(مَلَأ) : اشتقاقه من ملأت الشيء، وفلان مليء إذا كان متكثرا.
ومعنى الملأ حيثما ورد في القرآن هم الأشراف والوجوه الذين يملأون العيْن والقَلْب.
ومنه الحديث: أولئك الملَأ من قُريش.
وأما قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) - فالمراد بها رؤية قلب، وكانوا قوماً قَدْ نَالَتْهم الذِّلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال، فلما أمروا به كرهوه.
(مَسّ) : جنون.
يقال رجل ممسوس، أي مجنون.
والمسُّ باليد أيضاً.
(موعظة) : تخويف سوء العاقبة.
والمعنى أن من أخذ الربا قبل نزول
التحريم فانتهى وتاب فله ما سلف، وأمره إلى الله.
، والضمير عائد على صاحب الربا، يعني أن الله يحكم فيه يوم القيامة فلا يؤاخذ به في الدنيا.
وقيل الضمير عائد على الربا، والمعنى أمر الربا أتى الله في تحريمه أو غير ذلك.
(مَوْلانا) : وَلِيُّنَا وناصرنا.
والولى على ثمانية أوجه: المعتِق، والْمعْتَق، والوليّ، والأوْلى بالشيء، وابن العم، والصهر، والجار، والحليف.
(أمَانيّ) : جمع أمنية، ولها ثلاثة معان: ما تتمناه النفس، والتلاوة، والكذب.
وكذلك تمنَّى لها هذه المعاني الثلاثة.
(مَآب) مرجع.
(مَفَازة) : مَنْجَاة، مَفْعلة من الفَوْز، يقال: فاز، أي نجا، والفوز أيضاً:
الظفر.
ومنه: (إنَّ للمتَّقين مَفَازا) ، يعني الجنة، لأنهم يظفرون
فيها بما يريدون.
(مَثْنَى وثُلاَث ورُبَ - صلى الله عليه وسلم -: لا ينصرف للعدل والوصف، وهي
حالٌ من (ما طاب) .
وقال ابن عطية: بدل، وهي معدولة عن أعداد مكررة.
ومعنى التكرار فيها أنَّ الخطابَ لجماعة، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما
أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرر الناس.
والمعنى انكحوا اثنين(2/304)
أو ثلاثاً أو أربعاً.
وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوّج ما زاد على الأربع.
وقال قوم: لا يعبأ بقولهم إنه يجوز الجمع بين تسع، لأن مثنى وثلاث
ورباع مجتمع منه تسعة، وهذا خطأ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا
الجمع.
ولو أراد الجمع لقال " تسع "، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه
وأقلّ بياناً.
وأيضاً قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة.
فإن قلت: هل الزيادة لحكمة أم لا؟
فالجواب أن الله تعالى أباح لمن تقدم من
اليهود ستا، وأباح للنصارى اثنتين، فجعل الله لهذه الأمة الأربع، لأنهم خيْر
الأمم، وخير الأمور أوساطها.
هذا لمن قَدَر على العدد، وأما من لم يقدر
فالاقتصار على الواحدة، وما ملكت اليمين أولى، رغبة في العدل، كما قال تعالى:
(ذَلِكَ أدْنَى ألاَّ تَعولوا) .
(مَقْتاً) : بغْضاً.
ومنه قوله تعالى: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، فمقتوا أنفسهم، واعترفوا بذنوبهم.
وجعل كل واحد يلوم صاحبه، فتناديهم الملائكة وتقول: "لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ" اليوم، فقوله: لَمَقْتُ اللَّهِ - مصدرٌ مضاف إلى الفاعل، وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه، وقوله: (إذْ تدْعون) - ظرف للعامل فيه مقت الله من طريق المعنى، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو، لأن مقت الله مصدر، فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته، فيحتاج أن يقدّر للظرف عامل، وعلى هذا أجاز بعضهم الوقْف على قوله: أنفسكم، والابتداء بالظرف، وهذا ضعيف، لأن المراعى المعنى.
وقد جعل الزمخشري مَقْتَ اللهِ
عاملاً في الظرف ولم يعتبر الفصل.
وأما قوله تعالى: (إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سَبِيلاً) .
فكانت العرب إذا تزوّج الرجل امرأة أبيهِ فأولدها يقولون للولد مَقْتِيّ، ولذا
زاد المقت في هذه الآية، لأن هذا المقت أقْبَح من الزنى.
(ما أصابكَ مِنْ حسنَةٍ فَمِنَ اللهِ وما أصابكَ مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نَفْسِك)(2/305)
هذه الآية خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به كل مخاطب على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان:
أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله والسيئة إلى النفس تأدباً مع الله، وإن كان كل
شيء منه في الحقيقة، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والخير كلّه بيدك، والشرّ ليس إليك ".
وأيضاً فنسبة السيئة إلى العَبْدِ لأنها بسبب ذنوبه، لقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، فإنها من العبد
بتسبّبه فيها، ومن الله بالخلقة والاختراع.
والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل.
والتقدير يقولون كذا، فمعناها كمعنى التي قبلها.
(ما قَد سلَف) ، المعنى إلا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية
وانقطع بالإسلام، فقد عفا عنكم، ولا تؤاخذون به.
هذا في أرجح الأقوال.
(ما مَلكَتْ أيْمَانكم) : يريد السبايا في أشهر الأقوال.
والمعنى أن المرأة الكافرة إذا كان لها زَوْجٌ ثم سُبِيَتْ جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها.
وسبب ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشاً إلى أوْطاس فأصابوا سبياً من العدوّ، ولهنّ أزواج من المشركين، فتأثَّم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مبِيحةً لذلك.
(مُدخَلاً كَرِيما) : اسم مكان، وهو هنا الجنة.
(مَغَانم) ، ومَغْنم، وغنْم: ما أصيب من أمْوَال المحاربين.
وفي هذه الآية وَعْد وتزهيد في مال من أعلنوا الإسلام.
وأما المحاربون فقد أباح الله لهذه الأمة أخْذَها.
وهي من خصائص نبيهم عليه الصلاة والسلام.
(مَوْقوتاً) : أي محدوداً بالأوقات.
وقال ابن عباس: فرضاً مفروضاً.(2/306)
(مَرِيدًا) : يعني إبليس، ومعناه أنه قد عدم من الخير.
وظهر شرّه، من قولهم: شجرة مَرْدَاء إذا سقط ورَقها، وظهرت عيدانها.
ومنه غلام أمرد، إذا لم يكن في وجهه شَعر.
(مَحِيصا) : أي مَعْدَلا ومهرباً.
(مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) .
دخلت (من) للتبعيض رِفْقاً بالعباد، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها
البشر، واشترط مع فعلها الإيمان، لأنه لا يقبَل عملٌ إلا به.
(مَسِيح) - بالحاء الهملة: لقب لعيسى ابن مريم، ومعناه
الصديق، وقيل الذي لرجله أخْمَص.
وقيل الذي لا يمسح ذا عاهة إلا برئ.
وقيل الجميل.
وقيل الذي يمسح الأرْضَ، أي يقطعها.
وبالخاء المعجمة: الدجّال، لعنه الله.
وقيل بالحاء المهملة.
(موْقوذة) : هي المضروبة بعصا أو حجر وشبْه ذلك، ثم
تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة.
(مَخْمَصَةٍ) : مجاعة.
(مَكنَّاهمْ في الأَرْض) : ثَبَّتناهم فيها وملكناهم، والضمير
عائد على القَرْن، لأنه في معنى الجماعة.
(ما المسيح ابْن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسول) : في هذه الآية رَدّ على
النصارى الذين غَلوا فيه، وقالوا: إنه ابن الله.
فردَّ اللَّهُ عليهم بأنه عبده، وكلمته التي هي كنْ من غير واسطة أبٍ ولا نطفة.
(ورُوحٌ منه) ، أي ذو روح منه، فمِنْ هنا لابتداء الغاية.
والمعنى من عنده، وجعلَه من عنده، لأنه
أرسل به جبريل إلى مريم عليها السلام.
(مائدة) : هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام
فهي خِوَان.(2/307)
فإن قلت: ظاهر سؤالهم نزول المائدة من عيسى عليه السلام يقتضي شكهم في قُدْرةِ اللهِ على إنزالها؟
والجواب أنهم لم يشكُّوا في قُدْرَةِ الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربُّك هذا، وهل
تقع منه إجابة إلينا، لأن الله أثنى على الحواريّين في مواضع من كتابه، مع أن في اللفظ بشاعةً تُنْكر.
وقد قرئ: تستطيعُ ربَّك - بالنصب، أي هل تستطيع سؤال ربّك، وهذه
القراءة لا تقتضي أنهم شكّوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بِرَبّهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك أن ينزِّلَ علينا مائدة من السماء، فموضع (أن) مفعول بقوله: يستطيع، على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء.
(وَمَا تأْتيهم مِنْ آيةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهم) : (مِنْ) الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو لبيان الجنس، وهذا الخطاب للكفار.
(مَلَكوتَ السَّمَواتِ والأرْضِ) : قال عِكْرِمة: هو الملك، ولكنّه بكلام النبطيّة ملكوت.
وقال الواسطي في الإرشاد: هو الملك بلسان
القبط، ومعناه أن الله فرج له السماوات والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يفتقر لصحة نَقْل.
وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار
والاستدلال ما لم يقَعْ لأهل زمانه.
وقيل إنما ابْتلِي بِذَبْحِ وَلَدِه، لأنه رأى في هذا الكَشْف عاصياً، فدعا الله
بهلاكه، وكذلك ثان وثالث، فقال الله: احجبوه.
وابتلاه بذبح ولده، فقال: يا ربّ صبِّرْني، فإنك ابتليتني بما لم تبتل به أحداً قبلي، فنزل عليه جبريل، وقال له: يا إبراهيم، أما تذكر يوم كَشفَ الله لك الملكوت، ودعوت على عباد الله بالهلاك، أهلكْتَ له ثلاثاً، وهو طلب منك واحداً، فقال: يا جبريل، وهل تبلغ(2/308)
رحمته بعباده كرحمتي بولدي، فقال: الله أرحمُ بِعَبْدِه منك بولدك.
فبكى إبراهيم ففدَّاه الله بذبح عظيم (1) .
والواو والتاء في ملكوت زائدتان مثل الرَحموت من
الرحمة، والرَهبوت من الرهبة، تقول العرب رَهَبوت خَيْرٌ من رَحَموت، أي أن ترهب خير من أن ترحم.
(مَعْرُوشات) : مرفوعات على دعائم وشِبْهها.
وغير معروشات: متروكات على وجه الأرض.
وقيل: المعروشات ما غَرسه الناس في العمار.
وغير معروشات ما أنْبَتَه الله في الجبال والبراري.
(مَنْ تكون لَه عاقِبةُ الدَّارِ) : يحتمل أن تكون من
موصولة في موضع نصب على المفعولية، أو استفهامية في مَوْضِعِ رَفْع بالابتداء، والمراد بـ (عاقبة الدارِ) الآخرة، وهو الأصح، لقوله: (عُقْبَى الدَّارِ جنّات عَدْن) .
(مَكانَتِكم) : أي تمكنكم.
والأمر هنا في قوله: (اعملوا) ، للتهديد.
(مَسْفوحاً) : مصبوبا.
(مَعَايش) : بغير همز، لأنها مفاعل من العَيْش، واحدها معيشة، والأصل معيشة على مَفْعلة، وهي ما يعَاش به من النبات والحيوان وغير ذلك.
(مَذْموماً مَدْحُوراً) : من ذأمه بالهمز إذا ذمّه.
والمدحور: المطرود حيث وقع.
والمراد به إبليس لعنه الله، لأن الله أبعده.
(ما سبَقَكمْ بها مِنْ أحَدٍ مِنَ الْعَالَمين) ، أي لم يفعلها
أحد من العالمين قَبْلكم.
ومن الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو للجنس -.
(وَمَا كان جوابَ قَوْمِه) : يعني أنهم عدلوا عن جوابه
على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله.
__________
(1) لا يخفى ما في هذا الكلام من بعد بعيد، فهو يتنافى تماما مع ما ذكره القرآن عن شخصية الخليل - عليه السلام - وأين هو من قوله تعالى على لسان الخليل - عليه السلام - (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؟؟!!!.(2/309)
(مَدْين) : اسم أرض قوم شُعيب، كانوا يبْخَسونَ
الكيْلَ والوَزْنَ، فبعث الله لهم شعَيباً ليَنْهاهم عن ذلك.
فإن قلت: هل المراد به الأيكة المذكورة في الشعراء، ومعناها
الغَيْضَة، ولم قال في الأعراف أخوهم كما قال في قصة نوح وحذفه من الشعراء، فدل على أنهم قبيلتان؟
والجواب أنه بُعث إلى مَدْيَن، وكان من قبيلتهم، فنسبه إلى إخوتهم، وبعث
أيضاً إلى أصحاب الأيكة، ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيب على هذا مبعوثاً إلى القبيلتين.
وقيل: إن أصحَاب الأيكة مَدْين، ولكن قال أخوهم حين ذكرهم باسم
قبيلهم، ولم يقلْ أخوهم حين نسبَهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها، تنزيهاً لشعَيْبِ عن النسبة إليها.
وقرئ الأيكةِ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحِجْرَ، و (ق) ، ومعناه الغَيْضَة كما قدمنا.
وقرئ في الشعراء بفتح اللام والتاء، فقيل: إنه مسهَّل من الهمز.
وقيل إنه اسمُ بلدهم.
ويقَوِّي هذا على القول إن هذه القراءة بفتح التاء غير منصوب، فدلّ ذلك على أنه اسم علم.
وضَعَّفَ ذلك الزمخشري، وقال: إنَّ " ليكة " اسم لا يُعْرف.
(ما قَدَرُوا اللَهَ حَقَّ قدْرِه) : أي ما عرفوه حقَّ معرفته في
اللّطْف بعباده والرحمة لهم، إِذْ أنكروا بعثةَ الرُّسل وإنزاله الكتب.
والقائلون: (ما أنْزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْء) ، هم اليهود، بدليل ما
بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ورُوِي أنَّ الذي قالها منهم مالك بن الصَّيْف، فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما
لا بد لهم من الإقرار به، وهو إنزال التوراة على موسى.
وقيل القائلون قريش وألزموا ذلك، لأنهم كانوا مقرين بالتوراة.(2/310)
(مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) : أي أبدلنا البأساء والضراء
بالنعيم اختباراً لهم في الحالتين.
(ما وَجَدْنَا لأكْثَرِهم مِنْ عَهْد) : الضمير لأهل القرى.
والمعنى وجدناهم ناقضين العهود.
ومِصْداق ذلك أني سميتهم بشراً فتلا الاسم شر.
(مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا) : أي ما تعيب منا إلا إيماننا بموسى.
وهذا قول السحَرة لما شاهدوا ما أعجز البشر.
وروي أنهم انطلقو إلى قبور أشياخهم يطلبون منهم تَبْيِين الحال، وقالوا لهم:
انظروا إلى العصا، فإن رأيتموها ضامرةً فاعلَموا أنها من عند الله، وإن
رأيتموها مجوّفة بعد بلعها لسحركم فليست هي من عند الله (1) .
(مَهْمَا تَأْتِنَا به مِنْ آيةٍ) : الضمير عائد على مهما، وإنما
قالوا من آية على تسمية موسى لها بآية، أو على وجه التهكم.
(مَشارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبَها) : المراد بها مصر والشام فقط.
(ما كانوا يَعْرِشون) : أي يبنون، وقيل الكروم
وشبهها، فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش.
(فمثَله كمَثَلِ الْكلْب) :
المثل له أربعة معان: الشبيه والنَّظِير، ومنه المثل الضروب، وأصله من التشبيه.
ومثل الشيء حاله وصفته.
والمثل الكلام الذي يتمثّل به، ومثل الشيء بكسر الميم شبهه، والضمير عائد على الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها.
وقد قدمنا الخلاف فيمن نزلت.
وهذا المثل في غاية الخسّة والرداءة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لنا مثل السوء، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ".
(مَثَل القَوْمِ الذين كذَّئوا بآيَاتِنَا) ، أي صفة المكذّبين
كصفة الكلب في لهثه، أو كصفة الرجل المشبّه به، لأنهم إن أتوها لم يهتدوا.
__________
(1) كلام فيه بعد، فالسحرة بادروا بالسجود كما يفهم ذلك من تعبير القرآن بالفاء - التي تفيد الترتيب والتعقيب - في قوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) .(2/311)
وإن تركوها لم يهتدوا.
وشبّههم بالرجل، في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات.
(مَتِين) : شديد، وسمى الله فعله بهم كَيْدا، لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
(ما يصاحبهم مِنْ جِنَّة) : يعني بالصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فنفى عنه ما نسبه المشركون له من الجنون.
ويحتمل أن يكون قوله: (ما بصاحبهم مِنْ جِنَّة) معمولاً لقوله: (أوَلمْ
يتفَكّروا) ، فيعلموا أن ما بصاحبهم من جِنَّة.
ويحتمل أن يكون الكلام قد تَمَّ في قوله: أو لم يتفكروا، ثم ابتدأ إخباراً.
مستأنفاً بقوله: (ما بصاحبكم من جِنّة) .
والأول أحسن.
(ما خلَقَ اللَّهُ) .: عطف على الملكوت، ويعني بقوله: (مِنْ شيء) .
جميع المخلوقات، إذ جميعها دليل على وَحْدَانيَّة خالقها.
(ما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ) : الخطاب بهذا لنبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه أخذ يوم بَدْرٍ قبضةً من ترَابٍ أو حصا، ورمى بها في وجوه الكفار، فانهزموا.
وفي الآية إخبار أن ذلك من الله في الحقيقة، وأنه ليس في قدرة البشر قَتْل
من قتل، كما قال: (فَلَمْ تَقتلوهم ولكنَّ اللهَ قَتَلهم) .
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) .
في هذه الآية إكرام لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإخبار بأنهم لو آمنوا واستَغْفَروا لأمِنوا من العذاب.
قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب، وهما وجوده - صلى الله عليه وسلم -، والاستغفار.
فلما مات ذهب الأمان الواحد، وبقي الآخر.(2/312)
وقيل الضمير في ليعذبهم للكفار، وفي: وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا
بين أظْهرِهم.
فعليك بكثرة الاستغفار تُمَحَى صحيفتك من الأوزار.
قال - صلى الله عليه وسلم -: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
وفي الأحاديث القدسية: يقول الله تعالى فيمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا: امْحوا لعَبْدِي ما بين طرفي الصحيفة.
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) : المعنى أي شيء يمنعهم من
العذاب وهم يصدّون المؤمنين عن المسجد الحرام، والجملة في موضع الحال.
(مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ) : الضمير للمسجد الحرام، أو لله.
(ما كانَ صَلاَتُهم عِنْدَ البيت) : قد قدمنا في حرف التاء
معنى هذه الآية، والضمير عائد على قريش.
(مَضَتْ سنَّة الأوّلين) : تهديد بما جرى لهم يوم بدر، أو بما جرى للأمم السالفة.
(غَنِمْتم مِنْ شَيْءٍ) : لفظه عام، يراد به الخصوص، لأن
الأموال التي تؤخذ من الكفَّار منها ما يخْمَس، وهو ما أخذ على وجه الغَلَبة بعد القتال، ومنها ما لا يخْمس، بل يكون جميعه لمن أخذه، وهو ما أخذه مَنْ كان ببلاد الحرب من غير إيجاف، وما طرحه العدوّ خوف الغرق، ومنها ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته ويصرف سائره في مصالح المسلمين، وهو الفيء الذي لم يوجف عليه بِخَيْلٍ ولا رِكاب.
(ما أنزلنا على عَبْدِنا يوم الفرْقَان يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَان) .
يعني بالعبد نبينا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وَالذي أنْزِل عليه: القرآن والنصر.
والمراد بالفرقان التفرقة بين الحقّ والباطل.
والجَمْعَان يعني به المسلمين والكفار.
(مَنَامِكَ) : نومك، كقوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) .
والخطاب بها لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد رأى(2/313)
الكفارَ في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم.
ويقال منامك عيْنك، لأن العيْنَ موضع النوم.
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) : لما أخذ - صلى الله عليه وسلم -
الأَسرى يوم بَدْر أشار أبو بكر الصديق بحياتهم، وأشار عمر بقَتْلهم، فنزلت
الآية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر.
(ما كان للمشركين أنْ يَعْمُروا مساجدَ اللهِ) : أي ليس لهم
ذلك بالحق الواجب، وإن كانوا قد عمروها تغليباً وظلْماً.
ومن قرأ مساجد - بالجمع - أراد جميع المساجد.
ومن قرأ مسجد - بالإفراد - أراد المسجد الحرام.
(ما لكم إذا قيل لكم انْفِرُوا في سبيل الله) : هذه الآية
عتاب لمن تخلَّفَ عن غَزْوَة تَبوك.
(مَرْصَد) : طريق، والجمع مَرَاصد.
(ما زادوكم إلاَّ خَبَالاً) : أي شَرّاً وفساداً.
والضمير راجع لعبد الله بن أبيّ بن سَلُول، والجدّ بن قيس، وأصحابهما.
(مع الْقَاعِدِين) : مع النساء والصبيان وأهل الأعذار، وفي
ذلك ذمّ لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء.
(ما منَعهم أنْ تقْبَلَ منهم نَفَقَاتهم إلاَّ أنهم كَفَرُوا باللهِ وبرسوله) ، تعليل لعدم قَبُول نفقاتهم بكفرهم.
ويحتمل أن يكون (أنهم كفروا) فاعل ما منعهم، أو في موضع المفعول من أجله، والعامل (الله) .
(مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) : أي ما يلجأون إليه من
المواضع، ومغارات في الجبال، ووَزْن مدّخل مفتعل من الدخول، ومعناه
(سَرَباً في الأرض.
(ما على المحسنين مِنْ سَبِيل) : وصفهم بالمحسنين، لأنهم
نصحوا الله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم.(2/314)
(مَرَدوا على النفَاق) : أي أقاموا عليه.
(ما كان للنبي والذِين آمَنوا أن يَستَغْفِرُوا للمشركين) .
نزلت في شأن أبي طالب لا امتنع من الإيمان عند موته.
قال - صلى الله عليه وسلم -: والله لأستغفرنَّ لك
ما لم أنْهَ عنك، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية.
وقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذن ربَّه في أن يستغفر لأمِّه، فنزلت الآية.
وهذا القول يردّه حكاية السهيلي في أن الله أحيا له أباه وأمه، فأسلما.
وأما أبو طالب فالاعتقاد أن الله خفَّف عنه العذاب، كما صح أنه في ضَحْضَاح من نارٍ لِذبهِ عنه - صلى الله عليه وسلم - وبرِّه به.
(ما كان الله ليضِلَّ قَوْماً تعْدَ إذْ هَدَاهم) .
نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تَأنيساً لهم، أي ما كان ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكم المنع من ذلك.
(مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) : يعني تزيغ من الثبات
على الإيمان، أو عن الخروج في تلك الغَزْوَة، لما رأوْا من الضيق والمشقّة.
وفي كاد ضمير الأمر والشأن، أو ترتفع به القلوب.
(مَغْرَما) : أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقلَ
المغْرم الذي ليس بحقٍّ عليه.
(مع الصادقين) : يحتمل أن يريد صِدْقَ اللسان، إذ كان
هؤلاء الثلاثة الذي تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك.
ويحتمل أن يكون أعلم من صدق اللسان، وهو الصدق في
الأقوال والأفعال والمقاصد والعزم، والمراد بالصادقين المهاجرين، لقول الله في الحشر: (للفقَراء المهاجرين ... إلى قوله: (أولئك هم الصادقون) .
وقد احتجَّ بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السَّقِيفة، فقال: نحن
الصادقون.
وقد أمرم الله أن تكونوا معنا، أي تابعين لنا.(2/315)
(مع الذين أنْعم اللَّهُ عليهم ... ) الآية هذه مفسِّرة لقوله:
(صِرَاط الذين أنْعَمْتَ عليهم) .
والصدّيق فعّيل من الصدق أو من التصديق.
والمراد بها المبالغة.
والصدّيقون أرْفَع الناس درجة بعد الأنبياء.
كالغريق وصاحب الهدْم، حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة.
(وما لكم لا تقَاتِلون في سبيل الله) : تحريض على القتال.
وما مبتدأ والجار والمجرور خبره، ولا تقاتلون في موضع الحال.
(متاعُ الدّنْيَا قَلِيل) : هذه الآية تحقير للدنيا، وفيها الردّ
على من يكرَة الموتَ، ولا يبذل نفسه في مرضاة الله وفاءً بالعهد الذي عاهد عليه الله.
(مَا لِهؤلاءِ الْقَوم) : توبيخ على قلةِ فَهْمهم.
(ما أرسلناك عليهم حَفِيظاً) : أي من أعرض عن طاعتك
يا محمد، فما أنت عَلَيْهِ حفيظ، تحفظ أعماله، بل حسابه وجزاؤه على الله.
(إنْ عليكَ إلاَّ البلاغ) .
وفي هذا متاركة وموَادعة منسوخة بالقتال.
(ما كان لأهْلِ المدينة ... ) ، الآية: عتاب لمن تخلَّف عن
غَزْوَة تَبوك من أهل يَثْرب، ومَنْ جاورها من قبائل العرب.
(ما كان المؤمنون ليَنْفِروا كافَّة) .
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في التفاوت في الخروج إلى الغَزْوِ والسرايا، أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، ولذلك
عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه، فالآية الأولى في الخروج معه - صلى الله عليه وسلم -، وهذه في السرايا التي كان يبعثها.
وقيل هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهو دليل على أن
الجهاد فَرْض كفايةٍ لا فرض عَيْن.(2/316)
وقيل: هي في طلب العلم على البعض، لأنه فرض كفاية.
(ما مِنْ شَفِيِع إلاَّ مِن بعد إذْنِه) : أي لا يشفع إليه أحد إلا مِنْ بعد أنْ يأذن له في الشفاعة.
وفي هذا ردّ على المشركين الذين يزعمون أن
الأصنام تشفَع لهم.
(ما خلق الله ذلك إلا بالحقّ) ، أي بدء الخلق، وضياء
الشمس، ونور القمر، وسيره في المنازل، وجميع ما خلق إنما هو لحكلمة لا
لعَبَث.
(ما تَلَوْتُهُ عليكم) ، أي ما تلوْته إلا بمشيئة الله، لأنه من
عنده لا من عندي.
(ما لهم مِنَ اللهِ من عَاصِم) : الضمير يعود على من كسب
السيئات، يعني أنه لا يعصمهم أحد من عذاب الله.
(ما جِئْتم به السِّحْر) : ما موصولة مرفوعة بالابتداء
والسحر الخبر - وقرئ آلسِّحْر - بالاستفهام، فما على هذا استفهامية والسحر خبر ابتداء مضمَر.
(ما آمَنَ لموسَى إلا ذرّيةٌ مِنْ قَوْمِه) : الضمير عائد على
موسى، ومعنى الذرية شبّان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوفهم من
فرعون.
وقيل: إن الضمير عائد على فرعون.
وروي في هذا أنها امرأة فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه.
وهذا بعيد، لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية، ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور.
(ما اختَلَفوا حتّى جاءهم العِلْم) : قيل يريد اختلافَهم في دينهم.
وقيل اختلافهم في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(وما تغْنِي الآياتُ والنّذر عن قَوْم لا يؤمِنون) ، يعني
مَنْ قضى الله عليه أنه لا يؤمن.
وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي.(2/317)
(مَنْ كان يريد الحياةَ الدّنْيَا وزِينَتَها) الآية.
نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة، إذ هم لا يصدقون بها.
وقيل نزلت في أهل الرِّبا من المؤمنين الذين يُريدون بأعمالهم الدنيا حسبما ورد في الحديث: في الغازي والمنفق والمجاهد الذين أرادوا أن يقال ذلك لهم: أوَّل مَن تسعّر به النار.
والأول أوضح، لتقدم ذكر الكفَّار المناقضين للقرآن.
وإنما قصد بهذه الآية أولئك.
(ما كانوا يَسْتَطِيعونَ السَّمْعَ ... ) الآية.
ما نافية، والضمير للكفّار.
والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون، كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) .
وقيل غير ذلك، وهو بعيد.
(مَثَل الذين ينْفِقون أموالَهم في سَبِيلِ الله) : ظاهره الجهاد.
وقد يُحْمل على جميع وجوه البِرِّ، فمثّل الله بهذه الآية أنَّ الحسنة
بسبعمائة، كما جاء في الحديث: إن رجلاً جاء بناقة فقال: هذه في سبيل الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة"
(وما أنْفَقْتمْ مِنْ نَفَقَةٍ أو نذَرْتم مِنْ نَذْرٍ فإنَّ اللهَ يَعْلَمُه) :
ذكر نوعين، وهما ما يفعله الإنسان تبرّعاً، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه
بالنذر.
وفي قوله: (فإن اللهَ يَعْلَمه) وعْد بالثواب.
وفي قوله: (وما للظالمين مِنْ أنصار) .
وعِيد لمن يمنع الزكاة، أو ينْفِق لغير الله.
(وما تنْفِقوا مِنْ خَيْرٍ فلأنْفسكم) الآية: يعني منفعته لكم.
وقيل: إنه خبر عن الصحابة، أي أنهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله، ففيه
تزكيةٌ لهم، وشهادة بفضلهم.
وقيل: ما تنفقون نفقةً تقبل منكم إلا ابتغاء وجه الله، ففي ذلك حَضّ على
الإخلاص.(2/318)
(مَثَلُ الفَرِيقين كالأعمى والأصَمّ والبصِير والسَّمِيع) :
شبَّه الكافر في هذه الآية بالأعمى وبالأصم.
وشبه المؤمن بالسميع وبالبصير، فهو على
هذا تمثيل للمؤمنين بمثلين.
وقيل: التقدير كالأعمى والأصم والبصير والسميع.
قالوا: ولعطف الصفات فهو على هذا تمثيل للمؤمن بمثال واحد، وهو مَنْ جمع بين السمع والبصر، وتمثيل للكافر بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصَّمَم.
(ما آمَنَ مَعَه إلا قليل) : قيل كانوا ثمانين.
وقيل عشرة. وقيل ثمانية.
والضمير لنوح.
فتأمّل الفعل الربّاني في طول بقائه معهم، وقلّة مَنْ آمن منهم.
(مَوْجٍ كالجِبَال) : روِي أن الماء طبق ما بين السماء
والأرض، فصار الكلُّ كالبحر.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وأين كان الموج
كالجبال قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الماء الجبال.
(مَعْزِلٍ) : أي في ناحية، فناداه نوح: يا بنيّ، اركَب معنا
ولا تكن مع الكافرين، فلم يلتفت له، فنادى نوح ربه إن ابني من أهلي، وإنَّ وَعْدَك الحق، وأنت أحكم الحاكمين.
فقال: فلا تسْألْنِ ما ليس لكَ به عِلْم.
هل هو صواب أو غير صواب حتى تقف على كُنْهه.
فإن قلت: لِمَ سمّي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه؟
فالجواب أنه تضمَّن
السؤال، وإن لم يصرّح به، ولما أجابه الله بقوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين
- بكى أربعين سنة على هذه الكلمة (1) .
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تكُونَنَّ مِن الْجَاهلين) .
فالجواب أنَّ نوحا كان كبيراً ونَبِيُّنا كان شابّاً، فقال له ذلك لحداثة سنّه.
وأيضاً فنوح كان صفيّاً ومحمد حبيباً، ولإفراط المحبة
فيه تكون الغيرة عليه أعظم، ولا أحد أعظم غيرة من الله.
وينبغي أن يكون الحبيب أكثر اجتهاداً وحِرْصاً على طاعة محبوبه.
وعلى ذلك جرى الخطاب معه في القرآن (2) .
__________
(1) لا يخفى ما فيه من بعد وهو أقرب إلى الإسرائيليات. والله أعلم.
(2) قد يجاب عن ذلك بأن شدة حرص رسول (صلى الله عليه وسلم) على هداية قومه ونجاتهم من النار كانت أكثر من حرص نوح ـ عليه السلام ـ على نجاة ابنه يدل على ذلك قوله تعالى فى سورة الكهف {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) } وقوله تعالى فى سورة الشعراء {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) } والمعنى والله أعلم: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا لعدم إيمان القوم.
وفى صعيد القيامة لا يذكر أحد أحداً وجميع الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) بما فيهم نوح ـ عليه السلام ـ يقول كل واحد منهم: نفسى نفسى ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: أمتى أمتى.
لذا كان الفرق بين خطاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى فى سورة الأنعام {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وخطاب نوح ـ عليه السلام ـ بقوله تعالى فى سورة هود {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) } والله أعلم. اهـ (الحاوي في تفسير القرآن) .(2/319)
(ما جئْتَنا ببيًنةٍ) ، أي بمعجزة، وذلك كذبٌ من قول قوم
هود وجحودٌ.
أو يكون معناه تضطرنا إلى الإيمان بك، وإن كان قد أتاهم
بآية.
(ما مِن دابةٍ إلاَّ هو آخِذٌ بنَاصيتها) ، أي في قبضته، وتحت
قَهْرِه، والأخْذ بالناصية تمثيل لذلك.
وهذه الجملة تعليل لقوله: (توكَّلْتُ على الله ربي وربكم) .
(مَجِيدٌ) : هو من المجد، وهو العلو، أو الشرف، من
قولك: امْجِدْ الدابة علفاً، أي أكثر وزد.
(مَالَنَا في بنَاتِك مِن حَقّ) : هذا من قول قَوْم لوط لما
عرض بناته للزواج عليهم لِيَقِيَ أضْيافه بهنّ، فأعرضوا عنه، وقالوا لهَ: لا أرب لنا إلا في إتْيَان الرجال.
(مَنْضُود) : أي مضموم بعضه فوق بعض.
(ما هِيَ من الظالمين بِبَعِيد) : الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين كفَّارُ قريش، فهذا تهديد لهم، أي ليس الرَّمْيُ بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم.
وقيل الضمير للمدائن، فالمعنى ليست ببعيد منهم، فلا يعتبرون بها، كقوله
تعالى: (ولقد أتَوْا عَلَى القَرْيَةِ التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْء) .
وقيل: أراد الظالمين على العموم.
(مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) :
يقال: خالفني فلان إلى كذا، إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
(فما لكم في المنافقين فِئَتَيْن) :
ما استفهامية بمعنى التوبيخ،(2/320)
والخطاب للمسلمين.
ومعنى فئتين أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال.
والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس إنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع
المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام
بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغْنَمُوا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنون.
وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحُد.
فاختلف الصحابة في أمرهم.
ويرد هذا: حتى يهاجروا.
(مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ، أي لا تكسبنّكم عَدَاوتي أن يصيبكم مثل عذابِ الأمم
المتقدمة، وإنما قَرُب قوم لوط منهم لأنهم كانوا أقرب الأمم الهالكة إليهم.
ويحتمل أن يريد في البلاد.
(ما أغْنَتْ عنهم آلِهتهم التي يَدْعُون من دونِ الله مِنْ شي) .
حجة على التوحيد، ونفي للشرك، لو عقلوا.
(مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) :
فيه وجهان:
أحدهما - أن يُراد بها سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة أبدًا.
والآخر أن يكون عبارة عن "التأبيد، كقول العرب: ما لاح كوكب، وما ناح الحمام، وشبه ذلك، مما يُقصد به الدوام.
وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقوال:
قيل: إنه على طريق التأدّب مع الله، كقولك: إن شاء الله، وإن كان الأمر
واجباً.
وقيل المراد زمان خروج المذْنبين من النار، ويكون (الذين شَقُوا) ، على هذا يعُمُّ الكفار والمذنبين.(2/321)
وقيل استثني مدة كونه في الدنيا وفي البرزخ.
وأما الاستثناء في أهل الجنة فيصح فيه القول الأول والثالث دون الثاني.
(مَجْذُوذ) : مقطوع.
يقال جذذت وحذَذْتُ، أي قطعت.
(ما يَعْبُدونَ إلاَّ كما يَعْبُدُ آباؤهم من قَبْلُ) ، أي هم
متَّبِعون لآبائهم تقليداً من غير برهان، كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) .
(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) :
أي لِمَ تخاف عليه منا.
وقرأ السبعة تَأمنّا بالإدغام والإشمام، لأن أصله بضم النون الأولى.
(ما أنْتَ بمُؤْمن لَنا) : أي بمُصَدِّق لمقالنا، ولو كنّا صادقين، فكيف وأنت تتهمنا.
وقيل: معناه لا تصدقنا ولو كُنَّا صادقين في هذه المقالة، فذلك على وجه المغالطة منهم.
والأول أظهر.
(مَثْوَاهُ) : مقامه.
(مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) : هذا من قول زليخا لما
رأت الفضيحة عكست القضية وادّعَتْ أنَّ يوسف راوَدها عن نفسها، فذكرت جزاء مَنْ فعل ذلك على العموم، ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم، وبناء على أن الذّنْبَ ثابت عليه بدعواها لصدقها عنده.
ويحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية.
(مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) : هذا من قول
النسوة اللواتي عظَّمْنَ شأنَه وجماله حتى قطَّعن أيديهن، وهن لا يشعرن، كما
يقطع الطعام.
(رَأوُا الآياتِ) : أي الأدلة على براءته من شهادة الصبي وغير ذلك.
وضمير الجمع يعود على الزوْج والمرأة ومن تشاور معهما على ذلك.(2/322)
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً) .
وقع الأسماء هنا موقع المسميات.
والمعنى سميتم آلهةً ما لا يستحق الإلهية ثم عبدتموها.
(ما نَحْن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين) :
إما أن يريد تأويل الأحلام الباطلة، أو تأويل الأحَلام على الإطلاق، وهو أظهر.
(ما قَدَّمْتُم لَهنَّ) ، أي يأكن فيها ما اختزنتم من الطعام
في سنْبله، وإسناد الأكل إلى السنين على جهة المجاز.
(ما عَلِمْنا عليه مِنْ سوء) : هذا كلام النسوة اللاتي نزَهْنَ
يوسف عن مراودته لهن، أو لامرأة العزيز.
(مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) :
اختلف هل هذا من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف، فإن كان من كلامها فهو اعتراف بعد الاعتراف، وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما همّ به على وجه خطوره على قلبه، لا على وجه العزم والقصد.
أو قاله في عموم الأقوال على وجه التواضع.
(ما رَحِمَ ربي) : استثناء من النفْس، إذ هي بمعنى
النفوس، أي إلا النفس المرحومة، وهي المطمئنة، فما على هذا بمعنى الذي.
ويحتمل أن تكون ظرفية، أي إلى حين رحمة الله.
(مَكين أمِين) : تأمّل حسْن السياسةِ من هذا الملك في قوله: (أَستَخْلِصه لنفسي) .
فلما كلّمه وظهَر له وفور عقله، وحسن كلامه قال له:
إنّكْ لَدَيْنَا مَكين أمين، مَكين من التمكن، والأمين من الأمانة، فهكذا ينبغي
ألاَّ يصطفي الإنسان لنفسه صاحباً إلاَّ بعد الاختبار والامتحان، إذ بعدهما يعزّ
المرء أو يهان.
يشهد لذلك الحديث: هل سافرت معه، هل بايعته، هل شاريته.
(مَكنَّا ليوسفَ في الأرض) :
إشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنْع الله به.
ورُوي أن الملكَ أسند إليه جميع الأمور حتى تغلّب على جميع(2/323)
الأمور، وأن امرأة العزيز شابت وافتقرت فتزوَّجها يوسف.
ورد الله عليها جمالها وشبابها، وأنه باع من أهل مصر في أعوام القَحْط في السنة الأولى بالدنانير والدراهم حتى لم يَبْقَ لهم شيء منها، ثم بالحلي ثم بالدوابّ ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى تملَّكهم جميعا، ثم أعتقهم ورد أملاكهم عليهم.
تنبيه:
على قدر النعمة تكون النِّقْمة، لم يصل يوسفُ عليه السلام إلى هذا حتى
امتحن بفراق أبَوَيْه، وبالجُبِّ وبالسجن، واللوم والتعيير، فكيف تطمع باللحوق إلى منزل الكرامة الباقية دون امتحان رسول الله: بقي في السجن بقوله: اذكرني عند ربك - سبع سنين، فكيف حال مَنْ عصى مولاه سبعين سنة، فإن لم تمتحن نفسك بطاعة مولاك فلا بد لك أن تخرج من سجن الدنيا إلى ظُلمة القبر وهول المحشر وتطاير الصحف والحساب والميزان والجواز على الصراط - على مَتْنِ النار، وعليه كلاليب مثل شَوْك السَّعْدان، وكلّ مارّ عليه يذهل عن الأهل والإخوان، وكيف لا والأنبياء يقولون اللهم سلِّم سلِّم، فإن عفا عنك مولاك جعل دار كرامته مَأوَاك، وإلاَّ فتسقط فيها لأنها مَثْوَاك، وبئْس مَثْوَى المتكبرين.
اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
(مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) : ما استفهامية، ونبغي بمعنى نطلب.
والمعنى أي شيء نطلب بعد هذه الكرامة، وهي رد البضاعة مع
الطعام.
ويحتمل أن تكون ما نافية، ونبغي من البغي، أي لا نتعدى على أخينا ولا
نكذب على الملك.
(ما كان يُغْنِي عنهم مِنَ اللهِ من شيء) : جواب (لما) .
والمعنى أن ذلك لا يدفع ما قضى الله.
(ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض) :
استشهدوا بعلمهم لما ظهر(2/324)
من ديانتهم في دخولهم أرضهم حين كانوا يجعلون الأكمّة في أفواه إبلهم لئلا
تنال زروع الناس.
(ما كان لِيَأخُذَ أخاهُ في دِين الملِك) : في شرعه وعادته.
(مَعَاذ الله) : وعَوْذه وعياذه بمعنى واحد، أي أستجير بالله.
(ما شهدْنَا إلا بما عَلِمْنَا وما كنّا للغَيْبِ حافظين) :
أي قولنا لك إنَّ ابْنَكَ سرق إنما هي شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى، ولا نعلم الغيب هل ذلك حقّ في نفس الأمر أم لا، إذ يمكن أن دسُّ الصاعُ في رحله من غير علمه.
وقال الزمخشري: المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقنّاه، لأن
الصاع استخرج من وعائه.
(وما كُنّا للغَيْبِ حافظين) :
أي ما علمنا أنه يسرق حين أعطيناك الميثاق.
وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري، والقراءة بالضم
تعضد القول الأول.
(ما فَعَلْتُم بيوسفَ وأخيه) :
لما شكلوا إليه رَقَّ لهم وعرَّفهم بنفسه.
ورُوي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لِثَام، ثم أزال اللثام ليعرفوه، وأراد
بقوله: (ما فَعَلْتم بيوسف وأخيه) التفريق بينهما في الصغر، ومضرتهم ليوسف، وإذاية أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه.
(فلما دخلوا على يوسف) :
هنا محذوفات يدل عليها الكلام، وهي فرحل يعقوب، وترك أهله حين بلغه أمر يوسف ...
(ما كنْتَ لدَيْهم) : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً لمحبته.
والضمير لإخوة يوسف.
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) .(2/325)
أي لا يؤمن أكثر الناس ولو حرصْتَ على إيمانهم.
ولست تسألهم أجراً على الإيمان فيثقل عليهم بحسب ذلك.
وهكذا معناه حيث وقع.
(ما يؤْمِن أكثرهم إلاَّ وهم مُشْرِكُون) :
نزلت في كفار العرب الذين يقِرّونَ بالله ويعبدون معه غيره.
وقيل في أهل الكتاب لقولهم: (عُزَير ابن الله) .
(ما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا) :
رد على من أنكر أن يكون النبي من البشر.
وقيل فيه إشارة إلىْ أنه لم يبعث رسولاً من النساء.
واختلف في مريم والصحيح أنها صدّيقة.
(ما كان حديثاً يُفْتَرى) :
يعني القرآن، وهذا أحد أسمائه.
قال الجاحظ: سَمَّى اللَّهُ كتابَه اسماً مخالفا لما سمى العرب كلامهم على الجملة
والتفصيل، سمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية.
وقال أبو المعالي عَزِيزي بن عبد الملك المعروف بشَيْذَلة في كتاب البرهان:
إن الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً:
كتاباً، ومبيناً في قوله: (حم والكتابِ المبِين) .
وقرآناً وكريماً في قوله: (إنه لقرآنٌ كَرِيم) .
وكلاماً: (حتى يَسْمَعَ كلاَمَ الله) .
ونوراً: (وأنزلنَا إليكم نوراً مبِينا) .
وهدى ورحمة في قوله: (وهدًى ورَحْمةً للمحْسنين) .
وفرْقاناً: (نَزَّلَ الفرْقَان على عَبْده) .(2/326)
وشفاء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) .
وموعظة: (قد جاءَتْكم موعظةٌ من رَبكم وشِفَاء لِمَا في الصّدور) .
وذِكْراً ومباركا: (وهذا ذكْرٌ مُبَارَك أنزلناه) .
وعَلِيًّا: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) .
وحكمة: (حِكْمَة بالغة) .
وحكيما: (تلك آيات الكتابِ الحكيمِ) .
ومهَيْمِناً ومصدّقاً: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) .
وحبْلاً: (واعتَصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعا) .
وصِرَاطاَ مستقيما: (وَأَنّ هذا صِرَاطِي مستقيما) .
وقَيِّماً: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) .
وقَوْلاً وفصلاً: (إنّة لقَوْل فَصْل) .
ونَبَأ عظيما: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) .
وأحسن الحديث، ومَثَاني، ومتَشابهاً: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) .
وتنزيلاً: (وإنّه لتَنْزِيل رَبِّ العالَمِين) .
ورُوحاً: (أوْحَيْنَا إليك رُوحاً مِنْ أمْرِنا) .
ووَحْياً: (إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) .
وعربيّاً: (قرآناً عَربيّاً) .
وبصائر: (هذا بَصَائر للناس) .
وبياناً: (هذا بيان للناس) .
وعِلماً: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) .
وحقًّا: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) .(2/327)
وهادياً: (إنَّ هذا القرآن يَهْدِي) .
وعجباً: (قرآنا عَجَبا) .
وتذكرة: (وإنّه لَتَذْكرةٌ) .
والعروة الوثقى: (فقد استَمْسكَ بالعُرْوَةِ الؤثْقى) .
وصدقاً: (والذى جاء بالصدْق) .
وعدلاً: (تَمَّتْ كَلِمة ربِّك صِدقا وعَدْلاً) .
وأمْراً: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) .
ومنادياً: (إنَّنَا سَمِعْنَا منادياً للإيمان) .
وبشرى: (هدًى وبشْرَى) .
ومَجِيداً: (بل هو قرْآنٌ مَجيد) .
وزَبوراً: (ولقَدْ كتَبْنَا في الزَّبور مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) .
وبشيراً ونذيراً: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا) .
وعزيزاً: (وإنه لَكتَابٌ عَزِيز) .
وبلاغاً: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ) .
وقَصصاً: (أحسن القصص) .
وسماه أربعةَ أسماء في آية واحدة: (في صحفٍ مكرَّمَةٍ. مرفوعة مطَهَّرة) .
فأما تسميته كتاباً فلِجَمْعِه أنواع العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه.
والكتاب لغة الجمع.
والمبين، لأنه أبان الحق من الباطل، أي أظهره.
وأما القرآن فاختلف فيه، فقال جماعة: هو اسم علَم غير مشتقّ خاصّ بكلام
اللَه، فهو غير مهموز، وبه قرأ ابن كثير.
وهو مرويّ عن الشافعي.(2/328)
وأخرج الخطيب والبيهقي وغيرهما عنه أنه كان يهمز قرأت ولا يهمز القرآن.
ويقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسمٌ لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل.
وقال قوم منهم الأشعري: هو مشتقّ من قرنت الشيء بالشيء، إذا ضممت
أحدهما إلى الآخر، وسمي به لقران السور والآيات والحروف فيه.
وقال الفراء: هو مشتق من القرائن، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضاً.
وهي قرائن.
وعلى القولين هو بلا همز ونونه أصلية.
وقال الزجاج: هذا القول سهو.
والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف.
ونَقْل حركة الهمز إلى الساكن قبلها.
واختلف القائلون بأنه مهموز، فقال قوم منهم الجياني: هو مصدر لقرأت.
كالرّجْحَان والغفْران، سمي به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول
بالمصدر.
وقال آخرون منهم الزجاج: هو وصف على فُعْلان، وهو مشتقّ من القَرْء
بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته.
قال أبو عبيدة: وسمي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض.
وقال الراغب: لا يُقال لكل جَمْع قرآن، ولا لجَمْعِ كلِّ كلام قرآن، قال:
وإنما سمي قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة.
وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها.
وحكى قطْرب قولاً: إنه سمِّي قرآناً لأن القارئ يظهره ويبَيِّنُه من فيه
أخْذا من قول العرب: ما قرأت الناقةُ سلّى قطّ، أي ما أسقطت ولداً، أي ما حملت.
والقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه فسمي قرآناً.
قلت: المختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي.(2/329)
وأما الكلام فمشتق من الكلْم بمعنى التأثير، لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم
تكن عنده.
وأما النور فلأنه يدرك به غوامض الحلال والحرام.
وأما الهدى فلأن فيه الدلالة على الحق، وهو من باب إطلاق المصدر على
الفاعل مبالغة.
وأما الفرقان فلأنه فرق بين الحق والباطل.
وجّهه بذلك مجاهد، كما أخرجه ابن أبي حاتم.
وأما الشفاء فلأنه يشفي من الأمراض القلبية، كالكُفْر والجهل والغل.
والبدنية أيضاً.
وأما الذكْر فَلِمَا فيه من المواعظ وأخبار الأمم الماضية.
والذكر أيضاً الشرف، قال الله تعالى: (وإنَّه لَذِكْرٌ لَكَ ولقَوْمِك) ، أي
شرف، لأنه بلغتهم.
وأما الحكمة فلأنه نزل على القانون المعتبر من وَضعْ كل شيء في محله، أو
لأنه مشتمل على الحكمة.
وأما الحكيم فلأنه أحكمت آياته بعجيب النظم وبديع المعاني، وأحكمت عن
تطرّق التحريف والتبديل، والاختلاف والتباين.
وأما المهيمن فلأنه شاهدٌ على جميع الكتب والأمم السالفة.
وأما الحَبْل فلأنه مَنْ تمسك به وصل إلى الجنة أو الهدى.
والحبل: السبب.
وأما الصراط المستقيم فلأنه طريق إلى الجنّة قويم لا عوج فيه.
وأما المثاني فلأن فيه بيان قصص الأمم الماضية، فهو ثان لما تقدمه.
وقيل لتكرار القصص والمواعظ فيه.
وقيل: لأنه نزل مرة بالمعنى ومرة باللفظ والمعنى:
لقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) .
حكاه الكرماني في عجائبه.(2/330)
وأما المتشابه فلأنه يشبه بعضه بعضاً في الصدق.
وأما الرّوح فلأنه تحيى به القلوب والأنفس.
وأما الجيد فلِشَرفه.
وأما العزيز فلأنه يعزّ على مَنْ يروم معارضته.
وأما البلاغ فلأنه أبلغ به الناس ما أمروا به ونهوا عنه، أو لأن فيه بلاغاً
وكفاية عن غيره.
قال السّلَفِيّ في بعض أجزائه: سمعت أبا الكرم النحوي، سمعت أبا القاسم
التنوخي يقول، سمعت أبا الحسن الرماني يقول - وقد سئل: كل كتاب له
ترجمة، فما ترجمة كتاب الله، فقال: هذا بلاغ للناس، ولِيُنْذِزوا به.
وذكر أبو شامة وغيره في قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) - أنه القرآن.
فائدة
حكى المظفري في تاريخه، قال: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سمّوه.
فقال بعضهم: سموه إنجيلاً، فكرهوه.
وقال بعضهم: سموه السِّفْر، فكرهوه من اليهود.
فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف، فسموه بذلك.
قلت: أخرج ابن أشْتَه في كتاب المصاحف من طريق عيسى بن عقبة عن ابن
شهاب، قال: لما جعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسماً.
فقال بعضهم: السِّفْر.
وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف.
وكان أبو بكر أوّل من جمع كتاب الله وسماه المصحف.
ثم أورده من طريق آخر عن ابن بريدة.
وذكر ابن الضُّرَيس وغيره، عن كعب، قال: في التوراة: يا محمد، إني منزّل عليك توراةً حديثة، تفتح أعيناً عُمْياً، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غلْفاً.(2/331)
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة، قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب.
إني أجِد في الألواح أمَّة أناجِيلُهم في صدورهم، فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
ففي هذين الأثرين تسمية القرآن توراة وإنجيلاً.
ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك.
وهذا كما سميت التوراة فرقاناً في قوله: (وإذ آتيْتَا موسى الكتابَ والفرقان) ، وسمى - صلى الله عليه وسلم - الزبور قرآناً في قوله: خفَّف
على داود القرآن.
(مَدَّ الأرض) :
يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهو ظاهر الشريعة، وقد يرتب لفظ المد والبسط مع التكوير، لأن كل قطعة من الأرض
ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض.
وقال الشيخ عبد الخالق:
وكنت أسمع من الشيوخ أن في الأرض خمسة أقوال: قيل كروية.
وقيل بسيطة.
وقيل: إنها شبه مكب.
وقيل بمنزلة - حَمِيلة السيف الذي يتقلد به، وإنها شبه
حلقة محيطة بهذا العالم، كإحاطة الحميلة.
وقيل شبه سمكة.
ومن أجل ذلك وضعوا الاصطرلاب الحوتي الجنوبي.
قال: والصحيح عندهم أنها كورية، وأن السماء كورية.
وقال ابن عرفة: استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ الأرض بسيطة ولا دليل
له في ذلك، لأن إقليدس الهندسي قال الكرة الحقيقية لا يمكن إقامة الزوايا
والخطوط عليها بوجه، ونحن نجد الأرض تقام عليها الخطوط وغير ذلك.
ونراها مستوية، وذلك من أدل دليل على أنها وإن كانت كروية فليست كالكرة الحقيقية، بل أعلاها مستو كبعض الكُوَر التي أعلاها يكون بسيطاً مستوياً.
(مَثلاَت) :
جمع مثلة، على وزن سمرة، وهي العقوبةُ العظيمة
التي تجعل الإنسان يضرب به المثل، ولذلك وقعت الأمثال في القرآن، لأنه بالمثال يتبين الحال، أفلا يخاف الإنسان أن يحل به ما حل بمن قبله إذا فعل مثل فعله.(2/332)
(من أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهر به) :
المعنى أن الله يسمع كل شيء، فالجهر والإسرار عنده سواء، ولذلك أتى به بعد قوله: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) .
فإن قلت: قوله تغيض الأرحام قرينة في الخصوص؟
فالجواب أنَّ الفخر والآمدي قالا: إن العامَّ إذا عقب بصنف من أصنافه
فمذهب مالك والشافعي بقاؤه على عمومه.
وقال الثوري: هو مقصور على ذلك الصنف، فقوله: (وما تغيض
الأرحام) - وإن كان لا يصدق إلا من الآدميات لا يخصِّصه.
وذكر المؤرخون أنه كان في بلد " سَلاَ " عشرة ملوك ولِدوا من بطن واحدة.
قال ابن عطية: وقع لمالك ما يدلُّ على أنَّ الحامل عنده لا تحيض.
ومذهب ابن القاسم أنها تحيض.
قيل لابن عرفة: يلزم من قولكم إنها تحيض ألا يكون
الحيض دليلاً على براءة الرَّحم، فكيف جعلتموه دليلاً على براءة الرحم في العدّة والاستبراء، فقال: إنما حكمنا بالمظنة.
فقلنا: هو مظنة لبراءة الرحم، فتخلفه في بعض الأحيان لا يقدح، كما أن الغَيْمَ وزمن الشتاء مظنّة لنزول المطر.
وقد يتخلَّف.
فإن قلت: لم قدم النقص على الزيادة؟
فالجواب لأن الأصل عدم الزيادة.
فإن قلت: (سواء) ، مصدر في الأصل، وهو خبر عن قوله:
مَنْ أسَّر القول، والمصادر لا تكون أخباراً عن الجثة، فهل هو كقولك: زيد
عدل.
قال الكوفيون: أي ذو عدل، وجعله البصريون نفس العدالة مبالغة
ومجازاً.
والجواب أنه ليس مثله، وإنما جاز الإخبار هنا لأنّه ليس خبراً عن الذات.
بل عن المجموع.
قيل لابن عرفة: هلاَّ قال سواءٌ عنده ولم يقل منكم، ليعمَّ
الكلام الإنسان والجن.
بل ذكر الجن كان يكون أوْلى، لأنهم أجهل وأشد مكراً(2/333)
واختفاء، أو الشياطين منهم.
فقال: الجن أجسام لطيفة والإناء اللطيف الشفاف
يُرَى ما في باطنه من ظاهره بخلاف الناس، فإن أجسامهم كثيفة، فكان العلم بما في قلوبهم أبلغ، فلذلك ذكرهم ليدل ذلك على العلم بأسرار الجن من باب أحْرى.
(مسْتَخْفٍ بالليْلِ وسَارِبٌ بالنهار) .:
المسْتَخْفِي بالليل هو الذي لا يظهر.
والسارب: المنصرف في سَرْبه - بفتح السين، وقصد في هذه
الآية التسوية بينهما في اطِّلاَع الله عليهما مع تَبَاين حالهما.
وقيل: إنهما صفتان لموصوف واحد، يستخفي بالليل ويظهر بالنهار.
ويعضد هذا كونه قال: وسارب بالنهار - بعطفه عطف الصفات، ولم يقل ومَنْ هو ساربٌ بتكرار مَنْ، كما قال: (من أسَّر القول ومَنْ جهر به) ، إلا أنَّ جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به، فيكمل التقسيم إلى أربعة.
وعلى هذا يكون قوله: (وسَارِبٌ) عطف على قوله: مَنْ هو مستَخْفٍ، لا على مستخف وَحْدَه.
(معَقَبَاتٌ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفه) :
أي جماعات تعتقب في حفظه وكلاءته.
وقيل: أذكار وتسبيحات ودعوات.
وردَّه ابن عرفة بأن المجموع بالألف والتاء إذا كان مكسرا يشترط فيه العقل إذا لم تكسِّرْه الرب كجماعات، ولهذا حكى الزمخشريّ فيه معاقيب.
فإن قلت: الوارد في الحديث أن الحفظة مَلك عن اليمين وملك عن الشمال
فكيف قال: من بين يديه ومن خلفه؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن من لابتداء الغاية، فينزلون من أمامه ومن خلفه لعمارة يمينه
وشماله بالحفظة الأول، ثم تصعد الحفظة الأوَل ويستقرّون هم عن يمينه وشماله.
الثاني: أن الضرر اللاحق للإنسان من أمامه وخلفه أصعب عليه وأشقُّ، فما
هو من أمامه يأتيه مصادرة وإليه يهرب.
ألا ترى قوله تعالى:(2/334)
(قل إنَّ الْمَوْتَ الذي تَفِرّونَ منه فإنّه ملاَقِيكم) .
وما هو من خلفه يأتيه من حيث لا يشعر فحِفْظُ هاتين الجهتين آكد من غيرهما.
فإن قلت: هل هؤلاء المعقّبات للجنّ والإنس أو للإنْس خاصة؟
فالجواب أن الضمير يعود على من أسرَّ القولَ ومَنْ جهر، ومن استَخْفَى وظهر، يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم واستغفارهم.
(مَنْ في السماواتِ والأرْض) :
لا تقع (مَنْ) إلَّا عَلَى مَنْ يعقل، فهي هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن.
(ما لهم مِن دونه مِنْ وَال) :
أي من شفيع في رفع العذاب عنهم، فهو تأسيس.
وقوله: (فلا مردّ له) ، أي لا دافع عنه
ابتداء قبل وقوعه بهم، ولا ناصر لهم يرفعه عنهم بعد وقوعه.
(مَنْ رَبّ السماواتِ والأرض) :
أمره الله أن يقول لهم هذا القول، لأنهم لا يجدون بدًّا من قولهم: الله، كما قال تعالى: (ولئن سألْتَهُمْ مَن خلقهم ليقولُنَّ الله) ، ولذا حصل تبْكِيتهم بقوله تعالى: (قل أفاتَّخَذْتم مِن دونِه أوْلياءَ) .
والمعطوف عليه مقدَّر، أي كفَرْتم فاتخذتم.
فإن قلت: لِمَ قال من دونه، وهم اتخذوهم شركاء مع الله؟
والجواب: إنا إن نظرنا إلى نفس اتخاذهم وليًّا وناصراً بالنوع فلا شك أنهم
شركاء في وصف النصرة والولاية بين الله وغيره، وإن نظرنا إلى اتخاذهم وليّا
وناصرا بالشخص فلا شك أن هذا لا يصحّ فيه الشركة.
وقد ذكر ابن التلمساني في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة أن الواحد
بالشخص لا يصح انقسامه إلى مأمور ومنهيّ، والواحد بالجنس أو النوع يصح فيه ذلك.
ومثّلَه بالسجود للهِ والسجود للصنم.
فإن قلت: لِمَ قدم المجرور على أولياء، والأصلُ تقديم المرفوع ثم المنصوب ثم
المجرور؟
والجواب لأنه أضِيفَ إلى ضمير الله.(2/335)
فإن قلت: لم قال: (أولياء) ، ولم يقل أرباباً؟
والجواب أن الأولياء أعمُّ من الأرباب، لأن الولي والناصر قد يكون ربًّا وقد لا يكون، فهم وُبِّخوا على الوصف الأعم، وهو طلبهم النصرة من غير الله، فيلزم منه الذمّ على الوصف الأخص، وهو اتخاذهم أرباباً من دون الله من باب أحرى.
ولو قال اتخذتم من دونه أرباباً لأفاد التوبيخ على هذا الوصف الأخص، لا على ما دونه، وهو مطلق النصرة "
(ماء فسالَتْ أودِيةٌ بِقَدَرِها فاحتمل السَّيْل زَبَداً رَابِيا) :
هذا مثل ضربه الله للحقّ وأهله، والباطل وحزبه، فمثل الحقً كالماء الذي ينزل من السماء فتَسِيل به الأوْدِية، وتنتفع به الأرض، وبالذهب والفضة والحديد والصُّفْر وغيرها من المعادن التي ينتفع بها الناس.
وشبَّه الباطل في سرعة اضْمِحْلَالِه وزَواله بالزّبد.
الذي يرمي به السيْل وبزبد تلك المعادن التي يطفو
فوقها إذا اذيبت، وليس في الزَّبد منفعة، وليس له دوام.
وقال ابن العربي في قانون التأويل: ضربه الله مثلاً للحق والباطل، فإنه خلق
الماء لحياة الأبدان، كما أنزل القرآن لحياة القلوب، وضرب امتلاء الأودية بالماء مثالاً لامتلاء القلوب بالعلم، وضرب الأودية الجامعة للماء مثالاً للقلوب الجامعة للعلم.
وضرب قدر الأودية في احتمال الماء، بسعتها وضيقها، وصغرها وكبرها.
مثالاً لقَدْرِ القلوب في انشراحها وضيقها.
بالحرج، وضرب حمل السيلِ الحصيدَ والهشيم، وما يجري به ويدفعه مثلا لما يدفعه القرآن من الجهالة والزَّيْغ والشكوك
ووَساوِس الشيطان، وضرب استقرار الماء ومكثَه لانتفاع الناس به في السَّقْيِ
والزراعة مثلاً لمكث العلم واستقراره في القلوب للانتفاع به.
قال: هذا المثل الأول.
وأما الثاني فضرب المثل فما يوقد عليه النار بما في
القرآن من فائدة العلم المنتَفع به كالانتفاع بالمتاع، وكما أن النار تميّز الخبيث في هذه من الطيّب، كذلك القرآن إذا عرضت عليه العلوم يميز النافع فيها من الضار.(2/336)
(مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : القرابات والأرحام.
(مَنْ صَلَح مِنْ آبائهم وأزواجهم) :
ترتيب المعطوفات على حسبها في الوجود الخارجي، فوجود الأب سابق على وجود زوجك، وزَوْجك سابق على ولدك، ودخول الأنبياء الجنَّة إما لصلاحهم أو صلاح آبائهم، كما قال تعالى: (وكان أبوهمَا صالِحاً) .
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) .
أو العكس وهو أن دخول الآباء بسبب الأبناء، كما في الحديث: من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والِده يوم القيامة تاجاً أحسن من ضَوْءِ الشمس، ولذلك قال الشاطبي:
هنيئآَ مريئاً والداك عليهما ... ملابس أنوار من التاج والحلي.
(مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) :
أي لشيء يتَمتَّغ به وينفصل عنه.
وهذه الآية إشارة إلى من يعمل للدنيا ويعمل للآخرة، وإلا
فالآخرة ليست ظرفًا للدنيا بوجه.
فإذا تذكَّرَ الإنسان أيامه التي قطعها في
الشهوات ندم عليها، لأنها انقضت واضمحلّت بخلاف التي قطعها في الطاعات، فإنه يفرح بها ويتنعم إذا تذكّرها، فانظر من أي الفريقين تعدّ نفسك.
(مَثَل الجنة) :
الظاهر أن " الخبر مقدَّر، وفي الآية حذف مضافين، والتقدير مَثل الجنَّة التي وعِدَ المتَّقُون مثَل جنة تجري من تحتها الأنهار.
ورُدَّ على قائل هذا بأنه إن أراد بالثانية جنَّة الآخرة فقد شبَّه الشيء بنفسه.
ولا يصح أنها جنة الدنيا، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوَّته، وهنا شبه الأقْوَى بالأضعف.
وأجيب بأنه قد يكون الفَرْع أقوى من الأصل، وهو نوع من القياس.
وعند الفراء أن الخبر متأخِّر، وهو: (تجري من تحتها الأنهار) .
(مِنَ الأحزابِ مَنْ ينكر بَعْضَه) :
ذكر الإمام الفخر عن المفسرين إما أن تكون بعضا على بابها، وأن من ينكر بعضه فهو كافر.(2/337)
وبقي عليهم أن المنطقيين قالوا إن سور القضية إن كان بعضاً ولم كان منفياً فقد يراد به العموم، ويكون بمعنى أحد، فمعناه من ينكره كله.
وقالوا: إن السالبة الكلية تناقضها موجبة جزئية.
(مآب) :
مفعل، من الأوْب وهو الرجوع، أي مرجعي في
الآخرة، أو مرجعي في التوبة.
ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال له: قل
لهم لست مكلّفاً بإيمانكم، وإنما كلّفت بالتبليغ.
فإن قلت: أمره أولاً بالعبادة، ونفي الشرك مقدم عليها، إذ لا يَعْبد إلا
مَنْ لم يشرِكْ، وقد لا يشرك ولا يعبد؟
فالجواب أن المراد بالشرك الرياء والكبر، فالمعنى أمرت أن أعبد الله عبادة
خالصة من الرياء، ولكن هذا لا يناسب السياق.
قيل: وعلى هذا يكون قوله: ولا أشرك به - حالاً، لكن نص الأكثرون على أن (لا) تخلِّص الفعل للاستقبال.
فقال تكون هذه حالاً مقدرة، كقولهم:
مررت برجل معه صقر صائداً به غدا.
وقيل في الجواب: أمرت أن أعبده عبادة لا يتخلَّلها، أو لا يعقبها، إشراك.
وقيل: قدمت العبادة لتدل على نفي الإشراك باللزوم ثم بالمطابقة، فيدل
اللفط دلالتين.
(مِنْ أطرافها) .
أي من خيارها، يعنى أن الله يقبض الخيار منها.
(مَنْ عِنْدَه عِلْم الكتابِ) :
المراد به القرآن أو اللوح المحفوظ.
واختلف مَنِ المراد به، فقيل: المراد به من أسلم من اليهود والنصارى على
العموم.
وقيل: الصحابة.
وقيل عبد اللَه بن سلام.
وردَّ بأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، فكيف يشهد حينئذ وهو كافر.(2/338)
وأجيب باحتمال أن تكون هذه الآية خاصة مدنية.
