فلم يذكر أحد جواباً عن هذا.
قال: فألقي عليَّ في النوم، فرأيتُ قائلاً يقول لي: لو خصّ أحد بسر الخفاء، لعدّ في حق غيره خفاء، وأمةُ محمد من أهل الصفاء والاصطفاء، وحين استيقظتُ لاح لي سرُّ ما رأيتهُ، وعلمتُ أنَّ آصف خُصّ بمزية عن كل أمة سليمان عليه السلام لرفْعَةِ مرتبته، وليس لتلك الأمة من العناية ما لهذه الأمة، فلو عَمّ ما هم محتاجون إليه لبطلت حكمةُ الله في طلب الجد
والسعي الذي عليه يُثَابون، فلو خُصّ واحد من هذه الأمة بدرجة قالوا: إن مَنْ سواه منحطٌّ عن حصول الاعتناء به في تناول معاشه دون سبب لهم.
بهذا الاعتبار قد تساووا في الكسب، لا فَضْلَ لواحدٍ منهم عن صاحبه في تطلَّبه، فهم متحدون في الاقتداء، فما شرفوا إلا من أجله صلوات اللهِ وسلامه عليه.
(ولو يؤَاخِذ الذُ الناسَ بظُلْمهم) .
أي بظلمهم أنفسهم، أو بظلم بعضهم بعضا، فهو للفاعل والمفعول، لأن الناس عام في الظالم والمظلوم.
وإنما أضاف الظّلْمَ إليهم لأجل الكسب الذي لهم فيه، ألا ترى أنك تقول عبد فلان، وثواب فلان، وليس لهم فيه إلا المنافع.
وأما الأعيان فما يملكها إلا الله.
وذكر الزمخشري هنا آثاراً عن أبي هريرة وابن عباس تقتضي عمومَ الهلاك
في بني آدم وغيرهم بسبب شُؤْم ظلم الإنسان، وكذا نقل ابن عطية أنَّ الطير
والحوت يهلكان بسبب ظلْم الإنسان، وهذا مما لا يتم الاستدلال به إلا مع ضميمة ما قاله الأصوليون في أنَّ قول الصحابي إذا كان دليله مخالفاً للقياس فإنه يكون حجة، لأنه حينئذ لم يكن قاله من عنده، بل يكون سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وأمّا إنْ وافق القياس فهو مذهبُ صحابي، فلا يحتج به.
وهذا مخالف للقياس.
قال تعالى: (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى) .
وأجاب ابنُ عطية بأن هلاك من لم يظلم إنما هو لكونه لم يغيِّرْ على الظالم.
ويعضده ما تقدم في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) ، وفي قوله: (كانوا لا يتَنَاهَوْنَ عن مُنْكرٍ فعلوه) .(3/335)
وأجاب بعضهم أن هلاك الظالم بظلمه وهلاكَ مَنْ لم يظلم إنما هو ابتلاء له
ليصبر، فيعظم بذلك أجْرُه ومثوبته، فهو رحمة به بهذا الاعتبار.
قال الفخر: واستدل بعضُهم بالآية على عدم عِصْمَةِ الأنبياء، واستدل بها مَنْ جوّز الردة على جميع الخلق لنسبة الظلم فيها لجميع الناس.
ورُدَّ بأنَّ العمومَ في الآية إنما هو بالمؤاخدة وأمّا الظلم فإنما ذُكر على سبيل
الفَرْض والتقدير، أي لو فرض وقوع الظلم من الجميع وأوخذوا به لم يبق أحد، ولا يلزم من فرض الشيء وقوعُه، كما قال: (لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا) .
فإن قلت: يفهم من قوله تعالى: (لا يَسْتَأخِرون ساعةً) .
نفْي تأخرهم عن أجلهم، لأنه كان متوهماً، وأما تقدمهم على أجلهم إذا حضر بمستحيل إذ الماضي لا يعودُ، فلم احتيج إلى نَفْيه، وجُعل جواباً للشرط؟
والجواب أنه على معنى التأكيد لذلك، وإشارة إلى تسوية الأمْرِ الضروري
بالمشكوك فيه، لأنَّ استحالة تقدمهم عن أجلهم إذا حضر أمْرٌ ضروري.
وتأخرهم عنه مشكوك فيه، ألا تَرى مَنْ حلّ عليه دين مؤجل يمكن أن يؤخّره
ربّه عنه، ولا يمكن أن يقدمه هو عن أجله بعد حلوله بوَجْه، فكأنه يقول: كما يستحيل تقدّمهم عن أجلهم إذا حل كذلك يستحيل تأخّرهم عنه، لأن ما علمه الله وقدَّره لا بدّ من وقوعه.
(وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) :
هذا من قول سليمان لَمّا أنعم الله تعالى عليه بالملك، وعلم أنه
رخاء لا ينفعه عند الله إلا بإلْهَامِه الشكر.
وحقيقةُ (أوْزِعني) اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفّه وأربطه، لا
ينفلتُ عني، حتى لا أنفكّ شاكراً لك.
وأدخل والديه في الدعاء، لأن النعمةَ عليهما للولد منها نصيب بالوراثة، فيجب شُكْرُ الوالد على ذلك، لأن موجبَ(3/336)
الشكر مشترك بين الولد والوالدين، ومِنْ رؤية النعمة عند سليمان أنه أمر أن يعمل حولَ كرسيّه ألف محراب فيها ألْفُ رجل عليهم المسوح يصرخون بالشكر دائماً ويقول لجنده إذا ركب: سَبّحُوا اللهَ إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوا إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: كبروا إلى ذلك العَلَم الآخر، فلج الجنود بالتسبيح والتهليل والتكبير لجةً واحدة، شكراً لما أعطاه الله، فاستعملوه من أجله.
وقد صح أنَّ الله يحتجّ على الأغنياء يوم القيامة بسليمان، لأنه لم يشغَلْه ما
أعطاه اللَهُ عن القيام بحقه، وعلى العبيد بيوسف، وعلى المرضى بأيوب، لما هلك جميع ما ملك دخل بَيْتَه وألقى ثيابه، وقال: هكذا خرجت إلى الدنيا، وعلى الفقراء بعيسى، كان له إناء يشرب فيه، ومشط يمتشط به، فألقاهما وصار يتخلّل بأصابعه، ويشرب في يديه، فقال له قومه: ألا تتخذُ لك حماراً تركبُ عليه إذا أعياك المشي، فقال: أنا أكرم على الله من أنْ يجعلني خادمَ حمار.
(وتفَقَّدَ الطَّيرَ فقال مَا لِيَ لا أرَى الْهُدْهدَ) - بضم الهاءين
وإسكان الدال بينهما: طائر معروف ذُو خطوط وألوان.
قال الجاحظ: وهو وفّاء حفوظ، وذلك أنه إذا غابت أنثاه لم يأكل ولم يشرب ولم يشْتَغل بطلب طعم.
ولا يقطع الصياح حتى تعودَ إليه، فإن حدث حدث أعدمه إياها لم يسفد بعدها أنثى أبداً، ولم يزل صائحا عليها ما عاش، ولم يشبع بعدها من طعم، بل ينال منه ما يمسك رمقه إلى أنْ يشرف على الموت، فعند ذلك ينال منه يسيرا.
فإن قلت: قد طلب سليمان الشُّكرَ من الله تعالى على هذا الملك، وإنه لم يكن في باله ولا له به تعلّق، فما بالُه تفقَّد الْهُدْهُد حين كان يظّله وتوعَّده بالعذاب الشديد أو بالذبح، وهذا الفعل يقتضي العنايةَ بالمملكة والتهمم بكل جزءٍ منها؟
والجواب ما في الكامل وشعب الإيمان للبيهقي: أن نافعا سأل ابْنَ عباس.
فقال: سليمان عليه السلام، مع ما خَوَّلَه اللَهُ من الملك وأعطاه، كيف عني بالهدهد مع صغره، فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والْهدْهد كانت له الأرض كالزجاج.
فقال ابن الأزرق لابن نافع: قِف يا وَقاف، كيف يُبصر الماء من
تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطّي له بقَدْر أصبع من تراب،(3/337)
فقال ابن عباس: إذا نزل القَدَر عَمِي البصر.
قال الزمخشري: وكان السبب في تخلفه عن سليمان عليه السلام أنه حين نزل
سليمان عليه السلام حلّق الهدهد، فرأى هُدْهداً واقعاً، فوصف له مُلكَ سليمان وما سخّر له، وذكر له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف، فذهب له لينظرَ فما رجع إلاَّ بعد العصر، فدعا سليمان عريفَ الطير وهو النسر، فلم يجد عنده عِلمه، ثم قال لسيد الطير - وهو العقاب: عليَّ به، فارتفع ونظر فإذا هو مُقْبل، فقصده، فناشده وقال له: بالذي قَواك عليَّ وأقدرك إلا رحمتني، فتركه، وقال: ثكلَتْكَ أمُّك، إن نبيَّ الله حلف ليعذبنك.
قال: وما استثنى، قال: بلى.
قال: أوليأتِيَني بسلطان مبين.
فلما قرب من سليمان أرْخَى ذنبَه وجناحيه يَجُرهما على الأرض تواضعاً له، فلما دنا منه أخذَ رأسه فمدَّه إليه، فقال: يا نبي الله، اذكر وقوفَك بين يدي الله خاضعاً ذليلاً.
فارتعد سليمان وعفَا عنه، ثم كان تعذيبه لمن خاف أمْرَه من الطير أن ينتف ريشه ويشمسه.
وقيل يلقيه للنمل يأكله.
وقيل إيداعه القفص.
وقال الهدهد: يا نبي الله، كنت تعذِّبني العذابَ الشديد، قال: أفَارقك من إلْفِكَ وأجعلك تعاشر الأضداد.
فإن قلت: لِمَ أُبيح له تعذيبُ الهدهد؟
قلت: يجوز أنْ يبيح الله له ذلك كما أباح ذَبْحَ البهائم والطيور للأكل وغيره
من النافع.
قال عِكرمةُ -: إنما صرف سليمان عن ذَبْح الهدهد للخبر الذي أتى به
من أمْر بلقيس.
وقيل: لأنه كان بارًّا بأبويْه ينقل الطعامَ إليهما فيزقّهما (1) .
وحكى القزويني أنَّ الهدهد قال لسليمان: أريد أن تكونَ في ضيافتي.
فقال: أنا وَحْدي، قال: لا، أنت وعسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا، فحضر
__________
(1) لا يخفي ما فيه من بعد، وما ذُكر قبله لا دليل على صحة شيء منه. والأولى الوقوف عند خبر القرآن وما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(3/338)
سليمان وجنوده، وطار الهدهد، فاصطاد جرادةً وخَنقها ورَمَى بها في البحر، وقال: يا نبي الله، مَنْ فاته اللحم ناله المرق، فضحك سليمان من ذلك عاماً كاملاً.
(وَجَدْتُ امرأة تملِكهم) :
هي بلقيس بنت شراحيل كان أبوها ملك اليمن، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك.
والضمير يعود على قومها.
(ولها عَرْشٌ عظيم) :
يعني سرير مُلكها، ووقف بعضهم على عرش، تم ابتدأ: عظيم وجَدْتها وقَوْمَها يسجدونَ للشمس.
وهذا خطأ وغير منكر عليه وَصْف العرش بالعظمة.
(وأتوني مسْلمين) ، يحتمل أن يكونَ من الانقياد، بمعنى
مستسلمين، أو يكون من الدخول في الإسلام.
(وكذلك يفعلون) :
من كلام الله تعالى، تصديقا لقول بلقيس: إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قَرْية أفسدوها، أو هو من قولها تأكيداً للمعنى الذي أرادَتْه، أو يعني كذلك يفعل هؤلاء بنا.
فإن قلت: كيف استعظم الْهدْهد عَرْشها مع ما كان يرى من مُلك سليمان؟
فالجواب: أنه استعظم عَرْشَها بالنظر إلى حالها وأمثالها، وأنه وصفه بالعظم
إغراء له عليها، ووصفه له بأنه ثمانين ذراعاً في ثمانين، وأنه مكلّل بأنواع الجواهر وأن قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودُرّ وزمرّد، وغرابة ما فيه من البناء، وفي ذلك تقويةٌ لعذره عن غيبته، ورفع للعقاب عنه، ولعظمه عندهم أراد سليمانُ أن يُريهم قدرةَ الله، وبعضَ ما خصَّه به من العجائب على يده، ويشهد بنبوءته.
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) :
يعني الفساد العام في كل ما فيه مضرةٌ لأبناء جنسهم.
وقيل: كانوا يقرضون الدنانير والدراهم.
والمراد بالمدينة مدينة ثمود، فانظر رحمةَ الله بعباده حيث لا يريد(3/339)
مضرَّة أحدٍ منهم، وبعث الله إليهم صالحاً يَنْهاهم عن الفساد، فجرى لهم ما
قدمناه.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) :
قد قدمنا أنَّ إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهو في الحياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر.
ونفخة الصعق.
ونفخة القيام من القبور.
وانظر كيف عَبّر هنا بـ (يُنْفَخُ) و (فَزِعَ) ، وهو أمْر لم يقع بَعْدُ إشعاراً بصحة
وقُوعه.
وخُصَّت هذه السورة بالفزع موافقةً لقوله تعالى: (وهُمْ مِنْ فَزعَ يومئذٍ
آمِنُون) .
وخُصت سورة الزمر بالصعق موافقةً لما قبله، لأن معناه: مات وقد تقدم قوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) .
(وهم لا يَشْعرون) ، أي قوم فرون لا يشعرون
بأنّ إهلاكهم يكون على يَد موسى، أو لا يشعرون أنَّ الذي دلَّت على إرضاعه أخته.
(وَكَزه) ، أي ضربه بأطراف الأصابع، وقيل بِجمْع الكف فقتله، ولم يرد أن يقتله، لكن وافقت وكْزته الأجل.
فإن قلت: لم يعمل عملاً يوجب له الاستغفار منه، لأن المقتول كافر؟
فالجواب أن الله لم يأذن له في قَتْله، ألا تراه يقول يوم القيامة: قتلت نفساً لم
آذن بقتلها.
(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) :
الضمير لقريش.
وقيل لليهود.
والأول أظهر، لأن الكلام من أوله معهم.
. والعمومُ أحسن لهم ولغيرهم ممّن يأتي بعدهم، يعني بلّغْنَا لهم القرآن، وبيًنَّا لهم الحلال والحرام، ووعظناهم بحكاية مَنْ تقدم من الأمم، لعلهم يتذكرون.
وهذا مِثْل قوله: (وَذكِّرْ فإنً الذكْرَى تَنْفَع المؤمنين) .
فكيف يكون للعاصي حجة مع هذه المواعظ والحر من العبيد تكفيه الْمَلامة.(3/340)
(وأكْثَرُ جَمْعاً) : معطوف على الهلاك.
يعني مَنْ يرى إهلاك من كان أشدّ منه قوهْ وأكثر جمعاً للمال كيف يغتَرُّ بالدنيا وهذا حالها!
نشاهد إهلاك قوم بعد قوم، ولا نَرْعَوِي عن قبيح، "ولا نَزْدَجر من رذيلة.
(ولا يُسْألُ عن ذُنوبهم المجرمون) :
يحتمل أن يكونَ متصلا بما قبله، والضمير في ذنوبهم يعود على الأمم المتقدمة، والمجرمون من بعدهم، أي لا يسألُ المجرمون عن ذنوب مَنْ تقدمهم مِنَ الأمم الهالكة، لأن كل أحد إنما يسألُ عن ذنوبه خاصة.
ويحتمل أن يكون إخباراً عن حال المجرمين في الآخرة، وأنهم لا يسألون
فيها عن ذنوبهم، لأنهم يدخلون النار من غير حساب.
ورُدَّ بقوله تعالى: (فوَرَبِّكَ لنسألَنّهم أجمعين) .
وأجاب بعضُهم عن هذا بأن السؤال النفي على وَجْه الاستخبار وطلب التعريف، لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوَجه، ولكن يسألون على وَجْه التوبيخ، وحيثما ورد في القرآن إثبات القول في الآخرة فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ، وحيثما ورد نَفْيه فهو على وَجْه الاستخبار والتعريف، ومنه قوله: (فيومئذٍ لا يُسأل عن ذنبه إنْسٌ ولا جانٌّ) .
(وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ) :
يحتمل أن يكون من الدُّعاء بمعنى الرغبة، أو من دعوة الناس إلى الإيمان باللهِ، فالمفعول محذوف على هذا، تقديره ادعُ الناسَ.
فانظر كيف أمر اللَّهُ رسولَه بدعاء الناس إليه، وخصص الهداية
لإجابته، فالدعوة عامة، والهدى خاص.
وقد دعا الله عباده في الدنيا بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) .
(يدعوكم ليَغْفِرَ لكم من ذنوبكم) .
وفي الآخرة بقوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) .
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) .
فما هذا التقاعس بعد هذا الدعاء إلا من العمى، وأعظم من العمى.
وأعظم من المخالفة والاستجابة غَفْلَتنا عن الاستغفار، والضحك والاغترار(3/341)
والتهاون والاستكبار، قال تعالى: (وكنْتُم منهم تضْحكون) .
(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) .
(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) .
وقد أخبر اللَه عن نوح أنه قال: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) .
وهذه كلها موجودة فينا، وما خفي عن الخلق أكثر، اللهم لا تؤاخذنا
بذنوبنا.
(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) :
هذا الضمير لكفار قريش، لأنهم كانوا يفخرون بالأموال والأولاد على الضعفاء من المؤمنين، ويسخرون منهم لقلة ما أعطوا من الدنيا، فأخبرهم اللهُ أنَّ ما أعطوا منها إنما هو متَاع قليل وزينة وتفاخر يشغل بها كالصي تُعْطيه أمّه خشاشة تَشغله عنها، ولو علم الله فيهم خيراً لتَنبهوا لِمآلها، لكن الله طمس بصائرهم، وأكبّوا عليها، وليس العجب منهم، وإنما العَجَبُ منكم، حَضً الله رسوله على الفرار منها، والإعراض عنها، فلم تزيدوا إلا طغيانا وكفراً، ولو لم يقع الحض على الفرار منها لكان الواجب عدم الالتفات إليها لما نرى من سرعة تقلبها، يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: " طلبتُ من خَلْقي الطاعةَ لي، والزهادة في أعدائي، فلم يفعلوا، ثم طلبت منهم إعانةَ الزهاد من أهل طاعتي فلم يفعلوا، فقلت لهم: ارضوا عنهم فلم يفعلوا، فقلت لهم: لا تمنعوهم منها إذاً، فمنعوهم.
فقلت لهم: لا تدعوهم إلى ما لا يُرضيني، ولا تعادوهم عليها، إن لم يتابعوكم، ففعلوا وصاروا عندهم أنْتن من جيفة حمار، فكيف أقدّس أمة هذه أفعالهم! "
اللهم اعف عنّا بفضلك.
فإن قلت: ما وَجْه زيادة الزينة في هذه الآية على آية الشّورى؟
والجواب لتقدم ذكرها في قوله تعالى: (فخرج على قومه في زِينته) ، فالتحمت الآية بتلك القصة، ولم يرد في سورة الشورى من(3/342)
أولها إلى آخرها ذكر حال دنيوي لأحد، بل تضمَّنت حقارةَ الدنيا ونزارة
رزقها، وأنه مقدور غير مبسوط، وتلك حال الأكثر.
وقيل في الجواب غير هذا حذفناه لطوله.
(ويوم يناديهم فيقول أيْن شركائي الذين كنْتم تَزْعمُون) :
قد قدمنا أن هذا النداء من الله تعالى قديم متعلق بالذات القديمة، وإنما
يسمعهم اللَّهُ ذلكَ الخطابَ من غير واسطة مبالغةً في توبيخهمِ وتعذيبهم، ولذلك أدخل فيه همزة الاستفهام ونَسب الشُّرَكاء تعالى إلى نفْسه على زَعْمهم.
والمجيبون بقولهم: (قال الّذين حَقَّ عليهم القَوْلُ) ، هو كل مقولٍ داعٍ إلى الكفر من الجن والإنس، والنداء إنما وقع للتابعين والمتبوعين، لكن لما كان السؤال مسكتا لهم مبْهتاً فكأنه لا تعلّق لجمهور الكفرة إلا بالمغوين
لهم والرؤوس والأعيان منهم، فلذلك سارعوا إلى الجواب طمعاً في التبري من متبعيهم، وفي هذا الموطن صدر منهم الإقرار بربوبيته تعالى، إذ هو موطن
ظهورِ الحق وانكشافه.
فإن قلت: قد قلتم إنَّ دعاء الشركاءَ على جهة التعجيز، والمشركون يعلمون أنَّ الشركاء لا يجيبون، لأن الموطن ظهورُ الحق وانكشافُ الأمورِ فلم دَعَوا شركاءهم؟
والجواب: ليظهر عَجْرهم عن إجابة الدعوة على رؤوسِ الأشهاد، وتقوم
عليهم بذلك الحجة، فسبحانه ما أعظمه من لطيف يحبّ المعاذير وإظهار الحق، ينطق الجمادات والجوارح على المخلوقات حتى لا يجد الإنسان فراراً من قضائه وقيام الحجة عليه.
فإن قلت: كيف الجمع بين قولهم: (أغْوَيْنَاهم) ، وبين قولهم: (تبرَّأنا إليك) ، فإنهم اعترفوا بإغوائِهم وتبرَّأوا مع ذلك منهم؟
والجواب أنَّ إغواءهم لهم هو أَمْرهم لهم بالشرك.
والمعنى أنا حملناهم على(3/343)
الشرك كما حملنا أنفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون
الأصنام وغيرها، فتبرَّأنا إليك من عبادتهم لنا، فتَحصَّل من كلام هؤلاء
الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغْوَوا الضعفاء وتبرءُوا من أن يكونوا هم آلهتهم، فلا تناقض في الكلام.
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) .
اختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال، والظاهر منها عمومها فيمن
كان بمكة من المؤمنين يشْقَى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة، فكان
القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مِثْلِ هذا لعظم الأمْر، وكثرة
الخطر فيه، مع الله تعالى، ثم إنه لما كان بِرّ الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي
قَررَتْه الشريعة، وأكدت فيه، وكان من القوي عندهم الملتزم قدَّم الله تعالى
النهي عن طاعتهما في قوله تعالى: (ووصينا) على معنى أنا لا نخلُّ ببر الوالدين، لكنا لا نسَلط على طاعة الله تعالى، لا سيما في معنى الإيمان والكفر.
و (حُسناً) : يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوُّز، ويسهِّلُه كونه عامّا لمعان، كما تقول: وصيتك خيراً، ووصيتك شرًّا، عَبّر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك "دون حرف الجر في قوله: بوالديه، لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسنى في فِعله مع والديه.
والجمهور على ضَمِّ الحاء وسكون السين.
وقرئ "إحساناً"، ويحتمل أنْ يكونَ مصدرا من معنى وصَّيْنَا، أي وصينا وصية حسنة، وعَبّر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة، فمن أمره أحَدُ أبويه بفعل شيء فيه رضا الله، فيقدم أمرهما إذا لم يخل بشيء من طاعة الله، فإن أخَلَّ فأمْرُ الله مقدم، إذ لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.
وإنما قال في هذه السورة: (لتشْرِكَ) ، لأنه وافَق ما قبله
لفظاً، وهو قوله: (ومَنْ جاهد فإنما يجَاهِد لنفسه) .
وفي لقمان محمول على المعنى، لأن التقدير وإن حملاك على أنْ تشرك.
وقيل: إن هذه الآية مبنية على الإيجاز، فناسب ذلك الاكتفاء باللام، وآية(3/344)
لقمان مبنية على الإطالة، فناسب ذلك التعدية بعلى، وإنما أمره بالرفق في آية لقمان بقوله: (وصَاحِبْهما في الدنيا مَعْروفا) ، لأن مبنى الآية
على الأمر بما يفعل بهما ومعهما من غير تقدّم مطلبٍ لهما، ووَجْه ختم هذه الآية بالرجوع إلى الله تحذير مِن طاعتهما في الشرك، وإبلاغٌ في النهي عن الصغْو إليهما في ذلك إلى الغاية لئلا يظَنّ أَن ذلك كآية الإكراه كما تقدم، ولما لم يقع في آية الأحقاف ذكر الشرك وكانت فيمن كان على الإيمان، وقد علم المؤمن رجوعه إلى ربّه، لم يَرِدْ فيها ذكر ذلك.
(وما يجْحَد بآياتِنَا إلا الكافرون) .
أي الجاحدون من كلّ أمة قد أمن سلفها في القديم والحادث، وأسند الجَحْد في هذه إلى الكافرين وفيما بعدها إلى الظالمين، فقيل، ليعمَّ لفطهما كلَّ مكذب بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكن عظم الإشارة بهما إلى كفار قريش، لأنهم الأهم.
فإن قلت: الظلم يصح إطلاقه على ما دون الكفر فلو ورد وَسْمهم أولاً
بالظلم، ثم ثانياً بالكفر لكان أنسب؟
والجواب: أنَّ الظلم وإن كان يطلق على الكفر وعلى ما دونه، قال تعالى:
(والكافِرونَ هم الظالمون) ، فإنه إذا ذكر بعد الكفر وصف به مَنْ وصف بالكفر لفَهْم زيادة تترتب على الكفر، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) .
وعلى هذا ورد في القرآن، فقد وضح ما وردت عليه هاتان الآيتان، وليس من المشكل في شيء.
(ولئن سأَلتهم مَنْ خلق السماواتِ والأرض) .
الضمير في الموضعين لأهل مكة والسؤال لإقامة الحجة على الكفار، لأنهم أقرّوا بأنه سبحانه هو الخالق لهذه المخلوقات العظيمة كما قدمناه في غير ما موضع، ولذلك أنكر الله عليهم جَحْد عبادته بقوله: (فأنَّى يؤفكون) .
أي يُصرَفون عن توحيده ومعرفته.
ووَجْه تعقيب هذه الآية بالإفك، والثانية بعدها(3/345)
بعدم العقل، وآية لقمان بكثرة الجهل وقلةِ العلم، لأن المراد منها
الاستدلالُ بهذا الْخَلق العظيم وما هو عليه من جليل التناسب، وإتقان الصنعة وإحكامها من غير تفاوت ولا فطور.
(والذين جَاهَدُوا فِينَا) .
يعني جهاد الأنفس في الصبر على إذاية الكفار، واحتمال الخروج عن الأوطان، وغير ذلك.
وقيل: يعني القتال، وذلك ضعيف، لأن القتال لم يكن مأموراً به حين نزول الآية.
(وإنَّ الله لَمَع الْمُحْسنين) .
أي بنصره ومعونته، وانظر كيف أكَّده بأن واللام ليعلمك أنه سبحانه لا يسلمه لمن أراده بسوء، وكيف لا وقد أكرمه الله بالمحبة بقوله: إن الله يحب المحسنين، والأمن: (ما عَلَى المحسنين مِنْ سبيل) ، وهو محسن.
والرحمة: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
فإن قلت: ما معنى الإحسان؟
فالجواب أن هذا المقام لم يحصل إلا لأرباب العقول.
وفي الحديث: " إن كتب الإحسان على كل شيء ".
والإحسان ثالث المقامات.
وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أن تعبد الله كأنكَ تراه.
فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
فيا ليت شعري، هل بقي منهم في هذا الرَّبْع أنيس به أو ملجأ يسند إليه! ما أرى النفوس إلا قد ماتت بحب الدنيا، ويا ليتنا نلْناها، والقلبُ مات مِنْ حبّ المولى، فمتى يحيا أهلُ الإحسان أحيا الله قلوبَهم بحبه، وأماتوا نفوسهم من حبّ ضده، ونحن على الضد.
قيل لحاتم الأصم: ما علامةُ حياة القلب؟
قال: وجْدَان اللذة من الطاعة، ووجدان الألم من المعصية، فَزِنْ بهذا الميزان نَفْسك وقَلْبك يتضح لك ما ذكرت.
قال حاتم الأصم: نفس المؤمن ضيعته، وقلبه أرضه، والإخلاص ماؤه، والحكمة بذْره، والشهوات حشيشته التي تغيره، والعبودية غلّته، والدنيا سفَرةه، والأيام منازله، والقيامة سوقه، والملك مشتراه، والجنة ثمنه، فنحن بعْنا ونقضنا، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) .(3/346)
أمَا علمتَ أنَّ من أحبَّ شيئاً طلبه، ومن طلبه وجده، ومن خاف من شيء هرب منه، ومن أراد سفراً اهتَمَّ له، ومَنْ أحبّ اللحوقَ بقوم اقتدى بفعالهم، وسلك سَبِيلَهم، ومَنْ فَضل قوماً بالعلم يحق أن يفْضُلهم بالعمل، ونحن لا عِلْمَ ولا عمل، فإن للهِ وإنا إليه راجعون! أشْمَتْنا أهْلَ الآخرة من أحبابنا، وأرضينا الشيطانَ عدوَّنا، فمن رأى مصرعي فليبك معي.
(وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) :
يعني كلما عظم خلق الإنسان في بطن أمه زادها ضَعْفاً على ضَعْفها.
(ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ) :
الخطاب لرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أمره الله بعدم الاضطراب لكلام الكفار، وقولهم القبيح.
(وإذْ أخَذْنا مِن النبِيِّين ميثاقَهم) :
أي أخذْنَا عليهم الميثاقَ بتبليغ الرسالة إلى الْخَلْق وتعليم الشرائع.
وقيل أخذ الميثاق يوم: (ألَسْتُ بربكم) .
والأول أرجح، لأنه هو المختصُّ بالأنبياء.
(وَقُلْنَ قولا مَعْروفاً) :
الخطاب لأمهاتنا وأزواج سيدنا - صلى الله عليه وسلم -، نهاهن اللهُ عن الكلام اللّين الذي يُعجب الرجال ويُميلهم إلى النساء، أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه، ويعم جميع الأمة لان اللهَ أمر بالاقتداء بهنَّ.
(وَطَرًا) :
حاجة، يعني لمَّا لم يبق لزيد حاجةٌ في زينب زوَّجناكها.
وقد قدمنا قِصتها في حرف الزاي.
(وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) :
يعني الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل، وإنما قال هذه المقالة حين وقع الاحتجاج بما في التوراة من ذكْرِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلتفت لمن قال بين يديه يوم القيامة، لأن الذي بين يَدي الشَيء هو
ما يتقدمُ عليه.
(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) :
أهل الأرض كلهم من(3/347)
ذرية نوح، لأن الله أمات مَنْ نجا معه في السفينة، وتناسلت الْخَلْق من سام وحام ويافث.
(وتَرَكْنَا عليه في الآخِرِين) :
معناه أبقَيْنَا له ثناء جميلاً في الناس، فيقال له آدم الأصغر.
وقد قدمنا أنَّ اللهَ أمره بالدعوة إلى التوحيد، وأرسله إلى الناس كافّة، وعُمر ما لم يعمر غيره، وقرنه اللهُ بالذكر مع نبينا في قوله: (ومنك ومن نوح) .
(ولا تُبْطِلُوا أعمالَكم) .
أي بالكفر بعد الإيمان، وقيل بالرياء والعُجب.
وقيل: لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها.
وبهذه الآية استدل الفقهاء على وجوب النافلة، وهو بعيد.
وأبعد منه مَنْ قال لا تبطلوا حسناتكم بفعْلِ السيئات، وهذا مذهبُ معتزليّ، لأن السيئات لا تبطل الحسنات.
والأول أظهر.
لقوله قبل ذلك في الكفار والمنافقين: (وسيُحْبِطُ أعمالَهم) ، فكأنه قال: يا أيها المؤمنون لا تبطلوا أعمالكم مثْلَ هؤلاء الذين أحبط اللهُ أعمالهم بكفرهم وصدِّهم عن سبيل الله، ومشاقَّتهم للرسول.
(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا) .
يعني فتح مكة.
وقيل بلاد فارس والروم.
وقيل مغانم هوازن في حُنَيْن.
والمعنى لم تقدروا أنتم عليها قد أحاط اللهُ بها ووهبها لكم وذكَّرَهم بالنعم ليشكروا عليها.
وإعراب أخرى معطوف على (عَجَّل لكم هذه) ، أو مفعول بفعل
مضمر تقديره أعطاكم أخرى، أو مبتدأ.
(وبالأَسحارِ هم يَسْتَغْفِرونَ) :
قد قدمنا أن الاستغفار يُطلق على الصلاة، والمراد هنا الاستغفارُ، هو طَلبُ المغفرة للذنوب.
وقد ذكرْنَا مراراً أن الله يقول في هذا الوقت: هل من مستَغْفِرٍ، هل مِنْ دَاع، هل من تائب، ولَمَّا أكرم اللَّهُ خمسة من الأنبياء بخمسٍ: ليلة نُودِي موسى من الشجرة، وليلة النجاة للوط، (نجيناهم بسَحَر) .، وليلة المغفرة(3/348)
ليعقوب، (سوفَ أستغْفِرُ لكم رَبّي) .
وليلة المعرفة للخليل:
(فلما جَنَّ عليهِ الليلُ) ، وليلة المؤانسة والمحبة: ليلة الإسراء:
(سبحان الذي أسْرَى بعَبْدِه) ، أكرمك الله يا محمديّ بسحر
كلِّ ليلة تنَاجِي فيها ربَّك، فقمْ على قدَم الاعتذار كاشفَ رأس الافتقار.
مخاطبا بلسان الفقر والاضطرار، ملقياً عن ظهَرك حمل السيئات والأوزار، مقنَّعاً بقناع الرجاء والندم والاستففار: إن لم تغفر لي فمَنْ يغفر لي!
إن لم تتبْ عليَّ فمن يتوب علي، إن لم ترحمني فمن يرحمني إذا غضبتَ عليَّ؟ ومَنْ يأويني إذا أعرضتَ عني، أنتَ العزيز، وأنا الذليل، أنتَ الغنيّ وأنا الفقير، وأنْتَ القويُّ وأنا الضعيف، وعزتِك ما يزيد في خزانتك ما منعتني، ولا ينقص منها ما أَعطيتني، إن تعف عني فأنْتَ أهل لذلك، وإن تعاقِبْني فبِمَا قدمت يدايَ، وما أنت بظالم للعبيد.
فيا أكرم مَنْ أقرَّ له بذنب، ويا أعزّ مَنْ خضِع له بذلٍّ.
بكرمك أقررتُ لكَ بذنبي، بعزّتك خضعْت لك بذلّي، فلك الْمنَّة عليَّ يا مَنْ قلَّ له شكري فلم يحرمني، ويا مَنْ قل له صَبْري فلم يَخْذلني، ويا من تقويت بنعمته على المعاصي فلم يعاقبني، ويا مَنْ رآني على الخطايا فلم يفْضَحْني، أقِلْ عثرتي بِجَاهِ نبيك الكريم عليك صلَّى الله عليه وسلم.
(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) :
هذا الضمير عائد عليه - صلى الله عليه وسلم.
وقرئ بالمحفض والنصب في السبع، فأما الخفض فهو معطوف
على لفظ (الساعة) ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله (بالحق) .
وأما النصب فهو معطوف على: (سرَّهم ونجْوَاهم) .
وقيل هو معطوف على موضع الساعة، لأنها مفعول أضيف إلى المصدر.
وقيل معطوف على مفعول: (يكتبون) .
وهو محذوف تقديره يكتبون أقوالهم، وقيله.
وقرئ في غير السبع بالرفع على أنه مبتدأ: وخبره ما، بعده.
وضَعّفَ الزمخشري ذلك كلَّه، وقال: إنه من باب القسم، فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم، كقولك: الله لأضربنَّ زيداً.
أو الرفع كقولهم: أيم الله، ولعمْرك، وجواب القسم - قوله (إنَّ هؤلاء قوْمٌ لا يؤمنون)(3/349)
كأنه قال: أقسم بقيله يارب إنَّ هؤلاء قوم لا يؤمنون.
(وفي السماءِ رِزْقكم وما توعَدون) .
أي من الوعد أو الوعيد، أو الجنة أو النار.
أو الخير أو الشر.
قال ابن عباس: لا أعلم في السماء رِزْقاً غير المطر، وهو كذلك، لأن المطر أصلٌ للرزق، والماء الذي في الأرض منه، فلو انقطع المطر انقطع الرزْق.
(وفي أموالهم) :
معطوف على قوله: (في جنات) ، أو على (آتاهمْ رَبُّهم) ، أو تكون الواو للحال.
(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) .
بالبناء للمفعول، فعلى هذا يراه الْخَلْقُ يوم القيامة، أو يراه صاحبه الذي فعله، وهو الأصح، لأن الله يضَع ستره عليه حين قراءته، لقوله بعد ذلك: (ثم يُجْزَاهُ الجزاءَ الأوْفى) .
(وَرْدَةً كالدِّهَان) .
ذكر الجواليقي أنها غير عربية.
ومعناه أحمر كالوردة، وقيلَ هو من الفرس الورد.
(ولِمَنْ خافَ مقامَ رَبِّه جنَّتَان) .
أي القيام بين يديه للحساب.
ومنه: (يَوْمَ يقوم الناسُ لربِّ العالمين) .
وقيل قيام الله بأعماله، ومنه: (أفَمَنْ هو قائمٌ على كل نَفْسٍ بما كسَبتْ) .
وأفهم المقام، كقولك: خفْت جانبَ فلان.
واختلف هل الجنّتان لكل خائف على انفراد، أو لصنف الخائفين، وذلك مبنيّ على قوله: لمنْ خاف، هل يُراد به واحد أو جماعة، وقال الزمخشري: إنما قال جنتان لأنه خطاب الثقَلَيْن، فكأنه قال جنة للإنس وجنّة للجن، والأَظهر هنا قول الصوفية: إنها جنَّة معجلة وهي التلذّذ بمناجاتهم مع مولاهم، وهي ألذّ عندهم من كل نعيم، وجنة مؤجّلة وهي المعلومة.
فإن قلت، ما معنى الحديث: إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة، وهل هو
موافق للآية؟(3/350)
والجواب معناه نصف جنّته المدخرة له، فيفتح له في قبره مِنْ ريحها ونعيمها.
والتلذذ برؤيتها.
وقد وافق الآية، ولا مضادة بينهما، وقد وصف الله الجِنَان في
الواقعة، والرحمن، وهل أتاك حديث الغاشية، وهل أتى على الإنسان، وبَيَّن ذلك سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - أوْضَح بيان.
قال ابن عباس ترجمان القرآن:
الجنات سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عَدن، وجنة المأوى، وجنة
الْخُلد، وجنة الفِرْدوس، وجنة النعيم.
وفي بعض الروايات ثمان، وذكر دار القرار.
وقيل الجنان أربع، لأنه ذكر أوَّلاً جنتان، ثم قال بعد: (ومِنْ دُونِهما جَنَّتَان) .
ولم يذكر جنةً خامسة.
فإن قلت: قد قال تعالى: (عندها جَنَّةُ الْمَأوَى) ؟
والجواب: أنَّ جنة المأوى اسم لجميع الجِنَان، يدلّ عليه قوله تعالى: (فلهم
جَنَّاتُ الْمَأوى نزُلاً بما كانوا يعملون) .
والجنة اسم الجنس، فمرة يقال جنة، ومرة يقال جنات، فكذلك جنات
عَدن، وجنة عدن.
(وقعت الواقِعَة) :
اسم من أسماء القيامة، وقد قدمنا جملة أساميها، وهي الواقعة، الصيحة، وهي النفخة في الصور، وقيل الواقعة صخرة بيت المقدس تقَعُ يومَ القيامة، وهذا بعيد.
(وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ) .
هو المغلوب عليه بحيث لا يقدر عليه.
ونبدِّل أمثالَكم معناه نهلككم ونستبدل قوماً غيركم.
وقيل نمسخكم قردة وخنازير.
(ونُنْشِئَكم) :
معناه نبعثكم بعد هلاكِكم.
(في مَا لاَ تَعْلمون) .
أي في خِلقة لا تعلمونها على وَجْهٍ لا تصلُ عقولكم إلى فَهْمه.
ومعنى الآية أن الله قادر على بَعْثهم بعد هلاكهم، ففيها تهديد
واحتجاج على البعث.(3/351)
(وكلاَّ وَعَد الله الحُسْنى) :
أي كل واحد من الطائفتيْن الذين أنْفَقُوا وقاتلوا قَبْل الفتح وبعده.
(وغَرَّتْكم الأمانِيُّ) .
الإشارةُ إلى الكفار والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتمنَّوْنَ وفاةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أو هزيمتهم، إلى غير ذلك من الأمانيّ الكاذبة.
(وَلاَ يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قَبْلُ) :
معطوفة على (أن تخْشع) .
ويحتمل أن يكون نَهْياً.
والمراد بها تحذيز المؤمنين من أن يكونوا كالمتقدمين من اليهود والنصارى في طول أملهم وقسوة قلوبهم.
وقد وقعنا فيما حذِّرنا منه، فلا يخفاك ذلك، وإن طول الأمل
يقَسّي القلب، ويُبْعد عن الآخرة، ويكثر الحرص، ويقلُّ القناعة، وهذه موجودة فينا ظاهراً وباطناً.
قال - صلى الله عليه وسلم -:
" لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ ".
وهل هذا كلّه إلا مِن خلطتهم والتقرب منهم، لأن المرء على دِين خَليله.
وانظر حكاية المحمدي في زمان معاوية لما أن ألْقَتِ الريح مركبهم في جزيرة من جزائر. . .
نزلوا في البر، فأتى ملكهم وعليه كساء ملبّد ورجلاه حافيتان عاري الرأس، فنزل معهم، وقال: ما لكم أيها العرب تطَئُون القمح والشعير تحت أقدامكم، وتغلفون سيوفكم بالذهب والفضة، وتتزيّون بزي اليهود والنصارى في أواني الذهب والفضة، فقال أحدهم: هذا كله من مخالطتهم.
فقال: اذهبوا عني لئلا يصيبني ما أصابكل، وزوَّدَهم وأمرهم بالانصراف.
فقال له أحدهم: أنْتَ ملك هذه الجزيرة، وأنت على هذه الهيئة، فقال: يحقَّ لمن رفعه الله بالنعمة أن يَزْدَاد تواضعاً، وإني قد ملكني اللَّهُ أهْلَ هذه الجزيرة فيحقّ لي ألاَّ أتكبّر عليهم، ثم انصرف عنهم وتركهم.
(وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) :
ضمير الجمع(3/352)
يعود على اليهود والنصارى، لأنهم كانوا يحيّونه بقولهم: السامُ عليك يا محمد.
فيرد عليهم بعليكم.
(ويقولون في أنفسهم لولا يُعَذبُنَا الله بما نَقول) :
يعني قولهم: لو كان نبيّاً لعذَّبنَا الله بإذايته، فقال الله: (حَسْبُهم جهنّم يَصْلَوْنها فبئْسَ الْمَصير) .
(ولا نُطِيع فيكم أحداً أبداً) .
أي لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نطيع من يأمرنا بخذْلاَنكم، ثم كذّبهم الله في هذه الواعد التي وعدوا بها.
فإن قلت: كيف قال: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ)
بعد قوله: (لَا يَنْصُرُونَهُمْ) ؟
والجواب: يعني على الفرض والتقدير، أي لو فرضنا أن ينصروهم لوَلَّوا
الأدبار.
(وأحْصُوا العِدَّةَ) :
أمر بذلك لما يَنْبَني عليها من الأحكام في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك.
(وأشْهدُوا ذَوَيْ عدْل منكم) :
هذا خطابٌ للأزواج، والإشهادُ المأمور به هو على الرجعةِ عند الجمهور وقد اختلف فيه: هل هو واجب أو مستحبّ على قولين في المذهب.
وقال ابن عباس: هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة، وذلك أظهر، لأن الإشهادَ يرفع الإشكال والنزاع، ولا فَرْق في هذا بين الرّجْعَه والطلاق.
ويفْهم من الآية أنه لا يشهد إلا من المسلمين والرجال.
وقيل من الأحرار، فيؤخذ من ذلك ردُّ شهادة العبيد.
(وأقيموا الشهادةَ للَه) :
يحتمل أن يريدَ به القيام بها، فإذا استشْهد وجب عليه أنْ يَشهد، وهو فَرْض كفايةٍ، وإلى هذا المعنى أشار ابن الغرس.
ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون مَيْل ولا غَرض، وبهذا فسره(3/353)
الزمخشري، وهو أظهر، لقوله: (لله) ، فهو كقوله: (كونوا قَوَّامِين بالقِسْطِ
شهَداء للَه) .
واختلف في أخذ الأجرة عليها وعلى كتب الوثائق.
والمشهور عدم الجواز.
أما من انتصب لها وترك التكسُّب المعتاد لأجلها فجائز له أخْذ الأجرة عليها.
وإلا لم يجد الإنسان مَنْ يشهد له بيسير، وأخذها ممن يحسن كتب الوثيقة كتاباً وعبارة على كتبه وشهادته لا يخْتَلف فيه ويكون له أخْذ الأجرة بما اتَّفقا عليه مِن قبل.
وروي أن بعض الشيوخ أهدى له صِهْرُه أبو زوجته الفقيه أبو علي بن
القداح لبناً فشَربه، ثم اجتمع به بعد ساعة من شربه فتحدثا، فأخبره صِهْرُه أنَّ ذلك اللبن أهداه له فلان بعض الشهود الذين يأخذون الأجْر في شهادتهم، فقام وقاء ذلك اللبن، هكذا كانت حالهم رضي الله عنهم، ونحن على الضد منهم، فأين حالنا من حالهم، نأخذ على كتب الوثائق ما لا يجوز، ونَدعي أنه أجرة على الكتب، وهل هذا إلا مِن تحليل ما حرَّم الله، ورضي الله عن الشيخ الأبيِّ أبي القاسم حيث قال: لأن تغزو على بلاد المسلمين، وتأخذ متاعهم ورقابهم وتبيعه خير من أخذ الأجرة على كتب الشهادة.
وصدق لأن الغازي يعتقد التحريم فتجد قَلْبَه منكسراً، والله عند المنكسرة قلوبهم، والكاتب يدَّعي أنه حقّه، فصاحبُ المكس أفضل منه لما ذكرناه، فبالله أيها الأخ تعال نَنْدب على أنفسنا فيما وقع منا لعلنا تهبّ علينا نفحات القبول، والله المعين على ما نقول.
(ويُدعَوْن إلى السُّجُودِ) :
قد قدمنا تفسيره.
(واهِيَة) .
أي مسترخية ساقطة القوة، ومنه قولهم: دار واهية، أي ضعيفة الْجُدْران.
(وَتِين) .
عِرْق متعلق بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.
(وبيلا) :
مفعول به، وناصِبُهُ (تتقون) ، أي كيف تتقون يوم القيامة وأهوالَه إنْ كفرتُم.
وقيل هو مفعول به على أن(3/354)
يكون كفرتم بمعنى جحدتم.
وقيل هو ظرف، أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة.
ويحتمل أن يكون العاملُ فيه محذوفاً تقديره: اذكروا.
وقوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) .
أي اليوم الذي تنفطر السماء بشدة هوْلِه، ويحتمل أنْ يعودَ على الله، أي تنفطر بأمره وقُدْرته.
والأول أظهر.
والسماء مؤنثة، وجاء (مُنْفَطِرٌ) بالتذكير، لأن تأنيثها غير حقيقي أو على الإضافة.
(وَزَر) : ملجأ، بالنبطية.
(وهَّاجاً) : وقاداً شديد الإضاءة.
وقيل الحار الذي يضطرم من شدَّة لهبه.
(واجفة) :
شديدة الاضطراب.
والوَجيف والوَجيب بمعنى واحد.
وارتفع (قلوب) ، بالابتداء وواجفة خبره.
وقال الزمحشري: واجفة صفة والخبر (أبصارها خاشعة) .
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) :
هذه الآية مُخْبرة أنَّ السماوات في انقيادها لله حين يريدُ انشقاقَها تفعلُ فعْلَ الْمِطْوَاع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنْصَتَ له وأذْعَن ولم يمتنع، كقوله: (أتَيْنا طائعين) ، فجميعُ المخلوقات منقادَةٌ لخالقها إلا نحن، قال تعالى: " أوحيت إلى البحر أن انفلق لموسى، فبات يضطرب من خَوْفي تلك الليلة، وأنتم خاطبْتُكم بكلامي وأمرتكم بأوامري فلم تمتثلوا، قلوبُكم كالحجارة أو أشدُّ قسوة ".
