتمد التقسيمات السياسية الحديثة التى فصلت الديار بعضها عن بعض بل إن مصر فى الأصل كانت تمتد إلى هذا الحد، أما تقسيمات سايكس بيكون فلا يمكن تفسير النصوص المقدسة عليها. اهـ (شبهات المشككين) .(1/48)
والمرادُ به الابتداءُ الزماني.
والمعنى: كان ابتداءُ إِنشاءِ وإِخراجِ شجرةِ الزيتون
في منطقة سيناء: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) .
وهذا الابتداءُ كانَ قبلَ آدمَ - صلى الله عليه وسلم -.
فاعتراضُ الفادي على الآيةِ دليلُ جهلِه وغبائِه، لأَنه " أَسيرُ " هذا الزمان،
الذي رأيْنا فيه سيناءَ صحراءَ جرداء.
حتى الكتابُ المقَدَّسُ الذي يؤمنُ به القِسّيسُ الفادي يُخبرُ أَنَّ الزيتونَ
كان منتشراً مَعْروفاً من قديمِ الزمان، وذَكَرَ الأَحبارُ في سِفْرِ التكوينِ من العهدِ القديم أَنَّ الزيتونَ كان مَعْروفاً قبل الطوفان، وزَعَموا أَنه بينما كان نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - في السفينة، والطوفانُ قد غَطّى كُلَّ شيء حتى قمم الجبال، أَرادَ أَنْ يَعرفَ ماذا جرى خارجَ السفينة، فأَطلقَ الحمامةَ من السفينة، فعادَتْ لأَنها لم تجدْ مكاناً تقفُ عليه، وبعد فترةٍ أَطلقَ الحمامةَ مرةً ثانية، فعادَتْ وفي فمِها " غُصْنُ زيتون "، ومن يومِها سُمِّيت الحمامةُ حمامةَ السلام، وصارَ شعارُ السلامِ الحمامةَ وغصنَ الزيتون!! فعودةُ الحمامةِ زمنَ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم - ومعها غصنُ زيتونٍ
دليل على أَنَّ الزيتونَ كان معروفاً زمنَ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -.
إِنَّ قولَه تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) يُشيرُ إِلى ابتداءِ إِنشاءِ
الزيتونِ في التاريخِ البعيد، وأَنَّ بدايةَ هذه الشجرة كانَتْ عندَ طورِ سيناء، ثم انتشرَتْ من هناكَ إِلى باقي بلدانِ حوضِ البحرِ الأَبيضِ المتوسط، في شمالِه
وجنوبِه وشرقِه! وهذا يُشيرُ إِلى أَنَّ " سَيْناء " كانتْ أَراضِيَ زراعيةً خصبة، ثم
صارتْ صحراءَ جرداءَ بعد ذلك! ولعلَّ تَحَولَها إِلى صحراءَ كان في زمنِ
تدميرِ قومِ لوطٍ - عليه السلام -، الذي نشأَ عنه جيولوجياً حفرةُ " الانهدام " الكبير، الذي يبدأُ من شمالِ سورية، مروراً بسهْلِ الغاب، ونُزولاً إِلى الغور، ثم البحرِ الميت، ثم وادي عربة، فالبحر الأحمر، حتى مضيقِ بابِ المندب والقرنِ الإفريقي!!.
وهناك صلةٌ وثيقةٌ بين كونِ شجرةِ الزيتون المباركة، تَنشأُ وتَخرجُ لأَوَّلِ(1/49)
مرةٍ من أَرضِ سيناءَ، وجبلِ الطور المقدَّسِ فيها، وبجانبِه وادي طُوى
المقَدَّس!!.
***
هل الشمس ثابتة؟
وقفَ الفادي وقفةً غبيةً أمامَ حديثِ القرآنِ عن جريانِ الشمس، الذي
وَرَدَ صريحاً في قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) .
نَقَلَ من تفسيرِ البيضاوي خمسةَ أَقوالٍ في معنى اللّامِ في جملةِ:
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) ، وفي بيانِ معنى هذه الجملةِ القرآنية:
1 - الشمسُ تَجْرِي لحدٍّ معينٍ يَنْتهي إِليه دَوْرُها.
2 - أَو: الشمسُ تَجري لكبدِ السماء، فإِنَّ حركَتَها هناكَ أَبطأُ، بحيثُ يُظَنُّ
أَنَّ لها وقْفَة.
3 - أَو: الشمسُ تجري لاستقرارٍ لها على نَهْجٍ مخصوص.
4 - أَو: الشمسُ تَجري لمنتهى مقدَّرٍ لكلِّ يومٍ من المشارقِ والمغارب.
5 - أَو: الشمسُ تجري لمنقطعِ جَرْيِها عند خرابِ العالَم!.
والأَقوالُ الخمسةُ متقاربةٌ في المعنى.
و" مُسْتَقَرٌّ ": اسْمُ مكان، وهو مكانُ استقرارِ الشمس.
والشمسُ لا تستقرُّ إِلّا عندما تتوقَّفُ عن الجريانِ والسَّيْر، وهذا يكونُ عند قيامِ الساعة!.
والراجحُ أَنَّ اللامَ في: (لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) بمعنى " إِلى "، وحرفُ " إِلى "
يدلُّ على الغايةِ والنهاية، فمعنى الآية: آيةٌ للناسِ في الشمس وجريانِها، فهي(1/50)
تجري بسرعةٍ محدَّدَة، منذُ أَنْ خَلَقها الله، وستَبْقى تَجْري بنفسِ السرعةِ التي
حَدَّدَها لها الله، إِلى أَنْ تَبلغَ مُسْتَقَرَّها، وتَصلَ إِلى مكانِ استقرارِها، وهو ما
سيكونُ عند قيامِ الساعة!.
وهذا ما قصدَه الإمامُ البيضاويُّ بقولهِ: " (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) : " لحَد مُعَيَّنٍ يَنتهي إِليه دورُها، شُبِّهَ بمستقَرِّ المسافرِ إِذا قَطَعَ مَسيرَه..
وقولِه: " أَو لمنقطعِ جَرْيها عندَ خَرابِ العالم ".
إِنَّ الآيةَ تصرحُ بأَنَّ الشَّمْسَ تَجْري وتَتَحركُ وتَسير، وتَسيَحُ في الفضاء،
وهي في حالةِ جَرَيانٍ دائم، بدونِ تَوَقُّف، إِلى أَنْ تَصِلَ مُسْتَقَرَّها، وتبلغَ
نهايتَها، وهذا عندَ قيامِ الساعة.
وهذا كلامٌ لا يُوافقُ عليه القِسّيسُ الفادي، ويَعتبرُه خَطَأً في القرآن، لأَنَّه
يرى أَنَّ الشمسَ ثابتة لا تَجْري ولا تَتحرك.
ولذلك اعترضَ عليه قائلاً: " ونحنُ نَسْأَل: الشمسُ ثابتة، تَدورُ حولَ
نفسِها، ولا تَنتقلُ من مكانها، والأَرضُ هي التي تَدورُ حولَها، فكيفَ يَقولُ
القرآنُ: إِنَّ الشمسَ تَجْري، وإِنَّ لها مُسْتَقَرَّاً تَسيرُ إِليه؟ ! ".
وما يقولُه الفادي يُخالفُ مقرراتِ الفَلَكِ المعاصِرِ، فقد كانَ علماءُ
الفَلَكِ السابقونَ يَظُنّونَ أَنَّ الشمسَ ثابتة في مكانِها، لا تَجري ولا تَتحرك..
ولكنْ ثَبَتَ في الفَلَكِ حَديثاً أَنَّ الأَرضَ تَجري، وأَنَّ الشمسَ تَجري، وأَنَّ
الكواكبَ تَجري، وأَنَّه لا أَحَدَ ثابتٌ واقفٌ في مكانِه، وكلّ في فَلَكٍ يَسْبَحون، وسَيَبْقى جَرَيانُ هذه الكواكبِ إِلى أَنْ تَبْلُغَ مستقرَّها، فتتوقَّفَ عن الجَرَيان، وهذا عندَ قيامِ الساعة!.
إِنَّ الفادي هو الذي أَخْطَأَ خَطَأً جُغْرافياً فَلَكيّاً عندما زعمَ أَنَّ الشمسَ
ثابتة، لا تنتقلُ من مكانِها، وأَنَّ القرآنَ أَخْطَأَ عندما أَخبرَ أَنها تَجري لمستقَرٍّ
لها ...
فما قالَه القرآن فهو الصواب، المتفقُ مع آخرِ مُقَرَّراتِ علْمِ الفَلَكِ(1/51)
الحديث، وما قالَه الفادي فهو الخطأُ، المتعارضُ مع تلك المقَرَّرات!!.
واتفاقُ القرآنِ مع اَخرِ مُقَرَّراتِ عِلْمِ الفَلَكِ الحديث يدل على أَنَّ القرآنَ
من عندِ الله.
ووقعَ الفادي في مُغالطةٍ مفضوحة، عندما نَقَلَ عن تفسيرِ البيضاوي قولاً
بوجودِ قراءةٍ أُخرى في قولِه تعالى: (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) .
قالَ البيضاوي: " وقُرِئ ": " لا مُسْتَقَرَّ لها ".
أَيْ: لا سُكونَ لها، فإِنها متحركةٌ دائماً، ولا مستقرَّ لها، على أَنَّ " لا " بمعنى: " ليس ".
وعَلَّقَ الفادي على ذلك بقوله: " وأَمّا القولُ بوجودِ قراءةٍ في القرآن: أَنَّ
الشمسَ تَجْري ولا مستقرَّ لها، فيدلُّ على اختلافِ قراءاتِ القرآن اختلافاً يُغَيِّرُ المعنى، مما يَطعنُ في سَلامةِ القرآنِ وصحَّتِه.. ".
الفادي جاهل، لا علْمَ له بالقراءات، ومع ذلك يَتَعالَمُ على القرآنِ
وقراءاتِه.
إِن من البدهيّاتِ المقَرَّرةِ أَنَ القراءاتِ الصحيحةَ " توقيفيةٌ " من عندِ الله،
واللهُ هو الذي أَنزلَها على نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأَذِنَ أَنْ تُقْرَأَ بما تُقْرَأُ به!!.
ولا تُقْبَلُ أيةُ قراءةٍ قرآنية إِلّا إِذا اجتمعَتْ فيها شروطٌ ثلاثة:
1 - أَنْ تكونَ القراءةُ صحيحةَ السَّنَد، منقولةً عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم.
2 - أَنْ تكونَ القراءةُ موافقةً لرسْمِ المصحفِ العثماني.
3 - أَنْ تكونَ القراءةُ موافقةً لقواعِدِ اللغةِ العربية.
فإِذا اخْتَلَّ شرطٌ من هذه الشروطِ كانت القراءةُ شاذَّةً مردودة، وليستْ
قرآناً.
وقد سَجّلَ العلماءُ القراءاتِ الصحيحةَ المقبولة، التي توفرتْ فيها
الشروطُ الثلاثة.
والقراءاتُ الصحيحةُ عَشْرُ قراءات، منسوبةٌ لأَئمتها القُرّاء، وهي: قراءةُ(1/52)
نافع، وقراءةُ عاصم، وقراءةُ الكسائي، وقراءةُ حمزة، وقراءةُ ابن كثير، وقراءةُ ابن عامر، وقراءةُ أبي عمرو، وقراءةُ أبي جعفر، وقراءةُ يعقوب، وقراءةُ خلف.
وأَشهرُ القراءاتِ الشاذة أربعة، وهي: قراءةُ الحسن البصري، وقراءةُ
الأَعمش، وقراءةُ ابن محيصن، وقراءةُ اليزيدي.
وقد أَجمعَ القراءُ العشرةُ على قراءةِ قولِه تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) بكسرِ اللّامِ والتنوين في " لِمُسْتَقَرٍّ "، فليس فيها قراءةٌ صحيحةٌ
أُخرى..
وما ذَكَرَه البيضاويُّ من القِراءةِ بحرفِ: " لا ": " لا مُسْتَقَرَّ لها "،
ليستْ قراءةً صحيحة، ولا من القراءاتِ الأَربعِ الشاذَّة، وإِنما هي موضوعةٌ
باطلة، وليستْ قرآناً!.
ولقد كان الفادي جاهِلاً عندما اعتمدَ هذه القراءةَ الموضوعةَ الباطلة،
واعتبرها قرآناً! وكان مُتَحاملاً مُغْرِضاً عندما بنى على هذا الكلام الباطل نتيجةً باطلة، وذلك في قوله: " وأما القولُ بوجودِ قراءةٍ في القرآن أَنَّ الشمسَ تَجري ولا مستقرَّ لها، فيدلُّ على اختلافِ قراءات القرآنِ اختلافاً يُغَيِّرُ المعنى، مما يَطعنُ في سلامةِ القرآنِ وصحَّته ".
إِنَ الفادي المفترِي يَزعُمُ أَنَّ اختلافَ القراءاتِ في القرآن يُغَيِّرُ المعْنى،
وهذا زَعْمٌ مردود، وكلُّ مسلم له علمٌ بالقراءاتِ يَعلمُ بُطْلانَ هذا الزعم،
ويوقنُ أَنَّ الاختلافَ بين القراءاتِ العشرِ الصحيحةِ اختلافٌ يَسير، لا يُغيرُ
المعْنى، ولا يُؤَدّي إِلى التعارض والتناقضِ والاضطراب، وإِنما تَلْتَقي كُلُّ
القراءاتِ على تقريرِ المعنى.
وهذا علمٌ نفيس، من أنفسِ علومِ القرآن، يُسَمّى " علْم توجيهِ القراءات "!.
ويريدُ الفادي المفترِي الوصولَ إِلى هدفِه الخبيث، وهو الطعْنُ في سلامةِ
القرآنِ وصحتِه، ورفْضِ كونِه من عندِ الله، فالاختلافُ في المعنى يطعنُ في
سلامةِ القرآنِ وحفْظِه! ووجودُ الأَخطاءِ في القرآن يَنفي كونَه وَحْياً من عندِ الله!(1/53)
إِن القرآنَ كلامُ الله، وقد حَفِظَه الله، ونَزَّهَه عن التغييرِ والتبديلِ، والزيادةِ
والنقص، فلا خَطَأَ في القرآن، ولا تَعارُضَ بين قراءاتِه، ولا تَناقُضَ في معانيه.
***
القمر كالعرجون القديم
ذَكَرَ الفادي آيتيْنِ من سورةِ يس تتحدَّثان عن القمر، وهما قولُ اللهِ - عز وجل -: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) .
اكتفى الفادي بذكْرِ تَفسير البيضاويِّ لهاتَيْنِ الآيَتيْن، وذَكَرَ منازِلَ القمر
الثمانيةَ والعشرين، التي ينزلُ فيها خلالَ الشهر، وبيان معنى العرجونِ القديم، وكلُّ كوكبِ من الكواكبِ في فَلَكٍ يَسبحُ فيه في الفضاء.
ولمَ يُسجل اعتراضَه على الآيَتيْن، ولم يذكُرْ ما رآهُ خَطَأً جغرافياً فلكيّاً
فيها، فبقيَ الاعتراضُ في بطنِه! ولا نعرفُ ما الذي لا يُعجبُه من الآيات،
حتى نردَّ عليه ونبينَ سوءَ فهمه.
والعُرجونُ جَريدُ النخل " الشِّمْراخ " الدقيقُ الرفيعُ القديمُ العتيقُ اليابس،
ومنازلُ القمر هي التي ينزل فيها على مدارِ الشهرِ القمري!.
***
أسطورة جبل قاف
اعترضَ الفادي على القرآنِ لورودِ كلمةِ " قاف " فيه.
وهي المذكورةُ في أَولِ سورة " قَ "، في قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) .
واعتبرَ القرآنَ كتابَ أَساطيرٍ وخرافات، لوجودِ هذه الكلمةِ " قاف " فيه.(1/54)
ونَقَلَ عن كتاب " عرائسِ المجالس " للثَّعْلَبِيّ أَنَّ اللهَ خلقَ جبلَ " قاف "،
من زبرجدةٍ خضراء، وجعلَه جَبَلاً عظيماً، مُحيطاً بالأَرضِ كُلِّها!!.
ونقلَ عن كتابِ " قصص الأَنبياء " - هو نفسهُ " عرائسُ المجالسِ " للثَّعْلَبِيّ -
أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سلام - رضي الله عنه - سأَلَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أعلى جبلٍ في الأَرض؟
فأَخبره أَنه جبلُ " قاف "، وأَنَ ارتفاعَه مسيرةُ خمسمِئة سنة، وأَنَّ طولَه مسيرةُ أَلفي سنة، وأَنه مخلوقٌ من زمردٍ أَخضر.
وعَلَّقَ الفادي على هذا بأَنَّ أَوَّلَ مَنْ تكلمَ عن جبلِ قافِ المحيطِ
بالأَرضِ هو الكتابُ الدينى اليهودي " حَكيكاه "، عندما فَسَّرَ كلمةَ: " توهو بوهو " المذكورةَ في أَولِ جملةٍ في سِفْرِ التكوين، الذي هو أَولُ أَسفارِ العهدِ القديم.
ونقلَ عن " حَكيكاه " أَنَّ معنى كلمةِ " توهو " العبرية هو: الفضاءُ والفراغ.
وأَنَّ المرادَ بها الخطُّ الأَخضرُ المحيطُ بجميعِ العالَم..
ولما أَرادَ العربُ تَعريبَ كلمةِ " توهو " العبريةِ سَمّوها " قاف ".
وبَعدما ذَكَرَ هذه الخرافةَ الأُسطورية، نَسَبَها إِلى القرآن، وقال: " فالكلمةُ
العبريةُ المترجمةُ " الخَط " هي " تاء "، ولما سَمِعَها الصحابةُ لم يَعْرِفوا معناها أَنَّهُ
الخَطّ، وتوهموا أَنّها سلسلةُ جبالٍ عظيمةٍ اسْمُها " قاف "!!.
فكيفَ يَعتبرُ القرآنُ ما نُسَمّيه " الأُفُق " أوهو خَطّ وَهْمِيٌّ، جَبَلاً
حقيقياً؟ " (1) .
إِنَّ كتابَ الثعلبيّ " عرائس المجالس في قصص الأنبياء " مرفوضٌ عند
العلماء، ولا يَصلحُ أَنْ يكونَ مرجعاً في كتبِ التفسير وقَصصِ الأَنبياء، ومعظمُ الحكاياتِ والأَخبارِ والرواياتِ التي فيه موضوعة ومردودة، وهي خُرافاتٌ وأَساطير، مأخوذةٌ عن الإِسرائيلياتِ المردودةِ الباطلة.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
74- جبل قاف المحيط بالأرض كلها
إنه جاء فى القرآن الكريم: (ق. والقرآن المجيد) ونقل من كتاب عرائس المجالس: أن معنى (ق) جبل يقال له جبل قاف. ونقل من كتاب قصص الأنبياء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أعلى قمة فى الأرض هى جبل قاف.
وقال المؤلف: إن الكلمة العبرانية " تاو " ومعناه " الخط " لما سمعها الصحابة لم يعرفوا أن معناها " الخط " بل توهموا أنها سلسلة جبال عظيمة اسمها قاف. فكيف يعتبر بعض القرآن ما نسميه الأفق - وهو خط وهمى - جبلاً حقيقياً؟
الرد على الشبهة:
إن كلام مؤلف عرائس المجالس ليس حُجة على صحة القرآن، وإن الأحاديث الموضوعة ليست حُجة على صحة القرآن. ولم يجمع المسلمون على معنى (ق) فإن لهم فى المعنى آراء كثيرة. منها أن (ق) حرف من حروف الهجاء مثل الألف والياء والتاء.. إلخ. فاعتراض المؤلف على القرآن ليس فى موضعه. اهـ (شبهات المشككين) .(1/55)
وما أَخَذَه الفادي منه باطلٌ ومردود، لأَنه ضمنَ الخرافاتِ والأَساطير
التي مَلَأَتْ كتابَه! ولا يتحملُ القرآنُ ما في " عرائسِ المجالس " من أَخطاءٍ
وخرافاتٍ وأباطيل!.
وما أَوردَه الثعلي من حوارٍ بينَ عبدِ الله بن سلام - رضي الله عنه - وبينَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مردود، لأَنه روايةٌ موضوعةٌ باطلة.
وحكايةُ جبلِ " قاف " الأَخضرِ المحيطِ بالأَرضِ كلها، خُرافةٌ وأُسطورة،
باطلةٌ مردودة، لم يَقُلْ بها أَحَدٌ من العلماءِ المسلمين المحَقِّقين!!.
ونحنُ مع الإِمامِ الحافظِ المفسِّر ابنِ كثير - رحمه الله - في رَدّ هذه الخرافة.
قال: " وَقَدْ رُوِيَ عن بعضِ السلف أَنهم قالوا: قاف: جبلٌ محيطٌ بجميعِ
الأَرض، يُقالُ له: " جَبَلُ قاف ".
وكأَنَّ هذا - واللهُ أَعلم - من خُرافاتِ بني إِسرائيل، التي أَخَذَها عنهم بعضُ الناس، لِمَا رأوا من جوازِ الروايةِ عنهم مما لا يُصَدَّقُ ولا يُكَذَّب ...
وعندي أَنَّ هذا وأَمثالَه وأَشباهَه من اختلاقِ بعضِ زَنادقتِهم، يُلَبِّسونَ به على الناسِ أَمْرَ دينهِم، كما افْتُرِيَ في هذه الأُمةِ مع جلالةِ قدرِ علمائِها وحُفّاظِها وأَئمتِها أحاديثُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بالعهدِ من
قِدم، فكيفَ بأُمَّةِ بني إِسرائيل، مع طولِ المدى، وقلةِ الحُفّاظِ النّقّادِ فيهم،
وشُرْبِهم الخمور، وتحريفِ علمائِهم الكلمَ عن مواضعِه، وتبديلِ كتبِ اللهِ
وآياتِه..
وإِنما أَباحَ الشارعُ الروايةَ عنهم في قوله: " وحَدّثوا عن بني إِسرائيلَ
ولا حَرَجَ " فيما قد يُجَوِّزُهُ العقل، فأما فيما تُحيلُه العقول، ويُحْكَمُ فيه
بالبطلان، ويَغلبُ على الظنونِ كذبُه، فليس من هذا القبيل..
واللهُ أَعلم.. ".
إِنَّ ابنَ كثير يرفضُ أُسطورةَ " جبلِ قاف " المحيطِ بالأَرض، ويَعتبرُها من
رواياتِ بني إِسرائيل، ويجعلُها خُرافةً تَتناقضُ مع العقل!.
وبما أَنها مرفوضةٌ مردودة، فإِنَّ القرآنَ لا يَحْملُ وِزْرَها، ولا يُسْتَشْهَدُ بها(1/56)
على وجودِ الخَطأ في القُرآن، كما فَعلَ المفترِي المتحامل!!.
و" ق " الذي بَنى عليه الفادي أُسطورتَه وخُرافتَه ليس اسْماً لجَبَل، وإِنما
هو أَحَدُ حروفِ الهجاء، سَمَّى اللهُ به هذه السورة، وافتتحها به، ثم أَقسمَ بعد ذلك بالقرآن على صدْق نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) .
ومن المعلومِ أَنَّ اللهَ افتتحَ بعضَ سورِ القرآنِ ببعضِ حُروفِ الهجاء، مثل
سور: ن، و: ق، و: ص، و: يَس، و: طه ...(1/57)
الفصل الثاني نقض المطاعن التاريخية(1/59)
هل كان هامان وزيراً لفرعون؟ "
فرعونُ ": لَقَبٌ يُطْلَقُ على مَنْ حكمَ مصرَ زمنَ موسى - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أَخبرَ القرآنُ أَنَّ وزيرَ فرعونَ الأَولَ اسْمُه " هامان ".
قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) .
وقال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) .
وقال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) .
ويَعترضُ الفادي على هذا، ويعتبرُه خَطَأً تاريخيّاً فى القرآن، لأَنَّ هامانَ
كان وَزيراً للملكِ الفارسي.
قالَ: " يَقولُ القرآنُ: إِنَّ هامانَ كانَ وزيرَ فرعون بينما يُثْبِتُ التاريخُ أَنَّ
هامانَ كانَ وزيراً لأَحْشَويرش، وأَنَّ بينَ فرعونَ وهامان زهاءَ أَلْفِ سَنة! ثم إِنَّ
فرعونَ كان ملكَ مصر، وكان هامانُ وزيراً في بابل! وما أَبْعَدَ الزمانَ والمكانَ
بينَ فرعونَ وهامان، فكيفَ يكونُ هذا وَزيراً لذاك؟!
ويَقولُ سِفْرُ أَستير في التوراة: إِنَّ هامانَ كان وزيراً وخليلاً لأَحْشويرش ملكِ الفرس، الذي يَدْعوهُ اليونانُ زَرْكيس! " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
75- هامان وزير فرعون
جاء فى القرآن أن هامان كان وزيراً لفرعون. وهذا خطأ تاريخى؛ لأن هامان كان وزيراً لأحشويرش ملك الفرس فى مدينة بابل. وبين فرعون وأحشويرش زهاء ألف سنة.
الرد على الشبهة:
من أعلم المؤلف بأن هامان كان وزيراً لفرعون؟ وهذا السؤال على معنى أن هامان اسم شخص. ولا أحد أعلمه بأن هامان اسم شخص إلا الرواة الذين لا يوثق بمروياتهم. وإذا أصرّ على أن هامان اسم شخص. فليسلّم بأن فرعون اسم شخص. ومعلوم أنه لقب " الملك " كان لرئيس المصريين فى زمن يوسف - عليه السلام - وأن لقب " فرعون " كان لرئيس المصريين فى زمن موسى - عليه السلام - مما يدل على تغير نظام الحكم.
وإذا صح أن " هامان " لقب لكل نائب عن الملك، لا اسم شخص. فإنه يصح أن يُطلق على النائب عن فرعون أو عن أى ملك من الملوك. وعلى ذلك يكون معنى: (إن فرعون وهامان وجنودهما) (1) هو إن رئيس مصر الملقب بفرعون، ونائبه الملقب بهامان (وجنودهما كانوا خاطئين) ومثل ذلك: مثل لقب الملك الذى يُطلق على رؤساء البلاد؛ فإنه يطلق على رؤساء فارس واليونان ومصر واليمن وسائر البلاد، ولا يتوجه على إطلاقه خطأ من أخطاء التاريخ.
وفى الإنجيل أن اليهود كانوا يطلقون لقب " المضلّ " على من يخالفهم فى الرأى. وإذا أطلقه العبرانيون على رجل منهم يقولون له: يا سامرى، بدل قولهم يا مضل. وذلك لأنهم يعتبرون السامريين كفاراً. وإذا أطلقه السامريون على رجل منهم يقولون له: يا عبرانى، بدل قولهم يا مضل. وذلك لأنهم يعتبرون العبرانيين كفاراً. وإذا سمع العبرانى عنهم كلمة " سامرى " لا يفهم منها أنها اسم شخص، وإنما يفهم منها أنها لقب للذم. وعن هذا المعنى جاء فى إنجيل يوحنا أن علماء اليهود قالوا لعيسى - عليه السلام -: " إنك سامرى، وبك شيطان " ورد عليهم بقوله: " أنا ليس بى شيطان، لكنى أكرم أبى وأنتم تهينوننى. أنا لست أطلب مجدى. يُوجد من يطلب ويدين " [يو 8: 48 - 50] . اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) القصص: 8.(1/61)
يَرى الفادي أَنَّ هامانَ لا يُمكنُ أَنْ يكونَ وزيراً لفرعون، للفرقِ بينهما
في الزمانِ والمكان، ففرعونُ كانَ زَمَنَ موسى - صلى الله عليه وسلم -، وهامانُ كان وزيراً للملكِ " أَحشويرش "، وذلك بعدَ حوالي أَلْفِ سنة من وفاةِ فرعون!!.
وأَخَذَ الفادي معلوماتِه من سِفْرِ أَستيرَ في العهدِ القديم، وهو السّفْرُ الذي
كَتَبَه أَحبارُ اليهود، وسَجَّلوا فيه التفاصيلَ المثيرةَ لاستيلاءِ اليهودِ على الحكمِ
في بلادِ فارس، وإِبادةِ خصومِهِم من الفرسِ الوطنيّين.
وخلاصَةُ سِفْرِ أَستيرَ أَنَّ " هامانَ " كانَ وزيراً عند الملكِ الفارسيِّ
أَحشويرش، وكان اليهوديُّ " مردخاي " يَعملُ عند الملِك، وحصلَ نزاعٌ بينَ هامانَ الفارسيِّ ومردخاي اليهودي، وتمكنَ مردخايُ من توصيلِ ابنةِ أَخيه الفاتنةِ " أَسْتير " إِلى الملك، حيثُ تزوجَها، وتمكَّنَ هامانُ من إِقناعِ الملكِ بإِصدارِ أَمْرِه بقتْلِ اليهودِ في الدولةِ الفارسية، لما يقومون به من إِفسادٍ
وتخريب..
لكنَّ الملكةَ أَستير وعَمَّها مردخاي تمكَّنا من إِلغاءِ الأَمْرِ الملكيّ
السابق، وإِصدارِ أَمْرٍ مَلَكي آخر، بإِبادةِ مَنْ كانوا مع هامان، وقَتَلَ الملكُ
وزيرَه هامان، وقَضى على رجالِه، وانتصرَ اليهودُ في صراعِهم مع الفرسِ
الوطنيين، وتحكَّموا في الدولةِ الفارسيةِ إِلى حين، وخَلَّدَ الأَحبارُ اليهودُ مؤامرةَ أَستير، بأَنْ جَعَلوها أَحَدَ أَسفارِ التوراة.
ونحن نتوقَّفُ في قَبولِ أَخبارِ سِفْرِ أَستير، فلا نُصدقُها ولا نُكَذّبُها، وهذا
موقفُنا من أَخبارِ وأَحداثِ العهدِ القديم ورواياتِ الإِسرائيليات، الذي أَرشدَنا إِليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ قال: " إِذا حَدثَكم بنو إِسرائيل، فلا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم، فإِنكم إما أَنْ تُصَدِّقوا بباطِل، وإِمّا أَنْ تُكَذِّبوا بحَقّ "!..
ومعلومٌ أَنَّ أَحبارَ اليهودِ هم الذين أَلَّفوا وصاغُوا وكَتَبوا أَسفارَ العهدِ القديم، وأَنَّهم مَلَؤُوها بالافتراءِ والكذبِ والادعاء، ونَسَبوها إِلى اللهِ زوراً وبُهتاناً، فهم ليسوا(1/62)
أُمناءَ على التاريخ، وليسوا صادقين فيما يوردونَه من أَخبارٍ وأَحداث! ولذلك نتوقَّفُ في قَبولِ كَلامِهم، فلا نُصَدِّقُه ولا نُكَذّبُه!.
وَهَبْ أَنَّ ما وردَ في سِفْرِ أَستيرَ صَحيح، وأَنَّ وَزيرَ أَحشويرش اسْمُه
هامان، فلا يَلزمُ من ذلك أَنْ يكونَ هامانُ وزيرُ مَلِك فارس هو هامان وزيرَ
فرعونَ ملكِ مصر! إِنَّ هذا مستحيل، لوجودِ فترةٍ زمنية طويلة بينهما قد تَزيدُ على أَلْفِ سنة!.
إِنهما وزيران، كلٌّ منهما اسْمُه هامان:
هامانُ الأَول: وهو الذي أَخْبَرَ عنه القرآن، وكانَ الوزيرَ عند فرعون،
الذي يحكمُ مصرَ باسْمِه، ويُنَفِّذُ أَوامِرَه.
وهامان الثاني: وهو الذي وَرَدَ الكلامُ عنه في سِفْرِ أَستير، وكانَ وزيراً
عند ملك الفرس.
وبينَ الوزيرين بُعْدٌ في المكان، وبُعْدٌ في الزمان.
وبهذا يَسقطُ اعتراضُ الفادي، الناشئُ عن جهلِه وغبائِه، فوجودُ هامانَ
الثاني عند ملكِ الفرس لا يُلغي وُجودَ هامانَ الأَولِ عند فرعون.
ومعلومٌ أَن تِكرارَ الأَسماءِ أَمْرٌ موجودٌ في حياةِ الناس، لا ينكرهُ عاقل!!.
***
حول تعاون هامان وقارون مع فرعون
أَخْبَرَ القرآنُ أَنَّ هامانَ وقارونَ كانا كافرَيْن، متعاونَيْن مع فرعون، وقَرَنَ
القرآنُ بين الطغاةِ الثلاثة.
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) .
وقال تعالى: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) .(1/63)
وقد سَبَقَ أَن اعترضَ القِسّيسُ الفادي على كونِ هامانَ وَزيراً عنْدَ
فرعون، وَرَدَدْنا عليه فىِ الاعتراضِ السابق!.
وأَعادَ اعتراضَه على هامانَ في سياقِ اعتراضِه على قارون، واعتبرَ
هذا خطأً تاريخيّاً في القرآن! قال: " يَتبادَرُ للذهنِ من هذه الآيات ِ أَنَّ قارونَ
وهامانَ مصريّان من قومِ فرعون، وأَنّهما مع فرعونَ قاوَموا موسى في
مصر..
ولكن هذا خَطَأ، لأَنَ قارونَ إِسرائيليّ لا مصري، ومن قومِ موسى
لا من قومِ فرعون، كما جاءَ في سورةِ القَصص: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) " (1) .
ذِكْرُ قارونَ وهامانَ بجانبِ فرعونَ خطأٌ تاريخيّ في القرآن! هذا ما قَرَّرَهُ
الفادي الغَبي!!.
مع أَنَّه لا خَطَأَ في هذا الموضوع، وقد صَرَّحَ القرآنُ بأَنَّ هامانَ كان
الوزيرَ الأَوَّلَ عند فرعون، يُنفذُ أَوامِرَه، ويُشرفُ على حكْم مصرَ باسْمِه، وهو مصريّ فرعونيّ.
أمّا قارونُ فقد كانَ طاغيةً مع فرعون، كما صَرحَ القرآن: "وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) ..
ولا يلزمُ من هذا أَنْ يكونَ قارونُ فرعونيّاً مصريّاً، كما فَهم الفادي،
فقارونُ إِسرائيليّ من قومِ موسى، كما صَرَّحَ القرآن: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) .
ولكنَّهُ لم يؤمنْ بموسى - صلى الله عليه وسلم -، وإِنما كَفَرَ به وكَذَّبَه،
وانْحازَ إِلى عَدُوِّه فرعون، وأَيَّدَهُ ودَعَمَه وتَعاوَنَ معه في مقاومةِ موسى وحَرْبِه
والوقوفِ أَمامَه، فهو إِسرائيليّ كافِر، مُؤَيِّدٌ لفرعونَ المصري!.
وبهذا نَعرفُ أَنَّ القرآنَ لم يُخطئْ عندما جَمَعَ بين الطغاةِ الثلاثة: هامانَ
المصري، وقارونَ الإِسرائيلي، وفرعونَ المتأله! واعتراضُ الفادي على ذلك
دليلُ جهْلِهِ وغبائِه!!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
76- قارون وهامان مصريان
إن قارون يهودى، وفرعون مصرى، وهامان فارسى فكيف قاوم هامان نبى الله موسى وهو لم يكن فى زمانه؟
الرد على الشبهة:
إن هامان ليس اسم شخص، وإنما هو لقب يدل على نائب الرئيس. وبهذا المعنى يكون هامان - أى النائب عن فرعون - قد قاوم نبى الله موسى عليه السلام. اهـ (شبهات المشككين) .(1/64)
حول صنع السامري للعجل
أَخبرَ القرآنُ أَنَّه لما غابَ موسى - صلى الله عليه وسلم - عن قومِه، وذهبَ إِلى مناجاةِ ربه على جبلِ الطور، وتركَ فيهم أَخاهُ هارونَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسؤولاً، فَتَنَهم السّامريّ، وأَخَذَ ما معهم من حُليٍّ وذَهَبٍ، وصَهَرَه، وصَنَعَ منه عِجْلاً، ودَعَاهم إِلى عبادته، على أَنه إِلهٌ لهم، ففعلوا ...
قال تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) .
تُصرحُ الآياتُ أَنَّ السامريَّ هو الذي صنعَ العجلَ لبني إِسرائيل، ولا
تذكرُ الآيات ُ شيئاً عن السّامريّ غيرَ صنعِه العجل.
ولم يُذْكَر السامريّ في غيرِ(1/65)
هذه الآياتِ من سورةِ طه.
ولا نَعرفُ نحنُ شيئاً عن بدايةِ أَمْرِه، ولا عن علْمِه ومهارتِه، ولا عن نهايتِه، كلُّ ما أَشارَ إليه القرآنُ أَنَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - عاقَبَه بقوله:
(فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ) .
ونفهمُ من هذه الإِشارةِ أَنَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - عاقَبَ السامريَّ على جريمتِه بطرْدِه، وإخراجِه من بينِ بني إِسرائيل، ونَبْذِه، فذهبَ مَنْبوذاً مَطْروداً ...
ولا نعرفُ كَيفَ كَانتْ وفاتُه ونهايتُه!.
وقد اعترضَ الفادي على هذا، وخَطَّأَ القرآنَ في حديثهِ عنه.
وذلك في قولهْ " ونحنُ نسأل: السامرةُ مدينةٌ في فلسطين، لم يكن لها وجودٌ لَمّا خرجَ بنو إِسرائيل من مصر، وسافَروا في سيناء، فعملَ لهم هارونُ العجلَ الذهبيَّ كطلبِهم، فكيفَ نَتَخيَّلُ سامريّاً يصنعُ لهم العجلَ قبلَ أَنْ يكونَ للسّامريّين وجود؟ ! " (1) .
يَربطُ الجاهلُ بين السّامريِّ والسامريّين والسّامرة.
وأَرضُ السامرةِ هي منطقةُ نابلس المعروفةُ حاليّاً، ويَدَّعي الفادي أَنها لم تُسَمَّ السامرةَ إِلّا بعدَ أَنْ أَقامَ فيها السّامريّون، وهم طائفةٌ معروفةٌ من بني إِسرائيل، وسُمُّوا السّامريّين بعدَ وفاةِ موسى - صلى الله عليه وسلم - بقُرون.
وبما أَنَّ السّامريَّ ابْنُهم - حسبَ فهم الفادي القاصِر - فكيفَ يكونُ موجوداً مع موسى - صلى الله عليه وسلم - في سيناء؟
وكيف يولَدُ الابنُ قبلَ أَبيه وجَدِّه؟
إِذَنْ أَخطَأَ القرآنُ عندما اتَّهَمَ السامريَّ بصنْعِ العجل، وذهبَ
القرآنُ إِلى أَنَّ السامريَّ الابنَ خُلِقَ وعاشَ قبلَ مولدِ أَبيهِ وجَدِّه!!.
لقد كان السامريُّ مع بني إِسرائيلَ عندما كانوا في سيناء، ويبدو أَنه
إِسرائيليّ خرجَ معهم من مصر، لكنه كان إِسرائيليّاً كافراً، مثلَ قارونَ الذي
تحدَّثْنا عنه قبلَ قليل، ولذلكَ صنعَ لهم العجل ودَعاهم إِلى عبادته.
وبما أَنَّ " السامريَّ " إِسرائيليّ، كانَ معهم في مصر، فاسْمُه إِسرائيلي،
والكلمةُ إِسرائيلية، ولها معنى في اللغةِ العبريّة، ولهذا الاسمِ وجودٌ عند
الإِسرائيليّين، سواء كان اسْمَ شخصٍ أَو اسمَ قبيلة!!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
77- العجل الذهبى من صنع السامرى
إن مدينة السامرة فى فلسطين لم يكن لها وجود لما خرج بنو إسرائيل من مصر، مع موسى، وسكنوا أرض سيناء. وفيها عمل لهم هارون العجل الذهبى كطلبهم. فكيف نتخيل سامرياً يضع لهم العجل قبل أن يكون للسامريين وجود؟
الرد على الشبهة:
1 - إنه ليس فى فلسطين مدينة تسمى بمدينة السامرة. وإنما كان للسامريين مملكة فى فلسطين، عاصمتها " نابلس " المسماة قديماً " شكيم " وكانت هذه المملكة مكونة من عشرة أسباط. وكان للسبطين مملكة فى فلسطين عاصمتها " القدس " المسماة قديماً " أورشليم ".
2 - ولما صعد موسى عليه السلام إلى جبل الطور وتلقى التوراة، نزل فوجد اليهود يعبدون عجلاً جسداً له خوار. فسأل عن ذلك فدلوه على من أغراهم بعبادتهم. فأمسك به وسأله (ما خطبك يا سامرى) أى ما هذا الذى فعلته أيها المضل؟ لأن كلمة (سامرى) تطلق على المضل. ولا تطلق على شخص كاسم من الأسماء.
وبهذا المعنى لا يكون الذى أضلهم رجل مسمى بالسامرى، حتى يتوجه الإشكال. وإلا يلزم أن يكون السامرى من أسماء المسيح عيسى - عليه السلام - فإن اليهود قالوا له: " إنك سامرى، وبك شيطان " [يو 8: 48] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/66)
وهذا معناهُ أَنَّ " السّامريّين " مجموعةٌ من الإِسرائيليّين، قد يكونونَ فَرْعاً من
قبيلةٍ إِسرائيلية، ولعلَّهم سُمّوا بهذا الاسم نسبةً لاسْمِ " السامريّ "، ولعلهم كانوا من ذريةِ ذلك السَّامريِّ الذي عاقَبَه موسى - صلى الله عليه وسلم - بسببِ صنعِه العجل، والذي لا نعرفُ كَيفَ كانَتْ نِهَايَتُه، فإذا كان أولادٌ وإخوةٌ وأقارب، فمن الممكنِ أَنْ يُسَمّوا " السّامريّين "، وأَنْ يَكونوا مَعْروفينَ بهذا الاسمِ من أيامِ موسى - صلى الله عليه وسلم!!.
ولما دَخَلَ بنو إِسرائيلَ أَرضَ فلسطينَ المقَدَّسَة، كانتْ منطقةُ نابلس تُسَمّى
أَرضَ شكيم الكنعانية، وسُمِّيَتْ أَرضَ السّامرة بعدَ ذلك، وهو اسْم إِسرائيليّ عِبريّ، ولعلَّ لعشيرةِ السّامريّين، المتولدةِ عن السّامريِّ صانعِ العجلِ دَوْراً في تسميةِ المنطقةِ بالسّامرة، ولعلَّهم أَقاموا في المنطقة، فسُمِّيَتْ باسمِهم!!.
فلا معنى لاعتراضِ الفادي على السّامريِّ في القرآن، واعتبارِهِ خَطَأً
تاريخيّاً في القرآن، فالسّامريُّ أَصْل للسّامريّين والسامرة، وُجِدَ قبْلَهم في الزَّمان.
ومعنى " السّامرة " في اللغةِ العبرية: " مركزُ المراقبةِ والحِراسَة ".
جاءَ في كتابِ " قاموس الكتاب المقدس ": " السّامرة: اسْم عبرانيٌّ معناه:
مركزُ الحارس.
وهي عاصمةُ الأَسباطِ العشرة، أَثناءَ أَطولِ مُدَّةٍ في تاريخِهم..
والمدينةُ واقعة على تَلّ، وسُمِّيَتْ " مكانَ المراقبة " ...
وتقعُ مدينةُ السامرة - أو سبسطية - على تَلٍّ على مسافةِ خمسةِ أَميالٍ ونصف شمالَ غربِ شكيم ...
والسّامرةُ أَيضاً اسْمُ الإِقليمِ الذي عاصِمَتُه مدينةُ السامرة، وهو الذي احتلَّه
الأَسباطُ العشرةُ، والسامرةُ اسْمُ المملكةِ الشمالية..
والسّامريّون هم السكانُ المتَّصلونَ بالمملكةِ الشمالية.. ".
إِنَ ما قالَه القرآنُ عن السّامريّ هو الحَقُّ والصواب، ولا خطأَ فيه، ولا
اعتراضَ عليه، فهو قَبْلَ السّامريّين في التاريخ، وهم من نسْلِه وذريته، ولذلك حَمَلوا اسْمه، ولما أَقاموا في تلكَ المنطقةِ سُمِّيَتْ باسمِهم، فالصلةُ بين
السّامريّ والسّامرةِ والسّامريّين وثيقة!!.(1/67)
من هو أبو إبراهيم - عليه السلام -؟
أَخبرَ القرآنُ أَنَّ اسْمَ والدِ إِبراهيم - عليه السلام - " آزرُ ".
قال الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) .
وجعلَ الفادي هذا خَطَأً تاريخيّاً في القرآن، لأَنه يَتعارضُ مع الكتابِ
المقَدَّس.
قال: " والصوابُ في التاريخ، كما يَشهدُ الكتابُ المقَدَّس أَنَّ والدَ
إِبراهيمَ اسْمُه تارح، كما جاءَ في سِفْرِ التكوين " (1) .
اسْمُ والدِ إِبراهيمَ الواردُ في سِفْرِ التكوينِ " تارح "، ويَزعمُ اليهودُ
والنّصارى أَنَّ العهدَ القديمَ كلامُ الله، أَنزلَه على موسى وأَنبياءِ بني
إِسرائيلَ - عليهم السلام -، مع أَنَّ اللهَ أَخبرَنا أَنَّ الأَحبارَ هم الذين أَلَّفوا العهدَ القَديم، وكَتَبوه بأَيْديهم، ونَسبوهُ إِلى اللهِ زوراً وبُهتاناً..
قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .
وهذا معناهُ أَنَّه ليسَ كلُّ ما في العهدِ القديمِ من عندِ الله، وإِنَّما كَثيرٌ منه
من عندِ الأَحبار، وهذا ليسَ صحيحاً بالضرورة، فمنه الصحيحُ ومنه الخَطَأ..
ومعنى هذا أَنْ نتوقَّفَ في قَبولِ كلّ ما وردَ في أَسفارِ العهدِ القديم، ولا نقبلُ
منه إِلا ما وردَ في القرآنِ أَو السنةِ مُصَدّقاً له.
وما سكتَ عنه القرآنُ والسنةُ نتوقَّفُ فيه ونَسكتُ عنه، فلا نصدِّقُه ولا نُكَذِّبُه.
أَما إِذا وردَ خَبَرٌ في القرآنِ يختلفُ عن ما وردَ في أَسفارِ العهدِ القديمِ،
فإِنَّ المعتمدَ هو ما وردَ في القرآن، لأَنَّ ما في القرآنِ كلامُ الله قطعاً، لا شَكَّ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
78- أبو إبراهيم آزر
إن فى التوراة أن أبا إبراهيم اسمه تارح. وقد أخطأ القرآن فى قوله إن أباه اسمه آزر.
الرد على الشبهة:
إن الأنساب مختلفة بين التوراة السامرية والعبرانية واليونانية. وإن عدد السنين لكل أب من آدم إلى إبراهيم مختلف فيه بين نسخ التوراة الثلاثة، ولوقا كاتب الإنجيل أزاد على الأسماء قينان. نقلا عن اليونانية. ومعنى هذا أنه كان يجب على المؤلف تصحيح كتبه قبل أن يوجه نقده. ولذلك جاء فى القرآن الكريم: (إن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) (1) . اهـ (شبهات المشككين) .(1/68)
ولا ريبَ فيه، وما خالَفَه فهو خطأ، وهو مما صاغَه وكَتَبَه الأَحْبار، ونَسَبوهُ
إِلى اللهِ زوراً..
هذه قاعدةٌ منهجيةٌ موضوعيةٌ في الصلةِ بينَ القرآنِ والعهدِ القديم.
ولا يَجوزُ أَنْ نُحاكمَ القرآنَ الثابتَ الصحيحَ المحفوظَ إِلى رواياتِ العهدِ
القديمِ المشكوكِ فيها، كما فَعَلَ الفادي.
بالنسبةِ لوالدِ إِبراهيمَ - عليه السلام -، ذَكَرَ الأَحبارُ أَنَّ اسْمَه " تارح "، وصَرَّحَ القرآنُ أَنَّ اسْمَه " آزر ".
والأَصْلُ أَنْ نعتمدَ ما صَرَّحَ به القرآن، لأَنه كلامُ اللهِ الثابتُ
والمحفوظ، فنقول: إِنَّ اسْمَه آزر.
ولا نَدْري من أَيْنَ جاءَ الأَحبارُ في العهدِ القديمِ باسمِ " تارح "! فإِمّا أَنْ
يكون له اسمان: آزرُ وتارح، فذكَرَ القرآنُ أَحَدَهما وذَكَرَ الأَحبارُ اسْمَه الثاني، وإِمّا أَنْ يكونَ ما قالَه الأَحبارُ خَطَأ، وأَن اسْمَه هو آزرُ فقط، لأَنه هو المصرَّحُ به في القرآن.
فالذي أَخَطَأَ في اسم والدِ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - ليس القرآن، لأَنَّ القرآنَ حَقّ لا خطأَ - فيه، وإِنما الذينَ أَخطؤُوا هم الأَحبارُ عندَ تأليفِهم أَسفارَ العهدِ القديم، فأَتَوْا باسمٍ يُخالفُ الذي في القرآن، وهذا مردودٌ عليهم!!.
***
حول أبي مريم وأخيها
ذَكَرَ القرآنُ اسْمَ والدِ مريم - عليها السلام - أَنه عمران.
قال تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) .
وذَكَرَ اسمَ أَخيها أَنَّه هارون.
قال تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) .(1/69)
ومن المعلومِ أَنَ اسْمَ والدِ موسى - عليه السلام - عمرانُ، وأَنَّ اسْمَ أَخيه
هارونُ - عليه السلام -.
فكيفَ يكونُ عمرانُ والداً لموسى ولمريم، وبينَهما مئاتُ السنين؟
وكيفَ يكونُ هارونُ أَخاً لموسى ولمريم، وبينهما مئاتُ السنين؟.
اعتبرَ الفادي هذا خَطَأً تاريخيّاً في القرآن.
قال: " ونحنُ نسأَل: يَقول الإِنجيلُ: إِنَّ مريمَ العذراءَ هي بنتُ هالي ألوقا: 3 / 22،، فكيفَ يقول القرآنُ: إِنها بنتُ عمران أَبي موسى النبي، وإِنها أُخْتُ هارون؟ مع أَنَّ بينَها وبينَ هارون وموسى وعمران أَلفاً وستمئة سنة! ".
قال القرآن: اسْمُ والدِ مريم هو عمران..
وقال إِنجيلُ لوقا: إِنَّ اسْمَه هو هالي! فما الذي نأخُذُه ونقول به؟.
سبقَ أَنْ ناقَشْنا هذا الأَمْرَ في الموضوعِ السابق، حول والدِ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، ونَدعو إِلى أَنْ نَستحضرَه هنا، فما قُلناهُ هناك عن التوراة، يَصلحُ أَنْ يُقال هنا عن الإِنجيل.
إِنَّ المعتمدَ هو ما قالَه القرآن، لأَنه هو المحفوظُ الصواب، فاسْمُ والدِ
مريمَ هو " عمرانُ "، واسمُ " هالي " في إِنجيلِ لوقا مردود، لتعارُضِه مع الاسمِ الواردِ في القرآن.
كيفَ عمرانُ والدُ موسى ووالدُ مريم؟
وكيفَ هارونُ أَخو موسى وأَخو مريم؟
وبينَ موسى ومريمَ أَلْفٌ وستمئة سنة؟
هذا خطأٌ تاريخى في القرآنِ في نظرِ الفادي! وهذا بسببِ جهلِ الفادي وغبائِه.
إِذا كانَ اسْمُ والدِ مريمَ عمرانَ، فلا يلزمُ أَنْ يكونَ هو عمرانَ والدَ
موسى - صلى الله عليه وسلم -، فهما رَجلانِ كل منهما اسْمُه عمران.
الأَوَّل: عمرانُ والدُ موسى - صلى الله عليه وسلم -، والثاني: عمرانُ والدُ مريم.
وَهناك رَجلانِ آخَران، كلّ منهما اسْمُه هارون.
الأَوَّل: هارونُ(1/70)
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أَخو موسى - صلى الله عليه وسلم -..
والثاني: هارونُ أَخو مريمَ - عليه السلام -.
ومن المعلومِ أَنَّ النَّاس الصّالحينَ يُسَمّون أَبناءَهم بأَسماءِ الأَنبياءِ
والصالحينَ السابقين، تَفاؤُلاً وتَيَمُّناً وبَرَكَة، فكمْ من المسلمينَ مَنْ يُسَمّي ابْنَه
باسمِ محمدٍ، على اسمِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وكم منهم مَنْ يُسَمّي ابنَه على اسمِ عمرَ أَو عثمانَ أَو على أَو خالدٍ رضي الله عن أَصْحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين.
فلم يقع القرآنُ في خطأ تاريخيٍّ، عندما أَخْبَرَ أَنَّ اسْمَ والدِ مريمَ على
اسْمِ والدِ موسى، واسْمَ أَخيها على اسْمِ أَخي موسى.
فعمرانُ والدُ مريمَ غيرُ عمران والد موسى، وهارونُ أَخو مريمَ غيرُ هارونَ أَخي موسى - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّ بين العِمْرانَيْنِ والهارونَيْن حوالي أَلفٍ وستمئة سنة!!.
وقَديماً أَثارَ الرهبانُ هذا الاعتراضَ على القرآن، زمنَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وحَلَّ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتراض.
روى مسلم برقم: 2135،، والترمذيُّ برقم: 3155،، عن المغيرةِ بنِ
شعبةَ - رضي الله عنه - قال: بَعَثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى نجران.
فقالوا: أَلَسْتُم تَقْرَؤون: (يا أخُتَ هَارُونَ) ؟.
قلتُ: بَلى!.
قالوا: وموسى قبلَ عيسى بكَذا وكذا؟ !.
فرجَعْتُ إِلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأَخْبَرْتُه.
فقالَ: " أَلا أَخْبَرْتَهم أَنهم كانوا يُسَمّونَ بالأَنبياءِ والصالحينَ قبلَهم؟! ".
عندما أَثارَ أَحَدُ رهبانِ نصارى نجران الإِشكالَ أَمامَ المغيرةِ بنِ شعبة - رضي الله عنه -، لم يَعرفْ بماذا يُجيبُه، لأَنَّ ذلك الراهبَ رفضَ أَنْ يكونَ هارونُ
أَخاً لمريم، لأَنه أَخٌ لموسى، وبَيْنَ موسى وعيسى ما بينَهما من مئاتِ السنين.
فلما سأَلَ المغيرةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أَجابَه بأَنَّ الصالحينَ من بني إِسرائيل كانوا يسمون أبناءَهم بأسماءِ الأَنبياءِ والصالحين من قبلهم..
أَيْ: هُما رَجُلان: هارونُ أَخو موسى، ثم هارونُ أَخو مريم (1) (2) .
__________
(1) قال الفخر الرازي:
وأما هارون ففيه أربعة أقوال: الأول: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا، وهو قول قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هرون تبركاً به وباسمه.
الثاني: أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم.
والثالث: كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة.
الرابع: كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به، وهذا هو الأقرب لوجهين: الأول: أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولاً على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهارون.
الثاني: أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش. اهـ (مفاتيح الغيب. 21 / 177)
(2) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
79- مريم العذراء بنت عمران
إن القرآن نسب مريم العذراء إلى عمران أبى موسى النبى. وقال: إنها أخت هارون النبى - عليه السلام - وهذا يخالف ما جاء فى إنجيل لوقا أنها بنت هالى [لوقا 3: 23] ويخالف التاريخ لأن بين مريم وهارون ألف وستمائة سنة.
الرد على الشبهة:
إن المؤلف نقل عن الإنجيل أن مريم بنت هالى. ونقله خطأ. والنص هو: " ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة. وهو على ما كان يُظن ابن يوسف بن هالى بن متثات بن لاوى بن ملكى بن ينّا بن يوسف " إلى أن أوصل نسبه إلى " ناثان بن داود " عليه السلام. وهذا النص لا يدل على أنه نسب مريم كما قال المؤلف، وإنما يدل على أنه نسب المسيح. فكيف يكذب القرآن بنسب ليس لها؟ وكيف ينسبون المسيح إلى يوسف بن هالى. وفى الإنجيل أنه لا أب له ولا سبط له؟ ذلك قوله عن يوسف: " ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر " [متى 1: 24] ، وكيف يكذبون القرآن بنسب على سبيل الظن؟ ذلك قوله: " وهو على ما كان يُظن " وفى إنجيل متى أن المسيح ابن يوسف بن يعقوب بن متّان بن اليعازر بن آليود. إلى أن أوصل نسبه إلى سليمان - عليه السلام -[متى 1] .
والحق: أن مريم ابنة عمران الأب المباشر لموسى - عليه السلام - وهو أب مباشر لموسى، وهو أب لمريم لأنه رئيس العائلة التى تناسلت هى منها. وهارون ابن عمران. وهى من نسل هارون - عليه السلام - فيكون هو أخوها على معنى أنها من نسله. أما أبوها المباشر فاسمه " يهويا قيم " وأمها اسمها " حنة " كما جاء فى إنجيل يعقوب الذى لا يعترف به النصارى.
والنسب هكذا:
إبراهيم - إسحاق - يعقوب - لاوى وهو الابن الثالث ليعقوب. وأنجب لاوى ثلاثة هم جرشون وقهات ومرارى. وبنوقهات عمرام ويصهار وحبرون وعزئييل. وبنو عمرام هارون وموسى ومريم.
وقد وصى موسى عن أمر الله تعالى أن تتميز الأسباط التى تريد الإرث فى بنى إسرائيل. وذلك بأن تتزوج كل بنت فى سبطها. ففى سفر العدد: " وكل بنت ورثت نصيباً من أسباط بنى إسرائيل؛ تكون امرأة لواحد من عشيرة سبط أبيها؛ لكى يرث بنو إسرائيل كلُّ واحد نصيب آبائه " [عدد36: 8] . ووصى بأن يتفرغ سبط لاوى للعلم والدين، ولا يكون له نصيب فى الأرض، وإنما يسكن بين الأسباط فى مدنهم، ووصى بأن تكون الإمامة فى نسل هارون وحده. وعلى هذه الشريعة نجد فى بدء إنجيل لوقا: أن " أليصابات " زوجة زكريا - عليه السلام - كانت من نسل هارون من سبط لاوى، وكان زكريا من نسل هارون من سبط لاوى. وتزوجت أليصابات زكريا. وأن مريم العذراء كانت قريبة لأليصابات. وإذا ثبت أنها قريبة لها؛ يثبت أن مريم هارونية من سبط لاوى. يقول لوقا: " كان فى أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبِيّا، وامرأته من بنات هارون، واسمها أليصابات.. إلخ " ويقول لوقا: " وهو ذا أليصابات نسيبتك.. إلخ "؛ قال لها الملاك ذلك وهو يبشرها بالحمل بعيسى - عليه السلام - فإذا صح أنها قريبة لها ونسيبة لها. فكيف يخطئ المؤلف القرآن فى نسبتها إلى هارون - عليه السلام -؟
وفرقة أبِيّا هى فرقة من بنى هارون، وهى الفرقة الثامنة من الفرق التى عدها داود - عليه السلام - للعمل فى المناظرة على بيت الرب. وخبرهم فى الإصحاح الرابع والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول. اهـ (شبهات المشككين) .(1/71)
هل هَمَّ يوسفُ - عليه السلام - بالزنى؟
أَساءَ الفادي فَهْمَ إِخبارِ القرآنِ عن ما جَرى بين يوسفَ - صلى الله عليه وسلم -، وبين امرأةِ العزيز.
وذلك في قولِه تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) .
وذَهَبَ إِلى أَنَّ القرآنَ اتهمَ يوسفَ - صلى الله عليه وسلم - بالهَمِّ بالزنى بامرأةِ العزيز، وقال: " أَيْ: قَصدَتْ مخالَطتَه وقَصدَ مخالَطَتَها، والهَمُّ بالشيءِ قَصدُه والعَزْمُ عليه، ومنه " الهَمّامُ "، وهو الذي إِذا قَصَدَ شيئاً أَمْضاه.
وهذا القول يُناقضُ التاريخَ المقَدَّسَ الذي يقول: إِنَّها لما طَلَبَتْ منه الشَّرَّ
استنكرَ طَلَبها، وقال: كيفَ أَصنعُ هذا الشَّرَّ العظيم، وأُخطئُ إِلى الله؟! ".
ولما أَمسكَتْ بثوبِه تَرَكَهُ معها وهَرَب " (1) .
لم يفهم الفادي حديثَ القرآنِ عن مراودةِ امرأةِ العزيز ليوسفَ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَدِّه على إِغرائِها ودعوتِها الجريئةِ له لارتكابِ الفاحشة، ولم يَفْهَمْ معنى الهَمِّ المذكورِ في الآية، واعتبرَ حديثَ القرآنِ الخاطئَ متعارِضاً مع حديثِ العهدِ القديمِ الصائبِ في نظره، وأَخَذَ جملةً من آياتٍ عديدةٍ تتحدَّثُ عن المراودة، وفَصلَها عن ما قبلَها واعْتَبَرها خطأً تاريخيّاً في القرآن.
ولا بُدَّ أَنْ ننظرَ في الآيات ِ التي أَخبرتْ عن المراودة، لنعرفَ الهَمَّ
المنسوبَ ليوسفَ - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله - عز وجل - (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
80- يوسف همّ بالفساد
إن يوسف - عليه السلام - هم بالمرأة وهمت به حسبما جاء فى القرآن. وأنه لم يهم بها ولم تهم به حسبما جاء فى التوراة. وما جاء فى التوراة هو المناسب لأحوال الأنبياء.
الرد على الشبهة:
1 - يوجد فرق بين رجل عرف الله ورجل لم يعرفه. فالعارف بالله لا يقدم على معصية لله ولا يقدم على ضرر للبشر. والذى لا يعرفه لا يستحيى أن يفعل ما يشاء من المعاصى والضرر. وعلى هذا المعنى يوجد فرق بين امرأة العزيز التى تعبد مع قومها غير الله وبين يوسف - عليه السلام - الذى عرف ربه بواسطة البراهين التى قادت إلى معرفته فى كونه، وبما سمعه عن الله من آبائه. فامرأة العزيز همت به أن يفعل الفاحشة بها، وهو قد قال لها: (معاذ الله (وعلّل عدم الفعل بأنه يكون مسيئاً لمن أحسن إليه. وهو سيده. والإساءة إلى المحسن نوع من أنواع الظلم.
2 - انظر إلى قوله: (وراودته) وإلى قوله (معاذ الله) تجد أنها لما راودته (همت به) فيكون الهم منها بمعنى طلب فعل الفاحشة. وتجد أنها لما (همت به) صار منه هم بها. يفسره قوله (معاذ الله) كما فسر همها (وراودته) فيكون همه بها؛ دفعاً لها وامتناعاً عنها.
3 - ولو فرضنا أن يوسف غير عارف بالله وغير مقر به مثلها؛ فإننا نفرض أنه لو همت به للفعل بها؛ لهم بها للفعل بها. ولولا أنه رأى برهان وجود الله فى كونه، لكان قد فعل بها. إذ هذا شأن الوثنيين. وكهذا البرهان؛ أريناه براهين فى الآفاق وفى الأنفس (لنصرف عنه السوء والفحشاء) .
4 - ولا يمكن تفسير (برهان ربه (بعلامة مجىء سيده إلى بيته؛ لأنه لو ظهرت علامة مجئ سيده؛ ما استبقا الباب: هى للطلب، وهو للدفع. فاستباقهما معناه: أنها تغلق الأبواب وتمنع من الإفلات وهو يحاول الدفع، حتى أنها جذبته من خلف ظهره من ثوبه، وعندئذ (ألفيا سيدها لدا الباب)
وصرح بأنه غير مذنب، وشهد شاهد بالقرائن من أهل الشهادة أنه غير مذنب.
5 - على هذا يكون القرآن مقراً ببراءة يوسف - عليه السلام - ويكون لفظ الهم فى جانبه على سبيل المشاكلة لأنه صرح قبله بقوله (معاذ الله) .
اهـ (شبهات المشككين) .(1/72)
أَخبرَ القرآنُ أَنَّ امرأةَ العزيز راودَتْ فَتاها يوسفَ مراتٍ عديدة، وأَنه كانَ
يُقابلُ مراودتَها وإِغراءَها وفتنتَها بالتعفُّفِ والتَّرَفُّع، وهذا ما اعترفَتْ هي به
لنساءِ المدينة: قال تعالى: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) .
وازدادت المرأةُ عِشْقاً له، وكلَّما أَمعنَ يوسفُ في تعفُّفِه ورفْضِه المراودةَ
أَمْعَنَتْ هي في عشقِها وإِغرائِها وتهالكِها!!.
واضطرت المرأَة أَخيراً إِلى دعوتِه لمعاشرتِها دعوةً جريئةً صريحةً
مكشوفة، بعدما غَلَّقَت الأَبواب، لكنَّه تَرَفَّعَ بصراحَة: (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .
وسيطرتْ عليها شهوتُها، وزادَ سُعارُها الشَّهوانيّ، وأَرادَتْ أَنْ يُعاشِرَها
بالقُوَّة، فَهَمَّتْ به، وعَزَمَتْ على مخالطتِه، وهَجَمَتْ عليه، والأَبوابُ مُغَلَّقَة: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) .
ولما رأى يوسفُ نفسَه في هذا الموقفِ المثير، أَرادَ أَنْ يتعفَّفَ ويُحَصنَ
نَفْسَه، فأَمامَه سيدتُه المتهالكةُ المثيرةُ المغرية، وهو الشابُّ القويُّ الممتلئُ،
فما الذي يعصِمُه منها، ويَحميه من فتنتِها وإِغرائِها؟
وما الذي يمْنَعُه من مقابلةِ هَمِّها بِهَمٍّ منه؟
إِنه قوةُ إِيمانِه ومراقبتِه لله!! لقد استحضَرَ هذا المعنى الإِيماني،
وهو في ذلك الموقفِ والجَوّ، وقَوّى بُرهانَ ربِّه في قلبِه وكيانِه، فمنَعَه هذا من
الهَمّ بها، أَو الرغبةِ في معاشرتِها، أَو التوجُّهِ إِليها، والعزمِ على ارتكابِ
الفاحشةِ معها!!.(1/73)
وقد ذَكَرَ القرآنُ هذا في قوله: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) .
إِنَّ هذه الآيةَ تَنفي عن يوسفَ الهَمَّ بارتكابِ الفاحشة، بعد أَنْ أَثبتَتْ
لامرأةِ العزيزِ الهَمَّ والعزمَ والتصميمَ على ارتكابِ تلك الفاحشة!!.
وتتكوَّنُ الآيةُ من جملتَيْن: الأُولى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) .
الثانية: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) .
الواوُ في (وَهَمَّ بِهَا) : حرفُ استئناف، وليستْ حرفَ عطف.
ولو كانَتْ حرفَ عطفٍ لَعَطَفَتْ جملةَ " هَمَّ بها " على " هَمَّتْ به "، ويكونُ هَمّ كُلٍّ منهما مِثْلَ هَمِّ الآخر، أَيْ: هَمَّتْ هي بمعاشرتِه، وهَمَّ هو بمعاشرتِها! وهذا اتهامٌ ليوسفَ بالعَزْمِ على الزنى بها!.
وعندما تكونُ الواوُ حرفَ استئناف، يكونُ ما بعدَها جملةً استئنافيةً
جديدة، وهي جملةٌ شرطية: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) .
لولا: حرفُ شرط، يدلُّ على الامتناعِ لوجود.
وفعلُ الشرطِ جملةُ (أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وجوابُ الشرطِ مَحْذوف، دَلَّ عليه ما قَبْلَه.
والتقدير: لَهَمَّ بها.
فتكونُ الجملةُ هكذا: لولا أَنْ رأى بُرهانَ رَبِّه لَهَمَّ بها.
وبما أَنَّ " لولا " حرفُ امتناعٍ لوجود، فإِنَّها تُقَرِّرُ امتناعَ حصولِ جوابِ
الشرطِ لوجودِ فعلِ الشَّرط.
أَي: الذي مَنَعَ يوسفَ من الهَمِّ بها وجودُ بُرهانِ رَبِّه.
والمرادُ ببرهانِ ربِّه هنا قوةُ الإِيمانِ في قلْبه، واستحضارُه رقابةَ اللهِ ومَعِيَّتَه، فكيفَ يعصيه ويرتكبُ فاحشةَ الزنى، واللهُ يَراهُ ويُراقبُه،
ولذلك رَدَّ على مراودةِ المرأةِ قائلاً: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُو) .
إِنَّ قولَه تعالى: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) يدلُّ على أَنَّ
يوسفَ - صلى الله عليه وسلم - لم يهمَّ بامرأةِ العزيزِ مطلقاً، ولم يُفَكَرْ بمعاشرتِها، ولم يَلْتَفِتْ لها، في الوقتِ الذي هَمَّتْ هي به، وعَزَمَتْ على معاشرتِه.
وبهذا نَعرفُ جهلَ وغَباءَ الفادي عندما اتَّهَمَ يوسفَ بالهَمِّ بامرأةِ العزيز،(1/74)
والعزمِ على مخالطتِها ومعاشرتِها، وذلك في قوله: " قَصدَتْ مُخالَطَتَه، وقَصَدَ مُخالَطَتَها ".
أَما ما نَقَلَه الفادي المفترِي عن سِفْرِ التكوينِ: " أَنَّ امرأةَ العزيز لَما
أَمْسَكَتْ بثوبِه تَرَكَ الثوبَ معها وهَرَبَ " فهذا ليسَ صحيحاً، وهو يَتعارَضُ مَع ما ذَكَرَه القرآن.
قالَ الأَحبارُ في سِفْرِ التكوين عن المراودة: " كان يوسفُ حَسَنَ الهيئة،
جميلَ المنظر..
وحَدَثَ أَنَّ امرأةَ سيدِه رَفَعَتْ عينَيْها إِلى يوسف، وقالَتْ له:
اضطجعْ معي! فأَبى وقالَ لها: سَيِّدي لا يعرفُ شيئاً في البيت، وكلُّ ما يملكُه
ائتمنَنِي عليه، وسَيِّدي لم يمنعْ عَنّي شيئاً غَيْرَك، لأَنك امرأَتُه، فكيفَ أَصنعُ
هذه السيئةَ العظيمة، وأُخطئُ إِلى الله؟ !.
وكَلَّمَتْه يوماً بعدَ يوم، أَنْ يضطجعَ بجانبِها وينامَ معها، فلم يسمعْ لها!.
واتفقَ في أَحَدِ الأَيّام أَنه دخلَ البيتَ ليقومَ بعملِه، ولم يكنْ في البيتِ
أَحَدٌ من أَهلِه، فأَمسكَتْ بثوبِه، وقالَتْ له: ضاجِعْني!..
فتركَ ثوبَه بيدِها، وفَرَّ هارباً إِلى الخارج.
فصاحَتْ بأَهْلِ بيتِها، وقالَتْ لهم: انْظُروا كيفَ جاءَنا برجلٍ عِبْرانِيٍّ،
ليُداعِبَنا ويَتلاعَبَ بنا..
دَخَلَ عَلَيَّ لِيُضَاجِعَني، فصرَخْتُ بأَعلى صوتي..
ولما سَمِعَني أَصرخُ تركَ ثوبَه بجانبي، وَفَرَّ هارباً إِلى الخارج!.
وَوَضَعت المرأةُ ثوبَ يوسفَ بجانِبها، حتى جاءَ زوجُها إِلى بيتِه، فحكَتْ
له الحكايةَ ذاتها.
قالَتْ: هذا العبدُ العِبْرانيُّ الذي جئتَنَا به، دَخَلَ ليُداعِبَني،
وعندما رَفَعْتُ صَوْتي وصَرَخْت، تركَ ثوبَه بجانبي وهَرَب ...
فلما سمعَ ذلك غضبَ على يوسف غَضَباً شديداً، وجَعَلَه في
السجن ".(1/75)
وما أَخبرَ عنه القرآنُ يَختلفُ عن ما قالَه الأَحْبار.
فلما استعصَمَ يوسفُ أَمامَ إِغرائِها، ولم يَهِمَّ بها هَرَبَ من الغرفة، التي كانت المرأةُ قد أَغْلَقَتْ بابَها، ولحقَتْ هي به لتُعيدَه، واستَبَقا الباب، وما أَنْ فَتَحَ البابَ حتى وَجَدَ زَوْجَها عِندَ الباب، فَسارعت المرأةُ إِلى اتِّهامِ يوسفَ، ودافعَ هو عن نفسِه..
وأَخبرَ الزوجُ أَحَدَ أَهْلِها بما جرى، ودعا الشاهدُ الحَكَمُ إِلى
ملاحظةِ قَمِيصِ يوسف، فإِنْ كان قُدَّ من الأَمامِ فصدقَتْ هي في كلامِها،
لأَنه يكونُ هو الذي اعْتَدَى عليها، وهي تُدافعُ عن نفسِها، وإِنْ كان قُدَّ من
الخلفِ يكونُ هو الصادقَ وهي الكاذبة، لأَنه يكونُ هارباً منها، وهي تلحَقُه
لتُدركه، فلما رأى القميصَ قُدَّ من الخلفِ عَرَفَ براءةَ يوسفَ وجريمةَ
امرأتِه!..
قال تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) .
***
كيف دعا نوح على قومِه بالضلال؟
أَخبرَ القرآنُ عن نوحٍ - عليه السلام - أَنه دَعا على قومِه بالضلال، قال تعالى: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) .
واعتبرَ الفادي هذا خَطَأً في القرآن، لا يتفقُ مع نبوةِ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم - وبِرِّه.
ولذلك اعترضَ على القرآنِ قائلاً: " كيفَ يَدْعو نوحٌ ربَّه أَنْ يَزيدَ الناسَ
ضَلالاً؟
كما أَنَّ اللهَ ليس مصدرَ الضَّلال، ونوحٌ نفسُه لا يُحِبُّ الضَّلال؟(1/76)
والتاريخُ المُقَدَّسُ يَشْهَدُ له: " كانَ نوحٌ رَجُلاً بارّاً في أَجيالِه " (تكوين: 6/9) " (1) .
فَهِمَ الفادي الغبيُّ من الآيةِ أَنَ نوحاً يُحِبُّ ضَلالَ الناس، ولذلك دَعا اللهَ
أَنْ يَزِيدَهم ضَلالاً، ونَسَبَ الضلالَ إِلى الله، على أَنَّ اللهَ هو مصدرُ الضَّلال!
واعتبرَ هذا خَطَأً مُنْكَراً مَرْدوداً، ولذلك نَزَّهَ نوحاً عنه!.
إِنَّ نوحاً نبيّ رسولٌ، عليه الصلاة والسلام، وهو حَريصٌ على دعوةِ
الناس، ومحبٌّ لهدايتِهم، وهو لا يُحِبُّ ضَلالَهم وانحرافَهم، وقد بقيَ يدعو
قومَه أَلْفَ سنةٍ إِلّا خمسينَ عاماً، ولم يُؤْمِنْ معه إِلّا عَدَدٌ قليل.
متى دعا نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - على قومِه بالضلال؟.
بعد أَنْ أَخبرَه اللهُ أَنه لنْ يؤمنَ منهم إِلّا مَنْ قد آمَن، وأَمَرَهُ أَن يَصنعَ
السفينة.
قال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) .
وهذا مَعْناهُ أَنه مهما دَعاهم فلَنْ يُؤْمنوا به، لاختيارِهم الكُفْرَ والضَّلال،
مهما دَعاهم ورَغَّبَهم وحرصَ عليهم؟
فماذا يفعلُ بعدَ ذلك؟
ليس أَمامَه إِلّاْ الدعاءُ عليهم بالهَلاكِ والفناء.
قال تعالى: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
81- نوح يدعو للضلال
إن نوحاً - عليه السلام - قال لله تعالى: (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) ؛ فكيف يدعو نوح ربه أن يزيد الناس ضلالاً؟
الرد على الشبهة:
إن نوحاً لم يدع ربه أن يزيد الناس ضلالاً، وإنما دعا على الظالمين من الناس. ومثل ذلك: ما فى التوراة عن الأنبياء فإنهم دعوا على الظالمين، ولم يدعوا على كل الناس. ففى المزمور الثامن عشر: " من الرجل الظالم تنقذنى " - " مثل طين الأسواق؛ اطرحهم "، وفى الإنجيل يقول المسيح لله عن الذين آمنوا به: " احفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى " [يو 17: 11] ولم يدع للكل. اهـ (شبهات المشككين) .(1/77)
لم يكنْ نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - مخطِئاً في الدعوةِ على قومِه، لأَنه ما دَعا عليهم إِلّا بعدَ أَن اختاروا الكفْرَ والضَّلال، وأَصَرُّوا عليه..
لقد كفروا وضَلُّوا، وأَضَلُّوا
كثيراً، وكانوا دُعاةَ ضلالٍ وإِفسادٍ للآخَرين.
لقد دعا على الضالّينَ أَنْ يَزيدَهم اللهُ ضَلالاً، لأَنهم هم الذين أَرادوا
الضَّلالَ وطَلَبوهُ واخْتاروه، ودَعا على الكافرين أَنْ يُهلكَهم اللهُ ولا يُبقي منهم دَيّاراً، لأَنَّهم إِنْ بَقَوا فسوفَ يُضِلّونَ الآخَرين!.
وبذلك نَعرفُ أَنَّ نوحاً - صلى الله عليه وسلم - كانَ على صوابِ في دعائِه على القومِ الكافرينَ بالهلاك، وعلى القومِ الضّالّين بالزيادةِ من الضًّلال!.
***
هل نجا فرعون من الغرق؟
اعتبرَ الفادي القرآنَ مُتَناقضاً في حديثهِ عن نهايةِ فرعون، وهذا التناقضُ
خَطَأٌ، يَطعنُ في صحةِ القرآنِ!! (1) .
أَخبرَ القرآن أَنَّ اللهَ أَغرقَ فرعونَ في الماءِ.
قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) .
وأَخبرَ القرآنُ أَنَّ اللهَ أَنجى فرعونَ من الغرق؛ كما فهمَ القِسيسُ الفادي.
وذلك في قوله تعالىْ (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
82- فرعون ينجو من الغرق
إن فى القرآن تناقض فى نهاية فرعون. ففى سورة يونس: (فاليوم ننجيك ببدنك) (1) وهذا يدل على نجاته من الغرق، وفى سورة القصص: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم) (2) وهذا يدل على غرقه.
الرد على الشبهة:
إن المؤلف لم يفسر (فاليوم ننجيك ببدنك) على المعنى الظاهرى. وهو إبعاد الجثة عن الهبوط فى اليم، وتركها على الشاطئ حتى يضعها المحنطون فى المقبرة فيراها كل المصريين فيعتبروا ويتعظوا. وفسر على المعنى المجازى كناية عن إفلاته من الغرق. ووجّه الشبهة على المعنى المجازى وليس على المعنى الحقيقى.
والمعنى المجازى الذى به وجّه الشبهة؛ موجود فى التوراة عن فرعون. ففيها أنه لم يغرق، وموجود فيها ما يدل على غرقه. وهذا هو التناقض الذى نسبه إلى القرآن. وسوف نبين ما فى التوراة من التناقض عن غرق فرعون. ونسأله هو أن يوفق بين المعنيين المتناقضين. وما يجيب به فى التوفيق؛ يكون إجابة لنا.
ففى الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج: " فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذى دخل وراءهم فى البحر. لم يبق منهم ولا واحد " وفى الإصحاح الخامس عشر من نفس السفر: " تغطيهم اللجج. قد هبطوا فى الأعماق كحجر " وفى تفسير التوراة ما نصه: " ولا سبيل لنا هنا إلى الحكم بغرق فرعون، إذ لا دلالة عليه فى هذا النبأ، ولا من قول المرنِّم [مز 78: 53 و 106: 11] وساق المفسرون أربع حجج على عدم غرقه. ومعنى قولهم: إن قول المرنِّم لا يدل على غرقه هو: أن داود - عليه السلام - فى المزمور 78 والمزمور 106 قال كلاماً عن فرعون لا يدل صراحة على غرقه.
ونص 78: 3 هو " أما أعداؤهم فغمرهم البحر " ونص 106: 11 هو " وغطّت المياه مضايقيهم. واحد منهم لم يبق ".
هذا عن عدم غرق فرعون. وأما عن غرقه ففى المزمور 136: 15 " ودفع فرعون وقوته فى بحر يوسف؛ لأنه إلى الأبد رحمته " وفى ترجمة أخرى: " أغرق فرعون وجيشه فى البحر الأحمر إلى الأبد رحمته (3) " ومفسرو الزبور - وهم أنفسهم الذين صرحوا بعدم غرق فرعون - كتبوا عن فرعون: " فإن هذا الأخير قد حاول جهد المستطاع أن يرجع الإسرائيليين إلى عبوديتهم؛ فما تم له ما أراد، بل اندحر شر اندحار " انتهى.
ومن هذا الذى قدمته يكون من الواجب على المؤلف حل التناقض الموجود عنده فى أمر فرعون، قبل أن يوجه كلامه إلى القرآن. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) يونس: 92.
(2) القصص: 40.
(3) جمعية الكتاب المقدس فى لبنان سنة 1993م.(1/78)
فهل أَخطأَ القرآنُ في حديثِه عن نهايةِ فرعون؟
وهل تناقَضَ في إِخبارِه عن غرقهِ؟.
لقد كانَ كلامُ القرآنِ عن غرقِ فرعونَ وجنودِه واضِحاً صَريحاً مُحَدَّداً.
فلما لحقَ فرعونُ وجنودُه موسى - صلى الله عليه وسلم - وأَتْباعَه، أَمَرَ الله - عز وجل - موسى أَنْ يَضرِبَ البَحْرَ بعَصاه، وشَقَّ لهم طَرِيقاً في البَحْرِ يَبَساً، ولما لَحِقَهم فرعونُ وجنودُه أَطْبَقَ اللهُ عليهم البحر، فأَغْرَقَهم جميعاً.
قالَ اللهُ - عز وجل -: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) .
إن الضمير " هم " في قوله: (فَغَشِيَهُمْ) يعود على فرعون وجنوده.
وهذا تصريح بأن فرعون وجنوده أغرقوا جميعاً.
وقال - عز وجل -: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) .
وقال تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) .
ومن بابِ التأكيدِ على وفاةِ فرعونَ غَرَقاً نَصَّ القرآنُ على ذلك.
قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) .
لقد أُتِيَ القِسّيسُ الفادي من قِبَلِ جَهْلِه وغَفْلَتِه وغبائِه، فَفَهِمَ الآيَةَ فَهْماً
خاطِئاً، وخَرَجَ مِنها بغيْرِ ما سيقَتْ له! فَهِمَ من جملة: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أَنَّ اللهَ أَنجى فرعونَ من الغرَق، وخَرَجَ من البحرِ(1/79)
حَيّاً، وعادَ إِلى مملكتِه ليُواصِلَ حُكْمَها!! وهذا فَهْمٌ خاطئٌ للآية.
تُقَرّرُ الآيةُ غَرَق فرعونَ وموتَه، وتَصِفُ اللحظاتِ الأَخيرةَ من عمرِ
فرعون، قبلَ خُروجِ روحِه تحتَ الماء.
ومعنى (فلما أدركه الغرق) : لما أَحاطَ به الغَرَق من كلِّ جانب، وأَتاهُ
من كُلِّ مكان، من تحتِه وفوقِه، وعن يَمينِه وشِمالِه، ورأى الموتَ بعينَيْه،
وأَيْقَنَ بالهلاك..
عند ذلك أَعلنَ إِسلامه وإِيمانَه بالله، وصَرَّحَ قائلاً: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) .
ومن المعلومِ أَنَّ الإِيمانَ عند " الغرغرة " قُبيلَ خُروجِ الروحِ غيرُ مقبول،
ولذلك رَدَّ عليه مَلَكُ الموتِ المكلَّفُ بقبضِ روحِه قائلاً: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) ؟
وهذا معناهُ أَنَ إِيمانَ فرعونَ لم يَقْبَلْه الله.
وقُبيلَ قبض روحِ فرعون وهو تحتَ الماءِ قالَ له المَلَك: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) .
وليس معنى جملة: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) : اليومَ ننقذكَ من الغَرَق،
ونخرجُك حيّاً من تحتِ الماء.
إِنَّ مَعْناها: عندما تَخرجُ روحُك، ويُصبحُ جسمُك جُثَّةً هامدة، لن نتركَ
بَدَنَكَ يَسقطُ في الماءِ إِلى قاع البحر، ولَنْ نَجعلَ بَدَنَك طَعاماً لحيتانِ البحرِ
وأَسْماكِه - وبالذاتِ سمكُ القرشِ المفترسِ الذي يملأُ البحرَ الأَحمر - وإِنما
سَنُنَجّي بَدَنَك الهامِدَ الذي خرجَتْ منه الروح، وسنأمُرُ الحيتانَ أَن لا تَأكُلَه،
وسنَأْمُرُ الماءَ أَنْ يحملَك، وسنأمُرُ الموجَ أَنْ يُلْقِيَكَ على الشاطئ، وسيكونُ
بَدَنُك ناجياً هامداً، وسيكونُ مُلْقى على الشاطئ، وسيكونُ آيةً لِمَنْ خَلْفَك، وهم الأَحياءُ من جنودِك وقومِك، فعندما يُشاهدونَ بَدَنَكَ جثةً هامدة سيَعرفونَ أَنكَ لَسْتَ إِلهاً كما زَعَمْتَ، وإِنما أَنْتَ بَشَرٌ مخلوفٌ ضعيف، والأَصْلُ أَنْ يَعْتَبِروا ويَتَّعِظوا بذلك!.(1/80)
وبهذا نعرفُ أَنَّ القرآنَ لم يُخطئْ في حديثِه عن فرعون، ولم يَقَعْ في
تَناقُض، والْتَقَتْ آياتُه على تقريرِ حقيقةِ موتِ فرعونَ غَرَقاً، والاحتفاظِ بجثَّتِه، لتكونَ آيةً لمن خَلْفَه!!.
***
بين زكريا ومريم!!
أَخبرَ القرآنُ أَنَّ اللهَ جعلَ النبيَّ زكريّا - عليه السلام - يكفَلُ مريمَ - عليه السلام.
قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) .
واعتبرَ القِسّيسُ الفادي هذا خَطَأً تاريخيّاً وَقَعَ به القرآن، لأَنَّه يُناقضُ ما
في الكتابِ المقَدَّس - العهدِ القديمِ والعهدِ الجديد - والمعَتَمَدُ عند الفادي هو
ما في الكتابِ المقَدَّس طبعاً.
قال في تخطئِتِه للقرآن: " وهذا يُناقضُ وقائعَ التاريخ، فمريمُ ابنةُ عمران
- حسبَ التوراة - لم تتزوَّجْ ولم تَلِد، وهي أُخْتُ هارون، واسْمُ أُمِّها يوكابد..
والمرأةُ الوحيدةُ التي نذرَتْ ما في بطنِها هي حَنَّةُ، أُمُّ النبيِّ صموئيل..
ولم يَرِدْ أَنَّ زكريا كانَ يقيمُ في الهيكلِ في أُورشليم، حتى يكفَلَ مريمَ هناك،
لأَنَّ زكريا من حَبْرون، ولا يأتي ليخدمَ في الهيكلِ إِلَّا بالقرعة، ولمدةِ خمسةَ
عَشَرَ يوماً في السنة الوقا: 1/ 5 - 40) ، ولا يُقيمُ أَحَدٌ في المحراب أَو يدخلُ فيه إلّا رئيسُ الكهنة، مرةً واحدةً فقط في السنة، في يومِ الكفارةِ العظيم، بدمِ(1/81)
ذبيحة، ليُكَفّرَ عن خطايا الشعب (الملوك الأول: 6/8 و 8، و 16/9) .
ولم يكفَلْ زكريا مريمَ، لأَنها من سبْطِ يَهوذا، وزكريّا من سبْطِ لاوي
(عبرانيين: 7/ 14) وكان زكريا يُقيمُ في حَبْرون، بينما كانت مريمُ تقيمُ في
الناصرة.. " (1) .
المرجعُ عند الفادي هو الكتابُ المُقَدَّس، وهو عنده الحَكَم على كلِّ ما
سِواه، وما وَرَدَ فيه فهو الصحيحُ والصواب، وما خالَفَه فهو الخطأ!! ولذلك
هو " يُحاكمُ " القرآنَ إِلى كتابِه، وأَيُّ كَلامٍ في القرآنِ اختلفَ مع ما في كتابِه
فهو الخَطَأ..
وهو لا يُؤمنُ أَنَّ القرآنَ من عندِ الله، ولذلك يُجيزُ وُقوعَ القرآنِ
في الخَطأ، لأَنه كلامُ بَشَرٍ يُخطئُ ويُصيب!!.
وحاكَمَ ما وردَ في القرآنِ عن زكريّا ويحيى وعيسى - عليهما السلام -، وما وردَ عن نشأةِ مريمَ - عليها السلام - إِلى ما في كتابِه الذي يؤمنُ به، وذَكَرَ ما وردَ في كتابِه بهذا الموضوع، واعتبرَ القرآنَ مخطئاً في حديثِه عنه!.
ونعتقدُ أَنَّ ما يفعلُه القِسّيسُ الفادي خطأٌ منهجيٌّ وَقَعَ فيه، وخِلافُنا معه
خِلافٌ جَذْرِيٌّ أَساسيّ منهجي.
إِننا نوقنُ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وهو يُنكرُ ذلك، ونحنُ نوقنُ أَنه لا خَطَأَ
في القرآن، وهو يُثبتُ ذلك، ونحن نوقنُ أَنَّ اليهودَ حَرَّفوا التوراةَ في أَسفارِ
العهدِ القديم، وهو يَنفي ذلك، ونحنُ نُوقِنُ أَنَّ النَّصارى حَرَّفوا الإنجيل، وهو
يَنفي ذلك! ومرجعُنا القرآنُ، وهو يرفضُ أَنْ يكونَ مرجعاً لَهُ، ومرجعُه هو
الكتابُ المقدس ونحن نرفضُ أَنْ يكونَ مرجعَنا.
نرفضُ أَنْ يتعامَلَ الفادي مع القرآنِ على هذا الأَساس، ونرفضُ الأَحكامَ
التي يخرجُ بها من مقارنتِه بينَ القرآنِ والكتابِ المقَدَّس.
فالصوابُ هو ما ذَكَرَه القرآنُ عن ما يتعلقُ بمريمَ وزكريا - عليهما السلام -، وما قاله الكتابُ المقَدَّسُ مخالِفاً لما قالَه القرآنُ نجزمُ بأَنه خَطَأ.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
83- انتباذ مريم
إن فى القرآن: أن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقيًّا، واتخذت لها حجاباً من قبل أن تحبل بالمسيح. فلماذا انتبذت؟ هل كانت فى مشاجرة مع أهلها وهم المشهورون بالتقوى؟ ولماذا تسكن فتاة عذراء بعيدة عن أهلها؟
فى القرآن تناقض فى هذا المعنى. وهو أنه صرح بأنها كانت فى المحراب فى كفالة زكريا، وصرح بأنها انتبذت. أى خرجت منهم بعد مشاجرة.
وقال المؤلف: إن القرآن قد خالف الإنجيل فى مكان سكناها من قبل الحبل بعيسى - عليه السلام - ففى القرآن: أنها كانت تسكن فى محراب أورشليم، أو فى أى مكان مجهول. وفى الإنجيل أنها كانت تسكن فى " الناصرة " [لو 1: 26 - 23] .
الرد على الشبهة:
1 - جاء فى إنجيل يعقوب: أن مريم وهى فى سن الثالثة: ذهبت بها أمها بصحبة أبيها إلى " أورشليم " وسلماها إلى كهنة هيكل سليمان، وكانت علامات السرور تبدو عليها. ثم تركاها ورجعا إلى أورشليم، وعاشت مع الراهبات المنذورات إلى أن حبلت.
2 - وإن أنت نظرت فى خريطة فلسطين. تجد حبرون أسفل أورشليم وقريبة منها، وتجد الناصرة على نفس الخط وبعيدة عن أورشليم. فتكون أورشليم غرب الناصرة، وشرق حبرون.
3 - وفى الإنجيل: " وفى ذلك الوقت ولد موسى وكان جميلاً جدَّا. فربى هذا ثلاثى أشهر فى بيت أبيه. ولما نُبذ؛ اتخذته ابنة فرعون، وربته لنفسها ابناً " [أعمال 7: 21]
قوله " ولما نبذ " لا يدل على أن أهله كرهوه وإنما يدل على أنهم وضعوه فى التابوت وهم لوضعه كارهون. ومن ينتبذ عن قوم؛ لا يدل انتباذه عنهم على كرهه لهم، وإنما يدل على ابتعاده عنهم لسبب أو لأسباب. وإذ صح وثبت أن ابتعادها عنهم كان لعبادة الله؛ يثبت أنها لم تنتبذ لمشاجرة.
4 - وقد تبين أن " الناصرة " من نصيب سبط زبولون - وهو من أسباط السامريين - وهى من سبط يهوذا - على حد زعمه - فكيف تكون من سكان الناصرة؟ وإذا كانت من سكان الناصرة، فلماذا أتت إلى أورشليم لتعدّ مع سكانها. وسكان أورشليم من سبطى يهوذا وبنيامين؟ فالحق ما قاله القرآن أنها كانت هارونية. ومعلوم أن زكريا وامرأته ويوحنا المعمدان كانوا من التابعين لأهل أورشليم. اهـ (شبهات المشككين) .(1/82)
يَقولُ الفادي معتَمداً على الكتاب المقَدَّس: المرأةُ التي نَذَرَتْ ما في
بطنها هي " حَنَّةُ " أُمُّ صموئيل..
وهذا كلامٌ نتوقَّفُ نحنُ فيه، فلا نَنْفيه ولا نُثبتُه، واللهُ أَعلمُ بصحَّتِه..
وقد أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ المرأةَ التي نَذَرَتْ للهِ ما في بطنِها هي امرأةُ عمران.
قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) .
لم يذكر القرآنُ اسمَ امرأةِ عمران، كما أَنه لم يَرِدْ ذكْرٌ لها في الحديثِ
الصحيحِ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو من " مُبهماتِ القرآن " التي لا نُحاولُ بَيانَها، ونقول: اللهُ أَعلمُ باسْمِها.
كانت امرأةُ عمرانَ صالحةً عابدةً لله، ولما كانَتْ حامِلاً نَذَرَتْ ما في
بطنِها خالِصاً لله، ولا نعرفُ مُلابساتِ هذا النَّذْر، وكأَنها كانتْ تَتَمَنّى لو كانَ ما في بطنِها ذَكَراً، ولما وَضَعَتْ حَمْلَها كانت أُنثى، فاستمرَّتْ على نَذْرِها، وجعلت المولودةَ الأُنثى لله، وسَمَّتْها مريم، ودَعَت اللهَ أَنْ يَحفظَها ويَرْعاها.
فمريمُ هي ابنةُ عمران بنصِّ القرآنِ.
قال تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) .
ونفى القسيسُ الفادي ما وردَ في القرآن، فمريمُ عِنْدَه هي " مريمُ بنةُ
عمرام "، بالميم وليس بالنّون، ولها أَخ اسْمُه هارون، واسْمُ أُمِّها يوكابد..
وهذا كلامٌ نتوقفُ نحن فيه، كلُّ ما نقولُه: مريمُ التي نعرفُها هي مريمُ بنةُ
عمران، ولا نعرفُ اسْمَ أُمِّها التي نَذَرَتْها لله، ولها شقيق اسْمُه هارون.
ويَرى الفادي أَنَّ زكريّا من سَبْطِ لاوي، ومريمَ من سَبْطِ يهوذا، فلا قرابةَ
ولا صلةَ بينَها وبينَه، فكيفُ يكفَلُها؟ !.
وهذا كلامٌ نتوقَّفُ فيه، فلا نَعرفُ السَّبْطَ الذي يَنتسبُ له النبيُّ زكريّا - عليه السلام -، ولا الذي تنتسبُ له مريمُ - عليها السلام -، لعدمِ ذكْرِه في مصادِرِنا الإِسلاميةِ الصحيحة.(1/83)
ويرى الفادي أَنَّ زكريا من حَبْرون - الخليل - وأَنَّ مريمَ كانت تُقيمُ في
الناصرة شمالَ فلسطين، والمسافةُ بينَهما بعيدة، فكيفَ يكفَلُها؟!.
وهذا كلامٌ نتوقَّفُ فيه أَيضاً.
الذي نقولُ به هو ما وَرَدَ في القرآن، من أَنَّ اللهَ حفظَ مريمَ - عليها السلام -، وأَنَّ العابِدينَ تَنازَعوا فيها، كلُّهم يريدُ أَنْ يكفَلَها، فاقْتَرَعوا قرعة، على أَنْ يُلقوا أَقلامَهم، وفازَ زكريا بالقُرعة، وبذلك قامَ بكفالتِها، وبقيتْ في كفالتِه حتى كبرت.
قالَ تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) .
وقال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) .
وتَدُلُّ مصادرُنا الإِسلاميةُ على وُجودِ صلةِ قرَابةٍ بينَ مريمَ وزكريا، فقد
أَخبرنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ عيسى ويَحيى - عليهما السلام - أَبناءُ الخالة، وهذا معناهُ أَنَّ أُنَّ يحيى وأُمَّ عيسى أُخْتان، فامرأةُ زكريا - عليه السلام - هي أُختُ مريم الكبرى، وبكفالة
زكريا مريمَ تكونُ مريمُ قد عاشَتْ عند أُخْتِها، لِتَرعاها وتتعهدَها!! (1) .
***
حول انتباذ مريم مكاناً شرقيّاً
أَخبرنا اللهُ في القرآنِ أَنَّ مريمَ انتبذَتْ من أَهلِها مكاناً شرقيّاً.
قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) .
ورفضَ الفادي هذا الكلامَ، واعترضَ عليه، وقال بتهكُّمٍ وسخرية:
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علما جما نافعًا وعملا صالحًا؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير [وغيرهما] (7) وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصحيح: "فإذا بِيحيى (8) وعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ"، وقد يُطْلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا تَوسُّعا، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها. اهـ (تفسير ابن كثير. 2 / 35)(1/84)
" لا يَذكرُ القرآنُ لماذا انبتذَتْ مريمُ العذراءُ من أَهلِها مكاناً شرقيّاً، واتخذَتْ من دونِهم حجاباً، قبلَ أَنْ تُبَشَّرَ بعيسى..
هل كانَتْ في مشاجرةٍ مع أَهلِها، وهم المشهورونَ بالتقوى؟
ولماذا تسكنُ فتاةٌ عذراءُ بَعيداً عن أَهْلِها، مع أَنَّ القرآنَ
يقولُ: إِنها كانَتْ في المحرابِ في كَفالةِ زكريا؟
ويقولُ الإِنجيلُ: إِنَّ مريمَ كانَتْ في الناصرة، وهيَ مخطوبةٌ ليوسفَ النجار ".
يُنكرُ الفادي أَنْ تَكونَ مريمُ - عليها السلام -قد انتبذَتْ من أَهْلِها مكاناً شرقياً، فلماذا تبتعدُ عنهم؟
هل اختلَفَتْ معهم؟
وهل طَردوها؟
وكيفَ ترضى أَنْ تبتعدَ عن الناس، وأَنْ تبقى وحيدةً وهي الفتاةُ العذراء؟
أَلا تخشى أَنْ يَبطش بِها أَو يَعتديَ عليها أَحَدُهم؟
وكيفَ قالَ القرآنُ في سورةِ مريم: إِنها انتبذَتْ من أَهْلِها
وابتعَدَتْ عنهم، مع أَنه هو نفسه أَخبرَ في سورةِ آلِ عمران أَنها كانتْ في
المحرابِ عند زكريا كفيلِها؟.
وتساؤلاتُ واعتراضاتُ الفادي لا معنى لها، والقرآنُ لم يَتناقَضْ في
حديثِه عن مريمَ - عليها السلام -.
أَخبَر في سورةِ آلِ عمران أَنَّ اللهَ كَفَّلَها زكريا وهي طفلة، وهو زوجُ
أُخْتِها كما ذكرنا، فنشأَتْ عنده - صلى الله عليه وسلم -، وكانتْ عابدةً لله في محراب بيتِه ومكانِ صلاتِه، بينما كان يُؤَمِّنُ لها حاجتَها من الطعام.
قال تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) .
وكانتْ مريمُ متفرغةً للعبادة، حيث ملأَتْ عليها وقْتَها، وأَنفقَتْ فيها
عُمْرَها، فلم تَلتفتْ إِلى غيرها.
ولعَلَّها لأَجْلِ هذه الغاية كانت تَنتبذُ عن أَهْلها، وتَذهبُ إِلى مكانٍ
هادِئ، تعتزلُ فيه مُتعبدة، وكان أَهْلُها يَعرفونَ ذلك، وكانوا عابِدين صالحين،(1/85)
وكانوا يَقومونَ على رعايتِها وحمايتِها وحراستِها، ويُهَيِّئونَ لها جَوَّ العبادةِ، في المكانِ القَصِيّ الشرقي، الذي اختارَتْه شرقى مكانِ إِقامةِ أَهْلها، والذي كانت تتخذُ فيه من دونِهم حجاباً.
فهي لم تكنْ بعيدةً عن عُيونِ وحمايةِ أَهْلِها، ولم تكنْ فتاةً وحيدةً في
مكانٍ بعيد، عرضَةً للخطرِ والأَذى، إِنما كانَ أَهْلُها حارِسينَ لها مُحافظينَ
عليها.
ولم يُحَدِّد القرآنُ - ولا الحديثُ الصحيح - المدينةَ التي كانَتْ تُقيمُ فيها
مريمُ عابدةً لله، ولم يُحَدِّد المكانَ الشرقيَّ الذي كانتْ تعتزلُ فيه لعبادةِ الله،
ولم يُحدد المدةَ التي أَقامَتْها في ذلك المكان.
كلُّ هذا من مبهماتِ القرآن التي لم يَرِدْ بيانا لها في مصادرِنا الإِسلامية..
أَما ما قالَه الفادي من أَنَّ مريمَ كانتْ تُقيمُ في الناصرة، في شمالِ
فلسطين، فهذا مما نتوقَّفُ فيه، فلا نُكَذِّبُه ولا نُصَدِّقُه، لعدمِ ورودِ دليلٍ عليه عندنا..
كذلك نتوقَّفُ في ادِّعائِهِ أَنَّ مريمَ - عليها السلام - كانتْ مخطوبةً ليوسفَ النجار!!.
***
حول ولادةِ مريم وكلام وليدها
أَخبرَنا اللهُ أَنه بَعدما نفخَ جبريلُ في مريمَ - عليها السلام -، حَمَلَتْ بعيسى - عليه السلام -، وابتعدَتْ عن أَهْلِها مكاناً قصيّاً، وهُناكَ وَضَعَتْ وَليدَها تحتَ نَخْلَة، وأَنَّ اللهَ أَنطقَه وهو في الدقائقِ الأُولى من عمرِه، وأَرشدَها إِلى التصرفِ المناسب.
قال تعالىْ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .(1/86)
ورفضَ الفادي ما وردَ في القرآن، واعتبرَهُ خطأً تاريخيّاً، لمخالفتِه ما
وَرَدَ في كتابه المقدس.
قال: " لقد وَلَدَتْ مريمُ السيدَ المسيحَ في بيت لحم، كما تَنَبَّأَ أَنبياءُ التوراةِ بذلك قبلَ حدوته بمئات السِّنين، وليسَ بجوار جِذْع نخلة!..
وَوَضَعَتْ وَليدَها في مِذْوَد ألوقا: 2/ 1 - 20، وغَريبٌ أَنْ يُكَلّمَها
وَليدُهَا من تحتِها: أَنْ تَهُزَّ جذْعَ النخلة، وتأكلَ من البَلح، وتشربَ من
الجدول، فإِذا مَرَّ بها أَحَدٌ تقول: إِني نذرتُ للرحمنِ صَوْماً فلن أُكَلِّمَ اليومَ
إِنْسِيّاً! فأَينَ الصومُ وهي الآكلةُ الشاربةُ المتكلمة؟ ! " (1) .
يَرى النَّصارى أَنَّ مريمَ وَلَدَتْ عيسى - صلى الله عليه وسلم - في بيت لحم..
ووردَ حديثٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى..
روى النَّسائيُّ عن أَنَسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " أُتيتُ بدابَّةٍ فوقَ الحمار، ودونَ البَغْل، خَطْوُها عندَ مُنْتَهى طَرْفِها، فركبْتُ، ومعي جبريل - عليه السلام -..
فَسِرتُ..
فقال: انْزِلْ فَصَلّ.
فنزَلْتُ فصلَّيْتُ..
فقال: أَتَدري أَينَ صَلَّيْتَ؟
صَلَّيْتَ بطَيْبَة، وإِليها المُهاجَر..
ثم قال: انزِلْ فَصلِّ.
فنزلْتُ فصلَّيْتُ..
فقال: أَتَدري أَينَ صَلَّيْتَ؟
صَلَّيْتَ بطورِ سيناء، حيثُ كَلَّمَ اللهُ - عز وجل - موسى - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: انْزلْ فَصَلِّ..
فنزلْتُ فصَلَّيْتُ..
فقال: أَتَدْري أَيْنَ صَلَّيْتَ؟.
صَلَّيْتَ ببيت لحم، حيثُ وُلِدَ عيسى - صلى الله عليه وسلم -..
ثم دخلْتُ بيتَ المقدِس، فَجُمِعَ لي الأَنبياءُ - عليهم السلام -، فقدَّمَني جبريلُ حتى أَمَمْتُهم ".
يُخبرُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المحطّاتِ التي مَرَّ بها في ليلةِ الإِسراء، عندما أُسْرِيَ به من مكةَ إِلى بيتِ المقْدِس، حيثُ أَمَرَهُ جبريلُ - عليه السلام - أَنْ يَنزلَ ويُصلِّيَ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
84- مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها
لقد ولدت مريم السيد المسيح فى بيت لحم كما تنبأ أنبياء التوراة بذلك قبل حدوثه بمئات السنين، وليس بجوار جذع نخلة. ووضعت مريم وليدها فى مذود [لوقا 2: 2 - 20] وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها: أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول. فإذا مرّ بها أحد تقول: (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) (1) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة؟
الرد على الشبهة:
1 - ولادة المسيح فى بيت لحم - كما قال المؤلف - تدل على أن مريم من سكان الخليل التى هى حبرون، ولا تدل على أنها من سكان الناصرة. ففى خريطة فلسطين تجد بيت لحم تحت أورشليم، وبعدها حبرون. وعلى هذا تكون مريم بعد حملها بالمسيح وإحساسها بدنو الوضع. قد اتجهت إلى حَبرون (فأجاءها المخاض (عند بيت لحم. ولو كانت من الناصرة وأحست بالحمل وبالوضع. لاتجهت إلى الناصرة. وعندئذ يكون الوضع فى مكان بين أورشليم وبين الناصرة. فقولهم بالمخاض فى بيت لحم يصدق القرآن فى أنها كانت من نسل هارون الساكنين فى حبرون.
2 - وقول المعترض: إن التوراة تنبأت بولادة المسيح فى بيت لحم. يقصد به ما جاء فى سفر ميخا وهو " أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكونى بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل " [ميخا 5: 2] .
والنبوءة موضوعة وليست من النص الأصلى. بدليل: أن المسيح كان من الهارونيين من جهة أمه، وبيت لحم من مدن سبط يهوذا. ولو كان له أب لأمكن للنصارى نسبته إلى سبط أبيه. ولكنه لا أب له؛ فكيف ينتسب إلى سبط يهوذا أو غير سبط يهوذا؟ وبدليل: أن المتسلط على إسرائيل وهو النبى الأمى الآتى على مثال موسى. يكون ملكاً وفاتح بلاد. ولم يكن المسيح ملكاً ولا فاتح بلاد.. وبدليل: أن سفر ميخا مرفوض من السامريين. وبدليل أن شراح سفر ميخا يصرحون بالتناقض فيه. والنبوءة من مواضع التناقض التى صرحوا بها. يقول الشراح: "هناك تعليمان متشابكان فى كتاب ميخا: الأول: الله يدين شعبه ويعاقبه [ف1 - 3: 6: 1 - 7: 7] الله يعد شعبه بالخلاص [ف 4 - 5 و 7: 8 - 20] حين يُعيده إلى حاله السابقة ويجعله بقيادة رئيس من نسل داود [5: 1 - 4] .
3 - وقد جاء فى إنجيل متى الأبوكريفى معجزة النخلة.
4 - وكلام المسيح فى المهد جاء فى برنابا وفى إنجيل الطفولية العربى، وجاء فى تاريخ يوسيفوس.
5 - وقال المعترض: إن المسيح كلم أمه من تحتها: أن تهز جذع النخلة.. إلخ. وهو قد قال بذلك على قراءة " مِن تحتها " والحق: أن الذى ناداها هو ملاك الله نفسه. وسياق الكلام يدل على أنه الملاك. فإنه قد قال لها: (كذلك قال ربك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً) (2) ، ولما حملته وانتبذت به وأجاءها المخاض وتمنّت الموت؛ عاد إلى خطابه معها فقال: (ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلى واشربى وقرى عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) (3) .
وأما كلام المسيح فهو لم يقل إلا (إنى عبد الله أتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حيًّا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقيا والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) (4) .
6 - المعترض قد غالط فى نقل المعنى بقوله: " وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها: أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول؛ فإذا مر بها أحد تقول: (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) (5) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة؟ ".
ووجه المغالطة: أنه يقول فإذا مر بها أحد تقول.. إلخ. والمعنى الصحيح: أنها لا تقول لكل أحد يمر عليها إنها صائمة عن الطعام والشراب. وإنما تقول: لا أتكلم مع أحد فى أمر ابنى فى هذه الأيام. فجملة (فإما ترين من البشر.. (جملة مستأنفة لا صلة لها بالطعام وبالشراب. وقولها: (إنى نذرت للرحمن صوما (تعنى به المعنى المجازى وهو الإمساك عن الكلام بدليل: (فلن أكلم (ولم تقل فلن آكل. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) مريم: 26.
(2) مريم: 21.
(3) مريم: 24 - 26.
(4) مريم: 30 - 33.
(5) مريم: 26.(1/87)
في المدينة، التي سيهاجِرُ إِليها، وسيَموتُ ويُدْفَنُ فيها..
وأَنْ يَنزلَ ويُصَلِّيَ في طورِ سيناء، حيثُ كَلَّمَ اللهُ نبيَّه موسى - صلى الله عليه وسلم -..
وأَنْ يَنزلَ ويُصَلِّيَ في بيتِ لحم، حيثُ كانَتْ وِلادةُ عيسى - عليه السلام -..
ولم تَتَحدث الأَناجيلُ عن النخلةِ التي وَلَدَتْ مريمُ ابْنَها عيسى تحتَها،
ولذلك خَطَّأَ الفادي القرآنَ في حديثِه عن النخلَة، وأَنكرَ أَنْ يُكَلِّمَها ابْنُها من
تحتِها، ويُوَجِّهَها إِلى التصرفِ المناسِب!!.
ومَعنى قولِه تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) :
جاءَ المَخاضُ بمريمَ إِلى جِذْعِ النخلة، واضطرَّها إِلى القُدوم، وأَكْرَهَها على المجيء.
والمخاض: آلامُ الطَّلْقِ التي تَأخُذُ المرأة، عندما تَدْنو ساعَةُ ولادتِها!..
وكَأَنَّ هذا المخاضَ شَخْصٌ قوِيّ شَديد، يُخضعُ مريمَ له إِخْضاعاً ويَدْفَعُها
دَفْعاً، ويُكْرِهُها ويَضْطرُّها، ويَجعلُها تَسيرُ أَمامَه مُضطرة، إِلى أَنْ تَستندَ إِلى
جِذْعِ النخلة، وتعمدَ عليها..
وجِذعُ النخلة الذي تَقومُ عليه..
وإِضافةُ الجِذْعِ إِلى النخلةِ تَدُلُّ على أَنها نخلةٌ حيةٌ خضراءُ نامية، وليس جُزْءاً مقطوعاً يابساً ملقىً على الأَرض..
وما هي إلّا لحظاتٌ قصيرةٌ قَضتْها مريمُ تحتَ جذعِ النخلة، حتى وَلَدَتِ
انْبنها: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) .
وما هي إِلَّا لَحظاتٌ حتى خاطَبَها ابنُها الذي أَنْطَقَه الله، فَكَلَّمَها
بوضوح..
قال تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
استغربَ الفادي أَنْ يُكَلمَ الوليدُ أُمَّه بعدَ لحظةٍ من ولادته، لأَنَّ هذا لا
يكونُ في عالَمِ المواليد! ومَن الذي قالَ: إِنَّ كلامَه لها كان كَلاماً عاديّاً مَألوفاً
معتاداً، حتى يَستغربَ ذلك؟ ! (1) .
__________
من العجيب أن ينسب القرآن ذلك إلى المسيح على سبيل المعجزة، والنصارى يستبعدون كلامه في المهد، مع قولهم بألوهيته!!!.(1/88)
لقد كانَ الوليدُ معجزةً خارقةً للعادة، واللهُ هو الذي أَنطقَه، وبما أَنَ هذا
من أَمْرِ اللهِ فلا غرابةَ فيه، لأَنَّ اللهَ فَعّالِّ لما يُريد، وإِذا كانَ كلامُه لأُمِّه بعدَ
لحظةٍ من ولادتِه أَمراً مُدْهِشاً، فإِنَّ حَمْلَها به من غيرِ أَبِ، وولادتَها له بعدَ
ساعاتٍ من حَمْلِها به هو الأَكثرُ دهشة! فلماذا صَدَّقَ الفَادي بالثاني الأَكثرِ
دهشةً وأَنكرَ الأَوَّل؟!.
وقد يُكَذِّبُ بعضُهم القرآنَ في حديثِه عن النخلة، التي وَلَدَتْ مريمُ ابْنَها
تَحْتَها، بزعْمِ أَنَّ مدينةَ بيت لحم ليستْ مدينةَ نخل، لأَنها منطقةٌ باردةٌ نسبيّاً،
والنخلُ يَحتاجُ إِلى أَرضٍ دافئة.
واتفقَ الإِخباريّون على أَنه كانتْ في كنيسةِ المهْدِ في بيت لحم نخلةٌ
كبيرة، وهذه النخلةُ ماتَتْ وقُطعتْ فيما بعد.
ومَرَّ الشيخُ عبدُ الوهّاب النجارُ مؤلِّفُ كتابِ " قَصَصِ الأَنبياء " بكنيسةِ
المهدِ في مطلعِ القرنِ العشرين.
قال: " وأَقولُ أَيضاً: إِنَّ وُجودَ النخلِ ببيت لحم - وهي البلدةُ التي كانتْ بها مريمُ يومَ ولادهِ المسيح - نادر..
وقد رأيتُ بكنيسةِ بيت لحم المبنيةِ على موضعِ ولادةِ المسيح مكاناً قد " قُوِّرَ " البَلاطُ فيه..
ويقولون: إِنَّ في موضعِ هذا التقويرِ كانت النخلةُ التي وَلَدَتْ عندَها
مريمُ..".
وأَخبرَنا اللهُ أَنَّ الوَليدَ عيسى خاطبَ أُمَّه قائلاً: (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
السَّرِيّ هو جدولُ الماء.
فاللهُ أَنبعَ لمريمَ عينَ ماءٍ إِكراماً لها، ودَعا الوليدُ أُمَّهُ إِلى رؤيةِ ذلك السَّرِيّ، والشربِ من مائِه.
كما أَنه دَعاها إِلى أَنْ تَهُزَّ جِذْعَ النخلة، فيتساقَطَ عليها الرطبُ الناضج، فتأكلَ منه.
ويَعتقدُ النَّصارى أَنَّ ولادةَ عيسى - صلى الله عليه وسلم - كانَتْ في شهرِ كانونِ الأَول، أَيْ(1/89)
في الشتاء، ومن المعلومِ أَنه لا يَكونُ على النخلِ بَلَحٌ ولا تَمْرٌ ولا رُطَبٌ في
الشتاء، لأَنَّ البلحَ ينضجُ في الصيْف، وقد يَستغربُ بعضهم وُجودَ رُطَبِ على النخلةِ التي لجأَتْ مريمُ إِليها!.
والراجحُ أَن اللهَ أَثمرَ النخلةَ إِثْماراً مُعْجِزاً، إِكراماً لمريم، مثلَ ما أنبعَ
لها عينَ الماء، فمن المتفقِ عليه أَنَّ النخلةَ لا تُثمِرُ في الشتاء، ولكنَّ اللهَ جَعَلَ
تلك النخلةَ تُثمر، وجَعَلَ تَمْرَها رُطَباً، واللهُ سبحانه فَعّالٌ لما يُريد.
واعترضَ الفادي لغَبائِه على قولِه تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
وحملَ الصومَ في الآيةِ على الصيامِ المعروف، الذي هو الإِمساكُ عن الطعامِ والشراب.
ولذلك تساءَلَ بغَباء: " فأينَ الصومُ وهي الآكلةُ الشاربةُ المتكلمة؟ ! ".
الصومُ هنا ليس بمعنى الإِمساكِ عن الطعام والشراب، وإِنما هو بمعنى
الإِمساكِ عن الكلام، وهو ما تُفَسرُه بقيةُ الآية: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ..
فصومُها بامتناعِها عن تكليمِ أَيّ إِنسان.
وهي لم تنطقْ بهذه الجملة: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) بلسانِها، إِذْ إنها لو نطقَتْ بها لما كانَتْ صائمةً عن الكلام..
وإِنما كانَتْ توحي للذي تراهُ بإِشاراتِ يَدَيْها ومَلامحِ وجْهِها، بحيثُ يَفهمُ منها أَنها صائمةٌ عن الكلام..
واعتبرت الآية ُ هذه الإِشاراتِ المفهمةَ قَوْلاً: "فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي) .
ولماذا امتناعُها عن الكلام؟
لأَنها في موقفِ تُهْمَة، ومهما تَكَلَّمتْ فلن يسمعوا لها.
ولقد أَنطقَ اللهُ وَليدَها ليُدافعَ عنها.
ولذلك لما وَصَلَتْ قومَها، وفوجئوا بالغلامِ على حِضنِها، ولاموها مُتَعَجّبين، لم تَتكلمْ بكلمة، وإِنما أَشارتْ إِليه، فتكلَّمَ هو وسْطَ ذُهولِ المستمعين.
قال تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) .(1/90)
فلا خَطَأَ في ما قالَه القرآنُ عن ولادةِ مريم، وإِنما أَفهامُ الفادي وقومِه
هي القاصرة، لأَنها لم تُحسنْ فهمَ الآياتِ المتحدثةِ عن مريمَ وابنِها - عليهما السلام.
***
هل لكلِّ أمةٍ رسول؟
أَخبرَ اللهُ أَنَّه بعثَ لكلِّ أُمَّةٍ من السابقين رسولاً من أَنفسهم.
قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) .
وقال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) .
ويَعترضُ القسيسُ الفادي على هذه الآيات، التي تقررُ هذه الحقيقة،
ويَعتمدُ في اعتراضِه على الكتابِ المقَدَّس، الذي يقولُ بعكْسِ ذلك، قال:
" تقولُ هاتان السورتانِ المكيَّتان: إِنَّ اللهَ أَرسلَ في كلِّ أُمَّةٍ نبياً منها إِليها.
ويقولُ الكتابُ المقَدَّس: إِنَّ الأَنبياءَ والرسلَ هم من بني إِسرائيل، إِليهم وإِلى
كلِّ العالَم..
فإذا صَدَقَتْ أَقوالُ القرآنِ، فكيفَ لم يُخرجْ للأُممِ في إفريقية
وأَوروبة وأَمريكة وأسترالية وآسية أَنبياءَ منهم وإِليهم؟
ولو كانت لهذه الأُمم أَنبياءُ منها وإليها، لجازَ أَنْ يكونَ للعربِ رسولٌ منهم! " (1) .
يَزعمُ المفْتَري أَنَّ الرسلَ والأَنبياءَ محصورون في بني إِسرائيلَ فقط، فلم
يَبْعث اللهُ رَسولاً ولا نبيّاً من غيرِهم!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
85- لكل أمة رسول منها إليها
إنه جاء فى القرآن أن لكل أمة رسول منها. وهذا يناقض الكتاب المقدس فى أن الأنبياء والرسل هم من بنى إسرائيل وإليهم وإلى كل العالم. فإذا صدق ما فى القرآن فكيف لم يخرج للأمم فى إفريقيا وأوروبا وأمريكا واستراليا وآسيا: أنبياء منهم وإليهم؟ ولو كان لهذه الأمم أنبياء - منها وإليها - لجاز أن يكون للعرب رسول منهم.
الرد على الشبهة:
إن كلمة الرسول تأتى على الحقيقة وتأتى على المجاز. فعيسى - عليه السلام - رسول على الحقيقة. وإذا هو أرسل واحداً من الحواريين إلى قرية من القرى فإنه يكون رسول رسول الله عيسى على المجاز. ففى إنجيل متى: " هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً: " إلى طريق أمم لا تمضوا.. " [متى 10: 5] .
وابتداء الدعوة إلى الله كان فى زمن أنوش بن شعيث بن آدم؛ لقوله: " حينئذ ابتُدئ أن يُدعى باسم الرب " [تك 4: 26] وظل الحال على هذه الدعوة التى كانت دعوة إلى مكارم الأخلاق وعدم سفك الدماء ظلماً إلى زمان نوح - عليه السلام - ولم يكن من المطعومات شىء محرم فلما خرج نوح من السفينة أعطاه الله شريعة فيها أن كل الطعام حلال، وأن يحب المرء لأخيه ما يحبه هو لنفسه، وليس فيها شريعة تبين أن هذا حلال وهذا حرام. ففى الإصحاح التاسع من سفر التكوين: " كل دابة حية تكون لكم طعاماً. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع.. " وظلت شريعة نوح سائدة على العالم إلى أن جاء موسى - عليه السلام - وأعطاه الله التوراة (موعظة وتفصيلاً لكل شىء (وأمره أن يخصص سِبط لاوِى من بين الأسباط ليعرفها ويعرّفها للناس.
وهذا الذى ذكرته هو ما يقول به أهل الكتاب جميعاً، ونص عليه أهل الكتاب فى كتبهم. وعنه فى القرآن الكريم: (كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل) (1) وهو حلال من أيام نوح - عليه السلام - وعلى ذلك نسأل المؤلف هذا السؤال وهو أن الناس من آدم أبى البشر إلى موسى الكليم كانت رسلهم من بنى إسرائيل أم من غير بنى إسرائيل؟ إن قلت إن رسلهم كانت من بنى إسرائيل يكذبك الواقع والكتب التى تقدسها، وإن قلت كانت من غير بنى إسرائيل فلماذا وجهت السؤال إلى المسلمين؟
أما من موسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن علماء بنى إسرائيل من اللاويين والهارونيين كانوا يبلغون التوراة لليهود وللأمم، وإذا انطلق واحد منهم إلى الأمم؛ فإنه يكون رسولاً إلى الأمم. ليس على الحقيقة، وإنما على المجاز بمعنى أنه رسول رسول الله موسى - عليه السلام - وظلوا على هذا الحال إلى زمان سبى بابل سنة 586 ق. م فإنهم وهم فى بابل حرفوا التوراة، وقصروا شريعة موسى على اليهود من دون الناس، وابتعدوا عن دعوة الأمم، وتعصبوا لجنسهم وتآمروا على الأمم (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل) (2) .
ومن قبل سبى بابل كان علماؤهم يدعون العرب إلى الله على وفق شريعة موسى. فيكون العالم الداعى رسولاً مجازاً. وهكذا فى سائر بلاد العالم. أما من بعد السبى وتخلى العلماء عن الدعوة فإن كل أمة سارت على ما عندها من العلم. وقد وبخهم المسيح عيسى - عليه السلام - على إهمالهم فى دعوة الأمم بقوله: " لكن ويل لكم أيها الكتبة والفَرِّيسِيُّون المراءون؛ لأنكم تُغلقون ملكوت السماوات قدام الناس؛ فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون " [متى 23: 13] .
ثم حث أتباعه بالانطلاق إلى بلاد اليهود أولاً بأمرين هما أن يعملوا بالتوراة، وأن يستعدوا لتركها إذا ما ظهر محمد رسول الله الذى يبشر به. وإذا فرغوا من دعوة اليهود فى بلادهم ينطلقون إلى الأمم، وسماهم رسلاً مجازاً. فقال: " إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرىّ إلى حُراف بيت إسرائيل الضالة. وفيما أنتم ذاهبون، اكْرِزوا قائلين: " إنه قد اقترب ملكوت السموات " [متى 10: 5] . وملكوت السماوات هى مجئ محمد صلى الله عليه وسلم بعد مملكة الروم كما أنبأ النبى دانيال فى الإصحاح السابع من سفره. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) آل عمران: 93.
(2) آل عمران: 75.(1/91)
وهذا كذِبٌ على اللهِ - عز وجل -، واتِّهامٌ له بالظلم.
فإِذا كانَ كلامُه صحيحاً فماذا يقولُ في الأُممِ الذينَ عاشوا وماتوا قبلَ وُجودِ بني إِسرائيلَ في التاريخ؟
هل بَعَثَ اللهُ لهم نبيّاً إِسرائيليّاً قبلَ أَنْ يَخلقَ اللهُ بني إِسرائيلَ؟
هل بَعَثَ اللهُ لقومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والبابليّين والكنعانيّين والمصريّين أَنبياءَ من بني إِسرائيل؟
وهؤلاءِ الأَقوامُ كانوا قبلَ بني إِسرائيل؟
أَمْ أَنَّ اللهَ لم يَبعثْ لهم رسولاً قط؟
وبعدما خَلَقَ اللهُ بني إِسرائيل هَلْ بَعَثَ اللهُ أَنبياءَ إِسرائيليّين للأَقْوامِ الآخَرين، كالفرسِ والرومِ واليونانِ والهنودِ والصينيين والأَفارقةِ والأَمريكيّينَ والأَوربيّين والأُستراليِّين؟.
إِنَّ ما قالَه الفادي المفترِي من قَصرِ النبوةِ والرسالةِ على الإِسرائيليّين
كذبٌ وافتراء، ويَتعارَضُ مع حقائقِ التاريخ.
ولقد صَرَّحَ القرآنُ بأَنَّ اللهَ بَعَثَ في كلُّ أُمةٍ رسولاً.
قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) .
وصَرَّحَ بأَنَّ الرسولَ كان من نفسِ الأُمَّة، ويتكلمُ بلسانِ أَفْرادِها.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
وصَرَّحَ بأَنَّ اللهَ لا يُعذِّبُ الناسَ إِلّا بعدَ أَنْ يَبعثَ لهم الرسول، فإِنْ
كَفروا به وكَذَّبوه استحقّوا العذاب.
قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
وبذلكَ أَقامَ اللهُ الحُجَّةَ على الكافرين، ولم يَبْقَ لهم حُجَّةٌ على الله، قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
وزَعْمُ قصر النبوةِ على بني إِسرائيلَ تكذيبٌ صريحٌ لهذه الآياتِ وأَمثالِها،
وتناقُضٌ مع حقائقِ التاريخِ وقواعدِ الدين.
صحيحٌ أَنَّ معظمَ الأَنبياءِ والرسُلِ المذكورين في القرآنِ الكريمِ بُعِثوا إِلى
اليهودِ، لكنَّ النبوةَ ليستْ محصورةً فيهم.
ولا معنى لكلامِ الفادي: " فإِذا صَدَقَتْ أَقوالُ القرآنِ فكيفَ لم يُخرجْ
للأُممِ في إفريقية وأَوروبة وأَمريكة وأُسترالية وآسية أَنبياءَ منهم وإِليهم؟! ".(1/92)
والمفتري في كلامِه يُكَذِّبُ القرآن، ويُشَكِّكُ في صدقِ أَخْبارِه، وذلك في
جملة: " فإِذا صَدَقَتْ أَقوالُ القرآن "..
ومنَ البَدَهِى عند كلِّ مسلمٍ ومنصفٍ أَنَّ أَقوالَ القرآنِ صادقة، لا شكَّ ولا خَطَأَ فيها، فما قالَه اللهُ في القرآنِ فهو الصدقُ والحقُّ والصواب.
وقد ذَكَرَ القرآنُ أَسماءَ خمسةٍ وعشرينَ نبيّاً ورسولاً، وليست النبوةُ
والرسالةُ محصورةً فيهم، أَيْ أَنَّ اللهَ لم يذكُرْ كُلَّ الأَنبياءِ في القرآن، وإِنما ذَكَرَ أَشْهَرَهم فقط، والأَنبياءُ يُعَدّونَ بالآلاف، لم يُخْبِرْنا اللهُ إِلّا بأَسماءِ خمسةٍ
وعشرينَ منهم.
كثيرٌ من الأَنبياءِ لم يُخبرْنا اللهُ عنهم، فلم نَعرفْ أَسماءَهم.
قال تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
ومعنى هذا أَنَّ اللهَ بَعَتَ أَنبياءَ لكلِّ الأَقوامِ السابقين الذين كانوا يَعِيشونَ
في آسية وإفريقية وأَمريكة وأَوروبة وأُسترالية وغيرها، لكنه لم يُخْبِرْنا بأَسماءِ
هؤلاءِ الأَنبياء، وعدمُ معرفتِنا بأَسمائِهم لا يَنفي كونَهم أَنبياء.
ومن مزايا الأَنبياءِ والرسلِ السابقين أَنَّ كُلَّ نبيٍّ كانَ يُبْعَثُ إِلى قومِه
خاصة، وكلُّ أَنبياءِ بني إِسرائيل كانوا يُرْسَلونَ إِلى بني إِسرائيلَ خاصة، ولم
يُبْعَثوا إِلى غيرِهم.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) .
وآخِرُ أَنبياءِ بني إِسرائيل هو عيسى - عليه السلام -، فقد بَعَثَهُ اللهُ رسولاً إِليهم خاصة، ولم يكنْ رَسولاً للنّاسِ كافَّة.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .(1/93)
موسى - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لبني إِسرائيل: (أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) ..
وعيسى - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لبني إِسرائيل: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) .
فكلُّ واحدٍ منهما رسالتُه خاصَةٌ بهم.
وتحوَّلَت " النصرانيةُ " إِلى رسالةٍ عالميةٍ بعدَ رفْع عيسى - صلى الله عليه وسلم -، وهذا خلاف طبيعتِها التي جاءَ بها عيسى - صلى الله عليه وسلم - إِلى بني إِسرائَيل.
ويَختمُ الفادي المفترِي كلامَه بنفْيِ نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في قوله: " فلو كانَتْ لهذه الأُمم أَنبياءُ منها وإِليها، لجازَ أَنْ يكونَ للعرب رسولٌ منهم ".
ومعنى كلامِه هنا أَنَّ اللهَ لم يَبعثْ للعربِ رسولاً منهم، لأَنًّ كُلَّ الأَنبياءِ في
العالَمِ كانوا من بني إِسرائيلَ حسب ادِّعائِه!!.
وقد امْتَنَّ اللهُ على العَرَبِ بأَنْ بَعَثَ منهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وذلك في آياتٍ عديدة، منها قولُه تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) .
ورغْمَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - من العربِ إِلَّا أَنَّ رسالتَه ليستْ للعربِ فقط، وإِنما هو رسولٌ للعالَمين.
وقد قَرَّرَتْ هذه الحقيقةَ آياتٌ عديدة " منها قولُه تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) .
ومنها قولُه تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) .
***
هل أشرك آدم وحواء بالله؟
نَسَبَ الفادي للقرآنِ قولَه بأَنَّ آدمَ وحواءَ أَشركا بالله، وزَعَمَ أَنَّ هذا وَرَدَ
في قولِه تعالى:(1/94)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) .
تتحدَّثُ الآيتانِ عن رجلٍ عاشر امرأَتَه، ولما حملَتْ وأَثقلَتْ وأَوشكَتْ
على الوضع، توجَّهَتْ هي وزوجُها إلى اللهِ بالدّعاء، وتَعَهَّدا بأَنَّه إِنْ آتاهما
وَلَداً صالحاً سَيَكونان من الشاكرين، فلما آتاهُما وَلَداً صالحاً جَعَلا لله شرَكاء.
وَزَعَمَ الفادي أَنَّ هذَيْن الزوجَيْن هما آدمُ وحَوّاء، ونَسَبَ هذا القولَ
للمسلمين.
قال: " قالَ مُفَسِّرو المسلمين: لما هبطَ آدمُ وحَوّاءُ إِلى الأَرض،
أُلقيت الشهوةُ في نفسِ آدم، فأَصابَ حَوّاء، فحملَتْ من ساعتِها..
فلما ثَقُلَ الحملُ وكَبُرَ الوَلَدُ أَتاها إِبليسُ..
قال البيضاوي: أَتاها إِبليسُ في صورةِ رَجُل، فقالَ لها: ما الذي في
بطنك؟
قالَتْ: ما أدري..
قال: إِنّي أَخافُ أَنْ يَكونَ بهيمةً أَو كَلْباً أو خنْزيراً!..
قالَتْ: إِنّي أخافُ بعضَ ذلك..
قال: وما يُدريكِ من أَينَ يَخرج، أَمِنْ دُبُرِكِ، أَمْ مِن فَمِك، أَو يشقُّ بطْنك فيقتلك؟ ...
فخافَتْ حَوّاء ذلك، وذكرَتْه لآدم، فلم يَزالا في غمٍّ..
ثم عادَ إِليها إِبليسُ، فقالَ لها: إِنّي من الله بمنزلة، فإِنْ دعوتُ اللهَ أَنْ
يجعلَه خَلْقاً سَوِيّاً مَثْلَك، ويُسَهِّلَ عليكِ خروجَه، تُسَمّيه عبدَ الحارث ...
وكان اسْمُ إِبليسَ في الملائكة " حارث " ...
فذكَرَتْ حَوّاءُ ذلك لآدم..
فعاوَدَها إبليس..
فلم يَزَلْ بهما حتى غَرَّهُما..
فلما وَلَدَتْ وَلَداً سَمّياهُ عبدَ الحارث..
وقال البيضاوي: في قوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) أَيْ: جَعَلا
أَولادَهما شُركاءَ في ما آتى أَولادَهما، فَسَمّوه عبد العزى وعبدَ مناف..
" وقالَ في قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) : يَعني: الأَصنام ...
ويُعلقُ الفادي على الكلامِ السابقِ بقوله: " فمن أَيْنَ جاءَتْ هذه القصةُ
الغريبة؟
وأَينَ العُزّى ومَنافُ وآلِهَةُ العربِ من آدمَ في الجنة؟
حتى تكونَ أَصنامُ(1/95)
العربِ آلهةً لآدَمَ يُسَمّي أولادَه بأَسمائِها؟ ".
لم يكن الفادي أَميناً في النقلِ عن البيضاوي، فقد زَعَمَ أَنه أَخَذَ الخرافةَ
السابقةَ من تفسيرِ البيضاوي، مع أَنه زاد على البيضاوي ما لم يَقُلْه، وحَذَفَ
منه كَلاماً مهمّاً ...
والذي ذَكَرَهُ البيضاوي في تفسيره هو: " {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} هو آدم. {وَجَعَلَ مِنْهَا} من جسدها من ضلع من أضلاعها، أو من جنسها كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} {زَوْجَهَا} حواء. {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي جامعها. {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة. {فَمَرَّتْ بِهِ} فاستمرت به أي قامت وقعدت، وقرىء {فَمَرَّتْ} بالتخفيف وفاستمرت به وفمارت من المور وهو المجيء والذهاب، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه. {فَلَمَّا أَثْقَلَت} صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. وقرىء على البناء للمفعول أي أثقلها حملها. {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ ءاتَيْنَا صالحا} ولداً سوياً قد صلح بدنه. {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك على هذه النعمة المجددة.
{فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يعني الأصنام. وقيل: لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث، وكان اسمه حارثاً بين الملائكة فتقبلت، فلما ولدت سمياه عبد الحرث. وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء!!.
ويُحتملُ أَنْ يكونَ الخطابُ في (خَلَقَكُم) لآلِ قُصَيٍّ من قُريش، فإِنهم(1/96)
خُلِقوا من نَفْسِ قُصَيّ، وكانَ له زوجٌ من جِنْسِه، عربية قُرَشية، وطَلَبا من اللهِ الوَلَدَ، فأَعْطَاهُما أَربعةَ بنين، فسَماهُم: عبدَ مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار..
ويكونُ الضميرُ في (يشركُون) لهما ولأَعْقابِهما المقْتَدينَ بهما.. ".
وأَدْعو إِلى المقارنةِ بين كَلامِ البَيضاويِّ في تفسيرِه، والكلامِ الذي زَعَمَ
الفادي أَنه للبيضاويِّ في تفسيرِه، لمعرفةِ الفرقِ بينهما، والوقوفِ على تَلاعُبِ الفادي وعَدَمِ أَمانتِه!.
يقولُ البيضاويُّ في معنى قوله تعالى: (فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما) أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله: (فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) ..
ومعنى كلامِ البيضاويِّ أَنه إِذا كان ضَميرُ المثَنّى يَعودُ على آدمَ وحَوّاءَ في
قولِه: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) فإِنَّ فاعلَ " جَعَلا " في الحقيقةِ لا يَعودُ على آدَمَ وحَوّاء، وإنما يعودُ على أَولادِهما المشركين، والسياقُ من بابِ حَذْفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إِليه مَقَامَه، والتقدير: جَعَلَ أَولادُهما لله شركاء..
والدليلُ على هذا عند البيضاوي.
إِسنادُ فعْلِ (يشركُون) بعدَ ذلك إِلى الجمعِ وليسَ إِلى المثَنّى، فقالَ: (فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
ولو كان المشركان هما آدمَ وحَوّاءَ لكانَ الفاعلُ مثنى، ولقال: فتعالى اللهُ عما يشركان!!.
وقد حَرَّفَ الفادي المفترِي كَلامَ البيضاوي، ليجعَلَه دَليلاً له على تخطئةِ
القرآن ...
عبارةُ البيضاوي: " جعلَ أَولادُهما له شركاءَ فيما آتى أَولادَهما،
فسمّوهُ عبدَ العُزّى وعبدَ مناف " صارتْ عند المفترِي؟ " وقال البيضاوي: أَي: جَعَلا أَولادَهما، شركاءَ فيما آتى أَولادَهما..
وفرقٌ بَعيدٌ بين الجملتَيْن.(1/97)
فالبيضاويُّ يُصرحُ بأَنَّ الذينَ جعلوا للهِ شركاءَ هم أَولادُ آدم وحواء، واتهمَ
المفترِي البيضاويَّ بأنه يرى أَن آدَمَ وحَواءَ هما اللَّذان جَعلا للهِ شركاء!!.
ومن افتراءِ المفترِي الفادي افتراؤُه على البيضاويِّ بأَنه يعتقدُ صحةَ قصةِ
إِبليس مع حواءَ وعبد الحارث، مع أَنَّ البيضاويَّ لا يرى صحةَ القصةِ
الموضوعة التي ذَكَرَها.
بدليلِ أَنه بدأَ القصةَ بالفعلِ الماضي: " قيل ".
وهذه صيغةُ تَضعيف، كما قَرَّرَ العلماء.
وقد حَذَفَ المفترِي هذا الفعلَ " قيل " فيما زَعَمَ نَقْلَه عن البيضاويّ لحاجةٍ في نفسه ...
ومن باب الإمعانِ في الكذبِ والافتراء لم يذكُرْ تعقيبَ البيضاويِّ على
القصة، وهو تعقيبٌ مهمٌ، لأَنه يُبَيِّنُ رفْضَ البيضاويِّ للقصة، لمعارضتِها
لعصمةِ الأَنبياء؟
وهو قوله: " وأَمثالُ ذلك لا يليقُ بالأَنبياء ... "!.
كما أَنَّ الفادي المفترِي لم يَذكر الاحتمالَ الثاني الذي أَوردَه البيضاويّ
في تحديدِ الشخصَيْنِ المشركَيْن، لأَنه يَنقضُ ويَرُدُّ اتهامَه لآدمَ وحَوَّاء بَالشّرْك،
والاحتمالُ الذي أَوردَه البيضاويُّ أَنَّ الخطابَ يُمكنُ أَنْ يكونَ لآلِ قُصَيّ:
(هُوَ اَلَّذِى خلقَكُم) ، وعليه يكونُ المرادُ بالزوج وزوجه قُصيٌّ وامرأَتُه، اللَّذان سَميا أَولادَهما بعبدِ شَمْسٍ وعبدِ مَناف ...
إِنَّ هذا التصرفَ الشائِنَ والتلاعُبَ المرذولَ من الفادي المفترِي يدلُّ على
فقدانِه الأَمانةَ العلمية فيما ينقلُه من كلام، يَنسبُه للعلماء والمسلمين ليوافِقَ
هواه، ويُحَرِّفَهُ عن معناه!! وأَدعو إِلى الشَّكِّ في كلِّ ما يَنقلُهُ الفادي وأَهْلُ ملَتِه من أَقوالٍ ينسبونَها للمسلمين، وإذا أحالوا على كتابٍ لعالِمٍ مسلم، وزَعموا وُجودَ الكلامِ فيه، فأَدْعو إِلى العودةِ المباشرةِ إِلى الكتابِ الإِسلامي، وسوفَ نَجِدُ فَرْقاً بَعيداً بين الكلامِ في الكتابِ الإِسلاميِّ وبين الكلامِ المنقول منه!!
وبهذا نَعرفُ تَخَلي اليهودِ والنصارى والمستشرقين عن الأمانةِ العلمية في
بحوثهم العلمية!!.
وخلاصَةُ هذه المسألة: ما ذَكَرَهُ بعضُ المفَسّرين المسلمين والإخباريين(1/98)
المؤرخين من حوارٍ بين حَوّاءَ وإِبليسَ انتهى بها إِلى أَنْ أَشركَتْ هي وآدمُ بالله، عندما سَمَّيا مولودَهما الأَولَ عبدَ الحارث - أَيّ: عبدَ إبليس - هذا كلام مخُتَلَق مكذوب موضوع، لم يصحّ ولم يثبتْ.
فآدمُ وحَوّاءُ لم يُشْرِكا بالله، ولم يُسَمِّيا ابنَهما عبدَ الحارث.
وتتحدثُ الآياتُ عن زوجَيْنِ متأخِّرَيْن من أَبناءِ آدم، قد يكونانِ من
العرب أَو من العجم أَو من غيرِهم، عاهَدا اللهَ أَنْ يُؤْمِنا به ويَشْكُراه، إِنْ
آتاهما وَلَداً صالحاً، فلما آتاهما صالحاً نَقَضا العهد، وأَشْرَكا بالله.
وأَبْقَت الآياتُ قصةَ الزوجَيْنِ مبهمة، لم تُبَيِّنْ من تَفاصيلِها شيئاً، أَبهمتْ
اسْمَي الزوجَيْن وزَمانَهما ومَكانَهما، وتفاصيل حملِ المرأةِ وولادتِها، وتفاصيلَ الشركِ بالله! وهذا كلُّه لا نَخوضُ فيه، لأَنه لا دليلَ عليه.
المهمُّ أَنُّ آدمَ وَحَوَّاءَ لم يُشركا بالله، والبيضاويُّ لم يَنْسبْ ذلك لهما،
وكان الفادي مفترياً كاذباً في زَعمِه ونقْلِهِ عن البيضاوي..
ولم يُخطئ القرآنُ في حديثِه عن زَوْجَيْنِ مشركَيْنِ بالله، لأَنَّ هذه الآياتِ تنطبقُ على كلِّ زوجَيْنِ مشركَيْنِ، مهما كان زَمانُهما ومَكانُهما!.
***
هل غرق ابن نوح - عليه السلام؟
أَخبرَ القرآنُ أَنَّ أَحَدَ أَبناءِ نوحٍ كان كافراً، وأَنه غَرِقَ في الطوفان.
قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) .
نَقَلَ الفادي عن البيضاويِّ أَنّ ابنَ نوحٍ الكافرَ الذي رفضَ أَنْ يركبَ مع
نوحٍ هو كنعان، وأَنه غَرِقَ مع الكافرين!!
وَرَدَّ الفادي كلامَ البيضاويّ وكلامَ القرآن، وحاكَمَ القرآنَ إلى العهد(1/99)
القديم الذي يعتقدُ الفادي أنه التوراةُ كلامُ اللهِ.
قال: " ومعلومٌ أَنَّ نوحاً لم يكنْ له إِلا ثلاثةُ أَولاد: سام وحام ويافث، ولهم ثلاثُ زوجات..
فكان الذينَ خَلَصوا في الفُلْكِ ثمانية: نوحٌ، وزوجَتُه، وأَولادُه الثلاثة، ونساءُ أَولادِه الثلاث..
فأينَ قصةُ غَرَق كنعان؟
ومعلومٌ أَنَّ كنعانَ لم يكن قد وُلِدَ، ولم يكن ابْناً لنوح، بل وَلَدَهُ حامُ بنُ نوح، وذلك بعدَ الطوفان ".
لقد أَخبرَ القرآنُ عن غَرَق أَحَدِ أَبناءِ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -.
فلما، كان نوح مع المؤمنين في السفينة، وهي تَجري بهم في موجٍ كالجبال، رأى أَحَدَ أبنائِه واقِفاً في معزلٍ عن الطوفان، فَدَعاهُ إِلى أَنْ يركبَ معهم في السفينة، ولكنَّ الابنَ رفضَ الدعوة، وحالَ الموجُ بينَ الابنِ وأَبيه، وطواهُ في طَيّاتِه، فكانَ من المغرقين! وحزنَ نوحٌ على ما أصابَ ابْنَه وسأَلَ ربَّه مستوضحاً، فأَخبره اللهُ أَنه ليس من أَهْلِه المؤمنين، لأَنه كان كافراً، وكُفْرُهُ قطعَ الصلةَ بينَه وبينَ أَبيه النبي؟
قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) .
ولقد أَبهمَ القرآنُ اسْمَ وَلَد نوحٍ الكافر الذي غَرِق مع الكافرين، كما
أبهمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا سبيلَ لنا لمعرفةِ اسْمِه لسكوتِ القرآنِ والحديثِ الصحيحِ عنه، والواجبُ علينا أَنْ نُبْقيَه على إِبهامِه.(1/100)
ولا نوافقُ البيضاويَّ وغيرَه من المفَسرين الذين حَدَّدوا اسْمَه بأَنَّه
" كنعان "، لأَنهم لا يَمْلكونَ دَليلاً على ذلك إ!.
ومحاكمةُ القرآنِ للعهدِ القَديم خطأٌ منهجيّ وَقَعَ به الفادي، وإِذا كانَ
أَساسُ مَنهجه خطأً، كانت الأَفكارُ والنتائجُ المترتبةُ عليه خاطئة.
وكيفَ نُحاكم كَلامَ اللهِ الثابتَ المحفوظَ إلى كلامٍ مشكوكٍ فيه، اختلطَ فيه كلامُ اللهِ بكلامِ الأَحبار؟ !.
ونتوقفُ فيما زَعَمَه الأَحبارُ في سِفْرِ التكوين من أَنه كانَ لنوحٍ ثلاثةُ
أَبناء، ونتوقفُ في أَسمائِهمِ التي أَطْلقوها عليهم، فلا نَنْفيها ولا نُثْبِتُها،
ونقول: اللهُ تعالى أَعلمُ بأَعدادِهم وأَسمائِهم وتفاصيلِ حياتِهم!.
أَمّا زعْمُ الفادي أَنَّ الذين رَكبوا في الفلكِ كانوا ثمانيةَ أَشخاصٍ فقط
فهذا خطأ؟
وقد أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ الذينَ رَكبوا في السفينةِ كُلُّ مَنْ آمَنوا بنوحِ - صلى الله عليه وسلم -، مع أَنهم كانوا قلائل، إِلَّا أَنهم كانوا أَكْثَرَ من ثمانيةٍ قَطْعاً.
قال تعالىَ: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) .
وأَخطأَ الأَحبارُ مُؤَلِّفو سِفْر التكوين والقِسّيسُ الفادي الذي تابَعهم عندما
صنَّفوا رُكابَ السفينةِ تصنيفاً أُسَرِيّاً نَسَبِيّاً، وليس تصنيفاً إِيمانيّاً..
فالركابُ الثمانيةُ في السفينةِ هم عائلةُ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم - في تصنيفهم.
نوحٌ وزوجَتُه، وأَولادُه الثلاثة وزوجاتُهم الثلاث!!.
والصحيحُ هو ما ذَكَرَه القرآن، من أَنَّ الذينَ رَكبِوا معه من أَهْلِه هم
المؤمنون فقط، أَمّا الكافرونَ منهم فقد هَلَكوا مع الهالِكين، ولذلك قالَ اللهُ
عن حَمْلِ أَهْلِه معه: (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) .
والذي سبق عليه القولُ هو الكافِرُ مِنْ أَهْلِه، واللهُ حَكَمَ أَنْ يُهلكَه.
وقد نَصَّ القرآنُ على أَنَّ اثْنَيْنِ من أَهْلِ وأُسْرَةِ نوحٍ كانا كافرَيْن، ولم
يركَبا معه السفينة: امرأَتُه، وابْنُه.(1/101)
قالَ اللهُ عن امرأتِه قارناً لها مع امرأةِ لوط الكافرة: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) .
ولما أَغْرَقَ اللهُ ابْنَ نوحٍ الكافرَ، وسأَلَ نوحٌ عنه لامَه اللهُ على ذلك،
وأَخبره أَنه ليسَ من أَهْلِه لكُفْرِه، مع أَنه ابْنُه..
قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) .
وبهذا نعرفُ جَهْلَ وغَباءَ الفادي المفترِي، حَيْثُ خَطَّأَ القرآنَ، في الخبر
الصادقِ الذي أَوردَه عن غرقِ ابنِ نوحٍ، واعتمدَ على كتابِ من صنعٍ بشر، أَلَّفَه الأُحبار، ووَقعوا في أَخطاءٍ كثيرة فيه، يمكنُ الوقوفَُ عليها عند مقارنتِها بالقرآن!!.
***
هل أيوب حفيد إسحاق؟ (1)
أَخبرَ اللهُ أَنَّ أَيوبَ من ذريةِ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -.
قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -:
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) .
الضميرُ في " له " يَعودُ على إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّ الآياتِ السابقة كانَتْ تتحدَّثُ عنه، وإِسحاقُ ابْنُه، ويَعقُوبُ حَفيدُه، عليهم الصلاة والسلام.
والراجحُ أَنَّ الهاءَ في (ذُرِّيَّتِهِ) تعودُ على إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، فالأَنبياءُ الستةُ المذكورونَ في الآيةِ من ذريتِه، وهم: داودُ وسليمانُ وأَيوبُ ويوسفُ وموسى وهارونُ.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
86- خَلْط الأسماء
ذكروا آيتين من سورة الأنعام، وأوردوا الشبهة على نص الآيتين حيث قالوا:
جاء فى سورة الأنعام (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضلنا على العالمين) (1) .
والترتيب التاريخى هو:
أيوب - إبراهيم وابن أخته لوط وابناه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب وابن حفيده يوسف ومن بعده موسى - هارون - داود - سليمان - إلياس - اليسع - يونس - زكريا - يحيى - عيسى.
الرد على الشبهة:
1 - إن الضمير فى (ومن ذريته (يعود إلى نوح، ولا يعود إلى إبراهيم وذلك لأن (لوطا (ليس من ذرية إبراهيم، وإنما خرج معه مهاجراً إلى الله، بعدما آمن له. وفى التوراة " ولوطاً ابن أخيه " [تك 12: 5] .
2 - إن الترتيب التاريخى غير حاصل لأسباب منها: أنه يريد بيان فضلهم وصلاحهم؛ ليقتدى الناس بهم.
وفى التوراة أنبياء لا يعرفون تواريخهم ولا يعرفون نسبهم، ومنهم " أيوب " فإن منهم من يقول إنه من العرب ومنهم من يقول إنه من الأدوميين ومنهم من يجعله اسماً فرضيًّا. بل إن الأنبياء أصحاب الأسفار كإشعياء وإرمياء وملاخى وحَبقّوق وميخا؛ لا يعرفون هم أنفسهم السابق منهم عن اللاحق.
وقد جمعوا أسفارهم فى وقت واحد. ففى الكتاب المقدس الصادر عن دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط سنة 1993م ما نصه: " كانت أول لائحة وضعت فى سبيل " قانونية " العهد القديم وأسفاره تضم أسفار الشريعة الخمسة فى أيام عِزْرا [نح 8: 1] حوالى عام 400 ق. م ثم زاد المعلمون الأسفار النبوية من يشوع والقضاة حتى إشعياء وإرمياء وحوالى سنة90 ق. م التقى معلمو الشريعة اليهود من مختلف البلدان، فى بلدة " يمنية " الواقعة فى " فلسطين " وثبتوا لائحة نهائية وكاملة للأسفار المقدسة.. إلخ (2) . اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الأنعام: 84-86.
(2) ص 3 الكتاب المقدس طبعة لبنان سنة 1993م.(1/102)
وهذا نَص على أَنَّ أَيوبَ - عليه السلام - من ذريةِ إِبراهيمَ - عليه السلام -.
والذريةُ ليسوا الأَبناءَ والأَحفادَ فقط، وإِنما هم الأَولادُ الذين يَنْتَسبون له، ولو كان بينَهم وبينَه عدةُ قُرون.
وقد رَفَضَ الفادي اعتبارَ أَيوبَ من ذريةِ إِبراهيم، واعتبرَ هذا من أَخطاءِ
القرآنِ التاريخية.
ونَقَلَ عن البيضاويِّ قولَه: " أَيوبُ بنُ أَموص، من أَسباطِ عيص بنِ
إِسحاق ".
وَرَفَضَ كلامَه قائلاً: " فأَيْنَ أَيوبُ الذي ظَهَرَ في بلادِ العَرَبِ من عصْرِ
إِبراهيمَ وإِسحاقَ والدِ إسرائيل في أَرضِ فلسطين؟
وأَينَ هو أَموصُ والدُ النبيّ أَشعياءَ من أَيوب؟ ".
ذهبَ البيضاويُّ إِلى أَنَّ والدَ أَيوبَ هو أَموص، وأَنَّه من نَسْلِ عيص،
وعيصُ هو حَفيدُ إِبراهيمَ وأَخو يعقوب.
واعترضَ الفادي على كلامِ البيضاوي، وذَهَبَ إِلى أَنَّ أَيوبَ ظَهَرَ في
بلادِ العَرَب، وبينَه وبينَ إِبراهيمَ وإِسحاقَ فترةٌ زُمنيةٌ طويلة!.
ولَسْنا مع البيضاويِّ في ما قالَه عن أَيوبَ - عليه السلام -، لأَنه ذَكَرَ أَسماءً ليس عليها دليلٌ معتمد، فلم يَرِدْ في مصادِرِنا الإسلاميةِ اليقينيةِ، أَنَّ اسْمَ والدِ أَيوبَ هو أموص، وأَنَّ اسْمَ ابنِ إِسحاقَ هو عيص، وأَنَّ أموصَ هو حفيدُ إِسحاق، وأَنَّ أَيوبَ هو ابنُ حفيدِ إسحاق!.
وهذه الأَسماءُ التي أَخَذَها البيضاويُّ عن الإِسرائيلياتِ نتوقَّفُ فيها، فلا
نَنْفيها ولا نُثبتها، ولا يتحملُ القرآنُ مسؤوليةَ ما ذَكَرَه البيضاوي..
وكلُّ ما نقولُه أَنّ أَيوبَ كان من نَسْلِ وذريةِ إِبراهيم - عليه السلام -، مع وجودِ فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ بينهما!!.(1/103)
الصلة بين موسى والخضر ومحمد - صلى الله عليهم وسلم -
أَخْبَرَنا اللهُ في سورةِ الكهفِ عن أَحداثٍ مثيرةٍ وَقَعَتْ بينَ موسى
والخضرِ - عليه السلام - في الآيات من (60) وحتى (82) ..
وذَكَرَ رسول اللهِ - عليه السلام - فيما رواهُ عنه البخاريّ ومسلمٌ وغيرُهما بعضَ تفصيلاتِ تلك الأَحداث.
وخُلاصةُ قصةِ موسى مع الخضرِ - عليهما السلام - كما ذُكِرَتْ في آياتِ القرآنِ وصحيحِ الأَحاديث: أَنَّ موسى - عليه السلام - وَقَفَ يوماً خَطيباً في بَني إِسرائيل فَقيلَ له: هل أَحَدٌ أَعْلَمُ منكَ؟
فقال: لا!..