وقيل المراد الله تعالى، فهو الذي عنده علم الكتاب.
ويضعف هذا، لأنه عطف صفة على موصوف.
ويقوِّيه قراءة: ومِنْ عنده علم الكتاب بمن الجارّة وخَفْض عند.
(مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
فيها دليل على أن واضع اللغة هوَ الله تعالى.
وفيها دليل على أن حصول العلم عقيب النظر عاديّ، وليس بعقلي، إذ لو كان عقلياً للزم من البيان الهداية.
ويحتمل عدم لزومه، لأن المخاطب قد لا ينظر النَّظَرَ الموصّل للعلم.
(ما لَنَا ألاَّ نتوكَّلَ عَلَى اللهِ) ، المعنى أيّ شيء يمنعنا من
التوكّل على الله وقد هدانا سبلنا.
فإن قلت: كيف جمعه وقد تقرر غير ما مرة أن طريق الهدى واحدة حسبما
أشار إليه الزمخشري في قوله: (وجعلَ الظلماتِ والنور) ؟
والجواب أنه على التوزيع، قال تعالى: (لكلٍّ جعلنا مِنْكمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً) ، فلكل رسول طريق باعتبار شريعته وأحكامه.
فإن قلت: لم كرر الأمر بالتوكل؟
والجواب أن قوله: (وعلى الله فليتوكّلِ المؤْمنون) ، راجع إلى ما تقديم من طلب الكفَّار (بسلْطَان مبين) .
أي حجة ظاهرة، فتوكّل الرسل في ورودها على الله.
وأما قوله: (وعلى الله فليتوكل المتوكّلون) ، فهو راجع إلى
قولهم: (ولنَصْبِرَنّ على ما آذَيْتمونَا) ، أي نتوكل على الله في دفع أذاكم.
وقال الزمخشري: إن هذا الثاني بمعنى الثبوت على التوكل.
(ما هُوَ بميّت) : لا يراح بالموت، لأنه ذبح بين الجنة والنار.(2/339)
(مثلُ الَّذِين كفَروا برَبِّهم أعْمالُهم) :
مذهب سيبويه
والفراء كقولهما في: (مثل الجنة) المتقدم آنفاً.
والمثل هنا بمعنى الشّبَه.
وقال ابن عطية: بمعنى الصفة.
ورُدَّ بأنه ليس مطلقاً، بل التي فيها غرابة، ولذلك جعلوا: لأمْرٍ مَا جدعَ قَصِير أنْفَه - مثلاً.
وذِكْر الرب تشنيع عليهم، يعني كفروا بمن أنعم عليهم ورحمهم، وشبّه أعمالهم بالرماد
لخفته وسرعة تفرقه بالريح، ولأنه لا ينبت شيئاً بخلاف التراب، وجمع الرياح
ليفيد شدة التفرق من جميع الجهات.
(ما لنا مِنْ مَحِيص) :
أي مهرب حيث وقع.
ويحتمل أن يكون مصدراً أو اسم مكان.
(مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) :
أي ما أنا بمغِيثكم وما أنتم بمغيثين لي، وإنما يقول هذا الشيطان حين يتعلّقون به ويقولون له: أنت أَغوَيْتَنا.
(مثَلاً كلمةً طيّبةً) :
ابن عباس وغيره: هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيِّبَة هي النخلة في قول الجمهور.
واختار ابن عطية أنها شجرةٌ غير معيَّنة، إلا أنها كلّ ما اتصف بتلك الصفات.
والكلمة الخبيثة كلمة الكفر، أو كلّ كلمة قبيحة.
والشجرة الخبيثة هي الحنظلة لمرارتها.
فإن قلت: لم عبَّرَ هنا بالاسم فرفع، وقال في المؤمن: (ضرب الله مَثَلاً) ، فعَبّر بالفعل ونصب؟
فالجواب أن المؤمن له حالتان، لأنه انتقل من الكفر إلى الإيمان، والكافر له
حالة واحدة ثبت عليها، ولم ينتقل عنها، فلذلك عبّر عن مثله بالاسم.
فإن قلت: هل الشجرة الخبيثة مقصورة على الحنظل أو تطلق على كل ما
ليس لها ساق كالقثاء والثوم، وفيها منافع جَمَّة، فكيف يشبّه بها الكافر، وهو لا منفعة فيه بوجه؟(2/340)
والجواب إنما شبّه بها من حيث أنها لا تثبت، إذ ليس لها ساق، فالتشبيه في
اضمحلال العمل الخبيث وذهابه يوم القيامة ولا يبقى إلا العمل الصالح.
(مَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيم) :
هو من قول الخليل عليه السلام، دعاء لمن عصاه بغير الكفْر، أو لمن عصاه بالكفر ثم تاب منه، وهو الذي يصح أن يدْعى له بالمغفرة، لكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه - عليه السلام - من الرحمة للخَلْق وحُسْن الْخُلق.
فإن قلت: كيف يدعو بما هو مستحيل عقلاً وشرعاً، لأن النبي معصوم عن
عبادة الأصنام؟
فالجواب أنه دعا على سبيل الخضوع والتذلل والخوف، ألا ترى شعيباً لما
قالوا له: (أو لَتَعودُنَّ في مِلّتنا) ، قال (ما يكون لنا أنْ نعودَ فيها إلا أنْ يشَاءَ الله) ، فالمقام مقام خَوْف، ولو ثبتت عصمتهم فهم أولى الناس بالخوف ممن اصطفاهم.
(ما لكم مِنْ زَوَال) : هو المقسم عليه، يعني أنهم حلفوا
أنهم لا يبعثون.
(مَكْرهم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال) :
يراد بالجبال هنا الشرائع والنبوات، شبّهت بالجبال في ثبوتها.
والمعنى تحقير مكرهم، لأنها لا تزول منه تلك الجبالُ الثابتةُ الراسخة.
وقرأ الكسائي: لَتَزُول - بفتح اللام ورفع تزول.
و (إنْ) على هذه القراءة مخفّفة من الثقيلة، واللام للتأكيد.
والمعنى تعظيم مكرهم، أي أن مكرهم من شدته بحيث تزول منه الجبال، ولكنَّ الله عَصم ووَقَى منه.
(ما نُنَزِّلُ الملائكةَ إلا بالحق) : الآية ردّت عليهم فيما اقترحوا
عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالملائكة معه.
والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح التي يريدها الله،(2/341)
لا باقتراح مقْترح واختيار كافر معترض.
وقيل الحق هنا العذاب.
ولو أنزل اللَه الملائكة لم يؤخر عذابَ هؤلاء الكفار الذين اقترحوا نزولهم، لأن عادة الله أن مَنِ اقترح آيةً فرآها ولم يؤمن - أنه يعجَّل له العذاب، وقد علم اللَّهُ أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ويؤمن أعقابهم، فلم يفعل بهم ذلك.
(مَنْ لسْتمْ لهُ بِرَازِقين) :
يعني البهائم والحيوانات، و (مَنْ) معطوف على معايش.
وقيل على الضمير في لكم.
وهذا ضعيف في النحو، لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهو قويّ في المعنى، أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات.
(ما ننَزّلُه إلا بقَدَرٍ مَعْلوم) :
الضمير عائد على الشيء وهو المطر، واللفظ أعمُّ من ذلك.
والمعنى أنه ما من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه بمقدار محدود.
(مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) :
دليل على تحريم القنوط.
وقرئ يقنَط - بفتح النون وكسرها، وهما لغتان.
(ما خَطْبكم أيّها الْمُرْسَلون) ، أي ما شأنكم، أو بأي
شيء جئتم، والخطاب مع الملائكة الذين جاؤوا لإبراهيم عليه السلام بالبشرى.
(كما أنْزَلنَا على الْمقْتَسِمين) :
الكاف متعلقة بقوله: (أنا النًذِير الْمبين) ، أي أنْذِر قريشاً عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين.
وقد قدمنا في حرف الهمزة معنى المقتسمين.
(مَنَافِع) : يعني شرب ألبان الأنعام، والحرث بها، وغير ذلك، وهذا فيه ترقّ وتدريج، لأن الدِّفْءَ متيسًر قريب، إذ ليس فيه إلا إزالة
صوفها ووبرها والانتفاع به، فليس عليها فيه مضَرَّة، ثم الامتنان بالمنافع أقوى منه، لأن فيه تسخيرها والحمل عليها، وهذا مما لا يقدر الإنسان على فعله لولا ما أبيح له، إذ فيه تكليف ومشقة عليها، ثم الامتنان بالأكل منها أقوى من ذلك(2/342)
وأشد، لأن فيه ذبْحَها، وهذا لا يقدر الإنسان عليه، لأنها محترمة، فكيف
تُذْبح لولا ما أباح الله لنا ذلك.
(ما لا تعْلَمُون) :
يعني أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها، وكل من ذكر في هذه الآية شيئاً مخصوصا، فهو على وجه المثال.
قال بعض العلماء: كنت يوماً أتصيَّد في البرية، فقامت بين يديّ هائشة عظيمة كالرحا، ولها أرجل كثيرة.
قال: فشددت عليها حتى كدت أن أدركها فانفتلت
إليَّ، وقالت بلسان طَلْق: ما تريد؟ ، ما تريد؟ فقلت لها: من أنت، فقالت: من الذين قال الله فيهم: (ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمون) ، فولّيْت عنها.
(مخْتَلِفاً ألوانُه) :
قال الزمخشري: مختلف الهيئات والمناظر.
وقال ابن عطية: أي أصنافه، كقولك: ألوان من التمر، لأن المذكورات
أصناف عدّت في النعمة والانتفاع بها على وجوه، ولا يظهر إلا من حيث تلوّنها حمرةً وصفرة وغير ذلك.
ويحتمل أن يكون تنبيهاً على اختلاف ألوانها حمرة وصفرة.
قال: والأول أبين.
وفي الآية رد على الطبائعيين، لأن أفعال الطبيعة لا تختلف، فبطل كَوْن الأرض تفعل بطبعها.
(ماءً لكم) :
يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع
خبر لشراب، أو صفة لماء، فسبحان اللطيف بعباده.
وانظر كيف قدم المجرور لشرف خَلْقها وعظمها، وقدم الزرع لعموم الحاجة إليه من الحيوان العاقل وغيره، وقدم الزيتون على التمر، لأنه مما يؤْتدَم به، فهو مكمل للقوت، والتمر مما يتفكه به، فهو تزييني، فكان أدون، لأنه زائد على القوت غير مكمل به.
وقدم التمر على العنب لأن الخطاب لأهل الحجاز، وليس بأرضهم إلا التمر، فهو عندهم أشرف من العنب، لأن محبة الإنسان لما تعاهد ورُبِّي عليه أقوى من محبته لغيره، فالترتيبُ في هذه على هذا جهة العدل.
فإن قلت: لم جمع العنب وأفرد التمر، وأفرد في الآية الأولى والأخيرة وجمع
الوسطى، وختم الأولى بالتفكير والثانية بالعقل والثالثة بالتذكير؟(2/343)
فالجواب إنما جمع العنب لظهور الاختلاف في أنواعه، لأن منه الأبيض
والأكحل والأحمر، فالاختلافُ في أنواعه بالطعم واللَّوْن والجرم، والتمر إنما
الاختلاف في أنواعه بالطعم والجرم فقط.
وأفرد الآية الأولى لأنها تقدمتها آياتٌ سماوية، وهي أكثر من الآيات الأرضية، لخَلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ويقال: إنما جمع الثانية إشارة إلى أنها هي والأولى آيات.
ويحتمل أن يقَال لما كانت الثانية نعمةً سماوية وهي أشرف وأجْلَى وأظهر من
النعمة الأرضية جعل كل واحد على انفراده آيات لشهرته وظهوره، أو لأن
المذكورات أولاً راجعة إما لمجرد القوت أو لوصف النبات، وكلاهما شيء
واحد، بخلاف الثانية.
وقال في الأولى: يتفكرون، لأنها أمور عادية، إذ حصول الشراب والشجر
عن الماء أمر عادي، وقد لا يكون عنه شيء.
وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر أمر عقلي، وليس بعادي.
والثالث يقال لمن آمَنَ بالحجة والدليل بعد أن
كان نسيه فهو أمر تذكري، فلذلك قال: لقوم يذكرون.
فإن قلت: هل التذكّر والتفكر بمعنى واحد أم لا؟
والجواب أن التذكّرَ ثَانٍ عن التفكر، ولهذا اختلفوا، فذهب بعض الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكرية، وأن النفوس كانت عالمة لكل علم، فلما خالطت الأبدان ذهب عنها ذلك، فكل ما تعلمه إنما هو تذكر لما كان وذهب.
ومذهب الجمهور أن أكثرها تفكر، وبعضها تذكّر، فالتفكر لما لم يكن
يَعْلمه، والتذكر لما علمه ونسِيَه، فلذلك جعله ثالثاً.
وقال ابن الخطيب: التفكر إعمال الفكر لطلب الفائدة، والمذكوراتُ معه
راجعةٌ لباب القوت، وكل الناس محتاج إليه، فعند ذلك يتفكرون النعم بها
فيشكرونه.
وأما الثانية فتدبرها أعْلَى رتْبَة إذ منافعها أخفى وأغمض، فيستحق
صاحبها الوصف بما هو أعلى وأغمض وهو العقل.
(مَوَاخِرَ فيه) :
جمع ماخرة: يقال مَخَرت السفينة،(2/344)
والْمَخْر: شقّ الماء.
وقيل صَوْت جَرْي الفلك بالريح، ويترتب على هذا أن
يكون الخر من الريح.
وأن يكون من السفينة ونحوها، وهو في هذه الآية من السفن.
ويقال للسحاب بنات مَخْر تشبيهاً، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو
عن الريح والماء الذي في السحاب، وأمرها يشبه أمر البحر، على أن الزّجّاج قد قال: بنات الْمَخْرِ: سحائب بيضى لا ماء فيها.
وقال بعض اللغويين الْمَخْر في كلام العرب الشق، يقال مخر الماء الأرض.
قال ابن عطية: فهذا بَيِّن أن يقال فيه للفلك مَوَاخر.
وقال قوم: مَوَاخِر معناه تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه
الأقوال ليست تفسيرا لِلَّفْظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، فنصّوا
على هذه الأحوال، إذ هي موضع النعمة المعددة، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيها، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في التجارة والسفر فيها، وما يمنح الله فيها من الأرباح والمِنَن.
فإن قلت: ما فائدة تقديم المواخر في هذه الآية على آية فاطر؟
والجواب لما كان الفلك المفعول الأول لترى، ومواخرَ المفعول الثاني.
و" فيه " ظرف وحقه التأخير، والواو في ولتبتغوا للعطف على لام العلَّة في قوله: (لتأكلوا منه) - أخَّرَه ليجيء على القياس في هذه السورة.
وأما في فاطر فقدّم (فيه) لما قبله وهو قوله: (ومِنْ كلٍّ تأكلون لحما طرياً) .
فقدّم الجارّ على الفعل والفاعل والمفعول جميعاً ولم يزد الواو في (لتبتغوا) لأن اللام في (لتبتغوا) ها هنا لام العلة، وليس بعطف على شيء قبله.
وقيل في الجواب غير هذا مما يطول ذكره.
(أفَمَنْ يخْلق كمَنْ لا يَخْلق) :
تقرير يقتضي الرد على مَنْ عبد غير الله، وإنما عبَّر عنهم بمن لأن فيهم مَنْ يعقل ومَنْ لا يعقل، أو مشاكلة لقوله: (أفمن يخْلق) .
وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما أن الأصنام لا تعقل، فهَلاَّ قيل: كما لا يخلق؟
وأجاب ابن عرفة بأنه لو عبَّر بـ (ما) لكان الإنكار عليهم بأمرين:
من حيث كونها غير عاقلة، وكونها لا تخلق، وما المقصود في
الآية إلا إنكار عبادتها من حيث كونها لا تخلق فقط.(2/345)
وأجاب الزمخشري بأمرين:
أحدهما أمَّا أنهم سموها آلهة وعبدوها، فهو على نحو ما كانوا يعتقدون.
وردَّة ابن عرفة بأنه إقرار لهم على معتقدهم.
وأما أنهم عاملوها معاملة من يعقل فروعي فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق.
ورَدَّه ابن عرفة بأن المشاكلة إنما تكون حيث التساوى، كقوله: (ومَكروا
وَمَكَرَ الله) .
وقوله:
قالوا اقترح شيئاً نجِدْ لك طَبْخَه ... قلت اطبخوا لي جُبَّةً وقَمِيصا
فالأول مثبت، والثاني منفي.
السؤال الثاني: أنه إنما أنكر عليهم تشبيههم من لا يخلق بمن يخلق، فكان
الأصل أن يُقال، أفمن لا يخلق كمن يخلق، لأن همزة الاستفهام إنما تدخل على المنكَر والمسؤول عنه.
وأجاب الزمخشري بجواب لا ينهض.
وأجاب ابن عرفة بجواب: إن عادتهم يجيبون بأن الإنكار إنما يكون بإفهام الخصم نقيض دَعْواه، أما إذا كان الإنكار بإلزامه عَيْنَ الدعوى فلا يصح.
وهنا لو قيل لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق لكان التشبيه راجعاً إلى نفي المساواة بينهما، وهم موافقون على ذلك، ويقولون.
(ما نعْبدهم إلاَّ ليقَرِّبونَا إلى الله زلْفَى) .
ولما قيل: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) لم يكن الإنكار راجعاً لنفي المساواة، فلم يَبْق إلا أن يراد أنَّ الله تعالى مُصِفٌ بنقيض ما اتَّصفَ به معبودهم وهو الْخَلق، فيكون المراد الإشعار بتنقيص مقصودهم، والتنقيص موجب لعدم الألوهية، فليس المراد نفي مساواة الناقص للكامل، بل إنما المراد الإشعار بتنقيص الناقص، لأنه إذا قيل لهم: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) كان الإنكار راجعا لتشبيه الخالق بمن لم يخلق، لأن تشبيهه به
يوجب تنقيص البارئ جلّ وعلا، والتنقيص موجِبٌ لعدم الألوهية.
وقد قال: (ولئن سألْتَهمْ مَنْ خلقَهمْ لَيَقولنَّ الله) ، فيستلزم نقيض
دعواهم.
(مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) :
الضمير في (يشعرون) للأصنام،(2/346)
وفي (يُبْعَثُونَ) للكفار الذين عبدوهم، وعلى أنّه للكفّار يكون وعيداً، أي وما يشعر الكفار أيان يبعثون للعذاب.
ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم
بعدم الشعور فائدة، لأنَّ الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، فهو أمر استأثر الله به، كما قال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) .
وإنما نفى عنهم الشعور به.
والأنبياء قد حصل لهم الشعور به، وأعلموا بإشعار الساعة وعلامتها.
(ما كنّا نَعْمَل مِنْ سوءٍ) :
قاله الكفار على حسب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذِبٌ في نفس الأمر، أو قصدوا الكذب اعتصاماً به، كقولهم: (واللهِ رَبنَا ما كنّا مشركين) .
(مِن أوْزَارِ الَّذِينَ يضِلونَهم بغير عِلْم) :
قيل: إنَّ (من) للتبعيض.
ورُدَّ بالحديث: من عمل حسنة فله أجرها ... الخ.
وأجيب بأن الْمفضلين ترتّب على كفرهم وِزْرَان: أحدهما متَعَلّق بهم.
والآخر متعلق بمن أضلّهم.
ورده ابن عرفة بأنه إنما يتم هذا لو كانت التِّلاَوَة ومن أوزار إضلال من
اتبعهم، فتضاف الأوزار للضلال لا لهم.
والظاهر أن من للسبب، وثَمَّ معطَوف
مقدَّر، هو مفعول، أي ليحملوا أوزارهم ووزراً آخر بسبب أوزار الذين
يضلونهم.
وقال أبو حيان: إن " من " تكون بمعنى مثل، ولكنه شاذّ.
وكذلك قال: (بغير علم) حال من المفعول في يضلونهم.
وردّ بأنه حال من الفاعل، لأن العلم إنما يطلب ممن نصب نفسه منصب
المفيد، لا ممن نصبها منصب المستفيد.
قيل للقائل: الأصوب أن يكون متعلّقاً بـ يضلونهم، فقال: والباء حينئذ للمصاحبة، فلا بدّ من الحال.(2/347)
(مِنَ القَوَاعِد) :
ما كان تحت الأرض فهو أساس، وما فوقها فهو أعمدة، وجموعهما هي القواعد.
(مِنْ فوقهم) .
يقال لما كان أعْلى فوق، ومعلوم أن السقف أعْلى، ولكن ذكر ليزِيلَ الاحتمال الذي في الخَرِّ، وأن يكون عن يمين وشمال.
أو أنهم كلما رأوا علاماتِ السقوط خرجوا، فحينئذ خَرّ عليهم، فقال: (من فوقهم) ، ليفيد أنهم تربَّصوا حتى هلكوا.
(ماذا أنزل ربّكم قالوا خَيْرا) : لما وصف مقالةَ الكفار
الذين قالوا (أساطير الأولين) ، قابل ذلك بمقالة المؤمنين، وهو
قولهم، (خيرا) .
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ للقائلين.
يريد أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكيّ عنه.
ونظير ذلك أن يقول زيد أقول خيراً، الحمد للهِ، فتقول أنت حاكياً لكلامه: قال زيد خيراً، الحمد للَه، فهذا من كلام الحاكي، والقول محكى به الجمل والمفرد المؤدِّي معناها.
فإن قلت: لم رُفِع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين، ونُصب جواب
المؤمنين؟
فالجواب أن قولهم خيراً منصوب بفعل مضْمَرٍ، تقديره أنزل خيراً، ففي
ذلك اعتراف بأن الله أنزله، وأساطير الأولين هو خبر ابتداء مضمر، تقديره: هو أساطير الأولين، فلم يعترفوا بأن الله أنزله، فلا وَجْهَ للنصب.
ولو كان منصوباً لكان الكلام متناقضاً، لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله، لأن تقديره أنزل.
فإن قلت: يلزم مثل هذا في الرفع، لأن تقديره هو أساطير الأولين، فهو
غيْرُ مطاْبق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم؟(2/348)
فالجواب أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين، ولم
ينزله الله.
(ما كانوا به يَسْتهزِئون) :
معناه حيث وقع في القرآن إحاطة العذاب بمن استهزأ به، وعلى هذا فيجب التحفّظ مِنْ أسبابه.
(ما عبدنا مِنْ دونه مِنْ شيء) :
يحتمل أنهم يقولونه في الدنيا، لأنهم قالوا: لو شاء الله ما عبدنا غيره، فردّ الله عليهم بأنه نهى عن الشرك، ولكنه قضاه على مَنْ شاء من عباده، إذْ لا يكون في ملكه إلا ما يريد.
أو يقولون ذلك في الآخرة على وجه التمني، فإن (لو) تكون للتمني، فإنهم إذا عاينوا العذاب تمنَّوْا أنْ لو عبدوه ولم يحرموا ما أحلّ الله مِنَ البَحِيرة والسائبة.
(وما أرسلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا) :
يدلّ على تخصيص الرسالة بالرجال، وأما النبوءة فليست خاصة بهم، بل هي عامّة.
(ما هم بمعْجِزِين) :
التقدير أو يأخذهم في تقلبِهم، فهم بسبب ذلك غير معجزين، أي بمفْلِتين، لأن أخذه لهم حالةَ التقلب والتحرك مظنَّةٌ لفرارهم وهروبهم، فدخل حرف النفي، فنفي ذلك السبب المترتب على تقلبهم، أي فما يكون تقلبهم سبباً في تعجيزهم له، لأن الفاء دخلت على معنى النفي، لأنه لا يصحّ فيها السببية إلا على هذا التأويل.
(مِنْ دَابة) :
يحتمل أن يكون بيانا لما في السماوات والأرض، أو لما في الأرض.
ويراد بما في السماوات الخلْق الذي يقال له الروح غير جبريل، وهو أعظم المخلوقات المراد به في قوله تعالى: (يوم يقوم الرُّوحُ) .
(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) .
وأمّا جبريل فيقال له الروح الأمين.
وانظر هل الملائكة من الدوابّ أم لا، لكونهم ذَوِي أجنحةٍ يطيرون.
والظاهر أنهم منهم للآية: (وما مِنْ دَابةٍ في الأَرْضِ ولا طَائرٍ يَطِير) ، وعلى كل حال فالكل ساجدون(2/349)
من عاقل وغيره، لكن سجود العاقل حقيقة وغير العاقل بمعنى التذّلّل
والانقياد، فيكون لفظ السجود للقدر المشترك بينهما وهو الخضوع والانقياد، أو يكون من باب استعمال اللفظ المشترك في مفهومَيْهِ معاً، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
ولو قال من في السماوات لم يدخل في ذلك غير العُقَلاء.
(مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) .
نكرَ النعمةَ ليدخلَ تنعيمُ الكافر، لا للتقليل، لأن عطاء الله لا يوصف
بالقلَّةِ.
وقيل الكافر غير منْعَم عليه.
وقيل منعَم عليه في الدنيا، لقول عمر:
أولئك قوم عجّلت لهم طيباتُهم في الدنيا ولا يُنعَم عليهم في الآخرة، فالنعم
الدنيوية والأخروية عامة للمؤمنين، لأن الضر نعمة من الله عليه لصبره، كما أن النعمة نعمة عليه لشكره، لكنه يتأدّبُ فلا يصرِّح بِنِسْبَةِ الشرّ إلى ربِّه، وإن علم أن الكل من عنده، ويعتقد أن نعمه فضلٌ من الله، ونقمه عدل منه، ألا تراه كيف ذكر النعمة بأنها من الله، ثم سكت عن الضر، بل وصف الإنسان بالاستغاثة والتضرّع عنده.
وفي هاتين الآيتين عتابٌ في ضمنه نَهْيٌ لمن يدعو الله
عند الضرّاء برَفْعِ الصوت ويَغْفُل عنه عند العافية.
(ما يشتَهُون) :
يعني أنهم جعلوا الذُّكُورَ من الأولاد لأنفسهم، لأنهم يشتهونهم، والبنات اللائي يكرهونهنّ لربهم حيث قالوا الملائكة بنات الله.
أو كرهوا التوحيد وجعلوا له سبحانه شريكاً، وهم يكرهون المشارك
لهم في خططهم ومنازلهم وأموالهم، أو احتقروا الرسل وهم يكرهون ذلك فيمن يرسلونه إلى أحد أن يحتقر، وعلى كلَ وقع اللوم.
وإذا كانوا هم لا يحتملون شيئاً من ذلك ولا يحبونه لأنفسهم فكيف ينسبونه لربهم، وهم مع ذلك يدَّعون أن الجنة لهم.
والعجبُ منهم ينكرون البعث رأساً.
(ما أنْزَلْنَا عليكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لهم الذي اخْتَلَفُوا فيه) :
دخلت اللام على تبيّن لأنه ليس لفاعل الفعل المعلّل، لأن الإنزال من اللَه(2/350)
والبيان من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وألزمه أبو حيان التناقض، لأن الزمخشري جعل (هدًى ورحمة) ، معطوفين على لتبيّن، ومحلّه عنده النصب، فكيف يمنع كونه مفعولاً من أجله في اللفظ، ويجعله كذلك في المعنى، وأجاب بعضهم بأنه إنما منع نَصْبَه فقط، ولا يلزم أنه لا يصحّ في المعنى إلا ما جاز النطْق به.
وابن خروف لم يشترط في المفعول من أجله أن يكون مفعولاً لفاعل الفعل المعلل.
(مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) :
قال أبو حيان: حال من ضمير (نسْقيكم) ، أي خارجاً من بين فرث ودم.
وقيل متعلق بـ (نسْقيكم) المقدر، إذ لا يتعلق مجروران بفعل واحد.
وجوّز هنا لاختلاف معناهما، لأن من الأولى للتبعيض، والثانية لابتداء الغاية.
قال الزمخشري: إذا استقر العلف في كرش البهيمة طبَخْته، فكان أسفله
فَرْثاً، وأوسطه لبنا، وأعلاه دماً، والكبد مسلطة على ذلك تقسمه، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش.
وردّه ابن الخطيب بأنا ما رأينا قط في كرش البهيمة المذبوحة لبناً ولا دماً.
وأجاب بعضهم عنه بأن حالة الحياة لها زيادة، ألا ترى أن الميت إذا قطع منه
لم يخرج منه دم بوجهٍ، بخلاف الحيّ، ولذلك كان الفلاسفة يشقّون جوفَ
الإنسان وهو حيّ لينظروا ما يتحرك في بطنه.
والصحيح أن الغذاء يطبخه الكرش، فيخرج منه أولاً الأجزاء الكثيفة، وهي الفرث، ويبقى دماً فيطبخه ثانية، ويخرج منه إلى الضروع الأجزاء اللطيفة وهي اللبن، ويصير الباقي دَماً صِرْفاً، فيجعله في العروق، وإنما وقع الامتنان بلبن الأنعام المنفصل عنها دون لبن المرأة المتصل بها وبعيشنا، لأن تغذي الإنسان بلبن أمِّه حالة صغره وعدم عقله، ولبن الأنعام يتغذى به صغيراً وكبيراً ويدرك منفعته.
(ما تركَ عليها من دَابّة) :
الضمير للأرض، يعني لو عاف الله عباده في الدنيا بكفرهم ومعاصيهم لأهلك الحيوانات.(2/351)
وهذا يقتضي مؤاخذتَها بذنوب بني آدم.
وقد صح ذلك في الحديث: إن الفأرة لتهلك في جحْرها من ذنوب بني آدم.
(ما يكرهون) :
يعني البنات، وذلك أنهم كانوا يقولون
الملائكة بنات الله، فَتَبًّا لقوم كرهوا البنات وجعلوهن أرضاً والذكور سموات، جعلهم الله في كتابه سود الوجوه، وتوعدهم لما كرهوا قضاءَة بالجحيم.
(مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ) :
انتصب رزقاً، لأنه مفعول لـ (يملك) .
ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسماً لما يرزق، فإن كان مصدراً
فإعراب " شيئاً " مفعول به، لأن الصدر ينصب المفعول.
وإن كان اسماً فإعراب "شيئاً" بدل منه.
وفي هذه الآية توبيخٌ للكفّار، وردّ عليهم في عبادتهم مَنْ لا يملِك لهم رزقاً
من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون، فَنَفْى الاستطاعة بعد نفي الملك أبلغ في الذم.
والضمير عائد على (ما) لأن المراد به الآلهة.
(مَثلاً عَبْداً مَمْلوكاً لا يَقْدِر على شَيء ومَنْ رَزَقْنَاه) :
مَنْ: هنا نكرة موصوفة، والمراد بها من هو حر قادر، كأنه قال: وحُرًّا رزقناه، ليطابِقَ عبدا - ويحتمل أن تكون موصولة، وهذه الآية مثَل لله تعالى وللأصنام، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، واللَه تعالى له الملك وبيده الرزق، ويتصرف فيه كيف يشاء، فكيف يسوَّى بينه وبين الأصنام.
وإنما قال لا يقدر على شيء، لأن بعض العبيد يقدرون على بعض الأمور.
كالْمُكاتَب والمأذون له.
(مثَلاً رَجُلَيْن أحدُهُما أبْكمْ) :
هذه الآية كالتي قبلها في ضرب المثل، لبطلان مذاهب المشركين وإثبات التوحيد.
وقيل: إن الرجل الأبكم هو أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عَمّار بن ياسر.
والأظهرُ عدم التعيين.(2/352)
(ما أمْرُ الساعَةِ إلا كلَمْحِ البَصَر أو هو أقْرَب) :
بيان لقدرة الله تعالى على إقامتها، وأن ذلك يسير عليه، كقوله تعالى: (ما خَلْقُكمْ ولا بَعْثكم إلاَّ كنَفْس وَاحِدَةٍ) .
وإنما أجرى الله الأطوار، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام للاعتبار، وأن عادته التدرج في الأمور.
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) .
(مَنْ) شرطية في موضع رفع بالابتداء، وكذلك (مَنْ) في قوله: (مَنْ شَرَحَ) ، لأنه تخصيص من الأولى.
وقوله: (فعليهم غضب) - جواب عن الأولى والثانية، لأنهما بمعنى واحد، أو يكون جواباً للثانية، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية.
وقيل (مَنْ كفر) بدل من الذين لا يؤمنون، أو من المبتدأ في قوله: (أولئك
هم الكاذبون) .
أو من الخبر.
(ومَنْ أُكْرهَ) ، استثناء من قوله: (مَنْ كفر) ، وذلك أنَّ قوماً ارتدُّوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم مَنْ أكْرِهَ على الكفر، فنطق بكلمة الكفر، وهو يعتقد الإيمان، منهم عَمّار، وصهيب، وبلال، فعذرهم الله.
ورُوِي أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صُنع به من العذاب، وما سامح به من القول، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: كيف تجد قَلْبك، قال: أجده مطمئنا بالإيمان.
قال: فإجابتهم بلسانك لا تضرّك.
وهذا الحكم فيمن أكره على النطق بالكفر.
وأما الإكراه على كفر كالسجود لصنم، فاختلف، هل تجوز الإجابة
إليه أم لا، فأجازه الجمهور، ومنعه قوم.
وأما الإكراه على اليمين والعِتْق والطلاق فلا شيء عليه فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس.
وأما الإكراه على قتل أحد وأخذ ماله فلا تجوز الإجابة إليه.
(ما فتِنوا) - بضم الفاء قراءة الجمهور، أي عذبوا، فالآية على هذا في عمّار وشبهه من المعذَّبين على الإسلام.
وقرأ ابنُ عامر بفتح(2/353)
الفاء، أي عذّبوا المسلمين، فالآية على هذا فيمن عذب المسلمين ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه.
(مَتاعٌ قَلِيل) : يعني عيشهم في الدنيا وانتفاعهم بما فعلوه
من التحليل والتحريم.
(ما قصَصْنا عليكَ مِنْ قَبْل) :
الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ذكر له ما حرّم على المسلمين وماحرّم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله، كما فعلت العرب.
والذي حرم على اليهود ما نصّ الله عليه في سورة الأنعام،: (حَرَّمْنَا كلَّ ذِي ظُفُر) .
(ما عُوقِبْتُم بِهِ) :
المعنى إنْ صنِعَ بكم صَنِيع سوء فافعلوا مثله، ولا تزيدوا عليه، والعقوبة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ.
ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عُقْبى، كقوله في الممتحنة: (فعاقَبْتُم) ، بمعنى غنمتم، فيكون في الكلام تجنيس.
وقال الجمهور: إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بَقَر
المشركون بطنَه يوم أحُد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لئن أظفرني الله بهم لأمثلَنَّ بسبعين منهم، فنزلت الآية، فكفَّر - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، وترك ما أراد من المثْلة.
ولا خلاف أن المثْلَة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك، ويقتضي ذلك
أنها مدنية.
ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال.
وتكون على هذا مكية كسائر السورة.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجلٌ في مال ثم ائتمن الظالم المظلومَ على مال.
هل يجوز له خيانتُه في القَدْر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قومٌ لظاهر الآية، ومنعه
قوم للحديث: أدِّ الأمانة إلى من أئتمنك ولا تَخُنْ مَن خانك.
قلت: هذا في المال، وأما عقوبة البدن فلا خلاف أنَّ العفو أفضل للآيات(2/354)
الكثيرة، كقوله: (ولئن صبَرْتم لهو خَيْر للصابرين) .
وقوله: (فمَنْ عَفَا وأصْلَح فأجْرهُ على الله) .
والحديث: ما ازداد رجل بالعفو إلا عزا.
وفي حديث: فيقوم العافون عن الناس.
والتحريض على العفو لا يحْصى ذكره.
ويحكى عن الشيخ أبي الحسن الزبيدي رحمه الله أنه كان يوماً ببيت الأشياخ
في زاويته، وإذا به خارج هارب فارًّا بنفسه، فسئل عن ذلك، فقال: خطر لي أني لا أحلل أحداً ممن ظلمني، فتذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حرصا على إنقاذ رجل من أمته من النار.
قلت: وأنا أتسبب في دخولهم إليها! فخفت سقوط البيت عليَّ، فهربت.
(مع الذين اتَّقوا) :
معناه مع الذين اتقوا بمعونته ونصْرته، وهو مصدر مشتق من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه الخوف والتزام طاعة الله، وترك معاصيه، فهو جِمَاع كل خير.
وقد ضمن الله للْمتَمَسك به الهدى، لقوله: هدًى للمتقين، والولاية لقوله:
(واللَه وليّ المتقين) .
والمحبة لقوله: (إن الله يحبّ المتّقين) والمعرفة لقوله: (إنْ تَتَّقوا الله يَجْعَلْ لكم فرْقَانا) ، والمخرج من الغَمّ، والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله: (ومَنْ يَتَّقِ الله يجعل له مَخْرجاً. ويَرْزُقْه من حيث لا يَحْتَسب) .
وتيسير الأمور لقوله: (ومَنْ يَتَّق اللَهَ يَجْعَلْ له مِنْ أمْره يسْراً) .
وغفران الذنوب وإعظامَ الأجور، لقوله تعالى: (ومن يَتّقِ اللهَ يُكَفِّر عنه سيئاته ويعْظِمْ له أجرا) .
وتقبل الأعمال، لقوله تعالى: (إنما يتَقَبَّل اللهُ مِنَ المتقين) .
والفَلاَح لقوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفْلحون) .
والبشرى لقوله: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) .
ودخول الجنة لقوله تعالى: (إنَّ للمتقين عند ربهم جنَّاتِ النَّعيم) .
والنجاة من النار، لقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) .(2/355)
والباعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الدنْيَوِي، وخوف العقاب
الأخْرَوِيّ، ورجاء، الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوفُ
الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيْبة.
ودرجات التقوى خمسة: أن يتّقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام.
وأن يتَّقي المعاصي والمحرّمات، وهو مقام التوبة.
وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورعَ.
وأن يتقي المباحات، وهو مقام الزهد.
وأن يتقي حضورَ غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.
(ما صَبْرُكَ إلا بِاللَه) :
هذا عزْم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه على الصبر.
ويروى أنه قال لأصحابه: أمَّا أنا فأصبر كما أمِرت، فماذا تصنعون، قالوا:
نصبر كما ندبنا.
ثم أخبره أنه لا يصبر إلاَّ بمعونة الله.
وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبْر منسوخ، وهذا إذا كان
الصبر يُرادُ به تركُ القتال، وأما إن كان الصبر يرادُ به ترك المثْلة التي فُعل مثلها بحمزة فذاك غير منسوخ.
قلت: وبالجملة فقد ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً.
وذلك لعظم موقعه في الدين.
قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور في
عشرة أمثالها إلى سبعمائة إلا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) .
وقال بعضهم: الأعمال البدنية الحسنة بعشر، والمالية الحسنة بسبعين، والقلبية - وهي الصبر ونحوه - إلى غير حد.
وقد ذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة: أولها: المحبة، لقوله:
(واللَه يُحِبُّ الصابِرين) .
والثاني: النصرة، لقوله: (إن الله مع الصابرين) .(2/356)
والثالث غرفات الجنة، لقوله: (يجْزَوْن الغرْفةَ بِما صَبَروا) .
والأجر الجزيل، لقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
والأربعة الأخر المذكورة في هذه الآية: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) .
والصبر على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخّط
والهلع والجزَع.
وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر
بها.
وصبر على الطاعات بالمحافظة عليها.
وصبر عن المعاصي بكفِّ النفس عنها.
وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً وباطناً.
وفوق التسليم الرضا بالقضاء وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، إذ كل ما يفعل المحبوب محبوب.
وعَيْن الرضا عن كلّ عَيْبٍ كليلة.
(ما أنْزِل مِن قَبْلِك) :
التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل.
(ما همْ بمؤْمنين) :
هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوْس والخزرج، ورأْسهم عبد الله بن أبيّ، يظهرون الإسلام ويسِرُّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك زِنْديقاً، وهم في الآخرة مخلَّدون في النار.
وأما الدنيا فإن لم تَقم عليهم بيِّنة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان فمذهب الشافعي الاستِتَابَة وترك القتل.
ومذهب الإمام القتل دون استتابة.
فإن قلت: كيف جاء قولهم آمَنَّا جملة فعلية، و (ما هم بمؤمنين) جملة اسمية.
فهلاَّ طابقتها؟
فالجواب أن قوله: (ما هم بمؤمنين) أبلغ وأوكد ونفي الإيمان عنهم من
أن لو قال: وما آمَنوا.
فإن قيل: لم جاء قولهم (آمنا) مقيّداً بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين
مطلقاً؟(2/357)
فالجواب أنه يحتمل الوجهين: التقييد، وترك لدلالة الأول عليه.
والإطلاق، وهو أعلم في سَلْبهم عن الإيمان.
(ما رَبِحَتْ تِجَارَتهم وما كانوا مهْتَدين) :
لما ذكر الشراء على الإطلاق ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز، لأن الرابح والخاسر هو المتاجر.
قال الزمخشري: نَفَى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: (وما كانوا مهْتَدِين) .
(مَثَلُهم كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَد تاراً) :
أي أوقد.
وقيل طَلَب الوقود، وإن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه، وإن كان المثل بمعنى الشبه فالكاف زائدة.
فإن قيل: ما وَجْه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمَتْ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في
الآخرة شبيه بالظلمة بعده.
الثاني: أنَّ اختفاء نورِ كفرهم كالنور وفضيحتهم بعده كالظلمة.
الثالث: أن ذلك فيمن آمن منهم، ثم كفر، فإيمانه نورٌ وكفْره بعده ظلمة.
ويرجِّح هذا قوله: ذلك بأنهم آمنوا ثم كَفَروا.
فإن قيل: لم قال: (ذهب الله بِنُورهم) ، ولم يقل ذهب اللَه
بضوئهم، مشاكلةً لقوله: فلما أضاءت؟
فالجواب أن ذهاب النور أبلغ، لأنه إذهابٌ للقليل والكثير، بخلاف الضوء
فإنما يطلق على الكثير.
(مَحَوْنَا آيةَ الليلِ وجَعَلْنَا آيةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً) :
فيه وجهان:(2/358)
أحدهما: أن يراد أنَّ الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية
الليل وآية النهار كقولك مسجد الجامع، أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار، ومَحْوُ آيةِ الليل على هذا كون الفَجْر لم يجْعَل له ضوء كضوء الشمس.
ومعي مبصرة: تبصر فيه الأشياء.
(ما عَلَوْا) : (ما) مفعول (لِيُتَبِّروا) ، أي ليهلكوا ما غلبوا
عليه من البلاد.
وقيل إن ما ظرفية، أي ليفسدوا مدة عُلوِّهم.
(مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) :
قيل: إنَّ هذا في حكم الدنيا، يعني أن الله لا يهلك أمةً إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم.
وقيل: هو عامّ في الدنيا والآخرة، وإن الله لا يعذّب في الآخرة قوماً إلا
وقد أرسل إليهم رسولاً فكفروا به وعصَوه.
ويدل على ذلك قوله: (كُلَّمَا ألْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خزَنَتها ألَمْ يَأتِكمْ نَذِير
قالوا بَلَى) .
ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات.
واستدل أهل السنّةِ بهذه الآية على أنَّ التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع لا من مجرد العقل.
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) .
الآية في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يؤمنون بالآخرة، على أن
لفظها أعم من ذلك.
والمعنى أن الله يعجًل لهم حظا من الدنيا بقيدين:
أحدهما تقييد المقدار المعجّل بمشيئة الله.
والآخر تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله و (لمن نرِيد)
بدل من (له) ، وهو بدل بعض من كل.
(مَدحورا) .: مُبْعَداً مُهَاناً.
(محظوراً) : ممنوعا.
(مذموماً) ، أي يذمّه اللهُ وخيارُ عباده.(2/359)
(مَخْذُولاً) ، أي غير منصور.
ومنه: (وإنْ يخذلكم فمَنْ ذَا الذي يَنْصُرُكم من بَعْده) .
(مَلُوما مَحْسوراً) : أي يلومك صديقك على كثرة
عطائك وإضرارك بنفسك، أو يلومك مَنْ يستحق العطاء، لأنك لا تترك ما
تعطيه، أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء.
والمحسور: من قولهم:
حسره السفَر البعيد فذهب بلحمه وقُوَّته بلا انبعاث ولا نهضة، يعني أن كثرة
العطاء تقطع بك حتى لايبقى بيدك شيء.
وفي هذه الآية إشارة ٌ إلى الرفق في الأمور.
وخيْرُ الأمور أوساطها.
وما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا انتزع من شيء إلا شانه.
(مَنْ قُتِل مظلوماً فقد جعَلْنَا لِوَليِّه سُلْطانا) :
يعني من قتل بغير حق فلوليِّه - وهو ولي المقتول من سائر العصبة وليس النساء من الأولياء - القصاص من القاتل أو العفو عنه.
(مَنْصوراً) :
الضمير للمقتول أو لوليه، ونصره هو بالقصاص.
(مالَ اليتيم) :
كل متموّل، فلا يجوز الأخذ منه، وقد
ورد النهي عن قربه في مواضع من كتابه.
(مسئولاً) :
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الطلب، أي يُطلب منه الوفاء بالعهد.
والثاني: أن يكون المعنى يُسأل عنه يوم القيامة، هل وفَّى به أم لا.
(مَعَة آلِهَةٌ كما يَقُولون) :
الضمير يعود على كفّار العرب الذين جعلوا مع الله آلهة، فاحتجّ تعالى على وحدانيته بأنه لو كان كما يقولون لابْتَغَوْا سبيلاً إلى التقرّب إليه بعبادته وطاعته، فيكونون من جملة عباده أو لابْتَغوْا سبيلاً إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته.
ومعلوم أن ذلك كله لم يكن، فلا إله إلا هو.(2/360)
(مكروهاً) :
الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات، من قتل النفس وغيره.
والمكروه هنا بمعنى الحرام، لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه
دون الحرام.
وإعراب (مكروها) نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان.
(مَنْ فِيهنَ) .
الضمير يعود على السماوات والأرض، ومعناها أن جميع من في السماوات والأرض يسبِّح له، من صامت وناطق.
واختلف في كيفية هذا التسبيح، فقيل: بما تدل عليه صنعتها من قدرته
وحكمته.
وقيل: إنه تسبيح حقيقة.
وهذا أرجح لقوله: (ولكن لا تفقهون تَسْبِيحَهم) .
(مَسْحُوراً) :
قيل معناه جُنَّ فسحر.
وقيل معناه ساحر.
وقيل هو من السَّحر بفتح السين، أي بشراً ذا سَحْر مثلكم، وهذا بعيد.
(مَحْذوراً) :
من الحذر، وهو الخوف.
(مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) :
الآيات هنا المراد بها ما يقترحها الكفار.
وسبب نزولها أن قريشا اقترحوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصَّفَا ذهباً، فأخبره الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذِّبوا بها فيهلكوا.
وعبّر بالمنع عن ترك ذلك، (وأنْ نرْسِل) في موضع نصب.
(وأنْ كذّب) في موضع رفع.
ثم ذكر ناقة ثمود تنبيهاً على ذلك، لأنهم اقترحوها، وكانت سبب هلاكهم.
ومعنى (مبْصرةً) واضحة الدلالة.
(ما نرْسِلُ بالآياتِ إلا تَخْوِيفاً) :
إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يُرْسل بها تخويفاً من العذاب العاجل، وهو الإهلاك، وإن أراد المعجزات غير المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفاً من عذاب الآخرة ليراها الكافر فيؤمن.
وقيل المراد بالآيات هنا الزلازل والرعد والكسوف، وغير ذلك من المخاوف.(2/361)
(ما جعَلْنَا الرّؤْيَا التي أرَيْنَاك إلاَّ فِتْنةً للنَّاسِ) :
اختلف فيها، فقيل: إنها الإسراء، فمَنْ قال إنه كان في اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعيْن.
ومن قال: إنه كان في المنام فالرؤيا منامه.
والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك، وارتداد بعض المسلمين حينئذٍ.
وقيل: إنها رؤياالنبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه هزيمة الكفَّارِ وقتلهم ببَدْر.
والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك وسخريتهم به.
وقيل إنها رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنَةِ الحديبية فرُدَّ عنها، فافتَتَن
بعض المسلمين بذلك.
وقيل: رأى في المنام أنَّ بني أمية يصعدون على منبره - صلى الله عليه وسلم - فاغتَتمَ لذلك.
(مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) .
كان الأصل أن يقال: جزاؤهم - بصيغة الغيبة، ليرجع إلى مَنْ تَبِعك، ولكنه
ذكره بلفظ الخطاب تغليبا للمخاطب على الغائب، وليدخل إبليس معهم، لأنه المخاطب بقوله: (اذهبْ) ، بصيغة الأمر على وجه التهديد.
قال الزمخشري: ليس المراد الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه امض
لشأنك الذي اخترته خذلاناً له وتخلية.
ويحتمل أن يكون معناه الطرد والإبعاد.
(موفوراً) .
مكملاً، وهو مصدر في موضع الحال.
(ما يعِدهم الشيطان إلا غرورا) :
من المواعدة بشفاعة الأصنام وغير ذلك.
(مَنْ كانَ في هذه أعْمَى فهو في الآخرة أعْمَى وأضَلّ سَبِيلا) .
الإشارة بهذه إلى الدنيا، والعمى يراد به عمى القلب، يعني من كان في
الدنيا أعمى عن الهدى والصواب فهو في يوم القيامة أعمى، أي حَيْران، يئس من الخير.(2/362)
ويحتمل أن يريد بالعمَى في الآخرة عمى البصر، كقوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) .
وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضلّ سبيلاً، لأنه حينئذٍ لا ينفعه الاهتداء.
ويجوز في العمى الثاني أن يكون صفة كالأول، وأن يكون من أفعل التي للتفضيل، وهذا أقوى لقوله: (وأضلُّ سبيلا) ، فعطف أضلّ الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيهه.
وقال سيبويه: لا يجوز أن يقال هو أعمى من كذا، ولكن إنما يمتنع ذلك في
عمى البصر لا عمى القلب.
(ما أُوتيتمْ من العِلْمِ إلا قَليلا) :
خطاب عام لجميع الناس، لأن عِلْمَهم قليل بالنظر إلى علم الله.
وقيل خطاب لليهود خاصة.
والأول أرجح، لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح.
(ما منع الناسَ أنْ يُؤمنوا) .:
يعني أنه ما منع الناس من الإيمان إلا إنكارهم لبعث الرسول من البشر.
وقد قدمنا معارضة هذه الآية للتي بعدها في سورة الكهف.
(ماكِثينَ فيه أبداً) .
أي دائمين، وانتصابه على الحال من الضمير في (لهم) .
(ما لَهمْ بهِ مِنْ عِلْم) :
الضمير عائد على قولهم: (اتخذ الله ولَداً) .
(ما على الأرضِ زِينةً لَها) :
يعني ما يصلح للتزيّن، كالملابس، والمطاعم، والأ/شجار، والأنهار، وغير ذلك.
(ما يعْبدونَ إلاَّ الله) :
عطف على المفعول في " اعتزلتموهم "، أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون من دون الله.
وهذا الاستثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره.
ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله.(2/363)
وفي مصحف ابن مسعود: وما يعبدون من دون الله.
(ما يَعْلَمهم إلا قَليلٌ) :
أكد عدة أصحاب الكهف.
وقد قدمنا أن ابن عباس من ذلك القليل.
(مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) .
الضمير لجميع الخلق، أو للمعاصرين النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقرئ تشرك - بالتاء والجَزْم على النهي.
وهو خَبَرٌ على القراءة بالياء والرفع.
(ما أشْهَدْتهمْ) :
الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم، أو للكفار، أو لجميع الخلق، فيكون فيه رد المنجّمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتَخَرِّصَة.
(مَوْبِقاً:
مهلكاً، وهو اسم موضع، أو مصدر من وَبَقَ
الرجل إذا هلك، وقيل إنه من أودية جهنم.
والضمير في (بينهم) للمشركين وشركائهم.
(مَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) :
يعني العذاب، وما موصولة، والضمير محذوف تقديره: أنذروه، أو مصدرية.
(مَوْعِدا) :
قيل هو الموت. وقيل عذاب الآخرة. وقيل يوم بَدْر.
(مَوْئِلاً) : أي مَنْجى، ويقال وَأل الرجل إذا نجا.
ومنه قول علي رضي الله عنه - - وكانت درعه صَدراً بلا ظَهْر، فقيل له: لو أحرزت ظهرك.
فقال: إذا وليْتُ فلا وألْتُ، أي إذا أمكنْتُ من ظهري فلا نَجْوت.
(مَوْعِداً) .
أي وقتاً معلوماً لهلاكهم.
والمهْلَك - بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر من أهلك، فالمصدر على هذا مضاف للمفعول، لأن الفعل متعد.
وقرئ بفتح اليم من هلك، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل.
(مَصْرِفاً) ، أي معدلاً ينصرفون إليه.(2/364)
(مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ) :
قيل: بحر فارس وبحر الروم بالمشرق.
وقيل عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو
الأندلس.
وقيل العَذْب المالح.
(ما كُنَّا نَبْغ) .
أي نطلب فَقْدَ الحوت، لأنه أمارة على وجدان الخضْر عليه السلام.
(ما فَعَلْتُه عن أمْرِي) :
هذا دليل على نبوءة الخضر، لأن المعنى أنه لم يفعل ما فعل إلا بأمر من الله ووحيهِ.
(مَكنّا لهُ في الأرْض) :
يعني أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم.
(ما مَكنِّي فيه رَبّي خَيْر) .
أي ما بسط الله لي من الملك خَير مِنْ خَرَاجكم، فلا حاجة لي به، ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي.
(مَنْ كان يرْجُو لقَاءَ رَبِّه) :
إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حُسْنَ لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رِضاً وقبول.
وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه.
(مَوَالِي) .
أقاربي، وقد قدمنا أن الولى له سبعة معان.
(مَرْيم) بنت عمران، ولم يذكر في القرآن من النساء إلا مريم لنكتة تقدمت
في الكناية ومعناها بالعبرانية الخادم.
وقيل المرأة التي تغازل الفتيان، حكاهما الكرماني في عجائبه.
(مكانا قَصِيًّا) ، أي بعيداً، وإنما بعدت من قومها حياء منهم
أن يظنوا بها الشر.
(مَخَاض) :
نفاس، وسمي مخاضا، لأن الولد يتحرك فيه للخروج.(2/365)
(مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) :
لما رأت الآيات علمت أن الله سيُبَرِّئها فجاءت به من المكان القصي إلى قومها فعاتبوها بهذا الكلام.
(مَهْد) : هو المعروف.
وقيل المهد هنا حِجْرها.
(مُبَاركاً) : من البركة.
وقيل نَفَّاع، وقيل معلم للخير.
واللفظ أعمُّ من ذلك.
(ما تَدْعُون مِنْ دُونِ الله) : أي ما تعبدون.
(مكانا عَلِيًّا) : قال ابن عباس: رفعه الله إلى السماء، وهناك مات.
وفي حديث الإسراء أنه في السماء الرابعة.
وقيل: يعني رفعة النبوءة وتشريف منزلته.
والأول أشهر، ويرجِّحه الحديث.
(مَلِيًّا) ، أي حيناً طويلاً، وعطف اهجرني على محذوف
تقديره: احذر رجمي لك.
(مَأتِيًّا) : وزنه مفعول، فقيل إنه بمعنى فاعل، لأن الوعد هو
الذي يأتي.
وقيل إنه على بابه، لأن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها.
(ما نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأمْرِ رَبِّك) :
هذا حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أبطَأتَ عني، وقد اشتقتُك.
فقال: إني أشوق إليك ولكني عَبْدٌ مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، فنزلت هذه الآية.
(ما بَيْنَ أيْدِينا وما خَلْفَنا وما بَين ذلك وما كان ربك نَسِيّا) .
هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول.
وقيل بمعنى الترك.
ومعنى الآية: له ما قدامنا وما خلْفنا وما نحن فيها من الجهات والأماكن، فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله.
وقيل: ما بين أيدينا الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور.
وما خَلْفنا الآخرة، وما بين ذلك ما بين النفختين.
وقيل: ما مضى من أعمارنا، وما بَقي منها، والحال التي نحن فيها، والأول أكثر مناسبة لسبب الآية.(2/366)
(مَقَاما) : اسم مكان، مِنْ قام، وقرئ بالضم من أقام.
ومعنى الآية: إن الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم مقاماً أي أحسن حالاً
في الدنيا، وأجل مجلساً، فنحن أكرم على الله منكم.
(مَدًّا) ، أي إمهالاً.
(مَرَدًّا) : أي مرجعا وعاقبة.
(مَالاً ووَلَداً) :
قائل هذه المقالة العاص بن وائل، قال: لئن بعثت، كما يزعم محمد، ليكونن لي هناك مال وولد.
(ما أنزلنا عَلَيْكَ القرآنَ لتَشْقَى) :
قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الصلاة حتى تورَّمت قدماه، فنزلت الآية، تخفيفاً عنه.
والشقاء على هذا: إفراط التعب في العبادة.
وقيل: المراد به التأسّف على كفْر الكفار.
واللفظ أعمّ من ذلك كله.
والمعنى أنه نفى عنه جميع، أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه أنزل عليه
القرآن الذي هو من أسباب السعادة.
(مَآرِبُ أُخْرَى) .
أي حوائج، واحدها مَأربة، وكانت عصاه
تحادثه، وتؤانسه، وتضيء له بالليل، وتطعمه إذا جاع، ويركب عليها إذا أعياه الطريق (1) .
(ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى) :
إنما سأله ليريه عِظَم ما يفعل في العصا مِنْ قَلْبها حيّة، فمعنى السؤال تقرير على أنها عصاً، ليتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن يقلبها.
وقيل: إنما سأله ليؤنسه في الكلام.
فإن قلت: لم سأله عن العصا وهو عالم بها، ولم يقل ما في يدك؟
والجواب تعليما للمعلم مع المتعلم، يسأله عن الشيء وهو عالم به، ولما تحيَّر
موسى من هَيْبَةِ كلامِ خالقه آنسه، وانبسط معه، وتأدب موسى معه في إجمال
الخطاب.
ولعله اختصر له في الكلام رجاء أن يسمعه مرةً أخرى، وأعطاه الله
العصا في يمينه، وسأله عنها، إشارة لك يا محمدي أن الله شرف موسى بالعصا.
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.(2/367)
(مَا يُوحَى) : إبهام يراد به تعظيم الأمر.
(محبّةً مِنِّي) ، أي أحببتك.
وقيل أراد محبة الناس حتى كان إبليس يحبّه (1) ، وكان لا يراه أحد إلا أحبه.
وقيل أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له.
وقوله: (مِنِّي) يحتمل أن يتعلق بقوله: (ألقيت) ، أو يكون
صفة لـ (محبة) ، فيتعلق بمحذوف.
(مَنْ يَكفلْه) :
يعني يرَبِّيه، لأنه كان لا يقبل ثَدْي امرأةٍ، فطلبوا له مرضعةً، فقالت أخته ذلك ليرَدَّ إلى أمه.
(معَنَا بني إسرائيل) :
هذا من كلام موسى، طلب من فرعون أن يسرحهم، لأنهم كانوا تحت يده في المهنة، فكانت رسالة موسى إلى فرعون
بالإيمان بالله تعالى، وبتسريح بني إسرائيل.
(مَنِ اتَّبَع الهدَى) : يعني به التحية أو السلامة.
(ما بالُ القرون الأولى) :
يحتمل أن يكون سؤال فرعون عن القرون الأولى محاجَّةَ ومناقضة لموسى، أي ما بالها لم تبْعَث كما زعم موسى، أو ما بالها لم تكن على دين موسى، أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم
موسى في قوله: (إنَّ العذاب على مَن كذّب وتَولَّى) .
ويحتمل أن يكون ذلك قطعاً للكلام الأول، وروغاناً عنه، وحيرة لما رأى
أنه مغلوب بالحجة، ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها: (قال عِلْمها
عند رَبّي في كتابٍ) ، يعني اللوح المحفوظ.
(مَوْعِداً لا نخْلِفه) :
يحتمل أن يكون اسم مصدر، أو اسم زمان، أو اسم مكان، ويدل على أنه اسم مكان قوله: (مَكاناً سُوًى) ، ولكن يضعّف بقوله: (موعدكُم يومُ الزّينة) ، لأنه أجاب بظرف الزمان.
ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله: يوم الزينة، ولكن يضعّف
بقوله: (مكاناً سوًى) .
ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله: لا نخلفه، لأن
__________
(1) كلام في غاية البعد.(2/368)
الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان، ولكن يضعّف ذلك بقوله: مكاناً، وبقوله يوم الزينة، فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار.
ويختلف قوله مكاناً باختلاف تلك الوجوه، فأما إن كان الوعد اسم مكان فيكون قوله موعداً ومكاناً مفعولين لقوله: اجعل، ويطابقه قوله يوم الزينة، من طريق المعنى لا من اللفظ، وذلك أن الاجماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة، وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله مكاناً على أنه ظرف مكان، والتقدير كائناً في مكان.
وإن كان الوعد اسم مصدر فينتصب مكاناً على أنه مفعول بالمصدر وهو
الوعد، أو بالفعل من معناه، ويطابقه قوله: يوم الزينة على حذف مضاف.
تقديره موعدكم وعد يوم الزينة.
وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب، وذلك يطابق
أن يكون الوعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف.
(مكاناً سُوًى) : معناه مُسْتَوِي القُرب منا ومنكم.
وقيل معناه مستَوٍ في الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع.
وقرئ بكسر السين وضمها، والمعنى متفق.
(ما غَشِيَهم) :
إبهام لقصد التهويل، والضمير راجع إلى قوم فرعون
حين تبعوا موسى في ألف ألف مرتين، فلما رآهم قوم موسى خافوا، وقالوا لموسى: (إنا لمدْرَكون) .
فقال موسى: (إنَّ مَعِي رَبي سيَهْدِين) .
وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في الغار: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
وكذلك قال الله لهذه الأمة: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) .
فالذي قال: (إن الله معنا) ، نجا من شر الكفار، فكيف لا ينجو مَنْ قال الله لهم: إن الله معكم - من عذاب النار.
فأوحى الله إلى موسى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ، فمرّ موسى مع قومه، وجاء فرعون، ودخل البحر مع جنوده فأغرقهم الله أجمعين.
وقيل: إن فرعون لما عاين العذاب أراد الإيمان في حال الغرق، فرفع جبريل
الطين وجعله في فِيه حتى استغاث بجبريل سبعين مرة، فلم يُغِثه، فعاتبه الله، وقال(2/369)
لجبريل: استغاث بك فرعون سبعين مرة فلم تغثه، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأَغثته، وكذلك عاتب موسى لما استغاث به قارون فلم يغثه، فهنيئاً لك يا محمدى في استغاثتك بمولاك إن رجَعْتَ إليه أفَتَرَاه لا يغيثك؟!! ، وهو يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) .
(ما هَدَى) :
الضمير يعود على فرعون لتقدّم الذكر له.
فإن قيل: إن قوله: (وأضلَّ فرعون قومَه) ، يُغْنِي عن قوله:
(وما هَدَى) .
فالجواب أنه مبالغة وتأكيد.
وقال الزمخشري: إنه تهكّم بفرعون في قوله: (وما أهْدِيكم إلَّا سبِيلَ الرَّشاد) .
(ما أعْجَلَكَ عن قومك يا موسى) .
قصص هذه الآية أن الله لما أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الطور تقدم وحده مبادرة إلى أمر الله وطلباً لرضاه، وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده، واستخلف عليهم أخاه هارون، فأمرهم السامريّ حينئذ بعبادة العجل، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله له: (وما أعجلك) ، الآية، فهذا السؤال على وجه الإنكار لتقدمه على قومه.
وقيل: ليخبره بما صنعوا بعده من عبادة العجل، فاعتذر موسى بعذْرَين:
أحدهما: أن قومه على أثره، أي قريب منه، فلم يتقدم عليهم بكثير يوجِبُ
العتاب.
والثاني: أنه إنما تقدم طلباً لرضاه، وغلبة المحبة، ولذلك لم يطق الصبر مع
قومه.
وهذا كان سبب مراجعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: ارجع إلى ربك، واسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.
ورحم الله القائل:
"لعلّي أراهم أو أرى مَنْ يَراهم "
(ما مَنَعَكَ إذ رأيْتَهم ضَلوا ألاَّ تَتّبِعَنِ) .
هذا خطاب موسى(2/370)
لهارون - عليهما السلام - لما رجع من الطور بعد كمال الأربعين يوماً التي كلّمه الله فيها، و (لا) زائدة للتأكيد.
والمعنى ما منعك أن تتّبعني في المشي إلى الطور، أو تتَّبعتي في
الغضب للَه وشدة الزّجْرِ لمَنْ عبدوا العجل وقتالهم بمن لم يعبده.
(ما قَدْ سبَقَ) : يعني أخبار الأمم المتقدمين.
(ما بَيْنَ أيدهم وما خَلْفَهم) : الضمير للخَلْق.
والمعنى يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم.
وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة.
(مَنْ أذِن له الرحْمَن ورَضِيَ له قَوْلاً) :
مَنْ واقعة على الشافع، والمعنى لكن مَنْ أذن له الرحمن يشفع.
(مَعيشة ضَنْكًا) ، أي ضيقة، فقيل إن ذلك في الدنيا، فإن
الكافر ضيق المعيشة لشدة حِرْصه، وإن كان واسع الحال.
وقال بعض الصوفية:
لا يعرْض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقْته وتكدّر عليه عيشه.
وقيل ذلك في البَرْزَخ.
وقيل في جهنم يأكل الزّقَّوم، وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد هذا يوم
القيامة وعذاب الآخرة.
(ما يَأتِيهم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبّهم مُحْدَث) :
الضمير عائد على المشركين من قريش، ويعني بالذكر القرآن، ومحدث: أي محدث النزول.
(مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) :
لما قالوا: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) الآيات.
أخبرهم أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا.
ثم قال: (أفهم يُؤمنون) ، أي إن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال مَنْ قبلهم.
ويحتمل أن يكون المعنى أن كل قرية هلكت لم تؤمن، فهؤلاء كذلك ولا
يكون على هذا جواباً لقولهم: (فليَأتِنا بآيةٍ) ، بل يكون إخبارا مستأنفاً على وجه التهديد.
وأهلكنا في موضع الصفة لقرية، والمراد أهل القرية.(2/371)
(ما جَعَلنَاهم جَسداً لا يأكلون الطَّعَام) ، أي ما جعلنا
الرسل أجسادا غير طاعمين، ووحّد الجسد لإرادة الجنس.
ولا يأكلون الطعام صفة لجسد.
وفي الآية ردّ على قولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) .
(مَن نَشَاء) : يعني المؤمنين.
(ما أرسلنا ... ) . الأنبياء: 25، الآية رد على المشركين.
والمعنى أنَّ كلَّ رسول إنما أتى بلا إله إلا الله، فكلمتهم واحدة، وفيها تصديق للحديث: "الأنبياء أولادُ عَلاّت أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة".
(متَى هذا الوَعدُ إن كنْتُم صادِقين) :
مرادهم القيامة أو نزول العذاب بهم.
(مَنْ فَعلَ هَذَا) :
هذا من قول قوم إبراهيم، وقبله محذوف تقديره: فرجعوا من عيدهم فرأوُا الأصنام مكسورة فقالوا: مَنْ فعل هذا.
(ما هؤلاء يَنْطِقُون) :
لما رجعوا إلى أنفسهم بالفكرة والنظر، قالوا لإبراهيم: لقد علمتَ عدم نُطْقهم، فكيف تأمرنا بسؤالهم، فقد اعترفوا بأنهم لا ينطقون، وهم مع ذلك يعبدونهم، فهذا غاية الضلال في فعلهم، وغايةُ المعاندة والمكابرة في جِدَالهم.
(مَسَّنِيَ الضّر) :
هذا من كلام في الله أيوب حين سلط الله عليه البلاء، فخاف على ذهاب قَلْبِه، إذ هو موضع المعرفة.