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية في هذه السورة؟
فالجواب: أن كلَّ واحد من الإخبارَيْن معقباته غير ما أخبر به الآخر.
فالأول إخبار عن السماء في طاعتها وانقيادِها، والآخر إخبار عن الأرض بمثل ذلك، وأنَّ كلّ واحدة منهما سمعَتْ وانقادت فانفطرت السماءُ وتشقّقت، وانتثرت نجومها، وانقادت وأُزيلت الجبال عن الأرض فامتدَّتْ وألقَتْ ما تحمله من الأموات، وغير ذلك مما استودعته من المعادن والكنوز، وتخلّتْ عنها(3/355)
سامعةً مطيعة، وإن كان الإخبار الأول عن السماء والآخر عن الأرض فلا
تكرار.
(والليلِ وما وَسَق) ،:
أقسم اللهُ بالليل وما جمع فيه لأنه يضمُّ الأشياء ويسترها بظلامه.
ومنه الوَسْق.
(والقمر إذا اتَّسَقَ) ، أي امتلأ نوره، مشتق من الوَسْق.
(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) .
الضمير عائد على النار، يعني أنَّ من تنفعه الذكرى وتؤَثّر فيه لا تحرقه النار
الكبرى، وسماها بذلك بالنظر إلى نار الدنيا وقيل بالنظر إلى غيرها من نار
جهنم، فإنها تتفاضَلُ بالنظر إلى مَنْ فيها، وكِلاَ القولين صحيح، إلا أن الأوَّل أظهر للحديث: " ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.
ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة، أو عُتبة بن ربيعة، وضمير المفعول للذكرى.
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) .
أقسم اللهُ بهذه المخلوقات.
وقد أكثر علماؤنا رضيَ الله عنهم الأقوالَ فيها، فقيل: إن الفجر الصبح، وقيل بانفجار الماء من أصابع نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل بانفجار الصخرة، وإخراج الناقةِ لقوم صالح، وقيل بانفجار دموع العاصين، وقيل بانفجار الموتى من القبور، وقيل بانفجار الملائكة من السماء في قوله: (يوْم تَشَقَقُ السماءُ بالغَمَامِ) ، وقيل بانفجار المعرفة من قلوب المطيعين، لقوله: (أفَمَنْ شَرحَ اللهُ صَدْرَه للإسْلاَم) ، وانفجار المعصية من
قلوب العاصين، لقوله تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) .
وكذلك الليالي العشر، قيل: هي الليالي العشر من أول ذي الحجة، وقيل أوائل المحرم، وقيل أوائل رمضان، وقيل العشر المذكورة في قوله تعالى: (وأتممناها بعَشرٍ) .
وقيل بالعشر الآيات(3/356)
المذكورة في قوله تعالى: (فأتُوا بعَشْرِ سوَرٍ مثله مفْتَريات) .
وهذا بعيد لعدم دخول الليالي فيها.
(تواصَوْا بالصَّبْرِ وتواصَوْا بالْمَرْحمة) .
أى وصى بعضُهم بعضاً بالصبر على قضاء الله ورحمة المساكين وغيرهم من المخلوقات.
وفي هذه الآية إشارةٌ إلى صبر المسلمين على إذايةِ الكفار، وعلى هذا فهي منسوخة بآية السيف.
والظاهر أنها عامةٌ بالتحذير من الانزعاج والصبر على مَنْ أوذي من
المسلمين، ورحمتهم بالدعاء لهم بالهداية والتوفيق.
(والشمس وضُحَاهَا) .
بالفتح والمد ارتفاع الضوء وكماله إلى الزوال، وقيل الضحى النهار كلّه، والأول هو المعروف في اللغة.
(والقمر إذا تلاَها) .
أى تبعها، والضمير للشمس، واتباعه لها بكثرة ضَوْئه، لأنه أضوأ الكواكب بعد الشمس ولا سيما ليلة البدر، أو يتبعها في طلوعه، لأنه يطلع بعد غروبها، وذلك في النصف الأول من الشهر، أو يتبعها في أخذه من نورها، لقوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمَحَوْنَا آيةَ الليلِ وجعلنا آيةَ النهار مُبْصِرَة) .
وقد صح أن جبريل مسحها فأذهب بعْضَ ضوئِها، وبهذا احتجت الشمس بتفضيلها على القمر.
(والنهارِ إذا جَلاَّها) .
أي كشفها وأظهرها، وضمير المفعول للشمس، وضمير الفاعل للنهار، لأن الشمس تنجلي بالنهار، فكأنه هو جَلاَّها.
وقيل ضمير الفاعل للَه.
وقيل: الضمير المفعول للظلمة أو للأرض أو للدنيا.
وهذا كله بعيد، لأنه لم يتقدم ما يعودُ الضمير إليه.
فإن قلت: النصب في (إذا) مُعْضل، لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها فتخير في العطف على عاملين، وفي نحو مررت أمس بزيد واليوم عمرو.
وإما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه؟
والجواب فيه: أنَّ واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلِّيًّا، فكان لها(3/357)
شأن حيث أبرز معها الفعل، وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادٌّة مسدَّهما جميعاً، والواوات العواطف نوائِب عن هذه الواو، فحقيقته: أن تكون عوامل على الفعل والجار جميعاً، كما تقول: ضرب زيد عمراً وبكر خالدًا، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها.
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) .
هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقال الزمخشري: يجوز أن يعرب إعرابَ الجمع المذكر بالواو والياء.
وأن يلزم الياء ويحرك النون بحركات الإعراب، وهذه أقسام، أقسم اللَّهُ بالتين والزيتون وبجبل الطور الذي كلَّم عليه موسى.
والبلد الأمين، من الأمانة أو الأمن، لقوله: (اجْعَلْ هذا بلدًا آمِنًا) .
وقد استجاب الله دعَاءه فجعله آمِنًا من كل شيء، لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) .
(واسجد واقْتَرِبْ) .
أي تقرَّب إلى الله بالسجود، وهذه الآية موضع سجدةٍ عندنا خلافاً لمالكٍ.
(والعادياتِ ضَبْحا) .
اختلف في العاديات والمُوريات والمغيرات، هل يراد بها الخيل، وعلى هذا فهل هي خيل الْمجاهدين أقسمِ اللَه بها، أو الخيل على الإطلاق.
وعلى القول بأنها الإبل اختلف هل هي إبل غزْوة بدر، أو إبل المجاهدين مطلقا، أو إبل الحاج، أو الإبل على الإطلاق.
ومعنى العاديات التي تعدو في مَشْيها.
والضَّبح: هو تصويت جَهير عند العَدْوِ الشديد ليس بصَهيل، وهو مصدر
منصوب على تقدير: يضبحن ضَبْحاً، أو هو مصدر في موضعِ الحال، تقديره العاديات في حال ضَبْحها.
والمورِيات من قولك: أوريت النارَ، إذا أوقدتها.
وقد قدمنا أن القدح صكُّ الحجارة فيخرج منها شعلة نار، وذلك عند ضَرْب الأرض بأرجل الخيل أو الإبل.
وإعراب (قَدْحاً) كإعراب (ضبحاً) .
والمغيرات من قولك: أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على أعدائها.(3/358)
و (صبْحاً) : ظرف زمان، لأن عادةَ أهل الغارة في الأكثر
أنْ يخرجوا في الصباح.
(وَسَطْنَ به جَمْعاً) ، أي توسطن.
واختلف هل المراد بالْجَمْع جَمْع الناس، أو المزدلفة، لأن اسمها جَمْع.
والضمير المجرور للوقت، أو للمكان، أو للعدو، أو للنقع.
وقد قدمنا معناه في حرف النون.
(وإنه على ذلك لشَهيد) .
معطوف على الإنسان، يعني هو شهيد على نفسه بكنوده.
وقيل: هو الله تعالى، على معنى التهديد.
والأول أرجح، لأنَّ الضمير الذي بعده للإنسان باتفاق، فيجري الكلام
على نَسَقً واحد.
(وإنه لحبِّ الْخَيْرِ لَشديد) .
المعنى إنَّ الإنسان شديد الحبّ للمال، فهو ذَمّ لحبّه والحض عليه.
وقيل الشديد البخيل.
والمعنى على هذا إنه لبخيل لأجل حبِّ المال.
والأول أظهر.
(وحصِّل ما في الصدور) .
أي جمع في الصحف وأظهر محصّلاً، أو ميّز خَيْرُه من شرِّه.
(وآمَنَهمْ من خَوْف) .
أي من خوف أصحاب الفيل، أو آمنَهم في بلدهم، أو في أسفارهم، لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين لا يتعرَّض لهم أحَد بسوءٍ لبركة البيت، ويطلب منهم الدعاء لمجاورتهم له، وكان غيرهم تؤخذ أموالهم وأنفسهم.
وقيل آمَنَهم من الجذَام والطاعون والدجال.
قال الزمخشري: التنكير في (جوعٍ) و (خوفٍ) لشدتهما، ولا ترى مجذوماً بمكة.
(وُسْعَها) .
بضم الواو: طاقتها، وهذا إخبار من الله أنه لا يكلِّف النفسَ إلا طاقتها، ووقوع تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً عند الأشعرية محال عقلاً عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقَعْ في الشريعة.(3/359)
(والْمُوسِعِ) :
الغني أي واسع الحال، وهو ضد المقتر.
(وإنّا لمُوسِعون) : قيل أغنياه، وقيل قادرون.
(وَارَى) يُواري، أي ستر، ومنه: (يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) .
و (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) .
وتوارى، أي استتر واستخفى.
(وَعَى) العلم يعني حفظه ومنه: (وتَعِيَها أذُنٌ وَاعِيةٌ) .
قال - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: اللهم اجعلها أذُنَ عليٍّ، فاستجاب الله له، وجعله البابَ لمدينة العلم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا مدينةُ العلم وعلي بابها ".
هذا ما خُصَّ به من الفضائل، وقد شهد الله في كتابه بإبراهيم في قوله: (وإبراهيم الذى وَفَّى، وقال فيه: (يوفونَ بالنّذْرِ) ، وبالخوف بالملائكة:
(يخافون ربَّهم من فوقهم) .
وقال فيه: (ويخافون يوماً كان شَرُّهُ مستطيراً) .
وبالصبر بأيوب: (إنَّا وجَدْناه صابراً) .
وقال: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) .
وذكر الله أنه يطعم ولا يطعم، وقال فيه:
(ويطعمون الطعامَ على حبِّه) .
ولما نزلت: (يا أيها الذين آمَنوا إذا ناجَيْتم الرسولَ فقدِّموا بين يدي نَجْوَاكم صدقة) ، قال علي: كانت لي عشرة دراهم فتصدقت بها، وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عشر كلمات، ولم يعمل بهذه الآية غيري، ورفق الله بالأمة.
قلت: يا رسول الله، كيف أدعو؟
قال: بالصدق والوفاء.
قلت: ما أسأل الله؟
قال: العافية في الدارين.
قلت: ما أصنع لنجاتي؟
قال: كلْ حلالاً وقلْ صدقاً.
قلت: فما الحيلة؟
قال: تَرك الحيلة.
قلت: فما أمر الله ورسوله؟
قال: الحق.
قلت: فما الحق؟
قال: الإسلام والقرآن وولاية من انتهى إليك.
قلت: فأين الراحة؟
قال: في الجنة.
قلت: فما السرور؟
قال: الرؤية.
قلت: فما العبودية؟
قال: إظهار الوفاء.
قلت: فما الوفاء؟
قال: شهادة أن لا إله إلا الله.(3/360)
وأما أوعى بالألف يُوعي فجَمْع المال في وعاءً، ومنه: (وجمع فأوْعَى) .
(وُجْدِكُمْ) .
بضم الواو وفتحها: سعتكم، والضمُّ أكثر وأشهر، وبكسر الواو لكنه قليل، ومعناه أسْكنوا المرأة مسكناً تقدرون عليه.
وإعرابه عطف بيان، لقوله: (حيث سكنتم) .
(وقِّتَتْ) بالواو والألف بمعنى جمعت لوقتٍ، وهو يوم القيامة.
(وَجْه) : قد قدمنا تقسيم الوجه على أوجه، ووجه الله طلَب رضاه، وقدمنا
أنه من المتشابه، ويراد به الجهة، ومنه: وجهة ترضاها، ولم
تحذف الواو لأنه ظرف مكان وقيل إنه مصدر ثبتت فيه الواو على غير قياس.
(وِرْدًا) :
مصدر: عطاشا، لأن مَنْ يرد الماء لا يرده إلا لعطش.
(وِزْر) ، بكسر الواو وإسكان الزاي له معنيان: الذنب، ومنه: (لا تزِر
وازِرَة وِزر أخرى) .
والحمل الأصل، ومنه: (أوْزَاراً مِنْ زينَةِ القَوْمِ) ، أي أحمالاً.
(وِلْدَانٌ مخَلَّدون) :
الولدان صغار الخدم.
وقد قدمنا أن " المخلدون " الذين لا يموتون أو المقلَّدون بالخَلَدات، وهي ضربٌ من الأقراط.
وقد ورد في الحديث: " إن الولدان يطوفون على أهل الجنة بكأس من مَعين ".
وهو الإناء الواسع الفَم الذي ليس له مقْبض سواء كان فيه خمر أم لا.
(الواو) :
جارة وناصبة وغير عاملة:
فالجارةُ واو القسم، نحو: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) .
والناصبة واو (مع) فتنصب المفعول معه في رأي قوم، نحو: (فأجْمِعُوا
أمْرَكم وشركاءَكم) .
ولا ثاني له في القرآن.
والمضارعَ في جواب النفي أو الطلب عند الكوفيين، نحو: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) .(3/361)
(يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وواو الصرف عندهم، ومعناها أَنَ الفعل كان يقتضي إعراباً فصرفته عنه إلى
النصب، نحو: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) .
في قراءة غير النصب.
وغير العاملة أنواع: واو العطف، وهي لمطلق الجمع، فتعطف الشيء على
مصاحبه، نحو: (فأنجَينَاه وأصحابَ السفينة) .، وعلى سابقه، نحو: (أرسَلنَا نوحاً وإبراهيم) .
ولاحقه، نحو: (يُوحِي إليكَ وإلى الذينَ من قَبْلك) .
وتفارق سائر حروف العطف في اقترانها بإما، نحو: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
وبلا بعد نفي، نحو: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) .
و (لكن) ، نحو: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) .
وتعطف العقد على النيِّف، والخاص على العام، وعكسه، نحو: (وملائكتِه ورسله وجبريل) .
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .
والشيء على مرادفه، نحو: (صلوات مِنْ ربهم ورَحْمة) .
(إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) .
والمجرور على الجوار، نحو: (بِرءوسكم وأرجلَكم) .
وقيل: وترد بمعنى أو، وحمل عليه مالك: (إنما الصدقَات للفقراء والمساكين) .
وللتعليل، وحمل عليه الخوارزمي الواو الداخلة على الأفعال المنصوبة.
ثانيها: واو الاستئناف، نحو: (ثم قَضَى أجلاً وأجَلٌ مسمًى عنده)
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .(3/362)
(واتَّقوا الله ويعَلِّمُكم الله) .
(مَنْ يضْلِلِ الله فلا هادِيَ له ويَذَرُهم) - بالرفع، إذ لو كانت عاطفة لنصب ونقر.
ولجزم ما بعده ونصب (أجل) .
ثالثها: واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية، نحو: (ونحن نسبح بحمْدِك) .
(يَغْشَى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمَّتْهم أنْفسهم) .
(لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) .
وزعم الزمخشري أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة، لتأكيد ثبوت الصفة
للموصوف، ولصوقها به، كما تدخل على الحالية، وجعل من ذلك: (ويقولون سبعة وثامِنُهم كَلْبهم) .
رابعها: واو الثمانية، ذكرها جماعة كالحريري وابن خالويه والثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عدّوا يدخلون الواو بعد السبعة إيذانا بأنها عددٌ تام، وأن ما بعده مستأنف، وجعلوا من ذلك قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) .
وقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) إلى قوله (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، لأنه الوصف الثامن.
وقوله: (مسلماتٍ. . .، إلى قوله: (وأبكارًا) .
والصواب عدم ثبوتها، وأنها في الجميع للعطف.
خامسها: الزائِدة، وخرج عليه واحدةٌ في قوله: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ) .
سادسها: واو ضمير المذكور في اسم أو فعل، نحو: (المؤمنون) .
(وإذا سمِعوا اللَّغْوَ أعرضوا عَنْه) .
(قل لعبادي الذين آمَنوا يقيموا الصَّلاة) .
سابعها: واو علامة الذكرين في لغة طيّ، وخرّج عليه: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) .(3/363)
(ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) .
ثامنها: الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها، كقراءة قنبل:
"وإليه النّشور وأمِنتم ".
(قال فرعون وآمنتم به) .
(وَيْكَأَنَّ) :
قال الكسائي: كلمة تندم وتعجّب، وأصله وَيْلك، فالكاف
ضمير مجرور.
وقال الأخفش: وَيْ اسم فعل بمعنى أعجَب، والكاف حرف
خطاب، ِ وأنَّ على إضمار اللام: والمعنى أعجب لأن الله.
وقال الخليل: وَيْ وحدها، وكأن كلمة مستقلة للتحقيق لا للتشبيه.
وقال ابن الأنباري: يحتمل (وَيْكأنَّه) ثلاثة أوجه:
أن تكون ويك حرفاً، وأنه حرف.
والمعنى ألم تر.
وأنْ تكونَ كذلك، والمعنى ويلك.
وأن تكون وي حرفاً للتعجب، وكأنه حرف.
ووُصِلا خطًّا لكثرة الاستعمال، كما وصل يبنؤمَّ.
(وَيْل) : قال الأصمعي: ويل تقبيح.
قال تعالى: (ولكم الْوَيل مما تصِفون) .
وقد توضع موضع التحسر والتفجيع، نحو (يا ويلتنا) .
(يا وَيْلَتَى أَعجَزْتُ) .
أخرج الحربي في فوائده من طريق إسماعيل بن عياش، عن هشام بن
عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحك" فجزعْث منها، فقال لي: يا حميْراء، إنَّ " ويحك " أو " وَيْسك "، رحمة، فلا تجزعي منها، ولكن اجزعي من " الويل ".(3/364)
(حرف اللام ألف)
(لأعْنَتَكمْ) :
لضَيَّقَ عليكم بالمنع من مخالطتهم.
ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكْلِكم لأموال اليتامى.
(لا تَنْكِحوا) ، أي لا تتزوجوا.
والنكاح مشترك بين العقد والوطء لأمَة، أي أمة الله، حرة كانت أو مملوكة.
وقيل أمة مملوكة مؤمنة خير من حرة مشركة.
(لأوْضَعوا خلالَكم) ، أي أسرعوا السير.
والإيضاعُ: سرعة السير.
والمعنى أنهم يسرعون بالفساد والنميمة بينكم.
(لأحْتَنِكنَّ) :
معناه لأميلنهم ولأقودنهم.
وقيل: لأسْتَأصِلَنهم.
يقال احتنكَ الجراد، إذا أكله كلّه.
(لاهِيةً قلوبُهم) :
الضمير للكفار، يعني أن قلوبهم غافلة مشغولة عن الحق وتذكره، لأن القَلْب إذا اشتغل بشيء لم يكن لشيء آخر فيه محل، لقوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قَلْبَيْنِ في جَوْفه) .
(لا يَسْبِقونَه بالقَوْل) :
الضمير للملائكة، يعني أنهم لا يتكلمون بشيء حتى يكلِّمهم الله تأدّباً معه، وخوفاً من سطْوته، ولا يشفعون لأحد من عبادِ الله حتى يستأذِنوا، فإن أذن لهم شفعوا وإلاَّ سكتوا.
(لازِبٍ) ، ولازم: بمعنى واحد، وهو الممتزج المتماسك(3/365)
الذي يلزم بعضه بعضاً، وأمَر الله بهذه الآية سؤال المشركين عن خَلْق الله
الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والكواكب: (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) ، ومنْ لازم جوابهم بأنهم أشدّ خلقاً منهم تقوم عليهم
به الحجة في إنكارهم البعث في الآخرة، كأنه سبحانه يقول: هذه المخلوقات
أشدُّ خلقاً منكم، فكما قدرنا على خلقتكم كذلك نَقْدِر على إعادتكم بعد
فَنَائكم، لأنكم أضعف خَلْقه، وكيف لا وأنتم من طين لازِب!
(ولا هُمْ عَنها ينزَفُون) ، عن هنا سببية، كقوله: فعلته عن أمرك.
والنزف: السكر، يعني أنَّ شاربَ خمر الآخرة لا يسكر منها، لأنها
حُلْوة طيبة، بخلاف خمر الدنيا.
والعجب ممَّنْ يكون في عقله ويُذْهِبُه بشربها، وأقل ما فيه من الوعيد
الحديث: " منْ شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ".
فإن قلت: هل هذا الوعيد يتناولُ مَنْ تاب مِن شُرْبها أم لا؟
والجواب: أنَّ هذا فيمن لم يَتُب، وأما التائب فيبدِّل الله سيئاتِه حسنات، كما قدمنا في غير ما موضع.
(لا تَسْمَعُ فيها لاَغيةً) :
هو من لَغْو الكلام، ومعناه الفحش وما يكره، فيحتمل أنْ يريد كلمة لاغية، أو جماعة لاغية.
(لإيلافِ قريش) .
لإِيْلاَفِ: آلفت إيلافاً.
وقيل هذه اللام موصولة بما قبلها.
المعنى: (فجعلهم كعَصْفٍ مأكول) ، (لإيلاف قريش) .
وكانت لهم رِحْلتان في كل عام: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام.
وقيل: كانت الرحلتان جميعاً إلى الشام.
وقيل: كانوا يرحلون في الصيف الى الطائف حيث الماءُ والظلّ فيقيمون بها، ويرحلون في الشتاء إلى مكة لسُكنَاهم بها.
واختلف في تعلق قوله: (لإيلاف قريش) على أقوال قيل إنه
متعلق بقوله: (فلْيَعْبُدوا) ، والمعنى فليعبدوا الله من أجل(3/366)
إيلافهم للرحلتين، فإن ذلك نعمة من الله عليهم.
وقيل: إنه يتعلق بمحذوف تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش.
وقيل: إنه يتعلق بسورة الفيل.
والمعنى أن الله أهْلك أصحابَ الفيل لإيلاف قريش، فهو يتعلق بقوله: (فجعلهم) ، كما قدمنا.
ويؤيد هذا أنَّ السورتين في مصحف أبَي بن كعب سورة واحدة لا فَصْلَ بينهما، وقد قرأهما في ركعة واحدة في المغرب، وذكر الله الإيلاف أولا
مطلقا، ثم أبدَل منه الإيلافَ المقيد بالرحلتين تعظيما للأمر، ونصب (رحلة)
لأنه مفعول بإيلافهم، وقال: (رحلةَ) وأراد رحلتين، فهو كقول الشاعر:
" كلُوا في بعض بطنكم تعفُّوا ".
وقد قدمنا من هذا الحرف أشياء عند حرف اللام، والحرف الذي قبل هذا
فلا فائدة في الإعادة.(3/367)
(حرف اليَاء)
(يحيى) بن زكرياء عليهما السلام، وُلد قبل عيسى بستة أشهر، ونُبيء
صغيراً، وهو اسم أعجمي، وقيل عربي.
قال الواحدي: وعلى القولين لا ينصرف.
قال الكرماني: وعلى الثاني أنه سمي به لأنه أحياه الله بالإيمان، وقيل
لأنه حيى به رحم أمه، وقيل لأنه استشهد، والشهداء أحياء.
وسبَبُه أن ملك زمانه كان له زوجة ولها بنت من غيره، فأرادت المرأة ُ تزويجها منه غيرةً وخوفاً من تزويج غيرها، فزينتها وعرضتها عليه، وقالت له: أتريد أحسن منها، فقال لها: لا أحبّ غيرها.
فاتخذت وليمةً، ودعت إليها يحيى، وعرضت عليه الأمر، فقال: معاذ الله في ذلك، فَسَقَتْ زوجها الخمر، وقالت: أما علمت أنَّ يحيى
يَأبَى من زواجك لهذه الشابة، فدعا به وقتله بين يديها، فبكت الملائكة ُ في
السموات، وقالت: إلهي، بأيّ ذنب قتلوا يحيى، فقال تعالى: لم يذنب، ولم يُهمّ بذنب، ولكن أحبَّني فأحببتُه، ولا بد في الحب من القتل، وسلّط الله على قاتله بخت نصر فقتله، وأخرب ملكه، وسبَا حَرِيمَه، وملك رعيته.
فاسْمَعْ يا مدَّعِي الحب، أما علمْتَ أن المحبةَ أولها فكرية وآخرها بَلِيَّة، وإذا
كان الحبُّ بين الخلق يذهب النفوس فكيف بمحبة الله! ولذلك قال تعالى:
(والذين آمَنُوا أشدُّ حبًّا لله) .
ولذلك قال الجُنيد: كم تقتل من الأحباب، وكم تريق من دَم الأصحاب، فسمع هاتفا يقول: أقتل النفس، وأعطي دِيَتها.
فقال: يا رب، ما دِيتها، فقال: دِية مقتول الخَلْق الدنيا ودية مقتولِ الحقِّ رُؤية الجبَّار.
(يوسف) بن يعقوب بن إبراهيم خليل الرحمن، ألقي في الجب وهو ابنُ ثنتي عشرة سنة،(3/368)
ولقي أباه بعد الثمانين، وتوفي وله مائة وعشرون سنة.
وفي الصحيح أنه أعطِيَ شَطْرَ الحسن، قال بعضهم: وهو من المرسلين، لقول موسى: (ولقد جاءكم يوسف من قَبْلُ بالبينات) .
وقيل: ليس هو يوسف ابن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب.
ويشبه هذا ما في العجائب للكرماني في قوله: (وَيرِثُ مِنْ آل يعقوب) ، إن الجمهور على أنه يعقوب بن ماثان، وإن امرأةَ زكَرياء كانت
أخْتَ مريم بنت عمران، قال: والقول بأنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم غريب.
وما ذكره أنه غريب هو المشهور، والغريب الأول، ونظيره في الغرابة قول نَوْف البِكاليِّ إن موسى المذكور في سورة الكهف في قصة الخضر ليس هو موسى نبي بني إسرائيل بل موسى بن مَنشا بن يوسف.
وقيل ابن إفرائيم بن يوسف، وقد كذبه ابن عباس في ذلك.
وأشدُّ من ذلك غرابة ما حكاه النقَّاش والماوردي أن يوسف
المذكور في سورة غافر من الجن، بعثَه الله رَسولاً إليهم، وما حكاه ابن عسكر أن عمران المذكور في آل عمران هو والد موسى لا والد مريم.
وفي يوسف من اللغات تثليث السين مع الياء والهمزة وبتركه، والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له.
فإن قلت: أين يوسف من فرعون في مخاطبة موسى له؟
والجواب: ما قدمناه لك من أنَّ ملك مصر يسمى فرعون، وإنكارهم لبعث
الرسالة لا يدلُّ على أنهم مؤمنون برسالة يوسف، وإنما مُرادُهم أن يأتي أحد
يدَّعي الرسالة بعد يوسف، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: إنما هو تكذيب
لرسالةِ مَنْ بعده مضموم إلى تكذيب رسالته.
(يونس) بن مَتّى، بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور.
ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمِّه.
قال ابن حجر: وهو مردود بما في حديث ابن عباس في الصحيح، ونسبه إلى أبيه، قال: فَهَذَا أَصَحّ.
قال، ولم أقِفْ في شَيءً من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمان ملوك الطوائف من الفرس، فبعثه(3/369)
الله إلى أَحدهم فأعرضوا عنه، ووعدهم بالعذاب، فخاف منهم وهرب فالتقمه الحوت كما قدمنا أنه مكث في جوفه أربعين يوماً.
وقيل الْتَقَمَه ضحى ولفَظَه عشية.
وفي يونس ست لغات: تثليث النون مع الياء والهمزة، والقراءة المشهورة
بضم الياء مع النون قال أبو حيان: وقرأ طلحة بن مصرّف بكسر يونِس
ويوسِف، أراد أن يجعلهما عربيين مشتقين من أنِس وأسِف وهو شاذّ.
(يسومونَكم سوءَ العذابِ يذَبِّحونَ أبناءكم) .
قد قدمنا أنَّ الخطاب لبني إسرائيل قبل هذا الحرف.
فإن قلت: أي فائدة لخطاب المعاصرين بهذا، وتعبيره في سورة الأعراف
بالقَتْل؟
والجواب: لأنهمٍ من ذرّيتهم وعلى دينهم ومتّبعون لهم، وهم راضون بذلك، فعدّد عليهم بما مَنَّ على آبائهم وهم عالمون بذلك.
وورد في آية البقرة مضعّفاً، لأن المقصود فيها كما قدمنا تعديد وجوهِ الإنعام عَليهم، وبيانُ المنَّة، ومقابلتهم لهذه النعمة بالكفْر من الأمر الشنيع، ألاَ ترى أنه لما ذكر دعوة الناسِ عموماً، وذكر مبدأهم دعا بني إسرائيل خصوصاً.
وأيضاً لما كان الذبح منبئ عن القَتْل وصِفَته، ولا يُفهم من القتل غير إعدام الحياة بتناول من غير المقتول في الغالب عَبَّر هنا بما يوفي المقصود من الإخبار بالقتل وصِفته، مع إحراز الإيجاز، إذ لو ذكر القتل وأتبع بالصفة لما كان إيجازاً، فعدل إلى ما يحصلُ منه المقصودُ مع إيجاز، فقال (يُذَبِّحون) .
وعَبَّر في سورة الأعراف بالقتل، لأنه أوجز من لَفْظِ (يُذَبِّحون) ، لأجل التضعيف، إذ لفظ يذبحون أثقل لتضعيفه.
وقد حصلت صفة الفعل في سورة البقرة.
(يَهْبِطُ مِنْ خشيةِ الله) :
صفة للحجر، وذلك أنَّ الله تعالى جعل خَوْفَه في المتحرك والساكن، فكلّ حجر يرمى من علو إلى سفل فمِنْ خشية الله، ومنهم من يتفجَّر منه الأنهار، كما قال تعالى، هذا مع أنهم غَيْر مخاطبين ولا مكلفين، وأنْتَ يا محمديّ مكلّف مخاطب، وقد قسا قَلْبك، فهل هذا(3/370)
إلا من مخالفة أمْرِ ربك، تَلين الأحجارُ، ولا تلين القلوبُ! وأعظم من ذلك
عدمُ الانكسار والخشوع! لو تُليت هذه الآيات على الجماد لانَ، كما قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) .
فلا حيلةَ لنا يا رب إلا إلقاء نفوسنا بين يديك، والتفويض لما أردْتَ بنا، وإلاّ الصبر لنا على عذابك، وكيف يصبر الجسم الضعيف على العذاب
المقيم، فصبِّرْنا إنْ قضيتَ علينا، واجعلنا كالإسرائيلي الذي عبدك سبعمائة سنة، فأوحيت إلى نبيء ذلك الزمان: قلْ لعَبْدي فلان تعبَّدْ ما شئْتَ، فأنْتَ من أهل النار.
فلما بلغه وَحْيك قال: مرحباً بحُكم ربي! ثم قال: إلهي، عَبَدْتك، وأنا لا
أظنُّ أني لا أزِنُ عندك قليلاً ولا كثيرا، فإذا أنا أصْلح لنارِك، وعزَّتك ما
زادني هذا إلا حُبًّا وتلهّفا فيك، فأوحى الله إلى دانيال عليه السلام: قل لعَبْدي المستحق لِوَلاَئِي بالصبر والرضا: رضيت عني بأصعب حكم وقضاء، وعِزَّتي وجلالي لو ملأتْ ذنوبك الأرضَ والسماء لغفرتها لك، ولا أبالي.
وأنت تعلم كربتي وذِلَّتي وشدةَ محنتي بذنوب اقترفْتها وعظائم ارتكبتها، وأنتَ تعلمُ أنه ليس لي مَنْ يتفقَّدني عند الموقف بين يديك غير رحمتك الواسعة التي أخْبرتنا بها، فقيِّضْ لي مَنْ يشفع عندك، أقسم عليك بجاهِ نبيِّك الكريم، واسمك العظيم، وعمْدَتنا على لسان نبيك أنه أعدَّ شفاعته لكبائر أمته، فأذَنْ له فينا، ولا تخَيِّبنا من فَضْلك العظيم وإحسانك العميم، وأسألك أنْ تصلِّي على نبيك الكريم، وتَرْضَى عن أصحابه ذوي الفضل والتكريم.
(يَسْتَفْتِحون) :
يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم.
فَالسًينُ على هذا للطلب، يعني أنهم كانوا يقولون: اللهم انْصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمانُ نبئ يخرج نقاتِلكم معه قَتْلَ عادٍ وإرم.
وقيل يستفتحون أي يعرفون الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم.
فالسين على هذا للمبالغة، كالسين في استعجب واستسخر، وعلى كلِّ قول
فبغْضهم واجب وقَتْلهم جائز لجحدهم ما عرفوا في كتبهم، ولذلك قال الله
فيهم: (فَلعْنَة الله على الكافرين) .(3/371)
(يتَمَنَّوه أبداً) :
الضمير يعود على الموت، وذلك أنَّ الله أمرهم أن يتمنَّوا الموتَ إن كانوا صادقين في قولهم على وَجْه التعجيز والتبكيت.
لأنّ مَنْ علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، ولو تمنَّوه لماتوا من ساعتهم، ولمَّا
علموا ذلك لم يتمنوه لذنوبهم، لأنهم أرادوا الحياةَ الدنيوية.
فإن قلت: لم عَبَّر في آية البقرة بـ (لن) بخلاف الجمعة؟
والجواب: أنه لما كان الشَّرط فيها مستقبلاً، وهو قوله تعالى:
(إنْ كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصةً) ، الآية -
جاء جوابه بـ (إن) التي تخلِّص الفعل للاستقبال.
ولما كان الشرط في الجمعة حالاً، وهو قوله: (إنْ زَعمْتم أنكم أولياءِ للَه) ، جاء جوابه بلا التي تدخل على الحال، وقد تدخل على المستقبل.
فإن قلت: ما النافية أخصّ بالحال فهي أنسب؟
قلت: قد يفهم من "ما" نَفْي مجرد الحال دون ما يتصل به، فقد يقول
القائل: ما يقوم زيد - يريد ما يقوم اليوم، ولا يريد أنه ما يقوم غداً، وما
صالحة لهذه المعنى، وهم إنما أرادوا أنهم أولياء مستمرون على ذلك، وأنَّ تلكَ صِفَتهم على الحال وما يليه إلى آخر حياتهم، إذ ذاك هو الموجب أن تكون لهم الدار الآخرة خالصةً من دون الناس كما زعموا، فلما كان زَعْمهم هذا ناسبه نَفْي دَعْوَاهم وتكذيب زعمهم بحرف نص في نفْي ذلك، وأنه لا يقع منهم التمني في حالهم ولا فيما بعده أبداً.
فإن قلت: إن قوله: (أبداً) قد أحرز هذا؟
قلت: تأكيد ذلك أبلغ، فنفى بـ لا وأكّد بالتوكيد.
فجاء على أعلى البلاغة.
(يَتْلُونَ الكِتابَ) .
أي يقرأونه، والضمير عائد على اليهود والنصارى، وهذا تقبيحٌ لقولهم وذَمِّهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولِمَا جاءَ به، مع تلاوتهم كتابهم.(3/372)
(يَلْعَنهم اللاعِنون) :
قد قدمنا أنهم جميع مَنْ تقَع منه اللعنة، وإذا تلاعَن اثنان، وكان أحدهما غير مستحق للعن رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها أحد منهما رجعت على اليهود.
(ينْعِق) .
أي يصيح بالغنم فلا تدري ما يقول لها إلا أنها تنْزَجر بالصوت، وشبَّه الله الكفار بالبهائم في قلّة فَهْمِهم وعدم استجابتهم لمن يَدْعوهم، أو يكون تشبيهاً للكفار في دعائهم وعبادتهم لأصنامهم بمن ينْعِق بما لا يسمع، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً، وفيه تفصيلٌ قدمنا ذكره.
(يطهُرْن) :
من الدم، ويتطهرن بالماء، وقرئ حتى يطهرن بالتشديد، وهو حجة لمالك.
(يتَسنَّهْ) .
ومعناه يتغير، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقاً من السنة، لأن لامها هاء فتكون الهاء في "تسنَّه" أصلية، أي لم تغيره السنون.
ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك: تسنّنَ الشيء إذا فسد، ومنه الْحَمَأ
المسنون، ثم قُلبت النون حَرْفَ علة، كقولهم: قَصّيت أظفاري، ثم حذفَ حَرْفُ العلة للجزم، والهاء على هذا هاء السكت.
وقيل إن طعامَه كان تيناً وعِنبا، وإن شرابه كان عصيراً ولبناً، فأراه اللهُ
أعجوبة في بقائه هذه المدة الطويلة على حالته.
(يَؤُودُه) :
يثقله، من قولهم: ما آدَكَ فهو بمُوئد، أي ما أثقلك فهو لي مُثقل.
(يمحق الله الرِّبا) .
أي يذهبه في الدنيا بضياعه، وفي الآخرة بالعقوبة.
وقد قدمنا أنَّ عقوبتَه في الآخرة بقيامه من القَبْر كالمجنون
يعرفُه أهْلُ الحشر بتلك العلامة، وأيُّ عقوبة أكبر من هذا.
وحكى القاضي عياض في مَدَاركه: أنَّ ترك رُبع دانق ممّا حرم الله أفضلُ من سبعين ألْف حجة، وأفضل من سبعين ألف غزوة، وسبعين ألف بدنة مقلَّدة أُهديت إلى بَيْتِ اللهِ(3/373)
الحرام، قال: فبلغ ذلك عبد الجبار، فقال: نعم، وأفضل مِنْ ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً وفضة اكتسبْنَ من حلال وأنفقن في سبيل الله، تَرْكُ ربع دانق مما حرم أفْضل من ذلك كله.
(يَلْوونَ ألْسِنَتَهم بالكتاب) :
الضمير عائد على أهل الكتاب، يعني يحرِّفونَ لفظَه أو معناه.
(يَضرُّكم) .
من الضير، بمعنى الضرر.
(يَكبِتَهم) :
يَغيظهم ويخْزيهم.
وقيل يصرعهم لوجوههم.
(يمين) :
له أربعة معان: اليد اليمنى، والجهة اليمنى، وبمعنى القوة، وبمعنى
الحلف.
وأيمن الإنسان جهة يمينه.
(يسير) : له معنيان:
قليل، ومنه كيل يسير.
وهين، ومنه: (وذلك على الله يسير) .
واليسر ضد العُسر.
(يئس) ، من الأمر ييأس، أي انقطع رجاؤه، ومنه: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) ، و (إنه ليئوسٌ) .
وأما: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، فمعناه أفلم يعلم، وهي لغة هوازن، وقرئ: "أفلم تتَبَيّن".
(يستبشرون) :
يفرحون: والضمير عائد على قوم لوط لَما سمعوا بذكر الأضياف أسرعوا إليه فرحين ببغْيتهم ونكاية للوط عليه السلام، وكرره في آل عمران،، ليذكر له من النعمة والفضل.
(يَمِيزَ الخبيثَ مِنَ الطيّب) .
أي ما كان الله ليدعً المؤمنين مختلطين بالمنافقين، ولكنه مَيّز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غَزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدلُّ على الإيمان أو على النفاق،(3/374)
وما كان الله لِيطْلعكم على ما في القلوب من الإيمان أو النفاق، أو يطْلعكم على ألا تغلبون أو تُغْلبون.
(يَفْقَهون) :
يفهمون، ولذا سمي الفقيه فقيهاً.
وفي الحديث: " ما أعطي المرء أفضل من حسْنِ سَمْتٍ وفِقْهٍ في الدين ".
وانظر كيف عَبَّر عنهم تارة بالفهم، وتارة بالعقل، وتارة بالهداية، وعن الكفار بضِدِّها، وكلها ألفاظٌ بمعنى واحد.
(يَشْتَرون الضَّلالَة) :
عبارة عن إيثارهم الكفْرَ على الإيمان، فالشراء مجاز، كقوله تعالى: (اشْتَروا الضلالَة بالهدَى) .
وفي تكرار قوله: (وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيراً) - مبالغة.
(يَشْرونَ) : يبيعون، ومنه: (ومِنَ الناس مَنْ يَشرِي نَفْسَه) .
(يَسْتَنبِطُونَه منهم) ، أي من المسلمين.
والمعنى لو ترك هؤلاء القوم الكلامَ بذلك الأمْرِ الذي بلغهم وردّوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر منهم، فـ (مِن) على هذا لابتداءِ الغاية، وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر.
وقيل: إن الذين يستنبطونه هم أولو الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه - أنه سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه فدخل عليه، فقال: أطَلَّقْتَ نساءَك، قال: لا، فقام على باب
المسجد، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُطَقَق نساءه، فأنزل اللَّهُ هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته، فعلى هذا الذين يستنبطونه هم أولو الأمر.
والضمير المجرور عائد عليهم، ومنهم لبيان الجنس، واستنباطُهم على هذا هو سؤالهم عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالنظر والبَحث، واستنباطه على التأويل الأول هو سؤال الذين أذَاعوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأولي الأمر.
(يَألَمون) ، أي يصيبهم ألَمٌ منْ قتالكم، ومعناها(3/375)
التحريض على قتالهم، لأنهم يتألون من ملاَقاتكم، ومع ذلك فإنكم ترْجون إذا قاتلتموهم النصر في الدنيا والأجْرَ في الآخرة، وهذا كقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) .
(يتِيهُونَ في الأرض) .
أي في أرض التيه، وقد قدمنا أنها بين مصر والشام، وكانوا يسيرون النهارَ والليل، ويجدون أنفسهم في الموضع الذي ارتحلوا منه مساء وصباحاً عقوبةً لهم على ما صدر منهم.
(يَسْتَفْتونَك) .
أي يسألونكَ عن الحكم الشرعي على وَجْه النظر.
والمستفتي هو المستَخْبِر عن الحكْم الشرعي على غير وَجه النظر، فكلَّ
مستفتٍ مستخبر، وليس كل مستَخْبر مستفتياً، لأن السائل على وَجْه النظر
مستخبر، وليس بمستفتٍ في عُرف الفقهاء.
(يعْصِمُكَ من الناس) .
أي يحفظك، وفي هذا وعْدٌ وضمان لعصمةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان محترس من أعدائه، فلما نزلَتْ أخرج رَأسَه
من البيت الذي كان فيه، وقال: اذهبوا فقد عصمني الله، فكلّ ما أصيب به قبل نزول الآية، وأما بعد نزولها فلا، فالعصمة للأنبياء، - والحفظ للأولياء.
(يَا أهْلَ الكتابِ لسْتم على شيء) :
من فَضْلِ هذه الأمة المحمدية أنَّ اللهَ خاطبهم بالإيمان، وخاطب أهْلَ الكتاب بكتابهم، ففي الأولى جَمَعَ الله أوصافَ المؤمنين ونعوتهم ومعانيهم في هذا النداء، لأنه لم تَبْقَ حسنةٌ إلا دخلت تحته، وفي الثاني إهانة وتوبيخ، ألا ترى أنه قال لهم: (لَسْتم على شيء) ، أي على دين يُعتدُّ به حتى تقيموا التوراةَ والإنجيل، ومن إقامتها الإيمانُ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: (وما أنْزلَ إليكم) .
قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة، ورافع بن حريملة.
وسلام بن مشْكم، وغيرهم من اليهود، جاءوا إلى رسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك.(3/376)
(يَنْعِه) .
أي ينْضَج وَيطيب، والمعنى انظروا إلى ثمره أوّل ما يخرج ضعيفاً لا مَنْفَعة فيه، ثم ينقل من حال إلى حال حتى يَيْنع.
(يَقْترِفون) : يكتسبون.
(يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) :
أصله يتَصَعَّد، ومعناه أن مَنْ يريد اللَه ضلاله كأنما يحاول الصعود في السماء، وذلك غَيْر ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان.
وقرئ بالتخفيف.
وأما: (إلَيهِ يَصْعَدُ الْكلِمُ الطَّيِّب) - فمعناه لا إله إلا الله، واللفظُ يعمُّ كلَّ ذكْر ودعاء وتعليم علم، فإنَّ الله يقبله ويثيب عليه بفضله وكرمه، وهذا معنى قوله: (والعمَل الصالح يَرْفَعُه) .
وقيل: إن ضمير الفاعل للكَلِمِ الطيب، وضمير المفعول للعمل الصالح.
والمعنى على هذا أنه لا يقبل العملَ إلا مِنْ موحِّد.
وقيل: إن ضمير الفاعل للعمل الصالح وضمير المفعول للكم الطيب.
والمعنى على هذا أنَّ العمل الصالح هو الذي يقبل الكلام الطيب، فلا يقبل الكلام إلا مَنْ له عمل صالح.
روي هذا المعنى عن ابن عباس، واستبعده ابنُ عطية ولم يصحّ عنه، لأن اعتقادَ أهلِ السنة أنَّ اللهَ يتقبَّل مِنْ كل مسلم، قال: وقد يستقيم بأن يتناول أن يزيد في رفعه وحسن رفعه.
فإن قلت: آية قوله تعالى: (إنما يتَقبَّلُ اللَّهُ من المتقين) تدل على قول ابن عباس؟
والجواب: أنَّ معنى المتقين يعني الذين اتقوا الشركَ، لأن التقوى على
درجات، كما قدمناه مراراً.
فلا نطيل بذكره.
وقد قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
فلا السيئة تُبْطل الحسنة، ولا العكس، على هذا يكونُ اعتقادك لا على غيره.
(يَخوضونَ في آياتِنا) :
الضمير للكفار، وذلك أنهم كانوا(3/377)
إذا سمعوا القرآن طعنوا فيه واستهزءوا به، فأمَر اللهُ نبيه بالإعراض عنهم حتى
يحكمَ اللَّهُ فيهم بعدْله.
(يَغْنَوْا فيها) :
يقيموا فيها، أو ينزلوا مستغنين.
والمغاني: المنازل، واحدها مَغْنى.
(يذَرَك وَآلهَتَك) :
معطوف على، (ليفسدوا
) ، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو.
وقيل كان فرعون جعل للناس أصناماً يعبدونها، وجعل تفْسَه الإله الأكبر، ولذلك قال: (أنا رَبُّكم الأعلى) ، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام.
وقرأ عليٌّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس: إلاَهتك، أي عبادتك، والتذلل لكَ.
(يُسْتَضْعَفون) :
هم بنو إسرائيل استضعفوهم قوم فرعون، فجعلوهم خدماً يمتهنونهم في الخدمة ويُتْعبونهم في المناولة.
(يَعْرِشون) ، أي يبنون.
وقيل الكروم وشبهها.
(يَعْدون في السّبْتِ) .
يعني يتجاوزون حد الله فيهم باصطِيادهم الحوتَ.
(يَسْبِتونَ) ، يَدَعون العمل فيه.
وبضم الياء يدخلون في السبت.
(يَلْهَث) :
اللهث: تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثَر ما يَعْترِي ذلك الحيوانات مع الحَرِّ والتَّعَبِ، وهو حالة دائمة للكلب، ومَثل الله الذي انسلخ من آياته بالكلب، لأنه لا يعرفُ قَدْرَ اللؤلؤ والياقوت، بل يعرف الجِيفَ والقذرات الْمُنْتنة، وبلعام لم يعرف قَدْرَ ما أعطاه الله، فسُلب، وفي هذا من الإشارة لك يا محمدي ما يُذْهِل العقول في كونك أكرمك الله بآياته، وفضَّلك على كثير من مخلوقاته، فأعرضْتَ عنها، واشتغلت بالجيفة النتنة الذي قال فيها الصادق الصدوق: " الدنيا جيفة وطلابها كلاب ".(3/378)
وإن أعرضت عنها في بعض أوقاتك فما أسرع نَكْث العهد في رجوعك
إليها، أما سمعتَ قول الصادق المصدوق: نحن أمةٌ ليس لنا مثل السوء
" الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ".
فافهم إن كنت ذا فَهْم، والسلام.
ووَجْهُ تشبيه ذلك الرجل به أنه إنْ وعظْتَه فهو ضالّ، وإن لم تَعظْه فهو
ضالّ، فضلاَلَتُه على كل حال، كما أن لهث الكلب على كل حال.