فعتب اللهُ عليه لأَنه لم يُفَوِّضْ ذلك إِلى اللهِ، ولم يَقلْ: اللهُ أَعلم! فقال اللهُ له: بل هناك مَنْ هو أَعلمُ منك؟
فقال موسى: مَنْ هو يا رَبِّ حتى أَتعلمَ منه؟
قال: إِنه عَبْدُنا الصالحُ خَضر! قال: يا رَبِّ كيفَ السبيلُ إِليه؟..
قال: خُذْ حوتاً مُمَلَّحاً في سلَّة، فإِذا فَقَدْتَ الحوتَ وَجَدْتَه في ذلك المكان!!.
فطلبَ موسى - عليه السلام - مِن فَتاهُ يوشَعَ بن نون أَنْ يَسيرَ معه، ووضعَ سَمكَةً مشويةً مملَّحَةً في سَلَّة، لتكونَ غداءً لهما، وتَوَجَّها إِلى الخضر..
وفي الطريقِ تَعِبا، فَوَجدا صخرةً بجانبِ البَحر، فجلَسا يَستريحانِ عنْدَها، وَوَضَعَ يوشَعُ السلةَ التي فيها السمكةُ المشويةُ بجانبه، وناما ...
وأَحْيَا اللهُ السمكةَ المشويةَ بقدرتِه، فَقَفَزَتْ من السَّلة، وذهبتْ في البَحر..
وأَبقى اللهُ مكانَ سيرِها على سطحِ الماءِ كما هو، ليكونَ دَليلاً لموسى وفتاه.
ولما استَيْقَظا، تابَعا سَيْرَهُما نحو الخضر، وحَمَلَ يوشَعُ السَّلَّة، ونَسي
أَنْ يتفقدَ السمكة فيها..
وبَعْدَ قليلٍ أَحَسَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - بالجوع، فطلَبَ من
يوشَعَ أَنْ يُجَهِّزَ السمكةَ المشويَّة للغَداء! فلما نَظَرَ في السَّلَةِ لم يَجِدْها! فأَخبرَ(1/104)
موسى أَنها خرجَتْ من السَّلَّةِ عند الصخرة، فعادا إِليها، لأَنَّ الخَضِرَ سيكونُ
هناك!.
ولما وصلَ موسى الصخرةَ وَجَدَ الخضرَ نائماً على ظهرِهِ، مغطّى
بقطيفتِه..
فأَلقى عليه السلام، ورَدَّ الخضرُ عليه السلام، وقالَ له: أَنّى
بأَرْضِك السَّلام؟.
وعَرَضَ عليه موسى أَنْ يَسيرَ معه ليتعلَّمَ منه، فقالَ له الخضر: إِنَّكَ لن
تستطيعَ معيَ صَبْراً، لأَنَّكَ سترى منّي أَشياءَ لا تَصبرُ عليها، فلقد عَلَّمَنِي اللهُ أَشياء، لا علْمَ لك بها، وأَنتَ عَلَّمكَ اللهُ أَشياء، لا علْمَ لي بها..
فاسْتَعَدَّ موسى أَنْ يَصبِرَ على كُلِّ ما يَرى، واشترطَ عليه الخضرُ أَنْ لا يَعترضَ على كُلّ ما سيراه منه، وأَنْ لا يسأَلَه، وأَنْ ينتظرَ منه بيانَ وتوضيحَ ما يَراه ...
وسارَ موسى مع الخضر على شاطئ البَحْر، ومَرَّتْ بهما سفينَة، فعرفَ
مالكوها الخضر، فأَركبوهما بغيرِ أُجرةٍ إِكْراماً لهما..
ومَدَّ الخضرُ يَدَه فَقَلَعَ لَوْحاً من أَلواحِ السفينة، فاعترضَ موسى - عليه السلام - وقال له: القومُ أَكْرمونا، وأَركبونا في السفينة مَجّاناً، فكيفَ تقابلُ إِكرامَهم بِخَرْق السفينةِ وإِفسادها؟
وإِنَّك بذلك سَتُغْرِقُ أَهْلَها! وذَكَّرَه الخضرُ بالشرطِ الذي اتفقا عليه، فاعتذرَ بأَنه تكلمَ ناسياً الشرط.
وسارا في الطريق، وَوَجَدا غُلاماً صغيراً يَلعبُ مع الغلمان، فأَقبلَ عليه
الخضرُ وقَتَلَه! فاستغربَ موسى واعترضَ عليه، إِذ كيفَ يقتلُ فتى صغيراً بغير
ذنبٍ ارتكبه؟! فذكَّرَه الخضرُ بالشرطِ بينهما، وتَعَهَّدَ موسى بعدمِ الاعتراض، فإِن اعترضَ عليه بعد ذلك فيمكنُه أَنْ لا يُصاحِبَه!.
ووَصَلا أَهلَ قريةٍ بُخَلاء، فطَلَبَا منهم الطعام، فأَبَوْا أَنْ يُضيِّفوهما!
وَوَجَدا فيها جداراً على وَشَكِ السقوط، فقامَ الخضرُ بإِصْلاحِه وإِحكام بنائِه، فاعترضَ عليه موسى بأَنه كان الأَولى أَنْ يأخذَ منهم الأَجرة، لأَنهم لا
يستحقون الإِكرام!.(1/105)
وبهذا الاعتراضِ الثالثِ فَقَدَ موسى حَقَّه بمصاحبةِ الخضر، وقبلَ أَنْ
يُفارِقَه فَسَّرَ له الأَحداثَ الثلاثةَ المثيرة:
خَرَقَ السفينةَ لأَنه يُريدُ المحافظةَ عليها، وإِبقاءَها في مُلْكِ أَصحابِها
المساكين، فأَمامَهم ملكٌ ظالم غاصب، كُلَّما وَجَدَ سفينةً صالحةً صادَرَها،
وعندما يَرى سفينَتَهم مخروقةً سيتركُها لهم..
أَمّا الغُلامُ فقد علمَ اللهُ أَنه عندما يكبرُ سيكونُ كافراً، وبذلك سَيُرْهِقُ والِدَيْه المؤمِنَيْن، ولذلك أَمَرَهُ اللهُ بقَتْلِه، وسيُؤْتي اللهُ والدَيْه ابناً آخَرَ أَفضلَ وأَكرمَ وأَرحمَ منه..
وأَمّا الجدارُ الذي بَناهُ فقد كانَ لغلامَيْن صغيرَيْن يتيمَيْن، وكانَ أَبوهما الصالحُ قد وَضَعَ لهما كَنْزاً تحتَه، ولو سقط الجدارُ لنهبَ أَهْلُ المدينةِ الكنز، لذلك قامَ الخضرُ بإِصلاحِ الجدار إِكراماً للغلامَيْن اليتيمَيْن وليس إِكْراماً للبخلاء!.
وقبلَ أَنْ يُفارقَ الخضرُ موسى أَخبره أَنَّهُ لم يفعلْ ذلك باجتهادِه، لأَنَّه لا
يَعلمُ الغيب، وإِنما أَخبرَهُ اللهُ بما سيكون، وأَمَرَهُ بفعْلِه!.
هذه خلاصةُ قصةِ موسى مع الخضر - عليهما السلام -، كما وَرَدَتْ في الآياتِ والأَحاديثِ الصحيحة، وهذه القِصَّةُ الصحيحةُ لم تَلْفِتْ نَظَرَ القسيس الفادي، وإِنما ذهبَ إِلى تفسيرِ البيضاوي، وأخذ منه كلمتَيْن، اعتَبَرَهما خطأً من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية.
قالَ البيضاوي عن الخضر: " الجمهورُ على أَنه الخضرُ - عليهما السلام -، واسْمُه بليا بن ملكان.
وقيل: إِليسع.
وقيل: إِلياس ".
أَيْ: الخضرُ لَقَب لذلك النبيّ، واسْمُه فيه خِلاف: بليا، أَو إِلياس.
أَو: إِليسع..
ولما نَقَلَ الفادي المفترِي كلامَ البيضاويِّ لم يكنْ أَميناً في النقل،
وصارَتْ عبارة البيضاوي السابقة عنده: " فَوَجَدَ الخضِرَ، وهو إِيليا النبي "!!.
وقالَ البيضاويُّ عن كَنْزِ الغلامَيْن اليتيمَيْن: " وكان تحتَه كَنْز لهما من
ذهبٍ وفضة وقيل: من كتبِ العلم..
وقيل: كان لوحاً من ذهبٍ مكتوب فيه:(1/106)
عجبْتُ لمن يؤمنُ بالقَدَرِ كيف يَحزن؟
وعَجِبْتُ لمن يُؤْمِنُ بالرزقِ كيفَ يَتْعَب؟
وعجبتُ لمن يؤمنُ بالحسابِ كيف يَغْفَل؟
وعجبتُ لمنْ يؤمنُ بالموتِ كيفَ يَفْرَح؟
وعجبتُ لمن يعرفُ الدنيا وتقلّبَها بأَهلها كيفَ يطمئنّ إِليها؟!..
لا إِله إلاّ الله، محمدٌ رسولُ الله ... ".
ويأْبى الفادي المفترِي إِلّا أَنْ يَتَلاعَبَ بالنَّصِّ الذي ينقُلُه عن البيضاوي،
لأَنه لا يمكنُ أَنْ يكونَ أَميناً في النقل! فعبارةُ البيضاويِّ السابقة صارَتْ عند
المفتري هكذا: " والجدارُ لغلامَيْن يتيمَيْن، بَناه حَتّى متى كَبُرا يَجِدان تحتَ
الجدارِ كنزاً من الذهب، مكتوب عليه بعضُ الحِكَم، ومنها: لا إِلهَ إِلّا الله،
محمدٌ رسولُ الله! وكان ذلك في أَيامِ إِسكندر ذي القرنين! ".
فأَضافَ المفترِي على كلامِ البيضاويّ جملة: " وكان ذلكَ في أَيامِ
إِسكندر ذي القرنين " وذلك بهدفِ تكذيبِ قصةِ الخضر مع موسى، واعتبارِها من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية!.
ونحنُ لَسْنا مع ما نَقَلَه البيضاويُّ من خلافٍ في اسْمِ الخضر: بليا، أَو
إِليسع، أَو إِلْياس! لأَنه لا داعيَ لذلك؟
فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - سَمّاه الخضر، ويَكفي
ذلك، وما ذَكَرَهُ البيضاويُّ من خلافٍ في اسْمِه منقولٌ عن الإِسرائيليات!.
وهذا مَعناهُ أَننا لا نوافقُ الفادي على أَنَّ الخضرَ هو النبيُّ إِيليا، الذي
كان في فِلسطينَ في القرن التاسع قبلَ الميلاد! ونَرى أَنه هو الخضر، والراجحُ
أَنه نَبي، وتَفاصيلُ حياتهِ ونُبوتِه ودعوتِه من مبهماتِ القرآن، التي ليس عندنا
دليل على بيانِها!.
ولما تكلمَ البيضاويُّ عن كنزِ الغلامَيْن اليتيمَيْن كان رأْيُه أَنه كنزٌ حقيقيّ
من ذهبٍ وفضةٍ.
ولما ذَكَرَ أَقوالاً أخرى في الكنزِ ذَكَرَها بالصيغةِ التمريضيةِ التضعيفيةِ:
" قيل " فقال: " وقيلَ: مِن كتب العلم.
وقيل: كان لوحاً من ذهبٍ مكتوب فيه(1/107)
بعض الحِكَم ...
" وذَكَرَ خمساً من الحكم، وخَتَمَها بالشهادتَيْن: لا إِلهَ إِلّا الله،
محمدٌ رسولُ الله.
وهذه الصيغةُ التمريضيةُ تدلُّ على أَنَّ البيضاويَّ لا يَعتمدُ ما بَعْدَها،
وإنما يَكتفي بإِيرادِها من بابِ الذِّكْرِ فقط.
وكنَّا نتمنى على البيضاوي لو لم يورِدْ ذلك، حتى لا يَأتِيَ رجلٌ مغرضٌ
مثلُ الفادي المفترِي، ويجعله حُجَّةً على البيضاويِّ وعلى القرآن!.
والراجحُ أَنَّ كنْزَ الغلامَيْن اليتيمَيْن كان كَنْزاً حقيقيّاً ماليّاً، ولم يكنْ كَنْزاً
من كتب العلم، ولا من دُرَرِ الحِكَم، مكتوبةٍ بلغةٍ عربيةٍ سليمة، ومبادئَ
إِسلامية لم تُعْرَفْ إِلّا بَعْدَ الإِسلام، مختومةٍ بالشهادتين!.
إِنَّ هذه مزاعمُ نَرُدّها، وأقوالٌ نرفُضُها، ولا تُلْزِمُنا حتى لو كانَتْ عند
تفسيرِ البيضاوي، ولا يَجوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَجعلَها حُجَّةً على القرآن، لأنها لم تَثْبُتْ بحديثٍ صحيحٍ مرفوع!.
والزعْمُ بأَنّ بناءَ الخضرِ للجدارِ كان في زمنِ الإِسكندرِ المقدوني من
مزاعمِ الفادي وافتراءاتِه وأَكاذيبه، ليتوَصَّل بها إِلى تكذيبِ القرآنِ وتخطئته.
وبهذا نعرفُ بطلانَ الأَسئلةِ والاعتراضاتِ التي أَثارَها المفترِي على
القرآن في حديثه عن قصة الخضر: " ونَحنُ نَسْأَلُ: أَيْنَ موسى الذي عاشَ في
مصر سنة [1500 ق. م] ، من إِيليا الذي عاشَ في فلسطين سنة 900 ق.
م،، من إسكندرَ الأَكبر الذي عاش في اليونانِ سنة 332 ق. م،! أَيْنَ هؤلاء من الشَهادَةِ لمحمدٍ الذي ظهرَ - في بلادِ العربِ في القرنِ السابع بعد الميلاد؟ ! فبينَ موسى وإِيليا 600 سنة،! وبينَ إِسكندر وموسى 1200 سنة،! وبين موسى وظهورِ محمدٍ 2200 سنة،! فكيف يتسنّى لهؤلاءِ الذين نشؤوا في ممالك مختلفة، وفي قرونٍ متباعدة، أَنْ يَجْتَمِعوا في زمنٍ واحدٍ وفي صعيدٍ واحد؟! ".(1/108)
لقد بَنى المفترِي الفادي كُلَّ أَسئلِته على أُكذوبة، ادَّعَتْ أَنَّ شهادةَ أَنْ لا
إِله إِلّا الله وأَنَّ محمداً رسول الله هي الكنزُ الذي بَنى الخضرُ الجدارَ عليه،
وخَطَّأ القُرآنَ بسببِها! فإِذا كانت هذه الأَكذوبةُ مردودةً، فإِنَّ القرآنَ لا يتحملُها.
الخضرُ كان مع موسى - عليهما السلام -، وهو ليس النبيَّ إِيليا الذي عاشَ بعد موسى بتسعةِ قرون، ولا صلة بين الخضر وبين الإسكندرِ المقدوني، الذي جاءَ بعده باثْنَي عَشَرَ قرناً! ولم تُكتب الشهادتانِ على كَنْزِ الغلامَيْنِ اليتيمَيْن حتى يَصحَّ ما أَثارَه المفترِي على القرآنِ من اعتراض!!.
***
حول ترتيب أسماء الأنبياء
في سورةِ الأَنعامِ ثلاثُ آياتٍ ذَكَرَتْ ثمانيةَ عَشَرَ نبياً.
وهي قول الله - عز وجل -:
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) .
الهاءُ في " لَهُ " تعودُ على إِبراهيم - عليه السلام -.
والأَنبياءُ الثمانيةَ عَشَرَ مذكورون في المجموعاتِ الحَالية: إِبراهيمُ وإِسحاقُ ويَعقوب، ونوحٌ لوحده، وداودُ وسليمانُ وأَيوبُ ويوسفُ وموسى وهارون، وزكريّا ويَحْيى وعيسى وإِلياس، وإِسماعيلُ واليسعُ ويونُسُ ولوط.
وذِكْرُ الأَنبياءِ في هذه المجموعاتِ أَثارَ اعتراضَ الفادي؟
قال: " ونحنُ نَسْأَل: كيفَ صُفَّتْ هذه الأسماءُ بلا نظامٍ ولا تَرْتيب، بما فيها من تقديمٍ وتَأْخير، يَدْعو للتشويشِ والخلْط؟
فما الدّاعي لذِكْرِ داودَ وسُليمانَ قبلَ أَيوبَ ويوسفَ وموسى وهارون؟
وما الدّاعي لذكْرِ زكريّا ويَحيى وعيسى وإِلْياس؟
وما الدّاعي لذكْرِ إِسْماعِيلَ بعدَ إِسْحاقَ ويَعقوبَ وداودَ وسُليمانَ وأَيوبَ ويوسفَ(1/109)
وموسى وهارونَ وزَكريّا ويحيى وعيسى وِإلْياس؟
وما الدّاعي لذكْرِ اليسعَ ويونسَ قبَل لوط؟.
مع أَنَّ الترتيبَ التاريخيَّ معروف قبلَ القرآنِ بمئاتِ السِّنين، أَيوبُ في
بلادِ عوص، وإِبراهيمُ وابنُ أَخيه لوط، وابْناهُ إسماعيلُ وإِسحاق، وحفيدُه
يعقوب، وابنُ حفيدهِ يوسُف..
ومِنْ بَعْدِهم موسى وهارون..
ومنْ بَعْدِهما داودُ وسليمانُ ابنُه، ومن بعْدِهما إِلياسُ والْيسعُ تلميذُه، ومِنْ بعدِهما يونُس؟
هؤلاء كلُّهم في العهدِ القديم..
ومن بعدِهم زكريّا ويحيى وعيسى في العهدِ الجديد.. ".
ولا يوجَدُ في ذِكْرِ الأَنبياءِ في الآياتِ ما يَدْعو للاعتراضِ أَو الإِنكار،
وليس في ذِكْرِ هؤلاءِ الأنبياءِ خطَأ تاريخيّ وقعَ به القرآن.
الهدفُ هو ذكْرِ أسماء الثمانيةَ عشرَ نبيّاً ذِكْراً فقط، وليس الهدفُ ذِكْرَ
الأَسماءِ وفقَ الترتيبِ والتسلسلِ التاريخيّ، فاعتراضُ الفادي في غير مكانِه.
والترتيبُ الذي ذَكَرَه هو ليسَ صحيحاً، فهو يَرى أَنَّ أَيّوبَ كانَ قبلَ
إِبراهيم - صلى الله عليهما وسلم -، وهذا غيرُ صَحيح، والصحيحُ أَنَّ أَيوبَ كان من ذريةِ إِبراهيمَ، بنصّ الآية: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ) .
وهو يرى أَنَّ زكريّا ويحيى من أَنبياءِ العهدِ الجديد، وهذا غيرُ مُسَلَّم،
فالعهدُ الجديدُ هو الإِنجيلُ الذي جاءَ به عيسى - صلى الله عليه وسلم -، وكان زكريّا قبل عيسى، وإِنْ كانَ الأَنبياءُ زكريا ويحيى وعيسى أنبياء لبني إِسرائيل ...
واللافتُ للنظرِ أَنَّ القرآنَ عندما يذكرُ أَسماءَ بعضِ الأَنبياءِ فإِنه لا يُرَتِّبُهم
تَرتيباً تاريخيّاً، كما هو في الآياتِ السابقة من سورةِ الأنعام، وكما في قولِه
تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) (1) .
__________
(1) كلام نفيس للإمام البقاعي:
قال عليه الرحمة ما نصه:
ولما كان إبراهيم عليه السلام قد انتصب لإظهار حجة الله في التوحيد والذب عنها، وكان التقدير تنبيهاً للسامع على حسن ما مضى ندباً لتدبره: هذه مقاولة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، عطف عليه قوله معدداً وجوه نعمه عليه وإحسانه إليه، دالاً على إثبات النبوة بعد إثبات الوحدانية: {وتلك} أي وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم، وهي ما حاج إبراهيم عليه السلام به قومه، وعظمه بتعظيمها فقال: {حجتنا} أي التي يحق لها بما فيها من الدلالة أن تضاف إلينا، لأنها من أشرف النعم وأجل العطايا {آتيناها} أي بما لنا من العظمة {إبراهيم} وأوقفناه على حقيقتها وبصرناه بها، ونبه على ارتفاع شأنها بأداة الاستعلاء مضمناً لآتينا وأقمنا، فقال: {على قومه} أي مستعلياً عليهم غالباً لهم قائمة عليهم الحجة التي نصبها، ثم زاد في الإعلام بفضله بقوله مستأنفاً: {نرفع} أي بعظمتنا {درجات من نشاء} بما لنا من القدرة على ذلك كما رفعنا درجة إبراهيم عليه السلام على جميع أهل ذلك العصر.
ولما كانت محاجته لهم على قانون الحكمة بالعالم العلوي الذي نسبوا الخلق والتدبير بالنور والظلمة إليه، وكان في ختام محاجته لهم أن الجاري على قانون الحكمة أن الملك الحق لا يهين جنده فلا خوف عليهم، وكان قبل ذلك في الاستدلال على البعث الذي هو محط الحكمة؛ كان الأنسب أن يقدم في ختم الآية وصف الحكمة فقال: {إن ربك} أي خاصاً لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمخاطبة باسم الإحسان تنبيهاً على أن حَجبَه الدليل عمن يشاء لِحِكَم أرادها سبحانه، ففيه تسلية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ {حكيم} أي فلا يفعل بحزبه إلاّ ما ظنه به خليله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يقر أعينهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما {عليم} فلا يلتبس عليه أحد من غيرهم، فيفعل به ما يحل بالحكمة.
ولما أشار إلى رفعته بأنه بصّره بالحجة حتى كان على بصيرة من أمره، وأنه علا على المخالفين برفع الدرجات، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب، فقال معلماً بأنه جعله عزيزاً في الدنيا لأن أشرف الناس الأنبياء والرسل، وهم من نسله وذريته، ورفع ذكره أبداً لأجل قيامه بالذب عن توحيده: {ووهبنا له} أي لخليلنا عليه السلام بما لنا من العظمة {إسحاق} ولداً له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته {ويعقوب} أي ولد ولد، وابتدأ سبحانه بهما لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام، وهو أشد سروراً بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر إبراهيم عليه السلام ومختاره للسكنى بنفسه ونسله، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها من الشرك وعبادة الأوثان، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته.
ولما كانت النعمة لا تتم إلاّ بالهداية، قال مستأنفاً مقدماً للمفعول ليشمل الكلام إياهما: {كلاًّ} أي منهما ومن أبيهما {هدينا} ثم أتبع ذلك المهتدين قديماً وحديثاً تأكيداً لأن هذا المذهب لم يزل خلص العباد دعاة إليه في قديم الزمان وجديده، فكأنه يقول: إن كنتم تلزمون دينكم لأنه عندكم حق، فقد تبين لكم بطلانه، وأن الحق إنما هو التوحيد، وإن كنتم تلزمونه لِقِدَمِه فهذا الدين - الذي - دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته - هو القديم الذي دعاكم إليه نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى إبراهيم أبيكم الأعظم ومن بعده من خلص ذريته إلى عيسى، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم وبشارة عيسى - على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم، فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية والأقدمية، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في أبائكم مثل إبراهيم عليه السلام، وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم، فهو أولى آبائكم أن تعتدوا به - والله الموفق.
ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من إسحاق وابنه بتربية أبيه، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو نوح عليهما السلام لدفع ذلك، ولأن السياق لإنكار الأوثان، وهو أول من نهى عن عبادتها، وهو أجلّ آباء الخليل عليه السلام فقال: {ونوحاً هدينا} أي بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج.
ولما كانت لم تتجاوز منه، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم، أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيراً عن زمانه فقال: {من قبل} أي ولم تكن هدايته إلاّ بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد، وطالما دعاهم إلى الله وربّاهم فلم يرجع منهم كثيراً أحد حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده، ولمثل ذلك فصل بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه عليهم السلام إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة، وأنه ما حفظ كلاًّ منهما على سنن الهدى طول المدى إلاّ الله؛ ثم ابتدأ المذكورين بعدُ بمن بنى على يده ويد ابنه مسجداً هو بعد المسجد الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فقال: {ومن ذريته} .
ولما كان السياق كله لمدح الخليل، وكان المذكورون - إلا لوطاً - من نسله، وكان التغليب مستعملاً شائعاً في لسان العرب، لا سيما ولوط ابن أخيه ومثل ولده؛ حكم بأن الضمير لإبراهيم عليه السلام، وقولُ من قال: إن يونس عليه السلام ليس من نسله، غير صحيح، بل هو من بني إسرائيل، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء، وسيأتي خبره من السفر المذكور في سورة {والصافات} إن شاء الله تعالى، وقد صرح أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية إبراهيم، واقتضى كلامه أنه من بني إسرائيل، كما اقتضى ذلك كلام البغوي في سورة الأنبياء عليهم السلام، وأما أيوب فروى؛ من نسل عيص بن إسحاق عليهم السلام {داود} أي هديناه {وسليمان} أي اللذين بنيا بيت المقدس بأمر الله: داود بخطه وتأسيسه، وسليمان بإكماله وتشييده.
وما كان مع ذلك ملكين، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال: {وأيوب} وقدمه لمناسبة ما بينه وبين سليمان في أن كلاًّ منهما ابتلى بأخذ كل ما في يده ثم ردّ الله إليه {ويوسف} وكل من هؤلاء الأربعة ابتلى فصبر، واغتنى فشكر، وأيوب إن لم يكن ملكاً فقد كانت ثروته غير مقصرة عن ثروة الملوك، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير الهكاري - فيما أظن - أنه صرح بأنه ملك، وأيضاً فالاثنان الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل الفلسطين، والاثنان الباقيان كل منهما ابتلى بفراق أهله ثم ردوا عليه: أيوب بعد أن ماتوا، ويوسف قبل الموت، وأيضاً فداود عليه السلام شارك إبراهيم عليه السلام في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاءُ في غار، وذلك أن نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها، وقال له منجموه: يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك على يده، فأمر بذبح كل غلام في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وحملت أم إبراهيم عليه السلام به في تلك السنة، فلما وجدت الطلق خرجت ليلاً إلى غار قريب منها فولدت فيه إبراهيم وأصلحت من شأنه، ثم سدت فم الغار ورجعت، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص إبهامه، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة؛ وأما داود عليه السلام فإنه لما قتل جالوت وزوَّجَه طالوتُ ابنته، وناصفه ملكه - على ما كان شرط لمن قتل جالوت - مال إليه الناس وأحبوه، فحسده فأراد قتله، فطلبه فهرب منه، فدخل غاراً فنسجت عليه العنكبوت، فقال طالوت: لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت، فأنجاه الله منه؛ وتلاه بسليمان لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك إبراهيم عليهما السلام في إبطال عبادة الشمس في قصة بلقيس ـ رضى الله عنها ـ؛ وقصة يوسف عليه السلام في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى {يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39] .
ولما كان يوسف عليه السلام ممن أعلى الله كلمته على كلمة ملك مصر وأعز ملكها وأهلها وأحياهم به، أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك مصر وأهلها وأهلكهم بهما، فكأن بعض قصصهم وفاق، وبعضها تقابل وطباق، فقال: {وموسى وهارون} ولما كان التقدير: هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى، لم يشغل أحداً منهم منحةُ السراء ولا محنة الضراء، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل ما جزيناهم {نجزي المحسنين} أي كلهم، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة، وهي أنهم من أهل السراء المطفئة والضراء المسنية، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا ولم ينوا.
ولما كان المذكوران قبله ممن سلطهما على الملوك، أتبعهما من سلط الملوك عليهما بالقتل فقال: {وزكريا ويحيى} ثم أتبعهما من عاندهما الملوك ولم يسلطوا عليهما وأدام الله سبحانه حياتهما إلى أن يريد سبحانه فقال: {وعيسى وإلياس} ولما كان هؤلاء الأربعة من الصابرين، قال مادحاً لهم على وجه يعم من قبلهم: {كل} أي من المذكورين {من الصالحين}
ثم أتبعهم من لم يكن بينهما وبين الملوك أمر، وهدى بهما من كان بين ظهرانيه فقال: {وإسماعيل واليسع} هذا إن كان اليسع هو ابن أخطوب ابن العجوز خليفة إلياس، كما ذكر البغوي في سورة الصافات أن الله تعالى أرسل إلى إلياس - وهو من سبط لاوي من نسل هارون عليه السلام - فرساً من نار فركبه فرفعه الله وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله على آجب - يعني الملك الذي سلط على إلياس - عدواً فقتله ونَبأ الله اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وإن كان اليسع هو يوشع بن نون - كما قال زيد بن أسلم - فالمناسبة بينه وبين إسماعيل عليهما السلام أن كلاًّ منهما كان صادق الوعد، لأن يوشع أحد النقيبين اللذين وفيا لموسى عليه السلام حين بعثهم يجسون بلاد بيت المقدس كما أشير إليه في قوله تعالى {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسراءيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} [المائدة: 12] وقوله {وقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما} [المائدة: 23] وأيضاً فكل منهما كان سبب عمارة بلد الله الأعظم بالتوحيد، فإسماعيل سبب عمارة مكة المشرفة، ويوشع سبب عمارة البلدة المقدسة - كما سيأتي في سورة يونس إن شاء الله تعالى.
ولما كان إسماعيل واليسع ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب، أتبعهما مَن هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله فقال: {ويونس} أي هديناه؛ ولما انقضت ذرية إبراهيم عليه السلام، ختم بابن أخيه الذي ضل قومه فهلكوا بغتة، فبين قصتي هذين الآخرين طباق من جهة الهلاك والنجاة، ووفاق من حيث إن كلاًّ منهما أرسل إلى غير قومه فقال: {ولوطاً} ثم وصفهم بما يعم من قبلهم فقال: {وكلاًّ} أي ممن ذكرنا {فضلنا} أي بما لنا من العظمة بتمام العلم وشمول القدرة {على العالمين} فكل هؤلاء الأنبياء ممن هداه الله بهداه وجاهد في الله حق جهاده، وبدأهم تعالى بإبراهيم عليه السلام وختمهم بابن أخيه لوط عليه السلام على هذه المناسبة الحسنة؛ وقيل: إن الله تعالى أهلك قوم إبراهيم - نمرود وجنوده - بعد هجرته، فإن صح ذلك تمت المناسبة في هلاك كل من قومه وقوم ابن أخيه لوط بعد خروج نبيهم عنهم، فيكون بينهما وفاق كما كان بين قصته وقصة يونس عليه السلام طباق.
ومن لطائف ترتيبهم هكذا أيضاً أن إسماعيل عليه السلام يوازي نوحاً عليه السلام، فإنه رابع في العدّ لهذا العقد إذا عددته من آخره، كما أن نوحاً عليه السلام رابعه إذا عددته من أوله، والمناسبة بينهما أن نوحاً عليه السلام نشر الله منه الآدميين حتى كان منهم إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله أباً للأنبياء والمرسلين، وإسماعيل عليه السلام نشر الله منه العرب الذين هم خلاصة الخلق حتى كان منهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، فهذا كان بداية وهذا كان نهاية، وأن المذكورين قبل ذرية إبراهيم عليه السلام وبعدها - وهما نوح ولوط عليهما السلام - أهلك الله قوم كل منهما عامة، وغيب هؤلاء في جامد الأرض كما أغرق أولئك في مانع الماء، وأشقى بكل منهما زوجته، بياناً لأن الرسل كما يكونون لناس رحمة يكونون على قوم نقمة، وأنه لا نجاة بهم ولا انتفاع إلا بحسن الاتباع، وأن ابن عمران اشترك مع إبراهيم عليهم السلام في أن كلاًّ من ملكي زمانهم أمر بقتل الغلمان خوفاً ممن يغير دينه ويسلبه ملكه، وكما أن الله تعالى أنجى إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوطاً عليه السلام من ملك زمانهما المدعي للإلهية فكذلك أنجى موسى وأخاه هارون عليهما السلام من ملك زمانهما المدعي للآلهة، وأنجى ذرية إبراهيم بهما، فإذا جعلت إبراهيم وابن أخيه لوطاً - لكونه تابعاً له - واحداً، وموسى وأخاه هارون واحداً لمثل ذلك، ونظمت أسماء جميع هذه الأنبياء في سلك النقي: لوط مع إبراهيم كموسى مع هارون، وكان الأربعة واسطة عقدة، فبين إبراهيم وموسى حينئذ سبعة كما أن بين هارون ولوط سبعة، وإذا ضممت إليهم المقصود بالذات المخاطب بهذه الآيات المأمور بقوله {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] كان منزله في السلك بين ابن عمه لوط وأبيه إبراهيم، ويكون من بين يديه تسعة، ومن خلفه تسعة، فمن إبراهيم إلى موسى تسعة، ومن لوط إلى هارون كذلك، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واسط العقد ومكمل العقد، فإنه العاشر من كل جانب، فبه تكمل الهدى وإيجاب الردى، وذلك طبق قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وللبخاري نحوه عن جابر، هذا مع اقترانه بأقرب أولي العزم رتبة ونسباً صاحب القصة إبراهيم عليه السلام، وإن جعلت موسى وهارون عليهما السلام كشيء واحد كانا واسطة من الجانب الآخر، فإن عددت من جهة إبراهيم عليه السلام كان بينه وبينهما ثمانية، وإن عددت من جهة لوط عليه السلام كان كذلك. اهـ (نظم الدرر. 2 / 664: 669)(1/110)
إدريس وليس أخنوخ
ذَكَرَ القرآنُ إِدريسَ - عَليه السلام - ضمنَ الأَنبياءِ، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
وقد حاكمَ الفادي - كعادته - القرآنَ إِلى العهدِ القديم، ولَمّا لم يجد اسْمَ
إِدريسَ فيه حَكَمَ بتخطئةِ القرآن، والذي في العهدِ القديم هو أخنوخ وليسَ
إِدريس..
ونَقَلَ الفادي عن سِفْرِ التكوينِ أَنَّ أَخنوخَ عاشَ ثلاثمئةٍ وخمساً
وستينَ سنة، وسارَ أَخنوخُ مع الله، ولم يوجَدْ بعدَ ذلك لأَنَّ اللهَ أَخَذَه.
ونقلَ عن البيضاويّ قولَه: " إِدريسُ: هو جَدُّ أَبي نوح، واسْمُه أَخنوخ،
واشتقاقُ إِدريسَ من الدَّرْس، لكثرةِ دُروسِه، إِذْ رويَ أَنَّ اللهَ أَنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأَنه أَولُ مَنْ خَطَّ بالقَلَم، ونَظَرَ في علمِ النجومِ والحسابِ (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) .
يَعْني شرف النبوةِ والزلْفى عندَ الله، وقيلَ: الجنة، وقيلَ: السماءَ السادسةَ أَو الرابعة " (1) .
واعترضَ الفادي على تسميةِ القرآنِ له بإِدريس، وقال: " ونحنُ نسأَل:
مِن أَينَ جيءَ باسمِ إِدريسَ بدل أَخنوخ، فالصوابُ أَخنوخُ وليس إِدريس! ".
لا تَجوزُ محاكَمَةُ القرآنِ إِلى الكتابِ المقَدَّس، لما سبقَ أَنْ قَرَّرْناهُ،
وقرآنُنا هو المهيمنُ على ما قبلَه من الكُتُب، لأَنَّ الكتبَ السابقةَ مُحَرَّفَة،
والقرآنُ محفوظ.
فما ذَكَرَه القرآنُ هو الصواب، والاسْمُ الذي خالَفَ المذكورَ
في القرآن هو المرفوض، وبما أَنَّ اسْمَه في القرآنِ إِدريسُ فهذا هو اسْمُه ولا
نَدْري من أَينَ جاء مؤلفو سِفرِ التكوين باسم أخنوخ، وهو اسْمٌ مرفوض!.
ولَسْنا مع البيضاويِّ في ما ذَكَرَه عن إدريسَ من أَنَّ اسْمَه أَخنوخ، وأَنه
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
87- أخنوخ وليس إدريس
إنه فى القرآن اسم إدريس. واسمه فى التوراة أخنوخ. وقال البيضاوى فى تفسيره: إن إدريس هو أخنوخ. ونحن نسأل من أين جاء فى القرآن اسم إدريس؟ والصواب أنه أخنوخ.
الرد على الشبهة:
إن اسمه فى التوراة السامرية " حنوك " والنص هو:
" وسلك حنوك فى طاعة الله وفُقد؛ إذ تولته الملائكة " [تلك 5: 24] والتوراة اليونانية تضيف حرف السين فى آخر الاسم ليعلم أنه اسم مثل يوسيفوس - إدريانوس. وإدريس؛ فى آخره السين، وكذلك يونس. وهو فى العبرى يونان. وعيسى - عليه السلام - فى اليونانى " إيسوس "، وفى العبرى " يهو شوّع " وينطق أحياناً " أيشوع " و " يسوع ".
وأخنوخ له سفر لا يعترف به النصارى. ومع ذلك نقل منه يهوذا فى رسالته: " انظروا جاء الرب مع ألوف قديسيه؛ ليحاسب جميع البشر، ويدين الأشرار جميعاً على كل شر فعلوه، وكل كلمة سوء قالها عليه هؤلاء الخاطئون الفجار " [يهو 1: 14 - 15] .
وهذا النص يثبت أن كل امرئ بما كسب رهين، خلافاً لاعتقاد النصارى فى موت المسيح على الصليب لِيُكَفِّر عن خطايا آدم.
ومفسرو التوراة يستدلون من نقله على ثبوت الحياة من بعد الموت ورأى فيلبسون من قوله " الله أخذه " أن ذلك تلطف بالتعبير عن الوفاة قبل إكمال العمر، وأن فى ذلك دليلاً على وجود حياة وراء هذه الحياة الأرضية. ونزيد على ذلك: أن نقل أخنوخ فى متوسط العصر الذى قبل الطوفان، وأن حياته كانت على الأرض 365سنة وهو عدد الأيام فى السنة الشمسية وكانت سنة العبرانيين 354 يوماً وسنة الكلدانيين 360 يوماً " انتهى. اهـ (شبهات المشككين) .(1/111)
جَدُّ أَبي نوح، وأَنه أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بالقلم، ونَظَرَ في علمِ النجومِ والكواكب،
وأُنزلَ عليه ثلاثون صحيفة، وأَنه رُفِعَ بجسْمِه إِلى السماءِ، كما رُفِعَ عيسَى - صلى الله عليه وسلم - وهذا الكلامُ من الإِسرائيليات، ولا دليل عليه من حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم.
وأَخبرَ اللهُ أَنه رَفَعَ إِدريسَ مكاناً عليّاً: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) .
وأَخَذَ بعضُ العلماءِ الكلامَ على ظاهرهِ، وقالوا: رُفِعَ إِدريسُ
بجسْمِه وروحِه إِلى السماء، كما رُفِعَ عيسِى - عليه السلام -.
وذهبَ آخَرون إِلى أَنَّه لم يُرْفَعْ إِلى السماء، وأَنه ماتَ موتاً طبيعياً، ودُفِنَ
على الأَرض، والراجحُ أَنَّ المرادَ برفعِه مكاناً علياً منزلةُ النبوة، ودرجةُ القُربى والكرامةِ عندَ الله، لأَنه صِدّيقٌ نبى - صلى الله عليه وسلم -.
وفي زمنِ نبوةِ إِدريس - صلى الله عليه وسلم - خِلافٌ بين العلماء:
- فمنهم مَنْ ذهَبَ إِلى أَنه كانَ بعدَ آدمَ وقبلَ نوحٍ - صلى الله عليهما وسلم -، كما ذَكَرَ البيضاوي، وعندما يَعُدُّونَ الأَنبياءَ يكونُ هو في الرقمِ الثاني، فيقولون: آدمُ، إدريسُ، نوح، هود، صالح ... وهكذا.
ولعلَّ هؤلاءِ تَأَثَّروا بكلامِ العهدِ القديم، حيثُ ذَكَرَ الأَحبارُ أَنَّ اسْمَه
أَخنوخ، وأَنه رُفِعَ بِجِسْمِهِ إِلى السماء، فقالَ هؤلاءِ العلماءُ بقولهم.
- وذهبَ آخرونَ إِلى أَنَّ نبوةَ إِدريسَ - عليه السلام - متأَخرَةٌ، وأَنه كانَ نبيّاً في بني إِسرائيل، نَقَلَ القرطبيُّ في تفسيرِه عن القاضي أَبي بكر بنِ العربيِّ قولَه: " ومَنْ قالَ: إِنَّ إِدريسَ كان قبلَ نوح، فقد وَهِم!.
والدليلُ على وَهْمِه الحديثُ الصحيحُ في المعراجِ، حينَ لقيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - آدمَ وإدريس.
فقالَ له آدَمُ: مرحباً بالنبيِّ الصالحِ والابنِ الصالح، وقالَ له إدريس: مرحباً بالنبيِّ الصالحِ والأَخ الصالح..
فلو كانَ إِدريسُ أَباً لنوحٍ لقال: مَرحباً بالابنِ الصالحِ والنبيِّ الصالح، ولَمّا قَالَ له إِدريسُ: الأَخ الصالح دَلَّ على أَنه يجتمعُ معه في نوح (1) ..
__________
(1) لا يدل على المطلوب.(1/112)
ونحنُ مع ابنِ العربيِّ والقرطبيّ في أَنَّ إدريسَ مُتَأَخِّر، وأَنه من أَنبياءِ بني
إِسرائيل، ومما يُؤَكِّدُ ما قالَه ابنُ العربي أَنَّ آدمَ وإِبراهيمَ خاطَبا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالبُنُوَّة، وقالا له: مَرْحَباً بالنبيِّ الصالح والابنِ الصالح.
بينما خاطَبَهُ الخمسةُ الآخَرون: يوسفُ وموسى وهارونُ وإِدريسُ وعيسى بالأُخُوَّة، وقالوا له: مرحباً بالنبيِّ الصالحِ والأخ الصالح.
وبهذا نعرفُ خَطَأَ كلامِ الفادي من أَنَّ إِدريسَ هو أَخنوخ، وأَنه جَدُّ
نوح، فما قالَه عنه القرآن هو الصحيح، وهو من أَنبياءِ بني إِسرائيل
المتأَخِّرين.
***
من هم أتباع نوح - عليه السلام -؟
لَمّا دعا نوحٌ عَلّإِثر قومَه إِلى عبادةِ اللهِ وَخدَه كَفَروا به وكَذَّبوه، ولم
يَتْبَعْه إِلّا قليلٌ منهم، وأَثارَ الملأُ من قومِه الشبهاتِ ضِدَّه، وأَخبَرَنا اللهُ في
القرآنِ عن بعضِ تلك الشبهات.
قال - عز وجل - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) .
اتَّهَمَ الملأُ نوحاً بأَنَّه ليسَ نبيّاً، وأَنه بَشَرٌ مثلُهم، وأَنَّ الذين آمَنوا به
واتَّبَعوهُ ليسوا سادَةَ القومِ وأَشْرافَهم، إِنما هم الأَراذلُ والضعفاءُ: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) .
وخَطَّأَ الفادي القرآنَ في هذا الكلام، لأَنه يتعارضُ مع كلامِ الأَحبارِ في
العهد القديم، والمعتمدُ عنده هو ما في العهدِ القديم..
قال: " ونحنُ نسأَل:
أَينَ الأَراذلُ الذينَ اتَّبَعوا نوحاً وآمَنوا به؟
إِنَّ أَحَداً لم يُؤْمِنْ بكَرازَتِه، كما تقولُ(1/113)
التوراةُ والإِنجيلُ، ولم يدخُل معه في الفلكِ إِلا امرأَتُه وأَولادُه ونساءُ أَولادِه،
وهم ليسوا أَراذل، والقرآنُ يقول: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) ..
وهذا يعني أَنَّ الحديثَ الذي دارَ بين نوحٍ وقومِه عن إِيمانِ البعضِ به
لم يَحْدُثْ " (1) .
وقد سبقَ أَنْ بَيَّنّا كذبَ الأَحبارِ والفادي في زعْمِهم أَنَّ ركابَ السفينةِ
كانوا ثمانيةَ أَشخاصٍ فقط، هم أُسرةُ نوح.
ويواصِلُ الفادي هنا كذبَه وافتراءَه عندما ادّعى أَنَّه لم يؤمنْ به أَحَدٌ من
قومِه! ولا ندري ماذا كان نوحٌ يفعلُ معهم طيلة حوالي أَلْف سنة؟
يَزعمُ الأَحبارُ والفادي أَنه لم يَدْعُهم إِلى اللهِ خلالَ هذه المدةِ كُلِّها، ولذلك لم يُؤمِنْ به أَحَد! وقد أَخطأَ القرآنُ عندما أَخبرَ عن كلامٍ بينَه وبين قومِه عن إِيمانِ بعضِهم، لأَنَّ هذا الحديثَ لم يَحدثْ كما جزمَ الفادي!.
لقد كانَ القرآنُ صَريحاً في إِيمان عددٍ قليلٍ من قومِه.
قال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) .
وأَخطأَ الأَحبارُ والفادي عندما زَعموا أَنَّ كُلَّ عائلةِ نوحٍ كانوا في
السفينة، وقد سَبَقَ أَنْ بَيَّنّا خَطَأَهم فيما مَضى، وذَكَرْنا أَنه لم يركبْ معه في
السفينة إِلّا المؤمنونَ من أَهْلِه، وأَنَّ امرأَتَه كافرة، وأَنَّ أَحَدَ أبنائِه كافر..
فلم يُخطئ القرآنُ في حديثِه عن ما جرى بينَ نوحٍ وقومِه الكافرين، وإِنما أَخْطَأَ الفادي في اعتراضه على القرآنِ، واعتمادِه على أَخطاء العهدِ القديمِ التي كَذَّبها القرآن.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
88- نوح لم يتبعه الأراذل
إن فى القرآن أن نوحاً عليه السلام نجا معه جماعة من المؤمنين من غير أولاده. وهذا يخالف ما فى التوراة وما فى الإنجيل من أنه لم ينج معه من المؤمنين أحد غير أولاده. وأن القرآن بين أن الكافرين بنوح وصفوا المؤمنين به بأنهم أراذل.
الرد على الشبهة:
1- إن الذين خرجوا من السفينة حسب نص التوراة العبرانية:
1- سام
2- حام.
3- يافث.
4- نوح.
5- امرأته.
6- زوجة سام.
7- زوجة حام.
8- زوجة يافث) فيكون العدد ثمانية.
2- والدليل على صحة ما فى القرآن: هو أن قابين لما قتل هابيل؛ ولد حنوك ولد عيراد، وعيراد ولد محويائيل، ومحويائيل ولد متوشائيل، ومتوشائيل ولد لامك، ولامك ولد يابال. الذى كان أباً لساكنى الخيام ورعاء المواشى. واسم أخيه يوبال الذى كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار، واسم أخيه توبال قابين. الضارب كل آلة من نحاس وحديد [تكوين 4] .
قوله عن الثلاثة: الذى كان أباً لساكنى الخيام ورعاء المواشى - الذى كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار - الضارب كل آلة من نحاس وحديد؛ يدل على أنه كان من الناجين غير أبناء نوح. ولذلك قال مفسرو التوراة: " وسلالة قابين سلالة الحياة المدنية، وسلالة شعث سلالة الحياة القدسية ". اهـ (شبهات المشككين) .(1/114)
بابل والنمرود
أَخبرَ اللهُ أَنه دَمَّرَ بيوتَ كافرين سابقين.
قال تعالى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) .
وقد نقلَ الفادي المتحامِلُ قولاً ذَكَرَه البيضاويُّ في تفسير الآية، أَنه
لم يَعتمدْه، وعَرَضَه بصيغةِ " قيل " الدالَّةِ على التضعيف.
قال: " قالَ البيضاوي:
قيل: المرادُ به نُمرودُ بنُ كنعان، بَنى الصرحَ بِبابِلَ، سُمْكُهُ خمسةُ آلافِ ذراع، ليترصَّدَ أَمْرَ السماء، فأَهَبَّ اللهُ الريحَ، فَخَرَّ عليه وعلى قومِه فَهَلكوا ... " (1) .
مع أَنَّ القولَ الذي يقولُ به البيضاوي غيرُ الذي ذكره أعلاه قال: " (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي: سَوّوا مَنْصوبات، لِيَمْكُروا بها رسلَ اللهِ
عليهم الصلاة والسلام.
(فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) : فأتاها أَمْرُه من جهةِ العُمُدِ التي بَنْوا عليها، بأَنْ ضُغضِعَتْ (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) :
وصار سببَ هلاكِهم.
(وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) : لا يَحْتَسِبون ولا يتوقَّعون..
وهو على سبيلِ التمثيل.. ".
الآيةُ عامةٌ تتحدثُ عن الكفارِ الذين يمكرونَ بأولياءِ اللهِ ودينِه، على
اختلافِ الزمانِ والمكان، فيُبْطِلُ الله مكْرَهم، ويَنصرُ الحَقَّ، وهي من بابِ
التمثيل.
وهذا معناهُ أَنَّ البيضاويَّ لا يَرى أَنَّ الآيةَ تتحدَّثُ عن بابلَ والنمرود،
وأَنه أَوردَ روايةً بذلك من بابِ الذكْر، ولكنَّه لا يَقولُ بها!!.
ولكنَّ الفادي المتحامِلَ اعتبرَ هذه الروايةَ دليلَ تخطئةِ القرآنِ والبيضاوي،
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
89- تهاويل خيالية حول برج بابل
قال المؤلف: إنه جاء فى سورة النحل (قد مكر الذين من قبلهم..) ثم قال: قال البيضاوى: قيل: المراد به نمرود بن كنعان فإنه بنى صرحاً ببابل.
الرد على الشبهة:
إنه وجه الشبهة على كلام مفسر. وهذا المفسر لم يجزم بأن تفسيره هو الصحيح بدليل قوله: " قيل " فكيف يورد شبهة على كلام مفسر؟. اهـ (شبهات المشككين) .(1/115)
ولذلك قال: " ونحنُ نسأَل: من أَيْنَ جاءَ للبيضاويِّ أَن نمرودَ هو ابنُ كنعان؟
فنمرودُ هو ابنُ كوش بن حام بن نوح [تكوين: 6/10 - 18] .
وأَخَذَ الناسُ بعدَ الطوفانِ يَبنونَ مدينةً وبُرْجاً عالياً يُخَلِّدونَ به اسْمَهم، فعاقَبَهم اللهُ بأَنْ بلبلَ أَلسنتهم، فلم يَستطيعوا التفاهم، وكَفّوا عن البنيان ...
ولذلك سُميت المدينة " بابل "، لأنَّ هناكَ بلبلَ اللهُ أَلسنَتَهم [تكوين: 11/ 1 - 9] ".
إِنَّ الآيةَ تتحدثُ عن الكفارِ السابقين، بدونِ تعيينٍ أَو تَحديد، كانوا
يمكرونَ بالأَنبياء، ويتآمَرون على المؤمنين، فأنجى اللهُ المؤمنين، وأوقع بهم
عقابَه، بأَنْ قَلَعَ بُنيانَهم من القواعِد، فخرَّ عليهم السقفُ من فوقِهم، وعَجَزوا عن النجاة..
وهذا ينطبقُ على كل الأَقوام الكافرين، مثل قومِ نوح، وعاد،
وثمود، ومدين، وقوم لوط، والفراعِنة، والآشوريين، والبابليين، واليونان، والرومان، وغيرهم.
وقد وردَ في سِفْرِ التكوينِ أُسطورةُ برج بابل، التي كَتَبَها الأَحبار،
وزَعَموا أَنها من عندِ الله، وخلاصةُ تلك الأُسطورةِ الخرافية، أَنه كانَ الناسُ
جميعاً مُتجمعين في بابل، ويتكلَّمون لغةً واحدة، وأَنهم أَرادوا بناءَ مدينةٍ
عظيمة، وبُرْجاً عالياً، لِيخَلِّدوا اسْمَهم، ولما رآهم الرَّبُّ على هذا الاجتماع والتعاونِ والاتفاقِ، خاف أَنْ يَغْلِبوه، إِنْ نَجحوا في تحقيقِ مُرادِهم، فعاقَبَهم بأَنْ بَلْبَلَ أَلسنَتَهم وفَرَّقَ قُلوبَهم، وشَتَّتهم، فكَفُّوا عن مشروعِهم الكَبير، وتفَرَّقوا في الأَرض..
وسُميت المدينةُ التي كانوا فيها " بابل " لهذا السبب!!.
هذه الأُسطورةُ الخرافيةُ التي كَتَبَها الأَحبارُ الكافرون في سفْر التكوين
11/ 1 - 9، يؤمنُ بها الفادي، مع أَنها أَباطيلُ وكفْز بالله، ونحنُ ننكرُها
ونُكَذِّبها ونكفُرُ بها..
أما اعتراضُ الفادي على البيضاوي لأَنه جعلَ نمرودَ ابناً لكَنْعان، فهو لا
معنى له، وما قالَه هو من أَنَّ نمرودَ هو ابنُ كوشِ بن حام بن نوح ادِّعاءٌ ليس(1/116)
عليه دليل، لأَنه لم يَرِدْ في مصادِرِنا الإِسلاميةِ اليقينية، فنحنُ نتوقَّفُ فيه، لا
نَنْفيه ولا نُثبته.
فلا نقول: نمرودُ بن كنعان، ولا نقولُ: نمرود بن كوش، ولا نقول: نمرود فقط.
ونقول: اللهُ تعالى أَعلم، والجهلُ بذلك لا يَضيرنا!!.
والعجيبُ في تحامُلِ المفترِي الفادي أَنه يُحَمِّلُ القرآنَ الكلامَ الذي ذَكَرَه
البيضاوي، مع أَنه لم يأخذْه من القرآن، وإنما أَخَذه من الإخباريّين السابقين،
وإِذا كانَ ذلك الكلامُ خطأً فكيف يتحمَّلُه القَرآنُ، الذي لم يَذْكُرْهُ في آياتِه؟!.
***
ما هو أصل الكعبة؟
أَخبرَ اللهُ في القرآنِ أَنَّ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ - عليهما السلام - هما اللَّذان بَنَيا الكعبة قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) .
إِبراهيمُ وإِسماعيلُ - عليهما السلام - هما اللَّذان بَنَيا بَيْتَ اللهِ الحرام، وكانا
يَدْعُوانِ اللهَ وهما يَرْفَعان قواعدَ البيت، وجَعَلَ اللهُ البيتَ الحرامَ مثابةً للناسِ
وأَمْناً، يأتونَه زائرين مُصَلّين، وحاجّين ومعتَمِرين، من كلِّ مكانٍ في الأَرض.
ويُخَطِّئُ الفادي المفترِي القرآنَ في كلامِه عن بناءِ الكعبة، ويُحاكمُ القرآنَ
إِلى أَسفارِ كتابِه المقَدَّس، وبما أَنَّ الأَحبارَ لم يَذْكُروا مجيء إِبراهيمَ إِلى بلادِ
الحجاز، فإِنَّ القرآنَ مخطئٌ في كلامِه عن مجيئِه إِلى الحجاز!.
قالَ المفترِي: " ولكنَّ الكتابَ المقَدَّسَ يُعَلِّمُنا أَنَ إِبراهيمَ دُعِيَ من أُورِ
الكلْدانيين إِلى أَرضِ كنعان، وهُناك بَنى مَذْبَحاً للرّبّ.
ولم يَرِدْ ذكْرٌ لذهابِه إِلى(1/117)
بلادِ العَرَب، ولا ذِكْرٌ لبنائِه هو وإِسماعيل الكعبة، ولكنَّه تَغَرَّبَ في أَرضِ
كنعان، التي وَعَدَهُ اللهُ وَوَعَدَ بها نَسْلَه ".
وكَلامُ الفادي تَحَكُّمٌ في التاريخِ، ووصايةٌ عليه، فالأَصْلُ عنْدَه أَسفارُ
الكتابِ المقدس، فكلُّ ما وردَ فيها فهو عنْدَه الصواب، وكل ما سَكَتَتْ عنه
تلك الأَسفارُ فهو الخطأ! وهذا تَحَكُّمٌ مَرْدود، فلم يَذْكُرِ الكتابُ المقَدَّسُ كُلَّ
أَحداثِ التاريخِ الماضي، حتى نُخَطِّئ أَيَّ حَدَثٍ لم يَرِدْ فيهِ!.
هذا إِذا كانَتْ أَسْفارُ الكتاب المقَدّس - بعهدَيْه القديمِ والجديد - صحيحةً
صادقة، فكيفَ إِذا كانتْ تلكَ الأًسْفارُ مشكوكاً فيها، لأَن الأَحبارَ الكاذبين هم الذين كتَبوها؟
وهم ليسوا أُمَناءَ على التاريخ!!.
إِنَّ المرجعَ في أَحْداثِ التاريخ الماضي هو القرآنُ الكريم، لأَنه كَلامُ اللهِ
المحفوظُ الثابت، وكَلُّ ما فيه حَقٌّ وصِدْقٌ وصواب، وبما أَنَّ القرآنَ أَخبَرَنا
بصريح آياتِه أَنَّ إِبراهيمَ هاجَرَ إِلى الأَرضِ المقَدَّسَة، فهذا الخَبَرُ صحيح، وبما
أَنه أَخْبَرَنا أَنَّ إِبراهيمَ أَتَى إِلى بلادِ الحجاز، فهذا الخَبَرُ صحيح، وبما أَنه
أَخْبَرَنا أَنَّ إِبراهيمَ وإِسماعيل - عليهما السلام - هما اللَّذان بَنَيا الكعبة، فهذا الخَبَرُ صحيح..
واعتراضُ الفادي على هذا مردود، وتخطئَتُه كلامَ القرآن هي الخطأ
الفادحُ الذي وَقَعَ هو فيه!!.
ويتكلمُ الفادي المفترِي عن الكعبةِ كلاماً فاجِراً خطيراً، يقومُ على
الكذبِ والافتراء.
اللهُ أَخبرَ أَنَّ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ - عليهما السلام - هما اللَّذان بَنَيا الكعبة، والفادي يَنْفي ذلك ويُخَطِّئُه ويُكَذِّبُه.
واللهُ أَخبرَ أَنَّ الكعبةَ أَوَّلُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ لعبادةِ اللهِ.
قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) .
والفادي المفترِي يُكَذِّبُ ذلك، ويَعتبرُ الكعبةَ بيتاً بُنِيَ لعبادةِ كوكبِ زُحَل! قالَ في فقرة قبيحةٍ فاجرة: " ونحنُ نَسأَلُ: كيف تكونُ(1/118)
الكعبةُ بيتَ الله، وبيتَ المثوبة، وبيتَ الأَمن، وهي بيتُ الأَوْثان؟
! وقد بُنيتْ أَولَ الأَمْرِ لعبادِةِ كوكبِ زُحَل؟
! وكان كلُّ مَن استولى عليَها يقهَرُ أَهْلَها، ليمارسوا شعائِرَ مذهبه! وفي أَيامِ محمدٍ كان في الكعبةِ ثلاثمئَةٍ وستون صَنَماً، لكلّ حيٍّ من أَحياءِ العرب صَنم! وقد شَدُّوا أَقدامَها بالرصاص فجاءَ محمدٌ ومعه قَضيب، وجعلَ يَهوي به على كلِّ صنَم منها، فيسقطُ الصنمُ إِلى الأَرض، وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ".
من أَينَ جاءَ المفترِي بكذبتِه الكُبرى، من أَنَّ الكعبةَ بُنيتْ لعبادةِ زُحَل
أَوَّلاً؟ !
لقد بُنيتِ الكعبةُ لعبادةِ الله، لا لتكونَ بيتاً للأصنام، ودَعا بانيها الأَولُ
إِبراهيمُ - صلى الله عليه وسلم - الله أَنْ يجعلَ مكةَ كلَّها آمنة، لأَنها بَلَدُ الكعبة، وسأَلَه أَنْ يُبعدَ عن بنيه عبادةَ الأَصنام.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) .
ويتوقَّحُ المفْتري فيُكَذِّبُ كلامَ اللهِ تكذيباً صريحاً.
فاللهُ يقول: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ..
والفاجر يُكَذِّبُ ذلك قائلاً: " كيفَ تكونُ الكعبةُ بيتَ الله، وبيتَ المثوبة، وبيتَ الأَمن، وهي بيتُ الأَوثان، وقد بنيتْ أَوَّلَ الأَمْرِ لعبادةِ كوكبِ زُحَل؟! ".
إِننا نؤمنُ بكلام اللهِ ونُصَدقُه ونثقُ به، ونكفرُ بكلِّ كلامٍ يُكَذِّبُه ويتناقَضُ
معه، فالكعَبةُ هي أَولُ بيتٍ وُضِعَ لعبادةِ اللهِ في الأَرض، والذي بناها هو
إِبراهيمُ وإسماعيلُ - صلى الله عليهما وسلم -، وجَعَلها اللهُ مثابةً للناسِ وأَمْناً، وبقيَتْ خالصةً لعبادةِ اللهِ وحْدَه عِدةَ قُرون، وحَوْلَها المؤمنون العابدون لله ...
ثم طَرَأَ عليها الشركُ بالله، وأُدخلتْ فيها الأَصنام، وكانَ أَوَّلَ مَنْ أَدْخَلَ
الأَصنامَ إِليها هو " سالمُ بن عمرو الخزاعي "، وكانَ زعيمَ أَهْلِ مكة، وتَوَجَّهَ
إِلى البلقاءِ في الشامِ للعلاج، وأَقامَ في " رَبَّةِ عَمّون " - مدينة عمان حالياً - فترة من الزمن، ورأى فيها تماثيلَ وأَصناماً جميلة، أَعجبَه منظرُها، فحملها معه إِلى مكة، وَوَضعَها في الكعبة، ودَعا قومَه إِلى عبادتِها فاستَجابوا له.
وكان هذا بعدَ عِدة قُرونٍ من وفاةِ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ - صلى الله عليهما وسلم.(1/119)
وما زالَ المشركون يَضَعون الأَصنامَ فيها، ويزيدونَ أَعْدادَها، حتى
وَصَلَتْ عند بعثةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثمئةٍ وستّين صَنَماً!! ولكنَّ الشركَ طارئٌ على الكعبة، بعد أَنْ بقيتْ قُروناً عديدة بيتاً للإِيمانِ والتوحيد.
ثم إِنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَعادَ الكعبةَ مثابةً للناسِ وأَمْناً، وبيتاً لعبادةِ الله، وطهرَها للطائفينَ والعاكفينَ والرُّكَّعِ السُّجود..
ولما دخلَها يومَ فتْحِ مكةَ في العشرين من رمضان في السنةِ الثامنةِ للهجرة حَطَّمَ الأَصنامَ كُلَّها، وهو يتلو قولَه تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) .
وواصلَ الفادي المجرمُ شَتْمَ الإِسلامِ والرسول - صلى الله عليه وسلم -، عندما اتهم شعائِرَ الحجّ والعمرةِ بأَنها من مُخَلَّفاتِ الوثنيّين عابِدي الأَصنام.
قال: ".. ولما استولى محمدٌ على البيتِ أَبقى فيه أَغْلَبَ الشعائرِ الوثنية كما هي، كالحَجِّ، والطواف، والإحرام، والاعتمار، ورجمِ الحجارة، وتقبيل الحجرِ الأَسود، والنحر، وغير ذلك!.. ".
ومن بابِ الخداعِ والدَّجلِ والتمويه أَحالَ الفادي المفترِي على بعضِ
الكتب التي أَلَّفها مسلمون، مثل كتاب تاريخِ الكعبة للخربوطلي، هو كتاب: الكعبة على مر العصور، للدكتور علي حسني الخربوطلي،، والجذور التاريخية للشريعة الإسلامية لعبد الكريم الخليل.
واتِّهامُ الإِسلام بأَنه استمرار للدياناتِ السابقة رَدَّدَهُ اليهودُ والنَّصارى
والمستشرقون، وزَعَموا فيه أَنَّ القرآنَ مُسْتَمَدٌّ من التوراةِ والإِنجيل، وأَنَّ
الإِسلامَ مأخوذٌ من اليهودية والنصرانية، وأَنَّ الأَحكامَ الإسلاميةَ مأخوذة من
الشرائعِ السابقة، وأَنَّ مناسكَ وشَعائرَ الحجِّ والعمرة، مأخوذةٌ من ممارساتِ
العربِ الوثنيين الجاهليّين قبلَ الإِسلام.
فما قالَه الفادي المفترِي هنا حولَ الحجِّ والعمرةِ استمرار في الأَكاذيبِ
التي رَدَّدَهَا إِخوانُه المفترون الكاذبون الكافرون.(1/120)
ونحن نوقنُ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وأَنَّ الإِسلامَ دينُ الله، وأَنَّ أَحكامَ
الإِسلامِ من عند الله!!.
***
إِبراهيم - عليه السلام - ونمرود
وَرَدَ في القرآنِ جِدالٌ وحِجاجٌ ونِقاشٌ بينَ إِبراهيم - عليه السلام - وبينَ مَلِكٍ في عهدِه.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) .
وكان دْلك الملكُ يَدَّعي الأُلوهية، ودَعاهُ إبراهيمُ - صلى الله عليه وسلم - إِلى الإِيمانِ باللهِ وَحْدَهُ، والخضوعِ له، ولكنَّه أَبى، فقالَ له إِبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) .
فقالَ الملِكُ: أَنا أُحيي وأُميت..
فقالَ له إِبراهيم: اللهُ هو الذي يأتي بالشمسِ من المشرق إِلى المغرب، فإِنْ كنتَ إِلهاً فَسَيْطِرْ على الكون، وغَيّرْ حركةَ الشمس، وائتِ بها من المغرب! عند ذلك بُهِتَ الملكُ الكافر، واعترفَ بعجْزِهِ عن فعْلِ ذلك!!.
وذهبَ كَثيرٌ من المُفسِّرينَ إِلى أَنَّ اسْمَ ذلك الملِكِ الكافرِ هو: " نمرود ".
ونَقَلَ الفادي عن البيضاوي قوله: " قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) تَعَجُّبٌ من مُحاجَّةِ نمرودَ وحماقتِهِ ".
واعتبرَ الفادي هذا الكلامَ خطأً، لأَنَّه لا يتفقُ مع التاريخ.
وحَمَّل القرآنَ هذا الخَطَأَ التاريخي: فقال: " ونحنُ نسأل: كيف حدثَتْ هذه المحاجَّة، ونمرودُ سابقٌ لإِبراهيمَ بثلاثِمئة سنة؟
فَبَيْنَ إِبراهيمَ ونوْحٍ اثْنا عَشَرَ جيلاً [لوقا: 3/ 34 - 36] ، وبين نمرودَ ونوحٍ أَربعةُ أَجيالٍ [تكوين: 0 1/ 1 - 8] ".(1/121)
واعتراضُ الفادي مَرْدود: فالقرآنُ أَبْهَمَ اسْمَ ذلك الملكِ الكافر، الذي
حاجَّ إِبراهيمَ في ربِّه، ولم يذكُرْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْمَه، وعلينا أَنْ لا نَخوضَ في تحديدِ اسْمِه، لأَنَّ ذلك لا يُؤخَذُ إِلاّ من الآيات ِ القرآنية الصريحةِ أَو الأَحاديثِ النبويةِ الصحيحة.
وبما أَنَّ القرآنَ والحديثَ الصحيحَ سَكَتا عن اسْمِه فعلينا أَنْ
نتابعَهما ونَبقى مَعَهما!.
وهذا معناهُ أَنَّنا لَسْنا مع البيضاويِّ وجمهورِ المفسرين في أَنه نمرود،
لأَنَّ هذا التحديدَ من الإِسرائيليات، ونقولُ: اللهُ أَعْلَمُ باسْمِه.
وما ذَكَرَهُ الفادي نَقْلاً عن سِفْرِ التكوينِ في العهدِ القديم من وُجودِ أَربعةِ
أَجيالٍ بينَ نوحٍ ونمرود لا دليلَ عليه، ولذلك نتوقَّفُ فيه، وما ذَكَرَه من أَنَّ
نَمرود عاشَ قبلَ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - بثلاثمئة سنة نتوقفُ فيه أيضاً، كذلك نتوقَّفُ في ما نقلَه عن إِنجيل لوقا من وُجودِ اثْنَيْ عَشَرَ جيلاً بين نوحٍ وإِبراهيم - صلى الله عليهما وسلم -.
وقد ذَكَرَ الإِخباريّونَ والمؤَزَخُون أَنَّ نمرودَ كان مَلِكاً في العراق، في
ذلك الزمنِ البعيدِ، ونحنُ نتوقَّفُ فيه، فلا نُصَدِّقُ ما ذكَروه عنه ولا نكذِّبُه،
ولا نَنفيهِ ولا نُثبتُه، ونقول: اللهُ أَعلمُ بحقيقتِه!!.
وقد كانَ الفادي مُتَحامِلاً على القرآن، عندما حَمَّلَه كلاماً لم يَقُلْه، لأَنَّ
هَدَفَهُ الانتقاصُ من القرآن وتخطئَتُه، وإِدانَتُه بما لم يَقُلْه!!.
***
إسماعيل صِدِّيقَّ نبٌيّ - عليه السلام -
إِسماعيلُ هو ابنُ إِبراهيمَ البكر، وإِسحاقُ هو أَخوه، وهو عَمُّ يعقوب،
أَبو بني إسرائيل، وذَكَرَ القرآنُ أَنَّ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ وإِسحاقَ ويعقوبَ كانوا
أَنبياء - صلى الله عليهم وسلم -.
وقد نَصَّ القرآنُ على نبوةِ إِسماعيلَ - عليه السلام - في أَكثر من آية، منها قولُه تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) .(1/122)
واعترضَ الفادي على القول بنبوةِ إِسماعيلَ - صلى الله عليه وسلم -، واعتبرَ هذا من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية، وحاكَمَ القرآنَ إِلى أَسفارِ العهدِ القديمِ.
قال: "ونحنُ نسأَل:
كيفَ يكونُ إسماعيلُ نبيّاً، والتوراةُ تصفُه في سِفْرِ التكوينِ بقولِها: " وإنَّه يكونُ إِنسانأ وَحْشِيّاً، يَدُهُ على كلِّ واحدٍ ويَدُ كُلِّ واحدٍ عليه؟
[تكوين: 16/ 12،] .
لقد كانَ الفادي مُخْطِئاً في محاكمةِ القرآنِ لأسفارِ العهدِ القديمِ، لأَنَّ
تلكَ الأَسفارَ من تأليفِ الأَحبار، وما ذَكَروهُ فيها من كلامٍ مشكوكٌ فيه، أَمّا
القرآنُ فهو كلامُ الله، ونَجزمُ بأَنَّ كلَّ ما فيهِ حَقّ وصِدْق، وصحيحٌ وصواب.
وبما أَنَّ القرآنَ صرَّحَ بأَنَّ إِسماعيلَ - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً نبياً، فهو الصوابُ، ونحنُ نُؤمنُ أَنَّ إِسماعيل هو أَحَدُ الأَنبياءِ الكرامِ عليهم الصلاة والسلام.
إِنَّ الخلافَ بَيْنَنا وبينَ الفادي وإِخوانِه النَّصارى كبير، فمرجعيَّتُه التي
يَحتكمُ إِليها هي أَسفارُ الكتابِ المقَدَّس، وكُلُّ ما لم يَرِدْ فيها فهو عندَه خَطَأ،
وهذه المرجعيةُ مرفوضةٌ عندنا..
ومرجعيتُنا التي نحتكمُ إِليها هي القرآنُ، وكلُّ ما ذُكِرَ فيه فهو صَواب، وهذا مرفوضٌ عنْدَه، لأَنه لا يوفنُ أَنَّ القرآنَ من عندِ الله! فكيفَ نَلْتَقي مَعَه؟!.
***
كيف احتال إخوة يوسف - عليه السلام - على أبيهم؟
ذَكَرَ القرآنُ أَنه لما تآمَرَ إِخوةُ يوسفَ عليه، واتَّفَقوا على أَنْ يَطْرَحوهُ في غَيابةِ الجُبِّ، احْتالوا على أَبيهم، ليوافِقَ على إِرسالهِ معهم، وأَوهموهُ أَنَّهم يُريدونَ مصلحةَ الصَّغير، ليرتعَ ويلعبَ ويقفزَ ويمرح.(1/123)
قال تعالى: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) .
وحاكَمَ الفادي المفترِي ما وردَ في هذه الآياتِ إِلى سِفْرِ التكوين، فلم
يَجِدْ فيه كَلاماً عنه، وَوَجَدَ فيه كَلاماً آخَر، فحكَمَ بردِّ ما في الآيات، واعتبارِه من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية.
وتساءَلَ بخُبْثٍ ولُؤْم قائلاً: " ونحنُ نسأَلُ: من أَينَ جاءَتْ هذه
المعلوماتُ؟
معَ أَنَّ التوارةَ لا تقولُ: إِنَّ إِخوةَ يوسفَ طَلَبوا من أَبيهم أَنْ
يُرْسِلَه معهم ليلعب، ولا اتَّهَمَ يَعقوبُ أَولادَه بالغفلةِ عن يوسفَ حتى يأكُلَهُ
الذئب! لكنَّ الواقعَ أَنَّ يَعقوبَ أَرسلَ يوسفَ ليسأَلَ عن سلامةِ إِخوتِه، ولما
رأَوْهُ قالوا: هُو ذا صاحبُ الأَحلامِ قادم.
فالآنَ هَلُمَّ نَقْتُلْه ونَطْرَحْه في إِحدى الآبار، ونقول: وَحْشٌ رديءٌ أَكله، فنرى ماذا تكونُ أَحلامُه. [تكوين: 37/ 19 - 20] ..
ولما باعوهُ للإسماعيليّين أَخَذوا قميصَه، ولَوَّثوهُ بِدَمِ جدْي، وأَحضروهُ إِلى أَبيهم، ليوهموهُ أَنَّ ذِئْباً أَكَلَه.. " (1) .
إِذا وَرَدَ في القرآنِ كلامٌ عن أَمْرٍ، ووردَ في الكتابِ المقَدَّسِ كَلامٌ آخَرُ
عن الأَمْرِ نفسِه، يَتَعارَضُ مع ما وردَ في القرآن، فالصَّحيحُ عندنا هو ما وَرَدَ
في القرآن، لأَنه كلامُ الله، ولا أَحَدَ أَصْدَقُ من الله، وكلُّ ما خالفَه وعارضَه نحكمُ بأَنه خطأٌ وباطلٌ ومردود.
وهذه بدهيَّةٌ إِيمانيةٌ مقررةٌ عندنا.
ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ الإِخوةَ تآمَرُوا على يوسفَ ليتخلَّصوا منه، وتَحايَلوا على
أَبيهم، ليأذنَ بخروجِه معهم، وأَوهموه بِأَنَّهُمْ يُريدونَ مصلحَتَه، بأَنْ يَخرجَ
مَعَهُمْ ليرتعَ ويَلعبَ، ولما ذَكَرَ لهم يَعقوبُ بأَنه يَخافُ أَنْ يَغْفَلُوا عنه، ويَأكُلَه
الذئب، طَمْأَنوهُ، بأَنَّ ذلك لَنْ يكون، لأَنهم حَريصونَ عليه، حافِظونَ له.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
93- أبناء يعقوب يطلبون أن يلعب يوسف معهم
إنه جاء فى سورة يوسف من القرآن الكريم أن إخوة يوسف احتالوا على أبيهم فى أخذ يوسف منه بقولهم: (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب) وليس فى التوراة هذه الحيلة.
الرد على الشبهة:
إن ما جاء فى القرآن، ولم يجئ فى التوراة؛ لا يدل على إيراد شبهة على القرآن، وذلك لأن نسخ التوراة الثلاثة العبرانية واليونانية والسامرية لا تتفق على القصة اتفاقاً تامًّا. ففى اليونانية صواع الملك. وليس فى العبرانية صواع الملك. ففى التوراة العبرانية ترجمة البروتستانت: " ولما كانوا قد خرجوا من المدينة ولم يبتعدوا؛ قال يوسف للذى على بيته: قم اسع وراء الرجال، ومتى أدركتهم فقل لهم: " لماذا جازيتم شرًّا عوضاً عن خير؟ أليس هذا هو الذى يشرب سيدى فيه. وهو يتفاءل به؟ أسأتم فيما صنعتم " [تك 24: 4 - 5] وفى الكتاب المقدس ترجمة 1993م بلبنان الصادر عن دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط: " فما أن خرجوا من المدينة، وابتعدوا قليلاً حتى قال يوسف لوكيل بيته: قم اتبع هؤلاء الرجال. فإذا لحقت بهم فقل لهم: لماذا كافأتم الخير بالشر؟ لماذا سرقتم كأس الفضة التى يشرب بها سيدى. وبها يرى أحوال الغيب؟ أسأتم فيما فعلتم ".
فكأس الفضة فى نسخة، وهو غير موجود فى نسخ أخرى. اهـ (شبهات المشككين) .(1/124)
وهذا معناهُ أَنَّ اعتراضَ الفادي عليه مردود، وتخطئَتَه له هي الخطأُ
الكبيرُ الذي وَقَعَ هو فيه، لأَنَّهُ اعتمدَ على كلامِ سِفْرِ التكوين عنه، وهو من
تأليفِ الأَحبار، الذين حَرَّفوا كلامَ الله، ومَزَجوهُ بأَقوالِهِمْ وأَكاذيبهم
ومَزاعمِهم!!.
الذي وردَ في سِفْرِ التكوينِ: أَنَّ يَعقوبَ كان يسكنُ في " النَّقَبِ " في
جنوبِ فلسطين.
وذهبَ أَبناؤُهُ العشرةُ من النَّقَبِ في الجنوب إِلى شَكيمَ - هي
نابلس - في الشمالِ يَرْعَوْن غَنَمَهم، وقَلِقَ يعقوبُ عليهم، ولم يكنْ عندَه إِلّا
ابْنُه يوسفُ، وكان طِفْلاً صغيراً، فطلبَ منه أَنْ يَذْهَبَ إِلى إِخوتِه ليطمئنَّ
عليهم! وسارَ الطفلُ وَحْدَه، وقطعَ المسافةَ من الجنوبِ إِلى الشمالِ وحده،
واجتازَ منطقةَ النقبِ والخليل وبيتَ لحم والقدس ورام الله وحْدَه، وهي مسافة طويلة، يستغرقُ عُبورُها عدةَ أَيام!!! ووصلَ إِلى إِخوانِه في منطقةِ شكيم، وكانوا يَرعونَ مواشيهم، وكانوا يَكْرَهونَ يوسف، فلما رأَوه قادماً إِليهم تآمَروا على إِلقائِه في أَحَدِ الآبارِ على الطريقِ ليتخلَّصوا منه، فهجَموا عليه، وجَرَّدوهُ من قميصه الموَشَّى، وأَلْقوهَ في بِئْرٍ، وذَبَحوا جَدْياً، ولَطَّخوا القميصَ بدمِه، وزَعَموا لأبيهم أَنَّ ذِئْباً أَكلَه!!.
وإِذا كان الفادي يَعتمدُ هذا الكلام، لأَنه يؤمنُ أَنَّ كُلَّ ما في الكتابِ
المقَدَّس صحيح، فإِننا لا نَعتمدُه ولا نقولُ به، لأَنه يُخالفُ ما ورَدَ في القرآن، وأَيُّ كلامٍ يَتَعارضُ مع القرآنِ مردودٌ عندنا!!.
***
الشاهد ببراءة يوسف - عليه السلام -
ذكرَ القرآنُ أَنه بعد أَن اتهمت امرأةُ العزيزِ يوسفَ بمراودتِها، ودافعَ
يوسفُ عن نفسِه، تدخَّلَ أَحَدُ أَفرادِ الأُسرةِ للحكْمِ في هذه المسألة.(1/125)
قال تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) .
وذهبَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاويِّ ليتعَرَّفَ منه على هويةِ هذا الشاهد،
وأَخَذَ عن البيضاويِّ قولَه: " قيل: هو ابنُ عَمٍّ لها، كان صبيّاً في المهد ".
واتَّهَمَ الفادي القرآنَ بالخَطأ، لأَنَّ البيضاويَّ ذَكَرَ ذلك! وكيفَ يتحملُ
القرآنُ مسؤولية كلامٍ لم يَقُلْه؟ ! ولذلك عَلَّقَ على ذلك بقوله: " ونحنُ نسأل: من أَينَ جاءَ هذا الشاهد؟
هل كانَ في البيت؟ ومعَ مَنْ كان؟
والبيتُ لم يكنْ به أَحَد؟..".
ويمكنُ أَنْ يصحَّ اعتراضُ الفادي لو قُلْنا: كان الشاهدُ طِفلاً صغِيراً في
المهد! مع أَنَّ هذا الكلامَ الذي رواهُ البيضاويُّ لم يصِحّ، ولا نقولُ به، إِذ
كيفَ يشهدُ هذه الشهادةَ الواعيةَ طفلٌ صغيرٌ في المهد؟
وأَينَ كانَ هذا الطفل؟
هل كانَ داخلَ البيتِ وشاهَدَ مراودةَ المرأةِ ليوسف؟.
الراجحُ أَنَّ هذا الشاهدَ كانَ رجلاً واعياً حصيفاً حكيماً، ولا نَعرفُ شيئاً
عن هوية هذا الشاهد، إِلّا أَنَّه من أَهْلِ امرأةِ العزيز.
ولا يَلْزَمُ أَنه شاهدَ مراودةَ المرأةِ ليوسفَ، كما أَنه لا يلزمُ أَنه كانَ معَ العزيزِ عندما رآهُمَا لدى الباب ...
فمن المعقولِ - بعدَما اتَّهمت المرأةُ يوسفَ، ودافعَ يوسفُ عنِ
نفْسِهِ - أَنْ يَطلبَ العزيزُ حَكَماً ليحققَ في الأَمْرِ ويُصْدِرَ حُكْمَه، وأَنْ يُختارَ هذا الحَكَمُ الشاهد القاضي من أَهْلِها ليكونَ أَبعد عن التهمة.
وتدلّ شهادةُ الشاهدِ على رجاحَةِ عقْلهِ واتزانِه، حيثُ دَعا إِلى النظرِ إِلى
القميصِ الذي يَرتديه يوسف، فإِنْ قُدَّ من الأَمام كانت المرأةُ صادقةً في
دَعْواها، وكان هو كاذباً، لأَنَّه يكونُ قد هَجَمَ عليها، وهي تَردُّهُ وتُدافعُ عن نفسها، فتَقُدُّ قَميصَه من قُبُك، وإِنْ قُدَّ قَميصه من دُبُرٍ كانَ يوسفُ صادقاً وهي(1/126)
كاذبة، لأَنه يكون هارباً منها، وهي تَلحقُ به لتُعِيدَهُ إليها، وتَشُدُّ قميصَه من
الخلفِ فَتَقُدُّه!.
ولما رأَى العزيز القميصَ قُدَّ من دُبُرٍ، عَرَفَ أَنَّ امرأَتَه هي التي
راودَتْ يوسف، فقال لها: هذا من كيدِكُنَّ، إِنَّ كيدَكُنَّ عظيم.
وبهذا نعرفُ خَطَأَ الفادي عندما خَطَّأَ القرآنَ في كلامِه عن هذا الشاهد،
وعندما وَضَعَ عنواناً تهكُّمياً، وهو: " اختراعُ طِفْلٍ يَنطقُ بالشهادة "! والاختراعُ يَعْني الادِّعاءَ والافتراءَ والكَذِب.
وبما أَنَّ القرآنَ أَخبرَ عن الشاهدِ وشهادتِه فهو الصحيح، لأَننا نَثِقُ ونؤمنُ
بكلِّ ما وَرَدَ في القرآنِ!.
وفي الوقتِ الذي خَطَّأَ فيه الفادي القرآنَ في كلامِه عن الشاهد، فقد
اعتمدَ كلامَ الكتابِ المقَدَّس، الذي زعمَ مُؤَلِّفوه الأَحبارُ أَنه لما راودت المرأةُ
يوسفَ أَمسكَتْه من ثوبه، فتركَ ثوبَه مَعَها وهَرَب!..
ونحنُ ننكرُ ذلك ونَرُدُّه، ولا نقولُ إِلّا بما قال به القرآن.
ويُنكرُ الفادي المفْتَري أَنْ تكونَ المرأةُ قالَتْ لزوجِها ما ذَكَرَه القرآن
عنها: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) .
وذلكَ في قولِه: " وكيفَ يُعلنُ فوطيفارُ براءةَ يوسفَ وذَنْبَ امرأتِه، ثم يُبْقيها هي ويوسف في البيت، ويرضى بهذا العار؟
وكيفَ بَعْدَ أَنْ يَحكُمَ فوطيفارُ ببراءةِ يوسف، وبعدَ أَنْ تُصَرِّحَ زوجتُه أَنها راودَتْه عن نفسِه فاستعصم، تعودُ لِتهدِّدَ يوسفَ بالسجنِ إِنْ لم يَفعلْ ما أَمَرَتْه به من فحشاء، فَيَقْبَلُ فوطيفارُ أَنْ يسجنَه، لا لشَرّهِ بل لِعفَّتِهِ.. ".
واعتراضُ الفادي على هذا دليلُ جهلِه وغبائِه، وهو اعتراضٌ لا مَعنى
له، فبما أَنَّ اللهَ ذَكَرَ ذلك في القرآن فإِننا نجزمُ بأنه حَصَلَ كما أَخبرَ الله.(1/127)
يوسف ومراودة نسوة المدينة
أَخبرَ اللهُ أَنَّ نسوةً في المدينةِ عَذَلْنَ امرأةَ العزيز لحبِّها فَتاها يوسف،
ومراودَتِها له، وكانت هي أَمْكَرَ منهن، حيثُ أَعَدَّتْ لهنَّ مأدبة، وأَظهرتْ لهنَّ يوسف، فلما رأَيْنَه فُتِنَّ وأُعجبنَ به، فجاهرت المرأةُ بُحبِّها له، وتصميمِها على معاشرته.
قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) .
واعترضَ الفادي المفترِي على ما قالَه الله، وأَنكرَه وكَذَّبه، وكانَ عنوانُ
اعتراضِه: " وليمةٌ نسائيةٌ وهمية " أَيْ لم تكنْ تلك المأدبةُ حقيقية، وإِنما كانَتْ
وهميةً متخيَّلَة، افْتَراها القرآن.
وقال في إِنكارِه وتكذيبِه: " ونحنُ نسأل: هل يُعقلُ أَنَّ زوجةَ ضابطٍ، كبير، تُهيِّئُ وليمةً خِصّيصاً، وتَدْعو سيداتِ أَشرافِ المدينة، لتُعلنَ أَمامَهنَّ غَرامَها وهيامَها بعبدِها، وتكشفَ عن وجهها بُرْقُعَ الحياء، دونَ أَنْ تخشى فضيحة؟
وكيفَ يُعْقَلُ أَنَّ النسوةَ ينشغلْنَ بجمال يوسفَ حتى يُقَطِّعْنَ أَيديهنَّ بالسكاكين من غيرِ إِحساسٍ، من شدةِ الذُّهول؟
أَليس هذا من الخيالاتِ السقيمة؟ ! " (1) .
اعتبرَ الفادي المفترِي كَلامَ القرآنِ عن المأدبةِ من الخيالاتِ السقيمة،
فهي مكذوبةٌ مختَلَقَة، واعتبرَها متناقضةً مع المنطقِ العقليِّ! فمن غيرِ المعقول
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
94- وليمة نسائية وهمية
إنه جاء فى سورة يوسف أن امرأة العزيز هيأت وليمة لبعض السيدات وأنهن قطعن أيديهن. وهذا غير معقول.
الرد على الشبهة:
كانت دعوة موسى - عليه السلام - فى الأصل عالمية لليهود وللأمم. وكان فيها الدعوة إلى حميد الصفات. وكان فيها عدم احتقار اليهودى للأممى، وعدم التعدى على أمواله وحرماته. وكان فيها الحث على دعوة الأممى إلى معرفة الله وعبادته. وفى زمان سبى بابل حَرَّف اليهود التوراة، وامتنعوا عن دعوة الأمم إلى معرفة الله، وأباح اليهود لأنفسهم أخذ الربا من الأميين، والزنا بنسائهم، وسفك دمائهم وما شابه ذلك من الصفات الذميمة. وكتبوا ما يدل على ذلك فى التوراة، وحذفوا من التوراة حال تحريفهم لها ما يمنعهم عن ظلم الأميين. ومن هذا الذى حذفوه: دعوة يوسف - عليه السلام - للمصريين الذين كانوا معه فى السجن إلى عبادة الله تعالى وترك الآلهة المتعددة، وحذف قول النسوة ليوسف: (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) (1) لأن هذا يتعارض مع تخليهم عن دعوة الأمم، ويتعارض مع ما اتفقوا عليه من العبث بنسائهم. وألا يكن هذا صحيحاً. فما هذه الترهات المكتوبة فى التوراة عن الأنبياء وغيرهم؟ ففى التوراة أن لوطاً - عليه السلام - زنا بابنتيه [تك 19] وأن سليمان - عليه السلم - أحب نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون [الملوك الأول 11] .
وقال كاتب التوراة: إن سليمان - عليه السلام - هو ابن داود من زوجة أُورِيّا الحِثِّى. أى أنه تعدى على زوجة رجل من الأمم هو من قبيلة بنى حث وليس من اليهود. وإذا كان هذا هو المكتوب بغية التعدى على نساء الأمم؛ فإن العقل لا يتصور أن يضع فى التوراة عفة يوسف عن نساء الأمم. ولا يتصور العقل أن يكتب عن يوسف أنه فسر حلم الملك من قبل أن يخرج من السجن. لأنه لو كتب ذلك لكان معناه أن يوسف يحسن إلى من سيئ إليه. وهو يريد لليهود أن يسيئوا لمن يحسن ولمن لا يحسن.
وإن أصر مورد الشبهة على إيرادها. ففى نسخ التوراة زيادة ونقص، وفى نسخ الإنجيل أيضاً. ومن أمثلة ذلك: المزمور المائة والحادى والخمسين؛ فإنه فى النسخة القبطية فقط. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) يوسف: 31.(1/128)
أَنْ تُجاهرَ المرأةُ بعشقها لفَتاها أَمامَ النساء، وأَنْ تتخلَّى عن برقعِ الحياءِ!
وكأَنه لا يَعرفُ ماذا يَدورُ بين النساءِ الفاجراتِ من كلامٍ إِباحيٍّ بَذيءٍ، حول
الجنسِ والشهوة!! وْمن غيرِ المعقول عنده أَنْ تُصابَ النساءُ بالدهشةِ والذُّهولِ عندما شاهدْنَ جَمالَ يوسف فيقطِّعْنَ أَيديهنَّ بالسكاكين!! مع أَنه لا غرابةَ فيه، فالنساءُ شهوانياتٌ خاضعاتٌ لسلطانِ الشهوة، وكان جمالُ يوسفَ طاغياً، فلما رأَيْنَه صَرَخْنَ قائلات: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) .
وليس معنى قوله: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أَنهنَّ قَطَّعْنَ أَيديهنَّ حقيقة، وفَصَلْنَ
أَيديهنَ عن أَجسامِهن، إِنما معناهُ أَنهنَّ جَرَحْنَ أَيديهنَّ بسكاكينهن، ونزَفت
الدماءُ منها، دونَ أَنْ يَشعرنَ، لفرطِ تأَثّرهِنَّ ودهشَتِهِنَّ وإِعجابِهن!!.
وبما أَنَّ الله أَخبرَ أَنَّ ذلك حَصَل، فإِننا نجزمُ أَنه حصل، ولا يَجوزُ
لمسلم أَنْ يُكَذِّبَ كلامَ الله، لأَنه لا أَحَدَ أَصدقُ من الله حديثاً! ولْيذهب
الفادي وتكذيبُه إِلى الجحيم!!.
***
توجيه طلبِ يوسفَ ذكرَه عند الملك
أَخْبَرَنا اللهُ أَنه كانَ معَ يوسف في السجن رَجُلان، وأَنه رأى كلّ واحدٍ
منهما رؤيا، وأَوَّلَ لكلِّ واحدٍ منهما رُؤْياه، وطلبَ من الذي سَيفرجُ عنه أَنْ
يَذْكُرَه عند الملك، وأَنه مسجونٌ ظلماً، لعلَّ الملكَ يفرجُ عنه.
قال تعالى: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) .
معنى قوله: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) : اذْكُرْ للملِك قِصَّتي، وأَخْبِرْهُ أَنني مسجونٌ ظلماً.
ومعنى قوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) : أنسى الشيطانُ الرجلَ
الناجيَ المُفْرَجَ عنه تَذكيرَ الملكِ بقصةِ يوسفَ السجين.
فالهاءُ المفعولُ به في(1/129)
" أَنساهُ " تَعودُ على الرجلِ الناجي، وليس على يوسف.
و" ذِكْرَ " بمعنى تذكير، والهاءُ المضافُ إِليه في " رَبِّه " تعودُ على الرجلِ نفسِه.
و" رَبّه " هو الملك، الذي كانَ يؤمنُ أَنه ربُّه.
ولما نسيَ الرجلُ تذكير الملكِ لَبِثَ يوسُفُ في السجنِ بِضْعَ سنين، لم
يذكُرْه ولم يفطنْ له أَحَد.
وقد اعترضَ الفادي على الآية، لأَنه ظَنَّ أَنها تَنهى عن استعانة الإِنسانِ
بالإِنسان.
وذَهَبَ إِلى تفسيرِ البيضاوي، ونَقَلَ منه كلاماً مَرْجوحاً، وحَديثاً غيرَ
صحيح..
قال الفادي: " قال البيضاوي: قال محمد: رحمَ اللهُ أَخي يوسُف.
لو لم يَقُلْ: اذْكُرْني عنْدَ ربِّك، لما لبثَ في السجن سَبْعاً بعد الخمس ".
يَعْني بكلمةِ " محمد ": محمداً رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -.
فهل يُمكنُ للإمامِ البيضاويِّ أَنْ يذكُرَ كلمة " محمد " غيرَ مقرونةٍ بالصلاةِ والسلام، - صلى الله عليه وسلم -؟
لِننظُر!..
قالَ البيضاوي: " أَو أُنْسِيَ يوسفُ ذِكْرَ الله، حتَّى استعانَ بغيرِه..
ويؤَيِّدُهُ قولُه عليه الصلاة والسلام: رحم الله أخي يوسف ... ".
البيضاويُّ يَقول: " قالَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام "، ولما نَقَلَ المفتري
الفادي هذه الجملة حَرَّفَها إِلى قوله: " قال محمدٌ ".
لأَنه لا يؤمنُ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولُ الله، ولا يستحقُّ منه الصلاةَ والسلامَ عليه، لذلك يذكُرُ اسْمَه مُجَرداً، بوقاحةٍ وسوءِ أَدبِ معه..
أَما نحنُ فإِننا مأمورونَ بالأَدَبِ مع رسولِنا، فلا نذكُرُ اسْمَه إِلا مَقْروَناً بالصلاةِ والسلامِ عليه، فنقول: قالَ محمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
والحديثُ الذي ذَكَرَهُ البيضاوي لم يصحّ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه اتهامٌ وإدانةٌ ليوسفَ عليه الصلاة والسلام، بأَنه نسيَ ذِكْرَ اللهِ واستعانَ بغيرِه، ولذلك عاقَبَهُ اللهُ بأَنْ أَطالَ سجْنَه، من خمسِ سنين إلى سبعِ سنين.(1/130)
وقد عَلَّقَ البيضاويُّ على الحديثِ الذي لم يصحّ بقولِه: " والاستعانةُ
بالعبادِ في كشفِ الشدائدِ وإنْ كانت محمودةً في الجملة، لكنَّها لا تَلِيقُ
بمنصبِ الأَنبياء ".
وهذا تفسير للآيةِ مَرجوح، والراجحُ هو ما ذكَرْناه قبلَ قليل، من أَنَّ
المقصودَ بجملةِ (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) هو الرجلُ الناجي وليسَ
يوسُفَ - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا هو الراجحُ عند البيضاويِّ نفسه، ولذلك قال: " (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) .
فأُنْسِيَ الشَّرابيُّ أَنْ يَذْكُرَهُ لرَبِّه، فأَضافَ إليه المصدَرَ لملابستِه له.. ".
وإِذا كانَ الراجحُ في معنى الآية ما قُلْناه، فإِنَّ اعتراضَ الفادي عليها
مردود، وهو قولُه: " ونحنُ نسأَلُ: هل حرام أَنْ يستعينَ الإِنْسانُ بأَخيه وقْتَ الشدائد؟
لَمْ يَنْسَ يوسفُ ربَّه عندما كَلَّفَ الساقِيَ أَنْ يذكُرَه لدى فرعونَ،
ليُنْصِفَه ويُخرجَه من السجن، كما لم يَنْسَ بولسُ الرسولُ ربَّه عندما استغاث من اليهود، واستأْنَفَ قضيتَه إِلى محكمةِ قَيْصَر.
وماذا يَقولونَ في محمدٍ الذي استعانَ بِعَلِيٍّ وأَلْبَسَه ثوبَه تَعْمِيَةً لأَهْلِ قريش، فنجا محمدٌ بعد أَنْ كان عُرْضَةً للخَطَر؟
أَمَّا ذكْرُ السّاقي ليوسُفَ أَمامَ فرعونَ فيدلُّ على حكمةِ يوسف، وعلى
واجب الساقي، من غير وقوعِ أَيِّ ضررٍ على أَيِّ أَحَد.. ".
والخلاصةُ: لم يُخطِئْ يوسفُ - صلى الله عليه وسلم - عندما طَلَبَ من الرجلِ المفْرَجِ عنه ذكْرَ قصَّتِه عندَ الملك، ولم يكنْ هذا منه استعانةً بغيرِ الله، ولا نسياناً لذِكْرِ الله، ولم يتسلَّطْ عليه الشيطان، ولم يُنْسِه ذكْرَ ربّه، والذي نَسي هو الرجل، حيث نَسِيَ تذكير الملكِ بقضيةِ يوسفَ المظلوم، وأَدّى هذا إِلى أَنْ يَلبثَ يوسُفُ في السجنِ بضعَ سنين، وهذه المدةُ لم تكنْ عقوبةً من اللهِ
ليوسفَ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنه لم يُذْنِبْ حتى يعاقبهُ الله، وإِنما كانت ابتلاءً من اللهِ له.(1/131)
والحديثُ الذي ذَكَرَه البيضاويُّ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصحّ..
وهذا معناهُ رَفْضُ كلامِ الفادي المفترِي وَرَدُّه، لأَنه بَناهُ على غيرِ أَساس!!.
***
عدد مرات مجيء إخوة يوسف لمصر
خَطّأَ الفادي المفترِي القرآن، في حديثِه عن عددِ مَرّاتِ مجيءِ إِخوةِ
يوسُفَ إِليه في مصر، وحاكَمَ القُرآنَ إِلى سِفْرِ التكوين.
قالَ في اعتراضِه على القرآنِ وتخطئتِه له: " قالَ البيضاوي: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) :
يأتيني بيوسفَ وبنيامين وأَخيهما الذي توقَّفَ بمصر..
ولكنَّ الكتابَ المقَدَّسَ يُخْبرُنا أَنَّ إخوةَ يوسُفَ العشرةَ جاؤوا إِلى مصْرَ
ليَشْتَروا قَمْحاً، فَعَرَفَهم يوسُفُ، ولكنَّه تَنَكَّرَ لهم، وليعرفَ أَحوالَهم اتَّهمهم
أَنهم جواسيسُ، فقالوا: لا، بل إِنّنا إِخوة، وأَحَدُنا مفقود، وواحدٌ صَغيرٌ مع أَبيه، ونحنُ العَشَرَةُ، فأَخَذَ يوسفُ شمعونَ، وقَيَّدَه رهينَة، حتى يُحْضروا الأَخَ الأَصْغر، ليُبَرْهِنوا أَنهم ليسوا جواسيس..
وهذا لم يَذْكُرْه القرآنُ!.
ولما رَجَعوا إِلى أَبيهم، أَخذوا بنيامين، وجاؤُوا به إِلى مصر، وَوَضَعَ
رجالُ يوسُفَ كأسَ يوسُفَ في عِدْلِ بنيامين، واتَّهَموه بالسرقة، فدافَعَ عنه
إِخوتُه..
عندَها عَرَّفَهم يوسُفُ بنفسه، وأَرسلَهم ليُحْضروا أَباهم، فَحَضَروا مع
أبيهم إِلى مصر، حيثُ استَقَرُّوا..
ولكنَّ القرآنَ يَقولُ: إِن يوسُفَ حَبَسَ بنيامين، وإِنَّ شمعون بقيَ في
مِصْر، وإِنَ إِخوةَ يوسُفَ رَجَعوا لأَبيهم بدونهما..
فجعَل عَدَدَ مراتِ مجيءِ إِخوةِ يوسُفَ لمصر أَربعَ مَرّاتٍ بَدَلَ ثلاث.. " (1) .
عندما يُحاكمُ الفادي القرآنَ إِلى كتابه المُقَدس، وُيخَطِّئُه في ما خالَفَ فيه
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
95- عدم سجن بنيامين
إن فى القرآن أن يعقوب قال لأبنائه بعد رحيل بنيامين إلى مصر: (بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعاً) (1) . وقال المؤلف: إن المفسر البيضاوى يقول: إنه يقصد بقوله (بهم جميعاً) يوسف وبنيامين وأخيهما الذى توقف بمصر.
وإن القرآن جعل عدد مرات مجئ إخوة يوسف لمصر أربع مرات بدل ثلاث كما جاء فى التوراة، وأن فى القرآن أن يوسف حبس بنيامين، وأن إخوة يوسف رجعوا إلى أبيهما بدون شمعون وبنيامين.
الرد على الشبهة:
الخلاف بين التوراة وبين القرآن فى سرد حوادث القصة لا يدل على عيب فى القرآن، ويدل على ذلك: ما فى التوراة من زيادة ونقص فى النسخة الواحدة، وفى النسخ الثلاث. ومع هذا ففى التوراة ما يدل على ما جاء فى القرآن ومن ذلك:
1 - أن يوسف كان قد أنجب ولدين فى مصر هما أفرايم ومنسّى [تك 46: 20] ويعقوب أبوه من الأنبياء الملهمين، ويدل على ذلك أنه يقول:
(إنى لأجد ريح يوسف) (2) - (يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله) (3) فإذا قال (بهم) بضمير الجمع. وقد صرح من بعد بفقد اثنين هما: يوسف وأخيه فقط؛ لا يدل ضمير الجمع على ولد ثالث محبوس فى مصر، وإنما يدل على ولدى يوسف.
2 - أن فى التوراة ما يدل على سجن بنيامين وهو أنه لما دبر حيلته فى استبقائه وتمت الحيلة، طلبوا منه أن يطلقه فرد عليهم بقوله: " حاشا لى أن أفعل هذا. الرجل الذى وُجد الكأس فى يده؛ هو يكون لى عبداً، وأما أنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم " [تك 44: 17] .
فقوله: " هو يكون لى عبداً " معناه: أنه استبقاه فى " مصر ".
3 - وفى التوراة ما يدل على بقاء كبيرهم فى مصر، مع يوسف وبنيامين. وكبيرهم هو " راوبين " لا شمعون كما قال المؤلف إنه أخذه رهينة، ولا يهوذا كما قال كاتب التوراة.
ومما يدل على بقاء كبيرهم: أنه استعطف يوسف بقوله: " فالآن ليمكث عبدك عوضاً عن الغلام عبداً لسيدى، ويصعد الغلام مع إخوته؛ لأنى كيف أصعد إلى أبى والغلام ليس معى؟ لئلا أنظر الشر الذى يصيب أبى " [تك 44: 33 - 34] . اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) يوسف: 83.
(2) يوسف: 94.
(3) يوسف: 87.(1/132)
كتابَه المقَدَّسَ يَقَعُ في خطأٍ منهجى كَبيرٍ، سبق أَنْ ذكَرْناهُ أَكْثَرَ من مَرَّة، إِنه
يجعلُ كتابَه المقَدَّسَ أَصلاً، ويجعلُ القرآنَ تابعاً له، فإِنْ لم يوافِقْه ويُتابِعْه فهو
المخطئ! وهذا باطلٌ ومردود، فمن المعلومِ من الدينِ بالضرورة عندَنا أَنَّ
القرآنَ هو الأصل، وأَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ هو الذي يُحْمَلُ عليه ويُحاكمُ إِليه،
وما خالَفَ فيه القرآنَ، فهو الذي أَخْطَأَ وليس القرآن!.
وخلاصَةُ ما قالَه القرآنُ عن ما جَرى بينَ يوسفَ وأَخيه هي:
بعدَ أَنْ سَلَّمَ الملكُ يوسفَ مقاليدَ البلاد، وجَعَلَه على خزائنِ الأَرض،
جاءَ الناس من البلادِ المجاورةِ إِلى مصر، ليأخُذوا منها القمح، ومنهم إِخوةُ
يوسف، الذينَ جاؤوا من البَدْوِ إِلى مصر.
1 - جاءَ إِخوةُ يوسفَ العَشرةُ طالبينَ القمح، ولما دَخَلوا عليه عَرَفَهم،
لكنَّهم لم يَعْرِفوه..
ولما جَهَّزهم بجَهازهم، وأَعطاهم القمح الذي يُريدون، أَعادَ
لهم بضاعَتَهم التي أَتَوْا بها إِكراماً لهم، وتَرْغيباً لهم بالعودة..
وقبلَ أَنْ يُغادروه طلبَ منهم أَنْ يُحْضِروا معهم أَخاهم من أَبيهم، فإِنْ لم يَأتوا به فلنْ يُعطيهم كَيلاً ولا قمحاً ولا شيئاً كما ورد في الآيات (58 - 62) من سورة يوسف - صلى الله عليه وسلم -.
ولما رَجَعوا إلى أَبيهم أَخْبَروه بما حَصَلَ معهم، وطَلَبوا منه أَنْ يُرْسِلَ
معهم أَخاهم، وذَكَّرَهم الأَبُ بما فَعَلوا مع أَخيهم يوسف، وانْتَهى الأمْرُ إِلى
أَن اشترط عليهم أَنْ يَحْلِفوا له الأَيْمانَ المغَلَّظَةَ أَنْ يُحافظوا على أَخيهم
الصغير، وأَنْ يُعيدوهُ إليه سالماً، إِلَّا أَنْ يَحْدُثَ شيءٌ لم يكنْ في الحسبان كما
ورد في الآيات (63 - 68) من سورة يوسف - عليه السلام -.
2 - دخل الإِخوةُ العشرةُ على يوسف، ومعهم أَخوهم الصَّغير، الذي
يُسَمّيه سِفْرُ التكوين " بنيامين "، ونتركُ نحنُ اسْمَه ضمنَ مبهماتِ القرآن، لعدمِ وجودِ دليلٍ على بيانِه.
وهذا هو اللقاءُ الثاني بين يوسفَ وإِخوتِه.
ولما عَرَّفَ يوسُفُ أَخاه الصَّغيرَ على نفسِه، وطلبَ منه أَنْ لا يُخبرهم
بذلك، قامَ يوسُفُ بتصرفٍ ليحتفظَ بأَخيه، حيثُ جَعَلَ السقايةَ في رَحْلِ أَخيه الصغِير، وانتهى الأَمْرُ بأَخْذِه بتهمةِ السرقة، ولم تنفع محاولاتُ الإِخوةِ إِطلاقَ(1/133)
سراحِ أَخيهم الصغير، أَو جَعْلَ أَحَدِهم مكانَه كما ورد في الآيات (69 - 79) من سورة يوسف - صلى الله عليه وسلم -.
عند ذلك أَصَرَّ الأَخُ الأَكبرُ أَنْ يَبْقى في مصرَ ليُتابعَ الأَمْر، وأَمَرَ إِخوانَه
التسعةَ أَنْ يعودوا إِلى أَبيهم، ويُخْبِروه بما حَدَث، من أَخْذِ الأَخِ الصغيرِ بتهمةِ السرقة، وعَجزِهم عن إِطلاقِ سَرَاحِهِ أَو استبدالِه.
كما ورد في الآيات (80 - 82) من سورة يوسف - عليه السلام -.
عند ذلك حَزنَ على فَقْدِ أَبنائِه الثلاثة: يوسف والابنِ الأَكبر والابنِ
الأَصغر، وقال: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) ، ويقصدُ بذلك الأَبناءَ الثلاثة.
وطلبَ يعقوبُ من أَبنائه التسعةِ أَنْ يَعودوا إِلى مِصْر، ويَتَحَسّسوا من
يوسفَ وأَخيه الصغير، ولا يَيْئَسوا من رَوْحِ اللهِ، فَفَعَلوا.
كما ورد في الآيات (83 - 87) من سورة يوسف - صلى الله عليه وسلم -.
3 - دَخَلَ الإِخوةُ على يوسف، وهذا هو اللقاءُ الثالثُ به، وأَخْبَروه بما
أَصابَهم من ضُرٍّ وتَعَبٍ، ورَجوهُ أَنْ يُعيدَ معهم أَخاهم الصغير..
عند ذلك عَرفَهم يوسفُ على نفسِه، فأَصابَتْهم الدهشةُ والمفاجأة، وطلبَ منهم الإِتيانَ بأَبويهم وأَهْلِهم أَجمعين! وَأَن يأخذوا قميصه، ويلقوه على وجه أبيه ليرتد بصيراً.
كما ورد في الآيات (88 - 98) من سورة يوسف - عليه السلام -.
4 - رجعَ الإِخوةُ إِلى مصر، ومعهم أَهْلُهم أَجمعون، والْتَقَوْا بيوسفَ - عليه السلام -
اللقاءَ الرابع، ورَفَعَ أَبوَيْه على العرش، وخَرَّ الجميعُ له سُجَّداً.
وبذلك استقرت العائلةُ كُلّها في مصر، آمِنين مطمئنين.
كما ورد في الآيات (99 - 102) من سورة يوسف - عليه السلام -.
والمعتمدُ عندنا هو ما قالَه القرآن، عن ما جرى بينَ يوسف - عليه السلام -
وإِخوتِه، ونَقبلُ ما وَرَدَ في الكتابِ المقَدَّس، مما جاءَ موافِقاً للقرآن، نَقْبَلُه
لأَنه وَرَدَ في القرآن، وليس لأَنه وَرَدَ في الكتابِ المقَدَّس.
ونَرُدُّ ما وَرَدَ في الكتابِ المقَدَّس مما جاءَ مخالفاً لما في القرآن، ونعتبره مما عَبَثَتْ به أَيدي الأَحبارِ المحَرِّفين للتوراة.(1/134)
قالَ الأَحبارُ: إِنَّ يوسفَ عَرَّفَ إِخوتَه على نفسه في لقائِه الثاني بهم، وقالَ
القرآنُ: إِنه عَرَّفَهم على نفسِه في لقائِه الثالثِ بهم، والصوابُ ما وَرَدَ في القرآن.
وقالَ الأَحبارُ: إِنَّ يوسفَ أَخَذَ أَخاهُ الكبيرَ شمعونَ رهينة، وحَبَسَه عنده
إِلى أَنْ يَعودَ الإِخوةُ ومعهم أَخوهم الصغير بنيامين.
وهذا لم يَذْكُرْه القرآن، ولذلك لا نَقولُ به.
وقالَ القرآنُ: إِنَّ يوسفَ هو الذي وَضَعَ السقايةَ في رَحْلِ أَخيه، ثم أَخَذَه
بتهمةِ السرقة، وتأَخَّرَ الأَخُ الكبيرُ في مصر لمتابعةِ الموضوعِ، ورجعَ الإِخوةُ
التسعةُ إِلى أَبيهم ليُخبروه بالموضوع، فزادَ حُزْنُ يعقوبَ على فَقْدِ أَبنائِه
الثلاثة..
وهذا ما لم يذكُرْهُ الأَحبارُ في سِفْرِ التكوين.
ونحنُ نؤمنُ به ونعتمدُه لورودِه في القرآن، ولا يهمُّنا عدمُ ورودهِ في الكتاب المقدس، ولا وَزْنَ لاعتراضِ الفادي على ما قالَه القرآن وتخطئتِه له!.
***
حقيقة قميص يوسف
تَهَكَّمَ الفادي المفترِي على قميصِ يوسفَ - عليه السلام -، الذي أَمَرَ إِخوانَه أَنْ يُلْقوهُ على وَجْهِ أَبيه ليرْتَدَّ بَصيراً، وجعلَ عنوانَ اعتراضِه: " قميصٌ سحري ".
وقد أَشارَ إِلى القميصِ قولُه تعالى: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) .
وذَكَرَ الفادي المفْتَري خُرافةً حولَ القميص، نَسَبَها إِلى التابعيِّ المفَسِّر
مجاهد بن جبر، ولم يَذْكُر المرجعَ الذي أَخَذَها منه، ويَستحيلُ أَنْ يقولَ
التابعيُّ مجاهدٌ تلكَ الأُسطورةَ المكذوبة، لتعارُضِها مع العقيدة والإِيمان!
وخلاصَةُ تلك الأَسطورةِ الباطلة أَنَ القَميصَ الذي كان يلبسُه يوسفُ كان
قميصاً لإِبْراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، أَنزلَهُ اللهُ عليه من الجنة، عندما أُلْقِيَ في النار، وكانَ قميصاً من حَرير، وتوارَثَه أَبناؤُه إِسحاق ويعقوب، ووضعَه يَعقوبُ في قَصَبَةٍ من فِضةٍ وعَلَّقَه في عنقِه، تعويذةً تَدفَعُ عنه العين، ولما أُلْقِيَ يوسفُ في البئرِ(1/135)
أتاهُ جبريلُ وأَلْبَسَهُ إِيّاه، وكانَ يوسُفُ مَحفوظاً مُوَفَقاً بفضْلِ القميص..
وأَمَرَ يوسُفُ بإِرسال القميصِ إِلى أَبيه، لأَنَّ فيه ريحَ الجَنَّة، وله أَثَرُ السحر، فما وُضِعَ على مَريضٍ إِلاّ عوفي.
وعَلَّقَ الفادي على هذه الأَسطورةِ المكذوبةِ فقال: " ونحنُ نسأَل: كيفَ
يَلْبَس سُكانُ الأَرضِ ثيابَ سُكانِ السَّماء؟
وكيفَ يعملُ القَميصُ عملَ المعجزاتِ، على أَيْدي الذين توارَثوهُ، أَيًّا كانوا وأَنى كانوا؟ ما هو مَصيرُ هذا القميصِ الآن؟
أَلا نَسْخَرُ من الذينَ يُلْبِسونَ أَولادَهُم وبهائِمَهم تَعاويذ؟
وهل يَتَساوى الأَنبياءُ والآباءُ الكرامُ إِبراهيمُ وإِسحاقُ ويَعقوبُ ويوسفُ بمن
يستعملونَ التعاويذ؟ " (1) .
وبما أَنَّ الكلامَ الذي ذَكَرَه الفادي عن القميصِ خُرافَةٌ مكذوبة، فكُلُّ
الأَسئلةِ التي أَثارَها حولَه باطلةٌ مُلْغاة، ولا دَاعي لها، وكان الأَوْلى به أَنْ
يُريحَ نَفْسَه فلا يُثيرُها، لأَنها أَسئلةٌ تافهةٌ لا وَزْنَ لها! وهو خَبيثٌ مُتحامل على
القرآن، لأَنه حَمَّلَ القرآنَ مسؤوليةَ كلامٍ لم يذكُرْه، وما دَخْلُ القرآنِ بخرافةِ
القميص؟
ولماذا يُخَطِّئُ الفادي القرآنَ بشيء ليسَ فيه؟..
لو قالَ: إِنَّ هذا الكلامَ عن القميصِ خَطَأ، لقبلْنا كلامَه، لأَنه خَطَأٌ فِعْلاً، أَمّا أَنْ يُنْسَبَ هذا الخطأُ للقرآن، ويُسَجَّلَ ضمنَ أَخطاءِ القرآن التاريخية، فهذا هو الاتّهامُ الباطلُ والتحاملُ المفضوخ!.
كلُّ ما ذَكَرَه القرآنُ عن القميصِ، أَنَ يوسُفَ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ إِخوانَه أَنْ يُلْقوهُ على وجهِ أَبيه، ليعودَ له بَصَرُه، ولما فعلوا ذلك عادَ بَصيراً.
قال تعالى: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
96- قميص سحرى
إنه جاء فى القرآن أن قميص يوسف لما رآه يعقوب؛ أتى بصيراً إلى مصر مع أهله، وقد كان قد عمى من الحزن.
ونقل من كتب التفسير أنه كان قميص إبراهيم.. إلخ.
واستبعد شفاء يعقوب برؤية القميص.
الرد على الشبهة:
إن التوراة مصرحة بعمى يعقوب، وأنه سيبصر إذا وضع يوسف يده على عينيه. ذلك قوله: " أنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك أيضاً. ويضع يوسف يده على عينيك " [تك 46: 4] هذه ترجمة البروتستانت. وفى ترجمة الكتاب المقدس بلبنان: " أنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك منها. ويوسف هو يغمض عينيك ساعة تموت " فيكون النص فى عدم العمى صراحة فى هذه الترجمة.
واتفقت التراجم على ضعف بصر يعقوب " وكانت عينا يعقوب كليلتين من الشيخوخة، ولم يكن يقدر أن يبصر " [تك 48: 10] .
واستبعاد شفاء يعقوب برؤية القميص؛ لا محل له. وذلك لأن فى التوراة من هذا كثير. فنبى الله اليسع - عليه السلام - لما مات ودفنوه فى قبره؛ دفنوا معه بعد مدة ميتاً. فلما مست عظامه عظام اليسع؛ ردت إليه روحه. وهذا أشد فى المشابهة من قميص يعقوب ففى الإصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الثانى: " ومات اليشع فدفنوه. وكان غزاة موآب تدخل على الأرض عند دخول السنة، وفيما كانوا يدفنون رجلاً إذا بهم قد رأوا الغزاة؛ فطرحوا الرجل فى قبر اليشع. فلما نزل الرجل ومسَّ عظام اليشع؛ عاش وقام على رجليه " [2مل 13: 20 - 21] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/136)
ولا يوجَدُ في مصادِرِنا الإِسلاميةِ اليقينية - المحصورةِ في الكتابِ والسنة -
ما تُضيفُه على ما وَرَدَ في هذه الآيات ِ حولَ قَميصِ يوسفَ - عليه السلام -، ونحنُ مأمورونَ أَنْ نبقى مع الآيات، نؤمنُ بما وَرَدَ فيها، ونسكتُ عما سَكَتَتْ عنه.
فنقول: كانَ القَميصُ قَميصاً عاديّاً، كباقي القُمصانِ العادية، يَلْبَسُه
يوسُفُ - عليه السلام -، كما يلبَسُ أَيُّ إنسانٍ قميصَه..
وأَوحى اللهُ ليوسفَ أَنْ يرسلَ قميصه إِلى أَبيهِ ليعودَ له بصرُه، ولما أُلقيَ على وجْهِه عادَ له بَصرُه، وكان هذا بأَمْرٍ من الله، الفَعَّالِ لما يُريد، فهو سبحانَه الذي جَعَلَ القميصَ سَبَباً ماديّاً لإِعادةِ البصر، وجعلَ هذا آيةً من آياتِه، جَرَتْ على أيدي النبيَّيْن يعقوبَ ويوسفَ - صلى الله عليهما وسلم -.
***
امرأة فرعون تتبنَّى موسى - عليه السلام -
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ أَنَّ امرأةَ فرعونَ رَأَت الطفلَ موسى في التابوت، فأَحَبَّتْهُ وتَبَنَّتْه، وطلبتْ من زوجِها فرعونَ أَنْ يَتَبَنّاهُ ولا يَقْتُلَه، فاستَجابَ لها.
قال تعالى: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) .
أُخرَى@ إَذ أَوْحَيْنَاَ إِكَ أُقِكَ مَا يُوحَى@
ولكنَّ الفادي يُخَطِّئُ القرآنَ في هذا الكلام، ويُحاكِمُه إِلى الكتابِ
المقَدس، وبما أَنه خالَفَ ما في الكتابِ المقَدَّس، فما وَرَدَ في الثاني هو
الصَّواب، وما وَرَدَ في القرآنِ هو الخطأ!!.
ذَكَرَ الكتابُ المقَدَّسُ أَنَّ التي رأَتْ موسى هي ابنةُ فرعون وليستِ
امرأَتَه.
قال الفادي: "ويُعَلمُنا الكتابُ المقدسُ أَنَّ ابنةَ فرعونَ هي التي نَزَلَتْ(1/137)
إِلى نهرِ النيلِ لِتَغْتَسِل، لأَنهم كانوا يَعتبرونَه إِلهاً، يُطَهِّرُهُم من النجاسَة.
فرأَتْ سُفْطاً من البَرَدى بين الحَلْفاء، ففتَحَتْه، فإذا صبيٌّ يَبْكي، فأَخذتْه ابنةُ فرعونَ ابْناً لها.
لكنَها لم تكنْ زوجةَ فرعون ...
وقال موسى في سِفْرِ الخروج: إِنها ابنةُ فرعون، وهو أَعلمُ بمَنْ رَبَّتْه ... " (1) .
الراجحُ والصحيحُ والمعتمدُ عندنا أَنَّ التي أَخَذَتْ موسى الرضيعَ وتَبَنَّتْهُ
وَرَبَّتْه هي امرأةُ فرعون كما ذَكَرَ القرآن، وليستْ ابنتَه كما ذَكَرَ الأَحْبارُ في
العهد القديم، ومن المعلومِ أَنه إِذا تعارضَ ما في القرآنِ مع ما وَرَد في
الكتابِ المقَدَّس، فالصحيحُ هو ما وَرَدَ في القرآنِ، لأَنَّهً هو كلامُ الله المحفوظُ
الثابتُ، ويُتْرَكُ ما وَرَدَ في الكتابِ المَقدَّس، لأَنه هو الخطأ!!.
***
حول تقتيل أولاد بني إسرائيل
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآن أَنَّ فرعونَ وآلَه كانوا يَسومون بني إِسرائيل سوءَ
العذاب، يُقَتِّلونَ أَبناءَهم، ويَستحيونَ نساءَهم.
لكن مَتى كان هذا؟
هل كانَ قَبْلَ بعثةِ موسى - عليه السلام - أَمْ بَعْدها؟.
وَرَدَ في سورةِ القَصص أَنَّ هذا التعذيبَ والتقتيلَ كان قبلَ رسالةِ
موسى - عليه السلام -.
قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
97- ابنة فرعون أو زوجته
إن فى القرآن أن امرأة فرعون هى التى التقطت موسى - عليه السلام - ويقول: إن فى التوراة أن الملتقطة له هى ابنة فرعون وليست امرأته. وهذا تناقض.
الرد على الشبهة:
إن كلمات التوراة مشكوك فيها. والدليل على ذلك: أن اسم الرجل فى موضع، يأتى فى موضع آخر باسم آخر. وكذلك المرأة. وهذا يتكرر كثيراً. فإسماعيل - عليه السلام - كانت له ابنة اسمها " محلث " وتزوجت " العيس " بن إسحاق - عليه السلام -[تك 28: 9] وفى ترجمة لبنان " محلة " وفى نفس الترجمة " وبسمة " وفى ترجمة البروتستانت " بسمة " [تك 36: 3] .
وفىكتب تفسير التوراة تصريح بكلمات ملتبسة مثل " ثم يذبحه كل جماعة إسرائيل فى العشية " [خر 12: 6] يقولون: " العشية " هذه اللفظة ملتبسة.. " والشيخ الكبير فى أرض مدين مختلف فى اسمه. ففى الخروج [2: 18] " رعوئيل " وفى الخروج [4: 18] " ثيرون " والابن الأول لموسى فى ترجمة " جرشوم " وعند يوسيفوس " جرشام " وفى ترجمة السبعين " جرسام " [خر 2: 22] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/138)
تَذْكُرُ الآياتُ أَنَّ تَذبيحَ الأَبناءِ واستحياءَ النساءِ كان قبلَ ولادةِ موسى،
بل إِنَّ موسى وُلِدَ في هذا الجَوِّ، وكان عُرْضَةً للذَّبْح، لولا أَنَّ اللهَ حَماهُ بأَنْ
أَلْهَمَ أُمَّهُ حُسْنَ التصرف، بأَنْ تَضَعَهُ في التابوت، وتَضَعَ التابوتَ في اليَمِّ،
فيأْخُذَه الماءُ إِلى الساحل، وهناكَ يَأْخُذُهُ رجالُ أُسْرَةِ فرعونَ، ليُرَبّوهُ وَيَتَبَنَوْهُ!!.
ووردَ في سورةِ الأَعرافِ أَنَّ هذا التعذيبَ والتقتيلَ كان بعدَما بَعَثَ الله
موسى رسولاً - صلى الله عليه وسلم -، وبعدما قَدَّمَ نَفْسَه إِلى فرعون، ودَعاهُ إِلى الإِيمانِ بالله.
قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) .
تَذْكُرُ هذه الآياتُ أَنَّ الملأَ من قومِ فرعونَ حَرَّضوهُ على البطشِ بموسى
النبيِّ وأَتْباعِه، فأَمَرَ بقتْلِ أَبناءِ بني إِسْرائيل واستحياءِ نسائِهم، ولما فَعَلَ ذلك
أَمَرَ موسى قومَهُ بالصبرِ والاستعانةِ بالله! (1) .
واعتبرَ الفادي الآيتَيْن متناقضتَيْن، قال: " تقولُ سورةُ الأَعرافِ: إِنَّ
المصريّينَ اشتكَوْا لفرعونَ من تصرفِ موسى، فأَمَرَ بقتْلِ أَبناءِ العبرانيّين
واستحياءِ نسائهم..
وتقولُ سورةُ القَصصِ: إِنَّ فرعونَ قبلَ ولادةِ موسى أَمَرَ
بذبْحِ الأَولادِ واستِحياءِ النِّساء، حتى خافَتْ أُمُّ موسى عليه، وخَبَّاَتْه في صفطِ البَرَدَى، إِلى أَن انتشلَتْه ابنةُ فرعون..
فالآيتان مُتناقِضَتان ".
ومن المعلومِ عندنا أَنه لا تَناقُضَ في القرآن، ولا تَعارُضَ بين آياتِه..
وفي الإِخبارِ عن تعذيب آلِ فرعونَ لبني إِسرائيل، لا تَعارُضَ ولا تَناقُضَ بين
سورةِ القَصَص وسورةِ الأَعراف.
إِنَّ تعذيبَ فرعونَ وآلِه لبني إسرائيل استمرَّ وَقْتاً طويلاً، بدأ قبلَ ولادةِ موسى، واستمرَّ إِلى ما بعد ولادته، وبقيَ إِلى أَنْ عادَ موسى من أَرضِ مَدْيَنَ رسولاً إِلى فرعونَ، ولما جَرى ما جَرى بينَ موسى - عليه السلام - وفرعون، واصَلَ فرعونُ وآلُهُ التعذيبَ والتذبيحَ والتقتيل، وجَدَّدَ فرعونُ أَمْرَهُ السابق بقَتْلِ الأَبْناء واستحياءِ النساء.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
98- طرح الأولاد فى النهر صدر قبل ولادة موسى لا بعد إرساليته
إن فى سورة الأعراف: أن الملأ من قوم فرعون بعد ولادة موسى وظهور نبوته قالوا لفرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض؟ وقد رد عليهم بقوله: (سَنُقَتِّل أبناءهم وتستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون)
وفى سورة القصص: أن قتل الأبناء واستحياء النساء كانا من قبل ولادة موسى وهذا تناقض.
الرد على الشبهة:
إن قتل الأبناء واستحياء النساء كانا من قبل ولادة موسى - عليه السلام - وهو فيما بعد يهدد باستمرار القتل والزيادة فيه. اهـ (شبهات المشككين) .(1/139)
وهذا معناهُ أَنه لا تناقُضَ بين حديثِ سورةِ القصصِ وسورةِ الأَعراف،
فالتعذيبُ بدأَ قبلَ ولادةِ موسى بفترة، وهذا ما تحدثَتْ عنه سورةُ القَصص،
واستمرَّ إِلى ما بعد ولادتِه وطفولتِه وشبابِه، وبقيَ متواصلاً إِلى أَنْ عاد موسى
نبيّاً من مَدْين، وازدادَ التعذيبُ والتذبيحُ والتقتيلُ بعدما احْتَدَمَ الصراعُ بين
موسى - عليه السلام - وبينَ فرعون، وهذا ما تحدَّثَتْ عنه سورةُ الأَعراف!!.
وأَكَّدَتْ آياتُ سورةِ غافر آياتِ سورةِ الأَعراف.
قال تعا لى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) .
***
حول صداق امرأة موسى - عليه السلام -
أَخْبَرَ اللهُ أَنَ موسى - عليه السلام - اتفقَ مع الرجلِ الصالحِ في مدينَ على أَنْ يَعْمَلَ عنده ثمانيَ أَو عَشْرَ سنوات مقابل أَنْ يُزَوجَه ابنَتَه.
قال تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) .
وقد اعترضَ الفادي على هذه الآية، واعتبرَها من أَخطاءِ القرآن، لأَنها
مخالفةٌ لما في كتابِه المقَدَّس.
قال: " وَمَعروفٌ أَنَّ يَثْرونَ حما موسى - صلى الله عليه وسلم - له
سبعُ بَناتٍ لا اثْنَتَيْن، وزَوَّجَه واحدة، بدونِ أَنْ يخْدمَه ثماني سنواتٍ أَو
عَشْراً ...
وأَمّا الذي خَدَمَ حماهُ كصداقٍ لامرأَتِه فهو يَعقوب، الذي خَدَمَ
حماهُ سَبْعَ سنين " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
99- صَدَاق امرأة موسى
إن فى سورة القصص أن موسى أصدق امرأته من مدين خدمة ثمانى أو عشر لأبيها. وفى التوراة أنه كان له سبع بنات لا اثنتين، وأنه لم يصدق المرأة. لا بالخدمة ولا بما يقوم مقامها.
الرد على الشبهة:
هب أنه كان عنده سبعة. وقدم له اثنتين لائقتين بحاله لينتقى واحدة منهما. فما هو الإشكال فى ذلك؟ وحال يعقوب مع خاله " لابان "، كحال موسى مع كاهن مديان. فإنهما كانا يتعيشان من رعى الغنم. وخدم يعقوب خاله سبع سنين صداقاً لابنته الأولى " ليئة " وخدم سبع سنين أخرى صداقاً لابنته الأخرى " راحيل " وموسى هارب من أرض مصر بلا مال. فكيف يتزوج فى أرض غريبة بلا مال.
وفى النص ما يدل على ما اتفقا عليه. وهو " فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل. فأعطى موسى صفورة ابنته " ارتضى على ماذا؟ ولماذا قال بعد الارتضاء: " فأعطى موسى صفورة ابنته "؟ والنص كله هو: " وكان لكاهن مديان سبع بنات. فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن. فأتى الرعاة فطردوهن. فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن. فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن فى المجئ اليوم؟ فقلن: رجل مصرى أنقذنا من أيدى الرعاة، وإنه استقى لنا أيضاً وسقى الغنم. فقال لبناته: وأين هو؟ لماذا تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاماً. فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل، فأعطى موسى صفورة ابنته " [خر 2: 16] وفى النص السامرى: " فلما أمعن موسى فى السكنى مع الرجل؛ أعطاه صفورة ابنته لموسى زوجة ". اهـ (شبهات المشككين) .(1/140)
واعتراضُ الفادي عندنا لا وَزْنَ له، ولا يهمنا ماذا قالَتْ أَسفارُ العهدِ
القديمِ عن يعقوبَ وموسى - صلى الله عليهما وسلم -..
إِنَ الذي يَعْنينا ويهمُّنا هو ما قالَه القرآن، وهو الصحيحُ، والمعتمدُ عندنا، وكُل ما وَرَدَ فيه فهو الصواب.
لقد خَدَمَ موسى - صلى الله عليه وسلم - عند الرجلِ الصالحِ في مَدْيَن - الذي لم يَذكر القرآنُ اسْمَه - عَشْرَ سنوات، مقابلَ زواجِه من إِحدى ابنَتَيْه، كان فيها يَرعى الغنم، وكانت السنواتُ العشرُ التي قضاها مَهْراً للمرأةِ التي تزوَّجَها.
هذا ما صَرَّحَ به القرآن، وهو الذي نؤمنُ به عن يَقين.
***
وراثة بني إسرائيل للأرض
وَعَدَ اللهُ بني إِسرائيلَ أَنْ يَرِثوا الأَرضَ بعدَ هلاكِ فرعونَ وجنودِه.
قال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) .
وأَرادَ الفادي أَنْ يُثيرَ شبهةً على الآية، فذهبَ إِلى تفسير البيضاوي، لعلَّهُ
يَجِدُ فيه ما يُرِيدُ.
فَنَقَلَ عنه قولَه في تفسيرِ الآية.
" هي وَعْدٌ لهم بالنّصرة، وتذكيرٌ لمَا وَعَدَهم، من إِهلاكِ القِبط، وتوريثِهم ديارَهم وتحقيقٌ له ... "..
وقالَ في تفسير قوله تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ... ) : " وقد رُوِيَ أَنَّ مصرَ إِنما فُتِحَت لهم في زمنِ داود - صلى الله عليه وسلم -.
وعَلَّقَ الفادي على كَلام البيضاويّ بقولهِ: " ومعروفٌ للجميعِ أَنَّ بَني
إِسرائيلَ وَرِثوا أَرْضَ مصر " (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
100- لم ترث إسرائيل مصر
إن فى القرآن أن بنى إسرائيل ورثوا أرض مصر بعد هلاك فرعون. وهذا خطأ فإنهم لم يرثوا إلا أرض كنعان.
الرد على الشبهة:
1 - على قوله: إن دعوة موسى كانت خاصة لبنى إسرائيل. فإن حدود مصر تبدأ من " رفح " وهم يقولون: إن المواعيد هى من النيل إلى الفرات. فيكون الجزء من رفح إلى النيل داخلاً فى الإرث.
2 - والإرث ليس لاستغلال خيرات الأرض وتسخير أهلها فى مصالح اليهود. ولكنه " إرث شريعة " فإن الله قال لإبراهيم - عليه السلام -: " سر أمامى وكن كاملاً " [تك 17: 1] أى امشى أمامى فى جميع البلاد لدعوة الناس إلى عبادتى وترك عبادة الأوثان. وقد سار إبراهيم ودعا بالكلام وبالسيوف. ولذلك سرّ الله منه، ووعده بمباركة الأمم فى نسل ولديه إسحاق وإسماعيل. والبركة معناها: ملك النسل على الأمم إذا ظهر منه نبى. وسلمه الله شريعة. ولما ظهر موسى - عليه السلام - وسلمه الله التوراة. أمره بنشرها بين الأمم. وإذا نشرها بين أمة فإنه يكون وارثاً لهذه الأمة " إرث شريعة " إذ هو بنشرها يكون بنو إسرائيل والأمم متساوون أمام الله فيها. وما فائدة بنو إسرائيل إلا التبليغ فقط. وبه امتازوا عن الأمم. ويدل على ذلك: إرثهم لأرض كنعان - كما يقولون - فإنهم ورثوها لنشر شريعة التوراة فيها، وكان الإرث على يد طالوت وداود - عليهما السلام - وقد قال داود - عليه السلام - لجالوت وهو يحاربه: إن الحرب للرب. أى أن القتال فى سبيل الله. ذلك قوله: " وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب؛ لأن الحرب للرب. وهو يدفعكم ليدنا " [صموئيل الأول 17: 47] .
وإذا أراد الله نسخ التوراة يكون معنى النسخ إزالة ملك النسل اليهودى عن الأمم ليقوم النسل الجديد بتبليغ الشريعة التى أقرها الله فيهم لتبليغها إلى الأمم. وهذا ما حدث فى ظهور الإسلام. فإن بنى إسماعيل - عليه السلام - حاربوا وملكوا ونشروا القرآن وعلموه للأمم. ولهم بركة. فإن الله قال لإبراهيم عن إسماعيل: " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه " [تك 17: 20] .
وفى التوراة عن بركة إبراهيم: " وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض " [تك 12: 3] ومعنى مباركة جميع أمم الأرض فى إبراهيم: هو أن نسله يبلغون للناس شرائع الله.
وفى التوراة عن إرث بنى إسماعيل للأمم: " ويرث نسلك أمماً، ويعمر مدناً خربة " [إش 54: 3] .
3 - وكتب المؤرخين تدل على أن بنى إسرائيل أقاموا فى مصر. وقد نقل صاحب تفسير المنار فى سورة يونس عن يونانيين قدماء أن موسى - عليه السلام - رجع إلى مصر بعد هلاك جنود فرعون وحكم فيها ثلاث عشرة سنة. اهـ (شبهات المشككين) .(1/141)
ولَسْنا مع البيضاوي في ما أَوردَه من أَنَّ المرادَ بالأَرضِ هناْ أَرضُ
مِصْر، لأَنَّ بَني إِسرائيلَ لم يَرِثوا أَرْضَ مصرَ من فرعونَ وآلِه، ولم يَسْكُنوها
بعدَ هلاكِ فرعون.
ولكن ما ذَكَرَه البيضاويُّ مما لا يتفقُ مع التاريخ لا يتحمَّلُه القرآن، ولا
يَجوزُ أَنْ يُعتبرَ من أخطاءِ القرآنِ التاريخية، لأَنَ أَخطاءَ المفَسِّرين لا تكونُ
أَخطاءً للقرآن، لأَنَّها أَخطاءٌ في فهم الآيات، وليسَ في نَصِّ الآيات.
ذَكَرَ القرآنُ " الأَرضَ "، وليس " مصر "، فقد قال موسى لبني إِسرائيل:
(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، والمراد بالأَرضِ هنا كُلُّ بقاعِ الأَرض، وكُلُّ بُلدانِها وأَقطارِها، ومِصْرُ جزءٌ منها، واللهُ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ من عبادِه..
وقد أَورَثَ اللهُ بني إِسرائيلَ أَرضَ فلسطين بعدَ ذلك، واستخلَفَهم فيها، وحَقَّقَ بذلك كلامَ موسى - صلى الله عليه وسلم - لهم: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) .
وحَقَّق اللهُ لهم ما أَخبرنا عنه في القرآنِ من أَنه مذكورٌ في الزبور.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) .
ولكنَّ بَني إِسرائيلَ لم يُحْسِنوا الاستخلاف في أَرضِ كنعان، ومارَسوا
فيها ما حَرَّمَ الله، فنزعَ اللهُ الأَرضَ منهم، وأَوقع بهم لعنتَه، وأَخرجَهم منها
أَذلاءَ صاغرين.
***
تسع آيات لا عشر ضربات
أَخْبَرَنا اللهُ أَنه أَرسلَ موسى - عليه السلام - بتسعِ آياتٍ بَيِّنات، قال تعالى: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) .(1/142)
وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) .
وأَرادَ الفادي أَنْ يُثيرَ إِشكالاً حولَ هذا الكلام، وحاكَمَ القرآنَ إِلى كتابِه
المقَدَّسِ، فَزَعَمَ أَنه وَجَدَ خَطَأً في عَدَدِ الآيات، التي آتاها اللهُ لموسى - عليه السلام -.
قال: " يَقولُ الكتابُ المقَدَّس: إِنَّ الضرباتِ التي ضَرَبَ اللهُ بها المصريّين عَشْرٌ لا تِسْعٌ، وإِنَّ بني إسرائيلَ بعدَ هَلاكِ فرعونَ وجيشِه في البَحْر لم يَسْكُنوا في أَرضِ مصر، بل في أَرَضِ كنعان، وإِنَ فرعونَ لم يكنْ يُريدُ أَنْ يُخْرِجَ اليهودَ من مصر، بل أَرادَ أَنْ يَستعبدَهم فيها.. " (1) .
واعتراضُ الفادي على الرقمِ المذكورِ في القرآنِ مَرْدود، لأَنَ ذِكْرَ العددِ
فيه مَقْصود، فهي تسعُ آياتٍ بالضَّبْط، وليستْ عَشْراً كما زَعَمَ الأَحبارُ في
العهدِ القديم! وإذا تَعارضَ المذكورُ في الكتابِ المقَدسِ مع المذكورِ في
القرآن فإِنَّ الصوابَ هو ما ذُكِرَ في القرآن، كما قَرَّرْنا أَكثرَ من مَرَّة.
والآياتُ التسعُ هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل،
والضفادع، والدم، والسنين، ونقص الثمرات.
وظَنَّ الفادي لغَبائِه أَنَّ المرادَ بالأَرضِ في قوله تعالى: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أَرضُ مصر.
ولذلك اعترضَ على الآيةِ قائلاً: " وإِنَ بني إِسرائيل بعد هَلاكِ فرعونَ وجيشِه في البحرِ لم يَسْكُنوا في أَرضِ مصر؟ بل في أَرضِ كَنْعان "..
وسبقَ أَنْ ناقشناهُ في هذه المسألةِ في المبحثِ السابق، وقُلْنا: إِنَّ المرادَ بالأَرض التي أَسكنَ اللهُ بني إِسرائيلَ فيها بعدَ خروجِهم من مصْرَ هي الأَرضُ المقدسةُ فلسطين، والتي يُسميها الأَحبارُ أَرضَ كنعان!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
101- ضربات مصر عشر لا تسع
إن فى التوراة أن الآيات البينات عشر. وفى القرآن تسع.
وهذا تناقض.
الرد على الشبهة:
إن مفسرى التوراة صرحوا بالاختلاف فى عدد هذه الآيات. فالآية الثانية وهى الضفادع؛ يوجد من يقول إنها التماسيح.
والآية الثالثة قال بعضهم إنها ضربة القمل، وقال بعضهم إنها ضربة البعوض.
والآية الرابعة قال بعضهم إنها ذباب الكلب خاصة، وقيل مطلق ذباب. اهـ (شبهات المشككين) .(1/143)
والمرادُ بالأَرضِ في هذه الآية مختلفُ بقاعِ العالَمِ القديم، مثلُ: فارسَ
والروم والحبشة واليونان وغيرها، التي شَتَّتَ الله اليهودَ فيها، وعاشوا " عَصرَ الشَّتاتِ " الذي استمرَّ قُروناً عديدة.
وسَيَبْقَوْن مُشَتَّتينَ في مختلفِ بقاعِ الأَرض، في مختلفِ البلدان، إِلى أَنْ يَحينَ موعدُ إِفسادِهم الثاني، حيثُ سيجمعُهم اللهُ من تلك البلدان، ويأْتي بهم إِلى الأرضِ المُقدَّسة! وهذا ما تصرحُ به الآية: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) .
وهذا ما تحققَ في هذا الزمان، الذي يَعيشُ فيه اليهودُ إفسادَهم الثاني
الكبير، حيثُ أَتى الله بهم لَفيفاً، من مختلفِ القارّاتِ الخَمْس، وأَقاموا دولَتَهم على الأَرضِ المقَدَّسَة!.
***
العيون المتفجرة من الحجر
أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ بني إِسرائيلَ استسقَوْا موسى وهم في الصحراء، فَأَمَرَهُ اللهُ
أَنْ يضربَ الحجرَ بعصاه، ولما فعلَ فَجَّرَ اللهُ من الحجرِ اثْنَتا عشرة عَيْناً، على عَدَدِ أَسباطِ بني إِسرائيل.
قال تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) .
وقال تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) .
وخَطَّأَ الفادي كلامَ القرآن، وحاكَمَه إِلى كلامِ العهدِ القَديم، الذي أَلَّفَه
الأَحبار، وكلُّ ما خالَفَ العهدَ القديم عندَه خَطَأ!
نَقَلَ الفادي عن سِفْرِ الخروجِ: " أَنه لما خَرَجَ بنو إِسرائيلَ إِلى سيناء،
جاؤُوا إِلى " إِيليم "، وَوَجَدُوا فيها اثنتئ عشرةَ عينَ ماء، وسَبْعين نخلة، فَنَزَلوا(1/144)
عندَ النخلِ والماءِ قليلاً، ثم ارْتَحلوا إِلى بَرِّيَّةِ " سين "، ونَزَلوا في " رفيديم "
فيها، ولم يكنْ فيها ماءٌ ليَشْرَبوا، وطَلَبوا من موسى أَنْ يُعطيهم ماءً لِيَشْرَبوا، وتَذَمَّروا عليه وخاصَموه، وصَرَخَ موسى إِلى الرَّبِّ، طالِباً منه التَّصَرُّف، فأَمَره الربُّ أَنْ يأخذَ الشَّعْبَ معه، إِلى صخرةِ " حوريب "، ويضربَ الصخرةَ بعصاه، ولما فعلَ ذلك أَنْبَعَ اللهُ منها عينَ ماءٍ لبني إِسرائيل ".
وعَلَّقَ الفادي على ما نَقَلَه من سِفْرِ الخروجِ بقوله: " فليست الاثْنَتا عشرةَ عيناً التي في إِيليمَ هي الصخرةُ التي في حوريب " (1) .
ما ذَكَرَهُ الأَحبارُ في سِفْرِ الخروج، أَنَّ بَني إِسرائيلَ مَرّوا على اثْنَتَيْ
عشرةَ عيناً، أَنْبَعَها اللهُ قبلَ مرورِهم، وعندما احْتاجوا إِلى الماء بعد ذلك
أَنبعهُ اللهُ لهم، بعدَ أَنْ ضربَ موسى الصخرةَ بعصاه، فخرجَتْ منها عينُ
ماءٍ واحدة، هذا مردود عندنا، لأَنه يتعارض مع ما ورد في القرآن،
والمعتمدُ عندنا هو ما وردَ في القرآن! فالذي نقولُ به أَنه بينما كان بنو
إِسرائيلَ في الصحراء، احْتاجوا إِلى الماء، فَطَلَبُوا من موسى - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يستسقيَ اللهَ لهم، فأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يضرِبَ الحَجَر بعَصاه، وكان حَجَراً في ذلك المكان، ولم يكنْ صخرةً كما زعَمَ الأَحبار، ولما ضَرَبَه انفجرتْ منه اثْنَتا عشرةَ عيناً، كلُّ عينٍ منفصلةٌ عن غيرِها، على عَدَدِ أَسْباطِ بني إسرائيل، ليشربَ كُلُّ سِبْطٍ من عينٍ خاصّة: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) ..
ولم يكنْ خروجُ هذه العيونِ من الحجرِ عاديّاً، إِنما كان معجزةً خارقة، من فعلِ الله - عز وجل -.
ولَسْنا مع الأَحبارِ في تحديدِهم الأَماكن، في إِيليم وسين ورَفيديم
وحُوريب، ونَبْقى مع القرآنِ في إِبهام المكان، ولا يَضُرّنا الجهلُ به، لعدمِ
تحديدِه في الآياتِ والأَحاديث، فقد يكونُ في إِيليم، وقد يكونُ في حوريب،
وقد يكونُ في مكانٍ آخر، وعلْمُ ذلك عندَ اللهِ وَحْدَه!.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
103- صخرة حوريب وليست آبار إيلّيم
جاء فى سورة البقرة: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً) .
وفى التوراة أن الاثنتى عشرة عيناً فى " إيليم " وفى القرآن أنهم فى " حوريب " وهذا تناقض.
الرد على الشبهة:
لم يذكر القرآن أن الاثنتى عشرة عيناً فى " حوريب ". اهـ (شبهات المشككين) .(1/145)
الألواح التي كتبت عليها التوراة
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ أَنَّه لما ناجاهُ موسى - عليه السلام - على جبلِ الطّور، أَنزل عليه التوراةَ من السماءِ مكتوبةً على أَلواح.
قال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) .
وأَخَذَ موسى - عليه السلام - الأَلواحَ وتَوَجَّه إِلى بني إِسْرائيل، فوجَدَهم يَعْبدونَ العجل، فأَلْقى الأَلواح.
قال تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) .
ولما زال عنه الغضبُ أَخَذَ الأَلواح، ودَعا بني إِسرائيلَ إِلى الالتزامِ بما
فيها.
قال تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) .
وقد خَطَّأَ الفادي القرآنَ في كلامِه عن أَلواحِ التوراة؟
فقال: " ومَعروف أَنَ موسى كتبَ الشريعةَ على لوحَيْن لا على أَلواح، وعلى اللوحَيْن كَتَبَ الوصايا العشرَ فقط، وليس تفصيل كُلِّ شيء " (1) .
لا نقول إِلاّ بما قال به القرآن، من أَنَّ اللهَ أنزل التوراةَ على موسى - صلى الله عليه وسلم -، وهو على جبلِ الطور، وكانت التوراةُ مكتوبةً على " أَلْواح "، والأَلْواحُ جمع، فهي عدةُ أَلواح، أَبهمَ القرآنُ عَدَدَها، فلا نعرفُه، إِنما نقول: كانتْ أَلواحاً مكتوبةً في السماء، ولا نَعرفُ كيف كُتِبَتْ في السَّماء، ولا ما هو حجمُ كُلِّ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
104- لوحا الشريعة
إن الله كتب لموسى فى الألواح من كل شىء. وهذا على ما فى القرآن. وعلى ما فى التوراة كتب لوحين اثنين، وكتب عليهما الوصايا العشر فقط.
الرد على الشبهة:
1-إن الألواح الأولى قد كسرت. وحل محلها ألواح جديدة.
2- والألواح الأولى كانت مكونة من:
أ - لوحين للعهد للعمل بالتوراة.
ب - ومن عدة ألواح مكتوب عليها كل أحكام التوراة.
ففى الأصحاح التاسع عشر من سفر الخروج وما بعده إلى الإصحاح الرابع والعشرين كل أحكام التوراة وبعدها " فجاء موسى وحدث الشعب بجميع أقوال الرب وجميع الأحكام ".
ثم صعد إلى جبل الطور فأعطاه الله:
أ - لوحى الحجارة.
ب - والشريعة والوصية.
ومن قبل نزوله من على الجبل؛ عبدوا العجل من دون الله.
ولما سمع موسى بالخبر كسر لوحى العهد فى أسفل الجبل. ولكن كاتب سفر التثنية يقول: " إنه كسر لوحين كان عليهما كل أحكام الشريعة وعليهما مثل جميع الكلمات التى كلمكم بها الرب فى الجبل من وسط النار فى يوم الاجتماع " [تث 9: 10] ولا يمكن للوحى العهد أن يحملا مع العهد كل أحكام الشريعة التى نزلت فى يوم الاجتماع ".
ولما كسر الألواح. أعطى الله له بدلهم ألواح جديدة [خر 32: 29] والمكتوب على الألواح الجديدة؛ أحكام الشريعة الموجودة فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية. وفيها: " لا تطبخ جديًا بلبن أمه ".
والمناسب لأحكام الشريعة (الألواح) بالجمع. ومنها لوحى العهد. اهـ (شبهات المشككين) .(1/146)
لوح ومقاسُه، ولا نعرفُ ما كُتِبَ على كُلِّ لوحٍ منها، لأَنَّ اللهَ لم يُبَيِّنْ ذلك في القرآن.
وما قالَه الأَحبارُ في سِفْرِ الخروجِ من أَنهما لوحانِ فقط، وأَنَّ موسى عَلَّإِنر
هو الذي كَتَبَهما بيدِه، كلامٌ مردود عندنا لمخالفتِه ما وَرَدَ في القرآن!.
ثم إِنَّ اللهَ أَخْبَرَنا أَنه كتبَ في التوراةِ كُلَّ شيء: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) .
أَيْ أَنَ اللهَ جعلَ فيها أَحكاماً وتشريعات، وجعلَ فيها مواعظَ ونصائح، وجعلَ فيها تفصيلَ كُلِّ ما يحتاجُ إِليه بنو إِسرائيل، في ذلك الماضي السحيق.
وهذا معناه أَنْ نَرُدَّ كلامَ الأَحبار، الذينَ يزعمونَ أَنَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يَكتبْ على اللَّوحَيْن إِلّا الوصايا العَشْرَ فقط.
فالوصايا العَشْرُ لا تَزيدُ عن عَشْرِ جُمَلٍ مختصرةٍ مجملة، وهذه الوصايا العَشْرُ ليست موعظةً وتَفْصِيلاً لكُلّ شيء!.
إِنَّ مرجعيَّتَنا غيرُ مرجعيةِ الفادي وقومِه، والحَكَمُ عندنا غيرُ الحَكَمِ
عندهم، وإِنَّ القرآنَ هو المهيمنُ على الكتابِ المقَدَّس، ولا يكونُ الكتابُ
المُقَدَّسُ الذي أَلَّفَه الأحبارُ مهيمناً على القرآنِ العظيم!.
***
هل طلب بنو إسرائيل رؤية الله؟
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ أَنَّ بني إِسرائيلَ طَلَبوا من موسى - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرَوا اللهَ جَهرة، وأَنْ يُشاهِدوهُ بعيونِهم، فعاقَبَهم اللهُ على هذا الطلبِ القبيحِ بأَنْ أَخَذَهم بالصاعقةِ، ثم أَحياهم.
قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) .(1/147)
وقال تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ) .
وقد خَطَّأَ الفادي القرآنَ لمخالفته ما وَرَدَ في الكتابِ المقَدَّس.
قال: " ولكنَّ الكتابَ المقَدَّسَ يُعَلِّمُنا أَنَ بني إِسرائيل خافوا من الله، وقالوا لموسى: " تَكَلَّمْ أَنتَ مَعَنا، ولا يتكلم اللهُ معنا لئَلّا نَموت " ...
فعكسَ القرآنُ الموضوعَ، وقالَ: إِنَّ بني إِسرائيلَ طَلَبوا أَنْ يَرَوُا الله فأَماتَهم اللهُ بالصاعقة، ثم بَعَثَهم ثانية..
ولعلَّ الدافعَ على هذا أَنْ يُخيفَ العَرَبَ الذينَ سأَلوا محمداً أَنْ
يَنزّلَ لهم كتاباً من السماء ... " (1) .
يَزعمُ الفادي أَنَّ بَنِي إِسرائيل لم يَطْلُبوا أَنْ يَرَوُا اللهَ جهرة، كما ذَكَرَ
القرآن، وإِنَّما طَلَبوا أَنْ لا يُكَلِّمَهم الله، لأَنهم خافُوا إِنْ كَلَّمَهم أَنْ يَموتوا.
ونحنُ لا يَعنينا ما قالَه الأَحبارُ في سِفْرِ الخروج، إِنما يَعْنينا ما ذَكَرَهُ
القرآن، لأَنَّه عِندنا أَمْرٌ يَقينيّ جازم.
لقد كان بَنو إِسرائيلَ جاهِلين، غَيْرَ مُعَظِّمينَ لله، فقد ظَنُّوا أَنه يُمكنُ أَنْ يَرَوا الله بعيونِهم، وظَنُّوا أَنَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - يرى الله عندما يُكلِّمُه ويُناجيه، فحسدوهُ وغَاروا مِنْه، وطَلَبوا أَنْ يَرَوا الله بِعيونِهم، كما يَرى هو اللهَ بعينَيْه..
علماً أَنَّ موسى - عليه السلام - لم يَرَ رَبَّه، وعندما سأَلَ اللهَ أَنْ يرَاهُ أَخْبَرَه أَنه لنْ يَراه.
قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) .
وقد عَلَّقَ بنو إِسرائيل الجاهلين إيمانَهم لموسى واستسلامَهم وطاعتَهم له
على رؤيتِهم اللهَ جهرةً بعيونِهم، وطَلَبوا منه أَنْ يَطْلُبَ مق الله أَنْ يَنزلَ أَمامَهم، ويُخاطِبَهم، فَيَرَوْهُ ويُشاهدوه وتسمعوه!! عند ذلك عاقَبهم، فأَخَذَتْهم الصاعقة،
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
105- هل طلبوا رؤية الله؟
إن فى القرآن أن بنى إسرائيل طلبوا رؤية الله. وفى التوراة أنهم قالوا لموسى: " تكلم أنت معنا، ولا يتكلم معنا الله؛ لئلا يموت " [خر 20: 19] فعكس القرآن الموضوع.
الرد على الشبهة:
إن المؤلف جاهل بما فى كتابه. وإن فيه:
أ - أن اليهود رأوا الله.
ب - وأن موسى طلب رؤية الله.
ج - وأنهم طلبوا أن لا يروا الله.
(أ) فموسى لما أخذ العهد على اليهود أن يعملوا بالتوراة، بكّر فى الصباح وبنى مذبحاً فى أسفل الجبل. وأخذ العهد. ثم قال الكاتب: " ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرئيل ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء فى النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بنى إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا " [خروج 24: 9 - 11] .