فإن قلت: قد وصفه اللهُ بالصبر في قوله تعالى: (إنا وجَدْنَاهُ صابِراً) ، وقَرَنه بنون العظمة فما بال قوله: (مَسَّنِيَ الضرُّ) ؟
فالجواب أن قوله: (مَسَّنِيَ) ليس تصريحا بالدعاء، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان في ذلك من حسن التلطّف مما ليس في التصريح بالطلب.(2/372)
وقيل غير هذا من الجواب أعرضنا عنه لطوله.
وفي الآية إشارة إلى الرجوع إلى الله في رَفْعِ المحن والشدائد، ولذا طلب
موسى لغيره (جَذْوةً لعلهم يصطلون) ، فأوصله الله بالوادي القدس، وطلب الخَضر لغيره فأوصله الله لعَيْن الحياة، فلا تنس أيها الناظر في هذا الكتاب الدعاء لموصّله إليك من غير كلفة، ولك مثله، كما ورد في الحديث، وأسأله سبحانه أن يفرّج عنّا كربَ الآخرة، إذ لا يفرجها غيره سبحانه، وتأمل إلى نداء أيوب ربَّه بما يوافق حاله ويقتضيه مقامه وهو الرحمة، فاستجاب له ورحمه.
روي أن الله أنبع له عينا من ماء، وأمره بالشرب منها، فبرئ باطنه
واغتسل منها فبرئ ظاهِره، ورُدَّ إلى أكمل جماله، وأتي بأحسن الثياب.
وكانت امرأته غائبة عنه في بعض شأنها، فلم تره في موضعه الذي تركته فيه.
فجزعت وظنت أنه نقل منه، وجعلت تتولّه، فقال لها: ما شأنك أيتها المرأة
فهابته لحسْن هيئته وجمال منظره، وقالت: فقدتُ مريضاً كان لي هنا، ومعالِم المكان قد تغيرت، وتأملت إلى مقاله فعرفته، وقالت: أنت أيوب! قال: نعم، واعتنقها وبكى، ولم يفارقها حتى أراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه بعدما فقده.
وروي أن امرأته ولدت بعْد ستة وعشرين ابنا، وإلى هذه الإشارة بقوله
تعالى: (وآتيْنَا أهْلَه ومثْلَهمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) .
وإنما وصف الرحمة بالعِنْدية في هذه الآية لأنه بالغ في التضرع والدعاء، فقابله سبحانه بالمبالغة، لأن لفظ " عندنا " حيث جاء يدل على أنه سبحانه يتولَّى ذلك من غير واسطة.
ولما بدأ القصة في (ص) بقوله تعالى: (واذكر عَبْدَنا) ، ختم
بقوله: (مِنَّا) ، ليكون آخر الآية مطابقاً لأول الآية.
(ما همْ بِسُكَارَى) :
نَفْيٌ لحقيقة السكر، وقرئ سَكْرى، والمعنى متفق.(2/373)
(مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) .
نزلت - في قوم من الأعراب كان أحدهم إذا أسلم فاتفّق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن، وإذا اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتد عن الإسلام، فالحرف هنا كناية عن القلق والاضطراب.
وأصله من الانحراف عن الشيء، أو من الحرف بمعنى الطرف.
أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه.
(ما لا يَضرّه) :
يعني الأصنام، و (يَدْعو) بمعنى يعبد في الموضعين.
فإن قلت: قد وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضرها
أقرب من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟
والجواب أن الضرّ المنفي أوّلاً يراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل
شيئاً.
والضر الثاني يراد به ما كان يكون بسببها من العذاب وغيره.
فإن قلت: ما بال اللام دخلت على (مَنْ) في قوله: (لمن ضَرّه) ، وهي
في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول؟
وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه:
أحدها أن اللام مقدمة على موضعها، كأن الأصل أن يقول: يدْعو لَمَنْ ضَرّه أقرب من نَفْعه، فموضعها الدخول على المبتدأ.
وثانيها أنَّ (يدعو) هنا كرر تأكيداً ليدعو الأول، وتم الكلام، ثم ابتدأ
قوله: لمن مبتدأ وخبره لبئس المولى.
وثالثها أنَّ معنى يدعو: يقول يوم القيامة إذا رأى مضرَّة الأصنام، فدخلت
اللام على مبتدأ في أول الكلام.
(مَا يَغِيظ) :
يعني إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب به ما يغيظه من الأمر، أو ليس يذهب،(2/374)
(مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ) :
دخل في هذا مَنْ في السموات من الملائكة ومَنْ في الأرض من الملائكة والجنّ، ولم يدخل الناس في ذلك، لأنه ذكرهم في آخرها على وجه التحديد.
وليس المراد بالسجود في هذه الآية السجود المعروف، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكِر بعدهما، وإنما المراد به الانقياد.
ثم إن الانقياد يكون على وجهين:
أحدهما: الانقياد لطاعة الله طَوْعاً، والآخر الانقياد لما يُجرِي الله على المخلوقات من أفعاله وتدبيره شاءوا أو أبَوا.
(مَنْ يهنِ الله فما له مِنْ مكرِم) ، لأنه المعز المذِلّ الذي يفعل
الأشياءَ لغير غرض، فلو اجتمع الثّقَلانِ على رَفْع عبدٍ أراد الله وَضْعه لم
يقدروا، وبالعكس، والعيان يشهد لذلك.
(مكان البَيتِ) : موضعه، وذلك أنَّ الله دَرَس البيتَ الحرام
في الطوفان، فدل الله إبراهيم على مكانه، وأمره ببنائه، كما قدمنا.
(مَنَافِعَ لهم) : التجارة.
وقيل أعمال الحج وثوابه، واللفظ أعمّ من ذلك.
(ما يُتْلَى عَلَيْكمْ) :
يعني ما حرّمه في غير هذا الموضع، كالميتة.
(مَنَافِع) :
من قال إن شعائر الله هي الهدايا، فالمنافع بها
شرب لبنها، وركوبها لمن اضطر إليها، والأجل المسمى نَحْرُها، ومَنْ قال إن
شعائر الله مواضع الحج فالمنافع التجارة فيها أو الأجر، والأجل المسمَّى الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة.
(مَحِلّها إلى البيت العَتِيق) :
من قال إن الشعائر الهدايا فمحلّها موضع نحرها وهو منى، ومكة، وخص البيت بالذكر، لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهَدْي، و (ثمَّ) على هذا القول ليست للترتيب في الزمان، لأن محلها قبل نحْرها، وإنما هي لترتيب الجمل.(2/375)
ومن قال إن الشعائر مواضع الحج فمحلّها مأخوذ من إحلال المحْرِم، أي
آخر ذلك كله الطواف بالبيت، يعني طواف الإفاضة، إذ به يحِلّ الحرم من
إحرامه.
(مَنْسَكًا) ، أي موضعاً للعبادة.
ويحتمل أن يكون اسم مصدر، بمعنى عبادة.
والمراد بذلك الذبائح، لقوله تعالى: (ليَذْكُروا اسْمَ اللهِ على ما رزَقَهمْ مِنْ بهيمةِ الأنْعَام) ، بخلاف ما يفعل الكفار من الذبائح تقرباً إلى الأصنام.
(مَنْ يَنْصُرُه) : الضمير عائد على الله.
والمعنى إنَّ اللهَ ينصر من ينصر دينَه وأولياءه، وهو وعْدٌ تضمَّن الحض على القتال.
(مَشِيد) : أي مبنيّ بالشِّيد وهو الجص.
وقيل المشيد المرفوع البنيان، وكان هذا القصر بقيةً من بقايا ثمود.
(مَكنَّاهم في الأرض) ، المراد بهم أمةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، مكنَهم اللَه في أرضه.
وقيل الصحابة. وقيل الخلفاء الأربعة، لأنهم الذين مكنوا في الأرض
بالخلافة، وفعلوا ما وصفهم الله به في الآية.
(مَنْ عاقَب بمثْلِ ما عُوقِبَ به) : قد قدمنا في آية النحل: أن هذا من معنى التجوّز، ولكن وعد في هذه الآية بالنصر لمن بغي عليه.
فإن قلت: أي مناسبة لختم هذه الآية بالعفو والمغفرة؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن في ذكر هذين الوصفين إشعاراً بأن العفو أفضل من المعاقبة.
كما قدمنا، فهو حضّ عليه.
والثاني: أن في ذكرهما إعلاماً بعَفْوٍ عن المعاقب حين عاقب، ولم يأخذ
بالعفو الذي هو أولى.(2/376)
(مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) :
يعني علماً ضرورياً، فنفى أولاً البرهان النظري، وهو المراد بالسلطان، ثم العلم الضروري، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظريّ معاً.
(مَوْلاَكم) ، أي وليُّكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك.
(مَكِين) : متمكّن، والمراد به رحم المرأة.
(ما كنَّا عن الخَلْقِ غافِلين) :
يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين، أو المصدر.
(ماءً بقَدَرٍ) : يعني المطر الذي ينزل من السماء، فتكون
منه العيون والأنهار.
وقيل يعني أنهاراً، وهي النيل والفرات ودجْلَة وسيْحَان.
ولا دليل على هذا التخصيص.
ومعنى بقَدَر: بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص عنه.
(ما هذا إلا بَشَرٌ مِثْلكم) المؤمنون:
هذا الكلام من قوم نوح لما قال لهم: إني رسول الله إليكم - استبعدوا أن تكون النبوءة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحَجَر.
(مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) .
أي بمثل ما دعَوْتم إليه من عبادة الله، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة بينه وبين إدريس عليهما السلام.
(ما اسْتَكَانوا لرَبِّهم وما يَتَضرَّعون) :
قال بعض النحاة: استكان مشتق من السكون ووَزْنه افتعلوا مطّت فتحة الكاف فحدث عن مطها ألف، وذلك كالإشباع.
وقيل إنه من كان يكون فوزْنُه استفعلوا.
ومعنى الآية نفي التضرّع والتذلل.
فإن قلت: هَلاَّ قال: فما استكانوا وما تضرعوا، أو ما يستكينون وما
يتضرعون، باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟(2/377)
فالجواب أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم، وما يتضرعون حتى يفتح
عليهم بابَ عذاب شديد، فَنْفى الاستكانة فيما مضى ونفي التضرع في الحال
والاستقبال.
(ما تَشْكرون) :
ما زائدة، وقليلاً: صفة لمصدر محذوف، تقديره شكراً قليلاً تشكرون، وذكر السمع والأبصار والأفئدة وهي القلوب، لعظيم المنافع التي فيها، فيجب شكر خالقها، ومِنْ شُكره توحيدُه واتباعُ رسوله عليه السلام، ففي ذكرها تعديد نعمه.
(ما قَال الأوَّلون) :
أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة، ثم فَسّر قولهم بإنكارهم للبعث بقولهم: (لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا) .
(مَنْ فيها) :
الضمير يعود على الأرض المتقدمة الذِّكر، وأمر الله في هذه الآية رسولَه أن يوقفهم على أمورٍ لا يمكنهم إلا الإقرار بها، وإذا أقَرّوا بها لزمهم توحيدُ خالقها والإيمان بالدار الآخرة.
(مَلَكوتُ) :
مصدر في بنائه مبالغة، وقد قدمنا أنه الملك بلسان القبط.
(ما مَلَكَتْ أيْمانُهنَ) :
دخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات.
وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: مَنْعُهم لرؤية سيدتهم، وهو قول
الشافعي.
والجَوَاز، وهو قول ابن عباس وعائشة.
والجواز بشرط أن يكون العبْد وَغْداً، وهو مذهب مالك.
(مثَلاً مِنَ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم) :
يعني ضرب لكم الأمثال بمَنْ كان قبلكم في تحريم الزنى، لأنه حرام في كل مِلّة، أو في براءة عائشة كما برّأ يوسف ومريم.
(مَثَل نُورِه) :
الضمير عائد على نور مولانا جلَّ جلاله.(2/378)
والنور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار، ومجازاً على المعاني التي
تُدرك بالقلوب، والله ليس كمثله شيء.
وقيل الضمير عائد على المؤمن.
وقيل على القرآن.
وهذه الأقوال كلها ضعيفة، لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير.
فإن قلت: كيف يصح أن يُقال (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فأخبر أنه هو
النور، ثم أضاف النورَ إليه في قوله: (مَثَلُ نوره) ، والمضاف غير المضاف إليه؟
فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه: أي الله مُنوِّر السماوات
والأرض.
أو كما تقول: زيد كريم، ثم تقول يعيش الناس بكرمه، فإن كان
معنى نور السماوات والأرض النور المدرك بالأبصار فمعناه أن الله خلق النورَ
فيهما من الشمس والقمر والنجوم.
أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى
الوجود، فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء.
ومن هذا المعنى قرأ علي بن أبي طالب "نَوَّرَ السماوات والأرض" - بفتح النون والواو والراء مع تشديد الواو، أي جعل فيهما النور.
وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب، فمعنى (نور السماوات
والأرض) : أي جاعل النورِ في قلوب أهل السماوات والأرض، ولذلك قال ابن عباس: معناه هادِي أهْلِ السماوات والأرض.
(مَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَه) الآية.
قال ابن عباس: معناه منِ يطع الله في فرائضه، ورسولَه في سُننه، ويخشى الله فيما مضى من ذنوبه، ويتّقِيه فيما يستقبل.
وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه الآية، وسمعها
بعض بَطَارِقة الروم فأسلم، وقال: إنها جمعَتْ كل ما في التوراة والإنجيل.
(ما مَلَكتُم مَفَاتِحه) :
يعني أن الله أباح للوكلاء والأجراء والعَبيد الذين يمسكون خزائن الأموال.
وقيل المراد ما ملك الإنسان من خَزائن نفسِه، وهذا ضعيف.(2/379)
(ما أنْتم عَلَيْه) :
هذا خطاب لجميع المنافقين خاصة، وفيه معنى الوعيد والتهديد لدخول (قد) عليه.
وقيل معناها التقليل على وجه التهكم.
(مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) :
هذا من كلام قريش طعناً على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قيل لنوح، فرد الله عليهم بقوله: (وما أَرْسلْنا قَبْلَك مِنَ المرسلين) .
وإقرارهم برسالته
بلسانهم دون قلوبهم على وجه التهكم، كقول فرعون: (إن رَسُولَكم الَّذِي
أرْسِلَ إليكم لمجنون) .
أو يعنون الرسول بزَعْمِه.
(مَكَانا ضيِّقًا) :
يضيّق عليهم زيادة في عقابهم، ولهذا كان ضرس الكافر أو نابه مثل أحُد، فانظر كيف يكون حال من ضيّق عليه، وعظم جرمه! نسأل الله العافية.
(مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) .
يعني نعمك التي أنعمت عليهم كانت سببا لنسيانهم لذكرك وعبادتك.
والقائلُ لذلك هم المعبودون، قالوا على وجه التبرّي
ممن عبدهم، كقولهم: أنْتَ وليّنا.
والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ، وإقامة الحجة عليهم.
(مَنْ يَظْلِمْ منكم) :
الخطاب للكفار. وقيل للمؤمنين. وقيل على العموم.
(ما عَمِلُوا مِنْ عَمَل) :
الخطاب للمجرمين، يعني أن الله قصد إلى أعمالهم التي عملوها من إطعام مسكين أو صِلَة رَحِم أو غير ذلك فنثرها ولم يقبلها، فلفظُ القدوم في الآية مجاز.
وقيل هو قدوم الملائكة، أسنده إلى نفسه، لأنه عن أمره.
(مَحْجوراً) :
قد قدمنا أن معناه حراماً محرماً، يعني(2/380)
الملائكة يقولون للمجرمين: لا بشْرى لكم، وإنما هو حراماً محرماً عليكم، وإن كان الضمير للمجرمين فالمعنى أنهم يقولون حِجْراً بمعنى عوذاً، لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة إذا رأت ما تكره.
وانتصابه بفعل متروك ظاهرهُ، نحو: معاذ الله.
(مَقِيلاً) :
هو " مفْعلاً "، من النوم في القائلة، وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة.
وقيل إنَّ حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
(مع الرسول سَبِيلاً) :
يحتمل أن يكون نبينا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أو اسم جنس على العموم.
(مَهْجُوراً) :
من الهجْر، بمعنى البعد والتَّرْك، وقيل: من الهُجْر - بضم الهاء، أي قالوا فيه الهُجْر حين قالوا إنه شاعر وساحر، والأول أظهر.
(مَدَّ الظِّلَّ) :
قيل مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لأن الظل حينئذ على الأرض كلها، واعترضه ابنُ عطية بأن ذلك الوقت من الليل ولا يُقال ظل بالليل.
واختار أن مَدّ الظل ما بين أول الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير.
وقيل مدّ الظل، أي جعله يمتدّ وينبسط.
(مَرَجَ البَحْرَينِ) :
اضطرب الناس في هذه الآية، لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عَذْب، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح، فقال ابن عباس: أراد بالبحر الملح الأجَاج بح الأرض، وبالبحر العذب: الفرات.
وقيل بحر السحاب، وقيل البحر المالح المعروف، والبحر العذب مياه الأرض من الأنهار والعيون، ومعنى الفرات البالغ العذوبة، حتى يقرب إلى الحلاوة.
والأجاج نقيضه.(2/381)
واختلف في معنى مرجِهما، فقيل جعلهما متجاورين متلاصقين.
وقيل: سال أحدهما في الآخر.
وأما قوله تعالى: (وخلق الجانَّ مِنْ مَارجٍ مِن نار) .
فمعناه أنه خلق إبليس من اللهب المضطرب من النار.
(ما الرَّحْمَنُ) :
لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرَتْه قريش، وقالوا: لا نعرف الرحمن.
وكان مسَيْلمة الكذَّاب قد تسمى بالرحمن، فقالوا على
وجه المغالطة: إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة.
(مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يلْقَ أثَاماً) :
أي عقاباً، وقيل الأثام الإثم، فمعناهُ يلْقَ جزاء أثام.
وقيل الأثام وادٍ في جهنم.
والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذُكر من الشرك باللهِ، وقَتْل النفس بغير حق، والزنى.
(من تاب) :
إن قلنا إن الآية في الكفار فلا إشكال فيها، لأن الكافر إذا أسلم صحَّت توبَتُهُ من الكفر والقَتْل والزنى.
وإن قلنا: إنها في المؤمنين فلا خلافَ أنَّ التوبةَ من الزنى تصح.
واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا.
(مَتَاباً) :
مقبولاً مرضيّاً عند الله، كما تقول: لقد قلت يا فلان قولاً، أي قولاً حسناً.
(مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِرَاما) :
اللغْوُ هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه، ومعنى مَرّوا كراماً: أعرضوا عنه واستحيوا، ولم يدخلوا مع أهله، تنزيهاً لأنفسهم عن ذلك.
(مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) :
يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يُبَالي الله بكم لولا عبادتكم له، فالدعاء بمعنى العبادة، وهذا
قريب من معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) .(2/382)
وقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) .
الثاني: أنَّ الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال، والمعنى لا يُبَالي الله بكم، ولكن
يرحمكم إذا استغَثْتم به ودعوتموه، ويكون على هذين القولين خطاباً لجميع الناس من المؤمنين والكافرين، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه.
أو خطاباً للمؤمنين خاصة، لأنهم هم الذين يعبدون الله ويدعونه، ولكن يضعف هذا بقوله: (فقد كذَّبْتم) .
الثالث: أنه خطاب للكفار خاصة.
والمعنى على هذا: ما يَعْبَأ بكم رَبي لولا أنه يدعوكم إلى دِينه، والدعاء على هذا - بمعنى الأمر بالدخول في الدين.
وهو مصدر مضاف إلى الفاعل.
(مَعَكمْ) :
خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما، أو على جعل الاثنين جماعة.
(مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) :
إنما سألهم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مع علمه أنهم يعبدون الأصنام ليبَيِّن لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء، ويُقيم عليهم الحجة.
فإن قلت: لم صرّحوا بقولهم نعبد مع أن السؤال يُغني عن التصريح بذلك.
وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) ؟
فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام.
ثم زادوا قولهم: (فنظلّ لها عَاكِفين) - مبالغة في ذلك.
(مَنْ أتى اللهَ بقَلْبٍ سَلِيم) .
أي من الشرك والمعاصي.
وقيل الذي يلقى به ربه وليس في قلبه شيء غيره.
وقيل بقلبْ لديغ من خشيته، والسليمُ اللديغ لغة.
وقال الزمخشري: هذا من بدع التفاسير، وهذا الاستثناء(2/383)
يحتمل أن يكون متصلاً فيكون من أتى الله مفعولاً بقوله لا ينفع.
والمعنى على هذا: المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله، وإن البنين لا ينفعون إلا مَنْ علمهم الدين، وأوصاهم بالحق.
ويحتمل أيضاً أن يكون متصلاً ويكون قوله: (من أتى الله) بدلاً من قوله: (مالٌ وبنون) ، على حذف مضاف تقديره إلا مال مَنْ أتى الله وبنوه.
ويحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى لكن.
(ما أضَلَّنَا إلاَّ المجرِمون) :
يعنون كبراءهم وأهل الحَزْم والجرْأة منهم.
(ما أنا بِطَارِدِ المؤمنين) .
لما طلب قوم نوح منه أن يطرد الأراذل في زَعْمهم أعرض عنهم، وجاوبهم بهذا، وكذلك قريش طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد الضعفاء من مجالسته كبلال، وعمَّار، وصهيب.
(مَرْجومين) :
إما بالحجارة، أو بالقول والشتم.
والأول أظهر، لأنه صح عنهم أنهم كانوا يرجونه حتى أن صبياً كان على عاتق والده، فلما رأى نوحاً قال له ألقني، فأخذ حجراً من الأرض ورماه به، فحينئذٍ دعا عليهم، وقال: (رَبِّ لا تذَرْ على الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً) .
والرجم بمعنى القتل أيضاً.
(مَشْحون) : مملوء.
ومعناه أن الله تعالى لما أراد هلاك قوم نوح جاءه جبريل، وأمره أن يتَّخذ الفلك قال: كيف أصنعه، قال: انحت مائة ألف وأربعة وعشرين ألف لوح، فصار ينحتهم ويجدُ على كل لوح اسم نبيء.
فقال نوح: يا رب، ما هؤلاء، فقال الله له: انحتها وأظهر أسماءهم عليها.
فنحتها وظهر له على كل لوح اسم نبيء من آدم إلى نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمره أن يتَّخذ على عددهم دسُرًا، ويضم الألواح بعضها إلى بعض، ففعل، فكلما مرّ عليه مَلأ من قومه سخروا منه.
فلما ضم الألواح قالوا له: ما هذا، قال: سفينة النجاة.
فقالوا: وأين البحر، فقال: يأتي الله به (1) .
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.(2/384)
وفي الخبر أنه احتاج إلى أربعة ألواح، فقال له جبريل: انحتها فنحتها وظهر
على الأول أبو بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث عثمان، وعلى الرابع عليٌّ، فقال نوح: مَنْ هؤلاء، قال الله له: هم أصحاب حبيبي وصَفِييِّ وخيرتي من خلقي، ينصرونه ويبذلون مهجهم دون مهجته، فهم عندي بمنزلة الأنبياء (1) .
فلما ظهرت هذه الأسماء الكرام أنجى الله بها أصحاب نوح عليه السلام.
فالذي يحبهم ويصلي عليهم أولى بالنجاة من الآلام.
(مَصَانِع) :
جمع مصنع، وهو ما أتقن صنعه من المباني.
وقيل: مآخذ الماء.
(مَتَّعْنَاهمْ سنِين) :
يراد به عمر الدنيا.
والمعنى أن مدةَ إمهالهم لا تغْني مع نزول العذاب بعدها وإن طالت مدةَ سنين، لأن كل ما هو آت قريب.
(مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) .
الضمير للقرآن، وهذا ردّ على مَنْ قال إنه كهانة نزلت الشياطين به على
نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأنى لهم بالوصول إلى ذلك!.
ولفظة (ما ينبغي) تارة تستعمل بمعنى لا يمكن، وبمعنى لا يليق.
وإذا منعوا من استراق السمع عند مبعثه - صلى الله عليه وسلم - فكيف يستطيعون الكهانة.
(ما ظُلِموا) :
في هذا إشارة إلى ما قاله حسّان بن ثابت
وغيره من الشعراء في هَجْو الكفار بعد هجوهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فأباح الله لهم الانتصار، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - لحسان: كيف تهجو قريشاً وأنا منهم.
فقال: لأسلَّنَّكَ منهم سلَّ الشَّعْرةِ من العَجِين.
(مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) .
يعني في مكان النار ومَنْ حول مكانها، يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام.
قال الزمخشري: الظاهر أنه عام في كل مَنْ كان في تلك الأرض وفي ذلك
الوادي وما حوله من أرض الشام.
__________
(1) في غاية البعد، وهو كسابقه يفتقر إلى سند صحيح.(2/385)
(مَنْ ظَلَم) ، تقديره: لكن مَنْ ظلم مِنْ سائر الناس لا من
المرسلين.
وقيل متصل على القول بتجويز الذنوب على الأنبياء، وهذا بعيد، لأن
الصحيح عصْمتهم من الذنوب.
وأيضاً تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم.
(مَكثَ غَيْرَ بَعِيد) ، أي أقام زماناً قريباً.
ويجوز فتح الكاف وضمها، وبالفتح قرأ عاصم.
ويحتمل أن يكون مسنداً إلى سليمان أو إلى الهدْهد، وهو أظهر.
(ماذا يَرْجِعون) : من قوله: (يَرْجع بعضُهم إلى بَعْض الْقَولَ) .
(ما شَهدْنا مَهْلِكَ أهْله) :
الضمير راجع إلى قوم صالح، وذلك أنهم اجتمعوا وتشاوروا في قتله، فقالوا نسافر إلى أرضٍ، ثم نرجع خفية من الناس، ونقتل صالحاً، ثم نحلف مائة عند أقربائه إنا ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلاً.
(مكروا مَكْرا ومَكَرْنَا مَكْراً) :
هذا على جهة المشاكلة كما قدمنا مراراً، وذلك أنهم أرادوا المكر بصالح، والله أراد المكر بهم والنجاة بصالح.
روِي أنهم لما قتلوا الناقة قال لهم صالح: (تمتّعُوا في داركم ثلاثة أيام) ، وعلامةُ ذلك أن تكون وجوهكم في اليوم الأول حمر، وفي الثاني صفر، وفي الثالث سود، فلما رأوا هذه العلامة قالوا نقتل صالحاً كما قتلْنَا الناقة، فقصدوا إلى داره في اليوم الرابع، وكان يومٍ الأربعاء، فأخذ جبريل عليه السلام بسور البلد وزَلْزَلَه، وصاح عليهم صيْحة ماتوا منها بأجمعهم.
وقيل: إن الرهط الذين تقاسموا على قَتْله اختفوا ليلاً في دارٍ قريبة من داره(2/386)
ليخرجوا منها لقَتْله بالليل، فوقعت عليهم صخرة أهلكتهم، ثم هلك قومهم
بالصَيْحَة، ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض، ونجا صالح ومن آمن به.
فإن قلت: عذَّب الله من قتل الناقة ولم يعذب من قتل الحسين؟
فالجواب كانت الناقة سببَ الفتنة لقوم صالح، لأنهم طلبوها، وعادة الله
سبحانه هلاكهم من طلب آية ولم يؤمن العذاب.
والحسين وَلد مَنْ أرسل رحمة للعالمين، وفي ذلك الزمان كانت أبواب العذابِ مفتوحةً، وفي زمان الحسين مغلوقة، ألا ترى أن قوم صالح لم ينْفَعْهم الندم على قتلها، وهذه الأمّة مرحومة بمن هو رحمة للعالمين، اللهم كما أرسلته لنا رحمة، فرفعتَ به العذاب عن جميع الخلائق، لا تحرمنا منها، أقسمت عليك بجاهه عندك، فإنه قال: إذا سألتم اللَه فاسألوه بجاهي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون صلاة وسلاماً دائمين بدوامك باقيين ببقائك، لا منتهى لهما دون علمك، إنك على كل شيء قدير.
(مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) :
سبب نزول هذه الآية أنَّ قريشاً سألوه - صلى الله عليه وسلم - متى الساعة، فأخبره الله بعدم علمها، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ زعم أنَّ محمداً يعلم الغيب فقد أعظم الفِرْية على الله.
فإن قلت: قد أخبر بكثير من المغيّبات، فوقعت على حسب ما أخبر به.
وذلك معدود في معجزاته؟
والجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن ذلك بقوله، إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله، اقرؤوا إن شئتم: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) .
فإن قلت: قد ظهر من أخبار الكهّان والمنجمين ما وقع وصدقهم؟
والجواب أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف، أو عن وَهْم، لا عن علم،(2/387)
ولا يجب تصديقهم، لأن الآية نَفَتْ علمهم، وإنما يجب علينا تصديق الرسل، لأنه علم إلهي.
وقيل: إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة.
ولذلك قال: (وما يَشْعرونَ أيَّانَ ئبْعَثون) .
وقد قدمنا في النحل من هذا المعنى.
ورضي الله عن بعض العلماء لما دخل على بعض الملوك ووجده متحيّراً، فقال له: مالك، فقال له الأمير: رأيت البارحة ملك الموت في المنام، وسألته: كم بقي من عمري، فأشار لي بأصابعه الخمس، ولا أدري هل هي خمس ساعات أو أيام أو جمعات أو أشهر أو سنين، فقال له: إنما أشار لك بالخمس إلى الحديث في: "خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ: إنَّ الله عنده علم الساعة) .
فهدأ روعه.
وإذا كان ملك الموت الموكل بقبض الأرواح لا يدري عمر العبد حتى يؤمر
بقبض روحه، فما بالك بمن افترى على الله، ورحم الله القائل:
لعمرك ما تَدْرِي الضَّوَارِبِ بالحصا ... ولا زاجراتُ الطير ما اللَّهُ صانِع
فإن قلت: كيف قال: (إلا اللَّهُ) بالرفع على البدل، والبدل لا يصح إلا إذا
كان الاستثناء متصلاً، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها، والله تعالى ليس
ممّن في السماوات والأرض باتفاق، فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون: إنه فوق السماوات والأرض، والقائلين بنفي الجهة يقولون: إنه تعالى لا فيهما ولا داخلا فيهما ولا خارجاً عنهما، فهو على هذا استثناء منقطع، فكان يجب أن يكون منصوباً؟
فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل، وإن كان منقطعاً.
كقولهم: ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع، والحمار ليس من الأحدين، وهذا
ضعيف، لأن القرآن نزل بلغة أهل الحجاز لا بلغة بني تميم.
والثاني: أن الله تعالى في السماوات والأرض بعلمه.
، كما قال تعالى: (وهو معكم أيْنَ ما كنتم) ، فجاء البدل على هذا المعنى للظرفية(2/388)
المجازية، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند
المحققين.
والثالث: أن قوله (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) يراد به كلّ موجود، فكأنه قال: مَنْ في الوجود، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً، فيصحّ الرّفْعُ على البدل، وإنما قالَ (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جَرْياً على منهاج كلام العرب، فهو لفط خاص يراد به ما هو أعمّ منه.
والرابع: أن يكون الاستثناء متَّصلاً على أن يتأوَّل من في السماوات في حق
اللَه كما يتأول قوله: (أَأمِنْتم من في السماء) .
وحديث السوء أو شبه ذلك.
(مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، أي إنما عليَّ الإنذاز والتبليغ.
والمعنى إن زللتم عن طريق الرشاد، وأضلَّكم الله عن رؤية
السداد فلا يضرني ذلك (ومَنْ يُضلِلِ اللَّهُ فما له مِنْ هَاد) .
وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الله هو المضلُّ والهادي.
(مَنْ جاءَ بالحسنَةِ فله خَيْر منها) .
أي عشر إلى سبعمائة، أو من قال: لا إله إلا الله فَلَة الجنّة، بدليل: (ومن جاء بالسيئة فكبَّتْ وجوهُهم في النار) .
والسيئة هنا الكفر والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها.
(مَراضِع) :
جمع - مُرضع، وهي المرأة التي ترضع، أو جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد، وهو موضع الرضاع، يعني الثَّدْي.
(ماءَ مَدْيَن) ، أى بئره، وكانت مدينة شعيب عليه السلام، وذلك حين قدم موسى من مصر، وسقى غَنَم شُعيب، فرأى نفسه غريباً
فقيرًا جائعاً تعبانَ، فقال: أنا الغريب، أنا الفقير، أنا الضعيف، - أنا الحقير، فنودي في سره: يا موسى المريض الذي ليس له مثلي طبيب، والضعيف الذي(2/389)
ليس له مثلي رقيب، والفقير الذي ليس له مثلي نصيب، والغريب الذي ليس له مثلي حبيب.
كان لموسى سبعة أسفار، فوجد فيها سبعة أشياء: سفر الخوف:
قوله لأمه: (فإذا خِفتِ عليه فألْقِيه في اليَمّ) ، فوجد:
(وأَلْقيْت عليكَ محبةً مِنِّي) .
وسفر الهروب، فوجد الأنس: (ولما وردَ ماءَ مَدْين) .
وسفر الطلب لما سار بأهله فوجد الرسالة: (يا موسى إني أنا الله) .
والسفر ببني إسرائيل لما قال: (أن أسْرِ بعبادِي) .
فوجد فيه النجاة: (فأنجينا موسى) .
وسفر النصَب: (لقد لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبا) ، فوجد الخضر.
وسفر المقاتلة لا قالوا له: (اذهَبْ أنْتَ وربُّكَ) .
فوجد فيه الحجَر: (أنِ اضْرِبْ بعَصَاك الحجَر) .
وسفر الطور: (ولما جاء موسَى لمِيقَاتِنا) ، فوجد فيه الكلام: (وكلَّمه
ربُّه) .
فإن قلت: بأي شيء عرف موسى الكلام (1) ؟
فالجواب: لما علم أن كلام المخلوقين ينقطع وهو بسماع الآذان ومن جانب
واحد، ووجد له هيبة ولذة، ولما سمعه غير منقطع، ومن غير جارحة، ومن
جميع الجوانب، علم أنه كلام خالقه، ولذلك لما قال له الشيطان: مع مَن تتكلم، فقال له: مع الله.
قال: ومن أين علمت، قال: بهذه الأشياء، فلم يزل في قلب
موسى من هذا حتى سأله الرؤية، فلم يعْطَها، لأنها لم تكن وقتها.
وكيف يُرى الباقي بالفاني، وكيف يَرى الرحمن من رأى الشيطان، ولما ذهب إلى الجبل جعل هارون واسطة بينه وبين قومه، فقال له: انظر إلى الجبل، فلما تجلَّى الربّ إلى الجبل صار سبعين ألف قطعة، وخرج من كل قطعة عارف يقول: أرني أنظر إليك، فقال الله لموسى: أتظنّ أنك مشتاق إليّ، انظر إلى هؤلاء تطلب مطلبك، فخر موسى صعِقاً من جزَعهم (2) .
وأيضاً لو أعطي الرؤية بسؤاله كان مكافأةَ لسؤاله، كالمائدة لعيسى، وإحياء الطيور لإبراهيم، مكافأة لسؤالهما، ولم تكن الرؤية مكافأة لشيء، لأنها ليس مثلها شيء.
وأيضاً لما طلب رؤيةَ الحبيب قال
__________
(1) قد يجاب عن ذلك بالإلهام الذي يقذفه الله في قلبه، وأمه عليه السلام ألقته في البحر بمجرد الإلهام، فكيف يشتبه عليه كلام الملك العلام؟؟!!!
(2) كلام يفتقر إلى دليل، ورائحة الإسرائيليات المنكرة تفوح منه.(2/390)
تعالى: (وما كنْتَ بِجَانبِ الطّورِ إذْ نادَيْنَا) .
ولم يكن وجد رؤيته فكيف يعطيه رؤيته، ولا وجد له لذة، كأنه قال له: لن تراني بعين الحبيب وأمَّتِه حتى تكون معهم، ثم تراني، وأيضاً قد أعطاه الله رؤية القلب من غير سؤال، فلا يجوز في الحكمة أن يعطيه رؤيةَ البصر بالسؤال، وكأنَّ رؤية القلب أعظم وأفضل من رؤية البصر، لأنَّ رؤيةَ البصر مؤقتة، ورؤية القلب دائمة.
قال المخزومي: إنما لم يعطه الرؤية، لأنه قال في أزله: (لا تدْرِكه الأبصار) .
يعني في الدنيا، فمنعه الرؤية حتى يتحقَّق ما قال، كما أنَّ آدم
عليه السلام لما قال الله: (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) - قضي عليه بالمعصية والخروج من الجنة، حتى يتحقق قوله.
وأيضا لما كان نوره يغلب الأبصار حفظ بَصَره، وكيف يستطيع النور الضعيف الثبات مع القوي، ونحن نشاهد بعض البصر يذهب بنورِ البرق.
فإن قلت: لِمَ لَمْ تَصِرْ قلوب العارفين دَكًّا كالجبل وهو يتجلَّى لهم في كل
ساعة؟
والجواب: لما تعوّدت القلوب جمالَه ونورَه مّنذ خلقها فاطمأنّت وسكنت.
ولو كانت ساعة لدكَّت القلوب كالجبل، فمن ادَّعَى رؤيته بالقلب يصدق قوله بخلاف البصر.
(مَن استَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين) :
هذا من قول صفورا لأبيها، فقال لها: ما رأيتِ من قوّته وأمانته، فقالت: رفع الحجر الذي على رأس البئر وحده، ولا يرفعه إلا أربعون رجلاً، وكنت أمشي أمامه، فقال: تأخَرِي حتى لا يقع بصري على أعضائك، وجعلت هذه المخاطبة رغبة فيه، لكنها كتمت محبته كزليْخا، قالت: (عسى أنْ ينفَعنا أو نتخذه وَلدا) .
وكذلك خديجة بنت خويلد جعلت خدمة سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - سبباً للاتصال به، وكذلك أنت يا محمدي، جعل الله لك امتثالَ الأوامر واجتناب النواهي سبباً لإقباله عليك ومواعدتك الجنة إكراماً لك ومحبة فيك، فلما سمع شعيب مقالة ابنته ركب فيه وقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)(2/391)
فقال موسى: ليس لي قدرة على المهر.
قال شعيب: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ، فرضي موسى.
وجمع شعيب أهْل بلده وعقد النكاح، وسلمها إليه.
قال السدِّي: أتى ملك إلى شعيب بعصا موسى، وكانت من سِدْرةِ المنتهى.
نزلنها آدم من الجنة.
وقيل مِنْ آس فورثها شيث، ثم إدريس، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم إبراهيم، ثم يعقوب، ثم الأسباط، ثم إلى شعيب.
فقال لموسى: ادخل البيت، وخذ عصا من بين العصيّ، واذهب نحو الغنم، فدخل موسى وخرج بعصاه، فرآه شعيب، وقال هذه أمانة، ردّها إلى موضعها، وخذ الأخرى، فرجع ووضعها، وأراد أخْذَ الأخرى.
فدخلت هذه العصا في يده، وكلما جهد أن يأخذ الأخرى لم يقدر، فأخذ تلك العصا، وذهب نحو الغنم، فقال شعيب: قد ذهب بأمانة الغير، فألحَقه واستردها منه، فأدرك موسى وقال: أعطني العصا، فأبى موسى من إعطائه، فتنازعا واتفقا على أن يحكم بينهما مَنْ لقيهما أولاً، فلقيهما ملك على صورة آدمي، فقال: احكم بيننا.
فقال: يا موسى، ضع العصا على الأرض، فإن قدرْتَ أن ترفعها فهي لك، وإن قدر على رَفْعها هو فهي له، فوضع العصا على الأرض، فجهد شعيب على رَفْعها فلم يقدر ألبتَّة، فتناولها موسى بيده ورفعها من وقته، وظهرت منها معجزات كثيرة قدمناها (1) .
وكذلك بالخاتم الذي جعله الله العهْد بينه وبين خَلْقه.
وخمس أوراق من التين التي كانت تستره: الواحدة أكلتها الظِّباء فصارت
مِسْكا، والثانية أكلتها الحوت فصارت في بطنها عنبراً، والثالثة أكلتها النحل
فصارت عسلاً.
والرابعة الدود فصارت في بطنها إبريسماً.
والخامسة جميع الأشجار التي في العالم.
والمقام جعله الله آية بيّنة ومصلّى للمسلمين.
فتأمل يا محمدّي من اتَّصف بالأمانة من عند الله، وعند خلقه، فإن اتصفتَ
بها كم لك من تشريف! ألا تراه يقول: (ألست بربكم) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) .
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.(2/392)
كأنه يقول: عبدي ليس لي حاجةٌ لطاعتك وخِدْمتك، ولكن أمرتك بالطاعة والعبادة، وحملت عليك البلاءَ والمشقة، وطلبت منك النفس والمال والطاعة في جميع الأحوال، لتعلم أنَّ مرادي منك الوصال، وإنما جعلت الأعمال لقطع تهمة الكفار وطعْنهم.
فإن قلت: يشتري أنفسهم وهي له، ولم يقل قلوبهم؟
والجواب إنما قال ذلك على طريق الانبساط، كسيّد يقول لعبده: أقرضني
كذا وكذا، واشتر منّي كذا، والمال والنفس له، وإنما أراد أن يريه كمال لطافته بتمام محبته، وأيّ حاجة له في ثمن ببيعك، ولكن ليكون فخرك أكبر، وتعلم أنه يحبُّك ويرضاك، لأن السيد لا يشتري العبد إلا لمحبته فيه، ولا يرضاه عبداً لغيره، ولا يطلب حوائجه إلا منه، وقال أنفسهم، لأن أنفسهم معيوبة، والقلوب نقية، فاشتراء العيوب يدل على أنه لا يرده لعلمه بالعَيب، فاشتراؤه لك يا محمدي، دليل على أنه يريد إصلاح عَيْبك، ومَنْ كان قادراً على إصلاح عيْب السلعة لا يردها في الشاهد، (وَمَنْ أَوفَى بِعَهدِه من الله) .
فأوف بعهده، كما قال: (أَوْفوا بعَهْدِي أوفِ بِعَهدِكم) .
فلو أراد إبليس أنْ يغْوِيك ويدعو ما ليس فيك لم يقدر، لأن المشتري الأول هو اللَه، والثمن هو الجنّة، والدال على هذا البيع هو رسولنا وحبيبنا، ولذلك دخل الجنة ليلةَ المعراج ليصف لنا الثمن وكيفيته، فأبشروا يا أمة محمد، فأنتم خير أمة، سمّاكم الله أمّة الهداية والدعوة والفضيلة والخير، وسماكم بأسماء الخليل، وأعطاكم خِصَال الكليم، وأكرمكم بإكرام نبيكم الحبيب، قال تعالى في الخليل: (إنّ إبراهيم كان أُمَّةً) .
وقال: (كنتم خَيْرَ أمّة) .
وقال: (إن إبراهيم كان أمّةً قانِتا لله) .
ولكم: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) .
وقال للخليل: (حَنِيفاً) ، ولكم (حنَفَاء ويقِيموا الصلاة) .
وقال في إبراهيم: (شاكرا) . مسلماً. وفياً.
وفيكم: الصابرين. والمسلمين. والشاكرين. و (يوفون بالنَّذْر) .
وقال في إبراهيم: (صدّيقاً نبيًّا) .
وفيكم: (أولئك هم الصديقون) .
وقال في إبراهيم: رحيما،(2/393)
حليما، أوَّاهاً، منيباً.
وقال فيكم (رحماء بينهم) .
(إنه كان للأوَّابين غفوراً) . (منيبين)
وقال للكليم: إني اصطفَيْتكَ.
ولا تَخَفْ.
ولقد منَنَّا عليكَ مرةً أخرى.
ونجَّيْنَاهما وقومهما.
وكتبنا له في الألواح من كل شيء.
قد أوتيت سؤْلك يا موسى.
قد أجيبت دعوتكما.
وقرّبناه نجيًّا.
وقال لكم: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) .
لا تخف.
ولا تحزن.
ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا.
إني معكم.
لئن أقمتم الصلاة.
بل الله يمنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمان.
وننجِّي الذين اتقوا.
ثم أورثْنَا الكتاب الذين اصْطَفَيْنَا من عبادنا.
وآتاكم من كلِّ ما سألتموه.
وقال ربّكم ادْعوني أستَجِبْ لكم.
واسجدْ واقترب.
ما يكون من نَجْوَى ثلاثة إلا هو رابعهم.
وأما إكراام الحبيب فعشرة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) .
(وجئْنَا بكَ على هؤلاء شَهيدا) .
(أليس الله بكاف عَبْده) .
(ألَمْ نشْرح لكَ صَدْرك) .
(إنّ الله وملائكتَه يصلّون على النبي) .
(يومَ لا يخْزِي الله النبي والذين آمنوا معه) .
وقال لكم يا أمّته: (ما يفتح الله للناس مِنْ رَحْمةٍ) .
(إن الله يغفِر الذنوب جَميعاً) .
(وأتممْتُ عليكم نِعْمَتي) .
(وإنّ الله لَهادِ الذين آمنوا) .
(إن ينْصرْكم الله فلا غالِبَ لكم) .
(لتكونوا شهَدَاءَ على الناس) .
(وكفى الله المؤمنين القِتَال) ، (أفَمَنْ شرح الله صَدْره للإسلام) .
(هو الذي يصَلِّي عليكم ومَلاَئكته) .
(والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) .(2/394)
اللهم اغفر لنا ولا تؤاخذنا بجاه نبينا وشفيعنا - صلى الله عليه وسلم -.
(ما كنْتَ بجانبِ الغَرْبي) :
هذا خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به إقامة الحجة، لإخباره بحال موسى وهو لم يحضره.
والغربيّ: المكان الذي في غرب الطور، وهو الذي كلَّم الله فيه موسى، والأمر المقضيّ إليه هو النبوءة.
(ما كنْت من الشاهدين) :
يعني من الحاضرين هناك على
هذه الغيوب التي أخبرناك بها، ولكنها صارت إليك بوَحينا، فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك وامتثال أمرك، (ولكنا أنشأنا قرونا)
، بعد زمان موسى، فتطاول عليهم العمر، وطالت الفَتْرة.
فأرسلْناك على فترة من الرسل، فغلبت عقولهم، واستحكمت جهالتهم، فكفروا بك.
(مَقْبوحين) : مطرودين مبعدين.
وقيل قبحت وجوههم لسوادها وزردة أعينهم.
يقال قبح الله وجهه - بتشديد الباء وتخفيفها.
(مَنْ أحببت) :
الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وسبب نزولها إعراض عمِّه عن الإسلام لما قال له: يا عمّ، قل لا إله إلا الله.
كلمة أحاجّ لك بها عند الله.
فقال: أخاف أن تعيِّرني قريش، ومات على الكفر، فأنزل الله عليه: (إنك لا تهدي مَنْ أحبَبْت) .
ولفظ الآية مع ذلك على عمومه.
(مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) .
أمُّ القرى: مكة، لأنها أول ما خلق من الأرض، ولأن فيها بيت الله.
والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى ببعث محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمّها، فإن كفروا أهلكهم الله بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم.
(وما أوتيتمْ مِنْ شيء) :
تحقير للدنيا وتزهيد فيها، وأنها لا قيمة لها، وما عند الله خير وأبقى.(2/395)
(أَفَمَنْ وَعَدْنَاه وَعْداً حَسَناً) :
هذه الآية إيضاح لما قبلها
من البَوْنِ بين الدنيا والآخرة.
والمراد بمن وعدناه المؤمنون، وبمن متعناه الكافرون.
وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأبو جهل.
وقيل حمزة، وأبو جهل.
والعموم أحسن لفظاً.
(ماذا أَجَبْتئم المرْسَلِين) :
أي هل صدقتموهم أو كذبتموهم، فلا يدرون جواباً، لما يرون من الأهوال، ولا يسأل بعضهم بعضاً لتساويهم في الحيرة.
(ما يشاء ويختار) ، أي يخلق ما يشاء من الأمور على
الإطلاق، لأنه أعلم بمصالحها، لا يسأل عما يفعل.
وقيل سببها استغراب قريش لاختصاص نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوّة.
(ما كان لهم الخِيرَة) : (ما) نافية.
والمعنى ما كان للعباد اختيار، إنما الاختيار والإرادة للهِ وحده، فالوقفِ على قوله: ويختار.
وقيل: إن (ما) مفعول لـ (يختار) .
ومعنى (الخِيَرة) على هذا الخير والمصلحة.
وهذا يجري على قول المعتزلة، وذلك ضعيف لرفع (الخِيَرة) على أنها اسم كان، ولو كانت (ما) مفعولة لكان اسمها مضمراً يعود على (ما) وكانت.
(الخِيَرة) منصوبة على أنها خبر كان.
وقد اعتذر عن هذا مَنْ قال إن (ما) مفعولة بأنْ قال: تقدير الكلام يختار ما كان لهم (الخِيَرة) فيه، ثم حذف الجار والمجرور، وهذا ضعيف.
وقال ابن عطية: يتجه أن تكون (ما) مفعولة إذا قدرت كان تامة، ويوقف
على قوله. (ما كان) ، أي يختار كل كائن، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة، وهذا بعيد جدا.
(ما إنَّ مَفَاتِحَه) :
هي التي يفتح بها.
وقيل هي الخزائن.
والأول أظهر.
وكانت مفاتيح خزائنه حمل مائة بعير.
وفي رواية سبعين بعيراً (1) .
__________
(1) يحتاج إلى دليل.(2/396)
قال مجاهد: وكان وزن كل مفتاح درهما.
وفي رواية وزن نصف درهم.
ويفتح بكل مفتاح سبعون باباً.
فلما جمع المال ترك النوافلَ من العبادات، فأمر
الله تعالى موسى أن يطلب منه زكاةَ أمواله، فحسب مقدارَ زكاته فرآه كثيراً، فلم يؤدّه، وكان يركب عنده ألف غلام وألف جارية بسروج من ذهب، وثيابهم من ذهب (1) .
(مكانَه بالأمْسِ) :
تمنّى بنو إسرائيل مكانَ قارون لما رأوا من مركبه، وما أعطاه اللَّهُ من الزينة والحشم، فلما امتنع قارون من الزكاة
ألحَّ عليه موسى، فقال له: اجمع أهل مصر غداً، فإن غلبتني بالحجة أعطيتك
زكاة المال.
فدعا قارون امرأةً ذات حسن وجمال، وقال لها: إني أجمع بني
إسرائيل، فإن شهدت على موسى بالفسق، وقلتِ أنا حاملة منه أعطيتك ما
أغنيك، فقبلت.
ثم جمع قارون بني إسرائيل في داره، ودعا موسى، فقالت بنو إسرائيل: عِظْنَا موعظةً.
فوعظهم، وقال: من سرق مالاً قطِعت يده، ومن زنى بامرأة قتل.
فقال قارون: إن فعلتَ ما قلت فكيف الحكم عليك، فقال موسى:
إن فعلتُ وجب عليَّ الحكم.
فقال قارون: لي شاهد بأنك زنيت بهذه المرأة وهي حامل منك.
فأشار إليها وقامت، وأوقع الله الرعْبَ في قلبها، وحوَّل لسانها من
الكذب إلى الصدق، وقالت: إن موسى بريء مما يقوله قارون - وأقرَّتْ بقول قارون لها، وإني أخاف الله من ذلك، هو رسوله وكليمه.
فغضب موسى عليه وناجى واشتكى من قارون، فجاءه جبريل وقال: يا
موسى، إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: جعلت الأرض في أمرك فأي شيء تأمرها فهي مطيعة لك في إهلاك قارون.
فرجع موسى إليه وهو جالس على السرير متّكئاً على فراش من ديباج، فضرب موسى عصاه على الأرض، وقال لها: خذِيه، فأخذَتْه إلى ركبتيه، فتضرع إلى موسى فلم يلتفت إلى قوله، وهو يستغيث إليه مراراً، ويعرض عنه، فقال الله له: يا موسى، استغاث بك أربع مرات فلم تغثه، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي مرةً واحدة لأغَثْته، فحينئذ قام
__________
(1) لا يخفى ما فيه من بعد بعيد.(2/397)
الذين تَمَنَّوْا مكانه بالأمس يقولون: (ويكأن الله يبْسط الرزْقَ لمن يشاء) .
وخسف الله به وبداره الأرض، لأنه لو لم يخسف بداره
لقالت بنو إسرائيل: دعا عليه موسى ليأخذ ماله، فانظر هذه الرحمة الشاملة
حيث عاتب كليمَه على عدوه وقوله لو: لو استغاث بي لأغثته، وإن لم تعمل على هذا فاقرأ قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسْرَفوا على أنفسهم..) .
وإضافته إليك في قوله: (وإلهكم إله واحد) .
فما أشرفها من إضافة!
وما أحسنه من تشريف! ولذلك يقول تعالى: خلقت الأشياء كلَّها لك، وخلقتك من أجْلِي، فكلهم لك، وأنا لك، فإذا كنتَ لي فأيّ شيء يبقى لإبليس معك.
وسمّى العبد عبدا، لأنه محل العَصا، ومسلكه العيوب، ولما أضاف العبد إلى نفسه خاف أن يسلبه إبليس من الله عز وجل فقال: (وهو معكم) ، فأضافه إلى نفسه حتى لا يقدر إبليس أن يسلبه منه، وليس لك الفخر أيها العبد بنسبتك لسيدك، بل الفخر لك لأنه إلهك والإله يرزقك، وإن عملت عملاً قَبِله منك، وإن أذنبت ذنوبا غفرها لك، وأنت تشاهد العبد يسمِّي عَبْدَه باسم لا يقدر أحد أن يرفعه ما دام سيده حيًّا، وهو تعالى أضافك إليه شئت أو أبيت، ويكفيك من محبته لك ولطفه بك أنه قال: (أسرفُوا على أنفسهم) ، ولم يقل أسرفتم، لئلا يخجل العاصي، ويفتضح، وتستُّراً عليه حتى لا
يهتك ستره ما لم يشرك به، فإنْ رجع بعد الشرك قَبِله وأقبل عليه، ولذلك قال تعالى: (إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذنوبَ جميعاً) ، ومعاصيك أيها العبد بين
اثنين، في الله وفي الرسول، فأما التي في الرسول فقد شفع الله فيك، وقال له: (فاعْفُ عنهم واستَغْفِر لهم) .
والتي في الله يأمر الرسول أن يشفع فيك إلى الله.
وذنوبك أيضاً لا تخرج من اثنين: إما صغيرة فهي مغفورة باجتناب الكبائر، قال تعالى: (إن تجْتَنِبوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْن عنه نُكفّرْ عنكم سيًئَاتِكم) .
وإما كبيرة فقد ادَّخر لكَ الرسولُ الشفاعة فيها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ادخرْتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
قال الحسن البصري: كنتُ مارًّا بمكة فسمعتُ امرأةً تقول لزوجها: كل إساءةٍ(2/398)
فعلتها بي فلا بَأسَ عليك إذا لم تبدّل بي غيري ولم تشرك غيري معي.
فقلت: هذه مثل قوله تعالى: (إنَّ اللهَ لا يَغْفِر أن يشْرَك به) .
وسمع نصراني امرأة تقول لزوجها: أنا ومالي لك ما لم تشرك معي ضرة.
فقال: هذا مخلوق لا يرضى بشريك معه، فكيف بالخالق، فأسلم من الشرك.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي، كاد رجائي قبل المعصية يقارب رجائي
قبل الطاعة، لأنه بطاعة العبد يظهَر من الله العدل وهو الثواب، وبمعصيته يظهر منه الفضل وهو الرحمة.
وقال أيضاً: مثل المؤمن طاعة واحدة بعشرة أمثالها ومعصيته بين ثلاث: طاعة الندامة والخوف والرجاء، وكان من دعائه: إلهي، إنْ تعذِّبني يفرح إبليس ويحزن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن تعْفُ عني يفرح نَبييِّ ويحزن عدوِّي، وأنا أعلم أنك لا تريد شماتةَ العدوّ وحزْنَ الحبيب، وقد قلت: (أني أنا الغَفور الرَّحيم) .
فإن قلت: هل بين هذين الاسمين فرق، وهل الغفار والغافر بمعنى الغفور.
وَلِمَ لَمْ يَقُلْ في العذاب: أنا المعذّب، بل قال: (وأْنَّ عذَابي هو العذاب الأليم) ؟
فالجواب أن الغفور للعصاة يغفر لهم جمع معاصيهم، والرحيم للمطيعين يقبل
جميعَ طاعاتهم مع التقصير.
والغافر للذنب والغفّار مبالغة للذنوب الكثيرة.
قال تعالى: (وإني لغَفَّارٌ) ، والغفور لتعجيل المغفرة، قال تعالى: (إنه كان للأوَّابين غفورا) .
وبالجملة فله سبحانه مائة اسم، التسعة والتسعون أخبرك بها نبيك، فكلما ذكرته بها ذكرك بتسعة وتسعين رحمة من عنده، وإنما قال عذابي، لأن المغفرة صفة والعذاب فعل، والفعل يجوز أن يكون وألاَّ يكون، والصفة لا تجوز إلا أن تكون ألبتة.
(مَعَادٍ) :
المعاد: الموضع الذي يعاد إليه، يعني مكة.(2/399)
ونزلت الآية حين الهجرة، ففيها وَعْدٌ بالرجوع إلى مكة وفَتْحها، وفيها خاصية لمن أراد من المسافرين الرجوعَ إلى وطنه فليقرأها حين خروجه يعدْ إليه.
وقيل يعني الآخرة، ففيها الإعلام بالحشر.
وقيل يعني الجنة.
(مَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ) ، أي ما كنت
تطمع أن تنالَ النبوءة، ولا أن ينزل عليك الكتاب، ولكن الله رحمك بذلك، ورحم الناس بنبوءَتكَ.
والاستثناء بمعنى لكن هو منقطع.
ويحتمل أن يكون متصلاً، والمعنى ما أنزلنا عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لكَ أو للناس، ورحمة على هذا مفعول من أجله، أو حال.
وعلى الأول منصوب على الاستثناء.
(مَنْ كان يَرْجو لِقَاءَ اللهِ ... ) .، الآية، تسلية للمؤمنين، ووَعْد لهم بالخير في الآخرة، والرجاء هنا على بابه.
وقيل هو بمعنى الخوف.
(مَنْ جاهد فإنما يجَاهِد لنَفْسِه) ، أي منفعة جهاده إنما
هي لنفسه، فإن اللَهَ لا تنفعه طاعة العباد.
والمراد بالجهاد هنا إمّا جهاد النفس، وهو أعظم من جهاد العدو، لقول عمر رضي الله عنه: رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
(مَنْ يقول آمَنّا بالله) :
نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم، فإذا عذَّبهم الكفار رجعوا عن الإيمان، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا: إنا كنَّا معكم.
(مَوَدَّةَ بيْنِكم) :
بنصب مودة: على أنه مفعول من أجله، أو مفعول ثان لاتخذتم، ورفعها على أنه خبر ابتداء مضمر، أو خبر إن وتكون (ما) موصولة.
ونصب بينكم على الظرفية وخفضه بالإضافة.
(ما كانوا سابِقين) .
رأى لم يفوتوا مَنْ أرسلنا عليه حاصباً، إن أراد بالحاصب الريح، فيعود على قوم عاد، وإن أراد به الحجارة فيعود على قوم لوط، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر.(2/400)
واستعمال اللفظ الواحد في معنيين جائز للآية: إن الله وملائكته يصلّون على النبي.
ويقرب ذلك هنا، لأن المراد ذكر أحد أصناف الكفَّار.
(مَنْ أخذَتْه الصَّيْحة) : كثمود، ومَدْين.
(مَنْ خَسَفْنَا به الأرْضَ) : كقارون وأصحابه.
(مَنْ أغرقنا) : قوم فرعون وقوم نوح.
(مثَل الذين اتَّخَذوا مِنْ دون اللَهِ أوْلياءَ كمثَلِ العَنْكَبوتِ) .
شبّه الله الكفارَ في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفاً.
فكما أنَّ ما اعتمدت عليه العنكبوت من بيتها ليس بشيء كذلك ما اعتمدت
عليه الكفَّار من آلهتهم ليس بشيء، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون.
(ما يَدْعونَ مِنْ دونه مِنْ شيء) :
(ما) موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذىِ قبلها، أو هي نافية والفعل معلّق عنها، والمعنى على هذا: ألستم تدعون من دونه شيئاً له بالٌ، فيصح أن يسمى شيئاً.
(مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) .
في هذه الآية احتجاج على أنَّ القرآن من عند الله، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء بالقرآن.
واختلف هل كتب بيده - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنه
كتب في عمرة الْحدَيْبية اسمه - صلى الله عليه وسلم - لما طلب منه عمر أن يغيِّر محمد رسول اللَه
فأَبى عليٌّ من تغييره وقال: والله لا أغيِّر اسمك لأجل قريش.
وقد ألف الباجي فيه تأليفاً.
فإن قلت: ما فائدة قوله: (بيمينك) ؟
فالجواب أنَّ ذلك تأكيد للكلام وتصوير للمعنى المراد.
(مَوَدةً ورحمةً) : يعني الجماع، ورحمة: الولد.
والعموم أحسن وأبلغ.(2/401)
(مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) .
قد قدمنا في غير ما موضع أن هذا إنعاء على المشركين، لأنهم يدعون الله في الشدائد، ويشركون به في الرخاء.
(مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) .
هذه الآية معناها كالذي تقدم في قوله: (يَمْحَق اللَّهُ الرِّبَا ويربِي الصَّدَقَاتِ) ، ومعناها ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يَزْكُو عند الله، وما آتيتم من الصدقات فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به.
وقيل المراد أن يهب الرجل أو يُهْدي له ليعوضه أكثر من ذلك، وإن كان
جائزاً فإنه لا ثواب فيه.
وقرئ: وما آتيتم بالمد بمعنى أعطيتم.
وبالقصر بمعنى جئتم به، أي فعلتموه.
وقرئ لتُربوا - بضم التاء.
وليربوَ - بالياء مفتوحة ونصب الواو.
(من يُسْلِمْ وَجْهَة إلى الله) : الوجه هنا عبارة عن القصد.
يعني يستسلم وينقاد لربوييّته.
(ما في الأرض مِنْ شَجَرةٍ أقْلام..) .
إخبار بكثرة كلمة الله، والمرادُ اتساع عِلْمِه، ويعني أنه لو كانت شجرة الأرض أقلاماً والبحور مِدَاداً تصبّ فيه صَبّاً دائماً، وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهيةٌ، وكلمات الله غير متناهية.
فإن قلت: لِمَ لَمْ يقل: (والبحر مداداً) ، كما قال في الكهف؟
فالجواب أنه أغنى عن ذلك قوله: "يَمدّه"، لأنه من قوله مدّ الدواة
وأَمدها.
فإن قلت: لِمَ قال من شجرة ولم يقل من شجر - باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟(2/402)
فالجواب أنه أراد تفصيلَ الشجر إلى شجرة شجرة حتى لا يبقى منها واحدة.
فإن قلت: لم قال: (كلمات الله) ولم يقل كلم الله. بجمع الكثرة؟
فالجواب أن هذا أبلغ، لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنها جَمْع قلةٍ فكيف
ينفد الجمع الكثير.
وروي أن سبب نزول الآية قول اليهود قد أوتينا التوراة وفيها العِلْم كله.
فنزلت الآية، لتدلَّ على أنَّ ما عندهم قليل من كثير، والآية على هذا مدنية.
وقيل سببها أنَّ قريشاً قالوا: إن القرآن سينفد.
(مولودٌ هو جَازٍ عن وَالدِهِ شَيْئاً) :
يعني أنَّ الوالد لا ينفع ولده، والولد لا ينفع والده، لأن كلَّ واحد مشغول بنفسه.
فإن قلت: ما فائدة إبراز الضمير في الولد دون الوالد؟
قلت: لِمَا جُبل عليه الوالد من المحبة والشفقة لولده، بخلاف الولد، فإنه لا
يصل لتلك المحبة والشفقة، ولو كان في غاية البر.
(مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) :
أي من خير أو من شر، أو طاعة أو معصية، أو عافية أو بلية، وفيه الإشارة إلى أنَّ العاقل ينظر ما يفعل الله به، فيسلّم له أموره، ويشكره على النعم، ويتوب إليه من المعاصي، ويصبر للنقم.
(مَلَك الْمَوْتِ) :
اسمه عزرائيل، تحت يده ملائكة، وبهذا يجمع بين قوله: (قل يتوَفَّاكمْ مَلَكُ الموت) .
وبين قوله: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) ، وسبب توليته لقَبْض أرواح بني آدم:
استغاثة القَبْضَة من التراب التي خلق الله منها آدم، فقال لها: امتثال أمر الله أولى من رحمتك، فلما ولاه على قبض الأرواح قال: يا رب، يسبونني ويبغضونني.
فقال الله له: سأجعل لموتهم أسباباً من مرَضٍ وغَرَق، وحرق وقَتْل، حتى لا
يذكروك.
(مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) : يعني أنه لا يعلم أحد مقدار(2/403)
ما يعطيهم الله من النعيم، ورضوان الله أكبر من ذلك.
وقرئ بإسكان الياء، على أن يكون فعل المتكلم، وهو الله تعالى.
(أفمَنْ كان مؤْمِنا كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوون) :
يعني المؤمنين والفاسقين على العموم.
وقيل المؤمن علي بن أبي طالب، والفاسق عقبة ابن أبي معيط.
(ماءٍ مَهين) ، أي ضعيف.
وفيه إشارة إلى الاعتبار بهذه الخلقة من نطفة مذرة، ويحمل في جوفه العذرة، ويرجع جيفة قذرة، فيعرف نفسه، وينزلها منزلتها من الضعف والافتقار، ويدع العزةَ والاستكبار.
(ما جعَلَ اللَّهُ لرجل مِنْ قَلْبَيْن في جَوْفِهِ) ، لأنه كالإناء
إذا ملأته بشيء لم يكن لشيء آخر فيه مجَال، وهذا هو السبب في زهد أهل
الصفوة في الدنيا لئلا تشغلهم عن محبوبهم.
قال ابن عباس: كان في قريش رجل يقال له ذو قَلْبين لشدة فهْمه، فنزلت
الآية، نفَتْ ذلك.
ويقال إنه ابن خَطَل، وقيل جميل بن معمر.
وقيل: إنما جاء هذا اللفظ توطئةً لما بعده من النفي، أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم.
فإن قلت: قد قال الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
وفي قراءة أبي: وهو أبٌ لهم - فما فائدة هذا النهي؟
فالجواب أنه أولى بهم من أنفسهم في شفقته عليهم وإنقاذهم من النار.
ألا ترى أنه في الدنيا قال: أمَّتي أمَّتي.
وفي الحشر: لا أسألكَ فاطمةَ ابنتي ولا نفسي، وإنما أسألك أمتي.
وفي الصراط: اللهم سلِّم أمتي.
وفي الحساب: لا تفضح أمتي.
وفي الميزان يا إسرافيل أرجح لأمتي.
ولا يرضى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبقى أحد من
أمته في النار.
فيجب علينا حبّه أكثر من أنفسنا، وننصر دينه، ونترك حمية
أنفسنا، ونجعل لأزواجه الرضا والمبرة أكثر من أمهاتنا، وإن أوجب الله عليهم حَجْبهن عنا فلعظيم حرمتهنّ.(2/404)
وأما كونه أباً لنا فالأَوْلَى نسبتنا لآبائنا، كما قال تعالى: (ادْعوهم
لآبائهم ... ) ، الآية، وسيأتي سِرُّ نسبتنا إلى أبينا إبراهيم، وذلك
أنه أمر بذَبْح ولده، فقال: (إني أرى في المنَامِ أني أذْبَحُك) ، فقال الله: يا إبراهيم أرسلتك بالمشاورة، فبعزّتي إن نظرت إليَّ دون الولد، وقطعت عنه قلبك، وسلّمت لأمري لأجعلن أمة محمد أولادك.
قال تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) .
وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم ينظر إلى شيء دون الله ألبتة: ليلة المعراج عرض عليه جميع الأشياء فلم يلتفت إلى شيء دونه، وهذا قوله: (ما زَاغَ البَصَر وما طَغَى) ، فلما لم ينظر عليه السلام إلى شيء دونه قطع عنه نسب المخلوقين، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) ، ولو كان النبي أبانا انقطع عنا لجُرْمِنا، كما أن يعقوب قطع عن أولاده بالجرم، بل كان نبيّاً، فلا يقطع عنا بالْجرم.