وقيل: إن ذلك الرجل خرج لسانُه على صدره، فصار مِثْلَ الكلب في صورته ولهثه حقيقة، وهذه حالُنا لولا أنْ مَنّ الله علينا بني عظيم يشفع فينا لكنّا أعظم من هذا، وكيف لا وفِعْلُنا أعظم، وجرائمنا أجسم، لكن سيئات المحبوب حسنات، اللهم كما سترتها علينا بجاهه عندك اسْتُرْها علينا في الآخرة.
(يَمْشُونَ بِهَا) :
أخبر اللهُ بهذه الآية عن اعتراف المشركين أنَّ أصنامَهم لا تمشي ولا تَبْطش ولا تسمع ولا تُبْصر، فقال لهم: كيف تعبدونها، وبين بها كفرهم وإعراضهم عن عبادة المتصف بالسمع والبصر والقدرة والإرادة، فتعالى الله الملك الحقَّ لا إله إلا هو.
(يَتَولى الصَّالِحين) ، في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم.
ومَنْ كان لله كان الله له، ومَنْ راقب يراقب، ومَنْ غفل غفل عنه.
أنْتَ تريد وهو يريد، فإنْ تركتَ مرادَك لمراده أنَالَكَ ما تريد، كيف تطلب خرق العوائد وأنتَ لم تخرق من نفسك العوائِد.
(يَنْزَغَنَّك من الشيطان نَزْغٌ) :
قد قدمنا أن الخطاب بهذا لأمته، إذ الإجماعُ على عصمته، ونَزْغ الشيطان: وَسْوسته، والأمر بالمعاصي، وتحريك الغضب، وفي هذا من التعليم لأمته بوجوده - صلى الله عليه وسلم - ما يعجزُ اللسان عن شكره، وكيف لا وقد بَين لنا - صلى الله عليه وسلم - كيفيَة الفعل إذا اعْتَرَانا هذا
اللعين بقوله: إن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالسا فليضطجع، ويستعيذ بالله من شره.
وفي حديث آخر لما رأى رجلا اشتدّ غَضَبه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يَجِد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".(3/379)
وقد وَفّق اللهُ بعْض هذه الأمة لكظْم الغيظ، وعَفْوهم عمن ظلمهم، لو ذكرنا ذلك لطال ذكرهم، كالذي كان يناول طعاما لسيده فعثر ووقعَت الصحْفَة من يده، فقتل ابْنَ سيده، فدهش، فقال له السيد: لا رَوْع عليك! فقال الغلام: (والكاظِمين الغَيظَ) .
قال: قد كظَمْتُه.
فقال الغلام: (والْعَافِين عن الناس) .
فقال: قد عفوت.
قال الغلام: (والله يحبُّ الْمُحْسنين) ، فقال: قد أحسنتُ إليك.
اذهب فقد زوَّجتك ابنتي.
وآخر دخل على فرسه الذي كان يركبه، فوجده على ثلاث قوائم، فقال:
مَنْ فعل هذا، فقال له الغلام: أنا.
قال: ما الذي حملكَ على ذلك، قال: أردت أن أغمَّك.
فقال: لأغمنَّ الذي أمركَ بذلك.
اذهب فأنْتَ حُرٌّ لوجه الله.
هكذا فلتكن حالُك إن أردْتَ اللحوقَ بهم، وإلا ظنَّ مباينَة حالك لحالهم.
هؤلاء يملأ اللهُ قبورهم نوراً، كما ملأها في الدنيا إيماناً، وأما نحن فلا ندري ما نصير إليه لا نحن فيه من غَلبة النفس والهوى والشيطان.
(يَمُدُّونَهم في الْغَيِّ ثم لا يُقْصِرُون) :
قرئ بضم الياء وفتحها، ومعناها لا يقصر الشيطان على إمداد إخوانهم من الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم.
(يَسْألُونَكَ عن الأنفال) :
يعني أن الصحابة يوم بَدْر كانوا على ثلاث فرق: فرقة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تَحْرسُه وتُؤْنسه، وفرقة تبعت المشركين تقاتلهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدوّ وعسكره لما انهزموا، فلما انجلت الحرْبُ
ونَصرَ الله نبيه رأت كلّ فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، واختلفوا فيما بينهم، فنزلت الآية: إن الأنفال، وهي الغنيمة، للهِ ورسوله.
وقيل الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه، فأعطاهم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ما غنموا وقَسمها بينهم، وفي بعض الغزوات قال لهم: لي معكم الخُمس، وهو مردود عليكم لزُهْدِه - صلى الله عليه وسلم - وإيثارِه الصحابة عليه.
وقد اختلف الفقهاء:(3/380)
هل يكون هذا النفل الذي يعطيه الإمام من الخمس، وهو قول مالك، أو من
الأربعة أخماس، أو من رأس الغنيمة قَبْل إخراج الخمس.
(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءَ وقَلْبِه) :
قيل يُميته.
وقيل يصرفُ قَلْبَه حيث شاء، فينقلب من الإيمان إلى الكفر، وشبه ذلك، ولذلك كان المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل صباح ومساء: اللهم يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك.
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يتقلَّب ويدعو لأمته ويسأله ثَباتهم.
وفي الحديث: القلبُ بين أصبعين من أصابع الرحمن يقَلّبه كيف يشاء، يعني أصابع القدرة والإرادة لا أصابع الجارحة.
وقيل لبعضهم: بِمَ عرفْتَ ربَّك، قال: بنقض العزائِم، عزمت
فنقض عَزْمي، وهممت فنقض همي، فعلمت أنَّ لي ربًّا يدَبِّر أمري.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) :
نور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث في قلوب
الناس، فمن حيث سمَّاه نُوراً سمّى محاولة إفساده والصدّ في وجهه إطفاء.
وقالت فرقة: النور القرآن.
وقوله: (بِأَفْوَاهِهِمْ) عبارة عن قلّةِ حيلتهم وضَعْفها، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومةَ أمر جسيم بعمل ضعيف، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه.
ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فَهْم
سامع.
وقوله: (ويأبى) إيجاب يقَعُ بعده أحياناً (إلاَّ) ، وذلك لوقوعه هو
موقع الفعل المنفي، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أنْ يُتِمَّ نورَه.
وقال الفراء: هو إيجاب فيه ضرب من النفي.
وردَّ الزجاج على هذه العبارة، وبيانُه ما قلناه.
فإن قلت: ما حكمةُ زيادة آية براءة على آية الصفِّ، واختلاف العبارتين؟
والجواب: ناسب زيادة براءة ما ورد من الطول المحكي فيها من قَوْل
الطائفتين من اليهود والنصارى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) .
وأما آيةُ الصف فمقابل بها قول عيسى عليه السلام: (يا بني إسرائيل إنِّي رسولُ الله إليكم مُصَدِّقاً) ، ثم قال تعالى: (فلما جاءهم بالبيِّناتِ قالوا هذا سِحْرٌ مبين) ، وليس هذا(3/381)
في الطول وعِدَّة الكلم كالمحكي في سورة براءة، ألا ترى أنَّ الواقع في براءة ست كلمات، وفي الصف ثلاث كلمات، والقائِل طائفةٌ واحدة.
وهذا مراعى.
(يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) :
ضمير الجماعة يعود على المنافقين الذين يحلفون: (لو استَطَعْنَا لخَرَجْنَا معكم) ، فأخبر الله رسولَه بكذبهم، وأنهم كانوا يستطيعون الخروج، ولكن تركوه كفرا ونفاقاً، وهذا كلّه في الجملة لا بتعيّن شخص، ولو عُيِّن لقُتِل بالشرع.
وانظر كيف عَبَّر هنا بالعلم بخلاف الآية بعدها.
وفي الحشر والمنافقين لأنَّ الاستطاعةَ وعدمها حكم لا يطَّلع عليه في الغالب، بل ينفرد كلّ بحاله في ذلك، إلا أنْ يعلم ذلك بقرينة، فقول المنافقين في إخبار الله تعالى عنهم: (لو استَطَعْنَا لخرَجْنَا معكم) ، غير مشاهد من ظاهرهم، فقد كان يمكن صدقهم أو صدق بعضهم لوْلا أنّه سبحانه أعلم بحالهم، فناسب التعين بالعلم.
(يَرْكُمَهُ جميعاً) .
أى يضمّه ويجعل بعضه فوق بعض.
(يوم يُحْمَى عليها) :
الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير (ينفقونها) ، والعامل في الظرف (ألِيم) ، أو محذوف.
فانظر ما أوعد الله للمُمْسك مالَه ولا ينفقه.
وقد أخبرنا اللهُ بعذابه في آياتٍ من كتابه كقوله تعالى: (وَيْل لكلِّ هُمَزَةٍ لمَزَةٍ) .
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) ... إلى قوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) .
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) .
(كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى) .
وأكرم الله الْمُنْفق بخمس كرامات:
جعل الصدقَة تقَعُ في يده قبل وقوعها في يد السَّائل، فيربيها له كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وتكون وقايته من المكاره، كما صحَّ أن الصدقة
لتدفع سبعين باباً من السوء، يعني في الدنيا والآخرة، لقوله عليه السلام: دَاوُوا مرضاكم بالصدقة.
وتحرس المال، للحديث: " حَصِّنُوا أموالكم بالزكاة ".(3/382)
وتطهره لقوله سبحانه: (خُذْ من أمْوالِهم صدَقَة تطهِّرُهم وتُزَكيهم) .
هذا مع ما فيها من الخلف والبركة، والكلام عليها طويل جداً.
(يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) .
أي تارة يحلون وتارة يحرمون ولم يُرِد العامَ حقيقة، إذ كانت أحوالُهُم مختلفة.
(يُهْلِكون أنْفسهم) :
الضمير يعود على المنافقين، لأنهم كانوا يستعذرون بالأعذار الكاذبة والأيمان الباطلة.
(يَفْرَقونَ) :
من الفَرق وهو الخوف.
(يَجِدُون مَلْجَا) .
أي يلجئون إلى موضع من المواضع التي تمنعهم من رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
(يَكْنِزُونَ الذّهَبَ والفِضَّةَ) .
ورد في الحديث: " كل ما أدِّيت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤدَّ زكاته فهو كنز ".
وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد: كلّ ما فضَلَ عن حاجةِ الإنسان فهو كنز.
وقوله هذا أفضى به إلى الخروج من الشام ومن المدينة حتى لحق بالرَّبذة، فمات بها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
" من أراد أن ينظر إلى زُهد عيسى فلينظر إلى أبي ذَر رضي الله عنه ".
(يضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كفرُوا من قَبْل) ، أى يشابهون.
فإنْ كان الضمير لليهود والنصارى فالإشارة بقوله: (الذين كفروا من قَبْل)
للمشركين من العرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر.
وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون.
(يَلْمِزكَ في الصّدقَاتِ) .
أي يَعِيبك على قسمتها، وذلك أنَّ المنافقين كانوا يقولون: يعْطِي مَنْ أحبَّ من أصحابه، ويمنعنا.
وقيل هي في الذي قال: اعدل يا محمد، فإنكَ لم تعدل.
(يُؤْمِنُ بالله ويؤْمِن للمؤمنين) .
هذا من أوصافه - صلى الله عليه وسلم -(3/383)
يقال: أمنت لك إذا صدقتك، ولذلك تعدَّى هذا الفعل بإلى، وتعدّى يؤمن
بالله بالباء.
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) :
الضمير في (عَلَيْهِمْ) و (تُنَبِّئُهُمْ) و (قُلُوبِهِمْ) عائد على المنافقين، يعني أنهم كانوا يخافون أن ينزَّل في شأنهم سورةٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم -) تُخْبره بما في ضمائرهم من النقص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، وذلك على جهة الاستهزاء والسخرية.
وقال الزمخشري: إن الضمائر في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، والأول أظهر.
(فإنْ يتُوبوا يكُ خَيْرًا لهم) :
فتح الله في هذه الآية بابَ التوبة للمنافقين، فتاب منهم الجُلاَس.
وحَسُنَ إسلامه بفَضْل الله عليه.
(يسْخَرُون منهم) :
الضمير للمنافقين، وذلك أنهم كانوا يستخفُّون بالمسلمين الذين يتصدَّقون بما يجدون ويقولون: إن الله كنيّ عن صدقةِ هذا.
(يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) :
يعني أنهم كانوا يؤذون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: إنه يسمعُ فيهم أصحابه إذا أخبروه بعداوتهم لهم.
فردَّ الله بقوله: (قل أُذُنُ خَيْرٍ لكم) ، لأنه يصفح عنكم ولا يؤاخذكم بأقوالكم، ولو لم يسمع فيكم لأستأصلكم.
وقد كان بعض الصحابة يستأذن في قَتْل بعضهم، فيقول: أو يتحدث أنَّ محمداً يقتلُ أصحابه.
(يَقْبِضُونَ أيديهم) :
كناية عن بخْلهم وعدم إنفاقهم، في، طاعةِ الله ورسوله.
(يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) .
أي يُمْتَحنون بالأمراض والجوع.
وقيل بالأمر بالجهاد.
واختار ابنُ عطية أن يكون المعنى: يفضحون بما يكشف من سَرَائرهم.(3/384)
(يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) :
كان سبب خوفهم أنْ ينقل عنهم كذبُهم، فكان ينظر بعضُهم إلى بعض، ويقول: إياكم أن يُنْقَل عنكم هذا الاستخفَافُ.
وقيل: كان ينظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجّب ومِمَّا ينزل
في القرآن مِنْ كشْف أسرارهم.
(ويهْدي مَنْ يشاء) .
قد قدمنا أنَّ الله تعالى عَمَّ الدعوة وخَصَّ الهداية، إذ ما كلُّ مدعوّ داخلٌ، ولا كل مُضِل مقيم، واحد قاعد عند الباب ينتظر الدخول ولم يدخل، وآخر وجد الباب مفتوحاً فدخل.
(يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : في هذه الآية احتجاج على الكفار
بأنَّ شركاءهم لا يقدرون على بدء الخَلْق ولا عَوْده.
فإن قلت: كيف يحتجّ عليهم بإعادة الخَلْق وهم غير معترفين به؟
فالجواب أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على
الإعادة، ففي ذلك إبطال لهم ولربوبيّتهم، فوضعت الإعادة عليه موضع المتفق عليه لوضوح برْهانها.
(يَهِدِّي) .
بتشديد الدال: معناه لا يهتدي في نفسه، فكيف يهدي غيره.
وقرئ بالتخفيف بمعنى يهدي غيره.
والقراءةُ الأولى أبْلَغ في الاحتجاج.
(يَأتهم تأويلُه) :
الوعيد الذي في القرآن لهم.
(يلبثوا إلا ساعة من النهَار) :
تقليل لمدة بقائهم في الدنيا أو في القبور.
(يتعارَفُون بينهم) :
يعني يوم الحشر، فهو على هذا حالٌ من الضمير في (يلبثوا) .
(يستَنْبِئُونك) .
أي يسألونك عن الوعيد والدين والشرع:(3/385)
أحق هو، فأمره الله بأن يقول: (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) .
(يرْهَق) : يغشى.
(يوم القيامة) ، ظرف منصوب بالظرف.
والمعنى أي شيء يظنون أن يُفعل بهم في ذلك اليوم.
(يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) ، أي لا يغيب عن علم الله مثقَال ذرة.
وقد قدمنا أن الذرة صغار النمل أو بيضها.
فإن قلت: ما فائدة تقديم الأرض على السماء في آية يونس بخلاف سبأ؟
والجواب لأن الشهادة على أهل الأرض، وقُدمت السماء في سبأ لأنَّ حقَّها
التقديم، لأنها مصعد الأمر، ومحلّ العلو، ومسكن الملائكة، وهي مشاهدة لهم، ومستقبل الداعين، ومنها ينزل الأمر، ورزق العباد، وفيها الخزَنَة من الملائِكة، وإليها يُصعد بأرواح المؤمنين، وتعرج الملائكة السياحون في الأرض المسؤولون عن أعمال العباد، فكان العلمُ بما فيها أجلى وأظهر، وكان العلم بما في الأرض أخفى، وهذا بالنظر إلينا، وبحسب متعارَفِ أحوالنا، وإلا فعِلْم بارئنا سبحانه بما في الأرض وما في السماء على حدٍّ سواء، كما أن علمه بالسر والجهر مستوٍ: (سواءٌ منكم مَنْ أسَرَّ القوْلَ ومَنْ جَهَر به) .
(يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق والنعم والخيرات.
وقيل: هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائِه، لأن الكافر يمتَّعُ في الدنيا بالأرزاق، والضمير في " فَضْله " يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذِي فَضل.
(يثْنُون صدُورَهم ليستَخْفوا منه ألاَ حين) .(3/386)
الضمير للكفار، وذلك أنهم كانوا إذا لقيهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يردون إليه ظهورهم لئلا يَرونه من شدة البغض والعداوة.
والضمير في " منه " على هذا يعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن ذلك عبارة على ما تنْطَوِي عليه صدورهم من البُغْض
والغل.
وقيل: هو عبارة عن إعراضهم، لأن من أعرض عن شيء أتى عليه
الخوف.
والضمير في (منه) على هذا يعود على الله تعالى، أي يريدون أن
يستخفوا على الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ما في قلوبهم.
(يستَغْشُونَ ثيابَهم) .
أي يجعلونها أغشية وأغطية، كراهةً لاستماع القرآن.
والعاملُ في (حين) (يعْلَم ما يُسِرّونَ وما يعلنون) .
وقيل: المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابَهم، فيوقف عليه على
(هذا) ، ويكون (يعلم) استئنافاً.
(يكونوا مُعْجزين) ، أي مُفْلتين.
(يضاعف لهم العَذَابُ) :
إخبار عن تشديد عذابهم، وليس بصفة لأولياء.
(يَئُوس) :
فعول، من يئستُ، وأخبر الله في هذه الآية أن الإنسان يقْنَط عند الشدائد، ويفخر ويتكبَّر عند النعم.
(يُجَادِلنا في قَوْم لوط) :
معنى جدال إبراهيم مع الملائِكة في رَفْع العذاب عن قوم لَوط، لأن الله وصفه بالحلم والرحمة.
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) :
الضمير للجدال.
أمره الله أن يسكتَ عنهم، لأن القضاء نفذ بعذابهم.
(يقْدُمُ قومَه يَوْمَ القيامة) :
الضمير لفرعون، يعني أنه يتقدمهم إلي النار، وقد قدمنا أنَّ كل طائِفة تتبعُ ما كانت تعبد، ويعقد لكل صاحب خصلة لواء فيتبعونه مَنْ كان يفعل فِعْلَه في الدنيا.
(يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ، أي يحضره(3/387)
الأوّلون والآخرون، ويجمعون الحسنات والثواب والعقاب، وإنما عَبَّر باسْمِ
المفعول دون الفعل ليدلَّ على ثبوت الجمع ذلك اليوم، لأن لفْظ مجموع من لفظ يجمع.
(يوم يأت) :
العامل في الظرف (لا تَكلَّم) أو مضمر، وفاعل (يَأتِ) ضمير يعود على يوم (مشهود) .
وقال الزمخشري: يعود على الله تعالى كقوله: (أو يأتي رَبُّك) .
ويعضده عَوْد الضمير عليه في قوله، (بإذنه) .
(يا أبَتِ) ، أي يا أبي، والتاء للمبالغة، وقيل للتأنيث.
وكُسرت دلالة على ياء المتكلم، والتاء عوض من ياء المتكلم.
ودَعَا يوسف أباه باسم الأبوة ولم يدْعه باسمه، لأن مَنْ دعا أباه باسمه غلط، فكيف بمن جفاه.
وقد أمرك الله أنْ تعاملَ أباك بمعاملتك مع الرسول، قال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) .
وقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وهو كان أباك في
الدين، وكذلك علمك مع أبي النسب، كما علمك العاملة مع أبي الدين.
ويوسف قال: يا أبت - اقتدى فيه بجده إبراهيم، لأنه دعا أباه الكافر باسم الأبوة، والله تعالى أعطاك أبوين مؤمنين، أنت أولى بتحليتهما، فإن الله تعالى أعطى خليله وحبيبه أبوين كافرين، وكان يتحلاَّهما وأنْتَ يا عَبْدَ الله تلحق بأبويك وتدخل معهما الفردوس الأعلى، قال تعالى: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) .
(يَخْل لكم وَجْه أبيكم) :
إخوة يوسف طلبوا ألاَّ يشاركهم أحد في محبته لهم وإقباله عليهم، فلما رأوه مال إلى يوسف دونهم وصلتهم الغيرة، والحبيب يغير على حبيبه، وأنْتَ يا عبد الله إن طلبت الخَلْوَة مع غير مولاك تضيق عليك المسالك، لأنه سبحانه غيور لا يطلع على عبده، فيجد فيه غيرة.
قال تعالى: إن طلبتني أخدمتك المكونات، وإن طلبت غيري أعوزتها عليك، ولا يكون لكَ إلا ما أريد.(3/388)
(يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) :
السيارة جمع.
وهم القوم الذين يسيرون في الأرض للتجارة وغيرها، ومنه قولهم: لقيته التقاطاً ووردت الماء التقاطا: إذا لم ترده.
(يعْصِرون) .
أي يعصرون الزيتون والعِنَب والسمسم وغير ذلك مما يعْصر.
(يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) :
خاف يعقوب على أولاده من العين إن دخلوا مجتمعين، إذ كانوا أهْل جَمَال وهيْبة، ويؤخذ من هذا الحذر، والحذَر لا يغني من القدر، ولكن الله أمر بالتحرز مما يخاف منه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن كَيِّس حذر ".
وفي رواية: " الحزْم سوء الظن ".
(يدَبِّر الأمْرَ يفَصِّل الآياتِ) :
يعني أمر الملكوت وآيات كتبه.
(يغْشِي الليلَ النَّهارَ) .
أى يلبسه فيصير له كالغشاء، فيصير أسود مظلماً، كما كان أبيض مشرقاً.
والأَول فاعل في المعنى، وهو على إضمار فِعْل، أي ويغشي النهار الليل.
ويحتمل أنْ يراد في الآية الزمان الذي بين الفجر وطلوع الشمس على القول بأنه من النهار، فهو إشارة إلى أن الليل يخالط النهار في ذلك الزمان، ولذلك اختلفوا هل من الليل أو من النهار أو قسم ثالث قائم بنفسه، فقيل الكلام في ذلك الزمان باعتبار الشرع، وفي الآية باعتبار اللغة.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ) :
قد قدمنا تسبيحَ الرعد وأنه يسبح الرعد من خيفته بحمده، والملائكة
بحمده من خيفته، والصواعق النازلة من السماء عذاباً لله شعلة يصيب بها من يشاء من عباده وخَلْقه.
(يُريكم البَرْقَ خَوْفاً وطَمعاً) .
نسب الرؤيَة للبرق والإنشاء(3/389)
للسحاب، لأن الأشياء المرئية أسهلها على البصر السواد والخضرة، وأصعبُها البياض الساطع، فنحن نعجز عن مداوَمَةِ النظر إليه.
وانظر قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَا) .
وأما السحاب فجِرْم يقبل حدًّا.
فالنعمة التي فيه هي إبرازهُ من العدم إلى الوجود.
وخوفاً وطمعا حالان، ويحتمل أن يكونا مفعولاً من أجلهما، إذْ ليسا عنده فعلين لفاعل الفعل المعلّل في أن الله لم يخلق الشر ولا أراده، ونحن نجيز ذلك، ونقول: أراده وخلق في قلوب بَعضِنا الخوفَ منه، وفي قلوب آخرين الطمعَ فيه، والفَرْقُ بين إرادة الخوف وبين الخوف أنكَ تريد من زيد أن يخاف منك ولا تقدر على إيقاع ذلك به.
الزمخشري: يخاف المطر مَنْ يضرّه كالمسافر، ومن في جَرِينه التمر والزَّبيب، ومَن له بيت يقطر عليه، ومن البلاد من يتضررُ أهلُها بالمطر كأهْل مصر، فإنه يفسد عليهم أبنيتهم ونزولُ المطر فيها قليل جداً.
(يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) .
انظر هل تارك الصلاة مستجيب لنُطْقِه بالشهادتين والظاهرُ أنه مستجيب
بالشهادتين فقط لا مطلقاً.
(يَسْتَحِبّون الحياةَ الدنيا) .
أي يختارونها على الآخرة.
والضمير عائد على الكفار، ومَنْ تشبَّه بهم في فعلهم يخاف عليه من اللحوق بهم في حبّه للدنيا وتفضيلها على الآخرة.
(يتَجَرَّعه ولا يَكاد يُسِيغُه) :
الضمير يعود على مَنْ أُدخل النار، يعني أنه يتكلف جرعه، وتصعبُ عليه إساغته، يعني بَلْعه، ونَفْي (كاد) يقتضي وقوعَ الإساغة بعد جهد.
(يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) :
قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان.
وفي هذه الآية دليل على تحريم القُنوط، ووصف القانط في
هذه الآية بالضلال، وفي سورة يوسف بالكفر، وكلاها بمعنى واحد، لأن سببه(3/390)
تكذيب الربوبية، وجهل بصفات الله وقدرته، وماذا يزيد في ملكه أو ينقص
تعذيب الخلق كلّهم أو رحمتهم.
(يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) :
المقصود بهذه الآية الاعتبار والنظر، ولذلك ابتدأها بقوله تعالى: (أولَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ الله من شيء) .
والرؤية بصرية بسبب تعديها بإلى، كما قال تعالى: (أفَلاَ ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) ، والإنكاز ليس هو لنفس الرؤية، بل للازمها.
وانظر هل وقع التوقيف بمجموع تفيّؤ الظلال وكونها سجداً لله، أو بكونها سجداً لله فقط، وهل قوله: يتفيّأ ظلاله حال أو صفة، ونظيره
قولك: ألم آتكَ بزيد العالم راكباً، وقوله: ألم آتك بزيد عالما راكباً.
والصواب الأول، لأن نفيها أمر حسّي مشاهد، وكونها سجداً للهِ لا يدْرَك بالمشاهدة، بل بالدليل العقلي.
وعلى هذا التأويل تكون الآية حجة لمن يقول: إنَّ العرض لا وجود له.
والمشهور عند المتكلمين أنه أمر وجودى، حكى القولين المقترح.
ووجة الدليل أنَّ الآية دلّت على أنَّ كل شيء مخلوق لله تعالى، وأن ظله
متفيّأ ساجد للهِ تعالى، والتفيّؤ من صفات الأجرام والذوات، والعَرض ليس
بذات، فليس بمخلوق للَه تعالى، وهذا كفْر، وإذا جعلنا يتفيأ صفة لشيء يكون المعنى أن كلَّ شيء موصوفٌ بالتفيؤ، فهو مخلوق للهِ، فأنكر عليهم عدمَ الاعتبار به حالَ سجوده، وقوله يتفيأ، أي يرجع إلى اليمين، أي يريد يمين الناظر إليه لأن الناظر إلى الظل أو النهار ينظر إلى جهةِ القبلة، حيث محلّ طلوع الشمس، فيكون الظلّ حينئذ عن يمينه، فلذلك بدأ باليمين، فالظلّ يرجع عن جهة اليمين إلى جهة الشمال، لأن " عن " تقتضي المجاوزة، فالمراد مجاوزَتُه جهةَ اليمين إلى جهة الشمال، والعكس.
فإن قلت: لم أفرد اليمين وجمع الشمال؟
فالجواب: بوجهين:
الأول أنَّ الظلّ حالة كونه عن يمين الناظر، وذلك أول النهار، يَأخذ في النقص، فكانت له جهة واحدة نقص عنها، وفي آخر النهار(3/391)
يأخذ في الزيادة إلى الشمال والجهة التي طال ظلّه إليها لم تكن له قبل ذلك، وكلما زاد بعد إلى جهة يسار الناظر، فكأنّ تلك الزيادة بتكثرها واختلافها شمائل، بخلاف أول النهار فإنه لم يزدْ، بل نقص عن حدِّه الذي كان، فصار كأنه بعْض اليمين، فضلاً عن أن يكون أيمان.
الوجه الثاني أنَّ اليمين مأخوذ من اليمن، وذلك راجع إلى طريق الحق.
والشمال راجع إلى طريق الباطل بدليل قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) .
(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) .
وطريق الحقّ واحدةٌ وطرقُ الباطل متعددة، والآية دالَّةٌ على كمال التوحيد
لله عزّ وجل، لأن مذهبنا أنَّ الأعراضَ لا تبقى زمانين، فما مِنْ جوهر إلا وهو مفتقرٌ في كلّ زمن إلى أعراض يستمد بها، ولا بد لذلك مِنْ فاعل، ولا يصح تعدّد ذلك الفاعل لما تقرَّرَ في دلالة المانع.
فإن قلْتَ: هلا قيل: أولم يَرَوْا إلى ما خلق من شيء - فقط، ويكفي هذا في
الاعتبار، فإنَّ العبرةَ بالتفكر بالنظر إلى لقاح الشجرة التي في رؤية العين: عود يابس، وبروزُ الثمر منها والورق أقوى من العبرة بالنظر إلى ظلالها؟
والجواب: أنَّ الظلال إنما تنشأ عن ملاقاة نور جرم الشمس جرم الشجر
الكثيف المظلم.
ومذهبنا أنَّ الأجسامَ متساويةٌ في الحد والحقيقة، فلا فَرْقَ بين الشمس
والشجرة، فحجبت الشجرة بكثافتها وظلمتها نورَ الشمس، وما ذاكَ إلا
لتخصيص أوْجبه الله تعالى.
ولا بدّ لذلك من مخصِّص، ويستحيل تعدّده، فدلّ ذلك على أنه واحد.
قال الزمخشري: والسجود هنا الانقياد، وجعله متَنَاوِلاً للعاقل وغيره، لأنه
قال: أي يرجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما
سخرَها له من التفيؤ، والأجرام في نفسها صاغرةٌ منقادة لأفعال الله فيها،(3/392)
وهذا مما يردّ به على من قال: إن صيغة أفعل للقَدْرِ المشترك بين الوجوب
والندب.
ويقول: إن القَدْرَ المشترك لا وجودَ له في كلام العرب، مع أن
الزمخشري أثبته هنا، واستعار هنا الأيمان والشمائل لأنهما في الحقيقة للإنسان.
(يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) :
المعنى يريد وينظر هل يمسك الأنثى التي بشتر بها على هوَانِ وذل، أو يدفنها في التراب حيَّة، وهي الموءودة المذكورة في: (إذا الشَّمسُ كورت) .
(يَجْحَدونَ) :
يعني أن هؤلاء الكفار ينْكرون نعَم اللَهِ عليهم في جَعْلهم أزواجاً من أنفسهم زيادة في لذاتهم، وجعل للأنثى ما للذكر من الشهوة، ليكملَ مرادهم، ورزقهم من الطيبات، فهل ينْكِر هذا إلا مَنْ طبع على قلبه، لأنه يشاهدها.
فإن قلت: لم جمعت حواء في قوله تعالى: (والله جعل لكم مِنْ أنفسكم
أَزواجاً) ؟
والجواب اعتباراً بنسلها، وأطلق عليهم أزواجاً مجازاً، استعمالاً للفظ في
حقيقته ومجازه.
(يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) .
يعني السماوات والأرض والجبال.
وقيل: بل أحال فكرتهم على ما هو كبير عندهم، أي لو كنتم حجارةً أو حديداً أو شيئاً أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقَدَرْنَا على بعثكم.
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) :
الدعاء هنا عبارة عن النَّفْخ في الصور للبعث، والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين.
و (بِحَمْدِهِ) في موضع الحال، أي حامدين له.
وقيل معنى (بِحَمْدِهِ) أي بأمره.
(ينْقَضَّ) : وزنه ينفعل.
وقيل يفعل بالتشديد كيَحْمَرّ.(3/393)
ومعناه يسقط، وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز.
ومثل ذلك كثير في كلام العرب، وحقيقته أنه قارب أنْ ينقضَّ.
(يَظْهَرُوه) :
الضمير يعود على السد، ومعناه يعلوه.
(يَفْرُط) : يُعَجّل بالشر.
(يُخَيَّلُ إليه مِنْ سِحْرِهم أنها تَسْعَى) :
استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ السِّحْر تَخْييل لا حقيقة.
وقال بعضهم: إن حِيَل السحرة في سعْي الحبال والعصيّ هي أنها حشَوْها بالزئبق، وأوقدوا تحتها ناراً، وغطوا النارَ لئلا يراها الناس، ثم وضعوا عليها الحبال والعصيَّ.
وقيل جعلوها معرضة للشمس، فلما أحس الزئبق بحرِّ النار أو الشمس سالَ وهو في حَشْو الحبال والعصي فحملها، فيخيّل للناس أنّها تمشي.
فألقى موسى عصاه فصارت ثعباناً ابتلعت ذلك كلَّه.
(يَبَسًا) .
أي يابساً، وهو مصدر وُصِفَ به، وإنما كان يابساً ليستطيعوا المرور عليه ويسرعوا فيه، فيذهب روعهم مِنْ لحوقِ فرعون لهم.
وأعظمُ من ذلك أنَّ الله فتح لهم في البحر طاقاتٍ ليرى مَنْ في هذا الطريق من
في هذا، فيتأنّسونَ لأنها كانت اثني عشر طريقاً، فسبحان مَنْ لا يُعْجزه شيء.
(يَتَخَافَتُون بَيْنَهم إن لبثْتم إلاَّ عَشْراً) :
يعني عشر ليال.
والضمير يعود على أهل القيامة فيسِرّ بعضُهم إلى بعض، ويقول: هل لبثتم إلا يوماً.
وقيل: يعني الْمُكْثَ في القبور.
والذي قال: إن لبثْتُم إلا يوماً أعلمهم بقلةِ الْمكْثِ فيها.
وفي الحقيقة فالدنيا والْمكْث في القبور كلَمْحِ البصر أو هو أقرب، ولذلك يقول تعالى في آية أخرى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) .
فإنّا للَه وإنا إليه راجعون على غَفْلتنا على ما يُراد بنا.
الدنيا كلها ساعة، وليس لك منها إلا النَّفَس الذي أنْتَ
فيه ة إذ كم مَنْ تنفَّس نَفساً فَفَجَأَة الموت قل النفس الآخر.
وسيظهر لك تحقيق ذلك إذا انْجَلَى الغبار.(3/394)
(يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) .
أي يجعل الجبالَ كالغبار ثم يفرقها.
(يَمّ) :
قد قدمنا أنَّ المرادَ به البَحْر بالسريانية.
وقال ابن الجوزي بالعبرانية.
وقال شيذلة بالقِبطية.
(يرْكضون) :
الضمير يعود على الكفار، والمعنى أنهم يوم القيامة يَرْكضُون على أرجلهم تشبيهاً لهم بمَنْ يركض الدابّة.
فإن قلت: قد قدمتم أنهم يحشَرون على وجوههم؟
فالجواب أنَّ الملائِكة تسوقُهم بعصيٍّ من نار، فإذا رأوهم قاموا على أقدامهم
يركضون فراراً منهم، فتقول لهم الملائكة على وَجْه التهكم: لا تركضوا اليوم.
(يَدْمَغُه) .
أي يَقْمَعه ويبطله.
وأصله من إصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل.
(ينْشِرون) :
يعني أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أَنْ يَنْشروا الموتى من الأرض، فكيف تدعونها بالآلهة.
والإله مَنْ له القدرة على الإحياء والإماتة.
(يَغوصونَ) :
يعني أن الشياطين كانت تدخل في الماء لاستخراج الجَوهر من البحار.
(يَنْسِلون) :
أي يسرعون.
ويقال مر الذئب ينسل ويعسل.
والضمير ليأجوج ومأجوج، أي يخرجون في كل طريق لكثرتهم.
وقيل لجميع الناس.
(يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) .
أي يُذَاب، وذلك أنَّ الحمِيمَ إذا صبَّ على رؤوسهم وصَلَ حَرّه إلى بطونهم، فأذاب ما فيها.
وقيل: معنى (يُصْهَرُ) ينضج بلسان أهل المغرب، حكاه شيذلة.(3/395)
(يوْمٍ عَقِيم) :
يعني يوم بَدْر، لأنهم كانوا يظنون استئصالَ المسلمين، لأن الله قلّلهم في أعين الكفار.
وقد حضر فيها صنادِيد المشركين وشجْعانهم فأمكن الله منهم المسلمين، وكان يوماً عظيما، لأنها كانت أول غزوة أرعب الله بها الكفار وأرغمهم.
(يكادون يَسْطون) :
من السطوة، وهي سرعة البَطْش.
والضمير يعود على الذين كفروا.
ويُعْرَف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها.
(يجْأرون) .
أي يستغيثون ويصيحون.
والضمير راجع على المأخوذين بالعذاب، فإن أراد بهم قتالَ المتحرفين يوم بَدْر فالضمير في (يجْأرون) لسائر قريش، أي ناحوا على القتلى.
وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة فالضمير لجميعهم.
(يَأْتَلِ) .
أي يحلف، فهو من قولك: آليتُ إذا حلفتُ.
وقيل معناه: يقصر، فهو من قولك: ألوت، أي قصرت، ومنه: (لا يألونكم خَبَالاً) .
ونزلت الآية بسبب مِسْطح، فإن أبا بكر كان ينْفِق عليه، فلما وقع في عائشة حلف أَلاَّ ينْفِقَ عليه، فعاتبه الله على عدم النفقة، وأمره برَدِّها.
وهذه أرْجَى آية في كتاب الله، لأن الله عاتب حبيبه على عدوِّه، وأمره بالعفو عنه.
(يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) .
مبالغة في وصف صفائه وحسنه.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) .
أي يوقق الله مَنْ يشاء لإصابة الحق.
فهنيئاً لكَ يا محمدي على هدايتك وتوفيقك.
وكيف لا وقد سمّى اللَه الإيمانَ في كتابه بنحو الثلاثين اسماً، وهل ذلك إلا لعظمه، قال تعالى:(3/396)
(اهْدِنا الصراط المستقيم) .
(ذلك الدِّين القَيِّم) .
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)
الكلمة الطيبة: مثل كلمةٍ طيبة، (قولاً سديداً) .
(العرْوة الوثقى) .
(وكلمة الله هي العليا) .
(وجعلها كلمة باقية في عقبِه، (وألزمهم كلمةَ التَقوى) ، (وقال صواباً) ، (إنَّ الدِّين عند الله الإسلام) .
(إن الله يَأمر بالعدل والإحسان) .
(ولكن البِرَ من اتَّقَى) .
(من جاء بالحسنةِ) .
(هل جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان) .
(قُلْ أمر رَبِّي بالقِسط) ، (هو الذي أرسل رسولَه بالهدى ودِين الحق) .
(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) .
(صبغة اللَه) ، (ملَّة أبيكم إبراهيم) ، (شهد الله) .
(يخافون أَنْ يَحيفَ الله عليهم) :
ضمير الفاعل يعود على الذين في قلوبهم مرض.
وضمير المفرد يعود على الله، وإنما أسنده إلى الرسول، لأنه يحكم بأمره وشَرْعه.
(يَتَسلّلُون) :
يخرجون من الجماعة واحداً واحدا، كقولك:
سللت كذا من كذا إذا أخرجته منه.
(فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) :
القائل لذلك هو الله عزّ وجل، والمخاطب المعبودون مع الله على العموم.
وقيل الأصنام خاصة.
والأول أرجح لقوله: (ثم يقولُ للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) .
وقوله: (أأنْتَ قُلْتَ للناسِ اتَّخِذوني وأمي إلهين من دون الله) .
و" أم " هنا معادلة لما قبلها.
والمعنى أن الله تعالى يقول للمعبودين: أأنتم أضْلَلْتُمُوهمْ أم هم ضلُّوا السبيل مِنْ تِلْقَاء أنفسهم(3/397)
باختيارهم، ولم تضلوهم أنتم، ولأجل ذلك بَيّن هذا المعنى بقوله: (هم)
ليتحقق إسناد الضلال إليهم، وإنما سألهم الله تعالى هذا السؤال مع عِلْمِه بالأمور ليوبخ الكفارَ الذين عبدوهم.
(يكون لِزَاما) .
أي يكون العذاب ثابتاً، وإنما أضمره وهو اسْمُ كان، لأنه جزاء التكذيب المتقدم.
واختلف هل يكون العذاب هنا القَتْل يوم بَدْر، أو عذاب الآخرة.
(يَضِيقُ صَدْرِي) :
بالرفع عطفاً على أخاف، أو استئناف.
وقرئ بالنصب عطفاً على يكذبون.
(يوم لا يَنْفَعُ) ، وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم، وهو من كلام الله تعالى.
ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم.
(يَنْبغي لهم وما يَسْتطِيعون) .
أي لا يستطيعون من الكهانة، لأنهم منعوا من استراق السمع مُذْ بعث نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا يقدرون عليه.
فكيف يقولون إن هذا القرآن كهانة تنزلَتْ به الشياطين.
ولفظة (ينبغي) تارة تستعمل بمعنى لا يمكن، وبمعنى لا يليق.
(يَهيمون) ، استعارة وتمثيل.
والمعنى أن الشعراء يذهبون في كل واد من الكلام الحقّ والباطل، ويفرطون في التجوّز حتى يخرجوا إلى الكذب.
(يسْتَصرخه) .
أي يستغيث بموسى.
وذلك أنه لقيه قاتلُ القبطي بالأمس يقاتلُ رجلا آخر من القبط، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس، فعَظُم ذلك على موسى، وقال له: (إنك لَغَوِي مُبين) .
(يَتَرَقَّبُ) .
أي يتحسس هل يطلبه أحد، لأنه شاع خبره من الإسرائيلي الذي قال له: (أتريد أنْ تقْتُلني كما قتلْتَ نفساً بالأمس) ، فلما(3/398)
سمع القبطي ما قال الإسرائيلي انطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، فأمر فرعون
بقَتْل موسى، ولهذا قيل: عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل، والإشارة فيه أن
موسى عليه السلام كان كريماً، والإسرائيلي لئيما، فلم ينظر موسى إلى لؤمه، ولكن عامَلَه بكرمه.
وأنْتَ يا محمديّ كيف يعاملك ربُّك، وقد أقررْتَ له بالوحدانية ولنبيِّه
بالرسالة، وقد أعطاء واصْطَفاك من غير سؤال منك، أحبَّك وأقرضك، وأسبغ عليك نِعَمَه ظاهرةً وباطنة، وأعذر إليك بقوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ، ووَعدكَ بإجابتك.
فمَنْ أولى منك بالكرامة!
فإنْ قلت: كيف يستغيثُ الإسرائيلي بموسى وقد أراد موسى أن يبطش
بالقبطي الذي هو عدوّ لهما، ثم قال له: (أتريد أنْ تَقْتلني) ؟
والجواب: يحتمل أن الإسرائيلي لما رأى موسى يبْطش بالقبطي وهو غضبان
كغضبه بالأمس خاف أن يكونَ أراده، ولم يُرِده موسى.
أو لما رأى عَجْزَ موسى عن استصراخه لما صدر منه بالأمس مِن القتل فضَحه الإسرائيلي.
(يَأتَمِرُون بكَ ليقتلوك) :
لما أمر فرعون بقَتْلِ موسى أخبره مَنْ حضر عند فرعون، أو أخبره من سمع الخبر، وقال له: سمعتهم يتآمرون بك لما قتلت القبطي.
وخصت آيةُ القصص بتقديم الرجل في قوله تعالى: (وجاء رجل) ، لأن قبله: (فوجد فيها رجلين يَقْتَتِلان) .
وخصت سورة يس بالتأخير، لأنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خَبرَ الرجل سَعى مستعجلاً.
وقد قدمنا أنَّ السعي من أوصاف الإسراع في قوله تعالى: (يأتِيْنَكَ سَعْياً) .
فانظره هناك.
(يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) .
بضم الياء وكسر الدال فعل متعدٍّ.
والمفعول محذوف تقديره يصدر الرعاء مواشيَهم.
وقرئ بفتح الياء وضمِّ الدال، أي ينصرفون عن الماء.(3/399)
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ) :
روي أنَّ غلب الروم لفارس وقع يوم بدْر.
وقيل يوم الحدَيبية، ففرح المسلمون بنَصْر الله لهم على قريش.
وقيل: فرح المؤمنون بنصر الله لهم على الفرس، لأن الروم أهْل
كتاب، فهم أقرب إلى الإسلام، وكذلك فرح الكفّار من قريش بنَصْر الفرس على الروم، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب، فهم أقرَب إلى كفار قريش.
وروي أنه لما فرح الكفَّار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا عن الله أنهم سيغلبون، وراهنهم عشر قِلاَص إلى ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحَرّم القمار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " زِدهم في الرهن واستَزدْهم في الأجَل "، فجعل القلاص مائة والأجَل تسعة أعوام، وجعل معه أبيّ بن خلف
مثل ذلك فلما وقع الأمر على ما أخبر الله به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية
أبيّ بن خلف، إذ كان قد مات، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتصدّق بها.
(يَرْبُو) : يزيد.
وقدمنا أن عقوبة الربا مَحْق المال، ومحاربة الله والكفر، والخلود في النار.
وقيل: إن شرب الخمر، وأكل الربا، وأموال اليتامى، وتَرْك الصلاة، والزنى يُخَاف على صاحبها من سوء الخاتمة.
وهذا كله موجود في كتاب الله.
اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رَبّ أن يحضرون.
(يومئذِ يصَّدَّعون) :
من الصدع، وهو الفرقة، أي يتفرقون: فريق في الجنة وفريق في السَّعِير.
(يَمْهَدون) :
يوطئون، وهو استعارةٌ من تمهيد الفِرَاش ونحوه.
والمعنى أنهم يفعلون ما ينتفعون به في الآخرة.
(يخرج من خِلاَله) .
أي يخرج المطر من شقاق السحاب الذي بيْنَ بعضه وبعض، لأنه متخلّل الأجزاء.
(يؤفكون) .
أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق.
والتحقيق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه.(3/400)
(يوم البَعْث) :
تقرير لهم، وهو في المعنى جوابُ الشرط مقدر، تقديره إنْ كنتم تنكرون البَعْثَ فهذا يومُ البعث.
(يستَخِفَّنك) :
من الخفة، أي لا تضطرب لكلامهم، واصبر، ما وعدك الله به من النصر فعن قريب يكون.
(يستَعْتَبون) .
من الْعُتْبى، بمعنى الرضا، أي لا يرضون، وليس استفعل هذا للطلب، ويفهم من هذا أن المؤمن يستعتب، أي يطلب منه الْعُتْبى، وقد قدمنا أنَّ الله قال: لولا أني أحبّ العتابَ ما حاسبْتُ أمتك.
وقال بعضهم:
تَبَادَلْنَ العتابَ على ارتياب ... وصَفْوُ الوُد يُعْرَفُ بالعتابِ
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) .
أي واحد الأمور.
وقيل: المأمور به من الطاعات.
والأول أصح.
(يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) :
قال ابن عباس: المعنى ينفِّذُ الله قضاءه من السماء إلى الأرض، ثم يَعْرج إليه خَبَرُ ذلك في يومٍ من أيام الدنيا مقداره، لو سِير فيه المسيرُ المعروف من البشر، ألف سنة، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة، فألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء وقيل: إنَّ الله يُلقي إلى الملائكة أمورَ ألفِ سنة من أعوام البشر، وهو يَوْم من أيام الله، فإذا فرغتْ ألقى إليهم مِثْلَها، فالمعنى أنَّ الأمور تنفذ عنده لهذه المدة، ثم تصير إليه آخراً! لأن عاقبةَ الأمورِ إليه، فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمورِ إليه.
(يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) :
قد قدمنا أنَّ اسمه عزراييل، وبين يديه ملائكةٌ، مِنْ تَوَفي العدد واستيفائِه.
والتوفي من الله الإذن في قبض الأرواح، ومن الملائكة نزْع الروح، ومن ملك الموت القبض، ومن الرسل معاونة ملَك الموت، وبهذا يتَّضِحُ لك الْجَمْعُ بين الآيات الثلاث.(3/401)
(يَثْرِبَ) :
مدينة الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وسُمّيَتْ به حكاية عن
المنافقين، وكان اسمها في الجاهلية، فقيل لأنها اسم أرْض هي في ناحيتها.
وقيل سُميَتْ بِيَثْرب بن مهلائيل من بني إرم بن سام بن نوح، لأنه أول مَنْ
نزلها.