(ب) وطلب موسى رؤية الله " فقال: أرنى مجدك " ورد عليه بقوله: " لا تقدر أن ترى وجهى. لأن الإنسان لا يرانى ويعيش " [خر 33: 18] .
(ج) ولما تجلى الله للجبل؛ حدث من هيبته حال التجلى نار ودخان وارتجف
كل الجبل جداً. فارتعب بنو إسرائيل من هذا المنظر، وقالوا لموسى: إذا أراد الله أن يكلمنا مرة أخرى؛ فليكن عن طريقك يا موسى ونحن لك نسمع ونطيع. فرد الله بقوله: أحسنوا فيما قالوا. وسوف أكلمهم فى مستقبل الزمان عن طريق نبى مماثل لك يا موسى من بين إخوتهم وأجعل كلامى فى فمه؛ فيكلمهم بكل ما أوصيه به [تث 18: 15 - 22] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/148)
فَصُعِقوا وأُغميَ عليهم، وكانوا كالأَموات، ثم أَيقظَهم وبَعَثَهم، وأَعادَهم إِلى الحياة، ليستكملوا أَعمارَهم.
وسألَ اليهودُ في المدينةِ رسولَ الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُنزلَ عليهم كتاباً من السماء، وكانَ سؤالَ تَعَسفٍ وتعجيز، كما كانَ سؤالُ أَجدادِهم لموسى - عليه السلام -.
قال تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ.
***
قارون الإسرائيلي الكافر
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ عن قارونَ وكفرِه وغِناه، وأَنَّه كان إسرائيليّاً كافراً،
انضمَّ إِلى فرعونَ ضدَّ موسى وقومِه بني إِسرائيل.
قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) .
وكانتْ نهايةُ قارونَ سيئةً، حيثُ خَسَفَ اللهُ به وبدارِه الأَرض.
قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) .
وقد خَطَّأَ الفادي القرآنَ، ونَقَلَ عن السابقينَ أَنَّ قارونَ هو مَلِكُ ليديا في
القرنِ السادسِ قبلَ الميلاد، وذَكَرَ الأَحبارُ في الكتاب المقَدَّسِ أَنَّ الذي خرجَ
على موسى هو قورحُ وليس قارون.
قال: " ومعروفٌ أَنَّ قارونَ القرآن هو كروسوس ملكُ ليديا (560 - 546 ق. م) ، وهو عَلَم على الغِنى، بينَ العربِ وغيرهم..
ولا يوجَدُ ما يُبَرِّرُ خَلْطَه بقورَح، الذي وَرَدَ ذكْرُه في التوراة، فلا
علاقَة لقارونَ بقورح، الذي ثارَ على داثان وأَبيرام على موسى، فَفَتَحت
الأَرْضُ فاها وابْتَلَعَتْهم ".
لا دليلَ على أَنَّ ملكَ ليديا في القرنِ السادس قبلَ الميلاد كان اسْمُه(1/149)
قارون، وكلامُ المَؤَرِّخين ليس يقينياً قاطعاً، إِنما هو محتملٌ للصحةِ والخَطَأ،
فلا يُعْتَمَدُعليه.
وكلامُ الأَحبارِ أَيضاً ليس يَقينيّاً، فلا يُعْتَمَدُ عليه، ولا يُحْكَمُ به على
كلامِ اللهِ في القرآن، ولذلك لا نقول: إِنَّ قورحَ هو الذي خرجَ على
موسى - صلى الله عليه وسلم -، مع اثنيْنِ من بني إِسرائيل، وأَنَّ اللهَ خَسَفَ بالثلاثةِ في البرية.
ونتوقَّفُ في هذا الكلامِ الذي ذَكَرهُ الأَحْبار، فلا نُصَدّقُه ولا نُكَذِّبُه..
والذي نقولُه ونؤمنُ به أَنَّ قارونَ المذكورَ في القرآنِ ليس هو قارونَ ملكَ
ليديا، ولا قورحَ الذي خَرَجَ على موسى، قارونُ المذكورُ في القرآنِ إِسرائيليّ من قومِ موسى، وقد أَغناهُ الله، وآتاهُ من الكنوزِ ما يعجزُ الرجالُ الأَشدّاءُ الأَقوياءُ عن حَمْلِه، واختارَ الكفْرَ والبغيَ والطغيان، وانحازَ إِلى فرعونَ ضدَّ قومِه الإِسرائيليين، واستخدمَ أَموالَه وكنوزَه في محاربةِ موسى - صلى الله عليه وسلم - وأَتْباعِه، ولم يَستجبْ لنصْحِ الناصحين المؤمنين، فعاقَبَه اللهُ وخَسَفَ به وبدارِه الأَرض، قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) .
والراجحُ أَنَّ قارونَ الإِسرائيليَّ كان قد انضمَّ إِلى فرعونَ ضدَّ بني إِسرائيل،
قبلَ أَنْ يبعثَ اللهُ موسى - عليه السلام - نبيّاً إِلى فرعون، ولذلك أَرسلَه اللهُ نبيّاً إِلى الطُّغاةِ الثلاثة: فرعونَ وهامانَ وقارون.
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) .
والراجحُ أَنَّ اللهَ خَسَفَ بقارونَ ودارِه الأَرض في مصر، قبلَ أَنْ يَخرجَ
بنو إِسرئيل منها!!.
***
بين داود وسليمان - عليهما السلام -
كان داودُ رسولاً ومَلكاً على بني إِسْرائيل، وكان ابْنُه سليمان نبيّاً مَلكاً
من بعدِه على بني إِسرائيل، وكان سليمانُ مساعِداً لأَبيه في عهدِه - عليه السلام -.(1/150)
وقد أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ عن استدراكٍ لسليمان على حُكْمٍ حَكَمَ به والدُه داودُ.
قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) .
وأَوردَ الفادي روايةً عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - في حُكْمٍ داودَ وسليمانَ في قضيةِ الحرثِ والغنم، استدركَ فيها سليمانُ على حُكْمِ أبيه..
وخَطَّأَ القرآنَ في استدراكِ سليمانَ على حُكْمِ أَبيه، كما خَطَّأَ الروايةَ عن ابنِ عباس، واعتبرَ ذلك مُتعارضاً مع فطنةِ ودقةِ وحُكْمِ داود.
قالَ في تخطئَتِه: " كانَ داودُ من الأَنبياءِ الملْهَمين، ومن الملوك الحكماء، فلا
يُعْقَلُ أَن سُلَيمانَ كان يتعقَّبُ أَحكامَه، وهو والدُه، ولا نظنُّ أَنَّ داودَ الملْهَمَ يعْجَزُ عن حَلّ قضيةٍ كهذه..
أَمّا الذي انتقدَ أَحكامَ أَبيه فكانَ أَبْشالوم وليس سليمان، فإنَّ
أَبْشالومَ لما عَزَمَ على الثورةِ ضِدَّ والدِه كان يسترقُّ قلوبَ بني إِسرائيل، ويقولُ: مَنْ يجعلُني قاضياً في الأَرضِ لأُنصفَ المظلومَ! فكانَ يَقْبَلُ الواحدَ ويكرمُه ويُعَظّمُه، فاستمالَ الناسَ ثم قامَ بانقلابٍ فاشلٍ على والدِه ... " (1) .
ما ذَكَرَهُ الفادي عن قصةِ الملكِ اليهوديِّ أَبْشالوم مع أَبيه وثورتِه عليه
نتوقَّفُ فيه، فلا نُصَدّقُه ولا نُكَذِّبُه، لعدمِ وجودِ دليلٍ عنْدَنا عليه.
أَمّا تخطئةُ الفادي لكلامِ القرآنِ عن ما جَرى بينَ داودَ وسليمانَ - صلى الله عليهما وسلم - فهي مردودةٌ عليه، وما قالَه القرآنُ عنها فهو الصحيحُ والصَّواب، وهذا عندنا يَقين.
لقد استدركَ سليمانُ على حكْمِ لأَبيه - صلى الله عليه وسلم - في قضيةِ الحَرْثِ والغَنَم، وقَبِلَ داودُ استدراكَ ابنه وأَنْفَذَ له حُكْمَه، وليس معنى هذا اتهامَ داودَ - صلى الله عليه وسلم - بالعجْزِ أَو الضعفِ أَو الخَطأ في الحُكْم، فقد آتى اللهُ داودَ فقْهاً وعلْماً وحكمةً وفِطْنَة، قال تعالى عنه: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) .
وقال تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
106- سليمان أو أبشالوم
إن داود وسليمان - كما فى القرآن - حكما فى الحرث، وإن سليمان راجع داود فى الحكم.
ثم ذكر كلام المفسرين فى هذه القضية. وعقب عليه بقوله: القضية تليق بأبشالوم بن داود؛ لأنه كان دائماً يعارض أقوال أبيه ولا تليق بسليمان.
الرد على الشبهة:
إن فى التوراة أن سليمان كان حكيماً. أحكم من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته. واللائق بحكمته هو الحكم فى الحرث. ففى الإصحاح الرابع من سفر الملوك الأول: " وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق، وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس من إيثان الأرزاحى، وهيمان وكلكول ودردع بنى ماحول، وكان صيته فى جميع الأمم حواليه وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفا وخمسا. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذى فى لبنان، إلى الزوفا الثابت فى الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته " [امل 4: 30 - 34] .
اهـ (شبهات المشككين) .(1/151)
شَدَّدَ اللهُ ملكَه وقَوّاه، وآتاهُ اللهُ الحكمة، وهي الفهمُ والعقلُ والصواب،
كما آتاهُ فَصلَ الخطاب، وهو منعُ الخلافِ والجدالِ والنزاع، بين المتخاصمَيْن المحتكِمَيْن عنده، حيثُ يُصْدِرُ حُكْمَهُ الذي يَحُلُّ المشكلة، ويُنهي الأَمْر!.
وكان يساعِدُه في أَحكامِه ابْنُه سليمان، الذي آتاهُ اللهُ الحكمةَ والعلمَ
والفهم، وبذلك أُضيفَتْ حكمتُه إِلى حكمةِ أَبيه، وأُضيفَ عِلْمُه إِلى عِلْمِ أَبيه..
وإِذا دَعت الحاجةُ استدركَ الابنُ على حُكْمِ أَبيه، وتَقَبَّلَ الأَبُ استدراك الابنِ وحُكْمَه بِرضاً، وأَمْضى حُكْمَه!.
وهذا ثَناءٌ على داودَ في فَهْمِه وحُكْمِه وعِلْمِه، وليس اتِّهاماً له بالضعفِ
والغفلةِ والجَهْل، كما ظَنَّ الفادي الجاهل.
وقد أَشارت الآيتانِ من سورةِ الأَنبياءِ إِشارةً مجملةً مبهمةً إِلى حادثةٍ
مُعَيَّنَة، احتكمَ فيها خَصمانِ إلى داودَ - صلى الله عليه وسلم -، ثم استدركَ عليه ابنُه سليمان، فَقَبلَ الأَبُ حُكْمَه وأَمْضاه.
احتكمَ إِلى داودَ رَجُلانِ في قضيةِ الحَرْثِ والغَنَم، والحرثُ هو الزَّرْع،
فدخلتْ غنم صاحب الغنم إلئ ذلك الزرع، ونَفَشَتْ فيه لَيْلاً، واشتكى صاحبُ الزرعِ على صاحبِ الغنمِ عندَ داودَ - صلى الله عليه وسلم -، فحكمَ داودُ بحُكْمٍ لم تذكُرْه الآيَتان، واستدركَ سليمانُ على حُكْم أَبيه، وأصدرَ هو حُكْماً فَهَّمَه اللهُ إِيّاه، وكان هو الحكمَ الأَصَحّ!! ونُلاحظُ أَنَّ الكلامَ في الآيتيْن مجملٌ مختصرٌ مُبْهَم، لم يَذكُرْ تفَاصيلَ القضيةِ المعروضَة، ولا حُكْمَ داودَ في القضية، ولا كيفيةَ استدراكِ سليمان، ولا حُكْمَه فيها.
ولا يوجَدُ عندنا حديثٌ صحيحٌ مرفوعٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُضيفُ شيئاً إِلى ما وَرَدَ في القرآن.
وقد وردَتْ روايةٌ موقوفةٌ على ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، يُمكنُ أَنْ " نستأنسَ " بها في تَصَوّرِ المسألة.
قالَ ابنُ عباس: دَخَلَ رجلانِ على داود، أَحَدُهما صاحبُ
حَرْث، والآخَرُ صاحب غَنَم.
فقال صاحبُ الحَرْث: إِنَّ هذا أَرسلَ غَنَمَهُ في حَرْثي، فلم يُبْقِ من حَرثي شيئاً!.(1/152)
فقال له داود: اذهبْ فإِنَّ الغنمَ كُلَّها لك!.
فَمَرَّ صاحبُ الغنمِ بسليمان، وأَخبرَه بالذي قَضى به داود..
فَدَخَلَ سليمانُ على داود - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبيَّ الله! إِنَّ القضاءَ سِوى الذي قَضيْتَ!.
فقالَ له داودُ: كيفَ؟
قال سليمانُ: إِنَّ الحرثَ لا يَخفى على صاحبِه ما يخرجُ منه في كُلِّ عام، فلَه أَنْ يَبيعَ من أَولادِها وأصوافِها وأَشعارِها، حتى يستوفيَ ثمنَ الحَرْث! فقالَ له داودُ: أَصبتَ.
القضاءُ ما قضيتَ!.
وفي روايةٍ أُخْرى لابنِ عباسِ: أَنه قال: قضى داودُ بالغنمِ لأَصحابِ
الحَرْثِ، فقالَ لهم سليمانُ: كيفَ قضى بينكم؟
فأَخْبَروه..
فقالَ لهم: لو وُلّيتُ أَمْرَكْم لقضيتُ بغيرِ هذا! فأُخبرَ داودُ بكلامِ سليمانَ، فقال له: كيفَ تَقْضي بينَهم؟.
قالَ سليمانُ: أَدفعُ الغنمَ إِلى صاحبِ الحَرْثِ، فيكونُ له أَولادُها وأَلبانُها
ومنافعُها، ويَبذُرُ أَصحابُ الغنمِ لأَهْلِ الحَرْثِ مثْلَ حَرْثهم، فإِذا بَلَغَ الحرثُ
الذي كانَ عليه، أَخَذَ أَصحابُ الحرثِ حَرْثَهم، وردّوا الغَنَمَ إِلى
أَصحابِها.
إِنَّ هذا التفصيلَ موقوفٌ على ابنِ عباس، ولم يرفَعْهُ إِلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،
ونحنُ نذكُرُ كلامَه من بابِ الاستِئْناس، مع التحفُّظِ والاحتياط.
لكنَّنا نقولُ: لم يُخطئْ داودُ - صلى الله عليه وسلم - في حُكْمه، لأَنه معصومٌ من الله، إِنما نقول: كانَ حُكْمُهُ خلافَ الأَوْلى، فَفَهَّمَ اللهُ سليمانَ المسألةَ، وأَلهمه الحُكْمَ الأَصَحَّ والأَوْلى.
فحُكْمُ داودَ صحيحٌ صواب، ولكنَّ حُكْمَ سليمانَ هو الأَصَحُّ الأَصوبُ..
والله أعلم!!.(1/153)
بين هاجر ومريم - عليهما السلام -
أَخْبَرَنا اللهُ عن ما جَرى لمريمَ العذراء - عليها السلام -، بعدما نَفَخَ فيها الروحُ جبريلُ، وحَمَلَتْ بعيسى - عليه السلام -.
قال تعالى: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي المفترِي في تخطئَتِه القرآنَ في كلامِه عن
انتباذِ مريمَ عن أَهْلهِا، وعن النخلةِ وجِذْعِهاَ ورُطَبِها، وعن وَليدِها عيسى الذي كَلَّمها بعد لحظةٍ من ولادتِه.
وقد اعترضَ على القرآنِ من زاويةٍ أُخْرى، حيثُ زَعَمَ أَنَّ القرآنَ خَلَطَ
بينَ مريمَ وهاجر، فنَسَبَ لمريمَ ما حَصَلَ مع هاجر.
قال: " وفي هذا خَلْطٌ بينَ مريمَ العذراء وهاجرَ أُمّ إِسماعيل..
فهاجر هربت إِلى البرية بإسماعيل، ولما عطشت هيَّأَ الله لها عين ماء فشربت.
أَمّا العذراءُ فلم تَهْرُبْ إِلى بَرّيَّة، ولا احتاجَتْ إِلى الماء، ولا كانَتْ تحتَ نَخْلَة ... " (1) .
واعتراضُه مردود، لأَنَّنا نتحفَّظُ على ما ذَكَرَهُ الأَحبارُ في سِفْرِ التكوين،
بالنسبةِ لهربِ هاجرَ بابنِها إِسماعيلَ إِلى البرية، بسببِ اضطهادِ سارةَ لها، فما
ذَكروهُ ليس في مصادِرِنا ما يُؤَيِّدُه ويُصَدّقُه، ولذلك نتوقف فيه بدونِ تصديقٍ أَو تكذيب، ونقول: اللهُ أَعلمُ بذلك (2) .
ويتجرأُ الفادي المفترِي على حديث القرآنِ عن مريم العذراء، فيُكَذِّبُه
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
107- هاجر والسيدة العذراء
إنه جاء فى سورة مريم: أن مريم لما حملت بالمسيح انتبذت به مكاناً قصيًّا. وعندئذ قد جعل الله لها تحتها (سريًّا) أى نهرا جارياً لتشرب منه. وهذا فى التوراة عن هاجر أم إسماعيل؛ فإنها لما عطشت هيأ الله لها عين ماء. وقد وضعه القرآن على مريم.
الرد على الشبهة:
إنه فسر السرى بالنهر الجارى. وليس كذلك. فإن الملاك ناداها بعدم الحزن؛ لأن الله قد جعل تحت كفالتها ورعايتها غلاماً سيكون سيّدا. فالسرى هو السيد وليس هو جدول الماء. وقد تحقق هذا الوعد؛ فإن المسيح صار سيِّدًا. أى معلماً للشريعة. وقال للحواريين عن هذا المعنى: " أنتم تدعوننى معلماً وسيداً. وحَسَناً تقولون؛ لأنى أنا كذلك " [يو 13: 13] . اهـ (شبهات المشككين)
(2) بل هو محض كذب وافتراء، فقد كانت هجرة السيدة هاجر وابنها إسماعيل - عليهما السلام - بأمر من الله قالت للخليل - عليه السلام - آلله أمرك بهذا؟
قال نعم.
قالت: إذن فلن يضيعنا.(1/154)
قائِلاً: " وأَمّا العذراءُ فلم تَهْرُبْ إِلى بَرِّيَّة، ولا احتاجَتْ إِلى ماء، ولا كانتْ
تَحْتَ نَخْلَة "!.
وقد أَحبَرَنا اللهُ في القرآنِ أَنَّ مريمَ العذراءَ - عليها السلام - اعتزلَتْ أَهْلَها، وابتعدتْ عنهم، وانتبذَتْ بابنِها الذي حَمَلَتْه مكاناً قَصِيّاً..
وهناك جاءَتْها آلامُ المَخاض، فأَلجأَتْها إِلى جذعِ نخلةٍ حَيَّة، فاعتمدَتْ عليه، واستندَتْ إِليه، وازدادت الآلامُ بها حتى إِنها تمنتْ أَنْ تكونَ ماتَتْ قبلَ هذا الوضع..
وما هي إِلا لحظةٌ حتى وضعتْ مولودَها عيسى بيُسْر، وما هي إِلّا لحظةٌ حتى
سمعَتْ مولودَها يُكَلّمُها وهو تَحْتَها، ويَدْعوها إِلى عدمِ الحُزْن، ويُرشدُها إِلى
أَنْ تَشربَ من ماءِ الجدولِ الذي أَجراهُ اللهُ تحتَها، وأَنْ تَهُزَّ جذعَ النخلةِ إِليها، حيث يتساقَطُ عليها الرطَبُ الجنيُّ الذي أَنضجَهُ اللهُ لها، وإِذا رأَتْ أَمامها
أَحَداً لا تكلِّمُه، لأَنها صائمةٌ عن الكلام، وسيتولّى مولودُها مهمةَ الكلامِ نيابهً عنها.
هذا ما قالَه القرآنُ عن ولادةِ مريمَ ابنَها عيسى - عليهما السلام -، وهو الصحيحُ والصوابُ عندنا، ولا وَزْنَ لكلامِ الفادي المخالفِ له، ولا قيمةَ لاعتراضِه عليه!!.
***
حول نزول المائدة على الحواريين
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ أَنَّ الحوارِيّين طَلَبوا من عيسى - عليه السلام - أَنْ يسأَلَ اللهَ إِنزالَ مائدةٍ من السماءِ عليهم، فسأَلَ عيسى - عليه السلام - ربَّه.
قال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) .(1/155)
وقد اعترضَ الفادي المفترِي على كلامِ القرآنِ وخَطَّاَه، واتَّهَمَه بعدمِ فهمِ
كلامِ الأَناجيل عن معجزاتِ عيسى - عليه السلام - أَمامَ الحواريين، وقصةِ " العَشاءِ الرباني " (1) .
قالَ: " لا يقولُ الإِنجيلُ إِنَّ تلامِيذَ المسيحِ طَلَبوا منه آيةً من السماء،
ولا يَقولُ إِنَّ مائدةً نزلَتْ من السماء، ولكنَّ الذين تبعوا المسيحَ ليَسْمَعوا
تَعاليمَه في البَريةِ مَكَثوا مَعَه وَقْتاً طويلاً، ولم يُرِد المسيحُ أَنْ يَصْرِفَهم
صائمين، لئلا يَخورُوا في الطريق، فأَخَذَ خَمْسَ خبزاتٍ وسَمَكَتَيْن، وبارَكَ
وكَسَّرَ، وأَطْعَمَهم جميعاً، وزادت عن الآكلين اثنتا عشرةَ قُفَّة!!.
ولعلَّ قصةَ القرآنِ عن نزولِ مائدةٍ من السماءِ، نَشَأَتْ عن عدمِ فهمِ بعضِ
آياتِ الإِنجيل (1) ، فوردَتْ في " مَتى: 26/ 20 - 29 "، و " مرقس: 14/ 17 - 25 "، و " لوقا: 22/ 14 - 20 "، و: " يوحنا: 13/ 1 - 35 "، قصةُ العشاءِ الرّبّانيّ، الذي رسَمَه المسيحُ تذكاراً لصلْبِه، فوردَ في " لوقا: 22/ 30 " (2) .
بخصوصِ مائدةِ المسيح، حيثُ قال لهم: " لتأْكُلوا وتَشْرَبوا على مائِدَتي في
ملكوتي، وتَجْلِسوا على كراسي، لتُدينوا أَسباطَ إِسرائيل الاثني عَشَرَ ".
يَعترفُ الفادي بالمائدة، التي أَكَلَ منها الحواريّون؟
بحضورِ عيسى - عليه السلام -، ويُحيلُ على الأَناجيلِ الأَربعةِ في حديثِها عنها، ويذكُرُ أَنَّ تلك المائدةَ قامَتْ على تكثير الطعامِ بين يَدَيْ عيسى - عليه السلام -، حيثُ كان معه خمسةُ أَرغفة وسمكَتان، فَدَعا اللهَ ليُبارِك فيها، فبارَكَ فيها، وتَعَشّى منها الحواريّون جميعاً " عَشاءً ربانياً "، زادَ عنهم اثْنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مليئةً بالطعام!.
وإِنَّ اللهَ الذي كَثَّرَ الطعامَ أَمامَ عيسى - عليه السلام - قادرٌ على إِنزالِ مائدةٍ من الطعام من السماء، ليأكلَ منها الحواريّون، فلا داعيَ لإِنكار إِنزالِ المائدةِ من
__________
(1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطلع على الإنجيل ولم يخرج من مكة حتى يقال ذلك: وكان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) .
(2) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
108- لم تنزل مائدة من السماء
إن فى سورة المائدة: أن الحواريين قد طلبوا مائدة من السماء. وأن الله قال (إنى منزلها عليكم (ولا يقول الإنجيل: إن تلاميذ المسيح طلبوا منه آية من السماء، ولا يقول: إن مائدة نزلت من السماء.
الرد على الشبهة:
إن المعترض غير دارس للإنجيل وغير دارس للتوراة. وذلك لأن فى إنجيل يوحنا أن الحواريين طلبوا آية من السماء " فقالوا له: فأية آية تصنع؛ لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المنّ فى البرية. كما هو مكتوب: أنه " أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا " [يو 6: 30 - 31] .
إنهم طلبوا مائدة من السماء؛ لأنهم قالوا: " آباؤنا أكلوا المن فى البرية " بعد قولهم " فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟ " واستدلوا على أكل آبائهم للمن بقولهم مكتوب فى التوراة أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا. وهذا يدل على أن آباءهم أكلوا المن والسلوى فى سيناء. والنص هو: " وأمطر عليهم منّا للأكل وبرّ السماء أعطاهم " [مزمور 78: 24] .
فهل نزل المن من السماء؟ وقد سماه داود - عليه السلام - مائدة فى قوله عنهم: " قالو: هل يقدر الله أن يرتب مائدة فى البرية؟ " [مز 78: 19] فمعنى نزوله من السماء: أنه من جهة الله لا من جهة إله آخر. ونص إنجيل يوحنا يبين أنهم طلبوا مائدة من السماء. ذلك قوله: " أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا " فإذا بارك الله فى طعام من الأرض ليشبع خلقاً كثيراً؛ فإنه يكون مائدة من السماء. كالمن النازل من السماء. وهو لم ينزل من السماء وإنما كان على ورق الشجر، وكالسلوى.
ومن أعجب العجب: أن مؤلف الإنجيل قال كلاماً عن المسيح فى شأن محمد رسول الله لا يختلف اثنان فى دلالته عليه صلى الله عليه وسلم. وقد استدل المسيح فيه عليه صلى الله عليه وسلم بنص فى الإصحاح الرابع والخمسين من سفر إشعياء.
ويقول المعترض: ولعلّ قصة القرآن عن نزول مائدة من السماء نشأت عن عدم فهم بعض آيات الإنجيل الواردة فى متى 26 ومرقس 24 ولوقا 22 ويوحنا 13. وغرضه من قوله هذا أن لا يعرف المسلمون موضع المائدة من الأناجيل لأنها بصدد كلام من المسيح فى شأن محمد رسول الله، وموضعها الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا. اهـ (شبهات المشككين)(1/156)
السماءِ في الوقْتِ الذي يتمُّ الإِيمانُ بتكثيرِ الطعام، طالما أَنَّ كلا الأَمْرَيْنِ من
فعْلِ الله، الذي هو على كلِّ شيءٍ قدير.
والإِيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله، يَدْعونا إِلى الإِيمانِ والتصديقِ بكلِّ ما
وردَ في القرآن.
وقد أَخبرنا اللهُ أَنه مُنَزِّلُ المائدة، في قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) ، والتعبيرُ عن إِنزالها بصيغة اسمِ الفاعل: " مُنَزِّلُها "، لتأكيدِ حقيقةِ إِنزالِها.
***
أصحاب القرية والرسل الثلاثة
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ بقصةِ أَصحابِ القريةِ مع الرسلِ الثلاثة الذين
أُرسلوا إِليهم ليَدعوهم إِلى الله.
وخلاصَةُ تلك القصةِ أَنه كانَ أَهلُ قريةٍ من القرى كافِرين باللهِ، فأَرسلَ اللهُ إِليهم رجلَيْن رسولَيْن، ولما وَصلا إِليهم وَدَعواهم إِلى اللهِ كَذَّبوهُما، فَعَزَّزَهما اللهُ برسولٍ ثالث، وقامَ الرسُل الثلاثة بإِقامةِ الحُجةِ على أَهْلِ القَرية، ولكنَّهم لم يَسْتَجيبوا لهم..
وجاءَ رجل مؤمنٌ من أَقصى المدينة، مُؤَيّداً الرسلَ الثلاثةِ، ودَعا القومَ إِلى الإِيمان بالرسلِ وتصديقِهم والدخولِ في دينهم، وعبادةِ اللهِ وَحْدَه، لكنَّهم لم يَسْتَجيبوا له..
وأَمامَ إِصرارِ أَهْلِ القريةِ على الكفرِ والتكذيبِ والإِيذاء، حَقَّتْ عليهم كلمةُ الله، فأَوقعَ بهم العذاب..
كما ورد في الآيات (13 - 29) من سورة يس.
وقد أَبهمَ القرآنُ تفصيلَ قصةِ أَصحابِ القرية، فلم يذكُر اسْمَها، ولا
زمانَها، ولا مكانَها، ولا جِنسيةَ أَهْلِها، كما لم يبيِّن أسماءَ الرسلِ الثلاثة،
ولا مَنْ أَرْسَلَهم، هل هم رسلٌ من اللهِ مباشرة، أم أَرسلَهم رسولٌ من عند الله، ولم يذكُرْ دِينَهم، ولا كيفَ وَصَلوا إِلى القرية، ولم يذكُر اسْمَ الرجلِ المؤمنِ الذي جاءَ يسعى ويَنْصُرُ الرسل، ولا تفاصيلَ ما جَرى بينَه وبينَ القوم، ولا كيفَ كانَتْ نهايةُ الرسلِ الثلاثة والرجلِ المؤمن، هل قُتِلوا أَوْ نَجَوْا، ولا كيفَ(1/157)
كانتْ تفَاصيلُ الصيحةِ الواحدةِ التي أَخذَتْهم وأَهلكَتْهم وجعلَتْهم خامدين!!.
ولم يَرِدْ حديث صَحيحٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفَسِّرُ بعضَ المبهماتِ في قصةِ أَصحابِ القرية، ويُوَضَحُ بعض التفاصيل، ولو وَرَدَ لَقُلْنا به..
فالواجبُ علينا أَنْ نبقى مع القرآنِ في حديثهِ عن القصة، ونسكتَ عن ما سكَتَ عنه، ولا نُبَيِّنَ بعضَ المبهماتِ التي أَبهمها القرآنُ عمداً!.
ولكنَّ كثيراً من المفَسِّرين لم يَفْعَلوا ذلك، وذَهَبوا إِلى الأَخبارِ والرواياتِ
التي لم تثبت، والإِسرائيلياتِ التي تُفَصِّلُ الكلام، وفَسَّروا بها كلامَ الله، وبَيَّنوا بها المبهماتِ التي أَبهمها القرآن.
ومن ذلك ما فعلَه الإِمامُ البيضاويُّ في تفسيرِ قصةِ أَصحابِ القريةِ في
سورةِ يسَ، مما جعلَ الفادي ينتقدُه، ويُحَمِّلُ القرآنَ خَطَأَه!.
قال: " (أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) : القريةُ هي إِنطاكية.
(إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) : هم رسلُ عيسى - عليه السلام -.
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) : لأَنه فِعْلُ رسولِه وخليفتِه، وهما يَحيى ويونس، وقيل: غيرهما.
(فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) : هو شمعون.
(فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) : وذلك أَنهم كانوا عبدةَ أصنام، فأَرسلَ إِليهم
عيسى - عليه السلام - اثْنَيْن، فلما قَرُبا من المدينةِ رأَيا حبيباً النجار يَرعى غنماً، فسأَلَهما فأَخبراه، فقال: أَمعكما آية؟
فقالا: نَشْفي المريضَ، ونُبرئُ الأَكْمَهَ والأَبرص، وكان له ولد، فَمَسحاه فَبَرأ، فآمَنَ حَبيب، ففشا الخَبَرُ، وشُفيَ على أَيديهما خَلْق كثير.
وبَلَغَ حديثُهما إِلى الملك، فقالَ لهما: أَلَنا آلهة سوى أَصنامِنا؟
قالا: نعم، مَنْ أَوجدَك وآلهتَك؟ ...
قال: حَتّى أَنظرَ في أَمْرِكما، فحبَسَهما..
ثم بَعَثَ عيسى شمعون، فدخَلَ مُتَنكراً، وعاشَرَ أَصحابَ الملك ...
، فأَنس به الملك، فقالَ له يوماً: سمعتُ أَنك حبستَ رجلَيْن فهل
سمعْتَ ما يَقولان؟
قال: لا.
فَدَعاهما.
فقال شمعون: مَنْ أَرسلكما؟
قالا: اللهُ الذي خَلَقَ كُلَّ شيء، وليس له شريك.
فقال: صِفَاه وأَوْجِزا.
فقالا: هو يَفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ بما يُريد.
فقال: وما آيَتُكما؟
قالا: ما يَتَمنّى الملِك.(1/158)
فدعا بغُلامٍ مَطموسِ العينَيْن، فدَعَوَا اللهَ حتى انشقَّ له بَصَرُه، وأَخَذا بُنْدُقَتَيْن، فوضَعاهُما في حَدَقَتَيْه، فصارا مقلَتَيْن ينظرُ بهما.
فقالَ شَمعون للملك: أَرأيتَ لو سأَلْتَ آلهتَك هل تصنَعُ مثلَ هذا؟
فقالَ الملك: لا أُخفي عنك سِرّاً، آلهتُنا لا تَسمعُ ولا تُبصر، ولا تَضر ولا تَنْفَع..
ثم قال: إِنْ قَدَرَ إِلهُكما على إحياءِ الميتِ آمَنّا به، فأَتَوا بغُلامٍ ماتَ منذُ سبعةِ أَيامِ، فدعَوَا الله، فقامَ حَيّاً، وقال: إِني أُدخلتُ سبعةَ أَوديةٍ من النار، وأنا أُحَذرُكُم ما أَنتم فيه.. فآمِنوا ...
وقال: فُتحتْ أَبوابُ السماء، فرأيتُ شابّاً حَسَناً يشفعُ لهؤلاءِ الثلاثة ...
فلما رأى شمعونُ أَن قولَه أَثّرَ في الملكِ نَصَحَه، فآمَنَ في جَمْع، ومَنْ لم يؤمنْ
صاحَ عليهم جبريلُ فَهَلَكوا..
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) .
هو حبيبٌ النَجار، وكان يَنحتُ أَصنامَهم، وهو ممنْ آمَنَ بمحمد، وبَيْنَهما ستُّمئة سنة..
وقيل: كانَ في غارٍ يَعْبُدُ الله، فلما بَلَغَه خَبَرُ الرسولِ أَتاهم وأَظهر دينَه..".
تُحَدِّدُ هذه الروايةُ الإِسرائيليةُ القريةَ بأَنها إِنطاكية، والرَّجلينِ الرَّسولينِ
بأَنهما يحيى ويونس، وأَنَّ الذي أَرسلَهما هو عيسى، وأَنَّ الرسولَ الثالثَ
المؤَيّدَ لهما هو شمعون.
وأَنَّ الذي جاءَ يَسعى من أَقصى المدينة هو حَبيبٌ النجار، وأَن حوارَهم كان مع ملكِ المدينة، وأَنهم قَدَّموا له الآياتِ من الشفاءِ والإِحياءِ حتى آمَن ...
وقد اعترضَ الفادي على هذه الروايةِ الإِسرائيلية، وحَمَّلَ القرآنَ
مسؤوليتَها، قال: " معلومٌ أَنَّ إِنطاكيةَ كانَتْ تحتَ حكْمِ الرومان، فكيفَ يقولُ القرآنُ: إِن لها مَلِكاً؟
ويقولُ البيضاوي: إِنَّ حبيباً النجارَ نَحّاتَ الأَصنامِ في إِنطاكية آمَنَ بمحمد، فهل من المعقولِ أَنْ يؤمنَ برسالةٍ جاءَتْ بعْدَه بستِّمئة سنة؟
ثم إِنَّه ليسَ مِن تلاميذِ مَنْ يُدْعى شمعون أو يونس؟
فشمعونُ هو ابنُ يعقوبَ بنِ إِسحاقَ بنِ إِبراهيم، ويونسُ أَو يونانُ هو أَحَدُ أَنبياءِ التوراة، الذي(1/159)
ابْتَلَعَه الحوت ".
ونحنُ لَسْنا مع البيضاويِّ في الروايةِ الإِسرائيليةِ التي ذَكَرَها، ولا نُفَسّرُ
بها كلامَ الله، ونَبقى مع حديثِ القرآنِ عن قصةِ أَصحابِ القرية، لا نُضيفُ له أَيَ تفصيل.
وهذا معناهُ أَنَّ اعتراضَ الفادي على القرآنِ مَرْدودٌ من أَساسِه، لأَنَّ
القرآنَ لم يَذكرْ أَنَّ القريةَ هي إِنطاكية، ولا أَنه كان يحكُمُها مَلِك، ولم يُسَمِّ
الرسلَ الثلاثة: يحيى ويونس وشمعون، ولم يتحدَّثْ عن حبيبٍ النجار.
ولقد كانَ الفادِي متحامِلاً على القرآن، عندما حَمَّلَه خَطَأَ كلام البيضاوي، وادَّعى أَنَّ القرآنَ هو الذي قال: كان الملكُ يحكمُ إنطاكية! ومعلومٌ أَنَّ القرآنَ لا يتحمَّلُ مسؤوليةَ أَيِّ فهمٍ خاطئ له!!.
***
حول قوم عاد
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ عن قصةِ قومِ عاد، وكُفْرِهم بالله، وتكذيبهم نبيَّهم
هوداً - عليه السلام -، ولما أَصَرّوا على كفْرهم وتكذيبهم أَوقعَ اللهُ بهم عِقابَه، حيث أَخَذَتْهم الصيحةُ فقضتْ عليهم وأَهلكَتْهم.
وقد ذُكرتْ قصةُ عادٍ بالتفصيلِ في سور: الأَعرافِ وهودٍ والشعراءِ وفُصِّلت والقمر وغيرها.
وفَصَّلَتْ سورةُ الأَحقافِ - قليلاً - العذابَ الذي أَوقعَهُ اللهُ بهم.
قالَ تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) .(1/160)
وقد اعترضَ الفادي على كلامِ القرآنِ عن قومِ عاد، واعتبرَهُ غيرَ
صَحيح، لأَنه لا يتفقُ مع حديثِ العهدِ القديمِ..
وأَخَذَ من تفسيرِ البيضاويِّ تفصيلَ العذابِ الذي أوقعَهُ اللهُ بهم.
قال: " قال البيضاوي: هودٌ هو ابنُ عبدِ الله بنِ رباح بنِ الخلودِ بن عاد بن عوص بن إِرَم بن سامِ بن نوح ...
وقومُ عادٍ كانوا يَعْبدونَ الأَصنام، فبعثَ اللهُ إِليهم هُوداً، فكَذَّبوه وازدادوا
عُتُوّاً، فأَمسكَ اللهُ المطرَ عنهم ثلاث سنين، حتى جهدَهم..
وأَنشأَ اللهُ سَحاباتٍ ثلاثاً، بيضاءَ وحمراءَ وسوداء، ثم نادى مُنادٍ من السماء لزعِيمِهم " قِيَلِ بنِ عَثَر ": يا قِيَل! اخْتَرْ لنفسِك وقومِك.
فقالَ: اخترتُ السوداء، فإِنها ْأَكْثرهُنَّ ماء!!..
فخرجَتْ على عادٍ من وادي المُغيث، فاستَبْشروا بها، وقالوا: هذا عارضٌ ممطِرُنا..
فجاءَتْهم منها ريخ عَقيم، فأَهلكَتْهم..
ونجا هود والمؤمنونَ معه، فأَتَوْا مكَّة، وعَبَدوا اللهَ فيها حَتى ماتوا ".
وعَلَّقَ الفادي على كلامِ البيضاويِّ قائلاً: " ولا تذكُرُ التوراةُ أَنَّ نبياً قامَ
بينَ نوحٍ وإبراهيم، وتذكُرُ بينَ ذريةِ نوحٍ رَجُلاً اسْمُه عاد، ولا تذكُرُ عقاباً
بانقطاعِ المطرِ ثلاث سنوات، إِلَّا في أَيامِ النبيِّ إِيليا ".
وقد سبقَ أَنْ قَرَّرْنا القاعدةَ العلميةَ الموضوعيةَ في التعاملِ مع أَحداثِ
الزمن الماضي، وهي أَخْذُها من المصادرِ الإِسلاميةِ الموثوقة، المحصورةِ في
الآياتَ القرآنيةِ الصريحة، والأحاديثِ الصحيحةِ المرفوعةِ إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -
وخلاصَةُ ما ذكَرَهُ القرآنُ حولَ قصةِ عادٍ: أَنهم كانوا يسكنونَ في منطقةِ
الأَحقافِ في جَنوبِ شرقِ الجزيرةِ العربية، وأَنهم كانوا بعدَ قومِ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنهم كانوا كافرينَ بالله، وكانوا ظَالمين معتدين، أَقوياءَ أشِدّاء.
فبعثَ الله ُ لهم هوداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وجَرى بينَه وبينهم جدالٌ ونقاش، وأَصَرّوا على كفرهم،(1/161)
ولما أَوقعَ اللهُ بهم عذابَه أَنجى هوداً - عليه السلام -، والذين آمَنوا معه، وأَرسلَ على القوم الكافِرين ريحاً باردةً شديدةً قويةً عاتية، سَخَّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أَيامٍ حُسوماً، وأَرسلَ عليهم سَحاباً أَسود، اعترضَ جبالَهم ووديانَهم، فظنّوه سَحاباً ممطراً، واستبْشَروا به، فأَهلكَهم الله.
ولَسْنا مع ما أَوردَه البيضاويُّ من نَسَبِ هودٍ إِلى نوح - عليهما السلام -، لأَنه لا دليلَ عندَنا على هذا النَّسَب، فلم يَرِدْ كلامٌ عنه في حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -..
كما أَننا لَسْنا مع البيضاوي في حديثِه عن السحاباتِ الثلاث، وعن اختيارِ زعيمِهم السحابةَ السوداء " لأَنها ممتلئةٌ مطراً.
لا نقولُ إِلا بما قالَ به القرآنُ حولَ هذا العارضِ الذي يَحملُ العذاب:
(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) ... .
وإِذا كانَ في كلامِ البيضاويّ ما ليسَ عليه دليل، فإِنَّ القرآنَ لا يتحملُ
ذلك، والقراَنُ لا يتحملُ إِلَّا ما ذكَرَه ونَصَّ عليه بصراحة! فاعتراضُ الفادي
على القرآن مردود.
وقد أخطأَ الفادي عندما شَكَّكَ في كلامِ القرآن عن قوم عادٍ، واعتبره من
أخطاءِ القرآن التاريخية! وهو يَنفي وُجودَ قومِ عادٍ في التاريخ، ويُنكرُ نبوةَ
هودٍ - عليه السلام -، والسببُ هو عدمُ حديثِ التوراةِ عن ذلك! وعدمُ حديثِ التوراةِ عن عادٍ لا يَعْني عدمَ وجودِهم في التاريخ، فلم تَذكر التوراةُ كُلَّ شيء من قَصصِ السابقين، وما سكَتَتْ عنه لا يَعني عدمَ وجوده! ثم إِنَّ الأَحبارَ حَرَّفوا التوراةَ وأَضافوا لها كثيراً من مزاعمِهم وأكاذيبهم وأَخطائِهم، فليس كلُّ ما فيها صحيحاً!.
وبما أَنَّ القرآنَ تحدَّثَ عن عادٍ فهو الحديثُ الصحيح، لأَنه هو مرجعُنا
المأمونُ الموثوقُ به، ولا وَزْنَ لاعتراضِ الفادي على حديثِه، وتخطئتِه له!.(1/162)
حول النبي ذي الكفل - عليه السلام -
ذو الكِفْلِ نبيّ من الأَنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وقد ذَكَرَهُ القرآنُ
ضمنَ الأَنبياء.
قال تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) .
وقال تعالى: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) .
وذَهَبَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاويِّ لينظرَ فيما أَوردَه عن قصةِ ذي
الكِفْلِ، ليشكِّكَ في ذِكْرِ القرآنِ له.
قال: " قالَ البيضاويُّ في تفسيرِ سورةِ (ص) : ذو الكِفْلِ ابنُ عَمِّ الْيَسَع، أَو
بِشْرُ بنُ أَيّوب، واخْتُلِفَ في نبوتِه ولَقَبِه.
فقيل: فَرَّ إِليه مئةٌ من أنبياءِ بني إِسرائيلَ من القَتْل، فآواهُم وكَفِلَهم.
وقيلَ: كُفِلَ برجلٍ عملَ صالحاً، وكان يُصَلي كُلَ يومٍ مئةَ صلاة ".
وقالَ البيضاويُّ في تفسيرِ سورةِ الأَنبياءِ: " ذو الكفلِ يَعْني إِلياس، وقيل:
يوشع، وقيل: زَكريا، سُمِّي به لأَنه كانَ ذا حَظ من اللهِ تعالى، أَو تَكَفَّلَ
أُمَتَه! ".
وجاءَ في بعضِ التفاسير أَنَّ ذا الكفلِ نبيّ من بَني إِسرائيل، وحكايَتُه أَنَّ
مَلِكاً أَوحى اللهُ إِليه إِنّي أُريدُ قَبْضَ روحِك، فاعْرِضْ مُلْكَكَ على بَني إِسرائيل، فمنْ تَكَفَّلَ أَنْ يُصَلِّيَ الليلَ ولا يَفْترَ، ويَصومَ النهارَ ولا يُفْطِر، ويَقضيَ بينَ الناسِ ولا يَغْضَب، فادْفَع إِليه مُلْكَكَ، فَفَعَلَ ذلك..
فقامَ شابّ، فقال: أَنا أَتكفَّلُ لك بهذا..
فتكفَّلَ وَوَفّى، فَشَكَرَ اللهُ له، ونَبَّأَه..
وسُمِّيَ ذا الكفل.. ".
وعَلَّقَ الفادي على ما نَقَلَه بتخطئةِ القرآن، قال: " ولا تَذْكُرُ التوراةُ ذا
الكفل، ولكنها تذكُرُ أَنَّ الرجلَ الذي عالَ مئةً من الأَنبياءِ هو عوبديا، وزيرُ
الملك أَخْآب، وكان يخشى الرَّبَّ جِدّاً، وخَبَّأَ هؤلاء المئة وَقْتَ أَنْ قَتَلت(1/163)
الملكةُ إِيزابلُ أَنبياءَ الرب ".
لم يُفَصل القرآنُ الحديثَ عن ذي الكفل، واكْتَفى بذكْرِهِ ضِمنَ الأَنبياء،
وكُلّ ما يتعلَّقُ بنبوَّتِه وقِصَّتِه فهو من مبهماتِ القرآن، التي لا نعرفُ عنها شيئاً، ولا نملكُ الوسيلةَ لبيانِها، وكلُّ ما نقولُه عنه: إِنَ ذا الكفل نبيٌّ من أَنبياءِ بني إِسرائيل.
وهذا مَعْناهُ أَنْ نتوقَفَ في ما حكاهُ البيضاويُّ والمفسِّرونَ الآخرون عن
قصته، كما نتوقَّفُ في كُلِّ ما تذكُرُه الإِسرائيلياتُ، فلا نُصَدِّقُه ولا نُكَذِّبُه،
والتوقُّفُ يعني أَنْ لا نذكُرَه ولا نعتمدَه ولا نقولَ به.
أَما منهجُ الفادي المفترِي في النظرِ إِلى ما ذَكَرَهُ القرآنُ، فإِنه منهج خاطئٌ
مردود، فهو يُحاكمُ القرآنَ إِلى التوراة، فما وافَقَ التوراةَ صَدَّقَه، وما لم تذكُرْه التوراةُ خَطَّأَهُ وكَذَّبَهُ ورَدَّه.
ولذلك لا يَعتبرُ ذا الكِفْلِ نبيَّاً، لأَنَّ التوراةَ لم تذكُرْ ذلك!.
ذو الكفلِ في نظر الفادي ليسَ نبياً، والقراَنُ أَخْطَأَ عندما ذَكَرَهُ مع
الأنبياء! أَما نحنُ فإِننا نؤمنُ أَنَّ ذا الكفلِ نبيٌّ من أَنبياءِ بني إِسرائيل، لأَنَّ اللهَ
أَخْبَرَنا عنه في القرآن، وتَفاصيلُ قِصتِه من مبهماتِ القرآن، ومَنْ أَنكرَ كونَه نبياً فهو كافر بالله لأَنه كَذَّبَ القرآنَ!!.
***
من هم أصحاب الرَّسِّ؟
أَشارَ القرآنُ إِشارةً إِلى أَصحابِ الرّش.
قال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) .
وقال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) .(1/164)
وذهب الفادي إِلى تفسيرِ البيضاوي، ليتعَرَّفَ منه على أَصحابِ الرسّ.
ونَقَلَ عنه قولَه: " أَصحابُ الرسّ: قومٌ كانوا يَعبدونَ الأَصْنام، فبعثَ اللهُ لهم " شعَيْباً فكَذَّبوه، فبينما هم حَوْلَ الرَّسِّ (وهي البئرُ غيرُ المطويَّة) انهارَتْ، فَخُسِفَ بهم وبديارِهم..
وقيل: الرسُّ: قريةٌ بجهةِ اليَمامة، كان فيها بقايا ثمود، فبُعث
لهم نبيّ فقَتَلوه، فهَلكوا..
وقيل: الرسُّ: الأُخْدود.
وقيل: الرسُّ: بئرٌ بإِنْطاكية، قَتَلوا فيها حَبيباً النجار..
وقيل: هم أَصحابُ حنظلةَ بنِ صفوان النبي، ابْتلاهم اللهُ تعالى بطيرٍ عَظيم، كان فيها من كُلّ لون، وسَمّوها عَنْقاء، لطولِ عُنُقِها، وكانت تسكنُ جَبَلَهم الذي يُقالُ له: فَتْح أَو دمخ، وتنقضُّ على صبيانهم فتخطفُهم إِذا أَعوزَها الصيْد، فدعا عليها حنظلةُ فأَصابَتْها الصاعقة.
ثم إِنهم قَتَلوه فأُهلِكوا..
وقيل: هم قومٌ كَذَّبوا نبيَّهم وَرسّوه، أَيْ: دَسُّوهُ في بئر ".
وشَكَّكَ الفادي في هذا الكلام، وهاجَمَ القرآنَ قائلاً: " ونحنُ نسألُ: ما
هذه الرسّ؟
وفي أَيِّ بلاد؟
وفي أَيِّ زمن؟
لماذا لم يُوَضّحْ لنا القرآنُ ذلك، إِنْ كانَ للرس وجود؟! (1) .
" الرَّس) ": مصدر. تقولُ: رَسَّ، يَرُسُّ، رَسّاً.
وهو بمعنى الإِدْخال. تقول: رَسَّه. أَيْ: أَدْخَلَه.
ويُطْلَقُ على البئرِ المحفورةِ في الأرض، ولكنَّها لم تُطْوَ، أَيْ: لم تُبْنَ من الداخل.
و"أَصحابُ الرسِّ ": هم قومٌ كانوا يُقيمونَ حولَ بئرٍ مطويّة، غيرِ مبنيةٍ
بالحجارة.
فقيل عنهم: أَصحابُ الرسِّ.
ولم يُفَصل القرآنُ الحديثَ عنهم، ولم يَقُصَّ قصتَهم، واكتفى بذكْرِ
اسْمِهم ضمنَ مجموعةٍ من الأَقوامِ الكافرين السابقين، في سورَتَي الفرقان وق.
فكانت قصةُ أَصحابِ الرسِّ من مبهماتِ القرآن.
ولم يَرِدْ حديثٌ صحيحٌ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثُ عنهم.
ولذلك لا نتحدَّث عنهم، ونكتفي بالإِشارةِ القرآنيةِ المجملة.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
110- أصحاب الرس
جاء فى سورة الفرقان (وأصحاب الرس) ثم ذكر كلام البيضاوى المفسر، ووجه الإشكال عليه.
الرد على الشبهة:
إن كلام المفسر ليس بحجة، ويوجد فى أرض العرب مدينة تسمّى مدينة " الرس " وهذا يدل على ذكر اسم قديم فى بلاد العرب. ربما يكون من اسم الأوائل. اهـ (شبهات المشككين) .(1/165)
ولَسْنا مع البيضاويّ في ما نَقَلَه عنهم، لأَنه كلامٌ لا دَليلَ عليه، فقد ذَكَرَ
خمسةَ أَقوالٍ في تَعيينهم، وكلُّها أَقوالٌ ظنية، والتفاصيلُ التي ذَكَرَها من بابِ
الإِسرائيليات التي لم تصحّ عندنا، فنتوقَفُ فيها، لا نُصدِّقُها ولا نُكذبُها ولا
نَرويها.
وما نقلَه البيضاويُّ في تَعيينِ أصحابِ الرس لا يتحملُه القرآن، فإِنْ كانَ
خطأً فيتحمَّلُ مسؤوليتَه الذين رَووه وذَكروه!!.
وتشكيكُ الفادي في وُجودِ أَصحابِ الرسّ اتهامٌ وتكذيبٌ منه للقرآن،
وتَساؤُلُه عن مكانِ وزمانِ أَصحابِ الرسّ من بابِ خبثِه ولؤمِه: " لماذا لم
يُوَضِّحْ لنا القرآنُ ذلك إِنْ كانَ للرسِّ وُجود؟! ".
إِننا نؤمنُ أَنَّ للرسِّ وجوداً، وأنه كانَ قومٌ من الناسِ مُقيمونَ حولها،
نؤمنُ بذلك لأَنَ القرآنَ ذَكَرَ ذلك، وكُلُّ ما وردَ في القرآنِ فهو صادق وصحيحٌ وثابت، لأَنه كلامُ الله.
أَما لماذا لم يُوَضِّح القرآنُ زمانَ أَصحابِ الرسِّ أو مكانَهم، ولم يُفصلْ
قصتَهم مع نبيّهم، فإِنَّ هذا يتفقُ مع منهج القرآنِ في حديثهِ عن قَصصِ
السابقين.
إِنَّ القرآنَ ليس كتابَ تاريخٍ مُفَصَّل، وحديثُه عن قَصصِ السابقين
ليسَ روايةً تاريخيةً فنيةً مفصَّلَة، إِنه لا يذكُرُ من أَخبارِ السابقين إِلّا ما فيه عبرةٌ
وعِظَة، وهو يعرضُ من أَخبارِهم ما يُحققُ أَهدافَه من الحديثِ عن قَصصِ
السابقين، وما يَعرضُه يتناسقُ مع السياق الذي وَرَدَ فيه.
وهذا مَعناهُ أَنَّ ما وردَ في القرآنِ من أَخبارِ السابقين هو لَقَطاتٌ ومَشاهد
ومواقف قليلة، وما لم يوردْه من تَفاصيلِ أَخبارِهم أَكثرُ مما أَورده، وقد تعَمَّدَ
القرآنُ إِبهامَ الكثير من تَفاصيلِ حياتِهم، عن تَعَمُّدٍ وقَصْد، لأَنَ اللهَ الحكيمَ
العليمَ يَذكرُ للناسِ ما يَحتاجونَ إِليه ويستفيدونَ منه، وما طَواهُ عنهم يَعلم أَنهم لا يَحتاجون إِليه!.
المهمُّ أَنَّ ما ذَكَرَه القرآنُ من أَخبارِ السابقين صادقٌ صحيحٌ ثابت،(1/166)
ولا يُلامُ القرآنُ على ما أَغفَلَه من تفاصيلِ قَصصِ السابقين، إِنما يُلامُ أَوْ يتهم إِذا أَخطأَ فيما أَوردَه من قَصصهم!!.
***
حول لقمان الحكيم
في القرآنِ سورة سماها اللهُ سورةَ لقمان، وأَخبرَ المسلمين فيها عن طَرَفٍ
من قصةِ لقمانَ الحكيم.
وقال فيها: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .
وذَهَبَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاويِّ ليأخذَ منه مادتَه التشكيكيةَ بالقرآن،
ونَقَلَ عنه قولَه: " لقمانُ بنُ باعوراء، من أَولادِ آزَرَ، ابنِ أُخْتِ أَيوب أَو
خالتِه، وعاش حتّى أَدركَ داودَ عليه الصلاة والسلام، وأَخَذَ منه العلم، وكان يُفتي قبلَ مبعَثِه ".
وعلقَ على كلامِ البيضاويِّ قائلاً: " فكيفَ يكونُ لقمانُ هذا نبيّاً؟
وكيفَ يعتبرُه البيضاويُّ أَنه عاصرَ أيوبَ وعاصَرَ داودَ، وبينَ أيوبَ وداودَ ما يقربُ من تسعمئةِ سنة؟!
وأَينَ بلادُ عوصٍ حيث عاشَ أَيوبُ من بلادِ فلسطينَ حيثُ عاشَ داودُ؟! ".
لم يُفَصّل القرآنُ الحديثَ عن لُقمان، وكلُّ ما ذكَرَه عنه أَنه كان رَجلاً
مؤمناً بالله، عابداً شاكِراً له، آتاهُ اللهُ الحكمةَ والعلمَ والفهم، وكان داعيةً
ناصحاً، وكان له وَلد، فقامَ بواجبِه في نصحِه وتوجيهِه وتذكيرِه وتعليمِه.
وقد ذَكرتْ سورةُ لقمانَ طَرَفاً مما وَعَظ ونصحَ به ابْنَه.
ولم تُضِفْ مصادرُنا الإسلاميةُ اليقينيةُ على ما وردَ في القرآنِ عنه،
ولذلك معظمُ ما يتعلقُ بقصتِه من مبهماتِ القرآن، التي لا نملكُ دَليلاً على
بيانها، فلا دَليلَ على زمانِه أَو مكانِه، ولا على القومِ الذين كانَ يَعيشُ معهم،(1/167)
ولا نَعرفُ هل كان نبيَّاً أَمْ مجردَ مؤمن عالمٍ حَكيم، ولا نَعرفُ من كلامِهِ
ومواعظِه وحِكمِهِ إِلَّا ما وردَ في القرآنِ!.
وهذا معناهُ أَنْ نتوقَّفَ في القولِ بما وَرَدَ عنهُ من أَخبارٍ وأقوالٍ وحِكم، لأَنها من الإِسرائيلياتِ والرواياتِ التي لم تَثْبُت، فلا نُصدقُها ولا نُكذبُها ولا نَرويها.
ولَسْنا مع البيضاويّ في حديثِه عن لُقْمان، لأَنه لا دليلَ عليه.
وقد كان الفادي مُتَحامِلاً على القرآنِ عندما اعترضَ على كلامِ
البيضاوي، وجَعَلَه من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية، فما دَخْلُ القرآنِ في كلامِ
البيضاوي؟
لا يُسأَلُ القرآنُ إِلا عن الكلامِ الذي يذكُرُه، ولا يُسْأَلُ عن كلامِ
البَشَرِ المفَسِّرين، فهم قد يُخطئونَ وقد يُصيبون!.
لم يُصَرِّح القرآنُ بنبوةِ لقمان، كما أَنه لم يَنْفِ نبوَّتَه، وإِنما سَكَتَ عنها،
ولذلك لا نَقولُ بنبوَّته، لأَنه قد لا يكون نبيّاً!! ولا نَنْفي عنه النبوَّة، لأَنه قد
يكونُ نبيّاً، فالأَسلمُ هو التوقُّفُ في هذا القول، والاعترافُ بقصورِ العِلْم،
فنحنُ لا نَعلمُ إِلا ما عَلَّمَنا اللهُ إِياه، أَو وَفَّقَنا إِليه!.
ثم إِنَ ما ذكرَهُ الفادي نَقْلاً عن العهد القديم لا دليلَ عليه، فلا دليلَ
على أَنَّ أَيوبَ كانَ قبلَ داودَ - عليه السلام - بتسعمئة سنة، ولا دَليلَ على أَنَّ أَيوبَ كان ببلادِ عوصٍ العربية، ولم يَقُلْ لنا أَينَ تقعُ بلادُ عوصٍ في الجزيرةِ العربية.
فما عابَه الفادي على البيضاوي وَقَعَ هو فيه، وما وَجَّههُ إِليه من انتقادٍ
يُوَجَّهُ إِليه.
***
بين الإسكندر وذي القرنين
ذَكَرَ اللهُ طَرَفاً من قصةِ ذي القرنَيْن في سورةِ الكهف الآيات (83 - 98)
وخلاصةُ ما ذكَرَه عنه: أَنه كانَ رَجُلاً مؤمناً صالحاً، وكان قوياً شُجاعاً ظافراً منصوراً، وقامَ بثلاثِ رحلات، رحلةٍ نحو مغربِ الشمس، فَتَحَ فيها بلاداً،(1/168)
وأَحسنَ معاملةَ أَهلها، ورحلةٍ نحو مشرقِ الشمس، وصلَ فيها إِلى أرضٍ
مكشوفةٍ سهلة منبسطة، ورحلةٍ نحو الشمال، وَجَدَ فيها قوماً ضِعافاً، شكوا إِليه هجماتِ يأجوج ومأجوج، فأَقامَ سَدّاً عالياً بين جبلَيْن، ليقيهم من هجماتِهم.
ورجعَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاوي، وأَخَذَ بعضَ ما قالَه عن ذي
القرنَيْن، ونسبَ له قوله: " قال البيضاوي وابنُ هشام: إِنَّ ذا القرنَيْن هو
إسكندرُ الأَكبر.
وقال البيضاوي: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) : يَعني إِسكندرَ
الرومي، مَلَكَ فارس والروم، وقيل: مَلَكَ المشرقَ والمغرب، ولذلك سُمِّيَ ذا القرنين، أَو لأَنه طافَ قَرني الدنيا شرقَها وغربَها، وقيلَ: لأَنه انقرضَ قرنان من الناس، وقيلَ: كانَ له قرنان، أَيْ ضفيرتان، وقيل: كانَ لتاجه قَرْنان..
ويُحتملُ أَنه لُقّبَ بذلك لشجاعتِه، كما يقال: الكبشُ للشُّجاع، كأَنه ينطحُ
أَقرانَه.
واختُلفَ في نبوَّته مع الاتفاقِ على إِيمانِه وصَلاحِه ".
ولا نُوافقُ البيضاويَّ على هذا الكلام، لأَنه ليس عليه دليلٌ من القرآنِ أَو
الحديثِ الصحيحِ عن رسول اللًه - صلى الله عليه وسلم -، ولا داعي للأَقوال السبعةِ المختلفة التي ذَكَرَها في سببِ تسميته بذي القرنَيْن، ولا داعيَ لترجيحِ أَحَدٍ منها، لأَنها كُلَّها مما لا دليلَ عليه!.
لم يَزِد القرآنُ على وصْفِ ذلك الرجلِ بذي القرنَيْن، وأَبهمَ اسْمَه وزَمانَه
ومكانَه، فلا نَعرفُ هل كان نبيّاً أَم لا، ولا نَعرفُ اسْمَه ونَسَبَه، ولا نَعرفُ
البلدَ الذي كانَ يحكُمُه، ولا نَعرفُ النبيَّ الذي كانَ في عصره، ولا نَعرفُ
تَفاصيلَ رحلاتِه المذكورةِ في سورةِ الكهف، ولا يُمكنُنا تَحديدُ المكانِ الذي
وَصَلَ إِليه في الغرب، ولا تحديدُ العينِ الحمئةِ التي وَقَفَ عندها، ولا تَحديدُ
المكانِ في المشرق، ولا تَحديدُ المكانِ الذي وَصَلَه في الشمال، ولا السَّد
الذي بَناه بين الجبلَيْن، فهذا كُلُّه من المبهماتِ التي لا تَبيينَ لها، لعدمِ وجودِ
دليلٍ عليها.(1/169)
ونَرُدُّ القولَ الذي أَوردَه البيضاوي من أَنَّ ذا القرنين هو الإسكندرُ الأَكبرُ
الرومي، ملكُ اليونانِ المعروف، الذي فَتَحَ بلادَ اليونان والرومان وتركيا
والشام ومصر وفارس، وماتَ في شبابِه في مدينةِ بابل، كما قال المؤرخون.
فهذا القول خطأ، وإنْ قالَ به كثيرٌ من المؤَرِّخين والإِخباريّين
والمفَسِّرين، لأَنه يَتعارضُ مع القرآن، فالإِسكندرُ المقدونيُّ الرومي كان وثنياً
كافراً مشركاً بالله، وذو القرنين كان رَجُلاً مؤمناً صالحاً داعياً إِلى الله، فأَيْنَ
هذا من هذا؟!.
إِذنْ أَخْطَأَ البيضاويُّ - رحمه الله - ومَنْ معه عندما قالوا: ذو القرنين هو
الإِسكندر! لكنَّهُ خطؤُهم وليسَ خَطَأ القرآن.
وبهذا نَرُدُّ الأَسئلةَ والإِشكالاتِ التي أَثارها الفادي على حديثِ القرآنِ
عن ذي القرنينِ في قوله: " ونحنُ نسأل: كيفَ يَجعل القرآنُ إِسكندرَ الأَكبرَ
الملكَ اليونانيَّ الوثنيَّ نبيّاً يُخاطبُه اللهُ ويُوحي إِليه؟
وكيفَ يَعْزو إِليه زيارةَ سدودٍ تَحُدُّ الأَرضَ وآبارٍ تَغيبُ فيها الشمس؟
وإِذا كانَ إِسكندرُ عَمَّرَ جيلَيْن كما قال البيضاوي، فما كانَ أَقصر أَعمارِ أَهلِ زمانه؟
فالتاريخُ يقول: إِنَّ إِسكندرَ توفيَ ابنَ ثلاثٍ وثلاثين سنة في مدينة بابل سنة (323 ق. م) ، وكيفَ يكونُ نبيّاً أَو صالِحاً مؤمناً، وقد كانَ من عبدةِ الأَوثان، وادَّعى أَنه ابنُ آمون إِله المصريين؟! ".
إِنَّ الفادي يَفتري ويُغالط وَيَتَلاعب، ويتهمُ القرآنَ بما ليسَ فيه، ويَحَمّلُه
أَخطاءَ المفسِّرين، ويَنسبُ كلامَ المفسِّرين إِلى القرآن.
إِنه يَكذبُ في قولِه: " كيفَ يجعلُ القرآنُ إِسكندرَ الأَكبرَ الملكَ اليونانيَّ
الوثنيَّ نبياً يُخاطبُه اللهُ ويوحي إِليه؟ ".
مع أَنَّ القرآنَ لم يَقُلْ ذلك، وإِنما أَخْبَرَ عن ذي القرنين، ولم يُصَرِّحْ بنبوةِ ذي القرنين، فضلاً عن أَنْ يَقول: إِنَّ ذا القرنين هو الإِسكندر، وإِنه نبيّ!.
إِنَّ الذي قَال بأَنَّ ذا القرنين هو الإِسكندرُ هو البيضاوي ومَنْ معه من(1/170)
المفسرينَ والمؤَرِّخين، وقد أَخْطَؤوا في كلامِهم كما سبقَ أَنْ قَرَّرْنا، فكيفَ
يَنسبُ الفادي المفترِي كلامَهم إِلى القرآن، ويَجعلُ خَطَأَهم من أَخطاءِ
القرآن؟!.
وبمناسبةِ اتِّهامِه للقرآنِ وتشكيكِه في معلوماتِه، فقد شَكَّكَ في كلامِ القرآنِ
عن العينِ الحمئةِ التي وَصَلَها ذو القرنين، وعن السَّدِّ الذي بَناه.
قال: " وإِنْ كانت الشمسُ تَغربُ في بئرٍ فهل تَدورُ الشمسُ حولَ الأَرض أَم الأَرضُ حولَ الشمس؟
أَمّا السَّدُّ الذي بَناهُ إِسكندر من زُبَرِ (قِطَعِ) الحَدِيدِ والنحاسِ بين جَبَلَيْن،
أحدهما مأهولٌ بأُمَّةٍ صالحة، والآخَرُ بأُمَّةٍ متوحشةٍ، فلا نَجِدُ له أَثَراً ".
وقد سَبَقَ أَنْ نَاقَشْنا الفادي في تشكيكِه في غروبِ الشمسِ في عينٍ
حمئة، التي أَخبرَ اللهُ عنها في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .
أَما تشكيكُه في إِخبار القرآنِ عن سَدِّ ذي القرنين بحجةِ أَنَّ السَّدَّ ليس
موجوداً؟
فلا وَزْنَ له، لأَنَّ عَدَمَ وجودِ السَّدِّ على الأَرضِ لا يَعْني أَنه لم يُبْنَ
ولم يَكنْ موجوداً من قبل، فمن الراجح عندنا أَنَّ السَّدَّ قد تَمَّ نقضُه وهدمُه،
ولم يَعُدْ له أَثَر، لكننا نوقنُ أَنَّ ذا القرنين بَناهُ بين الجبلَيْن من الحديدِ
والنحاس، لأَنَّ اللهَ أَخبرَنا عن ذلك في القرآن.
***
الكعبة ومقام إبراهيم - عليه السلام -
أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ الكعبةَ هي أَولُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ لعبادةِ الله.
قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) .(1/171)
وشَكَّكَ الفادي في هذا واعتبرَهُ من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية.
ونَقَلَ عن الدكتورِ علي حسني الخربوطلي قولَه: " إِنَّ الوثنيّين هم الذين
بَنَوُا الكعبةَ لعبادةِ زُحَل والأَصنام، وكان العربُ يحجّونَ إِليها لتعظيمِ
أَصنامِهِم ".
ويُعَلِّقُ الفادي على كلام الخربوطلي بأَنه من الخطأ اعتبارُ الكعبةِ بيتاً
لعبادةِ الله، قال: " من الخَطَأ أَنْ يُقالَ: إِنَّ الكعبةَ بيتُ اللهِ أَو مقامُ إبراهيم، فأين بيتُ اللهِ من بيتِ الأَصنام؟ " (1) .
وما نسبَهُ الفادي إِلى الخربوطلي مردود، والدكتورُ علي حسني
الخربوطلي مسلمٌ، لا يُخالفُ ما وَرَدَ في القرآن، وهو في كتابه " الكعبة على
مر العصور " يذكرُ بعضَ ما قيلَ عن تاريخِ الكعبةِ وماضيها، فذَكَرَ أَنَّ بعضَهم ذهبَ إِلى أَنَّ الكعبة بُنيتْ لعبادةِ الكواكبِ والأَصنام، والخربوطلي لا يَقولُ بذلك، لكنه وجدَ هذا القول فسجَّلَه، ضمن أقوالٍ أُخرى، وباعتبارِه كاتباً مسلماً فقد رَجَّحَ ما وَرَدَ في القرآنِ، من أَنها أَوَّلُ بيت وُضِعَ لعبادةِ الله!.
ولكنَّ الفادي الخبيث، وَقَفَ أَمامَ الأَقوالِ التي أَوردَها الخربوطلي،
وَرجَّحَ القولَ الذي يتفقُ مع هواه، فاختارَه من بين تلك الأَقوال، ليجعَلَه دَليلاً على خطأ القرآن.
وكنا نتمنَى على الدكتورِ الخربوطلي لو لم يذكُرْ تلكَ الأَقوالَ الباطلةَ المردودة المخالفةَ للقرآن، وأَنْ يكتفي بذكْرِ ما وَرَدَ في القرآن، حتى لا يحتجَّ أَصحابُ الأَهواءِ والمغرضون - كالفادي - بتلك الأَقوال!!.
والراجحُ في نشأةِ الكعبةِ هو ما قالَه القرآنُ، من أَنَّها أَوَّلُ بيتٍ وُضِعَ
للناس لعبادةِ الله، وكان الموحِّدونَ المؤمنونَ يحجُّونَ إِليها لعبادةِ اللهِ وحْدَه.
وخَطَّأَ الفادي المفترِي القرآنَ في إِخبارهِ أَنَّ إِبراهيمَ هو الذي بنى
الكعبة، وبقيَ " مَقامُ إبراهيم " الذي كان يَقِفُ عليه أَثناءَ البناءِ بجانبها، قالَ
تعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) .
وزَعَم أَنَّ إِبراهيمَ - عليه السلام - كانَ يُقيمُ في فلسطين، فأَينَ هو من الحجاز؟!.
قال: " ومعلومٌ أَنَّ إِبراهيمَ كان يَسكنُ أَرضَ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
112- الكعبة مقام إبراهيم
إنه جاء فى القرآن أن الكعبة أول بيت وضع للناس. وأنها كانت مقام إبراهيم، ومعلوم أن الكعبة من بناء الوثنيين كما جاء فى الكتب التاريخية.
الرد على الشبهة:
أولاً: إن الكعبة ليست من بناء الوثنيين كما جاء فى الكتب التاريخية التى لا يشك أحد فى أن لليهود دخل فيها. وإنما هى من بناء نوح - عليه السلام - فإنه لما خرج من السفينة، ونجا من الغرق هو ومن آمن معه. بنى " مذبحاً " لذبح الحيوانات عنده قرباناً لله تعالى. ففى التوراة: " وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح " [تك 8: 20] وهذا المذبح كان فى أرض مكة المكرمة المدينة التى استقر الفلك فيها على الجُودِىّ. والدليل على ذلك قول التوراة: إن الناس من بعد نوح ارتحلوا شرقاً إلى أرض شنعار التى هى أرض العراق. فارتحالهم إلى الشرق إلى العراق يدل على أن السفينة كانت فى بلاد العرب. ذلك قوله: " وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة. وحدث فى ارتحالهم شرقاً أنهم وجدوا بقعة فى أرض شنعار، وسكنوا هناك " [تك 11: 1 - 2] .
وليس فى القرآن نصوص صريحة على أن العرب قد عبدوا الأصنام حتى يقال: إن الكعبة كانت لصنم رُحل. وفى التوراة نصوص صريحة على أن اليهود وأدوا نبيهم وبناتهم فى النار للعرافة والسحر وأنهم عبدوا الأصنام. بل وفى القرآن نصوص صريحة على أن اليهود عبدوا صنم البعل فى أيام إلياس - عليه السلام - ففى الزمور المائة والسادس: " وأهرقوا دماً زكيًّا. دم نبيهم وبناتهم الذين ذبحوا لأصنام كنعان وتدنست الأرض بالدماء " [مز 106: 38] . وفى الإصحاح الخامس والستين من سفر إشعياء: " أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسى، ورتبوا للسعد الأكبر مائدة، وملأوا للسعد الأصغر خمراً ممزوجة.. " [إش 65: 11] .
فى ترجمة الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط سنة 1995م تحت كلمة السعد الأكبر: لجاد وهو المشترى، وتحت كلمة السعد الأصغر: لمَنَى وهو الزهرة.
وفى ترجمة 1995م بلبنان: " ونسيتم جبلى المقدس. وهيأتم مائدة للإله جاد، ومزجتم الخمر للإلهة مناة " والتعليق عندهم هكذا: جاد ومناة إلهان عند الكنعانيين.
هذا مما فى التوراة عن عبادة اليهود للأصنام ومما فيها: " بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا، وبعدد شوارع أورشليم وضعتم مذابح للخزى ومذابح للتبخير للبعل " [إرمياء 11: 13] .
ويمكن الفهم من آيات فى القرآن أن العرب بنى إسماعيل - عليه السلام - لم يعبدوا الأصنام قط. فإبراهيم - عليه السلام - وهو يبنى الكعبة ولم يكن له من ولد غير إسماعيل، يطلب من الله طلبين فى ذريته:
أولهما: أن يجنبهم عبادة الأصنام، وثانيهما: أن يبعث فيهم نبيًّا منهم.
وإذ شهد الواقع بتحقيق الطلب الثانى فإن محمداً قد أرسل؛ يكون الطلب الأول قد تحقق أيضاً.
وفى القرآن أن الله قد عاهد إبراهيم وإسماعيل بتطهير الكعبة من الأصنام ولم يذكر أنهم نقضوا العهد. كما ذكر أن اليهود نقضوا فى قوله (فبما نقضهم ميثاقهم..) (1) .
وأما قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة..) (2) فإن فى التوراة أن اليهود عبدوا صنم مناة. والضمير فى (أفرأيتم) يحتمل أنه للعرب ويحتمل أنه لليهود. واحتمال عوده إلى اليهود أقوى لوجود شواهد فى التوراة عليه. ولا يقدر عاقل على اتهام بدليل محتمل.
وأما قوله تعالى: (وإذا الموءودة سُئلت بأى ذنب قتلت) (3) ففى التوراة أن اليهود وأدوا نبيهم وبناتهم. وليس فى القرآن من نص صريح على نسبة الوأد إلى العرب. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) النساء: 155، المائدة: 13.
(2) النجم: 19 - 20.
(3) التكوير: 8 - 9.(1/172)
كنعان، ولم يَذهبْ إِلى بلادِ العرب، فمن الخطأ أَنْ يُقالَ: إِنَّ الكعبةَ بيتُ اللهِ أَو مقامُ إِبراهيم، فأَينَ بيتُ اللهِ من بيتِ الأَصْنام؟!
وأَينَ العِبْرِيُّ من العربي؟!
وأَينَ فلسطينُ من الحجاز؟
وقد أَوردَ الدكتورُ طه حسين هذه الفكرةَ في كتابِه الشعر الجاهلي ".
أَمَّا أَنَّ إِبراهيمَ - عليه السلام - كان يُقيمُ في الأَرضِ المقدَّسَة، فهذا حَقّ
وصواب، نقولُ به لأَنَّ القرآنَ أَخبرَ عنه.
وكونُه في بلادِ فلسطين لا يمنعُ ذَهابَه إِلى بلادِ الحجاز، وليسَ في هذا محذورٌ عقلاً، فقد كانَ في العراق، ثم توجَّهَ إِلى فلسطين، والمسافةُ بين فلسطينَ والحجازِ ليستْ أَبعدَ من المسافةِ بينَ فلسطينَ وجنوبِ العراق، فلماذا صَدَّق الفادي وطه حسين قُدومَ إِبراهيمَ من العراقِ لفلسطين، ولم يُصَدّقا ذهابَه من فلسطينَ إِلى الحجاز؟
أَلِأَنَّ الخبرَ الأَولَ وَرَدَ في العهدِ القديم فَصَدَّقاه، ولأَنَّ الخبرَ الثاني لم يَرِدْ
في العهدِ القَديم، فلم يُصَدِّقا به؟
ومَنْ قالَ: إِنَّ الحقيقةَ محصورةٌ بما وردَ في العهدِ القديم؟
ولماذا لم يُصَدّقا ما وَرَدَ في القرآن؟
وهو كلامُ اللهِ الثابتُ المحفوظ!.
إِنَ مرجعيتَنا الأُولى هي القرآن، وكلُّ ما وَرَدَ في القرآنِ نُؤمنُ به، وقد
نَصَّ القرآنُ على أَنَّ إِبراهيمَ أتى إِلى بلادِ الحجاز، وأَسكنَ بعضَ أَهْلِه فيها.
قال تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) .
كما نَصَّ القرآنُ على أَنَ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ هما اللذان بَنَيا البيتَ الحرام.
قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) .
وعلى ضوءِ هذا البيانِ القرآنيِّ الصادقِ يكونُ كلامُ الفادي خَطَأً وباطلاً
ومردوداً.(1/173)
يمين أيوب والضغث والضرب
أَشارَ القرآنُ إِشارةً مبهمةً مجملةً إِلى يمينٍ حَلَفَه أَيوب، فأَرشَدَه اللهُ إِلى
كيفيةِ التحللِ من يمينهِ، وعَدَمِ الحنْثِ فيه، بأَنْ يأخذَ ضِغْثأ فيضربَ به الطرفَ الآحْرَ.
قال تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) .
وذهبَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاوي، ليأخذَ منه دليلاً على تخطئةِ القرآنِ
في حديثِه عن يمينِ أَيوب - عليه السلام -.
قال: " قال البيضاوي: الضغْثُ: الحزمةُ الصغيرةُ من الحشيشِ ونحوِه (فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ) : رُوِيَ أَنَّ زوجةَ أَيوبَ " ليا بنت يعقوب "، وقيل: " رحمة بنت أَفرايم بن يوسف " ذهبتْ لحاجةٍ فأَبطأَتْ، فحلَفَ إِنْ برئ أَن يضربَها مئةَ ضربة، فحلَّلَ اللهُ يَمينَه بذلك، وهي رخصةٌ باقيةٌ
في الحدود ".
وأَثارَ الفادي تشكيكَه وشبهاتِه قائلاً: " ونحنُ نسأل: كيفَ يصحُّ لأَيّوب
البارّ، الصبورِ على ضَياعِ أَولادِه وعبيدِه ومواشيه، أَنْ يغضبَ على زوجتِه،
وهو المشهودُ له في التوراةِ باللطفِ والحِلْم، وخاصةً مع زوجته، إِذْ قالَ لها:
" تتكلَّمين كَلاماً كإِحدى الجاهلات!! آلْخَيْرَ نقبلُ من عندِ الله والشَّرَّ لا
نَقْبَل؟ "..
وكيفَ يصحُّ لأَيوب أَنْ يتوعَّدَ زوجَتَه بالضربِ مئةَ ضربةٍ لمجردِ
إِبطائِها؟
وكيفَ يحلفُ لِيَضْرِبَنَهَا مئةَ سوط، فينصحُه اللهُ أَنْ يأخذَ حُزْمَةً فيها مئةُ
عود، فيضربَها بها ضربةً واحدةً فلا تقعُ يمينُه؟
وأَينَ أَيوبُ من يعقوبَ حتى يزوَّجَ ابنتَه؟
أو من يوسفَ حتى يتزوَّجَ حفيدتَه؟
والمعروفُ أَنَّ أَيوبَ سابقٌ ليعقوبَ ويوسفَ تاريخياً؟..
وهذه القصةُ موجودةٌ في خرافاتِ اليهودِ القدماء ".(1/174)
لَسْنا مع الإِمامِ البيضاويِّ في تبيينِه ما أَبهمه القرآن، لأَنَه لا دليلَ له
على ذلك.
فلا نقول: إِنَّ امرأَتَه هي لَيا بنتُ يعقوب، ولا نقول: إِنها رحمةُ
بنتُ أَفرايم، ولا نقول غيرَ ذلك، وبهذا يسقطُ اعتراضُ الفادي على تعيينِ اسمِ زوجتِه، واعتبارُه ذلك من أَخطاءِ القرآن، لأَنَّ القرآنَ لم يُبَيِّنْ ذلك أَصلاً.
ويُخطئُ الفادي في زَعْمِه أَنَّ أَيوبَ كانَ قبلَ يعقوبَ ويوسفَ بفترةٍ
طويلة، وأَنه كانَ في بلادِ عوض العربية، والراجحُ من خلالِ حديثِ القرآنِ عن الأَنبياءِ أَنه كانَ من أَنبياءِ بني إِسْرائيل المتأَخِّرين، نقول هذا من بابِ الترجيحِ والاحتمال، وليسَ من بابِ الجزمِ واليقين.
ولَسْنا مع الإِمام البيضاويِّ في تَبيينِه سَبَبَ حَلْفِ أَيّوب، وكيفيةَ تكفيرِه
عنه، فلا دليلَ عندنا من الآيات ِ الصريحة والأَحاديثِ الصحيحة لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، على أَنَ أَيوبَ غضبَ على امرأتِه لأَنها أَبْطَأَتْ عليه، فَحَلَفَ أَنْ يضربَها مئةَ سوط، وأَرشدَهُ اللهُ إِلى أَنْ يأخذَ غُصناً به مئةُ عود، فيضربَها به ضربةً واحدةً، لئلا يحنثَ في يمينِه.
وبهذا يسقطُ اعتراضُ الفادي على ما أَوردَه البيضاوي، لأنه اعترضَ على
كلامٍ لم يَصحّ ولم يَثْبُت، وجَعَلَه دليلاً على إِدانةِ القرآنِ وتخطئتِه، مع أَنَّ
القرآنَ لم يَقُلْه! وكيفَ يُدانُ القرآنُ ويُخَظَّأُ على كلامٍ لم يَقُلْه؟!.
وعلَينا أَنْ نبقى مع القرآنِ والحديثِ الصحيح في فهمِ ما ذَكَرَه القرآنُ عن
قَصَصِ السابقين، ولا يَجوزُ أَنْ نُضيفَ إِليهما كلاماً لأَي شخصٍ آخر، أَو من أَيِّ مصدرٍ آخَر.
وقد أَبهمَ القرآنُ الحديثَ عن يَمينِ أَيوبَ - عليه السلام -، واكتفى بإِشارةٍ مجملة:
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ) .
ومعنى الآية: إِنَّ أَيوبَ - عليه السلام - حَلَفَ يَميناً أَنْ يَضربَ شَخْصاً ضَرْباً، فَدَعاهُ اللهُ إِلى أَنْ لا يَحنَثَ في يمينِه، وذلك بأَنْ يأخذَ ضِغْثاً فيضربَ به الطرفَ الآخَر، والضغْثُ هو القبضةُ من الحشيشِ أَو العيدان؟
يمْسِكُ بها الكَفُّ.(1/175)
فأَخَذَ أَيوبُ الضِّغْثَ من الحشيشِ أَو العيدانِ وضربَ به الطرفَ الآخَر، وبذلك أَمضى يمينَه ولم يَحْنَثْ!.
وكلُّ كلامٍ إِضافةً على هذا الكلامِ لا دليلَ عليه، ولا يَجوزُ أَنْ نُفَسِّرَ به
كلامَ الله، ولذلك نَستبعدُ ما قيلَ بأَنَّ أَيوبَ حَلَفَ على امرأتِه أَنْ يضربَها مئةَ سوط، وأَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يضربَها بغصْنٍ فيه مئةُ عودٍ كي لا يَحْنَث!.
***
الصرح الذي بُني لفرعون
أخْبَرَنا اللهُ أَنَّ فرعونَ أَصَرَّ على كُفْرِهِ وادعى الأُلوهية، وطلبَ من وزيرِه
هامانَ أَنْ يَبنيَ له صَرْحاً ليبحثَ عن إِله موسى.
قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) .
وقد اعترضَ الفادي على القرآن، وخَطَّأَه، ووضعَ لكلامِه عِنْواناً
استفزازيّاً هو: " فرعونُ بنى بُرْجَ بابلَ بمصر! ".
وهو تهكُّمٌ وسخريةٌ بكلامِ القرآن، فأَينَ برجُ بابلَ الذي في العراقِ من فرعونَ حاكم مِصر؟!.
قالَ الفادي في تخطئتِه للقرآن: " ومعلومٌ أَنَّ البرجَ الذي كانَ بنو آدم
يَبنونَه ليسَّ رأسُه السماء، وقد صنَعوهُ من الطّينِ اللَّبِنِ المشويِّ بالنّار، هو
برجُ بابلَ في بلادِ الكِلْدانيّين، وقد شَرَعوا في بنائِه عقبَ حادثةِ الكِلْدانيّين..
فلا يمكنُ أَنْ يكونَ الآمِرُ بالبرجِ هو فرعون، كما أَنَّ البرجَ لم يُبْنَ في مصر،
ولا يُمكنُ أَنْ يكونَ وزيرُ فرعون هو هامانَ الوزيرَ الفارسيّ، وقد بُنِيَ برجُ بابلَ قبلَ فرعونَ بقرونٍ طويلة! ".
خَطَّاَ الفادي القرآنَ في حديثهِ عن صَرْحِ فرعون، بينما اعتمدَ حديثَ سِفْر(1/176)
التكوينِ عن برجِ بابل، مع أَنها أُسطورةٌ وخُرافة، لا تتفقُ مع الإِيمانِ بالله،
وخلاصَتُها: أَنَّ الناسَ تجمعوا في سهل بابلَ بعدَ انتهاءِ طوفانِ قومِ نوحٍ، فاتفقوا على أنْ يَبْنوا بُرْجاً عالياً، يَمَسُّ رأْسُه السماء، ليخلّدَ ذكْرَهم على الأَرض، ولما شَرَعوا في بنائِه، رآهم اللهُ وهو في السماء، وخافَ منهم أَنْ يَصْعَدوا إِليه، فقال لمن حَوْلَه من الملائكة: هؤلاء بنو آدم يَبْنون بُرْجَهم إِلى السماء، وإِنْ تَرَكْناهم وَصَلوا إِلينا، فَتَعالوا نَنْزِلْ ونُبَلْبِلْ أَلسنَتَهم ونُفَرِّقْهم!! فنزلَ الرَّبُّ إِليهم وبَلْبَلَ أَلسنَتَهم، فَتوقَّفوا عن البناء، وتَشَتَّتوا وتَفَرقوا في الأَرض!!.
هذه الأُسطورةُ الخرافيةُ الكافرةُ يُصَدِّقُها الفادي لأَنها وردَتْ في العهدِ
القديمِ، مع أَنها لا تتفقُ مع قوةِ اللهِ وقدرتِه وعظمتِه وعدلِه، وهي من تأليفِ
الأَحبارِ المحَرِّفين للتوراة.
أَما حديثُ القرآنِ عن الصرحِ الذي طَلَبَ فرعونُ من وزيرِه هامانَ أَنْ
يبنيَه فإنه يُخَطِّئُه ويَرفضُه، كما يَرفضُ أَنْ يكونَ هامانُ وزيراً لفرعون، لأَنه كان وزيراً لملكِ الفرسِ، الذي كان بعدَ فرعونَ بقرون.
والصَّرْحُ هو البناءُ العالي، والأَبنيةُ العاليةُ موجودةٌ في كثيرٍ من المدنِ
القديمة، وقد ذَكَرَ القرآنُ صرحَيْن:
الأَول: صَرْحُ فرعونَ الذي بَناهُ له هامانُ من الطينِ المحروق، والذي
أَخبرتْ عنه آيةُ سورةِ القَصَص: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) .
وأَخبرَتْ عنه آيةُ سورةِ غافر: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) .
الثاني: صرحُ سليمانَ العجيب، الذي فاجأَ به ملكةَ سبأ.
قال تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) .(1/177)
وبما أَنَّ اللهَ أَخبرَنا عن صرحِ فرعونَ الذي بناهُ له وزيرُه هامانُ فإِننا نُصَدِّقُ
ذلك ونؤمنُ به، ومعلوم أَنَّ الفراعنةَ تركوا خَلْفَهم مجموعةً من الأهراماتِ
الأَثرية، والذين بَنَوْا تلك الأَهراماتِ لا يَعجزون عن بناءِ صَرْحٍ عالٍ!!.
وقد سَبَقَ أَنْ ذَكَرْنا أَنه لا تَعارُضَ بين هامانَ المصري، الذي كان وَزيراً
لفرعون، والذي ذَكَرَ القرآنُ اسْمَه صريحاً، وبينَ هامان الفارسي، الذي كان وزيراً لملكِ الفرس، فكثيراً ما تتشابَهُ الأَسْماء!.
***
حول الطوفان على المصريين
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ أنَّه لما أَصَرَّ فرعونُ وقومُه على الكفرِ واضطهادِ بني
إِسرائيل، أَرسَلَ اللهُ عليهم عدةَ آيات، وابتلاهم بعدةِ ابتلاءات، لعلَّهم
يَتَراجعونَ ويُؤمنون.
قال تعالى: (
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) .
ذَكَرت الآياتُ خمس عقوباتٍ عاقبَ اللهُ بها فرعونَ وقومَه، وهي:
الطوفانُ والجرادُ والقُمَّلُ والضفادعُ والدَّمُ، وقد كان عاقَبَهم قبلَ ذلك بالمحلِ
والجَدْبِ والسنين ونقصِ الثمرات، وَوَرَدَ ذلك في قولِه تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) .
ويبدو أَنَ هذه العقوباتِ كانَتْ متتابعة: فعاقَبَهم اللهُ أَوَّلاً بالسنينَ والمحلِ
ونقصِ الثمرات، حيثُ حُبستْ عنهم الأَمْطار، وقَلَّتْ مياهُ نهرِ النيل، وجَفَّتْ مزروعاتُهُم، وتَلِفَتْ أَشجارُهم وثِمارُهُم ...
ثم أَرسلَ اللهُ عليهم الطوفان، بأَن(1/178)
امتلأَ نهرُ النيلِ بالمياه، التي أَدّى طوفانُها إِلى إِغراقِ أَراضيهم ومزروعاتِهم
بالمياه..
ولَمّا انْحَسَرت المياهُ ونَبَتَ الزرعُ أَرسلَ الله عليه الجرادَ فقضى
عليه ...
وما سَلِمَ من الزرعِ من الجراد، وحَصدوه، وخَزَّنوا حُبوبَه، أَرسلَ اللهُ
عليه " القُمَّلَ " - بتشديدِ الميم - وهو السّوسُ الذي أَكَلَه ونَخَرَه وأَفْسَدَه..
أَمّا الضفادح والدمُ فهما عقوبتان منفصلتانِ عما قبلَهما، ولا نَعرفُ عن تفاصيلِهما، لأَنَ اللهَ لم يُخبرْنا عن ذلك، فنَكْتَفي بالإشارةِ القرآنيةِ الإِجمالية.
وقد رَفَضَ الفادي قَبولَ ذلك، واعتبرَهُ من أَخطاءِ القرآنِ التاريخية،
وحاكَمَ القرآنَ إِلى العهدِ القديم، فوجَدَ فيه الحديثَ عن عَشْر ضَرْبات،
ضَرَبَ اللهُ بها آل فرعون.
قال: " معلومٌ أَنَّ اللهَ ضَرَبَ المصريين على يَدِ موسى
عَشْرَ ضربات، هي: الدَّمُ، الضفادح، البعوضُ، الذُّبَّانُ، موتُ المواشي،
الدمامِلُ، البَرَدُ، الجرادُ، الظلامُ، موتُ الأَبكار ...
أَمّا الطوفانُ فلم يُصِبْ مصرَ زمنَ فرعون، بل كانَ حَدَثاً مَشْهوراً حَلَّ بقومِ نوح ".
وكلامُ الفادي عندنا مَرْدود، وعودَتُه لسِفْرِ الخروجِ لاستخراجِ الضرباتِ
الربانيةِ العشرة منه غيرُ صحيحة، لأَنَّ الأَحبارَ حَرَّفوا أَسفارَ العهدِ القديم!
فنحنُ لا نعتمدُ ما وردَ فيه، وإِنما نعتمدُ ما وَرَدَ في القرآن، فنقول: أَرسلَ اللهُ.
على فرعونَ وقومِهِ الطوفانَ والجرادَ وَالقُمَّلَ والضفادح والدم، بعد أَنْ أَخَذَهم بالسنين ونقصِ الثمراتِ، لعلَّهم يتذكرون!!.
وقد خَطَّأَ الفادي القرآنَ في حديثِه عن الطوفان، الذي عاقَبَ اللهُ به قومَ
فرعون، لأَنه لا يوجَد عندَه إِلّا طوفانٌ واحد، وهو الذي عَمَّ الجبالَ
والسهول، وأَغرقَ قومَ نوحٍ الكافرين! وهذا بسببِ فكرِهِ القاصرِ وعقْلِه
الصغير، فالطوفانُ زمنَ نوحٍ - عليه السلام - طوفانٌ عامّ شاملٌ كامل، عمَّ وَجْهَ الأَرضِ كُلّها، لكن هذا لا يَمنعُ وُجودَ وحدوثَ حوادثِ طوفانٍ أُخرى جزئية، ومنها ذلك الطوفانُ الذي أَرسلَه اللهُ على قومِ فرعون!!.(1/179)
حول طالوت وجيشه
أَخْبَرَنا اللهُ في القرآنِ عن قصةِ طالوت، وخلاصَتُها أَنَّ بَني إِسرائيل لما
تسلَّطَ عليهم أَعداؤُهم، طَلَبوا من نَبيٍّ لهم أَنْ يجعلَ عليهم مَلِكاً، يَقودُهم
لقتالِ أَعدائِهِمْ، فأَخبرهم أَنَّ اللهَ بَعَثَ لهم طالوتَ مَلِكاً، فاعْتَرَضوا عليه بأَنه
ليسَ من بيتِ الملوكِ، وليسَ عندَه مال، فأَخبرهم أَنَّ آيةَ مُلْكِه أَنْ يَأْتِيَهم
التابوتُ الذي سَلَبَهم إِياهُ أَعداؤُهم..
وخرجَ طالوتُ بالجيش، وطَلَبَ منهم أَنْ لا يَشْرَبوا من النهر، إِلا غَرْفَةً باليد، فشَربوا من النهر إِلا عَدَداً قليلاً منهم، وخاضَ بذلك العددِ القليلِ المعركةَ الفاصلة، وهَزَمَ اللهُ أَعداءَهم، وكانَ داودُ جنديّاً في جيشِ طالوت، وقَتَلَ جالوتَ قائدَ الكفار، وصارَ بعدَ ذلكَ نبياً ومَلِكاً على بَني إِسرائيل.
واعترضَ الفادي على عرضِ القرآنِ لقصةِ طالوت، وحاكَمَ القرآنَ إِلى
أَسْفارِ العهدِ القديم، وحَكَمَ بخطَأِ ما جاءَ في القرآنِ مُخالِفاً لكلامِ الأَحْبار.
وقال: " والقصةُ أنَّ صموئيلَ النبيَّ مَسَحَ شاولَ الملك - الذي يُسميه القرآنُ
طالوتَ لِطولِ قامتِه - ملكاً على بني إِسرائيل، وفي أيامِه بارزَ داودُ جالوتَ
- الذي هو جُولْيات - وقَتَلَه، ونَصَرَ اللهُ بني إِسرائيل..
غير أَنَّ القرآنَ خَلَطَ هذه القصةَ بحكايةِ جيشِ جَدْعون، الذي امتحنَهُ بالشربِ من النهر، عندما حارَبَ المدْيانيّين، واعتبرَ أَنَّ شاولَ أَو طالوتَ هو جَدْعون، واعتبرَ أَنَّ الحربَ مع الفلسطينيِّين هي الحربُ مع المديانيين، مع أَنَّ بينَ الحادثتين زَمَن مديد! ".
إِنَّ المرجعَ والمعتمَدَ هو القرآن، فإِذا قالَ القرآنُ قَوْلاً، وقالَ الكتابُ(1/180)
المقَدَّسُ قولاً خالفه، حَكَمْنا بخطأ قولِ الكتابِ المقَدَّس، واعتمدْنا قولَ القرآن.
الكتابُ المقَدَّسُ سَمّى الملكَ شاول، والقرآنُ سماهُ طالوت! والصحيحُ
أَنَّ اسْمَه طالوت.
وسمّى الكتابُ المقدسُ قائدَ الأَعداءِ جوليات، والقرآنُ سَمّاهُ جالوت! والصحيحُ أَنَّ اسْمَه جالوت.
وأَخبرَ القرآنُ أَنَّ طالوتَ هو الذي امتحنَ جُنودَه بالنهرِ الذي مَرّوا به، وطلبَ منهم أَن لا يَشربوا منه إِلّا غَرفةً باليد، فَشَربوا منه إِلا قَليلاً منهم، وأَخبرَ الكتابُ المقَدَّسُ أَنَّ الذي امتحنَ الجنودَ بالنهرِ هو جدعون، وكان قائداً لبَني إسْرائيل، ظهرَ قَبْلَ طالوتَ بفترة!
والصحيحُ هو ما ذكره القرآن.
ولذلك كان الفادي مخطئاً في تخطئةِ القولِ الصحيحِ في القرآن.
***
حول كلام عيسى في المهد
أَخبرَ اللهُ أَنَّ عيسى - عليه السلام - تكلمَ في المهد، أَيْ كَلمَ الناسَ وهو على حضْنِ أُمِّه.
قال تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) .
وقال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) .
وذَكَرَ القرآنُ أَنَّ عيسى تكلمَ في المهدِ مرتَيْن:
المرةُ الأُولى: بعد أَنْ وَلَدَتْه أُمُّه مباشرة، فناداها مِنْ تحتها، ودَعاها إِلى
عَدَمِ الحُزْن، وأَرشَدَها إِلى الطعامِ والشرابِ، وعدم كلامِ الناس.
قال تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) .
المرةُ الثانية: بعدما حملَتْه وذهبَتْ به إِلى قومِها، وتَعَجَّبوا من الأَمْرِ،
وسأَلوها عن تفسيرِ الأَمْر، فلم تُكلمْهم، وأَشارَتْ إِليه وهو على حضنِها،(1/181)
فكلَّمَهم بلسانٍ فصيح، وقَدَّمَ نفسَه إِليهم..
قال تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
ولكنَّ الفادي كَذَّبَ القرآنَ وخَطَّاَه، وحاكَمَهُ إِلى كتابه المقَدَّس.
قال: " ويقولُ الكتابُ المقَدَّس: إِنه لما جاءَ المسيحُ في الجَسَدِ كان يَنْمو نُمُوّاً
طبيعياً، سواءٌ في بَدَنِه أَو عَقْلِه وتفكيرِه.
فقالَ الإِنجيل: " وأَمّا يَسوعُ فكان يتقدَّمُ في الحكمةِ والقامةِ والنعمة، عندَ اللهِ والناس " فلم يَحدثْ أَنْ تكلمَ المسيحُ في المهد " (1) (2) .
وإن كلام الفادي المفترِي مردود، ومحاكمته القرآن إلى الكتاب المقدس
خطأ منهجي منه، لأن القرآن هو الأصل والمرجع، وبما أنه ذكر أن عيسى - عليه السلام - تكلم في المهد، فقد تكلم عيسى في المهد..
ثم إنه ليس في الأمر ما يدعو للاستغراب أو الإنكار، لأن كلامه في المهد لم يكن أمراً مألوفاً معتاداً، وإنما كان آية خارقة من آيات الله! والله الذي خلق عيسى - عليه السلام - من غير أب هو الذي أنطقه في المهد!!.
***
عيسى ومعجزة خلق الطير
أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ عيسى - عليه السلام - كان يَصنَعُ من الطينِ شَكْلاً على هيئةِ الطيرِ، ثم ينفخُ فيه فيكونُ طائِراً حَيّاً بإِذْنِ الله.
قال تعالى: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
__________
(1) أيُّ سفهٍ هذا، يستبعدون كلامه في المهد، ويقولون بألوهيته!!!.
(2) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
115- يتكلم فى المهد
إنه قد جاء فى القرآن أن المسيح قد تكلم فى المهد. وليس فى الأناجيل ما يدل على كلامه فى المهد.
الرد على الشبهة:
إن مريم لم تكن مخطوبة ولا متزوجة. وقد أحصنت فرجها. أى منعت نفسها عن الزواج طيلة حياتها وسلكت فى سلك الرهبنة. ثم إنها ابنة كاهن من نسل هارون - عليه السلام - وابنة الكاهن إذا زنت فإنها تحرق بالنار. لما جاء فى سفر الأخبار: " وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا؛ فقد دنست أباها، بالنار تحرق " [لا 21: 9] . ومريم قد أتت بولد وهى غير متزوجة. وهذا هو دليل الاتهام فلماذا لم تحرق؟ إن عدم حرقها يدل على أن ابنها تكلم فى المهد. ومع ذلك فقد جاء فى بعض الأناجيل المرفوضة أنه تكلم فى المهد. ومن ذلك: " وبينما كانوا نياماً؛ حذرهم الطفل من الذهاب إلى هيرودس " [بر 7: 10] . اهـ (شبهات المشككين)(1/182)
وقال تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) .
وعَلَّق الفادي على هذا بِكلامٍ غامِض؟
قال فيه: " يَقولُ المسلمون: إِنَّ المسيحَ لما كان صَبِيّاً خَلَقَ من الطينِ طَيْرا..
ويؤمنُ المسيحيّون أَنَّ المسيحَ كلمةُ الله، وهو الذي (كُلُّ شيءٍ به كان، وبغيرِه لم يكنْ شَىءٌ مما كان) ، ولكنّهم يؤمنونَ أَنَّ المسيحَ لما تَجَسَّدَ لبثَ ثَلاثينَ سنة قبلَ أَنْ يبدأَ في الكرازةِ وعَمَلِ المعجزات ".
لم يُصرح الفادي باعتراضِه على القرآن، ولم يُوَضِّحْ ما يريدُ من كلامِه
عن المسيحِ - عليه السلام -، فما معنى جملة " كُلُّ شيء به كان، وبغيرِهِ لم يكنْ شيءٌ مما كانَ "!.
ظاهرُ هذه الجملةِ أَنَّ كُلَّ شيء في الوجودِ متعلقٌ ومرتبطٌ بعيسى - عليه السلام -، وبدونه لا يوجَدُ شيء!! وهذا من صفاتِ اللهِ الخالق، وليسَ من صفاتِ عيسى المخلوق، فهذه صورةٌ من صورِ إِشراكِ النصارى، حيثُ أَشركوا عيسى بالله في الخلقِ والقوةِ والفعلِ والتصرُّف، وكأَنَ عيسى - عليه السلام - هو المتصرفُ في الأَشياء، والقائمُ عليها، والحافظُ لها!!.
ومع ذلك اعترضَ الفادي على القرآن، وخَطَّأَهُ في إِخبارِه عن معجزةٍ
باهرةٍ لعيسى - عليه السلام -، حيث كانَ يأْخُذُ طيناً، ويَصنعُ منه تِمثالاً على شَكْلِ طائر، ثم يَنفخُ فيه، فتدبُّ فيه الروح، ويَصيرُ طائِراً حيّاً، وهذا بإِذْنِ اللهِ سبحانه ...
فاللهُ في الحقيقةِ هو الذي جَعَلَه حَيَّاً، ونفخةُ عيسى - عليه السلام - ما هي إِلّا سببٌ ماديّ، لأَنَّ المسبّبَ والخالقَ والمريدَ هو الله - عز وجل.
وبما أَنَّ القرآنَ صَرَّحَ بذلك، فإِنَّنا نؤمنُ به ونُصَدِّقُه، ونَعتبرُه معجزةً من
معجزاتِ عيسى - عليه السلام -، أَجْراها اللهُ على يَدَيْه.(1/183)
من هو المصلوب؟
الْتَبَسَ على النَّصارى صَلْبُ عيسى - عليه السلام -، كما الْتَبَسَ على اليَهود..
وحَلَّ القراَنُ الإِشكالَ، وأَزالَ اللَّبْسَ، لكنَّ النَّصارى لم يُصَدِّقوا القرآن.
قال الله - عز وجل -: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) .
واعترضَ الفادي على نَفْيِ القرآن قَتْلَ عيسى - عليه السلام - وصَلْبَه، واعتبرَه خَطَأً من أَخطاءِ القرآن، واستغربَ من إِنكارِ القرآنِ أَمْراً مُجْمَعاً عليه بينَ اليهودِ والنصارى واليونان والرومان.
ونُسجلُ اعتراضَ الفادي قبلَ أَنْ نفَنِّدَه: " لماذا ينكرُ القرآنُ صَلْبَ المسيحِ
وقَتْلَه بأَيدي اليهود، مع أَنَّ اليهودَ يَعْترفون بذلك، والنصارى يُؤَكِّدونه
ويَفْتَخرون به؟
والإِنجيلُ كُلّه هو خَبَرُ صَلْبِ المسيحِ والبشارةِ به، كَفادٍ للبشر؟.
ويذكُرُ القرآنُ في مواضعَ أُخْرى موتَ المسيحِ وقيامتَه، وارتفاعَه إِلى
السماء.
كقوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، وفيه يَقولُ المسيحُ: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، ويقولُ أَيضاً: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
أَليسَ غريباً أَنْ يَجيءَ مَنْ يُنكرُ صَلْبَ المسيحِ بعدَ حدوثِه بستمئة سنة؟! " (1) .
إِنَّ حادثةَ الصَّلْبِ حقيقةٌ تاريخية، سَجَّلَها اليونانُ والرومانُ واليهودُ
والمسيحيون..
وفي مجمع " نيْقية " الذي انعقدَ سنةَ (325 م) كتبَ أَساقفةُ العالَم
المسيحيِّ قانونَ الإِيمان، مُقَرّراً صَلْبَ المسيحِ لأَجْلِ خَلاصِنا، وهو القانون
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
117- إنكار الصَّلب
إن القرآن ينكر صلب المسيح. والتاريخ يثبته.
الرد على الشبهة:
إن العلّة المترتبة على صلب المسيح هى غفران خطايا من يؤمن به ربًّا مصلوباً والغفران لكل من كان فى المدة من آدم إلى المسيح إذا قدّر أنهم لو كانوا له مشاهدين، لكانوا به مؤمنين. فهل هذه العلة صحيحة؟
بالتأكيد ليست بصحيحة. وذلك لأن آدم لما أخطأ هدته الحكمة أن يعترف بخطئه وأن يتوب. فتاب الله عليه. وإذ هو قد تاب، فأى فائدة من سريان خطيئة آدم فى بنيه؟ ففى سفر الحكمة: " والحكمة هى التى حمت الإنسان الأول أب العالم الذى خلق وحده لما سقط فى الخطيئة؛ رفعته من سقوطه، ومنحته سلطة على كل شىء" [حك 10: 1 - 2] .
وفى التوراة: أن نجاة المرء من غضب الله يكون بالعمل الصالح حسبما أمر الله. ومن لا يعمل بما أمر الله؛ فإنه لا يكون له نجاة. ففى سفر الحكمة عن نوح - عليه السلام - وولده: " وعندما غاصت الأمم فى شرورها؛ تعرفت الحكمة برجل صالح، وحفظته من كل عيب فى نظر الله، وجعلته قويًّا يفضل العمل بأمر الله على الاستجابة إلى عاطفته تُجاه ولده " [حكمة 10: 5] .
انظر إلى قوله " تجاه ولده " أى ولده الذى غرق لعدم إيمانه وعمله. وهذا النص من سفر الحكمة عن " ولده " ليس له نظير فى قصة نوح الموجودة فى التوراة العبرانية.
ويقول المسيح عيسى - عليه السلام -: " كل كلمة فارغة يقولها الناس؛ يُحاسبون عليها يوم الدين. لأنك بكلامك تُبرّر، وبكلامك تُدان " [متى 12: 36 - 37] .
وفى التوراة: " لا يُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء. كل إنسان بخطيئته يُقتل " [تث 24: 16] .
وفى الأناجيل أن المسيح بعد حادثة القتل والصلب؛ ظهر أربعين يوماً للحواريين، وتكلم عن ملكوت الله معهم. وهو ملكوت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففى بدء سفر أعمال الرسل: " الذين أراهم أيضاً نفسه حيًّا ببراهين كثيرة بعدما تألم، وهو يظهر لهم أربعين يوماً، ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله " [أع 1: 3] وظهوره وكلامه عن الملكوت؛ يدلان على استمراره فى الدعوة. اهـ (شبهات المشككين) .(1/184)
الذي يَتْلوهُ كُلُّ مسيحي في كُلّ كنيسة، في كلِّ مكانٍ وزمان! وآثارُ المسيحيينَ في القرونِ العشرين الفائتة في كُلِّ أَنحاءِ العالَمِ تحملُ شاراتِ الصليب؟
فكيفَ ينكرُ أَحَدٌ تاريخيةَ الصليب؟! ".
يُؤمنُ كُلّ النصارى أَن اليهودَ والرومانَ قَتَلوا عيسى - عليه السلام - وصَلَبوه، وأَنَ روحَه خرجَتْ على الصَّليب، وبعد ثلاثةِ أيامٍ من دفْنِه رُدَّتْ إِليه روحُه، فقام من قَبْرِه، وصَعَدَ إِلى السماء!.
وكانَ اليهودُ يَتَباهون ويَتَفاخَرون بقتْلِ عيسى - عليه السلام -، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) ..
أَما النَّصارى فقد جَعَلوا الصليبَ جُزْءاً من عقيدتِهم ودينهم، والشعارَ المميزَ لهم عن باقي أَتْباعِ الأَدْيان، وَوَضَعوا الصليبَ في أَعناقِهم وعلى كنائِسهم وملابِسهم ومرافقِ حياتهم..
فإِذا نفى القرآنُ صَلْبَ عيسى - عليه السلام - نَفْياً صَريحاً فإِنَ النصرانيةَ تَتَهاوى من أَساسِها، ولذلك كَذَّبَ الفادي القرآنَ في نفيهِ صَلْبَ عيسى - عليه السلام -.
وعندَ النظرِ في كَلامِ القرآنِ عن الصَّلْب نَرى أَنه لم يَنْفِ الصَّلْبَ جملةً
وتَفْصيلاً، وإِنما نفى صلبَ عيسى - عليه السلام -، وكَذًّبَ اليهودَ في ادعاءِ ذلك..
قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ؟
فنفى أَنْ يَكونوا قَتَلوا عيسى - عليه السلام - أَوْ صَلَبوه.
ويُقررُ القرآنُ أَنَّ المختَلِفين في موضوعِ القتلِ والصلبِ من اليهودِ
والنَّصارى في شكٍّ منه، لم يَصِلوا إِلى اليقين، لأَنهم لا يَنْطَلقونَ من العِلْم،
وإِنما يَتَّبِعونَ الظَّنَّ، والظَّنّ لا يوصِلُ إِلى يَقين: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ... .
ويؤكِّدُ القرآنُ مرةً أُخرى أَنهم لم يَقْتُلوا عيسى يَقيناً، لأَنَّ اللهَ العزيزَ
الحكيمَ رَفَعَهُ إِليه: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) .
وتَدلُّ الجملُ القرآنيةُ السابقةُ على أَنَّ القرآنَ لم يَنْفِ الصلبَ مُطْلَقاً،(1/185)
وإِنما نفى صَلْبَ عيسى - عليه السلام -، فاليهودُ والرومانُ أَرادوا صلْبَ عيسى - عليه السلام -، ولكنَّ اللهَ حَماهُ وعَصَمه منهم، ورفَعَهُ إِلى السماءِ حَيّاً بِجسْمِه وروحِه..
أَمّا هم فقد صَلَبوا رَجُلاً آخَر، وكُل ظَنَهم أَنه عيسى! فقالَ اليهود مُتَبَجّحين: إِنّا قَتَلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله.
معنى قوله تعالى: (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) : شُبهَ لهم أَمْرُ الصلْبِ والقَتْل،
والْتَبَسَ عليهم، وَوَقَعوا في لَبْسٍ وشَبَهٍ بشأنِه! وهذا معناهُ أَنهم قَتَلوا وصَلَبوا
شَخْصاً مَشْبوهاً، وكلُّ ظَنَهم أَنه عيسى، مع أَنَ المقتولَ المصلوبَ لم يكنْ
عيسى، إنما كانَ شَخْصاً آخَر.
ومعنى قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ) : لم يقتل
اليهودُ عيسى - عليه السلام - يَقيناً، ولم يكن الشخصُ المقتولُ المصلوبُ عيسى حقيقة، إِنما كانَ شَخْصاًاَخَرَ غَيْرَه، بينما كان عيسى - عليه السلام - في السماء!!.
وهذا معناهُ أَنَّ هُناكَ شخصاً مقتولاً مصلوباً، يَجزمُ اليهودُ والنصارى
والرومانُ وغيرُهم أَنه المسيحُ عيسى ابنُ مريم رسولُ الله، ويَنفي القرآن الذي أَنزلَه اللهُ بعد ستمئة سنةٍ من الحادثةِ أَنْ يكونَ عيسى، ويُشيرُ إِلى أَنَّه شخصٌ آخرُ غير عيسى!! فمن هو هذا الشخصُ الآخَرُ المقتولُ المصلوب؟!.
لم يتحدَّثْ عنه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ صحيحٍ مرفوع، وذَكَرَ قَصَّتَه الصحابى الجليلُ عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما -.
وهو أَصَحُّ ما جاءَ في مصادِرِنا الإِسلامية، بشأنِ الأحداث الخطيرة في تلك الليلة، ورواية ابن عباس تتفق مع حديث القرآن عن عدم قَتْلِ عيسى وصَلْبِه، وتُشيرُ إِلى شخصيةِ القَتيل.
ونسجل فيما يلي رواية ابن عباس، وتمهيد ابن كثير لها، وحديثه عن
أحداث تلك الليلة المثيرة:
قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيره: " وكانَ من خبرِ اليهودِ - عليهم لَعائنُ اللهِ وسَخَطُه وغَضَبُه وعِقابُه - أَنه لما بَعَثَ اللهُ عيسى ابنَ مريم بالبيناتِ والهدى، حَسَدوه على ما آتاهُ اللهُ من النبوة، والمعجزاتِ الباهراتِ التي كان يُبرئُ بها الأَكْمَهَ والأَبرصَ(1/186)
ويُحيي الموتى بإِذْنِ الله ...
فخالَفوه وكَذَّبوه، وسَعَوْا في أَذاهُ بكُل ما أَمْكَنَهم، حتى جعلَ نبيُّ اللهِ عيسى - عليه السلام - لا يُساكنُهم في بلدة، بل يُكثرُ السياحةَ هو وأُمُّه ...
ثم لم يُقْنِعْهم ذلك حتى سَعَوا إِلى ملكِ دمشق في ذلك الزمان - وكانَ
رَجُلاً مشركاً من عبدةِ الكواكب، وكانَ يُقالُ لأهْلِ مِلَّتِه: اليونان - وأَنْهَوْا إِليه أَنَّ في بيتِ المقدسِ رجلاً يَفتنُ الناسَ ويُضلُّهم، ويُفسِدُ على الملكِ رعاياه.. فغضبَ الملكُ من هذا، وكتبَ إِلى نائبِه بالقُدْس، أَنْ يَحتاطَ على هذا
المذكور، وأَنْ يَصْلُبَه، ويَضَعَ الشوكَ على رأْسِه، ويكفَّ أَذاهُ عن الناس..
فلما وَصَلَ الكتابُ امتثلَ والي القدس ذلك.
وذهبَ هو وطائفة من اليهودِ إِلى البيتِ الذي فيه عيسى - عليه السلام -، وهو في جماعةٍ من أَصحابِه، اثْنَيْ عشر رجلاً.
فلما أَحَسَّ عيسى بهم، وأَنه لا مَحالةَ من دخولِهم عليه، أَو خروجِه
إِليهم، قالَ لأَصحابِه: أَيكم يُلْقى عليه شَبَهي، وهو رفيقي في الجنة؟.
فانتدبَ لذلك شابٌّ منهم، فكأَنه استصغَرَه، فأَعادَها ثانيةً وثالثة، وكُلّ
ذلك لا يَنْتِدبُ إِلّا ذلك الشّابّ ...
فقالَ له عيسى: أَنتَ هوإ! وأَلقى اللهُ شَبَهَ عيسى عليه، فكأَنَّه هوإ!.
وفُتِحَتْ " رُوزَنَة " من سَقْفِ البيتِ، وأَخَذَتْ عيسى - عليه السلام - سِنَة من النوم، فرُفعَ إِلى السماءِ وهو كذلك ...
فلما رُفعَ عيسى من سَقْفِ البيت، خَرَجَ أُولئك النفرُ من البيت.
فلما رأى اليهودُ والجنودُ ذلك الشابَّ ظَنّوه عيسى، فأَخَذوهُ فى الليل
وصَلَبوه، وَوَضَعوا الشوكَ على رأْسهِ..
وأَظهرَ اليهودُ أَنهم سَعَوْا في صَلْبِه، وتَبَجَّحوا بذلك..
وسَلَّمَ لهم طوائفُ من النصارى ذلك؟
لجهْلِهِم وقلةِ عَقْلِهم..
ما عدا مَنْ كانَ في البيتِ مع المسيح، فإِنهم شاهَدوا رَفْعَه..
وأَما الباقونَ فإِنهم ظَنُّوا كما ظَنَّ اليهودُ أَنَّ المصلوبَ هو المسيحُ ابنُ مريم ...
حتى ذَكَروا أَنَّ مريمَ جَلَسَتْ تحتَ ذلك المصلوبِ وبَكَتْ.(1/187)
وهذا كلُّهُ من امتحانِ اللهِ لعبادِه، لما لَه في ذلكَ من الحكمةِ البالغة.
وقد أَوضحَ اللهُ الأَمْرَ وجَلّاه وأَظْهَرَه وبَينَه في القرآنِ العظيم، الذي أَنزلَه على رسولِه الكريمِ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ بَينَ أَنهم ما قَتَلوا عيسى - عليه السلام - وما صلَبوه، ولكن شُبِّهَ لهم، حيثُ أَلْقى اللهُ شَبَهَه على ذلك الشّابّ، فَبَدا لهم عيسى، فقَتَلوه وصَلَبوه، ظانّينَ أَنَّه عيسى! وأَخبرَ اللهُ أَنَّ الذينَ اخْتَلَفوا في عيسى - عليه السلام - من اليهودِ الذين ادَّعَوْا قَتْلَه، والنصارى الجُهّالِ الذين سَلَّموا لهم بذلك، كُلُّهم في
شَكٍّ وحَيْرةٍ وضلالٍ من ذلك! وأَخبرَ أَنهم ما قَتَلوه مُتَيَقنِين أَنه هو، وإِنما كانوا شاكّين مُتَوَهِّمين ...
قالَ ابنُ عباسٍ رضتها: " لما أَرادَ اللهُ أَنْ يرفعَ عيسى - عليه السلام - إِلى السماء، خَرَجَ على أَصحابِه، وفي البيتِ اثْنا عَشَرَ رَجُلاً من الحواريّين، خَرَجَ عليهم من عينٍ في البَيْت، ورأسُه يَقطرُ ماءً، فقالَ إِنَّ منكم مَنْ يكفرُ بي اثنتَي عَشْرَةَ مرة، بعد أَنْ آمَنَ بي!.
ثم قال: أيكم يُلْقى عليه شَبَهي، فيُقْتَلُ مكاني، ويَكونُ معي في دَرَجتي؟.
فقامُ شابّ من أَحْدَثِهم سِنّاً، فقالَ له: اجلسْ، ثم أَعادَ عليهم، فقامَ
ذلك الشابُّ، فقالَ له: اجلسْ! ثم أَعادَ عليهم، فقامَ ذلك الشاب، فقال: أنا! فقالَ له عيسى - عليه السلام -: هو أَنت!!.
فأُلْقِيَ عليه شَبَهُ عيسى - عليه السلام -، ورُفِعَ عيسى من " روزَنَةٍ " في البيتِ إِلى السماء، وجاءَ الطَّلَبُ من اليهود، فأَخذوا الشَّبَهَ، فَقَتَلوه، ثم صَلَبوه.. ".
وعلى ضوءِ كلامِ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - وابنِ كثيرٍ - رحمه الله -، يمكنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ أَحداثَ تلك الليلةِ المثيرةِ كما يَلي:
1 - نجحَ اليهودُ في إِقناعِ الحاكمِ الروماني في إِلقاءِ القبضِ على
عيسى - عليه السلام -.(1/188)
2 - توجِّهَتْ مجموعةٌ من الجنودِ الرومانِ واليهودِ إِلى المكانِ الذي فيه
عيسى - عليه السلام -.
3 - كان عيسى - عليه السلام - في أَحَدِ بيوتِ القُدْس في تلك الليلة، وكانَ معه اثْنا عَشَرَ رَجُلاً من الحوارِيّين.
4 - عَلِمَ عيسى - عليه السلام - بقدومِ الجنودِ لاعْتِقالِه وقَتْلِه، فلم يَخَف ولم يَقْلَقْ ولم يَحْزَنْ، لأَنَّه يوقنُ أَنَّ اللهَ معه، بِحِفظِه وعنايتِه ورعايتِه.
5 - أَخبرَ اللهُ عيسى - عليه السلام - أَنهم لن يَصِلوا إِليه، وطَلَبَ منه أَنْ يَنتدبَ من أَتْباعِه شاباً، ليُلقيَ شَبَهَهُ عليه.
6 - أَخبرَ عيسى - عليه السلام - الحواريّين أَنَّ الله سيحميه، وعَرَضَ عليهم أَنْ ينتدبَ أَحدهم ليفديَه بنفسِه، بأَنْ يُلْقى عليه شَبَهُه، فيُؤْخَذَ ويُقْتَلَ ويَموتَ شهيداً، ويكونَ معه في الجنة.
7 - استجابَ لعيسى - عليه السلام - شابٌّ من أَصْغَرِ الحوارِيّين سِنّاً، وبقيَ اسْمُه مبهماً.
8 - أَجرى اللهُ على ذلك الشابِّ الفدائيِّ آيَتَه الخارقة، فَحَوَّلَه إِلى
عيسى، بأَنْ أَلْقى شَبَهَه عليه، بحيثُ لا يَشُكُّ مَنْ رآهُ أَنه عيسى.
9 - رَفَعَ اللهُ رسولَه عيسى - عليه السلام - إِلى السماء، بعدَ أَنْ أَلْقى عليه النَّوْم، وكانَ الحوارتون معه في البيت، فرأَوْه وقد أُلْقِيَ عليه النوم، ورأَوْهُ وهو يُرْفَعُ من فتحةٍ في البيت!.
15 - لما دخلَ الجنودُ واليهودُ البيتَ، رأَوْا أَمامَهم " عيسى "، وهو في
الحقيقةِ " عيسى المُتَحَولُ "، شبيهُ النبي عيسى الذي رُفِعَ إِلى السماء.
11 - أَخَذَ الجنودُ عيسى المتحوِّلَ، وهم لا يَشُكّونَ أَنه عيسى
المطلوبُ، ولم يَنْفِ الشابّ أَنَّه عيسى.
12 - لا نَعرفُ ماذا جَرى للحوارِيّين الأَحَدَ عَشَرَ الذين كانوا في البيت،
هل هَرَبوا أَم اعْتُقِلوا، أَم اعْتُقِلَ بعضُهم وهربَ آخرون.(1/189)
13 - أَخَذَ الجنودُ " عيسى الثاني الشّبِيه "، وصَلَبوهُ على الخشبة، وقَتَلوهُ
على الصَّليب، ولقيَ وَجْهَ اللهِ شهيداً، بينما كان عيسى الرسولُ - عليه السلام - في السماء.
14 - كان الناسُ يَأتونَ إِلى الشّابِّ المقتولِ المصلوب، ولا يَشُكونَ أَنه
عيسى، لأَنَّ اللهَ أَلْقى شَبَهَه عليه، فأَنزلوه عن الصَّليبِ ودَفَنوه.
15 - كان اليهودُ فَرِحين شامِتين، لأَنهم قَتَلوا عيسى وصَلَبوه، وأَذاعوهُ
في الناس، وقالوا: إِنا قَتلْنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله..
بينما كانَ القتيلُ عيسى الشبيه.
16 - لَم يَعلم النَّصارى ماذا جَرى من معجزاتٍ ربانيةٍ في تلك الليلة،
وأَيْقَنوا أَنَّ الشابَّ الذي خَرَجَتْ روحُه على الصليب، ودُفِنَ في الأَرضِ هو
عيسى رسولُ الله، عليه الصلاة والسلام، وقالوا: قَتَلَ اليهودُ رسولَنا
وصَلَبوه.
17 - صَبَّ اليهودُ والرومانُ العذابَ على الحوارِيّين والمؤمنين
بعيسى - عليه السلام -، وقَتَلوا منهم وصلَبوا، وشَرَّدوا وطَرَدوا..
ولم يلتقطْ ذلك الجيلُ من النصارى أنفاسَهم ليُفَكِّروا بتَأَن وتَمَهُّلٍ فيما جرى في تلك الليلةِ المثيرة.
18 - بقيتْ حقيقةُ ما جَرى في تلك الليلةِ خافيةً على اليهودِ والنصارى،
وهم يوقنون أَنَّ المقتولَ المصلوبَ هو عيسى رسولُ الله عليهِ الصلاة والسلام، حتى بَعَثَ اللهُ محمداً رسولاً - صلى الله عليه وسلم -، بعد ستة قُرون، وأنزل عليه القرآن، وَوَضَّحَ حقيقةَ الأَمْرِ وأَزالَ اللبس، وذَكَرَ أَنَّ المصلوبَ هو ذلك الشابُّ الفدائيُّ الشهيد، وأَنَّ عيسى الرسولَ - عليه السلام - في السماء!!.
معى قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)
ادّعى الفادي أَنَّ القرآنَ ذَكَرَ موتَ عيسى - عليه السلام -.
قال: " ويذكُرُ القرآنُ في مواضِعَ أُخرى موتَ المسيح، وقيامتَه وارتفاعَه إِلى السماء، كقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، وقوله: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) .(1/190)
وقوله: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
وهذا فهمٌ خاطى للآياتِ الثَّلاث، فهي لا تتحدَّثُ عن موتِ عيسى - عليه السلام - على الصليب، ثم دفنِه وقيامتِه، وإِنما تتحدَّثُ عن موتِه، وبعثِه يومَ القيامة.
معنى آيةِ سورةِ مريم: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) :
أَنَّ اللهَ سيمنَحُه السلام، ويُنْجيه من الخَطَرِ في المواطنِ الثلاثةِ التي
يتعرَّضُ فيها الإِنسانُ لخطرٍ كبير: يومَ ميلادِه، ويومَ موتِه، ويومَ بعثِه حَياً يومَ القيامة!.
والمرادُ بقولِه: (وَيَومَ أَمُوتُ) : موتُه الحقيقيُّ بعدَ إِنزالِه على الأَرضِ
قُبَيْلَ قيامِ الساعة، حيثُ سيُنزلُهُ اللهُ حاكِماً بدينِ الإِسلام، وسيكسرُ الصَّليب ويقتلُ الخنزير، ويضعُ الجزية، ويُقاتلُ النَّصارى، ولا يقبلُ منهم إِلّا
الإِسلام..
ثم يموتُ الموتةَ التي كَتَبَها اللهُ على كُلّ مخلوقٍ حيٍّ، ثم يُصَلي
عليه المسلمونَ ويَدفنونه.
والمرادُ بقوله: (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) : بَعْثُه يومَ القيامة، معَ باقي الأَنبياءِ
والإِنسِ والجِنّ.
فليس المرادُ بقولِه: (وَيَومَ أَمُوتُ) : موتَهُ على الصليبِ وخروجَ روحِه
عليه.
كما أَنه ليس المرادُ بقولِه: (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) : قيامَه من قبرِه الذي دَفَنوهُ
فيه، بعد ثلاثةِ أَيامٍ من صَلْبِه ودَفْنِه.
أمّا معنى آيةِ سورةِ آلِ عمران: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) فإِنه
يَحتاجُ إِلى توضيح، لنفيِ اللَّبْسِ وحَلِّ الإِشكال.
(مُتَوَفِّيكَ) في الآيةِ خبرُ " إِنَّ " مرفوعٌ بضمةٍ مقدَّرَةٍ على الياء، وهو اسْمُ
فاعلٍ من الفعلِ الخُماسيّ: تَوَفّى.
تقول: تَوَفّى، فهو المتوفِّي.
والتوفّي في القرآنِ قد يُسْنَدُ إِلى الله.(1/191)
قالَ تعالى: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) .
وقد يُسْنَدُ إِلى الملائكة؟
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) .
وقد يُسْنَدُ إِلى مَلَكِ الموت؟
قالى تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) .
وقد يُسْنَدُ إِلى الموتِ نفسِه؟
قالى تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
والتَّوَفّي المسنَدُ إِلى اللهِ في القرآنِ ليس كُلُّه بمعنى الموت، بل إِنه يَرِدُ
فيه بمعنَيَيْن:
الأوَّل: الموتُ.
فاللهُ يتوفّى الناسَ. أَيْ: يُميمُهم ويَقبضُ أَرواحهم.
قال تعالى: (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ، وقالى تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) .
الثاني: النّومُ.
فاللهُ يتوفّى النّاسَ.
أَي: يجعلُهم يَنامون.
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى) .
ومعنى الآية: اللهُ يجعلُكم تَنامون في الليل، ويَقبضُ أَرواحَكم أَثناءَ
نومِكم، ثم يُعيدُ أَرواحَكم إِلى أَجسادِكم عند استيقاظِكم، ويبعثكم في النهار.
وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
اعتبرت الآيةُ النومَ مَوْتاً، وقَسَّمَت الناسَ بِالنوم إِلى قسمَيْن:
هناك أُناسٌ يَنامونَ، ويَموتون أَثناءَ النّوم، لأَن اللهَ أَنهى آجالَهم أَثناءَ النوم،
وقبضَ أَرواحَهم، ولم يُرْجِعْها إِلى أَبدانهِم: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) .
وهناك أُناسٌ يَنامونَ، ويتوفّى اللهُ أَرواحَهم أَثناءَ النوم، ثم يُعيدُها إِلى(1/192)
أجَسادِهم عند الاستيقاظ، لأَنه بَقيَتْ في أَعمارِهم بقية: (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
والفريقان يتوفّاهم اللهُ أَثناءَ نَومِهم: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) ..
والتوفّي معناه القبضُ، أَيْ: اللهُ يَقبضُ أَرواحَ الأنفس كُلِّها حينَ نومِها، فإِن انتهى عُمْرُ بعضِ الأَنفسِ أَمسكَ أَرواحَها أَثناءَ نومِها، وإِنْ بقيتْ في عمرِ بعضِ الأَنفسِ بقيةٌ أَعادَ لها أَرواحَها.
وتدلُّ الآياتُ السابقةُ على أَنَّ التوفّي في القرآنِ بمعنى: " القبضِ "
والتغييب.
وهذا القبضُ والتغييبُ نوعان: قبضُ نَوْمٍ.. وقَبْضُ مَوْت.
فالتوفّي في القرآنِ نوعان: تَوَفّي نَوْم.. وتوفّي مَوْت.
والمعْنَيانِ مذكورانِ في قصةِ عيسى - عليه السلام -: فاللهُ تَوَفّى عيسى - عليه السلام - تَوفّي نَوم، ثم سيتوفَّاهُ توفّي مَوْت ...
التوفّي الأوَّل: وَرَدَ في قولِهِ تعالى: (إِد قَالَ اَدفَهُ يَعِيممَئَ إِقِ مُتَوَفيلثَ
وَرَافِعُكَ إِلَىَّ) : أَي: إِنَّني أُلْقي عليكَ النَّوْم، وأَتَوَفّاكَ تَوَفّي النَّوْم، وأَقبضُكَ أَثناءَ نومك، وأَرفعُك إِلَيَّ وأَنت نائم، وأُطَفَرُكَ من الذينَ كفروا.
التوفي الثاني: وَرَدَ في قوله تعالى: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، أَيْ: لما أَمَتَني وقَبَضتَ روحي، كنتَ أَنْتَ الرقيبَ عليهم.
والخلاصةُ: توفّى اللهُ عيسى - عليه السلام - تَوَفي نَوْم، وذلك عندما أَتاهُ الجنودُ واليهودُ لقَتْلِه وصَلْبِه، فحماهُ اللهُ منهم، وأَلْقى عليه النوم، وتوفّاهُ وقَبَضَه أثناءَ نومِه، ورَفَعَه إِليه، وجَعَلَه في السَّماء، وهو حيّ بروحِه وجسمِه في السماءِ، حياةً خاصةً معجزة، ليستْ كحياتِنا..
وسيَنزلُ قُبيلَ قيامِ الساعة.
وسوفَ يَتَوَفَّى اللهُ عيسى - عليه السلام - تَوَفي الموت، عِندما يُنزلُه في آخِرِ الزمان، ويَعيشُ بين المسلمين ما شاءَ اللهُ له أَنْ يَعيش..
ثم يتوفّاهُ اللهُ بقبضِ روحهِ وموته ...
هذا ما قَرَّرَهُ القرآنُ بشأنِ تَوَفّي عيسى - عليه السلام -، وهو الحَق الذي لا خَطَأَ فيه والله أَعلم!! (1) ..
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
المسألة الثانية:
اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات:
الصفة الأولى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها
والثاني: فرض التقديم والتأخير فيها،
أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول: معنى قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن
والثاني: {مُتَوَفّيكَ} أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: قال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع
وثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه
الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42] .
الوجه الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سينزل ويقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.
الوجه الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد {إِنّي مُتَوَفّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة.
والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافياً، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [النساء: 113] .
والوجه السابع: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن: أن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً.
قلنا: قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.
الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني: وهو قول من قال: لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي إنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر، والله أعلم. اهـ (مفاتيح الغيب 8 / 60 / 61)(1/193)
الفصل الثالث نقض المطاعن الأخلاقية(1/195)
الرخصة لمن أكره على الكفر
ْرَخَّصَ اللهُ لمنْ أُكْرِهَ على الكفرِ أَنْ يَنطقَ بكلمةِ الكُفْر.
قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) .
تُهَدِّدُ الآية ُ من ارْتَدَّ عن الإِسلام، وعادَ إِلى الكفر، وشَرَح صَدْرَه
بالكفر، وتتوعَّدُه بالغضبِ من الله، والعذابِ العظيمِ في الآخرة.
و" مَنْ " في أَوَّلِ الآيةِ اسْمُ شرْط.
وجملةُ (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) فعْلُ الشرط، وجَوابُ الشرطِ مَحْذوف، والتقدير: فهو مُؤاخَذٌ مُعَذَّب.
والمعْنى: مَنْ كَفَرَ باللهِ مُخْتاراً راضياً، وعادَ إِلى الكفرِ بعدَ الإِيمان، برضاهُ واختيارِه، فهو الملعونُ المغضوبُ عليه الخاسرُ.
وتَستثني الآية ُ من التهديدِ والوعيدِ الذي أُكْرِهَ على الكفر، وتُرَخِّصُ له
بالنطقِ بكلمةِ الكفرِ بسببِ الإِكراه: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) .
ونزلت الآية في ما جَرى لعمارِ بنِ ياسر - رضي الله عنه -، عندما أَكْرَهَه الكفارُ على النطقِ بكلمةِ الكفر.
قال ابنُ كثير: " عَنْ أبي عبيدةَ محمدِ بنِ عمارِ بنِ ياسر قال: أَخَذَ المشركونَ
عَمّارَ بنَ ياسر، فَعَذَّبوهُ حتى قارَبَهم في بعضِ ما أَرادوا، فشكا ذلك إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " كيفَ تَجِدُ قَلْبَك؟ ".
قال: مطمئِناً بالإِيمان.
قال: " إِنْ عَادوا فَعُدْ..
" فأَنزلَ اللهُ قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) ..(1/197)
ولما أرادَ الفادي أَنْ يُثيرَ إِشكالاً على الآية، ذَهَبَ إِلى تفسيرِ البيضاوي،
ونَقَلَ منه ما قيلَ عن نُزولِ الآيةِ فيما جَرى لعمارِ بنِ ياسر - رضي الله عنه -، وهو بمعنى الروايةِ السابقةِ عندَ ابنِ كثير في تفسيره.
وعَلَّقَ البيضاويُّ على الآيةِ والروايةِ بقوله: " وَهوَ دَليلٌ على جَوازِ التكلمِ بالكفرِ عندَ الإِكراه ... ".
وعَلَّقَ الفادي على كلامِ البَيْضاويِّ بقوله: " ونحنُ نسأل: هل من الأَمانَةِ
أَنْ يُزَوِّرَ الإِنسانُ في عقيدتِه ويُنْكِرَ إِلهه الحَيَّ في سبيلِ إِرضاءِ النّاس؟
قالَ المسيحُ: ومَنْ أَنْكَرَني قُدّامَ الناس، يُنْكَرُ قُدّامَ ملائكةِ الله ".
واعتراضُ الفادي على الآيةِ لا قيمةَ له، لأَنَّ الآيةَ تتحدَّثُ عن رخصةٍ
رَخَّصَ اللهُ بها لبعضِ المسلمين، أَنْ يَنْطِقوا بكلمةِ الكفر، عندما يُكْرَهون على
ذلك، بمعنى أَنهم إِنْ لم يَنْطِقوا قُتِلوا، وبعضُ الناسِ قد يُحِبُّ الحياةَ، فتُجيزُ
له الآيةُ ذلك بشرطِ أَنْ تكونَ كلمةً باللسان، للنَّجاةِ من القَتْل، وأَنْ يكونَ
القلبُ مطمئِنّاً بالإِيمان.
ومع أَنَّ الإِسلامَ يُجيزُ النطقَ بكلمةِ الكفْرِ للنجاةِ من القَتْلِ إِلَّا أَنَّ الأَوْلى
والأَفضلَ للمسلمِ أَنْ لا يَنطقَ بها، وأَنْ يَثْبُت على الإِيمانِ حتى لو أَدّى ذلك
إِلى قَتْلِه.
قالَ ابنُ كثير: ".. اتفقَ العلماءُ على أَنَّ المكْرَهَ على الكفرِ يَجوزُ له أَن
يُوالي، إِبقاءً لمهْجَتِهِ، ويَجوزُ له أَنْ يأبى، كما كان بلالٌ - رضي الله عنه - يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلونَ به الأَفاعيل، حتى إِنهم ليَضَعُونَ الصخرةَ العظيمةَ على صَدْرِه، في شدةِ الحَرّ، ويأمرونَه بالشرك، فيأبى عليهم وهو يقول: أَحَدٌ، أَحَدٌ..
ويقول: واللهِ لو أَعلمُ كلمةً هي أَغيظُ لكم منها لقُلْتُها.
رضيَ اللهُ عنه وأَرضاه.
وكذلك حَبيبُ بنُ زَيْدٍ الأنصاري، لما قالَ له مسيلمةُ الكذاب:
أَتشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله؟
فيقولُ: نعم.
فيقولُ: أتشهدُ أَني رسولُ الله؟
فيقولُ: لا أَسمع! فلم يَزَلْ يُقَظعه إِرْباً إِرْباً وهو ثابتٌ على ذلك ".(1/198)
وقد كان الفادي صاحبَ هوى خبيثاً في نَقْلِه عن تفسيرِ البيضاوي، حيثُ
أَخَذَ منه ما يوافق هواه، ليتَّهمَ القرآنَ ويُخَطّئَهُ.
فبعدَما ذَكَرَ البيضاويًّ نُزولَ الآيةِ في حادثةِ عمارِ بن ياسر، واستدلَّ بها على جوازِ التكلم بالكفر عند الإِكراه، ذكَر أَنَّ الأَوْلى والأَفضلَ للمسلم أَنْ لا يَنطقَ بالكفر، وأَنْ يَثبتَ على الإِسلام، حتى لو أَدّى ذلك إِلى قَتْلِه..
قال: ".. وهو دليلٌ على جَوازِ التكلمِ بالكفرِ عندَ الإِكراه..
وإِنْ كانَ الأَفْضَلَ له أَنْ يَتَجَنَّبَهُ عنه، إِعْزازاً للدين، كما فعلَه أَبُو عمار، ولما رُوِيَ أَنَّ مسيلمةَ أَخَذَ رجلَيْن، فقالَ لأَحَدِهما: ما تقولُ في محمد؟
قال: هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: فما تقولُ فِيَّ؟
قال: أَنتَ أَيضاً رسولُ الله!! فَخَلّاه.
وقالَ للآخَر: ما تقولُ في محمد؟
قال: هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: فما تقولُ فِيَّ؟
قال: أَنا أَصَمّ.
فأَعادَها عليه ثلاثاً، فأَعادَ جوابَه، فقَتَلَه..
فبلغَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " أَمّا الأَوّلُ فقد أَخَذَ برخصةِ الله، وأما الثاني فقد صَدَعَ بالحقّ، فَهنيئاً له ".
ولو كان الفادي يَتصفُ بالموضوعيةِ والأَمانةِ العلميةِ لَذَكَرَ كَلامَ
البيضاويِّ كاملاً، وَذكَرَ ما رَجَّحَه البيضاويُّ من أَنَّ الأَفضلَ للمسلمِ أَنْ لا
يأخذَ بالرخصة، وأَنْ يَثبتَ على الحَقّ حتى لو قُتِل! ولكنه غيرُ أَمينٍ على العلمِ
والنقل.
***
العفو عن لغو اليمين
قالَ اللهُ - عز وجل -: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) .
تُخبرُنا الآيةُ أَنَّ اللهَ يَعفو عن لَغْوِ اليَمين، ولا يُؤاخِذُ بها، ولا يُحاسِبُ(1/199)
عليها، وهو يُؤاخِذُ باليمينِ المقصودَة، التي يَعقدُها القلبُ ويَقصدُها ويتعمدُها.
وحتى يُثيرَ الفادي الشبهاتِ حول الآيةِ ذَهَبَ إِلى تفسيرِ البيضاوي، لعلَّه
يَجدُ عندَه ما يُريد.
قالَ: فَسَّرَها البيضاويُّ بقولِه: " اللَّغْوُ: هو الساقطُ الذي لا
يُعْتَدّ به من كلام وغيرِه..
ولَغْوُ اليمين ما لا عَقْدَ له، كالذي سَبَقَ به اللّسان، أَو تكلمَ به جاهِلاً لمعناه، كقولِ العرب: لا واللهِ، وبلى واللهِ، لمجردِ التأكيدِ لقولِه.
(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) : المعنى: لا يُؤاخذُكم اللهُ بعقوبةٍ ولا
كَفارة بما لا قَصْدَ منه، ولكن يُؤاخِذُكم بهما أَو بإِحداهما بما قصدتُم من
الأَيْمان، وواطَأَتْ فيها قلوبُكم أَلسنَتَكم.
وقالَ أَبو حنيفة: اللغوُ هو أَنْ يَحلفَ الرجلُ بناءً على ظَنّه الكاذبِ.
والمعنى: لا يُؤاخذُكم بما أَخطاتُم فيه من الأَيْمان، ولكنْ يعاقبُكم بما تعمدتُم
الكذبَ فيه ".
ذَكَرَ البيضاويُّ قولَيْن في معنى لَغْوِ اليمينِ الذي لا يُؤاخَذُ صاحِبُه به:
الأَول: هو الكلامُ الذي يَسبقُ به اللسانُ عندَ الكلام، فينطقُ به بدونِ
قَصْدٍ ولا تَعَمُّد، كقولِ الرجلِ أَثناءَ كلامِه: لا والله، وبلى والله.
وهذا هو قولُ الجمهورِ من الفقهاءِ والمفَسِّرين.
ويُؤَيِّدُهُ ما صَحَّ عن عائشة - رضي الله عنها - أَنها قالت:
" إِنما اللغوُ في المزاحِ والهزل، وهو قولُ الرجل: لا والله، وبلى والله، فذاك لا كفارةَ فيه، إِنما الكفارةُ فيما عَقَدَ عليه قَلْبَهُ أَنْ يَفْعَلَه ثم لا يَفْعَلُه ".
الثاني: هو أَنْ يَحلفَ الرجلُ اليمينَ بناءً على ظَنّه، وهو يَعتقدُ أَنه
صادِق.
ثم يَظهرُ له أَنَهُ أَخطأَ في ظَنَهِ ويمينِه، فهذا لا يُؤاخَذُ به مع أَن يمينَه
غيرُ صحيح، لأَنَّ اللهَ لا يُؤاخِذُ بالخَطَأ.
وهذا هو فهمُ أَبي حَنيفة.
ويُؤَيّدُه ما صَحَّ عن عائشةَ أَيضاً - رضي الله عنها - أَنها قالَتْ: " لَغْوُ اليَمينِ هو الشيءُ يَحلفُ عليه(1/200)
أَحَدُكُم لا يُريدُ منه إِلّا الصّدْق، فيكون على غيرِ ما حَلَفَ عليه ".
وهذا الكلامُ الواضحُ لم يعجب الفادي المفْتَري، واعْتَرَضَ عليه وخَطَّاَهُ
قائلاً: " ونحنُ نسأَلُ: هل من مُقَوّماتِ النّبل والشَّرفِ أَنْ يَكْذِب الإِنسانُ؟!
يقول المسيح: ليكنْ كلامُكُم: نَعَمْ، نَعَمْ.. لا، لا..
وما زادَ على ذلك فهو من الشِّرِّير ".
ولا أَدري كيفَ فهمَ الفادي الغبيُّ من كلامِ البيضاويّ السابقِ أَنَّ القرآنَ
يُجيزُ للإِنسانِ المسلمِ الكذبَ، ولذلك خَطَّأَ القرآنَ!!.
القرآنُ لا يُجيزُ الكذبَ، ولا يُشَجِّعُ عليه، ولا يَدْعو إِليه، كما فَهِمَ هذا
الغبيّ، وقد حَرَّمَ الكذبَ، وتَوَعَّدَ الكاذبين والمكَذِّبين بالعَذابِ الشديد يومَ
القيامة، وعلى هذا آياتٌ كثيرة.
وما قالَه أَبو حنيفة في بيانِ لَغْوِ اليمينِ ليسَ معناهُ مَدْحَ الكذبِ أَو الدعوةِ
إِليه أَو التشجيعِ عليه! إِنَّ الإِنسانَ قد يُخطئُ في ظَنّه، ومن ثم قد يَحْلِفُ على ما ظَنَّه، فَيُخطئُ في يمينِه، بناءً على خطئِه في ظَنِّه..
ويكونُ هذا اليمينُ الخطأُ من بابِ اللَّغْو في اليمين، وهو ليس كذِباً، لأَنَّ الكذبَ هو ما قَصَد الإِنسانُ أَنْ يَنطقَ
به، وتَعَمَّدَ أَنْ يَكونَ كلامُهُ غيرَ صحيح! وهذأ أَمْرٌ بَدَهيّ مُقَرَّرٌ لا شَكَّ فيه.
***
حول إعطاء المؤلفة قلوبهم
أَجازَ الإِسلامُ إِعطاءَ المؤلَّفةِ قُلوبُهم من الزكاة، وَوَرَدَ هذا في قولِه
تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) .(1/201)
وذَهَبَ الفادي إِلى تفسيرِ البيضاويِّ ليُثيرَ الشبهاتِ على المؤلفةِ قلوبُهم.
قال: فَسَّرَها البيضاويُّ بقوله: " المؤلفة قلوبهم ": قومٌ أَسْلَموا ونيتُهم ضعيفةٌ فيه، فَيَسْتَألِفُ قُلوبَهم..
أَو هم أشرافٌ قد يَترقبُ بإِعطائِهم ومراعاتِهم إِسلامَ نُظرائِهم.
وقد أَعطى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عيينةَ بنَ حِصْن والأَقرعَ بنَ حابس والعباسَ بن مرداس لذلك.
وقيل: هم أَشرافٌ يُسْتَألَفون على أَنْ يُسْلموا، فإِنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُعطيهم..
والأصحُّ أَنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُعطيهم من خُمُسِ الخُمُس،
الذي كانَ خاصَّ مالِه، وقد عَدَّ منهم مَن يُؤَلِّفُ قَلْبَه بشيءٍ منها على قتالِ
الكفارِ ومانعي الزكاة..
وقيل: كان سهمُ المؤلَّفَةِ لتكثيرِ سَوادِ الإِسلام، فلما أَعزه اللهُ وأَكثرَ أَهْلَهُ سقط.
ذَكَرَ البيضاويُّ ثلاثةَ أَصنافٍ من المؤلَّفةِ قلوبُهم الذين يُعْطَوْنَ من الزكاة:
1 - منهم من دَخَلوا في الإِسلام، لكنَّ نيتَهم في الإِسلامِ ضعيفة،
فيُعطونَ من الزكاةِ لتتألَّفَ قلوبُهم، ويتقوّى إِيمانُهم، ويَثْبُتوا على إسلامِهم.
2 - ومنهم مَنْ هم أشرافٌ في أَقوامِهم، فيُعْطَوْنَ من الزكاةِ طَمَعاً في
إِسلامِهم وإِسلامِ أَتْباعهم.
3 - ومنهم مَنْ يُرْجى منه قِتالُ الكافرين ومانِعي الزكاة، فيُعْطَوْنَ من
الزكاةِ للاستفادةِ منهم ومن قُوَّتِهم.
وذَكَرَ البيضاويُّ قَوْلاً آخَرَ يَرَى أَنَّ المؤلَّفَةَ قلوبُهم أُعْطوا من الزكاة، لما
كانَ المسلمونَ قَلائل، وكانَ الإِسلامُ ضعيفاً، فلما أَعَزَّ اللهُ الإِسلامَ والمسلمين لم يَعودوا يَحتاجونَ إِلى تأليفِ قُلوبِ الناس، وبذلك سَقطَ سهمُ المؤلَّفَةِ قلوبُهم من الزكاة!.
وقد اعترضَ الفادي على هذا، وجَعَلَ عنوانَ اعتراضِه مُثيراً، هو " تَحليلُ
الإِغراءِ بالمال ".
وقالَ في اعتراضِه وتشكيكِه: " ونحنُ نسأَلُ: هل يُبيحُ الدينُ الإِغراءَ بالمالِ للدُّخولِ فيه؟
وهل يُؤْجَرُ النّاسُ ويُرْشَوْنَ لِيُهَدِّدوا ويَقْتُلوا الذينَ(1/202)
لا يَرغبونَ فيه؟
وهل هذا المالُ يُعْتَبَرُ زكاةً وصدقة، أَمْ يُعتَبَرُ رشوةً ومفسدة ".
إِنَّ إِعطاءَ المؤلَّفَةِ قلوبُهم نَصيباً من الزكاةِ ليس رشوةً لهم، ولا إِغراءً
لهم بالمال، ولا اسْتِئْجاراً لهم ليَقْتُلوا الآخَرين، إِنما هو تأليفٌ لقلوبِهم،
وترغيبهم للإِقبالِ على الإِسلام، وتقديمُ هديةٍ ماليةٍ لهم، وهذه الهديةُ لمصلحةِ
الإِسلامِ والمسلمين.
وإِنَّ اللهَ الذي شَرَعَ هذا الحكم، وأَذِنَ للمسلمينِ أَنْ يُعْطوا المؤَلَّفَةَ قلوبُهم، جُزءاً من زَكَواتِهم، يَعلمُ أَثَرَ المالِ في النفوس وتغييرِ مواقِفِها، وترسيخِ وتَثبيتِ قناعاتِها، ولذلك أَذِنَ بإِعطاءِ المؤلفَةِ قلوبُهم من الزكاةِ، لتثبيتِ الإِيمانِ في قلوبِهم.
ثم إِنَ هذا التشريعَ ليسَ للوجوب، وإِنما هو للإِباحَة، ويُمكنُ أَنْ يَتَوَقَّفَ
المسلمون عنه أَحياناً، ولذلك ذَهَبَ بعضُ العلماءِ إِلى توقيتِه بأَيَّامِ الإِسلامِ
الأُولى، حيث كان المسلمونَ ضُعفَاء، أَما بَعْدَما انتصرَ المسلمونَ وانتشرَ
الإِسلامُ فلم تَعُدِ الحاجةُ قائمةً لتأْليفِ قلوبِ الناس، فأَسْقَطوا سهمَ المؤلَّفَةِ
قُلوبُهم، قالوا: لا نَحتاجُ إِلى تأليفِ قلوبِهم، فمن شاءَ فلْيُؤْمن، ومَنْ شاءَ
فليكْفُرإ!.
***
حول آيات الجهاد والقتال
أعترضَ الفادي على آياتِ الجهادِ والقتالِ في القرآن، فأَوردَ لسِتَّ عشرةَ
مجموعةً من تلك الآيات، تحت عنوانِ " تَحْليل القتل "، أَيْ أَنَّ القرآنَ يُحَرّضُ على القَتْل، ويجعلُه حلالاً، ويَجعلُ صاحبَه مأجوراً.
والآياتُ التي أَوردَها هي:
__________
(1) ماذا يقول هذا اللعين في المليارات التي تنفقها الكنيسة على حملات التبشير؟؟!!!(1/203)
1 - قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) .
2 - قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) .
3 - قولُه تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) .
4 - قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) .
5 - قولُه تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) .
6 - قولُه تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) .
7 - قولُه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) .
8 - قولُه تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) .
9 - قولُه تعالى: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) .(1/204)
10 - قولُه تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) .
11 - قولُه تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) .
12 - قولُه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
13 - قولُه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) .
14 - قولُه تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) .
15 - قولُه تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) .
16 - قولُه تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) .
اعترضَ الفادي المفترِي على هذه الآيات، وأَنْكَرَها وخَطَّأَها، ونفى أَنْ
تكونَ من عند الله، لأَنها تَدعو إِلى القَتْلِ وسَفْكِ الدماءِ ونَهْبِ الأَموال! قال: " ونَحنُ نَسأل: هل يُكْرِهونَ الناسَ على قَبولِ الدينِ بالسَّيْف؟
وماذا كانَ القَتْلُ مُحَلَّلاً فما هو الحَرام؟
وكيفَ يُحَرِّضُ نبيٌّ على القِتالِ وانتهاكِ الأَشهرِ الحُرُم، وتَجهيزِ القبائل بالعَتادِ والسُّيوفِ ليَقْتُلَ ويَنْهَب؟
ويَقولُ: إِنَّ هذا في سبيلِ اللهِ والدّين؟
ويُغْري أَتْباعَه بالغنائم، وأَخْذِ الجزيةِ في الدنيا، والجنةِ والحورِ العينِ
في الآخِرة؟
ولقد جاءَ في حديثِ مسلمٍ أَنَّ محمداً قال: " اغْزُوا باسْمِ الله،(1/205)
في سبيلِ الله، واقْتُلوا مَنْ كَفَرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغْدُروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تَقْتُلوا وَليداً ".