ولما كان الأب لا تقبل شهادته لابنه وهو - صلى الله عليه وسلم - شهيداً علينا ومزكياً لأعمالنا فتقْبل تَزْكيته.
(معروفاً) ، أي إحساناً، يعني أن نَفْع الأولياء الذين
ليسوا بقرابة الوصية لهم عند الموت مندوب إليه، وأما الميراث فللقرابة خاصة.
واختلف هل المراد بالأولياء المؤمنون أو الكفار، واللفظ أعمّ من ذلك.
(مسطورا) : مكتوباً.
(ما تَلَبَّثوا بها إلاَّ يسيرا) : الضمير للمدينة.
(ما وعدَنا اللَّهُ ورسوله إلا غرورا) :
قيل إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمر بحَفْر الخندق من أنَّ الكفار ينزلون عليهم، وأنهم ينصرفون خائبين.
وقيل: إنه قول الله تعالى: (أم حَسِبْتم أن تَدْخلُوا الجنّةَ ولمَّا يَأْتِكم مَثَل الذين خَلَوْا مِنْ قَبْلكم ... ) .
فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرفون.
(مَنْ قَضَى نَحْبَه) : يعني من قتل شهيداً(2/405)
كأنس بن النضر، وحمزة بن عبد المطلب.
وقيل قضى نحبه: وَفَى للعهد الذي عاهد الله عليه.
ويدل غلى هذا قوله عليه إلصلاة والسلام: طلحة ممَّنْ قَضَى نَحْبَه ولم يقتل
يومئذ.
(مَنْ يَنْتَظِر) : المفعول محذوف، أي ينتظر أن يقضي نحبه، وهو انتظار الشهادة على قول ابن عباس، أو ينتظر الحصولَ على أعلى
مراتب الإيمان والصلاح على القول الآخر.
(مَنْ يقْنُتْ مِنكُنَّ) :
الضمير عائد على أزواج نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي من يأْتِ منهن بعمل صالح يُضاعف لها ثوابه، لفضلهن
على الله، كما أن من أتى منهن بعمل سيئ يُضاعف على البناء للمفعول، وبالنون ونصب العذاب على البناء للفاعل.
وقرئ أيضاً من تقنت - بالتاء - حملاً على المعنى، وبالياء حملاً على لفظ مَنْ.
(ما كان لمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ ... ) :
معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله ورسوله، بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله.
والضمير من قوله: (مِنْ أمرهم) - راجع إلى الجَمْع الذي
يقتضيه قوله: لمؤمن ولا مؤمنة، لأن معناه العموم في جميع المؤمنين والمؤمنات.
وهذه الآية موطّئة للقضية المذكورة بعدها.
وقيل: سببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب امرأة فزوَّجها لمولاه زيد بن حارثة.
فكرهت هي وأهلها ذلك، فلما نزلمت الآية قالوا رَضينا يا رسول الله.
وهذه الآية كقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) .
وكقوله: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالفون عَن امرِه أنْ تُصيبَهم فِتنة) .
(إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليَحْكُمَ بينهم أنْ يَقُولوا
سمِعْنَا وأطَعْنَا) .
(ما كان مُحَمّد أبا أحدٍ مِنْ رِجالكم) :
هذا ردّ على(2/406)
مَنْ قَال في زيد بن حارثة زيد ابن محمد، فاعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين تزوّج امرأة زيد.
وعموم الآية في النفي لا يعارضه وجود الحسن والحسين.
لأنه - صلى الله عليه وسلم - لهما أب في الحقيقة، وإنما كانا ابني ابنته.
وأما ذكور أولاده فماتوا صغاراً فليسوا من الرجال.
(ما ملكَتْ يمينك مِمّا أفاء اللهُ عليكَ) :
في هذه الآية إباحة السَّرارِي لمولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يملك منهن غير مارية وريحانة.
وما أفاء الله عليه: الغنائم، ومنهن صفية، لكنه أعتقها، وجعل عتقها صداقها.
(ما الله مُبْدِيه) :
روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب يوماً لزيارة
زَيْد، فخرجت زينب كالشمس الضاحية، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فلما جاء زيد أخبرته بقوله - صلى الله عليه وسلم -، ففهم أنها أعجبته، ومِنْ خصائصه - صلى الله عليه وسلم - إذا وقع بصره على امرأة وأعجبته وجب على زوجها طلاقها رِضاً له - صلى الله عليه وسلم -، فأتى إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: قد طلقتُ زينب يا رسول الله (1) .
فقال له: أمْسِكْ عليك زوْجك واتق الله، فأبْدَى الله ذلك بأن قَضَى الله بتزويجها.
قالت عائشة رضي الله عنها: لوَ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفي شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية
لشدتها عليه.
فإن قلت: قد حرم الله عليه خائنةَ الأعين، فكيف أخفى في نفسه حبَّه
طلاقها من زيد؟
فالجواب أن الذي أخفى إنما هو أمر مباح لا إثم فيه ولا عَيب، أشفق على
أمّته من التسلُّط عليه بألسنتهم، فيكون فيه هلاكهم، وتأمَّل قولَه في أم سلمة لما أتته في معتكفه، وانطلق معها بغَلس ولقيه الصحابة وهو معها، فقال: إنها أمّكم أمّ سلمة.
فقالوا: أو تحدثنا أنفسنا بذلك، وأنتَ رسول الله، فقال: إن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم، فأبدى الله زواجَها منه، وبهذا كانت تفخر على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: إن الله زوَّجني من فوق سبع سموات.
__________
(1) رواية لا تصح.(2/407)
وقيل: إن الله كان أوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد، فأخفاه، فأعلمه الله في كتابه.
(ما فَرضْنَا عليهم في أزْوَاجِهم) :
يعني أحكام النكاح، والصداق، والوليّ، والاقتصار على أربع، وغير ذلك.
(مَنِ ابْتغَيْتَ مِمَّنْ عزَلْتَ فلا جُنَاحَ عَلَيْكَ) :
في معناه قولان:
أحدها: من عزلْتَه من نسائك فلا جناح عليك في ردّه بعد عزْله.
والآخر: مَن ابتغيت ومَنْ عزلت سواء في إباحة ذلك لك.
فمن للتبعيض على القول الأول، وأما على الثاني فنحو قولك: مَنْ لقيته ممن يلقاك سواء.
(ما ملكتْ يمِينك) : المعنى أنَّ الله أباح الإماء، فالاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء، أو في موضع نصب على الاستثناء من
الضمير في حسْنُهُنّ.
(مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) . تكرير الآيات القرآنية في إذايته - صلى الله عليه وسلم - إشارةٌ لعظيم
ذلك، وإذا نهى الله عن الجلوس في بيته للحديث والاستئناس فما بالك بمن
تنَقَّصه أوْ عَابَه أو آذاه، وهذا لا يشكّ أحدٌ في كفره.
وقد ألف الناس في هذا المعنى تواليف، ومن أوكد احترامه الاستماعُ لحديثه
والصلاةُ عليه عند ذكره.
وأما تحريم أزواجه فسببه أنَّ بعضهم قال: لو مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لتزوجتُ عائشة، فحرّم الله على الناس تزوجهن، وهذا في مدخولته، وأما غير المدخول بها فجائز.
وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل إحداهن، فلم ينكر عليه الخلفاء رضي
اللَه عنهم.
(ما اكْتَسَبوا) : يعني اجترحوا.
وفي الآية تنبيه على أنَّ ذلك هو البهتان، وهو ذِكْر الإنسان بما ليس فيه، وهو أشد من الغيبة مع أنها(2/408)
محرَّمة، وهي ذِكْره بما فيه مما يَكْرَه، وإذا أردت أن ترف عظيم مرتكبها فقِسْ ما بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل أن يطأ الرجل أمّه ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مِن أرْبَى الرِّبا استطالة المسلم في عِرْض أخيه بغير حق " - يظهر لك عظيم ما نحن فيه من الهلاك إن لم يعْف عنا مولانا، فعليك بدعاء آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
فسمع نداءه فتاب عليه وهَدَى.
(مَلْعونين) : نصب على الذم، أو بدل من قليل، أو حال من ضمير الفاعل في: (يجاورونك) ، تقديره: سيقفون ملعونين.
(ما يَلِج في الأرض) :
أي ما يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك، وما يخرج منها من النبات وغيره.
(وما ينْزِل من السماء) :
من المطر والملائكة والرحمة والعذاب.
(وما يَعرجُ فيها) : أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها.
(ما بَيْنَ أيْدِيهم وما خَلْفَهم من السماء والأرض) :
قد قدمنا معناه.
والمعنى هنا أو لم يروا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما قادر
على بعْثِ الناس بعد موتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى تهديداً لهم لقوله: (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) .
(مَسْكنِهم) :
الإشارة إلى قوم سبأ، وقد قدمنا أن مساكنهم
كانت بين الشام واليمن، وكان الرجل منهم لا يتزود ويمشي في ظل الشجر، ولا يخاف من أحد، فكفروا بأنْغم الله، وقالوا باعِدْ بَيْنَ أسفارنا ليتزّودوا للأسفار ويمشوا في المفاوِز، فجعل الله إجابتهم كما قال: (مَزّقناهم كل ممَزَّق) ، أي فرّقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم، فقيل: تفرّقوا أيْدي
سبأ.
وفي الحديث: إن سبأ أبو عشرة من القبائل، فلما جاء السيل على بلدهم
تفرّقوا فتيامَنَ منهم ستة، وتشاءم أربعة.(2/409)
(ماذا قال ربُّكم) :
تظاهرت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنّ هذه الآية في الملائكة عليهم السلام، وقد قدمنا معنى ذلك.
(مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) .
معناها يحتمل وجهين:
أحدهما ليس عندهم كتاب يدل على صحة أقوالهم، ولا جاءهم نذير
يشهد بما قالوه، فأقوالهم باطلة، إذ لا حجة لهم عليها، فالقصد على هذا الرد عليهم.
والآخر أنه ليس عندهم كتاب ولا جاءهم نذير، فهم محتاجون إلى مَنْ
يعلمهم وينذرهم، فلذلك بعث الله إليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فالقصد على هذا إثبات نبوءته.
(ما بلَغوا مِعْشَارَ ما آتَيْنَاهم) :
المعشار: العشر، والضمير في بلغوا لكفّار قريش، وفي آتيناهم للكفار المتقدمين، أي أن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله المتقدمين من القوة والأموال.
وقيل الضمير في (بلغوا) للمتقدمين، وفي آتيناهم لقريش، أي ما بلغ المتقدمين عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة.
والأول أصح -، وهو نظير قوله: (كانوا أشدَّ منهم قوة) .
(ما بِصاحِبِكم مِنْ جِنَّة) :
الضمير لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم إذا تفكروا في أقواله وأفعاله دلَّهم ذلك على رَجَاحة عقله، ومتانة علمه، وأنه ليس بمجنون ولا مفْتَرٍ على الله.
(ما سألْتُكم مِنْ أجْر فهو لكمْ) :
هذا كما يقول الرجل لصاحبه إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً، ولكنه يريد البراءة من عطائه، فكذلك معنى هذا، فهو كقوله: (قل ما أسألكم عليه مِنْ أجْر) .
وقيل معناه: ما سألتكم من الصلاة فهو لكم.
(ما يَشْتَهون) :
الضمير للكفار، يعني أنهم يريدون الرجوع(2/410)
إلى الدنيا، أو دخول الجنة، أو الانتفاع بالإيمان حينئذ، فئحَال بينهم وبين
شهوتهم.
(ما يفْتَح اللَّهُ للناسِ مِنْ رَحمة) .
الفتح في هذه الآية: عبارة عن العطاء، والإمساك عبارة عن الْمَنْع، والإرسال والإطلاق بعد المنع، والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خير الدنيا والآخرة.
فمعنى الآية لا مانع لما أعطى الله، ولا معْطي لما منع.
فإن قيل: لم أَنّث الضمير في قوله: (فلا ممسك لها) ، وذكّره في قوله (فلا مرسل له) ، وكلاهما يعود على ما الشرطية؟
فالجواب أنه لما فَسَّر الأول بقوله: (من رحمة) - أنث لتأنيث الرحمة، وترك
الآخر على الأصل من التذكير.
(أفمنْ زُيِّنَ له سوءُ عَملِه) :
توقيف، وجوابه محذوف، تقديره أفمن زيِّنَ له سوءُ عمله كمن لم يزَيّن له.
ثم بنى على ذلك ما بعده، فالذي زين له سوءُ عمله هو الذي أضلَّه الله، والذي لم يزينّ له سوء عمله هو الذي هداه.
(مَكْر أولئكَ هو يَبور) .
قد قدمْنَا في حرف الباء أنَّ البَوارَ معناه الهلاك، ومعناه هنا أنَّ مكرهم يبطل ولا ينفعهم.
(ما يعَمَّر مِنْ معَمَّر) .
معناها أنَّ التعمير - وهو طول العمر، والنقص وهو قصره - مكتوب في اللوح المحفوظ.
فإن قيل: إن التعمير والنقص لا يجتمعان في شخص واحد، فكيف أعاد
الضمير في قوله: (ولا ينْقَص من عمره) على الشخص المعمر؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو الصحيح - أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان، ولا ينقص من
عمره إلا في كتاب، فوضع من معمر في موضع من أحد، وليس المراد شخصاً واحدا، وإنما ذلك كقولك: لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق.(2/411)
والثاني: أن المعنى لا يزَاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في
كتاب، وذلك أن يكتبه في اللوح المحفوظ إن تصدَّق فلانٌ فعمره ستّون سنة، وإن لم يتصدق فعمره أربعون، وهذا ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلَة الرحم تزيد في العمر، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين، وليس مذهب الأشعرية.
وقد قال كعب حين طعن عمر: لو دعا الله فزاد في أجله، فأنكر
الناس ذلك عليه، فاحتج بهذه الآية.
والثالث: أن التعمير هو كَتْب ما يستقبل من العمر، والنقص هو كتب ما
مضى منه في اللوح المحفوظ، وذلك في حق كل شخص.
(ما يَسْتَوِي البَحْرَان) :
قد قدمنا معنى البحرين، والقَصْد في هذه الآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده.
وقال الزمخشري: إن الله ضرب البحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر، وهذا بعيد
(مَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) :
الآية تمثيل لمن آمن، فهو كالحيّ، ومن لم يؤمن فهو كالميت.
وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، عبارة عن عدم سمع الكفَّار للبراهين والمواعظ، فشبّههم بالموتى في عدم إحساسهم.
وقيل المعنى أنَّ أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون، فليس عليك أن
تسمعهم، وإنما بعثت إلى الأحياء.
وقد استدلت عائشة بالآية على أنَّ الموتى لا يسمعون، وأنكرت ما ورد من
خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لِقَتْلى بَدْر حين جعلوا في القَلِيب، وقوله: ما أنت بأسمع لما أقول لهم منهم، ولكن يمكن الجَمْع بين قولها وبين الحديث بأن الموتى في القبور إذا رُدَّت إليهم أرواحهم سمعوا، وإن لم ترد إلى أجسادهم لم يسمعوا، فردَّ اللَه إلى أهل القليب أرواحهم ليسمعوا خطابه - صلى الله عليه وسلم - تهويلاً لهم وحسرةً في قلوبهم.
(ما أُنْذِرَ آباؤهم) : (ما) نافية.
والمعنى لم يرسَل إليهم(2/412)
ولا لآبائهم رسول ينذرهم.
وقيل المعنى لتنذر قوماً مثل ما أنذر آباؤهم، فما على هذا
موصولة بمعنى الذي أو مصدرية، والأول أرجح، لقوله: (فهم غافلون) .
يعني أنَّ غفلتهم بسبب عدم إنذارهم، ويكون بمعنى قوله: (ما أتاهم مِنْ نذير) .
ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقدمون.
(مَنِ اتّبعَ الذكرَ وخَشِيَ الرحْمنَ بالغَيْبِ) .
أي غير مشاهِدٍ له، إنما يصدّق رسوله ويسمع كتابه.
فإن قلت: كيف قرن بالخشية الاسم الدالَّ على الرحمة في يس وق، وفي فاطر، أضافه للربوبية؟
وجوابك: معناه في فاطر أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشَوْن ربَّهم وهم
غائبون عن عذابه وغائبون عن الناس، فخشيتهم حقّ لا رياء، وليس المعنى
اختصاصهم بالإنذار.
بالغيب في موضع الحال من الفاعل في " يخشون "، وإنما
ذكر الرحمة مع الخشية لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله، لأنه يخشاه مع علمه بحلمه ورحمته.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن
الرحمن قد صار يستعمل استعمال الاسم، كقولنا الله.
(مَنْ لا يَسْألكم أجْراً) :
هذا من قول حبيب النجار لقومه، يعني أن هؤلاء المرسلين لا يسألونكم أجرة على الإيمان فتخسرون معهم ويثقل عليكم، وإنما يطلبونكم لمنفعتكيم الأخروية، والذي يطلبك لنفسك من غير طمع
في دنياك أوْلى باتباعه لتمحض نصحه، ثم دلّهم على اتباعه.
(مالي لا أَعْبدُ الذي فَطَرنِي) : معناه أي شيء يمنعني عن
عبادة ربي، وهذا توقيف وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ولذلك قال
لهم: (وإليه ترجعون) ، فخاطبهم بخطاب من يشاهدون رجوعَ
قومهم واحدا بعد واحد.(2/413)
(ما أنزلْنَا على قَوْمه مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جنْدٍ من السماء) :
المعنى أن الله أهلكهم بصيْحَةٍ صاحها جبريل، ولم يحتَجْ في تعذيبهم إلى إنزال جنْد من السماء، لأنهم أهون من ذلك.
وقيل المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلاً كما قالت قريش: (لولا
أنزلَ إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نذيراً) .
وقالوا أيضاً: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .
فردَّ اللَّهُ عليهم بقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، يعني أنَّ نزول الملائكة ِ لغير النبي إنما هو للانتقام منه أو لقَبْض روحه.
وقد جرت حكمة الله أن إيمان خَلْقه إنما يكون نظرياً بالدليل والبرهان، ولو نزلت الملائكة لاضطر خلقه إلى الإيمان به، لأنهم رأوا الحق عياناً، ورأوا المعجزات التي آمن بها الصحابة ولم يروها، فطوبي
لمن رأى صحفاً تُتْلى سوادا في بياض، وآمن بها وصدقها، وكيف لا وقد قال
فيهم - صلى الله عليه وسلم -: " أولئك إخواني حقا".
(ما كُنّا مُنْزِلِين) .
أي ما كُنَّا لننزل جنْدا من السماء على أحد، وبهذا يتبين لك أن لفظ الجند أليق بالمعنى الأول، وكذلك ذكر الصيحة بَعْد ذلك.
فإن قلت: قوله تعالى في الأحزاب: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) ، وقد أنزل الله خمسة آلاف ملك يوم بَدْر وحنين لنُصْرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
فالجواب أن معناه ما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب
جنْداً من السماء، وذلك أن الله عز وجل أجرى هلاك قوم بالريح، وقوم
بالصيحة، وقوم بالغَرَق، بحسب حكمته السابقة.
ولما كان إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يستأهِلها الكفرة أخذَهم الله بأقلّ الأمور.
ولما جعل الله الملائكة خدّاماً لهؤلاء الأمة المحمدية يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، ليحظوا بحظ الردّ لحرمة حبيبهم وصفيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعلهم(2/414)
يستغفرون لهم، حتى إن جبريل طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن تجوز أمّته على جناحه ليقيهم من حَرّ نار جهنم، وطلبت الملائكة يوم بَدْر وحنين ربها في نصرتهم إكراما وتشريفاً لنبيهم، ألا تراهم ليلة القدر يطلبون النزول إليهم للسلام عليهم، والحضور معهم، يرغبون في غفران ذنوبهم والتشفّع فيهم، فمَنْ أولى منك يا محمدي بالتشريف إن كنتَ من أمة النبي الشريف، اللهم بحرمته عندك، ومكانته لديك، لا تحرمنا من رؤيته وجِوَاره في مستقرّ رحمتك، واغفر لنا ما جنيناه، إنك أنت الغفور الرحيم.
(ما عملَتْه أيديهم) :
(ما) معطوفة على ثمره، أي ليأكلوا من ثمره وممَّا عملت أيديهم بالحَرْث والزراعة والغراسة.
وقيل: (ما) نافية.
وقرئ: "وما عملت" بغير هاء، وما على هذا معطوفة.
(مَنَازل) :
مساكن ومواطن، ومنازل القمر ثمانية وعشرون
ينزل القمر كلّ ليلة واحدةً منها مِنْ أول الشهر ثم يستتر في آخره ليلة أو ليلتين.
قال الزمخشري: وهذه المنازل هي مواقع النجوم.
(ما يَنْطرون إلاَّ صَيْحةً واحِدةً تأخذهم) :
يعني النفخة الأولى في الصور، وهي نفخة الصعق تأخذهم بغتة.
(مَنْ بَعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) .
المرقد يحتمل أن يكونَ اسم مصدر، أو اسم مكان، قال أبي بن كعب ومجاهد: إن البشر ينامون نومة قبل الحشر.
ابن عطية: وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في معنى قولهم: (مِنْ
مرقدنا) أنها استعارة وتشبيه، يعني أنَّ قبورهم شبِّهت بالمضاجع، لكونهم فيها على هيئة الراقد، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة.
(ما وَعدَ الرحمن وصدَق الْمرْسَلون) :
هذا مبتدأ محذوف الخبر، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مِنْ بقية كلامهم، أو يكون من كلام الله تعالى، والمؤمنون يقولونها للكفار على وَجْهِ التقريع.(2/415)
(مَكَانَتِهم) : مكانهم.
والمعنى لو نشاء لمسخناهم مَسْخاً يقعدهم في مكانهم، فلا يقدرون على الذهاب ولا على الرجوع.
(مَنْ نعَمِّرْه ننَكسْه في الخَلْق) .
أي نحوّل خلقته من القوة إلى الضعف، ومن الفهم إلى البله، ومن الشباب إلى الهرم، وشِبْه ذلك، كما قال تعالى: (ثم جعل مِنْ قوّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَة) .
واختلف في حد التعمير الذي يصل الإنسان فيه إلى هذا.
والصحيح أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وقد قدمنا الحديث:
"مَنْ صدق في صغره حفظه الله في كبره".
فالذي تراه صادقَ اللهجة يحفظه في كبره من ذهاب عقله.
ومقصود الآية الاستدلال على قدرة الله - في مشاهدتهم - على تنكيس الإنسان إذا هرم فالذي يقدر على هذا يقدر على مسخكم لولا رحمته بكم، ولذلك ختم الآية بالعقل الذي هو أسّ الأمور.
(ما عَلَّمْنَاه الشِّعْرَ وما ينْبَغِي لَه) .
هذه الضمائر راجعةٌ لنبيِّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم قالوا له شاعر، فرد الله عليهم بهذه الآية، واعجبا
منهم! وهم يرونه لا يزن شعراً ولا يذكره، وإذا ذَكَر بيتاً منه كسره، ويقولون فيه شاعر! تَبًّا لهم!
فإن قلت: قد تكلّم بكلام على وزْن الشعر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت إلا أصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت.
وقال: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد الطلب.
فالجواب أن هذا ليس بشعر، ولم يقصده، وإنما جاء بالاتفاق لا بالقصد.
كالكلام المنثور.
ومثل هذا يقال فيما جاء في القرآن من الكلام الموزون الذي
تحدَّاهم الله بسورة منه فلم يقدروا، مع أنهم طبعوا على الفصاحة والشعر، فهو من أعظم المعجزات.
كأنه قال لهم: إن قلتم فيه إنه شاعر فأتوا بشعر مثله، مع أنه
ليس بشعر، ولا ينبغي له الشعر لصدقه وأمانته، (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) .(2/416)
ولهذا ذمّ الله الشعراء، لإفراط التجوّز فيه، وإنْ ورد
في الحديث: إنَّ من الشعر لحكمة - فإنما يصدق على ما هو عَرِيّ عن الأوصاف الذميمة، ورحم الله الشافعي في قوله: الشعر كلام، والكلام منه حسن ومنه قبيح.
(مَنَافِعُ وَمَشَارِب) :
قد قدمنا في النحل معناه.
(مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه) .
يعني أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، على اختلاف الروايات أتى إلى رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - بعظم
رميم، فقال له: يا محمد، مَنْ يُحْيى هذا؟ فقال له: الله يحييه، ويميتك ثم يحييك، ويدخلك جهنم، فانظر كيف نَسِي خلقته الأولى، واستعظم وجودَ الثانية، هل هذا إلا من المعاندة في المحسوس، فكيف يطلق اسم الخالق على من لم يخلق جميع الناس، ولقد أنزل الله خمس آيات على نبيه لو لم يكن منها إلا واحدة لمنعَتْنَا من التمتع بهذه الدنيا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) .
(أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) .
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) .
فجميعُ المخلوقات على أصنافها لم يخلقها الله إلا لحكمة: الملائكة لخدمته.
وما منّا إلا مقَام معلوم.
والأرض للعبرة بها، قل سيروا في الأرض.
وفي الأرض آياتٌ للمُوقنين.
والأنعام للمنفعة، لتركبوا منها ومنها تأكلون.
والعارف لعبادته، وما خلقْتُ الجن والإنْسَ إلا ليَعْبدون.
والعالم للرحمة، قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا مَنْ رحم رَبُّك) .
فهنيئاً لمن فتح الله بصيرته وتَبًّا لمَنْ أعماها له.
(ما كانوا يَعْبُدون) :
يعني الأصنام والآدميين الذين كانوا يرضون بذلك.
وقد قدمنا أن فائدةَ دخول الأصنام والمعبودات النار
زيادةُ نَكالهم.(2/417)
(مَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
أيْ أيّ شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره، فالقَصْد بهذا التأويل التهديد.
أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره.
والقصد بهذا تعظيم الله وتوبيخ لهم، كما تقول:
ما ظنّك بفلان! إذا قصدت تعظيمه.
(متَّعناهم إلى حِين) :
الضمير يعود على قوم يونس لما آمنوا وخرجوا بالأطفال والبهائم، وفرّقوا بينها وبين أولادها، وتضرعوا إلى الله، وأخلصوا بالبكاء، وتابوا إلى الله توبةً، وعهدوا أن من كذب أو سرق أو زنى أقاموا عليه الحد، وأنهم مشاركون في علومهم وأموالهم، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين.
واختلف ما المراد بالْحِين، وقد قدمناه في حرف الحاء.
وأما قوله تعالى (تؤْتي أكلَها كلَّ حِين) ، فقيل: سنة، أو ستة أشهر، أو
شهران، ولما دخل عليهم ذو القرنين وجدهم تائبين، لا باب لبيت، ولا غنيّ
فيهم ولا فقير، ولا عالم ولا جاهل، كل واحد منهم جادَ على جاره بما عنده من علم ومال، فطلب أن يدْفَن معهم.
وقد ذكر الناس في قصصهم طولاً تركناه لعدم صحته.
وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بهم ليلة الإسراء، فآمنوا به وصدقوه، وقد لقي غلاماً في مسيره إلى الطائف فأخبره أنه منهم، فانظر يا محمدي مَنْ رجع إلى الله كيف يقبله، وكيف لا يقبله، وهو يقول: (وهو الذي يَقْبَل التوبةَ عن عباده ويَعْفُو عن السيئات) .
فإن قلت، قد قال في آية أخرى: (غافر الذَّنْبِ وقَابِل التَّوْبِ) ، فهل بين العفو والمغفرة فرق؟
قلنا: العفو عنها يستلزم مغفرتها، فسبحان مَنْ لم يَرْضَ بغفرانها حتى بدّلها
لهم حسنات مكافأة لتوبتهم.(2/418)
فإن قلت: الاعتقاد أنَّ طائفة من هذه الأمة لا بدّ لهم من دخول النار.
قلنا: إن لم يتوبوا، وفيه إشارة إلى عدم الأمْن من مَكرِ الله، ولذلك ورد
الحديث: المؤمن بين مخافتين: بين أجَل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.
وأيضاً من لم يذق الشدة لم يجد حلاوة النعمة، فقوم يستغيثون من النار، وقوم تستغيث النار منهم، وقوم تقول لهم النار: أجر يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، وقوم يمكثون فيها ما شاء الله ثم يخرجون منها ويتحسر مَنْ فيها، (ربمَا يَوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين) ، فالمؤمن الذي يدخلها تكون عليه بَرْداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، وذلك أنهم تعجبوا منه من عدم حَرْقها له، فأراد الله أن يرِيهم يوم القيامة ليعلموا أنَّ صانع النار والنور واحد، فتحرق من يشاء خالقُها، وتهرب ممن يطيعه.
قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) .
(ما لكم كيف تَحْكُمون) :
(ما) استفهامية معناها التوبيخ، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمجرور بعدها خبرها ينبغي الوقْفُ على قوله: (ما لكم) ، ثم يقرأ: (كيف تحكمون) .
(ما مِنّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ معلوم) :
هذا حكاية كلام الملائكة عليهم السلام، وتقديره: ما منّا ملك إلاَّ ولهُ مقام معلوم، فحذف الموصوف لحذف الكلام، والمقام المعلوم يحتمل أن يراد به الموضع الذي يقومون فيه، لأن منهم مَنْ هو في سماء الدنيا وكذلك في كل سماء، أو المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف، ولذلك فخروا بصفوفهم وتسبيحهم، ومنهم قيام لا يركعون، ومنهم سجود لا يرفعون، ومنهم قعود لا يقومون، فجمع الله لهذه الأمة المحمدية في الصلاة عبادة الملائكة من قيام وقعود، وركوع وسجود، وتسبيح وتكبير، وزادهم من التحيات الذي كان من الرسول ليلة الإسراء حين قال: التحيات للَه ... الخ، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله(2/419)
وبركاته، فطِبْ نفسا وقَرّ عيناً يا محمدي بما خوّلك مولاك، وأعلم أنكَ تقِفُ بين يديه، فانظر وقوفك بمَ يكون، هلا وهبت نفسك له وأسلمتها موافقة لقولك: وَجَّهْت وجهي هذا بلسانك، فأين وجهتك.
فإن قلت: لم كان الدخول فيها بتكبيرة والخروج منها بتسليمتين، والركوع
واحدٌ والسجود اثنين؟
والجواب لأن الواحد يقبل الواحد، فإذا قلت الله أكبر فكأنك أقبلت عليه
وعظّمته على كل شيء، فرضي منك هذه الكلمة المشرفة، وأقبل عليك، وإن اشتغلت بغيره فلم تُفْرِدْه وقطعت نفسك عنه، ألا ترى أنَّ التسليمتين قطعت عنه وانفصلت عن مناجاته، كرمضان تدخل فيه بشاهد واحد وتخرج منه بشاهدين، ولما كان السجودُ أقربَ إلى الله من جميع أفعال الصلاة أمرك بسجدتين، أو لأنَّ السجود للأصنام كان عندهم مرة واحدة فزادك أخرى لتفرّق بين السجود لله والسجود لغيره، أو لأن الملائكة كانوا سجوداً وطلبوا من الله ليلةَ الإسراء بحبيبه أَن يروه فأذِن لهم ورفعوا رؤوسهم لرؤيته فسجدوا مرةً لله شكرا لرؤيته، فأمر الله بذلك: الأولى امتثالاً لأمر الله، والثانية شكرا له بأن أهَّلك لطاعته.
فإن قلت: لما كان السجود بهذه الْمَثَابة فهلاَّ أمر به المصلِّي على الميت، لأنه
يشفيع، والشفيع لا يجد قربة إلى الله أفضل منه؟
والجواب: لما كان في السجود للمصلِّي على الميت إيهام بالسجود له أمره اللهُ
بعدم السجود، كأنه يقول: لا أريد أن تسجد لي حتى يرتفع الحجاب بيني
وبينك.
(مَناص) :
مَفَرّ ونجاة، من قولك: ناص يَنوص إذا فرَّ، التقدير وليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص.
قال أبو القاسم: معناه فرار بالنبطية.
(مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) :
هذا من كلام الملأ الذين، خرجوا من عند أبي طالب وتفرقوا في طرق مكة، ومرادهم بالملة الآخرة(2/420)
ما أدركوا عليه آباءهم، أو الملَّة المنتظرة، لأنهم كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء، فلما جاءهم جحدوا، واستيقنتها أنفسهم ظلماً.
(ما هنَالكَ مهزوم مِنَ الأحزاب) :
هذا وعيد بهزيمتهم في القتال، وقد هزموا يوم بَدْر وغيره، و (ما) هنا صفة لجند، وفيها معنى التحقير لهم، والإشارة بهنالك إلى حيث وَضَعوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء.
وقيل: الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب، وهذا بعيد.
وقيل الإشارة إلى موضع بدْر.
ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصَّبوا للباطل فهلكوا.
(ما يَنْطر هؤلاء إلا صَيْحةً واحدة) :
المراد بهؤلاء قريش ومَنْ تبعهم.
والصيحة الواحدة: النفخ في الصُّور.
وقيل: ما أصابهم من قَتل وشدائد، وهو أظهر، لأن من مات فقد قامت قيامته، وقد ورد في الحديث.
(مَسّنِيَ الشيطان بنصْبٍ وعَذَابٍ) :
بضم النون وإسكان الصاد، وبفتحها وإسكان الصاد، وبضمَ النون والصاد، وبفتحهما، بمعنى المشقة.
وهذا من كلام أيوب لما سلَّط الله عليه الشيطان ليَفْتِنَه (1) ، وأهلك ماله وولده، ووسوس قلبه، استغاث ودعا الله بتفريج كَرْبه خوفاً من فِتْنَته.
فإن قلت: أين هذا من قوله تعالى: (إنّا وَجَدْنَاه صَابِراً نعم العَبْدُ) ، وأَيّ قدرة للشيطان حتى ينسب ما أصابه من البلاء إليه؟
فالجواب أنه صبر على ما أصابه في المال والولد والنفس، فلما وصل إلى
الوسوسة استغاث، ويكفيك من صبره أن الله قَرنه بنون العظمة وهاء الضمير، فلا يعتقد في رسول الله غير ذلك، ونسبة الفعل للشيطان على جهة نسبة الشر إليه، كقول موسى: (وما أنْسَانِيه إلاَّ الشيطان) .
(هذا من عَمَلَ الشيطان) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما نام ليلة الْوَادِي: إن بهذا الوادي شيطاناً.
فهو تنسب إليه الشرور.
ولذلك يتبرأ يوم القيامة ممن أطاعه، ويقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) .
__________
(1) كيف يتفق هذا مع قوله تعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) ؟؟!!!.(2/421)
فالنسبة إليه نسبة مجازية، كما أن نسبة الخير إلى الله حقيقة.
وقد صحّ أنَّ التائبين يمرون يوم القيامة تحت لواء آدم، والشاكرين تحت لواء
نوح، والْموفين بالعهود تحت لواء إبراهيم، والمحزونين تحت لواء يعقوب.
والمحبوسين تحت لواء يوسف، والصابرين تحت لواء أيوب، والمخلصين تحت
لواء موسى، والزاهدين تحت لواء عيسى، والصادقين تحت لواء يحيى، والمحبين تحت لواء الحبيب على جيعهم الصلاة والسلام، والمؤذنين تحت لواء بلال، والصالحين تحت لواء عمر، والصدّيقين تحت لواء أبي بكر، والمتقين تحت لواء عثمان، والراكعين تحت لواء علي رضي الله عنهم أجمعين.
(ما لَه مِنْ نفاد) :
الضمير يعود على نعيم الجنة، لتقدم ذكره، أو لرزق الدنيا (1) .
(مَنْ قَدّم لنا هذا فزِدْه عذاباً ضِعْفاً في النار) :
هذا كلام الأتباع، دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب، فهو كقولهم: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) .
(ما لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كنَّا نَعدّهم من الأشرار) :
قيل إن القائلين لهذه المقالة أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأمثالهم.
والرجال المذكورون هم عمّار، وبلال، وصهَيب، وأمثالهم.
واللفظ أعمّ من ذلك.
والمعنى أنهم قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدهم في الدنيا من
الأشرار.
(مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) :
القصد بهذه الآية الاحتجاج على نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها.
والملأ الأعلى هم الملائكة، وعليهم يعود الضمير في يختصمون.
واختصامهم هو في قصة آدم حين قال الله لهم: إني جاعل في الأرض خليفة.
حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن.
__________
(1) في غاية البعد.(2/422)
وقيل: إن الملائكة تقول: هؤلاء بنو آدم الذين اخترتهم وفضّلتهم وجعلتهم
خلفاء، وأمرتنا بالسجود لأبيهم قد عصوك، وتركوا خِدْمتك وأمْرَك (1) .
فيقول اللَه لهمْ: دعوهم فإنما استزلَّهم الشيطان وأغواهم هو وأولاده، ولو ابتليتكم بما ابتليتهم به لوقعتم فيما وقعوا فيه.
وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربَّه فقال: يا محمد.
فيم يختصم الملأ الأعلى، قال: لا أدري.
قال: في الكفّارات، وهي إسباغ الوضوء على المكاره.
وفي رواية في المسرات، والمشي بالأقدام إلى الجماعات، وانتظار
الصلاة بعد الصلاة.
وقيل الضمير في يختصمون للكفار، أي يختصمون في الملأ الأعلى، فيقول
بعضهم: هم بنات الله، ويقول آخرون: هم آلهة تعْبد، وهذا بعيد.
(ما أنا من المتَكلِّفين) :
أي الذين يتصنعون ويتخيّلون بما ليسوا من أهله.
(ما نعْبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلْفَى) :
أي يقول الكفار: ما نعبد هؤلاء الاَلهة إلاَ ليقرِّبونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده.
ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة، أو الذين عبدوا الأصنام، أو الذين عبدوا عيسى أو عزَيراً، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة.
(مَنْ هوَ كاذبٌ كَفّار) :
هذا إشارة إلى كذبهم في قولهم: (ليقرِّبونا إلى اللهَ) .
(ما شِئْتم مِنْ دونه) :
هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتّخْلِية لهم على ما هم عليه.
(مَثَانِي) :
جمع مثى، أي تثنَّى في القصص.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من الثناء، لأنه يثني فيه على الله.
فإن قيل: مثاني جَمْع، فكيف يوصف به المفرد؟
فالجواب أن القرآن ينقسم إلى سور وآيات كثيرة، فهو جمع بهذا الاعتبار.
__________
(1) لا يصح لأن فيه فيه سوء أدب مع الله تعالى، وهو لا يليق بحال الملائكة الكرام، وقد مدحهم الله بقوله (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) .
وقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) .(2/423)
ويجوز أن يكون كقولهم: برْمَة أعشار، وثوب أخلاق.
أو يكون تمييزاً من متشابه، كقولك: حسن شمائل.
(ما كنْتم تَكسِبون) ، أي يقال للكفار والعصاة: ذوقوا ما
كسبتم من الكفر والمعصية.
(مَيِّتون) :
في هذا وعيد للكفار، لأنهم إذا ماتوا ظهر لهم
مَنْ كان على الحق ومَنْ كان على الباطل.
وفيه إخبار أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - يموت لئلا
يختلف الناس في موته، كما اختلفت الأمم في غيره.
(فَمَنْ أظلم مِمَّن كذَب على الله) :
أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كذب على الله بأنه اتخذ صاحبةً وولدا.
وفي آية أخرى: (ومَنْ أظْلَم مِمَّن منَعَ مساجدَ اللَهِ) .
وفي أخرى: (ومن أظلم مِمّن افْتَرى على الله كذِباً) .
وفي أخرى: (ومَنْ أظْلَم مِمن ذُكِّرَ بآيات ربِّه) .
وهذه الأظلمية تختلف باختلاف الأنواع، وتطلق كلُّ آية على
ما يليق بها من الكذب وغيره، حسبما بيناه في غير هذا الموضع.
(مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ،: من الأوامِر واجتناب نواهيه.
(مَقَالِيد) : بالفارسية مفاتيح.
وقيل خزائن.
واحدها إقْليد، وقيل مِقْليد.
وقيل لا واحد لها من لفظها.
ومعناها مالك السماوات ومدبِّر أمرها وحفظها، وهي من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدَها، كما أن الخزائن أيضاً تجيء في جهة الله عز وجل إنما تجيء استعارة بمعنى اتساع قدْرته، وأنه المبتدع المخترع.
ويشبه أن يقال فما قد أوجد من المخلوقات، وهذا يتجوّز به على جهة التقريب والتفهيم للسامعين.
وقد ورد القرآن بذكر الخزائن، ووقعت في الحديث الصحيح: ماذا فتح الليلة من الخزائن.
والحقيقة في هذا غير بعيدة، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة، كما هو اختزان الشيء.(2/424)
قال عثمان بن عفان: فسألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن مقاليد السماوات والأرض، فقال: هي لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير يحْيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
فإن صح هذا الحديث فمعناه أنَّ مَنْ قال هذه الكلمات صادقا مخلصاً نال
الخيراتِ والبركات من السماء والأرض، لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك، فكأنها مفاتح له، وللَه سبحانه سبع خزائن: خزانة المطر في السماء، وخزانة النبات في الأرض، وخزانة اللؤلؤ والمرجان في البحر، وخزانة الموزونة في الجبال، وخزانة الأفكار للكفار، وخزانة الرضوان للأبرار، وخزانة المعرفة في القلوب.
وفي الحديث: إن بعضَ الأنبياء قال: يا رب، لكلّ ملك خزانة، فما
خزانتك، قال: خزانة أوسع من الكرسي، وأعظم من العرش، وأطيب من
الجنة، وأَزين من الملكوت، أرضها المعرفة، وسماؤها الإيمان، وشمسها الشوق، وقمرها المحبة، ونجومها الخواطر، وترابها الهمّة، وجدارها اليقين، وسحابها العقل، ومطرها الرحمة، وأشجارها الطاعة، وثمرها الحكمة، ولها أربعة أركان: التوكل، والتفكر، والأنس، والذكر.
ولها أربعة أبواب: العلم، والحلم، والرضا، والصبر، ألاَ وهي القلب (1) .
(مَنْ شاء الله) :
يعني أَن جميع من في السماوات والأرض يموت عند نَفْخَةِ الصعق، إلاَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يميتهم الله بعد ذلك.
(مَا مَكروا) :
الضمير يعود على قوم فرعون، يعني أن الله وقى مؤمنهم مِنْ مكرهم، كما هو عادته سبحانه في وقاية مَنْ فَوَّض أمره إليه.
(ما للظَالمين مِنْ حَمِيم) :
المراد بهم الكفَّار، يعني أنهم ليس لهم من يشفع فيهم.
__________
(1) يفتقر إلى سند صحيح.(2/425)
(وما دعَاء الكافرين إلاَّ في ضَلاَل) :
يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى استئنافاً.
(مَعْذِرتهم) : يحتمل أنهم لا يعتذرون.
ويحتمل أنهم يعتذرون، ولكن لا تنفعهم المعذرة.
(ما همْ بِبَالغِيه) :
أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك، أو من نيل النبوءة.
(مَثْوَى المتَكبِّرين) : أي جهنم.
فإن قيل: قياس النظم أن يقول: فبئس مدخل الكافرين، لأنه تقدم قبله:
ادخلوا؟
والجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثَّوَاء.
(مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ) :
هم الذين ذْكر الله في كتابه من الرسل، وقد قدمنا أنهم خمس وعشرون، وجملة الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا في حديث أبي ذَرّ.
وفي حديث غيره: إن الله بعث ثمانية آلاف رسول.
وفي حديث آخر أربعة آلاف.
(مَنْ أحْسَنُ قولاً مِمَّن دعَا إلى اللهِ) :
يدخل في هذا كلّ من دعا إلى عبادة الله وطاعته على العموم.
وقيل: المراد محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل المراد المؤذِّنون.
وهذا بعيد، لأنها مكية، وإنما شُرع الأذان بالمدينة، ولكن المؤذّنون
يدخلون في العموم.
والدعوة من الله على أربعة أوجه: دعوة الضيافة: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ودعوة المغفرة: (يَدْعوكمِ ليَغْفِرَ مِنْ ذنوبكم) .
ودعوة الحمد والإجابة: (يوم يدعوكم فتَسْتَجِيبون بحمده) .
ودعوة المحاسبة: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) .
وفيه خمسة أقوال:(2/426)
بصحائف أعمالهم، قال تعالى: (وكلَّ إنسانٍ ألزَمْنَاه طائِرَه في عنقهِ) .
أو بأعمالهم المتقدمة، قال تعالى: (علِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمت وأخَّرَتْ) .
أو بإمامهم في المذهب، قال تعالى: (وجعلناهم أئمَّةً يدعون إلى النار) .
أو برسولهم، أو بدعائهم إلى الخير والشر، أو بمعبودهم، أو بإمامهم في الأعمال الصالحات.
وأما الدعوة إلى الخلق فالدعوة إلى دين الرب.
قال تعالى: (ادع إلى سبيلِ رَبِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة) .
أو الدعوة إلى بيت الله تعالى: (وأَذِّنْ في الناس بالحجِّ يأْتوك رجالاً) .
أو الدعوة إلى عبادة الله.
فالدعوة عامة، والهداية خاصة، قال تعالى: (ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم) .
(ما يُقَال لكَ إلاَّ ماقَدْ قِيلَ للرّسلِ مِنْ قَبْلك) :
في معناها قولان:
أحدهما: ما يقول لك الله من الوحي والشرائع إلا مثل ما قال للرسل من
قبلك.
أو ما يقول لك الكفَّار من التكذيب والإيذاء إلا مثل قول الأمم المكذّبين
لرسلهم، فالمراد في هذا تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتأسّي، وعلى القول الأول أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بما جاءت به الرسل فلا تنْكر رسالته.
(ما مِنَّا مِنْ شَهيد) :
هذا قول المشركين حين يناديهم يوم القيامة، أين شركائي، فيقولون: أعلمناك ما مِنّا مَنْ يشهد لك اليوم بأن لك شريكاً، لأنهم كفروا ذلك اليوم بشركائهم.
(ما كانوا يدعون من قَبْل) :
أي لم يروا حينئذ(2/427)
شركاءهم، فما على هذا موصولة.
أوْ ضلَّ عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من
الشرك، فما على هذا مصدريّة.
(ما لَهمْ مِنْ مَحِيص) ، أي علموا أنهم لا مهرب لهم من
العذاب.
وقيل يوقف على (ظَنوا) ، ويكون (ما لهم) استئنافاً، وذلك ضعيف.
(ما تفرَّقُوا إلا مِنْ بعد ما جاءهُم العِلْمُ بَغْياً بينهم) :
يعني أَهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم.
(مَنْ كان يُريد حَرْثَ الآخرة نَزِدْ له في حَرْثهِ) :
عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعار من حَرْث الأرض، لأن الحارث يعمل وينتظر المنفعةَ بما عَمِل.
(ما قَنَطوا) ، أي يئسوا.
(مَنْ عَفَا وأصلح فأجْرُه على الله) :
في هذه الآية إشارة إلى فعل الحسن بن علي حين بايع معاوية، وأسقط حقَّ نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم، ولهذا قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".
وفيها دليل على أن العفو عن المظلمة أفضل من الانتصار، لأنه ضمن الأجر
في العفو، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله: (ولَمَنِ انتصر) .
فإن قيل: كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله: (والذين إذا
أصابهم البَغْيُ هم يَنْتَصِرون) ، والمباحُ لا مَدْحَ فيه ولا ذم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ المباحَ قد يُمْدَح، لأنه قيام بحق لا بباطل.(2/428)
والثاني: أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم تحرّزاً ممن بدأ بالظلم، فكان
المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم.
والثالث: أنه إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب فانتصاره - صلى الله عليه وسلم - محمود، لأن قتال أهل البغي واجب، لقوله تعالى: (فقاتلوا التي تَبْغي) .
وقد سمَّى - صلى الله عليه وسلم - المقاتلين لعليٍّ بالفئة الباغية، وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية.
(مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) :
القصد بهذه الآية شئان:
أحدهما: تعداد النعمة عليه - صلى الله عليه وسلم -، بأن علّمه الله ما لم يكن يعلم.
والآخر احتجاج على نبوءته، لكونه أتى بما لم يكن يعْلَمه ولا تعلّمه من
أحد.
فإن قلت: أما عدم درايته للكتب فلا إشكال.
وأما الإيمان فلا إشكال أن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم، لكنه وقع الخلاف في نبينا، هل كان متديّنا بشريعة مَنْ قَبْله أو بشريعته؟
والجواب الإيمان يحتوي على معارف كثيرة، وإنما كمل له معرفتها بعد
بعثه.
وقد كان مؤمنأ بالله قبل ذلك، فالإيمانُ هنا يعني به كمال المعرفة، وهي
التي حصلت له بالنبوة، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " كلّ يوم لا أزْدَاد فيه علماً لا بورِك في صبيحة ذلك اليوم "، فكان - صلى الله عليه وسلم - يزداد كل يوم من المعارف ما لا يُحصى ذِكره.
وأما في الجنة، فلا تسأل عما تنكشف له من المعارف اللدنيَّة
والأسرار الربانية، ويفيض منها على هذه الأمة المحمدية، لكل واحد منهم
نصيب بقدر ما اتّبعه واقتدى به، فهم يزدادون معارفَ وجمالاً وبهجة وسروراً، ما لا يحيط بها إلا واهبها، جعل الله لنا منها أوْفَر نصيب بجاه النبي الحبيب.
(مَضَى مَثَل الأَوَّلين) .
أي تقدم لك يا محمد كيف أهلكنا(2/429)
القرون السالفة، والأمم الماضية، لما كفروا وتمرَّدوا، وهكذا من عاندك، ففيه تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم -.
(ما كنّا له مقْرِنِين) :
أي مطيقين وغالبين.
(ما أرْسَلْنَا من قَبْلك) :
معنى الآية: كما اتَّبَع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة كذلك اتبع كلّ من قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة، بل بمجرد التقليد المذموم.
(مَعَارِجَ عليها يَظْهَرُون) ، أي أدراجاً وسلالم.
والمعنى لولا أن يكفر الناس كلّهم لجعلنا للكفار كلَّ ما يتمتعون به ذهباً وفضة لهوان الدنيا علينا.
ومعنى يظهرون: يرتفعون.
ومنه: (فما اسْطَاعوا أنْ يَظْهَروه) .
(مَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّض له شيطاناً) :
من قولك: عَشِيَ الرجل إذا أظلم بَصَرُه.
والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة.
وقال الزمخشري: يعش - بفتح الشين، إذا حصلت الآفة في عينه، ويعشو - بالضم - إذا نظر نظر الأعشى، وليس به آفة، فالفرق بينهما كالفرق بين قولك: عمي وتعامى، فمعنى القراءة بالضم يتجاهل ويجحد مع معرفته بالحق.
والأظهر أن ذلك عبارةٌ عن الغفلة وإهمال النظر.
والمراد بذكر الرحمن هنا القرآن عند الزمخشري، وعند ابن عطية ما ذكّر الله عباده من المواعظ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل.
ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد للَه.
ومعنى الآية أنَ مَنْ غفل عن ذكر الله يسَّرَ اللهُ له شيطاناً يكون له قرينا.
فتلك عقوبة عن الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان، كما أن من دَاوَمَ على الذكر تباعد عنه الشيطان.
مصداقُه الحديث: إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، واضع خرطومه عليه، فإن ذكر العبدُ الله خَنَس، وإن غفل عنه وَسْوَس.
(ما نُرِيهم مِنْ آيةٍ إلاَّ هي أكبَرُ مِنْ أُخْتِها) .(2/430)
الآيات هنا المعجزات، كقلب العصا حيَّة، وإخراج اليد بيضاء.
وقيل البراهين والحجج العقلية، والأول أظهر.
ومعنى أكبر من أختها: أنها في غاية الكبر والظهور، ولم يرد تفضيلها على
غيرها من آياته، إنما المعنى أنك إذا نظرت وجدتَ كبيرة، وإذا نظرت غيرها
وجدت كبيرة، فهو كقول الشاعر:
" مَنْ تَلْقَ منهم تَقلْ لقيت سَيِّدهم "
هكذا قال الزمخشري.
ويحتمل عندي أن يريد: ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها، فالمراد
أكبر من أختها المتقدمة عليها.
(مَهين) : المراد بذلك موسى، ووصفه فرعون بالضعيف الحقير.
(ملائكة في الأرْضِ يَخْلُفون) :
في معناها قولان:
أحدهما: لو نشاء لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون الأرضَ ويخلفون فيها بني
آدم، فقوله: (منكم) متعلق ببدل المحذوف: أو ب (يخلفون) .
والآخر: لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة
يخلفون أولادكم، فإنا قادرون على أن نخلف من أولاد الناس ملائكة، أفلاْ
تذكرون خَلْقَنا عيسى من غير والد وأنتم مقِرّون به.
(ماكِثُون) : دائمون.
(مَنْ شهد بالحقِّ وهم يَعْلَمُون) :
اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع.
والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة، لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه.
ويحتمل على هذا أن يكون (من شهد) مفعولا بالشفاعة على إسقاط
حرف الجر، تقديره: الشفاعة فيمن شهد بالحق، وإن أراد بمن شهد بالحق الشافع(2/431)
فيحتمل أن يكونَ الاستثناء منقطعاً، وأن يكون متصلاً، لأنها فيمَنْ عبد عيسى والملائكة.
والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا مَنْ شهد منهم بالحق.
(مَقَامٍ كَرِيم) :
فيه قولان: المنابر، والمساكن الحسان.
(ما كانوا منْظَرِين) ، أي مؤخرين.
(مولى عن مَوْلى) :
المولى هنا يعلم الوليّ والقريب وغير ذلك من الموالي الذين تقدم ذكْرهم.
(ما يهْلِكنَا إلا الدَّهْر) :
هؤلاء هم الدهرية، ومقصودهم إنكار الآخرة.
(مَنْ أَضَلّ) .
معناها لا أحد أضلّ مِمّن يَدْعو إلهاً لا يستجيب له وهي الأصنام، فإنها لا تسمع ولا تعقل، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم، لأنها لا تسمعه.
(ما كنْتُ بِدْعاً من الرُّسُل) :
البدع، والبديع من الأشياء: ما لم يُرَ مثله، أي ما كنت أوَّلَ رسول، ولا جئت بأمر لم يجئ به أحد قبلي، بل جئت بما جاء به قبلي ناسٌ كثيرون، فلأيّ شيء تنكرون ذلك.
(ما أدْرِي ما يُفْعَل بي ولا بِكمْ) :
فيها أربعة أقوال:
الأول: أنها في أمْر الآخرة، وكان ذلك قبل أن يعلم أنَّ المؤمنين في الجنة
والكفار في النار، وهذا بعيد، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله.
والثاني: في أمر الدنيا، أي لا أدري بما يقضي الله عليَّ وعليكم، فإن مقادير
الله مغيّبة، وهذا هو الأظهر.
الثالث: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي، وما تلْزِمه
الشريعة.
الرابع: أن هذا كان في الهجرة، إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في النوم أنه يهاجِرُ إلى أرض نخل، فقلق المسلمون لتأخّر ذلك، فنزلت هذه الآية.(2/432)
(ما حَوْلَكُمْ مِنَ القُرَى) :
يعني بلادَ عادٍ وثمود وغيرها.
والمراد إهلاك أهلها.
(مَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ) .
يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى.
والمعنى: ليس بمعجز في الأرض، لا يفوت.
(مَوْلى الَّذينَ آمَنوا) .
أي وليّهم وناصرهم، وكذلك: (وأَنّ الكافرين لا مَوْلَى لهم) .
ولا يصح أن يكون الولى هنا بمعنى السيد، لأن الله تعالى مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله: (ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحقِّ) ، لأن معنى الولى مختلف في الموضعين، فمعنى مولاهم الحقّ ربهم، وهذا على العموم في جميع الخلق، بخلاف قوله: (مَوْلَى الذِين آمَنوا) ، فإنه خاص بالمؤمنين، لأنه بمعنى الولي الناصر.
(مَنْ يَبْخَلْ فإنما يبْخَل عن نَفْسه) .
أي إنما ضرر بخْله على نفسه، فكأنه بخل على نفسه بالثواب الذي يستحقه بالإنفاق.
(فَمَنْ نكثَ فإنما يَنْكثُ عَلَى نَفْسِه) ، أي نقض البيعة.
(مَعَرّةٌ بغير عِلْم) .
أي تصيبكم مِنْ قتلهم كراهةٌ ومشقّة.
واختلف هل يعني الإثم في قتلهم، أو الدية، أو الكفارة، أو الْمَلاَمة، أو عَيْب الكفار لهم بأن يقولوا: قتلوا أهل دينهم، أو تألم نفوسهم من قَتْل المؤمنين، وهذا أظهر، لأنَّ قَتْلَ المؤمن الذي لا يُعلم إيمانه - وهو بين أهل الحرب - لا إثم فيه ولا دية ولا ملامة ولا عيب.
(مَعْكوفاً أنْ يَبْلغَ مَحِلَّه) :
كان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق عام الْحديبية مائة بَدَنَةٍ فقَلّده.
وقيل سبعين، ومنعه المشركون من الوصول إلى مكة
(ومَحِلّه) موضع نَحْرِه، يعني مكة والبيت.
ومعكوفاً حال من الْهَدْي.
وأن يبلغ مفعول بالعكفِ.
والمعنى صدّوكم عن المسجد الحرام، وصدّوا الْهَدْي عن أن
يبلغ محله، أو حبس المسلمين للهَدْي بينما ينظرون في أمرهم.(2/433)
(مَثَلُهم في التّوراة) :
أي وصفهم فيها، وتمَّ الكلام هنا، ثم ابتدأ قوله: (وَمثَلهم في الإنجيل كزَرْع) .
وقيل: إن مَثَلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة، ثم ابتدأ قوله: كزرع، وتقديره هم كزرع.
والأول أظهر، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان.
وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك.
وعلى هذا يكون المثل في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل، وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف، كمثلهم في التوراة.
(مَغْفِرة وأجْراً عظيما) .:
وعد يعمّ جميعَ الصحابة رضوان الله عليهم، وفي هذا تشريف لهم، وكيف لا وقَدْ ذكر الله مؤمنَ آلِ فرعون بكلمة قالها ينصر بها موسى إلى آخر الدهر، فما بالك بمن شَّ الله بهم الدِّين وأعلاه
حتى عمّ جميع الأرضين، وأغاظ اللَّهُ بهم الكافرين، اللهم بحرْمَتِهم لديك اغْفِرْ لنا ولجميع المذنبين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين.
(ما تَنْقصُ الأرْضُ مِنْهم) :
هذا ردّ على الكفَّار في إنكارهم البعث.
ومعناه قد علمنا ما تنقص الأرض من لحومهم وعظامهم، فلا يصعب
علينا بعثهم.
وفي الحديث: كلّ جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب.
منه خلق، وفيه يركب، إشارة لكم أنها العبيد في بقائه وتركيب الجسد منه.
وقيل: المعنى قد علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، والأول قول
ابن عباس والجمهور، وهو أظهر.
(مَرِيج) ، أي مختلط، فتارة يقولون ساحر، ومرة كاهن، فاختلط أمرهم واضطرب.
(ماء مباركاً) : يعني المطر كله.
وقيل الماء المبارك مطر مخصوص.
وقيل مطر النيسان، وليس كلّ مطر يتّصف بالبركة، وهذا ضعيف.
(ما كنْتَ مِنْه تَحِيد) ، أي تهرب.
والخطاب للإنسان.
(مَنَّاعٍ للخير) ، أي للزكاة المفروضة.
والصحيح العموم.(2/434)
(مَزِيد) : يعني النظر إلى الله، كقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .
وقيل يعني ما لم يخطر في قلوبهم، كما ورد في الحديث:
إن الله قال: "أعْدَدْت لعبادي الصالحين ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعَتْ، ولا خطر على قَلْب بشر".
(مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) :
هذا كقوله تعالى: (إنما تنذر الذين يَخْشَوْن ربّهم بالغيب) ، لأنه لا ينفع التذكير إلا فيمن يخاف.
(ما يهْجَعون) ، أي ينامون، بل كانوا يقطعون أكثر
الليل بالصلاة والتضرع والدعاء.
(المحروم) :
اختلف الناس في معناه حتى قال الشعبي:
أعياني أن أعلم ما الحروم.
والمعنى الجامع للأقوال كلها أن المحروم الذي حرمه
الله المال بأيّ وجْهٍ كان، والمحروم والمحارف بمعنى واحد، لأن المحارف الذي
انحرف عنه الرزق.
(ما خَطْبكم) ، أي ما شَأنكم وخَبَركم، والخطْب أكثر
ما يقال في الشدائد.
(مَنْ كان فيها من الْمؤْمنين) : الضمير المجرور لقرية
قوم لوط، لأن الكلام يدل عليها، وإن لم يتقدم ذكرها.
والمراد بالمؤمنين لوط وأهله، أمرهم الله بالخروج من القرية لينجوا من العذاب الذي أصاب أهلها.
فإن قلت: قد وصفهم أولاً بالمؤمنين، ثم قال بعد: (فما وجَدْنَا فيها غَيْرَ
بَيْت من المسلمين) ، فهل جمعوا الوصفين، وهل هما بمعنى واحد؟
فالجواب أنهم جمعوهما، ومعنى الإسلام الانقياد.
والإيمان هو التصديق، ثم إنهما يطلقان بثلاثة أوجه باجتماعهما كهذه الآية، وباختلاف المعنى، كقوله: (قالت الأَعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) .
فالإيمان والإسلام في هذا الموضع متباينان في المعنى.(2/435)
وبالعموم كقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) ، فيكون الإسلام أعمّ، لأنه بالقلب والجوارح، والإيمان أخصّ لأنه بالقلب خاصة.
(الماهِدون) : موطئ للموضع.
(ما أنْتَ بِملوم) ، أي قد بلَّغتَ الرسالة فلا لوم عليك.
(ما خَلَقْتُ الجنَ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبدون) .
أي خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي.
وقيل ليتذللوا لي، فإنَّ جميع الإنس والجن متذلّل لربوبيتي.
فإن قلت: ما فائدة ذكر الصنفين، ولم لم يذكر الملائكة وهم أكثر عبادة
منهما، وما فائدة تقديم الجن على الإنس؟
فالجواب أنه لم يذكر الملائكة لأنه لا تقع منهم معصية لعصمتهم، وأيضاً لم
يكلَّفوا بالعبادة غير السجود لآدم.
وإنما قدم الجن لثقله، ومن عادة العرب تقديم الأثقل في كلامهم إذا جامعه الأخفّ، لنشاط المتكلم، وأيضاً فإن المطيعين
من الإنس أكثر، فأخَّرهم ليختم بهم، وليرهب الجن من ذلك.
وقيل غير هذا من الأجوبة حذفناه لطوله.
(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) .
أي ما أريد أنَ يرزقوا أنفسهَم ولا غيرهم، ولا أريد أنَ يطعموني، لأني منَزَّه عن الأكل وعن صفات البشر، وأنا غنيّ عن العالمين.
وقيل المعنى: ما أريد أن يطعموا عبيدي، فحذف المضاف تجوّزا.
وقيل معناه: ما أريد أن ينفعوني، لأني غنيّ عنهم، وعبَّر عن النفع العام بالإطعام.
والأول أظهر.
(مَسْجور) ، أي مملوءآَ، وهو بحر الدنيا.
وقيل: بحر في السماء تحت العرش.
والأول أظهر.
وقيل: المسجور الفارغ من الماء.
ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة.
واللغة تقتضي الوجهين، لأن اللفظ من الأضداد.
وقيل في معناه: الموقد ناراً،(2/436)
من قولك: سُجِّرت القبور.
واللغة أيضاً تقتضي هذا.
وروي أن جهنم في البحر.
(ما ألَتْنَاهمْ مِنْ عَملِهم مِنْ شيء) .
أي ما نَقَصْنَاهم شيئاً من ثواب أعمالهم، بل وفّيناهم أجورهم.
وقيل المعنى: ألحقنا ذرياتهم بهم، وما نقصناهم شيئاً من ثواب أعمالهم بسبب ذلك، بل فعلنا ذلك تفضَّلاً زيادة إلى ثواب أعمالهم.
والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا.
وقيل إنه يعود على الذرية.
وفي الحديث: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يرفع ذرية المؤمنْ في درجته، وإن كانوا دُونه في العمل لتقرَّ بهم عيْنهُ ".
وكذلك كرامة الأبناء بسبب الآباء، فقيل: إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا.
وقيل على الإطلاق في أولاد المؤمنين.
فإن قلت: لم قال: بإيمان بالتنكير؟
فالجواب أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلاً لدرجة آبائهم.
ولكنهم لحقوا بهم كرامة للآباء، فالمراد تقليل إيمان الذرية، ولكنه رفع
درجتهم، فكِيف إذا كان إيمانا عظيما.
(ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوَى) :
هذا جواب القسم.
والخطاب لقريش عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الضلال والغي، والفرق بينهما أنَّ الضلال بغير قصد والغي بقصد وتكسّب.
(ما يَنطِق عن الهوَى) ، أي ليس يتكلم بهواه وشهوته، وإنما
يتكلم بما يوحى إليه.
وفي هذا دليل على أن السنن بِوَحْي من الله، ويشهد لهذا
الرجل الذي سأله وقد تناثر رأسه من القمل.
(ما أَوْحَى) : إبهام يقتضي التفخيم والتعظيم.
وفي معناه أقوال:
الأول: أن المعنى أوحى إلى عبده محمد ما أوحى.
الثاني: أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وعاد الضمير على الله في(2/437)
القولين، لأن سِيَاقَ الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره، فهو كقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القَدْر) .
الثالث: أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى.
والأول أظهر بدليل سؤال عائشة له - صلى الله عليه وسلم -: ما أوحى إليك ربك، فأبى أن يخبرها، فألَحّتْ عليه وأقسمت له باللهِ، فقال: يا عائشة، أوحى إليّ أنه لا يحاسب أمتي غيره لما سألته أن يجعل حسابَهم إليَّ وقال: لا أريد أن يطَّلع على مساويهم أَنتَ ولا غيرك.
وفي رواية: أنت شفيع لهم وأنا رحيمهم، فكيف
تضيع أمةٌ بين شفيع ورحيم.
(ما كذَبَ الفؤاد ما رَأى) ، أي ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه، بل صدق بقلبه أن الذي رأى بعينه حق، والذي رأى هو
جبريل، يعني حين رآه قد ملأ الأفق.
وقيل: الذي رأى ملكوت السماوات.
والأول أرجح: (ولقد رآه نزلة أخرى) .
وقيل الذي رأى هو اللَه تعالى، وقد قدمنا إنكار عائشة رضي الله عنها لذلك.
وسئل - صلى الله عليه وسلم -: " هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: نوراني نراه!
(ما يَغشَى) :
فيه إبهابم لقصد التعظيم.
وفي الحديث قال: "فغشيها ألوان لا أرى ما هي"، وهذا أولى ما تفَسَّر به الآية.
(ما زَاغَ الْبَصَرُ وما طَغَى) .
أي بَصَرُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي ما تجاوز مما رأى إلى غيره، بل أثبتها وتيقَّنها.
(مَنَاْة الثالثةَ الأخرى) :
صخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، وكانت أعظم الأوثان عندهم، لأنه تعالى أكدها بهاتين الصفتين، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: الأخرى ذمّ وتحقير، أي المتأخرة الوضيعة القدر.
ومنه: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ) .
(ما تمَنَّى) :
يعني ليس للإنسان ما تمنّى من الأمور، لأنها(2/438)
بيد الله يعطي ما يشاء ويمنع ما شاء، وفيه إشارة إلى ما طمع فيه الكفار من
شفاعة الأصنام فيهم.
وقيل: هو تمنِّي بعضهم أن يكون نبيئاً.
وقيل غير هذا.
والأحسن حمل اللفظ على إطلاقه.
(مَبْلَغهم مِنَ العِلْم) ، أي انتهاء علمهم، لأنهم علموا
منفعتهم في الدنيا ولم يعلموا ما ينفع الآخرة.