وقد صحَّ النَّهْى عن تسميتها به، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الاسْمَ الخبيث، وهو يُشعر بالتثريب، وهو الفساد، أو التثريب، وهو التوبيخ.
ومنه: (لا تَثْرِيبَ عليكم الْيَوْمَ يَغْفِر الله لكم) .
وقوله: (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه.
وهو يتعلق بالتثريب أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار.
وقيل: إنه يتعلق بـ (يَغْفر) ، وذلك بعيد، لأنه تحكُّم على الله، وإنما
يغفر دعاء، فكأنه أسقط حقَّ نفسه بقوله: (لا تَثْريب عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أنْ يغفر لهم حقَّه.
(يَقْنُت) :
بالياء حملاً على لفظ من.
وقرئ بالتاء حملاً على المعنى وكذلك (تعمل) .
والقنوت هنا بمعنى الطاعة.
(يومَ تُقَلَّبُ وجوهُهم في النار) .
العامل في (يوم) قوله: (يقولون) ، أو (لا بجدون) ، أو محذوف.
وتقليبُ وجوههم تصريفُها في جهاتِ النار كما تدورُ البضعة في القلب إذا
غلَتْ من جهة إلى جهة، أو تغيرها عن أحوالها.
(يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) :
معنى (مُزِّقْتُمْ) أي بَليتم في القبور وتقطعت أوصالكم، و (كُلَّ مُمَزَّقٍ) مصدر.
(والخلق الجديد) ، هو الْحَشْر في يوم القيامة والعامل في " إذا " معنى (إنكم لفي خَلْق جديد) معمول يُنبئكم، وكسرت إن لللام التي في خبرها، ومعنى الآية أنَّ ذلك الرجل يخبركم أنكم تُبْعَثون بعد أنْ بَليتم في الأرض، ومرادهم استبعاد الحشر.
(يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .(3/402)
الضمير للكفار المنكرين للبعث، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخَلْفهم، لأنهما محيطتان بهم.
والمعنى ألم يَرَوْا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما
قادر على بعْث الناس بعد موتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى تهديدا لهم، لأنه فسره بقوله: (إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بهم الأرض أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء) .
(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) :
الضمير لداود، تقديره: قلنا يا جبال.
والجملة تفسير للفضل.
ومعنى أوّبي سبِّحي، وأصفه من التأويب بمعنى السَّير بالنهار، وقيل كان ينوح فتسعده الجبال بصَدَاها.
(وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على لفظ (يَا جِبَالُ) ، وبالنصب عطف على موضع (يَا جِبَالُ) .
وقيل: هو مفعول معه.
وقيل عطف على (فضلاً) .
(يَبْسط الرزْقَ لمن يشاء ويَقْدر) .
أخبار تتضمن الردَّ على قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) .
لأنَّ بسْطَ الرزق وقبْضه في الدنيا متعلق بمشيئة الله، فقد يوسع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع، وبالعكس.
وقد حكي أن مدينة ببلاد السودان إذا ملكها المسلمون صار أرْضها
ترابا، وإذا ملكلها الكفار صار أرضها تِبْراً، فأسلمها المسلمون للكفار على
إعطاء الجزية، وهذا ليس بعَجيب، إذ لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جناحَ
بعوضة ما سقي كافرٌ جَرْعة ماء.
والمقصودُ منها التقوّت لما يوصل إلى الآخرة.
وحكى وهب بن منبه أنَّ ملكين التقيا في السماء الرابعة يهبطان إلى الأرض، فقال أحدهما للآخر: إن الله أمرني أنْ أوصل الحوتَ الفلانيّ لليهوديّ الفلاني
لأنه اشتهاه.
فقال الآخر: وإن العابد الفلاني يصوم وأراد إفطاره على الخبز
والزيتون، وأمرني أن أهْبِط له.
فانظر هذا، فإنَّ تيسير الشهوات ليس من أسباب السعادة، وإن الله ليذود وليَّه عن الدنيا ويحميه عنها لئلا يشتغل بها،(3/403)
(ولولا أنْ يكونَ الناس أمَّة واحدة) .
ونحن قد بُسط لنا فيها، وتمتّعْنَا بها، فانظر عاقبتَنا بِمَ تكون!
فإن قلت: ما فائدة تكرار هذه الآية، وإبراز (من عباده) في الثانية من
سورة؟
والجواب: أنَّ الله كرّرها لاختلافِ المقاصدِ، والرد على الكقار في أقوالهم.
وترغيب المؤمنين في الإعراض عنها والرجوع إلى مَنْ بيده مقاليدها.
وأبرز الضمير في ثانية سبأ ترغيباً لعباده في إنفاقها والخروح منها، وسلاّهم بوعده بالخلف، وأنهم إن خرجوا عنها يخلفه لهم، ووَعْده حق، ولهذا أشار عليه السلام بقوله: " ما نقص مالٌ من صدقة ".
فإن قلت: قد وجدناه ينقص في العَدد؟
والجواب أنه ليس بنقص، لأنه لا يأتي عليه إلا أيام قلائِل فيعود أكثر مما
كان، وهذا مشاهدٌ.
وقد يكون الخلف من حيث لا يظنّ.
وقد يكون بالثواب المدَّخر أو بتكفير السيئات، كما قال تعالى: (إن تبْدُوا الصدقات) الآية.
أو بالطهارة، كما قال: (خُذْ مِنْ أموالهم صدقة تطَهِّرهم) ، والإضعاف، قال تعالى: (الذين يُنْفِقُون أموالَهم في سبيلِ الله) .
والقَبول: (هو يَقْبَلُ التوبةَ عن عباده ويأخذ الصدقات) .
وقد جعل الله جميعَ الطاعات على ثلاثة أقسام: جعل على اللسان التوحيد
والذكْر والاستغفار والدعاء، وثوابها عشر أمثالها.
وعلى المال الصدقة والزكاة والنفقة، وثوابُها واحد لسبعمائة.
وعلى القلب الصبر والقناعة والشكر والرضا، وثوابُها بغير حساب.
(يَقْذِفُ بالحق) :
القذف: الرَّمْي، ويستعارُ للإلقاء، فالمعنى يلقي الحقَّ إلى أنبيائه، أو يرمي الباطلَ بالحق فيذهب، ولذلك قال:(3/404)
(وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) ، فنفى الإبداء والإعادة عبارة عن أنه
لا يفعل شيئاً ولا يكون له ظهور، أو عبارة عن ذهابه.
(يَقْذِفون بالغيْبِ مِنْ مكان بَعيدٍ) .:
معطوف على (كفروا) .
والمعنى أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة، فيقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام:
شاعر أو ساحر، والمكان البعيد هنا عبارة عن بطْلان ظنونهم وبُعْد أقوالهم عن
الحق.
(يَزِيدُ في الْخَلق ما يشاءُ) :
قيل حسن الصوت.
وقيل حسن الوجه.
وقيل حسن الَخطِّ.
والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكةِ، أو يكون على الإطلاق في كل زيادةٍ في المخلوقين.
(يسر) .
بفتح الياء والسين: الرجل الذي يشتغل باليسر، وجمعه أيسار.
وهو القِمَار في النَرْدِ والشطرنج وغير ذلك.
وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب.
وقد قدمنا أن مَيْسر العرب عشرة أقداح، وهي الأزلام لكل واحد
نصيب معلوم من ناقة يجَزّئُونَها عشرة أجزاءٍ، ثم يدخلون الأزلام في خريطة
ويضَعونها على يدي عدل، ثم يدخل يده فيها، فيخرج باسم كل رجل قدحاً، فمن خرج له قدح له نصيب أخذ ذلكَ النصيب، ومن خرج له قدح لا نصيبَ له غرم ثمنَ الناقةِ كلها.
(يَحِيقُ) : يحيط.
(يس) : من أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه يا إنسان، بلسان الحبشة، قاله ابن عباس.
وقال سعيد بن جُبير: يا رجل، بلغة الحبشة.
(يَخِصِّمُون) :
أصلُه يختصمون ثم أدغم، ومعناه يتكلمون في أمورهم.
وقرئ بفتح الخاء وكسرها واختلاس حركتها.
(يَحِقَّ القَوْلُ على الكافرين) .
أي يجبُ عليهم العذاب.(3/405)
(يَسْتَسْخِرُون) :
معناه يسخرون، فيكون فعل واستفعل بمعنى واحد.
وقيل معناه يستدعي بعضُهم بعضاً لأنْ يسخر.
وقيل: يبالغون في السّخْرِية.
(يَقْطين) :
كل شجر لا يقوم على ساق كالقرع والبطيخ ونحوهما.
والمعنى أنَّ الله أنبتَ على يونس لما خرج من بَطْن الحوت القرع
يظله من حَرّ الشمس.
وقد كان رق جلْدُه، وكانت الذباب تؤذيه.
والسرُّ فيه أن ورقَه كبير، ومسّه فيه لين، والذباب لا يقربه، ولذلك قال النقاش: إن من رش بمائه البيت لم يقربه الذباب.
فهذه شجرةٌ منَعَتْ يونس من الإذاية، أفلا تمنَعُ يا محمدي شجرةُ الإيمان من
إذاية الشيطان، وينجيك بركتها من الدخول في النيران، وفي الخبر: لما صَحَّ
يونس، ورجع إلى قومه، وجد الشجرة قد جفّتْ فاغْتَمّ لذلك، فأوحى الله
إليه: اغتممْت على شجرة يبست ولم تغْتَمَّ على هلاك مائة ألف أو يزيدون! (1) .
فلذلك أمر الله نبيّه بالصبر على أمته، والدعاء لهم، فقال: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون.
هؤلاء دعا لهم، واعتذر عنهم، وقد عصوه، وكسروا رباعيته، وشَجُّوا
وجهه، كيف لا يغتم للمصلّي عليه وذاكره وكل ساعة بالسلام عليه.
وقد أمره الله بألاَّ يكون كصاحب الحوت في الفرار من قومه، يعني تفارق
أمتك حين ينزل العذاب عليهم، فقال: رب عامِلْهم بخلاف ما تعامل به الأمم، فأنزل الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) ، بالْخَسف والمسخ، والريح والصواعق، فقال: اللهم إني أعوذ بوجهك من ذلك، فرفع الله عنهم العذابَ وهم كفار ومنافقون، أفَلا يرفَعه عنك يا محمديّ وأنتَ مؤمن به ومصدِّق له! اللهم بحرمته لدَيْكَ لا تحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة.
(يَزِفونَ) ، أي يسرعون.
وقرئ بضم الياء ونصب الزاي، أي يصيرون إلى الزفيف.
__________
(1) لا يصح ولا يثبت.(3/406)
(يستَمِعُون القولَ فيتّبعُون أحْسنَه) :
يعني يستمعون القولَ على العموم فيتبعون بأعمالهم أحسنَه، من العفو الذي هو أحسنُ من الانتصار، وشِبْه ذلك.
وقيل: هو الذي يسمع حديثاً فيه حسَنٌ وقبيح، فيحدّث بالحسن
ويكفُّ عما سواه.
وهذا قول ابن عباس، وهو الأظهر.
وقال ابن عطية: هو عام في جميع الأقوال.
والقَصْدُ الثناء على هؤلاء ببَصَرٍ ونظر سدِيد يفرِّقون به بين الحق
والباطل، وبين الصواب والخطأ، فيتبعون الأحسن من ذلك.
(ينابيع) :
جمع ينبوع، وهو العين.
(يهيج) :
ييبس، لقوله: (فتراهُ مُصْفَرًّا) .
(يُرِيكم آياتِه) :
يعني العلامات الدّالة على مخلوقاته ومعجزات رسله.
(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) .
من أعظم آيات الرجاء، لسؤال الملائِكة لهم بالرحمة والجنّة.
فإن قلت، حَمَلَةُ العرش والملائكة كلهم مؤمنون به سبحانه، فما فائدة
الإخبار بقوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ؟
والجواب: إظهاراً لفضيلة الإيمان وشرَفه، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياءَ في غير ما موضع من كتَابهِ بالصلاح، كقوله: (ونَبِيّا من الصالحين) .
ومعلوم أن الأنبياء من أهل الإيمان والصلاح، وكما أعقب أعمالَ الخير بقوله: (ثم كان مِنَ الذين آمَنُوا) ، فأبانَ بذلك فَضْل الإيمان.
وقد ذكر الزمخشري أن فيه فائدةً أخرى، وهي أنَّ معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال كسائرِ الخلق لا بالرؤية، وهذه نزعةٌ منه إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤْية الله تعالى.
وتأمَلْ يا محمديّ إلى عظيم التناسب المرعيّ بين قوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ،(3/407)
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تجد فيه تنبيهاً على أن الاشتراكَ في الإيمان يجبُ
أن يكون أدْعى شيءٍ إلى النصيحة، وأبعثه على إمْحَاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناسُ، وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضيّ قطّ، ولما جمع الإيمان جاء معه التجانس الحقيقي، والتناسب الكلّي، حتى استغفر مَنْ حَوْلَ العرش لمَنْ في الأرض مع عظم أجرامهم وقُوّتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -:
" أذِنَ لي أن أحدِّث عن ملك من حَمَلة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة
سبعمائة سنة ".
فانظر يا محمديّ ما أعظم قيمتك! الأنبياء والملائكة يستغفرون، ونبيّك أمر
إخوانك بالاستغفار لكَ، قال:
" من استغفر لوالديه وللمؤمنين والمؤمنات كل يوم خمساً وعشرين مرَّة أو سبْعا وعشرين - أحد العدديْن - كان من الذين يُسْتجَاب دعاؤهم، ويرزق بهم أهْلُ الأرض ".
ودعاء الأبدال أنْ تقول بعد كلَ صلاة:
اللهم أصْلح أمَّةَ محمد، اللهم ارحم أمةَ محمد، اللهم فَرج عن أمة محمد، اللهم اغفر لأمَّة محمد، ولجميع مَنْ آمن بك.
ولما دحا الله مبسوطَ بساطِ الأرض، ومهَّدَ مِهَادَها لترتيب المكونات فَخَرتْ
عليها السموات، فنكست رأس الانكسار، ومدَّت يدَ الاستعطافِ إلى عين الجود، فجادلها بقَطْعِ حجة مَنْ جادلها:
(يا سماء) :
إنْ كنت فخرتِ بالشمس لظهور الموجودات، فأين مثل شريعةِ نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظهور الغَيْب، شمْسُ السماء لها
أفول، وشمس شريعةِ محمدٍ ليس لها أفول.
وإن افتخرت بحسن القمر ونوره فأينك من حسن سُنَنِه المشرق ونوره إذا
كُسِفت شمسك، وخسف قمرك، فالشفاعة من أهل الأرض، والشافعُ أفضلُ من المشفوع فيه.
وإن افتخرتِ بالنجوم للاهتداء فنجومُ الصحابة معلومة للاقتداء على مقعد(3/408)
صدق، إن كان من النجوم رجوم للشياطين! فعُمر فقأ عين الرئيس إبليس.
وشهب إيمانه توفيه فترميه فلا يسلك عمر فَجًّا إلاَّ هرب منه إبليس.
وإن فخرتِ باللوح المحفوظ فَلوْح الغيب يكتب بيد الخالق، كتب في
قلوبهم الإيمان.
وإن فخرت بسعة الكرسيّ فأين هو من سعةِ: وسعني قَلْبُ عبدي المؤمن.
وإن فخرت بنفخ إسرافيل للأرواح لإحياء الأجساد فأين أنْتِ من نفخةٍ
حَيِيت بها القلوب إلى يوم التَنَاد.
وإنْ فخرت بعلو مَنْ في العلو من الأملاك فقصيدة الاقتصاد أشهر من " قفَا
نَبْكِ ".
هذا عزرائيل كان إمام المقربين فتنفَّس بنفس فسقي كأس أسف.
هاروت وماروت، استعير لهما شهرة الشهرة فجرى ما جرى، وعند جهينة الخبر اليقين، فكيف بمن عجنت بها طينة تركيبه، وعقل عَقْله بعقال الهدى!
وإن فخرت بالصافّين المسبحين، فكم على أرض الدّجَا من أمة قائمة، كم في
رواشن الأسحار من سمّار المستغفرين.
وإن فخرت بشفقة ميكائيل وحيائه، فكم حيى أحياء بشفقة أبي بكر
وأحبائه.
وإن فخرت بقوَّةِ جبريل وإقدامه فأينك من قوة عمر وإقدامه يوم قال:
واللَه لا يُعْبَد الله سرًّا بعد اليوم، فسرى نحو الكعبة، فسُرِّي عن الإسلام غُمة الغم.
وإن فخرتِ بنزول القَطْرِ لإحياء مَوَات النبات، فأين أنْتِ من سواكب
العبرات لإحياء القلوب الموات، فكم صدرٍ شرح للإسلام، فهو أوسع من سِدْرَة المنتهى.
وإن افتخرتِ بأنَّ الجنة فيك فقد اشتاقت إلى تسليم سلمان إذا تمهد ملك(3/409)
الجنة للساكن، فالملائكةُ خدّام يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم
ليحظَوْا بحظ الردّ، إنما علا قَدر الْمُقربين لما أطلق لهم من ديوان الخاص والعام، (ويستغفرون للذين آمَنوا) .
وإنْ فخرْتِ بالعرش والطائفين، فأين أنت من البيت والطائفين ما في زاوية
العَرْشِ حَجَر سوّد بالسؤدد أدرج في درجة درج الميثاق.
يوم السبت لما أهبط آدم بمنشور الولاية إلى الأرض مُهِّدت له دار المملكة قبل الوصول، وزينت حرمة الحرم للحرمة والإحرام باب الاستغاثة، وعرفات باب دخول المَسائل لنيل الوسائل، فلما ئني البيتُ أذِن الله لخليله عليه السلام بالأذان على صوْمعة أبي قبيس بتأذين، وأذّن قال: يا ربّ، وأين يبلغ أذاني، قيل: يا إبراهيم منك الأذان وعلينا البلاغ.
فلما دنا النداء من باطن الحجر أوقع من وقع له يوم: (ألستُ بربكم) بفيض
المبلّغ، فتزاحموا على باب الإجابة، شعارهم لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ!
فإن قلت: كيف يصح أن يقال: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) ؟
فالجواب أنَّ الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل وسع
كلَّ شيء رحمتُك وعلمك، ولكن أزيلَ الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى
صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز، لا إغراق في وصفه
بالرحمة والعلم، كأنَّ ذاته رحمة و3علم ويسعان كل شيء، وهذا نحو قولهم: تفقأت شحماً، وتصببت عَرقاً.
فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أنْ يكونَ ما بعد الفاء مشتملاً على
حديثهما جميعاً، وما ذكر إلا الغفران وَحْده؟
والجواب: فاغفر للذين علمْتَ منهم التوبة، واتباعَ سبيلك.
فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائِبون صالحون مَوعودون
بالمغفرة، واللَه لا يُخْلف الميعاد؟(3/410)
قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدتُه زيادةُ الكرامةِ والثواب.
فإن قلت: هل قيدت هذه الآية الآية المطلقة في حم عسق، وهي قوله:
(ويستَغْفِرُون لمنْ في الأرض) ، لأنه معلوم أنَّ الملائِكة
صلوات الله وسلامه عليهم لا يستغفرون لكافر؟
والجواب: يحتمل أن يكون استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم
بعد ذلك، كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، واستغفار نبينا للمنافقين، ولما تقدم هذه الآية: (غافِرِ الذَّنْبِ وقَابِلِ التَّوْب) ، ناسب استغفارَ
الملائكة للمؤمنين منهم، يَشْهد لهذا قوله بعده (فاغْفِرْ للذين تَابُوا) .
ولما تقدم آية الشورى: (تكاد السموتُ يتَفَطَّرْن من فوقِهنّ) ، ناسب استغفارَ الملائكة لمن في الأرض لإبقاء الستر، إذ لا يفوتونه.
وقد يُؤْمن مَنْ سبقت له السعادة منهم.
(يُرِيكم آياته) :
هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة، ولذلك وبَّخهم بقوله: (فأيَّ آياتِ اللَهِ تنْكرون) .
(تكاد السماوات يَتَفَطَّرْنَ من فَوْقهن) ، أي يتشقَّقْن من
خوف الله وتعظيم جلاله.
وقيل من قول الكفار: (اتَّخذَ الله ولداً) ، فهي كالآية التي في مريم.
قال ابن عطية: وما وقع للمفسرين من ذكر الثقل هنا مردود، لأنَّ الله تعالى
لا يوصَف به.
فإن قلت: لو أراد تشقّق السماء من قوْلِ الكفار لقال مِنْ فوقهم، وما وجْه
اتصال التسبيح والاستغفار من الملائكة بهذه الآية؟
والجواب: أن المعنى تشقق السماوات من أعلاهن، وذلك مبالغة في التهويل.
وقيل الضمير للأرضين، وهذا بعيد.
وقيل للكفار، كاْنه قال من فوق الجماعات
الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات تتَفَطرْن.
وهذا أيضاً بعيد.(3/411)
ووَجْه تسبيح الملائكة تعظيم للهِ تعالى من تشقق السماوات من عظمته وجلاله، أو مِنْ كفْر بني آدم فينزهون الله من ذلك.
(يوم الجَمْعِ) :
قد قدمنا أنَّ هذا من أسماء يوم القيامة، لأنه يوم يجمعون فيه الأولون والآخرون في صَعِيدٍ واحد.
(يَذْرَؤكم فيه) .
أي يخلقُكم نسلاً بعد نَسل، وقَرْناً بعد قرن.
وضمير المجرور يعود على الجعل الذي تضمّنه قوله: (جعل لكم) ، وهذا كما تقول: كلمت زيداً كلاماً أكرمتُه فيه.
وقيل الضمير للتزويج الذي دلّ عليه قوله: (أزواجاً) .
وقال الزمخشري: تقديره يَذْرَؤكم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً، غلب فيه العقلاء على غيرهم.
فإن قيل: لِمَ لمْ يقل يذرؤكم به؟
فالجواب أنَّ هذا التدبير جعل كالمنبع والمعدن للبث والتكثير.
(يُحَاجُّونَ في الله) :
أي يجادلون المؤمنين في دِين الله، يعني كفَّارَ قريش.
وقيل اليهود.
(يسْتَعْجِلُ بها) .
أي يطلبون تعجيلَها استهزا: بها، وتعجيزًا للمؤمنين.
(يُمَازونَ) :
يجادلون ويخافون.
(يرْزُق مَنْ يَشَاءُ) .
أي الرزق المضمون الزائد لكل حيوان، فإن الرزقَ الذي تقوم به الحياة على العموم لكل حيوان طولَ عمره، والزائد خاص بمن شاء الله.
(يَخْتِمْ على قَلْبِك) :
في المقصد بهذا قولان:
أحدهما أنه ردّ على الكفّار في قولهم، (افْتَرى عَلى الله كَذِباً) ، أي لو(3/412)
افتريت على الله كذباً، يختم على قلبك، لكنّك لم تفتر عليه كذباً فقد هداك
وسدّدك، والآخر أنَّ المرادَ إنْ يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار واحتمال أذاهم.
(يَمْح الله الباطل) :
هذا فعل مستَأنَف غير معطوف على ما قبله، لأن الذي قبله مجزوم، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله، ويبتدأ به.
وفي المراد به وجهان:
أحدها أنه مِنْ تمام ما قبله، أي لو افتريت على الله كذباً بالْخَتْم على قلبك ومَحْو الباطل الذي كنْتَ تفتريه لو افتريته.
والآخر أنه وَعْد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يمحو الله الباطلَ وهو الكفر، ويحقّ الحق وهو الإسلام.
(يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) :
أي من عباده.
وقبولُ التوبة من الكفر مقطوع بها، ومِن مظالم العباد فهي متوقّفة حتى يردَّها لأهلها أو يستحلّ منها، ومن المعاصي التي بين العبد وبين الله فيُرْجى أنها مقبولة لهذه الآية.
وقيل هي في المشيئة، وهو أكرمُ أنْ يقول له العبد: رجعت، فلا يقول
له: قبِلْت.
وقد قدمنا مِراراً شرطَ التوبة وصحةَ قبولها.
وفي بعض كتبِ الله المنزلة: وعزَّتي وجلالي، وارتفاعي في علوّ مكاني.
لأقطعنَّ أمَل كل مؤَمل أمّل غيري باليأس، ولألْبِسنَّه أثوابَ الذلة بين الناس.
ولأقصِيَنه من قُرْبي، ولأباعِدَنّه من حوضي، أيؤمّل غيري في الشدائد.
والشدائد بيدي، وأنا الحيُّ ويرجو سواي، ويطرق بالذكر باب الغير ومفاتحُ
الأبواب بيدي، وبابي مفتوح لمَنْ دَعاني، من الذي دعاني فلم أجبه، مَنِ الذي استغفرني فلم أغفر له، من الذي رجع إليَّ فلم أقبله، مَن الذي دعاني لنوائِبه فقطعتُ به دونها، مَنِ الذي رجاني لعظيم جرمه فأقطع رجاء له، من الذي قرع بابي ولم أفْتَح له، جعلتُ آمالَ عبادي متصلة بي فقطعوها، وجعلت أرجاءهم مذخورةً عندي فلم يرضوا بحفْظِي، وملأت سمائي ممَّنْ لا يملون من ذكري، وأمرتهم ألاَّ يُغْلِقُوا الأبوابَ بيني وبين عبادي فلم يثق الآدميون بقولي!
ألا يعلم من طرقَتْه نائبةٌ من نوابي أنه لا يملك كَشْفَها إلا من بعد إذني!(3/413)
مالي أرى عَبْدي معرضاً عني أعطيه بجودٍ فلم يسألني، ثم انتزعْتُه منه فلم يسألني ردّه!
أفتراني أبتدئ بالعطية قبل المسألة، ثم أسأل فلا أجيب!
يا سائلآ غيري، أبخيل أنا فيبخِّلني عَبدي! أليست الدنيا والآخرة لي، أليس الكرم والجود لي، أليس الرحمة والفضل لي، أنا محلّ الآمال، من يعْطيها دوني، وما عسى أن يؤمل المؤملون لو جمعتُ أهْلَ سائي وأرضي، ثم أعطيتُ كلً واحد منهم ما أمل الجميع ما نقص مِنْ ملكي، وكيف ينقص ملك أنا فيه! فيا بُؤْسَ للقانطين مِن رحمتي، ويا بؤس لمَنْ عصاني، وتوثَّب على محارمي، ولم يسْتَحِ مني!
اللهم إني لم أسْتح منك، وبارزتُ بالعظائم، لكن رجائي فيك قويٌّ، وتوسلتُ إليك بجاهِ النبي الأميّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) :
العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا.
وأما العفو دون تَوْبة فهو على أربعة أقسام:
الأول: العَفْو عن الكفر، فلا يكون أصلاً، وعن مظالم العباد فلا يكون إلا لبعض خواص عباده، وعن الصغائِر إذا اجتنبت الكبائر، فهو حاصل بحسب وَعْده الصادق.
وعن الكبائرِ فأهل السنَّة أنه في المشيئة، وأهل البدعة على عدم غفْرانها، وقد أخطأوا لنَصِّ الآية والحديث.
(يَسْتَجِيبُ الذين آمَنوا) :
قيل يجيب.
و (الذين آمنوا) مفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، أي يجيبهم فيما يطلبون منه.
وقال الزمخشري: أصله يستجيب للذين آمنوا، فحذفت اللام.
وقيل إن معناه يجيب.
والذين آمنوا فاعل، أي يستجيب المؤمنون لربهم باتِّباع دينه.
وقيل إن معناه يطلب المؤمنون الإجابةَ من ربهم، واستفعل على هذا
على بابه من الطلب.
والأول أرجح، لدلالة قوله: (ويَزِيدهم من فَضْلِه) ، أي يزيدهم ما لم يطلبوا زيادة على الاستجابة فيما طلبوا، وهذه الزيادة صَحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنها الشفاعةُ والرضوان.(3/414)
(يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) .
قيل لعمر رضي الله عنه: اشتدَّ القَحْط، وقنط الناس، فقال: الآن يُمْطرون.
وأخذ ذلك من هذه الآية.
ومنه الحديث: " اشتَدِّي أزْمَةُ تنفرجي ".
وقال تعالى: (إنَّ مَعَ العُسْر يُسْراً) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا كان وقت الشدائد والمخاوف رُئي عليه
أثر السرور، وإذا كان وقت السرور رُئي عليه أثَرُ الخوف، لعلمه بربه.
(يَنْشر رحمته) ، يعني المطر، فهو تكرار للمعنى الأول بلفظٍ آخر.
وقيل يعني الشمس.
وقيل بالعموم، وهو أظهر، إذْ رحمته سبحانه تعمّ جميع الموجودات.
(يَعْلَم الذين يُجَادلون في آياتِنا) ، أي يعلمون أنهم لا مهرب لهم من الله.
وقرئ يعلم بالرفع على الاستئناف، وبالنصب.
واختلف في إعرابه على قولين:
أحدهما أنه نصب بإضمار أنْ بعد الواو لما وقعت بعد الشرط
والجزاء، لأنه غير واجب.
وأنكر الزمخشري ذلك، وقال: إنه شاذّ، فلا ينبغي أن يُحْمل القرآن عليه.
والثاني قول الزمخشري: إنه معطوف على تعليل محذوف
لينتقم منه، ويعلم، قال: ونحوه من المعطوف على التعليل المحذوف كثير في
القرآن، ومنه قوله: (ولِنَجْعَلَه آيةً للناس) .
(يا بُشراي) :
نادى البشرى، كقوله: يا حسرتى، وأضافها إلى نفسه.
وقرئ يا بشرى، بحذف ياء المتكلم.
والمعنى كذلك.
وقيل على هذه القراءة نادى رجل منهم اسْمُه بشرى، وهذا بعيد، لأنه لما أدْلَى الدَّلْوَ في الجبِّ تعلَّق به يوسف، فحينئذ قال: يا بشراي، هذا كلام.
(يُرْسِلَ) :
قرئ بالرفع على تقدير: أو هو يرسل، وبالنصب عطفاً على (وحياً) لأن تقديره أن يوحي، فعطفت أن على أن المقدرة.
(يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) .
أي يكبر ويَنْبت في استعمال الحلي من الذهب والفضة، والمراد بهم النساء.
وقرئ "ينشّأ" بضم الياء وتشديد الشين، بمعنى يُرَبّى فيها.
والمقصد الرد على الذين قالوا: الملائِكة بناتُ الله، كأنه قال: أجعلتم(3/415)
لله من ينشّأ في الحلية، وذلك صفة النّقْصِ، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي
أنَّ الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أنْ تبيّن حجَّتَها لنَقْص عقلها، وقلما تَجِد امرأةً لا تفسد الكلام وتخلط المعاني، فكيف يُنْسب لكامل من اتصف بنقصٍ.
وأغربُ من ذلك أنهم يجعلون لأنفسهم المذكور، (ويجعلون لله البنات
سبحانه ولهم ما يشْتَهُون) .
وإعراب (من ينشأ) مفعول بفعل مضمر، تقديره: أجعلْتُم للَه مَنْ ينشأ في الحلية، أو مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: أو من ينشأ في الحلية خَصَصْتُم به الله.
(يَسْتَغِيثانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ) :
ضمير التثنية يعود على الوالدين اللذين يستغيثان بالله مِن كراهتهما لما يقول ابْنُهما من الكفر، فيقولان له: وَيْلك آمِنْ، ثم يأمرانه بالإيمان فيقول: (ما هذا إلا أساطِيرُ الأولين) ، أي قد سطّره الأوَّلون في كتبهم، وذلك تكذيبٌ بالبَعْث والشريعة.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية، فقيل في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
حين كفْرِه، كان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإيمان فيأبى، ويقول لهما: أفٍّ لكما.
وأنكرته عائشة رضي الله عنها، وقالت: واللَه ما نزل في آلِ أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي.
وكان عبد الرحمن بن أبي بكر من خِيَار المسلمين، وكان له في الجهاد غناء عظيم.
وقال السُّدِّي: ما رأيت أعبد منه.
والصحيحُ أنها على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفْر والعقوق لوالديه، ويدل على أنها نزلت على العموم قوله: (أولئِكَ الذين حَقَّ عليهم الْقَوْلُ في أمَمٍ) ، بصيغة الجمع، ولو أراد واحداً بعينه لقال ذلك الذي حقَّ عليه القول.
(يَتَدَبَّرون القرآنَ) .
أي يتفكرون في معانيه، لتظهرَ أدِلَّتُه وبراهينه، وفيها حضّ على التدبر والتفكر فيه.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه بخشوع من غير هَذْرَمة.(3/416)
(يَبْخَلُ) :
البخل هو الغمّ بالإعطاء والفرح بتَرْكه، وأما البخيل فهو الذى يغتمّ بالإعطاء ويذمّ عليه، ويفرح بتركه، وهذا من صفات
البخل كما قدمنا: (وأحْضِرت الأنْفُس الشحَّ) .
(يَتِرَكُمْ أعمالكم) .
أي ينقصكم، يقال وترت الرجل ترةً، إذا نقصته شيئاً.
وكيف ينقص السيد عَبْده، هذا في مخلوق فكيف بالغنيِّ على
الإطلاق، ولما نزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
شقَ ذلك على الصحابة.
وقالوا: يا رسولَ الله، إذا جازانا الله بأعمالنا هلكنا، فأنزل الله المضاعفة لأعمالهم، والمضاعفة في الحسنة لا حَصْرَ لها ولا مضاعفة للسيئة.
(يُطِيعكم في كثير من الأمْرِ لَعَنِتمْ) :
إنما لم يقلْ أطاعكم، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرارَ طاعتِه عليه السلام لهم.
والحقّ خلاف ذلك، وإنما الواجب أن يطيعوه لا أن يطيعهم، وذلك أنَّ رأيه عليه الصلاة والسلام خير وأصوب مِن رأي غيره، ولو أطاع الناسَ في آرائِهم لهلكوا، فالواجب على الناس الانقياد إليه والطاعة لأمره.
(لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) :
نهى الله في هذه الآية عن الاستهزاء بالناس واحتقارهم.
ولما كان "القوم" لا يقَع إلا على الذكران عطف النساء عليهم.
فالسخريةُ بالنساء من أعظم العيوب عند علاَّم الغيوب.
ولعلَّ المسخور منه خَيْرٌ من السَّاخر عند الله، والأعمال بالخواتم، ولا تقعُ هذه الخصلة الذميمة إلا من جاهل بنفسه راضٍ عنها، فيتكبَّر ويعجب، ولو رأى نفسه أقلَّ خَلْقِ الله لم يسخر ممَّنْ هو عند الله أعلى منه، ولذلك قيل: مَنْ ظنَّ أنه خير من الكلب فالكلب خير منه.
فالعاقل يرى الصغير أفْضَلَ منه، ويقول: أنا عصيت الله، وهذا لم يعصه، والكبير يقول: هذا عَبَدَ الله أكثر مني، فهو أفضل، لأن مَنْ(3/417)
زادك في العبادة فَضَلك، والذي هو مثله يقول: لم يَعْصِ الله، وربما له خَبِيّة من عمَل صالح لم أطلع عليها، وأنا ليس لي شيء، وبالجملة فلم يصدر هذا إلا مِنْ معْجب بعمله، متكبًر، وكم أهلكا من عالم وعابد وزاهد.
(يغْتَبْ بعضُكم بعْضاً) :
الغيبة: ما يكره الإنسان ذِكْرَه من خَلْقه أو خُلُقه أو دِينه أو أفعاله أو غير ذلك.
وفي الحديث: قيل: يا رسول اللَه، وإن كان حقّا، قال: إذا قلتَ غيْرَ الحق فذلكَ البهْتان.
وقد رخّص في التجريح في الشهادة والرواية وفي النكاح وشبْهه، وفي التحذير من أهل الضلال، ولا غيبةَ في فاسق أو مجاهر بالكبائر، وسامِعها شريكه ما لم ينكرها بلسانه، ومع خوْفه فَبِقَلْبه، وعليه قطعها بكلام، وإلا ينصرف، فإنْ عجز لزمه شغل قَلْبه ولسانه عنْها.
روي: مَنْ أذلّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس
الخلائق.
وروي: من حَمَى مؤمنا مِن منافق يغتابه بعث الله له ملكاً يحمِي لَحْمَه يوم
القيامة مِنْ نار جهنم، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادّها، كما سعد بها قائلها.
وبواعث الغيبة التشكي، وموافقة ونحوها لذاكرها، أو رفعة لنفسه أو حسد
أو لعب، ومتى رأى عَيْباً حرم التصديق ما احتمل تأويلاً، ومتى تحقَّق نَصَح
حتما، وسكت ستراً للنهي عن المتلفظ به، فاعلاً أو مفعولاً حيث قال:
(بعضكم بَعْضا) .
وتشبيه المغتاب بآكلِ الميتة وهو منفِّرٌ طبعاً وشَرْعاً، والإتيان بهمزة
الإنكار، ثم بلفظ المحبة، ثم بقوله: (أحَدكم) كأنه يقول: هل يوجد في العالم
أحدٌ يحب أكْلَ الميتة، ثم المبالغة بلَحْمِ الأخ، ثم بأكله.
وجه المناسبة إدارة حنكه، فالغيبة كالأكل، ثم بقوله: (ميتاً) ، فإنه أبلغ في النفرة، ثم التأكيد بقوله:(3/418)
(فكرهْتموه) ، ثم التعريف بأن من التقوى تَرْكَ ذلك، ثم التحريض على التوبة
بقوله: (واتقوا الله إنَّ الله توَّابٌ رحيم) .
قال أبو علي الفارسي: كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهة الغيبة
يدعو إليها العقل، وهو أحقّ أن يجاب، لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل.
وصَحَّ أنَّ " دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ".
ونواهيها مشهورة جدًّا، فما ظنّكَ بكلمة لا تسلم منها بتوبةٍ للمظلمة حتى تبرأ، فهي أشدّ على النفس من الربا والزنى، وتنقل حسناتك لغيرك، وتعذَّب بذنوبه التي تحملتها بغيبته، وعرّضتك لسخْطِ الله ومَقْته، وكان تعالى فيها خصيمك.
ويقال ليتكَ استحيَيتَ من الله كاستحيائك من مخلوق لا تغتابه بحضرته، فإنا
للَه وإنّا إليه راجعون من خصلةٍ نحن فيها ليلاً ونهارا ولا ازدجار منها، ولا
تَوْبَة، ونتهاون بها، ونعظم الربا، مع أنها أعظم كما تقدم ويظهر لك بالحديث:
" الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل أنْ يطأ الرجل أمَّه ".
وفي حديث آخر: " إن من أربى الربا استطالَة المسلم في عِرْض أخيه بغير حق ".
فانظر بُعْد ما بينهما يلُحْ لك عظيم ما ارتكبناه، إلا أن يعفو الله بإرضاء خصمائنا وإلا هلكنا.
(رَبَّنَا ظلمْنَا أنفسنا وإنْ لم تَغْفِرْ لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين) .
وكان الواجب علينا ألاَّ نخاطب ربَّنا بهذا الخطاب إلاَّ بعد التوبة النصوح.
وحسن الارتجاع، لكنا نرجو من كرم الكريم العفْوَ عن اللئيم بجاهِ نبيه الكريم.
(يَرْتابوا) : يشكّوا.
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) .
نزلت في بني أسد من خزيمة، وهي قبيلةٌ كانت تجاورُ المدينة، وكانوا مسلمين ظاهرًا ويحبون المغانم وعَرَضَ الدنيا، فقالوا: يا رسول اللهِ، إنَّا آمنّا بكَ وصدقناك، ولم نحارِبْك كما فعلَتْ هوازنُ وغطفان وغيرهم.
فَردَّ الله عليهم بقوله: (بل الله يَمُنُّ عليكم) : يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم، أو بمعنى يذكر إنعامَه.
وهذا أحسنِ، لأنه في مقابلة: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) .(3/419)
(يَلِتْكم) :
ويألتكم بهمزة قبل اللام - قراءتان، بمعنى ينقصكم.
والخطاب لمن أطاع الله ورسوله.
فإن قلت: هذا الخطابُ وقع في بني أسد، فكيف يعطيهم أجُورَ أعمالهم.
وقال: إنهم لم يؤمنوا، ولا تقبل الأعمال إلا من مؤمن؟
والجواب: أن طاعةَ الله ورسوله تجمَعُ صِدْقَ الإيمان وصلاح الأعمال، فالمعنى إن رجعْتم عما أنْتُم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم، وعملتم أعمالاً صالحة، فإنَّ الله لا ينقصكم منها شيئاً.
(يوم ينَادِ الْمنَاد من مكان قريب) :
المنادي هنا إسرافيل الذي ينفخُ في الصور.
وقيل: إنما وصفه بالقُرْب، لأنه يسمعُ جميعَ الخلق.
وقيل: المكان صخرة بيت المقدس، وإنما وصفها بالقُرْب لقربها من مكة.
وقيل لقُرْبها من السماء، لأنها أقرَب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وهذا ضعيف.
(يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم سِرَاعاً) :
العامل في هذا الظرف معنى قوله: (حَشْرٌ علينا يَسير) ،وهو بَدَل مما قبله.
(يُسْراً) :
صفة لمصدر محذوف، ومعناه أنَّ السفن تجري في البحر بسهولة.
(يُؤْفَكُ عنه مَنْ أُفكَ) ، أي يصرف.
والضمير في (عنه) يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو للقرآن، أو للإسلام.
والمعنى يُصرف عن الإيمان به مَنْ صُرِف، أي مَن سبَقَ في عِلْم الله أنه مصروف.
وقيل: إن الضمير لما (توعدون) ، أو للدين المذكور.
والمعنى يصرف عن الإيمان به من صُرف.
وقيل: إنَّ الضمير للقول المختلف.
والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام مَنْ قضَى الله بسعادته، وهذا
القولُ حسن، إلا أنَّ عُرْفَ الاستعمال في أفك يؤفك إنما هو في الصَّرْف مِنْ خيرٍ(3/420)
إلى شر، ومن شر إلى خير.
وقيل: إن الضمير للقول المختلف، وتكون (عن) سببية.
والمعنى يصْرَف عن ذلك القول مَنْ صرِف عن الإيمان.
(يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) .
يحرقون ويعذّبون.
ومنه قيل للحَرَّة فَتِين، كأنه الشمسَ أحرقَتْ حجارتها.
ويحتمل أن يكون (يوم هم) معرباً، والعامل فيه مضمر، تقديره
يقع ذلك (يَوْمَ هم) على النار يُفْتنون أوأن يكون مبنيا لإضافته إلى متى.
وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع، والتقدير هم يوم هم على النار يفْتنون.
(يهْجَعُون) :
في معنى هذه الآية قولان: أحدهما - وهو الصحيح: كانوا ينامون قليلاً من الليل، ويقطعون أكْثَرَ الليلِ بالسهر فى الصلاة والتضَرّع والدعاء.
والآخر أنهم كانوا لا ينامون بالليل لا قليلا ولا كثيرا.
ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين، فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه:
الأول أن يكون (قليلاً) خبر كانوا، و (ما يَهْجَعون) فاعل بقليل.
لأن (قليلا) صفة مشبَّهة باسم الفاعل، وتكون (ما) مصدرية، والتقدير
كانوا قليلاً هجوعهم من الليل.
والثاني مثل هذا إلا أنَّ ما موصولة، والتقدير كانوا قليلا الذين يهجعون فيه
من الليل.
والثالث: أن تكون ما زائدة و (قليلاً) ظَرْف، والعامل فيه (يَهْجَعون) ، والتقدير كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل.
والرابع مثل هذا إلا أن (قليلا) صفة لمصدر محذوف، والتقدير كانوا
يهجعون هجوعاً قليلاً.
وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان:(3/421)
أحدهما أنْ تكونَ (ما) نافيه، و (قليلاً) ظرف، والعامل فيه (يَهْجَعون) .
والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلاً من الليل.
والآخر أن تكونَ (ما) نافية و (قليلاً) خبر كان، والمعنى كانوا قليلاً في الناس، ثم ابتدأ بقوله: (من الليل ما يهجَعون) ، وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعْف هذا المعنى ببطلانِ إعرابه.
(يَوْمَهم الذي فيه يصْعَقون) :
يعني يوم القيامة، وذلك لشدة هَوْلِه.
(يلتقيان) :
ضمير التثنية يعود على البَحْرَين المذكورين في قوله: (هذا عَذْبٌ فرَاتٌ) ، (وهذا مِلْحٌ أجَاج) ، أي يلتقي ماء هذا وماء هذا، وإذا نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر، وأما على القول بأنَّ البحر العذب هو الأنهار والعيون، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر، وأما قول القائل بأن البحرين بحر فارس والروم وبحر القلزم واليمن فضعيف.
(يَسألُه مَنْ في السماوات والأرض) .
أى يسألونه حوائجهم، فمنهم من يسأله بلسان المقال، ومنهم من يسأله بلسان الحال، لأنَّ جميعهم مفتقر لفَضْله ونَوَاله وإمداده.
وقد قدمنا أنَّ المراتب السبع من جماد ونام - وحيوان، وناطق وممتحن ومؤمن ومحب، جميعهب متضرعون مقبلين أو مدبرين.
فسبحان من وسع سَمْغه أصواتهم وحركاتهم وسكنَاتهم.
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) :
يعني بعلامتهم، وهي سواد الوجه وغير ذلك، وقد - قال في آية أخرى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) .
يعني أنَّ الكفارَ يتقلَّبون من الزمهرير إلى الحر، ومنَ الحرّ إلى الزمهرير، رجاء الاستراحة(3/422)
مما هم فيه، فلا يجدون إلا أشدَّ من منازلهم، فهم في عذابِ جهنم مخلَّدون: (لا يُفَتَرُ عنهم وهم فيه مبْلِسون) .
(يَطْمِثْهُنَّ) :
المعنى أنهن أبكار لم يطمثْهنَّ. . . بخروج الدم.
وقيل: الطمث الجماع، سواء كان لبكر أو غيرها، أو نفي أنْ
يطمثهن إنس أو جانٌّ مبالغة، وقَصْداً للعموم، فكأنه لم يطمثهنَّ شيء.
وقيل: أراد لم يطمث نساءَ الإنس إنس، ولا نساء الجنِّ جِنٌّ.
وهذا على القول بان الجن يدخلون الجنة، ويتلذّذون فيها بما يتلذَّذ البشر.
وقد قدمنا أنهم في رَبض الجنة لا يسكنون مع الإنسان، وأن رؤيةَ الله خاصة بالإنْس على المشهور (1) .
وقد صحَّ أن الله تعالى إذا خلق الجاريةَ من الحور العين خلق عليها
خيمة من الدّرّ ستْرًا لها وغيرة على مَنْ خلقها له ألَّا يراها غيره.
فما لَك يا محمدي لا تغير أنْتَ عليه إنْ كنت تحبّه، ولا أرى لكَ ذلك.
لأنك تقول رضيت بالله ربًّا ولم ترض بقضائِه.
وتقول تحبه، وأنْتَ تحب غيره وتقول وجّهْت وجْهيَ له، وقد وجّهْته لدنيا
وأهلٍ ومالٍ ووَلدٍ.
أما علمْتَ أن حقيقةَ العبودية الإقرار لمعبودها، لا رَاعَى الله من لا يراعي الذمم.
ربّك يعاملك بكل ما تريد ولا تَفْعل له ما يريد، كلّ ذلك لكَ لا له، إذ هو غني عن العالمين.
(ياقوت) :
هو حجر عزيز يضيء أعلاه كالقمر، وهو قليل الوجود، وهو أنواع.
وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسي، وشبَّهَ الله نساءَ الجنة بالياقوت، وأين الياقوتُ منهن، ولكن خاطب عبادَه بما يفهمونه.
وقد قدمنا أنَّ أحوالَ الدنيا إنما هي أنموذج على ما في الآخرة لا مِثْلها.
(يُصِرُّونَ) .
أى يدومون من غير إقلاع.
قال ابن الجوزي: معناه يضجون بالحبشية.
(يُنَزِّلُ على عَبْده آياتٍ بيِّنَات) :
المراد به سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - للتشريف والتكريم.
__________
(1) لا يوجد دليل على عدم رؤيتهم لربهم في الجنة، والعول عليه فضل الله وسعته.(3/423)
وقد قدمنا أنَّ هذه الإضافة خاصة به، كقوله تعالى: (وأنه لما قام عَبْدُ الله) .
(سبحان الذي أسْرَى بعبده) .