إِنّنا نَعلمُ أَنَّ اليهودَ والنَّصارى وباقي طوائفِ أَعداءِ المسلمينِ تُزْعِجُهم
آياتُ الجِهادِ والقِتال، وهم يُحاربونَ مبدأَ الجهادِ والقتالِ في الإِسلام،
ويَحرصونَ على قَتْلِ روحِ الجهادِ في نفوسِ المسلمين..
في الوقتِ الذي لا يتوقفون هم عن الطمعِ في بلادِ المسلمين، وحشْدِ الجيوشِ للعُدوانِ عليهم، ومحاربتِهم واحتلالِ بلدانِهم، ونَهْب خيراتِهم، والقضاءِ على دينهم..
كما قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) .
ولا عَجَبَ في أَنْ يَشُنَّ الأَعداءُ حربَهم الشرسةَ على الجهادِ والقتالِ في
الإِسلام.
ولا عَجَبَ في أَنْ يُشاركَ الفادي المفترِي في هذه الحرب الفكريةِ
التدميرية، ولا عَجَبَ في أَنْ يَعترضَ على الآياتِ التي سَجَّلَها، وأًنْ يُنكرَها
ويَرفضَها، وأَنْ يَعتبرَها من أَخطاءِ القرآنِ الأَخلاقية!.
أَما نحنُ فإِننا نعلمُ أَصالةَ الجهادِ في الإِسلام، وكونَه من مقاصدِ القرآن،
وهو يُشغلُ جانباً كبيراً في الفكْرِ والتصورِ والعلمِ والمعرفةِ والثقافةِ في
الإِسلام.
وإِذا كانَ الكفارُ المعادون لا يتوقَّفون عن العدوان على المسلمين،
فكيفَ يُريدُ الفادي المفترِي وإِخوانُه، من المسلمين أَنْ يُلْغوا هذا الجانبَ
الإسلاميَّ الكبير، وأَنْ يَتَحَوَّلوا إِلى مسالمين ومستسلمين، يَفْتَحون للمحتلّين
بلَادهم وبيوتَهم، فإِنْ فَكَروا في جهادِهم ومواجهتِهم ورَدِّ عدوانِهم وتحريرِ
البلادِ منهم كانوا مجرمين إِرهابيّين؟!.(1/206)
حول إباحة الغنائم
الغنائمُ هي ما يأخذُه المجاهدون من الأَعداء المحاربين، عندما
يَهزمونَهم، وهذه الغنائمُ تَشملُ الأَموالَ والسِّلاحَ والدّوابّ، ومختلفَ الأَشياءِ المنقولة.
وقد أَباحَ اللهُ للمجاهدينَ أَخْذَ تلك الغنائم، فقالَ تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) .
وبَيَّنَ في القرآنِ كيفيةَ توزيعِ الغنائم، وذلك في قولِه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) .
واعترضَ الفادي على إِباحةِ الغنائمِ للمجاهدين، وذلك في قوله: " ونَحنُ
نَسألُ: هل يَأمُرُ اللهُ بقَتْلِ النّاسِ ونَهْب أَموالِهم، ويَقولُ: إِنَّ هذا حلالٌ طَيّب؟
هل يُحَلّلُ اللهُ أَموالَ الغَيْرِ؟ ".
لم تَكن الغنائمُ مُباحَةً عندَ السابقين، كاليهودِ والنَّصارى، وعندما كانوا
يُقاتِلونَ أَعداءَهُم ويَهزمونَهم كانوا يَأخُذونَ الغنائمَ منهم، ويَجمعونها، ثم
يُشعلونَ فيها النارَ ويَحرقونَها، وكانوا يُعاقِبونَ مَنْ أَخَذَ منها.
ولذلك أَخْبَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الغنائمَ له ولأُمَّتِه، فقال: " وأُحِلَّتْ ليَ الغَنائم، ولم تُحَلَّ لأَحَدٍ منْ قَبْلي ".
ولا معنى لاعتراضِ الفادي المفترِي على إِباحةِ الغنائم، وعلى أَخْذِ
الغنائمِ من الأَعداء، فالأَعداءُ يَعْتَدونَ على المسلمين ويُحاربونجهم ويَهجمونَ(1/207)
عليهم، وأَمَرَ اللهُ المسلمينَ برَدِّ عُدوانِ المعْتَدين، ومحاربةِ المحاربين،
والوقوفِ أَمامَ الطامِعين فيهم، وأَوجبَ على المسلمين جهادَهم وقِتالَهم وقَتْلَ
مَنْ يَقْدِرونَ عليه منهم.
وجَميعُ الأَديانِ والشرائعِ والمذاهبِ والمناهجِ توجبُ
على الناسِ مواجهةَ المعْتَدين، والدفاعَ عن الأَوطانِ والأَمْوال.
ومن غيرِ المقبولِ والمعقولِ أَنْ يُشَجَّعَ المعْتَدون المحتَلّون، وأَنْ يُدْعى المعْتَدى عليهم إِلى محبةِ المعْتدين، واستقبالهم بالورودِ وأَغْصانِ الزيتونِ والأَحْضان!!.
يُريدُ الفادي من قومِه أَنْ يُحاربوا المسْلِمين، وأَنْ يَحْتَلوا بلادَهم ويَنْهَبوا
أَموالَهم، فإِنْ قامَ المسلمونَ بواجِبِهم في الجهادِ ورَدِّ العُدْوان، رَفَعَ صوتَه
بالاعتراضِ والإِنكارِ، وقال: " هل يأمُرُ اللهُ بقَتْلِ الناسِ ونَهْبِ أَموالِهم،
ويَقولُ: إِنَّ هذا حَلالٌ طَيّبٌ؟!
هل يُحَفلُ اللهُ أَموالَ الغير؟! ".
ونحنُ بالمقابلِ نَسْأَلُ المفترِي: هل أَباحَ اللهُ للصليبيّين - الذينَ يَزْعمُونَ
الإِيمانَ بالنصرانيةِ والإِنجيل - احتلالَ بلادِ المسلمين، وسَفْكَ دمائِهم، ونَهْبَ
أَموالِهم؟!
وهل أَباحَ اللهُ للمستعْمِرينَ الإِنجليزِ والفرنسيينِ والإِسبانِ والطليانِ
والأَمريكانِ احتلالَ بلادِ المسلمين في هذا الزمان ونَهْبَ أَموالِهم وموارِدِهم؟!.
لماذا يُنكرُ الفادي على المسلمينَ جهادَ وقِتالَ المعتدينَ المحاربينَ
المحتلّين، ولا يُنْكِرُ على أُولئك المعتدينَ عُدْوانَهم واحتلالَهم ونَهْبَهم؟!.
وعندما يحاربُ الأَعداءُ المسلمينَ فإِنهم يستخدمونَ الأَموالَ والسلاحَ
لحربِهم، وعندما ينتصرُ المسلمونَ عليهم ويَهزمونَهم، فإِنهم يَسْتَوْلون على بَعْضِ الأَموالِ والسلاحِ والعَتادِ والمَتاع، فماذا يَفعلونَ بها؟
هل يُعيدونَها للأَعداءِ المقاتلين، ليستَعينوا بها على قتالِ المسلمين؟
أَمْ يَحرقونَها بالنارِ كما كانَ يَفعلُ اليهودُ في العهد القديم؟..
لقد أَباحَ اللهُ للمسلمين أَخْذَ تلك الغنائم، والاستفادةَ
منها والانتفاعَ بها، وقالَ لهم: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ) .
واللهُ حكيمٌ في أَمْرِ المؤمنين بقتالِ المقاتِلين، لأَنَّ البادئَ أَظْلَم، وهو
حكيمٌ في إِباحةِ الغنائمِ للمجاهدين، لأَنَّ في أَخْذِها من الأَعداءِ المقاتلينَ(1/208)
إِضْعافاً لهم.
واعتراضُ الفادي على حكْمِ اللهِ الحكيمِ دليلُ جَهْلِه وتحامُلِه!
وهو لا وَزْنَ له، لأَنه يعترضُ على الصحيحِ، ويُخَطِّئُ الصَّواب!!.
***
حول قسم الله بمخلوقاته
أَقسمَ اللهُ بكثيرٍ من مخلوقاتِه في القرآن، بحيثُ أَصبحَ القَسَمُ بها ظاهرةً
من ظواهرِ التعبيرِ القرآني.
وقد ذَكَرَ الفادي بعضَ الآياتِ التي أقْسَمَ اللهُ فيها ببعضِ مخلوقاتِه "
1 - قولُه تعالى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) .
وعَلَّقَ الفادي المفترِي على هذه الآياتِ بقولِه: " فصاحِبُ القرآنِ يُقسمُ
بالفجر، والليالي العشرِ الأَخيرةِ من رمضان، وبالأَشياءِ كُلّها شَفْعِها وَوَتْرِها، وبالليلِ المدْبِر، ويقولُ: إِنَّ أَقسامَه هذه لذي عَقْل! ".
ومن كَيْدِ الفادي ولُؤْمِه أَنه لم يَقُل: " الله يقسم بالفجر "، وإِنما قالَ:
" فصاحبُ القرآنِ يُقسمُ بالفجر "! ومن هو صاحبُ القرآنِ في نظرِه؟
إِنه لا يُقِرُّ أَنَّ القرآنَ كلامُ الله، أوحى به إِلى رسولِه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وإِنما يجعلُ القرآنَ من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فهو صاحبُ القرآنِ في نظرِ هذا المفتري!.
2 - قولُه تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) .(1/209)
وعَلَّقَ الفادي على هذا القَسَمِ بقولِه: " في هذه الآياتِ يُقسمُ صاحبُ
القرآنِ بالشمسِ والقمر، والنهار والليل، والسماء والأرض، والنفس ".
3 - قولُه تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) .
4 - قولُه تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) .
5 - قولُه تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) .
اعترضَ الفادي المفترِي على قَسَمِ اللهِ بهذهِ المخلوقات.
فقال: " ونَحنُ نسأَلُ: لماذا يَحلفُ صاحبُ القرآن، ويُقسمُ بكلِّ شيء، بالشمسِ والقمرِ، والنهارِ والليلِ، والسماءِ والأَرض، والنفس والضحى، والتين والزيتون، وجبل سيناءَ ومكة، وغيرِ ذلك؟!
هل يَحتاجُ صاحبُ القول الصادقِ إِلى قَسَمٍ يُؤَكّدُ كلامَه؟.
قالَ المسيح: " لا تَحْلِفوا ألْبَتَة، لا بالسماءِ لأَنها كرسيُّ الله، ولا
بالأَرضِ لأَنها موطئُ قدمَيْه، ولا بأورشليمَ لأَنها مدينةُ الملكِ العظيم، ولا
تَحْلف برأسِك، لأَنك لا تقدرُ على أَنْ تجعَل شعرةً واحدةً بيضاءَ أَو سوداء.. بل ليكُنْ كلامُكم: نَعَم، نَعَم، لا، لا..
وما زادَ على ذلك فهو من الشِّرّير " أمتى: 34/5 - 37،..
فما الذي دَعا صاحبَ القرآنِ ليحلفَ بكلِّ شيء؟! ".
يتوقَّحُ الفادي المفترِي على اللهِ وعلى القرآن، وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عندما يُصِرُّ على استخدامِ كلمةِ " صاحبِ القرآن "، وهذا بسببِ تحامِله على الإِسلامِ وكرهِه له وحقْدِه عليه، بحيثُ لا يُطيقُ استخدامَ كلمةِ " قالَ اللهُ في القرآن، كما يَدَّعي المسلمون "!.(1/210)
واعْتَبَرَ قَسَمَ اللهِ بمخلوقاته في القرآن من أَخطاءِ القرآنِ الأَخلاقية، لأَنَّ
الصادق يَذكرُ كلامَه بدونِ قَسَم، فهو لا يَحتاجُ إِلى توكيدِ كلامِه بالقَسَم، ولا إِلى أَنْ يُصَدِّقَه السامعُ بالقَسم!.
وليدللَ الفادي على صِدْقِ كلامِه وانتقادِه للقرآن، أَوردَ من إِنجيل مَتّى
كَلاماً مَنْسوباً للمسيحِ يَنهى فيه أَتْباعَه عن القَسَمِ بأَيِّ شيء، لا بالسمواتِ ولا بالأَرضِ ولا بالقدسِ ولا بالرأْس!.
وعندما نَنظرُ في الكلامِ المنسوبِ لعيسى - عليه السلام - فِإنّنا نَرى أَنّه - إِنْ صَحَّتْ نسبتُه لعيسى - عليه السلام - يتوافَقُ مع نهي المسلمين عن القسم بغير الله، فعيسى - عليه السلام - يَنهى عن القَسَمِ بالمخْلوقات: السمواتِ والأَرضِ والقُدْسِ والرأس.
والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - نَهانا عن القَسَمِ بغيرِ الله، واعتبرَهُ صورةً من صورِ الشركِ بالله، فَصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال: " مَنْ حَلَفَ بغيرِ اللهِ فقد أَشْرَكَ ".
على أَننا نرفضُ اعتبارَ السماءِ كُرْسِيّاً لله! لأَنَّ كُرْسِيَّه سبحانه وسعَ
السمواتِ والأَرْض.
قال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) .
ونرفضُ اعبتارَ الأَرضِ موطئَ قَدَمْي الله، فلا نَجعلُ قَدَمَيْنِ لله، يَطَأُ بهما
على الأَرض! لأَنَّ هذا تَجسيم لله، ووصْف له بصفاتِ المخلوقين! واللهُ يقولُ في القرآن: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) .
واعتراضُ الفادي على قَسَمِ اللهِ بمخلوقاتِه في القرآن مَرْدود، ومن غبائِه
وجهلِه أَنه جَعَلَ القَسَمَ دليلاً على حرصِ الحالفِ المقْسِمِ على تَأْكيدِ كَلامِه،
وتصديقِ السامعِ له، فيلجَأُ للقَسَمِ لتحقيقِ ذلك!.
هذا ينطبقُ على قَسَمِ المخلوقين، ولذلك لا يَجوزُ لَهم أَنْ يُقْسِموا
بغيرِ الله! لكنه لا يَنطبقُ على قَسَمِ اللهِ بمخلوقاتِه، فهو عندما يُقسمُ بها لا يُريدُ منّا أَنْ نُصَدّقَه، فهو الصادقُ في كلامِه سبحانه، وهو الذي يقول: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) .(1/211)
عندما يُقسمُ اللهُ ببعضِ مخلوقاتِه فإِنه يريدُ أَنْ يَلْفِتَ أَنظارَنا إِليها، لنلاحظَ
عَظَمَتها وفائدتَها لنا، وكونَها آيةً دالةً على وحدانيةِ اللهِ وعظمتِه وقوتِه ورحمتِه وإنعامِه، وعندما نتذكَّرُها نذكُرُ خالقَها العظيمَ ونشكُرُه على تسخيرِها لنا!.
وبهذا نعرفُ الفرقَ بين قَسَمِ اللهِ بهذه المخلوقاتِ وبين قَسَمِ المخلوقين
بها، ونعرفُ سببَ قَسَمِ اللهِ بها!!.
***
حول الترخيص بالكذب
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ الإِسلامَ يُرَخِّصُ في الكذبِ ويُحَلِّلُه، ويَدْعو
المسلمينَ إِلى أَنْ يَكْذِبوا..
وأَوردَ آيتَيَن، ليسَ فيهما أَدْنى إِشارةٍ إِلى ذلك:
الأوِلى: قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) .
لَتَحدَّثُ الآيةُ عن عَدَمِ مؤاخذةِ المسلمينَ باللَّغْوِ في أَيْمانِهم، وهي اليمينُ
التي تَخرجُ من أفواهِهِم بدونِ تَعَمُّدٍ وقَصْد، كقولِ أَحَدِهم: لا وَالله، وبَلى
والله.
ثُم تُبَيِّنُ كفارةَ اليمينِ المنعقدة، إِذا حَنَثَ فيها صاحبُها.
ولا تتحدثُ عن الكَذِب!.
الثانية: قولُه تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) .
لا تَتَحَدَّثُ الآيةُ عن الكَذِب، وإنما تُشيرُ إِلى رخصةِ إِباحةِ النطقِ بكلمةِ
الكفر، لمن كانَ مُكْرَهاً، مع أَنَّ الأَوْلى أَنْ لا يَنطقَ بها، حتى لو أَدّى ذلك
إِلى قَتْلِه.
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا هذه الفكرةَ مع الفادي (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
118- تحليل إنكار الله
جاء فى سورة النحل: أن الإكراه على الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان؛ يجوز. وهذا لا يصح لأنه ليس من الأمانة أن يزور الإنسان فى عقيدته.
الرد على الشبهة:
إن الضرورات تبيح المحظورات. وهذا موجود بكثرة فى التوراة وفى الإنجيل ومن ذلك: ما جاء فى الإصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الأول أن رجلاً من رجال الله جاء إلى مدينة " بيت إيل " وتنبأ عليه. وقال له الملك ادخل إلى بيتى لأعطيك أجرة؛ فأبى بحجة أنه أمر من الله أن يعود مسرعاً. وكان نبى شيخ ساكناً فى بيت إيل. فأتى إليه بنوه وقصّوا عليه قصة رجل الله. فقال لهم: دلونى على الطريق التى رجع منها. فلما لحقه قال له: ارجع معى لتتقوت. فأبى. فقال له النبى الشيخ: " أنا أيضاً نبى مثلك. وقد كلمنى ملاك بكلام الرب قائلاً: ارجع به معك إلى بيتك. فيأكل خبزاً ويشرب ماء. كذب عليه. فرجع معه وأكل خبزاً وشرب ماء [1مل 13: 17 - 19] .
فقد استعمل الحيلة فى إرجاعه و " كذب عليه "
وفى الأناجيل والرسائل أن بولس كان ذا لسانين وذا وجهين.
فإنه لما ردوه للسياط، كذب وقال: إننى رومانى الجنسية وقد ولدت حرًّا [أعمال 22: 28] وقال: أنا رجل يهودى من سبط بنيامين [رومية 11: 1] . ولما مثل أمام رئيس الكهنة وضربه على فمه قال له بولس: " سيضربك الله أيها الحائط المبيض " ولما شتمه بهذا القول وفى التوراة أنه لا يجوز شتم رئيس الكهنة وَوَجَّه إليه اللوم على مخالفته للتوراة. قال بولس: لم أكن أعرف أيها الأخوة أنه رئيس كهنة؛ لأنه مكتوب: رئيس شعبك لا تقل فيه سوءا [أع 23: 1 - 5] ، [خروج 22: 28] .
وفى التوراة أن الإكراه على كسر حكم من أحكام الشريعة يسقط العقاب على كسر الحكم. فإن الفتاة العذراء المخطوبة لرجل، إن وجدها فى الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها؛ يموت الرجل الذى اضطجع معها وحده " وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئاً. ليس على الفتاة خطية للموت، بل كما يقوم رجل على صاحبه ويقتله قتلاً. هكذا هذا الأمر، إنه فى الحقل وجدها؛ فصرخت الفتاة المخطوبة فلم يكن من يخلصها " [تث 22: 26 - 27] .
وفى الإنجيل ينصح المسيح تلاميذه بالحذر من الناس فيقول: " ها أنا أرسلكم كغنم فى وسط ذئاب. فكونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام. ولكن احذروا من الناس " [متى 10: 16 - 17] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/212)
فلا أَدري لماذا ذَكَرَ الفادي الآيتَيْن السابقتَيْن في اعتراضِه على الترخيص
بالكذبِ في الإِسلام.
وكتابُه كُلُّه خَصَّصَه لكشْفِ أَخطاءِ القرآن، فالآيَتانِ في
مَوْضوعٍ آخَر غير الموضوعِ الذي يتحدَّثُ هو عنه.
وزَعْمُ الفادي أَنَّ الإِسلامَ حَلَّلَ الكذبَ وأَباحَه، أَخَذَهُ من حديثِ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم.
قال: قالَ الربيعُ بنُ سليمان ...
عن أُمِّ كلثوم بنتِ عُقْبَة، قالَتْ: ما سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرخصُ في شيءٍ من الكَذِبِ إِلّا في ثَلاث:
كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا أَعُدُّه كاذِباً: الرجلُ يُصْلِحُ بينَ الناسِ، يقولُ القولَ ولا يُريدُ به إِلّا الإِصلاح، والرجلُ يَقولُ في الحَرْبِ، والرجلُ يُحَدِّثُ امرأَتَه، والمرأةُ تُحَدّثُ زَوْجَها ".
يُرَخِّصُ الحديثُ بالكذبِ في ثلاثِ حالات: في الإِصلاحِ بينَ الناس،
وفي الحربِ، وفي بعضِ الحديثِ بينَ الزوجَيْن.
ونَسَبَ إِلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - حَديثاً غَريباً، لم يَذْكُرْ مَنْ أَخْرَجَه من أَصحابِ السُّنَن، فقال: " وقالَ محمد: إِذا أَتاكم عَنّي حَديثٌ يَدُلّ على هُدى، أَو يَرُدُّ عن رَديّ فاقْبَلوه، قُلْتُه أَو لم أَقُلْه، وإِنْ أَتاكم عَنّي حديثٌ يَدُلُّ عَلى رَدِيّ، أَو يَرُدُّ عن هُدَى فلا تَقْبَلوه، فإِنّي لا أَقولُ إِلَّا حَقاً "!!.
وهذا حَديثٌ غامض، ومَعناهُ غيرُ واضح، وأَخشى أَنْ يَكونَ من وَضْعِ
الوَضّاعين!.
وقد اعترضَ الفادي على حديثِ الترخيصِ بالكذبِ في الحالاتِ الثلاث
بقوله: " أَلا تَفْتَحُ هذه الأَقوالُ البابَ للكذبِ على مِصْراعَيْه؟
وهل الأَخلاقُ الكريمةُ وصنعُ السَّلامِ يَقومُ على الأَكاذيب؟
وكيفَ يكونُ حالُ بيتٍ يكذبُ فيه الزوجانِ على بَعْضِهِما؟
وكيفَ يكونُ حالُ الأَبناءِ فيه؟..
يقولُ الإِنجيل: وأَمّا الزناةُ والسحرةُ وعَبَدَةُ الأَوثانِ وجميعُ الكذبةِ فَنَصيبُهم في البُحيرةِ بنارٍ وكبريتٍ، الذي هو الموتُ الثاني ".(1/213)
واعتراضُ الفادي على الحديثِ مَرْدود، فَضْلاً عن أَنّه لا يَندرجُ ضمنَ
موضوعِ كتابِه الذي خَصَّصَهُ للحديثِ عن الأَخطاءِ في القرآن..
وزعْمُه أَنَّ الإِسلامَ يُبيحُ الكذبَ، ويُؤَدّي هذا إِلى فسادٍ أَخلاقي؟
افتراءٌ منه على الإِسلام!
فالإِسلامُ يُحَرِّمُ الكذبَ تَحريماً قاطعاً..
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِيّاكم والكذبَ
فإِنَّ الكذبَ يَهْدي إِلى الفُجور، وإِنَّ الفُجورَ يَهْدي إِلى النّار، وما زال الرجلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرّى الكذبَ، حتى يُكْتَبَ عندَ اللهِ كَذّاباً ".
وترخيصُ الكذبِ في ثلاثِ حالات: الإِصلاحِ، والحربِ، وبينَ
الزوجين، وهي ليست كذباً حقيقياً، وإِنما هي من بابِ " المعاريض ".
والمعاريضُ من بابِ التعريض، وهو أَنْ يتكلمَ الرجُل بكلامٍ غير صريح، فيفهمُ منه السامعُ شيئاً آخَرَ، وهذا من بابِ الفطنةِ وفصاحةِ الكَلام، كأَنْ تقولَ لمن دَعاكَ إِلى تناولِ الغداء: لقد تغدَّيْت.
فيفهمُ هو أَنك تغدَّيْتَ اليوم، لكنك تَقصدُ أَنك تغدَّيْتَ بالأَمس.
وقد دَعانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى استخدامِ المعاريضِ بقوله: " إِنَّ في المعاريض لمندوحةً من الكذب ".
فما وَرَد من الترخيصِ بالكذبِ في الحالاتِ الثلاث هو من بابِ
المعاريض، وليسَ من بابِ الكذب، فليس فيه ما يُعابُ عليه!!.
***
إباحة ردِّ العدوان
أَباحَ اللهُ للمسلمينَ المعتدى عليهم رَدَّ العدوان، وإِيقافَ المعْتَدين.
ولكنَّ هذا لم يُعجب الفادي المفترِي، واعتبرَهُ من أَخطاءِ القُرآنِ.
أَعطى اعتراضَه عنواناً مُثيراً هو " تحليلُ الانتقام "! أَيْ أَنَّ القرآنَ يُبيحُ
ويُحللُ للمسلمينَ الانتقام، وهذا يَفتحُ بابَ القَتْلِ والتخريبِ والأَخْذَ بالثأر!.
والآيةُ التي اعترضَ عليها هي قولُ اللهِ - عز وجل -:(1/214)
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) .
وعَلَّقَ الفادي المفترِي على الآيةِ بقولِه: " ونحنُ نَرى الأَثَرَ السيِّئَ لمبدأ
الأَخْذِ بالثَّار متفَشيا بسببِ هذا القول، وكم تَعِبَ رجال الشرطةِ من نتائجِه، وبُحَّتْ أَصواتُ المعلمينَ في التعليم ضدَّه! وهل الاعتداءُ على من اعتدى
علاجٌ للجريمة؟!
إِنَّ العنفَ يُوَلِّدُ المزيدَ من العنف.
قال المسيح: " أَحِبوا أَعداءَكم، بارِكوا لاعِنيكُم، أَحْسِنوا إِلى مُبْغِضيكم،
وصَلّوا لِأَجْلِ الذين يُسيئونَ إِليكم ويَطردونكم " أمَتّى: 5/ 44،..
وقال أيضاً: " سمعْتُم أَنه قيل: عَيْنٌ بعَيْنٍ، وسِنٌّ بسِنٍّ..
وأَما أَنا فأَقول لكم: لا تُقاوِموا الشَّرَّ، بل مَنْ لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيمن فَحَوِّل له الآخَرَ أَيْضاً " أمتى: 38/5 -39،.
وقال الرسول بولس: " لا تَنْتَقِموا لأَنفسِكم أَيها الأَحبّاء، بل أَعْطوا مَكاناً
للغَضَب، لأَنه مكتوبٌ: لي النِّقْمَة، أَنا أُجازي..
فإِنْ جاعَ عَدُوُّكَ فأَطْعِمْه، وإِنْ عَطِشَ فاسْقِه، لأَنك إِنْ فعلْتَ هذا تَجمعُ جمرَ نارٍ على رأسِه، لا يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ، بل اغلب الشَّرَّ بالخير " أرومية: 12/ 19 - 21،..
وقال بطرسُ الرسول: " المسيحُ أَيضأ تَأَلًّمَ لأَجْلِنا، تارِكاً لنا مثالاً لكي تَتَّبعوا خطواتِه: الذي لم يَفْعَلْ خطيئة، ولا وُجِدَ في فَمِه مكر، الذي إِذا شُتِمَ لم يكن يَشْتِمُ عِوَضاً، وإِذا تَأَلَّمَ لَمْ يكنْ يُهَدّدُ، بل كانَ يُسَلِّمُ لمن يَقْضي بالعَدْل " أبطرس: 12/ 21 - 23، " (1) .
نَقَلَ أَربعةَ أَقوالٍ عن المسيحِ وبولس وبطرس تَذُمُّ العنفَ والعُدْوان،
وتَمدحُ العفوَ والتسامحَ والصَّفْح، وهي أَقوال مأَخوذةٌ من الإِنجيل، وكلُّ
النَّصارى في العالمِ يُؤْمِنون به، فهل التزمَ النّصارى بهذه التوجيهاتِ الأَخلاقية؟
وهل تعَامَلوا مع غيرهم على أَساسِها وهَدْيِها؟
وهل كانَتْ صِلَتُهم بالمسلمين تَقومُ على العفوِ والتسامح؟
وهل رَدّوا إِساءَةَ المسلمين بالإِحسان؟!.
التاريخُ القديمُ والمعاصرُ يَشهدُ بعكْسِ ذلك، فالنَّصارى الصليبيون هم
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
124- تحليل الانتقام
يقول المؤلف: إن القرآن يحلل الانتقام بقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1) .
الرد على الشبهة:
قد بينا فى إجابة السؤال الرابع من الجزء الثالث معنى قول المسيح " لطمك على خدك الأيمن فَحَوِّل له الآخر أيضاً ".
ونبين هنا: أن رد الاعتداء ليس فرضاً على المسلمين. فالفرض هو إما رد الاعتداء، وإما الصفح عن الجانى. ورد الاعتداء فرض فى التوراة والصفح عن الجانى فى العدل مرفوض فى التوراة. ففى التوراة: " وإن حصلت أذية؛ تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسِنًّا بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيًّا بكى وجرحاً بجرح ورضاً برضى " [خر 21: 23 - 25] .
وليس عندهم دفع الدية فى مقابل العفو عن القاتل. أما فى القرآن الكريم ففيه (فمن عُفى له من أخيه شىء؛ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) (2) أى تخفيف من الحكم القديم الذى كان فى التوراة وهو عدم قبول الدية. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) البقرة: 194.
(2) البقرة: 178.(1/215)
الذينَ بَدَؤوا بالعُدوانِ على المسلمين، واحتلّوا بلادَهم عشراتِ السنين، وقَتَلوا من المسلمين مَنْ قَتلوا في حملاتِ الحروبِ الصليبية، وهم الذينَ اجْتاحوا بلادَ المسلمين واستعْمَروها في مطلعِ القرنِ العشرين، وخضعَتْ كُل بلادِ المسلمين للاستعمارِ الصليبي: الإِنجليزيِّ والفرنسيِّ والإِسبانيّ والبرتغاليِّ
والإِيطاليّ والهولندني والروسي ...
وها هي أَمريكة الصليبيةُ تُعيدُ احتلالَ بلادٍ إِسلامية واستعمارَها في مطلعِ القرنِ الحادي والعشرين.
وكلُّ ممارساتِ الصليبيين القديمةِ والمعاصرةِ ضدَّ المسلمين تُخالفُ
توجيهاتِ الإِنجيلِ الأَخلاقية، ومع ذلك يَأتي الفادي المفترِي ويَتَغَنّى بجمالِ
تلك التوجيهات، ويَتَناسى أَنَّ قومَه الصليبيّين هم الذين خالَفوها ونَقَضوها!!.
إِنَّهُ خَبيثُ ماكر، يُريدُ أَنْ يَكونَ المسلمونَ أَغبياءَ بُلَهاء، في تعامُلِهم مع
النصارى الصليبيين، فقومُه يَعْتَدونَ على المسلمين، ويحتلّون بلادَهم، ويَنْهَبون خيراتِهم، ويَسفكون دماءَهم، وهو يَدْعو المسلمين المعتدى عليهم إِلى عدمِ مواجهتِهم وكرهِهم، وعليهم أَنْ يُحِبّوا أَعداءَهم، ويُبارِكوا لاعِنيهم، ويُحْسِنوا إِلى مُبْغِضيهم، ويَشكروا الذين يحتلونَ بلادَهم ويَطردونَهم منها! هكذا يَجبُ أَنْ يفعلَ المسلمون، إِنْ أَرادوا أَنْ يكونوا حَضاريّين متقدمين، دعاةَ سَلامِ وأَمان!!.
من هذا المنطلقِ خَطَّأَ الفادي المفترِي القرآنَ، لأَنه يُجيزُ للمسلمينَ
المعتدى عليهم أَنْ يَرُدّوا على العدوانِ بالمثْل، وأَنْ يوقِفوا المعْتَدين، وأَنْ
يَنْتَصِفوا منهم..
ولا يوجَدُ دينٌ أَو مبدأ - حتى الديانة النصرانية - يَطلبُ من
أَتْباعِه المعتدى عليهم مُقابلةَ المعتدينَ بالمحبةِ والأَحضانِ والورود والرَّياحين،
ويأمُرُهم بالتنازلِ لهؤلاءِ المعْتَدين عن كُلِّ شيء.
فمواجهةُ المعْتَدين والرَّدُّ على عُدْوانِهم فِطْرَةٌ في النفسِ الإِنسانية، لا يتخلّى عنها إِلّا مَنْ كانَ ناقصَ الإِنسانية!!.
ولذلك لا يُلامُ القرآنُ إِذا أَجازَ للمسلمين رَدَّ العُدْوانِ عليهم، ولا يُعْتَبَرُ
هذا مأْخَذاً يُؤْخَذُ عليه.(1/216)
وعَبَّرَ القرآنُ عن رَدِّ - العدوانِ بالعدوان، وذلك في قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
وهذا يُسَمّى " مشاكلةً "، وهي الاتفاقُ في اللفظِ مع الاختلافِ في المعنى! فاعتداءُ المعْتَدين مَذْموم، لأَنَهُ يَقومُ على البغيِ والظلمِ، واعتداءُ المسلمين على المعتدين محمودٌ ممدوح، لأَنه يقومُ على مواجهةِ العُدوانِ والقضاءِ عليه!.
***
حول إباحة تعدد الزوجات
أَباحَ القرآنُ تَعَدُّدَ الزوجاتِ في قولِه تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) .
واعترضَ الفادي على هذه الرخصة، وهاجَمَ إِباحةَ القرآنِ لها.
قال: " ونحنُ نسأَلُ: هل يُبيحُ دينٌ من عندِ الله تَعَدّدَ الزوجات، بخلافِ شريعةِ الله، الذي في البدءِ خَلَقَ الإِنسانَ، ذَكَراً وأُنْثى، وجعلَهما جَسَداً واحداً؟ " (1) (2) .
وهو في هذا الكلامِ القبيحِ يَنفي أَنْ يكونَ الإِسلامُ ديناً من عندِ الله،
ويَنْفي أَنْ يكونَ القرآنُ الذي أَباحَ التعددَ كلامَ الله، ويَعتبرُ التعدُّدَ مخالِفاً
لسنةِ الله، في أَنْ يكونَ للرجلِ امرأةٌ واحدة! فاللهُ خَلَقَ لآدمَ أُنثى واحدةً هي
حواء! فلماذا الزوجتان والثلاث والأربع؟!.
واعتراضُه مجردُ كلامٍ تافِه لا وَزْنَ له.
وليسَ في إِباحةِ تَعَدُّدِ الزوجاتِ في القرآنِ ما يُخالفُ الفطرهً أَو يتصادَمُ مع العقل والمنطق، وِإذا جازَ أَنْ يكونَ للرجلِ زوجةٌ واحدة، جازَ أَنْ يكونَ له زوجتان أَو ثلاثٌ أَو أَربع، وهناك حالاتٌ خاصةٌ قد يَمُرُّ بها الرجل، أَو تمرُّ بها المرأةُ، أَو يمرُّ بها
__________
(1) التعدد موجود في العهد القديم التي يؤمن بها هذا الكذوب، ولم تحرم في النصرانية إلا بقرارات من رجال الكنيسة، ولا يوجد نصٌّ واحد في النصرانية يحرم تعدد الزوجات.
(2) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
125- تحليل الشهوات
1 - إن القرآن أباح للمسلمين أكثر من زوجة.
2 - إن الله فى الجنة سيرزق المؤمنين بنساء من الحور العين. وليست الجنة مكاناً للشهوات الحسية، ولا يبيح دين من عند الله تعدد الزوجات.
الرد على الشبهة:
إن هذه الشبهة مكونة من جزأين:
الجزء الأول: تعدد الزوجات،
والجزء الثانى: إباحة الشهوات الحسية فى الجنة.
والرد على الجزء الأول هو:
إن إبراهيم - عليه السلام - كان متزوجاً من سارة وهاجر وقطورة. وهو أب لليهود والنصارى والمسلمين. وأيضاً كانت له سرارى كثيرة لقوله: " وأما بنو السرارى اللواتى كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقاً إلى أرض المشرق وهو بعد حى " [تك 25: 6] وموسى كان متزوجاً من مديانية وحبشية [عدد 12: 1] ويعقوب - عليه السلام - كان متزوجاً من حرتين وأمنين وهما ليئة وراحيل وزلفة وبلهة [تك 29 وما بعده] وكان لداود نساء هن: أخينوعم اليزرعبلية - أبيجايل - معكة - حجيث - أبيطال - عجلة. الجميع ستة عدا بثشبع امرأة أورياالحثى التى أنجب منها سليمان - عليه السلام -[صموئيل الثانى 3: 1 - 5] وكان لسليمان " سبع مائة من النساء السيدات، وثلاث مائة من السرارى " [الملوك الأول 11: 3] .
وفى الإنجيل أنه كان للمسيح أربع إخوة هم: يعقوب وموسِى ويهوذا وسمعان [مرقس 6: 3] واتفق النصارى على أن مريم أتت به بغير زرع بشر. وإذ هذا حاله. فهل هؤلاء الأربعة على الحقيقة إخوة أم على المجاز؟ اختلفوا. لأن متى قال عن يوسف النجار: " ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر " [مز 1: 24] فيكون قد عرفها بعد ولادته. وإن منهم لفريقاً يقولون: " إنها ظلت عذراء إلى أن ماتت، وإن الأربعة أولاد ليوسف عن زوجة سابقة له على مريم ". وعلى أية حال فإن غرضنا وهو إثبات تعدد الزوجات بإخوة المسيح الأربعة. وفى تفاسير الإنجيل أنه كان له أختان أيضاً هما أستير وثامار؛ يكون ملزماً لهم بإثبات التعدد.
والرد على الجزء الثانى هو:
إن التوراة تصرح بالبعث الجسدى والروحى معاً. فيكون النعيم حسيًّا، والعذاب حسيًّا. والإنجيل يصرح بالبعث الجسدى والروحى معاً. ولكن بُولُوس صرح بالبعث الروحى لغرض اللغو فى حقيقة ملكوت السماوات. ولسنا ههنا بصدد مناقشته. وإنما نحن ههنا بصدد إثبات البعث الجسدى والروحى. ففى إنجيل مرمقس يقول المسيح: " وإن أعثرتك يدك فاقطعها، خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن يكون لك يدان وتمضى إلى جهنم. إلى النار التى لا تطفأ. حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ.. إلخ " [مر 9: 43 - 44] وفى إنجيل متى " وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائه، ولا يلقى جسدك كله فى جهنم " [متى 5: 30] .
وفى سفر إشعياء عن المُسرّات فى الجنة: " لم تر عينا إنسان ولم تسمع أذناه ولم يدرك قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه " [إش 64: 4] واستدل به بولس فى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس [2: 9] ، وفى سفر أيوب: " أعلم أن إلهى حى، وأنى سأقوم فى اليوم الأخير بجسدى وسأرى بعينى الله مخلّصى " [أى 19: 25 - 27] وفى ترجمة البروتستانت: " وبدون جسدى ".
وفى سفر إشعياء عن عذاب جهنم: " يجلس خدمى على مائدتى فى بيتى، ويتلذذون بابتهاج مع حبور ومع صوت الأعواد والأراغن ولا أدعهم يحتاجون شيئاً ما، أما أنتم أعدائى فتطرحون خارجاً عنى حيث تموتون فى الشقاء، وكل خادم لى يمتهنكم " [إش 60: 13] . اهـ (شبهات المشككين) .(1/217)
المجتمعُ الإِسلامي، تجعلُ تَعَدُّدَ الزوجاتِ ضرورةً لا بُدَّ منها!.
ثم إِنَّ تَعَددَ الزوجاتِ رخصةٌ لمن يَرْغَب، وليسَ واجبا على كل مسلم!
ومعظمُ الرجالِ المسلمين لا يُعَدّدونَ زوجاتِهم..
وهذه الرخصةُ مباحةٌ بشرطِ العدلِ بين الزوجات، فإِنْ لم يَعْدِل الرجُل كان آثِماً مُعَذَّباً.
وبما أَنَّ اللهَ أَباحَ التعدُّدَ، ونَصَّ على ذلك في القرآنِ، فهو الصحيحُ
والصواب، وتَتَحَقَّقُ فيه المصلحةُ والحكمة، لأَنَّ اللهَ حكيمٌ عليمٌ سبحانه، لا خَطَأَ في أَحكامِه وتَشريعاتِه!.
وقومُ الفادي الغربيّون الذينَ يُحاربونَ تَعَدُّدَ الزوجاتِ المشروعَ الطاهرَ
النظيف، لا يَكْتَفي الرجلُ منهم بواحدة، كما ادَّعى الفادي أَنها سنةُ الله، وإنما يَذهبُ إِلى العشيقات، وُيمارسُ تَعَدُّدَ العشيقاتِ بالحَرام، وليس لهنَّ عددٌ
مُعَيّن، وتُعَدّدُ المرأةُ عندهم عاشِقيها أَيضاً، ومن النادرِ جداً عندَهم أَنْ تَجدَ
رجلاً غَيْرَ زانٍ، أَو أَنْ تَجدَ امرأةً غيرَ زانية، فالعفةُ وحفظُ الفرج عن الزنى
نقصٌ وعيبٌ وذَمّ عندهم!!.
أَبَعْدَ هذه الإِباحيةِ الجنسيةِ عند الغربيين، قومِ الفادي المفترِي، يأَتي
هؤلاء الملَوَّثون المدَنَّسون، الغارِقون في الرذيلةِ والزنى إِلى آذانِهم، يَعْتَرِضون
على الإِسلامِ الذي أَباحَ تَعَددَ الزوجات!!.
ويَعترضُ الفادي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) .
قالَ في اعتراضه بوقاحة: " كيفَ يُبيحُ كتابٌ من عندِ اللهِ لرسولٍ من
عندِ الله، أَنْ يتزوَّجَ بمنْ ملكَتْ يَمينُه من الأَسرى، وبأيةِ امرأةٍ تَهواهُ فتهبُه(1/218)
نَفْسَها، إِنْ وَقَعَ هو في هواها؟!.. ".
ما حكمةُ الزواجِ بالأَسيراتِ اللّواتي أَصبحنَ ملكَ اليمين؟ "
الإِمامُ مخيَّرٌ في الكافرينَ المقاتلينَ اللذين يَقَعون أَسْرى بأيدِي
المسلمين، فهو إِمّا أَنْ يُطلقَ سَراحَ بعضِهم مَنّاً بدونِ مُقابل، وإِمّا أَنْ يُطلقَ
سراحَ آخَرينَ بالفِداء، مقابلَ مبلغٍ من المال، وإِمّا أَنْ يسترق آخَرين، ويجعلَهم أَرقّاءَ عَبيداً للمسلمين لأَنهم حارَبوهم.
وهو يَختارُ من هذه الخياراتِ ما يُحققُ مصلحةَ المسلمين.
والذينَ يَتَّخِذُ القرارَ باسترقاقِهم يُوَزَّعونَ على الرجالِ المجاهِدين،
ليكونوا عَبيداً عندهم، يُؤَمِّنونَ لهم تكاليفَ حياتِهم مقابلَ خدمتِهم لهم..
ويُرَغِّبُ الإِسلامُ المسلمين في إِطلاقِ سَراحِهم وتَحريرِهم لوجْهِ الله، وأَوجبَ
على مَنْ وَجَبَتْ عليه بعضُ الكَفّارات تَحريرَ هؤلاءِ العَبيد، كما في كَفَّارةِ القَتْلِ والظهارِ واليَمين.
وإذا كانت الأَسيرةُ المسترَقَّةُ امرأةً، فإِنها تَكونُ مِلْكاً لسيِّدها، وتُسَمّى
" مِلْكَ اليَمين "، ولسيدِها أَنْ يُعاشِرَها، كما أَنَّ له أَنْ يتزوَّجَها، أَو يزوِّجَها لغيرِه، فإذا أَنجبَتْ منه وَلَداً وَجَبَ عليه عتقُها وتَحريرُها.
وقد رَتَّبَ الإِسلامُ نظامَ الرِّق والعتقِ بشروطٍ وقواعدَ وضوابط، في الوقتِ الذي كانَ العالَمُ القديمُ فيه يمارسُ ضدَّ العبيدِ أَشَدَّ صورِ الظلمِ والعُدْوان!!.
ولا يُلامُ الإِسلامُ عندما أَجازَ للمسلمِ معاشرةَ الأَمَةِ أَو الزواجَ منها،
لأَنها تَحتاجُ إِلى مَنْ يُؤْويها، ويتكفَّلُ بحاجاتِها، فهي ليس لها أَهل، فمن أَيْنَ
ستؤَمِّنُ حاجاتِها؟
هل سَتُتْرَكُ الإِماءُ والجواري في الشَّوارع، يُتاجِرْنَ بأَجسادِهنَّ
مقابلَ تأمينِ حاجاتِهنّ؟!!
ويَنشُرْنَ الفَسادَ والرذيلةَ والفاحشةَ بين المسلمين؟
الحَلُّ أَنْ يتكفَّلَ رجلٌ بكلِّ مجموعةٍ منهن، ويَبقى المجتمعُ الإِسلاميُّ مُحافِظاً على طهارتِه وعفَّتِه!.(1/219)
وقد أَباحَ اللهُ لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يتزوَّجَ مَنْ وَهَبَتْ نفسَها له، وجعلَ هذا الحكْمَ خاصّاً به، وليس عامَّاً لجميع المؤمنين، فقالَ لَه: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
وليس الأَمْرُ أَمْرَ عِشْقٍ وَهَوى كما زَعَمَ المفْتَري، فلا تهوى امرأةٌ مسلمةٌ
رجلاً أَجنبيّاً، ولا تعشَقُه، حتى لو كانَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والرسولُ - عليه السلام - عنوانُ العفَّةِ والطهر، ولا يَقَعُ في هوى امرأةٍ أَجنبية! ولذلك كانَ الفادي مُفترياً مُتوقحاً عندما قال: " يتزوجُ بأيةِ امرأةٍ تَهواهُ فتهبُه نَفْسَها، إِنْ وقعَ هو في هواها!! ".
وتتحدَّثُ الآية ُ عن حالةٍ خاصة، لظروفٍ خاصة، وحكْمٍ خاصٍّ
لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -..
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن سهل بنِ سعدٍ الساعديّ - رضي الله عنه -
قال: إِنّي لفي القومِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَتْه امرأةٌ، فقالَتْ: يا رسولَ الله إِنّي قد وَهَبْتُ نفسي لك، فَرَ فِيَّ رَايَكَ! فقامَتْ قِياماً طويلاً، فقالَ رَجل: يا رسولَ الله! زَوّجْنِيها..
فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل عندَك من شيء تصدُقُها
إِيّاه؟ " قال: لا.
قال: " التمس ولو خاتَماً من حَديد! " فالْتَمَسَ فلم يَجِدْ شيئاً،
فقالَ رسولُ الله - عليه السلام -: " هل مَعك من القرآنِ شيء؟ " قالْ معي سورةُ كذا وسورةُ كذا..
قال: " زَوَّجْتُكَها بما مَعك من القرآن ".
فرغمَ أَنَّ اللهَ أَباحَ لرسولِه - عليه السلام - أَنْ يتزوَّجَ مَنْ وَهَبَتْ نفسَها له، إِلَّا أَنه لم يَتَزَوَّجْها، وإِنما زَوجَها لأَحَدِ أَصحابِه.
ولم تتكررْ تلك الحادثةُ معه.
وإِباحةُ الزواجِ للرسولِ - عليه السلام - عن طريقِ الهبةِ خاصٌّ به، كما أُبيحَ له الزواجُ بأَكثرَ من أَربعِ نساء، وكان زَواجاً بدونِ وَليٍّ ولا مَهْر، وهذا لا يَجوزُ لغيرِه، مع أَنه زواجٌ لم يَتَحَقَّقْ!.
ولهذا قالَ قَتادة: ليسَ لامرأةٍ تَهَبُ نفسَها لرجُلٍ بغيرِ وَليٍّ ولا مَهْر، إلّا
للنبيّ - عليه السلام -، لقوله: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
وقالَ ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: لم يكنْ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ وَهَبَتْ نَفْسَها له.(1/220)
أَيْ أَنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَقْبَلْ تلك المرأةَ التي وَهَبَتْ نفسَها له، مع أَنَّ الأَمر كانَ مُباحاً له ومَخْصوصاً به، لأَنه مردودٌ إِلى مشيئتِه: (إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا) .
واعترضَ الفادي المفترِي على حديثِ القرآنِ عن الحورِ العين في الجنة،
التي يَتَنعَّمُ بها المؤمنون، والتي وَرَدَ الحديثُ عنها في قولِه تعالى: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) .
وهذا في رأيه خَطَأ، لأَنَّ المؤمنين لا يَتزَوَّجونَ فيها!! ولذلك.
قال: " وهل جَنَةُ اللهِ مكانٌ لِلَّهوِ مع الحورِ العين؟!
قال المسيح: (لأَنهم في القيامةِ لا يُزَوَّجونَ ولا يَتَزوَّجون، بل يَكونونَ كملائكةِ اللهِ في السماء ".
واعتراضُ الفادي مردود، لأَنَّ اللهَ أَخْبَرَنا في القرآن عن استمتاع
المؤمنين في الجنةِ بالحورِ العين، وهو صادِقٌ فيما قال، ونحنُ نؤمنُ بكلِّ
ما وردَ في القرآن! وما نَسَبَهُ إِلى المسيح - عليه السلام - من أَنَّ المؤمنينَ في الجنة يَكونون كالملائكة، لا يَستمتعونَ بالنِّساءِ مشكوكٌ فيه (1) ، لأَنَّ الرهبانَ حَرَّفوا الأَناجيل " وأَضافوا إِلى كلامِ اللهِ فيها الكثيرَ من كلامِهم ومزاعمِهم وافتراءاتِهم!!.
والآياتُ التي تَحَدثَتْ عن استمتاعِ المؤمنين بالحورِ العين والنساءِ
عديدة، منها قولُه تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) .
ومنها قولُه تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) .
ومنها قولُه تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) .
__________
(1) بل هو باطل مردود لتعارضه مع صريح القرآن، مما يجعلنا نقطع بكذبه وعدم صحته.(1/221)
وما المانعُ من أَنْ يَلهوَ المؤمنون مع أَزواجِهم والحورِ العين في الجنة؟!
إِنَّ الجنةَ دارُ جزاءٍ ونعيم، ومتعةٍ وسَعادة.
قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) .(1/222)
الفصل الرابع نقض المطاعن اللاهوتية(1/223)
التوحيد والتثليث والأقانيم
اعترضَ الفادي على الآياتِ التي تُبطلُ التثليث، وتُكَفِّرُ النَّصارى القائلين
بأَنَّ اللهَ ثالثُ ثَلاثة.
والآياتُ التي ذَكَرَها هى قولُه تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) .
وقولُه تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) .
وقولُه تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) .
تَنهى الآيةُ الأُولى النَّصارى عن الغُلُوِّ في دينِهم، وعن المبالغةِ في النظرِ
إِلى عيسى - عليه السلام -، وتَدْعوهُم إِلى عَدَمِ تَأليهه، وعدمِ إِشراكِه مع الله، فإِنْ قالوا: الآلهةُ ثَلاثَة، كانوا كافِرين، وتُخبرُهم عن حقيقةِ عيسى - عليه السلام -، فهو رسولُ الله، وكلمتُه أَلْقاها إِلى مريم، فَحَمَلَتْ به ووضَعَتْه، وهو روحٌ من عندِ الله، جَعَلَها في جَسَدِه، فصارَ عيسى الرسول البَشَرَ - عليه السلام.
وتُصرحُ الآيةُ الثانيةُ بكفْرِ النَّصارى الذين آمَنوا بالتَّثْليث، وقالوا: إِنَّ اللهَ(1/225)
ثالثُ ثلاثةِ آلِهة، هي: الله وعيسى وأمُّه مريم، أَو: اللهُ وعيسى وجبريل.
وتُخبرُ الآية ُ الثالثةُ عن السؤال الذي سيوجِّهُه اللهُ إِلى عيسى - عليه السلام - يومَ القيامة، حيث سيقول له: أَأَنْتَ قُلْتَ للناس: اتَّخذوني وأُمَيَ إِلهَيْنِ من دونِ الله؟
وسيتبرأُ عيسى - عليه السلام - ممن عَبَدوهُ وأَلَّهُوه.
وتَلتقي الآياتُ مع آياتٍ غيرها على تقريرِ وحدانيةِ الله، ونفيِ وُجودِ
شركاءَ معه، وكُفرِ النَّصارى القائلين بالتثليث أَو الثالوث!.
يَعترضُ الفادي على هذه الآيات، وينكرُ كونَ النصارى قائِلين بثلاثةِ
آلهة.
قال: " يَتَّضحُ من هذه الآياتِ أَنَّ مُحَمَّداً سمعَ من بعْضِ أَصحابِ البدعِ من النَّصارى أَنه يوجَدُ ثلاثةُ آلهة، هم: اللهُ ومريمُ وعيسى، فَرَدَّ على هذه
البدعة، وكَرَّرَ المرةَ بعدَ المرةِ أَنَّ اللهَ إِلهٌ واحد! ".
يعترفُ الفادي في هذه الفقرةِ بوجودِ فرقةٍ من النَّصارى يقولون: اللهُ ثالثُ
ثلاثة، هم: اللهُ، ومريمُ، وعيسى، ويَعتبرُ هذه الفرقةَ النصرانيةَ مبتدعَة ...
وقد ذَكَرَ القرآنُ ذلك وأَبْطَلَه وكَذَّبَ قائِليه، وهذا ما ظَهَرَ واضحاً صريحاً في
الآياتِ السابقة: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... ) ، (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ... ) ، و (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ) .
ويُصرحُ الفادي في عبارتِه بأَنَّ القرآنَ من تأليفِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليْس من عندِ الله، وذلك في قوله: "..
إن محمداً سمعَ من بعضِ أَصحابِ البدعِ من النَّصارى أَنه يوجَدُ ثلاثةُ آلهة..
فَرَدَّ على هذه البدعة "! فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي
سمعَ تلك البدعة بأُذُنَيْه، وهو الذي رَدَّ على تلك البدعة، وكَرَّرَ في القرآنِ
المرةَ بعد الأُخرى أَنَّ اللهَ إِلهٌ واحد! فالكلامُ كلامُه والرَّدُّ رَدُّه، والقرآنُ من
تأليفِه، وليس وحياً من عندِ الله مُنَزَّلاً عليه!!.
مع أَنَّ الآياتِ صريحةٌ في أَنَّ اللهَ هو الذي أَخْبَرَ عن كُفْرِ النَّصارى وتَثْليثهم.(1/226)
ولنقرأ هذه الآياتِ التي تتحدَّثُ عن نفسِ الموضوع.
قال الله - عز وجل -:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) .
وزَعَمَ الفادي أَنَّ الوحدانيةَ هي أَساسُ الدينِ النصراني، وأَنه لا يوجَدُ
نصرانى يَعْبُدُ ثلاثةَ آلهة، قال: " وكُلُّ مَنْ له إِلمامٌ بالتوراةِ والإِنجيلِ يَعرفُ أَنَّ
وحدانيةَ اللهِ هي أَساسُ الدينِ المسيحيّ..
فقد قالَت التوراةُ والإِنجيل: " الرَّبُّ إِلهنا رَبّ واحِد "التثنية: 6/ 4.
ومرقس: 29/12، ولم يَقُلْ مسيحيّ حقيقيّ قَطّ إِنَّ العذراءَ مريمَ إِله، مع كلِّ التقديرِ والمحبَّةِ لها ".
وهذه دعوى كبيرةٌ ادَّعاها الفادي، ونَرجو أَنْ تكونَ صحيحةً صادقة،
لكنَ واقِعَهم لا يُصَدِّقُها ولا يتوافَقُ معها.
ويَشرحُ الفادي الثالوثَ، ويجعلُه بمعنى التوحيد، ويَزعمُ أَنَّ القرآنَ اتفقَ
مع الإِنجيلِ على القولِ به!!.
قال: " المسيحيّون لا يَعبدونَ ثلاثةَ آلِهة، بلْ إِلهاً
واحداً في وحدانيةٍ جامعةٍ: هو الآبُ والابنُ والرّوحُْ القُدُس، أَو بعبارةِ
القرآن: الله وكلمتُه وروحُه!! والكلُّ في ذاتٍ واحدة ".
النصارى حسبَ زعمِ الفادي يَعْبُدونَ إِلهاً واحداً في وحدانيةٍ جامِعَة،
تتعدَّدُ فيها الأَقانيمُ الثلاثة: الآبُ والابنُ والروحُ القُدُس!.(1/227)
علماً أَنَّ الأَقانيمَ الثلاثةَ هي ثلاثُ ذواتٍ مُنفصلَة، فالآبُ عندهم هو الله،
والابنُ عندَهم هو عيسى، والروحُ القُدُسُ هو جبريلُ عليه السلام -، فكيف صارَتْ هذه الذواتُ والشخصياتُ المتباينةُ إِلهاً واحداً جامعاً؟!.
وزَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ القرآنَ يقولُ بالثالوث المقَدَّس مثلُ الإِنجيل،
والثالوثُ القرآنيُّ هو: اللهُ وكلمتُه وروحُه!!.
وأَينَ وردَتْ هذه الكلماتُ الثلاثُ بهذا اللفظِ في القرآن؟
إِنّ الفادي كاذبٌ مُفْتَرٍ مُدَّع.
قالَ اللهُ في القرآن: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) .
لا تتكلمُ الآيةُ عن ثلاثةِ أَقانيم، وإِنما تُبطلُ الأَقانيمَ الثلاثة، وتَذْكُرُ
حقيقةَ عيسى ابنِ مريمَ - عليه السلام -.
وتَصِفُه بثلاثِ صِفات:
الأُولى: أَنَّهُ رسولُ الله: جعلَه اللهُ نبيّاً رَسولاً، وأَرسلَه إِلى بني إِسرائيل.
الثانية: أَنَّهُ كلمةُ الله: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) .
ومعنى كونِ عيسى - عليه السلام - كلمةَ اللهِ: أَنَّ اللهَ خَلَقَه بكلمةِ " كُنْ " الكونيةِ التكوينيّة، التي يَخْلُقُ بها سبحانَه جميعَ المخلوقين.
وهي الكلمةُ التي خَلَقَ بها أَبا البشر آدم - عليه السلام -،
وقد أَشارَ لها في قولِه تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
أَيْ: أَنَّ اللهَ خَلَقَ عيسى بكلمتِه " كُنْ "، فكانَ كما أَرادَ الله، كما خَلَقَ آدمَ بكلمتِه " كُنْ "، فكانَ كما أَرادَ الله!.
أَلْقى اللهُ العظيمُ كلمتَهُ " كُنْ " إِلى مريم، فكانت المخلوقَ عيسى
الرسولَ - عليه السلام -، حيثُ تَخَلَّقَ عيسى في رحمِها، ولما نفخَ اللهُ فيه الروح، وضعَتْه مولوداً بشراً.
وكلُّ المخلوقاتِ يخلُقُها اللهُ العظيمُ بكلمتِه " كن "، التي خَلَقَ بها
عيسى - عليه السلام -، وجاءَ هذا صَريحاً في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) .(1/228)
الثالثة: أَنَّهُ روحٌ من عند الله: (وَرُوحٌ منهُ) .
أَيْ: أَنَّ اللهَ خَلَقَ روحَ عيسى - عليه السلام -، كما خَلَقَ روحَ أَيِّ إِنسان، سواءٌ كانَ نبيّاً أَو إِنساناً عاديّاً، وأَمَرَ جبريلَ الروحَ القُدُسَ أَنْ يحملَ روحَ عيسى المخلوقة، وأَنْ ينفُخَها في مريمَ العذراءِ البتولِ - عليها السلام -، ففعل، وحملَتْ بعيسى بأَمْرِ الله (1) .
و" مِنْ " في قوله: (وَرُوحٌ منْهُ) بيانيَّة، وليستْ تبعيضيَّة، تُبَيِّنُ أَنَّ روحَ
عيسى التي نُفخَتْ في فَرْجِ مريمَ إِنما هي من عندِ الله.
وقد حَرَّفَ الفادي المفترِي صفاتِ عيسى - عليه السلام - الثلاثةَ: " رسولُ اللهِ وكلمتُه أَلْقاها إِلى مريم وروحٌ منه " لتكونَ أَقانيمَ ثلاثةً يؤمنُ بها النصارى: " اللهُ وكلمتُه وروحُه "، وكَذَبَ المفترِي في قولِه: " والكلُّ في ذاتٍ واحدة ".
فالأَقانيمُ الثلاثةُ: الآبُ والابنُ والروحُ القُدُسُ ثَلاثُ شخصياتٍ منفصلة، وليستْ ذاتاً واحدة.
أَما الصفاتُ الثلاثةُ المذكورةُ في القرآن: " عيسى ابنُ مريم: رسولُ الله،
وكلمتُه أَلْقاها إِلى مريمَ، وروحٌ منه " فهي ثلاثُ صفاتٍ لِذاتِ المسيحِ
وشخصِه - عليه السلام.
فالمسيحُ رسولُ الله، وهو نفسُه كلمةُ الله، خُلِقَ بكلمةِ " كُنْ "
الإِلهية، وهو نفسُه روحٌ من الله، الروحُ التي في بَدَنِه من عندِ الله.
وانتقلَ الفادي المفترِي إِلى افتراءٍ آخَرَ يتعلَّقُ بالثالوث، زَعَمَ فيه التقاءَ
القرآنِ مع الإِنجيلِ في القولِ بالثالوث!! قال: " وقد اتفقَ القرآنُ مع الكتابِ
المقَدَّسِ في إِسنادِ الفعلِ وضميرِ المتكلمِ في صيغةِ الجَمْعِ إِلى الله..
ولم يَرِدْ في الكتابِ المقَدَّسِ ولا في القرآنِ كلامُ مخلوقٍ كائناً مَنْ كان تَكَلَّمَ عن نفسِه بصيغةِ الجَمْع، مما يدلُّ على وحدةِ الجوهرِ مع تَعَدُّدِ الأَقانيمِ في الذاتِ
العلية.
فمثلاً وَردَ في سورةِ البقرة: (نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) ، بصيغةِ الجمع، وَوَرَدَ في سورةِ الأَعراف: (اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) ، بصيغةِ المفرد..
فتُشيرُ الصيغةُ الأُولى إِلى جمعِ الأَقانيم، وتُشيرُ الصيغةُ الثانيةُ إِلى توحيدِ الذات.. ".
__________
(1) قال الثعلبى:
سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجهاً وأكملهم أدباً وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعاً بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني [فيأبى] فقال له ذات يوم: مالك لا تؤمن؟ قال: لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟
قال: قوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، [فغمَّ] قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل: قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال: يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا [الحدث] يسألني في مجلسك، وإنه لم يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليَّ أن لا أُطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها إن شاء الله، فدخل بيتاً مظلماً، وأغلق عليه بابه [وانشغل] في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] فصاح بأعلى صوته: افتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال: إن كان قوله (وروح منه) توجب أنَّ عيسى بعض منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضاً منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب " النظائر في القرآن " وهو كتاب لا يوازيه في بابه كتاب. اهـ (الكشف والبيان. 3 / 419: 420)(1/229)
يَزعمُ المفترِي الجاهلُ أَنَّ إِسنادَ ضميرِ الجمعِ إِلى الله الأَحَدِ في القرآنِ
دليلٌ على " الثالوثِ المقَدَّسِ "، وعلى تَعَدُّدِ الأَقانيم في الذاتِ العليةِ الواحدةِ
وِحدَةَ جَوْهَر! وما دَرى الجاهلُ أن هذه النونَ في (نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) لا تُسَمّى
نونَ الجمع، وإِنما تُسمى " نونَ العَظَمَة "، فاللهُ المتكلمُ واحدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَد، وعندما يتكلمُ بضميرِ " نحنُ " - المنفصلِ أَو المتصلِ أَو المستتر - فإِنما يُريدُ أَنْ يُعَظِّمَ نَفْسَه..
وليسَ في الأَمْرِ تَعَدُّدُ أَقانيم أَو شخصياتٍ أَو جواهر أَو إِرادات..
إِنما هو إِلهٌ واحدٌ سبحانه!!.
ويَزعمُ المفترِي أَنَّهُ لم يَرِدْ في القرآنِ كلامُ مخلوقٍ كائناً مَنْ كانَ تكلَّمَ
عن نفسِه بصيغةِ الجمع، وهذا زعمٌ باطلٌ منقوض، ويَكفي في تكذيبِه تذكرُ
قولِ اللهِ وَجضَّ: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) .
لما حَرَّضَ الملأُ من قومِ فرعونَ فرعونَ على محاربةِ موسى، والقضاءِ عليه
هو وأَتْباعه، رَدَّ فرعونُ عليهم بضميرِ الجمع، مع أَنه شخصٌ واحد، وأَوردَ في كلامِه أَربعَ كلماتٍ بصيغةِ الجمع: " سَنُقَتِّلُ "، و " نَسْتَحْيي "، و " إِنّا "، و " قاهرون ".
فكيفَ يَدَّعي الفادي المفترِي أَنه لم يتكلمْ فَرْدٌ مخلوق بصيغةِ الجمعِ في
القرآن؟!.
وحتى يُقْنِعَنا بأَنَّ التثليثَ توحيدٌ لله، وأَنَّ القرآنَ قالَ بالتثليث، قَدَّمَ كلامَ
القرآنِ عن أسماءِ اللهِ الحسنى دليلاً على التثليث، وخَصَّ اسْمَ " الوَدود "
بالذّكْر..
قال: " ومن أَسماءِ الله الحسنى أَنه الوَدود، لقوله - عز وجل -: (وَهُوَ اَلغَفُورُ اَلْوَدُودُ) فالوُدُّ صفةٌ من صفاتِه، ومن معرفتِنا أَنَّ هذه الصفةَ أَزلية،
نستدلُّ أَنَّ هناكَ تَعَدُّد أَقانيم في الوحدةِ الإِلهية، لتَبادُلِ الوُدِّ بينَها قبلَ أَن يُخْلَقَ شيء..
وإلَّا ففي الأَزَلِ اللَّانهائي كانت صفةُ الوُدِّ عاطلةً عن العمل، وابتدأَتْ
تَعمل، فبدأَ اللهُ " يَوَدُّ "، بعدَ أَنْ خَلَقَ الملائكةَ والناس!.
وحاشَ لِلّه أَنْ يكونَ(1/230)
قابلاً للتَّغَيُّر! ".
الوَدودُ من أَسماءِ الله، والوُدُّ من صفاتِ الله، وتَقَومُ هذه الصفةُ على
المحَبَّة، فاللهُ وَدود يُحِبُّ عبادَهُ، ويُحسنُ إِليهم ويُنعمُ عليهم.
وعلى هذا تكونُ " وَدود " صفةً مُشَبَّهَة بمعنى اسمِ الفاعل، فهي بمعنى " وادّ "، والوادُّ هو المحِبُّ المنعمُ المحسِنُ.
ويمكنُ أَنْ تَكونَ " ودود " بمعنى اسْمِ المفعول " مَودود ".
أَي: هو سبحانَه المودودُ المحْبوب، يَوَدُّهُ عِبادُه ويُحبونَه، ويَدْعونَه ويَتَقَرَّبونَ إِليه.
ولا يَلزمُ من كونِ اللهِ وَدوداً تَعَدُّدُ الأَقانيم، لأَنَّ الوُدَّ صفةٌ قائمةٌ
بالموصوف - عز وجل -، لا تَنفصلُ عنه، ولا تتحوَّلُ إِلى " أُقنومٍ " آخَرَ.
غيرِ الله!.
وهكذا باقي صِفاتِ الله، كالعِلْمِ والرحمةِ والسمعِ والبَصَرِ، فهي صفات
متعدّدَةٌ لموصوفٍ واحد، فاللهُ عليم، وهو نفسُه رَحيم، وهو نفسُه سميع بَصير وَدود.
ويُغالطُ الفادي في زَعْمِ الشراكةِ بينَ المؤمنين وربّهم، عندَ إِيمانِهم
بصفاتِ الله، تلك الشراكةُ التي تَقودُ للإِيمانِ بالأَقانيم الثلاثة.
قال: " وهل نَستطيعُ أَنْ نُوَفّقَ بينَ الإِيمانِ بصفاتِ اللهِ الأَزليةِ كالسَّمعِ والتكلُّم، دونَ الإِيمانِ بثلاثةِ أَقانيمَ في إِلهٍ واحد؟
ولا نَستطيعُ أَنْ نملأَ الفجوة الهائلةَ بين علاقةِ الإِنسانِ باللهِ على غيرِ قاعدةِ الأُبوة والبُنُوَّة، وحياةِ الشركةِ المعلنةِ في عقيدةِ الثالوثِ القويمة "!!.
ولا أَدري كيفَ يَقودُ الإِيمانُ بأَسماءِ الله وصفاتِه إِلى الإِيمانِ بالأَقانيمِ
الثلاثة، إِنَّ اللهَ الواحدَ الأَحَدَ الصمد، هو العليمُ الحكيمُ الحليمُ السميعُ الحيّ القَيوم ...
فهو سبحانَه مُتَّصِفٌ بهذه الصفاتِ العظيمةِ الجليلة، ولهذهِ الصفاتِ
الجليلةِ آثارٌ عملية، ومظاهِرُ إِيجابية، تتعلَّقُ بحياةِ البشرية، وهذه المظاهِرُ
الإِيجابيةُ لا تَعني الأَقانيمَ الثلاثةَ التي يُؤْمِنُ بها النصارى، لأَنَّهُ فَرْقٌ بين الآثارِ(1/231)
العمليةِ لصفاتِ الله، وبين الزعمِ بوجودِ ثلاثةِ كيانات، انبثقَ كلُّ كيانٍ عن
الذي قَبْلَه، وكأَننا أَمامَ شخصياتٍ ثلاثة: الآبُ والابنُ والروحُ القُدُس!!.
ويَدْعو الفادي الجاهلُ إِلى مَلْءِ الفجوةِ الهائلةِ بين اللهِ والإِنسانِ بالتثليثِ
والشراكة: " ولا نَستطيعُ أَنْ نملَأَ الفجوةَ الهائلةَ بين علاقةِ الإِنسانِ بالله على
غيرِ قاعدةِ الأُبُوةِ والبنوةِ، وحياةِ الشركةِ المعلنةِ في عقيدةِ الثالوث القويمة "!!.
وهذا هو أَساسُ الانحرافِ عند النصارى، الذي دَفَعَهم إِلى الإِيمانِ
بالأَقانيمِ الثلاثةِ والقولِ بالتثليث: إِنه ملءُ الفجوةِ بينَ اللهِ والإنسان، بحيثُ
أَدّى ذلك إِلى اتِّحادِ الخالقِ والمخلوق، وصارتْ حياةُ المخلوقِ انعكاساً
للخالق، ومَظْهَراً مادّياً عمليّاً له!.
وهذا هو ما تَمَيَّزَ به الإِسلام، حيثُ حَرَصَتْ نصوصُه على عدمِ مَلْءِ
الفجوةِ بين اللهِ والإِنسان، بل التأكيدُ المتواصلُ على الفصلِ الدقيقِ بين الخالقِ والمخلوق، والعابدِ والمعبود، ولذلك قامَت العقيدةُ الإِسلاميةُ على الإِيمانِ بحقيقتَيْن منفصلتَيْن: حقيقةِ الأُلوهية، وحقيقةِ العبودية..
فالرَّبُّ هو اللهُ وحْدَه، وما سواه ليسَ رَبّا ولا إِلهاً ولا مَعْبوداً، إِنما هو عبدٌ مخلوقٌ ضعيفٌ عاجز!!.
ووردَ هذا في آياتٍ عديدةٍ في القرآن، في مقدمتِها سورةُ الإِخلاص:
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) .
ولا يلزمُ من الفصلِ التامِّ بين الخالقِ والمخلوق، والعابدِ والمعبود،
واللهِ والإِنسان تعطيلُ صفاتِ الله، أَو السيرُ في الحياةِ بعيداً عن الله، فالمؤمنُ يستحضرُ دائما عظَمةَ الله، ويشعُرُ بمعيَّتِهِ، ويأنَسُ به، ويَعيشُ مظاهرَ صفاتِه الإيجابية، ويَرى آثارَها فيه وفيما حولَه، فيعيشُ بالله ولله وفي الله ومع الله ...
لكنْ مع استحضارِه الفرقَ البعيدَ بينَه وبينَ الله، ويَقينه بأَنَّ الله متفردٌ في ذاتِه
وصفاتِه واَفعالِه.
قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) .(1/232)
وبهذا نعرفُ جهلَ الفادي الجاهلِ وخَطَأَه عندما زَعَمَ أَنَّ عَدَمَ القولِ
بالثالوثِ معناهُ الإِيمانُ بالله بدونِ الأُنسِ الروحي به، وهذا إِيمانُ الشياطين.
قال: " إِنَّ الإِيمانَ بالتوحيدِ المجَرَّدِ بدونِ أُنسٍ روحي بالله هو إِيمانُ الشياطين
أَنْتَ تؤمنُ أَنَّ اللهَ واحِد؟ حَسَناً تفعل..
والشياطينُ يُؤْمنونَ ويَقْشَعِرّون! ".
إِننا نؤمنُ بالله، ونُوحِّدُ الله، ونعتقدُ أَنه متفرّدٌ في ذاتِه وصفاتِه وأَسمائِه
وأَفعالِه، ونُنكرُ الأَقانيمَ التي يؤمنُ بها النَّصارى، ولا نَجعلُ ذواتاً متولّدَةً عن
ذاتِه، ولا نجعل أَشخاصاً مُتَفَرّعينَ عن شخصه، ونؤمنُ أَنه سبحانَه خَلَقَ كُلَّ
المخلوقاتِ بكلمةِ " كُنْ " التكوينية.
- ونحنُ المسلمونَ أَكثرُ النّاسِ أُنْساً بالله، وسعادةً بذكْرِه، وملاحظةً للآثارِ العمليةِ لصفاتِه العلية، واسْتِحْضاراً لعظمتِه ورعايتِه وقيوميَّتِه سبحانه.
ويُجهدُ الفادي الجاهلُ نَفْسَه في إِقناعِنا بأَنَّ الثالوثَ يَعْني الوحدانية،
وأَنَّ التَّثْليثَ يَعْني الوحده، فيقول: " ومثل التثليثِ مثل العقلِ والفكرِ والقولِ، فهذه ثلاثَةُ أَشياءَ متميزةٌ غيرُ منفصلةٍ لشيء واحد؟
والنارُ والنورُ والحرارةُ ثلاثةُ أَشياءَ متميزةٌ غيرُ منفصلةٍ لشيء واحد! فهل نَستبعدُ وُجودَ ثلاثةِ أَقانيمَ متميزةٍ غيرِ منفصلةٍ في إِلهٍ واحد حسبَ إِعلانِ كتابِه المقَدّس؟ ".
إِنَّ الفادي الجاهلَ يُشَبِّهُ الأَقانيمَ الثلاثةَ: الآبَ والابنَ والروحَ القُدُس،
بالعقلِ والفكر والقول، ويُشَبِّهُها بالنار والنورِ والحرارة.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ هو التثليت والتميزُ، وعدمُ الانفصال، والتَّوَحُّد!.
يريدُ الجاهلُ أَنْ يُقْنِعَنا أَنَّ العقلَ والفكرَ والقول، وأَنَّ النارَ والنُّورَ
والحرارة، مِثْلُ اللهِ وعيسى وجبريل! صحيحٌ أَنَّ العقلَ والفكرَ والقولَ ثلاثُ
صفاتٍ لموصوفٍ واحد، وهو ما يقولُه الإِنسان بعد تفكير، حيثُ يفكِّرُ
الإِنسانُ، ثم يُعملُ عَقْلَه، ثم يَنطقُ بما فَكّرَ به، وكأَنَّ القولَ يَمُرُّ بثلاثِ
محطات: الفكرِ والعقلِ والفمِ.
لكنَّه شيءٌ واحد، هو القول!!.(1/233)
وكذلك النارُ والنورُ والحرارة، فهي نارٌ، لكنَّها موصوفةٌ بأَنها نورٌ نظراً
لإِضاءَتِها، وموصوفةٌ بالحرارةِ نَظَراً لحرارَتِها، فالنورُ والحرارةُ صفتانِ
لموصوفٍ واحدٍ، هو النار.
إِنَّ المثَلَيْن اللذَيْنِ أَوردَهما الفادي يُوَضّحانِ إِيمانَ المؤمنِ بصفاتِ الله،
كالعلمِ والحياةِ والسمعِ والبَصَر، فهي صفاتٌ لموصوفٍ واحدٍ هو اللهُ سبحانه، ولا يَلْزَمُ من تَعَدُّدِ الصفاتِ تَعَدُّدُ الذات، كما أَنها ليستْ صفاتٍ متميزة، لأَنَّ كُلَّ صفةٍ تَلْحَظُ معنىً من معاني الذات الإِلهية، فصفةُ العلمِ تَلْحَظُ هذا المعنى، وصفةُ السمعِ تَلْحَظُ هذا المعنى، وهكذا باقي الصفات.
ولا تَمَيُّزَ ولا انفصال بين هذه الصفات، وإِنما بينها تكامُلٌ وتَناسُق، لأَنها كُلَّها تَدُلُّ على ما يَتصفُ به اللهُ من صفاتِ الكمالِ والجلال.
ومَنْ قال: إِنَّ صِفَتَي النورِ والحرارةِ متميزَتان؟
إِنهما صِفَتانِ مُتكامِلَتان للنّارِ المشتعلة، لا يُمكنُ التمييزُ بينهما ولا التفريق، فالنُّورُ في النارِ مُتَداخِلٌ مع الحرارة، إِذْ كُلُّ جُزْءٍ من النّار حارٌّ مضيء، وتَجتمعُ فيه الإِضاءَةُ معَ الحرارة!.
أَما الأَقانيمُ الثلاثةُ التي يؤمنُ بها النصارى فإِنَّها ليستْ صفاتٍ لموصوفٍ
واحد، إِنما هي ثلاثَةُ كياناتٍ متميّزة منفصلَة، فالآبُ عندهم هو الله، والابنُ عندهم هو المسيحُ عيسى ابنُ مريم، والروحُ القُدُس عندهم هو جبريل، فهلْ هذه الكياناتُ الثلاثةُ مثلُ: النارِ والنورِ والحرارة، أَو مثلُ الفكرِ والعقلِ والقولِ؟
اللهم لا!!.
مَنْ هم الجاهلونَ إِذَنْ؟
هل هم المسلمون الذين يَقولون: اللهُ أَحَد، اللهُ الصَّمَد، لم يَلِدْ ولم يولَدْ ولم يَكُنْ له كُفُواً أَحَد؟
أَم هم النصارى الذين يقولون: الآبُ، والابنُ، والروحُ القُدُس.
ثلاثةُ أَقانيمَ متميزةٌ غيرُ منفصلةٍ عن الذات الواحدة؟
مع أَنها منفصلةٌ عن الذاتِ الواحدة!!.
وكَذَبَ المفترِي الفادي في اتِّهامِه للقرآنِ وتخطئتِه له، وصَدَقَ اللهُ القائلُ(1/234)
في القرآن: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) ..
وصَدق اللهُ في نصحِه للنصارى قائلاً: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ) .
***
الذنوب بين الاستغفار والتكفير والفداء
وَعَدَ اللهُ المؤمنين أَنْ يُكَفِّرَ عنهم الصغائرَ إِن اجْتَنَبوا الكبائر.
قال تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) .
وجاءَ في صفاتِ المؤمنين الفائزين قولُه تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) .
وأَثارت الآيتانِ اعتراضَ الفادي، واعتبرَهما من مبادئِ القرآنِ الخاطئة،
لأَنَّهما تَتَعارضانِ معَ مَبدأ " الفِداء " عند النَّصارى، وسَجَّلَ اعتراضَه وتخطئتَه
بقولِه: " ونحنُ نسأل: هل من المعقولِ أَنْ يَغفرَ اللهُ أَو القاضي لمذنبٍ ارتكبَ
السرقةَ لأَنه تجنَّبَ القتْلَ؟
يؤكّدُ الكتابُ المقَدَّسُ لنا أَنه لا غُفرانَ بغيرِ الفادي المسيح، الذي قالَ عنه القرآنُ: (آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) ، فالإِله القُدّوسُ العادلُ لا يَمنحُ الغفرانَ للخاطئ بدونِ كَفّارَة، ولا يَصفحُ عنه بدونِ فِداء!
إِنَّ الغفرانَ بغيرِ حساب استهتارٌ بصفاتِ اللهِ القُدّوسَةِ الكاملة، فالعَدْلُ
يَطلبُ قِصاصَ الخاطئ، والرحمةُ تَطلبُ العفْوَ عنه، وإِجابةُ أَحَدِ المطلَبَيْنِ تَعني
تَعطيلَ إِحدى الصفتَيْن! ".
لا يُصَدِّقُ الفادي المفترِي القرآنَ في وَعْدِه غفرانَ الصغائرِ باجتنابِ
الكبائر، مع أَنه وَعْدٌ قرآنيٌّ صريح، يَجزمُ به المؤمنُ ويَفرحُ له، لأَنه وَعْدُ اللهِ الذي لا يُخلفُ الميعاد.(1/235)
وهذا من رحمةِ اللهِ بالمؤمنين، فهو يَعلمُ أَنه لا بُدَّ للمؤمنِ أَنْ يَضعفَ
ويَزِلَّ ويُخطئَ ويُذْنِب، وهو غيرُ معصومٍ من الأَخطاءِ والذنوب، وبما أَنَّه
يتجنبُ الكبائر، كالقتْلِ والزّنى والرِّبا والسرقةِ والخَمْر، فإِنَّ اللهَ يَغفرُ له
الصغائرَ اللَّمَم، التي يُلِمُّ بها بدونِ قَصْدٍ أَو تَعَمّد، كالكلمةِ الخَطَأ، والنظرةِ
الخَطَأ، والموقفِ الخَطَأ، والشعورِ الخَطَأ، على أَنْ يعترفَ بذنْبِه ويُسارعَ إِلى
التوبةِ والاستغفار، ويُتبعَ السيئاتِ الحسناتِ لتَمحوَها وتَذهبَ بها..
قالَ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) .
هذا المبدأُ القرآنيُّ لا يُعجبُ الفادي المفترِي، واعْتَبَرَه لا يتفقُ مع العقلِ
والمنطق، ومنطقُه العقليُّ يُقَرِّرُ أَنَّ اللهَ القُدّوسَ العادلَ لا يَغفرُ للمخطئ بدونِ
كَفّارَة، ولا يَصفَحُ عنه بدونِ فِداء! وإِذا ظَنَّ المسلمُ أَنَّ اللهَ يُمكنُ أَنْ يغفرَ له
بدونِ فداءٍ أَو كفارةٍ فهذا استهتارٌ منه بالله، لأَنَّ اللهَ العادلَ لا يَرحمُ بدونِ
قِصاص، ولا يَغفرُ بدونِ كَفارةٍ أَو فداء.
وهل يَقْتُلُ المذنبُ نَفْسَه لتكونَ كَفارة؟!
وهل يَسفكُ دَمَه ليكونَ فداء؟!..
لا داعي لذلك، فقد فَدى اللهُ ذُنوبَ المذنبينَ السابقينَ واللاحقينَ بابنِه الفادي المسيح، الذي أَذِنَ لليهودِ أَنْ يَقْتُلوهُ ويَصْلبوه، ليكونَ قَتْلُه كفارةً لذنوبِ المذْنبين جميعاً، ويكونَ دَمُه المسفوكُ على الصليبِ كفارةً لجميعِ الذنوب!!.
وعلى المذنبينَ والعصاةِ والمخطئين أَنْ يَفْرَحوا ويَطمئنوا، فاللهُ فَداهم
بابنِه الفادي، وروحُ الفادي كفارةٌ لذنوبهم، ولا يُطْلَبُ منهم شيءٌ! لا توبةٌ ولا استغفار، ولا اجتنابٌ للكبائر، ولا تَرْكٌ للصغائر، ولا دَفْعٌ للكفارات!!
ليَعْمَلوا ما شاؤوا من الذنوبِ الكبيرةِ والصغيرة ولا يخافوا، فالمسيحُ الفادي
فَداهم وفَدى ذنوبَهم بنفسِه!.
اعتبرَ الفادي المفترِي القرآنَ مخطِئاً عندما دَعا المسلمين إِلى تَجَنُّبِ
الكبائر، وإِلى فعْلِ الحسنات، وإِلى التوبةِ والاستغفار، هذا كلُّه لا داعيَ له،
والبركةُ في المسيحِ الفادي، الذي فداهم بنفسه!!.(1/236)
واستشهدَ الفادي المفترِي على هذا الفداءِ العجيبِ بالقرآن، حيثُ أَخْبَرَ
أَنَّ اللهَ جعلَ المسيحَ آيةً ورحمة.
قال تعالى: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) .
فالمسيحُ رحمةٌ من اللهِ للناس، لأَنه فَداهم بنفسِه، ورضيَ أَنْ يُقْتَلَ ويُصْلَبَ ليخلِّصَهم من ذنوبهم!!.
وهذا فهمٌ خاطئ وتفسيرٌ منحرفٌ للآية، فاللهُ أَخبرَ أَنه سيجعلُ المسيحَ - عليه السلام - آيةً منه للناس، لأَنه خَلَقَه بدونِ أَب، وبغيرِ الطريقةِ المعتادةِ للولادةِ والنَّسْل، فكانَ خَلْقُه ونُمُوُّه في رَحِمِ أُمّه آيةً دالَّةً على وحدانيةِ اللهِ وقدرتِه.
واللهُ جعلَه رحمةً منه للناس، وليستْ رحمةُ الناسِ به لأَنه فدى الناسَ بدمِه،
وقُتِلَ وصُلِبَ من أَجْلِهِم، فهذا لم يَحْصُل، وهو الآنْ حَيّ في السماءِ..
إِنما هو رحمةٌ لهم بنبوتِه ورسالتِه، وبالإِنجيلِ الذي أَنزلَه اللهُ عليه ليكونَ هدىً للآخَرين.
وكلُّ رسولٍ أَرسلَه اللهُ رحمةً للذينَ أُرسلَ إِليهم.
ولهذا خاطَبَ اللهُ رسولَنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بهذا، فقالَ له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) .
وأَكَّدَ الفادي فِكْرَه الكنسيَّ في جعْلِ قَتْلِ عيسى وصَلْبِه - كما يَفهمُ
النَّصارى - توفيقاً بين عَدْلِ اللهِ في القصاصِ ورحمتِه بالعفو!
قال: " والمسيحيةُ تَكشفُ الستارَ عن حكمةِ اللهِ المطْلَقَة، فعن طريقِ قُدرةِ اللهِ غيرِ المحدودة جاءَ التّجَسُّدُ، وعن طريقِ الصلبِ جاءَ التوفيقُ بين عدلِ اللهِ الكاملِ ورحمتِه الكاملة.
قالَ الإِنجيل: " إِنَّ الناموسَ بموسى أُعْطيَ، أَما النعمةُ والحقّ فبيسوعَ
المسيحِ صارا.. " أيوحنا: 1/ 17، ".
إِننا نرفضُ هذا الفكْرَ الكنسيَّ حولَ الخَلاصِ والتكفيرِ والفداء، لأَننا نؤمنُ
أَنَّ اللهَ عَصَمَ رسولَه عيسى - عليه السلام - من أَعدائِه، فلم يَقْتُلوه ولم يَصلبوه، فليسَ هناك قَتْلٌ ولا صَلْبٌ ولا فداءٌ ولا تكفير!!.
وهذا معناهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عصى أَو أَذْنَبَ عليه أَنْ يَتوبَ إِلى اللهِ ويَستغفرَهُ،(1/237)
ليغفِرَ اللهُ له ذَنْبَه، وعليه أَنْ يجتنبَ الكبائرَ ليكُفِّرَ اللهُ له الصغائر، وعليه أَنْ
يُكْثِرَ من الحسناتِ التي تُذْهِبُ السيئاتِ.
وقد اعترضَ الفادي المتحاملُ على القرآنِ في تقريرِه أَنَّ الحسناتِ يُذْهِبنَ
السيئات، واعتبرَ هذا لا يَتفقُ مع عدلِ الله، ولا يُريحُ ضميرَ المسلمِ العاصي.
لِنقرأْ قولَه العجيب: " أَمّا قولُ القرآن: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) ، فهو لا يتفقُ مع قَداسةِ اللهِ وعَدْلِه، ولا يُعطي الضميرَ راحةً ولا سَلاماً
ولا شعوراً بفَرَحِ الغفران ".
وهذا تَوَقّحٌ من الفادي على القرآن، وتخطئةٌ صريحةٌ له، واتهامٌ له بأنه
لا يَتفقُ مع عدلِ اللهِ وقداستِه، ولا أَدري لماذا؟!
أَليس اللهُ الرحيمُ هو الذي قضى أَنْ تُذْهِبَ الحسناتُ السيئاتِ؟ !
وماذا في ذلك طالما أَنه أَمْرُ اللهِ وقَضاؤُه؟!
وهو الفَعّالُ لما يُريدُ سبحانه..
أَليس اللهُ هو العزيزُ الغفور، الذي يَغفرُ لمن يشاء؟
أَليس اللهُ هو التوَّابُ الذي يَتوبُ على عبادِه التّائبين؟
لماذا يَدَّعي المفترِي أَنَّ هذا كلَّه لا يَتفقُ مع عدلِ الله؟!.
وادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ مفهومَ الذنبِ والتوبةِ والاستغفارِ في الإِسلام لا
تُعطي ضميرَ المسلمِ راحةً ولا سَلاماً ولا فرحاً..
وقد نَقَلَ أَقوالاً عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابه، كأَبي بكرٍ وعمرَ وعلي - رضي الله عنهم -، تُعَبِّرُ عن ما كانوا يَعيشونَه من قَلَقٍ
واضطرابٍ واكتئابِ وإِحباط..
وهذه الأَقوالُ مكذوبةٌ لم تَصْدُرْ عنهم، أَو لعلَّ
بعضَها صَدَرَ عنهم لَكنَّ الفادي المفترِي أَساءَ فَهْمَها وتأْويلَها وتفسيرَها.
***
ما هي مصادر القرآن البشرية؟
يَرى الفادي المفترِي أَنَّ القرآنَ ليس كلامَ الله، وِإنما أَخَذَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من مصادِرَ بشريةٍ حولَه! وزَعَمَ أَنَّ القرآنَ لا يَثبتُ أَمامَ التدبرِ والبحثِ والفحص.
__________
(1) وهل من العدل أن يتحمل المسيح ذنوب الخلق، هذا منطق لا ترتضيه البهائم؟؟!!!.(1/238)
وقد دَعانا اللهُ أَنْ نتدبَّرَ القرآنَ لمعرفةِ تناسُقِه وصحَّحِه وصَوابِه، وخُلُوِّهِ عن
الخطأ والتناقضِ والاختلافِ والاضطراب، وذلك في قولِه تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
وعلق الفادي على الآية بقوله: " وهل يَحتملُ القرآنُ التدبُّرَ والفحصَ؟
وهل يَقبلُ المسلمونَ مبدأَ البحثِ للوقوفِ على حَقيقةِ القرآن؟..
لقد دَلَّت الأَبحاثُ أَنَّ محمداً أَخَذَ القرآنَ وشرائعَه من الصابئين، وعربِ الجاهلية، واليهودِ، والمسيحيين، وعن تَصَرُّفاتِه التي جعلَها سُنَّةً لغيرِه ".
هكذا إِذن! القرآنُ في نظرِ المفترِي لا يَصْمُدُ أَمامَ الفحصِ والبحثِ
والتدبُّر! وقد دَلَّت الأَبحاثُ على أَنَ القرآنَ بشريُّ المصدر، أَخَذَهُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من الناس الذين حولَه، كالعربِ واليهودِ والصابئين..
ولم يُخْبرنا الفادي المفتري من هم الذينَ قاموا بتلك الأَبحاث، ولا كيفيةَ قيامِهم بها، ولا مكانَها وزمانَها ونتائجَها.
وللتَّدليلِ على دَعواهُ عَرَضَ نماذجَ من ما أَخَذَهُ محمدٌ عن كل من:
الصابئين والعربِ واليهودِ والنصارى وعاداتِه الشخصية! لِننظرْ في النماذجِ التي قَدَّمَها:
أولاً: ما أَخذه عن الصابئين:
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - اعتبرَ الصابئين أَصحابَ دينٍ سماوي، وأَدخلَهم الجنة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) .
وقال أَيضاً بنفسِ الفكرةِ في سورة البقرة (61) ، وسورة الحج (17) ...
هل هذه الآيةُ اعترافٌ بدينِ الصابئين، وتَقريرٌ أَنهم على حق، وأَنهم من
أَهلِ الجنة؟(1/239)
إِنها تَذْكُرُ الصابئين مع اليهودِ والنصارى، فهل كُلُّ اليهودِ مؤمنون
في الجنة؟
وهل كُلُّ النصارى مؤمنونَ في الجنة؟
كلا.
لا يُعْتَبَرُ مؤمناً مَقْبولاً من الصابئين واليهودِ والنَّصارى إِلّا مَنْ اَمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ وعملَ صالحاً!.
ومتى يكونُ الإِيمانُ بالله صَحيحاً كاملاً؟
لا يَكونُ صحيحاً مقبولاً إلا إذا آمنَ صاحبُه بكلِّ رسلِ اللهِ وأَنبيائِه، وبكلِّ كتبه، فمنْ لم يؤمنْ بنبوةِ رسولٍ من رسلِه لم يُقْبَلْ إِيمانُه كُلُّه، ومَنْ لم يُؤْمِنْ بأَحَدِ كُتُبه التي أَنزلَها على رسلِه لم يُقْبَلْ إِيمانُه كُلُّه..
فهل الصابئون واليهودُ والنصارى يؤمنونَ بكلِّ كُتُبِ الله ورسلِه؟
الجوابُ بالنفي!!.
لا يؤمنُ الصابئونَ بدينِ اليهودِ والنصارى والمسلمين، فهم كافرونَ
مُخَلَّدونَ في جهنم..
ولا يؤمنُ اليهودُ بدينِ النصارى، وينكرونَ رسالةَ عيسى وكتابَه الإِنجيلَ، كما يُنكرونَ رسالةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والقرآنَ المنزَّلَ عليه.
فهم كفارٌ لم يؤمنوا باللهِ حقّاً..
أَمّا النَّصارى فإِنهم لا يؤمنون باللهِ حَقّاً، لأَنهم لا يؤمنونَ أَنَّ القرآنَ كَلامُ الله، ولا أَنَّ محمداً هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
أَما نحنُ المسلمين فإِنَّنا وَحْدَنا الذين نؤمنُ باللهِ حَقّاً، ونُحققُ أَركانَ
الإِيمانِ كاملة، فإِننا نؤمنُ بكُل الرسلِ الذين أَرسلَهم الله، وفي مقدمتِهم موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ونؤمنُ بكلِّ الكتبِ التي أَنزلها الله، ومنها التوراةُ والإِنجيلُ والقرآن.
وعندما ننظرُ في الآيةِ موضوعِ الحديث، فإِننا نَراها تُقَدِّمُ لنا المسلمين
باعتبارِهم الأُمَّةَ التي حَقَّقت الإِيمانَ الصحيحَ الكامل، أَمّا الأُمَمُ الأُخرى فإِنَّ
الواحدةَ منها لا تُقْبَلُ إِلّا إِذا كانَ إِيمانُها مثْلَ إِيمانِ المسلمين.
قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) .
وتتكوَّنُ الآية ُ من جملتَيْن: الجملة الأُولى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
والمرادُ بالموصولِ وصلَتِه (الَّذِينَ آمَنُوا) المسلمون.
وخَبَرُ " إِنَّ " محذوف، والتقدير: إِنَّ المؤمنين مفلحون ...(1/240)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
والجملة الثانية: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ..
فالواوُ في: (وَالَّذِينَ هَادُوا) حرفُ استئناف وليسَ حرفَ عَطْف.
(وَالَّذِينَ هَادُوا) مبتدأ.
(وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) معطوفٌ عليه.
والخَبَرُ هو: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
ومعنى هذه الجملةِ الاسمية: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : المؤمنونَ من هذهِ الطوائف: اليهود والصابئين والنصارى، هم الذينَ آمَنوا بالله واليوم الآخر..
ولَنْ يَكونوا مؤمنين باللهِ حقّاً إِلّا إِذا آمَنوا بكلِّ كتبِه وخاتمِها القرآنِ، وآمَنوا بكلِّ رسلِ الله، وخاتمِهم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وليسَ في هذه الآية ثناءٌ على الصابئين، وشهادةٌ لهم بأَنهم من أَهلِ
الجنة، كما زَعَمَ الفادي المفترِي (1) .
وكَذَبَ الفادي المفترِي عندما زَعَمَ أَنَّ الإِسلامَ أَخَذَ عقيدتَه عن
الصابئين! وذلك في قوله: " وقد نَقَلَ الإِسلامُ عنهم عقائدَهم، المعمولَ بها فيه إِلى الآن!! ".
ولم يَجِد المفترِي دَليلاً على دعواهُ الكبيرةِ الضالّة، إِلّا كَلاماً مُجْمَلاً
نقلَه من كتاب " بلوغ الأَرَب في أَحوالِ العرب " للآلوسي، ولم يُقَدِّم الآلوسي دَليلاً على كلامِه، واكتفى بادِّعاءِ أَنَّ للصابئةِ خمسَ صلواتٍ مثْلَ صلواتِ المسلمين، ويُصَلُّونَ على الجنازةِ مثلَ صلاةِ المسلمين عَلَيْها، ويصومون ثلاثينَ يوماً مثلَ المسلمين، ويتوجَّهون في صلاتهم نحو الكعبة، ويُحَرِّمونَ الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزير، ويُحَرِّمونَ زواجَ المحرمات من القريبات مثل المسلمين!!
وَهَبْ أَنَّ هذا الكلامَ صحيحٌ فهل مَعْناهُ أَنَّ الإِسلام أَخَذَ عنهم عقائِدَهم؟
إِنَّ " الصابئينَ " فرقةٌ صغيرةٌ قليلةُ العدد، لا يتجاوزُ عَدَدُ أَفرادِها بضعةَ آلاف، وهم مُقيمونَ في العراق، ولعلَّهم تَأَثَّروا بالإِسلام على مَدارِ التاريخِ الإِسلامي، فأَخذوا منه بَعْضَ أَحكامِه وتَشريعاتِه..
أَمّا أَنْ يكونَ الإِسلامُ هو الذي أَخَذَ
__________
(1) المعنى كما قاله المحققون: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزال ذنبهم، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك.. والله أعلم.(1/241)
عنهم عقائِدَهم وأَحكامَهم، فهذا ادعاءٌ كبيرٌ ليس عليه دَليل.
وبهذا نَرى أَنَّ القرآنَ لم يَأخُذْ من الصابئين شيئاً، وأَنَّ الفادي كاذبٌ
مُفْتَرٍ عندما ادَّعى ذلك!!.
ثانياً: ما أَخَذَه عن عرب الجاهلية:
نَقَلَ الفادي المفترِي أَقوالاً عن بعضِ العلماءِ المسلمين عن أَحوالِ
العربِ الجاهليِّين الدينية، مثلِ الشهرستاني في المِلَلِ والنَحَل، والآلوسي في
نهايةِ الأَرب، وزَعَمَ أَنَّ الإِسلام جاءَ بها واعتَمَدَها، وأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَها عنهم، وبذلك صارَتْ حياةُ العربِ الجاهليةُ من مصادرِ القرآن، وهذا معناهُ أَنَّ القرآنَ من عندِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وليس من عندِ الله!!.
ومما نَقَلَه عن الشهرستاني والآلوسي عن أحوال العرب الدينيةِ في
الجاهليةِ: كانوا يُحَرّمونَ الجمعَ بين الأُختين، ويُحَرِّمونَ نِكاحَ زوجةِ الأَب،
ويَحُجّون ويَعْتَمرون، ويَطوفون ويَسعون، ويَغْتسِلون من الجنابة، ويقومونَ
بتقليمِ الأَظفار، ونَتْفِ الإِبْط، وحَلْقِ العانة، ويَقْطعون يَدَ السارقِ اليمنى..
وكانوا يَلتزمونَ بدينِ إِبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وكانوا يُوَحِّدونَ اللهَ ولا يُشركونَ به أَحَداً، ويُصَلّون ويَصومون ويُزَكّون ويَحُجّون، ثم طَرَأَ عليهم الشركُ بعد ذلك.
وليس غريباً أَنْ يَلتزمَ العربُ الجاهليّون بدينِ إِبراهيمَ وإِسماعيلَ - عليهما السلام - فقد بَعَثَ اللهُ إِسماعيلَ رسولاً إِليهم - عليه السلام -، والبيتُ الذي بَناهُ إِبراهيمُ وإسماعيلُ - عليهما السلام - ما زالَ موجوداً بينهم، وقد كانوا مُوَحِّدينَ لله فترةً من الزمان، ثم طرأَ عليهم الشركُ بعد ذلك، عندما أَدخَل عمرُو بنُ لُحَيّ عبادةَ الأَصنامِ عليهم، ووضعَ الأَصنامَ في الكعبة، وحَتّى بعد شِرْكِهم بالله، بقيتْ فيهم بعضُ الأَحكامِ والقيمِ والأَعرافِ الصحيحة، التي أَخَذوها عن شريعةِ إِسماعيلَ - عليه السلام -.(1/242)
وليس غريباً أَنْ يأتيَ الإِسلامُ بتلك الأَحكامِ والتشريعات، وأَنْ يكونَ
مُصَدِّقاً لها، لأَن اللهَ بعثَ إِسماعيل - عليه السلام - رسولاَ، كما بَعَثَ محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، فالشريعةُ التي جاءَ بها إِسماعيلُ هي من عندِ الله، والشريعةُ التي جاء بها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هي من عندِ الله أَيضاً، والشرائعُ التي بَعَثَ اللهُ بها الرسلَ يُصَدِّقُ بعضُها بعضاً، مع أَنَّ كُلَّ شريعةٍ قد تختصُّ بما لم يوجَدْ بالشرائعِ قبلَها.
وقد جاءَ عيسى مُصَدِّقاً لما جاءَ به موسى قبلَه، عليهما الصلاة والسلام،
قال تعالى: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) .
وجاءَ القرآنُ مُصَدِّقاً وموافقاً لما سَبَقَه من الكتبِ الربانية، فيما لم يُحَرَّفْ
منها، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) .
وكونُ القرآنِ مُصَدِّقاً للتوراةِ والإِنجيلِ ليس معناهُ أَنه أَخَذَ حَقائِقَه
وأَحكامَه منهما، ولا يقولُ هذا إِلَّا جاهل متحامل مثلُ هذا الفادي المفترِي.
وكونُ الإِسلامِ موافِقاً لشريعةِ إِسماعيل - عليه السلام - لا يَعني أَنَّ محمداً " - عليه السلام - أَخَذَ رسالتَه من العربِ الجاهليّين، كما قالَ هذا المفترِي، إِنما يَعني توافُقَ الرسالتَيْن والشريعتَيْن: رسالةِ إِسماعيلَ وشريعتِه، مع رسالةِ محمدٍ وشريعتِهِ، عليهما الصلاة والسلام، لأنهما من عند الله.
ثالثاً: ما أخذه عن اليهود:
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ التوراةَ وأَسفارَ العهدِ القديمِ كانت أَحَدَ مصادرِ
القرآن، وأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ القصصَ الكثيرةَ التي سَجَّلَها في القرآنِ عن أَسفارِ العهدِ القديم!! وهذا يَعني أَنها كانَتْ بينَ يَدَيْه، يقرأُ فيها ويَختارُ منها، ويَنقلُ عنها، ويَنسبُها إِلى الله! وما كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قارئاً ولا ناقلاً ولا كاتباً.
وأَشارَ اللهُ إِلى أُمّيَّتِه الدالةِ على نبوَّتِه ورسالتِه، فقالَ تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) .(1/243)
ولْنقرأْ دعوى الفادي الباطلة؟
قال: " في التوراةِ قصةُ آدمَ وقابيل وهابيلَ ونوحٍ وإِبراهيمَ وإِسماعيلَ وإِسحاقَ ولوطٍ ويوسفَ وموسى وفرعونَ وبني إِسرائيل والمَنِّ والسَّلوى والوصايا العشر والتّابوت، وشريعةِ العين بالعين والذبائح، وقصة الجواسيس وقورحَ وبلعامَ وجَدعونَ وصموئيلَ وشاولَ وداودَ وسليمانَ وإِيليا واليشعَ وأَيوب.
واقتطفَ القرآنُ من أَقوالِ دوادَ وأَشعياءَ وحزقيالَ ويونان وغيرهم.
وقال: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) ".
القَصَص المذكورةُ في القرآنِ أَخَذَها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من التوراة، في زعْمِ هذا المفتري، ودليلُه على هذه الدعوى وجودُ تلك القَصصِ في التوراةِ ووجودُها في القرآن، وهذا يعني أَنَّ الكتابَ المتأَخِّر أَخَذَها من الكتابِ المتَقَدِّم!!.
وعندما ننظرُ في حديثِ القرآنِ عن القصةِ من قَصَصِ السابقين وحديثِ
التوراةِ عنها فإِننا نجدُ فَرْقاً واضِحاً بين الحديثَيْن، ولا يَلْتَقيانِ إِلّا في ذكْرِ
عنوانِ القِصَّةِ ومُجْمَلِها، ولكنَّهما يَختلفانِ في التفاصيل، ويَظهرُ هذا في كلِّ
قصةٍ ذَكَرَها القرآن، كقصةِ آدمَ وقصةِ نوحِ وقصةِ إبراهيمَ وقصةِ يوسف وقصة موسى!.
والفادي نفسُه اعترفَ بالفَرْقِ بين حديثِ القرآنِ وحديثِ التوراةِ عن
قَصَصِ السابقين، واعتبرَ هذا الفرقَ دليلاً على وُقوعِ الأَخطاءِ التاريخيةِ في
القرآن، وسَبَقَ أَنْ ناقَشْناه في تلك الادِّعاءات.
وعجيبٌ موقفُ هذا الفادي وفهمُه الأَعوج، فإِذا وافَقَ القرآنُ التوراةَ في
حديثِه عن قَصصَ السابقين قال: أَخَذَ محمدٌ القرآنَ عن التوراة، ونَقَلَ ما فيها!
وإِذا خالَفَ القرآنُ التوراةَ في بعضِ التفاصيل قال: أَخطأَ القرآنُ في حديثِه لأَنه خالَفَ التوراة!! المهمّ أَنَّ القرآنَ عندهُ متَّهَمٌ على كلِّ حال، سواءٌ وافَقَ التوراةَ أَو خالَفَها!.(1/244)
إِنَّ وجودَ فروقٍ بينَ حديثِ القرآن وحديثِ التوراةِ عن قَصَصِ السابقين
دليلٌ على أَنَّ القرآنَ وحيٌّ من عند الله، ولو كانَ من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَنَقَلَ كُلَّ ما وَجَدَهُ أَمامَه، سواء كانَ خَطَأً أَوْ صَواباً.
وأَشارَ القرآنُ إِلى هذهِ الحقيقة، واعتبرَ ذِكْرَ أَحداثِ القصةِ في القرآنِ
دليلاً على أَنه من عندِ الله.
قال تعالى في خاتمةِ قصةِ نوح في سورةِ هود:
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) .
وقالَ في خاتمةِ قصةِ يوسف: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) .
وقالَ في حديثِه عن قصةِ موسى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) .
ومن مُغالطاتِ الفادي المفترِي أَنه أَرادَ أَنْ يَجعلَ القرآنَ نفسَه شاهداً
على أَنه مأخوذٌ من التوراة، فَذَكَرَ قولَه تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ، شاهداً على ذلك.
قَطَعَ الآيةَ عن سياقِها ليُسيءَ الاستدلالَ بها، وهي واردةٌ في سياقِ آياتٍ
تتحدَّثُ عن مصدرِ القرآن، وتَجزمُ بأَنه من عندِ الله.
قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) .
وليس معنى قوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أَنَّ مادةَ هذا القرآن مأخوذةٌ من
زُبُرِ الأَوَّلين، وكتبِ الأَنبياءِ السابقين، كالتوراةِ والزبور والإِنجيل، ولكن
معناها أَنَّ القرآنَ مُصَدِّقٌ للكتبِ الربانيةِ السابقة، المنزَّلَةِ على الأَنبياءِ السابقين،(1/245)
وموافقٌ لها في ما قَدَّمَتْه من حقائقَ عقيديةٍ وأَخلاقيةٍ وعلمية.
رابعاً: ما أخذه عن النصارى:
زَعَمَ الفادي أَنَّ الإِنجيلَ كان أَحَدَ المصادرِ التي أَخَذَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - منه مادَّةَ القرآن! وقالَ في زعمه: " أَخَذَ القرآنُ عن الإِنجيلِ قصةَ بشارةِ الملاكِ لزكريا عن يوحَنّا، وقصةَ بشارةِ المَلاكِ لمريمَ العذراءِ عن ميلادِ المسيح، وعن اسمِه الكريمِ كلمةِ الله، وعن مَسْحِه بالروحِ القُدُس وتعاليمِه، ومعجزاتِه من حيثُ شفاءُ الأَبرص، وتفتيحُ عينِ الأَعمى، وإِقامةُ الموتى، ورفضُ اليهودِ له، وموتُه، وارتفاعُه للسماء، وشهادةُ الرسلِ والكنيسةِ والقساوسة..
واقتطفَ من أَقوالِ بولس الرسول من رسائِلِه لأَهْلِ رومية وكورنثوس وغلاطية وفيلبي وتسالونيكي والعبرانيين..
واقتطفَ من أَقوالِ يعقوب الرسول وبولس الرسول ويوحَنا الرائي.. ".
وما قلناهُ في المبحثِ السابقِ نقولُه هنا، فالقرآنُ موافقٌ للإِنجيلِ الحَقِّ
الذي أَنزلَه اللهُ على عيسى - عليه السلام -، ومُصدِّقٌ له، لأَنَّ الاثنينِ من عندِ الله، وكُتُبُ اللهِ يُصَدِّقُ بعضها بعضاً، وتتوافقُ فيما تَعرضُه من معلوماتٍ وأَخبارٍ وحقائق.
صَدَّق القرآنُ الإِنجيلَ في الإِخبارِ عن بشارةِ زكريا بيحيى - عليهما السلام -، وعن نَذْرِ أُمِّ مريمَ وولادتِها لها، وعن بشَارةِ مريمَ بعيسى، ومجيءِ جبريلَ - عليه السلام - لها، وعن حملِها بعيسى وولادَتِه، وعن كونِ عيسى - عليه السلام - عبدَ اللهِ ورسولَه، وعن آياتِه التي آتاهُ اللهُ إِياها، وعن دعوتِه لبني إِسرائيل، وعداوتِهم له، ومحاولتِهم صلْبَه، وإِنجاءِ اللهِ له، وعن تبشيرِه بالنبيِّ الخاتمِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم.
ومع كونِ القرآنِ مُصدِّقاً للإنجيل في هذه الموضوعات، إِلّا أَنَّ هناكَ
فروقاً بين القرآنِ والأَناجيلِ الموجودةِ في ذكْرِ بعضِ التفصيلات، ولعلَّ السببَ(1/246)
في ذلك هو تَحريفُ النصارى لأَناجيلِهم، وإِضافةُ كلامِهم إِلى كلامِ الله فيها، وتَسَرُّبُ الخطأ إِليها، ولذلك لا يُتابِعُها القرآنُ في تلك الأَخطاء!!.
ووجودُ هذه الفروقِ بين القرآنِ والأَناجيلِ دليلٌ على أَنَّ القرآنَ وَحْيٌ من
عندِ الله، فلو أَخَذَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مادَّتَه من الأَناجيلِ لأَخَذَ كُلَّ ما فيها، سواء كان خَطَأً أَو صواباً! وهذا أَمْرٌ يعترفُ به كلُّ مُنْصفٍ محايد، يُفكرُ بعقلِه ويَبحثُ عن الحق!!.
خامساً: ما أخذه من تصرفاته:
زَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - مَلَأَ القرآنَ بأَخبارِه وسيرتِه وتصرفاتِه وأَعمالِه.
قال: " يَحوي القرآنُ الكثيرَ من أَحوالِ محمدٍ الشخصية، التي جعلَها
سُنَّةً لأَتْباعِه، فَذَكَرَ فيه غزواتِه وحوادثَ زوجاتِه، عائشة وزينب وخديجة ومارية القبطية وحفصة وأم هانئ وغيرهن..
ودَوَّنَ ما أَصابَه من أَثَرِ السِّحْرِ وتعوُّذاتِه منه، وسَجَّلَ بعضَ أَقوالِ الصحابة، وقالَ: إِنها تنزيلُ الحكيم العليم!! ".
إِنَّ مزاعمَ الفادي باطلةٌ تافهة، فالقرآنُ ليس " سيرةً ذاتيةً " لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، سَجَّلَ فيها تفاصيلَ حياتِه ودقائقَ أَعمالِه، وليس كتابَ " مذكَّرات "، دَوَّنَ فيها كلَّ ما جرى له، كما يفعلُ الذين يكتبونَ مُذَكَّراتِ حياتِهم!! وإِنَّ الحديثَ عن حياةِ الرسولِ الخاصةِ - صلى الله عليه وسلم - قليلٌ في القرآن.
فقد حَزِنَ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً لموتِ زوجِه خديجةَ - رضي الله عنها - قبلَ الهجرة، حتى سُمِّيَ ذلك العامُ عامَ الحزن، وحَزِنَ لموتِ ابنِه
إِبراهيمَ بعد الهجرة..
ولم يَتحدث القرآنُ عن موتِهما، ولا عَنْ حُزْنِ الرسولِ - عليه السلام -، ولو كان القرآنُ من تأليفِه لوجَدْنا فيه صفحاتٍ في رثائِهما ونعيِهما ومشاعرِه تجاههما!.
أَمّا حديثُ القرآنِ عن جهادِ الرسولِ - عليه السلام - لأَعدائِه فهذا لا غرابةَ فيه.
فقد تَحَدَّثَ القرآنُ عن دعوةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وتبليغِه، وعن موقفِ أَعدائِه المشركين(1/247)
والمنافقينَ واليهودِ منه، وعن مواجهتِهم له، ومحاولاتِهم القضاءَ عليه وعلى
دعوتِه، وعن جهادِه لهم وانتصارِه عليهم، وجَعَلَ ذلك كُلَّه عِبرةً وعِظَةً لأَصْحابِه الذين عاشوا معه، والمؤمنينَ الذين سيأتونَ من بعدِه، ولذلك قال تعالى في تعقيبِه على أَحداثِ إِجلاءِ بني النضير: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) .
إِنَّ القرآنَ كتابُ تعليمٍ وتوجيه، وكتابُ هدايةٍ وبَيان، وكتابُ تربيةٍ
وتزكية، وكتابُ تشريعٍ وتكليف، وكتابُ جهادٍ ومواجهة، وحَفقَ القرآنُ هذه المقاصدَ الحيةَ بمختلفِ الوسائلِ والأَساليب، ومنها ذِكْرُ أَحوالِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وأَحوالِ أَصحابِه وأَحوالِ أَعدائِه، وجعلَ ذلك وسيلةً لبيانِ فضْلِ اللهِ على المسلمين، ومعيتِه لهم، وحفظِه لهم ورعايتهم، وتوجيهِهِم إِلى محبةِ اللهِ وذكْرِهِ وشكره.
وقد أَخطأَ الفادي المفترِي عندما عَدَّ أُمَّ هانئ - رضي الله عنها - ضمنَ أَزواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أَنه لم يتزوَّجْها.
وكَذَبَ كِذْبَةً فاجرةً عندما ادّعى أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - سَجَّلَ في القرآنِ بعضَ أَقوالِ الصحابة، زاعِماً أَنها وحيٌ من اللهِ إِليه! ونتحدّاهُ
أَنْ يُثبِتَ هذا الافتراء!!.
***
هل صلاة الجمعة من تشريع الجاهلية؟
اعترضَ الفادي المفترِي على مشروعيةِ صلاةِ الجمعةِ في القرآن، وادّعى
أَنها منْ تَشريعِ الجاهلية.
وقد أَمرَ اللهُ المؤمنين بصلاةِ الجمعةِ في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) .(1/248)
نَقَلَ الفادي عن تفسيرِ البيضاويِّ أَنَّ يومَ الجمعةِ في الجاهليةِ كان يُسَمّى
يومَ العَروبَة، وقيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمّاهُ يومَ الجمعة كعبُ بنُ لُؤَيّ، أَحَدُ أَجدادِ قريش، لأَنَّ الناسَ كانوا يَجتمعونَ إِليه فَيحدِّثَهم عند الكعبة.
وقالَ البيضاويُّ:
إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلّاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عندَ قدومِه المدينة حيثُ أدركَتْه صلاةُ الجمعةِ قُبيلَ المدينة، فصَلّاها في تجمعٍ للمسلمين في وادٍ لبني سالم بن عوف.
وَنَقَلَ عن كتابِ بُلوغِ الأَربِ للآلوسي أَنَّ كَعْبَ بنَ لُؤَيٍّ كانَ يَجمعُ قريشاً
في ذلك اليومِ حولَ الكعبةِ، ويَخطبُ فيهم، ولذلك سماهُ يومَ الجُمُعة.
وعَلَّقَ الفادي الجاهلُ على ذلك النقل بقولِه: " فيومُ الجمعةِ مصدَرُه عَرَبُ
الجاهلية، ومن وَضْعِ كعبِ بنِ لُؤَي، وليس من وحيِ السماء ".
نُبادرُ إِلى القول: لم يَثْبُتْ بروايةٍ معتمدةٍ ما قالَه البيضاويُّ والآلوسيُّ عن
وجودِ اسمَيْن ليومِ الجمعة، وعن سببِ تغييرِه من يومِ العَروبة إِلى يومِ الجمعة،
وعن أَنَّ كَعْبَ بنَ لُؤَيٍّ أَؤَلُ مَنْ جَمَعَ قريشاً وخطبَ فيهم حولَ الكعبة، وكانَ هذا قبلَ ولادةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بعشراتِ السنين.
وبما أَنَ هذا القولَ لم يَثْبُتْ عندنا، فإِننا نتوقفُ فيه، فلا نُكَذِّبُه ولا نُصَدّقُه.
وَهَبْ أَنَّ القولَ صحيح، فإِنه لا يُؤَدّي إِلى النتيجةِ الخاطئةِ التي خرجَ بها
الفادي الجاهلُ منه!! وأَقْصى ما يَدُلُّ عليه أَنَّ يومَ الجمعةِ سُمِّيَ بذلك قبلَ
ميلادِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بعشراتِ السنين، وأَنَّ العربَ الجاهليّين كانوا يَجتمعونَ فيه ويتحدَّثون ا! وأَينَ هذا من مشروعيةِ صلاةِ الجمعة، التي أَمَرَ اللهُ المسلمين أَنْ يُؤَدّوها فيه؟!.
نعمْ مصدرُ يومِ الجمعةِ عربُ الجاهلية، وهم سَمّوهُ بهذا الاسمِ قبلَ
الإِسلامِ بعشراتِ السنين، كما أَنهم سَمّوا باقي أَيام الأُسبوعِ بأَسمائِها في
ذلك الزمنِ البعيد..
ولم يَدَّعِ المسلمونَ أَنَّ اسمَ يومِ الجمعةِ جاءَ وَحْياً(1/249)
من السماء، حتى يُسَجِّلَ الجاهلُ اعتراضَه وتخطئتَه للقرآن!.
لما بَعَثَ اللهُ محمداً رسولاً - صلى الله عليه وسلم - وأَنزلَ عليه القرآن، ْ كانَ هذا اليومُ يُسَمّى يومَ الجمعة، ولم يُسَمّهِ القرآنُ يومَ الجمعة، والجديدُ في الأَمْرِ أَنَّ اللهَ شَرَعَ فيه صلاةَ الجمعة، وكان تشريعُها قُبيلَ دُخولِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ يومَ الهجرة، ثم أَنزلَ اللهُ سورةَ الجمعةِ بعد الهجرة، وأَمَرَ المسلمينَ بأَداءِ الصلاة، وكان الأَمْرُ في آياتِ سورة الجمعة تأكيداً لمشروعيتِها يومَ الهجرة!.
وبهذا نَعْرِفُ جهلَ الفادي في عدمِ تفريقِه بين اسْمِ يومِ الجمعة الذي
سُمّيَ به قبلَ الإِسلامِ بعشراتِ السنين، وبين مشروعيةِ الصلاةِ فيه، التي
شَرَعَها اللهُ وأَمَرَ المسلمينَ بها يومَ الهجرة!.
ونقلَ الفادي خَبَرَاً نَسَبَهُ إِلى كتابٍ مجهول، سَمّاه " السيرة النبوية
المَلكيَّة "، زَعَمَ أَنَّ المسلمينَ هم الذين اقْتَرحوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الجمعة.
قال: " وَرَدَ في كتابِ (السيرة النبوية الملكية) أَنه لما هاجَرَ محمدٌ إِلى المدينةِ
قال له المسلمون: إِنَّ لليهودِ يَوْماً يَجتمعونَ فيه للعبادةِ وسَماعِ الوعظِ هو يومَ السبت، وللنصارى يوماً يجتمعونَ فيه للعبادةِ وسَماعِ الوعظ، ونحنُ المسلمينَ لا يومَ لنا نجتمعُ فيه لعبادةِ اللهِ تعالى أُسوةً بأَهْلِ الكتاب، فأَشارَ عليهم بيوم الجمعة ".
وهذا الخَبَرُ موضوعٌ مكذوبٌ باطل، ولذلك لم يَرِدْ في حديثٍ صحيحٍ أَو
حَسَنٍ أو ضَعيف، وهو يوحي بأَنَّ تشريعَ صلاةِ الجمعةِ بَشَرِيّ، وليش ربّانيّاً
من عندِ الله، خَضَعَ فيه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لرغبةِ المسلمين، المتأَثِّرين باليهودِ والنصارى، فلما طَلبوا منه استجابَ لهم وشرعَ لهم صلاةَ الجمعة!!.
وقد كانَ الفادي خَبيثاً عندما عَلَّقَ على خبرِه الموضوعِ قائلاً: " ونحنُ
نَسأل: إِذا كانَ اليهودُ يَجتمعونَ للعبادةِ يوم السبت، لذكْرِ خَلْقِ اللهِ العالمَ في ستةِ أَيام، واستراحتِه في اليومِ السابع، وإِذا كان النَّصارى يَحفظونَ يومَ الأَحَدِ لذكْرى قيامةِ المسيح فيه، فما الذي يَجعلُ المسلمينَ يَجتمعونَ يومَ الجمعة؟(1/250)
هل لِيُحاكوا أَهْلَ الكتاب؟
- لِمَ لَمْ يَختاروا اليومَ الذي صنَعَه الربّ، بل اليومَ الذي وَضَعَتْهُ عربُ الجاهلية؟! ".
يُريدُ الفادي الخبيثُ من تعليقِه أَنْ يَجعلَ المسلمين مُقَلِّدين لليهودِ
والنصارى، راغبينَ في محاكاتِهم، فبما أَنَّ اليهودَ والنَّصارى يَجتمعونَ يَوْماً في
الأُسبوع فلماذا لا يَفعلُ المسلمون مثلَهم؟
وهو بهذا يُؤَكِّدُ على بشريةِ القرآن، وبشريةِ التشريعِ الإسلامي.
وعندما ننظرُ في الآيةِ التي أَمرت المؤمنين بصلاةِ الجمعة، فَسنجدُها
تَكْليفاً مباشِراً من اللهِ للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) ..
فاللهُ هو الذي خاطَبَهم وكَلَّفَهم وأَمَرَهم، وشرعَ لهم صلاةَ الجمعةِ في يومِ الجمعة، ولم يكن الآمِرُ هو الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بناءً على طلبٍ منهم، كما زَعَمَ الفادي المفترِي!.
وقد أَخْبَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ يوم الجمعةِ هو أَفضلُ أَيامِ الأُسبوع، جعلَه اللهُ أَفْضَلَ الأَيام قبلَ وجودِ اليهودِ والنصارى، وأَنَّ اليهودَ والنصارى كانوا مأمورين بيومِ الجمعة، لكنَّهم تركوه، فاختارَ اليهودُ السبت، واختارَ النصارى الأحَد، وكانوا مُتَّبِعين لهواهم!.
روى مسلمٌ عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نَحنُ الآخِرون، السابقونَ يومَ القيامة، بيد أَنهم أُوتوا الكتابَ من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فَرَضَ اللهُ عليهم، فاخْتَلَفوا فيه، فَهدانا اللهُ له، فهم لنا فيه تَبَعَ، اليهودُ غداً، والنَّصارى بعدَ غد ".
وروى مسلم عن أَبي هريرة وعن حذيفةَ بنِ اليمان - رضي الله عنهما - قالا: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَضل اللهُ عن الجمعةِ مَنْ كانَ قَبْلَنا، فكانَ لليهودِ يومُ السبت، وكانَ للنصارى يومُ الأَحَد، فجاءَ اللهُ بنا، فهدانا اللهُ ليومِ الجُمُعَة،(1/251)
فجعلَ الجمعةَ والسبتَ والأَحد، وكذلك هم تَبَعٌ لنا يومَ القيامة، نحنُ
الآخِرون من أهلِ الدنيا، والأوَّلونَ يومَ القيامة، المقضيُّ بينهم قبلَ الخلائِق ".
وروى مسلمٌ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خَيْرُ يومٍ طَلَعَتْ فيه الشمسُ يومُ الجمعة، فيه خُلِقَ آدَم، وفيه أُدخلَ الجَنة، وفيه أُخرجَ منها ".
ولا وَزْنَ لكلامِ الفادي المفترِي واعتراضه، بعدَ هذه الآياتِ الصريحةِ
والأَحاديثِ الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حولَ فَضْلِ يومِ الجمعةِ وصلاةِ الجمعة!.
***
هل يباح القتال في الأشهر الحرم؟
جَعَلَ اللهُ أَربعةَ أَشهر في السنةِ أَشْهُراً حُرُماً، حَرَّمَ فيها القتال.
وهذه الأَشهرُ هي: ذو القعدة وذو الحجة ومُحرمٌ ورجب.
قالَ تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .
واعترضَ الفادي على القرآنِ في حديثِه عن حرمةِ القتالِ في الأَشهرِ
الحُرُم، ثم إِباحتِه القتالَ فيها بعدَ ذلك.
قال: " يُحَرِّمُ الإِسلامُ القتالَ والقَتْلَ والثَّأرَ تَحريماً مُطْلَقاً في الأَشْهُرِ الحُرُم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، مهما كانت الدواعي إِلى ذلك، ويعودُ أَصْلُ ذلك إِلى عربِ الجاهليةِ قبلَ الإِسلام "!.
وبعدَ أَنْ نَقَلَ كَلاماً للآلوسيِّ في نهايةِ الأَرَبِ أَكَّدَ مُغالَطَتَه واتِّهامَه السابقَ
بقولِه: " فالإِسلامُ أَخَذَ هذا التحريمَ عن عربِ الجاهلية، ولم يَأتِ بجديد ".(1/252)
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي في زعمهِ أَخْذَ القرآنِ تشريعاتِه من الجاهلية.
صحيحٌ أَنَّ العربَ الجاهليّين كانوا يُحَرِّمونَ القتالَ في الأَشْهُرِ الحُرُم، لكنَّ هذا ليسَ تشريعاً منهم، وإِنما أَخَذوهُ عن شريعةِ إِسماعيلَ - عليه السلام -، ضمنَ الكثيرِ من الموروثاتِ الدينيةِ التي وَرِثوها عنه - عليه السلام -، كالحَجِّ إِلى الكعبة..
ولكنَّهم تَلاعَبوا بحرمةِ الأَشهرِ الحُرُمِ بالنسيء، فإِذا كانَتْ مصلحَتُهم بالقتالِ في أَحَدِ الأَشهرِ الحُرُم، نَسَؤُوا حُرْمَتَه إِلى شهرٍ آخَر.
وقد ذَمَّهم اللهُ بقولِه تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) .
ولما جاءَ الإِسلامُ حَرَّمَ النسيءَ الذي كان يمارسُه الجاهليّون، وثَبَّتَ
حرمةَ الأَشهرِ الأَربعةِ الحُرُم.
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
وقد أَكَّدَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على حُرمةِ الأَشهرِ الحُرُم، وثَبَّتَها، ومنعَ النَّسيءَ فيها، في خطبةِ الوَداع، التي أَلْقاها يومَ عرفةَ في حَجَّةِ الوداع.
روى البخاريُّ عن أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنَّ الزمانَ قد اسْتَدار، كهيئَتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأَرض، السنةُ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، منها أَربعةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَواليات: ذو القعدةِ وذو الحجةِ والمحرم، ورجبُ مضرَ الذي بينَ جمادى وشعبان ".
وبهذا نَعرفُ أَنَّ القرآنَ لم يأخذْ تشريعَ حرمةِ الأَشهرِ الحُرُمِ عن الجاهليةِ
العربية، وإِنما هو تَشريعٌ ذاتيٌّ منه، توافَقَ مع شريعةِ إِسماعيل - عليه السلام -، على اعتبارِ أَنَّ شريعةَ إِسماعيلَ وشريعةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عندِ الله.
وبهذا نعرفُ افتراءَ الفادي في قولِه: " فالإِسلامُ أَخَذَ هذا التحريمَ عن
عَرَبِ الجاهلية، ولم يَأتِ بجديد "!.(1/253)
وقد افْتَرى الفادي على الإِسلام افتراءً آخَرَ عندما زَعَمَ أَنَّ الإِسلامَ يُحَرّمُ
القِتال والقَتْلَ تَحريماً مُطْلَقاً في الأَشهرِ الحُرُم، مهما كانَت الدواعي: " يُحَرِّمُ
الإِسلامُ القَتْلَ والقِتال والثَّأرَ في الأَشهرِ الحُرُم، مهما كانت الدواعي إِلى
ذلك ".
والصحيحُ أَنَّ الإِسلام حرمَ على المسلمين أَنْ يَبْدَؤوا هم بالقتال في
الأَشهرِ الحرم، لكنَّه يُبيحُ للمسلمين أَنْ يُقاتِلوا الكُفارَ في الأَشْهُرِ الحُرُم، إِذا
بدأَ الكفارُ بالقتال، وعلى هذا قولُه تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) .
ومعنى الآية: التزامُ المسلمينَ بحرمةِ الشهرِ الحرامِ مشروطٌ بالتزامِ
المشركين، لأَنه لا بُدَّ على الطَّرَفِ الآخرِ من الالتزام، فإِذا لم يلتزم المشركونَ بذلك وهاجَموا المسلمين واعْتَدَوْا عليهم، كانَ المسلمون في حِلٍّ من الالتزام، لأَنه لا معنى لأَنْ يُواجِهَ المسلمونَ عُدْوانَ الكافرين بالكَفّ عن
قتالِهم والرَّدِّ على عدوانِهم، لأَنَّ هذا الشهرَ حرام! فالحُرُماتُ قِصاص، بمعنى أَنَّ المسلمين مُلْتَزمون بحرمَتِها إِذا التزمَ الكفارُ بها، فإِن انتهكوا حُرْمَتَها
واعتَدَوْا على المسلمين، جازَ للسلمين قتالُهم، والبادئُ أَظْلَم!.
واستشهدَ الفادي الجاهلُ على حُرْمَةِ الأَشهرِ الحُرُمِ بآيةٍ من سورةِ التوبة،
زَعَمَ أَنها نفسها في سورةِ محمد.
قال: " جاءَ في سورةِ محمد: 4، وسورة التوبة: 5: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
وبمراجعةِ سورةِ محمدٍ لم نَجد الآيةَ الرابعةَ فيها بهذا النَّصِّ كما زَعَمَ
المفتري، ونَصُّها هو: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) .
فإِحالةُ الفادي المفتري على آيةٍ ليستْ بالنَّصِّ الذي أَوردَه صورةٌ من صورِ تَحريفِه وتَلاعُبِه بكتابِ الله!.
واستشهادُ الفادي بالآيةِ الخامسةِ من سورةِ التوبة على حُرْمَةِ القتال في(1/254)
الأَشهرِ الحُرُمِ دليل على جهلِه، والراجحُ أَنَّ الأَشهرَ المذكورةَ فيها غيرُ الأَشهرِ الحُرُمِ التي تَحَدَّثْنا عنها.
لقد ذَكَرَ القرآنُ نوعَيْنِ من الأَشهرِ الأَربعةِ الحُرُم:
النوع الأَول: الأَشهرُ الأَربعةُ الحُرُمُ، التي حَرمَ اللهُ على المسلمينَ البدءَ
بقتالِ الكفارِ فيها، وأَجازَ لهم الرَّدَّ على عدوانِهم، وهي: ذو القعدة وذو
الحجة ومحرم ورجب.
والتي ثَبَّتَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - حُرْمَتَها، ومنعَ النَّسيءَ فيها.
النوع الثاني: الأَشهرُ الأَربعةُ الحُرُم، التي جعلَها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مهلةً للمشركين لتَصويبِ أَوضاعِهم وتَرتيبِ أُمورِهم..
حيثُ سيعلنُ الحَرْبَ عليهم بعد انْقضائِها، لتطهيرِ الجزيرةِ العربيةِ من الشركِ والكفر.
وهي المذكورةُ في مقدمةِ سورةِ التوبة.
قالَ تعالى: (
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) .
وقد كانَ نزولُ مقدمةِ سورةِ التوبة في أَواخِرِ السنةِ التاسعةِ من الهجرة،
حيثُ وَجَّهَ رسولُ اللِّهِ - عليه السلام - أَبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ليحُجَّ بالمسلمين في موسمِ السنةِ التاسعة، وبعدما تَوَجَّهَ أَبو بكرٍ - رضي الله عنه - بالحُجّاجِ إِلى مكةَ أَنزلَ اللهُ على رسولِه - صلى الله عليه وسلم - مطلعَ سورةِ التوبة، بتحديدِ العهودِ بين رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين، وإِعطائِهم مُهْلَةَ أَربعةِ أَشهر، تبدأُ من يومِ عرفةَ من السنةِ التاسعةِ، لترتيبِ أُمورهم، حيثُ سيُعلنُ عليهم الحربَ بعد انقضائِها، لتحريرِ الجزيرةِ(1/255)
العربيةِ من الشرك..
فأَرسلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بْنَ أَبي طالبٍ - رضي الله عنه - ليلحقَ بأَبي بكرٍ - رضي الله عنه -، ويُخبرَ الناسَ في موسمِ الحج بمضمونِ الآيات.
وكانَ عليٌّ ومعه بعضُ الصحابة يَصيحونَ في تَجَمُّعاتِ الحُجّاجِ في عرفاتٍ ومِنى ومكةَ بمضمونِها.
قالَ عليّ بنُ أَبي طالب ل لمحبه: بَعَثَني رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في موسم الحَجّ أُنادي في الناسِ بأَربعةِ أُمور: لا يَدخلُ الجنةَ إِلّا نفسٌ مؤمنة، ولا يَحُجَّ بعدَ هذا العامِ مشرك، ولا يَطوفُ بالبيتِ عريان، ومَنْ كانَ بينه وبينَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ فمدَّتُه أَربعةُ أَشهرٍ فقط.
وكان بدءُ الأَربعةِ أَشهرٍ المذكورةِ في قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هو العاشرَ من ذي الحجة من السنةِ التاسعة، وتنتهي في العاشرِ
من شهرِ ربيعِ الثاني من السنةِ العاشرة!!.
والذي حَصلَ أَنَّ كُل القبائلِ العربيةِ أَسلمتْ في كُلِّ الجزيرةِ العربيةِ
خلالَ الأَشهرِ الأَربعة، وبَعَثَتْ وُفودَها ومَندوبيها إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في عامِ الوفود، وهو السنةُ العاشرةُ من الهجرة.
ولكنَّ الفادي الجاهلَ لا يَعرفُ هذه المعلومات، فجعلَ الأَربعةَ أَشهرٍ
المذكورةَ في الآيةِ الخامسةِ من سورة التوبة، هي نفسَها الأَربعةَ أَشهرٍ المذكورةَ
في الآيةِ السادسة والثلاثين من السورة!!.
وقد تَوَقَّحَ الفادي المجرمُ على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وشَتَمَهُ وشَتَمَ الإِسلامَ والقرآن، وذلك في قولِه الفاجر: " ...
فالإِسلامُ أَخَذَ هذا التحريمَ عن عربِ الجاهلية، ولم يأتِ بجَديد..
وأَمّا الجديدُ في الأَمْرِ فهو أَنه بعد أَنْ وافَقَ الإِسلامُ العربَ على الأَشهرِ الحُرُمِ التي جَعلوها فُرصةً للسَّلامِ والتعايشِ والهدوءِ النِّسْبِيّ، وجعلَ هذا التحريمَ شريعةً من الله، رأى محمدٌ أَنَّ هذا يَتعارضُ مع رغبتِه في الغزوِ والانتقام، فَغَدَرَ بأَعدائِه، وأَباحَ ما سبق تحريمُه، وناقَضَ نفسَه بقولِه في سورة البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ...(1/256)
تَأَمَّلْ مَعَنا الجُمَلَ الخبيثةَ في كلامه، التي هاجَمَ فيها الإِسلامَ والقرآن،
وأَصَرَّ على بشريةِ القرآن، وأَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَهُ من عربِ الجاهلية، ثم نَسَبَهُ إِلى الله، وجَعَلَ أحكامَه شريعةً من الله! وتَأَمَّلْ شَتْمَهُ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، عندما زَعَمَ أَنَّ رغبَتَه قائمةٌ على الغزوِ والانتقام، وَوَصَفَهُ بالغَدْرِ! وناقَضَ نفسَه حيثُ أَباحَ ما سبقَ أَنْ حَرَّمَه على نفسِه من القتالِ في الأَشهرِ الحُرُم.
وزَعَمَ الفادي المجرمُ أَنَّ القرآنَ من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ قال: " وناقَضَ نفسَه بقولِه في سورةِ البقرة ... ".
أَيْ أَنَّ سورةَ البقرةِ من تأليفِه، والقرآنَ كُلَّه من تأليفِه..
وكُلُّ كتابِ الفادي المفترِي يُؤَكِّدُ على تكذيبِه القرآن، ونَفْيِ أَنْ يكونَ من عندِ الله، وتأكيدِ أَنه من كلامِ وتأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك وَقَعَ في الأَخطاءِ والتناقُض إ!.
وَوَصْفُ الفادي الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بالغَدْرِ دليلٌ على بذاءَتِه ووَقاحتِه، وقد شهدَ أَبو سفيانَ الذي كانَ زعيمَ مكةَ الكافرة وأَشَدَّ الناسِ عداوةً لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَنه لم يَغْدِر.
فعندما سَأَلَه هِرَقْل: هل يَغْدِر؟
أَجابَه قائلاً: إِنه لا يَغْدِر!.
ويأتي هذا الدَّعِيُّ المفترِي اليومَ ليقولَ: إِنه يَغْدِر!!.
***
ما هو أصل التكبير؟
يَرى الفادي المفترِي أَنَّ أَصْلَ التكبيرِ جاهليّ، وأَنَّ الجاهليّين كانوا
يقولون: اللهُ أَكبر!.
أَوردَ قولَ اللهِ - عز وجل -: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) .
ومعنى قولِه: " كبره تكبيراً ": قل: اللهُ أَكبر!.
كما أَوردَ قولَ اللهِ في الإِخبارِ عن ما جرى بينَ إِبراهيمَ - عليه السلام - وبينَ قومِه، عندما أَبْطَلَ كونَ الكواكبِ اَلهة: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) .(1/257)
وفَهِمَ الفادي الجاهلُ من كلامِ إِبراهيمَ - عليه السلام - أَنه كانَ يؤمنُ بوجودِ آلهةٍ مع الله، وأَنَّ بعضَ تلك الآلهةِ صغير، وأَنَّ الشمسَ أَكبرُ من تلك الآلهة.
وخَرَجَ من هذا بافتراءٍ كبير، هو أَنَّ التكبيرَ من أَصْلٍ جاهليّ، وأَنَّ
المسلمينَ عندما يَذكرونَ اللهَ قائِلين: " الله أكبر "، إِنما أَخَذوا هذا عن
الجاهليّين المشركين! وأَنَّ معنى " الله أَكبر " عندَه أَنَّ اللهَ أَكبرُ من الآلهةِ
الصغيرة، التي تُساعِدُه في إِدارةِ هذا العالم! فالمسلمونَ في نظره مشركون،
يُؤمنونَ بوجودِ آلهةٍ صغيرةٍ بجانبِ اللهِ الأَكبر!!.
قالَ في افترائِه: " كان عَرَبُ الجاهليةِ يُكَبِّرونَ اللهَ في بعضِ الأَحوالِ
قائلين: اللهُ أَكبر..
بناءً على اعتقادِهم بوجودِ إِلهٍ في السماء، أَو اللهُ بينَ كُلِّ
الآلهةِ هو إِلهُها ورَبُّها، والآلهةُ الأُخرى أَعوانُه وعُمّالُه في أَرضِه.
وزَعَمَ النَّقْلَ عن كتابِ بلوغِ الأَرَب للآلوسي أَنه لما افْتَدى عبدُ المطلب
- جَدُّ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَه عبدَ الله بمئةٍ من الإِبِل ونجا ابْنُه من الذَّبْحِ صاحَ عبدُ الله قائلاً: اللهُ أَكْبَر.
وكَبَّرَتْ قريشٌ معه! ".
إِنَ كلامَه عن إِيمانِ العربِ الجاهليّين بوجودِ آلهةٍ مع اللهِ صَحيح، فهذا
معروفٌ عنهم، وقد ذَكَرَهُ القرآنُ في آياتٍ عديدة، وأَبْطَلَه وفَنَّدَه، وعَرَضَ الأَدلةَ العديدةَ على أَنَّ اللهَ هو الإِلهُ وَحْدَه، لا شريكَ له.
أَمّا زعْمُه أَنَّ العربَ الجاهليّين كانوا يُكَبّرونَ اللهَ في بعضِ أَحوالِهم فهذا
باطل، وزَعْمُه أَنَّ عبدَ الله كَبَّرَ اللهَ لما نَجا من الذَّبْحِ باطل، وهو يَعتمدُ على
بعضِ الأَخبارِ والرواياتِ غير الثابتة، ومعلومٌ أَنه ليس كُلُّ قولٍ أَو خبرٍ في
كتبِ المؤَرّخين أَو المحَدِّثين أَو المفسرين معتمداً، ولا بُدَّ من تخريجِ تلك
الأَقوالِ والأَخبار، واعتمادِ ما صَحَّ منها!!.
وقد كانتْ فريةُ الفادي كبيرةً، عندما زَعَمَ أَنَّ المسلمين أَخَذوا قولَهم:
" الله أَكبر " عن العربِ الجاهليّين، واعتبرَ هذه العبارةَ صورةً من صورِ الشركِ بالله، لأَنها تدل على وُجودِ آلهةٍ صغارٍ بجانبِ اللهِ الأَكبر!!.(1/258)
إِنَّ كلمةَ " اللهُ أَكبر " عنوانُ التوحيد، بجانبِ الكلمةِ الطيبة: " لا إِله
إِلّا الله "، ولذلك جعَلها الإِسلامُ عنوانَ الدخولِ في الصلاة، والانتقال فيها، وفي العيدَيْن وغيرهما.
***
حول عالم الجن
تَحَدَّثَ القرآنُ عن عالَمِ الجِنّ، وأَخبرَ عن استماعِ نَفَرٍ من الجِنِّ القرآنَ
من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإيمانِهم به، ودخولِهم في الإِسلام.
قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) .
وقد خَطَّأَ الفادي المفترِي القرآنَ في حديثِه عن عالَمِ الجن، ونفى وجودَ
جِن مؤمنين، لأَنَّ عالَمَ الغيب عنْدَه إِما ملائكةٌ وإمّا شياطين، وأَثارَ حولَ
القرآنِ أَسئلةً تشكيكيةً.
قال: " ويُعَلِّمُنا الكتابُ المقَدسُ بوجودِ ملائكةٍ وشياطين، ولكنَّه لا يُعَلمُ بوجودِ الجِنّ، الذي يَقولُ المسلمونَ: إِنهم جنسٌ عاقلٌ بينَ الإِنسِ والشياطين، وإنهم لما سَمعوا القرآنَ آمَنوا به وبالله، وبَشَّروا الجِنَّ الآخَرين، وقالوا: إِنَ القرآنَ جاءَ من بعدِ موسى.
فلماذا لم يُسمع اللهُ الجِنَّ رسالةَ موسى وعيسى؟
ولماذا خَصَّ الجِنَّ بالقرآنِ وَحْدَه؟
ولماذا يَقولُ الجِنُّ: إِنَّ القرآنَ جاءَ من بعْدِ موسى؟
ولم يَقُلْ من بعدِ الزبورِ والإِنجيل، مع أَنَّ الإِنجيلَ أَقربُ إِليهم من عَهْدِ موسى؟
وكيف يَتَصَوَّرُ صاحبُ القرآنِ أَنَّ الجنَّ وهم أَرواحٌ يَتَزَوَّجونَ وَيَتَناسلونَ مع أَنهم يقولون: إِن إِبليسَ من الجن؟ ".(1/259)
يَزعمُ الفادي أَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ لا يتحدَّثُ إِلا عن الملائكةِ
والشياطين، وهو لا يتحدثُ عن الشياطينِ وطبيعتِهم والمادةِ التي خُلِقوا منها، ويَنفي الفادي وجودَ عالَمِ الجِنّ، لأَنَّ الكتابَ المقَدّسَ لم يتحدثْ عنه.
وقد كانَ القرآنُ صريحاً في حديثِه عن الجِنّ، حيثُ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ
الجِنَّ قبلَ الإِنْس، وأَنَّه خَلَقَهم من مارِجِ من نار.
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) .
وأَخْبَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المادَّةِ التي خُلِقَ منها كلّ من الملائكةِ والجِنِّ والإِنس: " خَلَقَ اللهُ الملائكةَ من نور، وخَلَقَ الجِنَّ من النار، وخَلَقَ آدَمَ مما وَصَفَ لكم ".
والمخلوقاتُ العاقلةُ في هدا الكونِ ثلاثةٌ هي: الملائكةُ والجِنُّ والإِنس.
وسُمَيَ الجِنُّ جِنّاً لأَنهم يَسْتَتِرون عن الإِنسِ ولا يَرونَهم.
قالَ تعالى عن إِبليسَ والجِنّ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) .
والشياطينُ ليسوا جِنْساً مستقلّاً كالإِنْس والجِن، وإنما وَصفٌ يُطْلَقُ على
الكافرين، سواء كانوا إِنساً أَو جِنّاً، فهناك شياطينُ الإِنس وهناك شياطينُ
الجن.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) ، وَوُصِفَ الكفارُ بأَنهم
شياطينُ لأَنهم مُتَمَرِّدونَ بَعيدونَ عن رحمةِ الله.
وإبليسُ شيطان لأَنه أَولُ كافر، وهو من الجِنِّ بنَصِّ القرآن.
قالَ تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) ، فهو جِنّيٌّ من حيثُ النَّسَب والجنس، وهو شيطان من حيثُ الوصف.
والجِنُّ مُكَلَّفون كالإِنس، لأَنهم عقلاءُ مثلُهم، ومنَحَهم اللهُ من وسائلِ
العلمِ والمعرفةِ والقدرة والإرادةِ ما أَهَّلَهم للمسؤوليةِ والتكليف.
وبعثَ اللهُ رسلاً للجِنِّ كما بَعَثَ رُسُلاً للإِنسِ، والراجحُ أَنَّ رُسُلَ الجِنِّ(1/260)
من الجِن، لأَن اللهَ بعثَ كلَّ رسول بلسانِ قومِه، ليُبينَ لهم الدعوة، ويَفْهَموا عليه كلامَه.
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
وأَخبرَنا اللهُ أَنه بعثَ للجنِّ رُسُلاً من الجنِّ.
قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا) .
ولذلك لم يُبْعَثْ أَحَدٌ من الرسلِ السابقين المذكورين في القرآن إِلى
الجن، ولم يُبْعَثْ رسولاً للناسِ كافَّة، وإِنما بُعِثَ كُلٌّ منهم إِلى قومِه خاصّة،
يَنطبقُ هذا على نوحٍ وإِبراهيم، كما ينطبقُ على موسى وهارون، وعلى داودَ وسليمان، وعلى زكريا وعيسى - صلى الله عليهم وسلم -.
وخَصَّ الله أَفضلَ الخلقِ وأَشرفَهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - بخاصيةٍ، دالَّةٍ على فضْلِه على باقي الأَنبياءِ والمرسلين، فبعَثَه للناسِ كُلِّهم، على اختلافِ الزمانِ والمكان، حتى قيام الساعة، ونَسَخَ برسالتِه جميعَ الرسالاتِ السابقة.
وَوَرَدَ هذا صريحاً في أكثرَ من آية، منها قولُه تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) .
ولم يَبْعَثْهُ للإِنس كلّهم فقط، وإِنما بَعَثَه للإِنسِ والجِنِّ جَميعاً، وأَمَرَ
الجن بأَنْ يُؤمنوا به كالإِنس، واستجابَ فريقٌ منهم وآمَنوا به، وصاروا
مسلمين، والذين لم يَدْخُلوا في الإِسلامِ كافرون مخلَّدون في نار جهنم، ككفارِ الإِنس.
قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) .
ولذلك ساقَ اللهُ إِلى رسولِه نَفَراً من الجنّ، فسمعوا القرآنَ منه، وتأَثَّروا(1/261)
به، وأَعلنوا إِيمانَهم وإسلامَهم، قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) .
وقال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) .
بعدَ هذا التيانِ نَعرفُ سخافةَ وغباءَ الفادي الجاهلِ في اعتراضِه على
حديثِ القرآنِ عن الجن، وفي أَسئلتِه التشكيكيةِ التي أَثارَها حولَ الجِنّ وموسى وعيسى - عليهما السلام -، والجنِّ والتوراةِ والزبورِ والإِنجيل!! فلم يكونوا مكَلَّفين بالإِيمانِ بموسى وعيسى - عليهما السلام -، ولا الإِيمانِ بالكتبِ السابقةِ كالتوراةِ والإِنجيل، لأَنهم مأمورونَ بالإِيمانِ بالقرآنِ فقط.
وحديثُهم عن التوراةِ النازلةِ على موسى - عليه السلام - لا غَرابةَ فيه، وهو الذي أَشارَ له قولُه تعالى: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) .
فرغْمَ أَنَّ الجنَّ لم يكونوا مكَلَّفين بالتوراةِ وبموسى - عليه السلام -، إِلّا أَنهم كانوا يَعرفونَ أَنَّ اللهَ بعثَ موسى - عليه السلام - رسولاً، وأَنزلَ عليه التوراةَ، لأَنَّ الجنَّ يعلمونَ أَخبارَ الإِنسِ وأَحوالَهم، وأَخبرَهم رسلُهم من الجنِّ بهذه الأَخبارِ عن موسى والتوراة.
المهمُّ عندنا أَنَّ مرجعيّتَنا هو القرآن، وكلُّ ما وردَ فيه فهو حَق، نؤمنُ به
ونُصدِّقُه، لأَنه كلامُ اللهِ الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يَدَيْه ولا من خلْفِه.
***
هل يأمر الله بالفسق والفحشاء؟
اعترضَ الفادي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) .
وأَثارَ حولَ هذه الآيةِ أَسئلةً خبيثة، تدلُّ على تخطئتِه لها.
قال: " فهل(1/262)
يُريدُ اللهُ إِهلاكَ النّاس؟
وهل يأْمُرُ مُتَنَعِّميهم بالفسق، لتحقَّ العقوبةُ عليهم وعلى الفقراءِ بينَهم؟
وهلْ يُناسبُ هذا عدل اللهِ وقداستَه وأَمانتَه؟
وكيفَ يُنْسَبُ للهِ الجورُ والفسقُ والظلم؟ ".
وذَكَرَ آياتٍ أُخرى تُناقضُ الآيةَ السابقةَ في نظره.
قال: " ويُناقضُ القرآنُ قولَه السابقَ بقولِه: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ) ، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) .
وقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) .
ولا تَناقُضَ بينَ آيةِ سورةِ الإِسراءِ والآياتِ الثلاثِ التي أَوردَها، لأَنه
لا تناقُضَ بينَ آياتِ القرآن، وهذه بدهيَّةٌ مُقَرَّرة.
فتتفقُ الآياتُ الثلاثُ مع آيةِ سورةِ الإسراءِ على أَنَّ اللهَ لا يأْمرُ بالفحشاء، ولا يأمرُ بالفسق، ولا يأمرُ بالحرام، ولذلك كَذَّبَ القرآنُ المشركين الذينَ فعلوا الفحشاءَ، وزَعموا أَنَّ اللهَ هو الذي أَمرهم بها، وأَخبرَ أَنه لا يأمُرُ إِلّا بالقسطِ والعدلِ والخير: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) .
أَما آيةُ سورةِ الإِسراءِ فإِنَّ الفادي الجاهلَ لم يفهمْ معناها، ولذلك
خَطَّأَها وأَثار حولَها أَسئلتَه التشكيكيةَ الخبيثة.
إِنَّ الآيةَ تُخبرُ عن سُنَّةٍ ربانيةٍ مطردة، بشأْنِ فسقِ المترفين وبطرِهم،
وتكبرِهم على أَوامرِ ربّهم، ونشرِهم الفسادَ في البلاد، مما يُؤَدّي إِلي العقابِ
والإِهلاكِ والتدمير.
تُخبرُ الآية ُ عن إِنعامِ اللهِ على أَهلِ القريةِ بالمال، وغنى مجموعةٍ منهم،
وتحوُّلِهم إِلى أَغنياءَ مُترفين، ويأمُرُ اللهُ هؤلاء المتْرَفين بعبادتِه وطاعتِه، وتنفيذِ
أَوامره، واجتنابِ مُحَرَّماتِه، لكنهم يَتَكَبَّرونَ على الله، ويرفضونَ طاعتَه،(1/263)
ويُخالفون أَمره، ويَفسقونَ في القرية، ويَنْشُرون فيها الفسادَ والمعاصي
والفسوق، ويُفْسِدونَ بذلك أَهْلَها، فيحق عليها القول، وتنطبقُ عليها السنةُ الربانية، ويوقعُ بها العقابَ، ويُدَمِّرُها تَدْميراً.
في معنى الآيةِ جُمَلٌ مُقَدَّرَة، لتوضيح المعنى، ومعلومٌ أَنَّ الحذفَ والذكْرَ
ملحوظانِ في القرآن، ومرادانِ لحكمةٍ مقصودة، فإِذا ذَكَر القرآنُ الجملةَ ذَكَرَها لحكمةٍ مقصودةٍ مرادة، وإِذا حَذَفَها حَذَفَها لحكمةٍ مقصودةٍ مرادة، فهو معجزٌ في ما يَذْكُر، ومعجزٌ في ما يَحْذِف!.
وتقديرُ الآية: إِذا أَرَدْنا أَنْ نهلكَ أَهْلَ قرية، أَمَرْنا مُتْرَفيها بالطاعة،
لكنَّهم يَرفضون أَمْرَنا، ويَفْسُقونَ فيها، وبذلك يحقُّ عليها قولُنا، وتنطبقُ عليها سُنَّتُنا، ونُدَمِّرُها تَدْميراً.
وتَهدفُ الآيةُ إِلى أَنْ تُقَررَ قاعدةً مطردة، وهي ارتباطُ الترفِ بالتمردِ
والعصيانِ والمخالفةِ والفسقِ، وانتشارُ الفسادِ ثمرةٌ للترفِ والفسق، وهذا كلّه طريقٌ للهلاكِ والعقابِ والتدمير.
وبهذا نعرفُ غَباءَ أَسئلةِ الفادي التي اعترضَ بها على الآيَة.
فاللهُ لا يُريدُ إِهلاكَ الناسِ ابتداءً، لأَنه مُنَزهٌ عن الظلمِ سبحانه، ولكنَّه يُرتِّبُ الإِهلاكَ على العصيانِ والفسقِ والذنوب، فإِذا عصى الناسُ عاقَبَهم الله وقَرَّرَ إِهلاكهم، وهذا عدلٌ منه سبحانه!.
ولم يأْمر اللهُ المتْرَفين بالفسقِ كما فهمَ الفادي الجاهل، وإِنما أَمَرهم
بالطاعة، لكنَّ الفسقَ ناتجٌ عن عِصيانِهم لأَمْرِ الله، وعِقابُ اللهِ للفاسقين
المترفين المجرمين عَدْلٌ منه سبحانه.
ومَنْ قالَ: إِنَ الآية تَنسبُ الجورَ والفسقَ والظلمَ إِلى الله؟!