(ما فِيه مزْدَجَر) :
اسم مصدر بمعنى ازدجار، بمعنى أنه مظنة أن يزجر به، يعني قد جاء قريشاً من القصص والبراهين والمواعظ - لو عقلوها - ما يصدقونك به يا محمد.
(ما تغْنِي النّذر) :
يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية بمعنى الاستبعاد والإنكار.
(مَغْفولبٌ فانْتَصِر) :
أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك.
وقالت التصوفة: معناه قد غلبتني نفسك حين دعوت على قومي فانتصر مني.
وهذا ضعيف، لأن قوم نوح مكروا به وأرادوا إهلاكه، ومكر الله بخروجهم
من وجه الأرض، فأخرج الله منها ماء حارًّا، وأنزل من السماء ماء باردا، وأظهر من بينهما طوفاناً مبيداً، فأهلك عدوَّه، وأنْجَى حبيبه، كذلك يقول الله تعالى: يا إسرافيل، انفخ في الصور، ويا أهل القبور والنشور ويا سماء انفطري، ويا كواكب انتثري.
ويا شمس انكدري، (ثم ننَجِّي الذين اتقوا ونَذَر الظالمين فيها جِثِيًّا) .
(ما أمْرُنا إلاَّ واحدةٌ) :
عبارة عن سرعة نفوذ أمر الله، ويراد بالواحدة الكلمة التي هي: كنْ.
(مَقْعَدِ صِدْق) : مكان رضا.(2/439)
(مَرْجَان) : صغار اللؤلؤ عند بعضهم.
قال ابن عطية:المرجان حَجر أحمر.
وذكر الجواليقي عن بعض أئمة اللغة أنه أعجمي.
فإن قلت: لا يخرج المرجان إلا من البحر الملح، فما معنى قوله تعالى:
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا) ، وكذلك قوله: (وتستخرجون حلية تلبسونها) .
وهي لا تخرج إلا من البحر الملح؟
والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: إن ذلك تجوّز في العبارة، كما قال: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) ، والرسل إنما هي من الإنس.
والثاني: أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح، حيث تنصبّ أنهار الماء
العذب، وينزل المطر، فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصبّ في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعاً.
الثالث: زعم قوم أنه قد يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب.
وهذا قول يبطله الحسّ.
(مَنْ عليها فَانٍ) :
الضمير للأرض، يدلُّ على ذلك سياق الكلام وإن لم يتقدم لها ذكر، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان، ولكنه غلب العقلاء.
(مَقْصورَاتٌ في الخِيَام) :
أي محجوبات، لأن النساء يمْدَحن بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج منها، ولا تقام الخيام من الخشب والحشيش، وإنما هو لؤلؤ مجوَّف فلا الديار الديار، ولا الخيام الخيام.
وفي الحديث: إن جبريل ينغمس كلّ يوم في عين الحياة، وينتفض، فكلما سقطت قطرة من ريشه سقطت منه حوراء عليها خيمة لؤلؤ لا يراها ملك ولا غيره، غيرة منه سبحانه على وليّه المطيع له أنْ يَرَاها غيره، فكيف لنا بالوصول إلى هذا النعيم المقيم، وأكبر من هذا التلذذ برؤية المولى العظيم - إلا باطِّراح أنفسنا بين(2/440)
يديه، وقولنا له: أنتَ أنتَ، ونحن نحن، ولا بد لنا من الوصول إليك، فعامِلْنَا بما يعامل به المولى الكريم لعبده اللئيم، فلا فضيحة إلا ونحن أهلها، ولا ستْر إلا وهو أهله، فاسترنا بما نحن أهله بما أنت أهله يا رحيم.
(ما أصحابُ الْمَيْمَنَة) :
هذا ابتداء خبر، وفيه معنى التعظيم، كقولك: زيد ما زيد.
والْمَيْمَنَة يحتمل أن تكون مشتقّة من اليمن، وهو ضدّ الشؤم، وتكون
الْمَشْأمة مشتقة من الشؤم.
أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية
الشمال واليَدُ الشّؤْمَى هي الشمال، وذلك لأن العربَ تجعل الخير من اليمين والشرَّ من الشمال.
أو لأن أهل الجنة يحملون إلى جهة اليمين، وأهل النار يحملون إلى
جهة الشمال.
أو يكون من أخذ الكتاب باليمين أو الشمال.
أو يقال أصحاب الميمنة أصحاب اليمين على أنفسهم، أي كانوا ميامين على أنفسهم، وأصحاب الشمال مشائيم على أنفسهم.
(مَوْضونة) : منسوجة.
وقيل المشتبكة بالدرّ والياقوت.
وقيل معناه متواصلة قد أُدْني بعضها إلى بعض.
(ما أصحابُ اليَمين) :
هذا مبتدأ وخبر، وقصِد به التعظيم، فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده.
ويحتمل أن يكون الخبر في صدر الآية، ويكون (ما أصحاب اليمين) اعتراضاً.
والأول أحسن.
وكذلك إعراب (ما أصحاب الشمال) .
(مَنْضود) .
أي نضّد بالتمر من أعلاه إلى أسفله حتى لا يظهر له ساق.
(مخضود) :
يعني لا شوك فيه، وذلك أن سدر الدنيا له
شوك، فوُصِف سِدْر الجنة بضدّ ذلك.
وقيل المخضود هو الموقر الذي انثنت
أَغصانه من كثرة حمله، فهو على هذا من خضد الغصْنَ إذا ثناه.(2/441)
(مَاءٍ مَسْكُوبٍ) .
أي مصبوب، وذلك عبارة عن كثرته.
وقيل المعنى أنه جارِ في غير أخاديد ولا ساقية ولا دلو ولا تعب.
(مَحْرومون) : ممنوعون من الرزق، يعني يقولون ذلك لو
جعل الله زَرْعَهم حُطاماً.
(مَتَاعاً للمقْوِين) : أي الذين دخلوا في الْقِوَاء، وهي
الفيافي، ولذلك عبر عنه ابن عباس بالمسافرين.
ويحتمل أن يكون من قولهم:
أقوى المنزل إذا خلا، فمعناه الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام.
ولذلك عبر عنه بعضهم بالجائعين.
(مَوَاقِع النجوم) :
فيه قولان:
أحدهما قول ابن عباس أنها نجوم القرآن، لأنه نزل على نبينا ومولانا محمد
- صلى الله عليه وسلم - منجّماً، كما قدمناه في عشرين سنة أو أكثر، فكل قطعة منه نَجْم.
والآخر، وهو قول كثيرٍ من المفسرين أنها النجوم الكواكب، ومَوَاقعها
مغاربها ومساقطها.
وقيل مواضعها من السماء.
وقيل انكدارها يوم القيامة.
(مَدِينين) : أذلاء من قولك: دِنْتُ له بالطاعة.
ومعنى الكلام: فلولا ترجعون النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوها إن كنتم صادقين، أي مربوبين ومقهورين.
(ما لكم لا تُؤْمِنُون باللَهِ والرَّسول) : استفهام يراد به الإنكار.
ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم.
والواو في قوله: والرسول يدعوكم - واو الحال، ومعناه أيّ شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة.
(ما لكم ألاَّ تنْفِقُوا في سبيل الله) : فيه تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا.
ومعناه أيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.
واللة يرِث ما في السماوات وما في الأرض إذا أفنى أهلها.(2/442)
(ما أصاب مِنْ مصِيبةٍ في الأرض ولا في أنْفُسكم) .
معناها أنَّ الأمور كلها مقدَّرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن
تكون.
قال - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء.
والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يُصيب من خير أو شر.
وقيل أَراد به المصيبة في العُرْف، وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك
بالذكر، لأنه أهم على الناس.
فانظر هذا اللطف العظيم من هذا الرب الكريم في
دعاء عباده بهذه الآية إلى إراحة أنفسهم شفقةً عليهم وهي قطب دائرة العبادة
عليه، ومدارها، وهو ثبات الباعث عليها، ألا ترى ما وعدهم به من الأجر على الصبر على المصائب مع ما في الرضا بها من الراحة والسلامة، وما في الجزع من الهمِّ والغمِّ والعقوبة، وكيف يسخطُ الجاهل بعواقب الأمور، وإنما أجهلك بها لتسأله أَنْ يختارَ لك ما لا تختاره لنفسك، إذ هو عالم بما يصلح لك، والكلام على هذه الآية طويل تكفّل بجمعه علماء أجلة كالغزالي وابن عطاء الله والقشيري وغيرهم، جزاهم الله عنَّا ما هو أهله.
فإن قلت: قد فصل في هذه الآية مصائب الأرض، كالزلازل والقحوط.
وفي أنفسكم بالمرض والموت والفقر، وأجمل في التغابن، فما الحكمة؟
فالجواب إنما فصل فيها موافقة لما قبلها، لأنه فصَّل في سورة الحديد أحوال
الدنيا والآخرة بقوله: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) .
فناسب ذلك التفصيلُ التفصيلَ في الآية.
وأما سورة التغابن، فناسب الإجمال الوارد فيها من ذلك المشترك، وتحصَّل نظم السورتين على أَتَمِّ مناسبة.
فإن قلت: ما لنا نفرح بالخير ونجزع من الشر، وقد قال تعالى: (لكيلا تَأسوْا على ما فاتَكمْ ولا تَفْرَحوا بما آتاكم) .
وقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - لما أوتي بمال كثير: اللهم لا نستطيع أن نفرح إلاَّ بما زيَّنت لنا.
وقد حثى أيوب من الجراد الذي سقط عليه، فقال الله له: ألم يكن فيما أبليتك - أي أعطيتك - غِنًى عن هذا، فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركاتك.(2/443)
فالجواب أن النهي إنما هو عن الفرح الذي يعود إلى الكبر والطغيان، وعن
الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم.
وقد ذكر القرافي فرقاً بين الرضا بالقضاء وبين الرضا بالمقضيِّ.
وضرب له مثلاً بالطبيب إذا وصف للعليل دواءً مرًّا، أو قطع يده المتآكلة.
فإن قال بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، وكان غير هذا يقوم
مقامه بما هو أيسر فهو تسخّط بقضاء الطبيب، وإذاية له، وجناية عليه، بحيث لو سمعه الطبيب كره ذلك، وشقَّ عليه.
وإن قال: هذا، لدواء مرٌّ قاسيْتُ منه شدائد، وقطع اليد لي منها آلام عظيمة مبرّحة فهذا سخْطٌ بالمقضي الذي هو الدواء والقَطْع لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، فهذا ليس يقدح في الطبيب، ولا يؤلمه إذا سمع بذلك، بل يقول له: صدقت، الأمر كذلك، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء، بل عدم رضاً بالمقضيِّ.
وإن قال: أي لشيء عملته حتى أصابني مثل هذا، أو ما ذَنْبي، أو ما كنت استَأهِل مثل هذا، فهذا عدم رضا بالقضاء، فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض عليه في ملكه.
وأما أنَّا أُمِرْنا أن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فليس كذلك، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد ما ليس في طبعه، ولم يُؤمر الرَّمِدُ باستطابة الرمد المؤلم، ولا غيره من المرض، بل ذمَّ اللهُ قوماً لا يتألّمون ولا يجدون للبأساء وقْعاً بقوله: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما اسْتَكَانوا لربِّهم وما يتَضَرَّعون) ، فمن لم يتمسكن، ويذل للمؤلمات، ويظهر الجزع منها، ويسأل ربه إقالة العثرة - فهو جبار عَنِيد، وشيطان مَرِيد.
فإن قلت: يفهم من هذا أن من قدر الله عليه بمعصيته يجب عليه الرضا بها.
وليس كذلك؟
فالجواب أن الرضا بالمقضيّ قد يكون واجباً كالإيمان بالله والواجباتِ إذا
قدرها الله للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات، وحراماً في المحرمات.
والرضا بالكفر كفر، ومباحاً في المباحات.
وأما بالقضاء فواجب على الإطلاق(2/444)
من غير تفضيل، فمن قضي عليه بالمعصية أو الكفر - والعياذ باللهِ - فالواجبُ عليه أن يلاحظ جهةَ المعصية والكفر فيكرههما.
وأما إنْ قدر الله فيهما فالرضا ليس إلا.
ومتى تسخّطه وسفه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية، وكفراً
منضمّاً إلى معصيته وكفره على حسب حاله في ذلك.
أما إذا تاب ورجع إلى الله من ذلك فلا شكّ أنَّ المعصية في حقه نعمةٌ من الله عليه، لأن الذنبَ يورث الافتقار، والطاعة تورث الاستكبار، والمعصية ُ تورِث ذلاً وافتقاراً خير من طاعة تورث عزا واستكباراً.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أنَّ الذنب خير للمؤمن من العُجْب ما
خَلّى الله بين عَبْدٍ وبين ذَنْب أبدًا ".
وفي الحديث: "إن إبليس ليوقع العبد في معصية فلا يزال هذا العبد نادماً عليه وخائفاً من عقوبته، فيقول إبليس: يا ليتني لم أوقعه فيه".
والكلام هنا طويل تركناه لذلك.
(مَنْ ذَا الذي يقْرِض الله قَرْضاً حَسَنًا) :
ندب الله عبادَة في هذه الآية إلى الإنفاق في سبيل الله، وهذا من لطْفِ اللَهِ بهم، تارة يدعوهم إلى الزّهد في الدنيا والخروج عنها بالإقراض، وتارة بلفظ المضاعفة، فهنيئاً لكم أيتها الأمة بما خوّلكم مولاكم.
وسبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذَرَّةٍ خيراً
يَرَه) - شَقّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل الأمة، ولم يرض بذلك، فأنزل اللَّهُ: (أولئك يؤتَوْن أجرهم مرتين) ، فلم يَرْضَ بذلك، فأنزل الله: (مَنْ جاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) ، فلم يرض بذلك، وقال: " رب زد أمتي "، فأنزل الله: (واللَه يضاعف لمن يشاء) ، فقال: " رب، زِدْ أمتي "، فأنزل الله: (مَنْ ذَا الذي يقْرِض الله قَرْضاً حَسَنًا) .
والكثير لا يكون أقلَّ من ثلاثة، والدنيا كلّها قليل، والإضعاف لا يكون
أقل من ثلاث مرات مثل الدنيا.
فقال: رب، زد أمتي، فأنزل الله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) .
فإن قلت: هلا أعطاهم بغير قَرْض ولا مجيء حسنة في قوله تعالى:(2/445)
(مَنْ جاء بالحسنة) .
وما الحكمة في أنَّ الله ذكر الصدقةَ بلفظ القرض، وما الحكمة في
الإضعاف؟.
فالجواب أن الله تعالى لو أعطى الثواب بغير شيء لكان يجب أن يعطي
الكفّار مثلَ ما يعطي المؤمنين، فجعل الحسنات إلى المؤمنين لتمنع الثواب عن
الكفار بها، ولا تكون حجة عند الله.
وذكر الصدقة بلفظ القرض، لأن المقرض محتاج، فذكر أنك محتاج إليه مضطر، فلا يمنعك لاحتياجك، ولتعلم أنه يخْلفه لك.
والقرض ليس فيه مذلّة، بخلاف الصدقة.
ومن أقرضته لا يمنُّ عليك.
ولما كان للأمم الخالية عمر طويل وطاعات كثيرة بخلاف هذه الأمة، فخصَّها الله بتضعيف الطاعات، وتفصيل الأوقات، لتكون أعمالهم زاكيةً عليهم.
ولما كان في الطاعات تقصيرٌ جعل لهم الإضعاف، إذ هو بغير تقصير، وبه تنال الجنة، لأنها من فضله ورحمته لا بعملهم وسعْيهم وإن ظلموا بعضهم بعضا تؤخذ حسناتهم بقدر مظلمتهم حتى تفنى ولا يبقى إلا التضعيف، فيقولون: يا ربنا، أعطنا من أضعاف عملنا.
فيقول الله لهم: ذلك ليس منْ الفعل، وإنما هو من فضلي ورحمتي، فلا نصيب لكم فيها، فلا تؤخذ منهم.
(مَنَافِعُ لِلنَّاسِ) :
يعني أنَّْ الحديد فيه منافع لسكك الحرث والمسامير، وذلك أن كلَّ صنعة لهم مفتقرة إليه، فلا يستغنى عنه.
(مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) : يعني أنَّ الله أنزل الحديد
ليعمل منه السلاخ لقتال أعْداءَ الله، وليعلم الله مَنْ ينصره، أي ليعلمه موجوداً فالمتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحديث الذي خرج من العدم إلى الوجود.
ومعنى (بالغيب) بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه، فآمن به لقيام الأدلة
عليها، فأى عذر لتاركِ الجهاد في سبيل الله، وقد أخبر أنه أرسل رسلاً، وأنزل كتباً، وعدلاً مشروعا، وسلاحاً يقاتل به من عاند، ولم يهتد بهَدْي الله.
(ما كتَبْنَاهَا عليهم إلاَّ ابتغاءَ رِضْوَان الله) :
أي فرضنا وشرعنا.
وفي هذا قولان:(2/446)
أحدهما أن الاستثناء منقطع.
والمعنى ما كتبنا على الذين اتّبعوا عيسى الرهبانية من الاعتزال عن الناس، ورَفْض النساء، وتَرْك الدنيا، ولكنهم فعلوها من تِلْقَاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
والآخر أنَّ الاستثناء متصل: والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله.
والأول أرجح، لقوله: ابتدعوها، ولقراءة عبد الله بن مسعود ما كتبناها
عليهم، لكن ابتدعوها.
والمعتزلة يعربون (رهبانية) مفعولاً بفعل مضمر يفسره ابتدعوها، لأن مذهبهم أنً الإنسانَ يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم الفاسد.
(ما رَعَوْهَا حقَّ رِعَايَتِها) ..
أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا على الوفاء بها.
والضمير في (رعَوْها) للذين ابتدعوها لرهبانيةٍ، وكان
يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله عليهم، لأن من دخل في شيء من النوافل وجب عليه إتمامُه، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله لعبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك، أحب العمل إلى الله أدْوَمه وإن قل.
حتى قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان أحبَّ العمل إليه ما كان ديمةً.
(ما هُن أُمهاتِهم) :
ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة، وأخبر تعالى أنَّ تصيير الزوجة أُمًّا باطل، لأن الأم في الحقيقة الوالدة التي ولدت.
(ما يكون مِنْ نَجْوَى ثلاثةٍ إلا هو رَابِعُهم) المجادلة: 7.
يحتمل أن تكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فيكون ثلاثة مضافاً إليه، أو بمعنى الجماعة من الناس، فيكون ثلاثة بدلاً أو صفة، والأول أحسن.
(ما هم مِنْكُمْ ولا مِنْهُم) :
يعني أنَّ المنافقين ليسوا من المسلمين ولا من اليهود، فهو كقوله تعالى فيهم: (مُذَبْذَبين بين ذلك) .
وإذا عُوتبوا على سوء قولهم وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا ولا فعلوا.
وقد صدر ذلك منهم مراراً كثيرة مذكورة في السير وغيرها.(2/447)
(مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) .
ضمير الغيبة يعود على بني النضير، وذلك لكثرة عدتهم ومَنَعة حصونهم.
فأخذهم الله ولم تغْنِ عنهم من الله شيئاً.
(مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) .
نزلت بسبب الفيء.
يعني ما آتاكم من الفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفَيْءَ، ونهي للأنصار عنه، ولفط الآية مع ذلك عامّ في أوامره ونواهيه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع مِنْ لبْس المخيط على الحُرُمِ، ولعن الله الواشمَة وغيرها لوروده عنه - صلى الله عليه وسلم -.
(كَمَثَلِ الذين مِنْ قَبلهم قَرِيباً ذَاقوا وَبَالَ أمْرِهم) .
أي هؤلاء اليهود كمَثَلِ الذين مِنْ قَبْلهم - يعني اليهود من بني قَيْنقاع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، فكانوا مثلاً لهم.
وقيل يعني أهلَ بَدْر الكفار، فإنهم قبلهم، ومثَلٌ لهم في أن غلبوا وقهروا.
والأول أرجح، لأنَّ قوله: (قريباً) - يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة.
وذلك أوقع على بني قَيْنقاع.
وأيضاً فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع ألْيق لأنّهم
يهود مثلهم، وأخرجوا من ديارهم، كما فعل بهم، وذلك هو المراد بقوله: (ذاقوا وبال أمرهم) .
(كمثل الشيطان ... ) .
مثَّل الله المنافقين الذين أغْووا اليهود من بني النضير تم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان، فإنه يَغْوِي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس.
وقيل: أراد الشيطان الذي أغوى قريشاً يوم بدر، وقال لهم: (إني جاز لكم) .
وقيل المراد بالإنسان برصيص العابد، فإنه استودع امرأة فزيَّن له الشيطان
الوقوع عليها، فحملت فخاف الفضيحة، فزيَّن له الشيطان قَتْلها، فلما وُجِدتْ مقتولة تَبَيَّن فعله، فتعرّض له الشيطان، وقال له: اسجد لي وأنجيك، فسجد له وتبرَّأ منه.
وهذا ضعيف في النقل.
والأول أرجح.(2/448)
(موَدَّة) : أي محبّة، وقد كمُلَت في فَتْح مكة، فإنه أسلم
حينئذٍ سائر قريش.
وقيل المودة تزوّج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.
وردَّ ابن عطية هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية.
وبالجملة لما أمر الله المسلمين بمعاداة الكفار ومقاتلتهم امتثلوا ذلك على ما
كان بينهم وبين الكفار من القرابة، فعلم الله صدقهم، فآنسهم بهذه الآية.
ووعدهم أن يجعل بينهم مودة.
(مِثْلَ ما أنْفَقوا) ، أي اطلبوا من الكفار ما أنفقْتُم من
الصدقة على أزواجكم اللاتي فررن إلى الكفار، وليطلب الكفار ُ منكم ما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
فإن قلت: يفْهَم من تكرر هذه الآية بقاء حكمها؟
والجواب أنه لما قال الله: (واسألوا ما أنْفَقْتُم ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا) .
قال الكفار: لا نرضى بهذا الحكم، ولا نُعْطي صداق مَنْ
فَرَّتْ زوجتُه إلينا من المسلمين، فأنزل الله هذه الآية الأخرى.
وأمر المسلمين أن يدفعوا الصداقَ لمن فرَّت زوجته إلى الكفار من المسلمين، ويكون هذا النوع من مال الغنائم على قول مَنْ قال: إنَّ معنى فعاقبتم: غنمتم.
وقيل من مال الفيء.
وقيل من الصدقات التي كانت تُدْفع للكفار إذا فرَّ أزواجُهم إلى المسلمين، فأزال الله دَفْعَها إليهم حين لم يرضوا حكمه.
وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآيات قد ارتفعت، لأنها نزلت في قضايا
معينة، وهي مهادَنةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي العرب، ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة، إذ لا يجوز لنا مهادنة المشركين من العرب، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف، وإنما تجوز مهادنةُ أهلِ الكتاب والمجوس، لأن الله تعالى قال في المشركين: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
وقال في أهل الكتاب: (حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في المجوس: "سنّوا بهم سنَّةَ أهل الكتاب".
(مَرْصوص) :
هو الذى يُضَمّ بعضُه إلى بعض.(2/449)
وقيل: هو المعقود بالرصاص، ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظة، وفيها إشارةٌ إلى الثبات في القتال والجِدّ فيه.
(مثَل الذين حُمِّلوا التوراةَ) .
أي كلِّفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها، فلما لم يطيقوا أمْرَها ولم يعملوا بها شبّههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولا يدري ما فيها، وهم أيضاً حملوا التوراة ولم يحملوها، لأنها تنطِقُ بنبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن قرأها ولم يؤمِنْ بها
فقد خالف التوراة.
(ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ ومِنَ التجارة) :
سبب هذه الآية أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائماً يخطب على منبره يوم الجمعةْ، فأقبلت عِير من الشام
بطعام وصاحِبُ أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العِير
المدينةَ بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهلُ المسجد إليها، وتركوه - صلى الله عليه وسلم - قائماً على المنبر، ولم يَبْقَ معه إلا اثنا عشر رجلا.
قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم، وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة.
واختلف في الثاني عشر فقيل عبد الله بن مسعود.
وقيل عَمّار بن ياسر، وقيل: إنما بقي معه - صلى الله عليه وسلم - ثمانية.
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا هؤلاء لقد كانت
الحجارة مسوَّمةً في السماء على الناقضين ".
فإن قلت: ما بالُ الصحابة الموصوفين بالصلاح والعفاف يُهرعون للعِير
ويَدَعون أشرفَ الخلق على منبره يعظُهم ويذكرهم؟
فالجواب أنَّ ذلك منهم كان عند هجرته - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولم يوقر الإيمان في صدورهم، وكانت مَسْغَبة عظيمة، ولهم عيالٌ يطلبونهم، فلكثرة فرحهم بسرور عيالهم وعلمهم بحسن خلق نبيهم وأنه بعثه الله رحمةً لهم وميسِّراً لدينهم، خرجوا لنظر العير، هل أتى بطعام كثير يفرحون بهم أهاليهم، ولأنهم كانوا قد صلّوا
معه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة المفروضة، وظنهم أنَّ الخطبة ليست من شرط الصلاة، وأنهم سيرجعون إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد نظرهم، وإلاَّ لو علموا وجوبَ ذلك عليهم لآثروه على(2/450)
أنفسهم وأولادهم، ألم تسمع إلى قولهم - في غَزْوَة بدر لما استشارهم - صلى الله عليه وسلم - في القتال: نحن أسيافك القاطعة، ودروعك المانعة، إنْ خُضْتَ بحراً خضناه معك، وإن قاتلت ندفع عنك، ولسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهَبْ أنْتَ ورَبّك فقَاتِلا، ولكن نقول لك: اذهَبْ أنْتَ وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون.
فإن قلت: لِمَ قال: (انفضّوا إليها) - بضمير الفرد، وقد
ذكر التجارة واللهو؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه أراد انفضّوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما
لدلالة الآخر عليه، قاله الزمخشري.
والآخر: أنه قال ذلك تهمُّماً بالتجارة، إذ كانت أهَمَّ، وكانت هي سبب
اللهو، ولم يكن اللهو سببها، قاله ابن عطية.
فإن قلت: لم قدّم في هذه الآية اللهو على التجارة، وقدم التجارة قبل هذا
على اللهو؟
فالجواب أنَّ كلّ واحدٍ من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه، وذلك أنَّ
العرب تارة يبدأون بالأكثر، ثم ينزلون إلى الأقل، كقولك: فلان يخون في
الكثير والقليل، فبدأت بالكثير، ثم أردفت عليه القليل، وهي دونه.
وتارة يبدأون بالأقل، ثم يرتَقُون إلى الأكثر، كقولك: فلان أمين على القليل والكثير، فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الكثير.
ولو عكس في كل واحد من المثالين لم يكن حسناً، فإنك لو قدمت في الخيانة ذكر القليل لعلم أنه يخون في الكثير من باب أحرى وأولى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة، وكذلك قوله: (إذا رَأوْا تجارة أو لَهْوا انفضّوا إليها) - قدم التجارة هنا ليبيِّن أنهم ينفضّون إليها من باب
أولى، انفضاضهم إلى اللهو الذي هو دونها.(2/451)
وقوله: (خَيْر من اللَّهْوِ ومن التجارة) قدم اْللَّهوْ، ليبين أنَّ ما عند الله خير
من اللهو، وأنه أيضاً خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.
فإن قلت: لِمَ قال - صلى الله عليه وسلم - في المتخلفين والمنفضّين: لولا هؤلاء لعذبوا بالحجارة، وهل ذلك خاصّ بالجمعة أو بسائر الصلوات لو تخلفوا عنه، ولِمَ قال في الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ائتوها وعليكم السكينة
والوقار بغير سرعة؟
فالجواب لما جهلوا قَدْرَ هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عذبوا لولا أنَّ الله دفع عنهم بمن عرف حقَّ الله وحق رسوله، كما قال تعالى: (ولولا دَفْعُ الله الناسَ بعضهم ببعض) ، وهذا خاصّ بالجمعة، لأنها عملٌ وذكر، وهو الخطبة، وسائر الصلوات عمل، ولذلك تُسمَّى يوم الجمعة عند أهل الجنة يوم المزيد، يزدادون فيه جمالاً وحسناً كما يزدادُ أهلُ الدنيا هرماً وضعفاً، وتُعْرَفُ عند أهل السماء بيوم الخير، وعند أهل الكتاب يوم التوبة، وعند أهل الزَّبُور بسيِّد الأيام، وفي الفرقان يوم الجمعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: يوم الجمعة حَجّ المساكين، لأنه يشبه الحج لإتيان المكلَّف
إليها بعد النداء، كالحج: وأذِّن في الناس، وإذا نُودي للصلاة.
وفي الغسل لها، كما يغتسل للحج، وزادت الجمعة بإباحة الطيب والتزيُّن والخطبة التي كانت في الحج يوم عَرفة.
ولما حرم الصيد في الإحرام وأبِيح بعده حرّم البيع والشراء عند
صلاة الجمعة، وأبيح بعدها، وابتغاء الفضل كما في مريد الحج، قال تعالى: (ليس عليكم جُنَاح أن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ ربكم) ، ويسعى إليها من بعيد، كما يسعى إلى الحج من كل فَجّ عَمِيق، وأمِر المكلف بالذكر بعد الفراغ منها، كما أمر الحاج به في قوله: (فاذكُروا الله كذِكْرِكم آباءَكم) .
وقال في الحج: (فإن خَيْرَ الزَّادِ التقوى) .
وقال في الجمعة: (قُلْ ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) .
والإجماعُ على أنَّ يوم الجمعة أفضلُ من يوم عرفة للحديث: "خَيْرُ يوم
طلعت عليه الشمسُ يوم الجمعة، فيه تقوم الساعة، وفيه - خُلق آدم.
.. الحديث.
(مَنْ يُؤْمِن بالله يهْدِ قَلْبَه) :
قيل معناه من يؤمن بأنّ كل(2/452)
شيء بإذن الله يهْدِ الله قلْبَه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا حسن، إلاَّ أنّ
العمومَ أحسن مضه.
(ما استَطَعْتم) :
(ما) ظرفية، وهذا ناسخ لقوله: (اتقوا اللهَ حَقَ تُقَاته) .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على الناس حتى نزل: (ما استطعتم) .
وقيل: لا نسخ بينهما، لأن (حق تقاته) معناه فيما استطعتم، إذ لا يمكن أن يفعل أحدٌ إلاَّ ما يستطيع.
فهذه الآية على هذا مُبَيِّنَة لتلك، وتحرَّز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان، وما يؤاخذ به العبيد.
(مَنْ يُوقَ شحَّ نَفْسِه) : هو بخْلها وطمعها، فمن وقِيها
وُقِي شرَّ الدنيا والآخرة.
وقيل: إنها نزلت في الطلاق.
ومعناها من يتَّقِ الله فليطلق طلقة واحدة حسبما تقتضيه السنَّة.
(يجعل له مَخْرَجاً) ، بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق.
وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلَّق ثلاثاً: إنك لم تتَّق اللهِ
فبانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجاً، أي لا رَجعة لك.
والصحيح أنها على العموم، وأنَّ من يتَّق الله في أفعاله وأقواله يجعل له مخرجاً، فيدخل في ذلك الطلاق وغيره.
وروي أنها نزلت في عَوْف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسِر ولده وضيّق
عليه رزقه، فشكَا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره بالتقوى، فلم يلبث إلا يسيراً وانطلق ولده ووسّع الله عليه رزقه.
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - حين قرأ هذه الآية: مَخْرَجاً من شبهات الدنيا، وغمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة.
وقال - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم آوية لو أخذ الناس بها لكفتهم: ومن يَتّقِ الله ... ) الآية.
فإن قلت: إن الله تعالى تكفّل بأرزاق العباد على الجملة، فما فائدة قوله:
(ويَرْزقْه من حيث لا يَحْتَسِب) .
فالجواب أن الرزق مضمون لكل حيّ طولَ عمره، وهو الغذاء الذي به تقوم(2/453)
الحياة، قال تعالى: (ومَا مِنْ دَابّةٍ في الأرض إلا على الله رِزْقها) .
وأما رزق المتقين فوعْدُ الله لهم أن يأتيهم بسهولة من غير تَعب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تكفّل اللَّهُ لطالب العلم برزقه".
وفي حديث آخر: "استنزلوا الرزق بالصدق".
مصداقه قوله تعالى: (ولو أنَّ أهْلَ الكتاب آمَنوا واتّقَوا لكفَّرْنا عنهم
سيئاتهم) .
فبيَّن لك سبحانه أنهم لو عملوا بما في التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي لَوَسَّعْنا عليهم أرزاقنا، وأغدقنا عليهم إنفاقَنا، لكنهم لم يفعلوا ما نحبّ، فلذلك لم نفعل ما يحبون.
وانظر كيف تكفّل الله سبحانه بالرزق لعباده تعريفا بوداده، ولم يكن ذلك
واجباً عليه، بل أوجبه على نفسه إيجاب كرم وتفضّل، كأنه يقول: أيها العبد ليست كفالتي ورزقي خاصّاً بك، بل كلّ دابة في الأرض أنا كافِلها ورازقها، وموصِّل إليها قوتَها، فاعلَمْ بذلك سعةَ كفالتي، وغناء ربوبيّتي، وأنَّ شيئاً لا يخرج عن إحاطتي ورعايتي، فثِقْ بي كفيلاً، واتخذني وكيلاً، فإذا رأيتَ ذكري لأصناف الحيوان، ورعايتي إياها، وقيامي بحسن الكفالة لها وأنت أشرف هذا النوع، فأنت أولى بأن تكون لكفالتي واثقاً، ولفضلي رامقاً، ألا تراني قلت: (ولقد كرَّمْنَا بَني آدَم) ، أي على سائر أجناس الحيوان إذ دعونِاهم إلى خدمتنا، ووعدناهم دخول جنتنا، وخطبناهم إلى حضرتنا، ومما يوضَح لك كرامة الآدمي على غيره من المكونات أن المكونات مخلوقات من أجله، وهو مخلوق من أجل حضرة الله، فإذا علمت أن الأكوان مخلوقة من أجلك إمّا انتفاعا وإما اعتباراً، وهو نفع أيضاً، فينبغي لك أن تعلم أن الله سبحانه إذا رزق مَنْ هو مخلوق من أجلك كيف لا يكون لك رازقاً، فاستَحْييِ منه أن تكون بعدما كساك حُلّةَ الإيمان، وزَيّنَك بزينة العرفان، أن تستَوْلِيَ عليك الغفلة والنسيان، حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره وجوهَ امتنان.
وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا أوْفوا بالعقود) .
ومن العقود التي عاقدْتَه عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ولا تتوكل إلا عليه، ولازِم(2/454)
إقرارك له بالربوبية يوم (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فرضيت به ربّاً واحدا رازقاً، فكيف
توَحده هنالك وتجهله ها هنا، وقد تواتر عليك إحسانه، وغمرك فضله
وامتنانه.
فإن قلت: ما فائدة تكرير ذِكْر التقوى في هذه السورة في مواطن ثلاث؟
فالجواب أن أوامرها دارت على الأمر بالمحافظة على إيقاع الطلاق إذا دعت
إليه الضرورة في وَقْتِه لاستقبال العدة حتى لا يقع الضرار بالمطلقة في تطويل
عِدّتها، والأمر بإحصاء العدة والمحافظة عليها، وأن تخرج المعتدة من بيتها حيث وقع عليها الطلاق، والأمر بإنفاذ ما يقع الاعتماد عليه من إمساك أو مفارقة، ومن حسن الصحبة وجميل العشرة: إن اعتمد الإمساك، أو بالإمتاع أو التلطف رَعْياً لما تقدم من الصحبة إن عَوَّل على المفارقة فلرَعْي هذه الأوامر أكّد سبحانه بالتزام التقوى فيما ذكر، فتأمله جارياً على أوضح تناسب.
(ما أحَلَّ الله لَكَ) .
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، نهاه الله أن يطلبَ
رضا أزواجه بتحريم ما أحل الله له من تحريمه للجارية، ابتغاء رِضَا حَفْصة.
وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية.
وأما تحريمه للعَسل فلم يقصد به رِضَا أزواجه، وإنما تركه لرائحته، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة.
(ما يُؤْمَرون) :
وصف للملائكة بأنهم لا يعصون، وتأكيد لعدم عصيانهم.
وقيل: إن معنى (لا يعصون) ، امتثال الأمر، (ويفعلون ما يؤمرون) جدّهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس.
(ما تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمن) : بيان وتكميل لما قَبْله.
والخطاب بقوله: (ما تَرى) و (وارْجع البَصر) ، وما بعده للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب ليعتبر.
(مَنَاكِبها) :
قال ابن عباس: هي الجبال.
وقيل الجوانب والنواحي.
وقيل الطرق.(2/455)
والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض، فاستعار لها الذّلَّ
والمناكب تشبيهاً بالدّوَابّ
(مَنْ يمْشِي مكِبًّا على وَجْهه) .
توقيف على الحالتين أيهما أَهدى.
والمراد بها توبيخ الكفار، وفي معناها قولان:
أحدهما أن المشْيَ استعارة في سلوك طريق الهُدَى والضلال في الدنيا.
والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة، لأن الكافر يحْمَل إلى جهنم على
وجهه.
فأما على القول الأول فقيل: إن الذي يمشي مكبًّا أبو جهل، والذي يمشي
سَوِيّاً سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل حمزة.
وقيل هي على العموم في كل مؤمن وكافر.
وقد تمشي هذهْ الأقوال أيضاً على القول الثاني.
والمكِبّ هو الذي يقع على وجهه، يقال أكبَّ الرجل وكبَّه غيره، فالمتعدي
دون همزة، والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال.
(ماؤُكم غَوراً) :
مصدر وُصف به بمعنى غائرا، أي ذاهباً في
الأرض، وهذا احتجاج على المشركين.
والمعنى إنْ غار ماؤكم الذي تشربون منه هل يأتيكم إله غير الله بماءٍ معِين.
واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول.
وقوله: (وكأس من مَعِين) ، أي من خمر تجري من العيون.
(ما أنْتَ بنعمةِ رَبكَ بمَجْنون) : هذا جواب القسم، وهو
خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، معناه نفي ما نسبه الكفار له من الجنون.
وبنعمة ربك - اعتراض بين (ما) وخبرها، كما تقول: أنْت - بحمد الله - فاضل.
والجار والمجرور في موضع الحال.
وقال الزمخشري: إن العامل فيه بمجنون.
(مَشَّاءٍ بنَمِيم) ، أي كثير المشي بالنميمة، يقال نميم ونميمة
بمعنى واحد.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة نَمّام منّاع للخير".
أي شحيح، لأن الخير(2/456)
هنا هو المال.
وقيل معناه منّاع من الخير، أي يمنع الناس من الإسلام والعمل الصالح.
(ما لكم كيف تحكمون) .
(ما) مبتدأ و (لكم) خبره، وتَمَّ الكلام هنا، فينبغي أن يوقف عليه.
وفي الآية توبيخ للكفار، أي كيف تحكمون
بأهوائكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم.
(مَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) :
مفعول معه، أو معطوف، وفيه تهديد للمكذبين بالقرآن.
(مَذْموم) :
هذا جواب لولا، والنفي هو الذم لا نبذه بالعراء، فإنه قال في الصافات: (فَنَبَذْنَاه بالعَرَاءَ وهو سَقِيم) ، فالمعنى لولا رحمة الله لنبِذَ بالعَرَاء وهو مذموم، لكنّه نبذ وهو غير مذموم.
(ما هو إلا ذِكْرٌ للعالَمِين) :
الضمير يعود على القرآن، يعني
أنه موعظة وتذكير للخلق.
(ما الحاقّة) :
(ما) استفهامية يراد بها التعظيم، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده، والجملة خبر الحاقّة.
وكان الأصل الحاقة ما هي، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل، وكذلك (ما أدْرَاك ما الحاقّة) ، لفظه الاستفهام، والمراد به التهويل والتعظيم.
(مَنْ قَبْلَه) : أي قبل فرعون من الأمم الكافرة، وأقربهم
إليه قوم شعيب.
والظاهر أنهم هم المراد، لأن عاداً وثمود قد ذكرا، وقوم لوط
هم " المؤتفكات "، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله: (لما طَغَا الماءُ) .
وقرئ " قِبَله " - بكسر القاف وفَتْح الباء، ومعناه جنده وأتباعه.
(مَفْتون) :
قيل إن المفتون المجنون، ويحتمل غير ذلك مِنْ معاني الفتنة.
واختلف في الباء التي في قوله (بأيكم) ، قيل زائدة، وقيل هي غير زائدة.(2/457)
والمعنى بأيكم الفتنة، فأوقع المفتون موقع الفتنة، كقولهم: ما لَهُ معقول.
أي عقل.
وقيل إنها بمعنى في، والمعنى في أيّ فريق منكم المفتون.
واستحسن ابن عطية هذا.
(مَنْ دَخل بَيْتِيَ) : يعني المسجد.
وقيل السفينة. وقيل شريعته، سماها بيتاً استعارة، وهذا بعيد.
وقيل داره، وهذا أرجح لأنه الحقيقة.
(مَنْ يَسْتَمِع الآنَ يَجِدْ له) :
قد قدمنا أنَّ رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، واختار ابنُ عطية والزمخشري أنه قبل المبعث قليلاً.
تم زاد بعد المبعث، وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية، ودليلهما قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه - وقد رأى كوكبا انقضَّ: ما كنتم تقولون للجاهلية لهذا؟
قالوا: كُنَّا نقول مَلكَ ملك، أو مات ملك.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الأمر كذلك ".
ثم وصف استراق الجن السمع.
وقد ذكر شعراء الجاهلية في ذلك أشعارهم.
(ماءً غَدَقا) :
أي كثيراً، وهو استعارة في توسيع الرزق، يعني أنهم لو استقاموا على الكفر لوسَّع الله عليهم، إملاء لهم واستدراجاً.
ويؤيّد هذا قوله: (لنَفْتِنَهم فيه) .
والصحيح أن الطريقة هي الإسلام وطاعة الله.
والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين أو للكافرين المذكورين في قوله: (وأما القاسِطُون) ، أو لجميع الجن الذين استمعوا القرآن، أو لجميع الخلق.
(مَنْ يَعْصِ اللهَ ورسوله) :
الآية في الكفار، وحملَها المعتزلة على عصاة المؤمنين، لأن مذهبهم خلودهم في النار، وعلى أنها في الكفار وجهان:
أحدهما: أنها مكية، والسور المكية إنما الكلام فيها مع الكفار.
والآخر: دلالةُ ما قبلها وما بعدها على أنَّ المرادَ بها الكفار، وجمع
(خالدين) ، على معنى مَنْ يَعْصِ، لأنه في معنى الجمع.
(مساجِدَ) :
واحدها مَسْجَد - بفتح الجيم، وهذا بعيد.(2/458)
وأراد هنا المساجد على الإطلاق، وهي بيوت عبادة الله.
وروي أنَّ الآية نزلت بسبب تقلّب قريش على الكعبة.
وقيل أراد الأعضاء السبعة التي يسجدُ عليها.
ومعناها لما كانت المساجد لله فكيف تعبدون فيها غَيْرَ الله، وكذلك الأعضاء
ملكها واختراعها عندي، فكيف تصرفونها في غير ما طَلبْت منكم.
(ما يوعَدون) :
الضمير للكفّار، يعني أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون.
(مَنْ شاء اتَّخَذَ إلى رَبِّه سَبِيلاً) :
أي سبيل التقرب إلى الله، ومعنى الكلام حضّ على ذلك وترغيب فيه.
(ما تَيَسَّرَ من القرآن) :
أي إن لم تقدروا على قيام الليل كلّه فقوموا بعضَه، واقْرأوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن، وهذا الأمر للندب.
وقال ابن عطية: هو للإباحة عند الجمهور.
وقال قوم - منهم الحسن وابن سيرين: هو فرض لا بد منه، ولو أقل ما يمكن، حتى قال بعضهم: من صَلَّى الوتر فقد امتثل هذا الأمر.
وقيل: كان فرضاً، ثم نسخ بالصلوات الخمس.
وقال بعضهم: هو فرض على أهْل القرآن دون غيرهم.
(مالاً مَمْدوداً) :
اختلف في مقداره، فقيل ألف دينار. وقيل عشرة آلاف.
وقيل يعني الأرض، لأنها مدت.
(مَهَّدْتُ له تَمْهيدا) :
الضمير يعود على الوليد بن المغيرة.
ومعناها بسطت له في الدنيا بالمال والعزة وطيب العيش.
(ما جَعَلْنَا عِدَّتَهمْ إلاَّ فِتْنَةً للذين كَفَروا) :
أي جعلناهم تسعة عشر ليفتتن الكفَّار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم، كما قال أبو جهل: أيعجز عشرة منكم في واحد منهم.
(ماذَا ارَادَ الله بهذَا مَثَلاً) :
استبعاد منهم أن يكون هذا من عند الله.(2/459)
(ما يَعْلَم جنودَ رَبِّكَ إلا هو) :
يحتمل القصد بهذا وجهين:
أحدهما: وصف جنودِ اللَهِ بالكثرة، أي هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله.
والآخر: رَفْعُ اعتراض الكفار على التسعة عشر، أي لا يعلم أعدادَ جنود اللَه إلا هو، لأن منهم عدداً قليلاً، ومنهم - عددا كثيراً، حسبما أراد الله.
(ما هِيَ إلاَّ ذِكْرَى للبَشر) :
الضمير لجهنم، أو للآيات المتقدمة.
(ما سلَككمْ في سَقَر) .
أي ما أدخلكم النار، وهذا خطاب للمجرمين، يحتمل أن خاطبهم به المسلمون.
وسقر: أحدْ طبقات جهنم السبعة.
وقد صحّ أنَّ من كان في الطبق الأول تناديه الملائكة ُ: (ويْلٌ يومئذ للمكذبين) .
وتنادي مَنْ كان في الثاني: (فويل للمصلّين الذين هم عن صلاتهم
ساهون) .
وفي الثالث: (ويْلٌ لكل هُمَزةٍ لمَزة) .
وفي الرابع: (فويلٌ لهم مما كسَبتْ أيديهم) .
وفي الخامس: (وويْلٌ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) .
وفي السادس: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) .
وفي السابع: (ويل للمطَفِّفين الذين إذا اكْتَالُوا على الناس يستَوْفون) .
(مَنْ شاءَ ذَكره) :
فاعل شاء ضمير يعودُ على من، وفي ذلك حضٌّ وترغيب.
وقيل الفاعل هو الله، ثم قيّد فعل العبد بمشيئة الله.
فإن قلت: ما وَجْهُ مخالفة هذه الآية لسورة عبَس، وسورة الإنسان؟
فالجواب أن ضمير التذكير هنا لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته.
والذكّر به عظة أو موعظة، وهو أيضاً وعظ وتنبيه، فتارة تُرَاعِي العرب في مثل هذا جهة التذكير، وتارة تراعي جهة التأنيث، فتَحْمِل الضمير على ما تدعيه من تذكير أو تأنيث.
فإن قلت: كيف طابق قوله: ما سلَككم - وهو سؤال للمجرمين -(2/460)
قولَه: (يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) .
وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءل المجرمون ما سلككم؟
قلت: ما سلككم ليس ببيان التساؤل عنهم، وإنما هي حكاية قول المسؤولين
يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقَر؟ قالوا: لم نك من المصلّين، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نَظْمه.
(مَعَاذِيرَه) :
في معناه قولان:
أحدهما: أنَّ المعاذِيرَ الأعذار، أي الإنسان يشهد على نفسه بأعماله، ولو
اعتذر عن قبائحها.
والآخر: أنَّ المعاذير الستور، أي الإنسان يشهد على نفسه يوم القيامة ولو
أسدل الستور على نفسه في الدنيا حين يفعل القبائح.
(مَعَاشاً) : أي يُطلب فيه المعيشة، فهو على حذف مضاف
تقديره ذا معاش.
وقال الزمخشري: معناه يعاش فيه، فجعله بمعنى الحياة في
مقابلة السيئات التي بمعنى الموت.
(مَفَازا) : أي موضعَ فَوْز، يعني الجنة.
(ما قَدَّمَتْ يَدَاه) : يعني يرى كل أحد ما عمل من خير أو شر.
(ماءَها ومَرْعَاها) : نسب الماء والمرعى إلى الأرض، لأنهما يخرجان منها.
فإن قيل: لِمَ قال: (أخرج) بغير عطف العاطف؟
فالجواب أنَّ هذه الجملة في موضع الحال، أو تفسير لما قبلها، قاله
الزمخشري.(2/461)
(مَتَاعاً لكم ولأنْعَامِكم) :
تقديره فَعل ذلك كلَّه متاعاً
لكم ولأنعامكم، لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بكلّ ما ذُكر.
(ما عَلَيْكَ ألاَّ يزَّكَّى) : أي لا حرج عليك إذا يتزكى هذا الغنيّ.
(مَنْ جاءَكَ يَسْعَى) : معناه ئسرع في مشيه مِنْ حِرْصه على
طلب الخير: هو عبد الله بن أمِّ مكتوم.
(مَنْ شاءَ ذَكَرَه) :
تأمّل إلى تأنيثه الضمير في قوله: (إنها) ، وتذكيره هنا على معنى الوعظ أو الذكر أو القرآن.
(مَرْفُوعةٍ مُطَهَّرَةٍ) : إن كانت الصحف المصاحف فمعناه
كذلك أو مرفوعة في السماء، ومطهّرة: منزهة عن أيدي الشياطين.
(ما أكْفَره) :
تعجّب من شدة كُفْره مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك.
(مَوْءُودَةُ:
هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيّة
من كراهيته لها، ومن غيرته عليها، فتسأله يوم القيامة: بأي ذَنْبٍ قتلت، على وجه التوبيخ لقاتلها.
وقرأ ابن عباس سألت - بفتح الهمزة والسين - بأي ذنب
قَتلْتُ - بفتح القاف وسكون اللام وضم التاء.
واستدل ابن عباس بهذه الآية على أنَّ أولاد المشركين في الجنة، لأنَّ الله ينتصر لهم ممن ظلمهم.
(ما أحْضَرَتْ) : عبارة عن الحسنات والسيئات.
(ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ) : أي في حياتها، وأخرت مما تركته
بعد موتها من سنّة سنّتها أو وصية أوْصَتْ بها.
(ما غَرَّكَ يرَبّك الكريم) :
هذا توبيخ وعتاب، معناه أي
شيء غرّك بربكَ حتى كفرت به، أو عصيته، أو غفلت عنه، فدخل في الخطاب الكفّارُ، وعصاة المؤمنين، ومن يغفل عن الله في كل الأحيان.(2/462)
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (ما غَرَّك بربك الكريم) ، فقال: غره جهله.
وقال عمر: غرّة حمقه.
وقرأ: إنه كان ظلوما جهولاً.
وقيل: غَرّه الشيطان المسلَّط عليه.
وقيل: غره طمَعُه في عَفْو الله عنه.
ولا تعارض بين هذه الأقوال، لأن كلَّ واحد منها مما يَغُرُّ الإنسان، إلا أنّ
بعضها يَغُرُّ قوما وبعضُها يغُرُّ قوما آخرين.
فإن قيل: ما مناسبةُ وصْفِه بالكريم للتوبيخ على الغرور؟
فالجواب أن الكريم ينبغي أن يُعْبَد ويطاع، شكراً لإحسانه، ومقابلةً
لكرمه.
ومَنْ لم يفعل فقد كفر النعمة، وأضاع الشكر الواجب.
وقيل: إنه يخاطب العبد بالكرم تلقيناً للمؤمن في تذكره بكرمه، فيقول:
غَرَّني حلمك وكرمك، ونقمةً للكافر في تعديد النعمة عليه في الدنيا، واستعانته بها على مخالفته.
(مَرْقوم) :
أي مكتوب، بلسان العبرانية، وارتفع في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب.
وقال ابن عطية: كتاب مرقوم خبر إن، والظرف مُلْغى، وهو تكلف يفسد
به المعنى.
وقد روي في الأثر - ما يفسر الآية، وهو أن الملائكةَ تصعد بصحيفة فيها
عمَل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه في علّيين، وإن لم يرضه قال: اجعلوه في سجّين.
(مختُوم) : قد فسره الله بأنّ ختامه مسك.
(مَرُّوا بِهمْ يتغَامَزُون) :
أي يغمز بعضهم إلى بعض، ويشير بِعَيْنه.
والضمير في (مرُّوا) يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار، والضمير في
(يتغامَرونَ) للكفار لا غير.
(ما أُرْسلُوا عَلَيْهمْ حافِظِين) :
أي ما أرسل للكفار(2/463)
حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم، ويشهدون رشْدَهم أو ضلالهم، فكأنه قال: كلامهم في المؤمنين فُضُول منهم.
(مَنْ أوتي كتابَه وراءَ ظَهْرِه) : يعني الكافر.
وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان من فضلاء المؤمنين، وفي أخيه أسود، وكان من عُتَاةِ الكافرين، ولفظها أعمُّ من ذلك.
فإن قيل: كيف قال في الكافر هنا إنه يؤتَى كتابه وراء ظهره، وقال في
الحاقة بشماله؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيأخذ
بها كتابه.
وقيل: تدخل يده اليسرى في صدره، وتخرج من ظهره، فيأخذ بها كتابه.
(ما لهم لا يُؤمنون) :
الضمير لكفّار قريش، يعني أيّ شيء يمنعهم عن الإيمان.
(ما نَقَمُوا منهم) .
أي ما أنكر الكفَّار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله.
وهذا لا ينبغي أنْ يُنْكر.
وهذا كقوله: - (وما نقَمُوا إلاَّ أنْ أغْنَاهم اللَهُ ورسولُه) ، أي ما عابوا إلا الغِنَى الذي كان حقّه أنْ يشكروا عليه، وذلك في الجُلاَس، أو في عبد الله بن أبيّ.
فإن قلت: لم قال: أن يؤمنوا - بلفظ المضارع، ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي، لأن القصة قد وقعت؟
فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان، ولو كفروا في
المستقبل لم يعذّبوهم، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل، فكأنه قال: إلا أنْ يدوموا على الإيمان.
(ماء دَافِق) :
من الدفق، بمعنى الدّفع، فقيل معناه مدفوق(2/464)
وصاحبه هو الدافق في الحقيقة، فقال سيبويه: هو على النسب، أي ذو دفق.
وقال ابن عطية: يصحّ أن يكون الماء دافقاً، لأن بعضه يدفق بعضاً، ومقصود الآية إثبات الحشر، فأمر الإنسان أن ينظر أصْلَ خلقته، ليعلم أن الذي خلقه مِنْ ماءٍ دافق قادر على أنْ يعيده.
ووَجْه اتصال هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن على كلّ نفس حافظاً يحفظ
أعمالها أعقبه بالتنبيه على الحشر، حيث تُجازَى كل نفس بأعمالها.
(مَا لَه مِنْ قوَّةٍ ولا نَاصِر) :
الضمير للإنسان، ولما كان دَفْع المكاره في الدنيا إمّا بقوة الإنسان أو بنصرة غيره له أخبر الله أنه يعدمهما يوم القيامة.
(ما شاءَ الله) :
فيه وجهان:
أحدهما: أن معناه لا تَنْسى إلا ما شاء الله أن تنساه، كقوله: (أَوْ نُنْسِهَا) .
والآخر: أنه لا تنسى شيئا، ولكن قال: إلاَّ ما يشاء الله - تعظيما لله بإسناد
الأمر إليه، كقوله: (خالدين فيها إلا ما شاء الله) ، على بعض الأقوال.
وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنه من استعمال التقليل في معنى النفي، والأول
أظهر، فإن النسيان جائز على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن أو فيما قضى الله أن ينساه، ثم يذكره.
ومن هذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع قراءة
عباد بن بشر رحمه الله: لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أُنسيتها.
(موضوعة) : معَدة بشرابها.
(مَبْثوئة) : متفرقة، وذلك عبارة عن كثرتها.
وقيل مبسوطة.
(مالاً لُبَداً) : أي كثيراً.
وقرئ بضم اللام وكسرها، وهو جمع لبدة - بالضم والكسر، بمعنى الكثرة.
ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة، فإنه أنفق أموالاً في إنفاق أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/465)
وقيل في الحارث بن عامر بن نوفل، وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفَّارات، فقال: لقد أنفقْتُ مالي مذ تبعت محمدا.
(ما أدْرَاكَ ما العَقَبة) : تعظيم للعَقَبة، ثم فسرها بفكّ
الرقبة، وهو تفسير لاقْتَحم.
وفك الرقبة هو عِتْقها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنْ أعتق رقبةً مؤمنة أعتق الله بكل عضْوٍ منها عضواً من النار".
(مَسْغَبَة) : مجاعة.
يقال سغب الرجل إذا جاع.
(مَقْرَبة) : قرابة.
(مَتْرَبة) : فَقْر.
(مَرْحَمة) : أي وصّى بعضهم بعضاً برحمة المساكين وغيرهم.
وقيل الرحمة كلّ ما يؤدّي إلى رحمة الله.
(مَيْمنة) : جهة اليمين.
(مَشْأَمة) : جهة الشمال.
وروي أن الميمنة عن يمين العرش.
ويحتمل أن يكونا من اليُمْن والشؤم.
(ما بَنَاها) :
(ما) هاهنا، وفي قوله: (وما طَحَاها) (وما سوّاها) - موصولة بمعنى (مَنْ) .
والمراد الله تعالى.
وقيل إنها مصدرية.
كأنه قال: والسماء وبنيانها.
وضعَّفَ الزمخشري هذا بقوله: فألهمها، فإن المراد الله تعالى باتفاق، فهذا القولُ يؤدِّي إلى فساد النظم، وضَعّف بعضهم
كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق.
فإن قيل: لم عدل عن (مَنْ) إلى (ما) في قول مَنْ جعلها موصولة؟
فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة الوصْفيّة، كأنه قال: والقادر الذي بَنَاها.
فإن قلت: لم نكر النفس؟
فالجواب مِن وجهين:
أحدهما: أنه أراد الجنس، كقوله: علمت نَفْسٌ ما أحضرت.(2/466)
والآخر: أنه أراد نفس آدم.
والأول هو المختار.
(ما خلق الذَّكَرَ والأنْثَى) .
(ما) بمعنى (مَنْ) .
والمراد بها الله تعالى، وعَدَلَ عن (مَنْ) لقَصْدِ الوصف، كأنه قال: والقادر الذي خلق الذكَر والأنثى.
(مَنْ أعْطَى واتَّقَى) .
أي أعطى ماله في الزكاة
والصدقة، وشِبْه ذلك، أو أعطى حقوق الله من طاعته في جميع الأشياء واتقَى
اللَه.
وعَبَّر بعضهم عن تصديقه بالحسنى بلا إله إلا الله، أو بالمثوبة.
(الحسنى) : هي الجنة.
وقيل يعني الأجر والثواب على الإطلاق.
وقيل: يعني الخلف على الْمنفِق.
(مَنْ بخلَ واسْتَغْنَى وكذَّب بالْحسْنَى) : أي بخل بماله أو
بطاعة الله على الإطلاق، فيحتمل الوجهين، لأنه في مقابلة أعطى، كما أن
استغنى في مقابلة اتّقى، وكذّب بالحسنى في مقابلة صدَّقَ بالحسنى، ونيسره
للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى.
ومعنى استغنى استغنى عن الله، فلم يطِعْه، أو استغنى بالدنيا عن الآخرة.
ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق، لأنه أنفق مالَه في سبيل الله، وكان
يشتري مَنْ أسلم من العبيد ويَعْتقهم.
وقيل: نزلت في أبي الدحداح، وهذا ضعيف، وإنما أسلم أبو الدّحْدَاح
بالمدينة.
وقيل: إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حَرْب، وهذا ضعيف لقوله:
(سنيَسِّره للعسرى) ، وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك.
(ما وَدَّعَك رَبُّك وما قَلَى) :
بتشديد الدال من الوداع.
وقرئ بتخفيفها، بمعنى ما تركك.
والوداع مبالغة في الترك.
وقد قدمنا في مواضع أن معنى (قلى) أي أبغض.(2/467)
وسببُ نزول هذه الآية إبطاء جبريل بالوَحْي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قيل: إن محمداً قَلاَه ربه.
(ما أَدْرَاكَ ما لَيْلة القَدْرِ) :
هذا تعظيم لها، وحق لها أن تعظَّم، وهي من خصائص هذه الأمة، وهي تنتقل في العام كلّه.
وفي الحديث: "التمسوها في العَشْر الأوَاخر من رمضان".
وعند ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين، وأخذ ذلك من كلمات هذه السورة إلى قوله: (هي) القدر.
وقيل: إذا وافق إفراد العشر الأواخر من رمضان ليلة الجمعة فهي ليلة
القدر.
والصحيح أنهاَ من المخفيات السبع، وهي الولي في خلقه، والاسم الأعظم
في الأسماء، وغضبه في معصيته، ورضاه في طاعته، وساعة الجمعة في اليوم كلّه، والصلاة الوسطى في الصلوات.
كلّ ذلك حرصاً على اتباع الأوامر واجتناب النواهي.
(ما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهم البيِّنَة) .
أي ما اختلفوا في نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ مِنْ بعد ما علموا أنه حق.
ويحتمل أنْ يريد تفرّقَهم في دينهم، كقوله: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاخْتُلِف فيه) .
وإنما خصّ الذين أُوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم
مع غيرهم في أول السورة، لأنهم كانوا يعلمون صحةَ نبوءةِ نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بما يجدون في كتبهم من ذكره.
(ما أمِرُوا) :
معناه ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا.
ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله، فلأي شيء ينكرونه ويكفرون به.
(مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّة خَيْراً يرَهْ) :
المثقال: هو الوزن.
والذرة: النملة الصغيرة.
والرؤية هنا ليست برؤية بصر، وإنما هي عبارة عن الجزاء.
وذكر الله مثقال الذرة تنبيهاً على ما هو أكثر منه من طريق الأولى، كأنه
قال: مَنْ يعمَلْ قليلاً أو كئيراً.
وهذه الآية هي في المؤمنين،(2/468)
لأن الكافر لا يجازَى في الآخرة على حسناته، إذ لم تقبل منه.
واستدل أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يخلد مؤمن في النار، لأنه لو خلّد لَمْ يَرَ ثَوَاباً على إيمانه، وعلى ما عمل من الحسنات.
وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبّة عِنب، فقيل لها في ذلك، فقالت:
كم فيها من مثقال ذرة.
وسمع رجل هذه الآية عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " حسبي، لا أبالي ألاَّ أَسمع غيرها ".
(مَنْ يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرًّا يَرَه) :
هذا على عمومه في حق الكفار.
وأما المؤمنون فلا يجزون بذنوبهم إلا بستّة شروط: وهي أن تكون
ذنوبهم كبار.
وأن يموتوا قبل التوبة منها.
وألا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها.
وألاّ يشفع فيهم.
وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعمل كأهلِ
بَدْر، للحديث: لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئْتم فقد غفرتُ لكم".
وألاّ يعفو الله عنهم، فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن
شاء غفر له.
(ما في القبور. وحصِّلَ ما في الصّدُور) :
عبارة عن البعث، وجَمْع ما في الصحف.
وأظهر محَصّلا، ومُيز خيره من شرّه.
(مَنْ ثَقلَتْ موازِينُه) :
هو جمع ميزان، أو جمع موزون.
وميزان الأعمال يوم القيامة له لسانٌ وكفَّتان وعمود، وتوزَن فيه الأعمال.
والخفة والثقل متعلقة بأجسام، إما صحف الأعمال أو ما شاء الله.
وقالت المعتزلة: الميزان عبارة عن العدل في الجزاء.
فإن قلت: يفهم من قوله: (ونَضَع الموازين) - أنها جماعة لكل أحد ميزان، فإن كان فلا إشكال، وإن كان واحداً فما معنى الجمع؟
فالجواب أنه صحّ أنه ميزان واحد، وإنما جمع لما فيه من كفَّتين ولسان
وعمود.(2/469)
قال الغزالي والقرطبي: ولا يكون الميزان في حق كل أحد، فالسبعون ألفاً
الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يأخذون صحفاً، ولا يرفع لهم ميزان.
وروي الترمذي - وحسّنه - حديث: "يُصاح برجل من أمتي على رؤوس
الخلائق، ويُنشْر عليه تسعة وتسعون سجلاّ، كلّ سجل مثل مَدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر مِنْ هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول: لا، يا رب، فيقول: ألكَ عذْر، فيقول: لا، يا رب.
فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنك لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فيقول: احضر وزنك.
فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تُظلم، فتوضع السجلاتُ في كفّة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء".
فانظر يا أخي عظيم فضل الإقرار، وقبْح الإنكار فيمن أنكر أفعاله، حتى
تشهدَ عليه جوَارِحه، اللهم إنا مقِرّون بأنا مطيعون عدوَّك إبليس الذي أبْلَسْته من عدم طاعته لأبينا آدم، ولا حيلة لنا بالفرار مع غوايته إلا بتوفيقك، فثبّتْنَا على عصيانه هنا ويوم الوقوف بين يديك، فإنك تعلم أنَّا لا نعصيك لجهلنا بمعصيتك، ولا نتعرض لعقوبتك، وإنما جهلنا قَدْرَك، فمن ينقذنا من عقوبتك إن عاقبتنا، ومَنْ يوصلنا لرحمتك إن قطعتنا؟ وبحبل من نعتصِم إن طردتنا وأخجلتنا من الوقوف بين يديك، إذ ليس لنا حجة تجاهد عنا في رحمتك التي أعدَدْتها لعصاة عبادة، وقد بلَغنا عنك أنك تقول لعبد من عبادك: فأي الأمرين أحبّ إليك أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عليك، فيقول: يا رب، أنت تعلم أني لم أعصك.
فتقول: خذوا عبدي بنعمةٍ من نعمي، فما تبقى له حسنة إلا استفرغتها تلك النعمة.
فيقول: يا رب، بنعمتك ورحمتك، هذا حال من لم يعصك يتعلق برحمتك، فكيف حال مَنْ لا يجد في صحيفته حسنةً، لكن جودك يعمّ المفاليس.
قال بعض المحبين: رأيت أبي يزيد بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال: أوقفني بين يديه، وقال: بأي عمل قدمت إلى حضرتي، وبأي وسيلة(2/470)
توسلْتَ إلى رحمتي، فكلما ذكرتُ شيئاً في طاعته قابلني بجزء من نعمته، حتى
اضمحلّت أعمالي، وفنيت أقوالي، وعظمت حَيْرتي، واشتدت كرْبتي، فقلت: يا رب، جئتك بك إليك، فنادتني الملائكة من سائر جهات العرش: الآن وصلت.
هذا حال أبي يزيد الذي ترك ما يريد لما يريد، فكيف حال مَنْ خالف أمرَ
مولاه في كل ما يريد.
وقال بعضهم: رأيتُ سفيان الثوري بعد موته في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال: أوقفني بين يديه، فرأيت ذلَّ العبودية، وعِزَّةَ الربوبية، فليتني لم
أبرح.
ثم أمر بي إلى الجنة.
فأقبلت أمشي بين أنهارها وأشجارها لا أسمع حِسّاً
ولا أرى شخصاً، فإذا النداء: يا سفيان.
قلت: لبيك! لبيك! فقال: هل كنت
إلاّ عبدا في الدنيا تؤثرنا على مَنْ سِوَانا، فقلت: أنت أعلم يا ربّ.
فلم أزَلْ أمشي حتى استوحشتني الحورُ العين.
فإن قلت: ما معنى هذا الوقوف وهذا الحساب هنا، وإنما يكون في الدار
الآخرة؟
فالجواب: هذا هو العرض الذي يُعرض فيه العبد على ربه بعد مفارقة
جسده، وحينئذ يبدو له منزله، وما أعدّ الله له، يشهد لذلك الحديث لعائشة: "ذلك العرض، ومَنْ نوقش الحساب عُذّب".