فما أشرفها من إضافة، وما ألذّه من خطاب!
(يسْعَى بين أيديهم وبأيْمَانهم) :
الضمير للمؤمنين، يعني أنهم يكون لهم نور يوم القيامة أمامهم ومِنْ خلفهم على قَدْر إيمانهم، منهم مَنْ يكون نوره كالنخلة السَّحُوق، ومنهم ما قرب من قدميه، ومنهم مَنْ يضيء مرة وينطفي، أخرى كالشمعة.
والكافرون والمنافقون لا نُورَ لهم، فيرون المؤمنين الأنوار محدقة فيقولون: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) .
وقيل: إن هذا النور استعارة يرادُ به الهدَى والرضوان.
والأول أصح، لوروده في الصحيح.
(يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) :
أنى الأمْر إذاَ حان وقتُه، وذِكْر الله " يحتمل أن يريد به القرآن، أو الذّكر، أو التذكير، أو المواعظ.
وهذه آيةُ موعظةٍ وتذكير، قال ابن عباس: عُوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وسمع الفُضَيل بن عياض هذه الآية فكانت سببَ رجوعِه.
وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية
فكسره ابْنُ المبارك وتاب.
وحكي أنه كان في غار السودان عابد فأتى بعض الشباب بعود وكوز من
الخمر، فجلس بأعلى الغار من غير عِلْم بالعابد، فلما شرع في ضَرْب العود
والسكر قرأ العابد: (ألَمْ يأن للذين آمَنوا) الآية، فسمعه الشابُّ فقال:
بلى، آنَ، وكسر العود والكوز، وخرج فارّا بنفسه، فتبعه العابد، فعرضت له برْكة السودان فمشى على الماء.
قال العابد: فتبعتُه فغرقت، ولم أقدر على اتباعه،(3/424)
فرفعت رأسي، وقلت: إلهي لي على بابك أربعون سنة، ولم أنَلْ ما نال هذا في ساعة، فسمعت هاتفاً يقول: ذلك فَضْلي أوتِيه من أشاء.
وأنت يا محمديّ تتلوها كلَّ ساعة ولا ترجع إلى ربك! أهكذا شأن مَنْ يريد
الرجوعَ إلى اللَه! كلاّ والله، ليس ثَمَّ رجوع ولا ندم، وإنما هو انهماك في
المعاصي وقلةُ الخضوع، إلهي لا التوبة تدوم لي، ولا المعصية تنصرف عني، ولا أدري بمَ يخْتم لي، غير أنَّ سابقة الحسنى أوجبت لي حسْنَ الظنّ، وقد قلتَ: أنا عند حسْن ظَن عَبْدِي بي فليظنَّ بي ما شاء، فهَبْ لي توبةً منك باقية، واصرف أزمةَ الشهوات عني، وامْح زينتها من قلبي بزينة الإيمان بجاه سيد الثقلين عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، ما اختلف الْمَلَوَان.
(ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتابَ من قَبْل فطال عليهم الأمد) .
عطف: (ولا يكونوا) على (أنْ تخشع) .
ويحتمل أن يكون نَهْياً، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهلِ الكتب المتقدمة، وهم اليهود والنصارى، في حِرْصهم على الدنيا وعرف هممهم إليها، فكم خوَّفَنا سبحانه ونهانا قولا وفعلا، أدَّب الملائكة بإبليس: بعد عبادة ثمانين ألف سنة ترك سجدةً طُرِد.
أبونا آدم عليه السلام بأكلة لم يُؤْذَن له فيها، أهْبِط إلى الأرض وبكى مائتي سنة، وأتعب ذريته (1) .
نوح عليه السلام بكلمة (إني أعِظك) لم يرفع رَأسَه حيا - أربعين سنة (2) ، فالحذَر مِنْ مَيْل إلى دُنْيَا تعدك بمال، فإنه مهلك، كبلعام سلب ولم يقبل أبدا، وكان يعلم الاسْمَ الأعظم.
وبرصيص العابد بعد عبادة مائةِ سنة قرنه الله مع إبليس في قوله تعالى مثَله
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) .
وَتأمّل الحدودَ المرتبَة على الذنوب مِن حدّ قطع عضو فيِ خمسة دراهم.
ولو لم يكن من التخويف "إلا قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) ، وإذا سأل الصادقين عن صدقهم فكيف بمن عصى؟
قال بعضهم: الصدق على ثلاث مقامات: صدق في العزم، وصدق في
__________
(1) مردود بما في البخاري برقم:
4367 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ آنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى
(2) لا يصح ولا يثبت.(3/425)
اللسان، وصدق في الأعمال، فصدق العَزْم تجديد الإرادة، وصدق اللسان محاسبة النفسِ قَبْل إطلاق القول، وصدق الأعمال ركوبُ الجهد بترك العادة النفسية.
فآفَةُ صدقِ العزم العجز، وآفة صدق اللسان المعارضة، قال تعالى في بعض
كتبه: إذا استوَتْ أقدام الأنبياء في الآخرة في صفّها أسأل الصادقين عن
صدقهم، فتحتاج إذ ذاك الأنبياء إلى عفوي، وأقدم حبيبى أمامَهم بخطوة
الصدق الذي أتى به بارزا على جميع الأنبياء، وهو مقام الوسيلة الذي وعدتُه
بنَيْلِه، ولا سؤالَ أعظم من سؤال الصادقين عن صدقهم، لأني أطالبهم بصدق الصدق، وقد عجز المخلوقون أجْمَعُ عن الصدق، فكيف يجيبون عن صِدْقِ الصدق.
اللهم لا حيلةَ لنا في الوصول إلى منزل الصدق عندك إلا باطِّراح أنفسنا
قولاً وفِعْلاً، لأنكَ أنْتَ أنت ونحن نحن، َ ولا بدّ لنا منك، فارحم ذلَّنَا بين
يديك يا أرْحمَ الراحمين..
(يظَاهِرون منكم مِنْ نَسائِهم) :
بالتشديد والتخفيف بحذف الألف وإثباتها مع التخفيف، ومعناهما واحد، وهو أن يقول الرجل لامرأته: أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمّي، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأةٍ محرَّمةٍ على التأبيد، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، سواء ذكر لفْظَ الظّهْر أو لم يذكره، كقوله: أنتِ عليَّ كأمي، أو كبطن أمي، أو يدها أو رجلها، خلافاً للشافعي، فإنَّ ذلك كلَّه ليس عنده بظِهَار، لأنه وقف عند لفظ الآية.
وقاس مالك عليه، لأنه رأى أن القصد تشبيه حلال بحرام.
(يَتَمَاسَّا) :
المراد بالمسيس هنا الوطء، وما دونه من اللمس، والتقبيل، فلا يجوزُ للمظاهر أنْ يفعلَ شيئاً من ذلك حتى يكفِّر.
وقال الحسن والثوري: أراد الوطء خاصة، فأباحوا ما دونه قبل الكفَّارة.
وذكر الله قوله: (قبل أن يَتَمَاسَّا) في التحرير والصوم، ولم يذكره في الإطعام.(3/426)
واختلف العلماء في ذلك، فحمل مالك والشافعي الإطعام على ما قبله، ورأى أنه لا يكون إلا قبل المسيس، وجعل ذلك من المطلق الذي يحْمَل على المقيد.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام أن يطَأ قبل الكفَّارة، لأنَّ الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسِيس.
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) :
أمّا إخرابُ المؤمنين فهو هَدْم أسوارِ ألحصون ليدخلوها، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله: (يُخْرِبُونَ) ، لأنه كان بسبب كفرهم وغَدْرِهم، وأما إخرابُ الكفار لبيوتهم فلثلاثةِ مقاصد:
أحدها حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواهَ الأزقّة
ويحصِّنوا ما أخْرَبه المسلمون من الأسوار، والآخر ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسَّواري وغير ذلك.
والثالث ألاَّ تَبقى مساكنهم مبنيّة للمسلمين، فهدَموها شُحًّا عليها.
(يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) :
بالقتل والفيء والأسْرِ وغيرها.
(يثْقَفوكم) .:
يظفروا بكم.
(يَنْهَاكُم اللَّهُ عن الذين قاتَلوكم في الدين) :
هم كفار قريش، والآية في النهي عن الإحسان إليهم والتحبّب إليهم.
وأما مَنْ لم يقاتل فقد قدمنا في حرف اللام أنَّ الله رَخَّص للمسلمين في صلتهم.
وقد صحَّ أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسولَ الله، إنَّ أُمِّي قدمَتْ عليَّ وهي مشركة أفأصلها؟
قال: صِلِي أُمَّك.
(يَئِسُوا من الآخِرَة) .
أي من خيرها والسعادة فيها.
(يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدِّقا) .
هذا القول من عيسى عليه السلام تعريضٌ لهم واستدعاء لهم أن يتديَّنوا بدينه، وأن يصدفوا بما صدَّقَ به.
(ومصدقاً) حال مؤكدة، (ومبشراً) ، عطف عليه.
والمعنى أرسلتُ إليكم في حال تصديقي بما تقدمني من التوراةِ وفي حال(3/427)
تبشيري برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، وأن ديني التصديق بكتاب الله
وأنبيائه جميعا ممَّنْ تقدّم أو تأخّر.
فإن قلت: لمَ لمْ يقل: يا قوم، كقول موسى عليه السلام: (يا قومِ لم
تُؤْذُونَني) ؟
والجواب أنَّ عيسى عليه السلام لما نسبَ له فيهم، فيكونوا قومه، إذ لم يكن
له فيهم أب.
فإن قلت: لم جاء قولُ عيسى عليه السلام فيما يرجع إلى التوراة بلفظ
التصديق، وفيما يرجع إلى النبي عليه السلام بلفظ البشارة، ولِمَ قال: (مصدقاً) بالتوراة ولم يقل بموسى؟
قلت: المراد أنْ يخبر عليه السلام بأنه مصدّق بمَنْ تقدم وتأخر من رُسله
وكتبه، فجاء لفظُ التصديق بالتوراةِ على الأمر المقصود، والتصديق بالتوراة
يستلزمُ التصديقَ بمَنْ جاء بها، وكأنه نزَّهَ الرسولَ الذي جاء بها عن أن يُسْتَراب برسالته حتى يحتاج إلى مَنْ يصدقه ممن هو مثله.
ولما كان مجيء محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أمراً منتظرا حَسُنَ التبشير به، والبشارةُ به تتضمَّن تصديقَه سيما وقد سمَّاه رسولا وعرفه بأحمد، الاسم المسمَّى به في السماء عند الملأ الأعلى، وهو أفخم للمسمى، وأبلغ في تفخيمه.
وهنا نكتة لطيفة، وهي أنَّ المبشَّر به يشعر بأن البشارة به تقتضي بأنه يأتي
بأمور فيها البشرى لمَنْ جاءهم بها وقبلوها منه.
قال ابن عطية: وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص، وليست على حدِّ قولك: جاءنا أحمد، لأنك ها هنا أوقعْتَ الاسْمَ على مسمَّاه، والآية إنما أراد فيها باسمه هذه الكلمة.
ووقع للفخر في سورة الحمد مناسبة اشتقاق اسمه أحمد ومحمد من الحمد، لأنه أول ما خلق الله العقل، فكان أول ما نطق به الحمد، وكان آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فناسب الخَتْم أن يكونَ من نوع المبدأ، فاشتقَّ له من الحمد اسمان: محمد وأحمد، فأهل السماه هو أحمدهم، وأهل الأرض هو محمدهم.(3/428)
فإن قلت: لم أخَّرَه - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلْق؟
والجواب لخصائصه وخصائص أمته، منها أن مَنْ تقدم ظهرت فيهم الصناعة
المحتاج إليها، فظهرت الحراثةُ من آدم، والخياطة من إدريس، والنجارة من
نوح، والقيانة من داود، والخرازة من إلياس، وغير ذلك من الصنائع التي احتيج إليها، فجاءت إليهم مهذَّبة، ومنها لئلا يطلع على مساويهم أحدٌ من الأمم.
ومنها لئلا يطول مكثهم في التراب.
ومنها ليكونوا شهداءَ على مَنْ تقدّم، وغير ذلك من الخصائص التي نالوها بسببه - صلى الله عليه وسلم - ويطول ذكرها.
فإن قلت: هل لتسميته في الأحزاب حكمةٌ، لأنها مخالفة لتسمية عيسى؟
فالجواب: أنهم كانوا لا يعرفون في الكتب الماضية إلا هذا الاسم، وسِرّ
تسميته به أنه أشار إليهم فيها بأنه أحمدهم، وهذا الاسم لمْ تغيره ألسنةُ العامة، لأنهم يقولون محمد بفتح أوله أو بضم أوله، ويستعظمون ذِكْره على وجهه
للمواطأة فيه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتغيير نسبة، إذ قال: " إنَّ الله صرف عني إيذاءَ قريش وسبَّهم، يسبّون ويذمُّون مذمَّما، وأنا محمد ".
ولما اتصف نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بكونه أباً للمؤمنين في سورة الأحزاب، لأنهم كانوا لا ينادونه إلا بهذا الاسم تجد المؤمن إذا دهمه أمْرٌ أو حدث له حادث لا يفزع إلا لهذا الاسم الشريف، إذ لا أحسن للإنسان من أبيه عند الفَزع.
وبهذا يندفع ما نحا إليه النووي في الأذكار حيث يزعم أنه لا يذكر اسمه عند العشرة فما فوقها، ولعلَّ السرَّ في هذه الآية هو من ناحية نفْيِ أبوَّة الأشباح، وصحة كونه أباً للأرواح مع كونها مقتضية للرسالة، وختم النبوءة.
وفي شرح البخاري لابن بطال أنَّ الأبوة أشهر من الأمومة، بدليل: (ادْعُوهُم لآبائِهم) ، وللحديث: " ينصب للغادر لواء يوم القيامة ثم يقال: هذا لواء فلان ابن فلان ".
وإنما فرع من قال بالنسبة للأم، لأنه رأى الستر يوم القيامة أدْخَل في باب الإغضاء، وفيما قاله نظر، إذ الأبوة نسبة ظنّية والأخرى يقينية.(3/429)
وفي حديث القاضي المعافي: إنما الإشكال في دعوى ولد الزنى يوم القيامة
لأبيه، مع أنه ليس بأب شرعي.
وأجاب باحتمال دَعْوىَ المجاز كأبي الأرامل، أو أنَّ أحوال الآخرة على
خلاف أحوال الدنيا يُدْعَى إلى الإسلام الداعي إليه نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم.
(يَغْفِرْ لكمْ) :
جزم في جواب (تؤمنون) ، لأنه بمعنى الأمر، فقد قرأ ابن مسعود: آمِنوا وجَاهِدوا - على الأمر.
وقال الفراء: هو جواب (هل أدلُّكم) ، لأنه يقتضي التحضيض.
(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
منّ الله على عباده ببَعْثِ رسول منهم وإليهم يعلِّمهم بيانَ الشرائع والفهم، ويزَكيهم: يطهرهم، ونسب التعليم إليه، لأنه يعلم ما في الكتب وطرق النظر بما يلقيه جبريل إليه، فأعرضوا عنه، وقالوا: هل بعث الله ملكا.
وقد قدمنا سِرَّ بَعْثِ الرسل من البشر، إذ البشرية لا تطيق مباشرةَ
الروحانية.
أَلاَ ترى جبريل، كان يخرجه - صلى الله عليه وسلم - من البشرية حين يُلقى إليه الوَحْي.
فإن قلت: ما فائدة تقديم العلم في البقرة، وتأخيره في الصف وآل عمران؟
والجواب: لأنه لما كانت دعوة إبراهيم عليه السلام قبل وجود الضلال في
الذرّية المدعوّ لها، وإنما تحصل لهم تزكيتهم ورَفْع ضلالهم المتوقّع لوقوعه بما
يمنحونه من التعليم وما يُتْلى عليهم من الآيات، لأن ذلك هو السبب في حصول التزكية والسلامة من الضلال إذا وققوا للانقياد له، ألا ترى ارتباطَ التزكية بأعمال الطاعات، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) ، وإنما كان تزكية لهم لانقيادهم بالطاعة فما يطلبهم به من
ذلك ويأخذه منهم، فتأخَّر ذكر التزكية المسبّبة عما به تحصل، وذلك بعد
هدايتهم للإيمان، فجاء على الترتيب من بناء المسبَّب على سببه.(3/430)
ولما كان مقصود الآيتين الأخيرتين إنما هو ذِكرُ الامتنان عليهم بهدايتهم
بعد الضلال الذي كان وُجِد منهم والتعريف بإجابة دعوة إبراهيم عليه السلام أخر ذِكزَ تعليمهم الكتاب والحكمة المزيلين لضلالهم، ليكونَ تلوهم ذِكْر الضلال الذي أنقذهم الله منه بما علمهم وأعطاهم وامْتَن عليهم، وهو ثاني المسببين، فكان الكلام في قوةِ أن لو قيل: ويعلمهم ما به زوَالُ ضَلاَلِهم.
وأخَّر في هاتين الآيتين ذكرَ السبب ليوصل بذكر مسببه الأكيد هنا الذي
قد كان وقع، وهو رفع ضلالهم وانقيادهم من عظم مِحْنته، ولو أخَّر ذِكْرَ
التزكية لما أحرز هذا المعنى المقصود هنا، فاختلافُ الترتيب إنما هو بحسب
اختلافِ القصدين ودَفْع ما ذكر، فورد على ما يجب.
(يَلْحَقوا بهم) :
معطوف على آخرين، أي لم يلحقوا بهم.
واختلف مَنْ هم الآخرون، والصحيح الذي ورد في الصحاح أنهم أهلُ فارس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عنهم، فأخذ بيدِ سلمان، وقال: لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء، يعني فارس.
وقيل: هم الروم، و (منهم) على هذين القولين يريد في البشرية وفي الدين لا في النسب.
وقيل: هم أهلُ اليمن وقيل هم التابعون وقيل هم سائر المسلمين.
(يحْسَبُون كُلَّ صَيْحةٍ عليهم هم العَدُوُّ) .
عبارة عن شدة خوفهم من المسلمين، وذلك أنهم كانوا إذا سمعوا صياحاً ظنوا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلهم، وفي هذا دليل على أنه كان يعلمهم.
(يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) :
الضمير يعود على المنافقين، يعني أنهم يميلونها إعراضاً واستكباراً.
وسببُ نزول هذه السورةِ ما جرى في غَزْوَة بني الْمُصْطلق بين جَهْجاه بن
سعيد أجير عمر بن الخطاب وبين سنان الجُهني حليف لعبد اللَه بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين على الماء الذي وقع الزحام فيه، فلطم جَهْجَاه سناناً فغضب سنان، ودعا بالأنصار، ودعا الجَهْجَاه بالمهاجرين، فقال عبد الله بن أبَيّ: والله ما مثلنا(3/431)
ومثل المهاجرين إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلك.
ثم قال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، يعني بالأعزّ نفسه وأتباعه، ويعني بالأذَلّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال لقومه: إنما يقيم هؤلاء بالمدينة بسبب مَعُونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعْتُم عنهم ذلك لفَرّوا عن مدينتكم، فسمعه زيد بن أرقم، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك عبْدَ الله بن أبيّ، فحلف لرسول الله أنه ما قال شيئاً من ذلك وكذَّب زيداً، فنزلت السورة عند ذلك، فبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد، وقال له: صدَّقك الله يا زيد، فخزي عبد الله بن أبَيّ ومقَتَهُ الناس، فقيل له امْضِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لك، فإنه رحيم بالأمة، فلوَى رأسه استكباراً، وقال: أمَرْتموني بالإسلام فأسلمْتُ، وبأداء الزكاة ففعلت، ولم يبق لكم إلا أنْ تأمروني بالسجود لمحمد، فعاش قليلاً ومات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا حيلة في القدر: جمع الحبس والتعذيبُ بين بلال وعمار على نبذ الدين.
فزوّر على عمار على خط قلبه، فلم يعرف التزوير، وأسر بلال على دعوى
الإبلاس فسلموه إلى صبيانهم في حديدة يصرونه في حَرِّ مكة، ويضعون على
صدره وقت الرمضاء صخْرَةً، ولسانُ محبته يقول:
بعينك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللشوق ما لم يبْقَ مني وما بقي
وجيء بأبي جَنْدَل يجرَّ قيودَه، فردّه - صلى الله عليه وسلم - إليهم ودموعُه تسيل على صدره، وأنشد أبياتاً آخرها:
وعلى ما صفحوا أو نقموا ... لأرَى يا طيبة منك يدا
وكذلك أبو سهيل وغيره حبسوهم عنه - صلى الله عليه وسلم -، فجرى القَدَر بِلقْياه، والإيمان به، وهؤلاء لم تسبق لهم سابقة سَبْق.
من أنْتَ يا بلال حتى عرج بك على براق العناية إلى حضرة القرب للقرب.
وخلف عن نيْل المطالب أبو طالب، جئتَ يا سلمان من فارس حق نظمتك يدُ(3/432)
العناية في سِلْكِ سلمان مِنا أهْل البيت.
يا صهيب، ما الذي سمعتَ من الأخبار
حتى تنعلت، ولبسْتَ سربالَ الهموم حتى سبقْت.
يا ابْنَ أدهم، مَنْ أنت حتى طرَّزْت حلَل المنابر برقوم مدحتك.
يا عتبة، مَنْ أنْتَ حق تزينَت مجالِس الأذكار بحديثك.
يا رابعة، مَنْ أنْتِ حتى لبيت المنادي، وحلَلْتِ من القرب في
النادي، وقيل لك: مِن أجلك قبلت مَنْ أتى إليك، اللهم إنك نبَّهْتَ قلوباً
نائمة، وأيقظت أسماعاً ساهية، وأقمتَ بالمواعظ إلى بابك قلوباً ناسية حتى سمعوا الإشارةَ، فأسرعوا وصفَتْ قلوبهم لمحبتك فيهم، فإنهم لم يحبوك حتى أحبَبْتَهم، ولم يقربوا منك حتى أوصلْتَهم، ارحمنا بذكرهم واقْبَلْنَا كما قبِلْتَهم، فإنه لا مانعَ لما أعطيْتَ، ولا مُعْطِيَ لما منَعْتَ، ولا تحرم مَنْ نظر في كتابي هذا وقال: اللهم ارْحَم المحرومَ برحمتك، وإن كان غَيْرَ مستأهل القبول، فضلك الكريم لا يرد الطفيليَّ والمتعلق.
فإن قلت: ما فائدة الجمع في قوله: (وإذا قيل لهم تعالَوْا يستغْفِر لكمْ
رسولُ الله) ، مع أن الخطاب لواحد؟
والجواب: أن الإسناد للتحقير وإبقاء الستر على العُصَاة حيث لم يعيّن القائِل.
وقد كان له أتباع من المنافقين يوافقونه على ما قال، فالخطابُ لهم.
(يأتِينَ بفاحشَة مُبَيِّنَة) :
ضمير الإناثِ يرجعُ إلى المطلقات.
والمعنى أن الله نهى عن أن يُخْرج الرجلُ المطلقةَ من المسكن الذي طلَّقها فيه.
ونهاها هي أنْ تخرجَ باختيارها إلا أن تأتي بفاحشة.
واختلف في هذه الفاحشة التي أباحَتْ خروجَ المعتدَّة على خمسة أقوال:
الأول أنها الزنى، فتخرج لإقامة الحدّ! قاله الليث بن سعد، والشعبي.
والثاني أنه سؤال وكلام مع الأصهار، فتخرج ويسقط حقها من السكنى.
ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب، قاله ابن عباس.
ويؤيّده قراءة أبيّ بن كعب: " إلا أنْ يفحشن عليكم ".(3/433)
والثالث أنه جميع المعاصي من القَذْف والزنى والسرقة وغير ذلك، فمهما
فعلت شيئاً من ذلك سقط حقُّها في السكنى، قاله ابن عباس أيضاً، وإليه مال
الطبري.
والرابع أنه الخروج من بيتها خروج انتقالِ، فمهما فعلَتْ ذلك سقط حقُّها في السكنى، قال ابن الغرس: وإلى هذا ذهب مالكَ في المرأة إذا نشزَتْ في العدّة.
الخامس أنه النشوز قبل الطلاق، فإذا طلَّقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه
سكنى، قاله قتادة.
(يُحْدِث بعْدَ ذلكَ أمْراً) :
المراد به الرجعة عند الجمهور، أي أحْصوا العدَّة وامتثلوا ما أمرتم به لعلَّ الله يُحْدث الرجعةَ لنسائكم.
وقيل المعنى: لعل الله يحدِث أمرا من نسخ هذه الأحكام، وهذا بعيد.
وقيل: إنَّ سببَ الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي - صلى الله عليه وسلم - لحفصة بنت عمر، فأمره الله بمراجعتها.
(يتَنَزَّلُ الأَمْر بينهنَّ) .
أي بين السماء والأرض.
وقد قدمنا آنِفاً أن المراد بالأمر الوحي أو إحكام الله وتدبيره لخَلْقِه.
(يَفْعَلون ما يُؤْمَرون) :
الضمير يعود على الملائكة الغلاظ، لقساوة قلوبهم على مَنْ عصاه، ويتقربون بتعنيف بني آدم وتعذيبهم مما هو مشاهدٌ في حَرَس ملوكِ الدنيا كلما ازدادوا عُنْفاً على المأمور به ازدادوا محبةً عند الأمير.
فإن قلت: قوله (لا يَعْصونَ الله ما أمرهم) ، يُغْني عن قوله: (ويَفْعَلون ما يؤْمَرون) ؟
والجواب: أنه أكَّدَه بذلك، ليزداد خوْفُ المخاطب.
أو معنى (يفعلون ما يؤمرون) بنشاط وجدٍّ فيما أمروا به من عذاب الناس.
اللهم أعِذْنا من عذابك.(3/434)
(يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) :
العامل في يوم يحتمل أنْ يكونَ ما قبله أو ما بعده أو محذوفاً، تقديره اذكر، والوقف والابتداء يختلف على ذلك.
(يَسطرونَ) :
الضمير للملائكة على قول من قال: القلم هو الذي يُكتب به في اللوح المحفوظ.
وعلى مَنْ قال إنه القلم المعروف عند الناس يكون الضمير لبني آدم.
(يبدِلَنا خيراً منها) :
الضمير لأهل الجنة التي رأوها كالصَّرِيم، وقصتهم معروفة.
فطلب المؤمنون منهم البدَل في الدنيا أو في الآخرة.
وهكذا المؤمن يرجعُ إلى الله في نوائبِه ولا يضجر بما يناله.
(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) .
يعود ضمِير (بَنِيهِ) فيها إلى الحميم، لأنها في معنى الجمع.
والمعنى أن كل في يبصر حمِيمه يوم القيامة، فيراه ولكنه لا يسأله، لأنه مشغول بنفسه، وأيّ شغل وهو يودّ حينئذ أن يفدي نفسه
ببنيه الذين هم أحبُّ إليه من نفسه، ولا يجد ذلك، ولذلك عطفه
بـ (ثم ينْجِيهِ) ، لبعْد النجاة وامتناعها.
والفاعل الذي يقتضيه: (لو يَفْتَدِي) ، وهذا الفعل معطوف على لو يفتدي، ولذلك زجرة عن ذلك بقوله: (كلا) .
(يَوْمَهم الذي يوعَدون) :
قد قدمنا مراراً أنه يوم القيامة، بدليل أنه أبدل منه: (يوم يَخْرجونَ من الأَجداث) ، وهي القبور.
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) :
هذا من قول نوح، وعَدَهم أَن يغفر لهم ما قبل إسلامهم لا بَعده، لأن ذلك في مشيئة الله، فمِنْ هنا للتبعيض، وقيل لبيان الجنس، وقيل لابتداء الغاية، وهذان ضعيفان، والأول أولى، لأن التبعيضَ فيها متَجه.
وتعلَّق المعتزلة بهذا، فقالوا بالأجَلين.(3/435)
وردَّ تعلقهم، لأن المعنى أنَّ نوحاً عليه السلام لم يعلم هل هم ممَّنْ
يؤخر أو ممن يعاجل، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد جاء، لكن سبق في الأزَل أنهم إما ممن قضِي له بالإيمان والتأخير أو ممن قضِي له وعليه بالكفر والمعاجلة، فكان الاحتمال يقتضيه ظاهر الآية إنما هو يبرزه الغَيْب من حالهم، إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير وإما الكفر والمعاجلة، وأمَّا ما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدَّر محتوم، وأجلهم كذلك معلوم مقدَّرٌ محتوم.
فإن قلت: ما المانع من كون (من) للغاية، أعني الابتداء والانتهاء.
كقولك: أخذت المالَ - من الصندوق؟
والجواب لا يصح هنا، لأنَّ الصندوق غير مأخوذ، بل مأخوذ منه، فيلزمِ
هنا أن تكونَ الذنوب غير مغفورة، ونقل عن أبي الربيع أنه إشارة إلى أنّ
الإسلامَ يحبط ما قبله.
وردّ بأنه يلزم صدق الذنوب على الماضي والمستقبل، لأن
الخطابَ للكفار، فيلزم المجاز، لأن الآتي لم يعملوه، فكيف يصدق عليه أنه
ذنوب قبل الفِعْل.
ونقل عن ابن عصفور أنه قال: يغفر لكم جملةً من ذنوبكم.
ورد بأن تلك الجملة بعض الذنوب، فلا حاجةَ إلى تقديرها، ولفظة من النائبة مناب بعض يغني عنها.
فتأمل يا محمديّ هذه العناية الربانية بكَ حيث خاطب هذه الأمّة، قال في
حقهم: (يغْفِرْ لكم ذنوبكم) ، وحيث خاطب الأمم المتقدمة أنبياؤهم خاطبوهم بالبعض، لتعلم الفَرْقَ بين خطاب المولى الكريم من خطاب عبيده.
(يقول سَفِيهنَا على الله شَطَطاً) :
هذا من كلام الجنّ، والمراد بالسفيهِ أبوهم إبليس.
وقيل هو اسْمُ جنس لكلّ سفيهٍ منهم، وهو المختارُ عند ابْن عطية.
(يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) :
الضمير يعود على العرب، لأنهم كانوا إذا حلَّ أحدهم بوادٍ صاح بأعْلَى صوته: يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ(3/436)
بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد أن ذلك الجني الذي بالوادي يحميه، وهذا جهلٌ منهم وإنكار للربوبية، ولذلك قال الله: (فزادوهم رهقا) .
(يَدْعُوه) :
الضمير لعبد الله المتقدم.
وقد قدمنا مراراً أنَّ اللهَ سمّاه هذا لإضافته للتشريف والتكريم.
وقال الزمخشري: إنما لم يقل الرسول أو النبي لأن هذا وقع في كلام رسول الله عن نفسه، لأنه مما أوحي إليه، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَه على ما يقتضيه التواَضع والتذلل، وهذا بعيد مع أنه إنما يتمكن
على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفاً على (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ) .
وأمّا على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله، ومن جملة كلام الجن، فيبطل ما قاله.
(يكونون عليهِ لِبَداً) :
يحتمل أن يكون الضمير للكفار من الناس، أيْ كادوا يجتمعون على الرد إليه وإبطال أمْرِه، أو يكون للجن الذين استمعوا، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماعِ القرآن للتبرُّك به.
(يَجعل له رَبِّي أمَداً) .
أي لا أدري أقريب ما توعدون مِن قتلكم يوم بَدْر أو موتكم بعد، ولذلك قال: (عالمُ الغيب) ، يعني هذا أمر مغيب.
(يوم تَرْجفُ) .
العامل في يوم معنى الكلام المتقدم، وهو (إنَّ لدينا أنْكالاً) .
(يجعَل الوِلْدَان شِيباً) .
يعني أن الأطفال يشيبون يوم القيامة من شدَّة الهول، فقيل إن ذلك حقيقة، وقيل إنه عبارة عن هَوْل ذلك اليوم، وأخذ من الآية أنَّ الهمَّ يسرع الشيب، وهذا مشاهَد في كثيَر من الأشخاص في كل عصر.
وقد رأينا مَنْ شاب من هَمِّ ساعة، ورأينا حكايات شتّى أنهم شابوا من ذلك، فإذا كان هذا في الدنيا المنْقَرِضة همومها،(3/437)
لا خيرها يدوم ولا شرها يبقى، فما بالك بيوم تذهل فيه كلّ مرضعةٍ عمّا أَرضعت، ويفرّ المَرءُ من أخيه!
اللهم لا محيص من هَوْله إلاَّ بك، ولا مَفَرّ منه إلا بعفوك، فاجعله لنا يوم رحمةٍ لا يوم نِقْمة، إليك المشْتَكى، وبكَ المستغاث، وعليك التكلان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك.
(يَطمَعُ أَنْ أَزِيد) .
أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله، ويظن أن حِرصَه واجتهاده يوصّله لمراده، وهذا غاية الجهل، ولذلك قال مهدّداً له: (كلا إنه كان لآياتنا عَنِيداً) .
(يقول الذين في قلوبهم مَرَضٌ والكافرون) :
المراد بالأولين المنافقون، لأنه وصفهم بمرض قلوبهم.
فإن قلت: ذلك في البقرة، وهذه الآية مكية، فكيف يصحّ إطلاقها عليهم
وليسوا بها؟
والجواب: أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا، ففيه إخبار بالغيب، أو يريد
مَنْ كان بمكة من أهل الشك.
(لِيَفْجُرَ أمَامَه) .
أي يفعل أفعالَ الفجور.
وفي معنى " أمامه " ثلاثة أقوال:
أحدها أنه عبارة عما يستقبل من الزمان، أي يفجر بقيةَ عمره.
الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته، يقال: مشى فلان قدَّامه إذا
لم يرجع عن شيء يريده، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان.
الثالث أَن الضمير يعود على يوم القيامة.
والمعنى يريد الإنسان أن يَفْجرَ قبل يوم القيامة.
(يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) .
أي يسأل الإنسان على وجه الاستخفاف والاستهزاء متى يوم القيامة.
وهذا لِجَهلِه إما على أن من مات فقد قامت قيامتُه وهو يشاهد الموت بَغْتة، فكيف يستبعدها وليس الخبر كالمعاينة.
لكن الجاهل أعمى، ولا يقال لهذا جاهل بل أحمق.(3/438)
(يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) .
أي بجميع أعماله المقدمة في عمره، وما أخر منها بعد مماته، هل سَنَّ سنَّةً حسنة أو سيئة أو صلة أَوصى بها تضره أو تنفعه، أو ما قدم من المعاصي وأخّر من الطاعات، أو ما قدم لنفسه من ماله وما أخّره منه.
أو ما قدم في أول عمره وما أخّر في آخره.
ويحتمل أنه ينبَّأ عن مجموعها.
وفي الحديث: " يدنو أحدكم من ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول عبدي خلقْتكَ بتدبيري، وصوّرْتك بحكمتي، وأتممت عليك نعمتي، فلِمَ عصيتني؟ ".
فأيّ جوابِ لك أيها العبد، وفي حديث آخر:
" لا تزول قَدَمَا عَبد حتى يسأل عن خمس: عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه، أتدرون مَنِ المفْلس؟
قالوا: لا، يا رسولَ الله.
قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله أمثال الجبال من الحسنات، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وأكل مالَ هذا، فهذا يأخذ من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته طرحت عليه سيئاتهم، ثم طرح في النار ".
اللهم ارحمنا إذا صِرْنَا إليك، والطف بنا يوْمَ الوقوفِ بين يديك، أقسمتُ عليك بأكرم الخَلْق عليك وأرْفعهم مكانة لديك محمد - صلى الله عليه وسلم.
(يومئِذٍ المَسَاق) :
مصدر من السوق، كقوله تعالى: (إلى اللَهِ المصِير) .
(يَتَمَطَى) .
الضمير يعود على أبي جهل، وذلكَ أنه كان يبختر في مشيته ويتعجّب من نسمته، ويرى انه أَفضل قومه، فردّ الله عليه بقوله: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) أي مَنْ كانت هذه حاله كيف يتبختر، وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم، وختم هذه الآية بقدرته تعالى على إحياء الموتى، لأن مِنْ لازم خَلْق الإنسان وتصويره على هذه الهيئة المشاهدة القدرةَ على إحياء الموتى من باب أولىَ.
(يَتِيما) :
قد قدمنا أن اليتيمَ مَنْ فقد أباه من الآدميين، وِمنَ الحيوان مَنْ
فقد أمَّه، وسَمَّى الله نبيه بقوله تعالى: (ألَم يَجِدْكَ يتيما فآوى) .(3/439)
وذلك أنه قال ليلةَ الإسراء: يا رب، اصطفيتَ آدم، وسلمت على نوح، ورفعتَ إدريس، وكلمتَ موسى، فقال له: (ألم يَجِدْكَ يتيما فاَوَى) .
. .) ، إلى آخر ألم نشرح.
وهذا الاستفهام على ذكر المنة والتسلية بما أعطاه الله وفَضّله على سائر
الرسل، هذا ما أعطاه الله في الدنيا والآخرة وأعظمها قوله: (ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فتَرْضَى) ، ففي إبهام هذا العطاء ما لا يُوصف.
(يَوْمَا عَبوساً) .
قد قدمنا أنه عبوس على الكافر، لأنه يعبس يومئذ حتى يسيلَ الدم من عينيه، مثل القطران، وأما المؤمنُ فيسرّ بما يلْقَى من الرحمة الخاصة به، جعلنا الله منهم.
(يا ليتني كنْتُ تُرَاباً) .
هذا من قول الكافر لما يرى مِنَ اقتصاص البهائم بعضها من بعض، ثم ترجع تراباً فيقوله ليسلم من العذاب كما سلمتِ الحيوانات، وأنّى له ذلك! وقيل المرادُ به إبليس، لأنه احتقر الترابَ في قوله: (خلَقْتَنِي من نارٍ وخلقْتَهُ من طين) ، فيتمنى حينئذ أن يكونَ مثل آدم وأولاده لما رأى ما أنعم الله على المؤمنين منهم.
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) .
العامل في " يوم " محذوف، وهو الجوابُ المقدر، تقديره لتبعثن يوم تَرْجُف الراجفة.
وإن جعلنا (يَوْمَ تَرْجُفُ) الجواب فالعاملُ في يوم معنى قوله: (قلوبٌ يومئذ وَاجِفة) ، أي شديدة الاضطراب كما قدمنا في حرف الواو، ويكون
(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) في موضع الحال.
ويحتمل أن يكون العاملُ فيه (تَتْبَعُهَا) ، وقد قدمنا أن هذين الاسمين من أسماء
القيامة، فقيل الراجفة النفخة الأولى في الصّور، والرادفة الثانية لأنها تتبعها.
وبينهما أربعون عاماً.
وقد قدمنا في حرف الثاء أنَّ الراجفةَ الأرض، والرادفة السماء، لأنها تنشقّ يومئذ.
وقيل الراجفة الموت، والرادفة القيامة.
وقد قدمنا أنَّ(3/440)
النَّفْخ على ستة أوجه: لآدم، (فإذا سَوَّيْتُه ونفخْتُ فيه مِنْ رُوحِي) .
ولذي القرنين: (قال انْفُخوا) .
ولمريم: (فنَفَخْنا فيها من رُوحِنا) .
ولعيسى عليه السلام: (فَأَنْفُخُ فِيهِ) .
وفي هاتين النفختين: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) .
هذه حكايةُ قول الكفار في الدنيا، ومعناه على الجملة إنكارُ البعث، فالهمزةُ
في قولهم (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) للإنكار، ولذلك اتفق القُرّاء على قراءته بهمزتين إلا أنَّ منهم من سهّل الثانية، ومنهم مَن حقّقها.
واختلفوا في (أإذا كُنا عظَاماً) ، فمنهم من قرأه بهمزةٍ واحدة، لأنه ليس موضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيداً للإنكار المتقدم.
(يَقْضِ ما أمَره) :
مجزوم بـ (لمَّا) ، ومعناه أنه لا يقضي الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله، إذ لا بدَّ للعبد من تفريط، وإذا كانت الأنبياء والرسل والملائكة المقرّبون يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حَقّ عبادتك، فكيف يقضي العاصي لربه حَقَّه، أو كيف تقضي العبودية حقّ الربوبية!
(يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين) :
الظرف منصوب بقوله: (مبعوثون) .
وقيل بفعل مضمر، أو بدل من (يوم عظيم) .
وقيام الناسِ يوم القيامة على حسب اختلافهم، فمنهم مَن يقوم خمسين ألف
سنة وأقل من ذلك على حسب أعمالهم، ومنهم مَن يقوم من قبورهم إلى
قصورهم، ومنهم على قَدْر صلاة مَكتوبة.
(يَشْهَده المقَرَّبون) :
يعني الملائكة لقربهم من الله.
(يَشْرَبُ بها) .
يعني يشربها، فالباء زائدة.
ويحتمل أن تكونَ بمعنى يشرب منها، أو كقولك: شربت الماءَ بالعسل.(3/441)
(يَحُور) .
أي يرجع بلغة الحبشة، قاله ابن عباس.
(يخرج من بين الصُّلْبِ والتَرَائبِ) :
الضمير للماء.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون للإنسان، وهذا بعيد جداً.
(يوم تُبْلَى السّرَائِر) .
يعني تنكشف سرائر العبد التي كانت في قلبه من عقائد ونيّات، وتاللَه لا يجد فيها في هذا الزمان إلا ضغائن وحقائد وخبث طويات.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن السرائِر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ".
وهذه معظَمها، ولذلك خَصَّها بالذكر، والعامل في (يوم) قوله
(رَجْعه) ، أي يرجعه (يوم تُبلى السرائِر) .
واعتُرض بالفصل بينهما.
وأُجيب بقوةِ المصدر في العمل.
وقيل: العامل (قادر) .
واعتُرض: بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم، لأن القدرة وإن كانت مطلقةً فقد أخبر الله أن البعث إنما يقَع في ذلك اليوم.
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) .
يعني كيف تنفعه حينئذ الذكرى، وقد انقطعت علائقه.
والإنسان جنس يشمل جميعه، وتذكره إنما هو بنَدمه على تفريطه، ويومئذ بدل من (دُكَّت) ، ويتذكر هو العامل، وهو جواب (دُكَّت) .
(يقول يا ليتني قدَّمْتُ لحيَاتِي) .
أي قدمتُ عملاً صالحاً وقتَ حياتي، فاللامُ على هذا كقولك: كتبت لعشر من الشهر.
وقيل الحياة في الآخرة.
والمعنى: يا ليْتني قدمتُ عملا صالحاً للآخرة.
وكيف ينفَعه هذا القول وقد أخبر الله بعذابه ووثاقه؟!
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) .
قد قدمنا أنَّ النفوس ثلاثة:
لوّامة، وأمَّارة، ومطمئنة، وهي المرادة هنا بالخطاب، لأنها المُوقِنة بحيث(3/442)
لا يتطرق إليها شكٌّ في الإيمان.
وقيل المطمئنة التي لا تخاف حينئذ.
ويؤيدُ هذا قراءة أبيّ بن كعب: " يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ".
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) .
بضم اللام وكسرها.
بمعنى الكثرة.
والقائل لهذا عند قوم الوليد بن المغيرة، لأنه أنفق أموالاً في إفساد أمرِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
(يَتَزَكَّى) .
من أَداء الزكاة، أو من الزكاء، أي يصير زاكياً عند الله، أو يتطهر من ذنوبه.
وهذا الفعل بدل من (يؤتي ماله) ، أو حال من الضمير.
والمراد به أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا نزول هذه السورة فيه لكان فيها كفاية، فكيف وقد شبّهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآصف لما أتي ببركة من مكة إلى المدينة.
وسمي صدِّيقاً لأَنه صدَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس، وعتيقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت عتيق من
النار.
ولما نزلت: (ولسوف يَرْضَى) ، قال: يا رسول الله، لا يرضيني أنَ أحداً مِنْ أمَّتك يدخل النار.
فتبسَّم - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن الله يقول لك:
إن شئت وقفت في يوم القيامة تشفَع فيمن أحببت وإن شئت مضيْت.
وقد ألَّفتُ تأليفاً سميته الوثيق في نصرة الصديق.
وبالجملة فالصحابة كلهم عدول لا يجحد عدالتهم إلا منافق مبتدع، وكيف لا والله يقول: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، فرضي الله عنهم وعمَن رضي عنهم وأحبَّهم.
(يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) :
الخطاب لنبينا - صلى الله عليه وسلم.
ولما نزلت قال: لا أَرضَى أنْ يَبقَى أحد من أمَّتي في النار.
فقال الله له: لا بدّ من نفاذ الوعيد على طائِفةٍ.
فطلب فيهم الشفاعة.
والصحيح أنَّ هذا وعْد يعمّ كلَّ ما أعطاه الله في الدنيا من النصر، والفتوح، وكثرة المسلمين، وغير ذلك، وفي الآخرة من الوسيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود الذي لا ينَالُه أحد.(3/443)
فإن قلت: ما فائدة الامتنان عليه باليتم؟
والجواب: لئلا يكون عليه حقّ لمخلوق، ولما مات أبوه تركه في بطْنِ مولاتنا
آمنة، ثم ماتت وهو ابْنُ خمسة أعوام، وقيل ثمانية، فكفله جدُّه عبد الطلب، ثم مات وتركه ابْنَ اثنتي عشرة سنة، فكفله عمُّه أبو طالب، ورام المعاندون قَتْله وخموده فلم يَقْدروا عليه لحِفْظِ الله له صبيّاً وكَهْلاً، فلهذا عدّد نِعَمَه عليه سبحانه كما قدمنا.
(يتلو صُحُفاً مُطهَّرة) .
الضمير لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه يتلو القرآن في صحُف مطهرة.
وقد قدمنا معناها.
(يومئذ تحَدِّثُ أخبارَها) .
هذه عبارة عما يحْدث الله فيها من الأهوال، فهو مجازٌ وحديث بلسان الحال.
وقيل: هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظَهرها، فهو حقيقة.
وتحدّث يتعدَّى إلى مفعولين، حذف الأول منها.
والتقدير تحدث الخَلْقَ أخبارها.
وانتزع بعض المحدثين من قوله: (تحدث أخبارها) أن قول المحدِّث: حدثنا، وأخبرنا سواء.
وهذه الجملة في جواب: (إذا زلزلت الأرضُ) ، و (تحدث) هو العامل في إذا، و (يومئذ) بدل من (إذا) .
ويجوز أن يكونَ العامل في (إذا) مضمر و (تحدث) عامل في (يومئذ) .
(يَوْمئذ يصْدر الناس أشتاتاً ليُرَوْا أعمالَهم) .
أي مختلفين في أحوالهم، وصدر الناس هو انصرافهم من موضع وردهم.
فقيل الورد هو الدفن في القبور والصدر هو القيام للبعث.
وقيل الورد القيام للمحشر، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار، وهذا أظهر.
وفيه يَعْظم التفاوت بين أحوال الناس، فيظهر كونهم أشتاتاً.
(يوم يكون الناسُ) :
العامل في الظرف محذوف دلَّ عليه القارعة.
تقديره في يوم.
(يحسب أنَّ ماله أخلده) .
أي يظنَّ بفَرْطِ جَهْله واغتراره أنَّ مالَه يخلّده في الدنيا.
وقيل: يظن أنَّ ماله يوصِّله إلى دار الخلد.(3/444)
واختلف على من يعود الضمير من الكفار على أقوال.
(يدعّ اليَتِيم) .
أي يدفَعه بعُنْف، وهذا يحتمل أن يكونَ عن إطعامه والإحسان إليه، وعن ماله وحقوقه، وهذا أشدّ.
(يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) :
هذه الجملة في جواب (أَرَأَيْتَ) ، لأنَّ معناها أخبرني، فكأنه سؤالٌ وجواب.
والمعنى انظر الذي يكذب بالدين تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة والأعمال
السيئة، وإنما ذلك لأنَّ الدين يحمل صاحِبه على الحسنات، وترك السيئات.
فمقصود الكلام ذَمُّ الفاعل لذلك.
قال الجنيد: عرضت نفسي ليلة على هذه السورة، فلم أجد فيها ذلك، ثم عرضت عليها (قد أفلَحَ المُؤْمِنُون) إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) ، فقلت: سبحانك لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فسمعت هاتفاً يقول: من الذين (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
هذا الجنيد فكيف حالك يا خويْد؟!!