هذا هو فهمُ الفادي الجاهل! إِنَّ الآيةَ تَنسبُ العَدْلَ إِلى الله، وتُرَتّب العِقابَ على الفسق الناتجِ عن معصيةِ الله!.(1/264)
لم يشك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالوحىِ
وَضعَ الفادي المفترِي عِنواناً مثيراً هو: " الوحيُ الذي يَشُكُّ فيه مُبَلِّغُه "
اعترضَ فيه على آيتَيْن من القرآن، ووظَّفَهما دليلاً على عَدَمِ نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى سيطرةِ الوساوسِ عليه بشأنِ الوحي:
الأولى: قوله تعالى: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) .
اعتبرَ الفادي الآيةَ دَليلاً على شَكِّ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بالوحيِ والنبوة، وزعم أَنه ملأَ الحرجُ والشَّكُّ صَدْرَه، وسيطرت الوساوسُ عليه، ولذلك تَدْعوه الآية إِلى إِخراجِ الحَرَجِ من صَدْرِه، وإِزالةِ الشّكّ والوساوسِ عنه!.
ونَقَلَ كَلاماً عن البيضاوي يُؤَيِّدُ ما ذَهَبَ إِليه.
قال: " وقالَ البيضاويُّ في تفسيرِ الآية: (حَرَجٌ منهُ) : أَيْ شَكّ فيه.
فإِنَّ الشّاكّ حَرِجُ الصدْرِ وضَيِّقُ القَلْبِ مَخافَةَ أَنْ يُكَذَّبَ فيه..".
وقد تَصرَّفَ المفْتَرِي في كلامِ البيضاوي! والذي قالَه البيضاويُّ هو:
(فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) : أَيْ: شَكّ، فإِنَّ الشّاكَّ حَرِجُ الصَّدْرِ.
أَو: ضِيقُ قَلْبٍ من تبليغِه، مخافَةَ أَنْ تُكَذَّبَ فيه، أَو تُقَصرَ في القيام بحقِّه..
وتَوجيهُ النهيِ إِليه للمبالغة..".
لا تدلُّ الآيةُ على أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان عندَه شَكّ في الوحْي، كما فهمَ الفادي منها ذلك، إِنما تَنهى الآيةُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - عن التحرج من تَبليغِ الوحْيِ وإِنذارِ الناسِ به: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) .
أَيْ: لا تتحرجْ من إِنذارِ الناسِ به..
وفَرْقٌ بين القول: كانَ عنْدَه شَكّ في الوحيِ والنبوة.
وبينَ القول: يَدْعوهُ اللهُ إِلى عدمِ التحرجِ من إِنذارِ الناسِ به!.(1/265)
وإِذا تحرجَ من الإِنذارِ والتبليغِ، يكونُ التحرجُ خشيةَ أَنْ يُكَذّبَه
الكافرون، أَو خشيةَ تقصيرِه من القيامِ بِالحَقِّ وأَداءِ الواجب.
ولا تَدُلُّ الآية ُ على أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - تحرجَ من الإِنذار، إِنما تدلُّ على أَنه إِذا أَصابَه التحرجُ من الإِنذارِ فعليه أَنْ يُزيلَه.
علماً أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لم يتحرجْ من الإِنذارِ أَبداً!!.
الثانية قولُه تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) .
إِنْ شَك الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بالوحيِ الذي أَنزلَه اللهُ إِليه فعليه أَنْ يُزيلَ هذا الشَّكَّ، بسؤالِ أَهْلِ الكتابِ من قَبْلِه، أَمّا إِنْ لم يَشُكّ بالوحيِ فلا داعي لسؤالِ أَهْلِ الكتاب..
فهلْ شَكَّ بالوحْيِ واضطرَّ إِلى السؤالَ؟
الجوابُ بالنَّفْي، فلم يَشُكَّ بالوَحي، ولم يضطرَّ إِلى السؤال.
ولما أَرادَ الفادي المفترِي أَنْ يُوَظِّفَ الآيةَ لافترائِه، ويجعلَها إِدانةً
للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّه شاكٌّ بالوحيِ والنبوة، ذَهَبَ إِلى تفسيرِ البيضاويِّ كعادتِه، فلما لم يَجدْ عنْدَه ما يُريدُ؟
تَرَكَه، وتَوَجَّهَ إِلى تفسيرِ الرازي! فلماذا الرازي في هذه المرة؟
لأَنَّ المفترِي يظنُّ أَنَّ عنده ما يوافقُ هواه!.
قالَ الفادي: " قالَ الإِمامُ الرازي في تفسيرِ سورة يونس: من الوجوهِ في
تفسيرِ النصّ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) الخطابُ لمحمد.
وأَنَّ محمداً من البشر، وكان حصولُ الخواطرِ المشوِّشةِ والأَفكارِ المضطربة في قلبِهِ من الجائزاتِ، وتلكَ الخواطرُ لا تندفع إلّا بإيرادِ الدلائلِ وتقريرِ البينات، حتى إِنَّ بسببِها تَزُولُ عن خاطرِه تلك الوساوس ".
ولما رَجَعْنا إِلى تفسيرِ الرازي وَجَدْنا الأَمْرَ على غيرِ ما ذَكَرَه الفادي المفترِي.
فقد ذَكَرَ الرازي قولَيْن في تحديد المخاطبِ بالآية:
الأول: الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الظاهرِ، والمرادُ غيرُه.(1/266)
الثاني: الخطابُ للإِنسانِ الشّاكِّ في نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم.
والتقديرُ: إِنْ كنتَ أَيها الإنسانُ في شَكٍّ مما أَنزلْنا إِليك من الهدى على لسانِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فاسأَلْ أَهْلَ الكتابِ لِيَدُلُّوكَ على صحةِ نبوَّتِه.
ونفى الرازي أَنْ يكونَ الخطابُ في الحقيقةِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ورَجَّحَ أَنْ يكونَ الخطابُ في الظاهرِ له، لكنَّ المرادَ غيره.
وقالَ كَلاماً رائعاً في توجيهِ ذلك:
" والذي يَدُلُّ على صحةِ ما ذَكَرْناهُ من وجوه:
الاوَّل: قولُه تعالى في آخرِ السورة: (يا أيُّهَا ألنَّاسُ إِن كنُتم فِى شَكٍّ من
دِينِى) .
فَبَيَّنَ أَنَّ المذكورَ في الآيةِ السابقة هم المذكورونَ في هذه الآيةِ على
سبيلِ التصريح.
الثاني: أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لو كانَ شاكاً في نبوةِ نفسِه لكانَ شَكُّ غَيرِه في نبوتِه أَوْلى، وهذا يوجبُ سُقوطَ الشريعةِ بالكلية.
الثالث: بتقديرِ أَنْ يكونَ شاكاً في نبوةِ نفسِه، فكيفَ يزولُ ذلك الشَّكُّ
بإِخبارِ أَهْلِ الكتابِ عن نبوَّتِه، مع أَنهم في الأَكثرِ كُفّار؟!
وقد ثَبَتَ أَنَّ ما في أَيديهم من التوراةِ والإِنجيلِ مُصحَّفٌ مُحَرَّف ...
فثبتَ أَنَّ الحَقَّ هو أَنَّ هذا الخطابَ وإِنْ كانَ في الظاهرِ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أَنَّ المرادَ به أُمَّتُه ".
حذف الفادي هذا الكلامَ كُلَّه، لأَنه لا يُساعدُ في ما يريدُه من اتهامِ
النبيِّ وتخطئةِ القرآن.
حتى الوجهُ الذي قالَه الرازي، ونقلَه الفادي عنه ليس كما نَقَلَه الفادي،
لأَنه أَخَذَ منه الجزءَ الذي يتفقُ مع هواه، وأَسقطَ الجزءَ المهمَّ منه، وهو قولُ
الرازي: " وتَمامُ التقرير في هذا الباب: إِنَّ قولَه: (فإن كنُتَ فِى شَكٍّ) فافعلْ كذا وكذا قضيةٌ شرطية، والقضيهُ الشرطيةُ لا إِشعارَ فيها ألبتة بأَنَّ الشرطَ وَقَعَ أَو لم يَقَعْ، ولا بأَنَّ الجزاءَ وَقَعَ أَو لم يقع، وليس فيها إِلّا بيانُ أَنَّ ماهيةَ ذلك الشرط مستلزمةٌ لماهيةِ ذلك الجزاء ... .
إِنَّ الآيةَ تدلُّ على أَنه لو حَصَلَ هذا الشّكّ لكانَ الواجبُ عليه هو،(1/267)
فِعْلَ كذا وكذا، فأما أَنَّ هذا الشَّكَّ وَقَعَ أَو لم يقع، فليسَ في الآيةِ دلالةٌ
عليه.
والفائدةُ في إِنزالِ هذه الآيةِ على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ تَكثيرَ الدلائلِ وتقويتَها مما يَزيدُ في قوةِ اليقينِ وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أَكثرَ اللهُ في كتابِه من تقريرِ دلائلِ التوحيدِ والنبوة ".
ذَكَرْنا ما قالَه الرازي في تفسيرِ الآيةِ لنُطلعَ القراءَ على مزاجيةِ الفادي
وافترائِه، وتلاعُبه وتحريفِه، وافتقادِه الأَمانةَ العلميةَ في النقلِ والإِحالة، مع أَنه يلبسُ ثوبَ الموضوعيةِ والمنهجيةِ والحيادِ والبحثِ عن الحقيقة.
واستخرجَ من كلامِ الرازيِّ والبيضاوي أُكذوبةً مفتراة، لم يذكُرْ أَيٌّ منهما
حَرْفاً واحداً منها؟
قال: " واضحٌ من هذا أَنَ محمداً كان يَشُكُّ في مصدَرِ وَحْيِه، وأَنَّ كلامَه من عندِ الله أَم ليس بوحي، حتى نَصَحَهُ مَصدَرُ وَحْيِه أَنْ يَسألَ في ذلك اليهودَ والنصارى، الذين يَقْرَؤونَ الكتابَ من قبلِه، فإِن كانَ الرسولُ يشكُّ في رسالتِه، والمبلّغُ يَرتابُ في صِدْقِ بَلاغِه فكيف يَتوقَّعُ من سامِعيه أَنْ يُصَدِّقوه؟ ".
ولقد كانَ الفادي كاذباً مفترياً في كلامِه، وفي هذه النتيجةِ التي خَرَجَ
بها، وسَبَقَ أَنْ نفاها كُلٌّ من الرازي والبيضاوي.
ونفى الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - الشّكَّ عن نفسِه، ولذلك قال: " واللهِ لا أَشُكُّ ولا أَسْأَلُ "
أَي: أَنا لستُ في شَكٍّ مما أَوحى اللهُ إِليَّ، ولستُ بحاجةٍ إِلى سؤالِ أَهْلِ الكتاب (1) .
وادَّعى الفادي المفترِي دَعوى كاذبةً، زَعَمَ فيها أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - اعترفَ أَنَّ مرجعَ القرآنِ هو الكتابُ المقَدَّس.
قال: " وفي الوقتِ الذي كانَتْ فيه الشكوكُ تُساورُ محمداً في وحْيِه اعترفَ أَنَّ المرجعَ والمحكَّ لأَقوالِه هو الكتابُ المقَدَّس، ولذلك قالَ في القرآن: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) .
__________
(1) قال القاضي الباقلاني ما نصه:
فأمَّا تعلُّقهم بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وأن هذا نقيضُ ما وصَفَ به سائر رسله من
أنّهم أعلمُ الخَلْق به، وأعرفُهم بصدقه وصفاته، وأنهم مختارون ومصطفَون
على علمِ على العالمين، فإنه لا تعلق لهم فيه من وجوه.
أولها: أنّ هذا القولَ ليس بخبرٍ عن حصول شكه عليه السلام فيما أُنزل
عليه وإنّما هو تقريرٌ له وتنبية أنه منزل على غيره أيضًا، وقد يقول القائل لمن
يعلمُ أنه لا شكّ عنده في الأمر، ولا ريبَ: فإن كنتَ في شك مما أنزله
وأخْبَر به فسل غيري وسل الناس عنه، وسيما إذا كان يريدُ بذلك إظهارُ صدقه بحضرة من يُنكر ذلك ويدفعه، وربَّما قال له ذلك في الأمر الشائع
الذائع ليجعل له طريقاً إلى سؤال الناس وإخبارهم بما عندهم من العلم في
ذلك الأمر ليزول ذلك الشك ويقوى سلطانُ الحجَّة، وتبطل الشبهة.
والقومُ أعني قريشا، ومن خالفَ الرسولَ كانوا يقولون له فيما نقلوه إفك
افتراه، وإفك مفترًى ومحدَّث ومجنون، وإن هذا إلا خلق الأولين، وشاعر
مجنون، فقال له: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، ليجعل له ذريعةً إلى ذلك، ومطالبةُ علمائهم مثلُ عبدُ الله بنُ سلام وغيره بما في كتابهم من ذلك تصديقاً لقوله أننا قد أبنَّا بذلك مَنْ كان قبلك، ولم يقُل إنك شاكٌّ فيما أنزل عليك.
ويُوضح هذا أيضا أن القائلَ قد يقول لمن يعلم بتيقنه ظلمُ زيد وجهلُه
وتخليطُه وأنه لا شك في ذلك: إن كنت في شك من ظُلم زيدٍ فعامِلْه لتنظر.
وإن كنتَ في شكٍ من تخليط فلانٍ وخبطه فقاوله وناظره، وإن كنت في شك
من هوْلِ البحر فاركبه، وإن كنت في شك من جود فلانٍ أو بُخله فمن يعرفُ حالَهُ فسلهُ والتمس منه لتعلم ردّه أو إجابَته، في أمثال هذا مما قد ظهر
استعمالُه بينهم، فعلى هذا الوجه ورد قولُه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) .
وقد يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ظن أن بعض ما أُنزل إليه من العبادات أو بعض ما قصً عليه قد أُنزل على موسى، وأحب الله أن يقطعَ شكه في ذلك فقال: فإن كنت في شك مما أُنزلَ إليك في أنه منزل على موسى ومن كان قبلك فسَلْهم عن ذلك ليخبروك عنه، فيزولَ شكُّكَ، وقد يكونُ من مصالحه ومصالح أمته أو بعضها الأمرُ بسؤال أهل الكتاب عما يشكُ عليه السلامُ في أنَه منزَل عليهم، وربَّما كان ذلك تقويةً ليقين غيره إذا عَرَفَه، فلم يُرد بذلك الشكً في أنَه من عند الله، وإنما أرأدَ الشكُ في أنه منزل على غيره أم لا.
وقد يجوز أيضا أّن يكون أُتزل عليه جملةً قصةٍ وعبادةً مجمَلةً أخرَ عنه
بيانها إلى وقت الحاجة،. وقد بيّن تفصيلَها وشرح تلكَ القصة في كتابِ
موسى، فقال له: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) يعني في شك من تفصيلِه، فارجع في ذلك إلى أهل الكتاب فإنني قد أنزلتُ تفصيلَ ذلك عليهم، وليس هذا من الشك في أن ما أُنزلَ عليه منزل من عند الله بسبيل.
وقد يجوز أن يكون أراد بقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي إن كان قومك أو
بعضُهم في شك فسل أهل الكتاب ليخبروهم بمثل ما تخبرهم به فيؤمنُ عند
ذلك من كان إخبارهم إياه به لطفا له، فيكون ذاكراً للنبي صلى الله عَليه
والمرادُ به غيره، وعلى نحو هذا ورد قولَه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) .
الخطاب له في الظاهر والمرادُ به غيره الشاكُّ فزال بذلك ما قَدَحوا به. اهـ (الانتصار للقرآن. 2 / 715: 717)(1/268)
ولا نُعيدُ ما قلناهُ قبلَ قليلٍ عن دلالةِ الجملةِ الشرطية: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) .
إِنما نُشيرُ إِلى افتراءِ وكَذِبِ الفادي في فريتِه، التي جعلَ فيها الكتابَ المقَدَّسَ مَرْجعاً للقرآنِ، وحَكَماً عليه.
وقد أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ القرآنَ هو المرجعُ والحَكَم، وأَنَّ الكتبَ السابقةَ
كالتوراةِ والإِنجيل لا بُدَّ أَنْ تُحاكَمَ إِلى القرآن، وأَنْ تُعْرَضَ على القرآن، فما
اتفقَ مع القرآنِ منها أَخَذْناهُ، وما خالفَ القرآنَ رَدَدْناه، وجَزَمْنا بوضعِه وكَذِبِه واختلاقِه، وأَنه ليسَ من كلامِ الله، وإِنما هو من كلامِ الأَحبارِ أَو الرهبان.
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) .
وافترى الفادي كذبةً أُخرى عندما نَسَبَ إِلى القرآنِ إِقْرارَه بأَنَّ توراةَ يهودِ
عصْره صحيحةٌ سليمة، قال: " وأَكَّدَ القرآنُ أَنَّ التوراةَ المَي بينَ يَدي يهودِ
عصْرِه صحيحةٌ سليمة، فيها حُكْمُ الله، والأَوْلى أَنْ يَرْجِعوا إِليها، لا أَنْ
يَرْجِعوا إِلى محمد، فقال: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) .
وأَوصى القرآنُ المسيحيين أَنْ يُلازِموا أَحكامَ إِنجيلِهم، وحَكَمَ
بالفِسْقِ على مَنْ لا يُقيمُ أَحكامَ الإِنجيل.
فقال: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) .
لم يُقِر القرآنُ أَنَّ التوارةَ التي مع اليهودِ في عصْرِ التنزيلِ صحيحةٌ سليمةٌ،
فيها حُكْمُ اللهِ الذي يَجبُ أَنْ يُتَّبَع، وإِنما جَزَمَ أَن هذه التوارةَ محرفةٌ مَكْذوبة.
وجاءَ هذا في عدةِ آيات، منها قولُه تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .
وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) .
وأَنكرَ اللهُ على اليهودِ احتكامَهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأَنهم أَرادوا بذلك التلاعبَ والتحايلَ والمكْرَ والخِداع، بهدفِ الحُصولِ على حُكْمِ مُخَفَّفٍ منه، وقد عَرَفَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا التلاعُبَ والمكر، فحكَمَ فيهم بَحكْمِ اللهِ في
التوراة، وأَقامَ حَدَّ الرجمِ على اليهوديِّ واليهوديةِ اللَّذَيْنِ زَنَيا.(1/269)
ودعوةُ القرآنِ النصارى إِلى الاحتكامِ للإِنجيل، ليقودَ ذلك إِلى الاعتقادِ
بأَنَّ القرآنَ كلامُ الله، وأَنَّ محمداً هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لأَنَّ الإِنجيلَ بَشَّرَ بالنبيِّ الخاتمِ - صلى الله عليه وسلم -، فاحتكامُهم الصحيحُ للإِنجيل معناهُ دخولُهم في الإِسلام!!.
***
هل في القرآن أقوال للناس؟
هل أَخَذَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ من النّاس؟
وهل وَضَعَ فيه أَقوالاً للنّاس؟
هذا ما يؤكِّدُه الفادي المفترِي، ولذلك بَدَأَ اعتراضَه السادسَ والثمانينَ على القرآنِ بنَفْي كونِ القرآنِ وَحْياً من عندِ الله، قال: جاءَ في سورةِ المدثر: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) .
فقالَ محمد: إِنَّ قرآنَه وحيٌ من الله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) .
وهذه مغالطةٌ من الفادي المفترِي، فآيةُ سورةِ المدَّثرِ التي سَجَّلَها،
ذَكَرَ اللهُ فيها اتهامَ زعيمِ مكةَ الوليدِ بن المغيرةِ للقرآنِ بأَنه سِحْر، والآيةُ ضمنَ آياتٍ تتحدَّثُ عن حادثةِ الوليدِ واتِّهامِه، يَعرفُها الفادي عن يَقين، لكنَّه لم يُشِرْ إِليها.
وخلاصةُ حادثةِ الوليدِ بن المغيرة أَنَ زعماءَ قريشٍ اجْتَمعوا قُبيلَ موسمِ
الحَجِّ، ليتَّفِقوا على كلامٍ موحَّد، يَقولونَه في القرآن، ليصُدّوا الناسَ عنه، فقالَ لهم الوليد: قولوا وأَنا أَسمع.
فقالوا: نَقولُ عنه: إِنَّه شِعْر.
قال: إِنَّه ليس شِعْراً.
فقالوا: نقول: إِنه سِحْر.
قال: إِنَّه ليس سِحْراً.
فقالوا: نقول: إِنه كَذِب.
قال: إِنه ليس كَذباً..
وكُلَّما ذَكروا قولاً رَدَّه الوليدُ بأَنه غيرُ منطقي، وأَنَّ الذين يَسمعونَه لا يُصَدِّقونه!.
فقالوا له: قُلْ أَنتَ يا أَبا الوليد! فماذا تَقول فىِ القرآن؟.
قال: دَعوني أُفَكّرْ ...
ولما فَكَّر لم يَجِدْ إِلّا أَنْ يَتَّهمه بأَنه سِحْر! وهو ما نَفاهُ عنه من قَبل.
وقالَ لهم: قولوا: إِنه سِحْرٌ يُؤْثَر، يُفَرقُ بينَ المرءِ وزوجِه.(1/270)
وقد أَنزلَ اللهُ آياتٍ من سورةِ المدَّثِّر تُصَوّرُ الوليدَ بنَ المغيرة صورةً
ساخرةً وهو يُفَكِّرُ ويُقَدِّرُ، ويَقولُ كلاماً لا يُصدقُه هو.
قال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) .
فالذي قالَ عن القرآن: " إِنْ هذا إِلّا قولُ البشر " هو الزعيمُ القرشيّ
الكافر، الوليدُ بنُ المغيرة، واعتمدَ الفادي المفترِي كلامَه، لأَنه يوافقُ هوىً
في نفسه إ!.
ولاحِظْ قَصْدَ المفترِي الخبيث من قولِه: " فقالَ محمد: إِنَّ قرآنَه وحي
من الله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) .
فهو يُؤَكِّدُ على بشريةِ القرآنِ، وأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يُؤَلِّفُ الآيات، ويَضَعُها في السُّوَر، ويَدَّعي أَنها من عندِ الله "!!.
وأَثارَ الفادي المفترِي الشبهاتِ حولَ " موافقات عمر "، واستشهدَ بها
على فكرتِه الشيطانيةِ حولَ بشريةِ القرآن!.
ومُوافقاتُ عمرَ هي حوادِثُ محدَّدَةٌ، كانَ عمرُ بن الخطابِ - رضي الله عنه - يقترحُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فعْلَ شيء مُعَيَّن، فتنزلُ الآيةُ توافِقُه على اقتراحِه، ويَدعو اللهُ فيها إِلى الأَخْذِ به.
قالَ الفادي المفترِي: " أَمّا أَنَّه قولُ البشرِ فواضِحٌ من أَنَّ القرآنَ حوى
أَقوالَ عمرَ بنِ الخطابِ التي دَوَّنَها محمد، باعتبارِ أَنها نزلَتْ من السماء ".
ويَقصدُ المجرمُ من هذا الكلامِ الاستفزازيِّ الوقحِ أَنَّ القرآنَ من قولِ
البَشر، وأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَه من قولِ الناسِ وكلامِهم وعباراتِهم، وادَّعى أَنها نازلة عليه من عندِ الله، ونَسَبَ القرآنَ كلَّه لله!!.(1/271)
وهو بهذا الاتهامِ يَنفي الجريمةَ التي وَقَعَ هو وأَهْلُ مِلتِه وأَسيادُه اليهودُ
بها عن نفسِه وشياطينِه، ويوجِّهُها للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
اليهودُ والنصارى هم الذين حَرَّفوا التوراةَ والإِنجيل، وقد أَدانَهم اللهُ على
جريمتِهم، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) .
أَمّا الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - فقد رَدَّ على الكفارِ الذين طَلَبوا منه تغييرَ القرآنِ أَو تَبديلَه، بأَنه لا يُمْكِنُهُ أَن يَفعلَ ذلك، لأَنه مُتَّبعٌ للوحْيِ الذي يَأتيه من عندِ الله.
قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) .
وهَدَّدَ اللهُ بأَنه لن يسمحَ لأَحَدٍ أَنْ يَتقوَّلَ عليه، ويَنسبَ له ما لم يَقُلْه،
حتى لو كانَ هذا الشخصُ هو رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: (
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) .
وقد نَسَبَ الفادي المفترِي خمسةَ أَقوالٍ لعُمر، وزَعَمَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَها منه وأَثْبَتَها في القرآن.
قالَ عن القولِ الأَول: " مَرَّةً قالَ عُمر: يا رسولَ الله! لو اتَّخَذْنا من مَقامِ
إِبراهيمَ مُصَلّى.
فجاءَ قرآنٌ يَقول: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
والروايةُ صحيحة، ومقامُ إِبراهيمَ هو الحجرُ الذي كانَ إِبراهيمُ - عليه السلام - يَقومُ(1/272)
ويَقفُ عليه وهو يَبْني الكعبة، حيثُ كانَ ابنُه إِسماعيلُ - عليه السلام - يُناولُه الحجارة، وكان هو يَقفُ على الحَجَر، وكان ذلك الحجرُ مُلْتصقاً بالكعبة، ثم أَبْعَدَه عمرُ عن الكعبة لئلا يَشُقَّ الطوافُ على الطائفين.
وقد اقترحَ عمرُ - رضي الله عنه - على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصلِّيَ الطائفون ركعَتي الطوافِ عندَ مَقامِ إِبراهيم، وهما ركْعَتا السنَّةِ اللَّتان يُصَلّيهما الطائفُ بعد الانتهاءِ من الطواف، فأَقَرَّه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على اقتراحِه.
وأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
وهو يَدُلُّ على صحةِ اقتراحِ عمرَ - رضي الله عنه - وفطنتِه
وبُعْدِ نَظَرِه.
وقالَ عن القولِ الثاني لعُمَر: " ومَرَّةً قالَ عمر: يا رسولَ الله! إِنَّ نِساءَك
يَدخلُ عليهن البَرُّ والفاجر، فلو أَمرتَهن أَنْ يحتجبْنَ.
فجاءَ قرآنٌ يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) .
والروايةُ صحيحة، دالّةٌ على بُعْدِ نَظَرِ عمرَ - رضي الله عنه -، فَرَغْمَ أَنَّ أَزواجَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مُحَرَّماتٌ على المسلمين، إِلَّا أَنَّ بعضَ المسلمين قد تَخطرُ لهم خواطرُ السوءِ نحوهن، ولذلك اقترحَ عمرُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يأْمرهن بالحجاب، لأَنه يدخلُ عليهنَّ البَرُّ والفاجر، وهذا من فَرْطِ غيرتِه عليهن.
وأَنزلَ اللهُ الآيةَ يأمُرُه بذلك، مما يدلُّ على صحةِ اقتراحِ عمر - رضي الله عنه -.
وقالَ الفادي عن القولِ الثالث: " ومَرَّةً اجتمعَ نساءُ محمدٍ في الغيرة.
فقالَ عمرُ لهنّ: عسى ربُّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَه أَزواجاً خيراً منكن.
فجاءَ قرآنٌ يقول: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
والروايةُ صحيحة، فقد اجْتمعَتْ أَزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واتَّفقْنَ على أَنْ يُطالبنَه بالتوسعةِ عليهن، وزيادةِ نفقتِهنَّ، فتألَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مَطالبهن، فوعَظَهُنَّ عمرُ - رضي الله عنه - وذَكَّرَهُنَّ وهَدَّدَهُنَّ، وقالَ لهنّ: إِنْ طَلَّقَكنَّ فعسى ربُّه أَنْ يُبدلَه أَزواجاً خيراً منكُنّ.
فأَنزلَ اللهُ تعالى قوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .(1/273)
وقال الفادي عن القولِ الرابع: " ومَرَّةً جاءَ قرآنٌ يَقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) ... ، فقالَ عمر: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، فسجَّلَ محمدٌ قولَ عمرَ في القرآن: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) .
وهذه الروايةُ أَوردَها الحاكمُ وابنُ مردويه وابنُ المنذر، لكنَّها لم تَصِحّ.
فلا تُصَنَّفُ ضمنَ موافقاتِ عمر.
وقالَ الفادي عن القولِ الخامس: " ومَرةً لقيَ يهوديٌّ عمرَ بنَ الخطاب،
فقالَ: إِنَ جبريلَ الذي يَذْكُرُه صاحبُكم عَدَوٌّ لَنا! فقال له عمرُ: مَنْ كانَ عدوّاً للهِ وملائكتِه ورسلِه وجبريلَ وميكال فإِنَّ اللهَ عدوٌّ للكافرين.
فَسَجَّلَ محمدٌ أَقوالَ عمر هذه بنصها: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) .
وهذه الروايةُ أَوردَها الحاكم، ولكنَّها لم تصح.
والحادثةُ وَقَعَتْ بينَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبينَ اليهود، وليسَ بين عمرَ - رضي الله عنه - وبين اليهود.
روى البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - عن حوارٍ بينَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبينَ اليهودِ حولَ أَسئلةٍ ثَلاثةٍ سأَلوهُ عنها، لا يَعلمُ جوابَها إِلّا نبيّ، فلما أَجابَهم عليها الجوابَ الصحيحَ قالوا له: حَدِّثْنا مَنْ وليُّك من الملائكة، فعندها نجامِعُك أَو نُفارِقُك..
قال: فإِنَّ وَلِيّي جبريلُ، ولم يَبعث اللهُ نبيّاً قَطّ إِلّا وهو وليُّه..
قالوا: عندها نفارقُك، ولو كَانَ وَليُّكَ سِواه من الملائكةِ تابَعْناكَ وصَدَّقْناك!.
قال: فما يمنَعُكُم أَنْ تُصدِّقوه؟
قالوا: إِنه عَدُوّنا!..
فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) .(1/274)
وبهذا نعرفُ أَنَّ نسبةَ القولَيْن الرابعِ والخامسِ لعمرَ - رضي الله عنه - لم تَصِحّ، رغم أَنَّهما ذُكِرا في بعضِ الروايات، ونقلَهما عنها السيوطيُّ في " الإِتقان "، ومعلومٌ أَنَّ السيوطيَّ لا يتحرّى الدِّقَّةَ في ما يَنقل، وأَنَّ صحةَ الروايةِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابِه شرطٌ لقَبولِها واعْتمادِها.
أَمَّا الأَقوالُ الثلاثةُ السابقة فقد ذَكَرَها البخاريُّ في صحيحه، وهي من
موافقاتِ عمر.
روى البخاريُّ عن أَنَسِ بنِ مالك - صلى الله عليه وسلم - قالَ: قالَ عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه -: وافَقْتُ رَبّي - أَو وافَقَني ربّي - في ثلاث: قلتُ: يا رسولَ الله: لو اتّخَذْتَ من مَقامِ إِبراهيمَ مُصلّى، فنزلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) .
وقلتُ: يا رسولَ الله: يدخلُ عليك البَرُّ والفاجر، فلو أَمرتَ أُمَّهاتِ المؤمنين بالحجاب، فأَنزلَ اللهُ آيةَ الحجاب.
وبَلَغَني مُعاتبةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ نسائِه، فدخَلْتُ عليهنّ فقلْتُ: إِن انتهيْتُنَّ أَو لَيُبْدِلَنَّ اللهُ رسولَه خيراً منكن، فأَتَتْ إِحْدى
نسائِه، فقالَتْ: يا عُمَر: أَما في رسولِ اللهِ ما يَعِظُ نِساءَه، حتى تَعِظَهُنَّ أَنت؟
فأَنزلَ اللهُ قولَه تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
ولا تَدُلُّ موافقاتُ عمرَ - رضي الله عنه - وما نَزَلَ من القرآنِ على لسانِ بعضِ الصحابة كما ذكرَ السيوطيُّ في الإِتقان - على أَنَّ في القرآنِ أَقوالَ الناس.
وأَنَّ القرآنَ صناعةٌ بشرية، كما قالَ الفادي المفتري! فكلّ مسلمٍ يُؤمنُ أَنَّ القرآنَ كُلَّه كلامُ الله، وأَنَّ ما فيه من موافقاتٍ إِخبارٌ من اللهِ عن بعضِ ما قالَه الصحابةُ أَو فَعَلوه، وهذا عِلْمٌ معروفٌ بعِلْمِ " أَسبابِ النزول ".
وهو أَنْ تَقَعَ الحادثةُ، فتنزل الآيةُ عَقِبَها.
وموافقاتُ عمرَ التي نَزَلَت الآياتُ مُقَرِّرَةً لكلامِ عمرَ واقتراحِه، تَدُلُّ على
فَضْلِ ومنزلةِ وفطنةِ عمرَ - رضي الله عنه -، بحيثُ يُنزلُ اللهُ الآيةَ في اعتمادِ كلامِهِ والأَخْذ ومن هذا البابِ ما " حكاهُ " القرآنُ في قصصِه، ونَسَبَهُ لأُناسٍ من السابقينَ، من كلماتٍ وأَقوالٍ وحِوارات، حيث نَقَلَ ما قالوه بلغاتِهم السابقةِ غيرِ العربية بلسانٍ عربيٍّ مبين!!.(1/275)
ولقد شَتَمَ الفادي المجرمُ القرآنَ والرسولَ - صلى الله عليه وسلم - في عباراتٍ استفزازية، مثل قولِه: " فَسَجَّلَ محمدٌ قولَ عمرَ في القرآن "، وقولُه: " فَسَجَّلَ محمّدٌ أَقوالَ عمرَ هذه بنَصها"..
وهو يَجزمُ في هذه العباراتِ بأَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي صاغَ القرآنَ وأَلَّفَه، ونَقَلَ فيه من أَقوالِ الناس، ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -!!.
***
حول سور الخَلْع والحَفْد والنّورين
يَرى الفادي المفترِي أَنَّ المسلمينَ حَرَّفوا القرآن، وأَسقطوا منه بعضَ
سُوَرِه، وأَنَّ بعضَ المسلمين أَلَّفَ بعضَ السورِ القرآنية، وهو بهذا يُكَذِّبُ آياتِ التحدي، التي قَرَّرَتْ أَن البَشَرَ لا يمكنُ أَنْ يأتوا بمثْلِ القرآن.
قال: " جاءَ في سورةِ البقرة: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) .
وجاءَ في سورةِ يونس: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) .
وجاءَ في سورة الإسراء: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) . "
ولم يُصَدِّق الفادي المفترِي مضمونَ آياتِ التحدي، وزَعَمَ أَنه تَمَّ الإِتْيانُ
بسُوَرٍ مثلِ القرآن.
قال: " فماذا يَحدثُ لو أَنَّنا أَتينا بسورةٍ واثنتينِ وثلاثِ سُوَرٍ
مثلِ القرآن، دونَ حاجةٍ إِلى اجتماعِ الإِنسِ والجِنِّ؟ ".
والسورُ الثلاثُ التي زَعَمَ الفادي المجرمُ أَنها مثْلُ القرآن، هي سور:
الخَلْعِ والحَفْدِ والنُّورَيْن، وزَعَمَ أَنَّ سورتي الحَفْدِ والخَلْعِ كانتا في مصحفِ
أُبَيّ بنِ كَعْب وابنِ عباس، وذَكَرَ كلماتِ السُّوَرِ الثلاث.(1/276)
ونَصُّ سورةِ الخلْعِ الذي ذَكَرَه هو: " اللهمَّ إِنّا نَستعينُك ونَستغفرُك، ونُثْني
عليكَ ولا نَكْفُرُك، ونَخلعُ ونَتركُ مَنْ يَفجرُك ".
ونَصُّ سورةِ الحَفْدِ الذي ذَكَرَه هو: " اللهمَّ إِيّاك نَعْبُد، ولك نُصَلّي
ونَسجد، وإِليكَ نَسْعى ونَحْفِد، نَرجو رحمتَك ونَخشى عَذابَك، إِنَّ عذابَك
بالكفارِ مُلْحِق ".
وعَلَّقَ على كلماتِ السورتَيْن المزعومتَيْن بقوله: " ومعلومٌ أَنَّ سورتَي
الخَلْعِ والحَفْدِ جاءَتا في مصحفِ أُبَيِّ بنِ كعب، وفي مصحفِ ابنِ عباس، وأَنَّ
محمداً عَلَّمَهُما لعليّ بن أَبي طالب، الذي كان يُعَلِّمُهما للناس، وصَلّى بهما
عمر بن الخطاب..
فلماذا لا تُوجدَانِ في القرآن المتداوَلِ اليوم؟
ولماذا أَسْقَطَهُما المسلمون؟.. ".
وهذا التعليقُ كَذِب وافتراء، ومَصاحفُ الصحابةِ الشخصيةُ لا تُخالفُ
المصحفَ الإِمامَ، الذي أَجمعَ عليه الصحابة، ولم يكنْ لأُبَيِّ بنِ كعبٍ، ولا
لابْنِ عَبّاس ولا لابنِ مسعود - رضي الله عنهم - مصاحِفُ خاصَّة، فيها سورتا الخَلْعِ والحَفد، كما زَعَمَ الفادي المفترِي.
وأَلْفاظُ سورتي الخَلْعِ والحَفْدِ التي سَجَّلَها الفادي الجاهلُ، كان عمرُ بنُ
الخطاب - رضي الله عنه - يَقرأ بها في الصلاةَ! وعَلَّمَها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - علياً، ليقرأَ بها في الصلاة!! نعم، هذا صحيح!! لكنْ ليسَ على أَنها من القرآن، وإِنما على أَنها دعاء لله.
أَلفاظُ السورتَيْن المزعومتَيْن جزءٌ من دعاءِ القُنوت، كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعو به في الصلاة، وعَلَّمَه لعمرَ وعليٍّ وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم -، وكانوا يَدْعونَ اللهَ به في الصلاة، وسمعَه منهم المسلمون، ورَوَوه عنهم، وذُكِرَ هذا في الكتب..
وقَرَأَ قومُ الفادي من المستشرقين أَلْفاظَ هذا الدعاء، وأَنهم كانوا
يَذْكُرونَه في الصلاة، فاعْتَبَروهُ من القرآنِ لجَهْلِهم وغَبائِهم!!.(1/277)
دُعاءُ القنوتِ الذي يَدْعو به المؤمنون في صلاةِ الفجر، وفي صلاةِ الوِتْر
هو: " اللهمَّ إِنّا نَستعينُك، ونَستهديك، ونَستغفرُك، ونَتوبُ إِليك، ونُؤمنُ بك، ونتوكَّلُ عليك، ونُثْني عليكَ الخيْرَ كُلَّه، نَشكُرُك ولا نَكفُرُك، ونَخلعُ ونَتركُ مَنْ يَفجرُك، اللهمَّ إِيّاك نَعْبُد، ولكَ نُصَلّي ونَسْجُد، وإِليكَ نَسْعى ونَحْفِد، نَرجو رَحْمَتَك، ونَخشى عَذأبَك، إِنَّ عذابَكَ الجِدَّ بالكُفّارِ مُلْحِق ".
أَمّا كلماتُ سورةِ النورَيْن التي زعمَ المفْتري وقومُه أَنَّها من القرآنِ
المحذوفِ فإِنها كلماتٌ ركيكةٌ ضعيفة، لا تَرْقى إِلى مستوى الكلامِ العربيِّ
الفَصيحِ البليغ، فَضْلاً عَنْ بُلوغِها مستوى القرآنِ العظيمِ المعجز، وهي كلماتٌ صاغَها قومٌ ضعفاءُ في التعبيرِ البيانيِّ المشرق!.
وأَضَعُ بين يدي القراءِ كلماتِ هذه السورةِ المفتراة، وأَدْعوهم إِلى إِمعانِ
النظرِ فيها، ليَعْرِفوا صِدْقَ ما أَقول:
" بسم الله الرحمن الرحيم:
يا أيها الذين آمَنوا: آمِنوا بالنورَيْن، أَنزلناهما، يَتْلُوان عليكم آياتي،
ويُحَذِّرانكم عذابَ يومٍ عظيم..
نُورانِ بعضهما من بعض، وإِنّا لَسميعٌ عليم..
إِنَّ الذين يعرفون بعَهْدِ اللهِ ورسوله في آياتٍ لهم جَناتُ النعيم..
والذين كفروا من بعدِ ما آمَنوا بنقْضهم ميثاقَهم وما عاهَدهم الرسولُ عليه يَقذفونَه في الجحيم..
ظَلموا أَنفسهم، وعَصوا الوحيَ الرسولَ أُولئك يُسقَوْنَ من حميم..
إِن اللهَ الذي نَوَّرَ السماواتِ والأَرض بما شاء، واصطفى الملائكةَ والرسل،
وجَعَلَ من المؤمنين أُولئكَ من خَلْقِه، يَفعلُ اللهُ ما يشاء، لا إِلَه إِلا هو
الرحمنُ الرحيم..
قد كفر الذين من قبلِهم برسلهم، فأَخَذْتُهم بمكْرِهم، إِنَّ
أَخْذي أَليمٌ شديد..
إِنَّ اللهَ قد أَهلكَ عاداً وثمود بما كَسَبوا، وجعَلَهم لكم
تذكرة، أفلا تتقون..
وفرعونُ بما طغى على موسى وأَخيه هارون أَغرقْتُه ومَنْ تَبِعَه أَجمعين..
ليكونَ لكم آية، وإِنَّ أَكثركم فاسقون..
إِنَّ اللهَ يجَمعُهم يومَ الحشر فلا يَستطيعونَ الجوابَ حين يُسأَلون..
إِنَّ الجحيم مأواهم، وإنَّ اللهَ حكيمٌ عليم..
يا أَيها الرسولُ بَلّغْ إِنذاري فسوفَ يَعلمون..
قد خَسِرَ الذين(1/278)
كانوا عن آياتي وحُكْمي مُعْرضين..
مثل الذينَ يوفون بعهدِك إِني جزيتُهم
جناتِ النَعيم..
إِني لذو مغفرةٍ وأَجرٍ عظيم ... .
وإِنَّ عليّاً لمن المتَّقين..
وإِنّا لنُوَفِّه حَقَّه يومَ الدين..
وما نحنُ عن ظُلْمِه بغافِلين..
وكَرَّمْناهُ على أَهلِكَ أَجمعين..
وإِنَّه وذريتَه لَصابرون..
وإِنَّ عَدُوَّهم إِمامُ المجرمين..
قل للذينَ كَفَروا بعدما آمَنوا: طَلَبْتُم زينةَ الحَياةِ
الدنيا، واستعجَلْتُم بها، ونَسيتمُ ما وَعَدَكُم اللهُ ورسولُه، ونقضتمُ العهودَ من بعدِ توكيدِها، وقد ضرَبْنا لكم الأَمثالَ لعلكم تهتدون..
يا أَيها الرسولُ: قد أَنزلْنا إِليكَ آياتٍ مُبَيِّنات، فيها مَنْ يَتَوَفَّهُ مُؤْمِناً، ومَنْ يتوَلَّه من بعدِك يَظْهَرون..
فأَعرضْ عنهم إِنهم مُعرضون..
إِنّا لهم مُحَرّضون، في يوم لا يُغْني عنهم شيءٌ، ولا هم يُرْحَمون..
إِنَّ لهم في جهنَّم مقاماً عنه لا يَعْدلون..
فَسَبِّحْ باسمِ رَبِّك وكُنْ من الساجدين..
ولقد أَرسلْنا موسى وهارون، فبَغَوْا هارون، فصَبْرٌ جَميل، فجعلْنا منهم القِرَدَةَ والخَنازير، ولَعَنّاهم إلى يوم يُبْعَثون..
فاصْبِرْ فسوفَ يُبْلون، ولقد آتينا بك الحُكْم، كالذينَ من قبلِك من المرسلين..
وجعلْنا لك وَصِيَّاً منهم لعلَّهم يَرجعون..
ومَنْ يَتَولَّ عن أَمْري فإني مُرجعُه، فلْيتمتَّعوا بكفْرهم قليلاً، فلا تسأَلْنِ عن الناكثين..
يا أَيها الرسولُ قد جعَلْنا لك في أَعناقِ الذين آمَنوا عهداً، فَخُذْهُ وكُنْ من الشاكرين..
إِنَّ علياً قائماً بالليلِ ساجِداً، يَحذرُ الآخرةَ ويَرجو رحمةَ ربه.
قل هل يَستوي الذين ظَلموا، وهم بِعذابي يعلمون..
سيَجعلُ الأَغلالَ في أَعناقِهم، وهم على أَعمالِهم يندمون..
إِنا بشرناك بذرية الصالحين..
وإنهم لأمرنا لا يخلفون..
فعليهم مني صلاة ورحمة، أَحياءً وأَمواتاً ويومَ يُبْعَثون..
وعلى الذين يَبْغونَ عليهم من بعْدِك غَضَبي، إِنهم قومُ سوءٍ خاسرين..
وعلى الذين سَلَكوا مَسْلَكَهم منّي
رحمة وهم في الغُرُفات آمِنون..
والحمدُ لله ربّ العالمين.. آمين.. ".
هذا هو النصُّ الركيكُ لسورة النّورَيْن، وقد تَعَمَّدْتُ أَنْ أَذكُرَه كما هو في
كتابِ الفادي المفترِي، بأَخطائِه النحويةِ واللغوية، وأَدْعو القُرّاءَ إِلى الصبرِ(1/279)
على قراءتِه، ليعرفوا المستوى الهابط الذي انحدر إليه الذين كتبوه..
وزعموا أنه وحي من الله، وأَنه كانَ في القرآن، ثم حَذَفَه منه المسلمون زَمَنَ
عثمانَ - رضي الله عنه -.
ولا وَجْهَ للمقارنةِ بينَ هذا الكلامِ وبينَ القرآن، لأَنه لا مُقارنَةَ
بين الثّرى على الأَرْضِ والثُّرَيّا في السماء!!.
وكم كان الفادي غَبِيّاً سَخيفاً عندما جَعَلَ عنوانَ كلامِه: " سُوَرٌ مِثْلُه "،
وادَّعى أَنَّ هذا الكلامَ مِثْلُ القرآن! ولا أَتحرجُ من ذِكْرِ وتَسجيلِ ما زَعَمَه
بعضهم من أَنَّه قرآن، وما ادَّعاهُ بعضُهم من القدرةِ على معارضةِ القرآنِ
والإِتيانِ بسوَرٍ مثلِه، ولا أَخافُ منه على القرآن.
ولدي قراءتِنا لكلامِهم التافهِ الذي كَتَبوه نَزْدادُ ثقةً بالقرآن، ومحبةً له، ويَقيناً بأَنَّه كلامُ الله، وعجز البشرِ الأَبَدِيِّ عن معارضتِه!!.
***
كيف يشاء الله الكفر؟
اعترضَ الفادي المفترِي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) .
ونَقَلَ من تفسيرِ البيضاويِّ كَلاماً، خُلاصتُه: " (وَمَا يَكُونُ لَنَا) : ما يَصِحّ
لَنا (أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا) خِذلانَنا وارْتِدادَنا..
وفيه دليلٌ على أَنَّ الكفرَ بمشيئةِ الله! ".
وسَجَّلَ اعتراضَه وتساؤلَه قائلاً: " ونحنُ نسأل: كيفَ يَشاءُ اللهُ الكفر،
وهو أَكبرُ المعاصي؟!
وهل يتفقُ هذا معَ قداسةِ اللهِ وصَلاحِه وعَدْلِه؟
أَليسَ الأَوفقُ والأَكرمُ لمجدِ اللهِ أَنْ نعتقدَ بقولِ التوراةِ وقولِ الإِنجيل: اللهُ يُريدُ أَنَّ جميعَ الناس يُخْلِصون، وإِلى معرفةِ الحَقِّ يُقْبِلون ".(1/280)
الآيةُ التي اعترضَ - عليها المفترِي ضمنَ آياتٍ تتحدثُ عن قصةِ
شعيبٍ - عليه السلام - مع قومِه، وتُسَجِّلُ رَدَّ شعيبِ على تهديدِ قومِه الكافرين له ولأَتْباعِه المؤمنين، بإِخراجِهم من قريتِهم إِنْ لمَ يَعودوا في مِلَّتِهم.
قال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) .
أَخبرَ شعيبٌ - عليه السلام - قومَه بأَنه لنْ يعودَ هو وأَتباعُه المؤمنون في ملَّتِهم الكافرة، وأَنه لا يكونُ ولا يَنْبَغي له ولأتْباعِه المؤمنين أَنْ يَعودوا إلى الكفر بعدَ أنْ نَجَّاهم الله منه، ومَنَّ عليهم بالإِيمان.
ثم رَبَطَ شعيب - عليه السلام - الأَمْرَ بمشيئةِ الله: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) .
والمعنى: نحنُ قَرَّرْنا أَنْ لا نعودَ في ملَّتِكم، لكن لا نَدري ما الذي
يَشاؤُه اللهُ ويُريدُه، فإِنْ شاءَ خِذْلانَنا ورِدَّتَنا فإِنَّ مشيئَتَه نافذةٌ ماضية.
والمصْدَرُ " أَنْ يشاءَ اللهُ ربُّنا " في محلِّ نصب مستثنى، والاستثناءُ هنا
منفصل، غيرُ مرتبط مع ما قَبْلَه، والمفعولُ به لفعل " يشاء " محذوف، تقديرُه: يَشاءُ اللهُ ربّنا عودَتَنا.
وتقديرُ الاستثناء: ما يكونُ لنا أَنْ نعوَد فيها إِلا مشيئة ربِّنا ذلك.
وحكمةُ ذكْرِ الاستثناءِ هنا، رَبْطُ كُلِّ شيء بمشيئةِ اللهِ وإِرادتِه، وعلمه
وقَدَرِه وقَضائِه، وبيانُ أَنَّ مشيئةَ الله هي النافذة، وأَنَّ إِرادتَه هي الماضية، وأَنه إِذا أَرادَ شيئاً أَوجَده كما أَراد، وأَنَّه لن يَقَعَ شيءٌ في الوجودِ كُلِّه إِلا بمشيئتِهِ سبحانَه وإِرادتِه.
وهذا معناه أَنْ يُسَلِّمَ المؤمنُ أَمْرَهُ إِلى الله، وأَنْ يحسنَ التوكلَ
عليه، والتفويضَ إِليه، والرضا بقدرِه!.
وخاطَبَ إِبراهيمُ - عليه السلام - قومَه بكلامٍ قَريب مما خاطَبَ به شعيبٌ - عليه السلام - قومَه(1/281)
قال تعالى: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) .
فبعدَ أَنْ واجَهَهم بعدمِ خوفِه مِنهم ومِن آلهتِهم، رَبَطَ الأَمْرَ بمشيئةِ الله،
والمعنى: أَنا لا أَخافُ آلهتَكم لأَنها لا تَضُرُّ ولا تَنْفَع، فإِنْ شاءَ اللهُ رَبّي أَنْ
تَضُرَّني، وَقَعَ الضُّرُّ بي، لأَنَّ اللهَ شاءَ ذلك، وليس لأَنها هي تَضُرُّ، فهي سببٌ في هذه الحالة، والمسَبِّبُ والمقَدِّرُ هو الله!!.
ولم يَفْهَم الفادي الجاهلُ معنى إِرادةِ اللهِ ومشيئتِه، وادَّعى أَنَّ اللهَ لا يَشاءُ
الكفر! وهذا ادِّعاءٌ كبير، وخَطَأٌ فادح!.
إِذا كانَ اللهُ لا يَشاءُ الكفر، فمعنى ذلك أَنَّ الكفارَ يَكْفُرون رَغْماً عن الله،
وهذا يَقودُ إِلى إثباتِ العجزِ لله، لأَنه لا يَستطيعُ مَنْعَ كُفْر الكفار، وأَنَهُ تَحدثُ في مُلْكِه أَشياءُ بدونِ إِذْنِه!! وهذا اتِّهامٌ للهِ بالنقصِ والضَّعفِ والعَجْز!!.
ولا إِشكالَ في قولِنا: الكافرُ يكفُرُ بمشيئةِ الله، واللهُ هو الذي يَشاءُ
الكفر، لأَنه لا يَقعُ شيءٌ في الوجودِ بدونِ إِذْنِ اللهِ وإِرادتِه ومشيئتِه سبحانه، ومَنْ هو ذلك الشخصُ المخلوقُ القادرُ على تعجيزِ الله؟!.
ومشيئةُ اللهِ كُفْرَ الكافرِ تَعْني عِلْمَه بأَنه سيكفُرُ، وإِرادَتَه في أَنْ يَكْفُر، ولو
لم يُرِدْ ذلك لَمَنَعَ الكافرَ من الكفر، ومَنَعَ العاصي من المعصية.
ولا يَعْني هذا أَنَ اللهَ يَرضى ذلك الكفر، ويحبُّ الكافرَ عندما يكفر،
فإِنَّ اللهَ لا يَرضى ذلك، ولا يُحِبه، وقد نَهى الكافِرَ عنه، وهَدَّدَه بالعذاب، وسيحاسِبُه ويعاقِبُه ويُعَذِّبُه.
ومعنى هذا أَنَّ مشيئةَ اللهِ وإِرادتَه نوعان:
الأَول: مشيئةٌ كونيَّة: وهي مشيئَةٌ تَقومُ على مجردِ العِلْم، وهي المتعلقةُ
بكفرِ الكافرِ، ومعصيةِ العاصي..
فاللهُ شاءَ ذلك الكفرَ وأَرادَه، بمعنى أَنه عَلِمَه، لكنَه لا يرضى ذلك ولا يَقْبَلُه، وقد نَهى عنه وحَذَّر منه، وتَوَعَّدَ فاعِلَه بالعذاب.(1/282)
الثاني: مشيئة شرعية: وهي تقومُ على العِلْمِ أَوَّلاً، ثم يَنتجُ عنها الرضا
والمحبة، وهي المتعلقةُ بإِيمانِ المؤمنِ وعبادتِه لله وطاعتِه له.
فاللهُ شاءَ إِيمانَ المؤمن وعبادتَه، بمعنى أَنَّه عَلِمَ أَنَّه سيؤمن، وقَدَّرَ له أَنْ يُؤمن، وأَرادَ له أَنْ يُؤمن، وأَعانَه على أَنْ يُؤمن، ورضيَ له أَنْ يُؤمن ...
ولَمّا آمَنَ المؤمنُ أَحَبَّهُ الله، وأَثابَه على إِيمانِه، وأَعطاهُ على ذلك الأَجْرَ والثواب!.
والقرآنُ صَريحٌ في حديثِه عن هاتَيْن المشيئَتَيْن، وذَكَرَ ذلك في آياتٍ
عديدة، نكتفي منها بقولِ اللهِ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) .
وبهذا نعرفُ أَنَّه لا مَحْذورَ في الحديثِ عن مشيئةِ الله، وتَقْريرِ أَنه يَشاءُ
الكفر، بالمعنى الذي وَضَّحْناه، وإِنما المحذورُ في نفيِ ذلك عن الله، لأَنه
يُؤَدّي إِلى إثباتِ العَجْزِ والضعفِ لله، وهو ما يُؤَدّي إِليهِ كلامُ الفادي الجاهل!!.
***
الله يبتلي عباده بالخير والشر
تحدثَتْ آياتُ سورةِ الأَعراف عن قصةِ أَصحابِ السبت، وهم سُكّانُ قريةٍ
من اليهود، نَهاهم اللهُ عن صيدِ الأَسْماكِ يومَ السبت، فتَحَايَلُوا على ذلك،
وارْتَكَبوا المحْذور، ولم يَسْتَجيبوا للنّاصحين الذين نَصحوهم ونَهوهم عن
ذلك، فعاقَبَهم اللهُ بأَنْ مَسَخَهم قردةً خاسِئين، وأَنجى الدعاةَ الذين نَهوهم عن ارتكابِ ما حَرَّمَ الله!.
ومما قالَهُ اللهُ عن أَصحابِ السبت: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) .
تُخبرُ الآيةُ أَنَّ اللهَ ابْتَلى أَصحابَ القرية، فَوَجَّهَ الأَسماكَ والحيتانَ إِليهم(1/283)
يومَ السبت، الذي حُرِّمَ عليهم صَيْدُها فيه، حيث كانت تأتيهم على وجْهِ
الماء، وكأَنها شُرَّعٌ تَسيرُ على وَجْهِ الماء، وفي باقي الأَيامِ كانت لا تَأتيهم،
وكانوا يُتْعِبونَ أَنفسَهم في البحثِ عنها في البحرِ لصيْدِها.
واعترضَ الفادي على الآية، وخَطَّأَها، واعتبرها لا تتفقُ مع عَدْلِ الله.
قال: " ومعنى هذا أَنَّ اللهَ أَوصى بني إِسرائيل أَنْ يسْتَريحوا من أَعمالِهم للعبادةِ يومَ السبت، وجَعَلَ الحيتانَ تأتي ظاهرةً يَوْمَ السبت، لإِغرائِهم بصيدها، وتَخْتَفي باقىِ أَيام الأُسبوع ...
فكيف نتصوَّرُ إِلهاً يُجَرِّبُ عبادَه بالشُّرور، ويُسَهِّلُ لهم العصيان بإِظهار الحيتانِ يومَ السبت؟..
مع أَنَّ الإِنجيلَ يَقول: لا يَقُلْ أَحَدٌ إِذا جُرِّبَ إِني أُجَربُ من قِبَلِ الله، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرِّبٍ بالشّرور، وهو لا يُجَرِّبُ أَحَداً، ولكن كلُّ واحِدٍ يُجَرَّبُ إِذا انْجَذَبَ وانْخَدَعَ من شهوتِه ".
يَرى الفادي الجاهلُ أَنَّ اللهَ لا يَبْتَليَ عبادَه ولا يَمتحنُهم ولا يُجَرِّبُهم،
لأَنَّ هذا لا يتفقُ مع عَدْلِه، أَيْ كيفَ يُقَدِّمُ لهم الشرورَ والمغرياتِ، ويُسَهِّلُ
لهم الحصولَ عليها، ثم يمنَعُهم منها ويُحَرِّمُها عليهم؟!.
واعتراضه مرفوض، وكلامُه مردود، فاللهُ خَلَقَ عبادَه وكَلَّفَهم بالتكاليف،
وذلك ليبتَلِيَهم ويمنحِنَهم، ويُجَرِّبَهم ويَختبرَهم، فالتكاليفُ والشرائعُ ابتلاءٌ
من اللهِ لعبادِه..
قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) .
واللهُ يَبْتَلِي عبادَه بالخير، كما يَبْتَليهم بالشَّرِّ، ليَميزَ الخبيثَ من الطَّيِّب.
فالمؤمنُ يشكرُ اللهَ عند الخير والسّرّاء، ويَصبرُ عندَ الشَّرِّ والضرّاء، وبذلكَ
ينجحُ في هذا الابتلاءِ والاختبار.
أَمّا الكافرُ والفاسقُ فإِنه يَطْغى عندَ الخَيْرِ والنعمة.
ويَيْأَسُ عند الشَّرّ والمصيبة، وبذلك يَخسرُ ويَرسبُ في الابتلاءِ
والامتحان.
قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) .(1/284)
على ضوءِ هذه الآيةِ نَعرفُ ابتلاءَ أَهْلِ القرية، حيثُ امتَحَنَهم بعدمِ صَيْدِ
الحيتان يوم السبت، ومبالغةً في الابتلاءِ كان يَسوقُ إِليهم الأَسماكَ والحيتانَ
في يومِ السبت، وكانت هذه الحيتانُ لا تأْتيهم في باقي أَيام الأُسبوع.
ورسب معظم أَصحابِ القريةِ في الامتحان، حيث تَحايَلوا على
حُكْمِ الله، وارْتَكَبوا ما حَرَّمَ الله.
وكما ابْتَلى اللهُ بني إِسرائيلَ بالتكليف، ومَنَعَهم من الصيدِ يومَ السبت،
ابْتَلى اللهُ المؤمنين، ومَنَعَهم من صَيْدِ البَرِّ أَثناءَ إِحرامِهم بالحَجِّ أَو العمرة.
قال تعالى.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) .
فاللهُ قَرَّبَ الصيدَ للمسلمين المُحْرِمين، كما قَرَّبَ الحيتانَ لليهودِ من
أَصحابِ القرية، وعَبَّرَت الآيةُ عن هذا التقريب: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) .
وقد نجحَ المسلمونَ في هذا الابتلاءِ والامتحان، والْتَزموا بحُكْمِ الله.
***
حديثُ القرآن عن المسيح - عليه السلام -
تحدَّثَ القرآنُ عن المسيح عيسى ابنِ مريمَ - عليه السلام - كما تَحَدَّثَ عن غيرِه من الرسل، وكان حَديثُه عن أُولي العزمِ من الرسلِ أَكثرَ من حديثِه عن غيرِهم.
وأُولو العزمِ من الرسلِ خمسةٌ هم: نوحٌ وإِبراهيمُ وموسى وعيسى ومحمدٌ،
عليهم الصلاةُ والسلام.
وقد كَذَبَ الفادي المفترِي عندما قالَ: " إِنَّ الذي ذَكَرَهُ القرآنُ عن
المسيحِ يَفوقُ ما ذَكَرَهُ عن سائرِ البَشَر، بمنْ فيهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أَلا يُشيرُ هذا إِلى تَفَرُّدِ المسيحِ عن سائرِ البشر؟
وهذا ما يقولُه الإِنْجيلُ عن لاهوتِ المسيح ".(1/285)
إِنَّ ما ذَكَرَهُ القرآنُ عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَكثرُ مما ذَكَرَه عن عيسى - عليه السلام -، وكذلك ما ذَكَرَهُ عن إِبراهيمَ وموسى - عليهما السلام - أَكثرُ مما ذَكَرَهُ عنه.
أولاً: مثل عيسى كمثل آدم:
أَخْبَرَ اللهُ أَنَّ مَثَلَ عيسى كَمَثَلِ آدم - عليه السلام -.
قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
خَلَقَ اللهُ آدمَ - عليه السلام - من تراب، ثم نَفَخَ فيه من روحِه، وقالَ له: كُنْ إِنساناً حَيّاً، فكانَ إِنْساناً حَيّاً..
وهكذا عيسى - عليه السلام -، أَرادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَه بدونِ أَبٍ، فأَمَرَ
جبريلَ - عليه السلام - أَنْ يَنفخَ روحَه في مريم - عليها السلام - فَفَعَل، وقالَ الله لعيسى: كُنْ إِنساناً حَيّاً في رَحِمِ مريم، فكانَ كما أَرادَ الله.
فلا غَرابةَ في خَلْقِ عيسى - عليه السلام - بدونِ أَبٍ، كما أَنه لا غَرابةَ في خَلْقِ آدمَ بدونِ أَبٍ أَو أُمّ.
ولكنَّ هذا الكلامَ لم يُعْجب الفادي المفترِي، ولذلك اعترضَ على الآيةِ
بقولِه: " ونحنُ نَقولُ: إِنَّ آدَمَ مِثْلُ المسيحِ في أَنه أَبو الجِنْسِ البشريِّ ووكِيلُه
ونائبُه، ولكنَّ آدمَ بمعصيتِه جَرَّ ذريتَه جَميعاً للهَلاك.
أَمّا المسيحُ فهو أَبٌ ووكيلٌ ونائبٌ جَديدٌ للمؤمنين به، الذين مَنَحَتْهُم كفارتُه وعملُه النيابيُّ وطاعتُه خلاصَهم، ولهذا قالَ الإِنجيل: آدمُ الذي هو مِثالُ الآتي ".
أَمّا أَنَّ آدمَ - عليه السلام - أَبو البشر فهذا متفقٌ عليه، لأَنه أَوَّلُ مخلوقٍ من البشر.
وأَمّا أَنّ عيسى المسيحَ - عليه السلام - أَبو البشرِ فهو أَمْرٌ مَرْفوض، لأَنه وُلدَ بعدَ آدمَ بفترةٍ طويلة، تَزيدُ عن مئاتِ الآلافِ من السنين.
ولقد كانَ الفادي وأَهْلُ ملَّتِه مُغالين مُبالغين عندما اعْتَبَروا عيسى - عليه السلام - أَباً للبشر، ووكيلَهم ونائباً عنهم، لدرجةِ أَنْ
فَداهم بنفسِه، وجَعَلَ دَمَه كفارةً لذُنوبهم، وتَخْليصاً لهم!! وقد سبقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي في موضوعِ الكفارةِ والفداءِ والخلاص.
ويُخَطِّئُ الفادي الآيةَ، لأَنها شَبَّهَتْ عيسى - عليه السلام - بآدمَ: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
فهو يَرى أَنَّ خَلْقَ(1/286)
عيسى ليسَ كخلْقِ آدم، قال: " أَمّا تَشبيهُ المسيح بآدَم، بما يُفيدُ أَنَّ المسيحَ
مخلون كآدمَ بأَمْرِ الله، فهذا خَطَأ..
لأَنَّ المسيحَ ليس بكائِنٍ من كلمةِ الله، بل هو ذاتُه كلمةُ اللهِ الأَزليّ، الذي تَجَسَّدَ من مريمَ العذراء، وظَهَرَ بينَ الناسِ ليخلَصَهم.. ".
يَرى الفادي أَنَ آدمَ - عليه السلام - خُلِقَ بكلمةٍ من الله، وكُلُّ بَشَرٍ خُلِقَ بكلمةٍ من الله، إِلّا المسيحُ - عليه السلام -، فإِنه ليسَ مَخْلوقاً بكلمةٍ من الله، وإِنما هو كلمةُ اللهِ ذاتُها، التي يَخْلُقُ بها الناس، وهي كلمةٌ أَزليةٌ غيرُ مَخلوقة، وَجَّهَها الله ُ إِلى مريم، وتجسَّدَتْ هذه الكلمةُ في عيسى!!.
ومعنى هذا الكلامِ أَنَّ عيسى ليسَ مخلوقاً، وإِنما هو أَزَليّ، والأَزَلِيُّ
هو الله، لأَنَّ كُلَّ ما سوى اللهِ مَخْلوق، فإِنْ لم يكنْ عيسى مخلوقاً، وإِنْ كانَ أَزَلِيّاً، فسيكونُ إِلهاً، لأَنَّ الموجودَ إِمّا أَنْ يكونَ مَخلوقاً حادِثاً، وإِمّا أَنْ يَكونَ أَزَليّاً خالِقاً، فإِنْ لم يكنْ مَخْلوقاً حادِثاً كان أَزَلِيّاً خالقاً!!.
إِنَّ جملةَ الفادي السابقةَ تأليه منه لعيسى - عليه السلام -.
وقد أَدانَ اللهُ الذين أَلّهوا عيسى - عليه السلام - وكفَّرَهم، وذلكَ في قولِه تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) .
ثانياً: وضوح حديث القرآن عن المسيح:
كانَ القرآن واضحاً صريحاً في تقريرِه خَلْقَ عيسى كخلقِ آدمَ - عليه السلام -، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بينَهما أَنَ كُلّاً منهما خُلِقَ بكلمةِ اللهِ الأَزلية، التي خَلَقَ بها باقي المخلوقين، وهي كلمةُ " كُنْ " التكوينية: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
ورغْمَ تقريرِ القرآنِ الواضحِ بشأنِ خَلْقِ عيسى - عليه السلام -، وأَنه عبدُ اللهِ ورسولُه، إِلَّا أَنَّ الفادي اتَّهَمَهُ بالتناقض.
قال: " ويقولُ القرآنُ في المسيحِ(1/287)
كَلاماً متناقضاً.
تقولُ سورةُ المائدة: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) .
وَوَرَدَ في سورةِ الزخرف: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) .
وفي الوقْتِ نفسِهِ توجَدُ آياتٌ أُخرى تُشيرُ إِلى لاهوتِ المسيح، كشخصٍ
غريبٍ وعَجيب بين البشر، وتُعطيهِ أَعظمَ الأَلْقاب، التي لم تُعْطَ في القرآنِ
لغيره ".
إِنّ الفادي يَفتري على القرآن عندما يَتهمُه بالتناقضِ في حديثِه عن
عيسى - عليه السلام -، وهو الذي لم يُحْسِنْ فهمَ حديثِ القرآن!.
ومن أَرادَ أَنْ يَعرفَ حديثَ القرآن عن عيسى - عليه السلام -، وأَنْ يَتَعَرَّفَ على شخصيتِه من خلالِ القرآن، فعليهِ أَنْ يَجمعَ الآياتِ التي تحدثَتْ عنه من مختلفِ السُّور، وأَنْ يَنظرَ فيها مجتمعة، وأَنْ يَجمعَ بينها، ويستخرجَ دلالتَها.
ومعلومٌ أَنه لا تَعارُضَ ولا تَناقُضَ في آياتِ القرآن.
عيسى - عليه السلام - خَلَقَهُ اللهُ بدونِ أَب: وخَلَقَ روحَه بكلمتِه التكوينية، " كُنْ "، وأَمَرَ جبريلَ أَنْ يَحملَ روحَه المخلوقَة، وأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلى مريمَ العذراء، وأَنْ يَنفخَ تلك الروحَ فيها، فحملَتْ مريمُ بعيسى بأَمْر الله، وكانَ حملَ معجزةٍ بأَمْرِ الله، وبعدَ ولادةِ عيسى بلحظاتٍ كَلَّمَ أُمَّه، وبعدَ ذلك كَلَّمَ قومَها، فهو عبدُ اللهِ ورسولُه، وهو كلمتُه التكوينيةُ " كُنْ "، والروحُ التي فيه روحٌ من عندِ الله، وهو خَيْرُ مَنْ يُقَدِّمُ نفسَه، عندما كَلَّمَ قومَ أُمَّه بعدَ ميلادِه.
قال تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
وقد وَقَفَ الفادي أَمامَ كلماتٍ قرآنيةٍ وَرَدَتْ في حديثِ القرآنِ عن(1/288)
عيسى - عليه السلام -، واستشهدَ بها على عقيدةِ أَهْلِ مِلَّتِه في المسيح، وحَرَّفَ مَعْناها ودلالتَها، وهذه الكلماتُ هي:
1 - المسيح كلمة الله:
ذَكَرَ القرآنُ أَنّ عيسى - عليه السلام - كلمةُ الله.
قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) .
وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) .
وفهمَ الفادي الآيتين فَهْماً خاطئاً، قال: " كلمةُ اللهِ: هذا الاسْمُ الكريمُ
لا يَصِحُّ أَنْ يُسَمّى به مخلوق، فهو خاصّ بالمسيح، انفردَ به عن سائرِ البشرِ
والملائكة ".
يُصَرخُ الفادي بأَنَّ عيسى ليس مخلوقاً، لأَنه سُمِّيَ باسمٍ لا يُطْلَقُ على
المخلوقين، فلا يَجوزُ لأَيِّ مخلوقٍ من البشر والملائكةِ أَنْ يُسَمّى " كلمةَ الله "، وبما أَنَّ المسيحَ سُمِّيَ كلمةَ الله، فهذا يَعني أَنه ليسَ مخلوقاً، وإِذا لم يكنْ
مَخْلوقاً كان خالِقاً، لأَنَّ الموجودَ إِنْ لم يكنْ مَخْلوقاً كان خالِقاً، وهذا يؤكِّدُ
إِيمانَ الفادي وأَهْلِ مِلَّتِه بأَلوهيةِ عيسى وأَزليتِه!.
وزعْمُهُ أَنَّ " كلمةَ الله " لم تُطلقْ على غيرِ المسيح في القرآنِ كَذبٌ
وافتراء، وهو يَعلمُ أَنه كاذبٌ مفترٍ، لأَنه يَعلمُ أَنَّ " كلمةَ الله " في القرآنِ أُطلِقَتْ على غير المسيح.
ذُكِرَتْ " كلمةُ الله " في مقابلِ " كلمةِ الذين كفروا "، وذلكَ في سياقِ الحديثِ عن نصرِ اللهِ رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - في رحلةِ الهجرة.
قال تعالى: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) .(1/289)
كلمةُ الكفار: هي رغبتُهم وإِرادتُهم في محاربةِ الحَقِّ والقضاءِ عليه.
وكلمةُ اللهِ: هي إِرادةُ اللهِ فى نَصْرِ الحَق وهزيمةِ الباطل، وسُميتْ إِرادَتُه
سبحانه " كلمة "، لأَنها أَمْرٌ من اللهِ - عز وجل -، حيثُ يأمرُ بإنفاذِ قدرتِه وإرادتِه، وتحقيقِ علمه، فيكونُ ما أَرادَه سبحانه وأَمَرَ به.
قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) .
وقال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) ، وكلمةُ رَبّك: هي إِرادَتُه وأَمْرُه بنَصرِ بني إِسرائيل وإِهلاكِ أَعدائِهم.
فعبارةُ " كلمةِ الله " ليستْ خاصةً بالمسيحِ - عليه السلام -، إِنما أُطلقَتْ في القرآن على عيسى وعلى غيره.
ومعنى كون عيسى - عليه السلام - كلمةَ الله: أَنَّ اللهَ أَرادَ أَنْ يَجعلَ خَلْقَه معجزةً، عن غيرِ طريقةِ الخَلْقِ المعروفةِ المألوفة، عن طريقِ التزاوجِ والاتِّصالِ
والمعاشرةِ والإِخصاب! فأَنْفَذَ إِرادَتَه وخَلَقَ عيسى في رَحِمِ مريمَ العذراء.
وكان خَلْقُه بكلمتِه التكوينيةِ التنجيزية، التي تُحَوّلُ إِرادةَ اللهِ من صورتِها العلميةِ النظريةِ إِلى صورتِها العمليةِ الحادثة، التي تَمَّ بها إِيجادُ عيسى - عليه السلام -!.
وفَرْقٌ بينَ إِخبارِ القرآنِ أَنَ عيسى كلمةُ (الله) ، أَيْ أَنَّه خُلِقَ بكلمةِ اللهِ
وإِرادتِه، وبين كَلامِ الإِنجيلِ المحَرَّفِ أَنه كلمةُ الله: " في البدءِ كان الكلمة،
والكلمةُ كانَ عندَ الله، وكانَ الكلمةُ الله، هذا كانَ في البدءِ عندَ الله! ".
فالمسيحُ كلمةُ الله، أَيْ أَنه هو الله! كما سَبَقَ أَنْ صَرَّحَ الفادي بذلك، لأَنَّهُ
يعَتقدُ أَنَ الكلمةَ ليستْ مخلوقة، وإِنما هي أَزليةٌ مثلُ الله، ملازِمَةٌ لله، لا
تنفصلُ عن الله، وهذا هو الكفرُ الصريح.
وقد قاس الفادى الجاهلُ كلمةَ اللهِ على كلمةِ الإِنسان، فقال: " ولقد سُمّيَ المسيحُ كلمةَ الله، لأَنَّ كلمةَ الإِنسانِ هي منه، ومن مقوماتِ شخصيتِه، فهي صورةُ عَقْلِه وفِكْرِه، والمترجمةُ له، والمنفذةُ لسلطانِه وقوَّتِه..
فالمسيحُ هو ذاتُ كلمةِ الله، وهذا يُثبتُ لاهوتَه،(1/290)
لأَنَّ كلمةَ الله من اللهِ وفي اللهِ منذ الأَزل.
وهل يُمكنُ أَنْ يكونَ قد مَرَّ وَقْتٌ على الله كان فيه بلا كلمة؟ ".
كلمةُ اللهِ في نظرِ الفادي وأَهْلِ ملته أَزَلِيَّةٌ ملازمةٌ لله، وهي اللهُ نفسُه:
" وكانَ الكلمةُ الله " كما وردَ في إِنجيلِ يوحَنّا، وبما أَنَّ عيسى كلمةُ الله فهو أَزليّ مثلُ الله، وليسَ مخلوقاً مثلُ المخلوقاتِ التي خَلَقَها الله..
وبما أَنَّ المسيحَ هو كلمةُ الله، وبما أَنَّ الكلمةَ هي الله، فإِنَّ المسيحَ هو الله!! وهذا ما يؤمنُ به الفادي وقومُه! وهذا هو كفر النصارى الذي أَدانهم اللهُ به، في قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) .
2 - المسيح روح من الله:
أَخبرَ اللهُ أَنَّ المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ - عليه السلام - روحٌ من الله.
قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) .
وَوَقَفَ الفادي المفترِي الخبيثُ أَمامَ الآية، واستدلَّ بها على عقيدتِه
الباطلة! قال: " لم تكتفِ الآية ُ بنْعتِ المسيحِ بالرسالة، بل شهدَتْ أَنه كلمةُ الله.
ولكي لا نتوهَّمَ خلافَ المقصودِ باللفظِ " كلمةُ الله "، أَتْبَعَها بما يُزيلُ الشّكّ، وهو " وروحٌ منه "، لنفهمَ أَنَّ المسيحَ ليس مجردَ رسولٍ عادي، بل ابنٌ مرسَلٌ من أَبيه إِلى عالمِ الدُّنيا، كأَشعةِ الشمسِ المنبعثةِ إِلى الأَرضِ من الشمس!!
وما الفرقُ بين القول: إِنَّ المسيحَ نورٌ من نورِ إلهٍ حَقٍّ من إِله حق، والقول:
روحُ الله، أَو: روحٌ من الله؟
أَليسَ أَنَّه من ذاتِ اللهِ ومن جَوْهَرِه؟ ".
يُؤَكِّدُ الفادي على فكرتِه الباطلةِ وعقيدتِه المخالفةِ للحق، التي تقومُ على
أَنَّ المسيحَ جزءٌ ماديّ من ذاتِ اللهِ المادية!!.
إِنه يرى أَنَّ المسيحَ ليس مجردَ رسولٍ عاديٍّ! ومعنى هذا أَنه ليسَ رسولاً
بَشَراً، كباقي الرسلِ البشر!.(1/291)
وهذا كلامٌ مرفوضٌ مردود؟
فعيسى - عليه السلام - رسول عاديّ كباقي الرسل، كلُّ
ما في الأَمْرِ أَنَّ اللهَ الحكيمَ خَلَقَه بدونِ أَب، وأَنطَقَه وهو في المهد، وهو في
هذا يَختلفُ عن باقي الرسل، وفي ما سوى ذلك هو رسول عاديٌّ كباقي
الرسل..
وشَبَّهَ القرآنُ خَلْقَ عيسى بخْلقِ آدم - عليه السلام -، ليُزيلَ استغرابَ النصارى من خَلْقِه بدون أَب.
قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) .
ونَظرةُ الفادي إِلى المسيحِ - عليه السلام - نظرة باطلة، إِنّه يرى أَنه " ابنٌ مرسَل من أَبيه إِلى عالمِ الدنيا ".
أَي أَنه ابْنُ الله، واللهُ أَبوه هو الذي أَرْسَلَه إِلى الدنيا!!
وهذا هو الكفرُ والشركُ بالله! وقد نفى القرآنُ أَنْ يكونَ لله وَلَدٌ.
قال تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) .
وقال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) .
صلةُ عيسى باللهِ عندَ الفادي كصِلَةِ أَشعةِ الشمسِ بالشمسِ! وانظرْ ما
أَسْخَفَ هذا التشبيه، وما أَجهلَ مَنْ ذَكَرَه! أَينَ الشمسُ وأَشعتُها من اللهِ ورسولِه عيسى - عليه السلام -؟
الشمسُ كوكبٌ مخلوق مرئيٌّ في السماء، إِننا نرى الشمسَ
المخلوقةَ بعيونِنا، ونرى أَشعَّتَها المنبعثةَ منها.
وفردقٌ بين الشمسِ المخلوقة، وبينَ اللهِ الذي خلَقَها، إِن اللهَ لا يُمكنُ أَنْ يُرى بالعينِ المجردةِ في الدنيا، كما تُرى الشمسُ! وفَرْقٌ بينَ عيسى الذي خَلَقَه الله، وبينَ أَشعةِ الشمسِ المتولدِة عنها والمنبعثةِ منها! لأَنَّ هذه الأَشعةَ منفصلة عن الشمس انفصالاً ماديّاً مُشاهداً، فهل انفصلَ عيسى عن اللهِ انفصال الجزءِ الصغيرِ من الكُل الكبير؟.
إِنّ الفادي الكافرَ يرى أَنَّ عيسى انفصلَ عن اللهِ انفصال الجزءِ عن
الكُلِّ! لأَنَّه جُزْءٌ ماديٌّ صَغيرٌ من ذاتِ اللهِ الكبيرة! قال: " أَليسَ أَنه من ذاتِ اللهِ ومن جوهرِه " فهو يؤمنُ أَنَّ للهِ ذاتاً مادية، وجَوْهَراً وجوديّاً، يُمكنُ أَنْ يُحصَرَ وُيجَسَّمَ ويُحَدَّدَ، ويُمكنُ أَنْ يَنفصلَ عنه جزءٌ صغير، فيه روحٌ وحياة، اسْمُه المسيح.(1/292)
وهذا كُفْرٌ بالله، وتجسيم وتَحديدٌ له، وتَجزئةٌ وتَقسيم له، وفَصلُ جُزْءٍ
منْه عَنْه!.
ولقد كانت الآيةُ دقيقةً في الإخبارِ عن المسيحِ - عليه السلام -: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) .
وتكلَّمْنا عن معنى كون عيسى - عليه السلام - كلمةً في المسألةِ السابقة، ونُبَيّنَ هنا معنى قولِه تعالى: (وَرُوحٌ مِنْهُ) : فقد وَصَفَ اللهُ عيسى - عليه السلام - بأنه روحٌ من الله.
وفَرْق بعيد بين قولِه: روحٌ من الله، وقوله: روحُ الله.
لو قالَ: إِنه روحُ الله لكانَ المعنى أَنَّ لله روحاً مادية، كانَتْ فيه،
موجودةً داخِلَه، كما توجَد روحُ أَحَدِنا في كيانِه، ثم أَخرجَ اللهُ روحَه من
داخلِه وجَعَلَها عيسى، وهذا الكلامُ لا يَقولُه عاقل!.
عيسى - عليه السلام - "روحٌ من الله".
أَيْ خَلَقَ اللهُ روحَ عيسى - عليه السلام -، كما يَخلقُ روحَ أَيِّ إِنسانٍ آخَر، وهذا معناهُ أَنَّ هذه الروحَ غيرُ الله! وحَرْفُ الجَرِّ " مِنْ "
في الآيةِ للبيان، كما أَنه للابتداء.
أَي: الروحُ التي جعلَها اللهُ في عيسى - عليه السلام - هي روحٌ من عندِ الله.
حَرْفُ الجَرِّ " من " في قوله تعالى: (وَرُوحٌ منه) عند الفادي وأَهْلِ ملَّتِه
للتبعيض، أَيْ أَنها جزءٌ وبعفق انفصلَ عن الله ودَخَلَ مريم وصارَ عيسى! بينما هذا الحرفُ عند المسلمين للبيانِ والابتداء، كما وَضَّحْنا!.
3 - عيسى ابن من؟ :
عيسى هو ابنُ مريمَ - عليها السلام -، وذَكَرَ القرآنُ ذلك أَكثر من مَرَّة، وقد شاءَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَه بدونِ أَب..
ولكنَّ الفادي الكافرَ يَقولُ: إِنَّه ابنُ الله.
قال: " انفردَ المسيحُ عن سائرِ البشرِ بولادتِه من عذراء! فلماذا تَميَّزَ عن سائرِ الأَنبياءِ بدخولِه عالَمَنا بهذه الطريقةِ المعجزيَّة؟.،.
إِنه كلمةُ الله وروحُ الله، حَلَّ في أَحشاءِ العذارء، وتَجسَّدَ وظهرَ بينَ الناسِ، آيةً ورحمةً للعالَمين ... فهو ابْن مَنْ أُمُّه؟
مريمُ..
ومَنْ أَبوه؟ الله.
(فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) .(1/293)
سَبَقَ أَنْ تكلَّمنا عن معنى كونِ عيسى كلمةَ اللهِ، وروحاًْ من اللهِ، والجديدُ
في كُفْرِ الفادي هنا أَنَّهُ نَصَّ على أَنَّ المسيحَ ابنُ الله: ْ " ومَنْ أَبوه؟
.. الله! ".
وأَرادَ بالبُنُوَّةِ البنوَّةَ الحقيقيةَ المادية، لأَنه قال: أُمّه مريمُ وأَبوهُ الله! وهذا
كُفْرٌ صريحٌ بالله، لادِّعاءِ أَنَّ له ابناً وولداً هو المسيح.
وقد كان القرآنُ صريحاً في رفْضِ كونِ عيسى ابناً لله، وكُفْرِ الذينَ جَعلوا
له وَلَداً، وإِنكارِ كونِ المسيحِ ابناً لله على وَجْهِ الخصوص.
قالَ تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) .
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) .
ودَعا اللهُ النَّصارى إِلى التَّخَلّي عن فكرةِ التثليثِ وزَعْمِ كونِ ولدٍ لله.
قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) .
وبعدَ ما تحدَّثَتْ آياتُ سورةِ مريمَ عن قصةِ حَمْلِ مريمَ بعيسى وولادتِه
وكلامِه في المهد، عَقَّبَتْ على ذلك بنفي بُنُوَّتِه لله.
قال تعالى: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) .
4 - عيسى بدون دنب!
تحدَّثَ الفادي في المسألةِ الرابعةِ عن تميُّزِ المسيحِ عن باقي الرسلِ - عليه السلام -، وجَعَلَ عنوانَ الحديثِ: " قُدُّوسٌ بدونِ شَرٍّ ".
أَيْ أَنه لم يرتكبْ شَرّاً ولا ذَنْباً، في الوقتِ الذي ارتكبَ فيه الرسلُ الآخَرونَ الشرورَ والذُنوبَ والمعاصي والأَخْطاءَ! وبعدما أَوردَ آيةً قرآنية وحديثاً عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكَلاماً لأَبي حامِد الغزالي(1/294)
عن تميُّزِ عيسى عندَ ولادتِه بإِبعادِ الشيطانِ عنه، قال: " ونحنُ نسأَلُ:
ما سِرُّ هذه القداسةِ المطلقة والكمالِ الفائق؟
ولماذا لا يَذكرُ القرآنُ للمسيح خَطَأً كما ذَكَرَ لغيرِه من الأَنبياء؟
ولماذا لا توجَدُ في القرآنِ إِشارةٌ إِلى أَنَّ المسيحَ تابَ إِلى الله، ولا أَنَّ اللهَ تابَ عليه، ولا قَدَّمَ استغفاراً، ولا أَنَّ اللهَ غَفَرَ له، كما جاءَ عن سائرِ الأَنبياءِ والرسلِ؟
أَليس لأَنَّ المسيحَ ذاتٌ قدسية، وهو كلمةُ اللهِ وروحُه؟ ".
أَمّا أَنَّ اللهَ أَعاذَ عيسى - عليه السلام - من الشيطان، فهذا صَحيحٌ، لأَنه ذُكِرَ في القرآنِ وفي الحديث.
قالَ اللهُ - عز وجل - عن دُعاءِ أُمِّ مريمَ عند ولادتِها: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) .
واستجابَ اللهُ دعاءَها، فحمى ابنتَها مريمَ عند ولادتِها من الشيطان.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ما مِنْ مَوْلودٍ يولَدُ إِلّا والشيطانُ يَمَسُّه حينَ يولَد، فيستهلُّ صارِخاً من مَسِّ الشيطانِ إِيّاه، إِلّا مريم وابْنها ".
ثم قالَ أَبو هريرة: اقرؤوا إِنْ شِئْتُم قولَه تعالَى: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) .
وأَمّا أَنَّ عيسى - عليه السلام - لم يرتكبْ معصيةً ولا ذَنْباً، فهذا صحيحٌ أَيْضاً، لأَنه عبدُ اللهِ ونبيُّه ورسولُه، فاللهُ عصمهُ من الأَخطاءِ والذُّنوبِ والمعاصي، ولم يَجعلْ للشيطانِ سُلْطاناً عليه!.
وأَمّا أَنَ الرسُلَ الآخَرين وَقَعوا في الأَخطاءِ والذنوبِ والمعاصي، فهذا
خَطَأٌ وباطل، فكما عَصَمَ اللهُ رسولَه عيسى، كذلك عَصَمَ باقي الأَنبياءِ
والمرسلين، ونَزَّهَهم من الأَخطاءِ والذنوبِ والمعاصي، واصْطَفاهم لنفسِه،
وصَنَعَهم على عينِه، فلم يكنْ للشيطانِ سَبيلٌ ولا سلطانٌ عليهم.
وأَخْطَأَ الفادي في اتهامِه للمرسلين: " ولماذا لم يَذْكُر القرآنُ للمسيحِ
خَطَأً كما ذَكَرَ لغيرِه من الأَنبياء؟ ".(1/295)
والراجحُ أَنَّ القرآنَ لم يَذْكُرْ للأَنبياءِ أَخطاءً أَو ذُنوباً، إِنَّما ذَكَرَ بَعْضَ المآخذِ
التي أُخِذَتْ عليهم، وعاتَبَهم اللهُ عليها..
وهم لم يُخْطِئوا في تلك المواقف، ولم يُذْنِبوا في تلك الأَفْعال، وما صَدَرَ عنهم صواب، ولكنَّ اللهَ أَرشَدَهم إِلى ما هو أَوْلى، لأَنَّ اللهَ يُحِبُّ لهم الأَوْلى والأَفضلَ والأَصْوَبَ والأَكمل.
إِنَّ عيسى - عليه السلام - معصومٌ كَباقي الأَنبياء، وليسَ للشيطانِ سُلطانٌ عليه كباقي الأَنبياء، ولذلك لم يَعْصِ ولم يُخْطِئ ولم يُذنب، كباقي الأَنبياء.
5 - حول معجزات عيسى - عليه السلام -:
من مظاهِرِ كُفْرِ الفادي بالله، وجَعْلِه المسيحَ عيسى - عليه السلام - ابْناً لله، حديثُه عن معجزاتِه، التي تَمَيَّزَ بها عن باقي الأنبياء.
قال: " يَشهدُ القرآنُ للمسيحِ بقدرتِه المطلقةِ على إِتيانِ المعجزاتِ بصورةٍ ليس لها مثيلٌ بين سائرِ الأَنبياء " [ص 90] .
وهذا كَذِبٌ من المفترِي على عيسى - عليه السلام -، لأَنَّهُ نَسَبَ له القدرةَ المطلقةَ على إِتيانِ المعجزات، وهذا مَعناهُ أَنَّه هو الذي يَأتي بالمعجزاتِ ويَخْتارُها ويَصْنَعُها! وهذا خطأ كبير!!.
معجزاتُ الأَنبياءِ ليستْ من اختيارِهم، وإِنما هي من اللهِ وَحْدَه.
وقد كانَ القرآنُ صريحاً في تأكيدِ هذه الحقيقة، وجاءَ هذا في آياتٍ عديدة.
منها قولُه تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) .
وقالَ تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) .
وليس هذا خاصّاً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بل هو عامّ، يَشملُ جَميعَ الأَنبياءِ والمرسلين، ومنهم المسيحُ - عليه السلام -.
قالَ تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .(1/296)
ولما طَلَبَ الأَقوامُ السابقونَ من رسلِهم آياتٍ ومُعْجزاتٍ أَخبرهم رسلُهم
أَنَّ الآياتِ والمعجزاتِ بيدِ الله.
قال تعالى: (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) .
فإِذا كان الرسُل جَميعاً يَعترفونَ أَنهم لا يُمكنُ أنْ يأتوا بالمعجزاتِ من
أَنفسِهم، لأَنَّ اللهَ وَحْدَه هو الذي يَأتيهم بها فكيفَ يَقولُ الفادي المفترِي بأَنه
كان للمسيحِ قدرةٌ مطلقةٌ على الإِتيانِ بالمعجزاتِ بصورةٍ ليس لها مَثيلٌ بين
سائرِ ألأَنبياء؟!
إِنَّ هذا افتراءٌ على القرآن، وكَذِبٌ على المسيحِ - عليه السلام -.
ولما تكلمَ الفادي على معجزاتِ المسيحِ - عليه السلام - في القرآن قَدَّمَ مجموعةً من الافتراءات، ونَسَبَها إِلى القرآن:
أ - زَعَمَ المفترِي أَنَّ القرآنَ نَسَبَ لعيسى - عليه السلام - العلمَ بالغَيْب، وذلك ليَخرجَ بنتيجتِه من أَنَّ المسيحَ إِله، لأَنَّ عِلْمَ الغيبِ خاصٌّ بالله، وبما أَنَّ عيسى يَعلمُ الغيبَ فهو إِله!! قال: " نَسَبَ القرآنُ له العلمَ بالغَيب، وذلك في قولِه: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) .
مع أَنَّ عِلْمَ الغيبِ خاصٌّ باللهِ وَحْدَه: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) ..
علْمُ الغيبِ خاصٌّ باللهِ وَحْدَه، ولا يَعلمُ أَيُّ مخلوقٍ شيئاً من الغيبِ، إِلّا
ما عَلَّمَهُ اللهُ إِياهء قال تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) ،
وقالَ تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) .
فعيسى - عليه السلام - لم يَعْلَمْ شيئاً من الغيبِ إِلّا ما عَلَّمَهُ اللهُ إِياه.
وكانَ من(1/297)
معجزاتِه لبني إِسرائيلَ أَنه كانَ ينبئُهم ويُخبرُهم بما أَكَلوهُ من طعام، وما
ادَّخَروه في بيوتِهم من الطعام، وجَعَلَ ذلك دَليلاً على نبوَّتِه.
وهو لم يَعْلَمْ ذلك بنفسِه، لأَنه لا يَعلمُ الغيب، وإِنما أَعلمه اللهُ بذلك، وهو بدورِه أَنبأَهم به.
فاللهُ هو الذي عَلِمَ الغيب، واللهُ هو الذي أَعْلَمَه بالغيب!!.
وآتى اللهُ يوسفَ - عليه السلام - وهو في السجنِ مع الفتَيَيْن نفسَ المعجزة، وذَكَرَها القرآنُ في قوله تعالى: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) .
كان يوسفُ يخبرُ السجينَيْن اللذَيْن معه بنوعِ الطعام الذي سيَأتيهِما في السجنِ قبلَ تقديمِه لهما.
وهذا علمٌ بالغيب، لكنَّه لم يعلَمْه بنفسِه، إِنما أَعلمَه به الله، ولذلك صَرَّحَ بقوله: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) .
ب - زعمَ المفترِي أَنَّ القرآنَ نَسَبَ لعيسى - عليه السلام - القدرةَ على الخلق، والخلقُ خاصٌّ بالله، وبما أَنَّ عيسى يَخلقُ خَلْقاً سويّاً فهو إِله، لأَنَّه لا خالقَ إِلّا الله.
قال: " ونسبَ القرآنُ للمسيحِ القدرةَ على الخلقِ.
قال: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) ".
ومعلومٌ أَنَّ الخلْقَ خاصٌّ باللهِ وَحْدَه: (أَفَمَن يحلُقُ كمَن لَّا يَخْلُق) .
وزَعْمُ المفترِي مردودٌ عليه، وعيسى - عليه السلام - لم يَخْلُقْ شيئاً خَلْقاً حقيقياً ماديّاً، يوجِدُ فيه المخلوقَ الحيَّ من العَدَم، لأَنَّ هذا الخلْقَ خاصّ باللهِ وَحْدَه، ولا يُمكنُ أَنْ يَفعلَه عيسى - عليه السلام - ولا غيرُه، وقد جعلَه اللهُ دليلاً على وحدانيتِه.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) .
وقد نَسَبَ القرآنُ الخلْقَ إِلى عيسى - عليه السلام -، لكنْ أَيُّ خَلْقٍ؟
وبإِذْنِ مَنْ كان يَتِمُّ الخلق؟
كان عيسى - عليه السلام - يَخلقُ الطيرَ من الطين، لكنْ بإِذن الله، وليس
بقدرتِه الذاتية.
قال تعالى: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) .(1/298)
ما الذي كان يفعلُه عيسى - عليه السلام -؟
كان يَأخُذُ المادَّةَ الأَوليةَ التي خَلَقَها الله، يأخذُ حفنةً من الترابِ الذي خَلَقَه الله، ويأخُذُ إِناءً من الماءِ الذي خَلَقَه الله، ويَجبلُ الترابَ بالماءِ حتى يَصيرَ طيناً، ثم يأخذُ ذلك الطينَ، ويَشَكِّلُه على هيئةِ الطائر، ويُصَوّرُه على صورتِه، ويَجعُله تمثالَ طائِر، ثم ينفخُ فيه، ويطلبُ من اللهِ أَنْ يَبُثَّ فيه الروح، فيَجعلُ اللهُ فيه الروح، ويكونُ طيراً حيّاً.
فعيسى لم يَخْلُقْ في الطائرِ روحاً، ولم يَجعلْه حيّاً، إِنما اللهُ الذي فَعَلَ ذلك.
وبمعنى آيةِ سورةِ آلِ عمران السابقة قولُه تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) .
وقد نَصَّت الآيَتانِ من سورةِ آلِ عمران وسورةِ المائدة على أَنَّ وَضْعَ الروحِ في الطيرِ كان بإِذْنِ الله، فاللهُ هو الخالقُ في الحقيقة، وليس عيسى - عليه السلام -، فهو كانَ مجردَ سببٍ مادّيّ، يُشَكِّلُ ويُصوِّرُ ويَنفخ، والمسبِّبُ والمريدُ هو الله سبحانه.
ج - زَعَمَ الفادي أَنَّ القرآنَ نَسَبَ لعيسى - عليه السلام - القدرةَ على إِحياءِ الموتى! وإِحياءُ الموتى خاصّ بالله، وبما أَنَّ عيسى - عليه السلام - فَعَلَ ذلك فهو إِله، لأَنه نجحَ في فعْلِ شيءٍ خاص بالله!..
قالَ: " وَنَسَبَ القرآنُ له القدرةَ على شفاءِ المرضى وإِحياءِ الموتى.
قال: (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وإِحياءُ الموتى خاصّ بالله: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ".
وكما قُلْنا في خَلْقِه من الطينِ كهيئةِ الطيرِ نَقولُ في إِحيائِه الموتى، فاللهُ
هو الذي آتاهُ معجزةَ إِحياءِ الموتى..
أَيْ كانَ عيسى - عليه السلام - يَقِفُ أَمامَ الميت، ويَدْعو اللهَ أَنْ يُحييَه، ويَستجيبُ اللهُ له.
فالذي أَحيا الميتَ في الحقيقةِ هو الله، ولم يَكُنْ عيسى - عليه السلام - إِلّا سَبَباً.
وهذا ما أَكَّدَهُ القرآن، في قولِه عن هذه المعجزة.
قال تعالى: (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وقال تعالى: (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) .
قالَ اللهَ لعيسى - عليه السلام -: إِنكَ ستُخرجُ الموتى بإِذْني.
فأَخْبَرَ عيسى - عليه السلام - بَني إسرائيلَ بذلك، وقال لَهم: أَنا سأُحيي الموتى بإِذْنِ الله.(1/299)
6 - رفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء:
وَقَفَ الفادي المفترِي أَمامَ حديثِ القرآنِ عن رفْعِ عيسى - عليه السلام - إِلى السماء، وأَساءَ فَهْمَهُ، واستدل به على عقيدتِه الباطلةِ في أُلوهيةِ المسيح! قال:
" يَشهدُ القرآنُ أَنَّ المسيحَ رُفِعَ من الأَرضِ إِلى الله، وهو حَيٌّ خالدٌ في السماء، فجاءَ في سورةِ آل عمران (55) : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا كلامَ الفادي حولىَ معنى الآية، وذَكَرْنا مَعْناها
الصحيح.
وقد أَلْقى اللهُ على عيسى - عليه السلام - النومَ، ورَفَعَهُ إِليه وهو نائم، والتَّوَفّي هنا تَوَفّي نَوْم وليس تَوَفّيَ مَوْت، وعيسى - عليه السلام - حَيٌّ الآنَ في السماء.
وهو ليس خالِداً في السماء، لأَنَّ اللهَ لم يَجعل الخلودَ لأَيّ مَخْلوقٍ من البَشَر، ولذلك أَخطأَ الفادي في قولِه: " وهو خالدٌ في السماء ".
كُلُّ المخلوقين سَيَموتون، حتى رسولُ اللهِ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - سيموت، والوحيدُ المخلَّدُ الذي لن يَموتَ - في نظرِ الفادي - هو عيسى - عليه السلام -، وهذا دليل عندَه على أُلوهيتهِ!! قال: " وقيلَ عن محمدٍ: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) .
فلماذا انتصَرَ المسيحُ على المَوْت، وقد ماتَ الناسُ في كل جيل، وهو حَيّ خالد، وله الخُلْدُ، وله الرفعةُ والمجد؟ ".
صحيحٌ أَنَّ عيسى - عليه السلام - حَيّ الآنَ في السماء، بروحِه وجسمِه، ولكنَّه ليس مُخَلَّداً، ولنْ ينتصرَ على الموت، كما ادَّعى الفادي، وسيُنزلُه اللهُ إِلى الأَرض في آخرِ الزمان، وسَيموتُ مَوْتاً طبيعيّاً كما ماتَ البَشَر، ثم يُبْعَثُ معهم يومَ القيامة.
ونَصَّ القرآنُ على أَنَّ عيسى - عليه السلام - سَيَموت.
قال تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) .(1/300)
7 - المسيحُ وجيهٌ في الدنيا والآخرة:
ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ عيسى - عليه السلام - وجيهٌ في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) .
واستَخرجَ الفادي المفترِي من الآيةِ ما يتفقُ مع هواهُ من تَأليهِ
عيسى - عليه السلام -.
قال: " قال في تفسير الجلالين: " (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) :
ذا جاه في الدُّنيا بسببِ النبوة، وفي الآخرةِ بسببِ الشفاعةِ والدَّرَجاتِ العُلا".
فلماذا يَخُصُّ القرآنُ المسيحَ بالوجاهةِ في الدنيا والآخرة؟ ".
لم يَخُصّ القرآنُ المسيحَ بالوجاهةِ في الدنيا والآخرةِ، كما ادَّعى
المفتري، وإِنَّما أَخبرَ أَنه وجيهٌ في الدنيا والآخِرة، والإِخبارُ بوجاهتِه لا يَعْني
اخْتِصاصَه بها.
فقد أَخبرَنا اللهُ أَنَّ موسى - عليه السلام - وجيهٌ عندَ الله.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) .
والشفاعةُ في الآخرةِ مَقامٌ محمود، خَصَّ اللهُ به أَشرفَ الخلقِ
محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
قالَ اللهُ عنه: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) .
ويوضِّحُ المرادَ بالمقامِ المحمودِ في الآخرة بأَنه الشفاعةُ، ما رواهُ -
البخاريّ عن أَنسِ بن مالك - رضي الله عنه - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه قالَ في حديثِ الشفاعةِ الطويل: " ...
يَجتمعُ المؤمنونَ يومَ القيامة، فيقولون: لو استشفَعْنا إِلى رَبِّنا، فيأتون آدمَ فيقولون: أَنتَ أَبو الناس..
فاشْفَعْ لنا عنْدَ رَبِّك، حتى يُريحَنا من مكانِنا هذا، فيقول: لستُ هُناكم ...
" إِلى أَنْ " يَأتوا عيسى - عليه السلام -، فيقولون: يا عيسى: أَنتَ عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه أَلْقاها إِلى مريمَ وروحٌ منه، اشفعْ لنا عندَ رَبّك، فيقول: لستُ هُناكم، ولكن ائْتُوا مُحَمداً، عَبْدَاً غفرَ اللهُ له(1/301)
ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تَأَخَّر ...
فيَأتوني فأَنطلقُ، حتى أَستأذنَ على رَبّي، فَيُؤْذَنَ لي، فإِذا رأيتُ رَبّي وَقَعْتُ ساجداً، فيَدَعُني ما شاءَ اللهُ، ثم يُقال: ارْفَعْ رأْسَكَ، وسَلْ تُعْطَهْ، وقُلْ يُسْمَعْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ ".
لم يَخُصّ اللهُ عيسى - عليه السلام - بالشفاعةِ كما ادَّعى المفْتري، إِنما خَصّ بها عبدَه ورسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم.
وارتكبَ الفادي المحَرّفُ جَريمةً نكراء، عندما حَرَّفَ معنى آيةٍ تتحدَّثُ
عن اللهِ رَبِّ العالمين، وجَعَلَها تتحدثُ عن المسيح - عليه السلام -..
قال: " جاءَ في سورةِ السجدةِ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) .
تَذْكُرُ الآيةُ أَنَّ اللهَ هو الذي خَلَقَ السمواتِ والأَرضَ في ستةِ أَيام، وأَنه استوى على العرش، وتُبَيِّنُ أَنه لا يوجَدُ للناسِ وَلِيٌّ ولا شَفيع من دون الله ".
وقد ادّعى المفترِي أَنَّ الآيةَ خَصَّتْ عيسى - عليه السلام - بالشفاعةِ.
قال: " فلماذا لم يُعْطِ اللهُ سُلْطاناً لأَحَدٍ من البَشَرِ بالشفاعةِ إِلّا المسيح؟
أَليس لأَنه ابْنُ اللهِ المتجسِّدُ، والوسيطُ الوحيدُ بينَ اللهِ والناس؟ ".
آيةُ سورةِ السجدةِ لا تتحدَّثُ عن المسيحِ، وإِنما تتحدَّثُ عن الله، والهاءُ
في (مِنْ دُونِهِ) لا تعودُ على المسيح، وإِنما تعودُ على الله.
والمعنى: ليس للناسِ وليٌّ ولا شفيع من دونِ الله.
وذَكَرَ الفادي المفترِي الكافِرُ باللهِ عبارةً كافرةً فاجرة، جعلَ فيها المسيحَ
ابْناً لله: " أَليس لأَنهُ ابْنُ الله المتجسِّدُ ".
ويؤمنُ المؤمنونَ أَن اللهَ ليسَ له ابْن ولا صاحبة.
حتّى الجنُّ يؤمنون بذلك، وقد أَخْبَرَنا اللهُ عن إِيمانِهم بقولِه
تعالى: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) .
وكَذَبَ الفادي المفترِي عندَما قال: " والمسيحُ هو الوسيطُ الوحيدُ بينَ اللهِ
والناس " ولقد رحمَ اللهُ النّاس، فلم يجعلْ أَيَّ شَخصٍ وَسيطاً بينَهم وبينَه، لا عيسى ولا محمداً ولا مَلَكاً..
وأَذِنَ اللهُ لأَيّ إِنسانٍ أَنْ يتصلَ به مباشرة، عن طريقِ ذِكْرِهِ وشُكْرِه وعبادتِه ومناجاتِه.(1/302)
8 - هل المسيح هو المخلِّص وحده؟ :
ساءَ الفادي المفترِي فَهْمَ اسمِ عيسى الذي ذَكَرَهُ القرآنُ خَمساً وعشرين
مرة، حيثُ جعلَه بمعنى " يَسوع "، ومَعنى عيسى ويَسوع عنده هو: " المخُلِّص ".
أَمّا معنى المسيحِ عنده فهو: " المعَيَّنُ مَلِكاً ونَبياً وكاهِناً ".
وقد ذُكِرَ المسيحُ في القرآنِ ثماني مرات: ومعنى " الإِنجيل " هو: " الخبرُ المفرح ".
وقد ذُكِرَ في القرآنِ اثنتي عشرةَ مرة.
وخرجَ الفادي من هذا بنتيجةٍ خاطئة، اعتبرَ فيها المسيحَ يَسوعَ عيسى - عليه السلام -
هو وَحْدَه المخلِّصَ للجنسِ البشري!!.
وهذا خَطَأٌ مردود، فليسَ المخلِّصُ والمنقذُ هو عيسى - عليه السلام - وحْدَه، فكُلُّ نبيٍّ ورسول هو مُخَلِّصٌ أَيضاً، يُخَلِّصُ الناسَ من الخَطَر، ويُنقذُهم من الأَذى، ويُخرجُهم من ظلماتِ الكفرِ إِلى نورِ الهُدى والإِيمان.
قال اللهُ لنبيّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) .
وآخِرُ ما قالَه الفادي المفترِي عن تَمَيُّزِ وتَفَرُّدِ عيسى - عليه السلام - عن سائرِ الأَنبياء، مما يدل على أُلوهيتِه وعدمِ بشريتِه؟
قولُه: " إِنَّ الذي ذَكَرَهُ القرآنُ عن المسيح، يَفوقُ ما ذَكَرَهُ عن سائرِ البشر، بمن فيهم محمدٌ..
أَلا يُشيرُ هذا إِلى تَفَرُّدِ المسيحِ عن سائرِ البشرِ؟
وهذا ما يقولُه الإِنجيلُ عن لاهوتِ المسيح ".
إِنَّ الذي ذَكَرَه القرآنُ عن عيسى - عليه السلام - لا يَفوقُ ما ذَكَرَهُ عن سائرِ البشر، كما ادَّعى الفادي المفترِي، فهناك رُسُلٌ تحدثَ القرآنُ عنهم أَكثرَ مما تَحَدَّثَ عن عيسى - عليه السلام -، مثلُ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى ومحمدٍ عليهم الصلاة والسلام.
ويُمكنُ الخروجُ بهذه النتيجةِ عندَ المقارنةِ بين ما ذَكَرَهُ القرآنُ عنهم وعن عيسى عليهم الصلاة والسلام، ولا نَنْسى أَنَّ هؤلاء الرسلَ الخمسةَ هم أُولو العزمِ من الرسل، وهم أَفضلُ الرسلِ عند الله - عز وجل -، وأَفْضَلُهم وأَشرفُهم هو نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم.(1/303)
أَمّا عن تَفَرُّدِ المسيحِ - عليه السلام - عن سائرِ البشرِ فإِنه خاصٌّ بولادتِه، التي اختلَفَ فيها عن ولادةِ سائرِ البشر، ونُطْقِهِ وهو بالمهد، ورَفْعِه بعدَ ذلك إِلى السماءِ بروحِه وجسمه، وإِبقائِه هناك حَيّاً، وهو الآنَ ينتظرُ إِنزالَه إِلى الأَرْضِ قُبيلَ قيامِ الساعة، وهو فيما سوى ذلك مِثْلُ باقي الأَنبياءِ والمرسلين.
إِنسانٌ له جسمٌ وروح، وهو عبدُ اللهِ ورسولُه، يَعْتَريه ما يَعْتَري الآخَرينَ من صحةٍ ومَرَضٍ، وحُزْنٍ وفَرَحٍ، ونَوْمٍ ويَقَظَة، وطعامٍ وشراب.
قالَ تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) .
***
موقف الملائكة من خلق آدم - عليه السلام -
أَساءَ الفادي فَهْمَ آيةٍ تتحدَّثُ عن موقفِ الملائكةِ من خَلْقِ آدمَ - عليه السلام -، وهي قولُ اللهِ - عز وجل -: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) .
ما معنى إِخبار اللهِ الملائكةَ أَنه جاعلٌ في الأَرضِ خليفة؟
وما معنى سؤالِ الملائكةِ عن الخليفةِ الذي سيفسدُ ويسفكُ الدماءَ؟
وما معنى إِخبارِهم عن أَنفسِهم أَنهم يُسَبِّحونَ اللهَ ويَحمدُونه ويُقَدِّسونه؟.
وقَفَ الفادي الجاهلُ أَمامَ الآية، وفَكَّرَ في هذه الأسئلة، فاعْتَبَرَها خطأً
من أَخطاءِ القرآن! قال: " فلماذا يَستشيرُ اللهُ الملائكة، وهو غنيّ عن أَن يُشيرَ عليه أَحَد؟ ...
وهل يُعْقَلُ أَنَّ الملائكةَ الأَبْرارَ يَعْصون، ويُعارضونَ رَغَباتِ الله، ويَدَّعونَ العلمَ بالغيب بغيرِ حَقٍّ، ويَطْعَنونَ في آدمَ من قَبْل خَلْقِه؟
ويُزَكّونَ أَنفسَهم بأَلسنتِهم؟ ".(1/304)
فَهِمَ من قولِ اللهِ للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أَنه يستشيرُهم،
ويقولُ لهم: ما رَأْيُكُم؟
أَشيروا عَلَيَّ أَيها الملائكةُ، هل من المناسبِ أَنْ أَجعلَ في الأَرضِ خليفةً؟
ولذلك عَلَّقَ على ذلك بأَنَ اللهَ لا يَحتاجُ إِلى أَنْ يُشيرَ عليه أَحَد!.
والصحيحُ أَنَّ قولَ اللهِ للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ليسَ من بابِ استشارتِهم، لأَنَّ اللهَ سبحانَهُ لا يَحتاجُ إِلى مشورةِ أَحَد، لأَنَّه أَحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً، وهو الأَعلمُ بالأَنسبِ والأَفضلِ والأَحكم، وكُلُّ فِعْلٍ يفعَلُه فهو صَواب!.
إنَّ قولَه للملائكةِ من بابِ إِخبارِهم بما سيفعَلُه، ليكونَ عندهم علم وخَبَرٌ
بما قررَ سبحانَه أَن يفعلَه، ولذلك جاءت الجملةُ بصيغةِ الجَزْمِ والقطعِ، حيثُ قالَ لهم: (إِنِّي جَاعِلٌ) ، ولم يقل: " إني سأجعل " ومن المعلومِ أَنَّ اللهَ يُخبرُ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِه بما شاءَ أَنْ يَفعلَه، سواء كانَ المخلوقُ مَلَكاً مُقَرَّباً أَوْ نبيّاً مُرْسَلاً!!.
وفَهِمَ الفادي من سؤالِ الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) : أَنه اعتراضٌ منهم على فِعْلِ الله، فهم
يُنكرونَ على اللهِ فِعْلَه، ويُخَطِّئونَه في ما سيفعَلُه، وهذه معصيةٌ منهم لله، وتَمَرّدٌ عليه! فكيفَ يفعلونَ ذلك؟.
وهذا فَهْمٌ خاطئ مردود! فلم يكن سؤالُهم من بابِ الاعتراضِ والإِنكار،
وإِنما كانَ من بابِ الاستفسارِ والاستِعلام، وكأَنَّهم قالوا: يا رَبَّنا: إِنّا نَعلمُ
أَنك عليمٌ حكيم، وأَنَّ فِعْلَكَ هو الصواب، لكننا نريدُ منك أَنْ تُخبرنا عن
حكمةِ ذلك، فما حكمةُ جَعْلِكَ خليفةً في الأَرض، يُفسدُ فيها ويَسفكُ
الدماء؟.
ولم يكن قولُهم عن آدمَ: (مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) طَعْناً في آدَمَ
واتِّهاماً له قَبْلَ خَلْقِه، كما أَنه لم يكن ادِّعاءَ العِلْمِ بالغيب منهم، كما فَهِمَ
الفادي الجاهل، فإِنَّه لا يَعلمُ الغيبَ إِلّا الله.
وكلامُهم عن الخليفةِ أَنه سيُفسدُ في الأَرضِ ويَسفكُ الدّماءَ صحيح، بدليلِ إِقرارِ اللهِ له، ولو كانَ خَطَأً لأَخبرهم اللهُ أَنه خطأ، ولذلك اكتفى بقولِه لهم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .(1/305)
أَيْ: أَنا أَعلمُ أَنَّ ذريةَ الخليفةِ سيُفسدونَ ويَسفكونَ الدماء، لكنَّ الخلافةَ في
الأرضِ وتَعميرَها لا بُدَّ أَنْ يُصاحبَها إِفسادٌ وسَفْكٌ للدماء! *.
أَما كيفَ عَرَفَ الملائكةُ ذلك، فليس في مصادِرِنا الإِسلامية اليقينيةِ
المتمثلةِ في القرآنِ وما صَحَّ من حديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على ذلك، ونحنُ لا نأخذُ شيئاً عن الإِسرائيليات، ولا نُفَسّرُ بها كلامَ الله!.
ولعلَّ الراجحَ أَنَّ كلامَهم عن إِفسادِ الخليفةِ ولسَفْكِه الدماءَ من بابِ
الاستشرافِ وفراسةِ المؤمنين، فَهُمْ قد شاهَدوا مراحلَ خَلْقِ آدم، من الترابِ
والطين.
ومعلومٌ أَنَّ الترابَ يَعْني الالتصاقَ بالأَرض والهبوطَ إِليها، والمخلوقُ
من الترابِ قد تنحدرُ نفسُه إِلى الأَسْفَل، فيرتكبُ المُحرَّمات، ويُفْسِدُ ويَقْتُل!.
ولم يَقصد الملائكةُ من قولِهم: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أَنْ
يُزَكّوا أَنفسَهم بأَلسنتِهم، كما فهمَ الفادي ذلك منه، كما أَنهم لم يكونوا
طامِعين في أَنْ يَكونوا هم الخلفاء!.
كلّ ما يُؤْخَذُ من قولِهم أَنَّ اللهَ خَلَقَهم من نور، وفَطَرَهم على ذِكْرِه
وتَسبيحِه وتقديسِه، ولعلهم قاسوا الأَمْرَ عليهم، فَفَهِموا أَنَّ كُلَّ مخلوقٍ
سيخلُقُه اللهُ لا بُدَّ أَنْ يكونَ مثلَهم، لا يَعرفُ إِلّا ذِكْرَ اللهِ وتَسبيحَه، فكيفَ
سيكونُ الخليفةُ مُهْتَمّاً بالعملِ في الأَرض؟!.
وبهذا نعرفُ أَنه ليسَ في الآيةِ التي اعترضَ عليها الفادي ما يَدْعو
للاعتراض، وأَنْ تخطئَتَه لها بسببِ جَهْلِه!!.
***
ما معنى سجود الملائكة لآدم - عليه السلام -؟
ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ اللهَ عَلَّمَ آدمَ الأَسماءَ كُلَّها، ولما عَجَزَ الملائكةُ عن
معرفِتها، عَرَفَها آدَمُ، فتميَّزَ عليهم بعلْمِه، ولذلك أَمَرهم اللهُ أَنْ يَسْجُدوا له.(1/306)
قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) .
وقد اعترضَ الفادي على هذهِ الآيات وخَطَّاَها، لأَنَّها تَتعارضُ مع
توحيدِ اللهِ وعدْلِه! قال: " ونحنُ نسأَل: في أَوَّل الأَمْرِ عَلَّمَ اللهُ آدَمَ الأَسماءَ،
ثم عَرَضَهم على الملائِكةِ فَعَجَزوا عن التَّسمية، واعْتَرَفوا بالعَجْز! فكيف
يمتحنُ اللهُ الملائكةَ في ما لا يَعرفونَه، ويُعطي الإِجاباتِ لآدمَ ليَعْلَمَ ما لا
يَعْلَمون؟
وكيفَ أَمَرَ الله ُ الملائكةَ أَنْ يَسْجُدُوا لآدَم؟
وحاشَ للهِ القُدْوسِ أَنْ يأْمُرَ بالسجودِ لغيرِ ذاتِه العلِيَّة! قال اللهُ في الخروج: لا تَسْجُدْ لإلهٍ آخَر، لأَنَّ الربَّ اسْمُه غَيور، إِلهٌ غَيورٌ هو ".
واعتراضُه لا وَزْنَ له، فليسَ في الآيةِ ما يَدْعو للاعتراضِ والإنكار.
أَرادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ للملائكةِ الحكمةَ من جعْلِه آدَمَ وذريَّتَه الخلفاءَ في
الأَرض، مع أَنه قد يَصدُرُ عن هؤلاءِ الخلفاءِ إفسادٌ في الأَرضِ وسفَكٌ للدماء.
فلما طَلَبوا من الله أَنْ يُخْبرَهم بحكمةِ استخلافِ آدَمَ أَجْرى لهم ولآدَمَ
الامتحان، الذي أَشارتْ له هذه الآيات، وهي مرتبطةٌ مع الآيةِ السابقة التي
تَحَدَّثْنا عنها في المبحت السابق: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) .
رَدَّ على سُؤالِهِم بأَنه يَعلمُ ما لا يعلمون، أَيْ أَنَّه يَعلمُ أَنه لا يَصلحُ
للخلافةِ في الأَرض إلَّا هذا الخليفة، لِأَنه سيُزَوِّدُه بوسائلَ ومواهبَ وطاقاتٍ
وقُدُرات، يتمكَّنُ بها من حُسْنِ الخلافةِ في الأَرض، وفي مقدمتِها العلمُ الذي
وَهَبَهُ اللهُ إِياه، والنطقُ الذي مَكَّنَهُ منه، بحيثُ يَستطيعُ أَنْ يُعَبِّرَ عما في نفسِه،(1/307)
ويَرْمُزَ بالأَسماءِ للمسَمَّيات، والملائكةُ المسَبِّحونَ لله لا يَستطيعونَ ذلك،
فالعلمُ والنطقُ والتفكيرُ والتعبير أُمورٌ ضروريةٌ للخلافةِ في الأَرض!.
عَلَّمَ اللهُ آدَم الأَسماءَ كُلَّها، وجَعَلَ فيه النطق، والقدرةَ على التعبيرِ عما
في نفسِه، والرَّمْزِ بالأَسماءِ للمسَمَّيات، والملائكةُ لا يَعلمونَ ذلك، لأَنهم لا
يَحْتاجونَ إِليه فِي مهمَّتِهم في عبادةِ اللهِ وتسبيحِه..
وبعد ذلك أَرادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ للملائكةِ الحكمةَ من استخلافِ آدم، وأَنه مَيَّزَهُ عليهم بالعلمِ والنطقِ والتفكيرِ والتعبير..
فالموضوعُ ليس موضوعَ امتحانِ الملائكة بما لا يَعرفون،
و" تَغْشِيشَ " آدمَ بتقديمِ الإجاباتِ له قبلَ دُخولِه الامتحان، كما فَهِمَ الفادي الجاهل، إنما الموضوعُ تَوجيهٌ وتَعليلٌ وبيانٌ للحكمةِ والعِلَّة، وهذا ما فهمَه الملائكة، ولذلك صَرَّحوا بعجْزِهم عن الجواب، لأَنَّ اللهَ لم يمنَحْهم ذلك العلم، وقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) .
ولما أنبأَهم آدَمُ بالأَسماءِ المطلوبة عَرَفوا حكمةَ استخلافِه في الأَرض،
وذَكَّرَهم اللهُ بشمولِ عِلْمِه.
قال تعالى: (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) .
أَما سجودُ الملائكةِ لآدمَ - عليه السلام - فهو ليسَ من بابِ السجودِ لغيرِ الله، ولا عبادةِ آدمَ من دونِ الله، ولا الشركِ بالله، كما فَهِمَه الفادي الجاهل، ثم اعترضَ عليه وخَطَّأَهُ وأَنْكَره.
إنه سجودٌ لله في الحقيقة، لأَنَّ الله هو الذي أَمَرهم أَنْ يَسْجُدوا لآدَم،
أَيْ هو الذي كَلَّفَهم بذلك، ولو كان عبادةً لغيرِه لما أَمَرَهم به سبحانَه، لأَنَّ اللهَ لا يأذَنُ لأَيّ مَخْلوق أَنْ يَعْبُدَ غيرَه.
وعندما سَجَدَ الملائكةُ لآدَمَ كانوا عابِدينَ لله، وكان آدَمُ كَأَنه قِبْلَةٌ لهم في
عبادتِهم لله، كما يُصلي أَحَدُنا صلاتَه لله، ويَجعلُ الكعبةَ قِبْلَةً له، فهو لا
يَعَبُدُها ولا يَسجدُ لها، وإنما هي مجردُ قِبلَة، واللهُ أَمَرَه بالتوجُّهِ إِليها
واستقبالِها، وهكذا كان آدمُ بالنسبةِ للملائكة (1) .
__________
(1) ما عليه المحققون أن السجود كان لآدم - عليه السلام - على وجه التحية والتكريم. والله أعلم.(1/308)
لم يَكنْ سُجودُهم لآدمَ عبادةً له من دونِ الله، إِنما كانَ سُجودَ تكريمٍ
وتَشريفٍ لآدَم، واعترافاً منهم بفَضْلِ آدَمَ عليهم، لأَنَّ الله مَيَّزَهُ عليهم بالعِلم.
***
هل جهنم لجميع الأبرار والأشرار؟
وَقَفَ الفادي أَمامَ آيتَيْن تتحدَّثانِ عن جهَنَّم، واعترضَ عليهما، وقارَنَهما
بكلامِ الكتابِ المقَدَّس، وخَرَجَ بخَطَأِ القرآنِ وصَوابِ الإنجيل.
والآيَتانِ هما قولُ الله تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) .
وقولُ الله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
لجهَنَّمَ سبعةُ أَبوابٍ كما وَرَدَ في سورةِ الحِجْر، ونَقَلَ الفادي عن بعضِ
العلماءِ تحديدَ أَسماءِ تلكَ الأَبوابِ السَّبْعَة، وتحديدَ الأَصنافِ الذين يَدْخُلونَ
من كلِّ بابٍ منها، وهذا كلامٌ لَيسَ عليه دَليل، فلا نَخوضُ فيه ولا نَتوقَّفُ
عِنْدَه.
وفَهِمَ الفادي الجاهِلُ من الآياتِ أَنَّ القرآنَ يُخبرُ أَنَّ جهنَّم للجِميع،
سواء كانوا أَبْراراً أَوْ أَشْرارا، مؤمنين أَو كافرين! ولذلك خَطَّأَ القرآنَ في ذلك.
قال: " ونَحنُ نَسأَل: كيفَ يَذْهَبُ المؤمنُ إِلى جهنم؟
وما قيمةُ التوبةِ والغفرانِ الإِلهي؟
يقولُ الكتابُ المَقدَّسُ بوجودِ مكانٍ للأَبرار، وهو السماء، ومكانٍ
للأَشْرار، وهو جهنَّم: " فَيَمضي هؤلاء إلى عذاب أَبَديّ، والأَبرارُ إلى حياةٍ
أَبديّة " 251 - 46، فلا يَذهبُ الأَبرارُ إلى جَهَنَّم، لأًنَّ اللهَ بَرَّرَهم ببرِّهِ الكامل، وبالتالي لا يَخْرُجون من جهنَّم إِلى السماء ...
وإِذا كانَ جميعُ الناس سَيَذْهبون إلى جهنَّمَ كما يقولُ القرآن، وإِذا كانت أُمَّةٌ واحدة من الطوائفِ الإسلاميةِ هي التي تَخْلُصُ كقولِ الحَديث، أَفَلا يُخَيِّمُ الخوفُ من الموتِ والدينونةِ على حَياةِ(1/309)
كُلّ المسلمين؟
ما أَعظمَ الفرقَ بين حياةِ المسلمِ الخائِفِ الحائِر، وبينَ حياةٍ
المسيحي، الذي يَشْتَهي أَنْ يَنطلقَ من الدنيا ليكونَ مع المسيح، ويَنتظر يومَ
القيامةِ بفَرَح، حيثُ يَنال إِكليلَ الحياة! ".
لم يَقُل القرآنُ إِنَّ جَميعَ الناسِ سَيَذْهَبونَ إِلى جهنَّمَ، والنتائجُ التي بَناها
الفادي على هذا الزعم باطلةٌ مَردودة، لأَنَّ ما بُنِيَ على الفاسدِ فهو فاسد.
ولا تَتَحدثُ آياتُ سورةِ الحِجْر التي خَطَّأَها الفادي الجاهِلُ عن الأَبرارِ
والأَشرارِ، إِنما تتحدَّثُ عن الأَشْرارِ الغاوِين فقط، الذين اسْتَسْلَموا للشيطان، وتُقَرِّرُ أَنَّ جهنَّمَ موعدُ هؤلاء الغاوين أَجمعين، وتَسْتَثْني الصالحينَ الأَبرار.
والآياتُ وارِدةٌ في سياقِ الحديثِ عن ما جَرى بين آدمَ - عليه السلام - وبينَ إِبليس، وتَعَهُّدِ إِبليسَ بإِغواءِ مَن استجابَ له من بَني آدم.
قال تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) .
لا أَدري كيفَ فَهِمَ المفترِي من الآياتِ الواضحةِ الصريحة دُخول الأَبرارِ
والأَشرارِ جهنم، مع أَنها صَريحةٌ في دُخول الكفارِ فَقَطْ جَهَنَّمَ..
إِنَّ الضميرَ المتَصِلَ " هم " في قوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) يَعودُ على " الغاوين " في الجملة السابقة: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) .
والمعنى: إنَّ جهنَّمَ موعدُ الغاوينَ الذينَ اتَّبَعوك.
ثم إِنَّ الآيات ِ اللاحقةَ صَرَّحَتْ بأَنَّ المتَّقينَ آمِنون في جناتٍ وعيون:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) .
لقد تَعَمَّدَ الفادي المجرمُ أَنْ يُحَرّفَ معنى الآياتِ الواضحِ، وأَنْ يَتْرُكَ
الآياتِ والكلماتِ الصريحة، وأَنْ يَتلاعَبَ بها، ليخرجَ منها بنتيجةٍ خاطئة،
يُخَطِّئُها بها، مع أَنَّها لا توحي بها!!.(1/310)
ولا تَدُلُّ آياتُ سورةِ مريم على دُخولِ الأَبرارِ والأَشْرارِ النار، كما ادَّعى
الفادي المفترِي.
قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
الكلامُ في الآياتِ الأُولى عنِ الكافرين، حيثُ سيَحْشُرُهم اللهُ مع
شَياطينِهم، ثم سيُحْضِرُهُم إِلى جَهَنّم، وسَيَجْثُونَ فيها على رُكبِهم، ثم يُخرجُ اللهُ منهم زُعماءَهم الذين هم أَشَدُّ عَدواةً لله، ثم سَيزيدُ عَذابَ هؤلاءِ الزعماء، ولا يَدْخُلُ المؤمنون ضمنَ هذه الآيات، لأَنهم مُؤْمِنون أَبرار صالحون.
وبعدما قَرَّرَتِ الآياتُ دُخولَ الكفارِ جَهَنَّم توجَّهَتْ للمؤمنينَ بالخطاب،
وأَدمجَتْهم في الخطابِ مع الآخرين، وأَخبرتْ عن وُرودِ جَميعِ الناسِ جهَنَّم،
ولم تستَثْنِ أَحَداً من هذا الورود، سواء كانَ مُؤْمِناً أَو كافراً، وقَرَّرَتْ بعدَ ذلك نَجاةَ المتقين وهلاكَ الكافِرين الظالمين: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
فالمرادُ بالورودِ في الآيةِ المرورُ فوقَ جَهَنَّم، بدليلِ ذِكْرِ نَجاةِ المتَّقين
بَعْدَه.
وهذا مَعْناهُ أَنه يُنْصبُ الصِّراطُ على شَفيرِ جَهَنَّم، ويمُرُّ عليه.
جميعُ البَشَر، مؤمنين وكافرين، أَمّا المتقونَ فيُنْجيهم اللهُ برحمتِه، وأَمّا الظالمونَ
فيُسْقِطُهم اللهُ فيها.
وفَسَّرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الورودَ بالمُرور.
فقد روى مسلمٌ عن أُمّ مُبَشِّر الأَنصاريةِ - رضي الله عنها -: أَنها سمعَتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عندَ حَفْصَةَ - رضي الله عنها -: " لا يَدْخُلُ النّارَ - إنْ شاءَ اللهُ - مِنْ أَصحابِ الشَّجرةِ أَحَد! الذينَ بايَعوا تَحْتَها ".
قالَتْ حَفْصَة: بلى يا رسولَ الله! فانْتَهَرها رسولُ اللهُ - صلى الله عليه وسلم -.
فقالتَ حفصة: قالَ اللهُ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ! فقالَ لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " قالَ الله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .(1/311)
لقد فَهمت حفصةُ - رضي الله عنها - الورودَ بأنه بمعنى الدخول، وأَنَ المؤمنين والكافرين سيَدْخُلونَ جهنَّم جَميعاً، ولكنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ الوُرودَ بالمرور، وأَخْبَرَها أَنَّ اللهَ يُنجي المؤمنينَ برحمتِه، فلا يُدْخِلُهم جَهَنَّم، وإِنما يَمُرّونَ عليها مُروراً سَريعاً، في طريقِهم إِلى الجنة.
وروى مسلم عن أَبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - حديثَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الطويلَ في الشفاعة: " ...
ثم يُضْرَبُ الجِسْرُ على جَهَنَّم، وتَحِلّ الشَّفاعَة، ويقولون:
اللهمَّ سَلِّمْ، سَلّمْ، قيلَ: يا رسولَ الله! وما الجِسْرُ؟
قال: دَحْضٌ مُزِلَّةٌ، فيه كَلاليبُ وخَطاطيفُ وحَسَك، تَكونُ بنَجْد، فيها شُوَيْكَة، يُقالُ لها: السَّعْدان، غيرَ أَنه لا يَعلمُ ما قَدْرُ عِظَمِها إِلّا الله.
تَخْطِفُ الناسَ بأَعمالِهم، فمنهم الموبَقُ بعَمَلِه، ومنهم المُجازى حتى يَنْجو، فَيَمُرُّ المؤمنون كَطَرْفِ العَيْن، وكالعَيْن، وكالرّيح، وكالطَّيْرِ.
وكأَجاويدِ الخَيْلِ والرّكاب، فنَاجٍ مُسْلَّمٌ، ومَخْدوش مُرسَلٌ، ومَكْدوسٌ في نارِ جَهَنَّم ... ".
بهذا البيانِ القاطعِ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّضِحُ أَنْ المرادَ بالورودِ هو المرورُ وليس الدخول، فالمتَّقونَ لا يَدْخُلونَ جَهَنَّم مُطْلَقاً! وبهذا نَعْرِفُ جَهْلَ وخَطَأَ الفادي في ادِّعائِه وافترائِه.
***
مظاهر نعيم المؤمنين في الجنة
اعترضَ الفادي المفترِي على حديثِ القرآنِ عن الجنة، ومظاهر النعيمِ
التي فيها، واعتبرَ هذه المظاهرَ لا تَليقُ بالمؤمنين، وأَثْنى على حديثِ الكتابِ
المَقَدَّسِ عن الجنة، وسَخِرَ مِن آياتِ القرآنِ التي ذَكَرَتْ صفاتِ الجنة.
وقالَ في بدايةِ اعتراضِه وتهكّمِه: " هذه جنةٌ تُناسِبُ الميولَ الجسدية،
وتُوافِقُ رغباتِهم الماديّة ".
وفَصَّلَ الحديثَ في اعتراضِه قائلاً: " بَدَلَ الصحراءِ المحرقة، وَعَدَهم
بجنةٍ تَجْري من تَحتِها الأَنهار..
وبَدَلَ النومِ على الرمالِ، وَعَدَهم بجنةٍ فيها(1/312)
سُرُرٌ مرفوعة..
وبَدَل لبسِ وَبَرِ الجِمال، وَعَدَهم بجنةٍ يُحَلَّونَ فيها من أَساورَ
من ذهبٍ ولؤلؤاً ولباسُهم فيها حرير..
وبَدَل القحطِ والمَحْل، وَعَدَهم بجنَّتَيْن ملآنَتَيْن بالفاكهة..
وبَدَلَ الخيامِ التي لا تَقي من حَرّ الصيفِ وزَمْهريرِ الشتاء،
وَعَدَهم بِقُصورٍ مُشَيَّدَة، فيها غُرَفٌ من فوقِها غُرَفٌ مبنية، ولا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهَريراً..
وبَدَلَ النساءِ البدويَّات، وَعَدَهم بأزواجٍ من الحورِ العين، لم يطمثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهم ولا جانٌّ، وجعلهنَّ أَبكاراً عُرُباً أَتْراباً..
وبدلَ الحرمانِ من الخَدَم وَعَدَهم بولدانِ الحور، يُقَدِّمونَ لهم ما لَذَّ من الشَّراب..
وبَدَلَ طعامِ الفاقة وَعَدَهم بلحْمِ الطير..
وبَدَلَ الجوعِ والفاقةِ وشَظَفِ العيش، وَعَدَهم بجناتٍ فيها أَنهارٌ من ماءٍ غيرِ آسِن، وأَنهارٌ من لبنٍ لم يتغيَّرْ طعْمُه، وأَنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأَنهارٌ من عَسَلٍ مُصَفّى ... ".
إنَّ الجنةَ التي يراها الفادي خاليةٌ من النعيمِ المادّي، فليس فيها أَشجارٌ
ولا أَنهارٌ، ولا قُصورٌ وغُرَف، ولا أَسِرَّةٌ وبُسُط، ولا ملابسُ وأَساور، ولا
نِساءٌ ولا ولْدان، ولا خَدَمٌ ولا حورٌ عين، ولا طَعامٌ ولا شَراب، ولا استمتاعٌ ولا شَهوة، ولا مُلْكٌ ولا أَرض ...
ومع هذا يُسَمِّيها جنة، ولا أَدري كيفَ تكونُ جَنَّةً وهي خاليةٌ من كلّ هذه المظاهرِ للنعيمِ والاستمتاع؟!!
وزَعَمَ الفادي المفترِي أَنَّ المسيحَ - عليه السلام - نفى وُجودَ نعيم مادّيٍّ في الجنة.
قال: " أين هذه الصفاتُ من قولِ المسيح: " في القيامة لا يُزَوَّجون ولا
يَتَزَوَّجون، بل يَكونونَ كملائكةِ اللهِ في السماءِ " [متى: 22 -.3] .
وقولِه أيضاً:
" لأَنَّه ليسَ ملكوتُ اللهِ أَكْلاً وشُرْباً، بل هو بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الروح
القدس ". [رومية: 14 - 17] ".
يَنسبُ الفادي للمسيحِ - عليه السلام - أَنَّ المؤمنين يَكونونَ في الجنة بدونِ طَعامٍ أَوْ شراب أو زواج، فهم كالملائكةِ الذين لا يَأَكلُون ولا يَشْرَبون ولا يتزوَّجون، وحياتُهم في الجنةِ مُجَرَّدُ فَرَحٍ وسُرورٍ وبِر وسَلام!!.(1/313)
وأَوردَ الفادي خرافاتٍ حولَ نعيمِ الجنة، نَسَبَها لرسولِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وزَعَمَ أَنَّ رسولَنا قال: إِنَّ لكلّ مؤمنٍ قصوراً كثيرةً في الجنة، في كُلّ قَصْرٍ سَبْعون داراً من ياقوتٍ أَحْمر، في كل دارٍ سَبْعونَ بيتاً من زُمُردٍ أَخْضَر، في كُلّ بيتٍ سَرير، على كُلِّ سَريرٍ سَبْعون فِراشاً من كُلِّ لون، على كُلِّ فراشٍ سَبْعون زوجةً من، الحورِ العين، وفي كُلِّ بيتٍ سَبْعون وَصيفة، وسَبْعون مائدة، وعلى كُلِّ مائدةٍ سَبْعون لَوْناً من الطعام، ويتزوَّجُ الرجلُ في الجنةِ خمسَمئةِ حوراء، وأَربعةَ آلافِ بِكْر، وثمانيةَ آلافِ ثَيّب!.
وهذا كلامٌ مَكْذوبٌ على رسولِنا محمدٍ - عليه السلام -، لم يَقُلْه، وفيه طابَعُ المبالغةِ والمغالاة ...
وهو كَلامٌ مَرْفوضٌ عندنا لأَنه لم يَصِح عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومعلومٌ أَنّ الجنةَ من عالمِ الغيب، ولا نأخذُ عالَمَ الغيبِ إِلّا من آياتِ القرآنِ الصريحة، وما صَحَّ من حديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -!.
وأَنهى الفادي المفترِي اعتراضه على حديثِ القرآنِ عن الجنةِ بادّعاءٍ
كاذب، قال: " ولم يَذْكُر القرآنُ أَنَّ في هذه الجنةِ سعادةً روحيةً في محبةِ
الخالقِ وتسبيحه! ".
ولقد ذَكَرَ القرآنُ السعادةَ العاليةَ التي يَكونُ عليها المؤمنونَ فى الجنة،
والفرحَ والسرورَ الذي يُظَللُ حياتَهم.
فوجوهُهم ناضرة، ضاحكةٌ مستبشرة.
قالَ تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
وقالَ تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) .
وقالَ تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) .
ويَحمدونَ اللهَ على ما أَنعمَ به عليهم، ويتذكَّرونَ ما كانوا عليه في
الدنيا.
قالَ تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) .(1/314)
ومِنْ سُرورِهم وسَعادتِهم الروحيةِ في الجنة إِذْهابُ الحَزَنِ عنهم فيها.
قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) .
ومن سعادتِهم الغامرةِ في الجنةِ أَنهم لا يَسمعونَ فيها إِلّا ما يُحبون
سَماعَه.
قال تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) .
وتَأتيهم الملائكةُ، يَدْخلونَ عليهم، ويُرَحِّبونَ بهم ويُبَشِّرونَهم.
قال تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) .
ومن سعادَتِهم الغامرةِ أَنَّ اللهَ يُحِلُّ عليهم رِضوانَه، ويُخبرُهم بذلك،
وهذا الرضوانُ أَكبرُ من كُلِّ مظاهرِ نعيمِ الجنة، من طَعامٍ وشَرابِ وزَواجٍ
ولباس.
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) .
تنصّ الآيةُ على أَنَّ الرضوانَ الذي يُحِلّهُ اللهُ على المؤمنين والمؤمناتِ
في الجنةِ أَكبرُ مِن كُلِّ مظاهرِ النعيمِ المادّيِّ فيها.
ووَضَّحَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى.
فقد روى البخاريّ ومسلمٌ عن أَبي سعيدِ الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى يَقولُ
لأَهْلِ الجَنَّة: يا أَهْلَ الجَنَّة.
فيقولون: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْك.
فيقول: هل رضيتُم؟
فيقولون: وما لَنا لا نَرْضى، وقد أَعْطَيْتَنا ما لم تُعْطِ أَحَداً من خَلْقِك.
فيقول: أَنا أُعطيكُم أَفْضَلَ من ذلك.
قالوا: يا رَبَّنا: وأَيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟
فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضْواني، فلا أَسْخَطُ عليكم بعدَه أَبَداً ".
أَبَعْدَ هذه الآيات ِ القرآنيةِ الصريحة، التي تُصَوِّرُ ما يكونُ عليه المؤمنونَ(1/315)
في الجنةِ من سَعادةٍ ونَضرَةٍ وفَرَحٍ وسُرور، يَأتي الفادي المفْتَري ليَتَّهِمَ القرآنَ
بأَنه لم يَذْكُرْ شيئاً عن هذه السَّعادَة؟!.
إِنَّ اللهَ يُكرِمُ المؤمنينَ في الجنة، بكُلِّ مَظاهرِ النعيم، سواء كان نَعيماً
مادّيًّا، مُمَثَّلاً في الجَنّاتِ والأَشْجارِ والأَنْهار والقُصورِ واللِّباسِ والطَّعامِ
والشَّرابِ والحُورِ العين.
أَو كان نَعيماً معنويًّا، مُمَثّلاً في سَعادتِهم وفَرحهِم وسُرورِهم ونَضْرَتِهم..
قال تعالى: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) .
***
أرواح الشهداء وأجواف الطيور الخضر
خَطَّأَ الفادي المفترِي القرآنَ في حديثِه عن حياةِ الشهداءِ عندَ رَبِّهم، كما
خَطَّأَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في إِخبارِه عن كونِ أَرواحِ الشهداءِ في أَجوافِ طُيورٍ خُضر، واعترضَ على كلامِ القرآنِ عن البرزَخ.
قالَ اللهُ عن البرزخ: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) .
والبرزَخُ هو المرحلةُ الانتقاليةُ التي يَكونُ عليها الأَمواتُ من البَشَرِ في
قُبورِهم، بانتظارِ قيامِ الساعة، وهم إِمّا " مُنَعَّمونَ في قُبورِهم إِنْ كانوا مُحْسنين، وإِمّا مُعَذَّبون في قُبورِهم إِنْ كانوا مُسيئين، والقَبْرُ إِمّا روضَةٌ من رياضِ الجَنَّة، وإِمّا حُفرَةٌ من حُفَرِ النّار، كما أَخبرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
وعَلَّقَ الفادي على كلامِ القرآنِ عن البرزخِ بقوله: " والبرزَخُ هو مكانُ(1/316)
الأَرواح، فيه تُحْفَظُ أَرواحُ الأَشْرار، فلا يَقْدِرونَ على الرُّجوعِ إِلى الحياةِ
الدنيا ".
وكلامُه غيرُ صحيح، فالبرزخُ ليسَ مَكاناً لحفْظِ أَرواحِ الأَشْرارِ
فقط، وإِنَّما هو مكانّ لكُلِّ النّاس، مُؤْمِنين وكافِرين، ومُحْسِنين ومُسيئين، لأَنه مرحَلَةٌ حتميةٌ لما بَعْدَ الموت.
كما أَنَّ البرزخَ ليسَ مَكاناً للأَرْواحِ فقط، وإِنما هو مكانٌ لكُلِّ إِنسان،
بجسْمِه وروحِه وكيانِه كُلِّه.
وقد أَخَبَرنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كُلَّ إِنسَانٍ عندما
يوضَعُ في قَبْرِه، تُرَدّ له روحُه في جَسَدِه، ويأْتيهِ الملَكانِ فَيُجْلِسانِه ويَسأَلانِه،
فإِنْ أَجابَ كانَ مُنَعَّماً في قَبْرِه، وإنْ لم يُجِبْ كان مُعَذَّباً.
فنَعيمُ القبرِ أَو عَذابُه ليسَ للروحِ فقط، لكنَّه للروحِ مع الجَسَدَ.
لكنَّ البرزخ من عالَمِ الغيب، ولا يُقاسُ بمقاييسِنا الماديةِ الدنيوية، فلو
فَتَحْنا قَبْراً ماتَ صاحِبُه قبلَ عشراتِ السنين فلنْ نَجِدَ فيه جِسْماً ولا روحاً،
ولا نَعيماً ولا عَذاباً، ولن نَجِدَ فيه إِلا تُراباً، ولا يَعْني هذا أَنَّ صاحبَه صارَ
تُراباً حقيقة، إِنما هو بروحِه وجَسَدِهِ في عالَمِ الغيب، وهو مُنَعَّمٌ أَو مُعَذَّبٌ في
قبرِه، ويَعِيشُ حياتَه البرزخيةَ بانتظارِ قِيامِ الساعة!.
أَما حياةُ الشهداءِ عندَ الله، فقد ذَكَرَها القرآنُ في قولِه تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) .
وهذه الآيات ُ نازلةٌ بعدَ غزوةِ أُحُد، في السنةِ الثالثةِ من الهجرة، التي
استُشْهِدَ فيها مَن اسْتُشْهِدَ من الصحابة، فأَخْبَرَ اللهُ أَهْلَهم عن حياتِهم.
وهذا ما أَكَّدَهُ وَوَضَّحَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
روى مسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سأَلْنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) .(1/317)
فقال: " أَرواحُهم في جوفِ طَيْرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعَلَّقَةٌ بالعرش،
تَسرحُ من الجنةِ حَيْثُ شاءَتْ، ثم تَأوي إلى تلك القناديل ".
وروى أَبو داود عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لما أُصِيْبَ إِخوانُكُم بأُحُد، جَعَلَ اللهُ أَرواحَهم في جوفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنهارَ الجنة، تَأَكُلُ من ثِمَارِها، وتَأَوي إِلى قناديلَ من ذَهَب مُعَلَّقَةٍ في ظِلِّ العرش..
فلما وَجَدوا طِيبَ مَأكَلِهِمْ ومَشْرَبِهم ومَقيلِهم، قالوا: مَنْ يُبَلغُ إِخوانَنا عَنّا أَنّا أحياءٌ في الجَنَّةِ نُرْزَقُ، لِئَلّا يَزْهَدوا في الجهاد، ولا يَنْكُلوا عندَ الحرب؟
فقالَ الله: أَنا أُبَلِّغُهُم عنكم! فأنزل قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) ... .
وقد اعترضَ الفادي على كَلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واعتبرَ جَعْلَ أَرواحِ الشُّهداءِ في أَجْوافِ طُيورٍ خُضْرٍ لا يَتفقُ مع كرامَةِ الإنسان.
قال: " ونَحنُ
نسألُ: إِنْ كانَ اللهُ خَلَقَ الإنسانَ على أَحْسَنِ تَقْويم، فكيفَ إذا ذَهَبَ إِلى الجنةِ يُنَزِّلُهُ مَنزلةَ الطير؟
ويَتناسَخُ الأشرارُ في النارِ إِلى قردةٍ وخَنازير، والأَبرارُ في الجنةِ إِلى طيورٍ وعصافير؟ ".
واعتراضُه يَدُلُّ على جَهْلِه وسَخافَةِ تَفْكيره، فلا يَدُلُّ حَديثُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أَنَّ اللهَ يُحَوّلُ الشُّهداءَ من بَشَر إِلى طيورٍ وعَصافير، إِنما يَدُلُّ على أَنَ اللهَ يُكْرِمُهم بعدَ استشهادِهم، فلا يُبقي أَرواحَهم مع أجسادِهم في الدنيا، وإنما يَستقدِمُها إِلى الجنة، ويَجعلُها في
حواصلِ طيورٍ خُضْر، تتمتَّعُ في الجنةِ حيثُ شاءت، وتَسرحُ فيها بينَ أَنْهارِها وأَشْجارِها وثمارِها، وتأوي لَيْلاً إِلى قناديلَ مُعَلَّقَةٍ قي ظِلِّ العرش.
وهذا كُلُّهُ في الدنيا، فأَجسادُهم بَقِيَتْ في قُبورِهم، وأَرواحُهم هي التي
اسْتَقْدَمَها اللهُ إِلى الجنة، فليسَ في الأَمْرِ تناسُخٌ ولا اسْتِنْساخ، ولا إِهانَةٌ
واحْتقار للشهيد، بتحوِيلِه من إنسانٍ مُكَرَّمٍ إلى عُصفور!.(1/318)
أَمَّا يومُ القيامة فإِنَ اللهَ يَبعثُ الشُّهداءَ كما يَبعثُ الناسَ الآخَرين، ويَسيرونَ
إلى الموقفِ بأَرواحِهم وأَجسادِهِم، ثم يُدخِلُهم اللهُ الجنةَ برحمتِه، ويكونونَ فيها بَشَراً أَسْوياء، مُعَزَّزين مُكرَّمين، على أَرقى وأَكملِ الصُّوَرِ البشرية!!.
***
حول تأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ذَكَرَ الفادي المفترِي خُرافةَ مَوْتِ جَرْوٍ تحتَ سريرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مما جَعَلَ الوحْيَ يتأَخَّرُ عنه أَياماً، ولم يَنزلْ عليه إِلا بعدَ إِخراجِ جُثَّةِ الجرو، وجَعَلَ المفترِي عنوانَ الموضوعِ تَهَكُّمِيًّا: " جَرْوٌ يُعَطِّلُ الوَحْيَ! ".
ونَسَبَ هذه الخرافةَ إِلى تَفسيرِ البيضاوي.
وزَعَمَ أَنَّ خُرافةَ الجَرْوِ الميتِ سببٌ في نُزولِ قولِه تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) .
قالَ الفادي: " قال البيضاوي: رُوِيَ أَنَّ الوحْيَ تَأَخَّرَ عن رسولِ اللهِ
أَياماً..
لأَنَّ جَرْواً مَيتاً كانَ تَحْتَ سَريرِه..
فقالَ المشركون: إِنَ محمداً وَدَّعَهُ رَبُّه وقَلاه، فَنَزَلَت رَدّاً عليهم ".
وجعل الفادي المفترِي نفسَه عالِماً بالحديث، خَبيراً بالتَّصحيحِ
والتضعيف، فَزَعَمَ أَنَّ روايةَ الجَرْوِ المَيِّتِ مرويةٌ بسَنَدٍ صَحيح! قال: " ...
ورُوِيَ بإِسنادٍ صَحيحٍ أَنَّ جَرْواً دَخَلَ بيتَ محمد، فاتَ تحتَ السرير، فماتَ، فانْقَطَع الوحْيُ عنه، فقال محمدٌ لخادمتِهِ خَوْلَة: يا خَوْلَة! ماذا حَدَثَ في بيتي؟
جبريلُ لا يَأتيني..
فَقُلْتُ في نَفسي: لو هَيَّأتُ البيتَ فَكَنَسْتُه، فأَهويتُ بالمكنسَةِ تَحْتَ السَّرير، فأَخْرَجْتُ الجَرْوَ ...
فجاءَ محمدٌ يَرْعَدُ بجُبَّتِه، وكانَ إذا نَزَلَ الوَحْيُ أَخَذَتْه الرعدةُ، فقال: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) .(1/319)
وهذه الروايةُ مكذوبةٌ موضوعة، رَغْمَ ورْودِها في بَعْضِ كُتُبِ المأثور،
ومِن غَيْرِ المقبولِ والمعقولِ أَنْ يَموتَ جَرْوٌ تَحْتَ سَرِيرِ رسولِ الله - عليه السلام -، وأَنْ تَبْقى جُثَّتُه تحتَ السَّرير أَياماً عَديدةً، بدونِ أَنْ تَخْرُجَ رائحتُها المنتنة، أَو أَنْ يَنْتَبِهَ لها أَحَد.
وأَثارَ الفادي المفترِي على الروايةِ المكذوبةِ أَسئلةً تهكميةً خبيثة، قال:
" ونحنُ نسأَلُ: أَيُّ نوعٍ من الوحي هذا الذي يَنقطعُ عن البَشَر بسببِ جَرْوٍ؟
وأَيُّ مَلاكٍ هذا الذي يُقاطِعُ نبيًّا بسببِ جَرْوٍ؟
وما دَخْلُ الجَرْوِ في الوحي؟
أَلمَ يَكُنْ أَغَلَبُ الأَنبياءِ كإِبراهيمَ وإِسحاقَ ويعقوب وموسى وداودَ رُعاةَ أَغْنامٍ
وتَحْرُسها الكلاب؟
فلماذا لَمْ نَسمعْ بمقاطعة السَّماءِ لهم من أَجْلِ كِلابِهم؟ ... ".
وكلُّها أَسئلةٌ متهافتةٌ لأَنها تتعلقُ بروايةٍ مَكْذوبةٍ موضوعة، وهي تَدُلُّ على
جَهْلِ الفادي وتحامُلِهِ، وحِرْصِه على إِثارةِ الشبهاتِ ضدَّ القرآن، ولو لم يَكُنْ
عليها دَليلٌ أَوْ بُرْهان!.
***
هل تذهب الحسناتُ السيئاتِ؟
أَخْبَرَنا اللهُ أَنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات، فقالَ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) .
وقد اعترضَ الفادي المفترِي على هذهِ الآية، وعلى استشهادِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بها.
قال: " روى الترمذيُّ عن أَبي البُسْرِ قال: أَتَتْني امرأةٌ تَبْتاعُ تَمْراً، فقلتُ:
إِنَّ في البيتِ تَمْراً هو أَطْيَبُ منه، فدخلَتْ معي البيتَ، فأَهْوَيْتُ عليها،(1/320)
فقبَّلتُها ...
ثم ذَهَبَ إِلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وأَخْبَرَه بما كان، فأَطْرَقَ محمدٌ طويلاً، ثم قالَ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) .
فقالَ: يا رسولَ الله! أَهي لي خاصَّة أَمْ للنّاسِ عامة؟
قال: بل للنّاسِ عامة ".
والذي صَحَّ في نُزولِ الآيةِ ما رواهُ البخاريُّ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً أَصابَ من امرأةٍ قُبْلَة، فأَتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ له ذلك، فأَنزلَ اللهُ الآيةَ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) .
تَدُلُّ الحادثةُ على أَنَّ أَحَدَ المسلمين زَلَّتْ قَدَمُه، وارتكبَ ذَنْباً، حيثُ
قَبَّلَ امرأةً قُبْلَةً مُحَرَّمَة، ثم استيقظَ ضَميرُه، وشَعَرَ بِذَنْبِهِ، واستغفَرَ اللهَ، وتابَ إِليه، وأَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَسْلِماً، واضِعاً نَفْسَه بينَ يَدَيْه، ليَحْكُمَ فيه بأَمْرِه.
ولاحَظَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - صِدْقَ الرجلِ في تَوبتِه، وإقلاعَهُ عن ذَنْبِه، وحِرْصَه على الإكثارِ من الحسنات، فأَخبره أَنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئات!!.
وقد صَرَّحَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ آخَرَ أَنَّ الصلواتِ الخمس تُكَفِّرُ الذُّنوبَ، وشَبَّهَها برَجُلٍ يَغْتَسلُ في نَهْرٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ في اليوم.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أَرأَيْتُم لو أَنَّ نَهْراً ببابِ أَحَدِكم
يَغتسلُ فيه كُلَّ يومٍ خَمْسَ مَرّات، هل يَبقى من دَرَنه شَيءٌ؟ " قالوا: لا يَبْقى من دَرَنهِ شيء.