والكلام هنا طويل، ليس هذا محل بسطه.
(مَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) :
هذا من كلام الجن الذين أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن مسعود: كنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعَاب، فقلنا: استطير واغتيل، فبتنا بِشَرِّ ليلة باتها قوم، فقلنا له: يا رسول الله، ما الذي أصابك، فقال: أتاني جاءٍ من الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، فقال: انطلقوا بنا، فإذا آثار نيرانهم، وسألوا الزاد فقال: لكم(2/471)
كل عظم ذكر اسم الله عليه يقَع في أيديكم أوْفَر ما يكون لحماً، وكلّ بَعْر علفٌ لدوابكم.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تستجمروا بها، فإنها طعام إخوانكم من الجن ".
فإن قلت: يُفهم من هذه الآية، ومن قوله تعالى: (يُجِرْكم من عذابٍ
أليم) - أنه لا ثواب للجن غير النجاة من العذاب؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الثواب مسكوت عنه.
والثاني: أن ذلك من قول الجن.
ويجوز أن يكونوا لم يطّلعوا إلا على ذلك، وخفي عليهم ما أعدَّ الله لهم من الثواب، ولذلك قيل: إن من الجن مقرَّبين وأبراراً، كما أن من الإنس كذلك.
واختلف هل يكونون مع المؤمنين في الجنة ويرون ربنا كالمؤمنين، فالصحيح أنهم رَبض الجنة.
والرؤية خاصة بالإنس.
(مَاعون) : قيل الزكاة.
وقيل المال بلغة قريش.
وقيل الماء.
وقيل: كلّ ما يتعاطاه الناس بينهم، كالآنية، والفأس، والدَّلْو، والمقص.
وقد سئل - صلى الله عليه وسلم -: ما الشيء الذي لا يحل منعه، فقال: الماء والنار والملح.
وفي بعض الطرق: الإبرة والخميرة.
(مَسَد) .: هو الليف.
وقيل: المسد الْحَبْل الْمُحْكم فَتْلاً من أي شيء كان، تقول: مسدتُ الحبل، إذا أحكمت فَتْله.
وامرأة ممسودة، إذا كانت ملتفّة الْخَلق ليس في خَلْقها اضطراب.
(مَنون) :
له معنيان: الموت والدهر.
ومنه قول قريش في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما هو شاعر نتربَّص به رَيْبَ المنون "، فيهلك كما هلك مَنْ كان قبله من الشعراء، كزهير، والنابغة.
(مؤمن) :
مصدق، والله تعالى مؤمن، أي مصدق ما وعد به، ويكون من
الأمان، أي لا يأمن إلا من أمَّنه الله.
وقول إخوة يوسف: (وما أنْتَ بِمؤْمِن لنا) ، أي مصدق لمقالنا.(2/472)
(مفْلحون) ، أي باقون، والفلاح الظفر أيضاً، ثم قيل لكل
من عقل وحزم وتكاملت فيه خلالُ الخير قد أفلح.
(مصلحون) :
يحتمل أن يكون جحوداً للكفر، لقولهم: آمنّا، أَو اعتقاداً أنهم على صلاح.
(مستهزئون) :
ساخرون، فجاوبهم الله بأنه يستهزئ بهم، أي يمْلِي لهم، بدليل قوله: (ويَمُدّهم) .
وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء بهم، كقوله في الحديد:
(ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) .
وقيل: إنما سمي استهزاء بهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، كقوله: (ومكَرُوا
ومَكر الله) ، وإنما جاء (مستهزئون) ، بجملة اسمية مبالغة
وتأكيداً، بخلاف قولهم: (آمَنَّا) فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم.
(مَشَوْا فيه) : إن عاد الضمير إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم.
وإن رجع إلى المتقين فالمعنى أنهم يلوحُ لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان.
فإن قيل: لم قال مع الإضاءة: كلّما - ومع الإظلام: إذا؟
فالجواب أنهم لما كانوا حراصاً على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي
التكرار والكثرة.
(مُتَشَابهاً) :
يحتمل أن يشبه ثَمَرَ الدنيا في جنْسه.
وقيل: يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في المطعم.
وأما قوله: (كِتَابا متشابهاً) فمعناه يصدق بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه ولا تناقض) ، كما قدمنا.
(مطهّرة) .
أي من الحيض والبول والغائط، فهنّ مطهرات
خَلْقاً وخلقاً، محبّبات ومحبات، مسلَّمات من العلل والعيوب.(2/473)
(مزَحْزِحِهِ) : أي مبعده.
(مخْلِضون) : الإخلاص في العمل: ألاَّ يُطلب به غير الله.
وفي هذه الآية استدلال باستعمال النية في الأعمال.
وبهذا أمر الله أهْلَ المِلل كلها، قال تعالى: (وما أمِروا إلاَّ ليَعْبدوا اللهَ مخْلِصين له الدِّين) ، لأن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال، وضدّ الإخلاص في التوحيد هو الشرك الجليّ، وضد الإخلاَص في الأعمال هو الشِّرك الخفي، وهو الرياء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الرياء هو الشرك الأصغر".
وفي الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ".
واعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع: مأمورات، ومنهيات، ومباحات.
فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارةٌ عن خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يَشوبها نية أخرى، فإن "كانت كذلك فالعمل خالص مقبول، وإن كانت النية لغير وَجْهِ أللَه مِنْ طلب منفعة دنيوية، أو مدح، أو غير ذلك، فالعملُ رِياء مَحْض مردود.
وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال.
وأما المنهيات فإنْ تركها دون نِيّة خرج عن عهدتها ولم يكن له أجْر في
تركها.
وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر.
وأما الْمبَاحات كالأكل والجماع وغير ذلك فإن فعلها بغير نيّة لم يكن له
أَجر، وإن فعلها بنية وَجْهِ الله كان له فيها أجر، فإن كان مباح يمكن أن يصير قُرْبة إذا قصد به وجْه الله مثل أن يقصد بالأول القوة على العبادة، ويقصد بالجماع التعفّف عن الحرام.
(مصيبة) ، ومصابة ومصوبة: الأمر المكروه يحلُّ بالإنسان
في نفسه أو ماله أو ولده.
(مسَوَّمَة) .: راعية، من قولك: سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح.(2/474)
وقيل: الْمعْلَمة في وجوهها، فهو من السما بمعنى العلامة.
وقيل: الْمُعَدَّة للجهاد، وقد قدمنا أنَّ المسوَّمة في حجارة قَوْمِ لوط المكتوب عليها أسماء أصْحَابها.
(مُحَرَّرًا) : أي عتيقاً مِنْ كلّ شغل إلاَّ خدمة المسجد.
وقائل هذه المقالة حنّة - بالنون - امرأة عمران، وهي أم مريم.
(مصَدِّقاً بكلمةٍ من الله) :
أي مصدّقاً بعيسى عليه السلام، مؤمناً به.
وسمّي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلا بكلمةِ الله وَحْدَها.
وهي قوله: كنْ، لا بسببٍ آخر، وهو الولد كسائر بني آدم.
(ممْتَرين) : شاكين.
(موتوا بغَيْظكم) : تقريع وإغاظة.
وقيل دعاء.
(مسَوَّمِين) - بفتح الواو وكسرها، أي معلَمين، أو معْلمين خيلهم أو أنفسهم.
وكانت سما الملائكة يوم بَدْر عمائم بيضاء، إلا جبريل
فإنه كانت عمامته صفراء.
وقيل: كانوا بعمائم صفر.
وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب.
وقيل: كانوا على خيل بُلق.
(ما جعله اللَّهُ إلا بشْرَى) :
الضمير عائد على إنزال الملائكة والإمداد بهم.
(مضَاعَفة) :
كانوا يزيدون في الرّبا عاماً بعد عام.
(مؤَجَّلاً) ، نصب على المصدر، لأن المعنى كتب الموت كتاباً.
وقال ابن عطية: نصب على التمييز
(متَوَكّلين) :
التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حِفْظها بعد حصولها، وفي رَفْع المضرة، ورَفعها بعد وقوعها، وهو من أَعْلَى المقامات، لوجهين: أحدهما قوله تعالى: (إن الله يحِبُّ الْمتَوَكلين) .
والآخر المكان الذي في قوله تعالى: (ومَنْ يَتَوكَلْ على الله فهو حَسْبهُ) .(2/475)
وقد يكون واجباً لقوله: (وعلى الله فَتَوَكَّلوا إن كنْتم مؤمنين) ، فجعله شرطاً في الإيمان ولظاهر قوله: (وعلى الله فلْيَتَوَكَّل المؤمنون) ، فإن الأمر محمول على الوجوب.
واعلم أنَّ الناس في التوكل على ثلاث مراتب:
الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وَكيله المأمون عنده
الذي لا يشكّ في نصيحته له وقيامه بمصالحه.
والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها ولا
يلجأ إلا إليها.
وَالثالثة: أن يكون العبد مع ربه كالميّت بين يدي الغاسل، قد أسلم إليه نفسه بالكليّة، فَصاحِب الدرجة الأولى له حظّ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار، بخلاف صاحب الثالثة.
وهذه الدرجات مبنيةٌ على التوحيد الخالص، فهي تَقوَى بقوَّته، وتضعف
بضعفه.
فإن قلت: هل يشترط في التوكل تَرْك الأسباب أم لا؟
فالجواب أَن الأسبابَ على ثلاثة أقسام:
أحدها: سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله، فهذا لا يجوز تَرْكه، كالأكل
لدَفْعِ الجوع، واللباس لدفع البرد.
ولا يجوز ترك ما يؤْذِي النفس ولا استعمال إذايتها، وقد سئل الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام عمن ترك الأكل حتى أضعف النفس عن الصلاة والنكاح، وترك الواجبات.
فأجاب بأنه لا يجوز استعمال ما يخلّ بالواجبات.
والثاني: سبب مظنون، كالتجارة وطلب المعايش وشِبْه ذلك، فهذا لا يقدح
فِعْله في التوكل، بل يجب استعماله، وهو أفضل من العبادة، لأن طلب الحلال فريضةٌ على كل مسلم.
وفي الحديث: "مَنْ بات تعباً من الحلال بات مغفوراً له" (1) .
__________
(1) في جامع الأصول برقم 21612 - "من بات كالاًّ من طلب الحلال بات مغفورًا له" (ابن عساكر من طريق عمرو بن أبى الأزهر عن أبان بن أبى عياش وهما متهمان عن أنس)(2/476)
والاشتغال بالْكَسب لإغناء النفس أفضل من العبادة واحتياجها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رجل قالوا له فيه: ما أطول عبادةَ فلان! فقال: مِنْ أين قوته، قالوا: مِنْ عندنا يا رسول الله.
قال: أنتم أعبد منه.
وحكاية الثلاثة نفر المعتكفين في المسجد، وإخراج عمر أحدهم لكونه كان
يسأَل الناس معلومة.
ولمّا بنى إبراهيم عليه السلام البيتَ صلى في كل ركْن منه ألف ركعة.
فأوحى الله إليه: رَغِيف في بطن جَوْعان أفضل عندي من عبادتك هذه (1) .
وفي الحديث إن الله يحبّ المؤمن المحترف، فوصفه بالإيمان، إذ التوكل من
أعمال القلب لا من أعمال اليد.
ويجوز تَركه لمن قوي على ذلك.
والثالث سبب موهوم بعيد، وهذا يقدح فعله في التوكل ثم إن فوق التوكل
التفويض، وهو الاستسلام لأمر الله بالكلّية، فإن التوكل له مرادٌ واختيارٌ.
وهو يطلب مراده باعتماده على ربه.
وأما المفوّض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند الاختيار إلى الله، فهو أكمل أدَباً مع الله.
(منَادِياً) :
هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يدْعو إلى الله، فمن أجابه
دخل داره وأطعمه من مائدته، ومن لم يجِبْه لم يدخلها ولم يأكل من مائدته.
(محْصَنَات) :
الإحصان يَرِد على أوجه: العفَّة: (والذين يَرْمون الْفحْصَنَات) .
والمراد بهن ذوات الأزواج.
والتزوج: (فإِذا أحْصِنَّ فإن أتَيْن بفاحشةٍ) .
والحرية: (نصف ما على المحصنات مِن العذاب) ، فاقتضت الآية حدَّ اِلأمَة إذا زَنتْ بعد أن تزوتجت.
ويؤخذ حدّ غير المتزوجة من السنّة، وهو مثل المتزوجة، وهذا
على قراءة "أَحْصِنَّ" بضم الهمزة وكسر الصاد.
وقرئ بفتحهما، ومعناه أسلمن.
وقيل: تزوَّجْنَ.
(مسَافِحات) :
أي غير زانيات، لأن السفاح هو الزنى، وهو منصوب على الحال، والعامل فيه (فانكحوهن) .(2/477)
مختالاً) :
اسم فاعل، وزْنُه مفتعل من الخيلاء، وهي الكبر والإعجاب.
(مُلكاً عَظِيما) :
الضمير يعود على آل إبراهيم، وهم: يوسف وداود، وسليمان.
(مُقِيتا) ، قيل قديراً.
وقيل حفيظاً.
وقيل الذي يقيت الحيوان، أي يرزقهم القُوت.
(مؤْمِنَةٍ) :
نعت للرقبَة المعتوقة، ولذلك أجمع العلماء عليه
هنا واختلَفوا في رقَبة الظّهار وكفَّارة اليمين كما قدمنا.
(متَعمِّداً) :
أي يقصد الفِعْلَ قصداً عازماً، فأمّا إن قصد
التحليل فهو كافر، وأما إنْ قَصد الفعْلَ مع اعتقاده التحريم فهو عاصٍ في
المشيئة عند الأشعرية.
واختلف في القاتل عَمْداً إذا تاب هل تقبل توبَتُه أم لا، وكذلك اختلفوا
إذا اقتُصّ منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا، والصحيح السقوط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أَصاب ذَنْباً فعوقب به في الدنيا فهو له كفّارة".
وبذلك قال جمهور العلماء.
(متَشابِهَات) :
قد قدمنا حكم المتشابه في القرآن، وأنه على ثلاثة أضرب: منه ما تعلّق به أهل الزَّيْغِ من خارجي القِبلة، نحو قوله سبحانه: (فوَرَبِّك لنَسْألنَّهم أجمعين) .
مع قوله تعالى في الآية الأخرى: (فيومئذٍ لا يُسأل عن ذَنْبِه إنْسٌ ولا جَانٌّ) .
ومنه ما تعلّق به أهل البِدْعة مِنْ أهل القِبْلَة من أصول المسائل الفقهية، نحو قوله سبحانه: (لا تدْرِكه الأبصارُ) ، مع قوله تعالى: (وجوهٌ يومئذ ناضِرة) . ونحو قوله سبحانه: (وإذ تَخْلقُ مِنَ الطِّين كهيئة الطَّير) ، وقوله: (وتخلقون إفْكاً)(2/478)
مع قوله تعالى: (هل مِنْ خَالق غَيْر اللهِ يرزقكم) .
وقوله تعالى: (والله خلقكم وما تَعْمَلون) .
الثالث ما تعلق به المخالف من مسائل الفروع في الأحكام الفقهية، نحو قوله
سبحانه: (وثِيَابَك فَطهِّرْ) ، حيث احتجوا به في إزالة النجاسة
بكل مائع غير الماء مع قوله: (وأنْزَلْنَا من السماء ماءً طَهوراً) .
وقوله: (وينزلُ عليكم من السماء ماءً ليطهِّركم به) .
(مسْتَضْعَفين في الأرض) :
اعتذار عن التوبيخ الذي وبختهم الملائكة، أي لم تقدروا على الهجرة.
وأما قوله: (والمستَضْعَفين من الرجال والنساء والوِلْدَان) ، فهم الذين حبَسهم مشركو قريش بمكة ليَفْتِنوهم عن الإسلام.
(مرَاغَما) ، أي موضعاً ومتحوّلاً يرغم عدوه بالذهاب إليه.
(محِلِّي الصَّيْد) : نصب على الحال من الضمير في (لكم) .
(منْخَنِقة) : هي التي تخنق بحَبْل وشبهه.
(متَجانِفٍ لإثْمٍ) : هو بمعنى غير باغ ولا عاد.
(مكلِّبِين) : أي معلمين للكلاب الاصصياد.
وقيل معناه أصحاب كلاب، وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في (عَلَّمْتم) .
ويقتضي قوله: علمتم ومكلِّبِين - أنه لا يجوز الصيد إلا بجارح معلم، لقوله: (ما علمتم من الجوارح مكلِّبين) ، على القول الأول، ولتأكيده ذلك
بقوله: (تعلمونهن) .
(متَرَدِّية) : هي التي تردت من جبل أو حائط أو بئر وفاتت
ولم تدرك ذكاتها.
(مقَدَّسَة) : مطهرة، يعني أرض بيت المقدس.
وقيل الطور.
وقيل دمشق.(2/479)
(مُهَيْمِناً) : ابن عباس. قيل: شاهدا.
وقيل مؤتمناً.
(مقيم) : أي دائم حيثما وقع.
(مصَدِّقاً لما بَيْنَ يَديْه) :
يعي التوراة، لأنها قبله، والقرآن مصدّقٌ للتوراة والإنجيل، ومصدقاً عطف على موضع قبله: ْ فيه هدًى ونور، لأنه في موضع الحال.
(مقْتَصِدةٌ) : أي معتدلة، ويراد به مَنْ أسلم منهم، كعبد اللَه بن سلام، وقيل: من لم يعاد الأنبياء المتقدمين.
(منْتَهون) : توقيف يتضمَّن الزَّجْرَ والوعيد، ولذلك قال
عمر: انتهينا، انتهينا.
(مسَمًّى عِنده) : إنما جعله عنده، لأنه استأثر بعلمه.
(مبْلِسون) : أي متحيِّرون ساكتون، قد انقطعت
حجتهم، لأنهم تركوا الاتّعاظ بما ذكّروا به من الشدائد، وفتح عليهم أبواب
الرزق والنعيم، ليشكروا عليها فلم يشكروا، فأخذهم الله.
(مُخْرِج الميِّتِ من الحيِّ) :
معطوف على (فالق) .
وفيه إشارة إلى إخراج الحب اليابس من النبات والشجر.
وقال ابن عباس وغيره: بل ذلك كله إشارةٌ إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وإخراج الْنطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان.
فإنَ قلت: ما وَجْة إتيان هذه الآية بلفظ الأمم، بخلاف آل عمران والروم؟
فالجواب لأنَّ بناءها على آية بُنيت على اسم الفاعل، وإن كان خبراً، وهو
قوله تعالى: (إنّ الله فالِق الْحَبِّ والنوَى) ، ثم أعقب ذلك
بقوله: (فَالق الإصباح وجاعل الليل سكنا) ، فلما اكْتَنَفت
الآية اسما فاعلين جِيىءَ فيها باسم الفاعل، ليناسب ذلك، فعطف: (ومُخْرِج) على (فالق) ، إذ هو معطوف على ما عطف عليه، فهو معطوف عليه، ثم جيء(2/480)
بعد باسم فاعل، وهو قوله: (فالق الإصباح) ، فتناسب هذا، ولم يقع في غيرها من السور مثل هذا، فلذلك لم يعدل إلى اسم الفاعل.
واللَه أعلم.
فإن قلت: فما بال قوله: (يخرج الحي من الميت) في هذا الموضع ورد بالفعل
وقد اكتنفه قوله: (فالق الحب والنوى) .
ومخرج الميت من الحي، وهما اسما فاعلين؟
والجواب عن ذلك ما قاله الزمخشري: لأنَّ فَلْق الحب والنوى بالنبات
والشجر الناميين من جنْسِ إخراج الحي من الميت، لأن الناس في حكم الحيوان.
ألا ترى قوله: (يُحْيي الأرض بعد موتها) .
وذكر هذا عقب قوله: (ومخرج الميت من الحي) لأنه معطوف على قوله (فالق الحب والنَوَى) كما تقدم، وهذا من حسناته.
(مشتَبِها وغَيْرَ مُتشتابه) :
يحتمل أن يكون الاشتباهُ في الأوراق أو في الثمر، ويتباين في الطعم، ويحتمل أن يكون الاشتباه في الطعم وتتباين في النظر.
وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات.
وأمر اللَهُ بالنظر إلى أول ما يخرج ضَعِيفاً لا منفعة فيه، ثم ينقل من حال إلى حال حتى يتميّع أو ينضج أي يطيب.
فإن قلت: هل لقوله هنا: (مُشْتَبِهاً) معنى غير معنى الآية في قوله:
(متَشابهاً) ؟
فالجواب: لا فرق بينهما إلا ما لا يعَدُّ فارقاً، إذ الافتعال والتفاعل
متقاربان، أصولُهما الشين والباء والهاء، من قولك: أشبه هذا هذا إذا قاربه.
ومثاله ورد في هذه الآية على أخفّ التباين، وفي الثانية على أثقلهما رَعْياً
للترتيب المتقرر، وقد مرَّ نحو هذا في قوله تعالى: (فمن تَبعَ هُدَايَ) .
وقوله في طه: (فمن اتبّعَ هداي) .
وأما سِر خَتْم كل واحدة بما يليق بها فلسنا نطيلُ بذكره، ولو تكلمت على
سر كل آية وما يليق بها لطال بنا الكتاب، وحارت بالتأمل فيه الألباب، نفعنا الله بهذا القرآن العظيم دِيناً ودُنيا.(2/481)
(مسْتَقَرّ ومستَوْدعَ) :
يعني الولد في صلب الأب، وفي رحم الأم.
وقيل: الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها، لكن من كسر
القاف فهو اسم فاعل (ومستودع) اسم مفعول، والتقدير فمستقر ومستودع، ومَن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر ومستودع مثله، والتقدير على هذا لكم مستقر ومستودع.
(متَرَاكِبا) : يعني السنبل أو الرمان، لأن بعضه على بعض.
(محَرَّمٌ على أزواجنا) :
إنما ذكر محرم حملا على لفظ ما، وكانوا يقولون في أجنة البَحِيرة والسائبة ما وُلد منها حيّاً فهو للرجال خاصة، ولا يأكل منها النساءُ، وما ولد منها ميّتا اشترك فيه الرجال والنساء.
(مخْتَلِفاً أكلُه) :
في اللون والطعم والرائحة والحجم.
وفي ذلك دليل على أن الخالق مختار مريد.
(مقَرَّبِين) : عطف على معنى " نَعَمْ "، كأنه قال: نعطيكم أجراً ونقربكم.
واختلف في عدد السحرة اختلافاً متبايناً، مِنْ سبعين رجلاً إلى سبعين ألفاً.
وكلّ ذلك لا أصْل له في صحة النقل.
(مُلْقِين) :
في تعبيرهم بهذه الجملة الاسمية إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه.
وتأمَّل إلى تعبيرهم عن إلقاء موسى في قولهم:
(إما أنْ تلْقِيَ) - بالفعل، وكيف لا يحقرون أمْرَ موسى وقد كان معهم من أسباب السحر سبعون وِقْراً، فلما رأى موسى ما عندهم أوجس في نفسه خيفه، فأوحى الله إليه لا تخف إنكَ أنْت الأعلى.
وكذلك المؤمن في حال النَّزْع يرى ملك الموت يقبض روحه، ويرى إبليس
يقصد إيمانه فيخاف ويحزن، فينزل الله الملائكة يبشّرونه بقولهم: (لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) .
يا محمدي، هذه الآية الشريفة التي أنزلها الله تعالى على نبيك، فلك فيها من(2/482)
البشارة ما لا تحصيه العبارة.
وقد قيل فيها من الأقوال في الاستقامة والبشارة
نحو الخمسين قولاً، وقد قال هذه الكلمة المشرفة أربعة نفر، أولهم فرعون قالها اضطرارا، فأخذه الله نَكَال الآخرة والأولى.
وقالها المنافق استكباراً فأورثته الدَّرْكَ الأسفل.
وقالها قوم يونس افتقاراً فأورثتهم الأمان.
وقالها العارف افتخاراً فأورثته البِشارة والأمن من الخوف.
وأعظم من ذلك نزولُ الملائكة عليه، فسبحان مَنْ شرف هذه الأمة الكريمة
بخدمة الملائكة لهم، منهم من يستغفر لهم، ومنهم من يحفظ أرزاقهم وأنفسهم، ومنهم من يسوقُ إليهم الرياحَ والأمطار، ومنهم من يقبض أرواحَ الأبرار
والفجار.
فإن قلت: هل الخوف والحزن بمعنى؟
فالجواب أن الناسَ اختلفوا في الخوف والخزْن على ثلاثين قولاً أو أكثر
فقال جعفر الصادق: لاتخافوا مِنْ عَزْلِ الولاية، ولا تحزنوا من كثرة الجناية، وأبشروا بفضل العناية.
وقيل: لا تخافوا من الجحيم، ولا تحزنوا من فَوْتِ النعيم، وأبشروا برؤية
الكريم.
وقيل: لا تخافوا خَوْفَ الكفار، ولا تحزنوا حْنَ الفجّار، وأبشروا بثواب
الأبرار.
وقيل: لا تخافوا من كثرة العصيان، ولا تحزنوا من قلة الإحسان، وأبشروا
بلقاء الرحمن.
وقيل: لا تخافوا من العيوب، ولا تحزنوا من الذنوب، وأبشروا بالمطلوب.
وقيل: لا تخافوا من العقاب، ولا تحزنوا من الحساب، وأبْشِروا بحسن المآب.
وقيل: لا تخافوا من الشقاوة، ولا تحزنوا من القيامة، وأبشروا بحفْظِ الأمانة.(2/483)
وقيل: لا تخافوا يا أهل الفريضة.
ولا تحزنوا يا أهْل السنة، وأبشروا يا أهل النافلة.
وقيل: الخوف لأولياء الله، والحزن لعباد الله، والبشارة لمن أطاع الله.
وقيل: لا تخافوا يا أهل الصلاة، ولا تحزنوا يا أهل الزكاة، وأبشروا يا
أهل الإيمان.
وقيل: لا تخافوا يا طالبي الدنيا، ولا تحزنوا يا طالبي العقْبى، وأبشروا يا
طالبي المولى.
وِقيل: لا تخافوا أيّها المذنبون، ولا تحزنوا أيها المطيعون، وأبشروا أيها
المشتاقون.
وقيل: لا تخافوا من السؤال، ولا تحزنوا من الحال، وأبشروا بالوصال.
وقيل: لا تخافوا يا أهل الملالة، ولا تحزنوا يا أهل الندامة، وأبشروا يا أهل
الكرامة.
وقيل: لا تخافوا أيها المريدون، ولا تحزنوا أيها الصديقون، وأبشروا أيها
المتقون.
وقيل غير ذلك من الأقاويل، كلّها لمن قال: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) .
فإن قلت: شرط مع هذه الكلمة الاستقامة وأنى لنَيْلها؟
فالجواب أن " ثُمّ " على ثلاثة أوجه:
للتقديم، (ثم لنَحْن أعْلَم بالَّذين همْ أوْلى بها صِلِيّا) .
وللتقرير، (ثم كان من الذين آمَنُوا) .
وللترديف، وقَد قدَّمْنَاها في حرف الثاء.
وأما الاستقامة فأقرب ما قيل فيها: استقاموا على طريق الهداية والسنّة، ولا
يقدح الميل عنها ومخالفتها مَنِ استغفر وأناب، رزقنا الله التوبة والإنابة.(2/484)
(مُنْقَلِبون) :
هذا من قول السَّحَرة، وذلك أن الله تعالى قال له: يا موسى: إنَّ السحرة ألقوا حبالهم وعصيَّهم فرأيت منهم السحر العظيم، فألْق عصاك حتى تنظر إلى قُدْرة الرب الكريم، فألقى عصاه فإذا هي
ثعبان مُبين، فتلقّف سحْرَ السحرة كله، فقصد نحو الكفَّار فاتحاً فَاهُ، فنفر الكفَّار من كل جانب، ومات منهم ما لا يُحْصَى عددهم، ثم قصد نحو سرير فرعون، فلما دنا منه صاح فرعون ونادى: أغِثْني يا موسى، فأخذ موسى عصاه، فعادت إلى حالتها الأولى، فلما رآها السحرة خرّوا سجّداً، وكشف الله لهم حجاب الأرض، فرأوا الثرى، ورفعوا رؤوسهم فنظروا إلى العرش (1) فاشتاقوا للقاء الله، فقالوا: آمَنَّا بربَ العالمين، ربّ موسى وهارون.
فقال لهم فرعون: (آمَنْتُم به قبل أنْ آذَنَ لكم) .
فقالوا: لا ضَيْرَ يا فرعون، إنك لا تقطع إلا الأيدي والأرجل، ولا تقطع المحبة والمعرفة من قلوبنا.
والنكتة فيه أنَّ السحرة كانوا مع الكفر والخيانة، وأقسموا بعزّة فرعون.
وقصدوا المعارضة مع معجزة الرسول، فلما سجدوا سجدةً واحدة مع هذه
الكبائر، رفع الله لهم حجابَ الأرض والسماوات، وأكرمهم بالإيمان.
وأنت يا محمدي إذا سجدْتَ له سبعين سنة أو أكثر، وقصَدْتَ بيتَ الله بالتوبة والندامة، وطهَّرت نفسك من الحدث والخيانة أفَتَرَاكَ تحصر ما أعدّ لك من الكرامة، كلا وعزته ليكشفن لك عن ذاته حتى تتمتّع بقُرْبه في جواره.
(مبِين) : نعت لثعبان، وقد قدمنا أنه صار كالجبل
العظيم، ففي هذه الآية سماه ثعباناً، وفي أخرى حيّة، وفي أخرى جانٌّ، وفي
أخرى عصا، كلّ ذلك تعظيما لها، وكيف لا وقد أهلكت سبعين ألف وِقْر من السحر، وسمَّى كلمة التوحيد بسبعين اسما، ولذلك أهلكت سبعين سنّة بالكفر.
هذه العصا معجزة موسى بكلمة التوحيد التي هي كلمةُ المولى.
اللهم إنا نستودعكها فأحْيِنا عليها، وأَمِتْنا عليها، وثبِّتْنا عند الحاجة إليها بجاه كلامك ونبيك - صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) لا يخفى ما في هذه الكلام من بعد ومبالغة، فهي أقرب إلى الإسرائيليات المنكرة.(2/485)
تنبيه:
جميع الرسل جاءت بهذه الكلمة المشرفة دون سائر الطاعات، وأول مَنْ شهد
بها اللَّهُ وملائكته ثم الرسل، قال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) .
ثم أمرك بها في قوله: (فإن تَولَوْا فقولوا اشْهَدوا بأنَّا مسْلِمون) ، ولا يبقى في الجنة غيرها والقرآن، والحمد للَه، والحب للهِ، فعليك أيها الأخ بحفْظِها، ولا تدنِّسها بالمعاصي، وإن قُدِّرَتْ عليك فامْحها بتوبة، كالثوب تغسله كلما تدنس، وإن لم تتب وتوسخ فيوم زينة الحشر ما تلبس، وحَرّض عليها من أحببته أو تعلق بك.
فإن قلت: لأي شيء ذكر الشهادة على نفسه، مع أن الشهادة من النفس لا
تقبل؟
فالجواب أنَّ الله لما نجا نبيه محمداً بالرسالة، وأمرهم بتوحيد الله، فقال:
قولوا لا إله إلا الله تفْلحوا، فقالوا: مَنْ يشهد أنكَ رسول الله، قال لهم: أي شيء أكبر شهادة، فقالوا: الله أكبر شهادة، فأنزل الله الآية.
ومعناها شهد شهادةً فرضيَها، وأمر الخَلْقَ بها بعد شهادته لنفسه في أزَلِه.
ففيها رجاء لهذه الأمة، وذلك أنه مدح أهل الطاعة على اختلاف أحوالهم من
التائبين والعابدين، وغيرهم، يرَجّي من لم يكن له عَمَل غير الشهادة، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) .
إلى قوله: (لكلِمات رْبي) .
وهي شهادة أن لا إله إلا الله.
فإن قلت: لم ذكر النفي قبل الإثبات؟
والجواب: لإكمال المدحة، لأن قول الرجل: لا عالم في البلد إلا فلان أمدح
من قولك: فلان عالم في البلد.(2/486)
وأيضاً فالنجاة من النار أوْلى من دخول الجنة، فأمر الله أوّلاً بما ينجّي من
النار، وهي البراءة من عبادة الأصنام، ثم بالتوحيد الذي يدخل الجنة.
وأيضاً فنَفْي الإلهية عن الأصنام إثباث الألوهية للَه، وليس في إثبات الإلهية
لله نفى الإلهية عن الأصنام، لأن العاقل لا يكون بغير التولّي إلى معبوده، فإذا
نفى الإلهية عن الأصنام ثبت تولِّيه إلى الله، وإذا أثبت الإلهية للهِ فليس يتبرأ عن الأصنام، لأنه ربما يكون لواحد معبودان، فما أشرف هذه الكلمة المشرفة إن وُفِّقت إليها، وأماتَك الله عليها، ألا تراها تسعة عشر حرفاً على عدد الزبانية، وكلماتها سبعة علي عدد أبواب جهنم.
ولما كان النهار نصفان والليل نصفان كانت الأنصاف أربعة، ليكون مَنْ
قالها في اليوم والليلة مغفوراً له ذنوب ما عمل فيهما.
(متَبَّرٌ ما همْ فيه) :
من التَّبَار، وهو الهلاَك.
والضمير عائد على القوَم الذين قالوا لموسى: اجعَلْ لنا إلهاً نعبده كما يَعْبد هؤلاء أصنامَهم، فقال لهم: أتريدون أن تهلكوا كما هلك هؤلاء.
(مبْصِرون) :
هو من بصيرة القلب، يعني إذا مسهم طائف من الشيطان تذكّروا عقابَ الله، أو رجاء ثوابه، أو مراقبته أو الحياء منه، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه، والنظر والاعتبار، وغير ذلك.
(ممِدّكم بألْفٍ من الملائكة ِ مرْدِفين) ، أي مكثركم.
ومن قرأه بفتح الدال فهو اسم مفعولِ، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل.
وصحَّ معنى القراءتين، لأنَّ الملائكة المنزَلين ردف بعضهم بعضاً، فمنهم تابعون ومتبوعون، يقال: ردفته وأردفته: إذا جئت بعده.
(موهِن كَيْدِ الكافرِين) :
من الوهن وهو الضعف.
وقرئ بالتشديد والتخفيف، ومعناهما واحد.
(مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) ، أي منحازاً إلى جماعة ٍ من المسلمين،(2/487)
فإن الجماعة حاضرة في الحرب، فالتحيُّز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيُّز إلى الإمام والمدينة والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضرا.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أنا فِئَة لكل مسلم، وهذا إباحة لذلك.
والفرار من الزحف من الكبائر في أي عصر كان إلاَّ أن يكون الكفار أكثر من
مِثْلي المسلمين.
(متَحَرِّفاً) : بالنصب على الاستثناء، من قوله: (مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) .
وقال الزمخشري: انتصب على الحال، ومعناه الكرّ بعْد الفَرّ، ليُري عدوّه أنه منهزم ثم يعطف، وذلك من الخداع في الحرب.
وفي الحديث: الحرب خدعة.
وقد وقع للصحابة من هذا ما تكفل أصحابُ السير بنقله.
(مُخْزِي الكافرين) : يعني مُهْلِكهم في الدنيا بالسيف، وفي
الآخرة بالنار.
(مُؤْتَفِكات) :
يعني مدائن قوم لوط، وائتفكت بهم يعني انقلبت.
(مُرْجَوْن) : بالهمز وتركه، وهما لغتان، ومعناه التأخير.
قيل هم الثلاثة الذين خلّفوا قبل أن يتوبَ الله عليهم.
وقيل: هم الذين بنَوا مسجد الضرار.
(مُعَذِّرُون) : هم المعتذرون.
ثم أدغمت التاء في الذال، ونقلت حركتها إلى العين.
واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين، وقيل: هم المقصّرون.
من عَذَر في الأمر إذا قصر فيه، ولم يجد، فوزنه على هذا المفعلون.
وروي على هذا أنها نزلت في قوم من غِفَار، والاعتذار يكون بحق ويكون
بباطل.
ومُعَذّرون الذين اعذروا، أي أتوا بعُذْر صحيح.(2/488)
(مَجْراها ومرْساها) :
مشتقان من الجري والإرساء، وهو الثبوت، أو من وقوف السفينة.
ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان، أو مصدرَيْن.
ويحتمل الإعراب وجهين:
أحدهما أن يكون بسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا، والتقدير
اركبوا متبركين ببسم الله، أو قائلين بسم الله، فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان، بمعنى وقت إجرائها وإرسائها، أو ظرفين للم كان ويكون العامل فيه ما في قولك بسم الله مِنْ معنى الفعل، ويكون قوله بسم الله متصلاً مع ما قَبْله، والجملة كلام واحد.
والوجه الثاني أن يكون كلامين، فيوقف على اركبوا فيها، ويكون بسم الله
في موضع خبر، ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر، أي إجراؤها وإرساؤها، ويكون بسم الله على هذا مستأنفاً غَيْرَ متّصل بما قبله، ولكنه من كلام نوح، حسبما ورد أنَّ نوحاً كان إذا أراد أن يجري السفينة قال: بسم الله، فتجري.
وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتَقف.
وفي الآية إشارة إلى أن يكون العبد في جميع تصرفاته مشتغلاً بمولاه، ولذلك
قال الصوفية: أنت سفينة الوجود، وسفينة نوح عليه السلام كان إجراؤها
وإرساؤها كما أخبر الحقُّ سبحانه في كتابه بسم الله مجراها ومرساها، وقد
أرشدت الشريعة المحمدية أن يكون جميع تحركك وسكونك بذكر الله تعالى.
فتفتتح عند نوْمِكَ بسم الله، وعند أكلك وشُربك وخروجك من منزلك
ودخولك فيه، ولباس ثوبك وتجريده كذلك، وعند استفتاح كلامك، وعند نكاحك وسفرك وإيابك إلى أهلك، وعند قيامك وقعودك، فإن كنت في حالك محمديّاً رسَتْ سفينتك على جُودِيِّ السلامة، وإن تخلفت عنه لم يكن لك عاصمٌ من أمْرِ الله، وغرقْتَ في طوفان المهالك، وإن لم تشعر أنك هالك فتيقّظ من سَكْرَة هواك تجد روحك في قارورة شهواتك غارقاً في فَضْلة معاصيك.(2/489)
ذُكِرَ أن ابنَ نوح عليه السلام حين تخلّف عن ركوب السفينةِ اتخذ قارورة
قَدْر ما تحمله، وصعد على الجبل، فلما بلغه الماء دخل فيها، وأغلقها على نفسه، وأرسل عليه إدرار البول حتى مات غريقاً فيه (1) ، فاكسرها بحجر عزيمة التوبة، وناد بلسان حالك ومقالك: يا منقذ الغرقاء، ويا منجي الهلْكَى، أنقذني، فإني ذاهب، لعل حنين صوتك يشفع فيك، أمَّنْ يجيب المضطَرَّ إذا دَعَاه.
(متَّكئاً) :
بسكون التاء وتنوين الكاف هو الأترج بلغة الحبشة.
قاله ابن أبي حاتم: وبفتح التاء ما يُتَّكأ عليه، وإعطاؤها السكاكين للنساء
يدلّ على أن الطعام كان مما يقْطع بالسكاكين كالأترج.
وقيل كان لحما.
وقيل: أَعْتَدَتْ لهن فراشا يتَّكئْنَ عليه.
(مُزْجَاةٍ) : أي قليلة، بلسان العجم.
وقيل ناقصة.
وقيل: إنَّ بضاعتهم كانت عروضاً، فلذلك قالوا هذا حياء منه، وطلبوا منه الصدقة، ودعوا له، وقالوا: إن الله يجزي المتصدّقين، وسمُّوا الزيادة صدقة.
وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً لهم قبل نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: تصدق علينا بردّ أخينا إلينا، فلما شكوا له رَقَّ لحالهم وعرَّفهم حينئذٍ
بنفسه، فتشبَّهْ بهم واسْتَحِ من مولاك بنَقْص بضاعتك، لعله يمدك، لأن الجفاء يذهب بالصفاء، كيف يصل روح التوحيد والمعرفة الوافية إلى القلوب الجافية الخاطئة القاسية!.
فإن قلت: ما منعهم من قولهم: إن الله يجزيك على صدقتك، بل عرضوا
له؟
فالجواب أنهم كانوا يعتقدون كفْرَه، لأنهم لم يعرفوه، فلو قالوا: إن الله
يجزيك بصدقتك كذبوا، لأن الله لا يجزي الكافر.
فقالوا لفظاً يوهم أنهم أرادوه ولم يريدوه.
(مُعقِّبَاتٌ) : قد قدمنا أنهم جماعات الملائكة، وسمّوا
__________
(1) كلام بعيد غريب لا دليل عليه.(2/490)
بذلك لأنهم يعقب بعضهم بعضاً، ومنه الحديث: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار.
وأما قوله تعالى: (لا معَقِّب لِحكمه) فمعناه الذي يكر على الشيء فيبطله، يقال: عقب الحاكم على حكم مَنْ قبله إذا حكم بعد حكمه بغيره.
(مصْرِخكم) : مغيثكم.
واختلف: هل هذا من قول الشيطان في القيامة أو في النار.
(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) .
الضمير للظالمين.
والمعنى أنهم يسرعون يرفعون رؤوسهم ويخفضونها من شدة ما يرون من الهول.
والهواء المراد به هنا الريح، يعني أنَّ أفئدتهم كالهواء، إشارة إلى ذهابها وعدم
انتفاعهم بها.
ويحتمل أن يراد العقل، ولا سيما إذا قلنا إن محلّه القلب، وهو أن عقولهم
تذهب وتصير كالهواء، لأنهم يذهلون لشدة ما ينالهم.
وهذا تشبيه.
والبيانيون يجعلونه استعارة، لأنهم يقولون: زيد كالأسد تشبيه، وزيد أسد استعارة، ورأيت أسداً يكر ويفر في الحرب فيه خلاف عندهم، وكذلك زيد مثل الأسد.
(مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) : يعني الوعد بالنصر على الكفار.
فإن قلت: لم قدم المفعول الثاني على الأول؟
فالجواب أنه قدم الوَعْدَ ليعْلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال
(رسلَه) ، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس فكيف يخلف وعد رسله
وخيرةَ خلقه، فقدَّم الوعد أولاً لقَصْدِ الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد
التخصيص.
(مقَرَّنين في الأصفاد) :
يعني المجرمين مربوطين في الأغلال، وهذا كقوله تعالى: (في سِلْسِلةٍ ذَرْعُها سبعون ذِرَاعاً) .(2/491)
وقوله: (مقرنين دعوا هنالك ثبورا) .
أي يا ثبوراه، كقول القائل: يا حسرتي، يا أسفي.
(متَوسِّمين) :
حقيقة التوسم النظرُ إلى السمة، وهي العلامة
التي يعرف بها المرء، ومعناها الفراسة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله".
(مُخْلَصِين) : المخلَص: هو الذي يغويه إبليس بالتزيّن، ولا يسمع منه، أو يزين له ولا يغويه.
فإن قلت: هل التزيّن والإغواء بمعنى واحد؟
فالجواب أنَّ الإغواء يستلزم الفعل، والتزين لا يستلزمه، فقوله تعالى: (إلاَّ
عبادك منهم المخْلَصين) ، مسبّب عن الإغواء، لا عن التزين.
فالمخلَصين يزين لهم ولا يغويهم، ولا يقدر عليهم بوجه.
(مقِيم) : أي ثابت يراه الناس.
والضميرُ للمدينة المهلكة التي أخذتها الصيحة.
(مُشرِقين) :
أي داخلون في الشروق، وهو وقت بزوغ الشمس.
(مُبِين) : أي واضح.
وضمير التثنية في (إنهما) . قيل لمدينة قوم لوط أو قوم شعيب، (فالإمامُ) على هذا الطريق.
وقيل للوط ولشعيب، أي أنهما على طريق من الشرع واضح.
(مستهْزِئين) :
كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة.
كانوا يستهزئون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكفى الله نبيَّه أمرهم، وأهلكهم بمكة.
وقيل: كأبي جهل وأصحابه، أهلكهم الله ببدر.
ويحتمل الجميع.
(مُنْكِرَة) .
نعت للقلوب، يعني أنهم أنكروا وحدانية الله،(2/492)
واستكبروا عنها.
والفاء للتسبيب، وليس هو من باب ذكر اللازم عقب الملزوم.
وإنما هو من باب ذكر الشيء عقب نقيضه، لأنَّ لازم كونه إلهاً واحدا التصديق لا الإنكار والكفر.
وظاهر كلام الزمخشري أنَّ الوحدانية ثابتة بالعَقْل، لأنه قال: قد ثبت بما
تقدَّم إبطال أن تكون الإلهية لغيره، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح
دليلها استمرارهم على شركهم.
وظاهر كلام ابن عطية أنها ثابتة بالسمع، لأنه قال: لمَا تقدم وصفُ الأصنام
جاء الخبر الحقّ بالوحدانية، وهذه مخاطبةٌ لجميع الناس معلمة بأن الله متَّحد
وحدة تامة، لا يحتاج لكمالها إلى منضاف إليها.
والصحيح أنها مستفادة منهما معاً.
ابن عرفة: القضية على ثلاثة أقسام:
عقلية، كقولك الواحد نصف الاثنين، والجوهر متحيّز أو مفتقر إلى
العَرَض.
وشرعية، كقولك: الميت يبعث.
ومركبة منهما، كقولك: الله سميع بصير.
واختلفوا في قولك: الله إله واحد، فذهب الفَخْر إلى صحة إثباته بالسمع.
ونقل ابن التِّلْمساني في شرح المعالم الدينية عن بعضهم أنه لا يصح إثباتُه بالسمع.
وقال في شرح المعالم الفقهية: إنَّ ما تتوقّف دلالةُ المعجزة عليه لا يصحُّ إثباتُه
بالسمع، كوجود الإله، لئلا يلزم عليه الدور.
وما لا يتوقف عليه يصح إثباتُه بالسمع، ككونه واحدا، ذكره في أول الباب السابع في الإجماع.
وعندي أنَّ الآية تدل على صحة إثبات الوحدانية بالسمع والعقل، لقوله:
(فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) ، كأنه يقول: فالمكذبون بالآخرة
قلوبهم منكرة، ولو كانت لا تتوقف على السمع لقال: فالصُّمّ العمي، أو(2/493)
فالمتصاممون قلوبهم منكرة، فذِكْره عقَيب الإيمان يشعر بعِليتِه له، فهو دليل على أنهم سمعوا فلم يؤمنوا بالآخرة، ولو لم يكن معلّقاً على الإيمان لما ذكره بعده.
(مفْرَطون) :
بكسر الراء والتخفيف من الإفراط، أي متجاوزون الحدَّ في المعاصي.
وبفتح الراء والتخفيف، من الفَرْط، أي يعجلون إلى النار.
وبكسر الراء والتشديد من التفريط.
(مُنْكَر) :
هو أعمُّ من الفحشاء، لأنه يعمُّ جميع المعاصي.
(ملِئْتَ منهم رُعباً) : الضمير لأصحاب الكهف، وضمير
الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني أنك يا محمد لا تستطيع النظر إليهم لما ألبستهم من الهيبة، فإذا كان القويّ الجأش لا يستطيع النظر إليهم فكيف يَدَّعي غيره رؤيتهم.
(ملْتَحَدا) : أي ملجأ تميل إليه فتجعله حرزاً.
(مُهْل) : هو بلسان أهل المغرب.
وقيل بلغة البربر:
درْدِىّ الزّيْتِ إذا انتهى حرّه، وروي هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: هو ما أذيب من الرصاص وشبهه.
(مُرْتَفقا) : هو شيء يرْتَفق به.
وقيل يُرتفق عليه من الارتفاق، بمعنى الاتّكاء.
(مُنْقَلَبا) : أي مرجعاً، وهذا قول المؤمن لأخيه الكافر.
أي إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي لأجدن في الآخرة خيرا من جنّتي في الدنيا.
وقرئ خير منهما بضمير الاثنين للجنتين، وبضم الواحدة للجنة.
(مقْتَدِراً) : من أسماء الله، ومعناه مَنْ له القُدرة والقوةُ
والعظمة والكبرياء، وإنما يوصف بذلك تعظيما، فكلّ مقدور معلوم، وليس كل معلوم مقدوراً، لأن المحالات كلها معلومة للقديم سبحانه، وليست بمقدورة له،(2/494)
لأنه لا يُوصف بالقدرة على خَلْق نفسه، ولا على خلق كلامه، أو شيء من
جهاته الذاتية، ولا على الجمع بين الضدّين، وجعل الشخص في مكانين في وقت واحد، ولا على أن يجعل العالم بأسره في بَيْضة كما يعتقده الجاهل.
فإن قلت: مقدوراته أكثر أم معلوماته؟
فالجواب أن إطلاق هذا السؤال خطأ، لأنه إن أراد السائلُ مقدوراته التي لم
توجد مع معلوماته التي لم توجد لم تصح المفاضلة بينهما، لأن ما ليس بشيء لا يقال إنه أكثر مما ليس بشيء، وإن أراد بذلك مقدوراته الموجودة مع معلوماته أكثر، لأن ذاته وصفاته معلومة له، وليست بمقدورة له، بل كانت مقدورة له، وهكذا الموجودات في حال وجودها في الحال من الحدوث معلومة له، وليست بمقدورة له، بل كانت مقدورات له في حال الحدوث.
والله أعلم.
(موَاقِعوها) :
الضمير للمشركين وشركائهم، وضمير التأنيث عائد على النار، ويعني أنهم يظنّون أنهم يقعون فيها، والظنَّ هنا بمعنى اليقين.
(مَهْلِكهم مَوْعِدا) :
بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر من أهلك.
(مفْسِدون في الأرض) :
يعني بالقَتْل والظلم وسائر وجوه الشر.
وقيل: كانوا يأكلون بني آدم.
والضمير يعود على يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان من بني آدم في خلقتهم تَشْوِيه في الطول والقصر وطول الأذنين.
(مُثْلَى) : حُسْنَى، تأنيث أمثل.
(مُحْدَث) : بفتح الدال، يعني أن هذا القرآن مجدَّد النزول، لأنه قديم متعلق بالذات القديمة، لم يقرأ ولم يسمع، فلما خلق الله الْخَلْق
وأوجدهم كتَبَه في اللوح المحفوظ أو في ألواح على ما روي، ونزل به جبريل إلى بَيْتِ العزّة، كما قدمنا، فصار يتجدّد بالنزول به على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فصار مقروءاً متلُوّاً مكتوباً مسموعاً، وذلك لا يوجب تغيُّر حاله، كما أن مولانا(2/495)
جلّ وعلا لم يكن في الأزَل معبودا ولا مسجوداً له ولا مذكوراً، فخلق الخلق
ليعبدوه ويوحّدوه ويذكروه، فصار لهم معلوما ومعبوداً.
(مشْفِقْون) : خائفون.
والضمير عائد على الملائكة الذين لا يَعْصون الله ما أمرهم، فهؤلاء ملائكة مطَهَّرون مشفقون من العقوبة.
وأنت أيها المتلطخ لا تشفق مع عصيانك، وهو كل يوم يناديك: عَبْدِي -
أرسلتُ إليكَ رسائلَ المواعظ تناديك: ارجع إلَيّ، الملائكة صفو بلا كدر.
والشياطين كدر بلا صفو، وأنت مجمع البحرين، فمتى غلب صَفْو عقلك على كدر شهوتك أخدمتك حملةَ العرش بمدحة ويستغفرون للذين آمنوا، يا مودعاً بدائع البدائع، الأكوان ألواح، وأنت الكاتب، وشجرة وأنتَ الثمر، وقوالب وأنت المعنى، ونافجة وأنْتَ المسك، ودفتر وأنت الخطوط، يا عجباً لك كيف أعجبك دخان الشهوات عن أسرار المشاهدات، اشتغلْتَ بجمع الفاني عن التلذّذ بخدمتنا، وشرهت عليها شره الكلب للجيفة، ولم تشفق من عتابنا، أما سمِعْتَ أهْلَ الجنة يقولون: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) .
فكيف تطمع أن تكون من أهلها وأنتَ غير مشْفِق من عذابنا.
اللهم ارحمنا إذا صِرْنَا إليك، والطف بنا يوم الوقوف بين يديك، فإنَّ قلوبنَا قد ماتَتْ عن طاعتك، وأعيننا قد جمدت مِنْ خَشْيَتك، وآذاننا صمّت عن سماع موعظتك، وعُقِل العقْل عن التفكر في آياتك، وخرس اللسان عن شكر نعمتك، وقُيدت الأقدام عن الإقدام إلى حضرتك، فنحن كالذي استهوته الشياطين، فلا تؤاخذنا بذنوبنا، وعامِلْنا بفضلك وكرامتك بجاه أكرم الخلق عندك، وخيرتك صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم.
(مضْغَة) : قطعة لحم.
(مخلَّقة) : تامة الخلقة.
(وغير مخلَّقة) ، غير التامة، كالسقط.
وقيل الخلّقة الْمسَوَّاة السالمة من النقصان.(2/496)
(مُعْتَرَّ) :
المتعرض بغير سؤال، ووَزْنه مفتعل، يقال: اعتررت القوم، إذا تعرضت لهم.
والمعنى أطعموا مَنْ سأل ومن لم سأل ممَّن تعرض بلسان حاله.
أو أطعموا من تعفّف عن السؤال بالكلية، ومن تعرض للعطاء.
(المُخْبِتِين) : الخاشعين، وقيل المتواضعين.
وقيل نزلت أبي بكر وغمر وعثمان وعليّ.
وكذلك قوله بعد ذلك: (وبَشِّر المحسنين)
واللفظ فيها أعمّ من ذلك
(معَاجِزين) : مسابقين ومعجزين: فائتين، ويقال مثبطين.
(مخْضَرَّة) .، أي تصير الأرض خضراء بالمطر.
وقيل: إنها لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة والبلاد الحارّة، وفهم بعضُهم
إنه أراد به صبيحة ليلة المطر، وأما على معنى تصير فذلك عامّ في كل بلد.
والفاء للعطف، وليست بجوابٍ، ولو كانت جواباً لقوله: ألم تر - لنصبت
الفعلَ، وكان المعنى نَفْي خضرتها، وذلك خلاف المقصود، وإنما قال بنفي
المضارع ليفيد بقاءها كذلك مدة.
(معْرِضون) : أي لا يستمعون إلى لغو الكلام، ولا يدخلون فيه.
وأنواعه كثيرة نحو العشرين نوعا
ويحتمل أَنْ يريدَ أنهم لا يتكلمون به، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي
ذلك من باب أولى وأحْرَى.
(مذْعِنين) ، أي منقادين مطيعين لقَصْد الوصول إلى حقوقهم.
وسبب نزولها أنَّ رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومةٌ، فدعاه
اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه ودعاه إلى كعب بن الأشرف.(2/497)
(متَبَرجاتٍ) : أي مظهرات للزينة، فأباح الله للنساء وَضعَ
الثياب بشرط أَلاَّ يقصدن إظهار زِينةٍ.
وقيل متبرجات متكشفات الشعور.
(مستَقَرًّا) : إقامة.
(مشْرِقين) : قد قدمنا أنه وقت طلوع الشمس.
وقيل معناه هنا نحو المشرق.
وانتصابة على الحال.
(مدْرَكون) : لما خاف قوم موسى من إدراك فرعون لهم
قالوا هذا.
(مسَحَّرِين) : معلّلين بالطعام والشراب، أي أنك بشر مثلنا.
(مجرمين) : يحتمل أن يريد به كفار قريش أو المتقدمين.
(منْظَرون) : تَمنَّوْا أن يؤَخَّروا حين لم ينفعهم التمني.
(مخْسِرِين) ، أي ناقصين الكيل والوزن.
(مبْصِرَةَ) : واضحة الدلالة.
وإسناد الإبصار لآيات موسى مجاز، وهو في الحقيقة لتأملها.
(مرْسِلَةٌ إليهم بهديَّةٍ) : هذا من كلام بلقيس تأكيداً
للمعنى الذي أرادَتْه حين قالت لقومها، إني مجربة هذا الرجل بهديّة من نفائس
الأموال، فإن كان ملكاً دنيويّاً أرْضَاه المال، وإن كان نبيئا لم يرْضِه المال.
وإنما يرضيه دخولنا في دينه.
وقد أكثر الناس في وصف هذه الهدية، تركناه لطوله، فانظر هذا اللطف
والسياسة من نبي الله سليمان في دعاية بلقيس إلى الإيمان، فقدّم لها أولاً الكتاب،(2/498)
وقدم فيه اسمه على اسم الله، لأنه واسطة بينه وبين الله، ولما كان الأنبياءُ في
البشرية من جبلّة المرْسَل إليهم، وجِنْسهم في الظاهر، واصطفاهم الله.
بعلمه وحكمته، كانوا أكثر فَهْماً وإدراكاً.
ولذلك قال لمن أتى بهديّة بلقيس: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) ، فلما رأت ذلك منه خافت وفزِعت وأسلمت مع سليمان.
فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها، وكانت المسافة بين محله وبين
بلدها قريبةً، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومَأرِب؟
فالجواب أن اللهَ أخفى ذلك عنه لمصلحةٍ رآها، كما أخفى مكان يوسف على
يعقوب.
فإن قلت: كيف قال الهدهد: (وأوتِيَتْ من كل شيء) - مع قول سليمان:
(وأوتينا من كل شيء) ، كأنه سوّى بينهما؟
والجواب فَرْق ما بينهما أنَّ سليمان قال ذلك من المعجزات والنبوءة وأسباب
الدين وأسباب الدنيا، فهذا العطف على شكر مولاه وعطف الهدهد على الملك، ولم يرد إلا ما أعطيته بلقيس من أسباب الدنيا اللائقة بحالها، فبَيْن الكلامَيْنِ بَوْنٌ بعيد.
(ممَرَّد) : أملس، ومنه الشجرة الْمَرْدَاء، والأمْرَد الذي لا ثَعْر على وجهه.
(محْضَرِين) : أي للنار.
(منِيبينَ إليه) : منصوب على الحال، من قولك: (فَأقِمْ وَجْهك) ، لأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد هو وأمّته، فلذلك
جمعهم في قوله: (منِيبين) .
وقيل هو حال من قوله: (فَطَر الناسَ) ، وهذا بعيد.(2/499)
(معَوِّقِين) ، أي يمنعونْ الناسَ من الجهاد، ويعوقونهم
بأقوالهم وأفعالهم.
ويقال عاقه عن الأمر، وعَوّقه وعَقَاه.
(مُقْمَحُون) : يقال قَمَحَ البعير إذا رفع رأسه، وأقْمَحَه غَيْره
إذا فعل به ذلك.
والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم
إلى الارتفاع.
وقيل: مُقْمَحون ممنوعون من كلّ خير.
(مظلِمُون) : داخلون في الظلام.
(مدْبِرين) : أى تركوا إبراهيم إعراضاً منهم، وخرجوا
إلى عيدهم.
وقيل: إنه أراد بالسقم الطاعون، وهو داء يُعْدِي، فخافوا منه
وتباعدوا عنه مخافة العدوى.
(مسْتَسْلِمون) : أي معطون بأيد يهم.
(مشْتركون) ، أي في النار.
(مُحْسِنين) : جمع محسن، ووصف به إبراهيم لما ابتلاه
فوجده مجِدًّا في طاعته.
فإن قلت: لم قال في حقه كذلك دون قوله (إنَّا) وقال في غيره إنا
كذلك؟
فالجواب أنه تقدم في قصة إبراهيم نفسها (إنّا كذلك) ، فأغنى عن تكرار (إنا) هنا.
ْ (مدْحَضِين) .
أي مغلوب في القرعة والحجة.
وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة وقفت ولم تَجْرِ، فقالوا: إنما وقفت من حادثٍ حدث، فنَقْتَرع لنرى على مَنْ تخرج القرعة فنطرحه، فاقترعوا، فخرجت القرْعة على يونس، فطرحوه في البحر، فأوحى الله إلى حوت من حيتانه: اذهب فالتقمه، ولئن خدشْتَ له لحماً، أو كسرت له عظماً لأعذّبنك عذاباً لم أعذبْه(2/500)
أحداً من العالمين، فالتقَمته ومشَتْ به البحار كلَّها تفخر على أبناء جنسها، حتى نبذَتْه بالعراء وهو سقيم بعد أربعين يوماً.
وروِيَ أن الحوت صام أربعين يوماً.
وأنتَ يا محمدي، أكرمك الله بالقرآن، وفضّلك بالإيمان، ولا تمتنع عن
الآثام، ولا تفخر على أبناء جنسك.
ولما خسف اللهُ بقارون، واستغاثت الأرضُ، وقالت: اللهم كما أريتنا عدوّاً
من أعدائك فأرِنا حبيبا من أحبابك لنتسلّى برؤية الحبيب.
وكذلك بيت المقدس لما خَرَّبه بخْت نَصّر استغاث بالله، فأراه الله نبينا
- صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، وهذه هي الحكمة في إسْرائه من بيت المقدس.
ولما أوحى اللَّهُ إلى البحر أنْ ينفلِقَ لفرعون حتى يدخلَ فيه استغاث، فدخل
فيه موسى أمامَه.
وكذلك النار لما علمت أنها دارُ أعدائه سألتْه أن يريها أحبّاءه، فأدْخل
المؤمنين النار لتتسلَّى برؤية الأحبّاء عن رؤية الأعْداء، قال تعالى: (وإنْ منكم
إلاّ وَاردهَا) .
والمقصود بورودهم إجابة دعوة النار لا الإحراق.
قال تعالى: (ثم نُنَجِّي الذين اتقَوْا ونَذَرُ الظالمين فيها جِثِيّا) .
واعلم أنَّ الله تعالى ابتلى تسعة من الأنبياء فوجدوا تسعة أشياء:
ابتلى آدمَ بوسوسة الشيطان فوجد التوبة، وإبراهيم بالنار فوجد الخلّة، وإسماعيل بالذبح فوجد الفداء، ويعقوب بالشدَّةِ والقَحْط فوجد الفرج، والملك، ويوسف بالسجن فوجد الصديقية، وأيوب بالبلاء فوجد الصبر، ويونس بالحوت فوجد النجاة، ونبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - باليتْم فوجد العزّة، قال تعالى: (فكان قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى) .
وسليمان ابتلاه الله بزوال الملك فوجد الإنابة.
وسبب زوال ملكه أنه نظر إليه فابتلاه اللهُ بإلقاء الجسد على كرسيه وإلى مَلَئِه وقوّته فابتلاه بآصف، وإلى سياسته فابتلاه بالهدهد، فقال: (أحطْت بما لم تحِطْ به)(2/501)
وإلى جنوده فابتلاه بنملة قالت له تنظر إلى جنودك ولو
عرضْت عليك جنودي سنةً لم يفرغوا (1) ، فإياك والنظر إلى غيره سبحانه، فتبتلى، لأنَّ من عادته سبحانه أنَّ من أحبّ شيئاً ابتلي بفراقه، فإن رجع إلى الله ردَّه اللَه عليه، كسليمان لما رجع إلى اللهِ ردَّ اللَّهُ عليه ملْكه.
وموسى لما رجع إلى الله ردَّ الله عليه عصاه، فقال له: خذْها ولا تخَفْ.
وَيعقوب قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) جمع الله شَمْلَه به، وإبراهيم لما رجع إلى الله في ذَبْح ولده فداه الله بِذبْح عظيم.
وتأمَّلْ هذا اللطفَ منه سبحانه حيث لم يرِدْ مواجهة خليله بقَتْلِ ولده
بالوحي، فأراه في المنام، وكذلك الحق سبحانه يقول: ما تردّدت في شيء
كترددي في قَبْضِ روح المؤمن، هو يكره الموت وأنا أحبّ لقياه.
(مُلِيم) ، من اللوم، وهو التعيير، وذلك أنه فعل ما يلام عليه في خروجه من قومه بغير إذن رَبِّه، فحبسه في بطن الحوت حتى
طهره، وأخرجه بتسبيحة واحدة، وكذلك المؤمن يَحْبِسه في النار حتى يطهره من غير ألَمٍ يناله فيها لأن له عقدَ الوصلة، كأيوب حلف أن يضرب زوجته مائةَ سوط، فأمره اللَّهُ أن يأخذ بيده ضِغْثاً - وهو ملء كفٍّ من الحشيش كى لا تتأذّى امرأته بالضرب.
فإن قلت: كيف يجمع بين هذا وبين قوله: (فلولا أنه كان مِنَ المسبِّحين)
- فإنها تقتضي أنه لولا التسبيح لَلَبِث، فاللبث منْتَفٍ
لوجود التسبيح، وهذه تقتضي لولا تداركه النعمة لنبذ، وهو مذموم، فهو
يقتضي - انتفاء النبذ، وانتفاء النبذ هو اللّبْث، وهذه تقتضي ثبوت اللبث لا انتفاء اللبث، والأولى تقتضي انتفاء اللبث وكون اللبث مثبتا مَنْفِيّاً محال، أو يقال الأولى تقتضي ثبوت النبذ والثانية انتفاؤه؟
وأجاب بعض الفضلاء بأنّ لو الأولى في قوّة لولا التسبيح لثبت اللبث.
والثانية في قوة لو انتفت النعمة لنبذ، ولما كان الواقع مِنْ مراد الله تعالى أنَّ
__________
(1) كيف يصح هذا وقد سخر له الكون كله إنساً وجنًّا وطيراً حتى الشيطان؟؟!!!
ثانيا: معاذ الله أن ينظر نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى شيء من ذلك وقد قال الله في حقه (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) .
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) .
وبعض هذا الكلام فيه نظر لا يخفى على أولي النهى.(2/502)
التسبيح ثابت كان انتفاؤه محالاً، والواقع أيضاً أن النعمة ثابتة فانتفاؤُها محال، ولما كان ملزوم الشرطين محالاً لا جرم ترتب عليه محال، ونظّروه بقوله تعالى: (ولَوْ أنْزَلْنَا مَلَكاً لقُضِي الأمْر) ، أي لاَستُؤصِلوا، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) .
وهذه تقتضي عدم الهلاك، وإن أنزل الملك، ولما كان جَعْل الملك على الوجه الذي طلبوه رسولاً محالاً لما سبق في عِلْمه لا جرمَ ترتَب عليه المحال، والحقّ الواضح الذي لا تكلف فيه أن الآية الثانية إنما نفت النبذ المقيَّد بكونه مذموماً، والنَّفْيُ المقيد لا يستلزم نفي المطلق، فلا يلزم نفي النبذ على وَجْه الإكرام، وبه ينبغي الجواب عن آيتي الأنعام، فإن الإهلاك الذي كنى عنه بقضاء الأمر إنما رُتّب على إنزال الملك على صورته لا على صورة الرجل، واللبس عليهم، والذي يستلزم بقاءَهم هو إنزاله على صفةِ الرجل، أو يقال نلبس عليهم الأمر، ثم نهلك.
(مغْتَسل) ، وغسول: الماء الذي يغْتَسل به، والموضع الذي
يغتسل فيه أيضاً.
وروي أنَّ أيوب ضرب الأرضَ مرتين فنبع له عينان، فاغتسل
من أحدهما، وشرب من الأخرى.
(مقْتَحِمٌ) : أي داخل في زحَام وشدَة، وهذا من كلام
خزَنَةِ النار، خاطبوا به رؤساة الكفار الذين دخَلوا النار أولاً، ثم دخل بعدهم أتباعهم، وهم الفَوْج المشار إليه.
ْوقيل هو من كلام أهل النار بعضهم لبعض.
والأولُ أظهر.
(متَشَاكِسون) :
أي متنازعون متظالمون.
وقيل متشاحّون.
وأصله من قولك: رجل شَكِس، إذا كان ضيّق الصدر.
ومعنى ضرب هذا المثل بيان حال مَنْ يشرك بالله ومن يوحّده، فشبّه
الشرك بمملوك بين جماعة من الشركاءَ يتنازعون فيه، والملوك بينهم في أسوأ
حال، وشبَّه مَنْ يوحّد الله كمملوك لرجل واحد.(2/503)
(مسْرِفين) : الضمير لقريش.