(يُرَاءُونَ) الناس، فكانت صلاتهم للناس لا لله، فلذلك ذمَّهم الله في الدنيا وعذّبهم في الآخرة، وفي هذا تحذير لمن اتَّصفَ بصفتهم، فالأحْمَق مَنْ يعمل لرضا الناس، وهو لا يُدرك، وأجهلُ الناس مَنْ طلب ما لا يُدرك، وعن قريب يظهر له فِعله.
وهذا يختلف باختلاف المقاصد، لأن مَنْ عمل لإظهار الله جميله وستره قبيحه، أو لأنه يفعل به ذلك في الآخرة، أو لقُدْوتهم به أذلَّه مثل أجورهم، أو فرح بثنائهم لحبهم الطاعة والمطيع وسلامتهم من أضدادها، أو ليعرف حبَّ ربه تعالى إذا أحبه حَبَّبَهُ إلى عباده، أو لئلا يشغله ذمهم ونحوه فحسن.
(يَمْنَعون المَاعُون) :
قد قدمنا في حرف الميم أن هذا وصف لهم بالبخل وقلّة المنفعة للناس، ومَنْ لا ينفع الناس لا ينفعه الله، وأنفَعُ الناسِ عند الله أنفَعُهم للناس إلا إن أوجب الله طردهم وبعدهم وهجرانهم،(3/445)
فالبغضُ في الله أوجب، ولذلك اختلف الفقهاء في التصدق على تارِك الصلاة، قال بعضهم: الحمد للهِ الذي قال: (عن صَلاَتهم) ، ولم يقل في صلاتهم.
(يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
سبب نزول هذه السورة أنَّ قوماً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاصي بن وائل، وأبو جهل ونظراؤهم - قالوا: يا محمد، اتَّبع ديننا ونَتَّبع دينك، اعبُدْ آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة.
فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئاً.
ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قرأها فقد برئ من الشرك.
وفي هذا المعنى الذي عرضت عليه قريش نزل قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت السّورة بسببها.
فإن قلت: لم كرر قوله تعالى: (ولا أنا عابِدٌ ما عبدْتم) ؟
فالجواب: في تكرار هذه الآيات أقوال جَمَّة ومعانِ كثيرة، وتلخيصها أنَّ
الله تعالى نفى عن نبيه عبادةَ الأصنام في الماضي والحالَ والاستقبال، ونفى عن
الكفار المذكورين عبادة الله في الأزمنة الثلاثة أيضاً، فاقتضى القياس تكرار هذه اللفظة ستَّ مرات، فذكر لفظ الحال، لأن الحال هو الزمان الموجود، واسم الفاعل واقعٌ موقعَ الحال وهو صالح للأزمنة الثلاثة، واقتصر من الماضي على المسند إليهم، فقال: (ولا أنا عابد ما عَبَدْتم) ، وكان اسم الفاعل بمعنى الماضي فعمل على مذهب الكوفيين.
واقتصر من المستقبل على المسند إليه، فقال: (ولا أنتم عابدون ما أَعبد) ، وكان اسم الفاعلين بمعنى المستقبل.
(يُشْعِرُكم) .
أي يُدريكم، وهو من الشعور بالشيء.
(يُلْحِذون في أسمائه) .
أي يجورون في أسمائه ويشتقّون اللات من الإله، والعزّى من العزيز، وقيل تسميته بما لا يليق به، ولما قال أبو جهل ما قال نزلت الآية.(3/446)
(يوم حُنين) :
عطف على (مواطن) ، أو منصوب بفعل مضمر.
وهذا أحسنُ لوجهين:
أحدهما أن قوله: (إذ أعجبتكم كثْرَتُكم) : مختص بحُنين، ولا يصح في غيره من المواطن، فيضعف عطف أحدهما على الآخر، إلا إن أريد بالمواطن الأوقات.
وحُنين اسم علم لموضع عُرف باسم رجل اسمه حُنين، وانصرف لأنه مذكر، وهي قرية قرب الطائف.
(يُحَادِدِ الله ورسوله) .
أي يخالفهما ويعاديهما.
وقيل: اشتقاقه من الحد، كقولك: يكون الله ورسوله في حدّ، وهو في حدّ.
(يُغَاث الناسُ) :
يحتمل أن يكون من الغيث، أي يمطرون، أو من الغوث، أي يفرج الله عنهم.
(يُحَاوِرُهُ) .
أي يراجعه في الكلام.
(يقَلِّبُ كَفَّيْه) :
يصفّق بالواحدة على الأخرى كما يفعل المتندم المتأسّف على ما فاته.
(يُغادِر) .
يخلف ويترك.
(يضَيِّفوهمَا) .
ينزلوها منزلةَ الأضياف في إطعامهما والإحسان إليهما.
(يُعَقِّبْ) :
يرجع على عَقبِه إلى خلف.
وقيل يلتفت.
(يوزَعون) :
يكفّون ويحبسون.
وجاء في التفسير يحبس أولهم على آخرهم حتى يدخلوا النار.
ومنه قول الحسن رضي الله عنه لما تولّى القضاء وكَثر الناس عليه: لا بدَّ للناس من وزيعة، أي من شرطة يكفّون الناسَ عند القاضي.
(يُؤْتون ما آتوْا) .
من الزكاة والصدقة.
وقيل: إنه عامّ في جميع أعمال البر، أي يفعلون وهم يخافون ألاَّ تقبل منهم.(3/447)
وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنها قرات (يأتون ما أتوا) بالقصر، فيحتمل أنْ يكون الحديث تفسيراً لهذه القراءة، وقيل: إنه عام في الحسنات والسيئات، أَي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله.
فإن قلت: ما فائدة حذف الضمير في هذه الآية المثبت في الآيتين قبلها؟
فالجواب: أنه أكد في الأوليين بالضمير، وفي هذه بقوله: (وقلوبهم وَجِلَة) ، أي خائفة.
(يكَوِّر اللّيْلَ على النهار) .
أي يلف هذا على هذا، ككور العمامة، وهو هنا استعارة على ما قال ابْن عطية يعيد من هذا على هذا، فكأنّ الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه جزء على الآخر فيستره، وكأن الذي يقصر يدخل في الذي يطول فَيْستَتِر فيه.
ويحتمل أن يكون المعنى أنَّ كلَّ واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه.
فشبه في ستره له بثوبٍ يلف على آخر.
(يوبِقْهنَ بِمَا كسبوا) .
ضمير التأنيث يعود على السفن، يعني يهلكها بما يكسب أهلها.
وهذا عطف على (يسْكِنِ الريحَ) ، ومعناه لو شاء اللَّهُ أغرق السفن من شدة الرياح العاصفة، أو يسكنها فيظْلَلْنَ رَوَاكد على ظهره لا يتحركْنَ بالجري.
(يُزْلِقونَك بأبْصارِهم) .
أي يزيلونك بعيونهم، لأنهم غاروا من فصاحته، فقال له قائل منهم: ما أفصحك! وقصد أخْذَه بالعين، لأنه أعياهم أمره، فلم يبقَ لهم من الحِيَل إلا هذا، فأنزل الله عليه هذه الآية، وحفظه منهم، فلذلك لا تجد أنفع رُقْية منها لمن أصابه العين، وقرِئت (ليزلقونك) بضم الياء، أَي يستأصلونك من قولهم: أزلق رأسه إذا حلقه.
(يُوفِضون) :
يسرعون الخروجَ من القبور إلى المحشر، كما يسرعون الْمَشْي إلى أصنامهم في الدنيا، لكنه خلاف إسراعهم إليها، لأن(3/448)
الدنيا دارُ مُهْلة وتَنَعُّم، وهناك كما وصف الله حالَهم (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) .
ووجوههم مغبرة ترهقها قَتَرة.
(يُوعُون) .
أي يجمعون في صدورهم من الكفْر والتكذيب، أو هو سبحانه عالم بما يجمعون في صحائِفهم من الأعمال.
يقال: أوعيت المالَ وغيره إذا جمعته.
ولنختم معاني هذه الحروف بذكر دخول مَنْ أورثه الله هذا الكتاب العظيم من
الظالم والمقتصد والسابق، وأن الله وعدهم بجنةِ عَدْن يدخلونها، والضمير راجع إلى الثلاثة، قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ) .
قالت عائشة رضي الله عنها: لو علموا ما تحت واو الجماعة لماتُوا فَرَحاً.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " سابقُنا سابق، ومقتصدنا لاحق، وظالمنا مغفور له ".
فإن قلت: ما فائدة تقديم الظالم، وهلاَّ جاءتِ الآيةُ مثل الحديث؟
فالجواب: عادةُ المخلوق يقَدِّمُ الأفضل، فخاطبهم الله على عوائدهم، ألا
ترى قوله: زُرْ كغُبًّا تَزْدَد حُبًّا.
وقال الله: (واعْبُدْ رَبك حتّى يأتِيَك اليَقِين) .
ويقولون: لا تعير فتبلى.
وقول الله: (فاعْتَرَفُوا بذَنْبهم) : ويقولون: أحْسِن إلى مَنْ أحسن إليك.
ولما كان السابق قريباً، والظالم بعيداً، والقريب يحتمل ما لا يحتمل البعيد.
والظالم منكس الرأس من حياءِ جُرْمه ومعصيته، فلما نكس رأسه رفعه الله كما أنَّ الجوديّ وطور زيتا لما لم يرفعا رؤوسهما أكرمهما الله كما قدمنا، والظالم ضعيف، والسابق قويّ، والعادة في القافلة تقديم الضعيف والرجالة، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم الضعفة إل مِنى قبل الفجر، فقدم الظالم لئلا يفتضح ولا يَعَاب، وأيضاً الظالم غير مدع والسابق مدع، ولو قدم السّابق وأخّر الظالم لبان منه(3/449)
العَدْل، والظالم رفع قصته إلى الله فوقع له توقع الرحمة في قوله تعالى: (قل يا
عبادي الذين أسرفوا على أنْفسهم) ، وللمقتصد توقع التوبة في
قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
وللسابق توقع الرضوان، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) .
فالمقاماتُ على ثلاثة أسْماء: الله الرحمن الرحيم، فانظر كيف اصطفاهم كما قال في إبراهيم: (ولقد اصْطَفينَاه في الدُّنيا وإنه في الآخرةِ لَمِن الصَّالِحين) .
فإن قلت: ما الفرق بين الاصطفاء والإفضال، ولِمَ لَمْ يقل فضّلنا؟
والجواب: أن الاصْطِفاء كلّي بجميع الأشياء، والإفضال بعض لبعض دون
بعض، والاصطفاء أخروي، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) .
والإفضال دنيوي، (والله فَضل بَعْضَكم على بَعْض في الززْق) ، والإفضال عام، (وأني فَضَّلْتكم على العالَمين) ، أي على عالمي زمانهم، والاصطفاء خاصّ، والخاص مقدَّم على العام.
فإن قلت: ما الحكمة ُ في أنَّ الله أعطى القرآن بلفظ الميراث؟
والجواب: لأنه ليس شيء أطيب وألذّ وأجلَّ من الميراث، فذِكْرهُ بلفظ
الميراث أحلى وأطيب وأشهى.
وأيضاً الميراث لا يُنْزعَ من يَدِ الوارث بخلافِ العطايا والهبات، فذكره بلفظ الميراث ليعلم أنه لا يريد أن ينزعه عنك.
وأيضاً الميراث يعمّ الأولاد عصاة أو مطيعين، كذلك القرآن.
وإذا أكرم الله المؤمن على الجملة باثنتي عشرة كرامة فكيف بمن اصطفاه بهذا القرآن، قال تعالى: (الذين آمَنُوا ولم يُلْبِسُوا إيمانَهم بظُلم) .
(وإن الله لَهَادِي الذين آمنوا) ، (يثبِّتُ الله الذين آمنوا) .
(وبَشّر الذين آمَنوا) ، (وبشِّر المؤمنين) .
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) .
(يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) .(3/450)
(وكذلك ننجي المؤمنين) .
(ربّنا آمَنّا فاكتبنَا مع الشاهدين) .
(وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات) .
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
فإن قلت: قد ذكرت لنا فضيلةَ الثلاثة فميِّز لنا مَنْ هم؟
والجواب: قد قدمنا مَنْ هم، وكثرت أقاويل الناسِ فيهم حتى أنهاه بعضهم
إلى عشرين قولاً، وتلخيصهم أن السابق الذي يدخل الجنة بغير حساب ولا
عذاب، والمقتصد الذي يدخلها بفضل الله.
والظالم الذي يدخلها بشفاعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقيل السابق المحافظ على الجماعة.
والمقتصد المحافظ للوقت، والظالم الغافل عنهماجميعا.
وقيل الظالم الذي خلط عمَلاً صالحاً وآخر سيئاً.
والمقتصد الذي لم يخلط.
والسابق الذي لم تقع منه هفوة.
وقيل الظالم أهل الكبائر.
والمقتصد أهل الصغائر.
والسابق المجتنب لها جميعاً.
فإن قلت: لم وقعت الإشارة (ذلك هو الفَضل الكبير) ؟
فالجواب أنه قد كثرت الأقاويل أيضاً في ذلك، فقيل إشارة إلى الإرْث
والاصطفاء أو الظالم، أو إلى إذْنه، أو إلى دخول الجنة أو إلى الله، أي ذلك
الذي فعل هذا هو الفَضْل الكبير.
اللهم بَلغنا هذا الفَضْلَ، ولا تعاملنا بالعدل، وقد ابتدأنا بالفضل، وفعلك
مبنيٌّ على الابتداء (كما بدأكم تَعودون) .
(يا) :
حرف لنداءَ البعيد حقيقة أو حكماً، وهي أكثر حروفه استعمالاً.
ولهذا لا يقدر عند الحذف سوَاها نحو: (رَبّ اغفِر لي) .
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .(3/451)
ولا ينادي اسم الله، وأيتها، إلا بها.
قال الزمخشري: وتفيد التأكيد الْمُؤْذِن بأنّ الخطاب الذي تتلوه معتنىً به جدًّا.
وترد للتنبيه، فتدخل على الفعل والحرف، نحو: (ألا يا اسجُدُوا) .
(يا ليت قَوْمي يعلمون بما غَفرَ لي رَبِّي) .
وقد ختمْتُ الكلام على هذه الحروف ومعاني أدواتها على وَجْه مُوجز مفيد
محصِّل للمقصود منه، يكظم غيْظَ حبيب النجار، وحَطه عن قومه، والترأف بهم في حياته بالتشمّر في هوايتهم والتلطف معهم في دعائهم إلى الإيمان، وبعد موته بعدم الدعاء لقتلته والباغين له الغوائِل وهم كفرةٌ عبدةُ أصنام، بل تمنى لهم علمهم بأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا وسعادة، راجياً من الله أن يعاملني بما عامل به قومه مع كفرهم وطغيانهم، وهو عبد مثلهم، فكيف بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فأسألك اللهم أن تحنَن عليَّ قلوباً تفكرت في هذه الفوائِد التي جعلْتَ لهم
قلوباً يفقهون بها، وأعيناً يبصرون بها، فيتذكروني إذا وصلوا إلى حضرتك
بذكري عندك، لأنك عالم أني لسْتُ بأهل أن أكون دليلاً إليكَ، لكني أدل
المنقطعين عليك، فاهْدِ الدليلَ، ولا تردَّ المدلول، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك.
(فصل في أقوال كلِّية محتوية على ألفاظ قرآنية)
قال ابن فارس في كتاب الأفراد: كلّ ما في القرآن من ذِكْر الأسف فمعناه
الحزن إلا: (فلمّا آسَفُونا) ، فمعناه أغضبونا.
وكلّ ما فيه مِنْ ذكر (البروج) فهي الكواكب إلا: (ولَوْ كُنْتُم في بُروج
مشيّدةٍ) ، فهي القصور الطوال الْحَصينة.
وكلّ ما فيه من ذكر البَرِّ والبحر فالمراد بالبحر الماء، وبالبر التراب اليابس،(3/452)
إلا قوله: (ظهر الفَسادُ في البَرِّ والبَحرِ) ، فالمرادُ به البرية
والعمران.
وكلّ ما فيه من (بَخْس) فهو النقص إلا: (بثمن بَخْس) ، أي حرام.
وكل ما فيه من (البَعل) ، فهو الزوج إلا: (أتَدْعُونَ بَعْلاً) ، فهو الصنم.
وكلّ ما فيه من (البكم) فالخرس عن الكلام بالإيمان إلا: (عُمْياً وبُكْماً
وَصُمًّا) في الإسراء.
(وأحَدهُمَا أبْكم) في النحل، فالمراد عدمُ القدرةِ على الكلام مطلقاً.
وكلّ ما فيه (جِثيًّا) فمعناه جميعاً، إلا: (وتَرَى كُلَّ أمةٍ جاثية) .
فمعناه تَجْثُو على ركبها.
وكل ما فيه من (حُسْبان) فمن العدَدِ، إلا: (حُسْباناً من السماء) في الكهف، فهو العذاب.
وكل ما فيه من (حسرة) فالندامةُ إلا: (ليَجْعَلَ الله ذلكَ حسْرَةً في
قلوبِهم) ، فمعناه الحزن.
وكلّ ما فيه من (الدحض) فالباطل، إلاَّ: (فكان من الْمُدْحضِينَ) ، فمعناه من المغلوبين.
وكلّ ما فيه من رجز فالعذاب، إلا: (وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ) ، فالمرادُ به الصنم.
وكلُّ ما فيه من (رَيْب) فالشكّ، إلا: (رَيْبَ الْمَنُون) ، يعني حوادثَ الدهر.(3/453)
وكل ما فيه من (الرجم) فالقتل، إلا: (لرَجَمْنَاك) : لشتمناك، و (رَجْماً بالغيب) ، أي ظنًّا.
وكلُّ ما فيه من (الزور) فالكذب مع الشِّرْك، إلا: (مُنْكَرًا مِنَ القَوْل
وَزُوراً) ، فإنه كذب غير شرك
وكلُ ما فيه من (زكاة) فالمالُ، إلا (وحَنَاناً منْ لدُنا وزَكاةً) ، أي طهرة.
وكلُّ ما فيه من (الزيغ) فالميلُ، إلا: (وإذْ زاغَتِ الأبصار) ، أي شخصت.
وكلّ ما فيه من سخر فالاستهزاء، إلا: (سُخْريًّا) ، في الزخرف فهو من التسخير والاستخدام.
وكلّ (سَكِينَةٌ) فيه طمأنينة، إلا التي في قصة طالوت فهو شيء كرأس الهرة له جناحان (1) .
وكل سعيرٍ فيه فهو النار والوقود، إلا (في ضَلاَل وسُعُر) ، فهو العناء!
وكلُّ (شيطان) فيه فإبليس، أي الشيطان وجنوده، إلا: (وإذا خَلَوْا إلى
شَيَاطينهم) .
وكلُّ شهيدٍ فيه غير القتلى فمَنْ يشهد في أمور الناس، إلا: (وادْعُوا
شهَداكم) ، فهو شركاءَهم.
وكل ما فيه من (أصحاب النار) فأهلها، إلا: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً) ، فالمراد خزَنَتُها.
وكلُّ صلاة فيه عبادة ورحمة إلا: (وصَلَواتٌ ومساجد) ، فهي الأماكن.
__________
(1) من الإسرائيليات.(3/454)
وكل (صمم) فيه ففي سماع الإيمان والقرآن خاصة، إلا الذي في الإسراء.
وكلّ عذاب فيه فالتعذيب إلا: (ولْيشْهَدْ عذابهما) ، فهو الضّرْب.
وكلّ قنوت فيه طاعة، إلا: (كلّ لَهُ قانِتُون) ، فمعناه مقِرون.
وكلّ (كنز) فيه مال إلا الذي في سورة الكهف، فهو صحيفة علم.
وَكُلّ (مصباح) فيه كوكب إلا الذي في النور، فالسراج.
وكلّ نكاح فيه تزوّج إلا: (حتى إذا بَلغُوا النكاح) ، فهو الحُلُم.
وكلُّ نَبأ فيه خبر، إلا: (فعَمِيَتْ عليهم الأنباء) ، فهي الحجج.
وكلّ (ورد) فيه دخول إلا: (وَلمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَن) .
يعني هجم عليه ولم يدخله.
وكلّ ما فيه من: (لا يكلِّف الله نَفْساً) فالمراد منه العمل، إلا التي في
الطلاق، فالمراد منه النفقة.
وكل إياس فيه قنوط إلا الذي في الرعد، فمن العلم.
وكل " صبر " فيه محمود، إلا: (لَوْلاَ أنْ صَبَرْنا عليها) .
(واصْبِروا عَلَى آلهتكم) .
هذا آخِرُ ما ذكره ابن فارس.
وقال السجستاني: ليس في كلام العرب كلمة أولها ياء مكسورة إلا قولهم
يسار ويَسار - بالفتح والكسر: اليد.
والله أعلم.(3/455)
وقال بعضهم: كلّ صوم فيه فمن العبادة، إلا: (نَذَرْتُ للرحمن صوْماً) ، أي صَمْتاً.
وكلّ ما فيه من (الظلمات والنور) فالمرادُ الكفر والإيمان إلا التي في أول
الأنعام فالمرادُ ظلمة الليل ونور النهار.
وكلّ (إنفاق) فيه فهو الصدقَةُ إلا: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) ، فالمراد به الْمَهْر.
وقال الداني: كلّ ما فيه من (الحضور) فهو بالضاد من المشاهدة إلا
موضعاً واحداً فإنه بالظاء من الاحتظار، وهو قوله: (كهَشِيمِ الْمُحْتَظِر) .
وقال ابن خالويه: ليس في القرآن (بعد) بمعنى قَبْل إلا حرفاً واحداً:
(ولقد كتَبْنَا في الزَّبُورِ مِنْ بَعْد الذكْرِ) .
وقال غيره: قد وجدنا حرفاً آخر، وهو قوله: (والأرْضَ بعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا) .
قال أبو موسى في كتاب المغيث: معناه هنا (قبل) ، لأنه تعالى خلق
الأَرض في يومين ثم استوى إلى السماء، فعلى هذا خلق الأرْضَ قبل خَلْق السماء.
قُلت: قد تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون لشيء من هذا النوع، فأخرج الإمامُ أحمد في مسنده، وابنُ أبي حاتم وغيرهما من طريق درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلّ حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة ".
هذا إسناد جيد، وابن حِبَّان يصحِّحهُ.
وأخرج ابنُ أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في
القرآن (أليم) فهو الموجع.
وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في
القرآن (قتل) فهو لعن.(3/456)
وأخرج من طريق الضحاك، عن ابن عباس، كلّ شيء في كتاب الله من
الرجز، يعني به العذاب.
وقال الفِرْيابي: حدثنا قبس عن عمّار الدّهني، عن سعيد بن جُبير، عن ابن
عباس، قال: كلّ تسبيح في القرآن صلاة، وكل سلطان في القرآن حجة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: كل شيء في
القرآن (الدين) فالحساب.
وأخرج ابنُ الأنباري في كتاب الوقف والابتداء من طريق السّدِّي، عن أبي
مالك، عن ابن عباس، قال: كل ريب شك إلا مكانا واحدا في الطور: (رَيْبَ الْمَنُون) ، يعني حوادثَ الأمور.
وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن أبي بن كعب، قال: كلّ شيء في القرآن من
الرياح فهي رحمة، وكل لشيء فيه من الريح فهو عذاب.
وأخرج عن الضحاك قال: كلّ (كأس) في القرآن إنما عني به الخمر.
وأخرج عنه، قال: كل شيء في القرآن (فاطر) فهو خالق.
وأخرج عن سعيد بن خبير، قال: كل لشيء في القرآن (إفْك) فهو كذب.
وأخرج عن أبي العالية، قال: كلّ آية في القرآن في الأمر بالمعروف فهو
الإسلام، والنهي عن المنكر فهو عبادة الأوثان.
وأخرج عن أبي العالية أيضاً، قال: كل آيةٍ في القرآن يذكر فيها حفظ الفَرْج فهو من الزنى، إلا قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، فالمرادُ ألًا يراها أحد.
وأخرج عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن: إن الإنسان كفور إنما يعني به الكفار.(3/457)
وأخرج عن عمر بن عبد العزيز، قال: كل شيء في القرآن (خلود) فإنه
لا أوْبة له.
وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: كلّ شيء في القرآن (يقدر)
فمعناه يقلّ.
وأخرج عنه، قال: (التزكي) في القرآن كله الإسلام.
وأخرج عن أبي مالك، قال: (وراء) في القرآن كله أمام، غير حرفين:
(فمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ) ، يعني سِوَى ذلك.
(وأحِل لكمْ ما وَرَاءَ ذلكم) ، يعني سوَى ذلكم.
وأخرج عن أبي بكر بن عياش، قال: ما كان (كِسْفاً) فهو عذاب، وما
كان (كِسَفاً) فهو قطع السحاب.
وأخرج عن مجاهد، قال: (المباشرة) في كلّ كتابِ الله الجماع.
وأخرج عن ابن زيد، قال: كل ما في القرآن (فاسق) فهو كاذب، إلا
قليلاً.
وأخرج ابن المنذر عن السدي، قال: ما كان في القرآن (حنيفاً مسلماً) .
وما كان في القرآن حنفاء مسلمين: حجاجاً.
وأخرج عن سعيد بن خبير، قال: (العفو) في القرآن على ثلاثة أنحاء، نَحْو
تجاوزٌ عن الذنب، ونحو في القصد في النفقة: (ويسألونك ماذا يُنْفِقُون قُل
العَفْو) .
ونحو في الإحسان فيما بين الناس: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) .
وفي صحيح البخاري، قال سفيان بن عُيينة: ما سمّى الله المطر في القرآن إلا
عذاباً، وتسمِّيه العرب الغيث.
قلت: استثني من ذلك: (إنْ كَانَ بكُمْ أذًى مِنْ مَطرٍ) ،(3/458)
فإن المرادَ به الغيث مطلقا.
وقال أبو عبيدة، إذا كان من العذاب فهو أمطرت، وإذا كان من الرحمة فهو مطرت.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال: قال لي ابنُ عباس: احفظ عني: كل شيء في القرآن: (وما لَهم في الأرض مِنْ وَليّ ولا نَصير) ، فهو
للمشركين.
فأما المؤمنون فما أكثر أنصارهم وشفعاءهم.
وأخرج سعيد بن منصور، عن مجاهد قال: كلّ طعام في القرآن فهو
نصف صاع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن مُنَبه، قال: كل شيء في القرآن
(قليل) ، و (إلا قَليل (فهو دون العشرة.
وأخرج عن مسروق، قال: ما كان في القرآن: (على صلاتهم يحافظون) .
(حافظوا على الصلوات) فهو على مواقيتها.
وأخرج عن سفيان بن عُيينة، قال: كل شيء في القرآن: (وما يُدْرِيك) فلم
يخبر به.
وأما (أدراك) فقد أخبر به.
وأخرج عنه، قال: كلّ (مكرٍ) في القرآن فهو عمل.
وأخرج عن مجاهد، قال: ما كان في القرآن قتل ولعن، فإنما عُني به الكافر.
وقال الراغب في مفرداته: قيل كل شيء ذكره الله في كتابه (وما أدراك)
فسَّره.
وكل شيء ذكره بقوله: وما يدريك تركه.
وقد ذكر: (وَمَا أدْرَاكَ ما سِجّين) .
(وما أدْراكَ ما عِلِّيُّون) ، ثم فَسر الكتاب لا السّجِّين، ولا العلّيون.
وفي ذلك نكتة لطيفة.
قال بعضهم: ليس في القرآن على كثرة منصوباته مفعول معه.(3/459)
والصواب أنَّ فيه عدةَ مواضع أعرب كل منها مفعولا معه:
أحدها: (فأجْمِعُوا أمْرَكم وشركاءَكم) ، أي أجمعوا أنتم مع
شركائكم أمركم.
الثاني: (قُوا أنْفُسكم وأهْلِيكم نَاراً) .
قال الكرماني في غرائب التفسير: هو مفعول معه أي مع أهليكم.
الثالث: (لم يَكُنِ الَّذين كفَرُوا من أهْلِ الكتاب والْمُشْرِكين) .
قال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: " والمشركين " مفعولاً معه من الذين.
أو من الواو في كفروا.
فائدة فيما قرئ بثلاثة أوجه: الإعراب أو البناه أو نحو ذلك.
وقد رأيت تأليفاً لطيفاً لأحمد بن يوسف بن مالك الرُّعيني، سماه تحفة
الأقران فيما قرئ بالثلاثة من حروف القرآن:
(الحمدُ لله) :
قرئ بالرفع على الابتداء، والنصب على المصدر، والكسر على إتباع الدال لللام في حركتها.
(رَبّ العالمين) :
قرئ بالجر على أنه نعت، وبالرفع على القطع بإضمار مبتدأ، وبالنصب عليه بإضمار فعْل، أو على النداء.
(الرحمن الرحيم) :
قرئ بالثلاثة.
(اثنتا عَشْرَة عَيْناً) :
قرئ بسكون الشين، وهي لغة الحجاز، وكسرها، وهي لغة تميم، وفتحها وهي لغة هوازن.
(بين المرء) :
قرئ بتثليث الميم، لغات فيه.
(فبهتَ الذي كفَر) :
قراءة الجماعة بالبناء للمفعول.
وقرئ بالبناء للفاعل بوزن: ضَرَب، وحَسُن، وَعلِم.(3/460)
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) :
قرئ بتثليث الذال.
(واتقوا الله الذى تَساءَلونَ بهِ والأرْحام) :
قرئ بالنصب عطْفا على لفظ الجلالة، وبالخفض عطفاً على ضمير به، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي والأرحام مما يجب أنْ تتَّقوه، وأن تحتاطوا لأنفسكم فيه.
(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) :
قرئ بالرفع صفة للقاعدون، وبالجر صفة للمؤمنين، وبالنصب على الاستثناء.
(امْسَحوا برءوسِكم وأرْجلَكم) :
قرئ بالنصب عطفاً على الأيدي، وبالجر على الجوار أو غيره، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف دَلّ عليه ما قبله.
(فجزَاء مِثْل ما قَتَلَ من النَّعَم) : ق
رئ بجر (مثل) بإضافة " جزاء " إليه، وبرفعه وتنوين (مثل) صفة له، وبنصبه مفعول لجزاء.
(والله رَبِّنا) :
قرئ بجر (ربنا) نعتاً أو بدلاً، وبنصبه على النداء، أو بإضمار أمدح، وبرفعه ورفع لفظ الجلالة مبتدأ وخبر.
(ويَذَرَكَ وآلهَتَك) :
قرئ برفع (يذرك) ، ونصبه، وجزمه للخفّة.
(فأجْمِعوا أمْرَكم وثرَكاءَكم) :
قرئ بنصب (شركاءَكم) مفعولاً معه، أو معطوفاً، أو بتقدير: وادعوا، وبرفعه عطفاً على ضمير (فأجْمعوا) ، أو مبتدأ خبره محذوف، وبجره عطفاً على (كم) في (أمركم) .
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) :
قرئ بجر (الأرض) عطفاً على ما قبله، وبنصبها من باب الاشتغال.
وبرفعها على الابتداء، والْخَبَرُ ما بعدها.(3/461)
(موْعِدَكَ بِمَلْكنَا) :
قرئ بتثليث الميم.
(وحرامٌ على قرية أهْلَكنَاها) :
قرئ بلفظ الماضي بفتح الراء وكسرها، وبلفظ الوصف بكسر الراء وسكونها مع فتح الحاء، وبسكونها مع كسر الحاء وحرام بالفتح وألف، هذه سبع قراءات.
(كوكبٌ دُرِّى) :
قرئ بتثليث الدال.
(يس) : القراءة المشهورة بسكون النون.
وقرئ شاذًّا بالفتح للتخفيف، والكسر لالتقاء الساكنين، وبالضم على النداء.
(وَلاَتَ حِينَ مَنَاص) :
قرئ بنصب حين ورَفْعه وجره.
(سَوَاءً للسائلين) :
قرئ بالنصب على الحال، وشاذًّا بالرفع، أي هو، وبالجر حَملاً على الأيام.
(وقِيله ياربِّ) :
قرئ بالنصب على المصدر، وبالجر، تقدم توجيهه، وشاذًّا بالرفع عطفاً على (عِلْمُ الساعةِ) .
(ق) : القراءة بالسكون.
وقرئ شاذّا بالفتح والكسر لِمَا مرَّ.
(الحُبُكِ) :
فيه سبع قراءات: ضم الحاء والباء، وكسرهما، وفتحهما، وضم الحاء وسكون الباء وضمها، وفتح الباء وكسرها، وسكون الباء
وكسرها، وضم الباء.
(والحبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحان) :
قرئ برفع الثلاثة ونصبها وجرها.
(وحُور عِين. كأمْثَال اللّؤْلؤ) :
قرئ برفعهما وجرهما، وبنصبهما بفعل مضمر، أي يُزَوَّجُونَ.(3/462)
(فصل في قواعد مُهمّة يحتاج المفسّر إلى معرفتها)
أولها: قاعدة في الضمائر:
ألَّف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين، وأصْلُ وضع
الضمائرِ للاختصار، ولهذا قام قوله: (أعَدّ الله لهم مَغْفِرَةً وأجراً عَظيما)
، مقام خمسة وعشرين كلمة، لو أتى بها مظهرة.
وكذلك قوله: (وقُل للْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارهنَّ) :
قال مكي: ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها، فإنَّ فيها خمسة وعشرين ضميراً، ومِنْ ثَمَّ لا يعدل إلى المنفصل إلا بعد تعذر المتصل، بأن يقعَ في الابتداء، نحو: (إياك نعبد) ، أو بعد (إلا) : نحو: (أمر ألاَّ تَعْبدوا إلاَّ إيَّاه) .
مرجع الضمير
لا بد له من مرجع يعودُ إليه ملفوظا به سابقاً مطابقاً، نحو: (ونادَى نوح
ابْنَه) ، (وعَصَى آدم رَبّه) .
(إذا أخْرجَ يدَهُ لم يَكدْ يَرَاها) .
أو متضمناً له، نحو: (اعْدِلُوا هو أقرب للتَقْوى) ، فإنه عائد على العَدْل المتضمّن له (اعدلوا) .
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) .
أي المقسوم، لدلالة القسمة عليه، أو دالل عليه بالالتزام، نحو: (إنّا أنزلناه في لَيْلَةِ القَدْر) ، أي القرآن، لأن الإنزال يدلّ عليه التزاماً.
(فمن عُفِيَ له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأدَاء إليه بإحسان) .
فعُفي يستلزم عافياً أُعيد عليه الهاء من (إليه) .
أو متأخر لفْظاً ورتبةً مطابقا، نحو: (فأوْجَس في نفسهِ خِيفةً موسى) .
(ولا يُسْالُ عن ذنوبِهم المجرمون) .
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) .(3/463)
أو رتبة أيضاً في باب ضمير الشأن والقصة، ونعم، وبئس.
والتنازع، أو متأخراً دالاًّ بالالتزام، نحو: (فلولا إذا بلغَتِ الْحُلْقوم) .
(كلا إذا بَلَغتِ التَرَاقي) : أضمر الروح أو النفس، لدلالة الحلقوم والتراقي عليها.
(حتى توارَتْ بالحجاب) ، أي الشمس لدلالة الحجاب عليها.
وقد يدلّ عليه السياق فيضمر ثقة بفَهْمِ السامع، نحو: (كل مَنْ عليها
فان) .
(ما ترك على ظَهْرِها) ، أي الدنيا.
(ولَأبَوَيْه) ، أي الميت، ولم يتقدم له ذِكر.
وقد يعود على لفظِ المذكور دونَ معناه، نحو: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) ، أي معمَّر آخر.
وقد يعود على بعض ما تقدم، نحو: (يوصيكم الله في أولادكم) ..، إلى قوله: (فإن كُنّ نساءً) .
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) ، بعد قوله: (والمطلقات) ، فإنه خاصّ بالرجعيات.
والعائد عليه عامّ فيهنَّ وفي غيرهن.
وقد يعود على المعنى، كقوله في آية الكلاَلة: (فإنْ كانتَا اثنتين) ، ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه.
قال الأخفش: لأن الكلاَلَة تَقع على الواحد والاثنين والجمع، فثنّى الضمير الراجعَ إليها حَمْلاً على المعنى، كما يعود الضمير جَمْعاً على " مَن " حمْلاً على معناها.
وقد يعود على لفظ شيء، والمراد به الجنس من ذلك الشيء.
قال الزمخشري كقوله: (إنْ يكن غنيًّا أو فَقِيراً فالله أوْلَى بهما) ، أي بجنْس
الفقير والغني، لدلالة غنياً أو فقيراً على الجنسين، ولو رجع إلى المتكلم به لوحَّده.
وقد يذكر شيئان ويعَاد الضمير إلى أحدهما، والغالب كونه الثاني نحو:
(واستَعِينوا بالصبْر والصلاة وإنها لَكَبِيرة إلا على الْخَاشِعين) .(3/464)
فأعِيد الضمير للصلاة، وقيل للاستعانة المفهومة من (استعينوا) .
و (جعل الشمْسَ ضياءً والْقَمر نُورا وقَدَّرَه منازِلَ) ، أي القمر، لأنه
الذي يعلم به الشهور.
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، أي يرضوهما، فأفرد، لأن داعِيَ الرسول هو دَاعِي العباد، والمخاطب لهم شفاهاً.
ويلزم من رِضاه رضا ربَّه تعالى.
وقد يثنَّى الضمير ويعود على أحد المذكورين، نحو: (يخْرُجُ منهما اللؤْلؤُ
والمرجَان) ، وإنما يخرج من أحدهما.
وقد يجيء الضمير متصلاً بشيء، وهو لغيره، نحو: (ولقد خلَقْنَا الإنسانَ
من سُلاَلةٍ من طين) ، يعني آدَم، ثم قال: (ثم جعَلْنَاهُ نُطفَةً) ، فهذا لولده، لأن آدَم لم يخلق من نُطْفة.
قلت: هذا هو باب الاستخدام، وقد قدّمْنَاه، ومنه: (لا تَسألُوا عن أشياءَ
إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم) ، ثم قال: (قد سألها) ، أي أشياء أخر مفهومة من لفظ أشياء السابقة.
وقد يعود الضمير على مُلاَبس ما هو له، نحو: (إلًا عَشِيَّة أو ضُحَاها) ، أي ضحى يومها لا ضحى العشيَّة نفسها، لأنه لا ضُحى لها.
وقد يعود على غير مشاهَدٍ محسوس، والأصلُ خلافه، نحو: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فضمير له عائد على الأمر، وهو إذ ذاك غَيْر موجود، لأنه لما كان سابقا في عِلْمِ الله كونه، كان بمنزلة المشاهد الموجود.
قاعدة في عود الضمير
الأصلُ عَوْده على أقرب مذكور، ومِنْ ثَمّ أخّرَ المفعول الأول في قوله:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) .(3/465)
ليعودَ الضمير عليه لقرْبهِ، إلا أنْ يكونَ مضافاً ومضافاً إليه، فالأصلُ عَوْده للمضاف، لأنه المحدَّث عنه، نحو: (وإنْ تعدُّوا نعمتَ الله لا تحْصوها) .
وقد يعودُ على المضاف إليه، نحو: (إلى إلهِ موسى وإني لأظنه كاذباً) .
واختلف في: (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، فمنهم مَنْ أعاده على المضاف، ومنهم مَنْ أعاده إلى المضاف إليه.
قاعدة
الأصل توافق الضمائر في المرجع حذَراً من التشتّت، ولهذا لما جوَّزَ بعضهم
في: (أنِ اقْذِفِيه في التابوتِ فاقْذفيه في الْيَمِّ) ، أنَّ الضمير في
الثاني للتابوت وفي الأول لموسى عابه الزمخشري، وجعله تنافُراً مُخْرِجا للقرآن عن إعجازه، فقال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوعُ بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لا تؤدي إليه من تنافُرِ النظْمِ الذي هو أمّ إعجاز القرآن، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر.
وقال في: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) . الضمائر لله، والمراد بتعزيره تعزير دينه ورسله، ومَنْ فرَّق الضمائر فقد أبعد.
وقد يخرج عن هذا الأصل، كما في قوله: (ولا تسْتَفْتِ فيهم منهم
أَحَداً) ، فإنَّ ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف.
(ومنهم) لليهود، قاله ثعلب والمبرد.
ومثله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) .
قال ابن عباس: ساء ظَنًّا بقومه وضاق ذَرْعاً بأضيافه.
وقوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)
الآية فيها اثنا عشر ضميراً كلها(3/466)
للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ضمير: (عليه) فلصاحِبه، كما نقله السهيلي عن الأكثرين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم تنزل عليه السكينة، وضمير (جعل) له تعالى.
وقد يخالَف بين الضمائر حذَراً من التنافر، نحو: (منها أربعةٌ حُرُمٌ) ، الضمير للاثني عشر، ثم قال: (فلا تظلِموا فيهنَّ أنْفسَكم) : أتى بصيغة ضمير الجمع مخالفاً لعَوْدِه على الأربعة.
ضمير الفصل
ضمير بصيغة المرفوع مطابق لما قبله، تكلّما وخطاباً وغيبة، إفرادا وغيره.
وإنما يقَع بعد مبتدأ أو ما أصلُه المبتدأ وقَبْلَ خبرٍ كذلك، اسماً، نحو: (وأولئكَ هم الْمفْلحون) .
(وإنا لنَحْن الصَّافون) .
(كنْتَ أنْتَ الرقيبَ عليهم) .
(تَجِدوه عِنْد الله هو خَيْرًا) .
(إنْ تَرَن أنَا أقَلَّ منك مالاً) .
(هؤلاء بناتي هنَّ أطْهَر لكم) .
وجوَّز الأخفش وقوعَه بين الحال وصاحبها، وخرَّج عليه قراءة: (هنَّ أطهَر
لكم) - بالنصب.
وجوَّز الجرجاني وقوعَه قبل مضارع، وجعل منه: (إنّه هو يبْدِئُ ويعِيد) .
وجعل منه أبو البقاء: (ومَكر أولئكَ هو يَبور) .
ولا محلّ لضمير الفصل من الإعراب.
وله ثلاث فوائد: الإعلام بأنّ ما بعده خبر لا تابع.
والتأكيد، ولهذا سماه الكوفيون دعامة، لأنه يدْعَم به الكلام، أي يَقْوَى ويؤكد، وبَنَى عليه بعضهم أنه لا يجمع بينه وبينه، فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل، والاختصاص.
وذكر الزمخشري الثلاثة في: (وأولئك المفلحون) ، فقال: فائدته الدلالة على أنَّ ما بعده خبر لا صِفَة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دونَ غيره(3/467)
ضمير الشأن والقصة
ويسمى ضمير المجهول، قال في المغني: خالف القياس من خمسة أوجه:
أحدها عَوْده على ما بعده لزوماً، إذ لا يجوز للجملة المفسّرة له أن تتقدَّم عليه، ولا شيء منها.
والثاني أنَّ مفسّره لا يكون إلا جملة.
والثالث أنه لا يتبع بتابع فلا يؤكد، ولا يُعطف عليه، ولا يبْدَل منه.
والرابع أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو ناسخ.
والخامس أنه ملازمٌ للإفراد، ومن أمثلته: (قلْ هو الله أحَد) .
(فإذا هِيَ شاخِصَةٌ أبصارُ الذين كفروا) .
(فإنّها لا تَعْمَى الأبصارُ) .
وفائدته الدلالةُ على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه، بأن يذكر أولاً مبْهَماً ثم يُفَسر.
تنبيه:
قال ابن هشام: متى أمكن الحَمْلُ على غير ضمير الشأن فلا ينبغي أن يُحْملَ
عليه، ومِنْ ثَمَّ ضعف قول الزمخشري في: (إنَّهُ يَرَاكم هُوَ وقَبيلهُ) : إن اسم (إن) ضمير الشأن، والأوْلى كونه ضمير ْالشيطان، ويؤيده قراءة: (وقَبِيلَه) بالنصب، وضمير الشأن لا يعطف عليه.
قاعدة
جمع العاقلات لا يعودُ عليه الضمير غالباً إلا بصيغة الجَمْع، سواء كان للقلَّة
أو للكثرة، نحو: (والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ) ، (والمطلَقَاتُ يَتَرَبَّصْن) .
وورد الإفراد في قوله: (وأزْوَاجٌ مُطَهَّرة) ، ولم يقل مطهرات.
وأما غَيْر العاقل فالغالب في جمع الكثرة الإفراد، وفي القلّة الجمع.(3/468)
وقد اجتمعا في قوله: (إنَّ عِدَّةَ الشّهُورِ عند الله اثْنَا عشَر شَهْراً في كتاب الله) . . . إلى أن قال: (منها أرْبعَة حُرُم) ، فأعاد (منها) بصيغة الإفراد على الشهور وهي للكثرة، ثم قال: (فلا تظْلموا فِيهنَّ أنْفُسَكم) ، فأعاده جمعاً على (أربعة حُرُم) وهي للقلّة.
وذكر الفراء لهذه القاعدة سرًّا لطيفاً، وهو أنَّ المميّز مع جمع الكثرة - وهو
ما زاد على العشرة - لما كان واحداً وحّد الضمير، ومع القلّة، وهو العشرة وما دونها، لمّا كان جمعاً جمع الضمير.
قاعدة
إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللَّفْظِ والمعنى بُدِئَ باللفظ ثُمَّ بالمعنى، هذا هو
الجادّة في القرآن، قال تعالى: (ومِنَ الناس مَنْ يقول) ، ثم قال: (وما هم بمؤمنين) .
أفردَ أوّلاً باعتبار اللفظ، ثم جمع باعتبار المعنى.
وكذا: (ومِنْهمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليكَ وجَعلْنَا على قلوبهم أكِنةً) .
(ومنهم مَنْ يَقُول ائْذَنْ لي ولا تفْتِنِّي ألا في الفتنة سقَطوا) .
قال الشيخ علم الدين العراقي: ولم يجئ في القرآن البداءة بالحمل
على المعنى إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) ، فأنَّثَ (خَالِصَةٌ) حَمْلاً على معنى ما ثم راعى اللفظَ فذكّر فقال: (وَمُحَرَّمٌ) .
قال ابن الحاجب في أماليه: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى.
وإذا حمل على المعنى ضعف الحَمْل بعده على اللفظ، لأن المعنى أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف.
وقال ابن جنّي في المحتسب: لا تجوز مراجعةُ اللفظ بعد انصرافه عنه
إلى المعنى، وأورد عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) ، إلى قوله: (حتى إذا جاءنا) ، فقد راجع اللفظَ بعد الانصراف عنه إلى المعنى.(3/469)
وقال محمود بن حمزة في كتاب العجائب: ذهب بعض النحويين إلى أنه لا
يجوز الحَمْل على اللفظ بعد الحَمْل على المعنى، وقد جاء في القرآن بخلاف ذلك، وهو قوله: (خالدِين فيها أبَداً قد أحسنَ الله له رِزْقاً) .
وقال ابن خالويه في كتاب " ليس "، القاعدة في (من) ونحوه الرجوع من
اللفظ إلى المعنى، ومن الواحد إلى الجمع، ومن المذكر إلى المؤنث، نحو: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا) ، و (منْ أسْلَم وجْهَه للهِ وهو محسن) ، إلى قوله: (ولا خَوْف عليهم ولا هم يحزنون) ، أجمع على هذا النحويون.
قال: وليس في كلام العرب ولا في شيء من العربية الرجوع من المعنى إلى
إلى اللفظ، إلا في حرف واحد استخرجه ابْن مجاهد، وهو قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) ، وَحَّد في (يؤمن) و (يعمل) و (يدخله) ، وجمع في قوله: (خالدين) ، ثم وَحَّدَ في قوله: (أحسن الله له رِزْقاً) ، فرجع بعد الجمع إلى التوحيد.
قاعدة التذكير والتأنيث
التأنيث ضربان: حقيقي وغيره، فالحقيقيُّ لا تُحذَفُ تاء التأنيث من فعله
غالباً إلا إنْ وقع فَصْلٌ، وكلما كثر الفصل حسنَ الحذف، والإثبات مع الحقيقي أولى، ما لم يكن جمعاً.
وأما غَيْر الحقيقي فالحذفُ فيه مع الفَصْل أحسن نحو: (فمنْ جاءَه موعِظة مِنْ ربِّه) ، (قد كانَ لكم آية) ، فإن كثر الفَصْل ازداد حسناً، نحو، (وأخذ الّذِين ظَلَموا الصّيحةُ) ، والإثبات أيضاً حسن، نحو: (وأخذت الذين ظَلَموا
الصّيحةُ) ، فجمع بينهما في سورة هود.(3/470)
وأشار بعضهم إلى ترجيح الحَذْفِ، واستدلّ عليه بأنَّ الله قدَّمه على الإثبات
حيث جمع بينهما.