قال: " فذلك مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ يمحو اللهُ بهنَّ الخَطايا ".
وروى مسلمٌ عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إِلى الجمعةِ، كَفَّارَةٌ لما بينهنّ، ما لم تُغْشَ الكَبائِر ".
وقد رَفَضَ الفادي ما قَرَّرَتْه الآية، وما أَكَّدَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وطَرَحَ حولَها أَسئلتَه التشكيكيةَ، فقالَ: " ونحنُ نَسألُ: كيفَ يَقترفُ الناسُ الشُّرور، ثمَّ يُكَفِّرونَ عنها بالصلواتِ الخمس؟
أَلا يُنافي هذا قداسة اللهِ وعَدْلَه؟
فإنه لا يُمكنُ التكفيرُ عن الخطيئةِ إِلّا بَسَفْكِ دَمٍ، كقولِ الإنجيلِ: " بدون سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ(1/321)
مَغْفِرَة " وكيفَ يَسْتَخِفّونَ بخطِيئةٍ هي أَشنَعُ وأَفظعُ شَيْءٍ أَماْمَ الله ".
لقد قَدَّمَ الفادي طريقاً شاقّاً للتوبةِ والتكفير، لا تَتَّفِقُ مع عقِيدَتِه
النصرانية، إِنَّه لا توبةَ ولا تَكْفيرَ إِلّا بسَفْكِ دَم، وبدونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحصُل
مغفِرة!! فما مَعْنى هذا؟
هل يَجِبُ على المذنبِ أنْ يَقتلَ نَفْسَه ليغفرَ اللهُ له؟
أَلا يؤمنُ النَّصارى أَنَّ المسيحَ هو الفادي؟
وأَنَّ اللهَ شاءَ أَنْ يُصْلَبَ ابْنُه ليكونَ فِداءً للبَشَرِ جَميعاً حتى قِيامِ السّاعة؟
وأَنه لا داعِيَ لأَنْ يَستغفرَ المذْنبون، فقد فَداهُم الفادي بنفسِه..
فكيفَ يَقولُ المفْتَري الآنَ: إِنه لا مَغفرةَ إِلّا بسَفْكِ دَمٍ؟!.
أَمّا ادّعاؤُه أَنَّ الآيةَ وحديثَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُجَرِّئُ المسلمينَ على ارتكاب الذنوب، وتَدْعوهم إِلى الاسْتِخفافِ بالمعاصي، فهذا افتراءٌ باطل، لأَنَّ الآياتِ القِرآنيةَ وأَحاديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَدْعو إِلى تَقْوى الله ومراقبتِه وتعظيم مقامِه، وعَدَمِ معصيتِه، فإذا أَخْطَأَ المسلمُ بدونِ قَصْدِ، وَوَقَعَ في ذنْبٍ بدون تَعَمُّد، ثم استغفرَ اللهَ وأَكثر مَن مظَاهر عبادتِه وطاعتِه فإنّ اللهَ يغفرُ له.
لهذا المسلم التائبِ، المنيبِ لرَبّه، المقْلعِ عن ذَنْبِه، الذي عَملَ
الحسناتِ بعدَ السيئات، تُوَجَّهُ الآيةُ، تَرغيباً له في الاستمرارِ على طريقِه
الإِيجابيِّ بعدَ التوبة: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) ، كما تُوَجَّهُ له أَحاديثُ
رسولِ الله - عليه السلام - المرغبةُ في فِعْلِ الحسناتِ بعدَ السيئات.
***
من الذي صُلب: المسيح أم شبيهه؟
سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي المفترِي في مسألة صَلْبِ المسيح - عليه السلام - وموتِه ورَفْعِه إِلى السماء، عندما أَثارَ موتَ المسيحِ ثم حياتَه بعدَ موتِه، وذَكَرْنا ما قالَه القرآنُ حولَ ذلك.(1/322)
وقد عادَ الفادي إِلى هذا الموضوع، وخَصصَ له مَبْحثاً خاصّاً، وهو
السؤالُ الثامنُ والتسعون، الذي جَعَلَ عنوانه: " خِدْعَة إِلْقاءِ شبهِ المسيحِ على غيرِه ".
اتهمَ الفادي المفترِي القرآنَ بالتناقُضِ في حديثِه عن عيسى - عليه السلام -، فأَحياناً يَذْكُرُ أَنَّ اليهودَ لم يَقْتُلوهُ ولم يَصْلُبوهُ، وإِنما قَتَلوا وَصَلَبوا شَبَهَه، وأَحياناً يذكُرُ أَنهم قَتَلوا المسيحَ ودَفَنوه، ثم أحياهُ اللهُ بعدَ موتِهِ، ورَفَعَهُ إِلى السَّماء!!.
قالَ: " جاءَ في سورةِ النساء: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) .
بسببِ هذه الآيةِ القرآنيةِ الواحدةِ يُنْكِرُ بعضُ المسلمين صَلْبَ المسيح،
مع أَنَّ في القرآنِ ثلاثَ آياتٍ تقطعُ أَنَّ المسيحَ تُوُفِّيَ ومات، وبُعِثَ حَيّاً، ورُفِعَ إِلى السماء.
وهي: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
و (كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) .
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ".
ثم قال: " ونحنُ نَسأل: كَيْفَ يَقولُ القرآنُ مرةً: إِنَّ المسيحَ لم يُصْلَبْ
ولم يُقْتَل، بل رُفِعَ حَيّاً، ويَقولُ مِراراً: إِنه تُوُفِّيَ وماتَ ثم رفِعَ حَيّاً؟!.
وإِنْ جازَ أَنْ يُقالَ: إِنَّ اللهَ يُلقي شَبَهَ إِنسانٍ على آخَر، أَلا يَفتحُ هذا بابَ
الشَّكِّ في كلِّ شَيء؟
فإِذا رأيتَ زيداً، يُحتملُ أَنه ليسَ بزَيْد، بل أُلْقِيَ شَبَهُ زيدٍ
عليه، وعند ذلك لا تَبْقى على الأَرضِ حقيقة! بل إِنّنا نَشُكُّ في التَّواتر، لأَننا
نتساءل إِنْ كانَ ما رواهُ الأَوَّلونَ حقّاً أَو شَبيهاً بالحَق، بل إِنَّنا نَشُكُّ في
الشرائعِ التي جاءَ بها أَشباهُ الأَنبياءِ، بل الأَنبياءُ أَنفسُهم! وهل في إِلْقاءِ الشَبَهِ(1/323)
على آخَرَ ليَقْتُلَه اليهودُ بَدَلَ المسيح شيءٌ من العَدْلِ على الرجلِ المقْتول؟
أَلَا يَظُنُّ اليهودُ أَنَّ اللهَ يُعِزُّ المسيحَ ويُكْرِمُه؟
إِنَّ الذينَ يُنكرونَ الصلْبَ يَرسمونَ
لنا اللهَ إِلهاً يَرضى بالغِشِّ والكذِب ".
لقد أَثارَ الفادي المفترِي في كلامِه مجموعةً من الإِشكالاتِ
والمغالطات، ويُمكنُ الرَّدُّ عليها في النقاط التالية:
1 - زَعَمَ أَنَّ القرآنَ مُتَناقِضٌ في حديثِه عن نهايةِ المسيح - عليه السلام -، فقالَ: إِنَّ اليهودَ لم يَقْتُلوه ولم يَصلبوه، وإِنما شُبِّهَ لهم، وقالَ: إِنّ عيسى تُوُفِّيَ وماتَ ثم بُعِثَ حَيّاً، وصَعَدَ إِلى السّماء.
وهذا زَعْمٌ باطلٌ مردود، فلم يَتَناقض القرآنُ في حديثِه، ولا تَناقُضَ بين
الآياتِ القرآنيةِ التي تتحدَّثُ عن الموضوعِ الواحد، وإِذا كان هناكَ تَناقُضٌ أَو
تَعارض فهو موهوم، ناتِجٌ عن سوءِ فَهْمِها، ويُمكنُ إِزَالةُ ذلك التعارضِ بإِمْعانِ النظرِ فيها، وإِحسانِ فَهْمِها، ودِقَّةِ الجَمْعِ بينها.
2 - المعْتَمَدُ في أَمْرِ المسيحِ - عليه السلام - آياتُ سورةِ النساء، التي تُصَرِّحُ أَنَّ اللهَ حمى رسولَه عيسى - عليه السلام -، وعَصَمَه من كيدِ اليهود، فلما أَتَوْا بالجنودِ الرومانِ لصَلْبِه وقَتْلِه، أَلْقى اللهُ شَبَهَهُ على أَحَدِ تلاميذِه المتَبَرِّعين، فأَخَذوا المؤمنَ المتَبَرِّعَ، وقَتَلوهُ وصَلبوهُ على أَنه عيسى، ثم أَنْزَلوهُ ودَفَنوه! أَمّا عيسى - عليه السلام - فقد أَنْجاهُ اللهُ وعَصَمَه وحَماه، ورَفَعَه إِلى السماءِ مُباشَرَة، فلم يُصَبْ بأَذى.
3 - لم يَتَحدث القرآنُ عن صَلْبِ عيسى ودَفْنِه وموتِه، ثم قيامَتِه حَيّاً من
قَبْرِه، كما ادّعى الفادي ذلك ونَسَبَهُ للقرآن.
وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْناهُ في مَعْنى قولِه تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
وخُلاصةُ مَعْنى الآيةِ: أَنه بعدَ أَنْ أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى - عليه السلام - على ذلك الشابَ المتطوّع، بحيثُ صارَ كَأَنَّه عيسى تَماماً، أَلقى اللهُ النومَ على(1/324)
عيسى - عليه السلام -، فنامَ وهو وسطَ تَلاميذِهِ الحَوارِيّين، في تلك الليلةِ المثيرة، وتوفّاة اللهُ بأَنْ أَنامَه، ثم رَفَعَه إِلى السماءِ وهو نائم، وكان ذلك بروحِه وجَسَدِه، وتَمَّ بآيةٍ خارقةٍ ومعجزةٍ باهرةٍ من الله!.
فليسَ معنى قولِه: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) : سأَسْمَحُ لليهود بصلْبِك
وقَتْلِك ودَفْنك، وأَكونُ بهذا قد أَمَتُّكَ وَتَوَفَّيْتُكَ، ثم أْحْييكَ بعدَ دفنِك مباشرة، وأَرفعكَ إِلَيَّ حَيّاً.
كما يؤمنُ بذلك الفادي وأَهْلُ مِلَّتِهِ من النصارى.
وإِنما مَعْناها: إِنّي مُنيمُك، ورافِعُكَ إِلَيَّ وأَنتَ نائِم، وبذلك أُطهِّرُكَ من الذين كَفَروا، فلم تَمتدَّ أَيديهم إِليكَ بسوء.
4 - لا يَدُلّ قولُه تعالى: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) : لما
أَمَتَّني عَلى الصليب، كما فهمَ ذلك الفادي المفترِي، إِنّما المرادُ بها هنا
الوفاةُ الحقيقيةُ، التي سَيَتَوَفّى اللهُ بها عيسى - عليه السلام -، عندَ انتهاءِ أَجَلِه، وذلك بعدَ نزوله في آخرِ الزمان، حيث سيتوَفّاهُ اللهُ ويُميتُه كما يَتَوَفّى ويُميتُ أَيَّ إِنْسان!.
5 - أَمّا قولُه تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) فليس كما فهمَه الفادي المفترِي، بما يَتفقُ مع هَواه، من أَنه ماتَ
ودُفِنَ، ثم بَعَثَه اللهُ حَيّاً بعد ذلك ورَفَعَه إلى السماء، وإنما يُخبرُ عن
المراحلِ الثلاثةِ التي يَمُرُّ بها عيسى - عليه السلام -، كما يَمُرُّ بها كلُّ إِنسان، وهي ميلادُه، ثم موتُه، ثم بعثُه حيّاً يومَ القيامة.
فعيسى الحيّ الآنَ في السماءِ، سيُنْزِلُهُ اللهُ في آخرِ الزمان، ثم يُميتُه، ثم يَبْعَثُه حَيّاً يومَ القيامة كما يَبْعَثُ باقي الناس.
وبهذا نُزيلُ التناقضَ الموهومَ بين الآيات، ونَعْرِفُ من القرآنِ أَنَّ اليهودَ
لم يَقْتُلوا عيسى ولم يَصْلبوه، وأَنامَه اللهُ، وتوفّاه تَوَفِّيَ نَوْمٍ، ورَفَعَه إِليه وهو
نائم، وسيُنزلِهُ في آخرِ الزمان، ويُميتُه كما يُميتُ باقي البشر، ويبعثُه حَيّاً يوم القيامة كما يَبْعَثُ باقي البَشَر!!.(1/325)
6 - لا يَتَرَتّبُ على إِلقاءِ شَبَهِ عيسى - عليه السلام - على تلميذه المتطوِّعِ
الإِشكالاتُ التي ذَكَرَها الفادي، لأَن هذا أَمْرٌ خاصٌّ أَرادَهُ الله، ومعجزةٌ
خاصَّةٌ قَدَّرَها الله، ليحميَ بها عَبْدَه ورسوله عيسى - عليه السلام -، ولا يَصيرُ ذلك الشابُّ المؤمنُ على شَكْل عيسى - عليه السلام - إِلّا بأَمْرِ الله، ولا يُؤَدي هذا إِلى الشَكِّ في الحقائقِ والأَشياءِ والأَشخاص، لأَنَّ هذه المعجزةَ لا تُعَمَّم على الجميع! كما أَنه ليسَ في الأَمر ظلمٌ للشاب المتطوِّع، الذي أُخِذَ وقُتِلَ وصُلِبَ على أَنه عيسى - عليه السلام -، لأَنه تبرعَ بذلك ورضيَ به، طالِباً الأَجْرَ من الله، حيثُ استَجابَ لدعوةِ عيسى - عليه السلام -: " مَنْ منكُم يَرْضَى أَنْ يُلقى عليه شَبَهي، فيؤْخَذَ ويُقْتَلَ، ويكونَ معي في الجنة؟ ".
فقالَ ذلك الشاب: أنا.
7 - الجملةُ الأَخيرةُ من كلامِ الفادي فاجرةٌ قَبيحةٌ مرذولة: " إِنّ الذينَ
يُنْكرونَ الصَّلْبَ يَرسمونَ لنا اللهَ إِلهاً يَرضى بالغِشِّ والكَذِب! ".
أَيْ أَنَّ ذلك الشابَّ الفدائى المتطوِّعَ كان كاذِباً غَشّاشاً عندما صارَ شَبيهاً بعيسى - عليه السلام -، علماً أَنَّ الأَمْرَ لم يَتِمَّ بفعْلِه، إِنما تَمَّ بفعلِ الله، وبما أَنَّ اللهَ الذي أَرادَ ذلك وفَعَلَه فهو الصوابُ الذي لا خَطَأ فيه!.
***
حول تكفير الصوم للخطايا
وَقَفَ الفادي المفترِي أَمَامَ تكفير صومِ رمضانَ للخطايا، وفَضْلِ ليلةِ
القَدْرِ فيه، التي هي خيرٌ من أَلْفِ شَهْر، وأوردَ أَحاديثَ لم تَصح عن
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم اعترضَ عليها.
بعدَما سَجَّلَ آياتِ سورةِ القَدْرِ قال: جاءَ في حديثٍ عن ابنِ عباس: " إذا
كانَتْ ليلةُ القَدْرِ أَمَرَ اللهُ جبريلَ أَنْ يَنزلَ إِلى الأَرض، ويَنزلَ معه سَبعُونَ أَلْفَ
مَلَك، سُكان سدرةِ المنْتَهى، ومعهم أَلويةٌ من النّور، فَيُرَكّزونَ أَلويتَهم في(1/326)
المسجدِ الحرام ومسجدِ محمد وبيتِ المقدس، ويُرَكِّزُ جبريلُ لواءً أَخضرَ على
ظهرِ الكعبة..
ثم تَتَفرقُ الملائكةُ في أَقطارِ الأَرضين، فيَدْخُلونَ على كُلِّ
مؤمن، يَجِدونَه في صلاةٍ أَو ذِكْرٍ، يُسَلِّمون عليه ويُصافحونَه، ويُؤَمِّنونَ على دُعائِه، ويَستغفرونَ لجميع أُمَّةِ محمدٍ حتى مَطْلَعِ الفجر ... "!! وفي حديث آخَر: " إِنَّ اللهَ يُعتقُ في كُلًّ يَوْمٍ من رمضان ستَّمئةِ أَلْفِ عَتيقٍ من النار، فإِذا كانَ آخْرُ يومٍ منه أَعتقَ بقَدْرِ ما مَضى! ".
والحَديثان اللَّذان ذَكَرَهما لَيْسا صحيحين، ولم يَقُلْهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهما مبالغةٌ واضحة غيرُ مقبولة.
وانظرْ إلى شيطنةِ وخُبْثِ الفادي المجرم، في قولِه عن المساجدِ الثلاثة:
" فَيُرَكّزونَ أَلويتَهم في المسجدِ الحرامِ ومسجدِ محمدٍ وبيتِ المقدس ".
الروايةُ التي نقلَها تقول: " المسجدُ الحرامُ والمسجِدُ النبويُّ وبيتُ المقدس ".
فَحَذَفَ المفتري المحَرِّفُ كلمةَ " المسجدِ النبوي "، وَوَضَعَ مكانها " مسجدَ محمد "!.
وذلك ليَنْفي نُبُوَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، لأَنه لا يؤمنُ بأَنه رسولُ الله، وإِنما هو كاذب مُفْتَرٍ مُدَّعٍ، ادّعى أَنه نبيّ، وأَلَّفَ القرآن، ولذلك يَحرصُ في كتابِه على حَذْفِ أَيِّ كلمةٍ تُشيرُ إِلى نبوَّتِه، فيحذفُها ويَضَعُ مكانَها اسْمَه المجرَّدَ! حتى لو أَدّى ذلكَ إِلى التلاعبِ بالنَّصِّ الذي أَمامَه وتحريفِه، وهذا مما لا يتفقُ مع الأَمانةِ العلميةِ في التعامُلِ مع النصوصِ المخالفة!.
وقد اعترضَ الفادي على الحديئَيْن اللذين أَوردَهما، وخَطَّاَ القولَ بأَنَّ
الصومَ يُؤَدّي إِلى مغفرةِ الخطايا.
قال: " ونحنُ نَسْأَل: هل مجردُ صومِ رمضانَ
يُؤَدّي إلى الخَلاصِ، ويَغفرُ الخَطايا؟
أَلا يُنافي هذا عَدْلَ اللهِ وقَداسَتَه؟
لقد وَفَّقَ اللهُ بحكمَته بينَ عَدْلِه ورحمتِه، وجَعَلَ المسيحَ بتجسّدِه يَموتُ عن
الخُطاة، ليخَلِّصَهم من الخطيَّة، ويَمنحَهم القوةَ للعيشةِ بالبِرّ والقَداسَة.
إِنَّ الاتكالَ على رحمةِ اللهِ فقط دونَ النظرِ للفداءِ يَطْعَنُ في عَدْلِ الله، فيكونُ اللهُ كمَلِكٍ يُصدرُ قانوناً، ويَتَهاونُ في تنفيذِه، فلا يُعاقِبُ كاسِريه! ".(1/327)
واعتراضُ الفادي على تَكفيرِ الصوْمِ للخَطايا دَليلِّ على جهْلِه، فالمؤمنُ
عندما يَصومُ يَقومُ بجهدٍ وعَمَلٍ وكسْب، ويَفعلُ الخير، مُتَقَرِّباً به إِلى الله،
ويُكافؤُه اللهُ على جهدِه وعملِه بتكفيرِ خطاياه، ومضاعفةِ حَسَناتِه، وماذا في
ذلك؟
ولماذا لا يَتفقُ هذا التكفيرُ مع عَدْلِ الله؟
ولماذا يُؤَدّي القولُ بهذا إِلى اتِّهامِ اللهِ بالتهاونِ في تَنفيذِ عِقابِه والتراجعِ عنه؟!.
إِنَّ اللهَ واسعُ المغفرة، يتقبَّلُ الصالحاتِ من عبادِه الصالحين، ويَتعامَلُ
معهم برحمتِه وكَرَمِه، فيضاعِفُ لهم الحسنات، وهو يُريدُ منهم أَنْ يَتَّقوهُ
ويُطيعوه، فإِذا أَذْنَبوا ثم تَابوا واسْتَقاموا، وعَمِلوا الطاعات، فيقبَلُهم ويَعفو
عنهم، واللهُ غفورٌ رحيم، يَغمرُ التائبين العابدين برحمتِه وفَضْلِه!!.
وأَيُّهما الأَدْعى للإِنكارِ والاعتراضِ والتخطئة؟
فكرةُ الإِسلام عن تكفيرِ العباداتِ من صلاةٍ وصوم للذنوبِ والخطايا، أَو فِكرةُ النصرانيةِ عن الخَلاص والفداء؟
التي تَقومُ على أَنًّ اللهَ ضحَّى بابنِه المسيح، وأَذِنَ أَنْ يُقْتَلَ ويُصْلَبَ ليكونَ
فادياً للناسِ جميعاً، وكان دَمُ ابنِه المسيح المسفوكُ تَكفيراً لجميعِ ذُنوبِ المذنبين
حتى قيامِ الساعة! ولا داعي لأَنْ يَتوبَ هؤلاء المذنبون، ولا أَنْ يَسْتَغْفِروا الله، ولا أَنْ يَعْمَلوا الصالحات، ولا أَنْ يَتَوَقَّفوا عن المعاصي! فاللهُ ضَحَّى بابنِه
المخَلِّصِ الفادي من أَجْلِهم!! باللهِ هذا كلامٌ؟!
وهذا دين؟!
وقائلُ هذا الكلامِ هل هو مُوَحِّدٌ لله؟
وهل هو مُؤَهَّلٌ للاعتراضِ على الإِسلام وتخطئتِه في كلامِه عن
تكفيرِ الخطايا بالعملِ الصالح؟
صَدَق في كلامِ الفادي الجاهلِ قَولُ الشاعر:
هذاكَلامٌ لَهُ خَبيءٌ ... مَعْناهُ لَيْسَتْ لنا عُقولُ
***
نفي النبوة عن نسل إسماعيل - عليه السلام -
يَحصرُ الفادي المفترِي وأَهْلُ مِلَّتِه النبوةَ في بني إِسرائيلَ من نَسْلِ
إِبراهيمَ - عليه السلام -، ويَنْفونَ النبوةَ عن نَسْلِ إِسماعيل - عليه السلام -، وهذا مَعْناهُ أَنهم يَنْفونَ نُبُوَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.(1/328)
وبَحَثَ الفادي المفترِي في القرآنِ نفسِه عن دليلٍ يَحصرُ فيه النبوةَ ببني
إِسرائيلَ، ويَنفي نبوةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -! وادَّعى أَنَّه وَجَدَ آيتَيْن تُصَرِّحانِ بذلك!.
قالَ: جاء في سورة الجاثية (16) : (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) .
وجاء في سورة العنكبوت (27) : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) .
وخَرَجَ من الآيَتيْن بنتيجةٍ فاجرة! قال: " وهذا تَصريحٌ بأَنَّ النبوةَ محصورةٌ
في بَني إِسرائيلَ دون سواهم، وهي تُوافقُ رَأَيَ التوراة، التي تُحَذِّرُ بَني إِسرائيلَ مِنْ قَبولِ مَنْ يَدَّعي أَنه نبيّ من ذريةِ إِسْماعيل ".
ثم ذَكَرَ الفادي المفترِي نُصوصاً من سِفْرِ التكوينِ تُصَرِّحُ بذلك، منها:
" قالَ إِبراهيمُ لله: ليتَ إِسْماعيلَ يَعيشُ أَمامَك! فقال الله: بل سارةُ امرأَتك تَلِدُ لك ابْناً وتَدْعو اسْمَه إِسحاق، وأُقيم عَهدي معه عَهْداً أَبدِياً لنَسْلِه منْ بَعْده! ".
هذا النَّصُّ يَنفي نُبُوَّةَ إِسْماعيل - عليه السلام -، ويَرفعُ البركةَ عنه، وكأَنَّه ليس ابنَ إبْراهيمَ - عليه السلام -، ويَخُصُّ البركةَ والنبوَّةَ بإِسحاق - عليه السلام - ونَسْلِه وذرِّيَّتِه!! وهذا كَلامٌ باطل، وهو من تأَليفِ الأَحبار، وهو مَردودٌ لأَنَّهُ يَتعارَضُ مع القرآنِ الذي صَرَّحَ بنبوةِ إِسْماعيلَ - عليه السلام -.
ويَنقلُ الفادي المفْتَري من سِفْرِ التكوينِ المفترى قولَ اللهِ لإِسْحاق:
" وأُكَثِّرُ نَسْلَكَ كَنُجومِ السماء، وأُعْطي نَسْلَكَ جميعَ هذه البلادِ، وتَتَبارَكُ في نَسْلِكَ جَميعُ أُمَمِ الأَرض "!.
كما يَنقلُ قولَ اللهِ ليعقوبَ الهاربِ من أخيه عيسو: " ويكونُ نَسْلُكَ كَتُرابِ الأَرض، وتمتَدُّ شَرْقاً وغَرْباً وشمالاً وجَنوباً، ويَتَبارَكُ فيك وفي نَسْلِكَ جَميعُ قبائلِ الأَرض ".
وقد كَذَّبَ القرآنُ كَلامَ الأَحبار، فاللهُ لم يُعْطِ إِبراهيمَ - عليه السلام - وَعْداً مُطْلَقاً مَفْتوحاً، له ولذريَّتِه من نَسْلِ إِسحاقَ فقط، إِنما جعلَ الإمامةَ في الصَّالحينَ من(1/329)
ذريتِه، سواءٌ كانوا من نَسْلِ إِسماعيلَ أَو من نَسْلِ إِسْحاق، وحَرَمَ الظالمينَ
الكافرين من عَهْدِه وفَضْلِه.
قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) .
ثم مَنْ قال: إِنَّ نَسْلَ إِسحاقَ ويَعقوبَ أَكثرُ الأَقْوامِ نَسْلاً، وأَنَهم لا
يُحْصَوْنَ لكثرتِهم، وأنَّهم كتُرابِ الأَرضِ ونُجومِ السماء؟
إِنَّ الواقعَ يُكَذَبُ ذلك، فاليهودُ في هذه الأَيامِ لا يَزيدونَ عن خمسةَ عَشَرَ مَلْيوناً في العالمِ أَجْمع، وكثيرٌ منهم لَيْسوا من أُصولٍ يَهوديةٍ إِسرائيلية، أَيْ ليسوا من نَسْلِ إِسحاقَ ويَعقوبَ - عليهما السلام -، وإنما هم من أُصولٍ غير إِسرائيليةٍ دَخَلَتْ في الديانةِ اليهودية!.
وقد ادَّعى الفادي المفترِي أَنَّ النبوةَ محصورةٌ في نَسْلِ إِبراهيمَ وإسحاقَ
ويَعقوبَ - عليهم السلام - قال: " فالبركَةُ للعالَمِ والعهدُ الإِلهيُّ عن النسلِ الموعودِ به يَنحصرُ في نَسْلِ إِبراهيمَ وإِسحاقَ ويَعقوبَ إِلى المسيح ".
ومعنى قولِه هذا نفيُ نُبوَةِ الأَنبياءِ السابقين من غيرِ بَني إِسرائيل، والكفرُ
بهم، مثلُ هودٍ وصالحٍ وشعيبِ عليهم الصلاة والسلام، والكفرُ بهم كفرٌ بالله، فهذا مظهرٌ من مظاهر كُفْر الفادَي بالله.
وصرَّحَ الفادي المفترِي بعدَ ذلك بنفيِ نُبُوَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
قالَ: " فإذا كانت النبوةُ محصورةً في بَني إِسرائيل، حسبَ شَهادةِ التوراةِ والإِنجيلِ والقرآن، فكيف يكونُ محمدٌ نبياً؟ ".
إِنَّ المفْتَري يَفْتَرِي ويَكْذِبُ على القرآن، ويَدَّعي أَنَّ القرآنَ حَصَرَ النبوةَ
في بَنِي إِسرائيل، وهذا كَذِبٌ على القرآن، فقد ذَكَرَ القرآنُ قَصَصَ أَنبياءٍ من غيرِ بَني إِسرائيل، مثلُ: نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ ومحمد، عليهم الصلاة والسلام.
وقد صرَّحَ المفترِي بكفْرِهِ الصريح في نَفْي نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: "فكيفَ يَكونُ محمدٌ نبياً؟ "
وهو بهذا يُكَذِّبُ الآيات ِ القرآنيةَ الكثيرةَ التي تُصَرِّحُ بنبوةِ(1/330)
محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - " كقولِه تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) .
وهذا مظهرٌ آخَرُ من مظاهر كُفْرِه بالله!.
ويُكَذِّبُ الفادي المجرمُ القرآنَ في تصريحِه بنبوةِ إِسماعيلَ - عليه السلام -.
قال: وكيفَ يقولُ القرآن: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) ،
ثم يَقولُ: إِنَّ محمداً وَحْدَه نبيُّ العرب، وقَبْلَه لم يُرْسَلْ لهم نبيٌّ: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) ،
وقال: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) .
يُريدُ المفْتَري أَنْ يَتَّهِمَ القرآنَ بالتناقُضِ، فهو يَذْكُرُ أَنَّ إِسماعيلَ - عليه السلام - كانَ رسولاً نبِياً، ثم يَذْكُرُ أَنَّ اللهَ لم يَبْعَثْ رسولاً نبيّاً للعَرَبِ قبل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
مع أَنه لا تَناقُضَ بين آياتِ القرآن، فإِسماعيلُ بنُ إِبراهيمَ - عليهما السلام - بَعَثَهُ اللهُ رسولاً إِلى العربِ الذين كانوا في مكةَ، عندما تَمَّ بِناءُ الكعبة، وبذلك ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ ؤرسالتُه!..
ولما نفى اللهُ وُجودَ رسولٍ نذيرٍ للعرب في الحجازِ قبلَ نبوةِ
محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إِنما أَرادَ نَفْيَ وُجودِ نبيٍّ من زَمنٍ قريب، لأَنَّ آخِرَ الأَنبياءِ هو عيسى - عليه السلام -، وهو خاتَمُ أَنبياءِ بني إِسرائيل.
وأَخْبَرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن عدمِ وُجودِ أَنبِياءَ بينَه وبينَ عيسى - عليه السلام -، وهي مدةُ ستةِ قُرونٍ تقريباً، فالآياتُ التي نَفَتْ إِرسالَ نَذيرٍ للعَرَبِ في الحجازِ تحدَّثَتْ عن الفترةِ بينَ عيسى ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - ولَا تَمتَدُّ هذِه الفترةُ لتَنْفي نبوةَ إِسماعيل، الذي كانَ قبلَ محمدٍ
عليهما الصلاة والسلام بأَكثرَ من أَلْفَيْ سنة!.
إِنَّ إِسماعيلَ نبيٌّ رسولٌ عليه الصلاة والسلام، وإِنَّ محمداً رسولُ الله
وخاتَمُ النبيين - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما ذَكَرَهُ القرآن، وهذا ما نُؤمنُ به، ومَنْ أَنكرَ نُبُوَّتَهما - كالفادي المجرمِ - فهو كافرٌ بالله، لأَنه كَذَّبَ ما قالَه اللهُ في القرآن..
وليست النبوةُ محصورةً في بني إِسرائيلَ كما ادَّعى الفادي المفترِي، فهناكَ أَنبياء من غيرِ بني إِسرائيل، مثلُ هودٍ وصالحٍ - صلى الله عليهما وسلم -، لأَنَّ اللهَ بَعَثَ لكلِّ أُمَّةٍ نذيراً، كما قالَ(1/331)
تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) .
مع أَنَّ معظمَ الأَنبياءِ المذكورين في القرآنِ إِنما بُعِثوا لبني إسرائيل، وكانوا من بَني إِسْرائيل!!.
ووقفَ الفادي المفترِي أَمامَ بعضِ الآياتِ التي تُثْني على إِسحاقَ
ويعقوب، واستدلَّ بها على عدمِ نبوةِ إِسماعيل.
قال: " وذَكَرَ القرآنُ مِراراً أَنَّ إِسحاقَ (الابنَ الثاني لإِبراهيم) ويَعقوبَ (حفيدَه) هما هبةُ اللهِ لإِبراهيم، دونَ ذِكْرِ إِسماعيلَ (مع أَنه بِكْرُ إِبْراهيم) فقال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا) ، وقال: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) ".
وما خَرَجَ به الفادي المفترِي من الآياتِ غَيْرُ صَحيح، فبينما اكْتَفَتْ
بعضُ الآياتِ بذكْرِ إِسحاقَ ويعقوب، فقد ذَكَرَتْ آياتٌ أُخرى إِسماعيل، وأَثْنَتْ عليه كما أَثْنَتْ عليهما، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
فالآياتُ التي ذكَرَتْ إِسحاقَ ويَعقوبَ - عليه السلام - في سورةِ مريم، تَلَتْها آياتٌ أَثْنَتْ على إِسماعيلَ - عليه السلام -، حيثُ قالَ اللهُ عنه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) .
وسورةُ الأَنبياءِ التي أَثْنَتْ على إِسحاقَ ويعقوب- عليهما السلام -: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) .
أَثْنَتْ بعدَ ذلك على إِسماعيلَ - عليه السلام -: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) .
وسورةُ الأَنعامِ التي ذَكَرَتْ إِسحاقَ ويَعقوبَ - عليهما السلام -: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا) ، ذَكَرَتْ إِسماعيل - عليه السلام - بعد ذلك: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) .
وسورةُ الصافات التي تحدثَتْ عن إِسحاقَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) .(1/332)
تَحَدَثْتَ عن إِسماعيلَ غَظبز قبلَ ذلك، وذكرتْ قصةَ الذبْحِ والفِداء: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) .
ولما حَضَرَ يعقوبَ - عليه السلام - الموت وأَرادَ أَنْ يطمئِنَّ على تَدَيُّنِ أَولادِه، سأَلَهم عن مَنْ سيَعْبُدونَ من بعده؟
فذكروا أنهم سيعبدونَ إِله آبائِه، ومنهم عَمُّه إِسماعيلُ، قال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) .
وقُدِّمَ إِسماعيلُ على إِسحاقَ ضمنَ ذِكْرِ مجموعةٍ من الأَنبياء، وذلك في
قولِه تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) .
***
هل بلاد العرب للمسيح - عليه السلام -؟
ذَكَرَ الفادي الآيةَ التي تُخْبِرُ أَنَّ نصارى مَخْصوصينَ هم أَقربُ الناسِ
مَوَدة للمؤمنين.
قال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) .
ولا ننسى أَنَّ هذه الآيةَ لا تَتحدثُ عن كُلِّ النَّصارى، وإنما عن نصارى
مخصوصين، هم القِسّيسون والرُّهبانُ الذينَ كانوا مع النَّجاشيِّ مَلِك الحبشة،(1/333)
والذين تَأَثَّروا بالقرآنِ عندما سمِعوه، وفاضَتْ أَعْيُنُهم من الدَّمْع، وأَعْلَنوا
إِيمانَهم بالقرآنِ وبالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا ما صَرَّحَتْ به الآياتُ التي بَعْدَ تلك الآية:
(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) .
ولا تَتَحَدَّثُ الآياتُ عن النَّصارى الأَعداءِ المقاتلين الصليبيّين، الذين
جَهّزوا الجيوشَ وغَزَوا بلادَ المسلمين، وسَفَكوا دِماءَهم! كما أَنها لا تتحدَّثُ
عن النَّصارى الذين حارَبوا القرآن، وشَكَّكوا فيه، وخَطَّؤُوه، وَذمّوه وانتهكوه، من أَمْثالِ هذا الفادي المُعادي!.
وقد جَعَلَ الفادي عنوانَ سُؤالِه الواحِدِ بَعْدَ المئة: " بلادُ العَرَبِ
للمسيح "! وهو عنوانٌ خطيرٌ مُثير، سَجَّلَ فيه الفادي اَمالَه في أَنْ تكونَ بِلادُ
العَرَبِ للنَّصارى، بأَنْ يَتَنَصَّرَ أَهْلُها!.
وقالَ المفترِي في كلامِه: " انتشرت المسيحيةُ في بلادِ العَرَب، ودَخَلَتْ
قبائِلُها فيها، حِمْيَرُ وغَسَّانُ ورَبيعُ ونَجرانُ والحيرة، وكان بعضُ العربِ
حاضِرين عيدَ الخمسين في أُورشليم، فحملوا أَخبارَ المسيحيةِ لبلادِهم ...
فلماذا اضطهدَ المسلمون المسيحيّين، فَقَتَلوا بعضَهم، وأَجبروا بعضَهم على
الإِسلام، ونَفَوا الباقين؟ ".
وكلامُ الفادي غيرُ صَحيح، فلم تَنْتَشر النصرانيةُ في بلادِ العَرَب، ومعظمُ
القبائلِ العربيةِ لم تَتَنَصرْ، وبَقِيَتْ على وثنيتِها، والذين تَنَصروا بعضُ القبائلِ
العربية على أَطْرافِ بلادِ العَرَب، مثلُ نجران في منطقةِ تهامة والغساسنةِ في
شمالِ الجزيرة على حدودِ الشام والرومان، والمناذرةِ على حُدودِ فارس.
ولما جاءَ الإِسلامُ، وجاهَدَ المسلمونَ الكافِرين، وفَتَحوا بلادَ الشامِ(1/334)
والعراق، طَرَدوا الرومانَ من مِصْرَ والشام، وجَعَلوها بلاداً إِسْلامية، وأَخْضعوا سُكّانَها لسلطان المسلمين، ولم يَضطهدوا النَّصارى فيها، ولم يُجْبِروهم على الدخولِ في الإسلام، لأَنه لا إِكْراهَ في الدين.
ومَكَّنوا النَّصارى من حريةِ الاختيارِ بدونِ إِكْراه، فدخَلَ معظمُهم في الإِسلام، والذين بَقوا على النصرانيةِ لم يَتَدَخَّلْ بهم المسلمون!.
ثم ما دَخْلُ هذا الكلامِ عن النَّصارى في بلادِ العرب بأَخطاءِ القرآن؟
والفادي خَصَّصَ كِتابَه لاكتشافِ وتَسجيلِ أَخطاءِ القرآن!!.
***
هل أكلت الشاة القرآن؟
ذَكَرَ الفادي المفترِي آيةَ سورةِ الحِجْرِ التي تَكَفَّلَ اللهُ فيها بحفْظِ القرآن،
وهي قولُه تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) .
وذَكَرَ خرافةً تَتَنَاقَضُ مع الآية، تَقومُ على أَكْلِ شاةٍ للوَرَقِ المكتوبِ عليه
القرآن!
قال: " روى ابنُ ماجه: قالَتْ عائشة: إِنَّ آيةَ الرَّجْمِ والرَّضاعةِ
نَزَلَتا ... وكانَ القرطاسُ المكتوبتانِ فيه تَحْتَ فِراشي.
وماتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ، وفيما أَنَا مشغولةٌ بموتِه دَخَلَتْ بَهيمةٌ وأَكَلَت القرطاس "!.
وهذه خُرافةٌ مكذوبةٌ موضوعةٌ باطلة، لم تَرِدْ في حديثٍ صَحيح، وَرَدَّها
علماءُ الحديث.
ولا يَعْتَمِدُها إِلّا صاحبُ هوى مثلُ الفادي المفتري!!
وَهَب الحادثةَ حَصَلَتْ، وأَنَّ الشاةَ أَكَلَت الورقَ المكتوبَ عليه بعضُ آياتِ القرآن، الموجودِ في بيتِ عائشة، فهل معنى هذا أَنه ضاعَ بعضُ آياتِ وسورِ القرآن؟
التي أَكَلَتْها الشاة لم تَكُنْ هي النسخةَ الوحيدةَ المدوَّنَةَ من القرآن، بل كانَتْ
هناك عشراتُ النُّسَخِ في بيوتِ الصحابة، يمكنُ أَخْذُ الآياتِ المأكولةِ من أَيِّ
نسخةٍ منها! إِلّا إِذا هاجَمَت الغنمُ البيوتَ كُلَّها في وقتٍ واحد، وبَلَعَت النُّسَخَ كُلَّها في لحظةٍ واحدة!!.(1/335)
وكم كانَ الفادي بَذيئاً فاقِدَ الذوقِ والأَدَبِ والحياءِ في تَعليقِه السَّمِجِ
على تلكَ الأُكذوبة، حيثُ قال: " فإِذا كان القرآنُ أَقوالَ الله، فلماذا لم
يَحْفَظْهُ اللهُ من الضَّياعِ في جوفِ بَهيمة؟ ".
***
حول إحراق عثمان المصاحف
أَثارَ الفادي الشبهاتِ حولَ إِحراقِ عثمانَ - رضي الله عنه - المصاحفَ المخالفةَ لمصحَفِه، واعتبرَ هذا طَعْناً في صحةِ القرآنِ وحِفْظِه، ودَليلاً على أَنَّ القرآنَ ليسَ من عندِ الله.
ويَتناقضُ مع قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) .
فالآيةُ تُقررُ أَن سنةَ اللهِ لا تَتَبَدَّل، وعثمانُ بَدَّلَ القرآن، وهذا معناهُ
أَنَّ القرآنَ ليس كلامَ الله، فلو كان كلامَ اللهِ لمنَعَ اللهُ عُثمانَ من تبديلِهِ إ!.
قال الفادي المفترِي في تَعْليقِه على الآيةِ السابقة: " أحرقَ عثمانُ بنُ
عَفّان - ثالثُ الخلفاءِ الراشدين - جميعَ نُسَخِ القرآنِ التي تَختلفُ عن نسخَتِه، وأَبقى على نسختِه التي كَتَبَها هو.
ونحنُ نسأل: أَليستْ جَميعُ الأَقوالِ التي تَختلفُ عن نسخةِ عُثْمان قُرآناً؟
فلماذا أَحْرَقَها؟
ولماذا لم تُحْفَظْ من الضَّياعِ بالنار إِنْ كانَتْ أَقوالَ الله؟
ولماذا بَدَّلَ قرآناً بقُرآن، وأَحرقَ الواحدَ وأَبقى على الآخر؟ ".
يَكذبُ الفادي عندما يَدَّعي أَنَّ عُثمانَ كَتَبَ نسخَتَه من القرآن، وأَنه حَرَقَ
كُلَّ النسخ المخالفةِ لها، ومَنْ يقرأُ هذا الكلامَ يَظُنُّ أَنَّ عُثمان أَلَّفَ القرآنَ من
عنده، وأَنه حَرَّفَه وغَيَّرَه وبَدَّلَه، واستَغَلَّ منصبَه باعتباره خليفَةً، لإِقرارِ واعتمادِ نسختِه المبَدَّلَة المحَرَّفَة، وإِتلافِ جميعِ النسخِ الأُخْرى المخالفةِ لها.
ولا يَتَّسِعُ المجالُ للحديثِ المفَصَّلِ عن جَمْعِ القرآنِ وحِفْظِه والمراحلِ
التي مَرَّ بها، إِنما نُشيرُ إِشارةً سريعةً إِلى ذلك.(1/336)
لقد جُمِعَ القرآنُ أَيامَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بطريقَتَيْن: جَمْعُهُ في الصُّدور، بإِتْقانِ حِفْظِه من قِبَلِ الآلافِ الحُفّاظِ من الصحابة.
وجَمْعُهُ في السُّطور، بكتابتِه على أدواتِ الكتابةِ الميَسَّرةِ في عصرِهم، وهذا تَمَّ على أَيْدي العشراتِ من الصحابة..
حيث كان الصحابيُّ يَكتبُ على أَوراقِهِ بعضَ سورِ القرآن التى يَخْشى نِسيانَها، فمنهم مَنْ كَتَبَ كُلَّ القرآن، ومنهم مَنْ كَتَبَ نِصْفَه أَو ثلثَه أَو
ربعَه أَو بعضَ سورِه.
وفي خلافةِ أَبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه - بدأَتْ حركَةُ الجهاد، واستُشْهِدَ كثيرٌ من حُفّاظِ القرآن في المعارك، فدعَت الحاجةُ إلى جَمْع القرآن، وأَلْهَمَ اللهُ عمرَ - رضي الله عنه - أَنْ يُشيرَ على أبي بكرٍ - رضي الله عنه - بذلك، وكَلَّفَ أبو بكرٍ زيدَ بنَ ثابتٍ - رضي الله عنه - بذلك.
فكتبَ زيدٌ النسخةَ الأُولى من المصحف، وسَجَّلَ فيها القرآنَ
مُرَتَّبَ السورِ والآياتِ كما أَمَرَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، في العَرْضةِ الأَخيرةِ التي حَضَرَها زيدُ بنُ ثابت - رضي الله عنه -.
وكان زيدِّ لا يكتبُ أيةَ آيةٍ في المصحف إِلا بعدَ أَنْ يأتِيَه صحابيٌّ يَحفظُها حِفْظاً مُتْقَناً، ويأتيهِ بها مكتوبةً عنده، ومعه شاهِدٌ آخرُ
من الصحابة، وكان زيدٌ نفسُه حافظاً مُتْقِناً.
وبهذا كان يشهدُ على كلِّ آيةٍ أربعةٌ من الصحابةِ الحافظين، وكانت الآية مدَوَّنَةً مكتوبة.
ووُضعت النسخةُ المعتَمَدَةُ من المصحفِ والتي أَجمعَ عليها جميعُ
الصحابةِ عندَ أَبي بكر، ثم عندَ عُمر، ثم عندَ حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما -.
والذي دَعا إِلى اْلجمعِ الثالثِ للقرآنِ في خلافةِ عثمانَ هو بَقاءُ النُّسَخِ
الخاصَّةِ مِن مصاحفِ بعضِ الصحابة في بيوتِهم، ولم تَكنْ على طريقةٍ واحدةٍ
كما ذكرنا، فأَدّى هذا إِلى اختلافٍ في بعْضِ تلك النُّسَخ، في ترتيبِ بعضِ
السور والآيات، للأَسبابِ التي أَشَرْنا لها، وكانَ كُلُّ واحدٍ يُقْرِئُ الآخرين من نسختِه التي قد تخالفُ بعضَ النسخ، فأَلهم اللهُ حذيفةَ بنَ اليَمانِ - رضي الله عنه - أَنْ يُشيرَ على الخليفةِ عثمان بجمعٍ جديدٍ للقرآن، لاعتمادِ النسخةِ الجديدةِ وإِلغاءِ ما سِواها من النسخ المخالفة!.(1/337)
فشكَّلَ عثمانُ لجنةً من الصحابةِ برئاسةِ زيدِ بنِ ثابتٍ لإِعادة جَمْع
القرآن، على أَساسِ النسخةِ التي كَتَبَها زيدٌ زمنَ الصديق، وأجمعت اللجنة
على النسخةِ الجديدة، ثم نَسَخَ منها عدةَ نُسَخ، أُرسلَتْ إلى العواصمِ
الإِسلامية في مكةَ واليمن والبصرة والكوفة والشام، وأَجمعَ الصحابةُ على
اعتمادِ تلكَ النّسْخَة، بعدَ تَرَدُّدٍ من بعضِهم كعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، الذي عادَ ووافقَ الصحابةَ على إِجماعهم.
وسُمِّيَ ذلك المصحفُ " المصحفَ العثمانيَّ "، نسبةً إلى الخليفةِ عثمانَ الذي جُمِعَ في عهده، وبما أَنه نالَ إِجماع جميعِ الصحابة وإِقْرارَهم، لذلك سُمّيَ " المصحفَ الإِمامَ "!.
عند ذلك أَمَرَ عُثمانُ - رضي الله عنه - أَيَّ صَحابيٍّ عَنْدَه مصحفٌ كاملٌ أَو جزءٌ منه، أَو بعضُ سورٍ منه أَنْ يَحرقَ ما عندَه، لأَنه قد يختلفُ في ترتيبِ بعضِ آياتِه وسورِه عن ما جاءَ في " العَرْضَةِ الأَخيرة "، التي عَرَضَ فيها جبريلُ القرآنَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبذلك أُحْرِقَتْ تلكَ النُّسَخُ غيرُ الكاملةِ للقرآن، واعْتُمِدَ
المصحفُ العثماني الإِمامُ، وكان هذا من مظاهرِ حفظِ اللهِ للقرآن!.
ولقد مَدَحَ عليّ بنُ أَبي طالب عندما كان أَميراً للمؤمنين جَمْعَ عثمانَ
للمصحف، وإِحْراقَه المصاحفَ المخالفة بقولِه: لا تَقولوا في عثمانَ إلّا
خَيْراً، فواللهِ ما فَعَلَ ما فَعَلَ إِلّا عن موافقةٍ مِنّا، ولو كنتُ مكانَ عُثْمانَ لفعلْتُ ما فَعَلَ عُثْمان!!.
***
كيف يضل الله الإنسان ثم يعذبه؟
ذَكَرَ الفادي سِتَّ آياتٍ تُخبرُ أَنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدي مَنْ يشاء، منها
قولُه تعالى: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ،
وقولُه تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) .(1/338)
واعترضَ على ما تُقَرِّرُهُ هذه الآيات، واعتبرَه لا يَتفقُ مع رحمةِ اللهِ
وعَدْلِه؟
قال: " ونحنُ نَسأل: أَيُّ إِلهٍ هذا، الذي يُضلُّ الناسَ الذينَ خَلَقَهم،
ليَملأَ بِهم جهنَّم، بعدَ أَنْ قضى بهذا منذُ الأَزَل قضاءً مُبرماً لا مَفَرَّ منه
بالضَّلالةِ والعذاب؟
فأينَ كَرامةُ الإِنسان؟
وأَينَ حريةُ إِرادتِه؟
وما معنى الأَوامِرِ والنَّواهي والشرائعِ، والترغيبِ بالثوابِ والتحذيرِ بالعقاب؟ ".
يُريدُ الفادي أَنْ يَقول: كيفَ يُضلُّ اللهُ النّاسَ الذينَ خَلَقَهم؟
وكيفَ كَتَبَ عليهم الضلالَ منذُ الأَزَل؟
وكيف خَلَقَهم إِلى النار؟
وإِذا كانوا مَخْلوقينَ إِلى النارِ فأَين إِرادَتُهم واختيارُهم؟
وما فائدةُ التكاليفِ والشرائعِ والأَوامر؟.
يتكلمُ الفادي عن قضيةٍ معروفةٍ في الفكر الإِسلاميِّ بقضيةِ " الجَبْرِ
والاختيار " وهل الإِنسانُ مُسَيَّر أَو مُخَيَّر؟
وكَثُرَ حولَهَا الكلامُ عند رجالِ الفرقِ الإِسلامية.
وقد كانَ كَلامُ القرآنِ واضِحاً حولَ هذه القضية.
ونُلَخِّصُ الكلامَ عنها بالإِشاراتِ السريعةِ التالية:
اللهُ الخالقُ لكُلِّ شيءٍ في هذا الوُجود، وكُلُّ شيء يكونُ بإِذْنِ الله
ومشيئتِه وإِرادتِه، وحاشَ لله أَنْ يَقعَ شيء في الكونِ رَغْماً عنه، فالخيرُ والشرّ، ْوالكفرُ والإِيمان، والطاعةُ والمعصية، كلُّ ذلك بإِرادتِه سبحانه، لكنَّه لا يَرضى الكفْرَ والمعصيةَ والشَّرّ، ولا يَقْبَلُ ذلك من أَصحابِه، ولذلك يُعاقِبُهم عليه، أَمّا الإِيمانُ والطاعةُ فإنه يَرضاهما، ويقبَلُهما من أصحابهما، ويثيبهُم عليهما!.
وكَرَّمَ اللهُ الإِنسانَ الذي خَلَقَه، ومَنَحَه القدرةَ على اختيارِ ما يُريد، ولم
يُجْبِرْه على أَيِّ شيء، إِيماناً أَو كفراً، طاعةً أَو معصية، فالإِنسانُ يخْتارُ طريقَه بحريتِه وإِرادتِه، يُمكنُ أَنْ يَختارَ الإِيمانَ والطاعةَ بحريتِه وإرادتِه، ويمكنُ أَنْ يَختارَ الكفرَ والضلالَ بإِرادتِه وحريتِه، واللهُ لا يُجْبِرُه على هذا، ولا على هذا!!.(1/339)
لكنَّ الإِنسانَ لا يَختارُ إِحدى الطريقَيْن إِلّا بمشيئةِ اللهِ وإذنِه وإِرادتِه؟
لأَنه لا يَحدثُ شيءٌ في الكونِ إِلّا بإِذْنِه ومشيئَتِه كما قَرَّرْنا، فالمؤمنُ يؤمنُ
بمشيئةِ الله، والكافرُ يكفُرُ بمشيئةِ اللهِ أَيضاً!.
ومشيئةُ اللهِ مشيئَةُ علْمٍ أَوَّلاً، أَيْ أَنَّ اللهَ يَعلمُ أَنَّ فُلاناً سيؤمن، وأَنَّ فلاناً
سيكْفُر، وعِلْمُه بذلك منْذُ الأَزَل، قبلَ خَلْقِه سبحانه السمواتِ والأَرض،
فيكونُ إِيمانُ المؤمنِ وكُفْرُ الكافرِ تَحْقيقاً لما عَلِمَه اللهُ وشاءَه وقَدَّرَه وأَرادَه!.
ومن المعلومِ أَنَّ اللهَ لا يُحاسِبُ الإِنسانَ إِلّا على ما كَسَبَه وعَمِلَه وفَعَلَه،
فهو سبحانه لا يُحاسِبُه على ما عَلِمَه منه، ولكنْ يُحاسبُه بعد فِعْلِه المتفقِ مع ما عَلِمَه منه، وهو مُخَيَّرٌ في ما سيفْعَلُه ويَختارُه!.
من الآيات ِ الصريحةِ التي تُقَرِّرُ هذه الحقيقةَ قولُه تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) .
ومنها قولُه لعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) .
ومنها قولُه تعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) .
وإذا كانَ الإِنسانُ يؤمنُ بإِذْنِ الله، ويكفُرُ بإِذْنِ الله، بالمفهومِ الذي
وَضَّحْناه، كان الإِيمانُ والهُدى بيدِ الله، وكانَ الكفْرُ والضَّلالُ بيدِ الله،
فاللهُ هو الذي يَهْدي مَنْ يَشاءُ هدايتَه، واللهُ هو الذي يُضلُّ مَنْ يشاء
إِضْلاله، بالمفهوم الذي أوضحناه ...
بهذا نفهمُ معنى إسنادِ الهُدى والضَّلالِ إِلى الله، كما في قولِه تَعالى: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ، وكما في قولِه تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) .(1/340)
بقيتْ في هذه القضيةِ مسأَلة؟
وهي: مَنْ هو الذي يَشاءُ اللهُ هدايتَه؟
ومَنْ هو الذي يَشاءُ اللهُ إِضْلالَه؟.
يَشاءُ اللهُ هدايةَ الشخص الذي يَختارُ الإِيمانَ والهدى ويُريدُه، ويتوَجَّهُ
إِليه، ويَرغبُ فيه، فهذا يُعينُه اللهُ ويُثَبِّتُه عليه، ويُحِبُّه ويَرضى عنه، ويُثيبُه على ما فعلَ جَنّاتِ النعيم.
ويَشاءُ اللهُ إِضْلَال الشخصِ، الذي يَختارُ الكفرَ والضَّلال، ويَرفضُ
الإِيمانَ والهدى، ويَسيرُ في طريقِ الانحرافِ والفساد، ويُحصي اللهُ عليه
جرائمَه، ويُحاسبُه على أَفعالِه، ويُعَذَبُه في نارِ جهنَّم.
ومن الآياتِ الصريحةِ في تقريرِ هذه الحقيقةِ قولُه تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) .
***
بين قدر الله وإرادة الإنسان
ذَكَرَ الفادي أَربعَ آياتٍ تُقَرِّرُ أَنَّ كلَّ شيء يَقعُ في هذا الوجودِ - إِنَّما يكونُ
بقَدَرِ اللهِ ومشيئَتِه وإِرادَتِه، سواء كانَ الشيءُ خَيْراً أَو شَرّاً.
منها قولُه تَعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) .
وقولُه تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .
وخَطَّأَ المفترِي هذه الآياتِ ورَفَضَ ما تُقَرِّرُه، واعترضَ عليها قائلاً: " من
هذهِ الآياتِ وغيرها كثيرٌ يَرى الإِسلامُ أَنَّ كُلَّ ما يَقَعُ في الوجودِ من خيرٍ وشَرٍّ
هو من عندِ الله! فيكونُ اللهُ عِلَّةَ الشُّرورِ ابتداءً، وتكونُ رسالةُ الأَنبياءِ وتكليفهُم(1/341)
بالكرازةِ والدعوةِ عَبَثٌ لا ضرورةَ له ولا فائدَة فيه!..
وهذا بعكْسِ تعاليمِ الكتابِ المقَدَّس ".
وبعدما أَوردَ بعضَ كلامِ المسيحِ في الأَناجيل عن حريةِ الإِنسانِ وإِرادتِه
قال: " وقال الفلاسفةُ في البيانِ النظريِّ عن الحيوان: إِنَّه الجسمُ الحَسّاسُ
المتحركُ بالإِرادَة..
فإِذا كان حَدُّ الحيوانِ البهيميِّ أَنه متصَرَفٌ بالإِرادة، فكيفَ نتصوَّرُ أَنَّ الإِنسانَ - أَشْرَفَ مخلوقاتِ اللهِ في عالَمِ الحِسّ - عاجِزٌ، مَجْبُورٌ
على العصيانِ أَو الطاعة؟
وإذا كان هناك إجبارٌ فما فائدةُ العَقْل؟ ".
يَتَحَدَّثُ الفادي المفترِي عن قضيةِ الإِيمانِ بالقَدَر، ولذلك جَعَلَ عنوانَها:
" اللهُ قَدَّرَ الشُّرور "!
وهذه القضيةُ مرتبطةٌ بالقضيةِ السابقة، التي أَثارَها في السؤالِ السابق، قضيةِ " الجَبْرِ والاختيار ".
ونَدْعو إِلى استصحابِ ما قُلْناهُ في المسألةِ السابقةِ ونحنُ نناقشُ الفادي
في كلامِهِ عن الإِيمانِ بقَدَرِ الله.
نقررُ بدايةً أَنَّ الإِيمانَ بالقَدَرِ جُزْءٌ سادسٌ من أَركانِ الإِيمانِ، وإذا لم
يؤمن الإنسان بالقدرِ كان كافراً، حَتّى لو آمَنَ بأَركانِ الإِيمانِ الخَمسةِ
الأُخرى: الإِيمانُ بالله، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخِر.
ويَقومُ الإِيمانُ بالقَدَرِ على حقيقةِ أَنَّ كُل شيء يَقَعُ في هذا الوجودِ يكونُ
بقَدَرِ اللهِ، وحاش لله أَنْ يقعَ شيءٌ في الوجودِ رَغْماً عنه، فاللهُ هو الذي قَدَّرَ كُلَّ شيءٍ وأَرادَه وشاءَه.
والآياتُ التي تُقَرِّرُ هذه الحقيقةَ كثيرة.
منها قولُه تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .
وقولُه تعالى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) .(1/342)
وهذا معناهُ أَنَّ اللهَ قَدَّرَ كُلَّ شيءٍ في الوجودِ وأَرادَه، وجاءَ هذا الشيءُ
كما قَدَّرَهُ اللهُ وأَرادَه، سواءٌ كانَ هذا الشيءُ خَيراً أَو شَرّاً، هُدى أَو ضَلالاً، طاعةً أَو معصية..
وهذا معناهُ أَنَّ الشُّرورَ والمصائبَ تكونُ بقَدرِ اللهِ سبحانه؟
لأَنها إِنْ لم تَكُنْ بقَدَرِ اللهِ وإِرادتِه يكونُ أَصحابُها قد فَعلوها رَغْماً عن الله،
ويَكونونَ بذلك قد قَهَروهُ وغَلَبوهُ، وأَعْجَزوهُ وهَزموه!!.
وليس معنى كونِ الشُّرورِ واقعةً بقَدَرِ اللهِ وإِرادتِه أَنَّ اللهَ راضٍ عنها مُحِبّ
لأَصحابِها، أَو أَنَّ اللهَ مُحِبٌّ لهذه الشرورِ راغبٌ فيها وآمِرٌ بها، فإِنَّ اللهَ لا
يَرضى عن الشرور، ولا يُحِبُّ أَصحابَها، ولا يَأَمُرُ بها سبحانَه.
ولذلك رَدَّ الله على الذين بَرَّروا فواحِشَهم بأَنَّ اللهَ يُحِبُّها ويأمُرُهم بها بقولِه (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) .
ولقد فَرَّقَ القرآنُ بينَ تقديرِه للكفرِ وعَدَمِ رضاهُ به، وبينَ تقديرِه للإِيمانِ
والشكرِ ورِضاهُ به.
قالَ تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) .
وهذا مَعناهُ أَنَّ القرآنَ يُفَرِّقُ بينَ القَدَرِ والرِّضا والإِرادةِ والمحَبَّة، فليس
كلُّ ما يُقَدِّره يَرضى عنه ويَأْمُرُ به، وليس كُلُّ ما يُريدُهُ اللهُ يُحِبُّه، فالشُّرورُ
يُقَدِّرُها اللهُ ويُريدُها، لكنَّه لا يَرضى عنها ولا يُحِبُّها، ولذلكَ يُعاقبُ أَصحابَها، أَمّا الطاعاتُ فإِنَّ اللهَ يُقَدِّرُها ويَرضى عنها، ويُريدُها ويحبُّها، ولذلك يُثيبُ أَصحابَها!!.
ومِن كُرْهِ اللهِ للشّرورِ أَنه نهى عنها، ومن محبتِه للطاعاتِ أَنه أَمَرَ بها،
وأَرسلَ رسلَهُ بالدعوةِ إِلى الخيرِ، والأَمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر.
ومن جانبِ آخَر، فإِنَّ اللهَ مَنَحَ الإِنسانَ حريةَ الاختيار، والقدرةَ على
الاختيار، وتمكينَه من الاختيار، ولم يُجْبِرْه على شيء، ولم يُكْرِهْهُ على اختيارِ شيء.(1/343)
عند الإِنسانِ الكافرِ قدرةٌ على اختيارِ الكفر، وعندَ الإِنسانِ المؤمنِ قدرةٌ
على اختيارِ الإِيمان، لم يَمنع اللهُ الكافرَ عن كُفْرِه بالقَسْرِ والإِكراه، ولم يُجبر اللهُ المؤمنَ على الإِيمانِ إِجباراً، فالكافرُ كَفَرَ باختيارِه، والمؤمنُ اَمَنَ باختيارِه.
لكنَّ اللهَ شاءَ كُفْرَ الكافرِ وأَرادَه، بمعنى أَنه عَلِمَهُ منذُ الأَزَل، وقَدَّرَهُ
بقدرته، وأَرادَه بإِرادتِه الكونيةِ العامة، وكان الكافرُ بكفرِه مُتَوافقاً مع علمِ اللهِ وقدرتِه وإِرادتِه، ويُحاسبُه اللهُ عليه، لأَنَّه نَهاهُ عنه وكَرِهَهُ ولم يَرْضهُ منه.
أَمّا إِيمانُ المؤمنِ فإِنَّ اللهَ شاءَهُ وأَرادَه، بمعنى أَنَّه عَلِمَه منذُ الأَزَل،
وقَدَّرَهُ بقدرَتِه، وأَرادَه بإِرادتِه الكونية والشرعية، والمؤمنُ بإِيمانِه متوافقٌ مع
عِلْمِ اللهِ وقدرتِه وإِرادتِه، واللهُ يُحِبُّ ذلك ويَرْضاهُ، ويتقبَّلُهُ منه، ويُثيبُه عليه.
بهذا البيانِ الواضحِ يتمُّ التوفيقُ والتنسيقُ بين قَدَرِ اللهِ وقُدْرَةِ الإِنسان،
وبينَ إِرادَةِ اللهِ واختيارِ الإِنسان، وكُرْهِ اللهِ للشرورِ التي يَختارُها الإِنسانُ
الشّرّير، ومحبةِ اللهِ للطاعاتِ التي يَخْتارُها الإِنسانُ المطيع!! وعلى هذه
الحقيقةِ آياتٌ عديدة، منها قولُه لعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) .
وقولُه تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) .
وقولُه تعالى: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) .
وبعدَ هذا نعرفُ جهلَ الفادِي الجاهلِ في اعتراضِه على قدرِ اللهِ قائلاً:
" كيف نَتَصَوَّرُ الإِنسانَ أَشَرفَ مخلوقاتِ الله في عالمِ الحِسّ، أَنه عاجزٌ مَجْبورٌ على العصيانِ أَو الطاعَة؟!
وإِذا كانَ هناكَ إِجبارٌ فما فائدةُ العَقْل؟! ".(1/344)
الفصل الخامس نقض المطاعن اللغوية(1/345)
ذكر المرفوع بعد المنصوب
قالَ اللهُ وَبَئّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) .
خَطَّاَ الفادي الجاهلُ الآية، لأَنَّ كلمةَ (وَالصَّابِئُونَ) فيها مرفوعةٌ بالواو،
مع أَنها معطوفة على اسم " إِنَّ " المنصوب، ولذلكَ جَعَلَ عنوانَ تخطئتِه: " رَفْعُ المعطوفِ على المنصوب "، وهذا خَطَأ نحويّ؟
لأَنَّ المعطوفَ على المنصوبِ منصوب، وقالَ الجاهلُ في تخطئتِه: " وكانَ يجبُ أَنْ يُنْصَبَ المعطوفُ على اسم " إِنّ " فيقول: " والصابئين " كما فعلَ هذا في سورةِ البقرةِ وسورةِ الحج ... ".
لقد ذَكَرَ القرآنُ أَصحابَ الدياناتِ المعروفةِ في ثلاثٍ من سُوَرِه:
1 - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
2 - وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
3 - وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ... ) .
ولا إِشكالَ على آيةِ سورةِ البقرة؟
لأَنَّ (الَّذِينَ آمَنُوا) في محلِّ نَصْب اسمِ " إنَّ " و (الَّذِينَ هَادُوا) معطوفةٌ عليها في محلِّ نَصْب، و (النَّصَارَى) معطوفةٌ(1/347)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
2 - وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
عليها منصوبة، و (الصَّابِئِينَ) : معطوفَةٌ عليها منصوبةٌ بالياء.
وخَبَرُ " إِنَّ " اسْمُ الموصولِ (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) .
والتقدير: إِنَّ المؤمنين واليهودَ والنَّصارى والصابئين المقبولُ منهم هو المؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِر.
ولا إِشكالَ على آيةِ سورةِ الحج؟
لأَنَّ: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) معطوفَة على اسمِ " إِنَّ "، وهو (الَّذِينَ آمَنُوا) ، وخَبَرُ " إِنَّ " جملةُ (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) والتقدير: إِنَّ المؤمنينَ واليهودَ والصابئين
والنَّصارى والمجوسَ والمشركين مَفْصولٌ بينهم يومَ القيامة.
والمشكلةُ في آيةِ سورةِ المائدة، لأَنَّ ظاهِرَها عَطْفُ المرفوعِ (وَالصَّابِئُونَ)
على المنصوبِ (الَّذِينَ آمَنُوا) الذي هو اسْمُ " إِنَّ "، وهذا لَا يَجوزُ في اللغةِ
والنحو، ولذلك اعْتَبَرَهُ الفادي خطأً نحوياً!.
والراجحُ أَنَّ آيةَ سورةِ المائدةِ مُكَوَّنَةٌ مَن جملتَيْن:
الجملةُ الأُولى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
وهي تتحدَّثُ عن المؤمنينَ المسلمينَ من أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتُقَرِّرُ فَلاحَهم عندَ الله.
والراجحُ أَنَّ خبرَ " إِنَّ " محذوف، والتقديرُ: إِنَّ المؤمنين مفلحون.
الجملةُ الثانية: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
والراجحُ أَنَّ الواوَ في (وَالَّذِينَ هَادُوا) حرفُ استئنافٍ وليستْ حَرْفَ
عَطْف، والجملةُ بَعْدَها استئنافيةٌ وليستْ معطوفةً على ما قبلَها، والراجحُ أَنَّ
(وَالَّذِينَ هَادُوا) في محلّ رفْع مبتدأ.
والواوُ في (وَالصَّابِئُونَ) حرفُ عطف،
(وَالصَّابِئُونَ) مرفوعةٌ لأَنَّها معطوفةٌ على المبتدأ (الَّذِينَ آمَنُوا) ،
(وَالنَّصَارَى) مرفوعة لأَنها معطوفة على المبتدأ.
والراجحُ أَنَّ خَبَرَ المبتدأ هو اسْمُ الموصول (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
والتقدير: واليهودُ والصابئون والنَّصارى المؤمنون بالله واليومِ الآخِرِ منهم هم المفلحون!!.
وعلى هذا التوجيهِ يكونُ مَعْنى الآية: المؤمنونَ من أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم.(1/348)
مُفْلِحون فائزون.
واليهودُ والصابئون والنصارى لا يُقْبَلُ منهم إِلَّا مَنْ آمَنَ باللهِ
واليومِ الآخر.
وبهذا نعرفُ أَنه لا خَطَأَ نحوياً في الآية، وأَنها ليستْ من عَطْفِ المرفوعِ
على المنصوب كما فهمَ الفادي الجاهل، وإِنما هي من استئنافِ جملة بعدَ جملة!.
***
الفاعل لا يكون منصوباً
قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) .
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ (الظَّالِمِينَ) في جملةِ (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)
فاعلُ الفِعْل (يَنَالُ) ، وبما أَنه فاعلٌ فلا بُدَّ أَنْ يَكونَ مَرْفوعاً، ولا بُدَّ أَنْ تَكونَ
الجملةُ هكذا: لا يَنالُ عهدي الظالمون!
وقد أَخْطَأَ القرآنُ في نَصْبِ (الظَّالِمِينَ) لأَنَّ الفاعلَ لا يكونُ منصوباً!.
وهذا الكلامُ دَلَّ على جَهْلِ الفادي باللغةِ العربيةِ وقواعدِها.
إِنَّ (عَهْدِي) هو الفاعل، و (الظَّالِمِينَ) مفعولٌ به منصوب.
ومَعْنى (يَنَالُ) هنا: يَصِلُ ويُصيبُ.
أَيْ: لا يَصِلُ عهدي الظالمين من ذريتِك.
وليسَ مَعْنى (يَنَالُ) هنا: يَأخذ، إِذْ لو كانَ كذلك لكانَ فاعِلُه " الظالمون "، ولكان المعنى: لا يَأْخُذُ عَهْدي الظالمون.
فجملةُ (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) تُريدُ أَنْ تُقَرِّرَ أَنَّ عَهْدَ اللهِ لا يَصِلُ الظالمين.
***
المبتدأ مؤنث والخبر مذكر
قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
خَطَّأَ الفادي الجاهلُ الآيةَ لأَنَّ خَبَرَ " إنَّ " مُذَكَّرٌ (قَرِيبٌ) ، مع أَنَّ اسْمَها مُؤَنَّث(1/349)
(رَحْمَتَ اللَّهِ) ، والأَصْلُ أَنْ يَتْبَعَ الخَبرُ المبتدأَ في التذكيرِ والتأنيث، فالأَصْلُ
أَنْ تكونَ الآيةُ هكذا: إِنَّ رحمةَ الله قريبةٌ من المحسنين.
ولتَوجيهِ تَذْكيرِ خَبَرِ " إِنَّ " في الآية نَقول: يَجبُ أَنْ يَتبعَ الخَبَرُ المبتدأَ في
التذكيرِ والتأْنيث، إِذا كانَ المبتدأُ مُؤَنَّثاً تَأْنيثاً حَقيقياً، ولم يَفْصِلْ فاصلٌ بينَ
المبتدأ والخَبَر.
تَقُولُ: عائشةُ قريبة منا.
فإِذا كانَ تأنيثُ المبتدأ غيرَ حقيقيّ جازَ في خَبَرِه التَّذكيرُ والتَّأْنيث.
وتَأنيثُ (رَحْمَتَ) غيرُ حقيقيّ؟
لأَنها ليستْ أُنثى حقيقية.
وقد فَصَلَ لَفْظُ الجلالةِ (اللهَ) بين اسْمِ " إِنَّ " وخَبَرِها: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
وهذه الآيةُ كقولِه تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) ، فتأنيثُ الساعةِ غيرُ حقيقي، وفَصَلَ فعلُ (تكونُ) بين الكلمتَيْن، فجاءَتْ
كلمةُ (قَرِيب) مُذَكَّراً وليستْ مؤنثة!.
وهناكَ حكمة أُخْرى لتذكيرِ خَبَرِ " إِنَّ " في الآية، وهي أَنَّ كلمةَ (قَرِيب)
مجاورةٌ لكلمةِ " الله "، فمن غيرِ المناسب أَنْ تُؤَنَّث (قَرِيب) ، لهذه المجاورة
اللفظية، من بابِ تنزيهِ اللهِ عن شُبهةِ التأَنيثِ اللفظي!!.
***
تأنيث العدد وتذكير المعدود
قالَ اللهُ عن أَسباطِ بني إِسرائيل: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) .
العددُ في الآيةِ مُؤَنَّث (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) .
والمعدودُ مذكَّر (أَسْبَاطًا) لأَنَه جمعُ " سِبْط " وهو مذكَّر.
وقد خَطَّأَ الفادي الجاهلُ الآية، وقال: " كانَ يَجبُ أَنْ يُذَكِّرَ العَدَدَ ويَأتي
بالمعدود مُفْرَداً، فيقول: وقَطَّعْناهم اثْنَتي عَشَرَ سِبْطاً ".(1/350)
والراجحُ أَنَّ (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) حال منصوب، وصاحبُ الحالِ ضميرُ " هُمْ "
الذي هو في مَحَلِّ نَصْب مفعول به، في (وَقَطَّعْنَاهُمُ) ، وهو يَعودُ على بني
إسرائيل.
والراجحُ أَنَّ (أَسْبَاطًا) بَدَل من (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) منصوب.
أَيْ: قَطَّعْناهم أَسباطاً..
والراجحُ أَنَّ (أمُما) بَدَل من (أَسْبَاطًا) منصوب.
أَيْ: قَطَّعناهم أُمماً.
ولا تَصلحُ (أَسْبَاطًا) أَنْ تَكونَ تَمييزاً للعَدَدِ (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) لأَنَّ شَرْطَ
تمييزِ العَدَد أَنْ يَكونَ مُفْرَداً، فالراجحُ أَنَّ تمييزَ العددِ محذوف، والتقدير:
قَطَّعناهم اثنتي عَشْرَةَ فرقةً أَو قبيلةً أَو أمَّةً.
وبما أَنَّ التمييزَ المحذوفَ مؤنَّثٌ مُفْرَد، فقد زالَ اعتراضُ الفادي.
وصارَ تركيبُ الآيةِ هكذا: وقَطَّعْناهم اثْنَتَي عشرةَ فِرْقَةً أَسباطاً أُمماً..
واتَّفَقَ العددُ مع المعدودِ في التأنيث، وجاءَ المعدودُ التمييزُ مفرداً، فلا إِشكالَ في الآية (1) .
***
جمع الضمير العائد على المثنى
قال تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) .
خَطَّأَ الفادي صياغَةَ الآية، فكلمةُ (خَصْمَانِ) مُثَنَى، والجملةُ الفعليةُ
بَعْدَها صفة لها، والفاعلُ في (اخْتَصَمُوا) واوُ الجماعة يَعودُ على المثَنّى
(خَصْمَانِ) قال: " وكانَ يَجِبُ أَنْ يُثَنّى الضميرُ العائدُ على المُثنّى، فيقول:
هذانِ خصمانِ اخْتَصَمَا في ربهما ... ".
(هَذَانِ) : اسْمُ إِشارةٍ مُثَنّى في مَحَلّ رفْع مبتدأ.
و (خَصْمَانِ) خَبَرُه مرفوع، والكلمتانِ مُثَنّى لَفْظاً، لكنهما تُشيرانِ إِلى جَمْع، لأَنهما ليسا رَجُلَيْن مُخْتَصِمَيْن، وإِنما فَريقان مختصمان، وكلُّ فريق مُكَونٌ من عِدَّةِ أَفْراد، فريقُ الكافرين وفريقُ المؤمنين.
__________
(1) قال السمين:
قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ} : الظاهر أن «قطعناهم» متعدٍّ لواحد لأنه لم يُضَمَّنْ معنى ما يتعدى لاثنين، فعلى هذا يكون «اثنتي» حالاً من مفعول «قطَّعناهم» ، أي: فَرَّقْناهم معدودِين بهذا العدد. وجوَّز أبو البقاء أن يكون قَطَّعْنا بمعنى صَيَّرنا وأن «اثنتي» مفعولٌ ثانٍ، وجزم الحوفي بذلك.
وتمييز «اثنتي عشرة» محذوف لفهم المعنى تقديره: اثنتي عشرة فرقة و «أسباطاً» بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل «أسباطاً» هو المميِّز لوجهين، أحدهما: أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب، وهذا كما رأيت جمعٌ. وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال: «فإن قلتَ: مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيرُه:
2315 ... بين رماحَيْ مالكٍ ونَهْشَلِ
قال الشيخ:» وما ذهب إليه من أن كل/ قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناس: ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وقالوا: الأسباط جمع [سبط] ، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} معناه: والقبيلة. وقوله وهو نظير قوله «بين رماحَيْ مالك ونهشل» ليس بنظيره، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد «.
وقال الحوفي:» يجوز أن يكونَ على الحَذْف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، ويكون «أسباطاً» نعتاً لفرقة، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه. وأمم نعتٌ لأسباط، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال:
2316 ثلاثة أنفس ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يعني رجلاً. [وقال:]
2317 ... ... ... ... ... . عشرُ أَبْطُنْ ... ... ... ... ... ... .
بالنظر إلى القبيلة. ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول الشاعر:
2318 فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً ... سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ
فوصف «حلوبة» وهي مفردةٌ لفظاً ب «سُوْداً» وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع «.
وقال الفراء:» إنما قال «اثنتي عشرة» والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً «واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر:
2319 وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ
ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك أنَّث والبطن ذَكَر.
وقال الزجاج: «المعنى:» وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، من نعتِ فرقة كأنه قال: جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً «، وجوَّز أيضاً أن يكون» أسباطاً «بدلاً من» اثنتي عشرة «وتبعه الفارسيُّ في ذلك.
وقال بعضهم:» تقدير الكلام: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً، كما تقول: لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم، فهذه عشرون دراهم، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد «درهم» لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة والمعنى على خلافه. وقال جماعة منهم البغوي: «وفي الكلام تقديمٌ وتأخير تقديرُه: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة» .
وقوله {أُمَماً} : إمَّا نعتٌ لأسباطاً، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا: إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر. وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال: «بمعنى: وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد» وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف «انتهى. اهـ (الدر المصون) .(1/351)
ولذلك جاءَ الخَبَرُ (خَصْمَانِ) مثنى مراعاةً لاسم الإِشارةِ المثَنّى " هذان "،
وجاءَ الضميرُ العائدُ عليه جمعاً (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) مراعاةً لعَدَدِ أفرادِ الفريق، والفريقُ جَمْع.
ولذلك جاءَ بعد ذلك قولُه: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ... )
بصيغة الجمع!.
***
اسم الموصول المفرد العائد على الجمع
قال تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) .
اعترضَ الفادي على الآيةِ بقوله: " كانَ يجبُ أَنْ يَجمعَ اسْمَ الموصول
العائدَ على ضميرِ الجمعِ، فيقول: خُضتُم كالذينَ خاضوا ".
ولا مَعْنى لاعتراضِه، لأَنَّ شبْهَ الجملةِ (كَالَّذِى) صفةٌ لمفعول مطلقٍ
محذوف، والتقدير: خُضْتُم خَوْضاً كالذي خاضوه.
أَيْ: خُضتُم خَوْضاً كخوضِ الذينَ من قبلِكم.
وبهذا يكونُ اسْمُ الموصول " الذي " عائداً على مُفرد، وليس على جَمْع، وبهذا تَناسَقَ الموصول وما عادَ عليه، فلا إِشكال في صياغةِ الآية
والخوضُ في الآية معطوفٌ على الاستمتاع قبلَه.
قال تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) .
والمعنى: استمتَعْتُم بخَلاقِكُم استمتاعاً كاستمتاعِ الذينَ من قبلِكم،
وخضْتُم خَوْضاً كخوضِ الذينَ من قبلكم.
وبهذا نعرفُ جَهْلَ الفادي بقواعدِ اللغة (1) .
__________
(1) قال السمين:
قوله: {كالذي خاضوا} الكافُ كالتي قبله. وفي» الذي «وجوهٌ أحدُها: أن المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقعَ الجمع. وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصول، وعائدُ الموصول تقديرُه: خاضوه، والأصلُ: خاضوا فيه؛ لأنه يتعدى ب» في «فاتُّسع فيه، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف، وأن يتحدَ المتعلَّق، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم.
الثاني: أنَّ» الذي «صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي: وخضتم خوضاً كخوضِ الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا. والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ.
الثالث: أنَّ» الذي «من صفةِ المصدرِ والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه. وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه.
الرابع: أن» الذي «تقعُ مصدريةً، والتقدير: وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله:
2514 فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ ... في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا
أي: كنَصْرهم. وقول الآخر:
2515 يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً ... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أي: ككونِه. وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين لذلك. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: أيُّ فائدة في قوله: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ كَمَا} ، وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} مُغْنٍ عنه كما أغنى «كالذي خاضوا» [عن أن يقال: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا] ؟ قلت: فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع، ويُهَجِّن أمرَ الراضي به، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم.
وأمَّا «وخُضْتُمْ كالذي خاضوا» فمعطوفٌ على ما قبله، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة «يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا.
وفي قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ: وهو أن كانَ الأصلُ: فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم، فأبرزهم بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44] وكقوله قبل ذلك: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ثم قال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] . وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير. اهـ (الدر المصون) .(1/352)
جزم فعل معطوف على منصوب
اعترضَ الفادي على تركيبِ وصياغةِ قولِه تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) .
قال في اعتراضِه على الآية: " وكان يَجبُ أَنْ يُنْصَبَ الفعلُ المعطوفُ
على المنصوب: " فَأَصَّدَقَ وأَكونَ ".
أَيْ أَنَّ فعْلَ " أَكُنْ " معطوفٌ على فعْلِ " أَصَّدقَ " وبما أَنَّ المعطوفَ عليه منصوبٌ فيجبُ أَنْ يُنْصَبَ المعْطوف.
ولذلك كان جَزْمُ المعطوفِ خَطَأً نحويّاً وَقَعَ به القرآن!! ".
في قولِه: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) قراءتان صحيحتان:
الأُولى: قراءةُ أَبي عَمْرو البَصْري بِنصْبِ الفعلِ المعطوف: " فَأَصَّدَقَ
وأَكونَ "، وتوجيهُ هذه القراءةِ أَنَّ " أَكونَ " معطوفٌ على " أَصَّدَّقَ " منصوبٌ مثْلُه.
لأَنَّ المعطوفَ على المنصوبِ منصوبٌ.
الثانية: قراءةُ القراءِ التسعةِ بجَزْمِ الفعلِ " أَكُنْ ".
وهو ليس معطوفاً على " أَصَّدَّقَ "
لأَنه لا يَجوزُ عَطْفُ المجزومِ على المنصوب.
ولكنه معطوفٌ على مَحَلِّ " أَصَّدَقَ " الذي هو الجَزْم.
لأَنه في معنى جوابِ الشرط، ففعْلُ " أَصَّدَّقَ " منصوبٌ لفظا لكنه مجزومٌ مَحَلًّا!.
إِنَّ فعْلَ " أَصَّدَّقَ " منصوبٌ بحرفِ " أَنْ " المصدريِّ المقَدَّر، وهو واقعٌ في
جوابِ التمنّي، فالجملةُ هكذا: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) .
(يَأْتِيَ) : فعلٌ مضارعٌ مَنْصوبٌ بحرفِ " أَنْ "، و " يَقَول": مضارعٌ منصوبٌ لأَنه(1/353)
معطوفٌ على (يَأْتِيَ) .
و (لَوْلَا) : حرفٌ للتَّمني.
وجوابُ التَّمَنّي جملة: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) .
والتقديرُ: لولا أَخَرْتَنى إِلى أَجَلٍ قريب فأَنْ أَصَّدَّق.
ومع أَنَّ " أَصَّدَّق" منصوبٌ لَفْظاً بحرفِ " أَنْ "، إِلَّا - أَنه مجزومٌ مَحَلًّا، على
أنه جوابُ الشَّرط، فالجملةُ للتَّمَنّي في الظاهر، لكنَّها جملةٌ شرطيةٌ في
الحقيقة، والتقدير: إِنْ أَخّرتني إِلى أَجَلٍ قريبِ أَصَّدَّقْ.
وعلى هذا يكونُ (أَكن) مجزوماً، َ لأَنه معطوف على مَحَلِّ "أَصَّدَّق".
الذي هو جوابُ الشرطِ في الحقيقة، والتقدير: إِنْ أَخَّرْتَني إِلى أَجَلٍ قريبِ
أَصَّدَّق، وأَكُنْ من الصالحين.
أَيْ أَنَّ الكافرَ يتعهَّدُ بفعْلِ أَمْرَيْن اثْنَيْن إِنْ أَخَّرَ اللهُ أَجَلَه: يتصدَّقُ في
سبيلِ الله، ويكونُ من الصالحين (1) .
***
عود ضمير الجمع على المفرد
اعترضَ الفادي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) .
اعتراضه على ضمير الجمع في (بِنُورِهِمْ) ، فكيفَ جاءَ بصيغةِ الجمعِ مع
أَنَّهُ يَعودُ على المفرد، وهو الضميرُ المستتر في (اسْتَوْقَدَ) .
قال: " وكانَ يَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ الضميرَ العائدَ على المفردِ مُفْرَداً، فيقول: استوقد ناراً فلما أَضاءتْ ما حوله ذهبَ اللهُ بنورِه ".
واعتراضُ الفادي دليلُ جَهْلِه بأَساليبِ التعبيرِ الرائعةِ البليغةِ في اللغةِ
العربيةِ الشاعرة.
إِنَّ التشبيهَ في الآيةِ تَشبيهٌ تَمثيليّ، شَبَّهَ حالاً بحال، حالَ المنافقينَ في عدمِ
انتفاعِهم بالإِيمانِ، بحالِ الذي استوقَدَ ناراً ثم أَطْفَأَها اللهُ، فلم ينتفعْ هو بها.
__________
(1) قال السمين:
قوله: {وَأَكُن} : قرأ أبو عمروٍ «وأكونَ» بنصب الفعل عطفاً على «فأصَّدَّقَ» و «فأصَّدَّقَ» منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله: «لولا أَخَّرتني» والباقون «وأكُنْ» مجزوماً، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: «عطفاً على محلِّ» فأصَّدَّقَ «كأنه قيل: إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ» . وقال ابنُ عطية: «عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ: إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي: فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم» انتهى. وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين. ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير:
4268 بَدا ليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
فخفضَ «ولا سابقٍ» عطفاً على «مُدْرِكَ» الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن، فلا يُقال: جُزم على التوهُّم، لقُبْحه لفظاً. وقال أبو عبيد: «رأيتهُ في مصحف عثمان» وأكُنْ «بغير واوٍ. وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال:» الفرقُ بينهما: أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ، وأثرُه مفقودٌ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ، وأثرُه موجودٌ «انتهى. قلت: مثالُ الأول:» هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً «فهذا من العطفِ على الموضع، فالعاملُ وهو» ضارب «موجودٌ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ. ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ، وأثُره موجودٌ. وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة. ومن ذلك بيتُ امرىء القيس:
4269 فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ ... صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك: أنه توهَّم أنه أضاف» منضج «إلى» صَفيف «، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ» قدير «على» صفيف «بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة.
وقرأ عبيد بن عمير» وأكونُ «برفع الفعل على الاستئناف، أي: وأنا أكونُ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح. اهـ (الدر المصون) .(1/354)
وجاءَ ضمير " هُمْ " في قوله: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) جَمْعاً، مراعاةً للحالِ
المشَبَّهَة، وهي حالُ المنافقين، وليس الحالَ المشَبَّهَ بها، وهي حالُ المستوقِدِ
ناراً، لأَنَّ الهدفَ من هذا التشبيهِ التمثيلي هو المَشبَّهُ وليس المشَبَّه به، وبيانُ
عَدَمِ استفادةِ المنافقين من الهدى والنور.
لقد عادَ ضميرُ " هم " في (بِنُورِهِمْ) على ضميرِ " هُمْ " في (مَثَلُهُمْ) ،
والمرادُ بهذا الضميرِ المنافقون.
ولو عادَ الضميرُ على المفردِ، وقالَ: " ذهب الله بنوره وتركه في ظلمات "
لكانَ التركيزُ على التشبيهِ والتمثيل، وهذا ممكِن، ولكنه ليسَ فصيحاً.
إِنَّ الأَفصحَ والأَبلغَ الانتقالُ من التمثيل والتشبيهِ إِلى الحقيقة، ليدُلَّ على
أَنَّ اللهَ أَذهبَ نورَ الإِيمانِ من قلوبِ المنافقين؟
لأَنَّ هذا هو المقصودُ من التشبيه.
وصارَ التقدير هكذا: مَثَلُ المنافقين في عَدَمِ استفادتِهم من الإِيمانِ كَمَثَلِ
رجلٍ استوقدَ ناراً، فلما أَضاءَتْ ما حولَه، ذهبَ اللهُ بنارِه، فلم يَسْتَفِدْ منها، وكذلك المنافقون ذَهَبَ اللهُ بنورِهم، فلم يستفيدوا من الإِيمان.
وقد جاءَ ضميرُ الجمعِ في (بِنُورِهِمْ) بين ضميرَيْ جَمْع: الضميرِ في
(مَثَلُهُمْ) قبلَه.
والضمير في (وَتَرَكَهُمْ) بعدَه!!.
وعلى هذا يكونُ اعتراضُ الفادي لا معنى له، فالأَفصحُ والأَبلغُ هو ما
وردَ في القرآن! (1) .
***
هل يجوز نصب المعطوف على المرفوع؟
اعترضَ الفادي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) .
__________
(1) قال السمين:
والأَوْلى أن يقال إن «الذي» وقع وصفاً لشيء يُفْهِم الجمعَ، ثم حُذِفَ ذلك الموصوفُ للدلالةِ عليه، والتقديرُ: مَثَلهم كَمَثَل الفريق الذي استوقد أو الجمعِ الذي استوقَدَ، ويكون قد رُوعي الوصفُ مرةً، فعادَ الضميرُ عليه مفرداً في قوله: «استوقد» و «حَوْلَه» ، والموصوفُ أخرى فعاد الضميرُ عليهِ مجموعاً في قوله: «بنورِهم، وتركَهم» . اهـ (الدر المصون) .(1/355)
خَظَأَ نَصْبَ (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) لأَنها في نَظَرِهِ القاصِرِ معطوفة على
(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، والأَصْلُ أَنْ تَكونَ مرفوعة: لكن الراسخون في العلم
منهم والمؤمنون ... والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة ...
وتَخطئةُ الفادي للآيةِ دَليلُ جهلِه بقواعِدِ اللغةِ العربية.
الآيةُ مُكَوَّنَةٌ من الجملِ التالية:
الأُولى: الجملةُ الاسمية: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : (لَكِن) : حرفُ استدراكٍ مُلْغى لأَنه مُخَفَّف.
(الرَّاسِخُونَ) : مبتدأٌ مرفوع.
(وَالْمُؤْمِنُونَ) : مَعطوفٌ على ما قبله مرفوع.
والجملةُ الفعليةُ (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في مَحَلِّ رفْع خَبَر.
والتقدير: الراسخونَ في العلمِ والمؤمنون هم المؤمنونَ بما أُنزلَ إِليك.
الثانية: الجملةُ الفعليةُ: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) .
وهي معطوفةٌ على الجملةِ السابقة.
(وَالْمُقِيمِينَ) منصوبٌ على المدْح.
أَيْ أَنَّه مفعولٌ به لفعْلٍ محذوف، تَقديرُه: أَمْدَحُ المقيمين الصَّلاةَ، (الصَّلَاةَ) مفعولٌ به منصوبٌ لاسْم الفاعل (وَالْمُقِيمِينَ) .
الثالثة: (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) .
وهي معطوفَةٌ على الجملةِ الأُولى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) .
(وَالْمُؤْتُونَ) : مبتدأ مرفوع.
ومي آلزكًؤةَ) : مفعولٌ به لاسْمِ الفاعل
(وَالْمُؤْتُونَ) .
(وَالْمُؤْمنونَ) معطوفٌ على (وَالْمُؤْتُونَ) مرفوع.
وجملةُ (أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) في محلِّ رفْع خَبَرِ المبتدأ (وَالْمُؤْتُونَ) .
وبهذا نَعرفُ أَنَّ (وَالْمُقِيمِينَ) ليستْ معطوفةُ على (الرَّاسِخُونَ) ، من بابِ
عَطْفِ كلمةٍ على كلمة، لتكونَ مرفوعةً مثلَها.
والعَطْفُ من بابِ عَطْفِ جُملةٍ على جُمْلَة.
والعُدولُ عن الجملةِ الاسمية إِلى الجملةِ الفعلية، ونَصْبُ اسْمِ الفاعلِ(1/356)
بفعْلٍ مُقَدَّرٍ، جَمالٌ رائع في الأُسلوبِ القرآني، وتَعبيرٌ بَليغٌ معجزٌ رَفيع.
لكنَّ الجاهلينَ من أمثالِ الفادي لا يَرْتَقون إِلى مستوى فهمِه فيُخَطِّئونَه! (1) .
***
هل ينصب المضاف إليه؟
خَطَّا الفادي نَصبَ (ضَرَّاءَ) في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) .
وبما أَنَّ (بَعدَ) ظَرْفُ زَمان، وهي مضاف، فإِنّ (ضَرَّاءَ) مُضافٌ إِليه.
والمضافُ إِليه مجرور، فلا بُدَّ أَنْ تَكونَ كلمةُ (ضَرَّاءَ) مجرورةً بالكسرة!!.
إِنَّ اعتراضَ الفادي على الآيةِ وتَخْطِئَتَه لها دليلٌ على جَهْلِه المطبقِ
بأَبسطِ قواعدِ اللغةِ العربية.
إِنه لا يَعرفُ الشيءَ المسَمّى " الممنوع من الصرف ".
وهو الاسْمُ الذي لا يَلْحَقُه التَّنْوين، والذي يُجَرُّ بالفتحةِ بَدَلَ الكسرة.
وتَحكمُ الممنوعَ من الصرفِ قواعدُ وضوابط دقيقة.
ومن الأَسماءِ الممنوعةِ من الصَّرْفِ كُلُّ اسمٍ مُؤَنَّثٍ مختومٍ بأَلِفٍ ممدودةٍ
بَعْدَها همزة، على وَزْنِ " فَعْلَاءَ ".
وفي الآيةِ التي خَطَّاَها الجاهلُ كَلِمتَانِ مَمْنوعَتان من الصَّرْفِ هما
(نَعْمَآءَ) ، (ضَرَّاءَ) .
وهما كلمتانِ مُتَقابلتان.
(نَعْمَآءَ) : مفعولٌ به ثانٍ للفعْلِ (أَذَقنَاهُ) .
وهو منصوبٌ بالفتحةِ وليس بالتنوين؟
لأَنه ممنوعٌ من الصرف.
و (ضَرَّاءَ) في قوله: (بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّته) مضافٌ إِليه مجرورٌ بالفتحةِ بَدَلَ
الكسرة، لأَنه ممنوعٌ من الصَّرْف.
ولكنْ أَنّى للفادي الجاهلِ أَنْ يَعرفَ هذه القواعد؟
ومع ذلك نَصَّبَ نَفْسَه قاضياً على القرآن!!.
__________
(1) قال السمين:
قوله: والمقيمين «قراءةُ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة» والمقيمون «بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة، وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما: وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، وكذلك القطعُ في قوله {والمؤتون الزكاة} على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه:» يؤمنون «ولا يجوز أن يكون قوله {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ} لأن القطع إنما يكونَ بعد تمامِ الكلام. قال مكي:» ومَنْ جَعلَ نَصْبَ «المقيمين» على المدحِ جَعَلَ خبرَ «الراسخين» : «يؤمنون» ، فإنْ جَعَل الخبر «أولئك» سنؤتيهم «لم يجز نصب» المقيمين «على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام» وقال الشيخ: «ومَنْ جعل الخبرَ: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ» قلت: هذا غيرُ لازمٍ، لأنه هذا القائلَ لا يَجْعَلُ نصبَ «المقيمين» حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج «المقيمين» كما سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنق:
1674- لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معتَركٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه؛ لأنها قطعت «النازين» فنصبته، و «الطيبون» فرفعَتْه عن قولِها «» قومي «، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غيرِ هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه:
1675- ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي
فنصب» شعثاً «وهو معطوف.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في» منهم «أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في» إليك «أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» ما «في» بما أُنْزِل «أي: يؤمنون» بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت عبارة هؤلاء في «المقيمين» فقيل: هم الملائكة قال مكي: «ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] . وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في» قبلك «أي: ومِنْ قبلِ المقيمين، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف، ويكونَ على حَذْفِ مضاف أي: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامه. فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ.
وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنه لحنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله:» ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الانجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم «وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ.
قوله: {والمؤتون} فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على» الراسخون «، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده إلى إعراب المتبوع فلايُقال:» مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ «بنصب» العاقل «وجر» الفاضل «فكذلك هذا.
الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الراسخون» ، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في «المؤمنون» الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يؤمنون» السادس: أنه معطوفٌ على «المؤمنون» ، السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئِك سنؤتيهم» فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سنؤتيهم» خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في «أولئك» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زيدٌ ضرتبه» بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضربُ زيداً» مَنَعَ بعضهم «زيداً سأضرب» ، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما لا خلاف فيه.
وقرأ حمزة: «سيؤتيهم» بالياء مراعاةً للظاهر في قوله: {والمؤمنون بالله} والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً، ولمناسبةِ قوله: «وأعتدْنا» وهما واضحتان. اهـ (الدر المصون) .(1/357)
جمع الكثرة بدل جمع القلة
خَطَّأَ الفادي الإِتيانَ بجمعِ الكثرةِ بَدَل جمعِ القِلَّة، في قولِ الله - عز وجل -: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) .
قالَ في اعتراضِه على الآية: " وكانَ يَجبُ أَنْ يَجْمَعَها جمعَ قِلَّة؟
لأَنَّهم أَرادوا القِلَّة، فيقول: أَياماً معدودات ".
يَرى الفادي أَنَ " معدودات " جمعُ قِلَّة، وأَنَ (مَعْدُودَةً) جمعُ كثرة!
وهذا الكلامُ باطل، فالصّيغَتان جمعُ قِلَّة.
لكنَّ (مَعْدُودَةً) تدلُّ على عددٍ أَقَلَّ من " معدودات ".
فإذا أَريدَ العددُ الأَقَلُّ ذُكِرَتْ صيغةُ (مَعْدُودَةً) ، وإِذا أُريدَ
العددُ الأَكثرُ ذُكِرَتْ صيغةُ " معدودات ".
وهذا عكسُ ما قالَه الفادي الجاهلُ باللغةِ العربية.
والآيةُ التي خَظَأَها الجاهلُ تتحدَّثُ عن اليهود، واستخفافِهم بعذابِ الله،
وادِّعائهم أَنهم أَبناءُ اللهِ وأَحِبّاؤه.
قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) .
واللطيفُ في التعبيرِ القرآنيِّ المعجزِ أَنَه أَوْرَدَ الصيغتَيْن " معدودة، ومعدودات"
في نفسِ الموضوع، وهو زَعْمُ اليهودِ عدمَ تعذيبِهم إِلّا أَيّاماً قليلةً في جهنَّم.
قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) .
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) .(1/358)
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)
ما حكمةُ وَصْفِ الأَيّامِ في سورةِ البقرة بالصيغةِ الدالَّةِ على العَدَدِ الأَقَلّ:
(أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، وَوَصْفِ الأَيّام نفسِها في سورةِ آل عمران بالصيغةِ الدالةِ
على العددِ الأكثر: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) ؟
مع أَنَّ الأَيّامَ في السورتَيْن واحدة، والقائلين فيهما اليهود؟.
إِنَّ السياقَ هو الحَكَم، وهو في سورةِ البقرة غيرُه في سورةِ آل عمران!.
إِنَّ الكلامَ في سورةِ البقرة مختَصَر، والهدفُ منه ذِكْرُ زَعْمِ اليهودِ ثم الرَّدُّ
عليه بإِيجاز، ولذلك وُصِفَت الأَيّامُ بالصيغةِ الدالَّةِ على القِلَّة، لِتَتَناسَبَ مع
الهدفِ من الكلامِ، وهو الاختصارُ الدالُّ على التقليل: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) .
أَمّا الكلامُ في سورةِ آل عمران فإنه مُفَصَّلٌ مُطَوَّل قليلاً، فهو لا يَكتفي
بمجردِ تسجيلِ زَعْم اليهود، وإِنَّما يَدْعو إِلى التعجبِ من موقفِ اليهودِ
الاستعلائي، فإِنهم عندما يُدْعَون إِلى الاستجابةِ لحُكْمِ الله، يَرْفُضون تلكَ
الدعوة، ويَتَوَلُّونَ ويُعْرضون، ويُصرّونَ على باطِلهم، والسببُ في هذا زَعْمُهم أَنهم لن يُعَذَّبوا في النارِ إِلّا أَياماً معدودات، واغترارُهم في دينهم، وتصديقُهم مزاعِمَهم.
وبما أَنَّ الكلامَ في سورةِ آلِ عمران مُطَوَّلٌ مُفَصَّل، في عَرْضِ بعضِ
صفاتِ اليهودِ وتصرفاتِهم وأَقوالِهم، جاءَ بالصيغة الدالَّةِ على تكثيرِ الأيام،
لتتناسبَ مع السياقِ الذي وَرَدَتْ فيه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (1) .
***
جمع القلة بدل جمع الكثرة
بناءً على تَفريقِ الفادي الجاهلِ بينَ (مَعْدُودَةً) و (مَعْدُودَاتٍ) على أَنَّ
(مَعْدُودَةً) جمعُ كَثْرَة، و (مَعْدُودَاتٍ) جمعُ قِلَّة، تابَعَ اعتراضه على القرآن،
فأَثارَ سُؤالَه السابعَ عَشَرَ بعد المئة، وجَعَلَه تابعاً لسؤالِه السابق، الذي ناقَشْناهُ فيه.
__________
(1) قال السمين:
وجاء هنا «معدودات» بصيغة الجمع، وفي البقرة: {مَّعْدُودَةً} [الآية: 80] تفنُّناً في البلاغة، وذلك أنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوزُ أَنْ يعامَلَ معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ومعاملةَ جمعِ الإِناث أخرى، فيقال: «هذه جبالٌ راسيةٌ» وإن شئت: «راسيات» ، و «جِمال ماشية» وإن شئت: «ماشيات» . وخُصَّ الجمعُ بهذا الموضعِ لأنه مكانُ تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا، فأتى بلفظِ الجمعِ مبالغةً في زَجْرِهم وزجرِ مَنْ يعملُ بعملهم.
اهـ (الدر المصون) .(1/359)
قال: " جاء في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) ، وكانَ يَجِبُ أَنْ يَجمعَها جمعَ كَثْرَة، حيثُ إِنَّ المرادَ جمعُ كثرةٍ عِدَّتُه
ثَلاثون يوماً، فيقول: أَياماً معدودةً ".
ومعنى اعتراضِه أَنَّ شَهْرَ رمضانَ الواجبَ صيامُه ثلاثون يوماً، وهي أَيامٌ
كثيرة، فمن غيرِ المناسبِ أَنْ توصَفَ أَيّامُهُ بجمعِ القِلَّة (مَعْدُودَاتٍ) ، وإِنما
توصَفُ بجمْعِ الكثرةِ: (مَعْدُودَةً) .
وعلى هذا يكونُ القرآنُ - في نظرِ الفادي - قد أَخْطَأَ، عندما قال عن
أَيامِ رمضان: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) ، وكان الواجبُ أَنْ يَقول: أَياماً معدودة!!.
وقد سبقَ أَنْ ناقَشْناهُ في المبحثِ السابق، ورَفَضْنا كلامَه أَنَّ (مَعْدُودَاتٍ)
جمعُ قلة، و (مَعْدُودَةً) جمعُ كثرة، وذَكَرْنا أَنَّ اللفظَيْن جمعُ قِلَّة.
وأَنَّ (مَعْدُودَةً) تُستعملُ مع العددِ الأَقَل، و (مَعْدُودَاتٍ) مع العَدَدِ الأَكْثَر!.
نقول مثلاً: هذه عشرةُ أيامٍ معدودةٍ.
وتقول: هذه ثلاثون يوماً معدودات!!.
ولذلك ذَكَرَ القرآنُ صفةَ " معدوداتٍ " مع أَيامِ شهرِ رمضان الثلاثين:
(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) .
***
هل يجمع الاسم العلم؟
ذَهَبَ الفادي إِلى أَنَّ القرآنَ جَمَعَ اسْمَ العَلَمِ المفردَ الأَعجميّ، وهذا لا
يَجوزُ في اللغة، ولذلك خَطَّأَ القرآنَ.
قال: " جاءَ في سورةِ الصافات: (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) .(1/360)
(سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)
فلماذا قال: (إِلْ يَاسِينَ) بالجمع عن " إِلياس " المفرد؟
فمِنَ الخَطَأِ لغويّاً تَغييرُ اسمِ العَلَمِ حُبًّا في السَّجْعِ المتَكَلَّف.
وجاءَ في سورةِ التين: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) .
فلماذا قال: (سِينِينَ) بالجمعِ عن سيناء؟
فمِن الخطأ لغويّاً تَغييرُ اسْمِ العَلَمِ حُبًّا في السَّجْع المتكَلَّف؟ ".
(إِلْ يَاسِينَ) في نظرِ الفادي جمعُ الاسْمِ الأَعجميِّ " إِلياس ".
و (سِينِينَ) جمعُ الاسمِ الأَعجميّ (سَيْنَآء) ، فهل هذا صحيح؟.
نَقفُ أَمامَ كلمةِ (إِلْ يَاسِينَ) أَوَّلاً.
في كلمةِ (إِلْ يَاسِينَ) قراءَتان صحيحتان:
الأُولى: قراءةُ نافع وابنِ عامر: " سلام على آل ياسين ".
بإضافة " آل " إِلى " ياسين ".
و" ياسين " هو " إِلْياس ".
و" آل ياسين " هم أَتَبْاعُهُ المؤمنون الذين آمَنوا به ودَخَلوا في دينِه.
والسَّلامُ على آلِ ياسين سَلامٌ على إِلْياس نفسِه، لأَنَّه هو السببُ في هدايتِهم!.
الثانية: قراءةُ عاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وأبي عمرو: (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) بكسْرِ الأَلفِ وسكونِ اللّام.
و (إِلْ يَاسِينَ) ليس جمعَ إِلْياس، وإِنما هو لغةٌ ثانيةٌ في " إِلْياس "، تقول:
إِلْياس وإِلْياسين، كما نقول: إِسماعيل وإِسماعين، وجبرائيل وجبرائين،
وميكائيل وميكائين، وإِسرائيل وإِسرائين.
فتُقْلَبُ اللامُ نوناً في هذه الأَسماءِ بهدفِ التسهيل.
وفي إِلْياس، أُضيفَتْ له الياءُ والنونُ للتسهيلِ وليس للجمع.
وقد يُرادُ بكلمةِ (إِلْ يَاسِينَ) آلُ إِلياس الذين آمَنوا به واتَّبعوه.
وعلى هذا تكونُ (إِلْ يَاسِينَ) جمع، مفردُه " إِلْيَاسِيٌّ " بياءِ النِّسْبَة.
تقول: إِلْياس.
وعندما تَنْسِبُ إِليه مَن اتبعَه تقولُ: إِلْياسِيٌّ.
كما تقول: شافِع، ومع الياء تقول: شافِعِيّ.(1/361)
وجمعُ " إِلْياسِيّ ": " إِلْياسِيّون " بالياءِ المشَدَّدَة.
كما تقول في "شافِعيّ " شافِعِيّونَ".
ثم حُذِفَتْ إِحدى الياءَيْنِ للتَّسهيل، فصارت الكلمةُ " إِلْياسون "
وعندما جُرَّتْ بحرفِ الجَرِّ صارَتْ: (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) .
والمرادُ بكلمةِ (إِلْ يَاسِينَ) على هذا التوجيه " آل إِلْياس "، فآل إِلياس هم
" إلْياسون "، وهم المؤمنونَ به (1) .
أَمَّا (وَطُورِ سِينِينَ) : فهو اسْمٌ مكَوَّنٌ من جزأَيْن: (طُورِ) : وهو اسْمُ جَبَلِ
الطورِ الذي ذُكِرَ عدةَ مراتٍ في القرآن، وهو الموجودُ في سيناء، وناجى عليه موسى - عليه السلام - رَبَّه.
و (سِينِينَ) : وهو اسْمٌ لصحراءِ سيناءَ المعروفة، التي تَفْصِلُ بينَ مصرَ
وفلسطين.
وهي المرادَةُ في قوله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) .
وبالجمعِ بينَ آيةِ سورةِ المؤمنون (طُورِ سَيْنَاءَ) وآيةِ سورةِ التين (وَطُورِ
سِينِينَ) نعرفُ أَنَّ للصحراءِ الواقعةِ بينَ مصرَ وفلسطين اسْمَيْنِ في القرآن:
سيناء، وسينين، والكلمتان أَعجميتان.
وبهذا نعرفُ أَنَّ القرآنَ لم يَجْمَع اسْمَ العلمِ الأَعجميِّ المفرد، لأَنَّ هذا
لا يَجوزُ في اللغة، وأَنَّه لم يَفعلْ ذلك حُبًّا في السَّجْعِ المتكَلَّف، كما اتَهمه
الفادي الجاهلُ بذلك!! (1) .
***
بين اسم الفاعل والمصدر
اعترضَ الفادي على صياغةِ قول اللهِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) .
واعتراضُه على جملةِ (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) ، حيثُ جاءَ خَبَرُ
" لكنَّ " اسْمَ موصول، والموصول وصلتُه هنا بمعنى اسم الفاعل.
والتقدير: ولكنَّ البرَّ المؤمنُ بالله!.
__________
(1) قال السمين:
قوله: {على إِلْ يَاسِينَ} :
قرأ نافعٌ وابن عامر {على آلِ يَاسِينَ} بإضافةِ «آل» بمعنى أهل إلى «ياسينَ» . والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب «ياسين» كأنه جَمَعَ «إلياس» جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال:
3820 قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ ... وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند «الأَعْجَمِيْن» .
إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين.
قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «على إلياسينَ» بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة.
وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله «على إدْراسين» لأنَّه قرأ في الأول «وإنَّ إدْريَس» . وقرأ أُبَيٌّ «على إيليسِيْنَ» لأنه قرأ في الأول «وإنَّ إيليسَ» كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس. اهـ (الدر المصون) .
(2) قوله: {وَطُورِ سِينِينَ} : الطُّور جَبَلٌ. وسينين: اسم مكانٍ فأُضيف الجبل للمكان الذي هو به. قال الزمخشري: «ونحو سِينون يَبْرُوْن في جواز الإِعرابِ بالواو والياء والإِقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بحركات الإِعراب» وقال أبو البقاء: «هو لغةٌ في سَيْناء» انتهى. وقرأ العامَّةُ بكسرِ السين. وابنُ أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاءٍ بفتحها، وهي لغةُ بكرٍ وتميم. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله والحسن وطلحة «سِيْناءَ» بالكسر، والمد، وعمرُ أيضاً وزيدُ بن علي بفتحِها والمدِّ، وقد ذُكِرا في المؤمنين، وهذه لغاتٌ اختلفَتْ في هذا الاسمِ السُّرْيانيِّ على عادةِ العرب في تلاعُبها بالأسماء الأعجميةِ. وقال الأخفش: «سينين شجرٌ، الواحدةُ سِيْنِية» وهو غريبٌ جداً غيرُ معروفٍ عن أهلِ التفسير. اهـ (الدر المصون) .(1/362)
قال: " والصوابُ أَنْ يُقال: " ولكنَّ البِرَّ أَنْ تُؤمِنوا بالله "، لأَنَّ البِرَّ هو
الإِيمانُ وليس المؤمنَ ".
صَحيح أَنَّ البِرَّ هو الإِيمانُ وليس المؤمنَ، ولكنَّ الخَبَرَ في الحقيقةِ ليس
اسْمَ الموصول " مَنْ "، وإِنما هو مَحذوف، و " مَنْ " في الحقيقةِ مضافٌ إِليه
لمضافٍ محذوف.
والتقدير: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِالله.
أي: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ المؤمن.
فلم يأتِ اسْمُ الفاعل " المؤمن " في الآية بَدَل المصدر، كما فَهم الفادي
الجاهل، وإِنما هو مُضاف إِليه لمضافٍ مَحْذوف: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن (1) .
***
لا يُعطف المنصوب على المرفوع
اعترضَ الفادي على صياغةِ قولِه تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) .
واعتبرَ (وَالصَّابِرِينَ) المنصوب معطوف على (وَالْمُوفُونَ) المرفوع، وهذا خَطَأ.
قال: " وكانَ يجبُ أَنْ يُرفعَ المعطوفُ على المرفوع، فيقول: والموفونَ
بعهدِهم ... والصابرون ... ".
(وَالصَّابِرِينَ) ليستْ معطوفةً على (وَالْمُوفُونَ) ، وإِلّا لكانَتْ مرفوعة، لأَنه
لا يَجوزُ عَطْفُ المنصوبِ على المرفوع.
إِنَّ (وَالصَّابِرِينَ) مفعولٌ به منصوبٌ بالياء، لفعلٍ محذوف، تقديرُه:
" أَمدح " أَي: وأَمدحُ الصابرين في البأساء والضراء.
وقد سبقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي المفترِي في آيةٍ قريبةٍ من هذه الآية، وهي
قولُه تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
__________
(1) قال السمين:
قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ}
في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «البِرَّ» اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة «فَطِن» ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن.
الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: «ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن» .
الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك: «ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف» ولا يناسِبُ «ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف» .
الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو: «رجلٌ عَدْلٌ» . ويُحكى عن المبردِ: «لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ:» ولكنَّ البَرَّ «بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن» البَرَّ «اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل.
الخامس: أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو: «رجل عَدْل» أي عادل، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو: «أقائماً وقد قعد الناس» في قولٍ، وهذا رأيُ الكوفيين.
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل، وأن أصلَه بارٌّ، فجُعل «بِرَّاً» ك «سِرّ» ، وأصلُه: سارٌّ، وربٌّ أصله رابٌّ. وقد تقدَّم ذلك.
وجَعَلَ الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقِعَ «الإِيمان» فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه، كأنه قال: «ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله» . قال: «والعربُ تَجْعَلُ الاسمُ خبراً للفعلِ وأنشد:
825 لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ، والمعنى: لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى.
وقرأ نافع وابن عامر:» ولكنْ البِرُّ «هنا وفيما بعد بتخفيف لكن، وبرفع» البرُّ «، والباقون بالتشديد ولنصب، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة: 102] ، وقرىء:» ولكنَّ البارَّ «بالألف وهي تقوِّي أنَّ» البِرَّ «بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ.
وَوَحَّد» الكتابَ «لفظاً والمرادُ به الجمعُ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ، أو أرادَ به الجنسَ، أو أراد به القرآنَ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ. اهـ (الدر المصون) .(1/363)
حيث ظَنَّ الفادي أَنَّ (وَالْمُقِيمِينَ) منصوبٌ لأَنَّه معطوفٌ على المرفوعِ قبلَه: (وَالْمُؤْمِنُونَ) ، مع أَنه منصوبٌ؟
لأَنَّه مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ تقديره: أَمْدَحُ المقيمين الصلاة (1) .
***
حكمة وضع المضارع بدل الماضي
اعترضَ الفادي على قولِ اللهِ تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) .
قالَ في اعتراضه: "كانَ يَجِبُ أَنْ يُعتبرَ المقامُ الذي يَقْتَضي صيغةَ
الماضي لا المضارع، فيقول: ثم قالَ له: كُنْ، فكان ".
الكلامُ في الجملةِ عن خَلْقِ أَبي البشر آدمَ - عليه السلام -، فاللهُ خَلَقَه بكلمتِه التكوينية، ولَمّا سَوّاهُ من تُراب، قالَ له: (كُنْ) ، فكان، وصارَ إنساناً حَيًّا.
و (كُنْ) فعْلُ أَمْرٍ تامّ، يَحتاجُ إِلى فاعلٍ فَقَط، وهو ضميرٌ مستترٌ تَقديرُه: أَنْتَ.
وهو بمعنى الوجودِ والتكوين.
أَيْ: تَكوَّنْ وتَشَكَلْ كما نُريدُ.
والفاءُ في (فَيَكُونُ) حَرْفُ عطف.
وجملةُ (يَكُونُ) معطوفةٌ على جملةِ (كُنْ) .
و (يَكُونُ) فعلٌ مضارع تامٌّ، وفاعلُه تقديرُه " هو " وجملةُ " يكونُ " في
محلِّ رَفْعٍ خبر لمبتدأ محذوف، تقديرُه: فهو يَكون.
أَيْ: قالَ له: كُنْ، وتَكَوَّنْ، فهو كائِنٌ مُتَكَوِّنٌ كما أَمَرَهُ الله.
وكانَ المتوقَّعُ أَنْ يُعَبِّرَ بالماضي: ثم قالَ له: كُنْ فكان.
لأَنه أَخْبَرَ عن خَلْقِ آدَمَ - عليه السلام - في بدايةِ تاريخِ البشريةِ، لكنَّهُ عَدَل عن الماضي إِلى المضارع، فقال: ثم قالَ له: كُنْ، فيكون.
وذلك لكي نستحضرَ نحنُ في خيالِنا خَلْقَ أَبينا آدمَ - عليه السلام -
لأَنَّ المضارعَ يدل على التجدّدِ والاستمرارِ، والحيويةِ والتفاعل (2) .
__________
(1) قال السمين:
قوله: {والموفون} في رفعه ثلاثةُ أوجه:
أحدُها: - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على «مَنْ آمن» ، أي: ولكنَّ البِرَّ المؤمنون والموفون. والثاني: أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هم المُوفون. وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ «الصابرين» على المدحِ بإضمارِ فعلٍ، وهو في المعنى عَطْفٌ على «مَنْ آمن» ، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ.
قال الفارسي: «وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ.
فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على» ذوي القربى «أي: وآتى المالَ الصابرين؟
قيل: لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون. والثالث: أن يكونَ» الموفون «عطفاً على الضمير المستتر في» آمَنَ «، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك. وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في» الصابرين «وجهان، أحدُهما: النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم، والثاني: العطفُ على» ذوي القربى «، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها.
وقوله: {إِذَا عَاهَدُواْ} » إذا «منصوبٌ بالموفُون، أي: الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ.
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ:» والصابرون «، وحكى الزمخشري قراءَة:» والموفين «و» الصابرين «.
قال الراغب: وإنما لم يَقُلْ:» وأوفى «كما قال» وأقام «لأمرين، أحدُهما: اللفظُ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ. والثاني: أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلاَّ منها، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمَّا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد» وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ. اهـ (الدر المصون) .
(2) قال الإمام الفخر الرازي:
والجواب: تأويل الكلام، ثم قال له {كُنْ فَيَكُونُ} فكان.
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك {كُنَّ} فإنه يكون لا محالة. اهـ (مفاتيح الغيب. 8 / 68) .
وجاء في الروض الأنف للسهيلي ما نصه:
تَأْوِيلُ {كُنْ فَيَكُونُ}
ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُمْ لِلنّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمّدُ يَعْنُونَ عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ} إلَى قَوْلِهِ {كُنْ فَيَكُونُ} وَفِيهَا نُكْتَةٌ فَإِنّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ فَيَعْطِفُ بِلَفْظِ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي، وَالْجَوَابُ أَنّ الْفَاءَ تُعْطِي التّعْقِيبَ وَالتّسْبِيبَ فَلَوْ قَالَ فَكَانَ لَمْ تَدُلّ الْفَاءُ إلّا عَلَى التّسْبِيبِ وَأَنّ الْقَوْلَ سَبَبٌ لِلْكَوْنِ فَلَمّا جَاءَ بِلَفْظِ الْحَالِ دَلّ مَعَ التّسْبِيبِ عَلَى اسْتِعْقَابِ الْكَوْنِ لِلْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ مَهَلٍ وَأَنّ قَالَ لَهُ كُنْ فَإِذَا هُوَ كَائِنٌ وَاقْتَضَى لَفْظُ فِعْلَ الْحَالِ كَوْنَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى: إنّ آدَمَ مَكَثَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَهُوَ طِينٌ صَلْصَالٌ وَقَوْلُهُ لِلشّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ يَقْتَضِي التّعْقِيبَ وَقَدْ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَهِيَ سِتّةُ آلَافِ سَنَةٍ فَأَيْنَ قَوْلُهُ كُنْ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا؟
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنّ قَوْلَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ كُنْ يَتَوَجّهُ إلَى الْمَخْلُوقِ مُطْلَقًا وَمُقَيّدًا، فَإِذَا كَانَ مُطْلَقًا كَانَ كَمَا أَرَادَ لِحِينِهِ وَإِذَا كَانَ مُقَيّدًا بِصِفَةِ أَوْ بِزَمَانِ كَانَ كَمَا أَرَادَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الزّمَانِ الّذِي تَقَيّدَ الْأَمْرُ بِهِ فَإِنْ قَالَ لَهُ كُنْ فِي أَلْفِ سَنَةٍ كَانَ فِي أَلْفِ سَنَةٍ وَإِنْ قَالَ لَهُ كُنْ فِيمَا دُونَ اللّحْظَةِ كَانَ كَذَلِكَ. اهـ (الروض الأنف للسهيلي. 3 / 5: 6) .(1/364)
حكمة حذف جواب الشرط
اعترضَ الفادي على صياغةِ قولِه تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) .
وتساءَلَ عن جوابِ " لَمّا " وقال: " أَينَ جوابُ لَمّا؟
ولو حَذَفَ الواوَ التي قبلَ (وَأَوْحَيْنَا) لاستقام المعنى ".
اعتراضُه على حَذْفِ جوابِ " لَمّا ".
واقترحَ على القرآنِ حَذْفَ الواوِ من جملةِ (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) ، لتكونَ هي جوابَ الشرط، فيكونَ التقديرُ: فلما ذهبوا به وأَجْمَعوا أَنْ يَجْعَلوهُ فِي غيابةِ الجُبِّ أَوحينا إِليه!!.
واعتراضُه متهافت، والأَفصحُ والأَبلغُ حذفُ جوابِ الشَّرْط ...
إِنَّ " لَمّا " ظَرْفُ زمان للماضي، يتضمَّنُ مَعْنى الشرط.
وجملةُ (ذَهَبُواْ بِهِ) فعلُ الشرط.
وجملةُ (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) معطوفة عليها.
وجوابُ الشرطِ محذوف، تقديرُه: جَعَلوهُ في غيابةِ الجُبِّ.
وجملةُ (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) استئنافية، ولا تَصْلُحُ أَنْ تكونَ جوابَ الشرط.
فيكون معنى الآية: لما ذَهَبَ الإِخوةُ بأَخيهم الصغيرِ يوسف، وأَجْمَعوا
على التخلُّصِ منه، نَفَّذوا ما أَجْمَعوا عليه، وَوَضَعوه في غيابة الجب.
ولما استقَرَّ الصغيرُ يوسفُ في غيابةِ الجُبِّ واسَيْناهُ وطَمْأَنّاه، وأَوحينا إليه بأنه
سيتجاوزُ تلك المحنة، ويكونُ في وضعٍ مُريح، حيثُ سَيُنَبِّئُهم بأَمرهم هذا وهم لا يشعرونَ به، ولا يتوقَّعونَ أَنْ يكونَ هو.
وقد يكونُ من البلاغةِ ذِكْرُ جوابِ الشرطِ في الجملة، ولكنَّه قد يكونُ
حَذْفُ جوابِ الشرطِ أحياناً هو الأَفصحَ والأَبلغَ.
وبهذا يكونُ اعتراضُ الفادي على حَذْفِ جواب الشرط دليلَ جهلِه وغبائِه.(1/365)
توهم الاضطراب بسبب عودة الضمائر
اعترضَ الفادي على قولِ اللهِ - عز وجل -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) .
ولْنقرأْ ما سَجَّلَه في اعتراضِه وانتقادِه وتخطئتِه.
قال: " وهُنا نَرى اضطراباً في المعنى، بسببِ الالتفات، من خِطابِ محمدٍ إِلى خطابِ غيره.
ولأَنَّ الضميرَ المنصوبَ في قولِه: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) عائدٌ على الرسولِ
المذكورِ آخِراً، وفي قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ) عائدٌ على اسمِ الجَلالةِ المذكورِ أَوَّلاً.
هذا ما يَقتضيهِ المعْنى، وليسَ في اللفظ ما يُعَيِّنُهُ تَعييناً يُزيلُ اللَّبْس.
فإِنْ كَانَ القولُ: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)
عائداً على الرسولِ يكونُ كُفْراً؟
لأَنَّ التَّسبيحَ لله فقط.
وإِنْ كانَ القولُ: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) عائداً على اللهِ يَكونُ كُفْراً؟
لأَنَّه تعالى لا يَحتاجُ لمنْ يُعَزِّرُهُ ويُقَوِّيه.. ".
المشكلةُ عند الفادي في عودةِ الضمائرِ في الأَفعالِ الثلاثة: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) ، لأَنَّ الضمائرَ في الأَفعالِ الثلاثةِ لا بُدَّ أَنْ تَعودَ على
واحِد، إِمّا اللهُ وإِمّا رسولُه، المذكوران في: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... )
فإنْ عادت الضمائرُ الثلاثةُ على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ القرآنُ مُخْطِئاً، لأَنَه يَدعو المؤمنينَ إِلى تسبيحِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وتَسبيحُ البَشَرِ كُفْر ...
وإِنْ عادت الضمائرُ الثلاثةُ على اللهِ كانَ القرآنُ مُخْطِئاً، لأَنه يَدعو إِلى تعزيرِ الله وتوقيرهِ، وهذا كُفْرٌ، لأَنَه يدلُّ على أَنَّ الله يَحتاجُ إِلى تعزيرٍ وتَوقيرٍ واحْتِرام!.(1/366)
وقبلَ حَلِّ المشكلة نَقول: إِنَّ تَعزيرَ اللهِ وتَوقيرَه سبحانه ليسَ كفراً " لأَنَّ
التعزيرَ مَعْناهُ النَّصْرُ والتأييد، والتوقيرَ مَعْناهُ التعظيمُ والإِجلال، وهل نَصرُ الله وتَأييدُه كُفْر؟
وهل تَعظيمُ اللهِ وإِجلالُه كُفْر؟!.
لقد دَعا اللهُ المؤمنين إِلى نَصرَه، ورَبطَ نَصرَهُ لهم بنصرِهم له، فقال
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) .
فهل معنى هذا أَنَّ اللهَ ضَعيفٌ يَحتاجُ إِلى مَنْ يَنصُرُه؟
حاشَ لله.
وهكذا نَفهمُ تَعزيرَ اللهِ وتأييدَه، فهو لا يَحتاجُ إِلى تعزيرِ وتَأييدِ أَحَد، والإِنسانُ هو المستفيدُ عندما يُعَزِّرُ اللهَ ويُؤَيِّدُه ويَنصرُه.
ولقد ذَمَّ اللهُ الكفارَ الذين لم يَقْدُروهُ حَق قَدْرِه.
قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) .
وأَنكرَ نوحٌ - عليه السلام - على قومِه الكافرين عَدَمَ توقيرِ اللهِ.
قال تعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) .
وهذا مَعناهُ أَنَّ توقيرَ اللهِ وتعظيمَه وإِجلالَه واجب.
بعد هذا البيانِ نَقول: للعلماءِ قولان في مَنْ عادَتْ عليه الضَّمائِرُ الثلاثة:
القولُ الاوَّلُ: عادَ الضميرُ الأَوَّل والثاني على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - (تُعَزِّوهُ وَتُوَقِّرُوُه) .
بمعنى نَصْرِه واحترامِه وتوقيرِه وتَقديره.
أَمّا الضميرُ الثالث: (وَتُسَبِّحُوهُ) فإِنَّهُ يَعودُ على الله، لأَنَّ التسبيحَ لا يَكونُ إِلّا لله. فتكونُ الواوُ في (وَتُسَبِّحُوهُ) حرفَ استئناف وليستْ حَرْفَ عَطْف " لأَنَّ (وَتُسَبِّحُوهُ) ليسَ مَعْطوفاً على (وَتُوَقِّرُوُه) ، فالتَّعزيرُ والتوقيرُ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم.
أَمَّا التَّسبيحُ فإِنَّه لله.
القولُ الثاني: الضمائرُ الثلاثةُ تَعودُ على الله: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ، والأَفعالُ الثلاثةُ معطوفةٌ على (لتُؤْمِنُواْ) .
ويكونُ المعْنى دعوةً إِلى الإِيمانِ بالله، وتَعْزيرِه، وتَوقيرِه، وتَسبيحه.
والراجحُ هو القولُ الثاني، فنحنُ مأمورونَ بالإِيمانِ بالله وتعزيرِه وتوقيرِه
وتسبيحِه، على المعْنى الذي ذَكَرْناهُ في التعزيرِ والتوقير.(1/367)
وبهذا يكونُ الفادي جاهلاً عندما ادَّعى اضطرابَ معنى الآية، وخَطَّأَ
تَركيبَها وعودةَ ضمائرِها، وكان جاهلاً عندما ادَّعى أَنَّ توقيرَ اللهِ وتَعْزيرَه كفْر!!.
***
هل صرف القرآن الممنوع من الصرف؟
اعترضَ الفادي على تنوينِ (قَوَارِيَرْا) في قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) .
كما اعترضَ على تنوينِ (سَلَاسِلًا) في قولِه تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) .
يرى الفادي أَنَّ (قَوَارِيَرا) ممنوعةٌ من الصرف، لأَنَّها على وَزْنِ " مَفاعيل "،
مثلُ " مصابيح ".
والممنوعُ من الصرفِ لا يُنَوَّن، إلّا بشروط، لذلك أَخْطَأَ
القرآنُ، في نظر الفادي في تنوين (قَوَارِيَرا) وصَرْفِها، كذلك أَخْطَأَ القرآنُ في
- نظر الفادي - في تنوينِ وصَرْفِ (سَلَاسِلًا) ، مع أَنها ممنوعةٌ من الصَّرْف،
لأَنها على وَزْنِ " مفاعل ".
وتوجيهُ تَنوينِ الكلِمَتَيْن الممنوعتَيْن من الصَّرْفِ " سلاسل " و " قواريرَ "
سهل.
في كلمةِ " سلاسلَ " قراءتان صحيحتان:
الأُولى: قراءةُ نافع والكسائي وأَبي جعفر المدني، وروايةُ أَبي بكرٍ عن
عاصم، وهشام عن ابنِ عامر: " سلاسلاً " بالتنوين.
والكلمةُ مُنَوَّنَةٌ على هذه القراءة، مع أَنها ممنوعةٌ من الصرفِ في
الأَصْلِ، لوقوعِ كلمتَيْن مصروفتَيْن بعدها: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا) ، وحكمةُ تنوينها وصرفها مراعاةُ المزاوجةِ والجوار، ومراعاةُ المزاوجةِ طريقةٌ فصيحةٌ بليغةٌ ملحوظة، ولا تُسَمّى خطأً نحويّاً في اللغةِ والقرآن، كما زَعَمَ الفادي الجاهل!.(1/368)
(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
الثانيةُ: قراءةُ ابنِ كثير وحمزةَ وأَبي عمرو ويعقوب وخلف وروايةُ حفصٍ
عن عاصم: " سَلاسِلَ " بالفتحة فقط.
على أَنه ممنوعٌ من الصَّرْف، لأَنه على صيغةِ منتهى الجموع.
وعليه يكونُ اعتراضُ الفادي الجاهل مَرْدوداً، فالكلمةُ ممنوعَةٌ من
الصَّرْفِ على القراءتين، لكنها مُنَوَّنَةٌ على القراءةِ الأُولى للمزاوجةِ والمجاورة.
وفي كلمةِ قوارير في قوله تعالى: "وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) ثَلاثُ قراءات:
الأُولى: قراءةُ نافع والكسائي: (قَوَارِيرَا) .. (قَوَارِيَرْا) بتنوينِ الكلمتَيْن،
والوقوفِ عليهما بالأَلفِ، اتِّباعاً لرسْمِ المصحف، لأَنَّ الكلمتَيْن مكتوبَتان في
المصحفِ بالأَلِف.
وتوجيهُ هذه القراءةِ أَنَ تنوين " قواريرا " الأُولى ليس صَرْفاً لها، لأَنها
ممنوعةٌ من الصَّرف، وإِنما تنوينُها مراعاةً للفاصلةِ في الآياتِ التي قَبْلَها
وبَعْدَها، حيثُ خُتمتْ آياتُ السورةِ الواحدةُ والثلاثون كلُّها بكلماتٍ مُنَوَّنَة، فمن غيرِ المناسبِ أَنْ تأْتِيَ " قواريرَ " وَحْدَها ممنوعةً من الصَّرْف، وسْطَ ثلاثينَ آيةً مُنَونَة! وهذا من روائعِ التناسقِ في السياقِ القرآني، وليس مَأْخَذاً عليه!
وأَمَّا تَنوينُ (قَوَارِيَرْا) الثانية فلمجاوَرَتِها (قَوَارِيَرْا) الأُولى المنَوَّنَة.
الثانية: قراءةُ ابنِ كثير وخَلَف: (قَوَارِيَرْا) الأُولى بالتنوين.
و (قَوَارِيَرْا) الثانية بالفتحةِ وليسَ بالتنوين.
وحُجَّةُ تَنوينِ الأُولى موافقتُها للفاصلةِ في آيات السورةِ كما قَرَّرْنا، وحُجَّةُ عدمِ تنوينِ الثانيةِ عدمُ الاعتدادِ بالمجاورةِ والمزاوجة، واعتمادُ المنع من الصرف.
الثالثة: قراءةُ أَبي عمرو وابن عامر وحمزة، وروايةُ حفصٍ عن عاصم
بعدمِ التنوينِ في الكلمتين: (قَوَارِيَرْا) ... (قَوَارِيَرْا) .
واعتمادِ القاعدةِ في منعِ الكلمتَيْن من الصرف.
وتقديمِ القاعدةِ النحوية على رؤوس الآياتِ والمجاورةِ.
ولكنهم وقفوا على (قَوَارِيَرْا) الأُولى بالأَلفِ، لأَنها رأسُ آية: (وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا) (1) .
__________
(1) قال الشخ الطاهر ابن عاشور:
وكتب {سلاسلا} في المصحف الإِمامِ في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءته، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا {سَلاسلاً} منوناً في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذ كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين اللذيْن بعده وهما {أغلالاً} و {سعيراً} ، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساءٍ " ارجِعْنَ مَأزورات غير مأجورات " فجعل «مأزورات» مهموزاً وحقه أن يكون بالواو لكنه هُمز لمزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر «فيقال له: لاَ درَيْت ولا تلَيْت» ، وكان الأصل أن يقال: ولا تَلوت.
ومنه قول ابن مُقْبِل أو القَلاَّحُ:
هتَّاكُ أخْبيَةٍ وَلاَّجُ أبْوِبَةٍ ...
يُخَالطُ البِرُّ منه الجِدَّ واللِّينا
فقوله (أبوبة) جمع باب وحقه أن يَقول أبواب.
وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة.
وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل.
واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول {سلاسلْ} في الوقف.
وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منوناً في الوصل.
قرأه البَزي عن ابن كثير وابنُ ذكوان عن ابن عامر وحفصٌ عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها.
فأما الذين لم ينونوا {سلاسلا} في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية.
وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم لرسم المصحف محمولة على أن الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيراً ما تعطى أحكام القوافي والأسجاع.
وبعدُ فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سُنة مَخصوصة به وذكر الطيبي: أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله: {سَلاسلا} بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمَدّ والإِمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر. اهـ
وقال رحمه الله عند قوله تعالى {قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ} ما نصه:
وكتب في المصحف {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا} بألف في آخر كلتا الكلمتين التي هي علامة تنوين.
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {قواريرا} الأول والثاني منونين وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقةِ من قوله {كافوراً} [الإنسان: 5] إلى قوله {تقديرا} وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {سلاسلا وأغلالاً} [الإنسان: 4] .
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب {قوايراً} الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي.
وقرآ {قواريرا} الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون. اهـ (التحرير والتنوير. للطاهر ابن عاشور)(1/369)
بهذا التوجيهِ للقراءاتِ الثَّلاثِ نَعرفُ خَطَأَ وجهلَ الفادي المفترِي في
اعتراضه على القرآن، وأَنه تكلَّمَ بشيء لا يَعرفُ عنه شيئاً، ورحمَ اللهُ امرءًا عَرَفَ قَدْرَ نفسه!.
***
حول تذكير خبر الاسم المؤنث
اعترضَ الفادي الجاهلُ على قولِ اللهِ - عز وجل -: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) .
وقال في اعتراضِه: " لماذا لم يُتْبعْ خَبَرَ " لَعَلَّ " اسْمَها في التأنيث؟
ولماذا لم يَقُلْ: " قَريبة "؟ ".
(السَّاعَةَ) مُؤَنَّثَة، وهي في الآية: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) اسمُ
" لَعَلَّ " منصوب.
و: (قَرِيبٌ) : خَبَرُ " لَعَلَّ " مرفوع.
والإِشكالُ عند الفادي في تَذكير الخبرِ (قَرِيبٌ) مع أَنَّ الاسْمَ
(السَّاعَةَ) مُؤَنَّث، ولا يَجوزُ أَنْ نَقولَ: الساعَةُ قَريب، وإِنما نقولُ: الساعةُ قَريبة، ولذلك أَخْطَأَ القرآنُ - في زَعْمِه - لإِخبارِه عن المَؤنَّثِ بالمذكَّر!.
وفي توجيهِ هذا قولان:
الأَول: (قَرِيبٌ) في الجملة: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) ليسَ خَبَرَ
" لَعَلَّ "، ومن ثم ليس إِخْباراً عن الاسمِ المؤَنَّثِ (السَّاعَةَ) .
وإِنما هو خَبَرٌ لمبتدأ محذوف، تقديرُه: موعد.
فتكونُ جملةً اسميةً من مبتدأ وخبر: موعِدُها قريبِ.
وهذه الجملةُ الاسميةُ في محلِّ رَفْع خَبَرِ " لعلَّ ".
فيكونُ السياقُ هكذا: وما يدريكَ لَعَلَّ الساعةَ موعِدُها قريب.
الثاني: (قَرِيبٌ) في القرآنِ وَصْفٌ لم يَأتِ إِلَّا مُذَكَّراً، فهو وَصْفٌ على
وَزْنِ " فعيل "، لكنَّه بمعنى " فاعِل ": أَيْ: قارِب.
ولذلك جاءَ مُذَكَّراً، سواءٌ كانَ المخبَرُ عنه مُذَكَّراً أَو مُؤَنَّثاً.
ولم تَأتِ صفةُ " قريبة " المؤنثةُ في القرآن.(1/370)
ومن مجيئِه وَصْفاً لمذَكَّرٍ في القرآن قولُه تعالى: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) .
أَيْ: أَلّا إِنَّ نَصْرَ اللهِ موعدُه قريب.
ومن ذلك أَيضاً قولُه تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) .
ومن مجيئِه وَصْفاً لمؤَنَّث، على تقديرِ كلمةٍ محذوفةٍ قولُه تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) .
أَيْ: يكونُ موعدُها قريباً.
ومن ذلك أَيضاً قولُه تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) .
ويمكنُ الجمعُ بين القولينِ بأَنَّه بما أَنَّ (قَرِيبٌ) لم يأْتِ إِلَّا مُذَكَّراً في القرآن.
فهو صفة لموصوفٍ مذكَّرٍ محذوف، هو " موعِد ".
أي: موعدُه قريب.
ولكنَّ الفادي الجاهلَ لا يَعرفُ أُسلوبَ القرآن، ولا مظاهرَ التعجيرِ فيه.
***
هل القرآن يوضح الواضح؟
اتَّهَمَ الفادي القرآنَ بأَنَّه يُوَضِّحُ الواضِحَ، وهذا مَطْعَن فيه، فما الدّاعي
لذلك.
واستشهدَ على ذلكَ بقولِه تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) .
قال: " فلماذا لم يَقُلْ: " تلكَ عشرة " مع حَذْفِ " كامِلَة "، تلافياً لإِيضاحِ الواضح؟
ومَنْ يَظُنُّ أَنَّ العشرةَ تِسْعَة؟! ".
تتحدثُ الآيةُ عن الواجبِ على مَنْ حَجَّ مُتَمتِّعاً، أَيْ يُؤَدّي مناسكَ العمرةِ
من طَوافٍ وسَعْي، ثم يتحلَّل، وَيلبسُ ملابِسَه العادِيّة، ثم يُحرمُ بالحَجِّ يومَ
الثامنِ من ذي الحجة، ويتوجَّهُ مع الحُجّاجِ إِلى عَرَفَة، فهذا يَجِبُ عليه أَنْ
يَذبحَ هَدْياً، فإِنْ لم يَجِدْ ثَمَنَ هَدْي انتقلَ للصيام، بأَنْ يَصومَ في مكةَ ثَلاثةَ
أَيام، وإِذا عادَ إِلى بَلَدِه صامَ سبعةَ أًيام، فيكونُ المجموعُ عشرةَ أَيام، يَصومُها كاملة.(1/371)
قال تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) .
ومعلومٌ أَنَّ ناتجَ الثلاثةِ معَ السبعةِ عشرةٌ، فلماذا قال: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ؟
وهل هذا من بابِ تحصيلِ الحاصلِ وتوضيحِ الواضح؟.
الإِشارةُ في (تِلْكَ) إِلى حاصلِ جَمْعِ الثلاثةِ والسبعة.
والتقديرُ: نتيجةُ جمع الأَيامِ الثلاثةِ والسبعة هي عشرةُ أَيّام.
وحكمةُ ذكْرِ الجملةِ: (تِلْكَ عَشَرَةٌ) ، هي التوكيدُ، ولإِفادةِ تَقريرِ الحكمِ
مَرَّتَيْن: مرةً بالتفريقِ: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) ، ومرةً بالجمع: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) .
وهذا كقولك: كتبتُ بيدي.
فإضافَةُ شبْهِ الجملةِ " بيدي " للتوكيد، لأَنَّ الكتابةَ لا تكونُ إِلّا باليد، فهو يُريدُ التأكيدَ على الكتابةِ الحقيقيةِ الحسية.
ولذكْر الجملةِ حكمةٌ أُخرى، وهي نفيُ التخيير، والتأكيدُ على الإيجابِ
والإلزامِ بصيامِ العشرة أيام، لأَنَّ تَفريقَ الأَيام: ثلاثة وسبعة قَد يَتَوَهَّمُ منه
بعضُهم بأَنَّ المرادَ التخييرُ بين الثلاثةِ والسبعة، فنفت الجملةُ الأَخيرةُ التخيير،
وأَكَّدَتْ على أَنَّ المرادَ هو الإِيجاب، فليست الرخصةُ في إِنْقاصِها عن عشرة، وإِنما الرخصةُ في تفريقها بين ثَلاثَةٍ وسَبعة.
ووصْفُ العشرةِ بأَنها كاملة: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ليسَ من بابِ توضيحِ
الواضح، كما فَهمَ الفادي الجاهل، وإِنما من بابِ الحَثّ على صيامِها كُلِّها
كاملة، وعدمِ إِنقاصِ أَيِّ يومٍ منها، فإِنْ أَنقصَ يوماً منها لم تَكُن العشرةُ
كامِلَة.
فالمرادُ بكَمالِها كَمال صيامِها، وليس كمال عَدِّها، ولن يكونَ عَدُّها
كامِلاً إِلّا أَنْ يكونَ صيامُها كاملاً، فكمال عَدِّها بكمال صيامِها! (1) .
***
هل يأتي فاعلان لفعل واحد؟
اعترضَ الفادي على قول اللهِ وَبَئ: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) .
__________
(1) قال الإمام الفخر الرازي:
أما قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما: أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني: أن قوله: {كَامِلَةٌ} يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال، والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول: أن الواو في قوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وكما في قولهم: جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا، فالله تعالى ذكر قوله: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} إزالة لهذا الوهم النوع.
الثاني: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله: {كَامِلَةٌ} كأنه لو قال: تلك كاملة، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة، أو السبعة المفردة عن الثلاثة، فلا بد في هذا من ذكر العشرة، ثم اعلم أن قوله: {كَامِلَةٌ} يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها: أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها: أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه
وثالثها: أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.
النوع الثالث: أن الله تعالى إذا قال: أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف، فلو قال: ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة، فإذا قال بعده: تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.
النوع الرابع: أن مراتب الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئين، وألوف، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً، وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف، فصار تقدير الكلام: إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب.
النوع الخامس: أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب، كقوله: {ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} [الحج: 46] وقال: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها، وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة.
النوع السادس: في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب، ولم يكونوا أهل حساب، فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب، وهذا كما روي أنه قال في الشهر: هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين، وبالثانية على تسعة وعشرين.
النوع السابع: أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.
النوع الثامن: أن قوله: {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين، فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.
النوع التاسع: أن اللفظ وإن كان خبراً لكن المعنى أمر والتقدير: فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابراً للخلل الواقع في ذلك الحج، الذي يجب أن يكون تاماً كاملاً، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاماً، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً جداً فالظاهر دخول المكلف به في الوجود، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه.
النوع العاشر: أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج، فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى، فلما قال بعده: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص على ما قال تعالى: {الصوم لي} والحج أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص، على ما قال: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى، فالعقل دل أيضاً على ذلك، أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق على النفس جداً، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى، والحج أيضاً عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها، وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته، ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين شيئين شاقين جداً، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعالى صيام هذه الأيام العشرة، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو، فقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال، فكأنه قال: عشرة وأية عشرة، عشرة كاملة، فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين. اهـ (مفاتيح الغيب. 5 / 133 - 135)(1/372)
وفَهِمَ الجاهلُ من الآيةِ اجتماعَ فاعِلَيْن لفعْلِ " أَسَرَّ "، وهما واوُ
الجماعة، واسْمُ الموصولِ (الَّذِينَ) .
واقترحَ على القرآنِ حَذْفَ الواوِ من (أَسَرُّوا) ، والاكتفاءَ باسمِ الموصولِ فاعلاً!.
بدايةً نَقولُ: لا يجُوزُ ورودُ فاعِلَيْنِ لفِعْلٍ واحِد، إِلّا على رأيِ ضَعيفٍ
في اللّغَة، يُسَمّى لغةَ " أَكَلوني البَراغيث ".
والقرآنُ المعجِزُ يُوَجَّهُ إِلى أَقوى اللغاتِ وأَفصحِ الاختيارات، وأَرجحِ الاحتمالات، ويُرْبَأُ به عن اللغاتِ الضعيفةِ، والتَأْويلات المتكَلَّفَة!.
وفي توجيهِ وُقوعِ الموصولِ بعدَ الضميرِ في "وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)
أَقوالٌ عديدة، تَعَرَّضَ لها معظمُ الذين فَسَّروا القرآنَ وأَعْرَبوه.
والراجحُ أَنَّ (الَّذِينَ) في مَحَلّ رفع بَدَلٍ من الضمير الفاعلِ في
(أَسَرُّواْ) .
و (ظَلَمُوا) صلةُ المو صول.
والتقدير: وأَسروا النَّجوى الظالمون.
وبِما أَنّها بَدَلٌ فإِنَّه يُمكنُ ذِكْرُها بَدَلَ الفاعِل، فيصحُّ أَنْ تَقولَ: أَسَرَّ الذينَ
ظَلَموا النجوى.
أَيْ: أَسَرَّ الظالمون النجوى.
واللطيفُ في الآية مجيءُ كلمتَيْنِ بَدَلَيْن من قبلِهما: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) .
فجملةُ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بَدَلٌ من الفاعل.
وجملة (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بَدَلٌ من المفعول به (النَّجْوَى) ولو وَضَعْنا البَدَلَيْنِ مَكانَ المبْدَلِ منهما لكانَ التقدير: وأَسَرَّ الظالمونَ قَوْلَهم: هل هذا إِلّا بشرٌ مثلكم!.
وأنّى للفادي الجاهلِ أَنْ يَتَذَوَّقَ هذا التعبيرَ القرآنيَّ الرائع! ولأَنه عجزَ
عن الارتقاءِ إِلى مستواهُ قامَ بانتقادِه وتخطئتِه (1) .
***
اعتراض على الالتفات:
ْاعترَضَ الفادي الجاهِلُ على قولِ اللهِ - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) .
__________
(1) قال السمين:
قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ}
يجوزُ في محلِّ» الذين «ثلاثةُ أوجهٍ: الرفعُ والنصبُ والجرُّ. فالرفعُ مِنْ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ من واو» أَسَرُّوا «تنبيهاً على اتِّسامهم بالظلمِ الفاحش، وعزاه ابن عطية لسيبويه، وغيره للمبرد.
الثاني: أنه فاعلٌ. والواوُ علامةُ جمعٍ دَلَّتْ على جمعِ الفاعل، كما تَدُلُّ التاءُ على تأنيثه، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون: قاما أخواك. وأنشدوا:
يَلُوْمونني في اشتراء النَّخي ... لِ أهلي فكلُّهُمُ أَلْوَمُ
وقد تقدَّمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [الآية: 71] وإليه ذهب الأخفش وأبو عبيدة. وضعَّف بعضُهم هذه اللغةَ، وبعضُهم حَسَّنها ونسبها لأزد شنوءة، وقد تقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} .
الثالث: أن يكونَ» الذين «مبتدأً، و» أَسَرُّوا «جملةً خبريةً قُدِّمَتْ على المبتدأ، ويُعْزَى للكسائي.
الرابع: أن يكون» الذين «مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ فقيل تقديره: يقولُ الذين. واختاره النحاس قال:» والقول كثيراً ما يُضْمَرُ. ويَدُلُّ عليه قولُه بعد ذلك: {هَلْ هذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . وقيل: تقديرُه: أَسَرَّها الذين ظلموا.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم الذين ظلموا.
السادس: أنه مبتدأٌ. وخبرُه الجملةُ من قوله: {هَلْ هذآ إِلاَّ بَشَرٌ} ولا بُدَّ من إضمار القولِ على هذا القول تقديرُه: الذين ظلموا يقولون: هل هذا إلاَّ بَشَرٌ، والقولُ يُضمر كثيراً.
والنصبُ مِنْ وجهين، أحدُهما: الذمُّ. الثاني: إضمار أعني. والجرُّ من وجهين أيضاً: أحدهما: النعت، والثاني: البدلُ، من «للناس» ، ويعزى هذا للفراءِ وفيه بُعْدٌ.
قوله: {هَلْ هذآ} إلى قوله: {تُبْصِرُونَ} يجوز في هاتَيْن الجملتين الاستفهاميتين أَنْ يكونا في محلِّ نصب بدلاً من «النجوى» ، وأَنْ يكونا في محلِّ نصبٍ بإضمار القول. قالهما الزمخشريُّ، وأَنْ يكونا في محلِّ نصبٍ على أنهما محكيَّتان بالنجوى، لأنها في معنى القولِ. {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل «تَأْتُون» . اهـ (الدر المصون) .(1/373)
قالَ الفادي: " لماذا الْتَفَتَ عن المخاطَب إِلى الغائبِ قبلَ تمامِ المعنى؟
والأَصَحُّ أَنْ يَستمرَّ على خطابِ المخاطب! ".
بَدَأَت الآيةُ بالخطاب: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، والخطابُ
للنّاسِ جميعاً، الذين يَسيرونَ في البَرِّ، ويَسيرونَ في البَحْر، سواء كانوا
مسلمين أَو كافرين.
وعَرضت الآيَةُ مَشْهداً لهم وهم يَركبونَ في السفينةِ في البَحْرِ: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) ، وهذا المشهدُ يشملُ كُلّ الذين فى السفينة، سواء كانوا
مسلمين أَو كافرين.
وخطابُهم من بابِ الامتنانِ عليهم، وذِكْرِ نعمةِ اللهِ عليهم بتَسْييرِهم في
البَرِّ والبَحْر.
ثم انتقلت الآيةُ للإِخبارِ عن الكفارِ، وموقِفِهم من الخَطَرِ والكَرْب:
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
والدليلُ على أَنَّ الكلامَ عن الكفار، في قولِه: "وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)
قولُه في آخر المشهد: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ،
والمؤمنون لا يَفْعلونَ ذلك.
والوقفةُ الآن أَمامَ الجملةِ التي اعترضَ عليها الفادي: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) .(1/374)
الالتفاتُ فيها من المخاطب: (إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إِلى الغائبِ:
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) .
واللطيفُ في صياغةِ الآيةِ أَنَّ أَوَّل جملتَيْن فيها بصيغةِ الخِطاب: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) ، ولعلَّ الخطابَ فيهما دَعوةُ السامعين إلى تَصَوُّرِ المشهدِ وتَخَيُّله واستحضارِه، فإِذا استَحْضَروه وتَخَيَّلوه، جاءَ الكلامُ بصيغةِ الغائب، لأَنَّ السامعين مُراقبونَ مُشاهدونَ، رُواة مُخْبِرون، وجاءَتْ سِتُّ جُمَل للروايةِ والإخبار: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .
والمشهدُ المعروضُ يناسبُه الإِخبارُ بصيغةِ الغائب، وليس الخطابَ المباشر.
واللطيف في الآية أَيْضاً أَنَّ فِعْلَ الشرط جاءَ بصيغةِ الخِطاب: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) ، وجوابَ الشرطِ جاء بصيغةِ الغائِب: (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ.
وهذا مَعناهُ أَنَّ القرآنَ المعجزَ " يُنَوِّعُ " في أَساليبِ تعبيرِه، و " يتفنَّنُ " في
تَصويرِه وتَأَثيرِه (1) .
***
حكمة إفراد الضمير العائد على المثنى
اعترضَ الفادي على عودةِ ضميرٍ مفردٍ على اثْنَيْن مذكورَيْنِ @قَبْلَه.
قال:
جاء في سورة التوبة: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، فلماذا لم
يُثَنِّ الضميرَ العائِدَ على الاثنَيْن، اسمِ الجلالةِ ورسوله، فيقول: " أنْ
يُرْضوهما ".
__________
(1) قال الحافظ السيوطي في المعترك ما نصه:
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) .
والأصل بكم، ونكتةُ العدول عن خطابهم إلى حكاية
حالهم لغيرهم التعجّبُ من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت
تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولاً كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم، بدليل:
((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، فلو كان: وجَرَيْن بكم
للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص.
قلت: ورأيتُ عن بعض السلف في توجيهه عكسَ ذلك، وهو أن الخطاب
أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - قال: ذكر الحديثَ عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل: " وجَرَيْنَ بكم"، لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجَرَيْن بهؤلاء وغيرهم من الخلق، هذه عبارته.
فلله درُّ السلف، ما كان أوقعهم على المعاني اللطيفة التي يَدْأب المتأخرون فيها زماناً طويلاً، ويُفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أنْ يحومُوا حول الحمى.
ومما ذُكر في توجيههم أيضاً أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاكَ
وغلبة الريح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، لم يبق حضورُهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية. اهـ (معترك الأقران في إعجاز القرآن. 1 / 288) .
وقال السمين:
قوله: {وَجَرَيْنَ} يجوز أن يكونَ نسقاً على «كنتم» ، وأن يكونَ حالاً على إضمار «قد» . والضميرُ عائدٌ على «الفلك» ، والمرادُ به هنا الجُمع، وقد تقدَّم أنه مكسرَّ، وأن تغييره تقديريٌّ، فضمَّتُه كضمةِ «بُدْن» ، وأنه ليس باسم جمع، كما زعم الأخفش.