فإن قلت: كيف قال: (إنْ كنْتم) ، على الشرط بحرف إن
التي معناها الشكّ، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟
والجواب أنَّ في ذلك إشارةً إلى توبيخهم على الإسراف وتجهيلهم في
ارتكابه، فكأنه شيء لا يقع من عاقل، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع
الواقع.
(مقْرِنين) ، أي مطيعين وغالبين، من قولك: فلان قِرْنُ
فلان، إذا كان مِثْلَه في الشدة.
(مقْتَدُون) : مُتّبعون، والمعنى أنهم ليس لهم حجةٌ، وإنما
يقلّدون آباءهم.
فإن قلت: ما الفرقُ بين الآية الأولى في قوله: (مهْتَدون) ، وفي هذه: (مُقْتدون) ؟
فالجواب أنه لما تقدم في الآية الأولى قولُ كفّار العرب السامعين القرآن من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وادعاؤهم أن آباءهم كانوا مهتدين فنحن مهتدون، ولهذا قال: (قال أوَلَوْ جِئتُكم بأهْدَى مِمّا وَجَدْتُم عليه آباءَكم) الزخرف: 24، يعني أَتَتَّبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، قالوا: إنا ثابتون على
دين آبائنا لا ننفكّ عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى.
وخصَّ الآية بعدها بالاقتداء لأنها حكاية عمن كان قبلهم من الكفار، ادّعوا
الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فاقتضت كلّ آية ما ختمت به.
(مُرْسَلِين) : من إرسال الرسل عليهم السلام.
وقيل: من إرسال الرحمة.
والأول أظهر.
(مًنْشَرِين) : معناه مُحْيين.(2/504)
(مَقَامٍ أمِين) ، بضم الميم من الإقامة بالموضع، وبفتحها
موضع قيام.
والمراد به الجنة.
(مرْتَقِبون) : منتظرون هلالكَ يا محمد، فارتقب أنْتَ
نَصْرَنا، وفيه وعدٌ ووعيدٌ لهم.
(مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) :
الحلق والتقصير مِنْ سنَّة الحجّ والعمرة، والحلق أفضل من التقصير للحديث.
رحم الله المحلقين ثلاثاً والمقصرين.
(مصيْطِرون) : أي أرباب غالبون.
وقيل المصيطر المسلّط
القاهر، ومنه: (لَسْتَ عليهم بمصَيْطِر) .
(منْتَهى) : أي آخر.
والمعنى أنَّ جميعَ العلوم تنتهي إلى الله، ثم يقف العلماء عند ذلك.
أو إلى الله المصير.
وفي الحديث "لا فكرة في الرب".
(مؤْتَفِكة) : هي مدينة قوم لوط.
ومعنى (أهْوَى) ، طرحها من علوّ إلى سفل، فجعلها تهوي.
ومنه: (فأمّه هَاوِية) .
(مسْتَمِرّ) : أي دائم.
وقيل ذاهب يزول عن قريب.
وقيل معناه شديد، وهو على هذا من المِرّة بمعنى القوة.
(مسْتَقِرّ) ، أي كل شيء لا بد له من غاية، فالحقّ يحق
والباطل يبطل.
(مزْدَجَر) :
اسم مصدر بمعنى ازدجار، أو اسم موضع بمعنى
أنه مظنّة أنْ يزدجر، والمراد بها قصص القرآن وبراهينه ومواعظه.
(منْهَمر) ، أي كثير، كان الله يقول مكر قَوْم نوح وأرادوا
قَتْله وإخراج نوح من بينهم، ومكَرْنا نحن بخروجهم مِنْ وجه الأرض، ففتحنا(2/505)
أبواب السماء بماءٍ منهمر، فقلنا: يا سماء أمطري، ويا أرض انشقّي، ويا طوفان أهلك، ويا كافر، اهلك بأهلك.
(مدَّكر) : تحضيض على الادّكار، فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده.
ووزْن مدَّكر مفتعل، وأصله مدتكر، ثم أبدل من التاء دال، وادغم فيه
الدال.
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية، وقوله: (فذوقوا عذابي ونذر) .
فالجواب أنه كرره ليُنَبّه السامعَ عند كل قصة فيعتبر بها، إذ كلّ قصة من
القصص عبرةٌ وموعظة، فختم كلَّ واحدة بما يوقِظُ السامع من الوعيد في قوله: (فكيف كان عذابي ونذر) .
ومن الملاطفة في قوله: (ولقد يَسَّرْنَا القرآن للذكر فهل من مدَّكِر) .
(مُنْقَعِر) ، أي منقطع، ويشبَّه اللَّهُ قَوْمَ عادٍ بذلك لما بَغَوْا
وتمرَّدوا، وقالوا لهود: لا نلتفت إلى قولك، ولا نخاف من تهديدك، فإن كنت صادقاً فأنزل علينا عذابا.
قال: (قد وقع عليكم من ربكم رِجْس وغَضَب) ، فمنع الله عنهم المطر ثلاثَ سنين حتى هلكت المواشي والدواب، فقال لهم هود:
(استَغْفِروا رَبَّكم ثم توبوا إليه) .
فقالوا: لا نَتوبُ، ولكن نرسل رجالاً إلى مكة َ للاستسقاء، لأنهم كانوا يعظّمونها، ويطلبون بها حوائجهم، فبعثوا منهم ستَّةً
وآمن منهم رجلان، وقالا: إلهنا إنك تهلك قَوْمَ هود، ولسنا منهم، فاستجِبْ دعاءنا، واقْضِ حاجتنا، فسمعا صوتاً: سَلْ تعْط.
فقال أحدهما: إلهي إني أسأل عمرَ سبْع نسور، فسمع صوتا: أعْطِيت ذلك، فبقي أربعةٌ من الكفار، وكان اسم واحد منهم قيدا، فقالوا له: ادع أنْتَ، فدعا، وقال: اللهم إني لم أجئ لمريض أداويه، ولا لأجْلِ أسيرٍ فأفْديه، اللهم فاسْقِ عاداً كما كنْتَ تسقيهم، فهاجت ثلاث سحائب حمراً وبيضاً وسوداً، فسمع صوتاً: اخْتَرْ أيّها شئت.
فقال: قد اخترت السوداء، فسمع صوتاً يقول: قد اختَرْتَ رَعَّادا لايبْقَى مِنَ(2/506)
الرَّعاد أحداً لا والدا ولا ولداً.
فأمر الله تعالى ملك الريح أن يرسل من الصَّرْصَر مقدار حلقه.
قال وَهْب بن منَبّه اليماني: تحت الأرض السفلى، كما يقال لها العقيم، تعصفُ يوم القيامة، فتقلع الجبالَ من أماكنها، وترفع الأرض وتزَحْزِحها، وتشقّ الأرض، قال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) ، وسبعة آلاف موكّلون بهذا الريح، فأمر الله الملك الموكّل به أن
يرسل جزءا من هذا الريح إلى قوم عاد، فقال: إلهي، كم أرسل، قال: مقدار منخر ثور.
قال: إلهي كثير، فأمر الله أن يرسل مقدار حلقة خاتم، فقال: إلهي
كثير، لا تدَع شيئاً في الأرض إلا أهلكته (1) .
فأمر الله أن يرسل مقدار سَمِّ الخِيَاط، فلما جاءتهم السحاب قالوا: (هذا عارِض ممْطِرنا) .
فقال لهم هود: (بل هوَ ما استَعْجلَتْم به رِيح فيها عذابٌ أليم) .
فجاءتهم الريح، فخرج منهم سبعمائة، وصعدوا في الجبل، أخذ كلّ واحد
منهم بيد صاحبه وذيله طامعين في النجاة، فلما اشتد الريح صاحوا وركضوا في الجبل، فساخ إلى ركبتهم، فلما حان العذاب أظلمت السماء، ورعدت، فنزلت ريح، فهدم جميع أبنيتهم ورفعها في الهواء، فجعلها مثل الدقيق المطحون، فصار رَمْلاً، وهذه الرمال التي على وجه الأرض من ذلك، ثم رفع قومَ هود إلى الهواء وضربهم على الأرض، فصاروا كأنهم أعجاز نَخْلٍ خاوية.
وروي أن هوداً جمع المسلمين، وخَطّ حولهم خطًّا، فكانت الريح تأتي إلى
ذلك الخط، وترجع كما قال تعالى: (تَنْزعُ الناسَ) .
والإشارة بذلك إلى أنَّ الريحَ إذا هبت يوم القيامة على نار جهنم تصير النارُ تحت أقدام أمته خامدة، ويعطون صحائفهم، واحد بيمينه والآخر وراء ظهره.
(محْتظِر) ، أي محترق متفتت، كأنه صاحب الغنم الذي
يجمع الحشيش في الحظيرة لغنمه أو للسكنى، وشبَّه الله ثموداً لما هلكوا بما يتفتّت في الحظيرة من الأوراق وغيرها.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة، وكيف يردُّ المَلَكُ أمر الله تعالى، وهل الملك أعلم من الله كما توهمه القصة؟؟!!!
وعلى كلٍّ فالثابت عند المحققين ترك مرويات وهب بن منبه وكعب الأحبار. والله أعلم.(2/507)
وأما المحْتَضَر في قوله: (كلُّ شِرْبِ محْتَضَر) فمعناه
محضور مشهود، وذلك أن الله جعل للناقة يوماً ولقوم صالح يوماً يشربون فيه
الماءَ فلا يتعدونه، فاحتاجوا في يوم ورودِ الناقة إلى الماء، وطلبوا ماءً فلم يجدوه، فقال قدَارُ: لا بدَّ مِنْ قَتل هذه الناقة.
فقالوا جميعا: هذا صواب، فأخذ سيفاً، وخرج فاختفى في شِعْبِ جَبَل، وكان وقت رجوع الناقة من الماء، فلما دنت منه
حمل عليها وقتلها، ثم قصد إلى ولدها فمد الولد إلى الجبل فانشقَّ بقدرة اللَه
ودخل فيه.
(مسْتَطَر) ، أىِ مكتوب، وهو من السطر، تقول سطرت
واستطرت، وهو بمعنى واحد.
(منْشتآت) : يعني السفن، وإنما سمّيت بذلك لأن الناس ينشئونها.
وقرئ بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنْشئ الموج.
(مدْهَامَّتَان) : أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرة.
وضمير التثنية يعود على العينين الجاريتين.
(متَّكِئين) ، من التوكؤ على شيء.
(مخَلَّدون) ، الذين لا يموتون.
وقيل الْمقْرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط، والأول أظهر.
(متَقَابِلين) ، أي وجوه بعضهم إلى بعض.
(مغْرَمون) ، أي معذّبون، لأنَّ الغرام هو أشدّ العذاب.
ومنه: (إنَّ عذابَها كان غَراماً) ، يعني لو جعل الله زَرْعكم
حطاماً لقلتم ذلك.
ويحتمل أن يكون من الغرم، أي مثْقَلون بما غرمناكم من النفقة.
(مُزْن) : هي السحاب.(2/508)
(مقْوِين) :
قد قدّمنا أنهم الذين لا زاد لهم.
والْمُقْوِي أيضا الكثير المال، لأنه من الأضداد.
(مدْهِنون) : يعني متهاونون، وأصله من المداهنة، وهي
لِينُ الجانبِ والموافقة بالظاهر لا بالباطن.
وقال ابن عباس: معناه مكذبون، وهذا خطاب للكفار، ومنه قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) .
ْ (مقَرّبين) : المراد بهم السابقون المذكورون في أول سورة
الواقعة في قوله: (والسابقون السابقون) .
(مسْتَخْلَفين) : يعني في الإنفاق في سبيل الله وطاعته.
رُوِي أنها نزلت في الإنفاق في غَزْوة تَبوك، وعلى هذا روي أن قوله:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) .
نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهَّز جيش العسْرة.
ولفظ الآية مع ذلك عام، وحكمها باق لجميع الناس.
وقوله: (مسْتَخْلَفين فيه) - يعني أنَّ الأموالَ التي بأيديكم إنما هي أموال
الله، لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه.
ويحتمل أَنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم، فورثتم عنهم الأموال.
فأنفقوها قبل أن تخلّفوها لمن بعدكم، كما خلّفها لكم مَنْ كان قبلكم.
والمقصود على كل وجه التحريض على الإنفاق، والتزهيد في الدنيا.
قال في قوت القلوب: وقد مثّل بعض الحكماء ابْنَ آدم بدود القزِّ، لا يزال
ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مَخْلص، ويقتل نفسه، ويصير القزُّ
لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه، لأن المقز يلتفّ عليه فيروم الخروج منه فيشمس، وربما غمز بالأيدي حتى يموت، لئلا يقطع القز، ويخرج القزّ(2/509)
صحيحاً، فهذه صورة لمكسب الجاهل الذي يترك أهله وماله، فينعم ورثته بما يَشْقَى به، فإنْ أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه.
وإنْ عصوا به كان شريكَهم في المعصية، لأنه أكسبهم إياها به، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم:
إذهابه عمره لغيره، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، وأشار إلى ذلك أبو
الفتوح السّني:
ألم تر أن المرءَ طول حياته ... معنًّى بأمْر لا يزال يعَالِجه
كذلك دود القَزّ ينسج دائماً ... ويهلك غمّاً وسْط ما هو ناسجه
وقال آخر:
يُفْنِي الحريصُ بجمْعِ المال مدتَه ... وللحوادث ما يبقى وما يَدعُ
كدودة القز ما تبنيه يهْلِكها ... وغيره بالذي تبنيه ينتفِعُ
وبالجملة فإن اللَهَ أعطاكَ أربعة أشياء: أولها اللسان، وكلّفك منه الذِّكْر له.
والقولَ الحسن لخَلْقه، قال تعالى: (اذكروا الله) .
(وقولوا للناسِ حُسْناً) .
والقلب وكلفك منه محبةَ اللَهِ ومحبة المؤمنين، قال تعالى: (والذين آمَنوا أشَدّ
حبّاً للَهِ) ، أي من الصنم.
وقال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) .
فإن قلت: من أين يُعرف أن المؤمن يحبّ الله أكثر من الكافر، والكافر يقتل
نَفْسه لمعبوده، والمؤمن لا يفعل ذلك؟
فالجواب أنَّ الكافر إذا أصابته شدّةٌ تبرّأ من معبوده، قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) .
وقال: (أغَيْرَ اللهِ تَدْعون) .
والمؤمن لا يعرض عن الله بالشدائد والمحن، قال تعالى: (ولنَبْلوَنكم) .
والكافر يتبرّا من معبوده يوم القيامة، قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) .
(وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) .
والمؤمن لا يتبرأ من معبوده.
ومحبة الكافر بعد الرؤية، ومحبة المؤمن قبل الرؤية.
ومحبة الكافر من جانب واحد(2/510)
وهو من نفسه ليس لمعبوده منه محبّة، ومحبة المؤمنين من الجانبين، لقوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
والكافر أظهر المحبةَ لمعبوده بقربان نفسه، والمؤمن كتم في نفسه، بل
نهاه معبوده عن قَتْلها، قال تعالى: (ولا تَقْتلوا أنْفُسكم إنَّ اللهَ كان بِكُمْ
رَحيما) .
وكيف يقتل نفسه وهي ماله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) .
وأيضاً لو قتل المؤمن نفسه لأجل معبوده - لأن له عنده خطراً عظيما - قال
بعض العارفين رفع الله القسمة بينه وبين العارفين، فكان للعارف اثنان: المعرفة والشهادة، ذكرهما لنفسه في قوله تعالى: (شَهد الله) ... الآية.
وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) ، ولله اثنان العزة والطاعة، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) .
وقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
فإن قلت: ما علامة حقيقة المحبة؟
فالجواب ما قاله بعض: ألاَّ ينظر إلى ما دونه، كما قال الأصمعي: كنْتُ
مارّاً في البادية، فاستقبلتني جارية كأنها علَم أو فلْقَة قَمَر، فنظرت إليها فقالت: لِمَ نَظَرْتَ إليّ، قلت: كلِّي بكلِّك مشغول فقالت: إنْ كان كما قلْت فكلِّي لكُلِّك مبذول، ولكن وراءك أحسن مني، فنظرت إلى خَلْفِي فلطمتني لطمة كادت تذْهب بصري، فقلت: ما هذا، قالت: ظننتُ أنك عارف، فلما نظرتَ إليّ رأيتك عاشقاً، والآن لست بعارف ولا عاشق، ثم ولَّتْ عني وهي تقول:
حبّك في القفار شدَّدني ... ثمرات من الحبّ أوّاه
خَوْف القطيعة أزعجني ... فآهٍ من الخوف ثم آه
وفي بعض الكتب: كذب من ادَّعى محبَّتي ثم يجد لذة الطعام والشراب.
كذب من ادعى محبَّتي فإذا جنَّ الليل نام عني.
كذب من ادَّعى محبتي ثم خطر بباله غيري.
وأعطاك اللَّهُ المال، وطلب منك القَرْض والصدقة، وطلب من
نفسك العبادة والمعونة لخلقه، قال تعالى: (وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتقوى) .
(الْمصَّدّقين والْمصَّدِّقات) :
بتشديد الصاد، من الصدقة،(2/511)
وأصله التصدقين، وكذلك قرأ أبيّ بن كعب.
وقرئ بالتخفيف من التصديق، أي صدَّقوا الرسول عليه الصلاة والسلام.
(مهْتَد) : من الاهتداء الذي هو ضد الضلال.
(متكَبِّر) : من أسماء الله، وهو الذي له التكبُّر حقاً.
والمتكبر ضد المتواضع، فلا ينبغي الاتصاف بأوصاف الله، ولذلك يقول الله
تعالى: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحدة منهما أدخلْتُه النار".
(مُهَاجِرَاتٍ) : كل مَنْ هاجر من النساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أمره الله بعدم ردّ مَنْ هاجر من المؤمنات منهن، وكانت المرأة التي هاجرت
حينئذ أميمة بنت بشر، امرأة حسان بن الدحداحة.
وقيل سُبيعة الأسْلمية، ولما خرجت جاء زوجها، فقال: يا محمد، رُدّها علينا، فإن ذلك في الشرط لنا عليك، فنزلت الآية.
فامتحنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يردها، وأعطى مَهْرَها لزوجها.
وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، هربت من زوجها إلى
المسلمين.
واختلف في الرجال: هل حكمهم في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على رد
مَنْ أسلم منهم أو تجوز حتى الآن، على قولين.
والأظهر الجواز، لأنه إنما نسخ ذلك في النساء.
(مُزَّمِّل) : وزنه متفعل، فأصله متزمل ثم سكنت التاء
وأدغمت في الزاي.
وقد قدمنا أنه من أسمائه عليه السلام، ناداه الله به.
قال السهيلي: وفي ندائه به فائدتان:
أحدهما الملاطفة، فإنَ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتقّ
من حالته التي هو عليها، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليّ: قُم أبا تراب.(2/512)
والثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبَّه إلى ذِكْر الله، لأن الاسم المشتق
من الفعل يشتركُ فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة.
وفي معنى تسميته - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنه كان في وقت نزول الآية متزمّلاً في كساء أو لحاف، والمتزمُّل:
الالتفاف في الثياب بِضَمّ وتشمير، هذا قول عائشة والجمهور.
الثاني: أنه كان قد تزمَّل في ثيابه للصلاة.
الثالث: أنه المتزمل للنبوءة، أي المتشمر المجد في أمرها.
والأول هو الصحيح، لما ورد أنه لما جاءه الملك وهو في غارِ حِرَاء في ابتداء
الوحي ورجع إلى خديجة ترعد فرائصه، فقال زَملُوني زَملُوني، فنزلت: يا أيها المدثر.
وعلى هذا نزلت: (يا أيها المزمل) ، فالمتزمُّل على هذا تزمُّله من أجل الرعب
الذي أصابه أول ما جاءه جبريل.
وقال الزمخشري: كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة، فنودي (يا أيها المزمل)
ليهجر إليه الحالة التي كان عليها من التزمّل في القطيفة، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل.
وهذا القول بعيد غَيْرُ سديد.
(مُنْفَطِر به) : أي ممتلئة به بلسان الحبشة، قاله ابن عباس.
والانفطار في اللغة الانشقاق.
والضمير المجرور يعود على اليوم الذي تنفطر السماء بشدة هَوْله.
ويحتمل أن يعود على الله، أي تنفطر بأمره وقُدْرته.
والأول أظهر.
فإن قلت: ما فائدة مجيء منفطر بالتذكير والسماء مؤنثة؟
فالجواب تأنيثها غير حقيقي، أو على الإضافة، تقديره ذات انفطار، أو لأنه
أراد السقف.
(مدَّثر) : من أسمائه عليه الصلاة والسلام، وتسميته بذلك
كتسميته بالمزَّمِّل، ومعناه الذي تدثَّر في كساء أو رداء.(2/513)
قال السّهَيلي: في ندائه بالمدثر ما في ندائه بالمزمل.
وثالثة وهي أن العرب يقولون: النذير العريان للنذير الذي يكون في غاية
الجدّ والتشمير، والمتدثر بالثياب ضدّ هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير.
وقيل: إن هذه أول سورة نزلت من القرآن.
والصحيح: (اقرَأ باسْمِ رَبِّك) .
(مسْتَنْفرَة) : بفتح الفاء: التي استنفرها الفزع، وبالكسر
، بمعنى النافرة.
وشبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام.
ويعني حمير الوحش.
(منَشَّرة) ، أي منشرة غير مطويّة، كما كتبت لم تطْو بعد.
وذلك أنهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن نَتَّبِعك حتى تأتي كل واحد منّا بكتاب من السماء فيه: مِنْ رَبّ العالمين إلى فلان بن فلان - تأمر باتّباعك.
(ملْكا كَبِيرا) :
يعني كثرة ما أعطاهم اللَّهُ حتى أن أدنى
أهلِ الجنة منزلة مَنْ له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه حسبما ورد في الحديث.
وقيل: إن الملائكة تسلّم عليهم، وتستأذن عليهم، فهم بذلك كالملوك.
(منْذِر مَنْ يَخْشَاها) ، أي إنما بعِثْتَ يا محمد لتنْذِر بها.
وليس عليك الإخبار بوقتها، وخصّ الإنذار بمن يخشاها لأنه هو الذي ينفعه
الإنذار.
(مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) :
أي مضيئة من السرور، وهو من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء.
(مطفِّفين) :
التطفيف في اللغة هو البَخْس والنَّقْص، فسره بذلك الزمخشري، واختاره ابن عطية.
وقيل: هو تجاوز الحدّ في زيادة أو نقصان.
واختاره ابن الغرس، وهو أظهر، لأن المراد به بخْس حقوق الناس في المكيال والميزان بأن يزيد الإنسان على حقه، أو ينقص من حق غيره.(2/514)
وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال لهْ أبو جُهينة له مكيالان.
يأخذ بالأوْفَى، ويعْطي بالأنقص، فالسورةُ على هذا مدنية.
وقيل: إنها مكية، لذكر أساطير الأولين.
وقيل نزل بعضها بمكة وأنزل أمْرُ التطفيف بالمدينة، إذ
كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى فأصلحهم الله.
(مؤْصَدة) :
مغلقة مطبقة، يقال: أوصدت الباب إذا أغلقته.
وفيه لغتان الهمز وترك الهمز.
(ممَدَّدة) :
العَمَد: جمع عمود، وهو عند سيبويه اسم جمع
وقرئ بضمتين، والعمود هو المستطيل من حديد أو خشب، والممددة: الطويلة.
وفي المعنى قولان:
أحدهما: أنَّ أبواب جهنم أغلقت عليهم ثم مدّت على أبوابها عمد تشديدا في
الإغلاق والثقاف، كما تثقف أبواب البيوت بالعمد، وهو على هذا متعلق
بـ موصدة.
والآخر: أنهم موثقون مغللون في العمد، فالمجرور على هذا في موضع خبر
مبتدأ مضمر، تقديره هم موثقون في عُمُدٍ.
(منْفَكّين) : زائلين.
والمعنى أن جميع الكفار لم يكونوا منفكّين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ومعنى منفكين منفصلين.
ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال:
أحدها: أنَّ المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، لتقوم
عليهم الحجة.
الثاني: لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوءة نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله.
الثالث: اختاره ابن عطية، وهو: لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقُدْرته
حتى يبعث الله إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة.(2/515)
الرابع: وهو الأظهر عندي: أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى
بعث الله لهم محمداً، فقامت عليهم الحجّة، لأنهم لو انفصلت الدنيا دونَ بَعْثه لقالوا: ربنا لو أبى سلت إلينا رسولا، فلما بعثه الله لم يبق لهم عُذْر ولا حجة، فمعنى مُنْفكين على هذا كقولك لا تبرح ولا تزول حتى يكون كذا وكذا.
(ميثاق) : قد قدمنا أنه العهد حيثما وقع والوثق، مفعال من الوثيقة.
(من بعده) : الضمير لموسى، أي من بعد غيبته في مناجاته
على الطور.
(ملّةَ أبِيكم إبراهيم) :
انتصب ملّة بفعل مضمر تقديره:
أعني بالدين ملَّة إبراهيم، أو التزموا ملَّة إبراهيم.
وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كملَّة.
وقال الزمخشري: انتصب بمضمون ما تقدم، كأنه قال: وسّع عليكم توسعة
ملَّةِ أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف.
فإن قلت: لم يكن إبراهيم أباً للمسلمين كلهم.
فالجواب أنه أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبأ لأمته، لأن أمة الرسول في حكم أولاده.
وأيضاً فإن قريشاً وأكثر العرب من ذرية إبراهيم، وهم أكثَرُ الأمة.
فاعتبرهم دون غيرهم.
وقد قدمنا في هذا الحرف أنَّ الله نسب هذه الأمةَ لإبراهيم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيهم، والوالد يستحيي من زلّة ولده، ولم ينسبهم - لآدم، لأنه عاملهم بما لم يُعامل به آدم عند ذنوبهم.
ألا تراهم يرتكبون كلَّ ساعةْ المخالفة، وهو يسترهم
ويرزقهم ويعافيهم، وإن نادَوْه لَبَّاهُمْ، وإن استغفروه غفرِ لهم، وأعظَم من ذلك أنه نسبهم إلى الوفاء في قوله تعالى: (وإبراهيمَ الّذي وَفَّى) .
(إنَّ إبراهيمَ لَحليمٌ أوّاهٌ مُنِيب) .
وكما أحْيا اللهُ علي يديه الطيور، وأظفره بعدوّه النمرود، ولم تصل النار إلى جسده، بل أحرق قيوده(2/516)
كذلك يحي الله قلوب هذه الأمة المحمدية إذا ندموا على المخالفة، ويظفرهم
بعدوهم إبليس في القيامة ويبرد عليهم النار، فلا يذوقون فيها الماء، كما صح أنهم يموتون فيها إماتة ... الحديث بطوله في صحيح مسلم.
فهنيئاً لكم يا أمة محمد على ما خوَّلكم له من النعم لحرمة نبيكم، اللهم اجعلنا من أمته، واحْشرْنا في زمْرَتِه لا مبدِّلين ولا مغَيِّرين.
(مِسْكين) : مفعيل من السكون، وهو الذي سكنه الفقر.
أي قلل حركته، وهو أحوَج من الفقير.
وقال الأصمعي: بل المسكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الله عز وجل
يقول: (أمَّا السفينة فكانت لِمَساكِين) ، فأخبر أنَّ المسكين له
سفينةٌ من سفن البحر، وهي تساوى قيمةً كبيرة.
والصحيح الأول، لأن الله قال في أصحاب السفينة: مَساكين، على وجه
الإشفاق عليهم، لكونهم يغصبون فيها، أو لكونهم في لجج البحر، ولا سيما على قراءة مَسَّاكين - بتشديد السين، أي يمسكون السفينة.
(مِحْرَاب) : قد قدمنا أنه مقدم المجلس وأشرفه، والمحراب أيضاً: الغرفة، وجمعه محاريب.
وأما قوله: (كلما دخلَ عليها زكريا المحرابَ) فالمراد به موضع عبادتها.
(مِثْقَال ذَرَّة) : أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك
تمثيل بالقليل تنبيه على الكثير.
(مِنْهَاجاً) : أي ديناً، وفي هذا دليل على أن الله أمر
بالدين القيم لجميع العالم.
وأما الأحكام والفروع فقد قدمنا أن ذلك مختلف.
(مِدْراراً) : بناء تكثير من الدر.
يقال دَرّ المطر واللبن وغيره.
وفي الآية دليلٌ على أنَّ التوبةَ والاستغفار سببٌ لنزول المطر.(2/517)
(مِنْ قَبْلُ كانوا يَعْمَلُون السَّيِّئَاتِ) :
أي من قبل إتيان الرسل كانت عادةُ قوم لوط إتيان الفواحش في الرجال.
(مِنْ وراءَ إسحاقَ يَعْقوب) :
أي من بعده، وهو ولده.
وقيل الوراء ولد الولد.
ويعقوب بالرفع وبالفتح معطوف على إسحاق.
(مِن الزَّاهدين) :
أي في قيمة يوسف، لأنهم علموا أنه حر، أو بقيمته.
وقيل: إن يوسف نظر إلى أسفل الجبّ، فرأى صورة وجهه في
الماء فاستحسنه، فخطر بباله: لو كنْتُ مملوكاً لكنت عزيزا، وعزّ لي ثمني.
فبعث الله إليه السيارة، وسلّط عليه إخوته حتى باعوه بثمن بَخْس، وأراه أنَّ
قيمته بجمال الباطن لا بجمال الظاهر (1) .
فلما وصل أسفل الجب، وجاءته السيّارة
واشتروه لأن إخوته دبَّروا قتله، ولم يقدروا، وأرادوا بُعْده، واللَه غالب على أمره، فصيَّره ملكاً.
وأنْتَ يا محمدي دبَّر لك إبليس القطع والهجران، والله يدبِّر لك العفو
والغفران، ويصيّرك ملكاً كريماً.
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رب، الأمم الماضية خسفْتَ بهم، وأمطَرْت عليهم الحجارة، ومسختهم قِرَدة وخنازير، فماذا تصنع بأمتي، فقال: يا محمد، أصبُّ على أمتك الرحمة من أعنان السماء، وأبدل سيئاتهم حسنات، ولو أني أحب العتاب ما حاسبْتُ أمَّتك.
فلما أراد الانصراف من عنده قال: إلهي، لكل راجع من سفرة تُحفة، فما تحْفة أمتي، قال: رحمتي لهم ما عاشوا، وبُشْراي لهم إذا ماتوا، وفُسحتي لهم إذا قبروا، وكرامتي لهم إذا بعثوا، وحُبِّي لهم إذا حضروا، ورؤيتي لهم إذا زاروا.
وفي الحديث: إن الشيطان ينادي يوم القيامة أين أحبَّائي وأهل طاعتي من أمَّة
محد، فينادي الجبار جل جلاله: كذبت يا لعِين، أنت للنار وهم للجبَّار.
(مِنْ أهلها) .:
الضمير لامرأة العزيز، يعني أن الصبي الذي
__________
(1) من أكاذيب بني إسرائيل، وهو محض افتراء يتنزه عنه الأتقياء، فكيف بالأنبياء، وكيف بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليهم وسلم - (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) .(2/518)
شهد ليوسف كان من أهلها، لأنه أوثق للحجة وأحسن في براءة يوسف.
وهذا الصبي هو أحد الأربعة الذين تكلّموا في المهد، وبَرَّؤْوا أصحابَهم مما رموهم به.
افَتَرى الله شهد لكَ بالإيمان وخاطبك به في القرآن، أفتراه يضيّعك بعد
شهادته لك.
فإن قلت: هل سمعتْ زليخا هذه الشهادة من الصبي؟
فالجواب أنها لم تسمعه لاستيلاء الشهوة عليها، فأصمَّ سمعها وبصرها.
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: حبّك الشيء يُعمي ويُصم.
(مِنَ المحْسنين) :
هذا من قول الفتيان ليوسف، يعني إنَّا رأيناك من المحسنين إلى أهل السجن في عيادة مرضاهم، وتعبير رؤياهم، وقضاء
حوائجهم، فالإحسان أورث يوسف محبةَ أهل السجن فيه.
وأنتَ يا محمدي أولى بمحبة الله لكَ ورحمته، ونصرته ونفي الخوف عنه إن
كنت محسناً، قال تعالى: (ما عَلَى المحسِنين مِنْ سَبِيل) .
(إنَّ اللهَ مع الذين اتقَوْا) .
(مِنْ بعْدِ ما رَأوا الآياتِ) :
أي الدالة على براءته.
والضمير يعود على الملك وزليخا، وإنما عرضت به للسجن والعذاب، لأنه أيسر الأشياء، وكانت ترجوه إنْ بَقِي.
فكذلك عرض مولانا لنا أيسر الأمرين
الفضل والعدل، فإن عاملناه بالعقل والعدل عاملنا بالفضل، لأن له في الأمور التي يبديها ويخرجها أمرين، ألا ترى إلى قصة يوسف عليه السلام كيف مضى عليه حينٌ من الدهر، وهو مشتغل ببلواه، وغيره مشتغل به وبهواه، حتى إن أباه بكى على فراقه وإخوته بكوا حسداً له، وبكى يوسف على ما ابْتلي به في صغر سنه وغربته، وبكت امرأة العزيز على محبته، فلما كشف الله الغطاء، وأظهر بدائع لطفه تغيَّرت الأحوال فصار بكاء يعقوب وحزنه على خواتم الأمور فرحاً، فحكى الله عنه قوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) .(2/519)
وأما الإخوة فإنهم رجعوا إلى الاستغفار، وقالوا: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا
إنا كُنَّا خاطئين) .
وأما يوسف عليه السلام فقال: (توفَّني مسلما وألْحِقني بالصالحين) .
وأما زليخا فإنها قالت: (الآن حَصْحَصَ الحقُّ) .
فكيف تحزن يا محمدي على فَوْتِ الدنيا، وأنت ترى أحوالها وزوَالها
واضمحلالها، وتدّعي أنك تَطْلُبُ الحقّ، هيهات!.
(من السِّجْن) :
إنما لم يقل من الجب، لوجهين:
أحدهما في ذكر الجب خزي إخوته وتعريفهم بما فعلوا، فترك ذِكْرَه توقيرًا لهم.
والآخر أنه خرج من الجبِّ إلى الرقّ، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة به
أكثر.
هذا يوسف لم يرد تعيير إخوته، والمؤمن الذي أطاع مولاه أفتراه يذكره
بذنوبه؟! ، كلاّ والله لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه.
وقد قدمنا أن الكرامات التي كانت للنبي عليه السلام كانت لأمَّته.
(من البَدْوِ) :
أي من البادية، وكانوا أصحاب إبل وغنم، فعدّ في النعم مجيئهم إلى الحاضرة، فيفهم من مقارنة خروجه من السجن
ومجيئهم من البادية شؤمها، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ بَدَا جَفَا، وذلك لتركهم الجمعة، وقلّة الإقامة بالدين، هذا في زمان أهل الخير والدين، وأما في هذا الزمان فالبادية أكثر إخلاصاً مع الله لقلّة حبهم في الدنيا، والتصنّع لأهلها، وليس الخبر كالعيان، والمشاهد لا يحتاج لبرهان.
(مِنَ الملْك) :
من للتبعيض، لأنه لم يعطه الله إلا بعض ملك مصر.
(مِنْ أنْبَاءِ الغَيْب) : احتجاج على صحة نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لإخباره بالغيوب.(2/520)
(مِحَال) :
مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنُه مفعل.
وقيل معناه شديد المكر، مِنْ قولك محل بالرجل إذا مكر به، فالميم على هذا
أصلية، ووزنه فعال.
ويقال الحال من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى
السلطان، وعرَّضه للهلاك.
(مِنْ كُلّ شَيء مَوْزُون) :
أي مقدَّر بقَصْدٍ وإرادة، فالوزن على هذا مستعار.
وقيل المراد ما يوزن حقيقة، كالأطعمة والذهب.
والأول أحسن وأعمُّ.
(المعلوم) :
اليوم الذي طلب إبليس أن يُنْظَر إليه هو يوم القيامة، والوقت المعلوم الذي أنظر إليه هو يوم النّفخ في الصور النفخة الأولى
حين يموت مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض.
وكان سؤال إبليس الإنظار إلى يوم القيامة جهلا منه أو مغالطة، إذ سأل ما لا سبيل إليه، لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبداً لأنه لا يموت أحد بعد البعث، فلما سأل ما لا سبيل إليه أعرض الله عنه وأعطاه الإنظار إلى النفخة الأولى.
(مِنْ بَعْدِها لغَفورٌ رَحيم) ، أي بعد الأفعال المذكورة، وهي الهجرة والجهاد والصبر.
(مِنْ دُوني وَكِيلاً) : أي ربّاً تَكلُون إليه أمركم.
(مِنْ لَدني عذْرا) :
أي قد عذرت إلى معتذر عندي.
وفي الحديث: كانت الأولى من موسى نسيانا.
(مِنْ كلِّ شيء سبَباً) :
أي فهما وعلماً يُتَوصل بهما إلى معرفة الأشياء.
والسبب: ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير
ذلك.
(مِتُّ قَبْل هَذا) : إنما تمنَّتْ مريم الموتَ خوفاً من إنكار
قومها، وظنهم بها الشرَّ، ووقوعهم في ذَمِّها.
وتمني الموت جائز في مثل هذا.(2/521)
وليس هذا من تمني الموت لضرر نزل بالبدن، فإنه منهي عنه للحديث:
"لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي".
وحكي أنه لما اشتد بها الموت قالت هذا.
فإن قلت: ها هي آمنة أمّ مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تَجِدْ ألماً حين ولادته، ومريم وجدت الألم؟
والجواب أن الله أجرى العادة في هذه الدار أنه على قدر الفرح يكون
التَّرَح، ومريم قَرَّ اللهُ عينها بعيسى، وشاهدت معجزاته، وظهور أمره، فاشتدَّ عليها الأمْرُ، وأمُّ سيد الأولين والآخرين لم يكن لها منه حظّ، ولم تشاهده، فرفع الله عنها الألم.
وقيل العطاء مقسوم على قَدْر البلاء.
ألا ترى إلى نوح لما يئس من إيمان قومه ولم يفرح بهم وآذَوْه استجاب اللهُ له فيهم، ونبيُّنا علم إيمان أمّته، واتِّباع شريعته، فاحتمل أذاهم، ولم يدع على قومه، فقال: اللهم اغْفِرْ لقَوْمي فإنهم لا يعلمون.
فإن قلت: قد دعا عليهم بقوله: اللهم أعنِّي عليهم بسَبْع كسبع يوسف.
وقال لما صب عليه سَلَى الجَزور: اللهم عليك بقريْش؟
والجواب أنه دعا عليهم، لأنه غَضِب لله، إذ عادته - صلى الله عليه وسلم - الصفح ما لم تهتك حُرْمته، فيغضب للهِ، وكان حينئذ في الصلاة فدعا عليهم لذلك.
وأيضأ فإنه علم - صلى الله عليه وسلم - عدم إيمان المدعوّ عليه، كما صح.
وأما دعاؤه بالاستعانة عليهم بالجدب فللطمع في إيمانهم، كقوم يونس.
فتأمل يا محمديّ عنايةَ الله فيك في أزله، فلا تجزع من البلايا والرزايا، فإنما
هي تطهيرات.
ومقاساة البلية مقسومة على حسب الكرامة، فكما أعد لك من
النعيم المقيم ما لا عين رأتْ ابتلاك على حسب ما أعدّ لك.
يقول تعالى: "عبدي رفعت البلاء عن الملائكة فهم مخفَّفون من الهموم، ولا لهم همّ الرزق، ولا شدة الجوع، ولا ألم المرض، ولا خوف العواقب، لأن الجنةَ غير معدودة لهم.
وقد قدرت البلايا والمِحَن والشدائد والهموم، وخوف زوال الإيمان عليك،(2/522)
لأن الجنة معدودة لك، والرؤية موعودة لأجلك، ومقاساة البلية مقسومة على حسب القطيعة.
(مِنْ غَيْرِ سوءٍ) :
يعني من غير بَرَص ولا عاهة، وذلك لحكم:
منها أنه لما أتعب يده حين لطم فرعون في حال صباه أكرم الله يده بأن
جعلها بيضاء.
وكذلك الخليل أتعب يده بكَسْرِ الأصنام فأكرمه الله بإحياء
الطيور على يديه.
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أتعب يده بِرَمْي التراب في وجوه الكفار فأكرمه الله بانشقاق القمر بإشارته، ونبع الماء من بين أصابعه.
فالمؤمن الذي يكرم يده بمدها في الطاعة أفتراه لا يكرمها الله بأخْذ كتابه
وتزيينه بأساور من فضة.
وإذا أتعب رجله بالمشي إلى الجماعة يكرمه بخمود النار
تحت قدميه، فتقول له: جُزْ يا مؤمن، قد أطفأ نورك لهبي.
وكذلك إذا أتعب قلبه في ردّ وساوس الشيطان يكرمه الله تعالى بنور معرفته
ومحبّته.
ولما أكرم تعالى يد موسى بنور النبوة لم تحترق، ولو احترقت لم تكن معجزة.
وكذلك إسماعيل لما كان نور المصطفى في وجهه - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل فيه السكين، وأكرمه الله بنور الحبيب الكريم، وفداه بالذبح العظيم، وحرم عليه العذاب الأليم.
وكذلك العبد إذ أكرمه الله بنور المعرفة والإيمان نَجّاه من النيران وحرم
عليه القَطْع والهجران.
ولما كانت يده حجة على فرعون حفظها الله من النار كي لا تبطل حجّته.
كذلك المعرفة حجَّتك على الكافرين، فسَلْه أن يحفظ حجتك من الزوال.
ومنها أنَّ الله تعالى أراه مِنَّته وهيبته فحفظ يده من النار كي يرى منته.
وأحرق لسانه بالجمرة كي يرى هَيْبته، كذلك قصة امرأة عمران قالت:(2/523)
(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، فولدت أنثى كي لا تصلح لتمام الخدمة التي أضمرت في نفسها، لترى هيبته بذلك، فتقبّلها ربها
بنقصانها لترى منته.
كذلك قصة الخليل لما قُيّد ورُمي في النار احترق قَيْدُه ولم تحترق يده، ليرى
هيبته ثم يرى منَّته، كذلك العبد يوقعه اللهُ في المعصية ثم يحفظ قَلْبَه من الشرك
والنكرة لينظر العبد إلى المعصية، فيرى هيبته، ثم ينظر الى معرفته فيرى مِنّته.
ويبقى مع مولاه في رؤية المنة ورؤية الهيبة.
ومنها أنه أخذ الجمرة بإلهام الله وإذن الملك، ووضعها في فمه باختيار نفسه
دونَ أمْرِ ربه، فاحترق لسانه، وكذلك العبد يعصي بنفسه، واختيار هواه، ثم يخاف رَبّه ويندم بقلبه فتذوب نفسُه، فيأمر ربّه بإدخاله النار، ويحفظ قلبه من ألم الهجران.
(مِسَاسَ) :
هذا من كلام موسى للسامري، عاقبه بأن منع
الناس من مخالطته ومجالسته ومواكلته ومكالمته، وجعل له مع ذلك أن يقولَ طول حياته: لا مِسَاس، أي لا مماس ولا إذاية.
وروي أنه كان إذا مسّه أحد أصابته الحمّى له وللذي مسه، فصار هو يَبْعُد
عن الناس، وصار الناس يبعدون عنه، وهذه كانت عقوبته.
والصحيح أنه تاب فقَبِلَ اللهُ توبته (1) .
وروي أن موسى همَّ بالدعاء عليه، فنهاه الله عن ذلك، فقال: لم يا رب؟
فقال: لسخائه (2) .
(مِشْكاة) :
كوَّة غير نافذة بلغة الحبشة، قاله مجاهد، وإنما
وصفها بذلك لأن المصباح فيها شديد الإضاءة.
وقيل: المشكاة الذي يكون المصباح على رأسه.
والأول أصح وأشهر.
(مِسْك) :
ذكر الثعالبي أنه فارسي، وهو دَمٌ مجتمع في
عنق الظبي الذي تبع آدم يبكي عليه، فأكرمه الله بالمسك.
__________
(1) ليس في القرآن ولا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بقبول توبة السامري. والله أعلم بحقائق الأمور.
(2) لا يخفى ما فيه من بعد.(2/524)
وأنت يا عبد الله إن تتبعتَ أمره يكرمك بالجنة التي فيها أنواع اللذات
والطيبات من الروائح، وتشرب من مائه، ختامه مسك.
(مِصباح) :
هو الفتيل بناره.
والمعنى أنه قنديل من زجاج، لأن الضوء فيه أزهر، لأنه جسم شفاف.
والمعنى أن صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح على أعظم ما
يتصوّره البشر من الإضاءة، وإنما شبهه بالمشكاة، وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار.
(مِنْسَأته) ، أي عصاته بلغة الحبشة، وقرئت بالهمز وبغير
همز.
وقصَّتُها أنَّ سليمان عليه السلام دخل قبةً من قوارير، وقام يصلّي متكئاً على
عصاه، فقبض الله رُوحه، وهو متكئ عليها، فبقي كذلك سنَةً لم يعلم أحَدٌ
بموته حتى سلّط الله عليها دابّة الأرض وهي السوسة.
واختصرنا كثيراً مما نقله الناس لعدم صحته.
وحِكمَةُ ذلك أن الجن كانت - تدَّعي عِلْمَ الغيب، فتخبر الناس، فرد الله
ذلك القول بقوله تعالى: (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) .
فعِلْمُ الغيب لا يطَّلِع عليه إلا الله، ومَنْ يُرد اللهُ أن يعلمه من نبي أو صديق.
ورضي الله عن السيد الذي دخل على بعض الملوك فوجده مهموما، فقال:
مالك، فقال: رأيتُ ملك الموت، فاختبرته عما بقي من أجلي، فأشار لي بأصابعه الخمس، فلا أدري أخمس ساعات أو أيام أو جمعات أو أشهر أو سنين، فقال له: أشار لك إلى أنَّ الخمس التي انفرد الله بعلمها في قوله تعالى: (إنَّ اللهَ عنده عِلْمُ الساعة ... ) الآية.
فإذا كان ملك الموت الموكل بقبض الأرواح لا يعلم أجَلَ شخص حتى يُؤْمر
بقبض روحه فكيف يطّلع الغير على الغيوب؟!(2/525)
ولهذا أبطل العلماء ما يدعونه أهل البطالة من الاطلاع على الغيوب.
ويستدلّون عليه بأمارات باطلة.
(مِيعَاد يوْم) :
يعني يوم القيامة أو نزول العذاب بهم في الدنيا، وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف.
(مِرَّةٍ) : أي ذو قوة، أو ذو هيئة حسنة.
والأول هو الصحيح في اللغة.
وقيل: مرة أي محكم الفَتْل.
(مِرْصاد، أو مَرْصَد) :
طريق وانتظار، أي تنتظر الكفَّار ليدخلوها.
وقيل معناه طريقا للمؤمنين يجُوزُون عليها إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على مَتْن جهنم.
وأما قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، فهو عبارة على أنه
تعالى حاضر بعلمه في كل مكان وكلّ زمان، ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفُوته أحد من الجبابرة والكفار.
وفي ذلك تهديد لكفّار قريش وغيرهم.
وقد كتب بعضُ الفضلاء لمن هدده: فيا للعجب ذبابة تطنّ في أذن الفيل أم
بعوضة تعدّ في التماثيل؟ وستندم على ما حدّثَتْك نفسك من أماني كاذبة.
وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا
تعنّى بالأمراض، فسبحان الله! كم بين قوي وضعيف، ودنيء وشريف! فإن
عُدْنا إلى الظواهر المحسوسات، وعَدَلْنا عن البواطن المعقولات، قلنا أُسْوَة
برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "ما أوذِي نبي بمثل ما أوذيت، فكانت العاقبة لله ولرسوله وللمؤمنين".
فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن من أمرنا بالمرصاد واتْلُ أوَّلَ النحل وآخر (ص) .
***
(ما) :
اسمية وحرفية، فالاسمية تَرِدُ موصولة بمعنى الذي نحو: (ما عِنْدَك يَنْفَدُ وما عِنْد الله باق) .
ويستوي فيها الذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع.(2/526)
والغالب استعمالها فيما لا يعلم، وقد تستعمل في العالم، نحو: (والسماء وما
تنَاهَا) .
(ولا أنتم عابِدون ما أعْبد) ، أي الله.
ويجوز في ضميرها مراعاة اللفظ، واجتمعا في قوله: (ويَعْبدونَ من دون اللَه
ما لا يَمْلِك لهم رِزْقاً من السماوات) .
وهذه معربة بخلاف الباقي.
واستفهامية بمعنى أي شيء، ويُسأل بها عن أعيان ما لا يعقل وأجناسه
وصفاته، وأجناس العلماء وأنواعهم وصفاتهم، نحو: ما هي.
ما لَوْنها. ما ولاّهم.
(مَا تِلْك بيمينكَ يا موسى) . (وما الرحمن) .
ولا يسأل بها عن أعيان أولي العلم، خلافاً لمن أجازه.
وأما قول فرعون: (وما ربّ العالمين) ، فإنما قاله جَهْلاً، ولهذا أجابه موسى
بالصفات.
ويجب حذف ألفها إذا جُرَّت، وإبقاء الفتحة دليلاً عليها، فَرْقاً بينها
وبين الموصول، نحو: (عَمّ يتساءلون) .
(فيمَ أنْتَ من ذِكْرَاها) ، (لم تقوئون ما لا تفعلون) .
(بم يرجع المرسلون) .
وشرطية نحو: (ما نَنْسَخْ من آية أو ننْسها) .
(وما تفْعَلوا من خير يعلمه الله) .
(فما استقَاموا لكم فاسْتَقِيموا لهم) .
وهذه منصوبة بالفعل بعدها.
وتعجبية نحو: (ما أصبرهم على النار) .
(قتِل الإنسان ما أكفره) .
ولا ثالث لهما في القرآن إلا في قراءة سعيد بن جبير:
"ما أَغرك بربك الكريم".
ومحلّها في رفع الابتداء وما بعدها خبر، وهي نكرة تامة.
ونكزة موصوفة، نحو: (بعوضة فما فَوقها) .(2/527)
(نِعمَّا يَعِظكم به) ، أي نعما شيء يعظكم.
وغير موصوفة نحو: (فنعمّا هي) .
الحرفية ترد مصدرية إما زمانية، نحو: (فاتقُوا اللهَ ما استطعتم) ، أي مدة استطاعتكم.
أو غير زمانية، نحو: (فذُوقوا بما نَسِيتم) ، أي بنسيانكم.
ونافية إما عاملة عمل ليس، نحو: (ما هذا بشرا) .
(ما هُنَّ أمَّهاتهم) .
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) .
ولا رابع لها في القرآن.
أو غير عاملة، نحو: (وما تنفقون إلا ابتغاء وَجه الله) .
(فما ربحت تجارتُهم) .
قال ابن الحاجب: وهي لنفي الحال.
ومقتضى كلام سيبويه أنَّ فيها معنى التأكيد، لأنه جعلها في النفي جواباً لقد في الإثبات، فكأنما قد فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جواباً لها.
وزيادة للتأكيد إما كافة، نحو: (إنما الله إله واحد) .
(إنما إلهكم إله واحد) .
(كأنما أغشيت وجوهُهم قِطَعاً من الليل مُظْلما) .
(ربما يودّ الذين كفروا) .
وغير كافّة نحو: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) .
(أَيًّا مَا تَدْعُوا) (أيما الأجَلَيْن قضَيْتُ) .
(فبما رحمة من الله) ، (مما خطيئاتهم) ، (مثلاً مّا بعوضة) .
قال الفارسي: جميع ما في القرآن من الشرط بعد إما مؤكد بالنون لمشابهته
فعل الشرط بدخول ما للتأكيد لفعل القسم من جهة أن ما كاللام في القسم، لما فيها من التأكيد.
وقال أبو البقاء: زيادة (ما) مُؤْذِنة بإرادة شدة التأكيد.(2/528)
فائدة
حيث وقعت " ما " قبل " ليس " أو " لم " أو " لا" أو بعد إلاَّ فهي موصولة.
نحو: (ما ليس لي بحق) .
(ما لم يعلم) . (ما لا تعلمون) . (إلاّ ما علّمتنا) .
وحيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدريّة.
وحيث وقعت بعد الباء فإنها تحتملهما، نحو: (بما كانوا يظلمون) .
وحيث وقعت بين فِعْلين سابقهما علم أو دراية، أو نظر، احتملت الموصولة والاستفهامية نحو: (وأعلم ما تُبْدُون وما كنْتُم تَكْتُمون) .
(ما أدْرِي ما يفعل بي ولا بِكم) .
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .
وحيث وقعت في القرآن قبل إلا فهي نافية، إلا في ثلاثة عشر موضعاً: (مما
آتيتموهن شيئاً إلا أنْ يخافا ألا يُقِيما) .
(فنِصْفُ ما فرَضْتُم إلا أن يعْفون) .
(ببعض ما آتيْتُموهنَّ إلا أنْ يَأتين) .
(ما نكح آباؤكم مِنَ النساء إلاَّ ما قد سلف) .
(وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) .
(ولا أخافُ ما تشركون به إلا أن يشاء ربي) .
(فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) .
(ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربُّك) ، في موضعي هود.
(فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) .، (ما قدمتم لهنَّ إلاّ) ، (وإذ اعتزَلْتُمُوهُم وما يَعْبدون إلا الله) ، (وما بينهما إلا بالحق) ، حيث كان.
***
(ماذا) :
ترد على أوجه:
أحدها: أن تكون ما استفهامية وذا موصولة، وهو أرجح الوَجهين في:
(ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) - في قراءة الرفع، أي
الذي ينفقونه العَفْو، إذ الأصل أن تجاب الاسمية بالاسمية، والفعلية بالفعلية.(2/529)
الثاني: أن تكونَ ما استفهامية وذا إشارة.
الثالث: أن يكون (ماذا) كله استفهاماً على الترتيب، وهو أرجح
الوجهين في: ماذا ينفقون قل العَفْوَ - في قراءة النصب، أي ينفقون العَفْو.
الرابع: أن يكون ماذا كله اسم جنس، بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى
الذي.
الخامس: أن تكون ما زائدة، وذا للإشارة.
السادس: أن تكون ما استفهاماً، وذا زائدة.
ويجوز أن يخرج عليه.
***
(متى) :
ترد استفهاماً على الزمان نحو (متى نَصْرُ الله) .
وشرطاً نحو: متى أضع العمامة تعرفوني.
***
(مَع) :
اسم بدليل جرها بمن في قراءة بعضهم: (هذا ذكر من مَعِيَ) ، وهي فيها بمعنى عند.
وأصلها لمكان الاجتماع، أو وقته نحو: (ودخل معه السجنَ فَتَيان) .
(أرْسِله معنا غداً) ، (لن أرْسِلَه معكم) .
وقد يُراد به مجرد الاجتماع والاشتراك من غير ملاحظة الزمان والمكان، نحو: (وكونوا مع الصادقين) .
(واركعوا مع الراكعين) .
وأما نحو: (إتي معكم) .
(إنَّ الله معَ الّذين اتقوا) .
(وهو معكم أين ما كنْتُم) .
(إنّ مَعِي رَبّي سيَهْدِين)
فالمراد الحفظ والعلم والمعونة مجازاً.
قال الراغب: والمضاف إليه لفظ مَعَ هو المنصور، كالآيات المذكورة.
***
(مِنْ)
حرف جر، له معان، أشهرها ابتداء الغاية، مكاناً وزماناً وغيرهما.
نحو: (من المسجد الحرام) . (من أوّل يوم) . إنه مِنْ سليمان) .
والتبعيض بأنْ تسدّ "بعض " مسدَّها، نحو: (حتى تُنْفِقوا مما تحبون) .
وقرأ ابن مسعود "بَعْض ما تحبّون".(2/530)
والتبيين، وكثيراً ما تقَع بعد ما ومهما، نحو: (ما يَفتَح اللَّهُ للناس مِنْ رحمة) .
(ما نَنْسَخْ من آية) .
(مهما تَأتِنَا به من آية) .
ومن وقوعها بعد غيرهما: (فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ من الأوثان) .
(أساور مِنْ ذهب) .
والتعليل: (مما خطيئاتهم أُغرقوا) .
(يجعلون أصابِعهم في آذانهم مِنَ الصَّوَاعق) .
والفصل بالمهلة وهي الداخلة على ثاني المتضادّين، نحو: (يعلم المفْسد من
الْمصْلح) .
(ليميز اللَّهُ الخبيثَ من الطيب) .
والبدل، نحو: (أرَضِيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، أي بدلها.
(لجَعَلْنَا منكمْ ملائكة في الأرض يَخْلُفون) ، أي بدلكم.
وتنصيص العموم، نحو: (وَمَا مِنْ إله إلا الله) .
قال الكشاف: هو بمنزلة البناء على الفتح في لا إله إلا الله في إفادة معنى الاستغراق.
ومعنى الباء: (ينْظرونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ، أي به.
وعلى، نحو: ونصرته من القوم، أي عليهم.
وفي نحو: (إذا نودِي للصلاة من يوم الجمعة) ، أي فيه.
وفي الشامل، عن الشافعي: أن من في قوله: (وإن كان مِن قوم عدوّ لكم)
بمعنى في، بدليل قوله: (وهو مؤْمن) .
وعن، نحو: (قد كنّا في غَفْلةٍ من هذا) ، أي عنه.
وعند، نحو: (لن تغْنِيَ عنهم أمْوَالُهم ولا أولادُهم من الله) ، أي عنده.
والتأكيد، وهي الزائدة في النفي، أو النهي أو الاستفهام، نحو:(2/531)
(وما تسقط من ورقة إلا يَعْلَمها) .
(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) .
وأجازها قوم في الإيجاب، وخرجوا عليه: (ولقد جاءَكَ مِنْ نَبَأ الْمرْسَلِين) .
يحَلَّوْن فيها مِنْ أساوِر) .
(مِنْ جِبَالٍ فيها مِنْ بَرَد) .
(يَغضُّوا مِنْ أبصارهم) .
فائدة
أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي، عن ابن عباس، قال: لو أنَّ إبراهيم
حين دعا قال: اجعل أفئدة الناسِ تهْوِي إليهم لازدحمت عليه اليهود
والنصارى، ولكنه خص حين قال: (أفئِدةً من الناس) ، فجعل ذلك للمؤمنين.
وأخرج عن مجاهد، قال، لو قال إبراهيم: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم
لزاحمتكم عليه الروم وفارس، وهذا صريح في فهم الصحابة والتابعين التبعيض من (مِنْ) .
وقال بعضهم: حيث وقعت يغفر لكم في خطاب المؤمنين لم تذكر
معها من، كقوله في الأحزاب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
وفي الصف: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة ... ) ، إلى قوله: (يغفر لكم ذنوبكم) .
وقال في الكفار في سورة نوح: (يغفر لكم من ذنوبكم) ، وكذا في سورة الأحقاف، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين، لئلا يسوّي بين الفريقين في الوعد. ذكره في الكشاف.
***
(مَنْ)
بالفتح: لا تقع إلا اسما، فترد موصولة كما قدمنا مراراً، كقوله:
(ومَنْ عنده لا يستكبرون عن عبادته) .
وشرطية نحو: (مَنْ يعمل سوءاً يجْزَ به) .
واستفهامية نحو: (مَنْ بعثَنَا مِنْ مَرْقدنا) .
ونكرة موصوفة: (ومن الناس مَنْ يقول) .
أي فريقا يقول.
وهي كما في استوائها في الذكر والفرد وغيرهما.
والغالب استعمالها في العاقل، عَكْس (ما) .
ونكتَته أن (ما) أكثر وقوعا في(2/532)
الكلام منها، وما لا يعقل أكثر ممن يعقل، فأعطوا ما كثرت مواقعه للتكثير.
وما قلّت للتقليل، للمشاكلة.
قال الأنباري: واختصاص مَنْ بالعاقل وما بغيرها
في الموصولين دون الشرط، لأن الشرط يستدعي الفعل ولا يدخل على الأسماء.
***
(مَهْما) :
تقع اسماً يعود الضمير عليها في: (مَهْمَا تَأتنَا بِه) .
قال الزمخشري: عاد عليها ضمير به وضمير بها حملاً على اللفظ، وعلى
المعنى.
وهي شرط لما لا يعقل غير الزمان كالآية المذكورة، وفيها تأكيد، ومن
ثم قال قوم: إن أصلها ما الشرطية وما الزائدة، أبدلت ألف الأولى هاء دَفْعاً
للتكرار.(2/533)
(حرف النُّون)
(نوح عليه السلام) :
من أولاد آدم عاش بعد الطوفان ستين سنة، وبعثه
اللَه بعد إدريس، وهو أولُ مَنْ صنع السفينة بأمْرِ الله، وكانت سببَ نجاته ومَنْ آمنَ به، وتنسلت الخلق من أولاده: سام، وحام، ويافث، ولذلك يقال له آدم الأصغر، لأن المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة انقرضوا، وكان اسمه يشكر فَمرَّ على كلب ميت فجعل يده على أنْفه، وقال: ما أقبح رائحته، فقال له جبريل: يقول لك ربك اخْلُقْ أنْتَ مَنْ هو أحسن رائحة منه، فبكى على ذلك أربعين سنة.
فقال له جبريل: يا نوح، كم تَنوح! يكفيك من هذا النوح (1) .
فانظر هذه السياسة العظيمة، والوعيد الهائل مع أنبيائه وأصفيائه من خلقه.
قال تعالى: (إنّ اللَهَ اصْطَفَى آدم ونوحاً وآل إبراهيم) .
وكان في احتمال المشقة من قومه غاية حتى ضاق ذَرْعه منهم، ودعا عليهم.
فأجاب اللَّهُ دعاءَه، ونَجّاه ومَنْ معه، وسلَّم عليه في قوله: (سَلامٌ على نُوحٍ في العالمين) .
(قيل يا نوح اهْبِطْ بسلام مِنَّا) .
(نبيئا) :
مشتق من الإنباء، وهو الإخبار، لقوله تعالى: (ذلك مِن أنباء الغَيْب) .
(نَبئْنَا بتَأوِيله) .
وقيل هي مشتقة من الرفعة والتفضيل، لقوله تعالى: (وكان رسولاً نبيئا) .
ومنه الحديث: كنت نبيئاً وآدم بين الماء والطين، يعني في علمه
سبحانه.
فأمّا أنْ يكونَ نبيئا حقيقة وهو غير موجود فلا يتصور، لأن كونه
نبيئاً يدل على وجوده عليه الصلاة والسلام، وكلّ نبيء مخبر، وليس كل مخبر نبيء، إذ لا يجوز استعمال هذا الاسم في غير الأنبياء، وإن كان الخبر صادقاً.
__________
(1) لا يخفى ما فيه من الإسرائيليات.(2/534)
(نظر) :
له معنيان من النظر، والانتظار، ومن الانتظار يتعدّى بغير حرف.
ومن نظر العين يتعدى بـ إلى، ومن نظر القلب يتعدّى بـ في.
(أنْدَادا) :
جمع ند، وهو المضاهي والمماثل والمعاند، والمراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله، والمقصود الأعظم منها الأمر بتوحيد الله، وترْك ما عُبد من دونه، وذلك هو الذي يترجم عليه بقولنا: لا إله إلا الله.
فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلا الله الذي تنَزَّهَتْ عن سمة الحديث ذاته، ودَلَّت على وحدانية آياته، الأول الذي لا بداية لأزليته، الآخر الذي لا نهاية لسَرْمَدِيّته، الظاهر الذي لا شك فيه، الباطن الذي ليس له شبيه، كلَّم موسى بكلامه القديم المنزّه عن التأخير والتقديم لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، ولا بحروف ترجع، كل الحروف والأصوات والنداء محدثة بالنهاية والابتداء، جلّ ربنا وعلا وتبارك وتعالى.
(نكلالاً) :
عقوبة لما تقدم من ذنوبهم وما تأخّر.
وقيل عبرة لمن تقدم وتأخر، والمراد بهم في البقرة أصحاب السبْتِ، ليتعظَ بهم من يأتي بعدهم.
وأما قوله تعالى: (فأخذَه اللَّهُ نَكالَ الآخرةِ والأولى) .
فالمعنى أنه غرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة.
وقيل الآخرة قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) .
والأولى قوله: (ما عَلِمْتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري) .
وقيل بالعكس.
والمعنى أخذه الله وعاقبَه على كلمته الآخرة وكلمته الأولى.
وروي أنه لما ادَّعَى الربوبية أراد جبريل أن يعذّبه ويخسف به الأرض، فرجع
إلى ربه في شأنه، فقال له: مهلاً يا جبريل، فإنما يستعجل بالعذاب مَنْ يخاف
الفوت، وكذلك العبد العاصي إذا أسرف على نفسه يتوقع من الله العذاب
والمِحْنَة، فينعطف الله عليه بالمحبة والمعرفة.
وقيل: إن الله أمهله أربعين سنة: عَشرة لبِرِّه بوالديه، وعشرة لبره بالطعام.
حتى إنه اتخذ إبرة من ذهب يلتقط بها ما يسقط منه، وعشرة لسخائه وكرمه(2/535)
وعشرة لتضرعه إلى الله وتمرّغه في الرماد، ويقول: يا رب، إنَّ حبّ الدنيا قد غلب عليَّ وأنا أعلم أنك ربّ الكل (1) .
(نَنْسخ مِنْ آية أو نُنْسِها) :
من النسيان، وهو ضد الذكر، أي ننسها النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذن الله، كقوله: (سسقْرِئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) .
أو بمعنى الترك، فتركها غير منزّلة عليك أو غير منسوخة.
وقرئ بالهمز بمعنى التأخير، أي نؤخر إنزالها أو ننسخها.
وقد قدمنا الكلام في الناسخ والمنسوخ.
وقرئ بضم النون، أي نأمر بنسخه.
(نَبْتَهل) :
من اللعنة، نقول: لعنَةُ الله على الكاذب منّا ومنكم.
هذا أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن
لعنة.
ولما نزلت الآية أرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نصارى نَجْران ودعاهم إلى المباهلة، ودعا بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، فلم يقدروا على المباهلة لعلمهم أنهم على الباطل، وأعطوا الجزية على البقاء في دينهم.
(نَطْمِسَ وجوها) :
نمحو ما فيها من عَيْن وأنْف وحاجب، حتى تصير كالأدبار في خُلوّها عن الحواس.
(نلعنهم كما لعَنّا أصحابَ السبْتِ) .
أي نمسخهم كما مسخنا أصحابَ السبت الذين قلنا لهم: (كونوا قِرَدة خاسِئين) ، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد
أصحابها، أو يعود على الذين أُوتوا الكتاب على الالتفات.
قال شَهْر بن حَوْشَب، عن كعب الأحبار: كان أبي من مؤمني أهلِ التوراة
برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من عظمائهم وخيارهم، وكان من أعلم الناس بما أنزل الله في التوراة وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئاً، فقال لي يوماً: يا بني، إني قد حضرتني الوفاة، وقد علمت أني لم أدّخر عنك شيئاً مما كنْت أعلم، غير ورقتين
__________
(1) العجب كل العجب كيف يذكر العلامة الحافظ السيوطي - رحمه الله - هذا الهراء دون أن يتعقبه؟؟!!!(2/536)
ذكر فيهما النبي المبعوث، وقد أظَلّ زمانه، وكرهت أن أخبرك بذلك.
ولا آمن عليك بعد وفاتي من بعض هؤلاء الكذّابين فتتبعه، وقد قطعتهما من
كتابك، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تظهرهما زمانَك هذا، وأقِرَّهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتّبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بذلك خيراً كثيراً.
فلما مات والدي لم يكن أحبّ إليّ من انقضاء المأتم، حتى أنظر ما في
الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة، ثم استخرجت الورقتين، فإذا فيهما: "محمد رسول الله خاتم النبيين، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفَظّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمّادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتذلّل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل مَنْ ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويأتزرون على أوساطهم، وأناجِيلهم في صدورهم، وهم يأكلون قرْبانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأب والأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون والشفّع لهم.
فلما قرأت هذا قلت في نفسي: واللَه ما علمني شيئاً خيراً لي من هذا.