ويجوز الحذف أيضاً مع عدم الفَصْل حيث الإسناد إلى ظاهره، فإن كان إلى
ضميره امتنع.
وحيث وقع ضميرٌ أو إشارة بين مبتدأ وخبر أحدهما مذَكَّر والآخر مؤنث، جاز في الضمير والإشارة التذكير والتأنيث، كقوله تعالى:
(هَذَا رَحْمَة مِنْ رَبي) ، فذكّر والخبر مؤنث لتقدم السَّدِّ وهو مذَكّر.
وقوله تعالى: (فذَانكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ) .
ذكَّر والمشار إليه اليد والعصا، وهما مؤنثان لتذكير الخبر وهو برهانان.
وكلّ أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير والتأنيث حَمْلاً على الجماعة، كقوله:
(أعْجازُ نخْلٍ خاويةٍ) ، و (أعجاز نَخْل منْقَعِر) ، (إنَّ البَقَرَ تشابَه علينا) .
وقرئ: تشابهت.
(السماءُ مُنْفَطِرٌ بهِ) ، (إذا السماءُ انفطرَتْ) .
وجعل منه بعضُهم: (جاءَتْها رِيح عاصِفٌ) .
(ولسليمان الريح عاصفةً) .
وقد سئل، ما الفرق بين قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) .
وقوله: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) ؟
وأجيب بأنّ ذلك لوجهين: لفظي، وهو كثرةُ حروف الفاصل في الثاني.
والحذف مع كثرة الحواجز أكثر.
ومعنويّ، وهو أن " مَنْ " في قوله: (مَنْ حقَّتْ) راجعة إلى الجماعة، وهي
مؤنثةٌ لفظاً، بدليل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) ، ثم قال: (ومنهم من حقَّتْ عليه الضلالة) : أي من تلك الأمم، ولو قال: ضلّت لتعيَّنتِ التاء، والكلامان واحد، وإذا كان معناهما واحداً كان إثبات التاءِ أحسن مِنْ تَرْكها، لأنها ثابتة فيما هو من معناه.(3/471)
وأما: (فريقاً هَدى) الآية.
فالفريقُ مذكّر، ولو قال: فريقاً ضلّوا لكان بغير تاء، وقوله: (حَق عليهم الضلالةُ) في معناه، فجاء بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العرب أن يَدَعُوا حُكْمَ اللفظِ الواجب في قياس لغتهم إذا كان في مرتبةِ كلمةٍ لا يجب لها ذلك الحكم.
قاعدة في التَّعريف والتَّنكير
اعلم أنَّ لكل منهما مقاماً لا يليقُ بالآخر.
أما التنكير فله أسباب:
أحدها: إرادةُ الوحدة، نحو: (وجاء رَجُل مِنْ أقصا المدينة يسْعَى) ، أي رجل واحد.
و (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) .
الثاني: إرادة النوع، نحو: (هذا ذكْر) ، أي نوع من الذكر.
(وعلى أبصارِهم غشاوَة) ، أى نوع غريب من الغِشَاوة لا يتعارفه
الناس، بحيث غطّى ما لا يُغَطيه شيء من الغشاوات.
(ولتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ الناسِ على حياةٍ) ، أي نوع منها، وهو الازدياد في المستقبل، لأن الحِرْص لا يكون على الماضي ولا على الحاضر.
ويحتمل الوحدة والنوعية معاً قَوْلُه تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ، أي كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع الماء، وكلّ فردٍ من أفراد الدواب من فرد من أفراد النّطف.
الثالث: التعظيم، بمعنى أنه أعظم من أنْ يعينَ ويُعرف، نحو: (فأذَنُوا
بحَرْب من الله) ، (ولهم عَذَاب أليم) .
(وَسَلاًم علَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) .
(سلام على إبراهيم) .
(أنَّ لَهمْ جَنَّاتٍ) .(3/472)
الرابع: التكثير، نحو: (أئنَّ لَنَا لأجْراً) ، أى وافراً جزيلاً.
ويحتمل التعظيم والتكثير معاً: (وإنْ يكذِّبوكَ فقد كُذبَتْ رُسل من قبلكَ) ، أي رسل عظام ذَوو عدَد كثير.
الخامس: التحقير، بمعنى انحطاط شأنه إلى حَدٍّ لا يمكن أن يعرف، نحو:
(إنْ نَظنُّ إلاَّ ظَنًّا) ، أي ظنًّا حقيراً لا يُعبَأ به، وإلا اتبعوه.
لأن ذلك دَيْدَنهم، بدليل: (إنْ يتّبِعونَ إلا الظَّنَّ) .
(مِنْ أَيِّ شيءٍ خَلَقه) ، أي من شيء حقير مهين، ثم بيّنَه بقوله: (مِنْ
نطْفَةٍ خَلَقه) .
السادس: التقليل، نحو (ورِضْوان من الله أكبر) ، أى رضوان قليل منه أكبر من الجنّات، لأنه رأس كل سعادة:
قليل منك يكفيني ولكن ... قَلِيلُك لا يُقالُ له قليل
وجعل منه الزمخشري: (سبحان الذي أسْرَى بعَبْدِه ليلاً) ، أي بعض ليل.
وأُورِد عليه أنَّ التقليل رد الجنس إلى فردٍ من أفراده، لا تنقيص فرد إلى
جزء من أجزائه.
وأجاب في عروس الأفراح بأنَّا لا نُسلّم أن الليلَ حقيقة في جميع الليلة، بل كل جزء من أجزائها يسمّى ليلاً.
وعدّ السكاكي من الأسباب ألا يعرف من حقيقته إلا ذلك، وجعل منه أنْ
تقصدَ التجاهلَ وأنكَ لا تعرف شخصه، كقوله: هل لكم في حيوان على صورة إنسان يعمل كذا، وعليه من تجاهل الكفار: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، كأنهم لا يعرفونه.
وعدّ غيره منها قَصْد العموم بأن كانت في سياق النفي، نحو: (لا رَيْبَ
فيه) .
(فلا رَفَثَ) . الآية.(3/473)
أو الشرط، نحو: (وإنْ أحد مِنَ المشركين استجارَكَ) .
والامتنان، نحو: (وأنْزَلْنَا مِنَ السماءَ ماءً طَهوراً) .
وأما التَّعريف فله أسباب، فبالإضمار، لأنَّ المقام مقام التكلم أو الخطاب أو
الغيبة.
وبالعَلمية لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختصّ به، نحو: (قل
هو الله أحد) .
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) .
أو لتعظيم أو إهانة حيث علمه يقتضي ذلك، فمن التعظيم ذكر يعقوب بلقبه إسرائيل لما فيه من المدح والتعظيم، ولكونه صفوة الله، أوْ سريّ الله، كما قدمنا في حرف الألف.
ومن الإهانة قوله: (تَبتْ يَدَا أبي لَهَب) ، وفيه أيضاً نكتة أخرى، وهي الكناية به عن كونه جهنمياً.
وبالإشارة لتمييزه أكملَ تمييزٍ بإحضارِه في ذهن السامع حسًّا، نحو: (هذا
خَلْق الله فأَرونِي ماذا خلَق الذين مِنْ دونه) .
وللتعريض بغباوة السامع، حتى إنه لا يتميز له الشيء إلا بإشارة الحسِّ.
وهذه الآية تصلح لذلك.
ولبيان حاله في القرب والبعد، فيؤْتَى بالأول بنحو هذا، وفي الثاني بنحو
ذلك وأولئك.
ولقَصْد تحقيره بالقرب: (أهَذَا الذِي يَذْكرُ آلِهَتَكم) .
(أهذَا الذي بعَثَ الله رسولاً) .
(ماذا أَرادَ الله بهذَا مَثَلاً) ، وكقوله تعالى: (وما هَذِهِ الحياة الدّنْيَا إلا لَهْو ولعِب) .
ولقصد تعظيمه بالبُعْد، نحو: (ذلك الكتاب لا رَيْبَ فيه) ، ذهاباً إلى بُعْدِ دَرجته.(3/474)
وللتنبيه بعد ذِكْر المشارِ إليه بأوصافٍ قبله على أنه جدير بما يرد بعده من
أجلها، نحو: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وبالموصولة لكراهةِ ذِكْرِه بخاصّ اسمه، إمّا سَتْراً عليه، أو إهانة، أو لغير
ذلك، فيؤْتَى بالذي ونحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول، نحو:
(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) .
(وراوَدَتْه التي هو في بيتها) .
وقد تكون لإرادةِ العموم، نحو: (إنَّ اتَذِينَ يَسْتَكبِرون عن عبادتي) الآية.
وللاختصار، نحو: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) ، أي قولهم إنه آدر، إذ لو عدّد أسماء القائلين لطال، وليس للعموم، لأن بني إسرائيل كلهم لم يقولوا في حقه ذلك.
وبالألف واللام إشارة إلى معهودٍ خارجيّ أو ذِهني أو حضوريّ.
وللاستغراق حقيقة أو مجازًا، أو لتعريف الماهية.
وقد مرَّتْ أمثلتها في حروف المعجم.
وبالإضافة لكلونها أخصر طريق.
ولتعظيم المضافِ، نحو: (إن عِبَادِي ليس لكَ عليهم سلْطان) .
(ولا يَرْضَى لعِبَادِه الكفْرَ) ، أي الأصفياء في الآيتين، كما قال ابن عباس وغيره.
ولقصد العموم نحو: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالفون عن أمْرِه) .
أي كل أمر لله.(3/475)
فائدة
سئلتُ عن الحكمة في تنكير (أَحَدٌ) وتعريف (الصَّمَدُ) في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) .
وألّفت في جوابه تأليفاً مودَعاً في الفتاوى، وحاصله أن في ذلك أجوبة:
أحدها: أنه نكر للتعظيم، والإشارة إلى أنَ مدلوله - وهو الذات المقدسة -
غير ممكن تعريفها والإحاطة بها.
الثاني: أنه لا يجوز إدخال (أل) ، كغير وكل وبعض، وهو فاسد، فقد
قرئ: قل هو الله الواحد الصمد.
حكى هذه القراءة أبو حاتم في كتاب الزينة عن جعفر بن محمد.
الثالث: مما خطر لي أنَّ هو مبتدأ واللَه خبر، وكلاهما معرفة، فاقتضى
الحَصْر، فعرِّفَ الجزآن في: (اللَّهُ الصَّمَدُ) ، لإفادة الْحَصْر ليطابقَ الجملة الأولى، واستغني عن تعريف (أَحَدٌ) لإفادة الحصر دونه، فأتي به على أصله من التنكير، على أنه خبر ثان.
وإن جعل الاسْم الكريم مبتدأ و (أَحَدٌ) خبر ففيه من ضمير الشأن ما فيه من التفخيم والتعظيم، فأتي بالجملة الثانية على نحو الأولى، بتعريف
الجزأين للحَضْر تفخيمًا وتعظيمًا.
قاعدة أخرى تتعلق بالتعريف والتنكير
إذا ذكر الاسْم مرتين فله أربعة أحوال: لأنه إمَّا أنْ يكونا معرفتين، أو
نكرتين، أو الأول نكرة والثاني معرفة، أو بالعكس، فإنْ كانا معرفتين فالثاني
هو الأوَّلُ غالباً، دلالة على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة، نحو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) .(3/476)
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) .
(وَقِهمُ السيئاتِ ومن تَقِ السيئَاتِ) .
(لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) .
وإن كانا نكرتين، فالثاني غَيْر الأول غالباً، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً، نحو: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ، فإن المرادَ بالضعف الأول النطفة، وبالثاني الطفولية، وبالثالث الشيخوخية.
وقال ابن الحاجب: في قوله تعالى: (غُدُوُّها شَهر ورَوَاحُها شَهْر) .
الفائدة في إعادةِ لفْظِ الشهر الإعلام بمقدار زَمَنِ الغدوّ وزمن الرواح.
والألفاظ التي تأتي مبيّنة للمقادير لا يحسنُ فيها الإضمار، ولو أضْمِر فالضمير
إنما يكونُ لما تقدّم باعتبار خصوصيته، فإذا لم يكن له وجب العدولُ عن المضمر إلى الظاهر.
وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
فالعسْرُ الثاني هو الأول، واليسر الثاني غير الأول، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الآية: " لن يغلب عُسْر يسرَين ".
وإن كان الأول نكرة والثاني معرفة، فالثاني هو الأولُ حَمْلاً على العهد.
نحو: (أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) .
(فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) .
(إلى (صِرَاطٍ مستقيم. صِرَاطِ الله) .
(مِنْ سَبِيل. إنّمَا السبيلُ) .
وإن كان الأول معرفة والثاني نكرة، فلا يُطلَق القول، بل يتوقف على
القرائن، فتارة تقوم قرينة على التغاير، نحو: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) .
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) .
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى)(3/477)
قال الزمخشري: المراد بالهدى جميع ما آتاه الله من الدين والمعجزات والشرائع، وهدى الإرشاد.
وتارة تقوم قرينةٌ على الاتحاد: نحو: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا) .
تنبيه:
قال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح وغيره: الظاهر أنَّ هذه القاعدة غَيْرُ
محرّرة، فإنها منتَقَضةٌ بآيات كثيرة، منها في القِسْم الأول: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) ، فإنهما معرفتان.
والثاني غير الأول، فإنَّ الأول العمل والثاني الثواب.
(أنَّ النَّفْس بالنفس) ، أي القاتلة بالمقتولة.
وكذا سائر الآيات: (الحرّ بالحرِّ) .
(هل أتى على الإنسان حين من الدَّهْر) ، ثم قال: (إنَّا خلقْنَا الإنسانَ من نُطْفَة) ، فإن الأول آدم، والثاني ولده.
(وكذلِكَ أنْزَلْنا إليك الكتاب فالذين آتَيْنَاهم الكتابَ يُؤْمِنون به) .
فإنَّ الأولَ القرآن، والثاني التوراة والإنجيل.
ومنها في القسم الثاني: (وهوَ الَّذي في السماء إلهٌ وفي الأرضِ إله) .
(يسألونكَ عن الشَّهْرِ الحرام قتالٍ فيه قُلْ قِتَال فيه كبِير) ، فإنَّ الثاني فيهما هو الأول وهماَ نَكرتان.
ومنها في القسم الثالث: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) .
(ويُؤْتِ كلَّ ذِي فَضْل فَضْلَه) .
(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) .
(ليزْدَادوا إيماناً مع إيمانِهم) .
(زِدْنَاهم عذاباً فَوْقَ العذَابِ) .
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) .(3/478)
فإن الثاني فيهما غير الأول.
وأقول لا انتقاضَ بشيء من ذلك عند التأمل، فإنَّ اللام في الإحسان
للجنس فيما يظهر، وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة، وكذا آية النّفْس والحر، بخلاف آية العسر، فإنَّ " أل " فيها إما للعَهْد أو للاستغراق كما يفيد الحديث، وكذا آية الظن لا نسلم أنَّ الثاني فيها غير الأول، بل هو عينه قطعاً، إذ ليس كلّ ظن مذموماً، كيف وأحكام الشريعة ظنية، وكذا آية الصلح لا مانع من أن يكونَ المراد منها الصلح المذكور، وهو الذي بين الزوجين.
واستحباب الصلح في سائرِ الأمور، ويكون مأخوذاً من السنَّة أو من الآية بطريق القياس، بل لا يجوز القول بعموم الآية، وأنَّ كلّ صلح خير، لأنَ ما أحلّ حراماً من الصلح، أو حرًم حلالاً فهو ممنوع، وكذا آية القتال ليس الثاني فيها عَيْن الأول بلا شك، لأن المراد بالأول المسؤول عن القتال الذَي وقع في سَرِيّة ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة، لأنه سبب نزول الآية.
والمراد بالثاني جنسن القتال لا ذاك بعينه.
وأما آية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ، فقد أجاب عنها الطيبي بأنها من باب التكرير لإفادة أمْر زائد، بدليل تكرير
ذكر الرب فيما قبله من قوله: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ) .
ووجه الإطناب في تنزيهه سبحانه عن نِسبةِ الولد إليه.
وشرط القاعدة ألاَّ يقصد التكرير.
وقد ذكر الشيخ بهاء الدين في آخر كلامه: أن المراد بذكر الاسم مرتين
كونه مذكوراً في كلامٍ واحد أو كلامين بينهما تواصل بأن يكون أحدهما
معطوفاً على الآخر، أوْ لَهُ به تعلّق ظاهر وتناسب واضح، وأن يكون من متكلم واحد، ودفع بذلك إيراد آية القتال، لأن الأول فيها محكيّ عن قول السائل، والثاني محكيّ من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم.(3/479)
قاعدة في الإفراد والجمع
من ذلك السماء والأرض: حيث وقع في القرآنِ ذكر الأرض فإنها مفردة ولم
تجمَع بخلاف السماوات، لثقل جمعها وهو أرَضون، ولهذا لما أُرِيد ذِكْر جميع
الأرض قال: (ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهنَّ) .
وأما السماء فذُكرت تارةً بصيغة الجمع، وتارة بصيغة الإفراد لنكتةٍ تليقُ بذلك المحلّ، كما أوضحتُه في أسرار التنزيل.
والحاصل أنه حيث أريد العدد أتيَ بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة، نحو: (سَبَّحَ لله ما في السماوات) ، أي جميع سكانها على كثرتهم، (تُسَبِّحُ له السماوات) ، أي كلّ واحدة على اختلاف عددها.
(قل لا يَعْلَم مَنْ في السماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ الله) ، إذ المراد نَفْيُ علم الغيب عن كلِّ مَنْ هو في واحدة من السماوات.
وحيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد، نحو: (وفي السماء رزْقُكم) .
(أأمنْتم مَنْ في السماءِ أنْ يَخْسفَ بكم الأرض) ، أي من فوقكم.
ومن ذلك الريح حيث ذكرت مجموعة ومفردة، فحيث ذُكِرت في سياقِ
الرحمة جمعت، أو في سياق العذاب أفردت.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبيّ بن كعب، قال: كل شيء في القرآن من
الرياح فهو رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب.
ولهذا ورد في الحديث: " اللهم اجعلها رِياحاً ولا تجعلها رِيحاً ".
وذكر في حكمةِ ذلك أنَّ رِياحَ الرحمة مختلفة الصفات والهبات والمنافع، وإذا هاجَتْ منها رِيح أثير لها من مقابلها ما يكسر سَوْرتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفَعُ الحيوان والنبات، فكانت في الرحمة رياحاً، وأما في العذاب فإنها تأتي من وَجْهٍ واحد، ولا معارض لها ولا دافع.(3/480)
وقد خرَج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: (وَجَرَينَ بهم بِرِيح
طيِّبَة) .
وذلك لوجهين: لفظي، وهو المقابلة بقوله: (جاءتها ريحٌ عاصف) .
ورُبَّ شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالاً، نحو: (ومَكَروا ومَكَر الله) .
ومعنوي، وهو أنَّ تمامَ الرحمةِ هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها.
فإنَ السفينةَ لا تسير إلا بريح واحدة من وجْهٍ واحد، فإذا اختلفت عليها الرياح كان سبب الهلاك، والمطلوب هنا ريح واحدة، ولهذا أكّد هذا المعنى بوصفها بالطيب، وعلى ذلك أيضاً جرى قوله: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) .
وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأنَّ سكونَ الريح عذابٌ وشدة على أصحاب السفن.
ومن ذلك إفراد النور وجَمْع الظلمات، وإفراد سبيل الحق وجمع سبيل
الباطل، في قوله: (ولا تَتَّبِعوا السّبلَ فتَفرًقَ بكم عن سبيله) ، لأنَّ طريق الحقّ واحدة، وطرق الباطل متشعبة متعددة، والظلمات بمنزلة طرق الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما، ولهذا وحّد وَلِيّ المؤمنين، وجمع أولياءَ الكفار لتعدّدهم في قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) .
ومن ذلك إفراد النار حيث وقعت والجنة حيث وقعت مجموعةً ومفردة، لأن
الجنان مختلفة الأنواع، فحسُنَ جمعها، والنار مادة واحدة، ولأن الجنة رحمة والنار عذاب، فناسب جَمْعَ الأولى وإفراد الثانية على حدِّ الرياح والريح.
ومن ذلك إفراد السمع وجمع البَصر، لأنَّ السمْعَ غلب عليه المصدرية.
فأفرد، بخلاف البصَر، فإنه اشتهر في الجارحة، ولأن متعلّق السمع الأصوات، وهي حقيقة واحدة، ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة، فأشار في كل منهما إلى متعلقه.
ومن ذلك إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) .(3/481)
وحكمته كثرة الشفعاءِ في العادة وقلَّة الصديق.
قال الزمخشري: ألاَ ترى أنَّ الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة
وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وإن لم يسبق له بأكَثرهم معرفة.
وأما الصديق فأعزّ من بَيْضِ الأنوق.
ومن ذلك الألباب لم يقع إلا مجموعاً، لأن مفرده ثقيل لفظاً.
ومن ذلك مجيء المشرق والمغرب بالإفراد وبالتثنية وبالجمع، فحيث أفردا.
فاعتباراً للجهة، وحيث ثنّيا فاعتبارا لمشرق الصيف والشتاء ومغربهما، وحيث جُمعَا فاعتبار لتعدّد المطالع في كل فصل من فصول السنة.
وأما وَجْه اختصاص كل موضع بما وقع فيه، ففي سورة الرحمن ورد
بالتثنية، لأنَّ سياقَ السورة سياق المزدوجين، فإنه سبحانه ذكَر أولاً نَوْعَي
الإيجاد وهما الخَلق والتعليم، ثم ذكر سراجي العالم: الشمس والقمر، ثم نَوْعي النبات: ما كان على ساق وما لا ساق له، وهما النّجم والشجَر، ثم نوعي السماء والأرض، ثم نوعي العدل والظلم، ثم نَوْعي الخارج من الأرض وهما الحبوب والرياحين، ثم نوعي المكلّفين وهما الإنس والجان، ثم نوعي البحر: العذب والملح، فلهذا حَسُن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجمعا في قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) .
وفي سورة الصافات للدلالة على سعة القدرة والعظمة.
فائدة
حيث ورد البارّ مجموعاً في صفة الآدميين قيل: أبرار، وفي صفة الملائكة قيل
برَرَة، ذكره الراغب، ووجَّهه بأن الثاني أبلغ، لأنه جَمع بارّ، وهو أبلغ من
"بر" مفرد الأول.
وحيث ورد الأخ مجموعا في النَّسَب قيل إخوة، وفي الصداقة قيل إخوان،(3/482)
قاله ابن فارس وغيره.
وأُورِد عليه في الصداقة: (إنما المؤمنون إخوة) ، وفي النسب: (أو إخْوانهنَّ أوْ بَني إخْوَانهنَ أوْ بني أخواتهنَ) .
فائدة
ألّف أبو الحسن الأخفش كتاباً في الإفراد والجمع في القرآن ذكر فيه جَمْعَ
ما وقع في القرآن مفرداً، ومفرد ما وقع فيه جمعاً، وأكثره من الواضحات.
وهذه أمثلة مِنْ خَفِيّ ذلك:
المَن: جمع لا واحد له.
والسَّلْوَى: لم يسمع له بواحد.
النصارى: قيل جمع نصراني، وقيل نصير كنديم، وقَبيل.
العَوَان: جمعه عون.
الهدَى: لا واحدَ له.
الإعصار: جمعه أعاصير.
الأنصار: واحده نصير، كشريف وأشراف.
الأزلام: واحدها زلم، ويقال زلم، بالضم.
مِدْرار: جمعه مَدَارير.
أساطير: واحدها أسطورة، وقيل أسطار جمع سَطْر.
الصّور: قيل جمع صورة، وقيل واحد الأصوار.
فرَادى: جمع أفراد، جمع فرد.
وقِنْوان: جمع قِنْو.
وصنوان: جمع صنو.
وليس في القرآن جمع ومثنى بصيغة واحدة إلا هذان ولفظ ثالث لم يقع في
القرآن، قاله ابن خالويه في كتاب ليس: الحوايا جمع حاوية، وقيل حاوياء.
نشر جمع نَشور.
عِضين وعِزين جمع عِضه وعِزه.
المثاني جمع مثنى.
تارة جمعها تارات، وتيَر.
أيقاظ جمع يَقظ.
الأرائك جمع أريكة.
سري جمعه سِريان، كخصي وخصيان.
آناء الليل جمع إنَا، بالقصر كمِعَى.
وقيل إفى كقرد، وقيل إنوة كفِرقة.
الصيَاصي جمع صِيصية.
مِنْسأة جمع مناسي.
الحَرور جمعه حُرور بالضم.
غَرَابيب جمعه غِربيب.
أتراب جمع ترب.
الآلاَء: جمع إلَى كمِعَى، وقيل ألَى
كقَفَا، وقيل إلْي كقِرْد، وقيل ألو.
التراقي: جمع تَرْقُوة بفتح أوله.
الأمشاج: جمع مَشِج.
ألفافاً: جمع لِف - بالكسر.
العِشار: جمع عُشر.
الخُنس: جمع خانسة، وكذا الكنس.
الزبانية: جمع زبنية، وقيل زابن، وقيل زباني.
أشتاتا: جمع شتّ وشتيت.
أبابيل: لا واحد له، وقيل واحده إبّوْل مثل عِجَّول.
وقيل إبّيل مثل إكليل.(3/483)
فائدة
ليس في القرآن من الألفاظ المعدولة إلا ألفاظ العدد: مثنى، وثلاث ورباع.
ومن غيرها طوى فيما ذكره الأخفش في الكتاب المذكور.
ومن الصفات أخر.
قال تعالى: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) .
قال الراغب وغيره: هي معدولة عن تقدير ما فيه الألف واللام، وليس له نظير في كلامهم، فإن " أفعل " إما أن يذكر معه " من " لفظاً أو تقديراً، فلا يثَنَّى ولا يجمع، ولا يؤنث، أو يحذف منه " من " فتدخل عليه الألف واللام ويثنى ويجمع، وهذه اللفظة من بين أخواتها جُوز فيها ذلك من غير الألف واللام.
وقال الكرماني في الآية المذكورة: لا يمنع كونها معدولة من الألف واللام
كونها وصفاً لنكرة، لأن ذلك مقدر من وَجْه غير مقدر من وَجْه.
قاعدة
مقابلة الْجَمعِ بالجمع تارة تقتضي مقابلةَ كلّ فرد من هذا بكل فرد من
هذا، كقوله: (واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهم) ، أي استغشى كلّ منهم ثَوبَه.
(حرِّمَتْ عليكم أُمَّهاتكم) ، أي على كل من المخاطبين أمّه.
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، أي كل في أولاده.
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) ، أي كل وأحدة ترضِع ولدها.
وتارة يقتضي ثبوتَ الجمع لكل فرد من أفراد المحكوم عليه، نحو:
(فاجْلدوهم ثمانين جَلْدَة) .
وجعل منه الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (وبَشَرِ الًذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات أنً لهم جنّات) .
وتارة يحتمل الأمرين، فيحتاج إلى دليل يعيِّن أحدهما.
وأما مقابلة الجمع بالفرد فالغالب ألا يقتضي تعميم الفرد، وقد يقتضيه كما
في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .(3/484)
المعنى على كلّ واحدٍ لكل يوم طعام مسكين.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، لأنه على كل واحد منهم ذلك.
قاعدة ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه
من ذلك الخوف والخشية، لا يكاد اللغوي يفرِّق بينهما، " لا شك أنَّ الخشية أَعْلَى منه، وهي أشدّ الخوف، فإنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية، أي يابسة، وهو فَوات بالكلية.
والخوف من قولهم ناقة خَوْفاء، أي بها داء وهو نَقْص، وليست بفوات، ولذلك خصت الخشية بالله في قوله: (يَخْشَوْن رَبَّهم ويَخَافونَ سوءَ الحسَابِ) .
وفُرق بينهما أيضاً بأنَّ الخشية تكون من عظم المخشى، وإن كان الخاشي
قويًّا، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً يسيراً.
ويدلّ لذلك أنَّ الخاء والشين والياء في تقاليبها تدُلُّ على العظمة، نحو: شيخ للسيد الكبير.
وخيش لما غَلُظ من اللباس، ولذا وردت الخشية غالباً في حقِّ الله، (مِنْ
خَشْيةِ الله) .
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
وأما (يخافون رَبهم مِنْ فَوْقهم) ففيه نكتة لطيفة، لأنه وصف الملائكة، ولما ذكر قوتهم وشدة خلقهم عبَّر عنهم بالخوف لبيان أنهم وإن كانوا غلاظاً شداداً فهم بين يديه تعالى ضعفاء، ثم أردفهُ بالفوقية الدالة على
العظمة، فجمع بين الأمرين.
ولما كان ضَعْف البشر معلوما لم يحتج إلى التنبيه عليه.
ومن ذلك الشح والبخل.
والشحّ هو أشدّ البخل.
قال الراغب: الشح: بخل مع حِرْص.
وفرَّقَ العسكريّ بين البخل والضَّن بأن الضن أصله أن يكون(3/485)
بالعَوَاري، والبخْل بالهبات، ولهذا يقال: هو ضنين بعلمه، ولا يقال بخيل، لأنَّ العلم بالعارية أشبه بالهِبة، لأن الواهب إذا وهب شيئاً خرج عن مِلْكه، بخلاف العارية، ولهذا قال تعالى: (وما هو على الغَيْبِ بضنِين) ، ولم
يَقل ببخيل.
ومن ذلك السبيل والطريق، والأولُ أغلب وقوعاً في الخير، ولا يكاد اسمُ
الطريق يرَاد به الخير إلا مقترناً بوصْف أو إضافة تخلِّصُه لذلك، كقوله تعالى:
(يَهْدي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم) .
وقال الراغب: السبيل الطريق التي فيها سهولة، فهو أخص.
ومن ذلك جاء وأتى، فالأول يقال في الجواهر والأعيان.
والثاني في المعاني والأزمان، ولهذا ورد في قوله: (ولمنْ جاءَ بهِ حمْل بَعِير) .
(وجاءوا على قَميصه بدَمٍ كذِب) .
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) .
وأتى في: ً (أتَى أمْرُ الله) ، (أتَاهَا أمْرُنا) .
وأما (وجاء ربك) ، أي أمره، فإن المراد به أهوال القيامة والمشاهدة وكذا (فإذا جاء أجَلُهم) ، لأن الأجل كالمشاهد، ولهذا عبِّر عنه بالحضور في قوله: حضره الموت، ولهذا فَرق بينهما في قوله: (جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) .
لأنَّ الأول العذاب، وهو مشاهد مرئيّ بخلاف الحق.
وقال الراغب: الإتيان: مجيء بسهولة، فهو أخصّ من مطلق المجيء.
ومنه قيل للسيل المارّ على وجهه أتاويّ، وأتيّ.
ومن ذلك مدَّ وأمدَّ، قال الراغب: أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، نحو:
(وأَمْدَدْناهم بفاكهة) .
والمدُّ في المكروه، نحو: (ونمدّ له مِنَ العذَاب مَدًّا) .
ومن ذلك سقى وأسقى، فالأول لما لا كُلفَة فيه، ولهذا ذكر في شراب
الجنة، نحو: (وسقَاهمْ رَبّهم شَرَاباً طَهورا) .
والثاني لما فيه(3/486)
كلفة، ولهذا ذُكر في الدنيا، نحو: (لأسْقَيْنَاهم ماء غَدَقا) .
وقال الراغب: الإسقاء أبلغ من السقي، لأنَّ الإسقاء أنْ يجعل له ما يستقي منه، ويشرب.
والسقي أن يعطيه ما يشرب.
ومن ذلك عمل وفعل، فالأول لما كان مع امتداد زمان، نحو: (يَعْمَلُون له
ما يشَاء) .
(مما عمِلَتْ أيدينا) ، لأنَ خلق الأنعام والثمارِ والزروع بامتداد.
والثاني بخلافه، نحو: (كيف فعل رَبُّكَ بأصحاب الفيل) .
(كيف فَعَلَ رَبُّكَ بعَاد) .
(فَعَلْنَا بهم) ، لأنها إهلاكات وقعت من غير بطء.
(ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون) ، أي في طرفة عين.
ولهذا عبر بالأول في قوله: (وعَمِلوا الصالحاتِ) ، حيثُ كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة أو بسرعة.
وبالثاني في قوله: (وافْعَلُوا الْخَيرَ) ، حيث كان بمعنى سارعوا، كما قال: (فاسْتَبِقوا الخيراتِ) .
وقوله: (والذين هم للزكاة فاعِلون) ، حيث كان القَصْد يأتون
بها على سرعة من غير توان.
ومن ذلك القعود والجلوس، فالأوّل لما فيه لبث، بخلاف الثاني، ولهذا يقال
قواعد البيت، ولا يقال جَوَالسه للزومها ولبثها، ويقال جليس الملك ولا يقال قَعيده، لأن مجالس الملوك يستحب فيها التخفيف، ولهذا استُعمل الأول في قوله: (مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، للإشارة إلى أنه لا زوَال له، بخلاف:
(تَفَسَّحُوا في المجالس) ، لأنه يجلس فيه زماناً يسيراً.
ومن ذلك التمام والكمال، وقد اجتمعا في قوله: (أكْمَلْتُ لكم دِينَكم
وأتممْتُ عليكم نعْمتي) ، فقيل الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نُقْصان العوارض بعد تمام الأصل، ولهذا كان قوله تعالى:
(تلك عَشَرةٌ كامِلة) ، أحسن من " تامة "، لأنَّ التمام من العدد
قد عُلم، وإنما نفى احتمال نَقْص في صفاتها.
وقيل: تَتمَ يشعر بحصول نقْص قبله،(3/487)
وكمل لا يشعر بذلك.
وقال العسكري: الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به.
والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف، ولهذا يقالُ للقافية تمام البيت، ولا يقل كماله.
ويقولون البيت بكماله أي باجتماعه.
ومن ذلك الإعطاء والإيتاء! قال الخويي: لا يكاد اللغويون يفرقون بينهما.
وظهر لي بينهما فرق ينبئ عن بلاغةِ كتاب الله، وهو ان الإيتاء أقوى من
الإعطاء في إثبات مفعوله، لأنَّ الإعطاء له مطاوع، تقول: أعطاني فعطوتُ، ولا يقال في الإيتاء: أتاني فأتيت، وإنما يقال آتاني فأخذت.
والفعل الذي له مطاوع أضعفُ في إثبات مفعوله من الذي لا مطَاوع له، لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدلّ على أنَّ فعل الفاعل كان موقوفاً على قبول في المحل، لولاه ما ثبت المفعول.
ولهذا يصح قطعته فما انقطع.
ولا يصح فيما لا مطاوعَ له ذلك، فلا يجوز ضربته فانضرب، أو فما انضرب، ولا قتلته فانقتل ولا فما انقتل، لأن هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعولُ في المحل، والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوعَ لها، فالإيتاء أقوى من الإعطاء.
قال: وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدتُ ذلك مراعى، قال تعالى:
(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) ، لأن الملك شيء عظيم لا يعطاه إلا مَنْ له قوة، وكذا قوله: (يؤْتي الحكمةَ مَنْ يشاء) ، (آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) ، لعظم القرآن وشأنه: وقال: (إنّا أعطيناكَ الكوثر) ، لأنه مورود في الموقف مرْتحل عنه قريباً إلى منازل العزّ في الجنة، فعبَّر فيه بالإعطاء، لأنة يُترك عن قرب، وينتقل إلى ما هو أعظم منه.
وكذا (يعْطيكَ رَبُّكَ فَترْضَى) ، لما فيه من تكرر الإعطاء والزيادة إلى أن يرضى كلّ الرضا، وهو مفسر أيضاً بالشفاعة، وهي نظير الكوثر في الانتقال بعد قضاء الحاجة منه.
وكذا (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ، لتكرّر حدوثِ ذلك باعتبار الموجودات.
حتى يعطوا الجِزْية، لأنها موقوفة على قبول - منا، وإنما يعطونها عن
كُرْه.(3/488)
فائدة
قال الراغب: خص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء، نحو: (أقاموا الصلاةَ
وآتوا الزكاة) .
(وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة) .
قال: وكل موضع ذكر في وصف الكتاب "آتينا " فهو أبلغ من كل
موضع ذكر فيه " أوتوا "، لأن أوتوا قد يقال إذا أوتيَ من لم يكن منه قبول.
وآتيناهم يقال فيمَنْ كان منه قبول.
ومن ذلك السَّنَة والعام، قال الراغب: الغالب استعمال السَّنَة في الحَوْلِ الذي فيه الشدَّة والجَدب، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة.
والعام ما فيه الرخاء والخصب، وبهذا تظهر النكتة في قوله: (ألْفَ سَنة إلا خمسين عاماً) .
حيث عبر عن المستثنى بالعام، وعن المستثنى منه بالسنة.
قاعدة في السؤال والجواب
الأصل في الجواب أن يكونَ مطابقاً للسؤال إذا كان السؤال متوجّهاً.
وقد يعْدَل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيهاً على أنه كان مِنْ حقّ السؤال أن يكونَ كذلك، ويسميه السكاكي الأسلوب الحكيم.
وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال.
وقد يجيء أنْقَص لاقتضاء الحال ذلك.
مثال ما عدل عنه قوله تعالى: (يَسألوتك عن الأهِلة قلْ هي مَوَاقِيت للناس
والحَجِّ) ا.
سألوا عن الهلال لِمَ يَبْدو رقيقاً مثل الخيط، ثم يتزايَد قليلاً قليلاً حتى يمتلىء ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأجيبوا ببيان حكمةِ ذلك تنبيهاً على أن الأهم السؤال عن ذلك لا ما سألوا عنه.
كذا قال السكاكي ومَنْ أتى بعده، واسترسل التفتازاني في الكلام إلى أن قال: ليسوا ممّن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة.(3/489)
وأَقول: ليت شعري من أيْنَ لهم أنَّ السؤال وقع عن غير ما حصل الجوابُ
به، وما المانِع من أن يكون إنما وقع عن حكمةِ ذلك ليعلموها، فإنَّ نظْمَ الآية محتمل لذلك، كما أنه محتمل لما قالوه.
والجواب ببيان الحكمة دليلٌ على ترجيح الاحتمال الذي قُلْناه، وقرينةٌ تُرْشد إلى ذلك، إذ الَأصلُ في الجواب المطابقة للسؤال، والخروج عن الأصْلِ يحتاج إلى دليل، ولم يرد بإسنادٍ لا صحيح ولا غيره أَنّ السؤال وقع عما ذكروه، بل ورد ما يؤيد ما قلناه، فأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسولَ الله، لم خلقت الأهِلة، فأنزل الله (يسألونك عن الأهِلّة) ، فهذا صريح في أنهم سألوه عن حكمة ذلك لا عَنْ كيفيته من جهة الهيئة، ولا يظنّ ذو دِين بالصحابة الذي هم أدقّ فهماً، وأغزر علماً، أنهم ليسوا ممن يطّلع على دقائق الهيئة بسهولة، وقد اطلع عليها آحاد العجم
الذي أطبق الناس على أنهم أبلد أذهاناً من العرب بكثير.
هذا لو كان للهيئة أصل معتبر، فكيف وأكثرها فاسد لا دليل عليه.
وقد صنَّفْت كتاباً في نَقْض أكثر مسائلها بالأدلة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي صعد إلى السماء ورآها عياناً، وعلم ما حوَتْه من عجائب الملكوت بالمشاهدة، وأتاه الوَحْي مِنْ خالقها، ولو كان السؤال وقع عمّا ذكروه لم يمتنع أنْ يجابوا عنه بلفظ يصل إلى أفهامهم، كما وقع ذلك لما سألوا عن المجرة وغيرها من الملكوتيات.
نعم المثال الصحيح لهذا القسم جواب موسى لفرعون حيث قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) ، لأنه سؤال عن الماهية أو الجِنس.
ولما كان هذا السؤال في حقِّ الباري تعالى خطأ لأنه لا جنس له، فيذكر ولا تدرك ذاته، عدل إلى الجواب بالصواب ببيان الوصف المرشد إلى معرفته، ولهذا تعجَّبَ فرعون من عدم مطابقته للسؤال، فقال (ألاَ تستمعُون) : أي جوابه الذي لم يطابق السؤال، فأجاب موسى: (ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين) ، المتضمّن إبطال ما يعتقدونه من(3/490)
ربوبية فرعون نصًّا، وإن كان دخل في الأول ضمناًْ إغلاظاً، زاد فرعون في
الاستهزاء به، فلما رآهم موسى لم يتفطنوا أغلظَ في الثالث بقوله: (إنْ كنْتم
تعقلون) .
ومثال الزيادة في الجواب قوله تعالى: (فلِ الله ينَجيكم منها ومن كل
كرب) ، في جواب (مَنْ يُنَجيكم من ظُلماتِ البر والبَحْر) .
وقول موسى: (هي عَصَايَ أتَوَكَّأ عليها وَأهش بها على غَنمي) ، في جواب: (وما تلكَ بيمينك يا موسى) .
زاد في الجواب استلذاذا بخطاب الله.
وقول قوم إبراهيم: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) ، في جواب: (ما تَعْبدون) ، زادوا في الجواب إظهارا للابتهاج بعبادتها والاستمرارِ على مواظبتها ليزداد غيْظ السائل.
ومثال النقص منه قوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) ، في جواب: (ائْتِ بقرآن غَيْر هذا أو بدِّله) ، أجاب عن التبديل دونَ الاختراع.
قال الزمخشري: لأن التبديلَ في إمكان البشر دون الاختراع، فطوَى ذكْرَه للتنبيه على أنه سؤال محال.
وقال غيره: التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانَه فالاختراع أولى.
تنبيه:
قد يُعْدَل عن الجواب أصلاً إذا كان السائل قَصْده التعنيت، نحو:
(ويسألونَك عن الروح) .
قال صاحب الإيضاح: إنما سأل اليهود تعجيزاً أو تغليظا إذْ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان، والقرآن، وعيسى وجبريل، وملك آخر، وصنف من الملائكة، فقصد اليهود أنْ يسألوه، فبأيّ مسمّى أجابهم قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجمَلاً، وكان هذا الإجمال كَيْداً يردّ به كيدهم.(3/491)
قاعدة
قيل أصل الجواب أنْ يُعَادَ فيه نفس السؤال، ليكون وفْقَه، نحو: (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ) ، فأنا في جوابه هو " أنت " في
سؤالهم، وكذا (أأقْرَرْتُم وأخذْتُم على ذَلكم إصْري قالوا أقْرَرْنَا) ، فهذا أصله، ثم إنهم أتوا عِوَض ذلك بحروف الجواب اختصارا وترك التكرار.
وقد يحذف السؤال ثقةً بفهم السامع بتقديره، نحو: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) .
فإنه لا يستقيم أن يكونَ السؤال والجواب من واحد، فتعيَّن أن يكون (قُلِ اللَّهُ) جوابَ سؤال، فكأنهم سألوا لمَّا سمعوا ذلك: مَنْ يبدأ الخلق ثم يعيده.
قاعدة
الأصل في الجواب أن يكون مشَاكِلاً للسؤال، فإن كان جملة اسمية فينبغي
أن يكون الجواب كذلك، ويجيء كذلك في الجوابِ المقدَّر، إلا ابن مالك قال: قولك زيد - في جواب مَنْ قرأ: إنه من باب حَذْف الفعل، على جَعْل الجواب جملة فعلية.
قال: وإنما قدرته كذلك لا مبتدأ مع احتماله، جَرْياً على عادتهم في
الأجوبة إذا قصدوا تمامها، قال تعالى (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
(ولئن سألْتهم مَنْ خَلقَ السماوات والأرضَ ليقولنَّ خَلَقهنّ العزيز العليم) .
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) .
فلما أتى بالجملة الفعلية مع فواتِ مشاكلة السؤال عُلم أنَّ تقدير الفِعل أولى.
قال ابن الزَّمْلَكَاني في البرهان: أطلق النحويون القولَ بأن زيداً في جواب مَنْ
قام، فاعل على تقدير قام زيد، والذي توجبه صناعة علم البيان أنه مبتدأ.
لوجهين:(3/492)
أحدهما: أنه يطَابق الجملةَ المسؤول بها في الاسمية، كما وقع التطابق في قوله:
(وقيل للذين اتقَوْا ماذَا أنْزَلَ ربكم قالوا خَيْراً) ، في الفعلية.
وإنما لم يَقَع التطابقُ في قوله: (ماذَا أنْزَل رَبُّكم قالوا أساطِيرُ الأوَّلين) ، لأنهم لو طابقوا لكانوا مقرين بالإنزال وهم من الإذعان به على مفاوز.
الثاني: أن اللَّبْس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل، فوجب أن يتقدم
الفاعل في المعنى، لأنه متعلق غرَضِ السائل.
وأما الفعلُ فمعلوم عنده، ولا حاجة به إلى السؤال عنه، فحريٌّ أنْ يقعَ في الأواخر التي هي محل التكملات والفَضَلات.
وأشكل على هذا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) ، - في جواب (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا) ، فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل، فإنهم لم يستفهموه عن الكسر، بل عن الكاسر، ومع ذلك صدر الجواب بالفعل.
وأجيب بأن الجوابَ مقدرٌ دلَّ عليه السياق، إذ " بل " لا يصلح أن يصدر
بها الكلام، والتقدير: ما فعلته، بل فعله.
قال الشيخ عبد القاهر: ولما كان السؤال ملفوظاً به فالأكثر ترْك الفعل في
الجواب والاقتصار على الاسم وحده، ولما كان مضمراً فالأكثر التصريح به
لضعف الدلالة عليه.
ومن غير الأكثر: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ) - في قراءة البناء للمفعول.
فاعدة
أخرج البزار عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحابِ محمد، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلَّها في القرآن.
وأورده الإمام الرازي بلفظ أربعة عشر حرفاً.
وقال: منها ثمانية في البقرة:(3/493)
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) .
(يسألونكَ عن الأهلَّة) .
(يسألونكَ ما ينفِقُون قل ما أنْفَقْتُم) .
(يسألونك عن الشّهْرِ الحرام) .
(يسألونك عن الخَمْر والميْسر) .
(ويسألونك عن اليتامى) .
(ويسألونك ماذا ينْفقون قل العَفْو) .
(ويسألونك عن المحِيض) .
قال: والتاسع: (يسألونك ماذا أُحلَّ لهم) في المائدة.
والعاشر: (يسألونك عن الأنفال) .
والحادي عشر: (ويسألونك عن الساعة أيان مُرساها) .
والثاني عشر: (ويسألونك عن الجبال) .
والثالث عشر: (ويسألونك عن الرُّوحِ) .
والرابع عشر: (ويسألونك عن ذي القَرْنَيْنِ) .
قلت: السائلُ عن الروح وذي القَرْنين مشركو مكة أو اليهود، كما في
أسباب النزول لا الصحابة، فالخالص اثنا عشر كما صحت به الرواية.
فائدة
قال الراغب: السؤال إذا كان للتعريف تعدَّى إلى المفعول الثاني، تارةً بنفسه، وتارة بعن، وهو أكثر، نحو (ويسألونكَ عن الروح) .
وإذا كان لاستدعاء مال فإنه يعدَّى بنفسه أو بمن، وبنفسه أكثر، نحو: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .
(واسألوا ما أنْفَقْتُم) .
(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) .
قاعدة في الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل
الاسمُ يدلّ على الثبوت والاستمرار، والفعلُ يدلُّ على التجدد والحدوث، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر، فمن ذلك: قوله: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) .(3/494)
لو قيل " يبسط " لم يؤد الغرض، لأنه يؤذن بمزاولة الكلب البَسْط، وأنه يتجدد له شيئاً بعد شيء، فباسط أشعر بثبوت الصفة.
وقوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) ، لو قيل: رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئاً بعد شيء، ولهذا جاء الفعل
في صورة المضارع مع أنَّ العامل الذي يفيده ماضٍ، نحو: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) ، إذ المراد أنْ يفيد صورة ما هم عليه وقْتَ المجيء.