وقوله: {بِهِم} فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة. قال الزمخشري: / «فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح» . وقال ابن عطية: «بهم» خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: {كُنتُمْ فِي الفلك} هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن «انتهى. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] تقديره: أو كذي ظلمات» وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال الشيخ: «والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق» . اهـ (الدر المصون) .(1/375)
تَذُمُّ الآيةُ المنافقين " لأَنَّهم يَحْرِصونَ على إرضاءِ المسلمين، فيحْلفونَ
لهم الأَيْمانَ يَتَبَرَّؤُوُنَ فيها من أَقوالٍ قالوها، وهم يَكْذِبونَ في تلك الأَيْمان،
فترشدُهم الآيةُ إِلى أَنه كانَ الأَوْلى بهم أَن يَحْرِصوا على إِرضاءِ اللهِ ورسولِه.
لفظُ الجلالةِ (اللَّهُ) مبتدأ. و (رَسُولُهُ) معطوفٌ عليه مرفوع.
وأَفعلُ التفضيل: (أَحَقُّ) خبرٌ مرفوع.
والمفَضلُ عليه محذوف، والتقديرُ: منكم.
أيْ: اللهُ ورسولُه أَحَقُّ منكم أَنْ يُرْضوهُما.
والمصدرُ المؤَوَّلُ من (أَنْ يُرْضُوهُ)
في مَحَلِّ رَفْعِ بَدَلٍ من المبتدأ والمعطوفِ عليه.
والتقديرُ: إِرضاءُ اللهِ ورسولِه أَحَقُّ من إِرْضائِكم!.
ويُخَطِّئُ الفادي الآيَةَ لأَنَّ الضميرَ المفْرَدَ " الهاء " في (يُرْضُوهُ) عادَ على
الاثنَيْن: اللهُ ورسولُه.
والأَوْلى عندَه أَنْ يَجيءَ الضميرُ مُثَنّى: " أَنْ يُرْضوهُما ".
أَيْ: اللهُ ورسولُه أَحَقُّ أَنْ يُرْضوهُما.
وكلامُه مَرْدود، وهو دَليلُ جَهْلِه بقواعِدِ اللغةِ العربية، وأَساليبِ البيانِ
فيها.
فالهاءُ في (يُرْضُوهُ) لا يعود على (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ) معاً، وإِنما يَعودُ على
لفظِ الجلالةِ (اللَّهُ) أَوَّلاً، لأَنَّه أَوَّلُ المذكورَيْن، ثم يَعودُ على (ورَسُولُه) بعدَ
ذلك..
على أَنَّ العَطْفَ في (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ) ليسَ من عَطْفِ
الكلمات، وإِنما من عَطْفِ الجُمَل! وهذا هو الأَرْوَع والأَبْلَغ!.
إِنَّ جملةَ (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) جُملَتان في الحقيقة، والتقدير:
اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضوهُ، ورسولُه أَحَقُّ أَنْ يُرْضوهُ.
ولذلك عَبَّر بالضميرِ المفرد (يُرْضُوهُ) ليعودَ على كُلِّ جملةٍ على حِدَة!!.
وهناكَ حِكْمَةٌ أُخْرى للتعبيرِ بالضميرِ المفرد (يُرْضُوهُ) ، وهي الإِشارَةُ إِلى
التفرقةِ بين الإِرضاءَيْن: إِرضاء اللهِ وإِرضاء رسولِه! فإِرضاءُ اللهِ هو الأَساس، وإِرضاءُ الرسولِ متفرِّعٌ عنه وتابعٌ له.
ومن غيرِ المناسبِ التعبيرُ بالضميرِ المثَنْى، العائد على اللهِ ورسولِه، لأَنه(1/376)
يَجمعُ بين الخالقِ والمخلوقِ بضمير تثنيةٍ واحد، وهذا لا يَليقُ بتوحيدِ اللهِ - عز وجل -، ولذلك كانَ التقدير: اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضوهُ، والرَّسولُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضوهُ.
وقد سمعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خطيباً يقول: " مَنْ يُطعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَد، ومَنْ يَعْصهِما فقد غَوى! " فغضبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْه وخاطَبَه قَائِلاً: " بئسَ خَطِيبُ القومِ أَنتَ.
وَيْحَك، أَجَعَلْتَني للهِ نِدّاً؟
قُلْ: ومَنْ يَعْص اللهَ ورسولَه فقد غَوى!! ".
فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - اعترضَ على الخطيبِ عندما عَبَّرَ عن اللهِ ورسولِه بضميرِ التثنية، ودعاهُ إلى التعبير بالاسمِ الظاهرِ لكُلٍّ منهما.
وهذا معنى ذَوقيّ توحيدي، لا يَعرفُه الفادي، الذي تَقومُ عقيدتُه على
المزْج بين الأُلوهيةِ والعبوديةِ في مبدأ التثليث، ولذلك دَعا القرآنُ إِلى التعبيرِ
بضميرِ التثنيةِ الجامعِ بين اللهِ ورسولِه!!.
***
كم قلباً للإنسان؟
اعترضَ الفادي على آيةٍ جمعَتْ قلْبَي امرأَتَيْن، وعَنْوَنَ لاعتراضِه بقولِه:
" أَتى باسم جَمْعٍ بَدَلَ المثَنّى ".
ومما جاءَ في اعتراضِه قولُه: " جاء في سورةِ التحريم: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، والخطابُ (كما يقولُ البيضاوي) موجَّهٌ لحفصةَ وعائشة.
فلماذا لم يَقُلْ: " صَغت قَلْباكما "، بَدَلَ (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، إذ إِنَّه ليسَ للاثنتَيْن أَكثرُ من قَلْبَيْن؟ ".ْ
تَتحدَّثُ الآياتُ عن مشكلةٍ وَقَعَتْ بينَ ثلاثةٍ من أُمَّهاتِ المؤمنين، هُنَ:
حفصةُ وعائشةُ وزينبُ رضي الله عنهن، حيث تآمَرَتْ حفصةُ وعائشةُ على زينب، وأَشاعَتا حديثاً لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهدَّدَهما اللهُ بالعقاب، ودَعاهما إلى المسارعةِ إِلى التوبة.(1/377)
قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) .
والذي أَثارَ اعتراضَ الفادي إِسنادُ القلوبِ للاثنَتَيْن: حفصةَ وعائشةَ رعِيهنما: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) .
وإذا كان لكلِّ واحدةٍ قلبٌ واحد، فكان المتوقَّعُ أَنْ يُعَبِّرَ بالمثنى، فيقول: فقد صَغَا قَلْباكما! ولذلك خَطَّأَ الفادي القرآن؟
لأَنه ذَكَرَ الجمعَ بَدَلَ المثَنّى!.
وحكمةُ العُدول عن المثنى إلى الجمع: (قُلُوُبكُمَا) هي الرغبةُ في
التخفيف والتسهيل، وكراهةُ اجتماعِ مُثَنَّيَيْن، فلو قالَ: " قلباكما " لاجتمعَ مُثَنَّيان: الاسْمُ البارزُ " قَلْبا "، وضميرُ التثنيةِ ص المضافُ إِليه " كُما ".
والكلمةُ ثَقيلةٌ في النطق، وثَقيلةٌ على الأُذُن، فَعَدَلَ إِلى الجَمْع (قُلُوبُكُمَا) طَلَباً للخِفَّة.
والقاعدةُ النحويةُ تُقَرِّرُ أَنه إِذا أُضيفَ المثَنَّى إِلى المثَنّى، فإِنَّ المثَنى
الأَوَّلَ المضافَ يَصيرُ جَمْعاً للتخفيف: تقول: قلوبُكما، بَدَل: قَلْباكُما.
وتقول: بيوتُكُما، بَدَل: بَيْتاكُما، وتقول: رؤوسُكما، بَدَل: رأَساكُما!!.
ثم إِنَّ المرادَ بالجَمْعِ (قُلُوُبكُمَا) المثنى، لأَنَّ صيغةَ الجمعِ قد تُطْلَقُ على
الاثنين، لأَنَّ أَقَل الجمع اثْنان!.
وعندما يَقرأُ القارئُ قولَ الله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) علم
أَنَّ المرادَ قَلْبان وليسَ قُلوباً، لأَنَّ الخِطابَ لاثنَتَيْن، وبذلك أُمِنَ اللَّبسُ.
وهذه المعاني لا يَعرفُها الفادي الجاهلُ في اللغة، ولذلك اعترضَ على
القرآنِ في استعمالِه الأَفصحَ والأَبلغَ (1) .
__________
(1) قال السمين:
قوله: {أَيْدِيَهُمَا} جمعٌ واقعٌ موقعَ التثنيةِ لأمْنِ اللَّبْس، لأنه معلومٌ أنه يُقْطَعُ مِنْ كلِّ سارقٍ يمينه، فهو من باب {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، ويدل على ذلك قراءةُ عبد الله: «فاقطعوا أيمانَهما» واشترط النحويون في وقوعِ الجمع موقعَ التثنية شروطاً، ومن جملتها: ان يكون ذلك الجزءُ المضافُ مفرداً من صاحبِه نحو: «قلوبكما» و «رؤوس الكبشين» لأمن الإِلباس بخلافِ العينين واليدين والرجلين، لو قلت: «فَقَأْتُ أعينَهما» وأنت تعني عينيهما، و «كَتَّفْتُ أيديَهما» وأنت تعني «يديهما» لم يَجُزْ لِلَّبْسِ، فلولا أنَّ الدليل دَلَّ على أن المراد اليدان اليمنيان لَما ساعَ ذلك، وهذا مستفيضٌ في لسانهم - أعني وقوعَ الجمعِ موقعَ التثنيةِ بشروطِه - قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] .
وَلْنذكر المسألةَ فنقول: كلُّ جزأين أضيفا إلى كُلَّيْهما لفظاً أو تقديراً وكانا مفردَيْنِ من صاحبيهما جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ: الأحسنُ الجمعُ، ويليه الإِفرادُ عند بعضِهم، وليله التثنيةُ، وقال بعضُهم: الأحسنُ الجمعُ ثم التثينةُ ثم الإِفرادُ نحو: «قَطَعْتُ رؤوسَ الكبشين ورأسَ الكبشين ورأسَيْ الكبشين» ، قال:
1726- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ ... ظهراهُما مثلُ ظهورِ التُّرْسَيْنْ
فقولي: «جزآن» تَحَرُّزٌ من الشين المنفصلين، لو قلت: قبضت دارهمكما «تعني: دِرْهميكما لم يَجُزْ لِلَّبْس، فلو أُمِنَ جاز كقوله: اضرباه باسيافِكما» «إلى مضاجعكما» وقولنا «أُضيفا» تحرُّزٌ من تفرُّقهما كقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78] ، وقولنا «لفظاً مثالُه: فإنَّ الإِضافةَ فيه لفظيةٌ.
وقولُنا» أو تقديراً «نحو قوله:
1727- رأيت بني البكري في حومة الوغى ... كاغِرَي الأفواهِ عند عَرِين
فإنَّ تقديره: كفاغري أفواهما. وقولنا «مفردين» تحرزٌ من العينين ونحوهما: إنما اختير الجمع على التثنية وإن كانت الأصل لاستثقال توالي تثنيتين، وكان الجمعُ أولى من المفرد لمشاركةِ التثنيةِ في الضم، وبعده المفردُ لعدم الثقل، هذا عند بعضِهم قال: «لأنَّ التثنيةَ لم تَرِدْ إلا ضرورةً كقوله:
1728- هما نَفَثا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما ... على النابحِ العاوي أشدَّ رِجامِ
بخلافِ الإِفراد فإنه وَرَدَ في فصيحِ الكلامِ، ومنه:» مَسَح أذنيه ظاهرَهما وباطنَهما «. وقال بعضُهم:» الأَحسنُ الجمعُ ثم التثنيةُ ثم الإِفراد كقوله:
1729- حمامةَ بطنِ الواديَيْن تَرَنَّمي ... سَقاكِ من الغُرَِّ الغوادِي مطيرُها
وقال الزمخشري: «أيديهما: يديهما، ونحوه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكتفى بتثنيةِ المضاف إليه عن تثنيةِ المضاف، وأريد باليدين اليُمْنَيان، بدليلِ قراءة عبد الله:» والسارقون والسارقات فقطعوا أَيْمانهم «وردَّ عليه الشيخ بأنهما ليسا بشيئين، فإنَّ النوعَ الأول مطردٌ فيه وضعُ الجمعِ موضعَ التثينةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا ينقاس، لأن المتبادَرَ إلى الذهن من قولك:» قَطَعْتُ آذانَ الزيدين: أربعة الآذان «وهذا الردُّ ليس بشيءٍ لأنَّ الدليلَ دَلَّ على أن المراد اليمنيان. اهـ (الدر المصون) .(1/378)
الفصل السادس نقض المطاعن التشريعية(1/379)
لماذا قطع يد السارق؟
أَمَرَ اللهُ بقطْعِ يدِ السارقِ والسارقةِ بشروطٍ خاصَّة.
قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) .
وقد اعترضَ الفادي على حُكْمِ اللهِ، لأَنَّه يُؤَدّي إِلى إِصابةِ الإِنسانِ
بالإِعاقةِ والبِطالة، قال: " ونحنُ نَسأل: إِذا كانَ القرآنُ وَضَعَ شريعةَ قَطْعِ يَدِ السارق، خِلافاً لكلِّ الشرائعِ السماويةِ والوضعية، أَلا يسيءُ هذا إِلى
الإِنسانية؟
ويجعلُ أَصحابَ الأَيْدي المقطوعة، حتى بعدَ توبتِهم، عالَةً على
المجتمع، يَعيشونَ فيه بمرارةٍ ناقِمينَ عليه؟
إِنَّ قَطْعَ يَدِ السارقِ يَحرمُه من العمل، وكسبِ رزْقِهِ بعَرَقِ جَبينِه..
وجاءَ في كِتاب " الملل والنحل "
للشهرستاني أَنْ قَطْعَ يَدِ السارقِ عُقوبةٌ جاهلية، فلماذا شَرَعَ محمدٌ عوائِدَ
الوَثَنِيّين الذميمةَ في دينهِ؟ ".
واعتراضُ الفادي متهافتٌ مَرْدودٌ عليه، وإِنه يتطوَّعُ للدِّفاعِ عن السارق،
الذي يَظلمُ ويَطْغى، ويَسرقُ ويَتَعَدّى، ويأخُذُ غيرَ حَقِّه، ويَتركُ المسروقين
المظلومين، الذينَ ذَهبَتْ أَموالُهم، وضاعَتْ جُهودُهم، وتلاشَتْ أَعمالُهم!!
إِنهم قد عَمِلوا واجْتَهدوا، وتَعِبوا وكَدّوا، حتى حَصلوا أَموالَهم، ثم جاءَهم
رجلٌ كَسولٌ ظالم، لا يَملكُ إِلّا العُدوان، فأَخَذَ ما تَعِبوا به، وتَمَلَّكَه في
لَحظة! فماذا يُقَدِّمُ الفادي المعترضُ لهؤلاء؟.
وبماذا يُعاقِبُ الفادي هذا السارق، الذي اعْتَدى على غَيْرِه، وأَخَذَ ما لا
يَحِلُّ له، وبذلك صارَ عالةً على العاملين المجتَهِدين، يأخُذُ ثمرةَ كَدِّهم.(1/381)
لقد اكتفى الفادي بتخطئةِ القرآنِ الذي أَمَرَ بقَطْعِ يَدِه، ولم يَذْكُرْ لنا العقوبةَ الإِنسانيةَ الرحيمةَ الرقيقةَ التي تتفقُ مع الرأفةِ والرِّقَّة، إلّا إذا كانَ الفادي يَرى أَنْ لا يُعاقَبَ السارقُ مطلقاً، لأَنَّ عِقابَه لا يَتفقُ معَ إِنسانيةِ الإِنسان، أَمّا قِيامُه بالسرقةِ والاعتداء على الآخرينَ فلا شيءَ فيه!!.
إِنَّ قَطْعَ يَدِ السارق تأديبٌ له، فاللهُ هو الذي مَنَحَهُ اليَدَ ليكسبَ بها
ويَعتاشَ ويرتزق، ولكنَه حَوَّلَها إِلى أَداةٍ للعدوان، فناسَبَ أَنْ تُقْطَع، وأَنْ تُزالَ القُوَّةُ الباغيةُ التي يَعْتَدُّ بها، ويَعْتَدي بها على الآخَرين، وهو الذي أَساءَ لنفسِه وليدِه، وهو الذي عَطَّلَها عن مهمتِها الإِيجابية، وحَولَها إِلى وسيلةٍ تخريبية، ولذلك أَدَّبَهُ اللهُ بقَطْعِها.
وإِنَّ قَطْعَ يَدِ السارقِ ليس حُكْماً بشرِيّاً قابِلاً للخَطَأ والصواب، والتَّغييرِ
والتَّبديل، وإِنما هو حُكْمُ الله، الذي أَنزلَه اللهُ للتنفيذ، والذي لا يَقْبَلُ التبديل، ولا يَعْتَريه الخطأ، ولا يَقِفُ أَمامَه اعتراضٌ أَو تخطئةٌ أَو اقتراح " لأَنَّ كُلَّ مسلمٍ يوقِنُ أَنَّ ما أَمَرَ اللهُ بِه فهو الحَقّ، وما حَكَمَ به فهو الصّواب! واللهُ الحكيمُ الذي خَلَقَ الإِنسانَ يَعلمُ ما يُصلحُه فأَمَرَ به، ويَعلمُ ما يُفسِدُه فنَهى عنه! ولعله لأَجْلِ هذا خُتِصَتْ آيَةُ الأَمْرِ بقطْعِ يَدِ السارقِ بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
ونقولُ للفادي الجاهل: أَأَنْتَ أَعلمُ أَم الله؟!.
أَمّا زَعْمُ الفادي المفترِي أَنَّ قَطْعَ يَدِ السارقِ عُقوبةٌ جاهلية، وإِحالَتُه على
كتابِ الشهرستانيِّ لنُصَدّقَه، فهذا زُعْمٌ باطل، وافتراءٌ مردود، فلم يكن العربُ الجاهليّون يُعاقبونَ السارقَ أَصْلاً، فَضلاً عَنْ أَنْ يَقْطَعوا يَدَه! ولأَنَّ الفادي صاحِبُ هَوى، فإِنَّه يَبحثُ في كتبنا الإِسلاميةِ عن قولٍ يُوافِقُ هَواه وكَذِبَه، فإِن وَجَدَه سَجَّلَه وفَرِحَ به، كما فَعَلَ مع القولِ الذي نَسَبَه للشهرستاني، ولا يُهِمه إِنْ كانَ صحيحاً أَو باطلاً!.
إنَّ قَطْعَ يَدِ السارقِ عُقوبةٌ إسلامية مُتَمَيِّزَة، تَفَرَّدَ بها الإِسلام، فلم تَرِدْ في
غيرِه منَ المبادئ السماويةِ أَو الأَرضية، وهي حَقٌّ وصَوابٌ لأَنَها من عندِ الله (1) (2) .
__________
(1) الإسلام لا يقطع إلا اليد الخبيثة؛ لأن بقاءها يؤدي إلى هلاك المجتمع.
واليد في الإسلام على أربعة أنواع
اليد العاملة يكرمها، واليد العاطلة يعلمها، واليد العاجزة يطعمها، واليد العابثة يقطعها.
مصادر الكسب
لم يعرف الإسلام عيش أطيب من عمل اليد.
قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ما أكل ابن آدم طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده. "وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
وذكر سيدنا داود بالذات (مع أن معظم الأنبياء كانت تأكل من عمل يدها) لأن داود عليه السلام كان نبياً وملكاً وصانعاً. قال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(سورة سبأ)
ويفهم من الآية الكريمة حرص الإسلام على دقة الصناعات وإتقانها فالدروع التي يصنعها سابغات.
ولابد أن يقدِّر في سرد الحديد فلا يقطع قطعة بدون حساب وتقدير.
إنَّ دقَّةَ العمل وإتقانَه مطلبٌ من مطالب الإسلام الأولى. لأن الله يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يتقنَه.
وعملُ اليد في الإسلام هو أطهر رزق.
وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الكسب أفضل؟
قال عمل الرجل بيده. وكل بيع مبرور.
لأن التاجرَ الصدوق مع النبيين والصدقيين.
وقد كان النبي يفتش في الأسواق بنفسه ليكرَّم التاجرَ الصدوق ويتوعد الكذاب الغشاش.
إن عمل الرجل علامة على إسلامه. ودليل على استحقاقه شرف الخلافة التي تمنَّتْهُ الملائكة.
* * *
وقد كرّم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليدَ العاملة.
فعندما دخل رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدَّ النبيُّ يدَه ليصافح الرجل فاعتذر الرجل لخشونة يديه من أثر العمل. ولكن النبيَّ الكريم أخذ يدَ الرجلِ وقال له: هذه يدٌ يحبُّها اللهُ ورسولُه.
وأخبر النبيُّ العظيمُ أنه مَنْ باتَ كالاًّ مِن عمل يده.... بات مغفوراً له.
* * *
ويكره التسول
وبمقدار تكريم الإسلام لليد العاملة بمقدار ما يكره التسول "مهما كانت صور التسول" لأن التسول تطفل على أموال العاملين.
لقد جيء برجل ميت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه فقال النبي الكريم:
كم ترك؟ قالوا: دينارين أو ثلاثة.
قال: ترك كيَّتين أو ثلاث كيَّات "أي بالنار"
والسبب أن الرجل كان متسولاً وعنده من المال ما يكفيه.
* * *
هذا وللإمام الحقُّ أن يصادر أموالَ المتسولين إذا استزادوا بالتسول لمجرد شهوة الجمع.
وقد مرَّ عمر بن الخطاب على رجلٍ متسولٍ فقال له عمر: ماذا تحت ثيابك؟
فلما رآه خُبزاً أمر بمصادرة الخُبز وإعطائه لخيل المسلمين.
* * *
إنَّ اليدَ العاطلة يكرهها الإسلام مهما كان السبب ولو كان السبب هو التفرغ للعبادة.
وعندما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاب يواصل صلاته في المسجد وأخوه ينفق عليه قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -:
"أخوه أفضل منه".
ولم يكتفِ الإسلامُ بالعلاج السلبي للمشكلة فعندما جاء رجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة (وفيه قدرة على العمل) أحضر له النبي "فأساً" وصنع النبي لها يداً وقال له:
"خذ هذه الفأسَ واحتطب خمسة عشر يوماً لا أراك فيها".
ثم جاء الرجل ومعه من المال ما يسَّر الله به من بيع الحطب. لقد أصبح طاقة منتجة، وعضواً نافعاً. بعد إن كان طفيلياً يأكل سُحْتاً.
إنَّ السؤالَ لا يحل للرجل إلا في أمور ثلاثة "كما بين النبي الكريم"
* رجل تحمل حمَّالة "أي غُرما في صلح بين اثنين" فتحل له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك.
* ورجل أصابته جائحة اجتاحت مالَه فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش.
* ورجل أصابته فاقةٌ فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش.
فما سواهن "يا قبيصة" فَسُحْتٌ يأكلها صاحبها سُحْتاً". اهـ (المال في القرآن. للشيخ محمود غريب. ص: 53 - 60) . بتصرف يسير.
***
(2) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
- حد السرقة
الرد على الشبهة:
إن النظام الإسلامى كلٌ متكامل، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر فى طبيعة النظام وأصوله ومبادئه، كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملاً ويعمل به جملة واحدة هذا بصفة عامة.
أما بالنسبة لحد السرقة:
فإن الإسلام يقرر حق كل فرد فى الحياة وحقه فى كل الوسائل لحفظ حياته، ومن حق كل إنسان أن يحصل على هذه الوسائل:
أولاً عن طريق العمل مادام قادراً على العمل، فإن لم يستطع أن يحصِّل أسباب الحياة فعلى المجتمع المسلم أن يوفر له ما يحفظ حياته أولاً من النفقة التى تفرض له شرعاً على القادرين فى أسرته.
ثانياً على القادرين من أهل محلته.
ثالثاً من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له فى الزكاة فى نظام تكافلى للرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعى.
والإسلام كذلك يتشدد فى تحديد وسائل جمع المال فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا على حلال، ومن ثم لا تثير الملكية الفردية فى المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون حيث يمكن لكل أحد أن يصبح غنيًّا بالوسائل المشروعة المتاحة والسوق التنافسية الشريفة. والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم، فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب لا إلى السرقة، وبذلك يحفظ مصالح الفرد والمجتمع معاً.
إذن فلماذا يسرق السارق فى ظل هذا النظام؟
إنه لا يسرق إلا للطمع فى الثراء من غير طريق العمل، والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذى يروع الجماعة المسلمة فى دار الإسلام، ويحرمها الطمأنينة التى من حقها أن تستمتع بها، ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال.
فإذا سرق إنسان بعد هذا فإنه لا يسرق وله عذر، ولا ينبغى لأحد أن يرأف به متى ثبت عليه الجريمة وأحيل أمره إلى النظام.
ونفس الإنسان فطرت على حب المال ولعل هذا هو الذى يدفع معظم الناس إلى العمل والكد. والإسلام دائماً يقوّم دوافع النفس حتى تنضبط إما بالترغيب أو بالترهيب. من هنا حض الإسلام على الكسب الحلال ورغّب فيه ورهّب من السرقة بهذه العقوبة، حتى يستقيم المجتمع بما فيه من بار وفاجر. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن الله ليدع بالسلطان ما لا يدع بالقرآن] .
ولما كان قطع يد السارق يفضحه ويسمه بسمة السرقة ويطلع الناس على ما كان منه. فقد أقام الإسلام حراسة على من يتهم بالسرقة، فلا تقطع يده مع وجود شبهة فى أنه سرق كما لا تقطع يده فى الشىء المسروق إذا كان تافهاً لا يعتد به، أو كان فى غير حرز بل إن السارق فى تلك الحالة يعزر بالضرب أو الحبس، ولا تقطع يده.
ومن تلك الضوابط التى وضعتها الشريعة لإقامة حد القطع على السارق:
أولاً: أن يكون المسروق شيئاً ذا قيمة أى أن له اعتباراً اقتصاديٍّا فى حياة الناس. عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: [تقطع اليد ـ أى يد السارق ـ بربع دينار فصاعداً] (1) .
ثانياً: أن يكون المسروق محروزاً، أى محفوظاً فى حرز.
ثالثاً: أن ما أخذ للأكل بالفم من التمر فهذا لا قطع فيه ولا تعزير.
رابعاً: السرقة فى أوقات المجاعات لا قطع فيها ولذلك أبطل عمر ـ رضى الله عنه ـ القطع فى عام الرمادة حينما عمت المجاعة.
خامساً: العبد إذا سرق شىء ينظر هل سيده يطعمه أم لا؟ فإن كان لا، غرم سيده ضعف ثمن المسروق كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى غلمان ابن حاطب بن أبى بلتعة حينما سرقوا ناقة رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديباً له.
والقاعدة أن الحدود تُدْرَء بالشبهات.
وهكذا ينبغى أن تفهم حدود الإسلام فى ظل نظامه المتكامل الذى يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة.
فالحدود تمنع من وقوع الجريمة ولذلك نرى على مر التاريخ الإسلامى وعلى مساحة واسعة من بلاد المسلمين أن حد السرقة لم يطبق إلا فى أضيق الحدود وبعدد محدود جداً لا يتجاوز العشرات مع كل هذه الملايين من البشر حيث استقر فى وجدان المسلمين أن السرقة جريمة من الجرائم السيئة التى تهدد الأمن الاجتماعى والمجتمع فى ذاته بحيث تستحق مثل هذه العقوبة البدنية التى تشبه عقوبة الإعدام وعلى قدر عظم الذنب والجرم يكون عظم العقاب.
وبعض المعاصرين ينطلقون من نموذج معرفى آخر يقدم بدن الإنسان فى ذاته بغض النظر عن أفعاله وجرائمه. وقد خفى عليهم كل هدى سليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. اهـ (شبهات المشككين)(1/382)
معنى قوله تعالى: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)
اعْترضَ الفادي على حُكْمِ شَرْعيٍّ يَتعلّقُ بالطلاق، فللرجلِ على امرأَتِه أَنْ
يُطَلِّقَها ثلاثَ طَلْقات، فإِنْ طَلقًها الطلقةَ الثالثةَ حَرُمَتْ عليه، ولا تَحِلُّ له إِلّا
بعدَ أَنْ يَتزوَّجَها رجلٌ آخَر، ويُطَلِّقَها إِنْ شاء! وقد وردَ هذا الحُكمُ صَريحاً في
قَولِ اللهِ - عز وجل -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) .
وذَكَرَ الفادي خَبَراً عن البيضاويِّ يُعتبرُ سَبَباً في نزولِ الآية، وقد وَرَدَ
هذا الخبرُ في الصحيحَيْن.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: تَزَوَّجَ
رفاعَةُ القرظيُّ امرأة، ثم طًّلقَها، فتزوَّجَ آخَر، فأَتَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتْ أَنه لا يَأتيها، وأَنه ليسَ معه إلّا مثْلُ هُدْبَةِ الثوب! فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: (لا، حَتّى تَذوقي عُسَيْلَتَه ويَذوقَ عُسَيْلَتَك ".
ومعنى الحديثِ أَنَّ رفاعةَ القرظيَّ طَلَّقَ امرأَتَه ثَلاثَ تَطليقات، وبذلك
حَرُمَتْ عليه، فتزوَّجَتْ رَجُلاً اَخر - هو عبدُ الرحمن بنُ الزبيرِ في بعضِ الروايات -
وكان مُصاباً بالعَجْز الجِنْسِيّ، وذَكَرُهُ مُتَراخٍ كقطعةِ القِماش، فلم يُعاشِرْها،
فأَرادَتْ أَنْ تَعودَ لزوجها الأَوَّل، وأخبرتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فمنعَ ذلك إِلّا بَعْدَ أَنْ يُعاشِرَها زوجُها الثاني، وعَبَّرَ عن الجِماعِ بذَوْقِ العُسَيْلَة.
ودَلَّ هذا على اشتراطِ جِماعِ الزوجِ الثاني لها، حتى تَعودَ إِلى زَوْجِها الأَوَّل: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) .
واعترضَ الفادي على الحُكْمِ الذي تُقَرّرُه الآية.
قال: " وكثيراً ما تكونُ امرأةٌ، لها زَوْجٌ عظيم، وأَولادٌ وبنات، هم سادَةُ مجتمعهم، وفي حالةِ غَضَبٍ يُطَلِّقُها زوجُها، ثم يَنْدَمُ على ما فَعَلَ، فإِذا الشرعُ القرآنى يُلْزِمُ هذه السيدةَ أَنْ تُجامعَ غيرَ زوجِها قبلَ أَنْ تَعودَ إِليه! ".(1/383)
إِنَّ الفادي يَرفضُ الطلاقَ ويُحارِبُه ويُنكرهُ، ويُخَظَئُ القرآنَ لأَنه أَباحَه،
وهو يَعتبرُ زواجَ المرأةِ المطَلَّقَةِ بزوجٍ آخَرَ جَريمة.
وانظرْ إلى عبارتِه البذيئةِ الوقحة، التي يعتبرُ فيها الزواجَ الثانيَ لها زِنى،
ويَعتبرُ زوجَها الثاني زانياً، وهي زانية، ويَعتبرُ القرآنَ داعياً إِلى الزنى! " فإِذا
الشرعُ القرآنيُّ يُلزِمُ هذه السيدةَ أَنْ تُجامِعَ غيرَ زوجِها قبلَ أَنْ تَعودَ إِليه! ".
اللهُ يَقولُ: (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ، والنِّكاحُ هو عقْدُ
الزواج، وما يَترتَّبُ عليه من جِماعٍ ومعاشرةٍ زوجيَّة، فلا بُدَّ لزوجِها الثاني من أَنْ يُجامعَها حتى تَعودَ لزوجها الأَوَّل، كما صَرَّحَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لامرأةِ رِفاعَة.
وحَرَّفَ الفادي المحَرّفُ المجرمُ الجملة القرآنية إلى قوله: " يُلزم القرآن
هذه السيدةَ أَنْ تُجامِعَ غيرَ زوجها "! فهو يَعتبرُ إِتيانَ الرجلِ الثاني لها مُجَرَّدَ
جِماع، والجِماعُ بدونِ زَواجٍ هو الزّنَى بعينِه!! فالقرآنُ في نَظَرِ الفادي الفاجرِ يَدْعو إِلى الزنى والفجور!!.
واللهُ حكيمٌ في تشريعِه الطَّلاق، وفي تحديدِ الأَحكامِ المترتبةِ على كُلّ
طَلْقَة، وحُكْمُه صحيحٌ وصَوابٌ في تحريمِ الزوجةِ على زوجِها بعدَ الطلقةِ الثالثة، وبَعْدَما تنتهي عِدَّتُها منه تكونُ هي بالخَيار، فإنْ تَقَدَّمَ لها رَجلٌ اَخرُ جازَ أَنْ تتزوَّجَه، ولا بُدَّ أَنْ ينكحَها ويُعاشِرَها ويُجامعَها، وغالباً قد لا يُطَلّقُها، فإِنْ بَدا له أَنْ يُطَلِّقَها، فإِنه يَجوزُ أَنْ يَتزوَّجَها زوجُها الأَوَّل، بعد انقضاءِ عِدَّتِها من زواجِها الثاني! وليس في هذه الأَحكامِ القرآنيةِ عيبٌ أَو ذَمٌّ أَو خَطَأٌ واعتراض!!.
***
حول شهادة المرأة وضربها وميراثها
اعترضَ الفادي على القرآنِ في حديثِه عن المرأة، من حيثُ شهادتُها
وميراثُها وإِباحةُ ضَرْبِها، وجَعَلَ عنوانَ اعتراضِه: " هَضْمُ حقوقِ المرأةِ في
المعاملةِ الزوجيةِ والشهادةِ والميراث ".(1/384)
قالَ عن إِباحةِ ضَرْبِ المرأةِ في القرآن: " جاء في سورةِ النساء: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) .
فلماذا يُقَنّنُ القرآنُ للرجلِ أَنْ يَضْرِبَ زوجَتَه؟! ".
يَرفضُ الفادي إِباحةَ ضربِ المرأة، ويعتبرُ هذا الضربَ اعتداءً عليها،
ويُخَطّى القرآنَ في ذلك!!.
إِنَّ الآيةَ تتحدَّثُ عن وسائلَ ناجعةٍ لعِلاجِ المرأة، عند ظهورِ بداياتِ
النشوزِ والتمردِ عندها، وقبلَ أَنْ يَستفحلَ النُّشوزُ عندَها، وتُعلنَ تَمَرُّدَها.
وهذا لا يُصيبُ كُلَّ الزوجاتِ، إِنما يُصيبُ بَعْضَهن، ومعظمُ الزوجاتِ المسلمات ملتزماتٌ بأَحكامِ الشرع، تَعرِفُ الواحدةُ منهنَّ واجِبَها فتؤَدّيه، وتَعرفُ حَقَّهَا على زوجِها فتأْخُذُه، فالآيةُ لا تضعُ تشريعاً لكلِّ الزوجات، وإِنما للنسبةِ القليلةِ الناشزةِ منهن!.
وتُرشدُ الآيةُ زوْجَ الناشزِ إِلى اتخاذِ ثَلاثِ خُطواتٍ مُتدرجة، فإِنْ تَمَّ
العِلاجُ في الأُولى فَبِهَا ونعْمَتْ، وإِلّا انتقلَ للثانية، والثالثةُ آخِرُ الخَيارات:
(فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) .
الخطوةُ الأُولى: وَعْظُ الزوجة، وتَذْكيرُها بالله، وتَحذيرُها من عاقبةِ
نُشوزِها.
الخطوةُ الثانية: هَجْرُها في المضجَع، بأَنْ يتوقَّفَ عن معاشرتِها.
الخطوةُ الثالثة: ضربُها تأديباً لها، وقد يكونُ عندَ بعضِ النساءِ انحرافٌ
نفسيٌّ أَو سلوكي، ولا يُقَوَّمُ هذا الانحرافُ إِلّا بضرْبها ضَرْباً خَفيفاً، واللهُ الذي خَلَقَ النساءَ يَعلمُ ذلك من بعضهن، فشرعَ ضَرْبَها الخَفيفَ لتقويمِ ذلك الانحراف.
وعندَ الاضطرارِ إِلى اللجوءِ إِلى الخطوةِ الثالثةِ فإِنَّ الإِسلامَ يَدْعو الزوجَ
إِلى أَنْ يكونَ الضَّرْبُ خَفيفاً غيْرَ مُبَرِّح، وأَنْ لا يتركَ آثاراً على الوْجهِ أَو البَدَن(1/385)
وأَن لا يكون أمامَ الآخَرين، وأَنْ لا يَقترنَ بالسَّبِّ والشتْمِ والذَّمِّ والتقبيح، وأَنْ لا يَكونَ دائماً مُتَواصِلاً، وإِنما في حالات استثنائيةٍ نادرة!.
وقالَ الفادي في اعتراضِه على حديثِ القرآنِ في شهادةِ المرأة: " وجاءَ
في سورةِ البقرة: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
فلماذا تكونُ شهادةُ امرأَتَيْن بشهادةِ رجلِ واحد، مع أَنها في أَحيانٍ كثيرةٍ
قد تَفوقُ رَجُلَها في العقلِ والثقافةِ والشخصيةِ " (1) .
ليست الشهادةُ في الآيةِ مُطْلَقَة، وِإنما هي شهادَةٌ مُقَيَّدَة، متعلقة بموضوع
الآيَة، وهو الكلامُ على " الدَّيْنِ " وكيفيةِ كتابتِه وإِقرارِه والشهادةِ عليه.
وَوَجَّهَ القرآنُ المسلمينَ إِلى الإِشهادِ على الدَّيْنِ بشاهدَيْن رجلَيْن، فإِنْ لم يَجِدوا رجلَيْن، فيمكنُ أَنْ يستشهدوا برجُلٍ وامرأَتَيْن.
- لماذا شهادةُ امرأتَيْن مقابلَ الرجل؟
الجوابُ في الآية: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
أَيْ أَنَّ المرأتَيْن تَتَعاونانِ وتَتَكاملانِ في الشهادة، فإِنْ ضلَّتْ إحْدى المرأتَيْن تَفاصيلَ القضيةِ الماليةِ المرفوعة، ذَكَّرَتْها صاحبتُها بتلك التفاصيل، وكُلّ واحدةٍ معرضة للضَّلالِ والنسيان، فتُذَكِّرُها الأُخرى بما نسيَتْه!.
ولا يَعني شهادةُ المرأتَيْن بشهادةِ رجلٍ اتّهامَ المرأةِ في عَقْلِها وشخصيتِها، كما فهمَ الفادي خطأً، فللمرأةِ عَقْلُها وتفكيرُها وحفْظُها، وقد
تفوقُ الرجلَ في ذلك!.
إِنَّ المسألةَ مالية، تتعلَّقُ بتفاصيلِ الدَّيْنِ وملابساتِه وكتابتِه وإِجراءاتِه،
وهذه أُمورٌ لا تَعني النساءَ غالِباً، ولا تَلفتُ انتباهَهُنّ، ولو اكْتُفِيَ بشهادةِ امرأةٍ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
131- أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل
الرد على الشبهة:
أما الشبهة الثانية والزائفة التى تثار حول موقف الإسلام من شهادة المرأة.. التى يقول مثيروها: إن الإسلام قد جعل المرأة نصف إنسان، وذلك عندما جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، مستدلين على ذلك بآية سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دُعُوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم) (1) .
ومصدر الشبهة التى حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل: [فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان] هو الخلط بين " الشهادة " وبين " الإشهاد " الذى تتحدث عنه هذه الآية الكريمة.. فالشهادة التى يعتمد عليها القضاء فى اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها.. وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضى لصدق الشهادة بصرف النظرعن جنس الشاهد، ذكرًا كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود.. فالقاضى إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد أو امرأة واحدة.. ولا أثر للذكورة أو الأنوثة فى الشهادة التى يحكم القضاء بناءً على ما تقدمه له من البينات..
أما آية سورة البقرة، والتى قالت: [واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى] فإنها تتحدث عن أمر آخر غير" الشهادة " أمام القضاء.. تتحدث عن " الإشهاد " الذى يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه، وليس عن " الشهادة " التى يعتمد عليها القاضى فى حكمه بين المتنازعين.. فهى - الآية - موجهة لصاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضى الحاكم فى النزاع.. بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود فى كل حالات الدَّيْن.. وإنما توجهت بالنصح والإرشاد فقط النصح والإرشاد إلى دائن خاص، وفى حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية.. فهو دين إلى أجل مسمى.. ولابد من كتابته.. ولابد من عدالة الكاتب. ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة..ولابد من إملاء الذى عليه الحق.. وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل.. والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين.. أو رجل وامرأتين من المؤمنين.. وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة.. ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة.. وليست هذه الشروط بمطلوبة فى التجارة الحاضرة.. ولا فى المبايعات..
ثم إن الآية ترى فى هذا المستوى من الإشهاد الوضع الأقسط والأقوم.. وذلك لا ينفى المستوى الأدنى من القسط..
ولقد فقه هذه الحقيقة حقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن " الإشهاد" فى دَيْن خاص، وليس عن الشهادة.. وإنها نصيحةوإرشاد لصاحب الدَّيْن ذى المواصفات والملابسات الخاصة وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضى الحاكم فى المنازعات.. فقه ذلك العلماء المجتهدون..
ومن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة، وفصّلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية [661728 هجرية /1263 1328] وتلميذه العلامة ابن القيم [691751 هجرية / 1292 1350م] من القدماء والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده [12651323 هجرية] والإمام الشيخ محمود شلتوت [13101383 هجرية /18931963م] من المحدثين والمعاصرين فقال ابن تيمية فيما يرويه عنه ويؤكد عليه ابن القيم:
قال عن " البينة " التى يحكم القاضى بناء عليها.. والتى وضع قاعدتها الشرعية والفقهية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه " رواه البخارى والترمذى وابن ماجه:
" إن البينة فى الشرع، اسم لما يبيّن الحق ويظهره، وهى تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة، بالنص فى بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهد واحد، وامرأة واحدة، وتكون نُكولاً (2) ، ويمينًا، أو خمسين يميناً أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال.
فقوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى "، أى عليه أن يظهر ما يبيّن صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حُكِم له.. " (3) فكما تقوم البينة بشهادة الرجل الواحد أو أكثر، تقوم بشهادة المرأة الواحدة، أو أكثر، وفق معيار البينة التى يطمئن إليها ضمير الحاكم - القاضى -..
ولقد فصّل ابن تيمية القول فى التمييز بين طرق حفظ الحقوق، التى أرشدت إليها ونصحت بها آية الإشهاد - الآية 282 من سورة البقرة وهى الموجهة إلى صاحب " الحق الدَّين " وبين طرق البينة، التى يحكم الحاكم القاضى بناء عليها.. وأورد ابن القيم تفصيل ابن تيمية هذا تحت عنوان [الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه] .. فقال:
" إن القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين فى طرق الحكم التى يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر النوعين من البينات فى الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) (4) .. فأمرهم، سبحانه، بحفظ حقوقهم بالكتاب (5) ، وأمر من عليه الحق أن يملى الكاتب، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل وامرأتان، ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طُلبوا لذلك، ثم رخّص لهم فى التجارة الحاضرة ألا يكتبوها، ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع، ثم أمرهم إذا كانوا على سفر ولم يجدوا كاتباً، أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة.
كل هذا نصيحة لهم، وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شئ وما يحكم به الحاكم [القاضى] شئ، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهد والمرأتين، فإن الحاكم يحكم بالنكول، واليمين المردودة ولا ذكر لهما فى القرآن وأيضاً: فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة.. ويحكم بالقافة (6) بالسنة الصريحة الصحيحة التى لا معارض لها ويحكم بالقامة (7) بالسنة الصحيحة الصريحة، ويحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان، ويحكم، عند من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بوجود الآجر فى الحائط، فيجعله للمدعى إذا كان جهته وهذا كله ليس فى القرآن، ولا حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه..
فإن قيل: فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدلٌ عن الشاهدين، وأنه لا يُقْضَى بهما إلا عند عدم الشاهدين.
قيل: القرآن لا يدل على ذلك، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها.. وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشدنا إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التى تُحفظ بها الحقوق " (8) ..
وبعد إيراد ابن القيم لهذه النصوص نقلاً عن شيخه وشيخ الإسلام ابن تيمية علق عليها، مؤكداً إياها، فقال: " قلت [أى ابن القيم] : وليس فى القرآن ما يقتضى أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين،أو شاهد وامرأتين، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النِّصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول، واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن، وبمعاقد القُمُط (9) ، ووجوه الآجرّ، وغير ذلك من طرق الحكم التى تُذكر فى القرآن..فطرق الحكم شئ، وطرق حفظ الحقوق شئ آخر، وليس بينهما تلازم، فتُحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله.. " (10) .
فطرق الإشهاد، فى آية سورة البقرة التى تجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد هى نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّين ذى الطبيعة الخاصة -.. وليست التشريع الموجه إلى الحاكم القاضى والجامع لطرق الشهادات والبينات.. وهى أيضاً خاصة بدَيْن له مواصفاته وملابساته، وليست التشريع العام فى البينات التى تُظهر العدل فيحكم به القضاة..
* وبعد هذا الضبط والتمييز والتحديد.. أخذ ابن تيمية يعدد حالات البينات والشهادات التى يجوز للقاضى الحاكم الحكم بناء عليها.. فقال: " إنه يجوز للحاكم -[القاضى]- الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه فى غير الحدود، ولم يوجب الله على الحاكم ألا يحكم إلا بشاهدين أصلاً، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، وهذا لا يدل علىأن الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك، بل قد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشاهد واليمين، وبالشاهد فقط، وليس ذلك مخالفاً لكتاب الله عند من فهمه، ولا بين حكم الله وحكم رسوله خلاف.. وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابى وحده على رؤية هلال رمضان، وتسمية بعض الفقهاء ذلك إخباراً، لا شهادة، أمر لفظى لا يقدح فى الاستدلال، ولفظ الحديث يردّ قوله، وأجاز صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد فى قضية السَّلَب (11) ، ولم يطالب القاتل بشاهد آخر، واستحلفه، وهذه القصة [وروايتها فى الصحيحين] صريحة فى ذلك.. وقد صرح الأصحاب: أنه تُقبل شهادة الرجل الواحد من غير يمين عند الحاجة، وهو الذى نقله الخِرَقى [334 هجرية 945م] فى مختصره،فقال: وتِقبل شهادة الطبيب العدل فى الموضحة (12) إذا لم يقدر على طبيبين، وكذلك البيطار فى داء الدابة.." (13) .
* وكما تجوز شهادة الرجل الواحد فى غير الحدود.. وكما تجوز شهادة الرجال وحدهم في الحدود، تجوز عند البعض شهادة النساء وحدهن فى الحدود.. وعن ذلك يقول ابن تيمية، فيما نقله ابن القيم: " وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادة المرأة الواحدة فى الرضاع، وقد شهدت على فعل نفسها، ففى الصحيحين عن عقبة ابن الحارث: " أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أَمَةٌ سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. فذكرتُ ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنى، قال: فتنحيتُ فذكرتُ ذلك له، قال: فكيف؟ وقد زعمتْ أنْ قد أرضعتكما! ".
وقد نص أحمد على ذلك فى رواية بكر بن محمد عن أبيه، قال: فى المرأة تشهد على مالا يحضره الرجال من إثبات استهلال الصبى (14) ، وفى الحمّام يدخله النساء، فتكون بينهن جراحات.
وقال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمد فى شهادة الاستدلال: " تجوز شهادة امرأة واحدة فى الحيض والعدة والسقط والحمّام، وكل مالا يطلع عليه إلا النساء ".
فقال: "تجوز شهادة امرأة إذا كانت ثقة، ويجوز القضاء بشهادة النساء منفردات فى غير الحدود والقصاص عند جماعة من الخَلَف والسلف ". وعن عطاء [27-114 هجرية /647 732م] أنه أجاز شهادة النساء فى النكاح. وعن شريح [78 هجرية / 697م] أنه أجاز شهادة النساء فى الطلاق. وقال بعض الناس: تجوز شهادة النساء فى الحدود. وقال مهنا: قال لى أحمد بن حنبل: قال أبو حنيفة: تجوز شهادة القابلة وحدها، وإن كانت يهودية أو نصرانية.." (15) .
ذلك أن العبرة هنا فى الشهادة إنما هى الخبرة والعدالة، وليست العبرة بجنس الشاهد ذكراً كان أو أنثى ففى مهن مثل الطب.. والبيطرة.. والترجمة أمام القاضى.. تكون العبرة "بمعرفة أهل الخبرة " (16) .
* بل لقد ذكر ابن تيمية فى حديثه عن الإشهاد الذى تحدثت عنه آية سورة البقرة أن نسيان المرأة، ومن ثم حاجتها إلى أخرى تذكرها (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى (ليس طبعًا ولا جبلة فى كل النساء، وليس حتمًا فى كل أنواع الشهادات.. وإنما هو أمر له علاقة بالخبرة والمران، أى أنه مما يلحقه التطور والتغيير.. وحكى ذلك عنه ابن القيم فقال:
" قال شيخنا ابن تيمية، رحمه الله تعالى: قوله تعالى:: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى (فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل واحد إنما هو لإذكار إحداهما للأخرى، إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما فيه الضلال فى العادة، وهو النسيان وعدم الضبط.. فما كان من الشهادات لا يُخافُ فيه الضلال فى العادة لم تكن فيه على نصف الرجل.." (17) .
فحتى فى الإشهاد، يجوز لصاحب الدَّيْن أن يحفظ دَينه وفق نصيحة وإرشاد آية سورة البقرة بإشهاد رجل وامرأة، أو امرأتين، وذلك عند توافر الخبرة للمرأة فى موضوع الإشهاد.. فهى فى هذا الإشهاد ليست شهادتها دائماً على النصف من شهادة الرجل..
ولقد كرر ابن القيم وأكد هذا الذى أشرنا إلى طرف منه، فى غير كتابه [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] فقال فى كتابه " إعلام الموقعين عند رب العالمين" أثناء حديثه عن " البينة " وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعى واليمين على من أنكر " خلال شرحه لخطاب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى [21ق هجرية 44 هجرية 602- 665م] فى قواعد القضاء وآدابه - قال: " إن البينة فى كلام الله ورسوله، وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق.. ولم يختص لفظ البينة بالشاهدين.. وقال الله فى آية الدَّيْن: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان (فهذا فى التَّحمل والوثيقة التى يحفظ بها صاحب المال حقه، لا فى طرق الحكم وما يحكم به الحاكم، فإن هذا شئ وهذا شئ، فذكر سبحانه ما يحفظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك.. فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق.. وقال سبحانه: (ممن ترضون من الشهداء (لأن صاحب الحق هو الذى يحفظ ماله بمن يرضاه.. ".
وعلل ابن تيمية حكمة كون شهادة المرأتين فى هذه الحالة تعدلان شهادة الرجل الواحد، بأن المرأة ليست مما يتحمل عادة مجالس وأنواع هذه المعاملات.. لكن إذا تطورت خبراتها وممارساتها وعاداتها، كانت شهادتها حتى فى الإشهاد على حفظ الحقوق والديون مساوية لشهادة الرجل.. فقال:
" ولا ريب أن هذه الحكمة فى التعدد هى فى التحمل، فأما إذا عقلت المرأة، وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات، ولهذا تُقبل شهادتها وحدها فى مواضع، ويُحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب فى أصح القولين، وهو قول مالك [93-179 هجرية 712-795م] وأحد الوجهين فى مذهب أحمد.. "
والمقصود أن الشارع لم يَقِف الحكم فى حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين، لا فى الدماء ولا فى الأموال ولا فى الفروج ولا فى الحدود.. وسر المسألة ألا يلزم من الأمر بالتعدد فى جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد فى جانب الحكم والثبوت، فالخبر الصادق لا تأتى الشريعة برده أبداً.
وهذا الذى قاله ابن تيمية وابن القيم فى حديثهما عن آية سورة البقرة هو الذى ذكره الإمام محمد عبده، عندما أرجع تميز شهادة الرجال على هذا الحق الذى تحدثت عنه الآية على شهادة النساء، إلى كون النساء فى ذلك التاريخ كن بعيدات عن حضور مجالس التجارات، ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات فى هذه الميادين.. وهو واقع تاريخى خاضع للتطور والتغير، وليس طبيعة ولا جبلة فى جنس النساء على مر العصور.. ولو عاش الإمام محمد عبده إلى زمننا هذا، الذى زخر ويزخر بالمتخصصات فى المحاسبة والاقتصاد وإدارة الأعمال، وب " سيدات الأعمال " اللائى ينافسن " رجال الأعمال " لأفاض وتوسع فيما قال، ومع ذلك، فحسبه أنه قد تحدث قبل قرن من الزمان فى تفسيره لآية سورة البقرة هذه رافضاً أن يكون نسيان المرأة جبلة فيها وعامًّا فى كل موضوعات الشهادات، فقال:
" تكلم المفسرون فى هذا، وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة،ولا تكون كذلك فى الأمور المنزلية التى هى شغلها، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل، يعنى أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويكثر اشتغالهم بها " (18) .
ولقد سار الشيخ محمود شلتوت الذى استوعب اجتهادات ابن تيمية وابن القيم ومحمد عبده مع هذا الطريق، مضيفاً إلى هذه الاجتهادات علماً آخر عندما لفت النظر إلى تساوى شهادة الرجل فى " اللعان ".. فكتب يقول عن شهادة المرأة وكيف أنها دليل على كمال أهليتها، وذلك على العكس من الفكر المغلوط الذى يحسب موقف الإسلام من هذه القضية انتقاصًا من إنسانيتها.. كتب يقول:
إن قول الله سبحانه وتعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان (ليس وارداً فى مقام الشهادة التى يقضى بها القاضى ويحكم، وإنما هو فى مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله (إلى أن قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) (19) .
فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها. والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذى تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهم.
وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتى ليس معهن رجل، لايثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضى، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو " البينة ".
وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة فى الشرع أعم من الشهادة، وأن كل ما يتبين به الحق ويظهره، هو بينة يقضى بها القاضى ويحكم. ومن ذلك: يحكم القاضى بالقرائن القطعية، ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمأن إليها.
واعتبار المرأتين فى الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها، الذى يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثراً له، وإنما هو لأن المرأة كما قال الشيخ محمد عبده " ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك فى الأمور المنزلية التى هى شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها.
والآية جاءت على ما كان مألوفاً فى شأن المرأة، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافى هذا الأصل الذى تقضى به طبيعتها فى الحياة.
وإذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، وكان المتعاملون فى بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق فى الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه.
هذا وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهى القضايا التى لم تجر العادة بإطلاع الرجال على موضوعاتها، كالولادة والبكارة، وعيوب النساء والقضايا الباطنية.
وعلى أن منها ما تقبل فيه شهادة الرجل وحده، وهى القضايا التى تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها، على أنهم قدروا قبول شهادتها فى الدماء إذا تعينت طريقاً لثبوت الحق واطمئنان القاضى إليها. وعلى أن منها ما تقبل شهادتهما معاً.
ومالنا نذهب بعيداً، وقد نص القرآن على أن المرأة كالرجل سواء بسواء فى شهادات اللعان، وهو ما شرعه القرآن بين الزوجين حينما يقذف الرجل زوجه وليس له على ما يقول شهود (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) (20) .
أربع شهادات من الرجل، يعقبها استمطار لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويقابلها ويبطل عملها، أربع شهادات من المرأة يعقبها استمطار غضب الله عليها إن كان من الصادقين.. فهذه عدالة الإسلام فى توزيع الحقوق العامة بين الرجل والمرأة، وهى عدالة تحقق أنهما فى الإنسانية سواء.. (21) .
هكذا وضحت صفحة الإسلام.. وصفحات الاجتهاد الإسلامى فى قضية مساواة شهادة المرأة وشهادة الرجل، طالما امتلك الشاهد أو الشاهدة مقومات ومؤهلات وخبرة هذه الشهادة.. لأن الأهلية الإنسانية بالنسبة لكل منهما واحدة، ونابعة من وحدة الخلق، والمساواة فى التكاليف، والتناصر فى المشاركة بحمل الأمانة التى حملها الإنسان، أمانة استعمار وعمران هذه الحياة.
*وأخيراً وليس آخراً فإن ابن القيم يستدل بالآية القرآنية: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (22) . على أن المرأة كالرجل فى هذه الشهادة على بلاغ الشريعة ورواية السنة النبوية.. فالمرأة كالرجل فى " رواية الحديث "، التى هى شهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وإذا كان ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ومارسته راويات الحديث النبوى جيلاً بعد جيل " والرواية شهادة " فكيف تقبل الشهادة من المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل على واحد من الناس؟.. إن المرأة العدل [بنص عبارة ابن القيم] كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة (23) .
ذلكم هو منطق شريعة الإسلام وكلها منطق وهذا هوعدلها بين النساء والرجال وكلها عدل وكما يقول ابن القيم: " وما أثبت الله ورسوله قط حكماً من الأحكام يُقطع ببطلان سببه حسًّا أو عقلاً، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك، فإنه لا أحسن حكمًا منه سبحانه وتعالى ولا أعدل. ولا يحكم حكماً يقول العقل: ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها مما يشهد العقل والفِطَر بحسنها، ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنه لا يصلح فى موضعها سواها " (24) .
هذا.. ولقد تعمدنا فى إزالة هذه الشبهة أمران:
أولهما: أن ندع نصوص أئمة الاجتهاد الإسلامى هى التى تبدد غيوم هذه الشبهة، لا نصوصنا نحن.. وذلك حتى لا ندع سبيلاً لشبهات جديدة فى هذا الموضوع!
وثانيهما: أن تكون هذه النصوص للأئمة المبرزين فى إطار السلف والسلفيين.. وذلك حتى نقطع الطريق على أدعياء السلفية الذين حملوا العادات الراكدة لمجتمعاتهم على دين الإسلام، فاستبدلوا هذه العادات بشريعة الإسلام!.. وحتى نقطع الطريق كذلك على غلاة العلمانيين والعلمانيات، الذين استبدلوا البدع الفكرية الوافدة بحقائق وحقيقة الإسلام، والذين يتحسسون مسدساتهم إذا ذكرت مصطلحات السلفية والسلفيين!..
فإنصاف المرأة، وكمال واكتمال أهليتها هو موقف الإسلام، الذى نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين.. وهو موقف كل تيارات الاجتهاد الإسلامى، على امتداد تاريخ الإسلام. اهـ (شبهات المشككين)
__________
(1) البقرة: 282.
(2) النكول: هو الامتناع عن اليمين.
(3) ابن القيم [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص34. تحقيق محمد جميل غازى. طبعة القاهرة سنة 1977م.
(4) سورة البقرة: 282.
(5) أى الكتابة.
(6) القافة: مفردها قائف هو الذى يعرف الآثار آثار الأقدام ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه..
(7) القامة: الأيمان، تقسم على أهل المحلة الذين وجد المقتول فيهم.
(8) [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 103-105، 219،236.
(9) مفردها قمط بكسر القاف وسكون الميم: ما تشد به الإخصاص ومكونات البناء ولبناته.
(10) [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 198.
(11) السَّلب بفتح السين مشددة، وفتح اللام -: هو متاع القتيل وعدته، يأخذه قاتله.. وفى الحديث: " من قتل قتيلاً فله سَلَبُهُ ".
(12) الموضحة: هى الجراحات التى هى دون قتل النفس.
(13) [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 98، 113، 123.
(14) استهلال الصبى: هو أن يحدث منه ما يدل على حياته ساعة الولادة من رفع صوت أو حركة عضو أو عين، وهو شرط لتمتعه بحقوق الأحياء.
(15) [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص 115-117.
(16) المصدر السابق. ص 188، 193.
(17) [إعلام الموقعين عن رب العالمين] ج1 ص 90-92، 94-95،103،104. طبعة بيروت سنة 1973م.
(18) [الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج4 ص732. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1993م.
(19) البقرة: 282.
(20) النور: 69.
(21) [الإسلام عقيدة وشريعة] ص 239- 241. طبعة القاهرة سنة 1400 هجرية سنة 1980م.
(22) البقرة: 143.
(23) [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] ص236، 244.
(24) المصدر السابق، ص329.(1/386)
واحدةٍ في هذا الموضوعِ المالي فقد تَنْسى كثيراً من التفاصيل، وبذلك قد
تُضَيِّعُ حَقَّ الرجل، ولذلك اشترطَ القرآنُ اجتماعَ امرأتَيْن للشهادة، بحيتُ تُذَكِّرُ كُلّ واحدةٍ الأُخْرى، وبذلك تُؤَدَّى الشهادةُ على وجْهِها، ولا تَضيعُ الحقوق.
أَما الرجالُ فإِنَّ التفصيلاتِ الماليةَ تَعْنيهم غالباً؛ لأَنها تَتفقُ مع مهمتِها
التي خَلَقَهم اللهُ لها، ولذلك يَحفظونَها ويَعرضونَها بدِقَّة!.
وقالَ الفادي في اعتراضِه على القرآنِ بشأنِ نصيبِ المرأةِ من الميراث:
" وجاءَ في سورةِ النساءِ: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، فلماذا يُعطي المرأةَ نصْفَ نَصيبِ الرجل، مع أَنَّ الحياةَ تَقْسو على
المرأةِ أَحْياناً أَكثر من قسوتِها على الرجُل؟
إِنَّ القسمةَ (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) من أَصلِ الجاهلية، جاءَ في كتابِ بُلوغ الأَرب: وأَوَّلُ منْ قَسَمَ للرجلِ مثلَ حَظّ الأُنثييْن عامرُ بنُ جَهْم الجُهَني ".
الزعمُ بأَنَّ إِعطاءَ الرجُل مثلَ حَظِّ الأُنثيَيْنِ تَشريعٌ جاهِليٌّ زَعْمٌ باطِلٌ
مردود، رَدَّدَهُ الفادي الجاهلُ، ونَسبَهُ إِلى كتابٍ غيرِ مُوثَّق! إِنهُ تَشريعٌ إِسلاميٌّ قرآني، وَرَدَ النَّصُّ عليه في القرآن.
وليس فيه هَضْمٌ لحقوقِ المرأَةِ كما ادَّعى الفادي، وإنما هو يتفقُ مع طبيعةِ
المرأة ومهمَّتها ووظيفتِها في الحياة.
فالإِسلامُ قد كَرَّمَ المرأةَ وصانَها واحترمَها، ومَنَحَها شخصيَّتَها الماليةَ المستقلة، وأَباحَ لها جمعَ الأَموال وتملُّكَها، في الوقتِ الذي لم يوجِبْ عليها إنفاقَ شيءٍ من أَموالِها على الأُسرة.
جعلَ الإِسلامُ الإِنفادق على الرجلِ في البيت، سواء كانَ أَباً أَو زوجاً أَو
أَخا أَو ابناً، ولو كانت النساءُ في البيت يمتلكْنَ الأَموالَ فإِنَّه لا يَجبُ عليهنَ
إِنفاقُ شيءٍ من أَموالِهن، وعلى الرجلِ أَنْ يُرَتِّبَ أَمْرَه ويُنفقَ ولو بالاستدانة.
ولذلك ناسبَ أَنْ يُعطى الرجلُ المأمورُ بالإِنفاق مثلَ حَظِّ الأُنثيَيْنِ،
اللتَيْن لا يجبُ عليهما إِنفاقُ شيء.
وسبحان اللهِ الحكيم في خلْقِه وفعلِه وتشريعِه! (1) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
130- أن ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر
الرد على الشبهة:
صحيح وحق أن آيات الميراث فى القرآن الكريم قد جاء فيها قول الله سبحانه وتعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) (1) ؛ لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة فى الإسلام، متخذين من التمايز فى الميراث سبيلاً إلى ذلك لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًا ولا قاعدة مطّردة فى توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث. فالقرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله فى المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. إنما قال: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) .. أى أن هذا التمييز ليس قاعدة مطّردة فى كل حالات الميراث، وإنما هو فى حالات خاصة، بل ومحدودة من بين حالات الميراث.
بل إن الفقه الحقيقى لفلسفة الإسلام فى الميراث تكشف عن أن التمايز فى أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية فى التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث فى بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة فى الإسلام. وذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات فى فلسفة الميراث الإسلامى - إنما تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى وبين المُوَرَّث المتوفَّى فكلما اقتربت الصلة.. زاد النصيب فى الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب فى الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين..
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال.. فالأجيال التى تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها فى الميراث أكبر من نصيب الأجيال التى تستدبر الحياة. وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها - عادة - مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه - وكلتاهما أنثى -.. وترث البنت أكثر من الأب! - حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.. وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التى للابن، والتى تنفرد البنت بنصفها! -.. وكذلك يرث الابن أكثر من الأب - وكلاهما من الذكور..
وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث فى الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين!..
وهى معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق..
وثالثها: العبء المالى الذى يوجب الشرع الإسلامى على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين.. وهذا هو المعيار الوحيد الذى يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى.. لكنه تفاوت لا يفضى إلى أى ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها.. بل ربما كان العكس هو الصحيح!..
ففى حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون فى درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا فى موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال - مثل أولاد المتوفَّى، ذكوراً وإناثاً - يكون تفاوت العبء المالى هو السبب فى التفاوت فى أنصبة الميراث.. ولذلك، لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى فى عموم الوارثين، وإنما حصره فى هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) .. ولم تقل: يوصيكم الله فى عموم الوارثين.. والحكمة فى هذا التفاوت، فى هذه الحالة بالذات، هى أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى - هى زوجه - مع أولادهما.. بينما الأنثى الوارثة أخت الذكر - إعالتها، مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهى - مع هذا النقص فى ميراثها بالنسبة لأخيها، الذى ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازاً منه فى الميراث.. فميراثها - مع إعفائها من الإنفاق الواجب - هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوى، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين..
وإذا كانت هذه الفلسفة الإسلامية فى تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات وهى التى يغفل عنها طرفا الغلو، الدينى واللادينى، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئى شبهة تلحق بأهلية المرأة فى الإسلام فإن استقراء حالات ومسائل الميراث - كما جاءت فى علم الفرائض (المواريث) - يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة فى هذا الموضوع.. فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث، يقول لنا:
1 - إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2 - وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً.
3 - وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4 - وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.
أى أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هى ولا يرث نظيرها من الرجال، فى مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.. (2) "!!.
تلك هى ثمرات استقراء حالات ومسائل الميراث فى علم الفرائض (المواريث) ، التى حكمتها المعايير الإسلامية التى حددتها فلسفة الإسلام فى التوريث.. والتى لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة، كما يحسب الكثيرون من الذين لا يعلمون!..
وبذلك نرى سقوط الشبهة الأولى من الشبهات الخمس المثارة حول أهلية المرأة، كما قررها الإسلام. اهـ (شبهات المشككين)
__________
(2) د. صلاح الدين سلطان "ميراث المرأة وقضية المساواة " ص10، 46، طبعة القاهرة، دار نهضة مصر سنة 1999م - " سلسلة فى التنوير الإسلامى ".(1/387)
حول تعدد الزوجات
اعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ لإِباحَتِه تَعَدُّدَ الزوجات.
وقالَ في اعتراضِه: " جاءَ في سورةِ النساء: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
وقد فَسَّرَ البيضاوي: (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) بالسراري.
ونحنُ نسأَل: أَليسَ تَعَدُّدُ الزوجاتِ والتَّسَري مُخالِفاً لسُنَّةِ اللهِ منذُ بَدْءِ الخَليقةِ؟
خَلَقَ اللهُ حَوَّاءَ واحدةً لآدمَ واحد..
ونحنُ نُكرمُ الرجولةَ باحترامِ الأُمَّهاتِ والأَخَواتِ والبَناتِ
والزَّوجات، ومَنْ يُفْسِد البيتَ يُفْسِد الإنسانية، وفي تَعَدُّدِ الزوجاتِ إِفسادٌ
لأَخلاقِ الرجلِ بالمظالم، وتأْخيرٌ لنَجاحِ الأَولاد، وإِهانةٌ للزوجات، وتدميرٌ
للتقدمِ الاجتماعيّ والسلامةِ القومية " (1) .
تَعَدُّدُ الزوجاتِ في نظرِ الفادي المفترِي جريمةٌ عظمى، ومفاسِدُها
وأَخطارُها عديدة، فهو مُخالفٌ للفطرةِ والسنةِ الإِلهية، لأَنَّ اللهَ خَلَقَ لكلِّ رجلٍ امرأةً واحدة، فإِذا أَخَذَ الرجلُ امرأتَيْن أَو أَكثرَ كان مُتَعدِّياً على حَقِّ غيرِه، وتَعَدُّدُ الزوجاتِ إِهانةٌ للمرأة، وإِفسادٌ للأَخلاقِ وللأَولادِ وللبيوت، ونَشْرٌ للظُّلم، وتدميرٌ للمجتمع والإِنسانية! يا لطيف! أَكُلُّ هذه الجرائمِ والمفاسدِ ناتجةٌ عن تعدّدِ الزوجات؟!.
إِنَّ تَعَدُّدَ الزوجاتِ مُباحٌ في الإِسلام، وليسَ واجباً على كُلّ رجلِ
متزوِّج، والواقعُ العمليُّ أَنَّ معظمَ المتَزَوّجين لا يَأْخذونَ بهذه الرخصة، وأَنًّ
الذين يُعَدِّدونَ الزوجاتِ أَعدادٌ قليلةٌ جِدًّا.
ثم إِنَّ الإِسلامَ عندما أَباحَ تَعَدُّدَ الزوجاتِ اشترطَ على الرجلِ العَدْلَ
والمساواةَ بين الزوجاتِ، وحَرَّمَ عليه أَنْ يَميلَ لامرأةٍ على حِسابِ الأُخْريات،
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين رد على شبهة تعدد الزوجات ما نصه:
إن إبراهيم - عليه السلام - كان متزوجاً من سارة وهاجر وقطورة.
وهو أب لليهود والنصارى والمسلمين.
وأيضاً كانت له سرارى كثيرة لقوله: " وأما بنو السرارى اللواتى كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقاً إلى أرض المشرق وهو بعد حى " [تك 25: 6] وموسى كان متزوجاً من مديانية وحبشية [عدد 12: 1] ويعقوب - عليه السلام - كان متزوجاً من حرتين وأمنين وهما ليئة وراحيل وزلفة وبلهة [تك 29 وما بعده] وكان لداود نساء هن: أخينوعم اليزرعبلية - أبيجايل - معكة - حجيث - أبيطال - عجلة.
الجميع ستة عدا بثشبع امرأة أورياالحثى التى أنجب منها سليمان - عليه السلام -[صموئيل الثانى 3: 1 - 5] وكان لسليمان " سبع مائة من النساء السيدات، وثلاث مائة من السرارى " [الملوك الأول 11: 3] .
وفى الإنجيل أنه كان للمسيح أربع إخوة هم: يعقوب وموسِى ويهوذا وسمعان [مرقس 6: 3] واتفق النصارى على أن مريم أتت به بغير زرع بشر.
وإذ هذا حاله.
فهل هؤلاء الأربعة على الحقيقة إخوة أم على المجاز؟ اختلفوا.
لأن متى قال عن يوسف النجار: " ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر " [مز 1: 24] فيكون قد عرفها بعد ولادته.
وإن منهم لفريقاً يقولون: " إنها ظلت عذراء إلى أن ماتت، وإن الأربعة أولاد ليوسف عن زوجة سابقة له على مريم ".
وعلى أية حال فإن غرضنا وهو إثبات تعدد الزوجات بإخوة المسيح الأربعة.
وفى تفاسير الإنجيل أنه كان له أختان أيضاً هما أستير وثامار؛ يكون ملزماً لهم بإثبات التعدد. اهـ (شبهات المشككين)(1/388)
كما اشترطَ عليه القدرةَ الماليةَ والجسدية والجنسية على التعدُّد، فإِنْ لم تتحقَّقْ
تلك الشروطُ كان التعدُّدُ حراماً.
وإِنَّ تعدُّدَ الزوجاتِ حَلّ لمشكلاتٍ عديدةٍ عندَ الرجلِ والمرأةِ والبيتِ
والمجتمع، ولا يكون الحَلُّ بغيره، وإِنَّ اللهَ الذي أَباحَ تَعَدُّدَ الزوجاتِ وأَذِنَ بِه يَعْلَمُ حاجةَ الرجالِ إِليه أَحياناً، ولكنه لم يَجْعَلْه مَفْتوحاً، وإِنما وَضَعَ له
الشروطَ، كي لا يتحوَّلَ إِلى مفسدة!.
ولا أَدرىِ لماذا يشُنُّ النَّصارى والغربيّون عُموماً على تَعَدُّدِ الزوجاتِ هذه
الحربَ الشَّرِسَة، ويثيرونَ حولَه الشبهاتِ والاتِّهامات، وماذا يَضيرُهم لو عَدّدَ بعضُ الرجالِ زوجاتِهم، إِذا كانَتْ مُشكلاتُهم ومُشكلاتُ النساءِ العوانس لا تُحَلُّ إِلّا بالتَعَدُّد!!.
ولماذا يُحاربونَ تَعَدُّدَ الزوجات، وقد كانَ التَّعَدُّدُ منتشراً بين الناس، من
قديمِ الزمان.
وقد ذَكَرَ العهدُ القديمُ - الذي يَعتبرُه النَّصارى جزءاً من دينِهم -
أَمثلةً عديدةً لأَنبياء عَدّدوا الزوجات، وفي مقدمتِهم داودُ وسليمانُ - صلى الله عليهما وسلم - فهلَ كانَ النبيانِ داودُ وسليمانُ مخطئَيْنِ عندما عَدَّدا الزوجات؟
أَم أَنَّهما لم يُعَدِّدا؟
وهلّ يمكنُ للفادي أَنْ يُكَذِّبَ العهدَ القَديم ويبقَى مؤمناً؟!.
وإِذا كان النَّصارى الغربيّون لا يُعَدِّدونَ الزوجات، ويَعتبرونَه جريمةً
ومفسدةً ودَماراً، فإِنهم يُمارسونَ فاحشةَ الزِّنى مع العشيقات والخليلات،
يُخالِلُ الرجلُ منهم في الوقتِ الواحدِ أَكثرَ من عشيقة، ويُغَيِّرُ ويُبَدِّلُ في عشيقاتِه كما يَشاء، ولو عَدَّ الرجلُ الغربيّ النساءَ العشيقاتِ اللَّواتي زَنى بهنَّ فقد يصلُ العددُ إِلى مئةِ عشيقةٍ أَو أَكثر! وقُلْ مثلَ هذا في عُشّاقِ المرأة، الذين تُعاشِرُهم وتَرتكبُ معهم الفاحشة، فقد يَزيدُ عددُ الرجالِ الذينَ زَنَوا بها عن مئة!.
فالذينَ يَرفعونَ أَصواتَهم في الاعتراضِ على تَعَدُّدِ الزوجات، وتخطئةِ
القرآنِ الذي أَباحه، يُمارسونَ تَعَدُّدَ العشيقاتِ الزانيات، وتَحَدَّثْ عن امتهانِ المرأةِ العشيقةِ واحتقارِها، وتَحَدَّثْ عن المفاسدِ والمصائبِ والخسائر، التي(1/389)
تَنتجُ عن تَعَدُّدِ العشيقات! ولا مُقارنةَ بين عظمةِ القرآنِ عندما حَدَّدَ العَدَدَ
الأَقصى بأَربعِ زوجاتٍ عفيفات، وبينَ الإِباحيةِ الغربيةِ التي لا تَجعلُ قَيْداً على
عَدَدِ العشيقاتِ الزانيات!!.
***
هل الطلاق خطأ
خَطَّاَ الفادي القرآنَ في إِباحتِه الطَّلاق.
قال: " جاءَ في سورة البقرة: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) .
أَباحَ القرآنُ للرجلِ بإِرادتِه المنفردةِ، بدونِ رجوعٍ لأَحَدٍ في ما يُريد، أَنْ يَهدِمَ أُسرتَه، ويُقَوِّضَ أَركانها، ويُشَتِّتَها، فيوقعُ يَمينَ الطلاقِ على زوجتِهِ، ومن المبكياتِ أَنْ نَرى الرجل المسلمَ إِذا تشاجَرَ خارجَ البيتِ وحَلَفَ اليَمينَ ثلاثاً يَطرُدُ زوجَتَهُ الآمنةَ من بيتِها، لا لسببٍ إلّا لأَنه حَلَفَ في مشاجرةٍ لا ناقةَ للمرأةِ فيها ولا جَمَل! ثم يَقولونَ: " إِنَّ أَبغضَ الحلالِ عندَ اللهِ الطلاق "! فكيفَ يُحَلّلُ اللهُ شَيْئاً يَكرهُه؟
أَليسَ الأَصَحُّ أَنَّ ما يَكرهُه يُحرمُه؟ ".
يمنعُ النصارى الطلاقَ، ولا يوقعونَه إِلّا في حالاتٍ خاصةٍ نادرةٍ جدّاً،
تُضبطُ فيها الزوجةُ متلبِّسَةً بالزّنى، وإِذا لم يكنْ تَفاهُمٌ بين الزَّوْجَين عندهم،
فإِنَّ كُلّاً منهما يَذهبُ في حالِ سَبيلِه، يَبحثُ الرجلُ عن عشيقاتِه يَزْني بهنّ،
وتَبحثُ هي عن عُشّاقِها يَزْنونَ بها! ومعَ ذلك يَبْقى الزوجانِ أَمامَ الناسِ
زوجَيْن، يَربطهُما رباطُ الزواجِ المقَدَّس! لأَنَّ المهمَّ عِندهم هو المحافظَةُ على
المظاهرِ الاجتماعية!!.
ولذلك يُحاربون الإِسلامَ الذي أَباحَ الطَّلاقَ، ويُخَطِّئونَ القرآنَ الذي
ضَبَطَه ونَظَّمَه، ويَعتبرونَ الطلاقَ عدواناً على المرأةِ وظُلْماً لها.(1/390)
وإِنَّ اللهَ حَكيم، وهو يَعلمُ أَنَّ بعضَ الأَزواجِ قد لا يكونُ بينهم أُلْفَةٌ
وائتلاف، وقد لا يَكتشفونَ هذا إِلّا بعدَ الزواج، وقد تقعُ الخلافاتُ بين
الزوجَيْن، ولا تنفعُ معها كُلُّ محاولاتِ الإِصلاح! فما هو الحَلُّ؟
هل الحَلُّ أَنْ يَذهبَ كُلٌّ منهما إِلى حالِ سبيله يَبحثُ عن قضاءِ شهوتِهِ عن طريقِ فاحشةِ الزنى؟
وهل الحلُّ أَنْ يتحوَّلَ بيتُ الزوجيةِ إِلى سجنٍ لهما، يَقضيانِ فيه عقوبةَ
السجنِ المؤبَّدِ إِلى أَنْ يَموتَ أَحَدُهما فيَستريحَ الآخَر؟.
الحَلُّ الصحيحُ هو أَنْ يَفْتَرقا بإِحسان، كما اجْتَمَعا بإِحسان، أَيْ أَنْ
يُطلِّقَ الرجلُ امرأَتَه، وسوفَ يُعَوّضُه اللهُ خَيراً منها يَتفقُ معها، ويُعوضُها اللهُ
خيراً منه تتفقُ معه.
وقد ذَكَرَ الفادي جملةً شائعةً تتردَّدُ على أَلسنةِ الناس، لكنها جملة
خاطئة، وهي: " إِنَّ أَبغضَ الحَلالِ إِلى اللهِ الطلاق! ".
وهي خاطئة لأَنَّ اللهَ لا يُحَلِّلُ شيئاً ثم يُبغضُه ويَكرهُه، وإِذا كانَ يَكرهُه فلماذا أَباحَه؟!.
اللهُ أَباحَ الطَّلاقَ، وجَعَلَه حَلّاً لمشكلاتٍ بينَ الزوجين، لا تُحَلُّ إِلّا به،
وبهذا يكونُ الطلاقُ آخرَ العِلاج، وقد يكونُ آخر العلاج الكَيّ بالنَّار!.
ولا نُنكِرُ أَنَّ كَثيراً من الرجالِ يَتَعَسَّفونَ في الطَّلاق، ويُسيئونَ استْخدامَه،
فيُطَلّقونَ لأَتْفَهِ الأَسباب، وبذلكَ يَظْلِمونَ الزوجات، ولكنَّ الخَطَأَ يَبْقى
مَحْصوراً فيهم، ولا يُلامُ القرآنُ على إباحته إذا أَساءَ الرجالُ استِخْدامَه، والحَلُّ هو أَنْ يُعَلَّمَ وُيرَبّى ويُؤَدَّبَ هؤلاء، بَدَلَ أَنْ يُتَّهَمَ الإِسلامُ بسببِ الطلاق!.
***
حول جلد الزاني والزانية
اعترضَ الفادي على حَدّ الزِّنى المذكور في القرآن.
قال: " جاءَ في سورةِ النور: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) .(1/391)
ونحنُ نسأَل: هل إِيقاعُ هذه العقوبةِ البدنيةِ عَلَناً يُصْلِحُ المخطئَ ويُطَهِّرُ قَلْبَه ".
ثم أَوردَ قصةَ المسيح - صلى الله عليه وسلم - عندما رُفِعَتْ له قضيةُ امرأةٍ زانية، فطلَبَ منه اليهودُ أَنْ يرجُمَها بالحجارة، لأَنَّ عقوبةَ الزنى في شريعةِ موسى - صلى الله عليه وسلم - هي الرجم، فقالَ لهم عيسى: مَنْ كانَ منكم بلا خطيئة فلْيَرْمِها بحَجَر..
فانْسَحَبوا من حولِها، فعَفا المسيحُ عنها، ونَصَحَها أَنْ تتوقَّفَ عن الزِّنى.
أَيْ أَنَّ الفادي يَرى أَنْ لا يُعاقَبَ الزاني والزانيةُ بأَيةِ عقوبة، سواء كانت
العقوبةُ رَجْماً أَو جَلْداً أَوْ غيرَ ذلك!.
أَليسست العقوبةُ للردع والتأديبِ والتربية "؟ (1) .
الفادي يَنفي ذلك، ويَكْتَفي بالنصحِ والوعظِ والتذكير، بأَنْ يُقالَ للزاني: لا تَزْنِ، ويُقالَ للزانية: لا تَزْني!
وكأَنَّ هذا كافٍ للقَضاءِ على انتشارِ الزِّنى في المجتمعات!.
اللهُ الحكيمُ شرعَ عقوبةَ الزنى، ليرتدعَ الزناة، لا سِيَّما إِذا تَمَّ إِيقاعُ
العقوبةِ على مشهدٍ من الناس! بحيثُ يُجْلَدُ كُلٌّ من الزاني والزانيةِ مئةَ جلدة:
(وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وقد رَدَّت الآيةُ على اعتراضاتِ الفادي وأَمثالِه، الذين قد يَتَّهِمونَ
العقوبةَ بالشدَّةِ والعنف، ويَدَّعونَ الرحمةَ والرأفة.
فقالت: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) .
أَيْ: لا تَدَّعوا الرأفةَ بالزاني والزانية، فحمايةُ المجتمعِ من
فاحشةِ الزنى وآثارها المدمرةِ أَوْلى من الرأفةِ بالذين يَرتكبونها، وعليكم أَنْ
تُطَبِّقوا عليهم حكْمَ الله، لأَنَّ الحكمةَ والمصلحةَ مرتبطةٌ بحكم الله.
***
حول إباحة التسري
اعترضَ الفادي على إِباحةِ التَّسَرّي في القرآن.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
128- حد الزنا
الرد على الشبهة:
إن جريمة الزنا لهى من أقذر الجرائم حتى أنكرها كل دين، بل وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما فى قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء، ورعاية وبذلٍ سخى لهم بما يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس، الأمر الذى لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء وذلك لا يكون إلا إذا وقع فى قلوب الآباء وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم.
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها فى لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها، وذلك شفاء لما فى نفوسهم من شكوك فى صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم حتى لقد تحولت هذه الشكوك إلى عواطف من الجنون الذى أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنسانى نحو الأبناء المشكوك فى نسبهم، وهيهات أن يخلو شعور أوروبى من الشك فى نسبة أبنائه إليه مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال فى أى مكان وأى زمان.
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة - الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن - كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه فى الصحارى.
ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مرائى ومسمع من الناس؟ ثم كيف تصل الوحشية فى قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان فى حفرة ثم تتناوله الأيدى رجماً بالحجارة إلى أن يموت.
هكذا يقولون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) (1) .
ولا ننكر أن فى شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة] (3) .
والنظام الإسلامى كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا فى نسق واحد.
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى " الأجنبيات " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه] (4) .
وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة.
قال الله تعالى: (يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) (5) ، وقال:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) (6) .
وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما] .
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لئن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به رأس خير لك من أن تمس امرأة لا تحل لك] .
وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الضمير فى الرجل والمرأة على حد سواء على ضوء ما جاء فى قصة ماعزو الغامدية.
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها الشرعى بالزواج.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء] (7) أى قاطع للشهوة.
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل.
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا فى مهور بناتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير] (8) .
وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب فى نفقات الزواج.
وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين.
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام فى تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع، والحقيقة أن مثل هذه الشنيعة لا تحصل فى المجتمع المسلم - الذى تسوده الفضيلة - إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروط من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة.
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هى الشروط:
1 - لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
2 - إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أى شك فى شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ادرءوا الحدود بالشبهات] (9) .
3 - فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) (10) .
4 - رغبت الشريعة الإسلامية فى التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت وقعت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[لرجل جاء يشهد: هلا سترتهما بثوبك] يقول الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (11) .
أبعد هذا كله يتخرص متخرص ويقول: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر أدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط.
وفضح بين الملأ من الناس.
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يعالى بها بعض الآدميين من غير استحياء ثم لا يضرب على أيديهم أحد.
إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة.
ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد فى هذا الوضع.
إن إنساناً فى مثل هذا الحال لهو إنسان مفسد ضال مضل ولو لم يتم بتره أو تربيته فإن هذا يشكل خطراً على المجتمع كله.
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس قترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين فى الضلال ليضلا الناس عن طريق رب الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذى يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب.
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت " حال تنفيذ العقوبات " إلا فى أعداد محدودة ولا ضرر فى هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع. اهـ (شبهات المشككين)
__________
(1) الكهف: 5.
(2) النور: 2.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الحاكم فى المستدرك.
(5) الأحزاب: 59.
(6) النور: 31.
(7) رواه البخارى.
(8) رواه ابن ماجه.
(9) رواه الترمذى.
(10) النور: 4.
(11) النور: 19.(1/392)
قال: " جاءَ في سورةِ النساء: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ، وجاءَ في سورة الأَحْزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) .
ونحنُ نَسأل: هل هذا لكرامةِ النبيِّ والمسلمين؟
وهل هذا لكرامةِ الزوجاتِ والبناتِ والأَوْلاد؟
وهل هذا لتقدُّمِ الأُسرةِ والأُمةِ والمجتمعِ؟! ".
التَّسَرّي هو الاستمتاعُ بالجاريةِ الرقيقةِ التي هي " مِلْكُ اليمين "!
ويَعْتبرُ الفادي هذا التَّسَرّيَ إِذْلالاً للمرأة، ولا يَتفقُ مع كرامتِها وكرامةِ المجتمعِ الإِسلامي!.
والتَّسَرّي بالجواري مرتبطٌ بنظامِ الرِّقِّ، الذي كان نظاماً سائِداً في العالَمِ
القديم، فالإِسلامُ لم يَصْنَعْه، وإِنما وَجَدَهُ نظاماً عالميّاً، فعملَ الإِسلامُ على
ضَبْطِهِ وتنظيمِه وتوجيهِه، كما عَمِل على التَّقليلِ منه وتَجفيفِه، تمهيداً للتخلُّص منه! ولذلك لا يُلامُ الإِسلامُ لضبطِ وتنظيمِ الرق، إِنما يُمْدَحُ ويُثْنى عليه لهذا الضبطِ والتنظيم!.
المصدرُ الوحيدُ المعترفُ به في الإِسلام للاسترقاقِ هو الكفارُ المقاتلون
للمسلمين من الرجالِ والنساءِ، فإِذا انهزَمَ الكفارُ في الحربِ فقد يَقَعُ بعضُ
رجالِهم ونسائِهم المقاتلين بأَيْدي المسلمين، فيكونون عَبيداً وأَرِقّاء، سواءً
كانوا رجالاً أَو نساء!.
كيفَ يكونُ وَضْعُ هؤلاءِ العبيدِ بينَ المسلمين؟
هل يُتْرَكونَ على رُؤوسهم، لينْشُروا المفاسِدَ بين المسلمين؟
الحلُّ هو أنْ " يُوَزَّعوا " على المسلمين، ليكونوا عَبيداً لهم، تُؤَمَّنُ لهم حاجاتُهم! وبذلك تَكونُ السبايا المقاتِلاتُ الكافراتُ في بيوتِ المسلمين، وتُصبحُ الواحدةُ منهنَّ أَمَةً جارِيَةً في بيتِ سَيِّدِها، يتكفَّلُ سَيِّدُها بكلِّ حاجاتها.
ومن ذلك حاجتُها الجنسية، حيثُ يَتَسَرَّى بِها ويُعاشرها وتكونُ " مِلْكَ يَمينِه "، فإِنْ أَنجبَتْ منه وَجَبَ عليه أَنْ(1/393)
يُعتِقَها ويُحَرِّرَها، لأَنَّها أُمُّ وَلَدِه! هل هذا إِذلال لها وإِفسادٌ للمجتمع؟
كما يقول الفادي المفتري!.
ما هو الحَلُّ عند الفادي وأَمثالِه، الذينَ يُحاربونَ التَّسَري والاستمتاعَ
بالجاريةِ مِلْكِ اليَمين؟
نساءٌ كافراتٌ مُقاتِلات انهزمْنَ في المعركةِ وأُلقيَ القبضُ
عليهنّ؟
وبعدَ كُلّ معركة تُؤْخَذُ عَشَراتٌ من النساءِ بهذهِ الطريقة، بحيثُ يَصِلُ
عَدَدُهن إِلى أُلوف!.
ماذا يُفْعَلُ بِهِن؟
هل يُتْرَكْنَ في مُدُنِ المسلمين، يَتَجَوَّلْنَ ويَعِشْنَ حياتَهُن
كما يُرِدْن؟
ومَن المسؤولُ عنهنّ؟
ومَن المتكفّلُ بهنّ؟
ومَنِ الذي يُراقبهُن؟
أَلا يتحَوَّلْنَ إِلى مُخَرِّباتٍ فاسِداتٍ مُفْسِدات؟
أَلا يُتَاجِرْنَ بأَعراضِهنَّ لإِغواءِ أَبناءِ المسلمين؟
ألا يَنْشُرْنَ الفاحشةَ والرذيلةَ بين المسلمين؟
ومَنْ هو المسلمُ العاقلُ الذي يرضى بهذا؟.
لقد ضَبَطَ الإِسلامُ حياتَهُن، بأَنْ أَعطى كُل واحدةٍ لرجلٍ مسلم، فصارَ
مَسؤولاً عنها، ومتكَفِّلاً بحاجاتِها، ومنها الحاجة الجنسية، ودَعاهُ إِلى عِتْقِ ما
في مُلْكِ يَمينهِ من هؤلاء النساء بمختلفِ الأَسبابِ والصور!
هذا هو الحَل الصَّوابُ والتصرفُ السليم، وهو الذي شَرَعَهُ اللهُ العليمُ الحكيم.
***
الحجاب الحافظ للمرأة
اعترضَ الفادي على القرآنِ في دعوتِه المسلماتِ إِلى الحجابِ ليحفَظْنَ
أَنفسهُنَّ من الخطر.
قال: " جاءَ في سورةِ النور: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) .
وجاءَ في سورةِ الأحزِاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ..)(1/394)
ونحنُ نَسألُ: هل يمنعُ حجابُ المرأةِ عينَ الرجلِ الشِّرّيرِ مِنْ أَنْ تَشْتَهي؟
إِنَّ عينَ الشِّرّيرِ تَرى بعينِ الخَيال!.
ولقد تَحَدَّثَ الإِنجيلُ عن الولادةِ الجديدةِ وتَغييرِ القلبِ بعمَلِ الروحِ
القُدُسِ، الذي نَتيجتُه: أَنْ تَخْلَعوا من جهةِ التصرفِ السابقِ الإِنسانَ العَتيقَ
الفاسدَ بحسَبِ شَهَواتِ الغُرور، وتَتَجَدَّدوا بروحِ ذِهْنكم، وتَلْبَسوا الإِنسانَ
الجديد، المخلوقَ بحسبِ الله، في البِرِّ وقَداسَةِ الحَقّ " (1) .
الحجابُ مُحافَظَةٌ على المرأةِ المسلمة، وتكريمٌ لها، وبه تَسْتُرُ المرأةُ
عورَتَها، ولا تَفْتنُ بها الآخَرين.
ولكنَّ الفادي يُنكرُ على القرآنِ دعوتَه المرأةَ المسلمة إِلى التَّحَجُّبِ والتَّعَفُّفِ والتَّسَتُّر والتَّطَهُّرِ، ويَرى أَنه لا داعيَ ولا حاجةَ له!
لماذا؟ لأَنَّ هذا الحجابَ لا يَمنَعُ عينَ الرجلِ الشِّرِّيرِ من أَنْ تَشتهيَ
المرأةَ المتحجِّبَة، لأَنَّ عينَ الشّرّيرِ تَرى بعينِ الخيال!
أَيْ أَنَّ الرجلَ الشّريرَ يَنظرُ للمرأةِ المحجَّبَة، ويَشْتَهيها، ويتخيَّلُها بخَيالِه عارية!!.
الحَلُّ عندَ الفادي أَنْ لا تَتَحَجَّبَ المرأةُ، وأَنْ لا تَسْتُرَ فتنَتَها وزينَتَها عن
الرجلِ الشرير، وإِنما الحَلُّ في تربيةِ الرجُل، وإِزالةِ الشَّرّ من قَلْبِه، وإِماتةِ
الشَّهَوأتِ من نفسِه، وملءِ قلْبِه بالبِرِّ والحَقّ، ولذلك نَقَلَ نَصّاً من الإِنجيلِ يَدْعو فيه إِلى ميلادٍ جديدٍ للإِنسان، وتغييرِ قَلْبه وكيانِه ليتحوَّلَ من الشهواتِ إلى الحَقِّ!.
والإسلامُ الذي يَدْعو المرأةَ المسلمةَ إِلى السِّتْرِ والتَّحَجُّبِ، يَعلمُ أَهميةَ
الحجابِ في المحافظةِ على المرأة، وفي نَشْرِ العفافِ والفضيلةِ في المجتمع.
وهو في نفسِ الوقتِ الذي يَدْعوها للحجابِ يَلتفتُ إِلى الرجُل، ويَدْعوهُ إلى
التعفّفِ والتطهُّر، وعدمِ الاستعبادِ للشهوات، وعدمِ ارتكابِ المحَرَّمات.
ولذلك أَمَرَ الرجالَ بغَضِّ البصرِ وحفظِ الفرْج قبلَ أَمْرِ النساءِ بذلك.
قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) .
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
135- قضية الحِجاب
الرد على الشبهة:
السياق القرآنى لآية الخمار يبين أن العلة هى العفاف وحفظ الفروج، حيث يبدأ بالحديث عن تميز الطيبين والطيبات عن الخبيثين والخبيثات..
وعن آداب دخول بيوت الآخرين، المأهول منها وغير المأهول..
وعن غض البصر..
وحفظ الفروج، لمطلق المؤمنين والمؤمنات..
وعن فريضة الاختمار، حتى لا تبدو زينة المرأة - مطلق المرأة - إلا لمحارم حددتهم الآية تفصيلاً.
فالحديث عن الاختمار حتى فى البيوت، إذا حضر غير المحارم..
ثم يواصل السياق القرآنى الحديث عن الإحصان بالنكاح (الزواج) وبالاستعفاف للذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله:
(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) .
فنحن أمام نظام إسلامى، وتشريع إلهى مفصل، فى العفة وعلاقتها بستر العورات عن غير المحارم.
وهو تشريع عام، فى كل مكان توجد فيه المرأة مع غير محرم.
بل إن ذات السورة - (النور) تستأنف التشريع لستر العورات داخل البيوت - نصاً وتحديداً - فتقول آياتها الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) .
فنحن أمام تشريع لستر العورات، حتى داخل البيوت، عن غير المحارم - الذين حددتهم الآيات - ومنهم الصبيان إذا بلغوا الحلم..
فحيث أمر الله بالعفاف وحرم الزنا وأقر الزواج وأباح إمكانية التعدد فكان لابد لكمال التشريع من الأمر بدرء ما يوصل إلى عكس ذلك كله فأمر بالحجاب وبغض البصر وبعدم الخلوة وهو أَمْرٌ له سبحانه فى كل دين. اهـ (شبهات المشككين) .(1/395)
وإِذا نَظَرَ الرجلُ إِلى المرأةِ نظرةً خِلْسَةً فعينُه خائِنَة، واللهُ يَعْلَمُ خِيانَتَها.
قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) .
إِنَّ التربيةَ القرآنيةَ متكاملةٌ متناسِقَة، فالقرآنُ يُرَبّي كُلّاً من الرجلِ والمرأَة،
ويأَخُذُ بأَيْديهما، ويَرْتَقي بهما إِلى عالمِ التَّسامي والفضائلِ والكمالات.
***
هل شعائر الحج من الوثنية؟
ادَّعى الفادي المفترِي أَنَ بعضَ شعائِرِ الحَجِّ أُخِذَتْ من الوثنية، مثلُ
السَّعْيِ بينَ الصَّفا والمَرْوَة.
قالَ: " جاءَ في سورةِ البقرة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)
قالَ البيضاوي: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) : هما عَلَما جَبَلَيْنِ بمكَّة.
(مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) : من أَعلامِ مناسِكِه، جمعُ شعيرة، وهي العَلامة.
(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) :
الحَجُّ لغةً: القصد، والاعتمارُ: الزيارة، فَغَلَبا شَرْعاً على قَصدِ البيتِ الحرام
وزيارَتِه، عَلى الوجهين المخصوصَيْن.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) :
كانَ إِسافُ على الصفا، ونائلة على المروة، وكانَ أَهْلُ الجاهلية إِذا سَعَوا
مَسَحوهُما، فلما جاءَ الإِسلامُ وكُسِرَت الأَصنامُ، تَحَرَّجَ المسلمونَ أَنْ يَطَّوَّفوا بينَهما لذلك، فنزلَتْ، والإِجماعُ على أَنَّه مَشروعٌ في الحَجِّ والعمرة!.
" ونحنُ نسأَل: كيفَ يَجعلُ القرآنُ الشعائِرَ الوثنيةَ شعائِرَ الله؟
وهل كان الوَثَنِيُّون مُلْهَمين فيها من الله؟ ".
إِنَّ تساؤُلَ الفادي خَبيث، وهو يَهدفُ إِلى التشكيكِ في أَحكامِ القرآن،
والاعتراضِ عليها، ونفيِ أَنْ تَكونَ من عندِ الله.(1/396)
كانَ العربُ في الجاهليةِ يَحُجّونَ على طريقتِهم، ويَطوفونَ بالبيت،
ويَسعونَ بينَ الصَّفا والمروة، ويَقِفونَ بعَرَفات، ويُقيمونَ في مِنى.
ولما جاءَ الإِسلامُ أَمَرَ المسلمينَ بالحَجِّ، واعتَبَرَهُ رُكْناً من أَركانِ الإِسلام.
ومن أَركانِ الحَجِّ السعيُ بينَ الصَّفا والمروة، بنَصّ الآيةِ المذكورة،
وبفعْلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
صَحيحٌ أَنَّ العربَ الجاهليّين الوثنيِّين كانوا يَسعونَ بينَ
الصَّفا والمروة، لكنَّ القرآنَ لم يَأَخُذ تشريعَه عنهم، كما يَزعمُ الفادي
المفتري، فليس في مناسِكِ الحَجِّ شيءٌ من شعائِرِ الجاهلية.
إِنَّ الحَجَّ مرتبطٌ بإبراهيمَ وإِسماعيلَ - صلى الله عليهما وسلم -، فهما اللَّذان بَنَيا البيتَ الحرام، أَوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ في الأَرضِ لعبادةِ الله، ولما فَرَغا من بنائِه أَمَرَ اللهُ إِبراهيمَ - عليه السلام - أَنْ يُؤَذِّنَ في الناسِ بالحَجّ، فَفَعَل، وحَجَّهُ أَوَّلُ فوجٍ من الحُجّاجِ زمنَ إِبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -.
قالَ تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .
واستمرَّ الناسُ يَحُجّون، منذُ إِبراهيمَ - عليه السلام -، يَتَوارَثونَ الحَج منذُ ذلك التاريخ، لكنَّهم يَرتكبونَ فيه كَثيراً من مظاهرِ الشركِ والمخالفات.
فلما جاءَ الإِسلامُ طَهَّرَ الحَجَّ من ممارساتِ الجاهليِّين الباطلة، وأَعادَ له صِلَتَهُ الإِيمانية بإبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، وأَعطاهُ طابَعَهُ الإِيمانيّ، وجَعَلَه عبادةً خالصةً لله - عز وجل -.
وبذلك صارَتْ شعائرُ الحَجِّ إِسلاميةً ربانية، وليستْ وثنيةً جاهلية!.
ومما يُؤَكِّدُ هذا المعنى الحوارُ الذي دار بين عروةَ بنِ الزبير وخالتِه
عائشة - رضي الله عنها -.
روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عروةَ بنِ الزبير: أَنه قالَ لعائشةَ - رضي الله عنها -: قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .
فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما!
فقالَتْ عائشة: لو كانَتْ كما تَقولُ لكانَتْ: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ".(1/397)
إِنما أُنزلَتْ هذه الآية ُ في الأَنْصار، كانوا يُهلّونَ لمناة، وكانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْد، وكانوا يتحرَّجون أَنْ يَطَّوفوا بينَ الصفا والمروة، فلما جاءَ الإِسلامُ سأَلوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأَنزلَ اللهُ الآية ...
تُصَحِّحُ عائشةُ - رضي الله عنها - لابن أُخْتِها عروةَ بنِ الزبيرِ معنى الآية، فقد فَهِمَ عُروةُ من الآيةِ أَنها تُبيحُ للحاجِّ أَو المعتمرِ عَدَمَ الطَّوافِ بهما، فبيَّنَتْ له أَنَّ الآيةَ توجِبُ عليه الطوافَ بهما، وأَنه لو كانَ مَعْناها كما فَهِمَ عروةُ لقالَتْ: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ".
ثم ذَكرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - مُناسبةَ نُزولِ الآية، وأَشارَتْ إِلى بعضِ ممارساتِ العربِ الجاهليّين في الحج، فكانَ العربُ من أَهْلِ المدينة لا يَطوفونَ بينَ الصّفا والمروة، فلما أَسْلَموا ورأَوا المسلمينَ من المهاجِرين يَفْعلونَ ذلك
سأَلوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، فأَنزلَ اللهُ الآيةَ يَأَمرُ المسلمين أَنْ يَسْعَوْا بينَ الصَّفا والمروة، ويُزيلُ التحرجَ الذي كانَ عليه أَهْلُ المدينةِ قبلَ الإسلام: (فَلَا جُنَاحَ عَليهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .
وبهذا نعرفُ افتراءَ الفادي المفترِي عنْدَما جعلَ السعيَ بين الصَّفا
والمروةِ شعيرةً وثنيةً جاهلية! فهو تَشريعٌ قرآني، وأَمْرٌ ربّاني، وعبادةٌ
خالصةٌ لله!.
***
حول إباحة التجارة في موسم الحج
اعترضَ الفادي على وُرودِ آيةٍ قرآنيةٍ تُبيحُ التجارةَ في موسمِ الحَجِّ؟
لأَنَّ الأَمْرَ سَهْلٌ لا يَستدعي نَصَّ القرآنِ عليه!.
قال: " جاءَ في سورةِ البقرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) .
كانَ العربُ في الجاهليةِ يَتَّجرونَ في أَسواق عُكاظ ومَجَنَّةَ وذي المَجاز، وكانَ لهم مواسم، فكانوا يُقيمونَ بعُكاظَ عِشْرِين(1/398)
يوما من ذي القعدة، ثم يَنْتَقلون إِلى مَجَنَّة، وهي عند عَرَفَة، فيُقيمونَ بها ثمانيةَ عَشَرَ يوماً، عشرةُ أَيامٍ من آخِرِ ذي القعدة، وثمانيةُ أَيام من أَولِ ذي الحجة، ثم يَخْرُجون إِلى عَرَفَة.
فلما كانَ الإِسلام، فكأَنهم تَأَثَّموا أَنْ يَتَّجروا في الموسمِ، فأَجازَ لهم
محمدٌ ذلك.
وعن أَبي ماجه [الصحيح: أَبي أُميمَة] ، التيمي قال: كُنتُ رَجُلاً أُكْرى في
هذا الوَجْه، وكانَ الناسُ يقولونَ لي: إِنَّه ليسَ لَكَ حَجّ، فلقيتُ ابْنَ عُمَرَ
وسأَلْتُه عن ذلك، قال: إِنَّ لك حَجّاً.
وجاءَ رجلٌ إِلى محمد، فسأَلَه عن ذلك، فلم يُجِبْهُ، وأخيراً قال بالجَوَازِ ...
ونحنُ نَسأل: هل كَانَ في الأَمْرِ شيءٌ جَديدٌ يَحتاجُ إِلى وَحْي؟
أَليسَ إباحَةُ محمدٍ للتجارة في موسمِ الحَجّ شيئاً عاديّاً يتَنَاسَبُ مع مَصالحِ العَرَبِ الدنيويَّة؟ ".
الروايةُ الصحيحةُ في نزول الآيةِ ليستْ هكذا، فالفادي يأخُذُ الروايةَ من
مصادرَ غيرِ موثوقة، علاوةً على تصرُّفهِ في كلماتِ النَّصّر الذي أَمامَه.
روى البخاريُّ عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - قال: كانَتْ عُكاظُ ومَجَنَّةُ وذُو المجاز أَسْواقاً في الجاهلية، فتَأَثَّموا أَنْ يَتَّجِروا في المواسِم، فنزلَت الآيَة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) : في مواسِمِ الحج.
والروايةُ في السببِ المباشرِ لنزول الآيةِ أَخرجَها أَبو داود وأَحمدُ عن
أَبي أُمامَةَ التيمي قال: قُلْتُ لابنِ عُمَر: إِنّا قَوْمٌ نُكْرى، فهل لنا حَجّ؟
قال: أَليسَ تَطوفونَ بالبيت، وتَأَتونَ المعَرَّفَ، وتَرمونَ الجِمار، وتَحْلِقونَ رُؤوسَكم؟
قُلْنا: بَلى..
قال: جاءَ رَجُلٌ إِلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسأَلَه عن الذي سأَلْتَني عنه، فلم يَدْرِ ما يَقول له، حتى نَزَل جبريلُ مم - عليه السلام - عليه بهذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) .
فقالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: أَنتم حجاج.(1/399)
واعتراضُ الفادي على الآيةِ دَليلُ جَهْلِه، فقد ظَنَّ لجَهْلِهِ أَنَّ لأَمْرَ لا
يَسْتَدعي نُزولَ الآيةِ بإِباحةِ التجارةِ في موسمِ الحج؟
لأَنَّ العَرَبَ في الجاهليةِ كانوا يُتاجرون، والأَصْلُ بَقاءُ الأَمْرِ على ما كانَ عليه، فما الدّاعي لإِنزالِ آيةٍ تُبيحُ شَيْئاً هو مُباح؟!.
لقد كانَ العربُ في الجاهليةِ يُتاجِرونَ في موسمِ الحَجّ، فلما أَسْلَموا
تَحَرَّجوا من ذلك، وتَأَثَّموا منه، ولذلك توقَّفوا عَنْه، لأَنهم ظَنُّوه غيرَ جائِز،
ولا يَتفقُ مع التَّجردِ للهِ أَثناءَ أَداءِ المناسك.
وجاءَ أَحَدُهم إِلى النبى - صلى الله عليه وسلم - يسأَلُه عن جواز ذلك، فتوقَّفَ النبيُّ - عليه السلام - عن الجواب، لأَنَّه ليس عندَه فيه شيءٌ جَديد، فأَنزلَ اللهُ الآيةَ جواباً على السؤال، مُبيحاً التجارةَ في الحج.
وهذا التحرُّجُ والتوقُّفُ من الصحابةِ بانتظارِ معرفةِ الحكْمِ الشرعيِّ شهادةٌ
لصالحهم، لأَنه يدلّ على التزامِهم بحكْمِ الله، وعدمِ مخالفَتِه، بحيثُ يتوقَّفون
عَمَّا كانوا يَعملونَه، بانتظارِ حُكم الله فيه.
فلما أَنزلَ اللهُ الآيةَ وأَباحَ فيها التجارةَ في موسمِ الحج، أَزالَ تَحَرجَهم
وتَأَثّمَهم، وأَعْطى تَصرُّفَهم السابقَ بُعْداً إِسلاميّاً.
***
من الدي حدد وقت الحج؟
ذَهَبَ الفادي المفترِي إِلى أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حَدَّدَ وَقْتَ الحَجّ، وأَنه في شهرِ ذي الحِجَّة!
قالَ في افترائه: " كانَ بعضُ أَهْلِ الجاهليةِ يَقفُ بعَرَفَة، وبعضهم بمزدَلِفة، وكان يَحُجُّ بعضهم في ذي القعدة، وبعضهم في ذي الحِجّة!
وكلٌّ يَقول: الصوابُ فيما فَعَلْتُه!
فقال محمد: لا شكَّ أَنَّ الحَجَّ في ذي الحِجّة ".(1/400)
ولا يَعْنينا اختلافُ القبائلِ العربيةِ الجاهليةِ في وَقْتِ الحَجِّ ومكانِه، فقد
كانوا في الجاهلية يَخْتَلفون في كُلِّ شيء.
إنما يَعنينا تقريرُ حقيقةٍ إسلاميةٍ تشريعية، وهي أَنَّ اللهَ هو صاحبُ الحكْمِ
والتشريع! فالأَوامرُ والتَّشريعاتُ من عند الله، أَمَرَ بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَشْرَعْها ويَبْتَدِعْها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ اللهَ هو الذي حَدَّدَ مكانَ الحَجِّ وزَمانَه وأفعالَه..
وكان الفادي كاذِباً مفترياً عندما زَعَمَ أَنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فَعَلَ ذلك! قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) .
واللهُ هو الذي شَرَعَ الحَجَّ منذُ أَيامِ إِبراهيمَ - عليه السلام -.
قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) .
وكم كانَ الفادي مُفْتَرياً ومُجْرِماً عندما قال: " ونحنُ نَسْأَلُ: أَليسَ هذا
ْالقولُ هو من الأَدِلَّةِ على أَنَّ ديانَتَه هي من مُشْركي العرب؟ ".
وهذا الذي يُريدُ المجرمُ أَنْ يَصلَ إِليه، فهو يَرى أَنَّ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - ليس رسولَ الله، وأَنَّ القرآنَ ليس كلامَ الله، وأنَّ الإِسلامَ ليس دينَ الله، وإِنما أَخَذَهُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من المشركين الذينَ حولَه!.
وقد كانَ القرآنُ واضحاً صَريحاً في تَقْريرِ حقيقةِ أَنَّ الإِسلامَ هو الدينُ
الذي ارْتَضاهُ اللهُ لنا، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) .
واعترضَ الفادي على الأَمْرِ بالتزوُّدِ للحَجِّ، فقال: " إِنَ باقي الآيةِ يَقول:
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) .
وسببُ هذا أَنَّ أُناساً من أَهْلِ اليمن كانوا يَخْرُجون للحَح من غيرِ زادِ، ويقولون: نحن متوكِّلون.(1/401)
ويقولون: نحنُ نحجُّ بيتَ رَبّنا أفلا يُطْعِمُنا؟!
فإذا قَدِموا مكةَ تَسَوَّلوا طَعامَهم، وربما أَفْضى بهم
الحال إِلى السَّلْبِ والنَهْب، فقال لهم محمد: " فتزودوا "..
وهو أَمْرٌ بَدَهي، ليس فيه شيءٌ فوق مستوى العقل، حتى يَحتاجَ إِلى وَحْي..
".
إِنَه يَرى أَنَّ التزوُّدَ بالزادِ للحَجِّ أَمْرٌ بَدَهِيٌّ عاديّ، يَفعلُه كُلُّ إِنسانٍ يُريدُ
السَّفَر، ولا يَحتاجُ إِلى تَدَخُّلِ الوَحْي.
وهو يُخطئُ في النظرِ إِلى الوَحْي، عندما يَظُن أَنَ الوحْيَ لا يتدَخَّلُ إِلّا
في الأُمورِ الصعبة، التي هي فوقَ مستوى العقل!.
لقد عَرَفْنا من تَنَزُّل القرآن وأَسبابِ نزول بَعْضِ آياتِه، أَنَّ كَثيراً من آياتِ
القرآنِ كانت تنزل ابتداءً، بدونِ حادثةٍ أَو سَبَب، ولا تَتحدَّثُ عن أُمورٍ فوقَ مستوى العَقْل، إِنما تتحدَّثُ عن أُمورٍ عادِيةٍ حياتيةٍ خَبَرِيةٍ عملية..
وما نَزَل من الآياتِ على أَسبابٍ خاصة لم تكن تلكَ الأَسبابُ أو الحوادثُ فوقَ مستوى العَقْل، وإِنما كانت أَسْباباً مألوفةً عاديةً في حياةِ المسلمين.
ثم إِنَّ قولَه تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) نَزَل لِيُصَوِّبَ ويُصحِّحَ
نظرةَ بعضِ المسلمين في التوكلِ على الله، فقد كانَ بعضُ أَهْلِ اليمنِ يأتونَ للحج، وليس معهم شيءٌ من الزاد، ويقولون: نحنُ متوكّلونَ على الله، ونحنُ ضُيوفُ الله وحُجّاجُ بيتِه، ومن غير المعقول أَنْ يَتَخَلّى اللهُ عَنا وأَنْ لا يَرْزُقَنا!.
فكانَ إنزال هذه الجملة من الآيةِ لِتصحيحِ هذه النظرة، وإِبطال ما فيها
من خَطَأ، وهَدَفت الآية ُ إلى أَنَّ التوكُّلَ على اللهِ لا يَعني عدمَ الأَخْذِ
بالأَسْباب، بل إِنه يوجِبُ على المتوكلِ الأَخْذَ بالأَسباب.
فقُدومُ الحُجّاجِ إِلى الحَج متوكّلينَ على اللهِ يوجِبُ عليهم التزوُّدَ بالزادِ
المادي والزادِ المعنويّ الذي هو التقوى!.
ومن حِقْدِ الفادي وكُرْهِه وبُغْضه لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وحربِه للقرآنِ(1/402)
والإسلام، أَنه كانَ حَريصاً على عدمِ الإخبارِ بأَنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، والتأكيدِ على أَنه كلامُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويَبدُو هذا في قولِه: فقال لهم محمد: (وَتَزَوَّدُوا) فهذه الكلمةُ في الآية، لكنَّ المفترِي جَعَلَها من كلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم.
***
هل الإفاضة من أعمال الجاهلية؟
اعتبرَ الفادي قولَ اللهِ - عز وجل -: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) ، دَليلاً على أَنَّ أَعْمالَ الحَجّ التي يُؤَدّيها المسلمون من أَعمالِ
الوثنيّين الجاهليّين، وليسَ تَشريعاً من الله رَبّ العالمين!.
الأَمْرُ في الآيةِ لقريش، يَأمُرُهم فيه بالتَّخَلّي عن عادتِهم التي كانوا عليها
في الجاهلية، فقد كانَ القرشيّون في الجاهليةِ يُسَمّون أَنْفُسَهم " الحُمْس "،
لأَنَّهم سَدَنَةُ بيتِ اللهِ الحرام، وكانوا لا يَقِفون مع النّاسِ في عَرَفات، ويتميَّزونَ عنهم بالوقوفِ في المزدلفة، ويَعتبرونَ الوقوفَ مع عامةِ الناسِ لا يَتفقُ مع منزلتِهم الدينية.
فلما أَوجبَ اللهُ على المسلمين الحَجَّ دَعا أَهْلَ قريشٍ المسلمين إِلى عَدَمِ
التميزِ عن باقي الحجاج، وأَوجبَ عليهم الوقوفَ بعَرَفَة معهم، والإفاضةَ من
عرفاتٍ إِلى مزدلفةَ ليلةَ العيدِ معهم، والسيرَ معهم، وعَدَمَ التميز عنهم.
قالَ الفادي: "..
قالَ أَهلُ التفسير: كانت قريشٌ ومن دانَ بدِينِها - وهم الحُمْسُ - يَقِفون بالمزدلفة، ويَقولون: نَحْنُ أَهْلُ الله..
وكانوا يَتعاظمون أَنْ يَقفوا معَ سائرِ الناسِ بعرفات، فإِذا أَفاضَ الناسُ من عرفاتٍ أفاضَ الحُمْسُ من المزدلفة، فلما جاءَ محمدٌ أَمَرَهم أَنْ يَقِفوا مع سائِر الناس، ثم يُفيضوا منها إِلى جمع ".
وخَرَجَ من ذلك بالنتيجةِ الشيطانيةِ الخبيثة، التي اعتبرَ بها الإِسلامَ(1/403)
مأخوذاً من الجاهلية، قال: " ونحنُ نسأل: أَليسَ الأَمْرُ بالوُقوفِ على عرفات والإِفاضةِ منها كسائرِ الناسِ في الجاهلية دَليلاً على أَنَّ أَركانَ الحَجّ من أَصْلٍ وثنيّ، وأَنه ليس من التشريعِ السماويِّ في شيء؟ ".
طريقةُ الفادي في البحثِ والاستدلالِ والاستنباطِ عجيبة غريبة، مُثيرةٌ
للسخريةِ.
فالإِسلامُ عنده مأخوذ منَ الممارساتِ الجاهلية، والعاداتِ الوثنية،
بدليل وجودِ آيةٍ في القرآن تُصحّحُ أَداءَ قريشٍ لمناسكِ الحج، فقد كانَ
القرشيّونَ في الجاهليةِ لا يَحُجّونَ مع باقي الناس، فلما أَمَرَهم القرآنُ بالحجّ
مع الناس، والوقوفِ بعرفةَ مع الناس، والإِفاضةِ معهم إِلى مزدلفة، دَلَّ هذا
على أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ أَحكامَه من الجاهلية! مع أَنه يَدْعوهم إِلى التخلّي عن تلك الجاهلية!.
***
هل أركان الحج من الجاهلية؟
عادَ الفادي المفترِي إِلى التأكيدِ على أَنَّ كُلَّ أَعمالِ الحَجِّ ومناسِكِه
مأخوذة من الجاهلية، وهي المسألةُ التي تحدَّثَ عنها أَكثرَ من مرةٍ فيما مضى.
فبعدَ أَنْ ذَكَرَ أَربعَ آياتٍ من سورةِ البقرةِ تتحدَّثُ عن الحج، استخرجَ منها دلالتَه العجيبةَ المعتادة: " كان اسْمُ شهرِ ذي الحِجَّةِ المخصَّصِ
للحَجِّ موجوداً قبلَ الإِسلام، وكذلك كان الإِحرامُ (وهو البُعْدُ عن الرَّفَثِ
والصَّيْد) موجوداً قبلَ الإِسلام، كما كانت التجارةُ في الحَجّ موجودةً قبل
الإِسلام، وكذلك الإِفاضةُ من عرفاتٍ وإِلقاءُ الخُطَب وذِكْرُ المناقبِ عندَ
المشْعَرِ الحرام ...
فاتَّخَذَ الإِسلامُ عاداتِه وشعائِرَه من عادات العرب المشركين..".(1/404)
الإِسلامُ عند الفادي المفترِي ليسَ من عندِ الله، وإِنما هو من وَضْعِ
واختيارِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أَخَذَه وانْتَقاهُ من عادات العرب المشركين في الجاهلية، حيثُ كان يَلْتَقي بهم، ويَختارُ من حياتِهم ما يريد، ثم يُسجلُه ويقدمُه لأَصحابِه، زاعماً أَنَّ اللهَ أَوحى به إِليه!.
والدليلُ عندَ المفترِي على ذلك، أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ شعائرَ وعاداتِ الحج من العربِ الجاهليّين، وزَعَمَ أَنَّ اللهَ هو الذي أَوحى به إِليه: أَبْقى اسْمَ شهرِ الحَجّ " ذي الحجة " على اسْمِه الجاهلي، وأَبْقى الإِحرامَ على صورتِه الجاهلية، وأَبْقى التجارةَ في موسمِ الحَجِّ كما كانتْ عليه في الجاهلية، وأَبْقى الإِفاضةَ من عرفاتٍ على ما كان يَفعلُه أَهْلُ الجاهلية!!.
ولو كانَ الحَجُّ تشريعاً من عندِ الله لأَلْغى كُلَّ هذه الأَعمالِ الجاهلية،
وأَمَرَ بأَعمالٍ إسلاميةٍ جديدة!!.
وقد سبقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي المفترِي في هذا الأَمْر، وبَيّنّا أَنَّ الحَجَّ ذو
نَسَبِ إِيماني، وأَنه سابِقٌ على العَرَبِ الجاهليّين، وأَوَّلُ مَنْ حَجَّ هو إِبراهيمُ
الخلَيلُ - عليه السلام -، والعَربُ المشركونَ في الجاهليةِ تَوارَثوا أعمالَ وشعائِرَ الحَجِّ عن إبراهيم - عليه السلام -، وأَضافوا لها الكثيرَ من ممارساتِهم الخاطئة، التي تَقومُ على الشركِ بالله، فلما جاءَ الإِسلامُ أَزالَ الممارساتِ الجاهليةَ الخاطئةَ عن مناسكِ الحج، وأَعادها إِلى أَصْلِها الإِيمانيِّ العريق، وأَبقى الأَعمالَ النظيفةَ والشعائِرَ الصحيحةَ، لأَنها إِيمانيةُ الأَصل، كالوقوفِ بعَرَفَة والإِفاضة والإِحرام، فهي ليستْ عاداتٍ وشعائرَ مأخوذةً من الجاهليةِ كما زَعَمَ الفادي الجاهل!.
***
حول توزيع الزكاة
حَدَّدَ اللهُ الأَصنافَ الذين تُدْفَعُ لهم الزكاة، وبَيَّنَ أَنها ثَمانيةُ أَصْنافٍ
فقط! قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) .(1/405)
وقد اعترضَ الفادي المفترِي على بَعْضِ مَصارفِ الزكاة، واعتبرَ دَفْعَها لبعضِ
الأَصنافِ المذكورين في الآية نوعاً من الرشوة، التي لا تَتفقُ مع دينِ الله!
قال: " ومَعلومٌ أَنَّ الزكاةَ هي أَحَدُ أَركانِ الدينِ الإِسلاميِّ الخمسة، التي هي: الصلاةُ والزكاةُ والصومُ والحَجُّ والشهادتان.
فهي من صميم الدينِ الإِسلامي، وهي ليستْ مخصصَةً للفقراءِ والمساكين، ولكن يُصْرَفُ منها في أَغراضٍ إِسلاميةٍ بحتة، وصُرِفَ
منها للمؤلَّفةِ قلوبُهم، ولو كانوا أَغنياء، لاستمالتِهم لقَبولِ الإِسْلام، وتُصْرَفُ في شراءِ الأَسلحةِ وتَجهيزِ الجُنْدِ لقتال الكفار، والجهادِ في سبيل الإِسلام ...
وللمسيحيّين كتابُهم المقَدَّس، الذي يَقْضي بتقديم العُشورِ للصَّرْفِ على
الفقراء، وتَعمير الكنائس، وإعالةِ رجال الدين، ونَشْرِ الكتابِ المُقَدَّس ومبادئ المسيحية..
ويُحَرِّمُ الكتابُ المقَدَّسُ الدعوةَ للدّين باستخدامِ المال للاستمالة،
أَو السيفِ للإِرهاب، فأَتْباعُ الدينِ المسيحيِّ قَدَّموا دعوتَه بالمحبةِ والشجاعةِ
والتضحيةِ على مثال المسيح.. " (1) .
يَرى المفترِي أَنَّ إِعطاءَ المؤلَّفَةِ قلوبُهم من الزكاة خَطَأٌ " لأَنه لا يَجوزُ
استخدامُ المال لنشْرِ الدعوةِ أَوْ ترغيبِ الآخَرين، ويَذْكُرُ أَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ
يُحَرِّمُ ذلك على المسيحيّين، ويأمُرُهم بالدعوةِ بالمحبةِ والشجاعةِ والتضحية!.
وإِنَّ اللهَ العليمَ الحكيمَ يَعلمُ أَثَرَ المال الإِيجابيَّ في بعضِ النًّفوس،
ولذلك أَجازَ تأْليفَ قُلوبِ بَعْضهم بجزءٍ من مالِ الزكاة، إمّا بترغيبهم في
الإسلام واستمالتِهم وتقريبِهم إِليه، وإِمّا بتحييدِهم أَوْ تَقَليلِ عَداويهم للإِسلامِ والمسلمين.
وليس في هذا شيء، فما زال الناسُ قَديماً وحَديثاً يُعْطون
ويُهْدون، ويُوَثّقونَ روابطهم وعلاقاتِهم بشيءٍ من المال يدفعونَه لهذه الغاية!.
ويَفْتَري القادي عندما يَزعمُ أَنَّ الكتابَ المقَدَّسَ حَرَّمَ على النصارى
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
120- تحليل الإغراء بالمال
إن فى القرآن أن من مصارف الزكاة (والمؤلفة قلوبهم) وهذا إغراء بالمال للدخول فى الإسلام.
الرد على الشبهة:
إذا كان الإحسان إلى الناس إغراء لهم بالدخول فى الإسلام. فما بال النصارى ينشئون المستشفيات والمبرات الخيرية فى بلاد المسلمين وفى غير بلاد المسلمين لغرض التنصير والصد عن سبيل الله؟ وفى الدين الإسلامى أخذ الجزية من اليهود والنصارى إذا أصروا على ما نشأوا عليه. ولو كان التأليف إغراء؛ لما أخذ المسلمون منهم أموال الجزية. ذلك قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (1) .
وهل يسمى النصارى مكارم الأخلاق إغراء؟ والمؤلفة قلوبهم هم الذين ألف الله بين قلوبهم لقوله: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) (2) وللتأليف أسبابه. ومنها الإنفاق على طلاب العلم الذين يتولون هدايتهم إلى الله. وذلك بفتح دور للعلم فيها ليتعلم الطلاب لغات الأمم، ثم ينتشرون لتعليمهم وإزالة شبه الشيطان عن دينهم، ووضع القرآن بينهم، وما شابه ذلك. وهذا يُنفق عليه من أموال الزكاة. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) التوبة: 29.
(2) الأنفال: 63.(1/406)
استخدامَ المالِ للدعوةِ والاستمالةِ والتَبْشير، فالجمعيّاتُ التنصيريةُ النصرانيةُ
هي أَكثرُ الجمعياتِ استخْداماً للمالِ للتَّنْصير، والرهبانُ أَكثرُ الناسِ دَفْعاً
للأَموال تَرْغيباً في اعتناقِ النصرانية، وتَرْصدُ الكنائسُ الملايينَ من الدولاراتِ
لهذه الغاية، وتنتشرُ مجموعاتُ التَّنْصيرِ في كلِّ بِلادِ العالم، وتُرَكِّزُ على
ممارسةِ التَّنْصِيرِ بينَ المسلمين على وَجْهِ الخصوص، وتَقومُ على الدفعِ
والإِغراءِ بالمال..
ويقولُ لنا الفادي المفترِي بعدَ ذلك: يَحرمُ على النصارى
استخدامُ المالِ للدعوة.
وهم يَنْشرونَ دعوتَهم بالمحبةِ والتضحية!!.
كما يَرى الفادي المفترِي أَنَّ صرفَ جُزْءٍ من الزكاةِ لجهادِ وقتالِ الكفارِ
خَطَأ، ويعتبرُه نوعاً من سوءِ استخدامِ المال، وإِنفاقِهِ للإِرْهاب!.
وكلامُه باطل، فاللهُ أَوْجبَ على المسلمين جهادَ الأَعداءِ الطّامعين فيهم،
والشِّد والغلظةَ في قتالِهم، وإِيقافَ عُدْوانهم، وإِبطالَ مكائِدِهم ومُخَطّطاتِهم
ضدَّهم، وَوَعَدَهم على ذلك جزيلَ الأَجْرِ والثواب!
ومعلومٌ أَنَّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ يَحتاجُ إِلى كثيرٍ من الأَموالِ للإِنفاقِ عليه، ولذلك جعلَ اللهُ الإِنفاقَ عليه سهماً من أَسهمِ الزكاةِ الثمانية، واللهُ عليمٌ حكيمٌ في تَشريعِه سبحانه!.
***
توجيه تفضيل الرجال على النساء
ذَكَرَ الفادي آيَتَيْنِ تَتَحَدَّثانِ عن الصلةِ بينَ الرجالِ والنِّساء.
هما قولُه تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) .
وقولُه تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) .
ونَقَلَ كَلاماً للبيضاويِّ في تفسيرِ الآيَتَيْن، وبيانِ معنى القوامةِ والدرَجة، وأسبابِ ذلك.
ثم عَلَّقَ على ذلك مُخطِّئاً القرآنَ والإسلام، فقال: " ونحنُ نَسأل: لماذا
يَهْضِمُ الإِسلامُ حُقوقَ المرأة، فيعتبرُ من حَقِّ الرجلِ أَن يَملكَ نفسَها،(1/407)
بينما لا تمتلكُ المرأةُ إِلّا نَصيباً منْ مالِه؟
الطبيعيُّ أَنْ يكونَ جسدُ الرجلِ مِلْكَ المرأة، وجَسَدُ المرأةِ مِلْكَ الرجُل، ولماذا يستبدُّ الرجلُ بالفِراق، ولا يُسمحُ للمرأَةِ بالفراق إِذا رَأَتْ ذلك، في حالةِ خيانتِه، وإِنْ كانَ من العيبِ أَنْ تَضربَ المرأةُ الرجلَ، فلماذا تَسمحُ الشريعةُ الإِسلاميةُ للرجلِ أَنْ يَضربَ المرأة؟ " (1) .
يَجِبُ أَنْ نُفرقَ أَوّلاً بينَ القوامةِ والتَّفْضيل، فالقوامَةُ منزلةٌ دنيوية، تَقومُ
على المسؤوليةِ لمواهبَ وقُدُرات، أَمّا التفضيلُ فهو منزلةٌ دينية إِيمانية، يَرتفعُ
بها صاحِبُهَا عندَ الله.
لقد جعل اللهُ القوامةَ في الدنيا للرجالِ على النِّساء، بمعنى أَنه أَعطى
مسؤوليةَ إِدارةِ الأُسرةِ والبيتِ للرجُل، فهو صاحبُ القِوامةِ والمسؤوليةِ والقيادةِ والحكمِ في هذه المؤسسة.
وذَكرت الآيةُ سَبَبَيْن لجعْلِ القوامةِ للرجال:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ...
السببُ الأوَّل: ما منحهُ اللهُ للرجالِ من مواهبَ وطاقاتٍ خاصّة، تَمَيَّزوا
بها عن النساء، تُؤَهِّلُهم للقيامِ بواجبِ القوامة، وإِدارةِ شُؤونِ الأُسْرَة،
وفَضَّلَهم اللهُ بهذه المواهبِ تَفْضيلاً دُنيوياً.
السببُ الثاني: ما أَوجبهُ اللهُ على الرجال من إِنفاقِ الأَموالِ على مُؤَسَّسةِ
الأُسْرَة، فالإِنفاقُ واجبٌ على الرجل، ولا يَجبُ على امرأَتِه أَنْ تُنفقَ شيئاً ولو كانتْ تملكُ المالَ الكثير.
وكونُ القوامةِ الدنيويةِ بيدِ الرِّجالِ لا يَعْني أَنَّ جِنْسَ الرجالِ أَفْضلُ من
جنس النساءِ عندَ الله، فأَساسُ التفضيلِ عندَ الله ليس الجنسَ أَو اللون، إِنما
هو الإِيمانُ والتقوى، كما قالَ الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ،فإذا كانت المرأةُ صالحةً تقيةً كانتْ أَفضلَ عندَ الله من زوجِها
غيرِ التَّقِيّ، أَو الأَدنى منها في التقوى.
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
134- الرجال قوَّامون على النساء
الرد على الشبهة:
فى المدينة المنورة نزلت آيات " القوامة " قوامة الرجال على النساء.. وفى ظل المفهوم الصحيح لهذه القوامة تحررت المرأة المسلمة من تقاليد الجاهلية الأولى، وشاركت الرجال فى العمل العام مختلف ميادين العمل العام على النحو الذى أشرنا إلى نماذجه فى القسم الأول من هذه الدراسة؛ فكان مفهوم القوامة حاضراً طوال عصر ذلك التحرير.. ولم يكن عائقاً بين المرأة وبين هذا التحرير..
ولحكمة إلهيةِ قرن القرآن الكريم فى آيات القوامة بين مساواة النساء للرجال وبين درجة القوامة التى للرجال على النساء، بل وقدم هذه المساواة على تلك الدرجة، عاطفاً الثانية على الأولى ب " واو " العطف، دلالة على المعية والاقتران.. أى أن المساواة والقوامة صنوان مقترنان، يرتبط كل منهما بالآخر، وليسا نقيضين، حتى يتوهم واهم أن القوامة نقيض ينتقص من المساواة..
لحكمة إلهية جاء ذلك فى القرآن الكريم، عندما قال الله سبحانه وتعالى فى الحديث عن شئون الأسرة وأحكامها:
(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) (1) .
وفى سورة النساء جاء البيان لهذه الدرجة التى للرجال على النساء فى سياق الحديث عن شئون الأسرة، وتوزيع العمل والأنصبة بين طرفى الميثاق الغليظ الذى قامت به الأسرة الرجل والمرأة فإذا بآية القوامة تأتى تالية للآيات التى تتحدث عن توزيع الأنصبة والحظوظ والحقوق بين النساء وبين الرجال، دونما غبن لطرف، أو تمييز يخل بمبدأ المساواة، وإنما وفق الجهد والكسب الذى يحصِّل به كل طرف ما يستحق من ثمرات.. (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليماً * ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيداً * الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم..) (2) .
ولقد فقه حبر الأمة، عبد الله بن عباس [3ق هجرية 68 هجرية / 619 687م] الذى دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يفقهه فى الدين فهم الحكمة الإلهية فى اقتران المساواة بالقوامة، فقال فى تفسيره لقول الله، سبحانه وتعالى -: (ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) تلك العبارة الإنسانية، والحكمة الجامعة: " إننى لأتزين لامرأتى، كما تتزين لى، لهذه الآية "!
وفهم المسلمون قبل عصر التراجع الحضارى، الذى أعاد بعضاً من التقاليد الجاهلية الراكدة إلى حياة المرأة المسلمة مرة أخرى - أن درجة القوامة هى رعاية رُبّان الأسرة الرجل لسفينتها، وأن هذه الرعاية هى مسئولية وعطاء.. وليست ديكتاتورية ولا استبدادا ينقص أو ينتقص من المساواة التى قرنها القرآن الكريم بهذه القوامة، بل وقدمها عليها..
ولم يكن هذا الفهم الإسلامى لهذه القوامة مجرد تفسيرات أو استنتاجات، وإنما كان فقهاً محكوماً بمنطق القواعد القرآنية الحاكمة لمجتمع الأسرة، وعلاقة الزوج بزوجه.. فكل شئون الأسرة تُدار، وكل قراراتها تُتَّخذ بالشورى، أى بمشاركة كل أعضاء الأسرة فى صنع واتخاذ هذه القرارات، لأن هؤلاء الأعضاء مؤمنون بالإسلام والشورى صفة أصيلة من صفات المؤمنين والمؤمنات (والذين يجتنبون كبائرالإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون *والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون) (3) .
فالشورى واحدة من الصفات المميزة للمؤمنين والمؤمنات، فى كل ميادين التدبير وصناعة القرار.. والأسرة هى الميدان التأسيسى والأول فى هذه الميادين.. تجبُ هذه الشورى، ويلزم هذا التشاور فى مجتمع الأسرة - لتتأسس التدابير والقرارات على الرضا، الذى لا سبيل إليه إلا بالمشاركة الشورية فى صنع القرارات.. يستوى فى ذلك الصغير والخطير من هذه التدابير والقرارات.. حتى لقد شاءت الحكمة الإلهية أن ينص القرآن الكريم على تأسيس قرار الرضاعة للأطفال - أى سقاية المستقبل وصناعة الغد على الرضا الذى تثمره الشورى.. ففى سياق الآيات التى تتحدث عن حدود الله فى شئون الأسرة.. تلك الحدود المؤسسة على منظومة القيم.. والمعروف.. والإحسان.. ونفى الجُناح والحرج.. وعدم المضارة والظلم والعدوان.. والدعوة إلى ضبط شئون الأسرة بقيم التزكية والطهر، لا " بترسانة " القوانين الصماء!.. فى هذا السياق ينص القرآن الكريم على أن تكون الشورى هى آلية الأسرة فى صنع كل القرارات: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) (4) .
هكذا فهم المسلمون معنى القوامة.. فهى مسئولية وتكاليف للرجل، مصاحبة لمساواة النساء بالرجال.. وبعبارة الإمام محمد عبده: " إنها تفرض على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء ".
وكانت السنة النبوية فى عصر البعثة البيان النبوى للبلاغ القرآنى فى هذا الموضوع.. فالمعصوم صلى الله عليه وسلم الذى حمّله ربه الحمل الثقيل فى الدين.. والدولة.. والأمة.. والمجتمع - (إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً) (5) . هو الذى كان فى خدمة أهله - أزواجه - وكانت شوراهن معه وله صفة من صفات بيت النبوة، فى الخاص والعام من الأمور والتدابير.. ويكفى أن هذه السنة العملية قد تجسدت تحريراً للمرأة، شاركت فيه الرجال بكل ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.. وحتى القتال.. كما كان صلى الله عليه وسلم دائم التأكيد على التوصية بالنساء خيراً..فحريتهن حديثة العهد، وهن قريبات من عبودية التقاليد الجاهلية، واستضعافهن يحتاج إلى دوام التوصية بهن والرعاية لهن.. وعنه صلى الله عليه وسلم تروى أقرب زوجاته إليه عائشة رضى الله عنها: " إنما النساء شقائق الرجال " رواه أبو داود والترمذى والدارمى والإمام أحمد وعندما سئلت:
ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فى بيته؟
قالت: " كان بشراً من البشر، يغلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه " رواه الإمام أحمد يفعل ذلك، وهو القَوَّام على الأمة كلها، فى الدين والدولة والدنيا جميعاً!..وفى خطبته صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع [10 هجرية / 632 م] وهى التى كانت إعلانا عالميا خالداً للحقوق والواجبات الدينية والمدنية - كما صاغها الإسلام أفرد صلى الله عليه وسلم للوصية بالنساء فقرات خاصة، أكد فيها على التضامن والتناصر بين النساء والرجال فى المساواة والحقوق والواجبات فقال: " ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً.. فاتقوا الله فى النساء، واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلغت!. اللهم فاشهد " (6) .
هكذا فُهمت القوامة فى عصر التنزيل.. فكانت قيادة للرجل فى الأسرة، اقتضتها مؤهلاته ومسئولياته فى البذل والعطاء.. وهى قيادة محكومة بالمساواة والتناصر والتكافل بين الزوج وزوجه فى الحقوق والواجبات ومحكومة بالشورى التى يسهم بها الجميع ويشاركون فى تدبير شئون الأسرة.. هذه الأسرة التى قامت على " الميثاق الغليظ " ميثاق الفطرة والذى تأسس على المودة والرحمة، حتى غدت المرأة فيها السكن والسكينة لزوجها حيث أفضى بعضهم إلى بعض، هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن، فهى بعض الرجل والرجل بعض منها: (بعضكم من بعض) (7) - (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (8) (هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن) (9) (وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) (10) .
وإذا كانت القوامة ضرورة من ضروريات النظام والتنظيم فى أية وحدة من وحدات التنظيم الاجتماعى، لأن وجود القائد الذى يحسم الاختلاف والخلاف، هو مما لا يقوم النظام والانتظام إلا به.
فلقد ربط القرآن هذه الدرجة فى الريادة والقيادة بالمؤهلات وبالعطاء، وليس بمجرد " الجنس " فجاء التعبير: (الرجال قوامون على النساء) وليس كل رجل قوّام على كل امرأة.. لأن إمكانات القوامة معهودة فى الجملة والغالب لدى الرجال، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند واحد من الرجال، كان الباب مفتوحاً أمام الزوجة إذا امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لديه لتدير دفة الاجتماع الأسرى على نحو ما هو حادث فى بعض الحالات!..
هكذا كانت القوامة فى الفكر والتطبيق فى عصر صدر الإسلام.. لكن الذى حدث بعد القرون الأولى وبعد الفتوحات التى أدخلت إلى المجتمع الإسلامى شعوباً لم يذهب الإسلام عاداتها الجاهلية، فى النظر إلى المرأة والعلاقة بها، قد أصاب النموذج الإسلامى بتراجعات وتشوهات أشاعت تلك العادات والتقاليد الجاهلية فى المجتمعات الإسلامية من جديد..
ويكفى أن نعرف أن كلمةٍ " عَوَان " التى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بها النساء، فى خطبة حجة الوداع، والتى تعنى فى [لسان العرب] : " النَّصَف والوسط " (11) أى الخيار وتعنى ذات المعنى فى موسوعات مصطلحات الفنون (12) .. قد أصبحت تعنى - فى عصر التراجع الحضارى - أن المرأة أسيرة لدى الرجل، وأن النساء أسرى عند الرجال.. وأن القوامة هى لون من " القهر " لأولئك النساء الأسيرات!! حتى وجدنا إماماً عظيماً مثل ابن القيم، يعبر عن واقع عصره العصر المملوكى فيقول هذا الكلام الغريب والعجيب: " إن السيد قاهر لمملوكه،حاكم عليه، مالك له. والزوج قاهر لزوجته، حاكم عليها، وهى تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير " (13) !!
وهو فهم لمعنى القوامة، وعلاقة الزوج بزوجه، يمثل انقلاباً جذريا على إنجازات الإسلام فى علاقة الأزواج بالزوجات!.. انقلاب جذريًّا فالعادات والتقاليد الجاهلية التى أصبحت تغالب قيم الإسلام فى تحرير المرأة ومساواة النساء للرجال..
ووجدنا كذلك فى عصور التقليد والجمود الفقهى تعريف بعض " الفقهاء " لعقد النكاح، فإذا به: " عقد تمليك بضع الزوجة "!!.. وهو انقلاب على المعانى القرآنية السامية لمصطلحات " الميثاق الغليظ " و " المودة ".. والرحمة.. والسكن والسكينة.. وإفضاء كل طرف إلى الطرف الآخر، حتى أصبح كل منهما لباساً له "..
هكذا حدث الانقلاب، فى عصور التراجع الحضارى لمسيرة أمة الإسلام..
ولذلك، كان من مقتضيات البعث الحضارى، الحديث والمعاصر، لنموذج الإسلام فى تحرير المرأة وإنصافها، كبديل للنموذج الغربى الذى اقتحم عالم الإسلام فى ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية لبلادنا والذى شقيت وتشقى به المرأة السوية فى الغرب ذاته كان من مقتضيات ذلك إعادة المفاهيم الإسلامية الصحيحة لمعنى قوامة الرجال على النساء.. وهى المهمة التى نهضت بها الاجتهادات الإسلامية الحديثة والمعاصرة لأعلام علماء مدرسة الإحياء والتجديد..
فالإمام محمد عبده، قد وقف أمام آيات القوامة (ولهن مثل الذىعليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) (14) فإذا به يقول:
" هذه كلمة جليلة جداً، جمعت على إيجازها مالا يُؤَدى بالتفصيل إلا فى سفر كبير، فهى قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل فى جميع الحقوق، إلا أمراً واحداً عبّر عنه بقوله: (وللرجال عليهن درجة) وقد أحال فى معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس فى معاشراتهن ومعاملاتهن فى أهليهن، وما يجرى عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم..
فهذه الجملة تعطى الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه فى جميع الشئون والأحوال، فإذا همّ بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس، رضى الله عنهما: إننى لأتزين لامرأتى كما تتزين لى، لهذه الآية.
وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها، وإنما المراد: أن الحقوق بينهما متبادلة، وأنهما كفئان، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها، وإن لم يكن مثله فى شخصه، فهو مثله فى جنسه، فهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره مالا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه فى مصالحه، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول فى الحياة المشتركة التى لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه..
هذه الدرجة التى رُفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده..
لقد خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة، فى العبادات والمعاملات، كما خاطب الرجال، وجعل لهن مثل ما جعله عليهن، وقرن أسماءهن بأسمائهم فى آيات كثيرة، وبايع النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم، وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن فى الدنيا والآخرة..
وأما قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة) فهو يوجب على المرأة شيئاً، وذلك أن هذه الدرجة درجة الرياسة والقيام على المصالح، المفسرة بقوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) (15) .
إن الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولا بد لكل اجتماع من رئيس، لأن المجتمعين لابد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم فى بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إلى رأيه فى الخلاف، لئلا يعمل كل ضد الآخر فتفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هى مطالبة بطاعته فى المعروف.
إن المراد بالقيام " القوامة " هنا هو الرياسة التى يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره، وليس معناه أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه.
إن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد، فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن.
أما الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة فى بيوتهم، فإنما يلدون عبيدًا لغيرهم " (16) !!.
" وإذا كانت عصور التراجع الحضارى كما سبق وأشرنا قد استبدلت بالمعانى السامية لعقد الزواج المودة، والرحمة، والسكن والميثاق الغليظ " ذلك المعنى الغريب "عقد تمليك بُضع الزوجة "! - وعقد أسر وقهر!. فلقد أعاد الاجتهاد الإسلامى الحديث والمعاصر الاعتبار إلى المعانى القرآنية السامية.. وكتب الشيخ محمود شلتوت [13101383 هجرية 1893 1963م] فى تفسيره للقرآن الكريم تحت عنوان [الزواج ميثاق غليظ] يقول:
" لقد أفرغت سورة النساء على عقد الزواج صبغة كريمة، أخرجته عن أن يكون عقد تمليك كعقد البيع والإجارة، أو نوعا من الاسترقاق والأسر حيث أفرغت عليه صبغة " الميثاق الغليظ ".
ولهذا التعبير قيمته فى الإيحاء بموجبات الحفظ والرحمة والمودة. وبذلك كان الزواج عهدا شريفاً وميثاقاً غليظاً ترتبط به القلوب، وتختلط به المصالح، ويندمج كل من الطرفين فى صاحبه، فيتحد شعورهما، وتلتقى رغباتهما وآمالهما. كان علاقة دونها علاقة الصداقة والقرابة، وعلاقة الأبوة والبنوة (هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن) (17) (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (18) . يتفكرون فيدركون أن سعادة الحياة الزوجية إنما تُبنى على هذه العناصر الثلاثة: السكن والمودة والرحمة..
وإذا تنبهنا إلى أن كلمة (ميثاق) لم ترد فى القرآن الكريم إلا تعبيرًا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد، والتزام الأحكام، وعما بين الدولة والدولة من الشئون العامة والخطيرة، علمنا مقدار المكانة التى سما القرآن بعقد الزواج إليها، وإذا تنبهنا مرة أخرى إلى أن وصف الميثاق " بالغليظ " لم يرد فى موضع من مواضعه إلا فى عقد الزواج وفيما أخذه الله على أنبيائه من مواثيق (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) (19) . تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التى رفع القرآن إليها هذه الرابطة السامية ".
ثم تحدث الشيخ شلتوت عن المفهوم الإسلامى الصحيح " للقوامة " فقال:
".. وبينت السورة الدرجة التى جعلها الله للرجال على النساء، بعد أن سوى بينهما فى الحقوق والواجبات، وأنها لا تعدو درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التى يمتاز بها الرجل على المرأة، بحكم الكد والعمل فى تحصيل المال الذى ينفقه فى سبيل القيام بحقوق الزوجة والأسرة، وليست هذه الدرجة درجة الاستعباد والتسخير، كما يصورها المخادعون المغرضون " (20) .
تلك هى شبهة الفهم الخاطىء والمغلوط لقوامة الرجال على النساء.. والتى لا تعدو أن تكون الانعكاس لواقع بعض العادات الجاهلية التى ارتدت فى عصور التراجع الحضارى لأمتنا الإسلامية فغالبت التحرير الإسلامى للمرأة حتى انتقلت بالقوامة من الرعاية والريادة، المؤسسة على إمكانات المسئولية والبذل والعطاء، إلى قهر السيد للمسود والحر للعبد والمالك للمملوك!.
ولأن هذا الفهم غريب ومغلوط، فإن السبيل إلى نفيه وإزالة غباره وآثاره هو سبيل البديل الإسلامى الذى فقهه الصحابة، رضوان الله عليهم للقوامه.. والذى بعثه من جديد الاجتهاد الإسلامى الحديث والمعاصر، ذلك الذى ضربنا عليه الأمثال من فكر وإبداع الشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت.
بل إننا نضيف، للذين يرون فى القوامة استبدادا بالمرأة وقهرا لها سواء منهم غلاة الإسلاميين الذين ينظرون للمرأة نظرة دونية، ويعطلون ملكاتها وطاقاتها بالتقاليد أو غلاة العلمانيين، الذين حسبوا ويحسبون أن هذا الفهم المغلوط هو صحيح الإسلام وحقيقته، فيطلبون تحرير المرأة بالنموذج الغربى.. بل وتحريرها من الإسلام!.. أقول لهؤلاء جميعاً:
إن هذه الرعاية التى هى القوامة، لم يجعلها الإسلام للرجل بإطلاق.. ولم يحرم منها المرأة بإطلاق.. وإنما جعل للمرأة رعاية - أى " قوامة " - فى الميادين التى هى فيها أبرع وبها أخبر من الرجال.. ويشهد على هذه الحقيقة نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذى على الناس راع عليهم، وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهى مسئولة عنهم.. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن راعيته " رواه البخارى والإمام أحمد.
فهذه الرعاية "القوامة "-هى فى حقيقتها " تقسيم للعمل " تحدد الخبرةُ والكفاءةُ ميادين الاختصاص فيه.. فالكل راع ومسئول-وليس فقط الرجال هم الرعاة والمسئولون-وكل صاحب أو صاحبة خبرة وكفاءة هو راع وقوّام أو راعية وقوّامة على ميدان من الميادين وتخصص من التخصصات.. وإن تميزت رعاية الرجال وقوامتهم فى الأسر والبيوت والعائلات وفقاً للخبرة والإمكانات التى يتميزون بها فى ميادين الكد والحماية..فإن لرعاية المرأة تميزاً فى إدارة مملكة الأسرة وفى تربية الأبناء والبنات.. حتى نلمح ذلك فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى سبق إيراده - عندما جعل الرجل راعياً ومسئولاً على " أهل بيته " بينما جعل المرأة راعية ومسئولة على " بيت بعلها وولده "..
فهذة " القوامة " - توزيع للعمل، تحدد الخبرة والكفاءة ميادينه.. وليست قهراً ولا قَسْراً ولا تملكا ولا عبودية، بحال من الأحوال..
هكذا وضحت قضية القوامة.. وسقطت المعانى الزائفة والمغلوطة لآخر الشبهات التى يتعلق بها الغلاة.. غلاة الإسلاميين.. وغلاة العلمانيين.
فالطريق مفتوح أمام إنهاض المرأة بفكر متزن يرى أنها مع الرجل قد خلقا من نفس واحدة وتساويا فى الحقوق والواجبات واختلفت وظائف كل منهما إختلاف تكامل كتكامل خصائصهما الطبيعية لعمارة الدنيا وعبادة الله الواحد الأحد. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) البقرة: 228.
(2) النساء: 32-34.
(3) الشورى: 37 - 39.
(4) البقرة: 233.
(5) المزمل: 5.
(6) [مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة] ص283. جمعها وحققها: د. محمد حميد الله. طبعة القاهرة سنة 1956م.
(7) آل عمران: 195.
(8) الروم: 21.
(9) البقرة: 187.
(10) النساء: 21.
(11) ابن منظور [لسان العرب] طبعة دار المعارف. القاهرة.
(12) انظر: الراغب الأصفهانى [المفردات فى غريب القرآن] طبعة دار التحرير. القاهرة سنة 1991م. وأبو البقاء الكفوى [الكليات] ق2 ص287. تحقيق: د. عدنان درويش، طبعة دمشق سنة 1982م.
(13) [إعلام الموقعين] ج2 ص106. طبعة بيروت سنة 1973م.
(14) البقرة: 228.
(15) النساء: 34.
(16) [الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده] ج 4 ص 606 - 611- وج5 ص 201، 203. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(17) البقرة: 187.
(18) الروم: 21.
(19) النساء: 21.
(20) [تفسير القرآن الكريم] ص 172 174. طبعة القاهرة 1399 هجرية 1979م.(1/408)
وقد جَعَلَ اللهُ للرجال على النساءِ درجةً، بعدَما ساوى بينهما في الحقوق
والواجبات، وذلك في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) .
والدرجةُ التي للرجال على النساء مرتبطةٌ بالقوامة، فالذي له القِوامَةُ له
على الطَّرف الآخر درجة.
فهذه الدرجةُ دنيوية، متعلِّقَةٌ بدفعِ المهر والنفقة وغيرِ ذلك من الأُمورِ الماليةِ الدنيوية، والدرجةُ الدنيويةُ لا تَعْني الدرجةَ الدينيةَ عند الله، فقد تكونُ المرأةُ أَعْلى درجةً عند الله من زوجها لتَقْواها.
وقد أَكرمَ الإِسلامُ المرأةَ عندما نَصَّ على أَنَّ لها على زوجِها حقوقاً،
مثلَ ما عليها له من واجبات: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) .
وبعدَ هذه الآيةِ الصريحةِ يأتي شَخْصٌ جاهِلٌ مثْلُ هذا الفادي، ليقول:
لماذا يَهضمُ القرآنُ حُقوقَ المرأة؟.
وإِنَّ الأَسئلةَ التي يَطرحُها الفادي دالَّةٌ على جَهْلِه وغَبائِه، فهو يَقول:
لماذا يَملكُ الرجلُ المرأَةَ بينما هي لا تملِكُه، إِنما تَملكُ جُزْءاً من مالِه؟
وإِذا كان قَصْدُه من سؤالِه مِلْكَ الأَمْرِ والنهي والمسؤولية، فإِنَّ هذا مرتبطٌ بالقِوامة، ومؤسسةُ الأُسرةِ لا بُدَّ لَها من مسؤولَ، والمسؤوليةُ للرجل، والمرأةُ تابعةٌ له في المؤَسَّسة، وهذا لا يُنقصُ منزلَتَها، إِنما هو شَرَفٌ لها.
وإِذا كان قَصْدُهُ مِلْكَ التَّلَذُّذِ والاستمتاعِ وقَضاءِ الشهوة، فكلٌّ منهما يملكُ
جَسَدَ الآخَر، الرجلُ يَملكُ جَسَدَ المرأةِ ويتلَذَّذُ ويَستمتعُ بها، وهي تملكُ
جَسَدَهُ وتتلذذُ وتستمتعُ به، مع أَنَّ الرجلَ صاحبُ القوامةِ والدرجةِ الدنيوية.
ويُطالبُ الفادي الجاهلُ أَنْ يَكونَ الطلاقُ والفراقُ بيدِ المرأة، مثلَ ما
هو بيدِ الرجل!