وأنهم آخذون في البكاء يجدِّدونه شيئاً بعد شيء، وهو المسمّى حكاية الحال
الماضية، وهذا هو سر الإعراضِ عن اسم الفاعل والمفعول، ولهذا أيضاً عبَّر
بالذين ينفقون، ولم يقل المنفقون، كما قيل المؤمنون والمتّقون، لأن النفقةَ أمر فِعْليّ شأنه الانقطاع والتجدد، بخلاف الإيمان، فإن له حقيقةً تقوم بالقلب يدوم مقتضاها.
وكذلك التقوى والإسلام، والصبر والشكر، والهدى والضلال.
والعمى والبصر، كلّها لها مسمَّيَاتٌ حقيقية أو مجازية تستمرُّ، وآثار تتجدد
وتنقطع، فجاءت بالاستعمالين.
وقال تعالى في آية الأنعام: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) .
قال الإمام فخر الدين: لما كان الاعتناء بإخراج الحيّ من اليت أشدّ أتى فيه بالمضارع ليدلَّ على التجدد، كما في قوله: (الله يَسْتَهزئُ بهم) .
تنبيهات
الأول: المراد بالتجدد في الماضي الحصول، وفي المضارع أنَّ من شأنه أنْ
يتكرر ويقع مرةْ بعد أخرى، صرح بذلك جماعة منهم الزمخشري في قوله: (الله يستهزئُ بهم) .
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: وبهذا يتَّضِح الجواب عما يذكر من نحو: علم الله كذا، فإنَّ علم الله لا يتجدد، وكذا سائر الصفات الدائمة التي يستعمل فيها الفعل.(3/495)
وجوابُه أنَّ معنى علم الله كذا وقع عِلْمُه في الزمن الماضي، ولا يلزم أنه لم
يكنْ قَبْل ذلك، فإن العلم في زمن ماض أعمّ من المستمر على الدوام قبل ذلك الزمن وبعده وغيره، ولهذا قال تعالى - حكاية عن إبراهيم: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ، الآيات.
فأتى بالماضي في الخلق، لأنه مفروغ منه، وبالمضارع في الهداية والإطعام والإسقاء والشفاء، لأنها متكررةٌ متجددة تَقَعُ مرةً بعد أحْرى.
الثاني: مضمر الفعل فيما ذُكر كمظْهره، ولهذا قالوا: إنَّ سلام الخليل أبلغُ
من سلام الملائكة حيث: (قالوا سلاما قال سلام) ، فإن نصب
سلاماً إنما يكون على إرادة الفعل، أي سلَّمنا سلاماً.
وهذه العبارةُ مؤْذنة بحدوث التسليم منهم، إذ الفعلُ متأخرٌ عن وجود الفاعل، بخلاف سلام إبراهيم، فإنه مرتفع بالابتداء، فاقتضى الثبوتَ على الإطلاق، وهو أولى مما يعرض له الثبوت، فكأنه قَصد أن يحييهم بأحسن مما حيَّوه به.
الثالث: ما ذكرناه من دلالة الاسْم على الثبوت والفعل على التجدد
والحدوث هو المشهورُ عند أهلِ البيان، وقد أنكره أبو المطرف بن عميرة في
كتاب التمويهات على التبيان لابن الزَّمْلَكاني، وقال: إنه غريب لا مستَند له
فإنَّ الاسْمَ إنما يدل على معناه فقط، أما كونُه يثبت المعنى للشيء فلا، ثم أورد قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) .
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) .
وقال ابن المنير: طريقةُ العربية تلوين الكلام، ومجيء الفعلية تارة والاسمية
أخرى من غير تكلف لما ذكروه، وقد رأينا الجملةَ الفعلية تصدر من الأقوياء
الخلص اعتمادا على أن المقصود حاصل بدون التأكيد، نحو: (ربَّنَا آمَنَّا) ، ولا شيء بعد (آمَنَ الرسولُ) .
وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين، فقالوا: (إنما نحنُ مُصْلِحون) .(3/496)
قاعدة في المصدر
قال ابن عطية: سبيل الواجباتِ الإتيانُ بالمصدر مرفوعاً، كقوله: (فإمْسَاكٌ
بمعروف أو تَسريح بإحْسان) .
(فاتَباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) .
وسبيلُ المندوبات الإتيانُ به منصوباً، كقوله: (فَضَرْب الرِّقابِ) ، ولهذا اختلفوا: هل كانت الوصية للزوجات واجبة لاختلاف القراءة في قوله تعالى: (وصِية لأزْوَاجهم) - بالرفع والنصب.
قال أبو حيان: والأصلُ في هذه التفرقة قوله تعالى: (قالوا سلاماً قال
سلام) ، فإنَّ الأول مندوب، والثاني واجب، والنكتةُ في ذلك أنّ
الجملة الاسمية أوْكد وأثبت من الفعلية.
قاعدة في العطف
هو ثلاثة أقسام: عطف على اللفظ، وهو الأصل، وشرْطُه إمكان توجّه
العامل إلى المعطوف.
وعطف على المحل، وله شروط ثلاثة:
أحدها: إمكانُ ظهورِ ذلك الملّ في الفصيح، فلا يجوز مررتُ بزيد
وعمرًا، لأنه لا يجوز مررت زيداً.
الثاني: أن يكونَ الموضع بحق الأصالة، فلا يجوز: هذا الضارب زيدا
وأخيه، لأن الأصل المستوفي لشروط العمل، والأصل إعماله لا إضافته.(3/497)
الثالث: وجود المحرز، أي الطالب لذلك المحل، فلا يجوز إن زيداً وعمراً
قاعدان، لأن الطالب لرفع عمرو هو الابتداء، وقد زال بدخول " إن ".
وخالف في الشرط الكسائي مستدلاً بقوله تعالى: (إنَّ الذين آمَنوا والذين
هَادوا والصَّابِئُون) .
وأُجيب بأن خبر (إن) فيها محذوف أي مأجورون، أو آمنون، ولا تختص مراعاةُ الموضع بأن يكون عامل اللفظ زائداً.
وقد أجاز الفارسي في قوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
أن يكون يوم القيامة عطفاً على محل هذه.
وعطف التوهم، نحو: ليس زيد قائما ولا قاعدٍ - بالخفض، على توهّم دخول الباء في الخبر.
وشرط جوازِه صحة دخول ذلك العامل المتوهم، وشرط حُسْنِه
كثرة دخوله هناك.
وقد وقع هذا العطف فَي المجرور في قول زهير:
بدَا لِيَ أَني لسْتُ مدْرِكَ ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا
وفي المجزوم في قراءة غير أبي عمرو: (لولا أخرْتَنِي إلى أجل قريب
فأصَّدقَ وأكنْ) ، خرجه الخليلُ وسيبويه على أنه عطف على
التوهم، لأن معنى (لولا أخرتني فأصدَّق) ومعنى أخرني أصَّدَّق واحد.
وقراءة قنبل: (إنه مَنْ يتَّقي ويصبر) .
خرجه الفارسي عليه، لأن من الموصولة فيها معنى الشرط.
وفي المنصوب في قراءة حمزة وابن عامر: (ومِن وَرَاء إسحاقَ يعقوب) .
وقال بعضهم في قوله تعالى: (وحِفظاً مِن كلِّ شيطان) : إنه عطف على معنى (إنا زَينَّا السماء الدنيا) ، وهو إنا خلقنا الكواكبَ في السماء الدنيا زينة
للسماء.
وقال بعضهم في قراءة: "وَدّوا لو تدهِنُ فيدهنوا ".
إنه على معنى ودّوا أن تدهن.
وقيل في قراءة حفص: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ)(3/498)
- بالنصب: إنه عطفٌ على معنى لعلي أن أبلغ، لأن خبر لعل يقترن بأن كثيرا.
وقيل في قوله تعالى: (ومِنْ آياتِه أنْ يُرْسلَ الرِّياحَ مبشِّراب وليُذِيقكم) :
إنه على تقدير ليبشركم وليذيقكم.
تنبيه:
ظن ابنُ مالك أن المراد التوهم الغلط، وليس كذلك، كما نَبّه عليه أبو حيان
وابن هشام، بل هو مقصود صواب، والمراد منه عطف على المعنى، أي جوّز العربيّ في ذهنه ملاحظةَ ذلك المعنى في المعطوف عليه، لا أنه غلط في ذلك، ولهذا كان الأدب أنْ يقال في مثل ذلك في القرآن: إنه عطف على المعنى.
مسألة
اختلف في جواز عطْفِ الخبر على الإنشاء وعكسه، فمنعه البيانيُّون وابنُ
مالك وابنُ عصفور، ونقله عن الأكثرين، وأجازه الصفّار وجماعة ٌ مستدلين
بقوله تعالى: (وبَشِّرِ الذين آمَنُوا) .
(وبَشِّرِ الْمُؤْمنين) .
وقال الزمخشري في الأولى: ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى يطلب له مشاكل، بل المرادُ عطف جملة ثوابِ المؤمنين على جملة ثواث الكافرين.
وفي الثانية - أن العطف على تؤمنون، لأنه بمعنى آمنوا.
ورُدَّ بأن الخطاب به للمؤمنين وب (بَشِّر) للنبى - صلى الله عليه وسلم -، وبأنَّ الظاهر في (يؤمنون) أنه تفسير للتجارة لا طلب.
وقال السكاكي: الأمران معطوفان على " قل " مقدرة قبل يا أيها، وحَذْف
القولِ كثير.
مسألة
اختلف في جواز عطف الاسمية على الفعلية وعكسه، فالجمهور على الجواز.
وبعضُهم على المنع، ولقد لهج به الرازي في تفسيره كثيراً، وردَّ به على الحنفية(3/499)
القائلين بتحريم أكل متروك التسمية أخْذاً من قوله تعالى: (ولا تأكلوا مِمَّا لم
يذْكر اسْمُ الله عليه وإنه لفِسْق) .
فقال: هي حجة للجواز لا للحرْمة، وذلك أن الواو ليست عاطفة لتخالُف الجملتين بالاسمية والفعلية، ولا للاسئناف، لأن أصلَ الواوِ أن تربط ما بعدها بما قبلها، فبقي أن تكونَ للحال، فتكون جملة الحال مقيدة للنهي.
والمعنى: لا تأكلوا منه في حال كونه فسقاً.
ومفهومه جواز الأكلِ إذا لم يكن فسقاً، والفسقُ قد فسَّره الله تعالى
بقوله: (أو فِسْقاً أهِلَّ لغير الله به) .
فالمعنى لا تأكلوا منه إذا سمِّيَ عليه غَيْرُ الله.
ومفهومه: فكلوا منه إذا لم يسمّ عليه غَيْرُ الله تعالى.
قال ابن هشام: ولو أبطل العطف بتخالف الجملتين بالإِنشاء والخبر لكان صواباً.
مسألة
اختلف في جواز العطف على معمولي عاملين، فالمشهور عن سيبويه المنع، وبه قال المبرد وابن السراج وابن هشام.
وجوَّزَه الأخفش والكسائي والزجاج.
وخرج عليه قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
إلى قوله: (وتصرِيف الرياح آيات لقوم يَعْقِلون) .
فيمن نصب آياتٍ الأخيرة.
مسألة
اختلف في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فالجمهورُ
من البصريين على الْمَنْع، وبعضهم والكوفيون على الجواز، وخرج عليه قراءة حمزة: (واتقوا الله الذي تَساءلون به والأرْحامِ) .
وقال أبو حيان في قوله: (وصَدّ عَنْ سبيل الله وكُفْر به والمسجِدِ الحرام) :
إن المسجد معطوف على ضمير به، وإن لم يُعَد الجار.
قال: والذي نختاره جواز ذلك، لوروده في كلام العرب كثيراً نظماً ونثراً، قال: ولسنا متعبّدين باتباع جمهور البصريين، بل نتبع الدليل.
واللَه الموفق.(3/500)
(فصل في أحاديث نبويَّة تفسِّرُ آياتٍ قرآنية منقولة محذوفة الأسانِيد من صحيح البخاري راجياً من اللَه حُسْن الخاتمة للناقل والقارئ:
(غير الْمَغْضوبِ عليهم) : اليهود.
(ولا الضالَين) : النصارى.
(أزْوَاج مطَهَّرَة) :
من الحيض والغائط والنّخامة والبصاق.
(عَدْل) : فدية.
(سجَّدًا) :
على وجوههم، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا حبة في شعرة.
(وَيْل) :
وادٍ في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغَ قَعْرَه.
(يتْلونَه حَقَّ تِلاَوَته) :
يتّبعونه حقّ اتباعه.
(لا ينَالُ عَهْدِي الظَّالين) :
لا طاعةَ إلا في المعروف، وليس لظالم عليك عهد أنْ تطيعه في معصية الله.
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) :
اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي.
(الذين إذا أصابَتْهم مصيبةٌ) :
ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة.
(يَلْعَنهم اللاَّعِنون) :
يُضرب الكافر ضربة بين عينيه فيسمعه كل دابة إلا الثقلين، فتلعنه كلّ دابة سمعَتْ صوتَه، فذلك قوله: (أولئكَ يَلعَنهم الله ويلعَنهم اللاَّعنون) :
يعني دوابَّ الأرض.(3/501)
(الحجُّ أشْهُر معلومات) :
شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
(فلا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جِدالَ في الحج) :
الرفَثُ: التعرض للنساء بالجماع، والفسوق المعاصي، والجدال: جدال الرجل صاحبه.
(لا يؤَاخِذكم الله باللغْوِ في أيمانكم) :
هو كلام الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله.
(الطّلاَقُ مَرَّتان) ، والثالثة تسريح بإحسان.
(الذي بِيَدهِ عُقْدَة النكاح) ، الزوج.
(الصَّلاَةِ الوسْطَى) : صلاة العصر.
(سَكينة) : ريح خَخوج.
(يؤْتي الحكمَةَ) ، أي القرآن والعمل به، لأنه قد قرأه
البَرّ والفاجر.
(فيَتَبِغونَ ما تشَابَهَ منه) : هم الخوارج.
وهم الذين تسوَدّ وجوههم.
(الرّاسِخون في العِلْم) :
من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم.
(القَنَاطِير الْمقَنْطَرة) :
القنطار ألف أوقية.
(ولَه أسْلَم مَنْ في السماوات والأرْضِ طوْعاً وَكَرْهاً) .
أما من في السماوات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن وُلد على الإسلام، وأما كَرْهاً فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقَادون إلى الجنة وهم كارهون.
(مَنِ استطاعَ إليه سبِيلاً) :
الزاد والراحلة.(3/502)
(ومَنْ كفَر فإن الله غَنيّ عن العالَمين) :
مَنْ تركه يخاف عقوبته ولا يرجو ثوابه.
(اتّقوا الله حَقَّ تقَاتِه) :
أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنسى.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) :
الخير اتباع القرآن وسنّتي.
(مسَومِين) :
معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بَدْر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر.
(ولا يَحْسَبَنّ الذين يَبْخَلون بما آتاهم الله مِنْ فَضْله) :
مَنْ آتاه الله مالاً فلم يؤَدِّ زكاته، مثل له شجاع أقْرع له زبيبتان يطوقه
يوم القيامة فيأخذ بلهزمَيْهِ يقول: أنا مالك، أنا كنْزك.
(ألاَّ تَعولوا) :
ألاّ تَجوروا.
(بَدَّلْنَاهم جلوداً غيرها) :
تبدل في ساعةٍ مائة مرة.
(فجزَاؤه جَهنَّم) : إن جازاه.
(فيوَفِّيهم أجُورَهم ويزِيدهمْ مِنْ فَضله) :
الشفاعةُ فيمن وجبت له النار ممَّنْ خرج إليهم المعروف في الدنيا.
(الكلاَلَة) : ما خلا الولد والوالد.
(ملوكاً) :
كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً.
(فسوف يَأتي اللَّهُ بِقَوم يحِبُّهم) :
أبو موسى الأشعري منهم.
(أو كِسْوَتهم) :
عباءة لكل مسكين.
(لا يَضُرّكم مَنْ ضَلَّ إذا اهتَدَيْتُنم) :
إذا رأيت شُحًّا مطاعاً، وهوًى مَتّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة(3/503)
نفسك، ودعَ العوام.
وفي حديث آخر: لا يضركم من ضَل من الكفار إذا اهتديتم.
(يَتَوَفَّاكُمْ بالليل) :
مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذُ نفسه، فإن أذن الله بقَبْض روحه قبضه وإلا ردّه إليه، فذلك قوله تعالى: (يتوفّاكُم بالليل) .
(ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بظلْمٍ) :
ليس الذي تعنون من الظلم، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إنَّ الشركَ لظلْمٌ عظيم) ، إنما هو الشرك.
(لا تدْرِكهُ الأبصارُ) :
لو أن الجنّ والإنسَ والملائكة والشياطين منذ خُلقوا إلى أنْ فنوا صُفَّوا صفًّا واحداً ما أحاطوا بالله أبداً.
(فَمَنْ يرِدِ الله أنْ يَهْدِيه يَشْرَحْ صَدْرَه للإسلام) :
قالوا كيف يشرح صَدْرَه، يا رسولَ الله، قال: نور يقذف به فينشرح له وينفسح.
قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها، قال: الإنابةُ إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قَبْل لقاء الموت.
(وآتوا حَقّه يَوْمَ حَصَادِه) :
ما سقط من السنبل.
(لا نُكلِّفُ نَفْساً إلا وُسْعَها) :
من أربى على نفسه في الكيل والميزان، والله يعلم صحةَ نيّته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ، وذلك تأويل وسعها.
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) .
طلوع الشمس من مغربها.
(إنّ الذين فرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيَعاً) :
هم أصحابُ البِدعَ وأصحاب الأهواء.
(خُذُوا زِينَتَكمْ عند كل مَسْجد) :
صلوا في نعَالكم.(3/504)
(لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) :
إذا قُبضت روح العبدِ الكافر يُصعد بها إلى السماء فلا يمرون بها على مَلأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفْتح له، فيقول اللَه: اكتبوا كتابه في سِجِّين في الأرض السّفْلى، فتطرح روحه طرْحاً، اقراءوا إنْ شئتم: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) .
(ونَاَدَى أصحابُ الأعرافِ) :
هم من استوت حسناته وسيئاته.
وفي حديث آخر: هم ناس قُتلوا في سبيل الله.
وفي حديث آخر: إنهم مؤمنو الجن.
(الطُّوفَان) : الموت.
(تجلّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جعله دَكًّا) :
أشار - صلى الله عليه وسلم - بطرف إِبْهامه على أنملة أصبعه اليمنى فساح الجبَل وخَرَّ موسى صَعِقاً فمن نورها جعله دَكًّا.
(وكتبنا له في الألواح) :
كانت من سِدْرَة النتهى، طول كلّ لوح اثنا عشر ذراعاً.
(وإذْ أخذَ رَبُّكَ مِنْ بني آدمَ من ظُهورهم ذُرِّيَّتَهُم) :
إن الله أخذ الميثاقَ من ظَهْر آدم يوم عرفة، فأخرج من صُلْبِه كلّ ذرية ذرّاها
فنثرها بين يديه ثم كلّمهم، فقال: (ألَسْتُ بربكم قالوا بلى) .
وفي رواية: أخذ من ظهره كما يؤخذ بالْمشط من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم، قالوا: بلى.
قالت الملائكة: شهدنا.
(فلما آتاهمَا صالحاً جَعَلاَ له شُرَكاء) :
لما ولدت حوَّاء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال لها: سمِّيه عبد الحارث، فإنه يعيش، فسمَّتْه عبد الحارث، فعاش، فكان ذلك من وَحْي الشيطان وأمْرِه.(3/505)
(خُذِ العَفْوَ) :
هو أن تَعْفُو عمن ظلمك، وتُعْطِى مَنْ حرمك، وتصِل مَنْ قطعك.
(تخافونَ أنْ يَتَخَطَّفَكم الناسُ) :
هم أهْل فارس.
(وهم يَسْتَغْفِرون) :
أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي: (وما كان الله ليعذِّبهم وأنْتَ فيهم) ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
(وَأعِدوا لهم ما استَطَعْتُم من قوة) :
ألاَ إن القوةَ الرَّمْي.
(وآخرين مِنْ دونهم لا تَعلَمونهم) :
هم الجن.
(يَوْمَ الحجِّ الأكبر) :
يوم النحر، وقيل: يوم عرفة.
(إنما يَعْمرُ مَساجدَ الله) :
إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشْهدوا له بالإيمان.
(ومَساكِنَ طَيّبةً في جنات عَدْن) :
قال: قصر من لؤلؤ، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سرير، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش زوجة من الحورِ العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووَصِيفة، ويعطى المؤْمن في كل غداةٍ من القوة ما يأتي على ذلك كله أجمع.
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ) :
هو مسجدي.
(يحبون أنْ يتطَهَّروا) :
هو الاستنجاء بالماء.
(السائحون) : هم الصائمون.
(للَّذِينَ أحسنوا الحسْنَى وزِيادة) :
الحسنى الجنة، والزيادة: النَّظَرُ إلى ربهم.
(قل بفَضْلِ الله) :
القرآن، (وبرحمته) : أن جعلكم من أهله.(3/506)
(ألاَ إنَّ أولياءَ الله لا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحْزنُون) :
إن من عباد الله ناساً يَغبطهم الأنبياء والشهداء.
قيل: مَنْ هم يا رسول الله، قال:
قوم تحابّوا في الله من غير أموال ولا أنساب، لا يفزعون إذا فزع الناسُ، ولا
يحزنون إذا حزنوا.
(لهم البشْرَى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة) :
هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له، فهي بشراه في الحياة الدنيا، وبُشْراه في الآخرة الجنة.
(إلاَّ قَوْمَ يونس لما آمَنُوا) : لما دعوا.
(ليَبْلوَكُمْ أيكمْ أحسَنُ عَمَلاً) :
أحسنكم عقلاً، وأحسنكُم عقلاً أورعكم عن محارم الله.
وأعملكم بطاعة الله، لم أرَ شيئاً أحسن طلباً ولا أحسن إدراكاً من حسنةٍ حديثة لسيئة قديمة، (إن الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات) .
(وما كانَ رَبُّك لِيُهْلِكَ القُرَى بظلْم وأهلُها مصْلحون) :
أي يُنْصف بعضهم بعضاً.
(إني رأيتُ أحدَ عشر كوكبا) :
خرثان، وطارق، والذيال، وذو الكنعان، وذو الفزع، ووثاب، وعمودان، وقابس، والذروح، والمصبح، والفيلق، والضياء، والضوء، والنور، يعني أباه وأمه رآها في أفق السماء ساجدة
له، فلما قصَّ رؤياه على أبيه قال: أرى أمْراً مشتتاً يجمعه الله.
(أني لم أخنْه بالغَيْبِ) :
لما قالها يوسف قال له جبريل: اذكر همَّك.
قال: (وما أُبَرِّئُ نَفْسي) .
(ونُفَضِّل بَعْضَها على بعْض في الأكُل) :
الدقل، والفارسي، والحلو والحامض.
(ويسَبِّح الرَّعْد) :
هو ملك من ملائكةِ الله موكَّل(3/507)
بالسحاب يسوقُه حيث أمره اللَه، وهذا الصوت الذي يسمع صوتُه.
وفي رواية: الرعد يزجر السحاب، والبرقُ طرف ملك يقال له روفيل.
وفي حديث آخر: إن ملكاً موكّلٌ بالسحاب يلمّ القاصية ويلحم الرابية، في يده مخراق، فإذا رفع برقَتْ، وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت.
(طُوبَى لهم) :
هي شجرة في الجنة، مسيرة مائةِ عام.
(يمحو الله ما يشاءُ ويُثْبِت) ، من المحو، ويزيد فيه.
وفي رواية: كلّ ذلك في ليلة القدر، يرفع ويجبر، ويرزق غير الحياة والموت، والشقاء والسعادة، فإن ذلك لا يبدَّل.
وفي رواية عن علي: أنه، سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن هذه
الآية، فقال: لأقِرنَّ عينكَ بتفسيرها، ولأقِرَّنَّ عين أمتي من بعدي بتفسيرها:
الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصْطناع المعروف يحول الشقاء سعادة، ويزيد في العمر.
(لئنْ شَكرْتُمْ لأزِيدَنَّكم) :
من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة.
(ويُسْقَى مِنْ ماء صَدِيد يتَجرَّعُه:
يقربه الله منه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوَى وَجْهَه، ووقع فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، يقول الله: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) .
وقال: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) .
(سواء علينا أجَزعْنا أم صَبرنَا ما لنا مِنْ مَحِيص) :
يقول أهلُ النار: هَلُموا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: هلمّوا فلنجزع فيبكون خمسمائة ِ عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: (سواء علينا أجزِعْنَا أم صَبَرْنَا ما لنا مِنْ مَحِيص) .
(مَثَلاً كلمةً طيبة كشجرةٍ طَيِّبة) : هي النخلة.
(ومَثَلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) : هي الحنظل.(3/508)
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) :
إذا سُئل المسلم في القبر ويشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فذلك هو التثبيت.
(يوْمَ تبَدَّلُ الأرضُ غَيْرَ الأرضِ) .
يكون الناس يومئذ على الصراط.
وفي رواية: أرض بيضاء كأنها فضّة لم يسفَكْ فيها دَمٌ حرام، ولم يُعمل فيها
خطيئة.
(رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) :
يخرج الله ناساً من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقْمَته منهم لما أدخلهم النار مع المشركين، قال لهم المشركون: تدّعون أنكم أولياء الله في الدنيا، فما بالكم معنا في النار، فإذا سمع الله ذلك أذِن الله في الشفاعة لهم فتشفَعُ الملائكة ُ والنبيئون والمؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: يا ليتنا كنّا مثْلهم، فتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم، فذلك قول الله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) .
(لكل بابٍ منهم جُزْءٌ مَقْسوم) :
جزء أشركوا في الله، وجزء شكّوا في الله، وجزء غفلوا عن الله.
(كما أنزلنا على الْمقْتسِمين) :
اليهود والنصارى.
(الذين جعلوا القرآن عِضِين) :
آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
(فورَبِّك لنسألنَّهم أجمعين) :
عن قول لا إله إلا الله.
(زِدْنَاهُمْ عذَابا فَوْقَ العذابِ) :
عقارب مثل النخل الطوال ينهشونهم في جنوبهم.
(جعلنا الليلَ والنهار آيتين) :
كانا شمْسين.
(فمَحَوْنَا آيةَ الليلِ) :
فالسواد الذي رأيت هو المحوُ.(3/509)
(ولقد كَرَّمْنَا بني آدم) : بالأكل بالأصابع.
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) :
يُدْعَى كلّ قوم بأصنام لهم، وكتاب ربهم.
(أقِم الصلاةَ لدلوكِ الشّمْسِ) : هو زوالها.
(إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كان مشهوداً) :
تشهده ملائكة الليل وملائِكة النهار.
(عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاماً محموداً) :
هو المقام المحمود أشفع فيه لأمتي.
وفي لفظ: هي الشفاعة.
(ونَحْشُرهم يَوْمَ القيامة على وجوههم) :
قيل: يا رسول الله، كيف يحشرون على وجوههم، قال: الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ أن يُمشيهم على وجوههم.
(سُرادِقُها) :
لسرادق النار أربعة أجدر، كثافة على جدار
مثل مسافة أربعين سنة.
(يغَاثُوا بمَاءٍ كالمُهْل) :
كعَكر الزيت، فإذا قرّبه إليه سقطت فروةُ وجْهه فيه.
(الباقِيَاتُ الصالحات) :
التهليل والتكبير، والتسبيح والحمد للهِ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
وفي لفظ آخر: سبحان الله، والحمد للهِ، ولا إله إلا الله، والله أكبر هي الباقياتُ الصالحات.
(فظَنُوا أنهم مُوَاقِعوها) .
فينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة.
(وكان تحته كَنْزٌ) :
هو لوح من ذهب مصمت عجبت(3/510)
لمن أيقن بالقَدر كيف ينصب، وعجبت لمن ذكر النار كيف يضحك، وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل.
لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(جناتُ الفردوس نُزُلاً) :
إذا سألْتُم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تُفجَّرُ أنهار الجنة.
(تحْتَك سريًّا) :
نهراً، أخرجه الله لتشربَ منه.
(يا أختَ هارون) :
كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم.
(وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسْرَة) :
هو يوم يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهل النار النار، ويجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا، قال: فيشرئبُّون وينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت، فيؤمَر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة، خلود لا موتَ، ويا أهل النار، خلود لا موت، ثم أشار بيده، وقال: أهل الدنيا في غفلة، غيّ وآثام بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديدُ أهلِ النار.
(وإنْ منكُمْ إلاَّ وارِدُها) :
لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بَرْداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم يُنَجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا.
(ولا يُفْلحُ الساحِرُ حيث أتى) :
إذا وجَدْتم الساحر فاقتلوه، ولا يُؤمَّنُ حيث وُجد.
(مَعيشةً ضَنْكاً) : عذاب القبر.
(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) :
كل شيء خلق من الماء.
(ومَنْ يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلْم) :
احتكار الطعام بمكة إلحاد.
(البيت العَتيق) :
إنما سمِّي البيت العتيق، لأنه لم يظهر عليه جَبَار.(3/511)
(واجتَنِبُوا قَوْل الزور) :
عدلت شهادة الزورِ بالإشراك.
(والذِين يُؤتُون ما آتوا وقلوبهم وَجِلةٌ) :
هو الذي يصلّي ويصوم ويتصدق ويخاف الله.
(وهم فيها كالِحون) :
تشويه النار فتقلص شفَته العليا حتى تبلغَ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفْلَى حتى تضرب سُرَّته.
(حتى تَسْتأنِسوا) :
يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنَحْنَح فيؤذِن أهلَ البيت.
(وإذا ألْقُوا منها مكاناً ضَيقاً مقَرَّنين) :
والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.
(أيَّمَا الأجلَيْنِ قضَيْتُ) :
قضى أوفاهما وأبرهما، وتزوّج الصغرى من البنتين.
(وتأتُون في نادِيكم المنْكر) :
كانوا يخوّفون أهْلَ الطريق، ويستخرجون منهم، فهو المنْكر الذي كانوا يأتون.
(ومِنَ الناسِ مَنْ يَشْتري لَهْوَ الحديثِ) :
لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلمونهن، ولا خير في تجارة فيهنّ، وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت: (ومن الناس. . .) الآية.
(أحْسَنَ كلَّ شيء خلقَهُ) :
أما إن است القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خَلْقها.
(تتجَافَى جُنوبُهم عن المضاجع) :
قيام العبد من الليل.
(وجعلناه هدى لبنى إسرائيل) .
قال: جُعل موسى هدى لبني إسرائيل.
(فلا تَكنْ في مِرْيةٍ مِنْ لقائه) :
من لقاء موسى ربه.(3/512)
(فمنهم مَنْ قَضَى نَحْبَه) :
طلحة ممن قضى نَحْبه.
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) :
دعا فاطمة وعليًّا وحسناً وحُسيناً، فجلّلهم بكساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذْهِبْ عنهم الرٌجسَ وطهرهم تطهيراً.
(لقد كان لسبأ) :
هو رجل ولد عشرة، فسكن اليمن منهم ستةٌ، وبالشام منهم أربعة.
(ثم أوْرَثْنَا الكتابَ الذين اصطفَيْنَا مِنْ عِبَادنا) :
أما الذين سبقوا فأولئك يدخَلون الجنةَ بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا
فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا.
وأما الذين ظلموا أنْفُسهم فأولئِك الذين يُحْبَسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، وهم الذين يقولون (الحمد لله الذي أذْهَب عنا الحزنَ. . .) الآية.
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) :
إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين، وهو العمر الذي قال الله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) .
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) :
مستقرّها تحت العرش.
وفي لفظ آخر: إنها تسجد تحت العرش.
(حُورٌ عِين) :
العِين: الضخام العيون، شُفْر الحوراء، مثل جناح النسر، وهو بالفاء مضاف إلى الحوراء، وهو هدب العين، وإنما ضبطته وإن كان واضحاً لأني رأيتُ بعْضَ المهملين من أهل عصرنا صحّفه بالقاف.
وقال: الحوراء مثل جناح النّسر مبتدأ وخبر، يعني في الخفة والسرعة، وهذا
كذبٌ وجَهل وإلحاد في الدين وجرأة على الله ورسوله.
(كأنهن بَيْضٌ مَكنون) :
رقتهن كرقة الجلدة التي داخل البيضة التي تلي القِشر.(3/513)
(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) :
حام، وسام، ويافث.
وأخرج من طريق آخر، قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم.
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) :
قال: يزيدون عشرين ألفاً.
(وإنا لنَحْنُ الصافّون) :
أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ، ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد لله.
(له مَقَالِيدُ السماواتِ والأرض) :
تفسيرها لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، أستغفر الله، ولا حوْلَ ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير، يحيي ويميت ... الحديث غريب، وفيه نكارة شديدة.
(فصَعِقَ مَنْ في السماوات ومَن في الأرض إلا مَنْ شاء الله) :
هم الشهداء.
(إنَّ الذِين يستَكبرُون عن عِبَادتي) ، أي دعائي.
(إنَّ الذين قالُوا رَبُّنا الله ثم استقَامُوا) :
قد قالها ناس من الناس، ثم كفر أكثَرُهم، فمن قالها حتى يموت فهو من استقام عليها.
(ما أصابَكم مِن مُصِيبة) .
أي من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا فبما كسبَتْ أيديكم، والله أحلم مِنْ أن يثنّي عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فاللهُ أكرمُ من أن يعودَ بعد عفوه.
(ما ضَرَبُوه لكَ إلا جَدَلاً) :
ما ضلَّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدَل.
(وتِلْكَ الجنّةُ التي أُورِثتُموها بما كنْتُم تَعْمَلون) :(3/514)
كلّ أهل النارِ يرى منزلته في الجنة حسرةً، فيقول: لو أن الله هداني لكنتُ من المتقين، وكلّ أهل الجنة يرى منزلته من النار فيقول: (وما كُنّا لنَهْتَدِيَ لولا أنْ هَدانا الله) ، فيكون له شكر.
وما مِنْ أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافرُ يرِثُ المؤمنُ منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة.
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تأتي السماء بدُخَان مُبين) :
إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه.
والثانية الدابة.
والثالثة الدجّال.
(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) :
ما من عَبْد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزْقُه، وباب يدخل فيه عمله وكلامه، فإذا مات فقَداه وبَكيَا عليه.
وذكر أنهم لمَ يكونوا يعملون على وَجْهِ الأرضِ عملا صالحا تبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عَمَلٌ صالح، فتفقدهم فتبكي عليهم.
وفي رواية: ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكتْ عليه السماء والأرض.
(أو أثارةٍ مِنْ عِلْم) : الخط.
(وألزمَهُمْ كَلِمةَ التًقْوى) : لا إله إلا الله.
(ولا يغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضاً) :
إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّهُ.
(هل مِنْ مَزيد) :
لا يزال يلقي في النار، وتقول: هل مِنْ مَزِيد، حتى يضعَ قَدمه فيها، فتقول: قط قط.
(والذَّارِيات ذَرْواً) :
هي الرياح.
(فالجاريات يُسْراً) :
هي السفن.
(فالْمُقَسمَاتِ أمْراً) :
هي الملائكة.(3/515)
(وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) :
إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار.
(وإبراهِيم الذِي وَفَّى) :
وفَّى عَمَلَ يومِه بأربع ركعات من أول النهار.
وقي رواية: كان يقولُ كلما أصبح وأمسى: (فسبحان الله حين
تُمْسُونَ وحين تصبحون. . .) حتى ختم الآية.
(وأنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : تفكروا في مخلوقاتِ الله، ولا تفكروا في ذاتِ الله.
(كُلَّ يَوْم هُوَ في شَأن) :
من شأنه أنْ يغفِرَ ذَنْبا، ويكشف كَرْباً، ويرفع قوماً، ويضَع آخرين.
(ومِنْ دونِهما جَنَّتان) :
جنتان من فضةٍ آنيتهما وما فيهما.
وجنتان من ذهب آنيتُهما وما فيهما.
(هَلْ جزَاءُ الإحسان إلا الإحسانُ) :
هل تدرون ما قال ربّكم، قالوا: الله ورسولهَ أعلم.
قال: يقول هل جَزاءُ مَنْ أنعمتُ عليه بالتوحيد إلا الجنة.
(في سِدْرٍ مَخْضُودٍ) :
خضد الله شوكه، فجعل مكانَ كلِّ شوكة ثمرة.
(وظِلٍّ مَمْدُود) :
إن في الجنة شجرة يسير الراكبُ في ظلّها مائةَ عام لا يقطعها: اقرؤوا إن شئتم: (وظِلٍّ مَمْدُود) .
(وفرُش مَرْفوعَة) :
ارتفاعُها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام.
(إنَّا أنْشأنَاهُنَّ إنشاءً) :
كنّ في الدنيا عجائز عُمْشاً رُمصاً.(3/516)
(أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) :
قالت أم سلمة: يا رسول الله، أخبرني عن قول الله: (حور عين) ، قال: حور عين بيض ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر.
قلت: أخبرني عن قوله: (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) ؟
قال: صفاؤهنَّ كصفا الدُّر الذي في الأصدَاف الذي لم تمسه الأيدي.
قلت: أخبرني عن قوله: (فيهَنَّ خيراتٌ حسَان)
قال: خَيرات الأخلاق، حِسان الوجوه.
قلت: أخبرني عن قوله: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ، قال: رِقتهنَّ كرقّة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القِشرة
قلت: أخبرني عن قوله: (عُرُبًا أَتْرَابًا) ؟
قال: هن اللواتِي قُبِضْنَ في الدنيا عجائز رُمصاً شُمْطاً، خلقهُن الله بعد الكبر فجعلهنّ عذَارى عرُباً متعشقات محببات.
أتراباً على ميلادٍ واحد كلامهنّ عربي.
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) :
هما جميعاً من أمتي.
(ولا يَعْصِينَكَ في مَعروف) : هو النوح.
(ن والْقَلم) : لوح من نور، وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى
يوم القيامة.
وفي لفظ آخر: أول ما خلق الله القلم والحوتَ قال: اكتب.
قال: وما أكتب، قال: كلّ شيء كائن إلى يوم القيامة.
(عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيم) :
تبكي السماء من عبد أصحَّ الله جسمه، وأرْحَبَ جَوْفَه، وأعطاه من الدنيا مقضماً، فكان للناس ظلوماً، فذلك العتُل الزنيم.
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق) :
عن نور عظيم، يخرون له سجَّداً.
(كان مِقْدَارُهُ خمسين ألْفَ سنَةٍ) :
والذي نفسي بيده ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاةٍ مكتوبة يصليها في الدنيا.
(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) :
قال: مائةُ آية.(3/517)
(سارْهِقُه صَعُوداً) :
هو جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا، ثم يَهْوِي به كذلك.
(هو أهْلُ التَّقْوَى وأهْلُ المغفرة) :
قال ربكم: أنا أهلٌ أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أنْ أغْفِر له.
(لابثين فيها أحْقَاباً) :
الْحُقب بضع وثمانون سنة، كلّ سنة ثلاثمائةٍ وستون يوماً مما تعدّون.
(إذا الشمسُ كُورَتْ) :
تكويرها وانكدارها في جهنم.
(وإذا النفوسُ زُوِّجَت) :
القرناء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) :
قال - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة: ما وُلِدَ لك؟
قال: ما عسى أن يولَد لي، إمَّا غلام أو جارية قال:
فمَنْ يشبه، قال: ما عسى أن يشبه إمَّا أباه أو أمه.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ، لا تقولنَّ هذا، إن النطفة إذا استقرَّتْ في الرحم أحضرها الله كل نسبٍ بينها وبين آدم، أما قرأت: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) .
قال: سلَككَ.
(الأبرار) :
إنما سماهم الأبرار، لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء.
(يوم يَقُومُ الناسُ لربِّ العالمين) :
حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف اذنيه.
(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قَلْبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله في القرآن.
(فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) :
قالت عائشة:(3/518)
قلت: يا رسول الله، ما الحسابُ اليسير، قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنه مَنْ نوقش الحساب يومئذ هلك.
(واليوم الموْعود) :
يوم القيامة.
(وشاهد) ، يوم الجمعة.
(ومشهود) : يوم عرفة.
(في لوح محفوظ) :
إن الله خلق لَوْحا محفوظاً من دُرّة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمهُ نور، وكتابه نور، لله فيه كلّ يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق، ويحيى ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.
(قد أفْلح مَنْ تزَكّى) :
من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله.
(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) :
هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والاهتمام بها.
(وليال عَشْرٍ) :
عشر الأضحى، و (الوتر) يوم عرفة.
(والشّفع) : يوم النحر.
وفي رواية: الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر.
(فكُّ رَقبة) :
هو الإعانة في عِتْقها، وعتقها أن تنفرد في عِتقها.
(قد أفْلح مَنْ زكاها) :
أفلحت نَفْس زكاها الله.
(ورفَعْنَا لك ذِكْرَك) :
أتاني جبريل، فقال: إنَّ ربك يقول: أتَدْري كيف رُفِع ذكرك، قلت: الله أعلم.
قال: إذا ذُكِرتُ ذكرتَ معي.
(يومئذ تُحذثُ أخبارَها) :
قال: أتدْرُونَ ما أخبارها؟(3/519)
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: أن تشهدَ على كل عبد أو أمة بما عمل على ظَهْرها
بأن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا.
(إنّ الإنسانَ لربه لكَنُود) :
الذى يأكل وحْدَه، ويضرب عَبْده، ويمنع رفْده.
(ثم لتُسألُنًّ يومئذ عن النعيم) :
الأمن والصحة والماء البارد.
(مؤْصدة) : مطبقة.
(عَنْ صلاتهم ساهُون) :
الذين يؤخرونها عن وَقْتِها.
(الكوثر) : نهر أعطانيه ربي في الجنة، له طرق لا تحصى.
(إذا جاء نَصْر الله والفَتْح) :
لما نزلت قال - صلى الله عليه وسلم -: نُعيت إليّ نفسي.
(الصَّمَد) :
الذي لا جَوْفَ له.
(الفَلَق) :
جُبٌّ في جهنم مغَطى.
(ومن شَرِّ غاسق إذا وَقَب) :
النجم الغاسق.
وفي رواية عائشة قالت: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ييدي فأراني القَمر حين طلع، وقال: تعوَّذِي بالله من شر هذا، هذا الغاسق إذا وَقَب.
(الوسواس الخَنَّاس) :
إن الشيطان واضع خطمه على قَلْب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيَ التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس.
***
فهذا ما حضرني من التفاسير المرفوعة المصرح برفعها صحيحها وحسنها، ولم
أعول على الموضوعات والأباطيل، واختصرت فيها وفي كلّ هذا الكتاب
للتحريض عليه، ولعل عبدة الناس تَهْوي إليه، إذ العمْرُ قصير، وفي العمل
تقصير، فأسأل من الناقد أن يكونَ غير بصير، لأنه إن بصرَ رأى من المعايب ما لا يخطر ببال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أنا من غير الدجال أخوفُ عليكم من الدجال ".(3/520)
فقيل: وما هو يا رسول الله، قال: العلماء السوء.
وهذا لأنَّ الدَّجال غايتُه الإضلال، ونحن نصرفُ الناس عن الدنيا بألسنتنا ومقالنا، وندعوهم إليها بأفعالنا وأعمالنا، ولسانُ الحال أنطقُ من لسان المقال، وطباعُ النظر إلى المساعدة في الأعمال أميلُ منها إلى المتابعة في الأقوال، فما أفْسَدْنَا بأعمالنا أكثر مما أصلحنا بأقوالنا، إذ لا يستجرئ الجاهل إلا باستجرائنا، ولو اشتغلت بإصلاح نفسي كان أولى بها وأعظم من هذا، إنه يخيل لنا أنا خير من كثير من عباد الله، وهذا هو أعظم من كل ضلال.
فإن قلت: قد أخرج البزار عن عائشة، قالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُفَسِّر شيئاً من القرآن إلا آياً بعد تعليمه إياهن من جبريل؟
والجواب: أن الصحيح عند ابن تيمية وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن لأصحابه جميعَ تفسير القرآن أو غالبه.
ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجة، عن عمر - أنه قال: مِنْ آخر ما
أنزل الله آية الربا، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبض قبل أنْ يفسرها.
دَلّ فَحْوى الكلام على أنه كان يفسر لهم كلّ ما أَنزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة مَوْته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وَجْه.
وقد أوَّل ابن جرير وغيره حديث عائشة أنه إشارات إلى آياب مشكلات
أشكلن عليه، فسأل الله عِلْمهن، فأنزله الله على لسان جبريل.
فإن قلت: قد صح أنَّ آخر آية نزلت: (يستفتونك قل الله يُفْتيكم في
الكَلاَلة) .
وآخر سورة نزلت: براءة.
وفي رواية: آخر آية نزلت: (واتَّقُوا يوماً تُرْجَعُون فيه إلى الله) .
وعاش - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية سبع ليال.
وفي رواية سعيد بن المسيب أنَّ أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدَّيْن، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصة واحدة، فكيف يجمع بين هذه الأحاديث؟(3/521)
والجواب: أن إخبار بعضهم بآية الربا بأنها ختام الآيات المنزّلة في الربا، إذ هي معطوفة عليها والآخرى في آخر النساء مقيّدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه.
والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول.
قال البيهقي: يجْمع بين هذه الاختلافات إن صحّت الرواية أن كل واحد
أجاب بما عنده.
وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوالُ ليس فيها شيء مرفوع إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلٌّ قاله عن الاجتهاد وغلبة الظن.
ويحتمل أنَّ كلاًّ منهم أخبر عن آخر ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه.
ويحتمل أيضاً أن تنزل الآية التي هي آخر آية تلاها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مع آياتٍ نزلت معها فيأمر برَسْمِ ما نزل معها بعد رَسْمِ
تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب.
ومن غريب ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان
أنه تلى هذه الآية: (فمَنْ كان يَرْجُو لِقَاءَ ربه) .
وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن.
قال ابن كثير: هذا آخر مشكل، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغيّر حكمها، بل هي مثبتة محكمة.
ولنختم هذا الكتاب بما ختم اللهُ كتابَه آمِراً لنبيه بالاستعاذة من شَرِّ الحاسد
الذي غلب عليه الجهْل وطمّه، وأعماه حبّ الرياسة وصَمَّهُ لحَمْلِه على الاعتراض عليَّ، وينسب ما يرى فيه من التكرار والنقص إليّ.
ولعمري لو علم ما أنا فيه من شغل البال، وتغيّر البلبال لالْتَمس لي عُذْراً، وصفح عما يرى فيه من التقصير ستراً.
لكن الواجب على مَنْ كان في زمان يتلاعب به الجهال والصبيان.
والكامل عندهم مذموم داخل في كفَّةِ النقصان، أن يلزَم فيه السكوت، ويصير حلْساً من أحلاس البيوت، ويردّ العلم إلى العمل، ولا يتقاعس في القعود مع أهْل الكسل، لكن أرْقُب ممن مَنَّ عليَّ بتلخيص هذا التفسير مع بعض زيادات(3/522)
شريفة، ونوادر لطيفة، أن يجعله نافعاً ولا يذهب ضَبعاً لَبْعاً، وأن يعصمنا
والناظر فيه، ومَنْ دعا لنا من شرور أنفسنا، ومِنْ سيئات أعمالنا بجاهِ سيدنا
ومولانا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ما دامت أشهراً وجُمعاً.
***
تمَّ الكتابُ المباركُ الميمون المُسَمَّى بمعترك الأقران، في إعجاز القرآن للإمام
الحافظ السيوطي نفعنا الله به وبعلومه وسائرِ العلماء بجاهِ المفضَّل على أهل الأرض والسماء سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، على يَدِ كاتبه لنفسه ثم لمن شاء المولى بعده.
الحاج أحمد بن محمد المستغانمي منشأ، الجزائري وطناً، أصلح الله أحوالَه.
وسدَّد أقوالَه وأفعاله وَعقبه إلى يوم القيامة بجاه المدفون في تهامة، لثمانية
وعشرين يومًا مضت من شهر الله المعظم ذي القعدة عام 1106 هـ.
والحمد لله رب العالمين عرفنا الله خيره، ووقانا شره.
اللهم اغفر لكاتبه ووالديه وأشياخه وأزواجه وذريَّاته وأحبابه والناظرين فيه.
وكل مَنْ دعا لنا بالرحمة ولجميع المسلمين.
وصلَّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين عدد ما ذكره الذاكرون وغَفَل عن ذِكره الغافلون.(3/523)