وهذا خلافُ الفطرةِ وسُنَّةِ الحياة! فالذي يتزوجُ هو الذي
يُطَلّقُ، والذي يَدفعُ مهرَ الزواجِ هو الذي يَدفعُ نفقةَ الطلاقِ، وصاحبُ القوامةِ في مؤسسةِ الأُسْرَةِ هو الذي يُطَلِّقُ ويُفارقُ، ويَدفعُ ثَمَنَ فِراقِهِ وطَلاقِه (1) .
أَما انتقادُ الفادي في آخرِ كلامِه مبدأَ ضرْبِ الرجلِ لامرأتِه فقد سبقَ أَنْ
ناقَشْناه فيه، وَوَجَّهْنا الأَمْرَ، وبَيّنّا حكمتَه وصَوابَه!.
__________
(1) وأين هو من الخُلْع الذي شرعه الإسلام للمرأة، إذا أساء الزوج عشرتها؟؟!!!(1/409)
هل صلاة المسلمين تقليد وثني؟
وَضَعَ الفادي المفْتَري عنواناً استفزازيّاً مُثيراً، اسْتَفَزَّ به مشاعِرَ
المسلمين: " الصلاةُ الإِسلاميةُ تَقليدٌ وثنيّ "!!.
ذَكَرَ في تَساؤُله قولَ اللهِ - عز وجل -: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) .
ثم زَعَمَ أَنَّ المسلمينَ أَخَذوا صَلَواتِهم الخمسَ عن الصابئين، فقال: " فرضَ الإِسلامُ على المسلمين خمسَ صلواتٍ يومياً، وهي: صلاةُ الفجرِ والظهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاء.
وهي نفسُ مواقيتِ الصلاةِ عند اليهود والمسيحيّين والصابئين ...
وقالَ أَبو الفِداءِ في تاريخِه: للصَّابئين عبادات، منها سَبْعُ صَلًوات، منهنّ خمسٌ تُوافِقُ صلواتِ المسلمين، والسادسةُ صَلاةُ الضحى، والسابعةُ صلاةٌ يَكونُ وَقْتُها في تمامِ الساعةِ السادسةِ من الليل.
وصلاتُهم كصلاةِ المسلمين من النية، وأَلّا يَخْلطَها المصلي بشيءٍ من غيرِها، ولهم الصلاةُ على الميت، بلا ركوع ولا سجود..
ونحنُ نسأل: لماذا اقتبسَ المسلمون نِظامَ صَلواتِهم من الصابئين؟ ".
بَدَأَ الفادي كلامَه بكذبةٍ كُبْرى، عندما زَعَمَ أَنَّ اليهودَ والنَّصارى
والصابئين يُصَلّونَ كُلَّ يومٍ خَمسَ صَلَواتٍ مثلَ المسلمين!
وسُؤالُ أَي يهوديٍّ أَو نصرانيٍّ أَو صابئي كَفيلٌ ببيانِ كَذِبِ هذا المفْتَري.
ثم نَقَلَ كَلاماً أَوردَه أَبو الفِداء، زَعَمَ فيه أَنَّ الصّابئين يُصَلّونَ سَبْعَ
صلواتٍ في اليومِ والليلة، وأَنَ كيفيةَ صَلاتِهم كَصلاةِ المسلمين، من الركوعِ
والسجودِ والتلاوة، وأَنَّهم يُصَلّونَ على موتاهم كصلاةِ المسلمين على
موتاهم!!.(1/410)
وأُعجبَ الفادي بكلامِ أَبي الفِداء، وَوَظَّفَهُ دَليلاً على اتِّهامِ الإِسلام، بأَنَّه
أَرضيّ بَشَرِيٌّ، وليسَ تشريعاً من عندِ الله، وعَلَّقَ عليه بسؤالِه المثيرِ الخطير:
" لماذا اقتبس المسلمونَ نظامَ صَلَواتِهم من الصّابِئِين؟ ".
كلامُ أَبي الفِداءِ غيرُ صحيح.
ولا أَدْري من أَيْنَ أَخَذَ كَلامَه، وعلى أَيِّ مَصْدَرٍ اعتمد، المهمُّ أَنه لم يأخُذْه من حديثٍ صحيحٍ مرفوعٍ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،
ولا من قولٍ صحيحٍ لصحابي أَو تابعيّ.
فليس صحيحاً أَنَّ الصابئين يُصَلّونَ سَبْعَ صلوات، وأَنَّ صَلاتَهم كصلاةِ
المسلمين، وها هم الصابِئون " الميدانيّون " موجودون في العراق، اسْأَلوهم عن عَدَدِ وكيفيةِ صَلاتِهم، إِنْ كانَ في دينهم صلاةٌ أَصْلاً!.
وهذا معناهُ أَنَّ المسلمينَ لم يَأَخُذوا صلاتَهم عن الصابئين أَو غيرِهم،
وأَنَّ الصلاةَ الإِسلاميةَ ليستْ تَقْليداً وثنيّاً كما زَعَمَ هذا الكاذِبُ المفترِي.
الصلاةُ ركنٌ من أَركانِ الإِسلام، واللهُ هو الذي أَمَرَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بها، منذُ أَيامِ الدعوةِ الإِسلاميةِ الأُولى في مكة، وفي ليلةِ المعراج أَمَرَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بخمسِ صَلَواتٍ في اليومِ والليلة، وهُنَّ خمْس صلواتٍ في العَدَدِ، ولكنهنَّ خُمسونَ صلاةً في الأَجْر، وثَبَتَ هذا عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فى الصحيحين وغيرهما من كُتُبِ السنن.
واللهُ هو الذي حَدَّدَ مواقيتَ الصلوات، وأَشارَ إلى هذا قولُه تعالى:
(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) .
وبَعَثَ اللهُ جبريلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وحَدَّدَ له وَقْتَ كُلِّ صلاةٍ
من الصلواتِ الخَمْس، بدايةً ونهايَة..
واللهُ هو الذي حَدَّدَ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كيفيةَ
كُل صلاة، أَفعالَها وأَقوالَها وأَذكارَها وحَركاتِها، وأَركانَها وسُنَنَها وهيئاتِها..
وأَمَرَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أَنْ يُصَلّوا مثْلَ صلاته، فقال: " صَلّوا كما رأيتُموني أُصَلّي ".
إِنَّ كُلَّ ما يتعلَّقُ بالصلاةِ من قولٍ أَو فعل أَو حركةٍ من الله، أَوحى به(1/411)
للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وإِنَّ الإِسلامَ اخْتَصَّ وتَمَيَّزَ وتَفَرَّد بالصلاة، ولا يُصَلّي أَصحابُ أَيِّ دينٍ كما يُصَلّي المسلمون، سواء كانوا يَهوداً أَو نصارى أَو صابئين أَو غيرَهم!.
***
حول التطهر بالتيمم
أَثارَ الفادي المفترِي عِدة إِشْكالاتٍ حولَ التَّطَهُّرِ بالتَّيمم، وتَلاعبَ في
حديثِه عن سببِ نُزولِ آيةِ التَّيمم، وحَرَّفَ كَلامَ البيضاويِّ وغيرِه، كعادتِه في التَّلاعبِ والتَّحريف، والكذبِ والافتراء، والزَّعْمِ والادِّعاء.
الآيةُ التي شَرَعت التيممَ هي قولُ اللهِ - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) .
وكانَ نزولُ هذه الآية في حادثةِ عائشةَ - رضي الله عنها -، عندما أَضاعَتْ عِقْدَها.
ذَكَرَ الفادي روايةَ البخاري قائلاً: " روى البخاريّ عن عائشةَ قالَتْ:
سَقَطَتْ قِلادَةٌ لي بالبَيْداء، ونَحنُ داخلونَ المدينة، فأَناخَ محمدٌ ونَزَل، فَثَنى
رأسَه في حِجْري راقِدا، وأَقبلَ أَبو بكر، فَلَكَزني لَكْزَةً شديدة، وقالَ: حَبَسْتِ الناسَ في قِلادة..
ثم إِنْ محمداً استيقظ..
وحَضَرت الصبْحُ، فالْتُمِسَ الماءُ، فلم يوجَدْ، فاستعوَضَه بالتُّراب..
وعن عائشةَ قالت: لما كانَ من أَمْرِ عِقْدي ما كان، وقالَ أَهلُ الإِفْكِ ما قالوا، خرجْتُ معَ محمدٍ في غزوةٍ أُخْرى، فسقَطَ أَيْضاً عِقْدي، حتى حَبَسَ الناسَ عن الْتماسِه، فقالَ لي أبو بكر: بُنَيَّة!
في كُلِّ سفر تكونينَ عَناءً وبَلاءً على الناس..
ولكنْ لما كانَتْ هي سببُ التيممِ رضيَ عَنْها أَبو بَكْر.. "(1/412)
هل هذه روايةُ البخاري؟
وهل كان الفادي أَميناً في النّقل؟
لِنقرأ الروايةَ من صحيحِ البخاري، ولْنقارنْ بينَ الكلامِ الذي فيه، والكلامِ الذي نَقَلَهُ الفادي عنه.
روى البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: " خَرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَسفارِه، حتى إِذا كُنّا بالبَيْداء، أَوْ بذاتِ الجَيْش، انقطعَ عِقْدٌ لي، فأَقامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الْتماسِه، وأَقامَ الناس معه، ولَيْسوا على ماء..
فأَتَى الناسُ إِلى أَبي بكر الصّدّيق، فقالوا: أَلا ترى ما صَنَعَتْ عائشةُ؟
أَقامَتْ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والناسِ، ولَيْسوا على ماء، وليس مَعهم ماءٌ.
فجاءَ أَبو بكر، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسَه على فَخِذي قَدْ نَام، فقال: حَبَسْتِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
والنّاسَ، ولَيْسوا على ماء، وليسَ معهم ماء! فعاتبَني أَبو بكر، وقالَ ما شاءَ اللهُ أَنْ يَقول، وجَعَلَ يَطْعَنُني بيدِه في خاصِرَتي، فلا يَمنعُني من التحرُّكِ إِلّا مَكانُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على فَخذي، فقامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ أَصبحَ على غيرِ ماء، فأَنزلَ اللهُ آيةَ التيمّم، فتيمموا..
فقال أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْر: ما هي بأولِ بركتِكم يا آلَ أَبي بكر ...
فَبَعَثْنا البعيرَ الذي كنتُ عليه، فأَصَبْنا العِقْدَ تَحْتَه " (1) .
الفادي المفترِي حَريصٌ على حَذْفِ كلمةِ " رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من الرواية، ووضْع الاسمِ المجرَّدِ " محمد " مكانَها.
ولو كان أَميناً في النَّقْلِ لَنَقَلَ العبارةَ كما هي، مع أَنه لا يُؤمنُ أَنَّ محمداً هو رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وصرَّحَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - بأَنَّ اللهَ أَنزلَ آيةَ التيمم في صَباحِ تلك الليلة، فتيممَ المسلمونَ بعدَ نزولِ الآية.
والفادي المفترِي لا يُريدُ الإِخبارَ عن إِنزالِ الوحي من عندِ الله، حتى لو كان يَنْقُلُ من نَصٍّ أَمامَه! ولذلك زَعَمَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أَمرهم بالتيممِ من عندِ نفسه: " وحَضرت الصبحُ فالتُمِسَ
الماءُ فلم يوجَدْ، فاستَعْوَضَه بالتُّراب "!
وهذه الجملةُ غيرُ مذكورةٍ في الأَصل!
لكنَّها من تلاعُبِ الفادي وتحريفه.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم، حديث رقم: (334) ؟
وصحيح مسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، حديث رقم: (367) .(1/413)
ومِنْ تَلاعُبِ الفادي وتحريفه زَعْمُه أَنَّ أَبا بكر شَتَمَ ابنَتَه عائشة - رضي الله عنهما -، وقالَ لها: " بُنَيَّة: في كلِّ سَفَرٍ تكونينَ بَلاءً وعناءً على الناس! ".
ولا أَدري من أَينَ جاءَ المفترِي بهذه العبارة.
مع أَنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - كانَتْ موضعَ ثَناء، وانظرْ ما أَجْمَلَ ما قالَه أُسَيْدُ بنُ حُضيْرٍ - رضي الله عنه -: ما هي بأولى بركاتِكم يا آلَ أَبي بَكْر.
واللهُ حَكيم، فهو الذي قَدَّرَ أَنْ يُقطعَ عِقْدُ عائشةَ - رضي الله عنها -، وقَدَّرَ أَنْ يَبْرُكَ عليه البَعيرُ، وأَنْ يتَأَخَّرَ المسلمون في البحثِ عنه، وذلك ليضطروا إِلى التيمم، ويُنزل اللهُ عليهم برحمتِه آيةَ التيمم، واللهُ عليمٌ حكيم! لكن هذا معنى لا يَنتبهُ له الفادي؛ لأَنه محجوبٌ عن الله!!.
وقَدَّمَ الفادي حَديثاً غَريباً في التيمم، لا أَدْري من أَينَ جاءَ به، قال:
" جاءَ في الحديثِ: "الصَّعيدُ الطيبُ وضوءُ المسلم، ولو إِلى عَشْرِ سنين، حتى يَجِدَ الماءَ، وإِذا وَجَدَهُ فَلْيُمسَّه جِلْدَه"!!.
وزعمَ المفترِي أَنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - خَرَجَتْ مع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ أُخرى، وأَنها أَضاعَت فيها عِقْداً آخَرَ لها، وأَنَّ اللهَ أَباحَ للمسلمينَ التيمم: " وعن عائشةَ قالَتْ: لما كانَ من أَمْرِ عِقْدي ما كان، وقال أَهْلُ الإِفْكِ ما قالوا خَرَجْتُ مع محمدٍ في غزوةٍ أُخرى، فسقطَ أَيضاً عِقْدي، حتى حَبَسَ الناسَ عن التماسه..".
وعَلَّقَ المفترِي على هذه الحادثةِ بكلامٍ خَبيت، فقال: " ونحنُ نسأَل:
كانَتْ عائشةُ سببَ مشكلةٍ لمحمدٍ في الغزوةِ التي اتُّهِمَتْ فيها مع صفوانَ بن
المعَطّل، فلماذا أَخَذَها معه في غزوةٍ أُخرى؟! ".
وزَعَمَ الفادي المفترِي أَنهما حادثَتان مُختلفتان، أَضاعَتْ عائشةُ في كُل
حادثةٍ عِقْداً، وأَنزل اللهُ في كُلِّ حادثةٍ آية تبيحُ التيمم، وهذا جهلٌ منه، فلم تكنْ إِلّا حادثةً واحدة، وهي التي رَواها البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشة - رضي الله عنها -.
وادَّعى المفترِي أَنَّ حادثةَ فَقْدِ العِقْدِ وإِنزال آيةِ التيمم هي نفسُ حادثةِ
حَديثِ الإِفْك، عندما اتَّهمَ المنافقونَ عائشةَ - رضي الله عنها -، وهو ادِّعاءٌ باطل، فحادثةُ فَقْدِ العِقْدِ غيرُ حادثةِ حَديثِ الإِفْك.(1/414)
والعبارةُ التي ذَكَرَها المجرمُ في اتهامِ عائشةَ - رضي الله عنها - فاجرة، أَرادَ بها تأكيدَ اتِّهامِها في عِرْضِها.
قال: " كانتْ عائشةُ سببَ مشكلةٍ لمحمدٍ في الغزوةِ التي
اتُّهِمَتْ فيها مع صفوانَ بنِ المعَطّل ".
وصَفوانُ بنُ المعَطّل صحابيٌّ جَلِيلٌ - رضي الله عنه -، وهو الذي اتَهَمَ المنافقونَ المجرمونَ عائشةَ - رضي الله عنها - به، وقد أَنزلَ اللهُ براءةَ عائشةَ في آياتِ سورةِ النور، وذَمَّ الذين اتَّهموها في عِرْضِها، وأُقيمَ عليهم حَدُّ القَذْف.
وقد تكلمَ الفادي على التيمم بوقاحةٍ وسوءِ أَدَب.
قال: " ما معنى الاستعاضة عن الماءِ بالتراب؟
أَليستْ هذه قذارة ومَدْعاة للمرضِ لا للصحة؟
وأَيُّ عاقلٍ يَتصوَّرُ في الماءِ أَو الترابِ تكفيراً عن الذنوب؟ ".
إِنه يُخَطِّئُ القرآنَ في تشريعِه التيممَ عند فَقْدِ الماء، أَو العجزِ عن
استعمالِه، ويتهمُ التيممَ بأَنه قَذارةٌ ومَدْعاةٌ للمرض، وهذا اتِّهامٌ للهِ سبحانَه، وتَخْطئةٌ له في أَحكامِه وتَشريعاتِه، وتَكذيبٌ له في أَوامِرِه وتوجيهاتِه.
فاللهُ يَقولُ في بيانِ حكمةِ التيمم: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) .
وهو يُكَذِّبُ كَلامَ اللهِ فيقول: " وما معنى الاستعاضةِ عن الماءِ بالتراب؟
أَليستْ هذه قذارة ومَدْعاة للمرضِ لا للصحة؟ ".
والوُضوءُ أَو التيممُ تَطهيرٌ للمؤمن وتكفيرٌ له عن سيئاتِه وذُنوبه، والفادي
المفتري يَرفضُ ذلك قائلاً: " وأَيُّ عاقلٍ يَتَصَوَّرُ في الماءِ أَو الترابِ تكفيراً عن
الذنوب؟ " وما درى الجاهلُ أَنَّ تَنفيذَ أَوامرِ اللهِ تطهيرٌ ومغفرةٌ للذنوب.
وقد أَخْبَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الوضوءَ تكفيرٌ للذنوب.
روى مسلمٌ عن أَبي هريرةَ ل به: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِذا تَوَضَّاَ العبدُ المسلمُ، فَغَسَلَ وَجْهَه، خَرَجَ من وجهِه كُلُّ خَطيئةٍ نَظَرَ إِليها بعيْنَيْه، معَ الماءِ، أَو معَ آخَرِ قَطْرِ الماءِ، فإِذا غَسَلَ يَدَيْه، خرَجَ من يَدَيْه كُلُّ خطيئةٍ كانتْ(1/415)
بطشَتْها يَداهُ، مع الماء، أَو مع آخِرِ قَطْرِ الماءِ، فإذا غَسَلَ رجْلَيْه، خرجَتْ كُلُّ خطيئةٍ مَشَتْها رِجْلاه مع الماء، أَو معَ آخرِ قَطْرِ الماء، حتى يَخرجَ نقيّاً من
الذُّنوب! ".
***
تفسير سياسي لتحويل القبلة
وَقَفَ الفادي أَمامَ حادثةِ تَحويلِ القبلة، وتَحَدَّثَ عنها بسَفاهَةٍ وَوَقاحَة.
لما كانَ المسلمونَ في مكةَ كانَتْ قبْلَتُهم في صلاتِهم الكَعْبَة.
ولما هاجروا إِلى المدينة جَعَلَ اللهُ قبلَتَهم بيتَ المقْدِس، وبعدَ ستةَ عَشَرَ شَهْراً أَوْ سبعةَ عَشَرَ شَهْراً، حَوَّلَ اللهُ القبلة، وأَعادَها إِلى الكعبة، وجاءَ هذا التحويلُ صَريحاً في قولِه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
واعتبرَ القرآنُ أَنَّ الذينَ يَعترضونَ على تحويلِ القبلةِ سُفَهاء، قال تعالى:
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) .
وتوقَّفَ الفادي السفيهُ مع آياتِ تَحويلِ القبلة من سورةِ البقرة، ونَقَلَ
بعضَ كلامِ البيضاويّ في تَفسيرِها.
ثم سَجَّلَ اعتراضَه على ذلك التحويل بِسَفاهة.
قال: " ونحنُ نسأل: إِذا كانَت القبلةُ شريعةً وركناً من أَركانِ الصلاة،
فلماذا تتغَيَّر؟
هل هي لعبةٌ سياسيةٌ لاستمالةِ قُلوبِ العربِ تارة، واستمالةِ قُلوب
اليهودِ أُخْرى؟
فاتَّجَهَ مع العربِ في مكةَ إِلى الكعبة، ولما هاجَرَ إِلى المدينة
حيثُ الكثيرُ من اليهودِ اتَّجَهَ إِلى بيتِ المقْدِس، ولما هاجَمَهُ اليَهودُ جَعَلَ قبلَتَه
الكعبةَ مَغ أُخْرى!
لقد كَانَ لتغييرِ القبلةِ طَنَّةٌ وَرَنَّةٌ، حتى ارتَدَّ كثيرونَ عن الإِسلامِ إِلى اليهودية، وقالوا: رَجَعَ محمدٌ إِلى دينِ آبائِه، وتَرَكَ قبلةَ اليَهود، التي هيَ حَقّ!..
وعَيَّرَ اليهودُ المسلمين، فقالَ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ وأَصحابُه من(1/416)
اليهود: أَخْبرونا عن صلاتِكم إِلى بيتِ المقْدِس: إِنْ كانَتْ على هدى، فقد
تخلَّيْتُم عنه، وإِنْ كانَتْ على ضَلالَةٍ، فقد دِنْتُم اللهَ بها، وَمَنْ ماتَ عليها فقد ماتَ على ضَلالة ...
فلماذا طَعَنَ محمدٌ في الذينَ اعْتَرَضوا عليه بأَنهم من السُّفهاء؟
لقد كانَ لهم كُلُّ الحَقِّ أَنْ يَسْأَلوا ... ".
لم ينظر الفادي السَّفيهُ لمسألةِ تَحويلِ القبلة على أَنها تشريعٌ رباني،
وتوجيهٌ مباشِرٌ من الله سبحانه، وحَلَّلَها تَحْليلاً تافِهاً سَفيهاً، مرتبطاً مع نَظرتِه للقرآنِ والوحي..
إِنه لا يَعترفُ بنبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا بأَن القرآنَ وَحْيٌ من الله، ولذلك اعتبرَ القبلةَ اختياراً خاصّاً من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي يَختارُ ما يَشاء، ويَجعلُه قِبْلَة، ويأمُرُ أَتْباعَه بالتوجُّهِ حيثُ يَشاء! وهذا تأكيدٌ منه على بَشَريةِ القرآنِ والإِسلام!.
ثم يَنتقلُ المجرمُ إِلى جريمةٍ أُخرى، حَيثُ يَجعلُ تَحويلَ القبلةِ " لُعْبَةً
سياسية " من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ...
فلما كانَ في مكةَ جَعَلَ قبلَتَه الكعبةَ ليَستميلَ العربَ الجاهليّين، ولما هاجَرَ إِلى المدينةِ حَوَّلَ قبلَتَه إِلى اليهودِ ليَستميلهم، ولما لم يَنجحْ في ذلك وغَضِبَ منهم أَعادَ قبلتَه إِلى الكعبة!!
بهذه السفاهةِ حَلَّلَ الفادي السفيهُ مَسألةَ تَحويلِ القبلة، ودافَعَ عن السفهاءِ السابقين من أَمثالِه، الذين اعْتَرَضوا على تحويلِ القبلة، واعْتبروه تَلاعُباً، ولما رَدَّ اللهُ عليهم اعْتَبَرهم سُفَهاء.
قال الفادي مُدافعاً عَنْهم: " فلماذا طَعَنَ محمدٌ في الذينَ اعْتَرَضوا عليه بأَنهم من السُّفهاء؟
لقد كانَ لهم كُلُّ الحَقِّ أَنْ يَسْأَلوا ".
اعتبرهم اللهُ سُفهاءَ لاعتراضِهم على تَحويلِ القبلة، والفادي المفتري
رَدَّ كَلامَ اللهِ، واعْتَبرهم حُكَماء، وعلى حَقٍّ فِي اعتراضِهم.
لِيَقُل الفادي السفيهُ عن تحويلِ القبلةِ ما يَشاء، فكلامُه وتحليلُه مَردودٌ
عليه، ونحنُ نوقِنُ أَنَّ استقبالَ القبلةِ في الصلاة كانَ بأَمْرٍ من الله، وأَنَّ تَحديدَ القبلةِ كانَ بأَمْرٍ من الله، وأَنَّ تَحويلَ القبلةِ كان بأَمْرٍ من الله، لتحقيقِ حكمةٍ أَرادَها الله..(1/417)
إِنَّ اللهَ هو الذي جَعَلَ القبلةَ في مكةَ الكعبة، واللهُ هو الذي أَمَرَ
المسلمينَ بعدَ الهجرةِ بالتوجُّهِ إِلى بيتِ المقدس، لحكمةٍ يُريدُها سبحانه، ولما
تَحققتْ تلك الحكمةُ الربانيةُ هو الذي أَمرهم بالعودَةِ إِلى القبلة الأُولى
الكعبة..
فالأَمْرُ والتحويلُ والتوجيهُ من اللهِ سبحانه، الذي له الأَمْرُ والنَّهْي،
وما الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - إِلّا مُنَفّذٌ لأَمْرِ الله.
وقد كان هذا المعنى واضحاً صَريحاً في حديثِ القرآنِ عن تحويلِ القبلة.
قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) .
الدلالاتُ التي يمكنُ أَنْ تُؤْخَذَ من هذه الآياتِ الأَربعِ عديدة، ليس هذا مكانَ
الحديثِ عنها، ونُشيرُ هنا إِشاراتٍ خاطفةً إِلى بعضِ حقائقِ الآياتِ حول القبلة:
1 - تَنُصُّ الآيات ُ على أَنَّ الذينَ يَعْترضونَ على تحويلِ القبلةِ سُفَهاء،
وهذا يَشملُ كُلَّ المعترِضين في أَيِّ زَمانٍ ومكان، فالفادي المفْتَري سَفيهٌ من
السفهاء: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) .
2 - كانَ تحويلُ المسلمين إِلى بيتِ المقْدِس امتحانا من اللهِ لهم: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) .(1/418)
3 - كانَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يتمنّى أَنْ تَتَحَوَّلَ القبلةُ عن بيتِ المقدسِ إِلى الكعبة، لكنه كان متأدِّباً مع الله، فلم يَطْلُبْ منه ذلك، وإِنما كان يُقَلِّبُ وجهه في السماء، متمنِّياً أَنْ ينزل جبريلُ بالتوجُّهِ إِلى القبلةِ الجديدة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ... ) .
4 - تُصرحُ الآياتُ بأَنَّ اللهَ هو الذي وَلّى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - إِلى القبلةِ الجديدة:
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
إِنَّ هذه التعبيراتِ الصريحةَ تُبَيِّنُ كَذِبَ وسَفَهَ الفادي المفترِي في اعتراضه
على تحويلِ القبلة، وتحليلِه المتهافتِ لذلك التحويل!.
***
اعتراض على الصلوات الخمس
أَمَرَ اللهُ المسلمينَ أَنْ يُصلّوا خمسَ صَلواتٍ في اليومِ واللَّيلة، وحَثَّهم
على المحافظةِ عليها في القرآنِ.
قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) .
والصلاةُ الوسْطى المذكورةُ في الآيةِ هي صَلاةُ العصر، لِما وَرَدَ في ذلك
عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
واعترضَ الفادي الجاهلُ على تكليفِ المسلمينَ بالصلواتِ الخمس.
قال: " ونَحنُ نَسْأَل: ما فائدةُ الصلواتِ المتكررةِ يوميّاً خمسَ مَرّات، وأُسبوعيّاً وشهريّاً وسنويّاً، وإِلى ما شاءَ اللهُ في الحياة، بدونِ زيادةٍ ولا نُقصان؟
إنَّ الصلاةَ تَعبيرٌ متجددٌ لمشاعرِ الإِنسانِ نحوَ الله.
قال المسيح: وحينَما تُصلّونَ لا تُكَرِّروا الكلامَ باطلاً كالأُمم، فإِنهم يَظُنُّونَ أَنه بكثرةِ كلامِهم يُستجابُ لهم، فلا تَتَشَبَّهوا بهم ".
إِنَّ هذا الجاهلَ يَرى أَنه لا فائدةَ من أَداءِ خَمْسِ صلواتٍ يوميّاً، حتى(1/419)
انتهاءِ العمر؟
لأَنه لا تَجديدَ فيها، ولا تَفاعُلَ معها، ولا بُدَّ أَنْ تُجَدِّدَ الصلاةُ
مشاعرَ الإِنسان.
ولم يَذكر لنا الجاهلُ المفترِي كيفَ يُصَلّي هو - وأَهْلُ مِلَّتِه من النصارى،
وكيفَ يُجَدِّدُ هو وأَهْلُ مِلَّتِه مشاعِرَهم نحو الله، وهل يَجْتَهدون ويُغَيِّرونَ
ويُبَدِّلونَ في صَلاتِهم، بهدفِ تَجديدِ مشاعرِهم، أَم أَنهم يَستمرون على الكيفيةِ التي تَعَلَّموها؟!.
إِن الصلاةَ عند المؤمنين عِبادةٌ وذكر لله، وتوثيقٌ لصلتِهم بالله، وهي
ليستْ صلاةً جامدة، تُؤَدّى بطريقةٍ روتينيةٍ رَتيبة، وإِنما يَتفاعلُ المؤمنُ بها وهو يُؤَديها، وينشطُ لها، ويَسعدُ وهو يُناجي اللهَ فيها! ...
صحيحٌ أَنه لا يَجوزُ التغييرُ والتبديلُ والزيادةُ والنقصانُ في أَوقاتِها وأَعدادِها وأَركانِها وأَدائِها، لكنَّ التجديدَ في النظرةِ لها، والتفاعلَ في أَدائِها، وفي الحالةِ الإِيمانيةِ العاليةِ أَثناءَ أَدائِها، وفي الثمراتِ والنتائجِ التي تُؤْخَذُ منها.
ويَكفينا قولُ اللهِ تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) .
ولذلك كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذا حَزَبَه أَمرٌ فَزعَ إِلى الصلاة..
وكانَ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " أَرِحْنا بها يا بِلال ".
ولمعرفةِ فَضْلِ الصلواتِ الخمسِ نتذكَّرُ ما رواهُ البخاريُّ ومسلم عن أَبي
هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَرأَيْتُم لو أَنَّ نهراً ببابِ أَحَدِكم يَغتسلُمنه كلَّ يومٍ خمسَ مَرّات، هل يَبْقى من دَرَنه شيء؟
قالوا: لا يَبْقى من دَرَنه شيء..
قال: فكذلك مَثَلُ الصلواتِ الخمس، يَمحو اللهُ بهنَّ الخطايا ".
وإِنَّ اللهَ العليمَ الحكيمَ أَوجبَ علينا الصلواتِ الخمس، وجعلَ الصلاةَ
ركناً مهمّاً من أَركانِ الإِسلام؟
لأَنه يَعلمُ آثارَ الصلاةِ الإيجابيةَ في الشخصيةِ الإِسلامية.
قال تِعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ) .(1/420)
وبهذا نَعرفُ سَفَهَ الفادي عندما اعترضَ على الصلواتِ الخَمْس، وجعلَ
عنوان اعتراضِه استفزازيّاً: " تِكرارُ الصَّلاةِ باطلٌ "!!.
***
الصلوات وليلة المعراج
أَثارَ الفادي المفترِي اعتراضَه على فرضِ الصلواتِ الخمس ليلةَ
المعراج، وعَرَضَ الحادثةَ بتحريفٍ وتَغييرٍ وتَبديل!.
قال: " قالَ علماءُ المسلمين: لما أَسرى اللهُ بمحمد، ورأى حورَ العين،
وسَلَّمَ عليهنَّ، وقابَلَ موسى، سأَلَه موسى: ما فَرَضَ ربُّكَ عليك؟
وقيل: إِنَّه سأَلَه: بمَ أُمِرْتَ؟
قال: خمسينَ صلاة، قال: ارجعْ إِلى رَبِّك فاسْأَلْه التخفيفَ.
وفي البخاري: إِنَّ أُمَّتَك لا تَستطيعُ خمسينَ صلاةً كُلَّ يَوْم، وإِنّي واللهِ جَرَّبْتُ
الناسَ قَبْلَك، وعالَجْتُ بني إِسرائيل أَشَدَّ المعالَجَة.
أَيْ: إِنَّه فُرِضَ عليهم صلاتان، فما قاموا بهما، رَكْعَتان بالغَداة، ورَكْعتان بالعشِيِّ!
وفي تفسير البيضاوي أنه فُرِضَ عليهم خمسونَ صلاة، غيرَ أَنَّ السيوطي قال: إِنَّ هذا باطل ...
ثم قالَ موسى: ارجعْ إِلى رَبِّكَ فاسْأَله التخفيفَ لأُمَّتِك.
قال: فرجعْتُ إِلى رَبّي، فقلت: يا رَبِّ خَفِّفْ عن أُمتي.
فحَطَّ عَنّي خَمْساً. فرجَعْتُ إِلى موسى، فقلْتُ: حَطّ عنّي خَمْساً.
قال: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطيقُ ذلك، فارجِعْ إِلى رَبِّك فاسْأَلْه التَّخْفيف..
قال: فلم أَزَلْ أَرجع بينَ ربّي وبين موسى، حتى قال الله: يا محمد! إنهنَ خمسُ صَلَواثٍ في كُلِّ يومٍ وليلة، لكلِّ صلاةٍ عَشْرٌ، فذلك خمسون.
قال: فنزلْتُ حَتى انتهيْتُ إِلى موسى فأَخَبرْتُه، فقال: ارجِعْ
إِلى رَبِّك فاسْأَلْه التخفيف.
قلتُ: قد رجعْتُ إِلى رَبّي حتى استحييتُ منه! ".
ولْنقرأ الحادثةَ من صحيحِ مسلم.
فقد روى مسلمٌ عن أَنَسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنه حَدَّثَ عن ما جَرى في رحلةِ الإِسراءِ
والمعراج، ومن ذلك قوله: " ... فأَوحى اللهُ إِليَّ ما أَوحى، فَفَرَض عليَّ
خمسين صلاةً في كُلِّ يومٍ وليلة، فنزلتُ إِلى موسى عليه الصلاة والسلام،(1/421)
فقال: ما فَرَضَ ربُّكَ على أُمَّتِك؟
قلتُ: خمسينَ صلاة.
قال: ارجعْ إِلى رَبِّك فاسْأَله التخفيف، فإِنّ أُمَّتَك لا يُطيقون ذلك، فإني قد بلوْتُ بني إِسرائيلَ وخَبَرْتُهم.
فرجعْتُ إِلى رَبّي، فقلْتُ: يا ربي! خَفَّفْ على أُمَّتي.
فَحَطَّ عَنّي خَمْساً.
فرجعْتُ إِلى موسى فقلت: حَطَّ عَنّي خَمْساً.
قال: إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطيقونَ ذلك، فارْجِعْ إِلى رَبك، فاسْأَلْهُ التخفيف.
فلم أَزَلْ أَرجعُ بينَ ربّي تَبارك وتَعالى وبينَ موسى - عليه السلام -، حتى قال: يا محمد، إِنهنَّ خمسُ صلواتٍ كُلَّ يومٍ وليلة، لكلِّ صلاةٍ عَشْر، فذلك خَمسونَ صلاة.
ومَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها كُتبتْ له حَسَنَة، فإِنْ عَمِلَها كُتبتْ له عَشْراً، ومَنْ هَمَّ بسيئةٍ فلم يَعْمَلْها لم تُكْتَبْ شيئاً، فإنْ عَمِلَها كُتبتْ سيئةً واحدة.
فنزلْتُ حتى انتهيتُ إِلى موسى - عليه السلام - فأَخبرتُه.
فقال: ارْجِعْ إِلى ربّك فاسأَلْه التخفيف..
فقلْتُ: قد رجعْتُ إِلى رَبّي فاستحييتُ منه " (1) .
وقد اعترضَ الفادي المفترِي على حادثةِ الصلواتِ الخمس، وأَثارَ
شُكوكَه حولَ الوحيِ والنبوةِ والإِسلام، قال: " ونحنُ نَسأل: هل الأَنبياءُ أَكثرُ معرفةً بأَحوالِ الناسِ من اللهِ سبحانه؟
وهل يتبعُ اللهُ رأيَ الناس؟
أَليس هذا كلُّه ناشئاً عن عدمِ معرفةِ محمدٍ بصفاتِ الله، وأَنَّ الصلاةَ أُنْسٌ بالله، وليستْ فرضاً ولا عبودية؟
والمسلمُ الذي يهتمُّ بالوضوءِ ونظافةِ البدنِ أَكثر من نظافةِ القلب
لا يُدرِكُ معنى الصلاة؟
لأَنه يهتمُّ بالاتجاهِ للقبلةِ أَكْثَرَ من اتجاهِ ضميرِه لله، ويتمسكُ بأَلفاظٍ محفوظةٍ دونَ الاهتمامِ بالتعبير عن حاجاتِه الخاصة، ويَعتبرُ أَنَّ الصلاةَ في ذاتِها حَسنةٌ تُذْهِبُ السيئة، ويَهتَمُّ بالنَحْرِ مع الصلاة، كقوله:
(فَصَل لِرَبِّكَ وَاَنحَر) ، دونما إِدراكٍ لمعنى كفارةِ المسيح؟! ".
إِنه لجهلِه وغبائِه لا يَعرفُ الحكمةَ من تشريعِ الصلواتِ الخمس بهذه
الطريقة، ولذلك أَثارَ أَسئلتَه التهكُّمية، وحَلَّلَ الحادثةَ تحليلاً استفزازياً، شَتَمَ
فيه الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - والإِسلامَ والمسلمين!.
__________
(1) مسلم، برقم: (162) .(1/422)
كلُّ الأَوامرِ والنواهي والتكاليفِ الشرعية كَلَّفَ اللهُ بها رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بطريقةِ الوحي، إِلّا الصلواتُ الخمس، فإنه شاءَ سبحانَه وتعالى أَنْ يكَلِّفَه بها بهذه الطريقةِ الخاصة، حيثُ استدعاهُ وعَرَجَ به إِلى السماء، وكَلَّفَه بها، وذلك لأَهميةِ الصلواتِ الخمس وعِظَمِ منزلتِها في هذا الدين، وعِظَمِ مهمَّتِها وآثارها في حياةِ المسلمين.
وشاءَ اللهُ العليمُ الحكيمُ أَنْ يكونَ التكليفُ بالصلواتِ الخمسِ على هذه
الصورةِ المتدرجةِ اللطيفة، ولو شاءَ أَنْ يُكَلِّفَه بخمسِ صَلَواتٍ من أَوَّلِ الأَمْرِ
لفَعَل، لكنَّه سبحانه وتعالى شاءَ أَنْ يُكلفَه بخمسينَ صلاةً أَولاً،.
وأَنْ يُسْقِط بَعْضاً من أَعدادِها كلَّما ذَهَبَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إِلى موسى - صلى الله عليه وسلم - ثم عادَ إِليه، حتى أَنزلَ أَعدادَها من خمسينَ إِلى خمس، مع إِبقائِهن في الأَجْرِ خمسين، أَيْ أَنهنَّ خمسٌ في العدد، وخَمسونَ في الأَجْر.
فَعَلَ اللهُ ذلك بالصلواتِ الخمس، ليمتَنَّ على المسلمين بذلك، ويُبَيِّنَ
لهم رحمتَه بهم، رحمتَه في تخفيضِهن من خمسينَ إِلى خمس، ورحمتَه في
إبقائِهنَّ على خمسينَ في الأَجرِ.
ولا نتصوَّرُ مقدارَ المشقةِ والحَرَج لو أَبْقاهُنَّ اللهُ خمسينَ صلاةً في اليوم!
فإِذا كانَ بعضُ المسلمين قد يَتَثاقَلُ عن الصلواتِ الخمس، فكيف لو كُنَّ خمسينَ صلاة؟!.
إِنَّ اللهَ الحكيمَ يتحببُ إِلى المسلمين، ويقدمُ لهم مظاهرَ من رحمتِه
ورأفتِه بهم، وذلك ليعرفوا فضلَه وكرمَه وإِنعامَه، ويتذوقوا مظاهرَ رحمتِه وبرِّه ومحبتِه، وبذلك يزدادونَ محبةً له، وذكراً وشكراً له، ونشاطاً وحيويةً في عبادتِه وطاعتِه ومناجاتِه.
وإنَّ الجاهلَ السفيهَ محجوبٌ عن هذه المعاني الروحية، لكفرِه وضَلاله،
ولذلك لم يَفهم الحكمةَ من فرضِ الصلواتِ الخمسِ بهذه الطريقةِ المحببة،
ومن ثم كَذَّبَ القرآنَ وكَذَّبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَثارَ أَسئلتَه الاستفزازية.
إِنَّ الجاهلَ الغبيَّ يسأَل: هل الأَنبياءُ أَكثرُ معرفةً بأَحوالِ الناسِ من الله؟(1/423)
أَيْ: كيفَ يَفرضُ اللهُ خمسينَ صلاة، وموسى - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: إِنَّ الناسَ لا يتحملونَ ذلك؟
لأَنه جَرَّبَ بني إِسرائيل! ؟.
لم يَقُلْ مسلمٌ عاقلٌ: إِنَّ موسى - صلى الله عليه وسلم - أَعرفُ بأَحوالِ الناسِ من الله، فالله سبحانه وتعالى هو الأَعلم، وعِلْمُه شاملٌ
لكلِّ شيء، ولكنَّ اللهَ الحكيمَ شاءَ أَنْ يكونَ الإِنقاصُ في عددِ الصلواتِ بهذه
الطريقةِ التي حَلَّلْناها قبلَ قليل.
وكان الجاهلُ مجرماً عندما شتمَ نبيَّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " أليس هذا كلُّه ناشئاً عن عدمِ معرفةِ محمدٍ بصفاتِ الله؟! ".
وإِذا كان نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - لا يَعرفُ صفاتِ الله فمن الذي يعرِفُها؟!
هل هو هذا الجاهلُ الغبيُّ المتعالم؟!..
لقد كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعرفَ الناسِ بالله، وأَكثرَهم تقوى لله، وأَقربَ الناسِ إِلى الله.
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إِنّي أَتْقاكُم لله وأَخشاكُم له "!.
وكان المجرمُ ضالا بَذيئاً عندما شَتَمَ المسلمين، واتهمَهم في نياتِهم
وقلوبِهم وضمائِرِهم وإِخلاصِهم، وكأَنه مُطَّلِعٌ على ما في قلوبهم، ويَعلمُ ما في صدورِهم!!.
إِنَّ الإِسلامَ يَدْعو المسلمينَ إِلى الاهتمامِ بنظافةِ قلوبهم أَكثرَ من
اهتمامهم بنظافةِ أَبدانِهم، وإِنَّ الصلاةَ تزكيةٌ للنفس، وتطهيرٌ للقلب، وسُمُوُّ بالروح، وعندما يُطَهِّرُ المؤمنُ بَدَنَه، يُقبلُ على ربِّه في صلاته، ويَسعدُ بذكْرِه ومناجاتِه..
ويكونُ حاضرَ العقلِ والقلبِ وهو يُصَلّي ويدعو ربَّه..
وما إِنْ ينتهي من صلاته حتى يكونَ قد تزوَّدَ بالزادِ الإِيمانيِّ العظيم.
***
حول فرض صيام رمضان
أَعادَ الفادي المفتري اعْتِراضَه على صيامِ رمضان، ونفى عنه صفةَ
الوَحْي، وزَعَمَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَه عن الصابئين.
ذَكَرَ خمسَ آياتٍ من سورةِ البقرة تتحدَّثُ عن بعضِ أَحكامِ الصيامٍ، ثم
نَقَلَ كلاماً من تفسير البيضاويّ، ذَكَرَ فيه أَنَّ صومَ رمضان كان واجباَ على
__________
وفي صحيح مسلم برقم (4650) يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ".(1/424)
النَّصارى، وأنهم نَقَلوا الصومَ إلى الربيعِ ليكونَ أَسهلَ عليهم، وزادوا عليه
عشرينَ يوماً، فصارَ صِيامُهم خمسينَ يوماً!! ثم نَقَلَ كَلاماً للمؤَرّخِ أَبي الفِداء،
ذَكَرَ فيهِ أَنَّ الصابئينَ كانوا يَصومونَ ثلاثين يوماً، وكانَ صيامُهم من الفجرِ إِلى المغرب! " وقالَ أَبو الفداءِ في تاريخه: وللصّابئين عبادات، منها سَبْعُ
صَلَوات، ويَصومون ثَلاثينَ يوماً، وإِنْ نَقَصَ الشهرُ الهلاليُّ صاموا تسعاً
وعشرين يوماً، وكانوا يُراعون في صومِهم الفِطْرَ والهِلال، بحيثُ يكونُ الفطرُ وقد دَخَلت الشمسُ الحَمَل، ويَصومون من ربعِ الليلِ الأَخيرِ إِلى غروبِ قرصِ الشمس ".
ومعنى كلام أَبي الفِداء أَنَّ الصابئين كانوا يَصومونَ كصيامِ المسلمين،
فكانَ صيامُهم ثلاثين يوماً أَو تسعةً وعشرين يوماً، وكانَ صيامُهم من الفجر
إلى المغرب! وبما أَنَّ الصابئين كانوا قبلَ المسلمين، فإِنَّ المسلمينَ أَخَذُوا
أَحْكَامَ صيامِهم عن أولئك الصابئين!!.
وهذه هي النتيجةُ التي خَرَجَ بها الفادي المفتري!
قال: " ونحنُ نَسْأَل: إِنْ كانَ صيامُ رمضانَ ليس شرعاً جَديداً، ولا هو من الدينِ السماويِّ في شيء، بل هو مأخوذٌ من الصابئين في بلادِ العَرَب، فكيفَ يَقول: إنَّ مَصدَرَه وحيٌ سماوي؟
ولا يوجَدُ دليلٌ واحدٌ على صحةِ القول: إنَّ رمضانَ كُتِبَ أولاً على النَّصارى ".
لم يَثبتْ عندنا بحديثٍ صحيح أَنَّ صومَ رمضانَ كتِبَ على
النصارى، وما ذَكَرَهُ البيضاوِيُّ ليس عليه دَليل معتَمد، ولذلك نتوقَفُ فيه
ولا نَقولُ به.
وقد ذَكَرَ القرآنُ أَنَّ اللهَ كَتَبَ علينا الصيام كما كَتَبه على الذين من قبلِنا.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) .
وهذه إشارةٌ قرآنية مجملَة، لم يَرِدْ حِديثٌ(1/425)
صَحيحٌ بتفصيلها، فنُبْقيها على إجمالِها، ولا نخوضُ في بيانِها، لعدمِ وجودِ
دليلٍ نعتمدُ عليه.
فكلُّ ما نقولُه: أَوجَبَ اللهُ علينا الصيام، كما أَوجبه على
الذينَ من قبلِنا، فكانَ المسلمون السابقونَ يَصومون، أَمّا كيفَ كانوا يَصومون؟
وكم كانوا يَصومون؟
ومِنْ أَيِّ شهرٍ كانوا يصومونِ؟
فعِلْمُ ذلك عندَ الله.
أَما ما ذَكَرَه أَبو الفداء في تاريخه عن صومِ الصابئين فإنه لا دَليلَ عليه
عندنا، حيث لم يَرِدْ فيه نقلٌ صحيحٌ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة، ولذلك نتوقف فيه ولا نعتمدهُ، ولا نَعرفُ كيف كان يَصومُ الصابئون!.
بعد هذا البيانِ ننظرُ في ما قالَه الفادي الجاهل: " ونحنُ نسأَل: إِنْ كانَ
صيامُ رمضانَ ليس شَرْعاً جَديداً، ولا هو من الدينِ الإِسلاميِّ في شيء، بل
هو مأخوذٌ من الصابئين في بلادِ العرب، فكيفَ يقول: إِنَ مصدرَه وحيٌ
سماوِي؟ ".
إِنَّ هذا قولٌ متهافتٌ سخيفٌ، مبنيٌّ على كلامٍ غيرِ صَحيح ولا مَقبول،
والمهمّ عند الفادي إِدانةُ القرآن، واتِّهامُه بالخَطأ، ونفيُ كونهِ من عندِ الله،
والزعمُ بأَنَّه من البشر، ولذلك يَعتمدُ أيَّ كَلامٍ يُحققُ له هذا الهدفَ الخبيث، حتى لو كانَ ذلك الكلامُ باطلاً مردوداً ...
وما بالُكَ في مَنْ يزعمُ أَنه باحِث، وهو يَعتمدُ على كلامٍ غير صحيح؟!.
إِنَّ صومَ شهرِ رمضان شرعٌ إسلاميٌّ جَديد، خاصٌّ بالمسلمين، واللهُ هو
الذي كَتَبَه عليهم وأَمَرَهم به، كما وردَ في الآياتِ الصريحة، وخَصَّهم بأحكامِه التشريعية..
ولا يَنفي هذه الحقيقة القاطعة تشبيهُ صيامِنا بصيامِ مَنْ قبلنا: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فوجْهُ الشَّبَهِ هو في وُجوبِ الصِيام، وهو الامتِناعُ عن الطعامِ والشرابِ.
أما كيفيةُ الصيامِ وأحكامُه وعَدَدُ أيامِه، فلكلِّ أُمَّةٍ تَشْرِيعُهَا الربانيُّ الخاصُّ بها، كما قالَ اللهُ تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .(1/426)
حول حرمة الأشهر الحرم
أَوردَ الفادي عدةَ آياتٍ تتحدَّثُ عن القتالِ في الأَشهرِ الحُرُم، والأَشهرُ
الأَربعةُ التي وادَعَ عليها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المشركين المعاهَدين.
والآياتُ التي ذَكَرَها سبعُ آياتٍ من سورة التوبة (1 - 5) و (36) و (37) ، وآية من سورة البقرة (194) ، وآيتان من سورة المائدة و (97) .
وبعد ذلك أَثارَ أَسئلتَه الاعتراضيةَ التشكيكية، قال: " ونحنُ نسأل: لماذا
يُحَرِّمُ القرآنُ القتالَ في الأَربعةِ أَشهرٍ الحُرُم فقط، ويُحَلِّلُهُ في بقيةِ شُهورِ السَّنة؟
أَليسَ الأَجدرُ أَنْ يُحَرمَ القتالَ دائماً ليحيا الناسُ في سَلام؟
ولماذا يُخالفُ القرآنُ ما اصطلحَ عليه العربُ من منعِ القتالِ في الأَشهرِ الحُرُم، بعد اعترافِه أَنّ ذلك من شعائِرِ الله؟
ويُلَطِّخُ الأَشهرَ الحُرُمَ بِسفْكِ الدِّماءِ، مما جَعَلَ العربَ يُعَيِّرونَه بالغَدْر والخيانة؟
وما بالُ القرآن بعد هذا يُدافعُ عن الأَشهر الحُرُم،
فيخلط بين السَّنَةِ القمريةِ والسَّنَةِ الشمسيَّة، ويَزعمُ أَنَّ الاعتراف بالسَّنَةِ الشمسيةِ كُفْرٌ؟
وإذا كانَت الأَشهرُ الحُرُمُ من شعائرِ الله، فلماذا بَطَلَ اعتبارُها في جميعِ
العالمِ الإسلاميِّ في الوقْتِ الحاضِر؟ ".
يَعترضُ الفادي على تَحريمِ القِتالِ في الأَشهرِ الحُرمِ فقط، ويَقترحُ تَعميمَ
تَحريمهِ على أَشهرِ السَّنَةِ كُلِّها، ليَعيشَ الناسُ في سَلام! في الوقتِ الذي
يُخَطِّطُ فيه الأعداءُ لقتالِ المسلمين، ولا يتوقَّفُ تَخطيطُهم أَو حَشْدُ جيوشِهم
في أَيِّ شهرٍ من شُهورِ السَّنَة! فما معنى ذلك؟
إِنها دعوةٌ خبيثة من هذا الفادي وأمثالِه، لِيَقْتُلَ روحَ الجهادِ في نفوسِ المسلمين، لكي لا يُواجِهوا الأعداءَ الحريصينَ على قِتالِهم!
وتَأَمَّلْ مَعَنا براءةَ دعوةِ الفادي: الأَعداءُ لا يتوقَّفون عن ضَرْبِنا ومواجهتِنا، ويَجبُ على قرآنِنا أَنْ يُحَرِّمَ علينا قتالَهم!!.(1/427)
ثم يَعترضُ الفادي على القرآنِ في حديثِه عن الأَشهرِ الحُرُم، ويتهِمُه
بالتناقُض! فبعدما اعترفَ القرآنُ أَنَّ الأَشهرَ الحُرُمَ من شعائرِ اللهِ التي يَحرمُ
القِتالُ فيها، ونهى المسلمينَ عن استحلالِ القتالِ فيها، وذلك في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) .
عادَ وأَباحَ للمسلمين القتالَ في الشهرِ الحَرام، وذلك في قوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) .
مع أَنَّ الأَمْرَ ليس كما - فهمَه ذلك الجاهل، وإِنَّنا نوقنُ أَنه لا تَعارُضَ بين
- آياتِ القرآن.
فالقراَنُ حَرَّمَ على المسلمين بدءَ القتالِ في الأَشهرِ الحُرُم؛ لأَنها من شعائر الله التي لا يَجوزُ استحلالُ القِتال فيها، حتى العربُ في الجاهليةِ
احترموها ولم يَتَقاتَلوا فيها، ولذلك كان المسلمونَ أَكْثرَ احْتِراماً لها.
لكنَّ القرآنَ أَجازَ للمسلمينَ الرَّدَّ على قِتالِ الأَعداءِ لهم فيها، ولا يُلامُ
المسلمونَ على رَدِّ العُدوانِ في الأَشهرِ الحُرُم، إِنما يُلامُ الأَعداءُ المعتَدون،
الذين انتهكوا حرمةَ تلك الأَشهر الحُرُم، وليس من المعقولِ أَن يُهاجِمَ
الأَعداءُ المسلمين، وأَن يسكتَ عليهم المسلمونَ بحجةِ حرمةِ القِتالِ في
الأَشهُرِ الحُرُم! وعلى هذا قولُه تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) .
وبهذا الجمع بين الآيات التي تُحَرِّمُ بَدْءَ القتالِ في الأَشهر الحُرُم، والآياتِ التي تُبيحُ رَدَّ الاعتداءِ في الأَشهرِ الحُرُم نُدركُ حكمةَ التشريعِ الإسلاميِّ الجهادي.
والأَمْرُ في هذه المسألةِ مثلُ حُكْمِ القتالِ عند المسجدِ الحرام، فاللهُ حَرَّمَ على المسلمين البدءَ بقتالِ الكافرين عندَ المسجدِ الحرام، لكنه أَجازَ لهم الرَّدَّ على قتالِهم.
قال تعالى: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) .(1/428)
ولكنَّ الفادي الجاهلَ مطموسُ البصيرة، محجوبُ القلب، لا يُوَفَّقُ لهذه
المعاني لكفرِه وضَلالِه، ولذلك يُسارعُ بتخطئةِ المرآنِ واتهامِه بالتناقُض!!.
ولم يفهم الغبيُّ حديثَ القرآنِ عن شهورِ السنة، وما فيها من أَشهرٍ
حُرُم، وما كانَ يَفْعَلُهُ الجاهليّون من نَسيءٍ فيها.
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) .
المعتَمَدُ في الإِسلامِ هو الحسابُ القمري، والسَّنَةُ القمريةُ اثْنا عَشَرَ
شَهراً، منها أَربعةُ أَشهرٍ حرم وهي: ذو القعدةِ، وذو الحجةِ، ومحرمٌ،
ورجب.
ودَعا اللهُ المسلمين إِلى عدمِ ظُلْم أَنفسِهم بارتكابِ المعاصي، ومنها
انتهاكُ حرمةِ الأَشهرِ الحُرُم، ببدءِ قِتالِ الأًعداءِ فيها، فَإنْ قاتَلَهم الأَعداءُ فيها جازَ لهم قِتالُهم والرَّدُّ على عدوانِهم، كما تُصرحُ آياتُ سورةِ البقرة وسورةِ التوبة: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) و (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) .
تَذُمُّ الآياتُ بعدَ ذلك المشركينَ في الجاهلية، لما كانوا يُمارسونَه من
نَسيء، وذلك بنقلِ حُرْمةِ شهرٍ حَرامٍ إلى شهرٍ آخر، إِذا احتاجوا لقِتالِ الآخَرين فيه، وقد زادَهم هذا النَّسيءُ والتلاعبُ كُفْراً وضلالاً.
هذا ما تقرره الآيتانِ (36 - 37) من سورةِ التوبة، وكم كان الفادي
الجاهلُ غبياً عندما استخرجَ منهما قولَه: " ما بالُ القرآنِ بعد هذا يُدافعُ عن
الأَشهرِ الحُرُم، فيخلطُ بين السَّنَةِ القمريةِ والسَّنَة الشمسية، وَيزعمُ أَنَّ الاعترافَ بالسَّنَةِ الشمسيةِ كُفْر؟ ".
لا أدري كيفَ خَلَطَ القرآنُ في الآيتَيْن السابقتَيْن بين السنةِ القمريةِ والسنةِ(1/429)
الشمسية! إِنَّ كلامَه هو عن السَّنَةِ القمرية، ولم يَتكلمْ عن السَّنَةِ الشمسيةِ كلمةً واحدة!
ولا أَدري من أَينَ أخذ الغبيُّ أَنَّ القرآنَ اعتبرَ الاعترافَ بالسَّنةِ الشمسيةِ
كفراً، مع أَنه لم يَذْكُرْها أَصْلاً.
إِنه من السهلِ توزيعُ الاتهاماتِ جزافاً، وقد يُخْدَعُ بها بعضُ الناسِ
أَحياناً، لكن ماذا يكونُ موقفُ المفْتَري عندما تتلاشى اتهاماتُه، ويعرفُ
المراقبونَ والمتابعون تَفاهتها؟!.
***
هل انتشر الإسلام بالسيف؟
ذَكَرَ المفترِي قولَ اللهِ - عز وجل -: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) .
ونَقَلَ كلاماً من تفسيرِ البيِضاويِّ في تفسيرِ الآية، وَوَقَفَ أَمامَ جملةِ:
(تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، ونَقَل تفسيرَ البيضاويِّ لها: " أَيْ: يكونُ أَحَدُ
الأَمْرين: إِمّا الإِسلامُ أو المقاتَلَة، لا غير..
ومَنْ عَداهُمْ يقاتَلُ حتى يُسلمَ أَو يعطيَ الجزية.
(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) هو الغنيمةُ في الدنيا، والجنةُ في الآخرة ".
أَيْ أَنَّ المشركين في بلادِ العرب يُقاتَلون، ولا يَتوقَّفُ قتالُهم إلَّا بإسْلامهم..
أَمّا أَهلُ الكتابِ من اليهودِ والنصارى فأَمامَهم خياران: إِمّا الإِسلامُ وإِما دَفْعُ الجزية، وهو ما دَلَّ عليه قولُه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
واعترضَ الفادي المفْتَري على هذه الدعوةِ القرآنية، واعتَبَرَها دَليلاً على
انتشارِ الإِسلامِ بالسيف.
قال: " ونحنُ نسأَلُ: هل يقومُ دينٌ صادِق إِلّا على(1/430)
الحُجةِ والبُرهان، لا على الإرهابِ والاستبداد؟
وإنْ كانتِ الآيات ُ المكيةُ تَحُضُّ على السِّلْم، والآياتُ المدنيةُ تحضُّ على القتال، فأَيُّ آياتٍ منها أَرسخُ وأَثبتُ؟
وأَيُّها أَنسبُ من حيثُ الإيمانُ والثواب؟.
إنَّ الإِرهابَ يَدْفَعُ للنفاق.
قالَ الشاعر:
أَسْلَمَ الكافِرونَ بِالسيْفِ قَهْراً ... وإذا ما خَلَوَا فَهُمْ مُجْرِمونَ
سَلِموا مِنْ رَواحِ مالٍ وَروحٍ ... فَلَا هُمْ سالِمونَ ولا مُسْلِمونَ
يَزعمُ المفترِي وُجودَ تَعارضٍ بينَ الآياتِ المدنيةِ والآياتِ المكيَّة،
فالآياتُ المكيةُ تحضُّ على السّلْم، والآياتُ المدنيةُ تحضُّ على القِتال " فأَيُّها
أَصْدقُ؟ وأَيُّها يُتَّبَعُ"؟ (1) .
وهذا زَعْمٌ باطل، فالآياتُ المكيةُ سَكَتَتْ عن قِتالِ الكفار، فكانَ قِتالُهم
من الأمرِ المؤَجَّل، الذي لم يَحِنْ وَقْتُ الحديثِ عنه، وليس معنى هذا أَنَّ
الآياتِ المكيةَ كانتْ تَنْهى عن القِتال، وتحضُّ على السَّلام.
وبعدما أَقامَ المسلمونَ مجتمعَهم الإِسلاميَّ بعد الهِجرة، واعتَدى عليهم
الكافرون، أَذِنَ اللهُ لهم بالقِتال، وأمرهم به، وحَثَّهُم عليه.
وأشارَت الآيات ُ المدنيّةُ إِلى ما كانَ عليه المسلمونَ في مكة.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) .
ويَقومُ سؤالُ الفادي على المغالطةِ والاتِّهام: " هل يقومُ دينٌ صادقٌ إلّا
على الحُجَّةِ والبُرهان، لا على الإرهاب والاستبداد؟ "..
ومن المتفقِ عليه أَنَّ أَيَّ دينٍ لا يَقومُ إلّا على الحُجةِ والبرهان.
والإِسلامُ دينٌ يخاطبُ العقلَ والقلبَ والروح، ويقدمُ للناسِ حقائِقَه بالحُجَّةِ والبرهان، والدليلِ المقنعِ الذي يُخاطبُ العقل.
وانتشرَ الإسلامُ في العالمِ بالدعوةِ وليسَ بالسيفِ، وقامَ على الحُجَّةِ
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
65- الإسلام انتشر بالسيف، ويحبذ العنف
الرد على الشبهة:
وهى من أكثر الشبه انتشارًا، ونرد عليها بالتفصيل حتى نوضح الأمر حولها:
يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1) .
إن هذا البيان القرآنى بإطاره الواسع الكبير، الذى يشمل المكان كله فلا يختص بمكان دون مكان، والزمان بأطواره المختلفة وأجياله المتعاقبة فلا يختص بزمان دون زمان، والحالات كلها سلمها وحربها فلا يختص بحالة دون حالة، والناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم فلا يختص بفئة دون فئة؛ ليجعل الإنسان مشدوها متأملاً فى عظمة التوصيف القرآنى لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) رحمة عامة شاملة، تجلت مظاهرها فى كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الكون والناس من حوله.
والجهاد فى الإسلام حرب مشروعة عند كل العقلاء من بنى البشر، وهى من أنقى أنواع الحروب من جميع الجهات:
1- من ناحية الهدف.
2- من ناحية الأسلوب.
3- من ناحية الشروط والضوابط.
4- من ناحية الإنهاء والإيقاف.
5- من ناحية الآثار أو ما يترتب على هذه الحرب من نتائج.
وهذا الأمر واضح تمام الوضوح فى جانبى التنظير والتطبيق فى دين الإسلام وعند المسلمين.
وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة، إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامى الحنيف، والإصرار على جعله طرفاً فى الصراع وموضوعاً للمحاربة، أحدث لبساً شديداً فى هذا المفهوم ـ مفهوم الجهاد ـ عند المسلمين، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف، ويكفى فى الرد على هذه الحالة من الافتراء، ما أمر الله به من العدل والإنصاف، وعدم خلط الأوراق، والبحث عن الحقيقة كما هى، وعدم الافتراء على الآخرين، حيث قال سبحانه فى كتابه العزيز: (لِمَ تَلبِسُونَ الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) (2) .
ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربى كبير هو توماس كارليل، حيث قال فى كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " ما ترجمته: " إن اتهامه ـ أى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف فى حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز فى الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها " (3) .
ويقول المؤرخ الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه " حضارة العرب " وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام فى عهده صلى الله عليه وسلم وفى عصور الفتوحات من بعده ـ: " قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التى قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار فى الهند ـ التى لم يكن العرب فيها غير عابرى سبيل ـ ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً فى الصين التى لم يفتح العرب أى جزء منها قط، وسترى فى فصل آخر سرعة الدعوة فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا فى الوقت الحاضر " (4) .
هذا وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل فى الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء، ولم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة عظيمة يغرى بها هؤلاء الداخلين، ولم يكن إلا الدعوة، والدعوة وحدها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمَّل المسلمون ـ لاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم ـ من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسى عن تحمله، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادهم ذلك صلابة فى الحق، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتدّ سخطاً عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين فى النكوص عنه، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء، وسنتكلم هنا على الجانبين التنظيرى والتطبيقى، ونقصد بالتنظيرى ما ورد فى مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) ، ونعنى بالتطبيقى ما حدث عبر القرون ابتداء من الحروب التى شارك فيها النبى صلى الله عليه وسلم، وانتهاء بعصرنا الحاضر، ثم نختم ببيان هذه النقاط الخمسة التى ذكرناها سابقاً.
أولاً: الجانب التنظيرى
ورد فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية آيات وأحاديث تبين شأن الجهاد فى الإسلام، ويرى المطالع لهذه الآيات والأحاديث، أن المجاهد فى سبيل الله، هو ذلك الفارس النبيل الأخلاقى المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهى الربانية التى تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع، وألا يخرج مقاتلا من أجل أى مصلحة شخصية، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التى ينتمى إليها، أو من أجل أى عرض دنيوى آخر، وينبغى أن يتقيد بالشروط التى أحل الله فيها الجهاد، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً، أو أصابه الأذى من عدوه، فإن الله يأمره بضبط النفس، وعدم تركها للانتقام، والتأكيد على الالتزام بالمعانى العليا، وكذلك الحال بعد القتال، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين، وبالرغم من أن لفظة الجهاد إذا أطلقت انصرف الذهن إلى معنى القتال فى سبيل الله. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسماه بالجهاد الأصغر، وسمى الجهاد المستمر بعد القتال بالجهاد الأكبر؛ لأن القتال يستمر ساعات أو أيام، وما بعد القتال يستغرق عمر الإنسان كله.
وفيما يلى نورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحدثت عن هذه القضية، ثم بعد ذلك نستخرج منها الأهداف والشروط والضوابط والأساليب، ونعرف منها متى تنتهى الحرب، والآثار المترتبة على ذلك:
أولاً: القرآن الكريم:
1- (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (5) .
2- (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (6) .
3- (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (7) .
4- (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) (8) .
5- (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) (9) .
6- (ولا تحسبن الذين قُتِلُوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُون) (10) .
7- (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم) (11) .
8- (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيُقتل أو يَغِلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً) (12) .
9- (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً) (13) .
10- (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) (14) .
11- (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون) (15) .
12- (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (16) .
13- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (17) .
14 (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (18) .
15- (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (19) .
16- (يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم) (20) .
17- (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (21) .
18- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فَيَقتُلُون وَيُقتَلُون) (22) .
19- (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُون بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا رَبُّنَا الله) (23) .
ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة:
1- عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " (24) .
2- عن وهب بن منبه، قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبى صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " (25) .
3- عن سعد بن زيد بن سعد الأشهلى أنه أهدى إلى رسول صلى الله عليه وسلم سيفاً من نجران فلما قدم عليه أعطاه محمد بن مسلمة، وقال: " جاهد بهذا فى سبيل الله فإذا اختلفت أعناق الناس فاضرب به الحجر، ثم ادخل بيتك وكن حلساً ملقى حتى تقتلك يد خاطئة أو تأتيك منية قاضية. قال الحاكم: فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع على ـ رضى الله عنه ـ وقتال من قاتله " (26) .
4- عن سعيد بن جبير قال: " خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل كيف ترى فى قتال الفتنة فقال وهل تدرى ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس كقتالكم على الملك " (27) .
5- عن عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أريد الجهاد فقال: " أحى والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد " (28) .
ويتضح من هذه الآيات والأحاديث أن هدف الحرب فى الإسلام يتمثل فى الآتى:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس.
2- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها.
3- المطالبة بالحقوق السليبة.
4- نصرة الحق والعدل.
ويتضح لنا أيضا أن من شروط وضوابط الحرب:
(1) النبل والوضوح فى الوسيلة والهدف.
(2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين.
(3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين.
(4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التى تليق بالإنسان.
(5) المحافظة على البيئة ويدخل فى ذلك النهى عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار، وإفساد الزروع والثمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت.
(6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.
الآثار المترتبة على الجهاد
يتضح لنا مما سبق أن الجهاد فى الإسلام قد اتسم بنبل الغاية والوسيلة معا، فلا غرو أن تكون الآثار والثمار المتولدة عن هذا الجهاد متناسقة تماما فى هذا السياق من النبل والوضوح؛ لأن النتائج فرع عن المقدمات، ونلخص هذه الآثار فى النقاط التالية:
(1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية.
(2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس، وهو الشر الذى يؤدى إلى الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها.
(3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم.
(4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية.
(5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس فى أوطانهم.
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) (29) .
قال الإمام القرطبى عند تفسيره لهذه الآية:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أى لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن فى القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: (ولولا دفع الله الناس) الآية؛ أى لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق فى كل أمة. فمن استشبع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقى الدين الذى يذب عنه. وأيضاً هذه المواضع التى اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أى لولا هذا الدفع لهُدمت فى زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. " لهدمت " من هدمت البناء أى نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل فى تأويل الآية " (30) .
ثانياً: الناحية التطبيقية
(1) حروب النبى صلى الله عليه وسلم:
(أ) الحرب ظاهرة اجتماعية:
الحرب ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان على ظهر هذه البسيطة، فمنذ وُجد الإنسان وهو يصارع ويحارب، وكعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتمية نشأت الحرب، فالاحتكاك بين البشر لابد وأن يُوَلِّد صداماً من نوع ما، لقد جبل الإنسان على غريزة التملك التى تدعوه إلى التشبث بما يملكه، حيث إن هذه الغريزة هى التى تحفظ عليه البقاء فى الحياة، وهى بالتالى التى تتولد عنها غريزة المقاتلة، فى أبسط صورها دفاعاً عن حقه فى الاستمرار والحياة، وقد تتعقد نفسية الإنسان وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة، فلا يقاتل طالباً للقوت أو دفاعاً عنه فقط، وإنما يقاتل طلباً للحرية ورفعاً للظلم واستردادا للكرامة. ويُفَصِّل العلامة ابن خلدون هذه الحقيقة فى مقدمته فيقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان؛ إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعى فى البشر، إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعى فى تمهيده " (31) .
(ب) الحرب فى الكتب المقدسة قبل الإسلام:
إذا ما تجاوزنا الأمم والحضارات البشرية، وتأملنا فى الكتب السماوية المقدسة (التوراة ـ الإنجيل) ، نرى أن هذه الكتب المقدسة قد تجاوزت الأسباب المادية الغريزية التى يقاتل الإنسان من أجلها إلى أسباب أكثر رُقِيًّا وحضارة، فبعد أن كان الإنسان يقاتل رغبة فى امتلاك الطعام أو الأرض، أو رغبة فى الثأر الشخصى من الآخرين، أو حتى ردا للعدوان، نرى أن الكتب المقدسة قد أضافت أسباباً أخرى، أسباباً إلهية تسمو بالبشرية عن الدنايا وظلم الآخرين، إلى بذل النفس إقامة للعدل، ونصرة للمظلوم، ومحاربة للكفر والخروج عن منهج الله، لقد حددت الكتب السماوية المناهج والأطر التى يُسْمَح فيها بإقامة القتال وعبرت بالإنسان مرحلة بناء المجد الشخصى المؤسس على الأنا، إلى مرحلة التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية العليا، التى تعمل فى إطار الجماعة البشرية لا فى محيط الفرد الواحد.
الحرب فى العهد القديم:
وردت أسباب الحرب فى ست وثلاثين آية تقع فى ثمانية أسفار من أسفار العهد القديم هى: (التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال) .
(1) ففى سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر، ورد ما يفيد أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد خروجه بقومه من مصر بعث رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها:
" فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك " (32) .
(2) وجاء فى سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون:
" فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة " (33) .
(3) وفى سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث:
" وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب؟ " (34) .
(4) جاء فى حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون:
" وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً " (35) .
(5) وجاء فى سفر يوشع الإصحاح الثالث والعشرون:
" وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم " (36) .
(6) وجاء فى سفر القضاة الإصحاح الأول:
" وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل ".
(7) وفى سفر القضاة الإصحاح الثامن عشر:
" فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش " (37) .
(8) وفى صموئيل الأول الإصحاح الرابع:
" وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل " (38) .
(9) وفى التكوين الإصحاح الرابع والثلاثون:
" فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت " (39) .
(10) وفى سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر:
" فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب " (40) .
(11) وفى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون:
" فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه " (41)
(12) وفى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون:
" ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها " (42) .
(13) وفى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون:
تطالعنا التوراة، أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ: " وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: " كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم " (43) .
(14) وشبيه به ما ورد فى سفر صموئيل الإصحاح السابع عشر آية 45: 47
" فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم 000 فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل " (44) .
(15) وفى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون:
" فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة " (45) .
(16) فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر:
يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: " الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم " (46) .
هذه بعض من حروب بنى إسرائيل التى سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم، فمفهوم الحرب والقتال، ليس مفهوماً كريهاً من وجهة النظر التوراتية، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية، وهى كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع (47) .
الحرب فى العهد الجديد:
كذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية، بل جاء نص واضح صريح، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التى تمثلت فى النص الشهير " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " ـ إلا أنها تشير إلى أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك؛ فجاء فى الإنجيل على لسان السيد المسيح:
" لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسى سلاماً، بل سيفاً، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته " (48) .
ولعلنا نلاحظ التشابه الكبير بين هذه المقولة وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده] (49) .
مما سبق يتبين لنا واضحاً وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت فى الأمم جميعاً، ولم نر فى تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال، ورأينا من استعراض الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل ـ أنه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.
لقد كان هذا القدر كافيا فى إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم سائر على سنن من سبقه من الأنبياء، وأن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام؛ لا مما به يشان، وأن ما هو جواب لهم فى تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جواباً لنا فى مشروعية ما قام به النبى صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.
ولنشرع الآن فى تتميم بقية جوانب البحث مما يزيل الشبهة ويقيم الحجة ويقطع الطريق على المشككين، فنتكلم عن غزوات النبى صلى الله عليه وسلم، ممهدين لذلك بالحالة التى كانت عليها الجزيرة العربية من حروب وقتال وسفك للدماء لأتفه الأسباب وأقلها شأناً، حتى يبدو للناظر أن القتال كان غريزة متأصلة فى نفوس هؤلاء لا تحتاج إلى قوة إقناع أو استنفار.
الحرب عند العرب قبل الإسلام
سجلت كتب التاريخ والأدب العربى ما اشتهر وعرف بأيام العرب، وهى عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التى نشبت بين العرب قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذى يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التى تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التى خلفتها هذه الحروب) .
قال العلامة محمد أمين البغدادى: " اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب فى الجاهلية أكثر من أن تحصر، ومنها عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضاً منها على سبيل الإجمال " (50) .
وقد ذكرت كتب التواريخ أياماً كثيرة للعرب (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذى قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان 000 إلخ) والمتأمل فى هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التى لا تتسم بالعقل، كانت هى الوقود المحرك لهذه الحروب، هذا فضلاً عن تفاهة الأسباب التى قامت من أجلها هذه المجازر، والمدة الزمنية الطويلة التى استمرت فى بعضها عشرات السنين، والآثار الرهيبة التى خلفتها هذه الحروب، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التى قيلت فى وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء 000 إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب فى نفوس الناس من اليأس والشؤم، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبى سلمى طرفاً من ذلك فى معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهو يقول للساعين للسلام: إنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا، ودقوا بينهما عطر منشم، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل فى التشاؤم، دليل على عظم اليأس الذى أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب (51) .
هذه إطلالة سريعة ومختصرة على الحروب وأسبابها لدى العرب قبل الإسلام والآن نشرع فى الكلام على تشريع الجهاد فى الإسلام ثم نتبع ذلك بتحليل موثق لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم.
الجهاد فى شرعة الإسلام:
لما استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسس حكومته النبوية بها، بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة إلى الله وتحمل الأذى والعذاب فى سبيل ذلك تخللتها ثلاث هجرات جماعية كبيرة ـ هاجت ثائرة قريش وحقدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحرزه من استقرار ونجاح لهذه الدولة الوليدة ـ دون ظلم أو استبداد أو سفك للدماء ـ ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم مقصوداً بالقتل، إذ ليس معقولاً أن تنام أعينهم على هذا التقدم والنمو، ومصالحهم قائمة على الزعامة الدينية فى جزيرة العرب، وهذه الدولة الجديدة قائمة على أساس دينى ربما يكون سبباً فى زوال هذه الزعامة الدينية الوثنية الموروثة. وإذا كان الإسلام ديناً بلغت الميول السلمية فيه مداها فى قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام) (53) إلا أن الميول السلمية لا تتسع لمنع القائمين بهذا الدين الجديد من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم الذى أنزله الله للإنسانية كافة، فى عالم يضيع فيه الحق والعدل إن لم يكن لهما قوة تحميهما، فكان لا مناص من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذى يشهره خصومهم فى وجوههم، ولذلك كان التعبير بقوله تعالى: (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) (53) .
أقول: كان التعبير بالإذن الذى يدل على المنع قبل نزول الآية يدل على طروء القتال فى الإسلام وأنه ظل ممنوعاً طيلة العهد المكى وبعضاً من العهد المدنى.
" هذا ولم يغفل الإسلام حتى فى هذا الموطن ـ موطن الدفاع عن النفس والدين ـ أن ينصح لأتباعه بعدم العدوان؛ لأن الموضوع حماية حق لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات الصدور، وهذا من مميزات الحكومة النبوية، فإن القائم عليها من نبى يكون كالجراح يضع مشرطه حيث يوجد الداء لاستئصاله، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة، ومقصده استبقاء حياة المريض لا قتله، والعالم كله فى نظر الحكومة النبوية شخص مريض تعمل لاستدامة وجوده سليماً قوياً.. إن طبيعة هذا العالم مبنية على التدافع والتغالب ليس فيما بين الناس فحسب، ولكن فيما بينهم وبين الوجود المحيط بهم، وبين كل فرد والعوامل المتسلطة عليه من نفسه، ولا أظن أن قارئاً من قرائنا يجهل الناموس الذى اكتشفه دارون وروسل ولاس ودعوه ناموس تنازع البقاء وبنوا عليه كل تطور أصاب الأنواع النباتية والحيوانية والإنسان أيضاً " (54) .
" ألم تر كيف تصدى خصوم الدين النصرانى للمسيح، وما كان يدعو إلا للصلاح والسلام حتى إنهم استصدروا أمراً بصلبه فنجاه الله منهم، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون فى الأرض لا تجمعهم جامعة، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الإمبراطور قسطنطين الذى أعمل السيف فى الوثنيين من أعدائهم.. أفيريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية فى عالم مبنى على سنن التدافع والتنازع واستخدام القوة الحيوانية لطمس معالم الحق ودك صروح العدل "؟ " يقول المعترضون: وماذا أعددتم من حجة حين تجمع الأمم على إبطال الحروب وحسم منازعاتها عن طريق التحكيم، وهذا قرآنكم يدعوكم إلى الجهاد وحثكم على الاستبسال فيه؟
نقول: أعددنا لهذا العهد قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (55) .
" هذه حكمة بالغة من القرآن، بل هذه معجزة من معجزاته الخالدة، وهى أدل دليل على أنه لم يشرع الحرب لذاتها، ولكن لأنها من عوامل الاجتماع التى لابد منها ما دام الإنسان فى عقليته ونفسيته المأثورتين عنه، غير أنه لم ينف أن يحدث تطور عالمى يتفق فيه على إبطال الحرب فصرح بهذا الحكم قبل حدوثه ليكون حُجة لأهله من ناحية، وليدل على أنه لا يريد الحرب لذاتها من ناحية أخرى، ولو كان يريدها لذاتها لما نوه لهذا الحكم " (56) .
ثانياً: نظرة تحليلية لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم:
إذا تتبعنا هذه الغزوات وقسمناها حسب الطوائف التى ضمتها، أمكننا التعرف على القبائل التى حدثت معها هذه المعارك وهى كالآتى:
(1) قريش مكة:
وهى القبيلة التى ينتمى إليها النبى صلى الله عليه وسلم، حيث أن قريش هو فهر بن مالك، وقيل النضر بن كنانة، وعلى كلا القولين فقريش جد للنبى صلى الله عليه وسلم، وكانت معهم الغزوات: سيف البحر ـ الرابغ ـ ضرار ـ بواط ـ سفوان ـ ذو العشيرة ـ السويق ـ ذو قردة ـ أحد ـ حمراء الأسد ـ بدر الآخرة ـ الأحزاب ـ سرية العيص ـ سرية عمرو بن أمية ـ الحديبية ـ سيف البحر الثانية 8هـ ـ فتح مكة.
(2) قبيلة بنو غطفان وأنمار:
غطفان من مضر، قال السويدى: " بنو غطفان بطن من قيس ابن عيلان بن مضر، قال فى العبر: وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون " (57) ، قال ابن حجر فى فتح البارى: " تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق " (58) ، أما أنمار فهم يشتركون فى نفس النسب مع غطفان، قال ابن حجر: " وسيأتى بعد باب أن أنمار فى قبائل منهم بطن من غطفان " (59) ، أى أن أنمار ينتسبون إلى مضر أيضاً ونسبهم كالتالى: أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر (60) .
والغزوات التى ضمتها هى: قرقرة الكدر ـ ذى أمر ـ دومة الجندل ـ بنى المصطلق ـ الغابة ـ وادى القرى ـ سرية كرز بن جابر ـ ذات الرقاع ـ تربة ـ الميفعة ـ الخربة ـ سرية أبى قتادة ـ عبد الله بن حذافة (61) .
(3) بنو سليم:
قال السويدى: " بضم السين المهملة قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى، وسليم من أولاد خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر (62) ، والغزوات التى خاضها صلى الله عليه وسلم مع بنى سليم هى: بئر معونة ـ جموم ـ سرية أبى العوجاء ـ غزوة بنى ملوح وبنى سليم (63) .
(4) بنو ثعلبة:
ثعلبة هو ابن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (64) ، نسبه الدكتور على الجندى إلى مر بن أد هكذا: ثعلبة بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (65) ، والغزوات التى غزاها صلى الله عليه وسلم معهم هى: غزوة ذى القصة ـ غزوة بنى ثعلبة ـ غزوة طرف ـ سرية الحسمى (66) .
(5) بنو فزارة وعذرة:
قال فى سبائك الذهب: " بنو فزارة بطن من ذبيان من غطفان، قال فى العبر: وكانت منازل فزارة بنجد ووادى القرى، ونسب فزارة: فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر.
أما بنو عذرة: بنوه بطن من قضاعة، ونسبهم هكذا: عذرة بن سعد بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافى بن قضاعة (67) . ونسبهم إلى قضاعة أيضاً الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم هكذا: عذرة بن سعد بن أسلم بن عمران بن الحافى بن قضاعة (68) ، وعلى هذا فبنو عذرة ليسو من مضر وإنما كانوا موالين لبنى فزارة وهم من مضر. وكان معهما الغزوات والسرايا الآتية:
سرية أبى بكر الصديق ـ سرية فدك ـ سرية بشير بن سعد ـ غزوة ذات أطلح (69) .
(6) بنو كلاب وبنو مرة:
أما بنو كلاب فهم: بنو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبنو مرة هم أبناء كعب بن لؤى فيكون كلاب بطن من مرة، وهذه نفس سلسلة النسب التى ذكرها الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم (70) ، والغزوات التى كانت معهم: غزوة قريظة ـ غزوة بنى كلاب ـ غزوة بنى مرة ـ سرية ضحاك (71) .
(7) عضل والقارة:
قال فى سبائك الذهب: "عضل بطن من بنى الهون من مضر"، ونسبهم هكذا: عضل بن الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما القارة فلم يذكرها السويدى فى السبائك ولا الدكتور الجندى، إلا أن الأستاذ الشيخ محمد الخضرى نسبها إلى خزيمة بن مدركة، وذكر الفارة بالفاء الموحدة لا بالقاف المثناة (72) وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى غزوة الرجيع (73) .
(8) بنو أسد:
قال السويدى: " بنو أسد حى من بنى خزيمة، ونسبهم هكذا: أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (74) ، والغزوات التى غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هى: سرية قطن ـ سرية عمر مرزوق ـ غزوة ذات السلاسل (75) .
(9) بنو ذكوان:
قال السويدى: " بنو ذكوان بطن من بهتة من سليم، وهم من الذين مكث النبى صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت فى الصلاة يدعو عليهم وعلى رعل (76) ونسبهم هكذا: ذكوان بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة خصفة بن قيس عيلان بن مضر (77) ، ولم يغزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة واحدة هى غزوة بئر معونة.
(10) بنو لحيان:
من المعروف أن بنى لحيان من هذيل، وهذيل هو: ابن مدركة بن مضر (78) ، وغزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى: غزوة بنى لحيان (79) .
(11) بنو سعد بن بكر:
نسبهم: سعد بن بكر بن هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (80) ، وقد أرسل لهم النبى صلى الله عليه وسلم سرية واحدة هى سرية فدك.
(12) بنو هوازن:
بنو هوازن بطن من قيس عيلان، ونسبهم هكذا: هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (81) ، وقد غزاهم صلى الله عليه وسلم غزوة ذات عرق.
(13) بنو تميم:
بنو بطن من طابخة، قال فى العبر: " وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمن، ونسبهم هكذا: تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر " (82) .
(14) بنو ثقيف:
بنو ثقيف بطن من هوازن اشتهروا باسم أبيهم ثقيف، ونسبهم: ثقيف بن منبه بن بكر بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (83) ، وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوتين هما: غزوة حنين ـ غزوة الطائف.
ونستطيع من خلال هذا التتبع أن نقول: إن هذه القبائل كانت جميعها تنتسب إلى مضر وهو جد النبى صلى الله عليه وسلم أو من والاهم، وبالمعنى الأدق كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده، أما اليهود فقد كانوا مع قريش حسب معاهدتهم معهم، وبذلك ظهر جلياً أن الغزوات والسرايا التى خاضها أو أرسلها النبى صلى الله عليه وسلم، كانت موجهة فى نطاق ضيق هو نسل مضر، فلا يمكن أن يقال حينئذ: أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أشعل نار الحرب ضد العرب جميعاً، أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، ولو كان الأمر كما يقولون لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أى قبيلة من مئات القبائل العربية، وهذه الحقيقة تحتاج إلى مزيد من التعمق والتحليل فى بعض خصائص القبائل العربية؛ إذ قد يقول قائل أو يعترض معترض: إن هذا الذى توصلنا إليه بالبحث ـ ألا وهو انحصار القتال مع المضريين ـ لم يحدث إلا اتفاقاً، والأمور الاتفاقية لا تدل على شىء ولا يستخرج منها قانون كلى نحكم به على جهاد النبى صلى الله عليه وسلم، إذ كان من الممكن أن يقاتل النبى صلى الله عليه وسلم ربيعة بدلاً من مضر، أو يقاتل ربيعة ومضر معاً، أو يقاتل القحطانية بدلاً من العدنانية أو يقاتلهما معاً، وهكذا.
ذلك المتوقع أن تزيد الألفة والمودة بين أفراد وقبائل الجد الواحد لا أن تشتعل نار الحرب والقتال بينهم، فما الذى عكس هذا التوقع وقلب الأمر رأساً على عقب؟!
وللإجابة على هذه الشبهة نقول:
كان من أشهر الأمثلة العربية المثل المشهور " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " وقد كان العرب يطبقون هذا المثل تطبيقاً حرفياً ـ دون هذا التعديل الذى أضافه الإسلام عليه ـ فكانوا ينصرون إخوانهم وبنى أعمامهم نصراً حقيقياً على كل حال فى صوابهم وخطئهم وعدلهم وظلمهم، وإذا دخلت قبيلتان منهم فى حلف كان لكل فرد من أفراد القبيلتين النصرة على أفراد القبيلة الأخرى، وهذا الحلف قد يعقده الأفراد وقد يعقده رؤساء القبائل والأمر واحد فى الحالين.
بينما هم كذلك فى بنى أبيهم وفى حلفائهم، إذ بك تراهم حينما تتشعب البطون قد نافس بعضهم بعضاً فى الشرف والثروة، فنجد القبائل التى يجمعها أب واحد كل واحدة قد وقفت لأختها بالمرصاد تنتهز الفرصة للغض منها والاستيلاء على موارد رزقها، وترى العداء قد بلغ منها الدرجة التى لا تطاق، كما كان بين بطنى الأوس والخزرج، وبين عبس وذبيان، وبين بكر وتغلب ابنى وائل، وبين عبد شمس وهاشم، 000 إلخ، فكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة، تزيدها العصبية حياة ونمواً، وكانت مفقودة تماماً بين القبائل المختلفة؛ فكانت قواهم متفانية فى قتالهم وحروبهم ونزاعاتهم.
وقد علل الشيخ محمد الخضرى بك هذه الحقيقة العجيبة بأمرين:
الأمر الأول:
التنافس فى مادة الحياة بين بنى الأب الواحد، إذ أن حياتهم كانت قائمة على المراعى التى يسيمون فيها أنعامهم، والمناهل التى منها يشربون.
الأمر الثانى:
تنازع الشرف والرياسة، وأكثر ما يكون ذلك إذا مات أكبر الإخوة وله ولد صالح لأن يكون موضع أبيه، فينازع أعمامه رياسة العشيرة ولا يسلم أحد منهما للآخر، وقد يفارق رئيس أحد البيتين الديار مضمراً فى نفسه ما فيها من العداوة والبغضاء، وقد يبقيا متجاورين، وفى هذه الحالة يكون التنافر أشد كما كان الحال بين الأوس والخزرج من المدينة، وبين هاشم وأمية من مكة، وبين عبس وذبيان من قيس، وبين بكر وتغلب من ربيعة. ومتى وجد النفور بين جماعتين أو بين شخصين لا يحتاج شبوب نار الحرب بينهما إلى أسباب قوية، بل إن أيسر النزاع كاف لنشوب نار الحرب وتيتم الأطفال وتأيم النساء؛ لذلك كانت الجزيرة العربية دائمة الحروب والمنازعات (84) .
هذه الحقيقة التى توصلنا إليها ـ وهى أن نار الحرب سريعة النشوب بين أبناء الأب أو الجد الواحد ـ تدعم ما توصلنا إليه من أن الحرب إنما كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده، وإذا كان الخلاف محصوراً فى السببين السابقين، فأى سبب هو الذى أجج نار الغيرة والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل السبب هو التنافس فى مادة الحياة الدنيا، أم الخوف من انتزاع الشرف والسيادة التى تؤول إلى النبى صلى الله عليه وسلم إذ هم أذعنوا له بالرسالة والنبوة؟
أما عن السبب الأول فليس وارداً على الإطلاق، فلقد ضرب كفار مكة حصاراً تجويعياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فانحازوا إلى شعب أبى طالب ثلاث سنوات كاملة، عاشوا فيها الجوع والحرمان ما لا يخطر ببال، حتى إنهم من شدة الجوع قد أكلوا ورق الشجر وكان يسمع من بعيد بكاء أطفالهم وأنين شيوخهم، ومع ذلك فقد التزم النبى صلى الله عليه وسلم الصبر والثبات، ولم يأمر أصحابه أن يشنوا حرباً أو قتالاً لفك هذا الحصار، والخبير يعلم ما الذى يمكن أن يفعله الجوع بالنفس البشرية، إن لم يصحبها نور من وحى أو ثبات من إيمان.
كان السبب الثانى إذن كفيلاً بإشعال هذه النار فى قلوب هؤلاء وعلى حد تعبير الأستاذ العلامة محمد فريد وجدى: " كان مقصوداً بالقتل من قريش، وليس يعقل أن تغمض قريش عينها، ومصلحتها الحيوية قائمة على زعامة الدين فى البلاد العربية، وعن قيام زعامة أخرى فى البلاد كيثرب يصبح منافساً لأم القرى، وربما بزها سلطاناً على العقول، وكر على قريش فأباد خضراءها وسلبها حقها الموروث " (85) ، والذى يؤيد هذا ويقويه ذلك الحوار الذى دار بين الأخنس بن شريق وبين أبى جهل؛ إذ قال له الأخنس: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ ـ يعنى القرآن ـ فقال ما سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذا؟! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
ليست الصدفة إذن ولا محض الاتفاق هما اللذان دفعا النبى صلى الله عليه وسلم لقتال أبناء أجداده من مضر دون ربيعة أو غيرها من العرب، بل الطبيعة العربية المتوثبة دائماً، لمن ينازعها الشرف والسيادة من أبناء الأب الواحد ـ على ما بيناه آنفاً ـ كانت هى السبب الرئيسى لاشتعال هذه الحروب ولولاها لما اضطر صلى الله عليه وسلم للقتال بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة والصبر تخللها من المشاق والعنت ما الله به عليم، ومع ذلك فقد كان هجيراه ـ بأبى هو وأمى ـ " اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ".
وثمة أمر آخر ينبغى الإشارة إليه، يتعلق بالآثار الناجمة عن هذا القتال، من حيث أعداد القتلى التى نجمت عن هذه الغزوات والجدول الآتى يعطينا صورة بيانية عن هذه الآثار كالآتى:
الغزوة / شهداء المسلمين / قتلى المشركين / الملاحظة
بدر / 14 / 70 /
أُحد / 70 / 22 /
الخندق / 6 / 3 /
بنو المصطلق / ـ / 3 /
خيبر / 19 / لم يدخل اليهود فى هذه الإحصائية لأن لهم حكم آخر بسبب خيانتهم، فهم قُتلوا بناء على حكم قضائى، بسبب الحرب.
بئر مونة 69 / ـ /
مؤتة / 14 / 14 /
حنين / 4 / 71 /
الطائف / 13 / ـ /
معارك أخرى / 118 / 256 /
المجموع / 317 / 439 / 756 من الجانبين.
وبعد فقد بدا للناظرين واضحًا وجليًا أن الإسلام متمثلاً فى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن حمل الناس على اعتناق الإسلام بالسيف، وهو الذى قال صلى الله عليه وسلم لأعدائه بعدما قدر عليهم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " هكذا دون شرط أو قيد، أقول حتى دون اشتراط الإسلام.
والنتائج الحقيقية:
(1) تحويل العرب الوحوش إلى عرب متحضرين، والعرب الملحدين الوثنيين إلى عرب مسلمين موحدين.
(2) القضاء على أحداث السلب والنهب وتعزيز الأمن العام فى بلاد تفوق مساحتها مساحة فرنسا بضعفين.
(3) إحلال الأخوة والروحانية محل العداوة والبغضاء.
(4) إثبات الشورى مكان الاستبداد (86) .
هذا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضوابط وقيود كان من شأنها أن تحدد وظيفة الجهاد فى نشر الإسلام فى ربوع المعمورة، دون سفك للدماء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ومن هذه الضوابط قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) (87) .
فإن كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضى الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم، فحينئذ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوى علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك.
ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم بل علم ذلك.
ودل مفهوم الآية أيضاً على أنه إذا لم يخف منهم خيانة بأن يوجد منهم ما يدل على عدم الخيانة، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (88) .
انتشار الإسلام
أـ معدلات انتشار الإسلام:
الذى يؤكد على الحقيقة التى توصلنا إليها ـ وهى أن انتشار الإسلام كان بالدعوة لا بالسيف ـ أن انتشار الإسلام فى الجزيرة العربية وخارجها، كان وفق معدلات متناسبة تماماً من الناحيتين الكمية والكيفية، مع التطور الطبيعى لحركة الدعوة الإسلامية، ولا يوجد فى هذه المعدلات نسب غير طبيعية أو طفرات تدل على عكس هذه الحقيقة، والجدول الآتى يوضح هذه النسب:
السنوات بالهجرى / فارس / العراق / سورية / مصر / الأندلس
نسبة المسلمين مع نهاية أول مائة عام / 5%/ 3%/ 2%/ 2%/أقل من 1%
السنوات التى صارت النسبة فيها 25% من السكان/ 185/ 225/ 275/ 275/ 295
السنوات التى صارت النسبة فيها 50% من السكان/ 235/ 280/ 330/ 330/ 355
السنوات التى صارت النسبة فيها 75% من السكان/ 280/ 320/ 385/ 385/ 400
* حسبت السنوات منذ عام 13 قبل الهجرة عندما بدأ تنزيل القرآن الكريم.
وتوضح معلومات أخرى أن شعب شبه الجزيرة العربية كان الشعب الأول فى الدخول فى الإسلام، وقد أصبح معظمهم مسلمين فى العقود الأولى بعد تنزيل القرآن الكريم.
وهكذا كان عدد العرب المسلمين يفوق عدد المسلمين من غير العرب فى البداية، ومهدوا الطريق للتثاقف الإسلامى والتعريب من أجل المسلمين غير العرب، ولم يمض وقت على هؤلاء فى أصولهم من أديان ومذاهب متعددة من كل الأمم والحضارات السابقة.
كان على هؤلاء جميعاً أن يوظفوا بشكل موحد عمليات توأمية للتقليد والابتكار فى وقت واحد وذلك حسب خلفياتهم الأصلية تحت التأثير الثورى والمتحول الأكثر عمقاً للفكر الإسلامى ومؤسساته، وقاموا عن طريق عملية التنسيق المزدوجة بتنقية تراثهم من علوم وتكنولوجيا وفلسفات عصر ما قبل القرآن الكريم وذلك إما بالقبول الجزئى أو الرفض الجزئى، وقاموا كذلك بالابتكار من خلال انطلاقهم من أنظمتهم الفكرية الحسية وتراثهم فى ضوء القرآن الكريم والسنة.
ومن هنا ولدت العلوم الإسلامية والتكنولوجيا الإسلامية والحضارة الإسلامية الحديثة متناسبة مع الأيدولوجية والرؤية الإسلامية الشاملة (89) .
خصائص ذلك الانتشار:
ـ عدم إبادة الشعوب.
ـ جعلوا العبيد حكاماً.
ـ لم يفتحوا محاكم تفتيش.
ـ ظل اليهود والنصارى والهندوك فى بلادهم.
ـ تزاوجوا من أهل تلك البلاد وبنوا أُسراً وعائلات على مر التاريخ.
ـ ظل إقليم الحجاز ـ مصدر الدعوة الإسلامية ـ فقيراً إلى عصر البترول فى الوقت الذى كانت الدول الاستعمارية تجلب خيرات البلاد المستعمرة إلى مراكزها.
ـ تعرضت بلاد المسلمين لشتى أنواع الاعتداءات (الحروب الصليبية ـ الاستعباد فى غرب إفريقيا ـ إخراج المسلمين من ديارهم فى الأندلس وتعذيب من بقى منهم فى محاكم التفتيش) ونخلص من هذا كله أن تاريخ المسلمين نظيف وأنهم يطالبون خصومهم بالإنصاف والاعتذار، وأنهم لم يفعلوا شيئاً يستوجب ذلك الاعتذار حتى التاريخ المعاصر.
1 ـ سرية سيف البحر ـ رمضان 1 هجرية ـ 30 راكب ـ حمزة بن عبد المطلب ـ 300أبو جهل ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لدراسة أحوال مكة ووجد الأعداء أن المسلمين منتبهون فانصرفوا عنهم.
2 ـ سرية الرابغ ـ شوال سنة 1 هجرية ـ 60 ـ عبيدة بن الحارث ـ 200 عكرمة بن أبى جهل أو أبو صيان ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لتفقد أحوال أهل مكة فرأت جمعاً عظيماً من قريش بأسفل ثنية المرة.
3 ـ سرية ضرار ـ فى ذى القعدة سنة 1 هجرية ـ 80 سعد بن أبى وقاص ـ خرج حتى بلغ الجحفة ثم رجع ولم يلق كيداً.
4 ـ غزوة ودان وهى غزوة الأبواب ـ صفر 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ عاهد عمرو بن مخثى الضمرى على ألا يعين قريش ولا المسلمين.
5 ـ غزوة بواط ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 200 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 100 ـ أمية بن خلف ـ بلغ إلى بواط ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة لقى فى الطريق قريشاً وأمية ـ رضوى اسم جبل بالقرب من ينبع.
6 ـ غزوة صفوان أو بدر الأولى ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ خرج فى طلب العدو حتى بلغ صفوان فلم يدركه ـ كان كرز بن جابر قد أغار على مواشى لأهل المدينة.
7 ـ غزوة ذى العشيرة ـ جمادى الآخرة 2 هجرية ـ 150 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ وادع بنى مذلج وحلفائهم من بنى ضمرة ـ ذو العشيرة موضع بين مكة والمدينة من بطن ينبع.
8 ـ سرية النخلة ـ فى رجب 2 هجرية ـ 12 ـ عبد الله بن جحش ـ قافلة تحت قيادة بنى أمية ـ أطلق الأسيران وودى القتيل ـ أرسلوا لاستطلاعن قريش فوقع الصدام.
9 ـ غزوة بدر الكبرى ـ رمضان 2 هجرية ـ 313 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 1000 ـ أبو جهل ـ 22 ـ 70 ـ 70 ـ انتصر المسلمون على العدو ـ بين بدر ومكة سبعة منازل وبين بدر والمدينة ثلاثة منازل لما علم بخروج قريش إلى المدينة ارتحل دفاعاً عن المسلمين.
10 ـ سرية عمير بن العدى الخطمى ـ فى رمضان 2 هجرية ـ 1 ـ عمير ـ 1 ـ عصماء بن مروان ـ 1 ـ قتل عمير اخته التى كانت تحض قومها على الحرب ضد المسلمين.
11 ـ سرية سالم بن عمير الأنصارى ـ فى شوال 2 هجرية ـ 1 ـ سالم ـ 1 ـ الخطمية أبو عكفة ـ كان أبو عكفة اليهودى يستفز اليهود على المسلمين فقتله سالم.
12 ـ غزوة بنى قينقاع ـ فى شوال 2 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة بنى قينقاع ـ تم إجلائهم ـ أتوا بالشر فى المدينة حين كان المسلمون فى بدر فأجلوا لذلك.
13 ـ غزوة السويق ـ فى ذى الحجة 2 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 200 ـ أبو سفيان ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى طلبه فلم يدركه ـ بعث أبو سفيان من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها فحرقوا فى أسوال من نخل ووجدوا بها رجلين فقتلوهما.
14 ـ غزوة قرقرة الكدر أو غزوة بنى سليم ـ محرم 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ 1 ـ خرج العدو يغزو المدينة فانصرف حين رأى جمعاً من المسلمين ـ أسر عبد اسمه يسار فأطلق سراحه.
15 ـ سرية قررة الكدر ـ 2 هجرية ـ 1 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ قبيلة بنى غطفان وبنى سليم ـ 3 ـ قتل من الأعداء وفر الباقون ـ بعثت هذه السرية إكمالاً إذ اجتمع الأعداء مرة أخرى.
16 ـ سرية محمد بن مسلمة ـ ربيع الأول ـ 3 هجرية ـ محمد بن مسلمة الأنصارى الخزرجى ـ 1 ـ كعب بن الأشرف اليهودى ـ 1 ـ 1 ـ كان كعب بن الأشرف يحرض القبائل من اليهود ضد المسلمين ودعا قريشاً للحرب فوقعت غزوة أحد.
17 ـ غزوة ذى أمر أو غزوة غطفان أو أنمار ـ فى ربيع سنة 3 هجرية ـ 450 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثعلبة وبنو محارب ـ اجتمعت بنو ثعلبة وبنو محارب للإغارة على المدينة فانصرفوا حين رأوا جمعاً من المسلمين ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ نجد وهنا أسلم وعثود الذى هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18 ـ سرية قردة ـ فى جمادى الآخرة سنة 3 هجرية ـ 100 ـ زيد بن حارثة ـ أبو سفيان ـ 1 ـ خرج زيد بن حارثة فى بعث فتلقى قريشاً فى طريقهم إلى العراق ـ أسر فراء بن سفيان دليل القافلة التجارية فأسلم.
19 ـ غزوة أُحد ـ شوال 3 هجرية ـ 650 راجل ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2800 راجل ـ 200 راكب أبو سفيان الأموى ـ 40 ـ 70 ـ 30 ـ لحقت خسارة فادحة بالمسلمين ولكن فشل الكفار نتيجة لرعب أصابهم ـ بين أحد والمدينة ثلاثة أيمال كانوا الأعداء زحفوا من مكة إلى أُحد.
ـ غزوة حمراء الأسد ـ فى 7 من شوال المكرم سنة 3 هجرية ـ 540 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2790 ـ أبو سفيان ـ 2 أبو عزة ومعاوية بن المغيرة ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم مرعباً للعدو ـ لما آن الغد من يوم أُحد خرج المسلمون إلى معسكر العدو لئلا يغير عليهم ثانية ظاناً بهم ضعفاً، أسر رجلان، وقتل أبو عزة الشاعر لأن كان وعد فى بدر بأنه لا يظاهر أبداً على المسلمين ثم نقض عهده وحث المشركين على المسلمين.
21 ـ سرية قطن أو سرية أبى سلمة المخزومى ـ فى غرة محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 150 أبو سلمة المخزومى ـ طلحة وسلمة ـ لم يتمكنوا من الإغارة على المدينة بمظاهرة قام بها المسلمون ـ هو رئشيس قطاع الطريق أراد الإغارة على المدينة ولكن المسلمين تظاهروا فوصلوا إلى قطن وهو مسكنه فتفرق جمعه.
22 ـ سرية عبد الله بن أنيس ـ فى 5 من محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 1 ـ عبد الله بن أنيس الجهنى الأنصارى ـ 1 ـ سفيان الهذيلى ـ 1 ـ سمع عبد الله بأن سفيان استنفر قوماً ضد المسلمين بعرفى فوصل عليها وقتل بها أبا سفينان.
23 ـ سرية الرجيع ـ فى صفر 4 هجرية ـ 10 عاصم بن ثابت ـ 100 ـ من عضل والقارة ـ 10 ـ استشهاد عشرة قراء.
24 ـ سرية بئر معونة ـ 70 ـ منذر بن عمر ـ جماعة كبيرة ـ عامر بن مالك ـ 1 ـ 69.
25 ـ سرية عمر بن أمية الضميرى ـ ربيع الأول 4 هجرية ـ 1 ـ عمر بن أمية الضمرى ـ 2 قبيلة بنى كلاب.
26 ـ غزوة بنى النضير ـ ربيع أول 4 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة النضير ـ تم إجلائهم بأنهم هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
27 ـ غزوة بدر الأخرى ـ ذى القعدة 4 هجرية ـ 1510 النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2050 أبو سفيان ـ لم تحدث مواجهة ـ خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل بناحية الظهران أو عسفان ولما علم النبى صلى الله عليه وسلم خرج إليه فرجع أبو سفينان رجع النبى أيضاً.
28 ـ غزوة دومة الجندل ـ سنة 5 هجرية ـ 1000 النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل الدومة ـ رجع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها ولم يلق كيداً.
29 ـ غزوة بنى المصطلق ـ 2 شعبان 5 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق ـ 19 ـ 10 ـ انهزم العدو وأطلق الأسرى كلهم.
30 ـ غزوة الأحزاب أو الخندق ـ شوال 5 هجرية ـ 3000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 أبو سفيان ـ 6 ـ 10 ـ انقلب العدو خاسراً.
31 ـ سرية عبد الله بن عتيك ـ ذى القعدة 5 هجرية ـ 5 ـ عبد الله بن عتيك الأنصارى ـ 1 ـ سلام بن أبى الحقيق ـ 1.
32 ـ غزوة بنى قريظة ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو قريظة ـ 4 ـ 200 ـ 400 ـ من الأعداء من قتل ومنهم من أسر ـ قتلهم كان حكماً قضائياً بسبب الخيانة وكان هذا الحكم موافقاً لنصوص التوراة التى كانوا يؤمنون بها.
33 ـ سرية الرقطاء ـ 30 ـ محمد بن مسلمة ـ 30 ـ ثمامة بن آثال ـ 1 ـ أثر ثمالة فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان ثمامة سيد نجد، وأسلم بعد أن أطلق سراحه من الأسر.
34 ـ غزوة بنى لحيان ـ 6 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو لحيا من بطون هذيل ـ تفرق العدو حين علم بمقدم المسلمون إليه ـ كانت الغزوة لتأديب أهل الرجيع الذين قتلوا عشرة من القراء.
35 ـ غزوة ذى قردة ـ 6 هجرية ـ 500 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ خيل من غطفن تحت قيادة عيينة الفزارى ـ امرأة واحدة ـ 3 ـ 1 ـ أغاروا على لقاح لرسول الله فخرج المسلمون ولحقوا بهم.
36 ـ سرية عكاشة محصن ـ 40 ـ عكاشة بن محصن الأسدى ـ بنو أسد ـ تفرق الأعداء ولم تحدث مواجهة ـ كان بنو أسد قد أجمعوا الإغارة على المدينة فبعثت إليهم هذه السرية.
37 ـ سرية ذى القصة ـ 6 هجرية ـ 10 ـ محمد بن مسلمة ـ 100 بنو ثعلبة ـ 1 جريح ـ 9 ـ استشهد تسعة من الدعاة وأصيب محمد بن مسلمة بجرح ـ كان عشرة من القراء ذهبوا للدعوة وبينما هم نائمون قتلهم بنو ثعلبة وذو القصة اسم موضع.
38 ـ سرية بنى ثعلبة ـ 6 هجرية ـ 40 ـ أبو عبيدة بن الجراح ـ بنو ثعلبة ـ 1 ـ انصرف العدو وغنم المسلمون ما كان لهم من متاع.
39 ـ سرية الجموم ـ 6 هجرية ـ زيد بن حارثة ـ بنو سليم ـ 10 ـ أسر مجموعة رجال وأطلقهم النبى صلى الله عليه وسلم.
40 ـ سرية الطرف أو الطرق ـ 6 هجرية ـ 15 ـ زيد بن حارثة ـ بنو ثعلبة ـ هرب الأعداء وأصاب المسلمون عشرين بعيراً ـ بعثت هذه السرية لمعاقبة المجرمين بذى القصة.
41 ـ سرية وادى القرى ـ 12 ـ زيد بن حارثة ـ سكان وادى القرى ـ 1 جريح ـ 9 ـ قتل من المسلمين تسعة رجال وجرح واحد ـ كان زيداً ذاهباً للجولة فحملوا عليه وعلى أصحابه.
42 ـ دومة الجندل ـ 6 هجرية ـ عبد الرحمن بن عوف ـ قبيلة بنى كلب ـ الأصبغ بن عمرو ـ تحقق نجاح ملموس فى مجال الدعوة ـ أسلم الأصبغ بن عمرو وكان نصرانياً وأسلم معه كثير من قومه.
43 ـ سرية فداك ـ 6 هجرية ـ 200 ـ على بن أبى طالب ـ بنو سعد بن بكر ـ هربت بنو سعد وأصاب المسلمون مائة بعير وألفى شاة ـ بلغ النبى صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يمدوا يهود خيبر فقام علىّ رضى الله الله عنه بالمظاهرة عليهم.
44 ـ سرية أم فرقة ـ 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو فزارة تحت قيادة أم قرفة ـ 2 ـ انهزم العدو ـ كانت بنو فزارة قد أغاروا على قافلة زيد بن حارثة.
45 ـ سرية عبد الله بن رواحة ـ 6 هجرية ـ 30 ـ عبد الله بن رواحة ـ 30 ـ أسير بن رزام اليهودى ـ 1 ـ 30 ـ وقع اشتباك لسوء فهم الفريقين فقتل اليهود جميعاً.
46 ـ سرية العرنيين ـ 6 هجرية ـ 20 ـ كرز بن جابر الفهرى ـ رجال من عكل وعريننة ـ 1 ـ 8 ـ قتلوا الراعى واستاقوا الإبل فأسروا ومثل بهم ـ استوخموا المدينة فشربوا من ألبان الإبل وأبوالها فصحوا ثم قتلوا يسارا راعى النبى صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل.
47 ـ سرية عمرو بن أمية الضمرى ـ 6 هجرية ـ 1 ـ عمرو بن أمية الضمرى ـ كان عمرو قد جاء إلى مكة ليقتل النبى صلى الله عليه وسلم ثم أسلم من حسن خلقه الشريف ثم ذهب إلى مكة يدعو أهلها.
48 ـ غزوة الحديبية ـ 6 هجرية ـ 1400 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل مكة ـ سهيل بن عمرو القرشى ـ تم الصلح بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين ريش عشر سنوات ـ كان النبى قد خرج معتمراً فصدته قريش عن البيت فى الحديبية.
49 ـ غزوة خيبر 7 هجرية ـ 100 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 ـ يهود خيبر كنانة بن أبى الحقيق ـ 50 جريحاً ـ 18 ـ 93 ـ فتح الله للمسلمين فتحاً مبيناً ـ كان اليهود قد قاتلوا المسلمين فى أُحد والأحزاب ونقضوا عهدهم مع النبى صلى الله عليه وسلم فأفسد خططهم العدوانية.
50 ـ غزوة وادى القرى ـ المحرم 6 هجرية ـ 1382 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ اليهود من وادى القرى.
51 ـ غزوة ذات الرقاع ـ 7 هجرية ـ 400 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو غطفان وبنو محارب وبنو ثعلبة وبنو أنمار ـ تفرق العدو ـ كانت بنو عطفان قد جمعوا جموعاً من القبائل للإغارة على المسلمين فلما قام المسلمون بحشودهم تفرقوا جميعاً.
52 ـ سرية عيص ـ فى صفر 7 هجرية ـ 72 ـ أبو جندل وأبو بصير ـ قافلة قريش ـ 9 ـ أخذ أموال العدو ثم ردها إليهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم.
53 ـ سرية الكديد ـ صفر 7 هجرية ـ 60 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ بنو الملوح ـ 1 ـ وقع اشتباك ـ كانت بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد فبعثت إليهم هذه السرية للتوبيخ.
54 ـ سرية فدك ـ فى صفر سنة 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل فدك ـ قتل ناس من العدو.
55 ـ سرية حسمى ـ فى جمادى الآخرة 7 هجرية ـ 500 ـ زيد بن حارثة ـ 102 ـ الهنيد بن عوض الجزرى ـ 100 ـ 2 ـ انتصر المسلمون وقتل الهنيد مع ابنه وأطلق الباقون بعد توبتهم ـ كان دحية الكلبى محملاً ببعض الهدايا من قيصر فقابله الهنيد فى ناس وقطع عليه الطريق.
56 ـ سرية تربة ـ فى شعبان سنة 7 هجرية ـ عمر بن الخطاب ـ أهل تربة ـ تفرق العدو ـ بين تربة ومكة منزلان كان أهل تربة قد اصطلحوا مع بنى غطفان فقام المسلمون بالمظاهرة فى محالهم.
57 ـ سرية بنى كلاب ـ فى شعبان 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو كلاب ـ انتصر المسلمون سبى من الأعداء جماعة وقتل آخرون ـ كانوا أجمعوا الهجوم على المسلمين مع بنى محارب وبنى أنمار.
58 ـ سرية الميفعة ـ رمضان 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل الميفعة ـ وقع اشتباك ـ كانوا حلفاء أهل خيبر.
59 ـ سرية خربة ـ فى رمضان 7 هجرية ـ أسامة بن زيد ـ أهل خربة ـ بينما أسامة وأصحابه يمشون فى الطريق إذ هبط إليهم رجل من الجبل فقتله أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله.
60 ـ سرية بنى مرة ـ شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو مرة بالقرب من فدك ـ وقع اشتباك كانوا حلفاء أهل خيبر.
61 ـ سرية بشير بن سعد الأنصارى ـ فى شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو فزارة وعذرة ـ جرح جميع المسلمين وأسر منهم رجلان ـ كانت بنو فزارة وعذرة قد ساعدوا اليهود فى خيبر فبعثت إليهم هذه السرية للترويع.
62 ـ سرية ابن أبى العوجاء ـ 7 هجرية ـ 50 ـ ابن أبى العوجاء ـ بنو سليم ـ 1 ـ 49 ـ أصيب ابن أبى العوجاء بجرح واستشهد الباقون ـ قام المسلمون بحشد قواهم فى محالهم لأنهم كانوا يجمعون للإغارة على المدينة.
63 ـ سرية ذات أطلح ـ 8 هجرية ـ 15 ـ كعب بن عمير الأنصارى ـ أهالى ذات أطلح بنو قضاعة ـ 14 ـ استشهد المسلمون جميعاً وبرأ واحد منهم ـ كانوا يجمعون فى عدد كبير للإغارة على المسلمين فبعث إليهم كتيبة لتخوفيهم فاستشهد المسلمون جميعاً.
64 ـ سرية ذات عرق ـ فى ربيع الأول 8 هجرية ـ 25 ـ شجاع بن وهب الأسدى ـ بنو هوازن أهالى ذا عرق ـ كانت هوازن قد مدّوا يد المعونة لأعداء المسلمين مراراً ثم اجتمعوا على مشارف المدينة فاحتشد المسلمون لتخويفهم.
65 ـ سرية مؤنة ـ فى جمادى الأولى سنة 8 هجرية ـ 3000 ـ زيد بن حارثة ـ مائة ألف ـ شرحبيل الغسانى ـ 12 ـ لم نعرف عدد المفقودين ـ انتصر المسلمون ـ كان شرحبيل قد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعت لذلك الحرب وهزم ثلاثة آلاف مائة ألف.
66 ـ سرية ذات السلاسل ـ جمادى الآخرة 8 هجرية ـ 500 ـ عمرو بن العاص القرشى ـ بنو قضاعة ساكنوا السلاسل ـ هرب الأعداء بمظاهرة المسلمين ـ كانت قضاعة قد تجمعت للإغارة على المدينة.
67 ـ سرية سيف البحر ـ فى رجب 8 هجرية ـ 300 ـ أبو عبيدة ـ قريش ـ أقام المسلمون على الساحل أياماً ثم انصرفوا ـ كان الغرض من هذه السرية تشتيت همم قريش.
68 ـ سرية محارب ـ فى شعبان 8 هجرية ـ 15 ـ أبو قتادة الأنصارى ـ بنو غطفان ـ هرب العدو خائفاً وأصاب المسلمون أنعاماً ـ تجمع بنو غطفان بخضرة فأرسلت إليهم سرية مكونة من خمسة عشر رجلاً للاستطلاع.
69 ـ غزوة فتح مكة ـ رمضان 8 هجرية ـ 10000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قريش مكة ـ 2 ـ 12 ـ انتصر المسلمون ـ لم يتعرض للمسلمين أحد إلا كتيبة واحدة ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة وجعل الناس كلهم طلقاء ولا تثريب عليهم.
70 ـ سرية خالد ـ فى رمضان 8 هجرية ـ خالد بن الوليد ـ الصنم العزى ـ كانت العزى صنم بنى كنانة فحطمها خالد رضى الله عنه.
71 ـ سرية عمرو بن العاص ـ 8 هجرية ـ عمرو بن العاس ـ الصنم سواع ـ كانت سواع صنم بنى هذيل فحطمها عمرو بن العاص رضى الله عنه.
72 ـ سرية سعد الأشهلى ـ رمضان 8 هجرية ـ سعد بن زيد الأشهلى الأنصارى ـ الصنم مناة ـ كانت مناة صنماً للأوس والخزرج فهدمها سعد الأشهلى رضى الله عنه.
73 ـ سرية خالد بن الوليد ـ شوال 8 هجرية ـ 350 ـ خالد بن الوليد ـ بنو جذيمة ـ 95 ـ قتل خمسة وتسعون رجلاً من بنى جذيمة ممن كانوا أسلموا فكره الرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم وودى بهم الدية ـ كان خالد بن الوليد بعث داعياً وكانت بنو جذيمة قد أسلموا من قبل فشك خالد فى إسلامهم وقتل منهم رجالاً.
74 ـ غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف وبنو هوازن وبنو معز وبنو أحسم ـ 6 ـ 6000 ـ 71 ـ انتصر المسلمون ـ أطلق النبى صلى الله عليه وسلم سراح جميع الأسرى وأعطاهم الكسوة كذلك.
75 ـ غزوة الطائف ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف ـ جمع كثير ـ 13 ـ جمع كثير ـ رجع النبى صلى الله عليه وسلم بعد محاصرة دامت شهراً ـ لما رفع النبى صلى الله عليه وسلم عنهم الحصار قدموا عليه وأسلموا.
76 ـ سرية عيينة بن حصن ـ فى محرم 9 هجرية ـ 150 ـ عيينى بن حصن الفزارى ـ قبيلة بنى تميم ـ 62 ـ تم القضاء على الثورة ـ قامت هذه القبيلة بإغراء القبائل التابعة لها ومنعتها عن أداء الجزية ولما خرج إليهم عيينى أسر منهم 11 رجلاً و21 امرأة و 20 ولداً فأطلقهم النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه سيدهم.
77 ـ سرية قطبة بن عامر ـ فى صفر 9 هجرية ـ 20 ـ قطبة بن عامر ـ قبيلة خثم ـ أكثر من النصف ـ أكرهم ـ تفرقوا وانتشروا ـ كانوا يدبرون مؤامرة ضد المسلمين فجاء قطبة ببعضهم أسيراً فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
78 ـ سرية الضحاك ابن سفيان الكلابى ـ ربيع أول 9 هجرية ـ الضحاك رضى الله عنه ـ قبيلة بنى كلاب ـ بعث المسلمون إلى بنى كلاب داعين فاعترض لهم الكفار فوقع اشتباك.
79 ـ سرية عبد الله بن حذافة ـ ربيع أول 9 هجرية ـ 300 ـ عبد الله بن حذافة القرشى السهمى ـ القراصنة من الخثعميين ـ هربوا ـ كانوا قد اجتمعوا فى ساحل جدة يريدون الإغارة على مكة فتفرقوا حين رأوا هذه السرية.
80 ـ سرية بن طىء ـ 9 هجرية ـ 150 ـ على رضى الله عنه ـ بنى طىء ـ أسرت سفانة بنت حاتم وغيرها من الناس.
81 ـ غزوة تبوك ـ 9 هجرية ـ 3000 ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ هرقل قيصر الروم ـ قام النبى صلى الله عليه وسلم بالتجمع مع أصحابه وأرهب الأعداء ثم رجع إلى المدينة.
82 ـ سرية دومة الجندل ـ 420 ـ خالد بن الوليد ـ أكيدر أمير دومة الجندل ـ أسر أكيدر وقتل أخوه ـ أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح أكيدر وعقد الحلف مع حكومات نصرانية أخرى. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) الأنبياء: 107.
(2) آل عمران: 71.
(3) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص 166 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(4) غوستاف لوبون حضارة العرب ص 128، 129 ط الهيئة المصرية للكتاب.
(5) البقرة: 190-191.
(6) البقرة: 192، 193.
(7) البقرة: 216.
(8) البقرة: 217.
(9) آل عمران: 146.
(10) آل عمران: 169.
(11) آل عمران: 195.
(12) ، (13) النساء: 74، 75.
(14) النساء: 90.
(15) الأنفال: 7ـ8.
(16) الأنفال: 17.
(17) الأنفال: 39.
(18) الأنفال: 47.
(19) الأنفال: 61.
(20) الأنفال: 70.
(21) التوبة: 5ـ6.
(22) التوبة: 111.
(23) الحج: 39-40.
(24) رواه مسلم ـ كتاب الإمارة ـ باب فضل الجهاد والخروج فى سبيل الله.
(25) رواه أبو داود فى سننه ـ كتاب الخراج والإمارة والفئ ـ باب ما جاء فى خبر الطائف.
(26) رواه الحاكم فى مستدركه ـ كتاب معرفة الصحابة رضى الله عنهم ـ ذكر إسلام أمير المؤمنين على ـ رضى الله عنه ـ.
(27) رواه البخارى ـ كتاب التفسير ـ باب قول الله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (.
(28) مصنف عبد الرازق ـ كتاب الجهاد ـ باب الرجل يغزو وأبوه كاره.
(29) الحج: 40.
(30) القرطبى ج 12 تفسير سورة الحج.
(31) تاريخ ابن خلدون 1 / 226 فصل فى الحروب ومذاهب الأمم فى ترتيبها.
(32) سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر ـ الآيات: 26-29.
(33) سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون آية 10-14.
(34) سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث، الآيات 4 ـ 8.
(35) سفر حزقيال ـ أصحاح 21 آيات 1 ـ5.
(36) سفر يوشع ـ الإصحاح الثالث والعشرون ـ الآيات 3ـ5.
(37) سفر القضاة ـ الإصحاح الثامن عشر ـ الآيات 27ـ30.
(38) سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الرابع، الآيات 1ـ4.
(39) سفر التكوين ـ الإصحاح الرابع والثلاثون ـ الآيات 25ـ29.
(40) سفر التكوين ـ الإصحاح الرابع عشر ـ الآيات 14 ـ 16.
(41) سفر العدد ـ الإصحاح الواحد والعشرون الآيتان 34ـ35.
(42) سفر العدد ـ الإصحاح الخامس والعشرون الآية 16.
(43) الإصحاح الثالث والثلاثون الآيات 50ـ53.
(44) سفر صموئيل ـ الإصحاح السابع عشر الآيات 45ـ47.
(45) سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الثالث والعشرون الآية 6.
(46) سفر المزامير ـ المزمور الثامن عشر الآيات 35-41.
(47) سفر حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون آية 5.
(48) إنجيل متى ـ الإصحاح العاشر آية 34-36.
(49) رواه أحمد وأبو داود.
(50) سبائك الذهب 443.
(51) شرح المعلقات السبع للزوزنى ص 83، ط مصطفى الحلبى.
(52) الزخرف: 89.
(53) الحج: 39-40.
(54) السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة لمحمد فريد وجدى ص 164، 163 بتصرف.
(55) الأنفال: 61.
(56) السيرة النبوية لمحمد فريد وجدى 165، 166.
(57) سبائك الذهب ص 120 ط دار الكتب العلمية، موسوعة القبائل العربية لمحمد سليمان الطيب 1 / 51 دار الفكر العربى.
(58) فتح البارى 6 / 543 دار المعرفة ـ بيروت.
(59) فتح البارى 7 / 424.
(60) تاريخ الأدب الجاهلى د. على الجندى 472.
(61) رحمة للعالمين للمنصور فورى ص 462.
(62) فى تاريخ الأدب الجاهلى 473.
(63) رحمة للعالمين للمنصور فورى ص 462.
(64) سبائك الذهب 8.
(65) تاريخ الأدب الجاهلى ص 470.
(66) رحمة للعالمين المنصور فوزى ص 462.
(67) سبائك الذهب 87.
(68) تاريخ الأدب الجاهلى ص 466.
(69) رحمة للعالمين للمنصور فورى ص 463.
(70) سبائك الذهب 295، تاريخ الأدب الجاهلى ص 467.
(71) رحمة للعالمين ص 463.
(72) تاريخ الدولة الأموية للشيخ محمد الخضرى ص 156.
(73) رحمة للعالمين ص 463.
(74) سبائك الذهب ص 256، تاريخ الأدب الجاهلى ص 467.
(75) رحمة للعالمين ص 463.
(76) سبائك الذهب ص 127.
(77) سبائك الذهب ص 126.
(78) تاريخ الأدب الجاهلى ص 467.
(79) رحمة للعالمين ص 463.
(80) سبائك الذهب ص 148، تاريخ الأدب الجاهلى ص 473.
(81) سبائك الذهب ص 124، وتاريخ الأدب الجاهلى ص 473.
(82) سبائك الذهب ص 85، 86، تاريخ الأدب الجاهلى ص 470.
(83) سبائك الذهب رقم 147، 148، تاريخ الأدب الجاهلى ص 473.
(84) تاريخ الدولة الأموية الشيخ محمد الخضرى بك ص 32، 33، ط دار القلم، بيروت.
(85) السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة الأستاذ محمد فريد وجدى ص 162، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(86) رحمة للعالمين ص 469.
(87) الأنفال: 58.
(88) تفسير ابن كثير 2 / 321.
(89) الفكر الإسلامى فى تطوير مصادر المياه والطاقة، د. سيد وقار أحمد حسينى ـ عالم زائر فى جامعة ستانفورد 71-75، ترجمة د. سمية زكريا زيتونى طبعة: فصلت للدراسات والترجمة والنشر.
and emergence of a Muslim Society in Richard W. bulliet, Conversion of Islam Meier & ed. Nehemia Levtzion (New York Holmes Iran in Conversion to Islam, (Publ., Inc, 1979) Pp. 30-51, p31 for fig 1.1.(1/431)
والبرهان، وخاطَبَ الدعاةُ الناسَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، ودَخَلَتْ بِلادٌ
واسعةٌ في الإِسلام.
لم تحدثْ فيها معركةٌ واحدة، مثلُ أندونيسيا وماليزيا..
ولو انتشرَ الإِسلامُ بالسيف، وأَسَلمَ الناسُ مُكْرَهين، لارتَدّوا عن الإِسلام
عندما ضَعُفَ سلطانُ المسلمينَ السياسي، وتَقلَّصَ نفوذُ الإِسلامِ من
المجتمعات.
وها هو الإِسلامُ يَكتسبُ عُقولاً وقُلوباً جديدةً في العالمِ الغربي،
ويُسلمُ أُناسٌ من قادةِ الفكْرِ والرأيِ والعلمِ والمعرفةِ عندهم، مع أنه لا يوجَدُ
للإِسلامِ دولةٌ تَتَبَنّاهُ بصدْق، وتَدعو إليه بإِخلاص، ومع اشتدادِ الهجمةِ الشرسة عليه من قِبَلِ قُوى البغيِ والعدوان، بقيادَةِ اليهوديةِ الخبيثةِ والصليبيةِ الحاقدة، فلو لم يُقَدِّمْ حقائِقَه بالحجةِ والبرهانِ لما أَثَّرَ في النّاس!.
والإِسلامُ لا يَقومُ على الإِرهابِ والاستبداد، ولم ينتشرْ بالسيفِ والعُنْفِ
والإِكراه.
وقد صَرَّحَ القرآنُ بعدمِ الإِكراهِ على اعتناقِ الإِسلام.
قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) .
ولم يكن القتال وسيلةً للدعوةِ إِلى الإِسلام ونَشْرِه بينَ الناس، إِنما القتالُ
وسيلةٌ لردِّ عُدْوانِ الكافِرين على الإِسلامِ والمسلمين، ورَدِّ عُدوانِهم على بلادِ المسلمين، ورَدِّ عدوانِهم على الدعاةِ المسلمين المنتشرين بين الشعوب،
يَدْعونَ إِلى الإِسلامِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة!.
إِنَّ القتالَ في الإِسلامِ قِتالٌ للقوةِ الماديةِ الكافرة، التي تَقِفُ أَمامَ
دينِ الله.
ولم يكنْ هدفُ القِتالِ إِدخالَ الناسِ بالإِسلامِ مُكْرَهِين، كما يَزعمُ
الفادي المفترِي، إنما هَدَفُ القتالِ تَحطِيمُ قُوةِ الكفارِ العسكرية، المتمثلةِ في
الجيشِ والأَسلحةِ والعَتاد! هَدَفُه إِزالةُ النظامِ الكافر، الذي يُحارِبُ بكل
مؤسساتِه الإِسلامَ، ويَمنعُ شَعْبَه من اعتناقِ الإِسلام عن بصيرة! هَدَفُه تَحريرُ
الشعوبِ الكافرةِ المستعْبَدَةِ من قِبَلِ الحكامِ الطواغيت.
وبعدَما يُحققُ القتالُ هَدَفَه ويُحَطِّمُ القوةَ الماديةَ العسكريةَ، ويُحررُ
الشعوبَ المستعْبَدَة، يُقَدِّمُ الإِسلامُ نَفْسَهُ إِلى هؤلاءِ المحَرَّرين، ويُخاطبُهم(1/432)
بالحجةِ والبرهان ويَدعوهم إِلى الدخولِ فيه عن قَناعةٍ واختيار..
فمن اقتنعَ ودَخَلَ فيه فقد فازَ في الدنيا والآخرة، ومن رَفَضَ ذلك وأَصَرَّ على كفرِه تَرَكَهُ المسلمون، وطالَبوه بدفعِ مبلغٍ من المال، اسْمُه " الجزية "، مُقابِلَ حمايتِهم له.
***
حول القصاص في القتل
وَقَفَ الفادي أَمامَ آيةِ القصاص في القَتْل، وهي قولُ اللهِ - عز وجل - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) .
وذَكَرَ تفسيرَ البيضاويِّ للآية، واختلافَ المذاهبِ في قَتْلِ الحُرِّ بالعَبْدِ
والذَّكَر بالأُنثى، مع أَنَّ الآية لا تَدُلُّ على جوازِ ذلكِ ولا على مَنْعِه، كما قال البيضاوي: " ولَا تدلُّ الآيةُ على أَنْ لا يُقْتَلَ الحُرُّ بالعَبْد، والذكَرُ بالأُنثى، كما لا تَدُلُّ على عكْسِه ".
فمسأَلَةُ قَتْلِ الحُرِّ بالعَبْدِ، والذكْرِ بالأُنثى، والمؤمنِ بالكافر، لم يتكلَّمْ
فيها القرآنُ كَلاماً صَريحاً، وإِنما اختلفَ فيها العلماء والمذاهبُ اختلافاً
كبيراً..
ومع ذلك اعترضَ الفادي المفترِي على القرآنِ فيها، وخَطَّأَه وانْتَقَدَه،
مع أَنه لم يتكلَّمْ فيها!!
قال: " ونحنُ نسأل: لماذا سمحَ محمدٌ وأَبو بكر وعمرُ وعليٌّ للأَغنياءِ والسادةِ أَنْ يَقْتلُوا العبيدَ دونَ أَنْ يَقْتَصوا منهم، وجَعلوا عَدَمَ قتْلِ الحُرّ بالعبدِ والمسلمِ بذي عَهْد سُنَةً أَقَرَّها المذهبُ المالكيُّ والمذهبُ الشافعي؟
ولماذا لم يَعْتبِروا قول التوراةِ المحكيَّ في القرآنِ (النَّفْس بِالنَّفْسِ)
قانوناً إِلهياً واجبَ الاتِّباع، مُدَّعين أَنَّ التوراةَ لا تَنسخُ القرآن، رغمَ أَنَّ عبارةَ القرآنِ تُنافي قواعدَ العدلِ والمساواةِ بين البشر؟
إِنَّ اللهَ واحد، وقانونَه واحد، فلماذا يُحابي الإسلامُ الأَغنياء، فلا يُطالبُ بدماءِ العبيدِ من أَعناقِ السادةِ؟
ومن الغريبِ أَنَ الشرعَ الإِسلاميَّ يصرحُ أَنه لا يُقْتَلُ مؤمنٌ بدمِ كافرٍ، ولا بدَمِ ذي عَهْد.(1/433)
أَلا يُعتبرُ هذا رخصةً من الإِسلامِ للعَبَثِ بأرواحِ جميعِ بني آدم،
واعتبارِ العهودِ قُصاصةً على وَرَق؟ ! ".
اعتراضُ الفادي المفترِي على القرآن لا يتناسبُ مع موضوعِ كتابِه، وكان
الأولى به أَنْ لا يجعلَه في الكتاب، لأنه خَصَّصَ الكتابَ لاكتشافِ الأَخطَاءِ
في القرآن، وهذا ليسَ موضوعاً قرآنياً، ولكنه يُريدُ أَنْ يُسَجِّلَ كُلَّ ما يُثيرُ الشبهةَ والتشكيكَ في القرآن!.
إِنَّ مسألةَ الاختلافِ في قتلِ الحُرِّ بالعبدِ والذكَرِ بالأنثى والمؤمنِ بالكافرِ
مسألةٌ فقهية، وليستْ مسألةً قرآنية أَو حديثية، والأَوْلى أَنْ تُبْحَثُ ضمنَ
المباحثِ الفقهية، وقد اختلفَ فيها الفقهاء.
فالشافعيةُ يرونَ أَنه لا بُدَّ من التكافؤ في القصاص، بمعنى أَنْ يَكونَ القتيلُ مُكافِئاً للقاتلِ ليتمَّ القِصاص، وبما أنه لا تَساويَ بين الحُرِّ والعبد، والمؤمنِ والكافر، والذكرِ والأُنثَى، فلا قصاصَ بينهم، فإذا قَتَلَ الحُرُّ عَبْداً، أَو المؤمن كافراً، أَو الرجلُ امرأة، دفعَ القاتِلُ الدِّيَةَ ولم يُقْتَصَّ منه.
أَما الأَحنافُ فإنهم لا يشترطونَ التكافؤَ في القصاص، ويَجوز قَتْلُ
الأَعلى بالأَدنى، أَيْ أَنه يُقْتَلُ عندهم الحُرّ إِذا قَتَلَ عَبْداً، ويُقْتَلُ المؤمنُ إِذا قتَلَ كافراً ذِمِّيّاً معاهِداً، ويُقْتَلُ الرجلُ إذا قَتَلَ امرأة.
ومع أَنَّ المسألةَ خلافية بين المذاهِب، فيجوزُ أَخْذُ أَيّ قَوْل، وتَرجيحُه
على الأَقوالِ الأُخْرى، دودنَ ذَمٍّ لأَصحابِ الأَقوال الأُخرى، أَو اتهامِ الإِسلامِ والقرآنِ بالخطأ أَو الظلمِ والمحاباة، كما فعلَ الفادي المفترِي.
وإِنّني أَميلُ منذُ مُدَّة إلى ترجيح قولِ الأَحنافِ في هذه المسألة، مع أَني
شافعيُّ المذْهَب، لأَنني أَراه أَكثرَ اتفاقاً مع المساواةِ وإنسانيةِ الإِنسان، وتحقيقِ
العدالةِ الإنسانية، مع احترامي للأَقوالِ الأخرى فيها.
وإِنَّ عَدَمَ قتلِ الحُرِّ بالعبدِ كما يُقررُ المذهبُ الشافعي لا يعني مُحاباةَ الأَغنياءِ والسادة.(1/434)
ولا يَعني ذهابَ دِماءِ العبيدِ هَدْراً، لأَنَّ الحكم يَنتقلُ من
القِصاصِ إِلى الدِّيَة، يَدْفَعُها أَهلُ القاتلِ إِلى أَهلِ القتيل.
والفادي المفترِي الذي شَنَّ على النَّسخِ هُجوماً شَديداً، يَدْعو الآنَ إِلى
اعتمادِه والقولِ بِه، لأَنه يتفقُ مع هواه! فقد أَخْبَرَنا الله في القرآنِ عن حُكْمِهِ
في التوراة بوجوب قَتْلِ أَيِّ نفسٍ بأَيّ نفس.
قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) .
وعَلَّقَ الفادي على هذا بقوله: " ولماذا لم يَعْتَبِروا قولَ التوراةِ المحكيَّ بالقرآن: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) قانوناً إِلهياً واجبَ الاتِّباعِ، مُدَّعين أَنَّ التوراة لا تَنسخُ القرآن! ".
وكيفَ يُريدُ للتوراةِ النازلةِ قبلَ القرآن بمئاتِ السِّنين أَنْ تنسخَه، مع أَنه
من المتفق عليه عند العُقَلاءِ أَنَّ السابقَ المتقدِّمَ لا ينسخُ اللاحقَ المتأَخِّر.
وإذا كان اللهُ قد أَوجبَ القِصاصَ في التوراة، وأَوجبَ قَتْلَ النفسِ
بالنفس، فقد أَوجبَ ذلك في القرآن، عندما أَمَرَ بالقصاصِ في القَتْلى، وفَصَّلَ
ذلك بقولِه: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) .
فهذه الحالاتُ الثلاثةُ في الآيةِ تفسيرٌ للنفسِ بالنفس.
أَما الجملةُ التي ذَكَرَها الفادي: " إِنَّ عبارةَ القرآنِ تُنافي قواعدَ العدلِ
والمساواةِ بين البشر " فهي جملةٌ فاجرة، شَتَم المجرمُ بها القرآنَ، مع أَنَّ
العبارةَ التي اعترضَ عليها لا تَتَنافى مع العدلِ والمساواةِ بينَ البَشَر، وإِنما
تَعْمَلُ على إقرارِها وسيادتِها.
وإِذا كانَ بعضُ المذاهبِ لا يُجيزونَ قَتْلَ المسلمِ بالذِّمّيّ قِصاصاً؟
فإِنَّ مذاهبَ أُخرى أَجازَتْ ذلك، وسبقَ أَنْ ذَكَرْنا أَنَّ المذهبَ الحنفيَّ يقولُ بذلك، وأننا رجَّحْنا هذا القول.
وحتى عندَ الذينَ لا يَقْتُلونَ المسلمَ بالذِّمِّيِّ المعاهَدِ قِصاصاً، فإِنَّ دَمَ
الذِّمّيِّ القتيلِ لا يَذهَبُ هَدْراً؟
لأَنَّ الواجبَ ينتقلُ إلى الديَة، يدفعُها أَهلُ القاتلِ لأهلِ القتيل!.(1/435)
وهذا لا يُؤَدّي إِلى اعتبارِ العهدِ في الإِسلامِ لا قيمةَ لها، فالإِسلامُ دَعا
إِلى الالتزام بالعهودِ والوَفاءِ بها، والمسلمون من أَكثرِ النَّاسِ التزاماً وَوَفاءً
بالعهود.
كما أنه يَعتبرُ المحافظةَ على الأَرواحِ والدّماءِ من مقاصدِه الأَساسية،
ولا يُجيزُ سَفْكَ دَمِ أَيِّ إنسانٍ أَو إِزهاقِ روحِه إِلَّا بسببٍ مَشْروع، مثل الجهادِ للمُعتَدين، أو تطبيقِ الحَدِّ الشرعيِّ على المجرمين.
***
حكم قتل المرتد
أَوردَ الفادي المفترِي آياتٍ تتحدَّثُ عن المرتدِّ عن الإِسلام؟
منها قولُه تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) .
وأساءَ الفادي فهمَ قول اللهِ - عز وجل -: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) .
فهمَ منها أَنها تحكمُ بالكفرِ على المؤمنين الذين تثاقلوا عن الهجرةِ إلى
المدينة.
قال: " والظاهرُ من سورة البقرة أَنَّ مَنْ يرتدّ عن الإِسلامِ إِلى أَيّ دينٍ
آخَرَ يُعتبر كافراً.
والظاهرُ من سورة النساءِ أَنَّ الذين أَظْهَروا الإِسلامَ ثم قعدوا
عن الهجرة، أَوجبَ القرآنُ على المسلمين أَنْ يَقْتُلُوهم حيث وَجَدُوهم، كسائرِ الكَفَرَةِ، فَأَيْنَ حريةُ العقيدةِ والدين؟!
إنها وصمةُ عارٍ أن يُقْتَلَ الذي يرى في الإسلامِ غيرَ الذي يرونه! " (1) .
إنَّ هذه الآيةَ من سورةِ النساءِ لا تَحكمُ بالكُفْر على مُسْلمين لأَنهم
تَثَاقَلُوا عن الهجرة، ولا تَأْمُرُهم بالقتْلِ لمجردِ هذا السَّبَب، كما فهمَ الفادي
__________
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
129- حد الردة
الرد على الشبهة:
إن الإسلام يقرر حرية اختيار الدين، فالإسلام لا يكره أحداً على أن يعتنق أى دين يقول الله تعالى (لا إكراه فى الدين) (1) .
غاية ما هنالك أن الإسلام لا يقبل الشرك بالله ولا يقبل عبادة غير الله وهذا من صلب حقيقة الإسلام باعتبار كونه دين من عند الله جل وعلا، ومع ذلك يقبل النصارى واليهود ولا يقاتلهم على ما هم عليه ولكن يدعوهم إلى الإسلام. كما أن الإسلام لا يبيح الخروج لمن دخل فى دين الله لا يكلف أحداً أن يجهر بنصرة الإسلام، ولكنه لا يقبل من أحدٍ أن يخذل الإسلام، والذى يرتد عن الإسلام ويجهر بذلك فإنه يكون عدوًّا للإسلام والمسلمين ويعلن حرباً على الإسلام والمسلمين ولا عجب أن يفرض الإسلام قتل المرتد، فإن كل نظام فى العالم حتى الذى لا ينتمى لأى دين تنص قوانينه أن الخارج عن النظام العام له عقوبة القتل لا غير فيما يسمونه بالخيانة العظمى.
وهذا الذى يرتد عن الإسلام فى معالنة وجهر بارتداده، إنما يعلن بهذا حرباً على الإسلام ويرفع راية الضلال ويدعو إليها المنفلتين من غير أهل الإسلام وهو بهذا محارب للمسلمين يؤخذ بما يؤخذ به المحاربون لدين الله.
والمجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده، ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية. ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم فى نظر الإسلام لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوى، وخطرعلى الضرورة الأولى من الضرورات الخمس " الدين والنفس والنسل والعقل والمال ".
والإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يُدخل فيه اليوم ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: (آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) (2) .
والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلى، بل هى أيضاً تغير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها وينقم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها ويعبر عن ذلك الحديث النبوى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: [التارك لدينه المفارق للجماعة] (3) ، وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة.
ومهما يكن جرم المرتد فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال فأى شك فى ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة.
إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله للخطر ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه. فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره، وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها وبذلك تقع فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى، وقد يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس.
وجمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة فيه بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية هو إجماع الصحابة ـ رضى الله عنه ـ وبعض الفقهاء حددها بثلاثة أيام وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر ومنهم من قال يُستتاب أبداً، واستثنوا من ذلك الزنديق؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن فلا توبة له وكذلك سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمة رسول الله وكرامته فلا تقبل منه توبة وألَّف ابن تيمية كتاباً فى ذلك أسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول ".
والمقصود بهذه الاستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة وتقوم عليه الحُجة ويكلف العلماء بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص وإن كان له هوى أو يعمل لحساب آخرين، يوليه الله ما تولى. اهـ (شبهات المشككين) .
__________
(1) البقرة: 156.
(2) آل عمران: 72.
(3) رواه مسلم.(1/436)
منها هذا، وإِنما تتحدَّثُ عن مُنافقينَ كافِرينَ حقيقة، وكُفْرُهم ليسَ بسببِ عَدَم الهجرة، وإِنما كُفْرُهم بنفاقِهم، والمنافقون كُفّارٌ في الحقيقة، رغْمَ إِظهارِهم الإِسلام.
قال تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) .
هم منافقونَ لقولِه: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ..)
وهم كفارٌ حقيقةً لقوله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)
وتَنهى الآياتُ المؤمنين عن اتخاذِ أولئك المنافقين الكافرين أَولياء، حتى يُهاجِروا في سبيلِ الله، ومعنى هجرتِهم في سبيل الله أَنْ يَدْخُلوا في الإِسلام أَوَّلاً، ثم يُهاجِروا بعدَ ذلك؛ لأَنَّ الهجرةَ مبنيةٌ على الإِسلام.
فإِنْ رَفَضوا الدخول في الإِسلام، ورَفَضوا الهجرةَ في سبيلِ الله، فعلى
المسلمينَ أَنْ يَأخُذوهُم ويَقْتُلوهُم حيث وَجدوهم، والسببُ هو كفْرُهم ونفاقُهم وعداوتُهم للمسلمينَ وحربُهم لهم، وهذه جرائمُ استحقّوا بها القَتْل!!.
وتباكى الفادي على المُرْتَدِّين الذينَ حارَبَهم أَبو بكر الصديقُ - رضي الله عنه -، واعْتَبَرَهم مظلومين معتدى عليهم، قال: " أَينَ حريةُ العقيدةِ والدين؟
إِنها وصمةُ عارٍ أَنْ يُقْتَلَ الذي يَرى في الإِسلامِ غيرَ الذي يروْنَه..
أَلَمْ يُلَطخْ أَبو بكر الصَّدّيقُ يَدَيْه بِدماءِ أُلوفِ المرتدين؟! ".
كما تباكى على جَبَلَةَ بنِ الأَيْهم آخرِ مُلوكِ الغساسنة، الذي دَخَلَ في
الإِسلامِ بعدَ فتحِ بلادِ الشام، ولم يكن إِسلامُه عن قَناعَة، ولما حَكَم عمرُ - رضي الله عنه - أَنْ يَقْتَصَّ منه ذلك الأَعرابيُّ الذي لَطَمَه أَثناءَ الطواف، اعتبرها جَبَلَةُ إِهانةً له، وهَرَبَ من المدينة إِلى بلادِ الروم مرتدّاً عن الإِسْلام، عائِداً إلى النصرانية!.
واعتراضُ الفادي المفترِي على قَتْلِ المرتَدّ لا يَتَّفِقُ مع موضوع كتابه،
الذي خَصَّصَه لانتقادِ وتخطئةِ القرآن، وهذه المسألة مسألةٌ حديثية فقهية.(1/437)
فالقرآنُ لم يتحدَّثْ عن قَتْلِ المرتَدِّ، والذي أَمَرَ بذلك هو رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وذلك في قوله: " لا يَحِلُّ دَمُ امرئ مسلمٍ إلّا بإِحْدى ثلاث: النفسُ بالنفس، والثَّيِّبُ الزَّاني، والتاركُ لدينهِ المفارقُ للجماعة ".
مَن الذي أَمَرَ الإِسلامُ بقَتْله؟
إِنه ليس الكافرَ أَصْلاً، المصِرَّ على كُفْرِه، ولكنه الكافرُ الذي دَخَلَ في الإِسلام، ثُمّ خَرَجَ منه وعادَ إِلى الكفر.
إِنَّ الردةَ دليلٌ على التلاعبِ بالعقيدةِ والإِيمان، والاستهزاءِ بالإِسلامِ والقرآن، والكيدِ ضدَّ المسلمين.
إِنَّ المرتَدَّ يُعْلِنُ بردَّتِه خطأَ الإِسلامِ وبُطلانَه، وهو بردَّتِه يَدعو المسلمين
إِلى الاقتداءِ به، والارتدادِ عن الإِسلام مِثْله!.
والإِسلامُ حَقٌّ وصَواب، ودعوةٌ للعالَمين جميعاً، والمرتَدُّ عن الإِسلام
محاربٌ له بردَّتِه، وصادٌّ عنه، وهذه الجرائمُ استحَقَّ بها القَتْل.
والمرتَدُّ لا يُقْتَلُ فوراً، إِنما يُناقَشُ أَوَّلاً، وتُزالُ الشبهاتُ التي عنده،
وتُقَدمُ له الحججُ والبراهينُ على الحَقّ، وَيُدْعى للعودةِ إلى الإِسلامِ، كل ذلك
بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، فإِنْ رَفَضَ هذا المنطقَ العقلانيَّ الدعوي، وأَصَرَّ
على ارتدادِه وكُفْرِه، فيكون هذا من بابِ العِنادِ والاستكبار، ولا يَعتمدُ على دَليلٍ عقلي مُقْنِعٍ، لأَنَّ الإِسلامَ حَقٌّ يتوافَقُ مع الفطرةِ والمنطقِ والعقلِ السَّليم، وليس فيه ما يَتَصادَمُ أَو يتناقَضُ مع المنطق.
عند ذلك يكونُ ارتدادُه تَلاعُباً وكيداً وحَرْباً للإسلام، ويكونُ جزَاؤُه
القتل.
إِنَّ حريةَ العقيدةِ والدين التي يَتَباكى عليها الفادي المفترِي ليستْ مع
هذا المرتَدِّ عن الإِسلام، إِنما هي معَ الكافِر، الذي لم يَدْخُلْ في الإِسلام
أصْلاً -، فهذا يُدعى للدُّخولِ في الإِسلام بالمنطقِ والحجةِ والبرهانِ، فإن اقتنعَ واعتنقَ الإِسلامَ يكونُ قد فازَ في الدنيا والآخرة، وإِنْ رَفَضَ الدعوةَ وأَصرَّ على كفرِه تركَه المسلمون وشأنَه، من بابِ حريةِ العقيدةِ والدين التي يُنادي بها الفادي، ولا يُجْبِرونَه على الدخولِ في الإِسلام، لأَنَ اللهَ يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(1/438)
معَ اليقينِ بأَنَّ هذا الذي رفضَ الدخولَ في الإسلام كافرٌ ضالّ خاسِرٌ، فاسقٌ ظالم مجرم، ليس على هدى أو إِيمانٍ أو حق، وهو في الآخرةِ مخلَّدٌ في نارِ جهنم.
***
حكم الزواج بالكتابيات
أَباحَ اللهُ للمسلمينَ الزواجَ بالكتابيات، قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) .
وعَلَّقَ الفادي على هذا بقولِه: " يُجيزُ القرآنُ للمسلمينَ أَنْ يَتَزَوَّجوا
المسيحيات..
بينما يُحَرِّمُ الإِنجيلُ تَحريماً باتّاً زواجَ المسيحياتِ بغيرِ المسيحيّين، ويقول: " فهي حُرَّةٌ لكي تتزوج بمَنْ تُريُد، في الرَّبِّ فقط "..
وهذا إِعلانٌ قرآنيّ باحترامِ الإِيمانِ المسيحيّ، لأَنَّ الزوجةَ المسيحية سَتُرَبّي أَولاد الزوج المسلم ".
زَعَم الفادي أَنَّ الإِنجيلَ حَرَّمَ زواجَ النصرانيةِ منَ غيرِ النصراني، فكيفَ
تُوافقُ النصرانيةُ على الزواجِ من المسلم؟
إِنها بذلك تُخالفُ أَحكامَ دينِها، فما رأيُ الفادي في هذه المخالفة؟
ولماذا يُجيزُ - وهو القِسّيسُ - للنصرانياتِ الزواجَ من المسلمين؟
إنه يَعْتَبِرُ إِباحةَ زواجِ المسلم بالكِتابِيَّةِ إِعْلاناً قرآنياً باحترامِ الإِيمانِ المسيحي، وتفويضَ المرأَةِ النصرانيةِ بتربيةِ أَولادِ زوجهما المسلمَ.
لقد أباحَ القرآنُ للمسلمِ الزواجَ بالكتابية، لأَنها تؤمنُ بالتوراةِ أَو(1/439)
الإِنجيل، وهما كتابان من كتبِ الله، صحيحٌ أَنّ اليهود والنَّصارى حَرَّفوهما
بعدَ ذلك، لكنَّ أَصْلَهما من عندِ الله، فهو يتعامَلُ معهما على هذا الأَساس.
ولا يَعني إِباحةُ الزواجِ من الكتابيةِ الاعترافَ بأَنها مؤمنةٌ مُوَحِّدَة، بل هي
كافرة؛ لأَنّ مَنْ لم يكنْ مسلماً فهو كافرٌ بنصِّ القرآن.
قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) .
ونُقَرِّرُ أَنَّ القرآنَ لم يُبحِ الزواجَ بالنصرانيةِ فقط، وإِنما أَباحَ الزواجَ
باليهوديةِ والنصرانيةِ، لأنهما كتابيَّتانَ، والزواجُ بهما مُباحٌ، وليس واجباً أَو
مندوباً أَو سُنَّةً مُتَّبَعَة، والأَوْلى والأَفْضَلُ أَنْ لا يكون، لكنه مُباحٌ لمن أَراده.
وهو ليس مباحاً مُطْلَقاً، إِنما هو مباحٌ بشرطِ أَنْ تكونَ الكتابيةُ مُحْصَنَة
لقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
والمرادُ بالإِحصانِ هنا العفةُ وإِحصانُ الفَرْج، وعدمُ ارتكابِ فاحشةِ الزنى،
ولا بُدَّ للمسلمينَ الراغبينَ في الزواجِ من الكتابياتِ من أَنْ يكونوا مُحْصنين
عَفيفين، غيرَ زناةٍ مسافحين ولا متخذي أَخْدان.
والخلاصَةُ أَنَّ الزواجَ بالكتابياتِ اليهودياتِ والنصرانيات مُباحٌ إِباحة، مع
أَنَّ الأَولى أَنْ لا يكون، وهو مباحٌ بشرْطِ الإِحْصانِ في الطرفين، الإحصانُ
في الرجلِ المسلمِ وعدمُ زِناهُ، والإِحصانُ في المرأةِ الكتابيةِ وعَدَمُ زناها..
وفَتِّشْ عن امرأةٍ كتابيةٍ غربيةٍ محصَنَة غَيرَ زانيةٍ في هذا الزمان!.(1/440)