فمكثت بهذا ما شاء الله، حتى بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيني وبينه بلاد بعيدة، لا أقدر على إتيانه.
وبلغني أنه خرج بمكة فهو يظهر مرة ويستخفي أخرى، فقلت: هو هذا.
وتخوّفت ما كان والدي خوّفني وحذّرني من الكذابين، وجعلت أحبّ أن أتبين
وأتثبت، فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة، فقلت في نفسي: إني لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقَدَّر لي، حتى بلغني أنه توفي صلوات الله وسلامه عليه، فقلت في نفسي: لعله لم يكن الذي كنْت أظن.
ثم بلغني أنَّ خليفته قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلاً حتى جاءتنا جنودة، فقلت(2/537)
في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر؟ وكيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى متى تكون عاقبتهم.
فلم أزل أدْفَع ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت، حتى قدم عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، فلما رأيْتُ صلاةَ المسلمين وصيامهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمتُ أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في الإسلام، فوالله إني ذات ليلة فوق سطح لي إذ رجل من المسلمين يقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) ، فلما سمعتها خِفْتُ ألا يصبح حتى يحول الله وجهي من
قفاي، فلما أصبح غدوتُ على عمر، فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافه إلى الشام: يا أمير المؤمنين، إنه مكتوب في
كتاب الله إن هذه البلاد التي فيها بنو إسرائيل مفتوحة على يَدِ رجل من
الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سِرُّه مِثْل علانيته، وعلانيتة مثل سره، لا يخالف قوله فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل أسود بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون.
فقال له عمر: ثَكلَتْك أمُّك! أحقٌّ ما تقول، قال: أي والذي أنزل التوراةَ
على موسى، والذي يسمع ما نقول، إنه لحقٌّ.
فقال له عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا، وأكرمنا ورحمنا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبرحمته التي وسعت كل شيء.
(نَقِيرا) :
هو النقرة التي في ظَهْر النّواة، وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء، ويبخلون بما هو أكثر منه من باب الأوْلى.
(نَطِيحة) :
هي التي نطحتها بهيمةٌ أخرى حتى ماتت.
(نَقِيباً) :
هو نَقيب القوم القائم بأمورهم.
(نَعَم) :
هي الإبل والبقر والغنم خاصة، وجمعه أنعام، لا واحد له من لفظه.(2/538)
(نَفَقاً في الأرض) ، أي منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض.
وهذه الآية في سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه، فقيل له: إن استَطعْتَ أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء لتأتيهم بآية يؤمنون بسببها فافعل، وأنت لا تقدر على ذلك، فاستسلم لأمر الله.
(نَبأ) : خبر.
ومنه اشتق النبيء بالهمز، وترك الهمز تخفيف.
وقيل: إنه عند من ترك الهمز مشتق من النبوة، وهي الارتفاع.
(نَصْر) :
بالصاد معروف، وبالسين اسم صنم.
ومنه: (يَعُوق ونَسْرا) ، واسم طائر أيضاً.
(نَكد) : عسر.
وقيل: أربع كلمات في أربعة كتب:
في التوراة الحسود يموت كمداً.
وفي الإنجيل البخيل تأكل ماله العدا.
وفي الزّبور: الظالم لا يفلح أبدًا.
وفي الفرقان: (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) .
(نَتَقْنا الجَبلَ فوقهم) ، أي رفعناه، والضمير لبني إسرائيل، يعني أن الله قال لهم: خذوا التوراة، فأبوا من أخذها، فاقتلع الجبَل ورَفَعه فوقهم كأنه ظلّة.
ومنه قولهم: نتَقَت المرأةُ إذا أكثرت الولد.
وأين هؤلاء القوم من هذه الأمة المحمّدية، حيث أخذوا الكتابَ بقوة.
فصاروا يَتْلُونه آناءَ الليل والنهار، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خَلْقِ السماوات والأرض، ولهذا أكرمهم الله بخصال مثَنَّيات لم يُعْطِها غيرهم: مكة، والمدينة، والقبلة اثنان: الكعبة وبيت المقدس.
والدعاء. اثنان: الأذان والإقامة، والجهاد اثنان: مع الكفار، والمنافقين.
والصبر اثنان: مع الله بالرضا ومع الأمة بالنفس.
والدعاء اثنان: في الدنيا: ربّنا لا تؤاخذنا.(2/539)
وفي الآخرة: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) .
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
والشفع والوتر، والليالي العشر.
وهذه كلّها خاصة بهذه الأمة المحمدية، ولهذا أخَّر اللهُ حسابَ الأمم كلها
إلى يوم القيامة، وحرّم الجنة على سائر الأمم حتى يدخلها هو - صلى الله عليه وسلم - وأمّته، لأنها دارهم.
ولما أخذوا الكتابَ بقوّة ورِضاً سهّله اللهُ عليهم، ويسَّرَه لهم، ختى إن منهم
من يختمه في كلّ ساعة، ومنهم من يختمه اثنا عشر ألف بالليل، واثنا عشر ألف بالنهار، وأعظم من ذلك أنَّ الله سهَّل حِفْظَه - عليهم، حتى أن حبيباً حفظه وهو ابن خمس سنين، وآخر حفظه في النوم، وأعطاهم إجابة الدعاء عند خَتْمِه، وقَرّبهم عند السجود له، وذكَّرهم بالفلاح إذا أنفقوا أموالهم، واشترى منهم أنفُسَهم، والهداية إذا جاهدوها، وقبل التوبة إذا وافقوها، والكفاية إذا توكلوا عليه، والزيادة من النعم إن شكروه، والإجابة إذا دعوه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وغفر لهم قبل أن يستغفروه.
(نكَصَ على عَقِبيه) .
أي رجع إلى وراء، وهو إبليس لمّا تصور لقريش حين خرجوا إلى بدْر على صورة سراقة بن مالك، وقال لهم: إني جارٌ لكم مِن قَوْمي، وأنصركم بجندي، فلما رأى الملائكة َ خاف ورجع القهقرى، وقال: إني أرى ما لا تَرَوْن.
(نجَس) :
كل ما ينجس، وسَمَّى اللهُ الكافر بأنه نجس لكُفْره، وقيل لجنابته فيُمنع من دخول المسجد.
وأباح الشافعي دخوله في كل مسجد ما عدا المسجد الحرام، وأباح أبو حنيفة دخولَ المشركين المساجد ما عدا المسجد الحرام، وأباح دخول أهلِ الكتاب في المسجد الحرام.
وقاس مالك على المشركين سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد في مَنْع جميع الكفار من جميع المساجد.(2/540)
(نسيء) :
هو في اللغة الزيادة.
ومعنى: (إنما النَّسِيء زيادة في الكفْر) ، أنَّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات، فشقّ عليهم تَرْكها في الأشهر الحرم، لأنها كانت محرّمة عليهم، فيحرمون شهراً آخر بدلاً من الشهر الحرام.
وربما أحلّوا الحرم وحرموا صفر، حتى يكملوا في العام
أربعة أشهر محرمة.
(نخوض ونلعب) :
من كلام وديعة بن ثابت، بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هذا يريد أنْ يفتتح قصور الشام، هيهات هيهات! فسأله عن
ذلك، فقال: كُنَّا نخوض ونلعب.
(نَقَموا) ، كرهوا غايةَ الكراهة، أي عابوا الغنى الذي كان
حقّه أن يشكروا عليه، وذلك في الجلاس أوْ فِي عبد الله بن أبيّ.
(نَسوا اللَهَ فنَسِيهم) ، أي غفلوا عن ذكره فتركهم من
رحمته وفَضْله.
(نَكِرَهم) : وأنكرهم واستنكرهم بمعنْى واحد.
وضمير الجمع يعود على الرسل الذين جاؤوا إبراهيم فقدّم لهم الطعام، فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه.
(نَدير) : منذر.
وأنذر أعلم بالمكروه قَبْل وقوعه. والمنذرين.
وكيف كان عذابي ونذر، فهو مصدر. والنذير بغير ألف، ومنه: أعْذَر ثم أنذر.
وليوفوا (نذورهم) .
(نرتع ونلعب) : بالنون، فهو ضمير إخوة يوسف، وإنما
قالوا (نلعب) لأنهم لم يكونوا حينئذٍ أنبياء.
وقيل: إن اللعب من المباح لتعلّم القتال كالمسابقة بالخيل.
ومن قرأه بكسر العين فهو من الرّعي، أي من رَعْي الإبل، أو ممن رعي
بعضهم لبعض ومواساته.(2/541)
ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع، وهو الإقامة في الخصب والتنعم.
والتاء على هذا أصلية، ووزن الفعل يفعل، ووزنه على الأول نفتعل.
ومن قرأ (يرتع ويلعب) - بالياء فالضمير ليوسف.
(نَسْتَبِق) ، أي نجري على أقدامنا لننظر أيّنا يسبق، أو من
المسابقة في الرمي.
(نتَّخِذه ولدا) : من قول العزيز الذي اشتراه بوَزْنه ذهباً، يعني نتبنّاه.
(نَاجٍ منهما) ، أي من الساقي، والذي رآه أنه يعصر
الخمر، يعني أن يوسف قال للذي ظن أنه ينجو: اذكرني عند ربك.
والظن هنا بمعنى اليقين، لأن قوله: (قُضِي الأمرُ) - يقتضي ذلك.
أو يكون على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن، وذلك أن رسولَ الملك جاء هذا الساقي بعد ثلاثة أيام، وأخرجه من السجن، وخلع عليه، وذهب به مكرَّماً إلى الملك، فقال له يوسف عند خروجه: (اذكرني عند ربك) ، فتزلزلت الأرض، وانشقَّ الجِدار، وجاء جبريل، وقال: يا يوسف، إن الله يقول لك: مَنْ حَبَّبَك في قلب يعقوب؟
فقال: ربي.
ومن أنجاك من يَدِ إخوتك؟
قال: ربي.
قال: ومن حفظك في قعر الجب؟
قال: ربي.
ومن أعشق فيك زليخا؟
قال: ربي.
ومن أنْجاك من كيدها؟
قال: ربي.
فقال جبريل: إنَّ ربّك أحسن إليك هذا الإحسان فأيّ عجز رأيت منه حتى استغَثْتَ بالملك؟
يا يوسف، إن جدك إبراهيم لم يستغث بجبريل حين قال له: هل لك من حاجة، فقال: أمّا إليك فلا، وجَدّك إسماعيل لم يستَغث من إبراهيم وقت القُربان، ولكن قال: (ستَجِدني إنْ شاءَ اللَهُ من الصابرين) .
وأنت لم تصبر في السجن ثلاثة أيام، وتركْتَ استغاثةَ الديان.
فخرَّ يوسف ساجدا، وبكى أربعين يوماً، وقال: إلهي بحرمة جدي إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق، وبحقِّ والدي يعقوب إلاَّ رَحَمْتَني، وتجاوزتَ عني، فجاء
جبريل عليه السلام، وقال: إن الله تعالى يقول: عفَوْت عنك، ولكن حكمتُ ببقائك في السجن سبع سنين.
__________
(1) كلام لا وزن له؛ لما فيه من افتراء على نبي الله يوسف - عليه السلام - والصحيح عند المحققين أن الضمير في قوله تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) يعود على الذي نجا منهما، وكيف يتصور عوده على يوسف - عليه السلام - وهو لم يغفل عن ذكر ربه طرفة عين، بل سأل الله النجاة من كيد النسوة ولو بالسجن (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وعندما جاءه رسول الملك لم يبادر بالخروج بل قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) .(2/542)
هذا رسول الله ُبِس على كلمةٍ سبع سنين، فكيف بك يا عاص خمسين سنة
أو أكثر، فتفكر بقلب وَاع، كيف يكون حالُك، فإن أردت الحال الحميدة
فعليك بالتوبة والإقلاع، فإن الله أمنك في الدنيا بقوله تعالى: (فلا يخاف ظُلْماً ولا هَضْماً) .
وفي حال النزع: (ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا) .
وفي القيامة: (لا خوف عليكم ولا أنتم تحْزَنون) .
وفي الجنة: (ادخلوها بسلام آمنين) .
(نَكتَل) :
وزنه نفتعل، وهذا من قول إخوة يوسف لأبيهم
حين أرادوا المعَاوَدة إلى الطعام بسبب المجاعة التي كانت ببلادهم.
ورُوي أن جبريل قال ليوسف: إن إخوتك جاءوا إليك فبم تعاملهم، فقال:
آذَوْني كثيراً، ولا أرى إلاَّ العفو والتجاوز.
فقال له: بهذا أمرك الله.
قال بعض العلماء: إخوة يوسف جاءوا إليه ثلاث مرات:
أولاً محتاجين سائلين، فأكرمهم وأعطاهم النعمة، وقال: اجعلوا بِضَاعَتهم في رِحَالهم.
وجاءوا في الثانية متكبّرين فَرِحين (1) ، فرجعوا مغمومين حين قال لهم يوسف: ارْجعوا إلى أبيكم، لأن يوسف كان ملكاً، والملوك لا تحبّ المتكبرين.
وجاءوا في المرة الثالثة بالابتهال والتضرع، فرجعوا فرحين مسرورين، لأن يوسف عليه السلام كان رحيما، والرحيم يحب مَنْ تضرع.
(نمير أهْلَنا ونحفَظُ أخانا ونَزْدَاد كَيْلَ بَعير) :
هذا من كلام إخوة يوسف لما قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم.
فطلبوا من أبيهم، وواعدوه بالميرة وهي سوق الطعام، وواعدوه بحفظ أخيهم لما تقدَّم منهم من الجفاء، وعدم الوفاء، وأخبروه بوفاء الملك لهم إنْ أتوه به، وأعانهم يوسفٍ على ذلك، فجعل البضاعةَ في رحالهم ليكون لهم تقوية على الرجوع إلى مصر مرة أخرى، حتى يرى يوسف أخاه، وكذلك كتم اللَّهُ بضاعة الإيمان في قلب المؤمن ليكون له تقوية للوصول إلى جنته، حتى يرى المولى، فلما سمع يعقوب مقالهم أسْلم لهم بنيامين وأخذ عليهم العَهْدَ: (لَتَاْتنَّنِي به إلا أنْ يُحَاط بكم) ، أي تغلبوا، فلا تطيقون.
__________
(1) لا دليل عليه.(2/543)
فدخلوا على يوسف وهو على سرير في حجاب، فلما رآه بنيامين تذكر
يعقوب وبكى بكاء كثيرا، ثم أمر الحاجب بسؤالهم عن أبيهم، فسألهم، فقالوا له: هو في البكاء والحزن والتضرع، ثم أمر برفع الحجاب، فسلَّموا جميعا عليه، وأعطاه بنيامين كتابَ أبيه، فأخذه وقَبّله، ثم أرْخَى الستر عليه، وقرأ الكتاب، فإذا فيه الوصية على ولده، وما جرى ليوسف من قبله، فبكى وغيض دَمْعُه، ثم أمر بالطعام فأحضر، وأمرهم بالجلوس مَثْنَى مثنى، من كان لأب وأم مائدة واحدة، فبقي بنيامين وَحيداً فبكى، فسألهم مِمّ بكاؤه، فقالوا: كان له أخ لأمه فأكله الذئب، فقال يوسف: اجلس معي يا فتى، ولا تأكل وحيداً، فلما دنا من يوسفِ ورآه غُشي عليه، فلما أفاق قال له يوسف: (أنا أخوك فلا تَبْتَئس بما كانوا يعملون) .
والنكتة فيه أنَّ بنيامين كان وحيداً متحيّراً غريباً، فقال له يوسف: أنا
أخوك، وموسى كان متحيّراً غريبا، فقال الله له: (إني أنا ربك فاخْلَعْ نعْلَيْك) .
كذلك العاصي إذا تحيَّر في بعض المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (إني أنا
الغفور الرحيم) - يعني إذا تاب وأقلع.
وقد قدمنا أن الله تعالى وعد بغفران ذنوبه وتبديلها حسنات ومحبّته ودخول
الجنة وفلاحه.
فإن قلت: كيف عرفهم هو ولم يعرفوه، وعرفه بنيامين؟
والجواب أن يوسف كان وفيّاً وإخوته جفاة، فشؤم الجفاء أعمى قلوبهم حتى
لم يعرفوه، لأن الجفاء يمنع المعرفة والصفاء، جفاء يوسف أثَر في قلوبهم حتى لم يعرفوه، فمن جَفَا مولاه سبعين سنة أو أكثر كيف لا يخاف منه أن يسلبه معرفته وقْتَ النزع، قال تعالى: (ونقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم ... ) .
وقد صح أن الجفاء يأتي بالغضب، ويذهب بالعفَّة، ويأتي بالمخالفة.
ويذهب بالمراقبة، ويأتي بالمنازعة، ويذهب بالصلح، ويأتي بالفرقة، ويذهب
بالوصلة، ويأتي بالبغْض، ويذهب بالمودة، ويجعل صاحبه أجنبيا، ويذهب
بالصلح.(2/544)
وقيل: إنما عرفهم لأنهم كانوا على صفتهم التي رآهم يوسف أوَّلاً، ولم يكن
يوسف على الصفة التي كان عليها من الصغر.
وقيل: إن يوسف لم يقطع الرجاء عن رؤيتهم، بل كان يتفكر فيهم، فلذلك
عرفهم، وهم قطعوا الرجاء عن رُؤْيته، فلذلك لم يعرفوه.
والإشارة فيه أنَّ قَلْبَ العبد إذا كان مشغولاً بمحبة الرب عرفه من غير
رؤية.
وقلب الكافر كان مشغولاً بمحبة الصنم فلذلك لا يعرفه حين يرى الدلائل
الظاهرة.
وقيل: إنه كان مُتَبَرْقِعاً، فلذلك لم يعرفوه، ودخلوا عليه وهو على هيئة
عظيمة من الملك (1) .
وقصته من أولها إلى آخرها عجيبة، كما قال تعالى: (آياتٌ للسائلين) .
قد تكفل بجمعها وما فيها من النكت والإشارات والفوائد الإمام الهمداني وهو
عجيب لمن تأمّله.
(نَزغً الشيطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوتي) ، أي أفسد وأغوى.
وإنما قال يوسف هذا القول لما رأى من لطف الله تعالى، حيث أضاف الكذب
إلى القميص، فتأدَّب وأضاف ذَنْبَهم إلى الشيطان والإخوة إلى نفسه، ولم يَنْفِهِم عن نفسه، لكيلا يهتك أستارهم، وتسوء ظنونهم.
وكذلك قال الله تعالى: (إنما استَزَلَّهم الشيطانُ ببَعْض ما كَسَبُوا) .
حتى تتأدب الملائكة بذلك، فلا يذكرون في القيامة زلّتك ولا يهتكون سترك.
(نَار السَّموم) : أي حرها.
وهذا من قول إبليس بزَعْمِه الفاسد أن النار أقوى من الطين، وليس كذلك، بل هي في درجة واحدة من حيث هي جاد مخلوق، فلما ظنَّ إبليس أن صعودَ النار وخفّتها تقتضي فَضْلاً على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عنه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من الطين.
__________
(1) أكثر ما ذكر في قصة يوسف - عليه السلام - من أباطيل وأكاذيب بني إسرائيل.(2/545)
وهذا التعليل يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل
للمفضول على زَعْمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس، فكفْرُه كفرٌ مجرد.
قيل: إن لجهنّم سموم، ولسمومها نار تكون بين سماء الدنيا وبين الحجاب
وهي النار التي تكون منها الصواعق.
(نَفيرا) : أي عدداً.
وهو مصدر من قولك: نفر الرجل إذا خرج مسرعاً، أو جمع نفر.
(نَأى بِجَانِبه) :
أي بعد، وذلك تأكيد وبيان للإعراض.
وقرئ ناءَ ونأى، وهما بمعنى واحد.
ويقال النأي الفراق، وإن لم يكن ببُعد.
(نَفِد البَحْرُ) : فني.
ومعنى الآية: لو كتب عِلْمُ الله بمداد البحر لنَفد البَحْر ولم ينفد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر مثله كما قدمنا.
(نادى ربَّه) : أي دعاه.
والضمير لزكريا، وإنما ناداهُ حين رأى من مريم الكرامات التي ذكر اللهُ، من وجود فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فحينئذٍ طلب الولد فأجابه الله بيحيى.
(نَدِيًّا) .:
قد قدمنا أنَّ الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم
مقاما وأجلُ مجلساً، فنحن أكرم على الله منكم.
(نُمِدّ له مِنَ العذاب مَدًّا) .
قد قدمنا أنها في العاصي بن وائل.
والمعنى نزيد له في العذاب، ونرثه الأشياء التي قال إنه يُؤتاها
في الآخرة، وهي المال والولد، ووِراثتها بأن يهلك ويتركها.
وقد أسلم ولداه هشام وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) .
قد قدمنا أن الحشر على خمسة معان: حشر الميثاق: (وإذ أخذ رَبُّك مِنْ بَنِي آدم) .
وحَشر التصوير: (يخرجُ مِنْ بَيْنَ الصُّلْب والتَّرَائِب) .
وحشر البرية، (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) .(2/546)
وحشر الخدمة: (وإذَا بلغ الأطفالُ منكم الحُلُم) .
وحشر الكرامات: (يوم نحشر المتقين) .
والمراد بالمتقين هنا من اتَقى الشرك والنفاق.
وقيل في المتّقي أقوال، والظاهر أنهم
الممتثلون ما أمرهم الله وانتهوا عما نهوا عنه.
وقد قدمْنَا ما أكرمهم اللهُ في الدنيا والآخرة.
ْفإن قلت: ما الحكمة في ذكر الحَشْر للمتقين، وخصوصيتهم للرحمن لهم
والسوق إلى المجرمين وخصوصيتهم لجهنم؟
فالجواب أن الحَشْر مع الرضا والاختيار، والسوق مع الكراهية والسخط.
والحشر للكرامة والأمانة والعلم.
والسوق للجهد والإهانة.
ولما كان الرضوان والسلام والرؤية والخلود للمتقين، وهو أكبر من الجنة خصَّهم بذكر الرحمن، لأن شوقهم إليه ورجاءهم فيه، فدلهم إليه لتسكنَ نفوسهم.
ولما كان عند المجرمين الخوف من عقوبة النار لا مِنْه، لأنهم لم يعرفوه ذكرهم بما هو أشد عليهم، وهي جهنم، ولو عقلوا لعلموا أنَّ نار القطيعة أشدُّ من القطيعة، لكنهم خُوّفوا بما هو معقول عندهم، فسبحان مَنْ خاطب عباده بما يفهمونه، خاطب المطيعَ بما هو مشتاق إليه، وخاطب العاصي بما يخافه، وعلى هذا هو أسلوب القرآن العظيم.
(وما يعْقِلُها إلا العالمون) .
(نَنْسِفَنّه في اليَمِّ نَسْفا، أي نلقيه في البحر تفريق الغبار ونحوه.
والضمير يعود على العِجْل المتَخَذ من أثر فَرَسِ جبريل.
(نَبَذْتها) ، أي ألقيتها على الحلي، فصار عجلاً، وعلى العجل
فصار له خُوَار.
(نَقصُّ عليكَ من أنباء ما قَدْ سبق) :
يعني من أحوال المتقين، لنثبِّت به فؤادك، ولذلك قال له في سورة يوسف: (نَقُصّ عليك أحسن القصص) .
والقصص يكون مصدر أو اسم مفعول بمعنى المقصوص، وإن أريد به هنا
المصدر فمفعول (نَقُصُّ) محذوف، لأن ذكر القرآن يدلّ عليه.
قيل سبب نزول هذه الآية أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مرفوعاً مكرَّماً، فحسده أهلُ(2/547)
مكة، كذلك يوسف كان مكرما عند أبيه.
والإشارة فيه كأنَّ الله يقول: يا محمد إخوة يوسف جعلوه كذّاباً فصيَّرْتُه ملكاً عليهم، وسجدوا له، كذلك أقهر أعداءك واصَيِّرهُم عبيدا بين يديك شرقاً وغربا، وكذلك الشيطان يحسدُ أمَّتك على ما أنعمت عليهم من محبتك واتباعك، فأصيرهم يوم القيامة ملوكاً كراما، وأقهر عدوهم وحسَّادهم حتى يقولوا (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) .
(نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) :
بموت الناس، وهَلاكِ الثمرات، وخراب البلاد، وشبه ذلك.
وقيل: بموت العلماء منها، أو بما فتح الله على المسلمين منها باستيلاء الكفَّار عليها لقوله: (أفَهُمُ الغالبون) .
(نَضَعُ الموازِينَ القِسْطَ ليَوْم القِيَامة) :
قد قدمنا معنى وَضْعها، وإنما أفرد (القِسْطَ) وهو صفة للجمع، لأنه مصدر وُصف به كعَدْل ورضا، أو على تقدير ذوات القسط.
وقد قدمنا أيضاً أن لكل شخص ميزاناً لجمعه، أو إنما جمعه باعتبار الكفتين واللسان، أو باعتبار الموزونات.
(نفحةٌ مِن عذاب رَبِّك) ، أي قطرة.
وفيها تقليلُ العذاب.
والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذْعَنُوا واعترفوا بذنوبهم.
(نافلة) : أي عطية.
والتنفيل: العطاء.
وقيل سمّاه نافلة لأنه عطاء بغير سؤال، فكأنه تبرع.
وقيل الهبة إسحاق، والنافلة يعقوب، لأنه سأل إسحاق بقوله: هَبْ لي من الصالحين، فأعطي يعقوب زيادة على ما سأل، ولهذا اختار بعضهم الوقْفَ على إسحاق لتباين المعنى.
وهذا ضعيف، لأنه معطوف على كلّ قول.
(نادى مِنْ قَبْل) :
أي دعا نوح قبل إبراهيم ولوط.
(نَصَرْنَاه مِنَ القَوْم) :
إنما تعدَّى نصرناه بـ (مِن) ، لأنه مطاوع انتصر المتعدي بمن، أو تضمن معناه نجَّيناه أو أجرناه.
(نَفَشَتْ) :
رَعَتْ فيه لَيْلاً، والضمير راجع إلى قصة(2/548)
الرجلين المتخاصمين إلى داود، دخلت غنم أحدهما في زَرْع الآخر بالليل.
وأفسدته، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم.
ووَجْه هذا الحكم أنَّ قيمة الزرع مثل قيمةِ الغنم، فخرج الرجلان على
سليمان، وهو بالباب، فأخبراه بما حكم أبوه، فدخل عليه فقال: يا نبي الله، لو حكمت بغير هذا كان أرفق بالجميع.
قال: وما هو، قال: يأخذ صاحب الغنم الأرْض ليصلحها حتى يعودَ زَرْعُها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنَم ينتفع بألبافها وصوفها ونَسْلِها، فإذا كمل الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض بزَرْعها إلى رَبِّها.
فقال له داود: وفِّقْتَ يا بُني، وقضى بينهما بذلك.
ووجه حكم سليمان أنه جعل حكم الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع.
وأوجب على صاحب الغنم أنْ يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان.
ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحاً لا حكماً.
واختلف الناس، هل كان حكمهما باجتهاد أو بوحي؟
فمَنْ قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء.
وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبَيّن له أن الصواب خلافه.
وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، وعلى القول بالجواز اختلف:
هل وقع أم لا.
(نَقْدِرَ عليه) :
أي نُضيق عليه، فهو من معنى قوله: (ومَنْ قُدِرَ عليه رِزْقه) .
وقيل هو من القدر والقضاء، أي ظن أن لن نَقدر عليه بعقوبته.
ولا يصح قول من قال: إنه من القدرة.
والإشارة فيه كأنه يقول: يا عبدي لما خرج يونس خروجَ غَضب، فنادى
فأنجيته، كذلك إذا خرجت لي خروج غضب من ذنوبك، فتلوم نفسك.
أنجيتك من همومك، وأقول لك: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) .(2/549)
ولما خرج إبراهيم خروجَ أدب، فقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فألبسته
لباس الخلَّة، وبردت عليه النار، كذلك عبدي الصالح يخرج من بطنه خروجَ
أدب، فأنعم عليه بالعلم والمعرفة، وأبرد عليه نيران الكفرة، (ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان) الآية.
وكما أن موسى خرج خروج هرَب خائفاً يترقب، وكذلك العبد يخرج من
الدنيا خروجَ مَنْ يهرب من الشيطان كيوم يسمعون الصيحة بالحق.
وكما آنست موسى بابْنَةِ شعيب في دارِ غربة، كذلك أونسك في القبر وأريك مقامك من الجنة.
وكما أن لوطاً خرج خروج طرب، فسرى بأهله، كذلك العَبْد يخرج من القَبْر خروجَ طرب، لأنه يخرج لإيمانه الذي كان يرتجيه ولحفظته الذين كانوا
يؤنسونه، وكما أنجيت لوطاً وقومه من العذاب كذلك أنجي المؤمنين وأعذّب
الكافرين.
(نَكِير) .: مصدر بمعنى الإنكار.
(نبّئ عبادي) .
الآية فيها ترجية وتخويف، وقد قدمنا سر (الغفور الرحيم) ، و (العذاب الأليم) ، فرجاء الخلق إلى نفسه، وخوفهم من عذابه.
(نصيبكَ مِنَ الدّنيا) .
أي حظَّك فيها.
واختلف ما المراد بهذا الحظّ، فقيل: حظّه منها ما يَعْمَل فيها من الخير.
فالكلام على هذا وعظ.
وقيل التمتّع بها مع عَمَله للآخرة، فهو على هذا إباحةٌ
للتمتع بالدنيا لئلا يَنْفِرَ عن قبول الموعظة.
ومنه الحديث: اعمَلْ لدنياك كأنك تعيش أَبداً ولأخراك كأنك تموت غداً.
وفي الحديت أيضاً: العاقل لا يُرَى مشتغلاً إلا في دِرهم لمعاشه، وعمل لمعاده.
(ناديكم) : مجلسكم.
والمراد بهم قوم لوط، لإذايتهم الناس بأقوالهم وأفعالهم.
(نَسْلَخ منه النهار) ، أي نجرده منه، وهو استعارة.(2/550)
(ننكِّسْه) : نردّه.
(نَحِسات) : معناه من النحس، وهو ضدّ السعد.
وقيل شديدة البرد.
وقيل متتابعة.
والأول أرجح.
وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء.
وقرئ بإسكان الحاء وكسرها، فأما الكسر فجَمْع نحس، وهو صفة.
وأما الإسكان فتخفيف من الكسر، أو صفة على وزن فعل، أو وصف بالمصدر.
وفي الحديث: آخِر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.
(نَعْمَةٍ) - بفتح النون: هي النفع العاري من كلّ ضرر
يوازيه، ويدعى عليه، يقال أنعم عليه فلان، وأنعم الله على فلان: إذا فعل به ما لا يتعقبه ضرر وهلاك، ولا يقال أنعم عليه وإنْ نفعه في الحال.
(نَسْتَنْسِخ ما كنْتم تَعْمَلون) : أي نأمر الحفَظَة بكتابة أعمالكم.
وقيل: إن الله يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ، ثم
يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك، فتكتبها أيضاً الملائكة.
فذلك هو الاستنساخ.
وكان ابن عباس يحتجُّ على ذلك بأن يقولَ: لا يكون الاستنساخ إلا من
أصل.
وفائدة كتب الحفظة الاحتجاج عليهم في الآخرة، كما صح أنَّ بعض
العباد ينكر كتبها عليه، فيُنْطق الله جوارحَه بتصديقهم.
وفي الحديث: إن الحفظة تصعد بعمل العبد، ويقابلونه باللوح المحفوظ.
فيجدونه سواء، وتكتب عليه سيئة فلا يجدونها فيخجلون من ذلك، ويقول الله:
قد بلغت ندامة قلبه واستغفاره إليَّ قبل صعودكما، فذلك قوله تعالى:
(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) .
(نَقَّبوا في البِلاد) ، أي طافوا فيها، وأصله دخولها من أنقابها، ومن التنقيب عن الأمر، بمعنى البَحْث عنه.(2/551)
(نجم) : مشتق من التنجيم، وهو جِنْس.
واختلف ما المراد بقوله: (والنجم) ، فقيل: هو الثريا، لأنه غلب عليها التسمية بالنجم.
ومعنى هَوَى غرب أو انْتَثر يوم القيامة.
الثاني أنه جنس النجم.
ومعنى هوى انقضّ برَجمْ الشياطين.
وقيل: إنه من نجوم القرآن، وهوى على هذا معناه نزل.
وأما (النَّجْم الثّاقب) فهو من أسمائه عليه الصلاة والسلام.
وقيل: زحل، لأنه أرفع النجوم، إذ هو في السماء السابعة.
(نَذِير من النُّذُرِ الأولى) :
قد قدمنا أن النذير هو المخبر، والمراد به القرآن.
والنّذُر الأولى: من نوعها وصفتها.
(النجم والشَّجَر) :
قال ابن عباس: هو النبات الذي لا ساق له، كالبقول.
والشجر: الذي له ساق.
وقيل: النجم: جنْسُ نجوم السماء.
والسجود عبارة عن التذلّل والانقياد، وقيل سجود النجم غروبه، وسجود
الشجر بظلّه.
(نَضَّاختان) ، أى يفوران بالماء.
والمراد بهما العينان الجاريتان.
وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين أدنى من أوصاف الجنتين
السابقتين، لأنه قال فيهما: (عَيْنَان تجريان) .
وقال في الأخْرَيَيْن: (عَيْنَان نضّاخَتان) .
والجَرْي أشد من النَّضْخ.
وقال: (فيهما من كل فاكهةٍ زَوْجان) .
وقال هناك: (فيهما فاكهة ونَخْلٌ ورمان) .
وكذلك صفات الحُور هنا أبلغ من صفاتها هناك، وكذلك صفات البسط.
ويفسرُ ذلك قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما".(2/552)
(النشأةَ الأولى) :
هذه الحياة، والنشأة الأخرى البعث من القبور.
والمقصود بذكرها التنبية على أنَّ الله قادر على أن يبعثهم، ففيها تهديد
واحتجاج على البعث.
(نجوى) .: سرار، كقوله تعالى: (إذ هم نَجْوى) ، أي متناجون.
ومنه: (لا تتناجَوْا بالإثم والعُدْوان) .
(إنَّما النَّجْوَى مِنَ الشيطان) .
(نَصوحا) ، أي خالصة، من قولهم، عسل ناصح: إذا خلص من الشمع.
قال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح هي أن يتوب من الذّنْب، ثم لا يعود
إليه أبدا، ولا يريد أن يعود.
وقيل: هي أن تضيق على التائب الأرض بما رَحُبت، كتوْبة الثلاثة الذين
خُلّفوا.
وقال الزمخشري: وُصِفت التوبة بالنّصح على الإسناد المجازي، والنصح في
الحقيقة صفةُ التائبين، وهي أن ينصحوا بالتوبة.
وهي واجبة على كل مكلف بالكتاب والسنة والإجماع.
وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال، لا من
حيث أضرّ ببدن أو مال.
والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا تَوَانٍ.
وَالنية ألاَّ يعود إليه أبداً ومهما قضي عليه بالذنب أحدث عزماً مجدداً.
وآدَائها ثلاثة: الاعتراف بالذنب مقروناً بالانكسار.
والإكثار من التضرع والاستغفار.
والإكثار من الحسنات.
ومراتبها سبع: فَتوبة الكفار من الكفر.
وتوبة المخْلصين من الذنوب الكبائر.
وتوبة العدول من الصغائر.
وتوبة العابدين من الفترات.
وتوبة السالكين من علل(2/553)
القلوب والآفات.
وتوبة أهل الورع من الشبهات.
وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات.
والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب.
ورجاء الثَّوَاب.
والخَجَل من الحساب.
ومحبّة الحبيب.
ومراقبة الرقيب.
وتعظيم المقام.
وشكر الإنعام.
(نَفَرٌ من الجِنِّ) :
النفر ما بين الثلاث إلى العشرة.
وروي أنهم كانوا سبعة، وكانوا كلّهم ذكراناً، لأن النفر الرجال دون النساء، وكانوا من أهل نصّيبين.
وقيل: من أهل الجزيرة.
وقد قدمنا أنه رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعدّ لهم، واجتمع معهم.
وقيل: إنه لم يرهم، ولم يعلم باستماعهم، حتى أعلمه الله بذلك، ولعلها قضايا مختلفة، وقد وردت في ذلك أحاديث مضطربة.
وسبب اجتماعهم أنهم لما طرِدوا عن استراق السمع من السماء بِرَجْم النجوم
قالوا: ما هذا إلا لأمْرٍ حدث، فطافوا في الأرض ينظرون ما أوجب ذلك.
حتى سمعوا قراءتَه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر في سوق عكاظ، فاستمعوا إليه، وآمنوا.
(ناشئة الليل) :
قال ابن عباس: ناشئة الليل: قليل الليل - بالحبشية.
وقيل ساعاته كلّهن.
وقيل: ما بين المغرب والعشاء.
وقيل: القيام أول الليل بعد العشاء.
وقيل: النفس الناشئة بالليل، أي تنشأ من مضجعها، وتقوم للصلاة.
وقيل: الجماعة الناشئة الذين يقومون للصلاة.
وقيل: العبادة الناشئة بالليل.
وقيل: الناشئة القيام بعد النوم.
فمن قام أوَّل الليل من قبل أن ينام فلا يقال له: ناشئة.
(ناظرة) : بالظاء من النظر، ومنه: وجوه يومئذ ناظرة.
وبالضاد من التنعم، ومنه: (ناضرة) .
وأما: (نَظِرة إلى مَيسرة) ، فمعناه التأخير إلى حال اليُسْر.(2/554)
وهذه الآية نَصّ في رؤية مولانا جلّ وعزّ في الدار الآخرة، وهو مذهب أهل
السنة، خلافًا للمعتزلة.
وتأوّلوا ناظرة بمعنى منتظرة، وهذا باطل، لأن نظر
بمعنى انتظر يتعدّى بغير حرف جر، تقول نظرتك بمعنى انتظرتك.
وأما التعدي بإلى فهو من نظر العين.
ومنه قوله: (ومنهم مَنْ يَنْظُر إليك) .
وقال بعضهم: (إلى) هنا ليست بحرف جر، وإنما هي واحد
الآلاء بمعنى النعم، وهذا تكلف في غاية البُعْد.
وتأوَّلَه الزمخشري بأن معناه كقول الناس: فلان ناظر إلى فلان إذا كان يرتجيه، ويتعلق به. وهذا بعيد.
وقد جاءت أحاديث صحيحة في النظر إلى الله صريحة لا تحتمل التأويل.
فهي تفسير للآية، ولو لم تكن جائزة لم يسألها في الله موسى في قوله: (رب
أرِنِي أنظر إليك) .
(نخرَة) ، وناخرة بمعنى بالية مُتَفَتّتة، واستعظم الكفارُ
رجوعَهم في الآخرة بعد مصيرهم إلى هذا الوصف، ولم ينظروا في خلقتهم الأولى من العدم.
(نَمَارِقُ) :
وسائد، واحدها نمرقة ونمرقة.
(نَجْدَيْن) ، أي طريقي الخير والشر، فهو كقوله: (إنّا هَدَيْنَاه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كَفُوراً) .
(ناقَة اللهِ) :
منصوب بفعل مضمر، تقديره: احذروا ناقة الله، أو احفظوا.
والمراد بها ناقة صالح عليه السلام.
(نَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) .
أي لنحرقنّها بالنار، من قولك: سفعته النار، أو من الجذب والقَبْض على الشيء.
والآية في أبي جهل، أوعده الله إن لم يَنْتَهِ عن كفره وطُغْيانه أن يأخذَ بناصيته.
وهي مقدّم الرأس، فيُلْقي بها في النار.
وهذا كقوله تعالى: (فيُؤْخذ بالنَّوَاصي والأقدام) .(2/555)
وأكد (لنسفعا) باللّام والنون الخفيفة، وكتبت في المصحف بالألف مراعاةً
للوقف عليها.
ويظهر لي أنَّ الوعيد نفّذ عليه يوم بدْر، حين قُتل، وأخذ
بناصيته، وجُرَّ إلى القَلِيب.
ووصف ناصيته بالكذب تجوّزاً، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها.
والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمداً.
والمخطئ الذي يفعله من غير قصد.
(نَقْعاً) : يعني أنَّ الإبل حرّكْنَ الغُبار عند مَشْيِهنّ.
(نَفَّاثَات) :
النفث: شبه النفخ دون تفْل وريق.
قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: هو النفخ مع ريق.
وهذا النفث ضَرْب من السحر، وهو أن ينفث على عُقَد تُعْقَد في خيط أو نحوه على اسم المسحور، فيضره ذلك.
وحكى ابن عطية أنه حدّثه ثِقَةٌ أنه رأى ببلاد المغرب خيطاً أحمر قد عُقدت
فيه عقد على فُصْلاَن - وهي أولاد الإبل، فمنعت ذلك رضاعَ أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفَصِيل إلى أمه فرضع في الحين.
قال الزمخشري: إن في الاستعاذة من النفثة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستعاذ من مثل عملهن، وهو السحر ومن إثمهن في ذلك.
والآخر: أن يستعاذ من خداعهن الناس ومن خبثهن.
والثالث: أن يستعاذ مما يصيبه الله من الشر عند نَفْثهن.
والنفاثات بناء مبالغة، والموصوف محذوف، تقديره النساء النفاثات، أو
الجماعات النفاثات، أو النفوس النفاثات.
والأول أصح، لأنه رُوي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي، وكنَّ ساحرات سحرن وأبوهن سيدَنا ومولانا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وعقدنَ له إحدى عشرة عُقدة، فأنزل الله تعالى المعوّذتين إحدى
عشرة آية بعدد العُقَد، وشفا الله رسولهَ - صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لم عرف النفاثات بالألف واللام، ونَكر ما قبله، وهو غاسق وما
بعده - وهو حَاسِد، مع أن الجميع مستعاذٌ منه؟(2/556)
فالجواب أنه عرف النفاثات ليفيد العموم، لأن كل نفاثة شريرة، بخلاف
الفاسق والحاسد فإن شرَّهما في بعض دون بعض.
(نُسبحُ بحمدك ونُقَدِّسُ لك) :
هذا من اعتراف الملائكة والتزام التسبيح.
والتقدير: نسبح ملتبسين بحمدك، فهو في موضع الحال.
ويحتمل أن يكون الكاف في قوله (لك) مفعولاً، ودخلت عليها اللام، كقولك: ضربت لزيد، أو أن يكون المفعول محذوفاً، أي نُقَدِّسك على معنى نُنَزِّهك، أو نعظمك وتكون اللام في (لك) للتعليل، أي لأجلك، أو يكون التقدير نقدس أنفسنا أي نطهرها لك.
فإن قلت: الملائكة معصومون مطهرون من الرذائل، فما معنى هذا
الاعتراض في قولهم: (أتجعل فيها مَنْ يُفسد فيها) ؟
والجواب أنه ليس فيها اعتراض ولا افتخار ولا مِنّة بإظهارهم للتسبيح.
وإنما حملهم على هذا القول أنَّ الله أعلمهم أنْ يستخلفَ في الأرض مَنْ يعصيه، فاستبعدوا ذلك.
وقيل: كان في الأرض جِنٌّ، فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم.
فقاست الملائكة بني آدم عليهم.
(نُسُك) : ذبائح.
واحدها نسيكة.
(ننشزها) - بالراء: نحييها، وبالزاي: نرفعها للأحياء، مأخوذ من النشز، وهو المكان المرتفع العالي.
(نُمْلِي لهُمْ) ، أى نطيل لهم المدة، فليس فيه خير لهم، إنمِا هو استدراج ليكتسبوا الآثام.
(نُكفِّر عنكم سَيِّئَاتكم) :
وعد بغفران ذنوب هذه الأمة إذا اجتنبوا الكبائر.(2/557)
(نَصِيب ممَّا اكْتَسَبُوا) :
يعني من الأجر والحسنات.
وقيل من الميراث.
ويردّه لفظ الاكتساب.
وسببها أنَّ النساء قلن: ليْتَنا استَوَيْنَا مع الرجال في الميراث وشاركناهم في
الغَزْو، فنزلت نَهْياً عن ذلك، لأن في تمنيهن ردّا على حكم الشريعة، فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها.
(نُشُوزا) ، بالزاي، له معنيان: شر بين الرجل والمرأة
وارتفاع، ومنه: (انْشُزوا) ، أي قوموا من المكان.
قال تعالى: (وإن امرأةٌ خافَتْ من بَعْلِها نُشوزاً أو إعراضا ... ) .
الآية يفهم منها أنَّ الإعراض أخفّ من النشوز.
وقوله: (واللاتي تخَافون نُشُوزهنَّ) ، أي معصيتهن وتَعَاليهنّ عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج.
(نُصْليهم ناراً كلما نَضِجَتْ جلودُهم بَدّلْنَاهم جُلوداً غَيْرَها) .
أي نشويهم.
والضمير عائد على الذين كفروا.
وقيل: تُبدَّل لهم جلود بعد جلود أخرى دون نفوسهم، هي المعذبة.
وقيل تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار.
وقيل الجلود السرابيل، وهو بعيد.
(نُصُب) - بضم الصاد، مفرده نصاب: حجارة كان أهل الجاهلية يعظّمونها ويذبحون عليها.
وليست بالأصنام، لأن الأصنام مصوّرة، والنصب غير مصورة.
وهي الأنصاب.
والنصب - بفتح الصاد: العناء والتعب.
وقول أيوب: (مَسَّني الشيطان بِنُصْبٍ وعذاب) ، أي ببلاء وشر.
(نُرَدُّ على أعقابنا) ، أي نرجع من الهدَى إلى الضلال.
وأصلُه الرجوعُ على العَقِب في المشي، ثم استُعير في المعاني.
وهذه الجملة معطوفة على (أنَدْعُو) ، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ.
وقيل لكل - مَنْ لم يظفر بما يريد.(2/558)
(نُنَخيكَ بِبَدَنِك) ، أي نبعدك عما جرى لقومك من
الوصول إلى قَعْر البحر.
وقيل: نُلقيك على نَجْوَة من الأرض، أي على موضع مرتفع.
والباء في (بِبَدَنِك) للمصاحبة، والمراد به الجسد دون الروح.
وقيل: بدرعك، وكان الدرع من ذهب، يُعرف بها.
والمحذوف في موضع الحال.
(نُغَادِر) :
نترك، يقال: غادرني كذا، وأغدرته إذا خلَّفته.
ومنه سمي الغدير، لأنه ما تخلِّفه السيول.
(نُكْراً) ، أي منكراً، وهو أبلغ من قوله: (إمْرًا) .
ويجوز ضم الكاف وإسكانها.
(نُفِخَ في الصُّور) ، وهو القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل
يوم القيامة، كما جاء في الحديث: إنه على صورة جناح النحل، وينفخ فيه
إسرافيل نفختين: إحداها للصعق، والأخرى للقيام من القبور.
(نُزُلا) :
ما ييسَّر للضيف والقادم عند نزوله.
والمعنى أن لهم جهنم بدل النزل، كما أن الجنة نزل في قوله: (كانت لهم جنّات الفِرْدَوْس (نُزُلا) .
ويحتمل أن يكون النزل من النزول.
(نُنَبئُكم بالأخْسَرِين أعْمالاً) :
الآية في كفار العرب لقوله: (كفروا بآيات ربهم ولقائه) .
وقيل في الرهبان يتعبدون ويظنّون أنَّ عبادتهم
تنفعهم، وهي لا تُقبل منهم.
(نهى) : عقول، واحدتها نُهْية.
(نُعِيدكُم) ، أي بالدفن.
(نُخْرِجكم) ، أي بالبعث.
(نُحَرِّقَنَّه) ، أي بالنار، أو نبرده بالمبارد، على من قرأه بفتح النون وضم الراء.(2/559)
وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى، لأن
الذهب لا يَفْنَى بالإحراق بالنار.
والصحيح أنَّ المقصود بإحراقه بالنار إفساد صوررته، فيصحّ حَمْل قراءة
الجماعة عليْه.
(نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) .
استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل، يقال نكس فلان: إذا سقط من مكان وارتفعت رِجلاه، ونكس المريض إذا خرج من مرض ثم عاد إلى مثله.
والضمير يعود على قوم إبراهيم لمّا وجدوا الفأس معلّقاً في عُنق كبيرِ
أصنامهم فسألوه، فقال: (فَعله كَبِيرهم هذا) .
(نُشوراً) ، أي الحياة بعد الموت.
ومنه: (وإليه النّشور) .
(نمَكِّنْ لهم حرَماً آمِناً) :
هذا ردّ على قريش من اعتذارهم في تخطّف الناس لهم إنْ آمنوا.
والمعنى أنَّ الحرم لا تتعرض له العرب بقتالٍ، ولا يمكَن اللهُ أحداً من إهلاك أهله، فقد كانت العرب تغير بعضها على بعض، وأهل مكة آمنون من ذلك.
(نعَمِّركم ما يتَذَكَّر فيه مَنْ تذكَّر وجاءكم النذِير) :
هذا من قولِ الله لأهل النار القائلين: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) .
وهو قول أهل الطبقة الخامسة، لأنه صح أن أهل " الأولى " يقولون: يا
حنّان يا منّان، وهم العصاة من هذه الأمة، "
والثانية " تقول: (رَبَّنَا غلبت علينا شِقْوَتنا وكنّا قوماً ضَالّين) .
والثالثة " تنادي: (ربنا أخْرِجنا منها فإن عدْنَا فإنا ظالمون) .
والرابعة " تنادي: (رَبَّنَا أخِّرْنَا إلى أجل قريب نجِبْ دعوتك) .
والسادسة " تقول: ادعُ لنا ربَّك يخفّفْ عنا يوماً من العذاب) .
والسابعة تنادي: (يا مالك ليقض علينا ربُّك) .
فيجاوب كلّ أحدٍ بما يليق به، فهؤلاء قال لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .
وهو نبيُّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: الشيب، لأنه نذير بالموت.
والأوّل أظهر.(2/560)
وقد اطلع بعضهم يوماً في المرآة، فرأى الشيب في لحيته، فاعتزل أهلَه ومالَه
حتى لحق بالله.
وقد اختلف في حد التعمير، كم هو، وقد قدمنا أنه سبعون سنة للحديث.
وقيل البلوغ.
والأول أرجح.
(نحَاس) : دخان.
وقيل هو الصُّفْر يُذَاب ويصبّ على رؤوس أهْلِ الوقف.
وقرئ نحاس - بالرفع عطف على (شُوَاظ) .
وبالخفض عطف على نار.
(ن) :
حرف من حروف الهجاء.
وحكى الكرْمَاني في العجائب أن معناه اصنع ما شئت.
وقيل: إنه من حرف الرحمن، فإن حروف الرحمن في
الم وحم ون وقيل: إن (ن) هنا يراد به الحوت.
وزعموا أنه الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع.
وهذا لا يصحّ، على أن النون بمعنى الحوت معروف في
اللغة، ومنه (ذو النّون) .
وقيل: إن (ن) هنا يراد به الدواة.
وهذا غير معروف في اللغة، ويبطل قول مَنْ قال إنه الحوت أو الدواة بأنه إن كان كذلك لكان مُعْرباً بالرفع أو النصب أو الخفض، ولكان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليلٌ على أنه حرف هجاء، نحو: (الم) ، وغيره من حروف الهجاء الموقوفة.
(نقِر في النَّاقور) :
يعني النفخ في الصُّور.
ويحتمل أن يريد النفخةَ الأولى، أو الثانية.
(نسِفَتْ) : ذهب بها كلها بسرعة.
(النفوسُ زُوِّجَت) :
فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن التزويج بمعنى التنويع، لأن الأزواج هي الأنواع، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن.
والآخر زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم مع الْحُور العين.
والثالث زوجت الأرواح والأجساد، أي رُدَّت إليها بعد البعث.
والأول هو الراجح، لأنه مرويّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر بن الخطاب وابن عباس.(2/561)
(نِحْلَةً) :
أي عطية منكم لهن، أو عطية من الله.
وقيل معنى نحلة شِرْعة وديَانة، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهنَّ، أو على الحال من ضمير المخاطبين.
والمراد بهذا أنَّ المهور هبةٌ من الله تعالى للنساء والنفقة عليهن، وسببه - على
ما قيل - أن حواء لما أصاب آدم التعب في الحرث أخذت قبضةً من الزرع
وزرعته، فنبت شعيرا، فلما رأت تغيّر أفعالها وظهور نكالها اغتمت، فقال:
اغتممتِ لأجلنا ساعة لأرفع قدرك بأن أكلف الرجال هَمَّ النفقة عليكِ وكل
بناتك، وأمتحنهنّ بالمهر والنفقة عليكن، فمن اغتمت لأجله ساعة أنجاها من الغمّ دهراً طويلاً، فكيف من أغتم من خوف قطيعته سبعين سنة أو أكثر، كيف لا ينجيه منها.
(نَسْياً مَنْسِيّا) ، بفتح النون وكسرها: هو الشيء الحقير الذي
إذا الْقِي لم يلْتَفَتْ إليه.
(النُّون) :
على أوجه: اسم، وهي ضمير النسوة، نحو: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ) .
وحرف، وهي نوعان:
نون التوكيد، وهي خفيفة وثقيلة، نحو: (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا) .
و (لنسفَعاً) .
(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) .
ولم تقع الخفيفة في القرآن إلا في هذين الموضعين، وثالث في قراءة شاذة، وهي: "فإذا جاء وَعْدُ الآخرة لِنَسوءاً وجوهَكم".
ورابع في قراءة الحسن: "ألْقِياً في جهنم"، وذكره ابن جني في المحتسب.
ونون الوقاية، وتلحق ياء المتكلم المنصوبة بفعل: (فاعبدني) .
(ليحزنني) . أو حرف، نحو: (يا ليتني كنت معهم) .
(إنني أنا الله) .
والمجرورة بلدن، نحو: (من لدنِّي عُذْرا) .
أوْ مِن أوْ عَنْ، نحو: (ما أغنى عني) .
(وألقيت عليك محبةً مني) .
(التَّنوين) :
نون تثبت لفظاً لا خطا.
وأقسامه كثيرة.(2/562)
تنوين التمكين، وهو اللاّحق للأسماء العربة، نحو: (هدًى ورحمةً) .
(وإلى عاد أخاهم هوداً) .
(إنا أرسلنا نوحاً) .
وتنوين التنكير، وهو اللاحق لأسماء الأفعال، فَرْقاً بين معرفتها ونكرتها.
نحو التنوين اللاحق لـ (أُفٍّ) في قراءة مَنْ نَوَّنَه، و (هيهاتٍ) في قراءة مَنْ نوَّنها.
وتنوين المقابلة، وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم، نحو: مسلماتٍ مؤمناتٍ
قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحاتٍ.
وتنوين العِوَض، إما عن حرف آخر، نحو: فاعل المعتل، نحو: (والفجر
وليال) .
(ومن فوقهم غَوَاش) .
أو عن اسم مضاف إليه في كلّ وبعض وأي، نحو:
(كلَّّ في فلك) .
(فضلنا بعضهم على بعض) ، (أيّا مَّا تدْعوا) .
أو عن الجملة المضاف إليها إذ، نحو: (وأنتم حينئذٍ تَنْطرون) ، أي حين إذ
بلغت الروح الحلقوم.
وإذا على ما تقدم عن شيخنا، ومَنْ نَحَا نحوه: (وإنكم إذاً لمن الْمقَرَّبين) ، أي إذا غلبتم.
وتنوين الفواصل الذي يسمى في غير القرآن الترنُّم، بدلاً من حرف
الإطلاق، ويكون في الاسم والفعل والحرف.
وخرَّجَ عليه الزمخشري وغيره:
(قواريراً) .
(والليل إذا يَسْر) .
(كلا سيكفرون) ، بتنوين الثلاثة.
***
(نَعَمْ) :
حرف جواب، فتكون تصديقا للْمخْبر، ووَعْدا للطالب، وإعلاما
للمستخبر.
وإبدال عينها حاءً وكسرها وإتباع النون لها في الكسر لغاتٌ قرئ
بها.
***
(نِعْمَ) :
فعل لإنشاء المدح لا يتصرف.(2/563)
(حَرف الصاد المهمَلة)
(صالح عليه السلام) :
قال وهب: هو ابن عبيد بن هاير بن ثمود بن حاير بن سام بن نوح، بُعِثَ إلى قومه حين راهق الحلم، وكان رجلاً أحمر إلى
البياض، سبط الشعر، فلبث فيهم أربعين سنة.
وقال نوف البكَالي: صالح من العرب لما أهلك الله عاداً عمرت ثموداً بعدها.
فبعث الله صالحاً غلاماً شابًّا، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكَبر، ولم يكن بين
نوح وإبراهيم نبيء إلا هود وصالح، أخرجه في المستدرك.
وقال ابن حجر وغيره: القرآن يدلُّ على أنَّ ثموداً كان بعد عاد، كما كان
عاد بعد قوم نوح.
وقال الثعلبي - ونقله عنه النووي في تهذيبه ومن خطه نقلت: هو صالح بن
عبيد بن آسف بن ماشح بن عبيد بن هاذر بن ثمود بن عاد بن عوض بن آدم
ابن سام بن نوح، بعثه الله إلى قومه وكانوا عَرَباً منازئهم بين الحجاز والشام.
فأقام فيهم عشرين سنة، وأقام بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
(صلاة) :
تأتي على أوجه:
الصلوات الخمس: (يقيمون الصلاة) .
وصلاة العصر: (تحبسونهما من بعد الصلاة) .
وصلاة الجمعة: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) .
والجنازة: (ولا تصَلّ على أحدٍ منهم) .
والدعاء: (وصلّ عليهم) .
والدين: (أصَلاَتكَ تَأمرك) .
والقراء ة: (ولا تَجْهَر بصلاَتك) .
والرحمة والاستغفار: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) .(2/564)
ومواضع الصلاة: (وصلوات ومساجد) .
قال الجواليقي: هي بالعبرانية كنائس اليهود، وأصلها صَلُوتا.
(صَيِّبٍ) : المطر.
وأصله صَيْوب، ووزنه فيعل، وهو مشتق من قولك: صاب يَصوب.
وقوله: (أو كصيب من السماء) ، فهو عطف على (الذي استوقد) .
والتقدير أو كصاحب صّيب.
وأو للتنويع، لأن هذا مثَل آخر ضربه الله للمنافقين.
وفي قوله: من السماء - إشارة إلى قوته وشدة انْصِبَابه.
قال ابن مسعود: إن رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا
المطر، وأيْقَنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحَسنَ إسلامهما، فضرب اللَّهُ ما نزل بهما مثلاً للمنافقين.
وقيل المعنى: تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خَوْفهم على أنفسهم بمن
أصابه مطَر فيه ظلمات ورَعْد وبَرْق، فضلَّ عن الطريق، وخاف الهلاك.
وهذا التشبيه على الجملة.
وقيل: إن التشبيه على التفصيل، فالمطر مثل القرآن أو الإسلام، والظلمات
مَثَلٌ لما فيه من البراهين الواضحة.
فإن قيل: لم قال: رعد وبرق بالإفراد، ولم يجمعهما كما جمع ظلمات؟
فالجواب أنَّ الرعد والبرق مصدران، والمصدر لا يجمع.
ويحتمل أن يكونا اسمين، وترك جعهما لأنهما في الأصل مَصْدران.
(صَوَاعق) :
جمع صاعقة، وهي كلّ عذابِ مهلك.
ومنه (يَجْعَلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق) ، أي من أجل الصواَعق.
قال ابن مسعود: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآنَ في مجلسه - صلى الله عليه وسلم -، فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهونه من القرآن، والموت هو ما يتحقق فَوْته، فهما مجازان.
وقيل: إنه راجع إلى أصحاب المطر المشبَّه بهم، فهو حقيقة فيهم.(2/565)
والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون مع المطر من شدة الرعد ونزول قطعة نار، والموت أيضاً حقيقة.
وقيل: إنه راجع إلى المنافقين على وَجْه التشبيه لهم في خوفهم، بمن جعل
أصابعَه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد.
فإن قيل: لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم، والأنامل هي التي تجعل في
الأذن؟
فالجواب أن ذكر الأصابع أبْلغ، لأنها أعظم من الأنامل، ولذلك جمعها مع
أن الذي يجعل في الأذن السبابة خاصة.
(صابئين) : خارجين من دِين إلى دين.
يقال: صَبَأ فلان إذا خرج من دِينه إلى دِين آخر، وصبأت النجوم خرجت من مطالعها، وصبأ نَابه: خرج.
قال قتادة: الأديان ستة، واحد للرحمن، وخمسة للشيطان.
الصابئون يعبدون الملائكة، ويُصَلّون إلى القبلة، ويقرأون الزّبور.
والمجوس يعبدون الشمس والقمر.
والذين أشركوا يعبدون الأوثان.
واليهود والنصارى معلوم دينهما.
(صَفْراء) :
من الصفرة المعروفة، ومنه: (جِمَالات صفْر) .
وقيل سودا. وهو بعيد.
والظاهر صفراء كلها.
وقيل: القَرْن والظّلْف فقط، وهو بعيد.
(الصَّفا والْمَرْوَة) :
جبلان صغيران بمكلة السعْيُ بينهما
واجبٌ عند مالك والشافعي رضي الله عنهما.
فإن قلت: لم جيء في الآية بلفظ يقتضي الإباحة، وهو قوله: (فلا جُنَاحَ
عليه أن يطَّوَّفَ بهما) ؟
والجواب أن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما، لأنه كان في الجاهلية(2/566)
صنم، يقال له إسَاف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيما للصنمين، فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك.
فإن قلت: مِنْ أين يؤخذ وجوبُ السعي؟
فالجواب أنه واجب بالسنة، لقول عائشة: أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعيَ بين الصفا والمروة، وليْس لأحد تَرْكه.
وقيل: إن الوجوبَ يُؤخذ من قوله: (شَعَائِر الله) .
وهذا ضعيف، لأن شعائر الله منها واجبة، ومنها مندوبة.
وقد أخذ بعضهم من الآية نَدْبَ السعي بينهما.
(الصَّلاَة الوُسْطى) ، على القول بأنها الظهر أو الجمعة، لأنها في وسط النهَار، أو لفَضْلها، من الوسط وهي الخيار.
وسُمّيت وُسْطى لتوسّطها في عدد الركعات على القول بأنها المغرب، لأنها بين الركعتين والأربع، ولتوسّط وقْتِها على القول بأنها الصبح لأنها متوسطة بين الليل والنهار.
وإنما أجرى ذكرها بعد دخولها في الصلوات وأخفاها للاعتناء بها.
وبالجملة ما مِنْ صلاة إلا وقيل فيها وسطى.
(صَفْوان) :
حجركبير أملس.
وهو اسمٌ واحد معناه جمع، واحدتها صفوانة.
(صَلْدا) : أملس.
وهذا تمثيل للذي يمنُّ ويُؤْذي بالذي يُنفقه رياء، وهو غير مؤمن، كحجر عليه تراب فيظنّه مَنْ يراه أرضاً مُنْبِتة طيبة، فإذا نزل عليها المطر انكشف التراب، فبقي الْحَجَرُ لا منفعةَ فيه، فكِذلك المرَائي يظنّ أن له أجراً، فإذا كان يوم القيامة انكشف سِرُّه ولم تنفعه نفقته.
(صَدُقَاتِهنَّ) :
أي مهورهنّ، يُؤْمر الزوج بإعطائها ذلك، واحدتها صَدُقة -(2/567)
(صَعِيدا) :
وجه الأرض عند مالك، كان تراباً أو رملاً أو حجارة، فأجاز التيمم بذلك كله.
وعند الشافعي التراب لا غير.
واختلف في التيمم بالذهب والملح، وبالآجر والجص المطبوخ، وبالجدار وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد.
(صَيْد) :
كلّ ما كان ممتنعأ ولم يكن له مالك، وكان حلالا أصْله، فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال فهو صَيْد.
(صدَف عَنْها) ، أي أعرض عن آيات الله.
(صَغَار) : أشد الضر، وهو الذل.
(صَديد) : قيح ودم.
(صَوْم) ، أصله في اللغة الإمساك مطلقاً، ثم استُعْمل في
الشرع في الإمساك عن الطعام والشراب.
وقد جاء بمعنى الصّمْت في قول مريم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) .
وقيل تعني الصيام، لأن مِنْ شَرْطِهِ في شريعتهم الصمت، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام مع المتهمين لها، ولأنّ عيسى تكلَّم عنها وأخبرها بأنها نذَرَت الصمْتَ، ولا يجوزُ في شريعتنا نذْر الصمت.
وانظر ما أثمر الصمت لها من تبرئتها على لسان ولدها بقوله: (إني عبد الله)
ألهمه الله بذلك، لأنه علم أن بعض الكفَّار سيقولون ما ليس لهم به علم، كما قال: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) .
وقال: (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) ، فهذه حجَّتُه عليهم إلى يوم القيامة بقول الله:
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ... إلى قوله: (أن اعبدوا اللَهَ رَبّي وربكم) ، وقد قلت في الأولى: (إني عبد الله) .
وقد كان امتحان عيسى متصلاً بمحنة أمِّه، كما كان امتحان يوسف متصلاً
بامتحان أبيه، لأن الله تعالى قال: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) .
فقيل لها: يا مريم، إن كنت صادقةً في دَعْواك فاصْبِري على
المحنة، فنفخ جبريل في جَيْبِها، فقالت: (إني أعوذُ بالرحمن منك) .(2/568)
قال تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) .
أي قبل أن ترفع الواسطة بيني وبين حبيبي، فقيل لها في سِرّ: إنه دَعْواك، حيث قلتِ: إنه من عند الله.
كذلك امتحن يوسف بمحنة أبيه يعقوب، فكان في الأمر ما كان، لأنه قال:
(لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) ، إذ عاقبه (1) ، فلما قيل له: بلغت المحنة غايتها قال: (إنما أشْكو بَثِّي وحزْني إلى الله) ، أي دعواك حين قلت: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) .
كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع قولَ الكفار في رَبّه ضاق صَدْره، فأنزل الله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) .
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) .
ولو قالوا ما قالوا من الجنون والسحر، فأنا أجبْتُ شانئك عنك بقولي: (هَمّاز مَشَّاء بنَميم) ، أي شانئك هو الأَبْتر.
كذلك قصة مريم في قولها: (إني نذرْت للرحْمَن صوما) ، قالوا: هذا أنكر
وأعظم، فإن من عرف ربَّه كَلَّ لسانه، فأشارت إليه، فأجاب الله عنها على
لسان ولدها.
كذلك المؤمن أمره اللَّهُ تعالى بالسكون، وترك الخصومة عمن ظلمه حتى
يتولّى الجوابَ الملأ الوهَّاب، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) .
وفي الحديث: إذا أراد الله أن يرفع درجةَ عبدٍ قيَّض اللَّهُ له مَنْ يظلمه.
وحكي أن وزيراً ظلم بعْضَ الرعية في أخذ جِنَان له طلب بَيْعه منه، فأبى، فقال له: إنِّي آخذه منك.
فقال له: أشكوك إلى الملك.
فقال له: إن بيني وبينه صرفةً، قال: أشكوك إلى ربك.
فلما لقيه بعد مدة قال له: ما قال لكَ الذي شكوْتَ له، قال: قال لي: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية.
فارتعدت فرائص الوزير، ونزل من سرْجه، فقبَّل يده، وطلب منه العفو.
هذا شأن مَنْ عرفه ووله في عظمته وتفكره في كلامه، بخلاف ما نحن عليه
__________
(1) التعبير بالعقوبة في حق الأنبياء والمرسلين فيه بشاعة، والأولى مراعاة الأدب معهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(2/569)
من ظلم أنفسنا.
ما أرى بصائرنا إلا عميَتْ عن مشاهدة مشاهدِ القوم إذا
أشخصت لنا الصفات منهم شخصاً هرب، كأننا ضِدّان لا نجتمع.
اللهم أَقلْ عثراتنا، وارحم ضراعتنا، ولا تؤاخدنا بأفعالنا، لأنا علمنا أنك
عفوٌّ تحبُّ العفو، فاعْف عنا بجاهِ سيدنا ومولانا ومنقذنا من الهول العظيم صلى اللَه عليه وعلى آله أفضل صلاة وأزكى تسليم.
(صَفًّا) :
ذكر فيه أبو عبيدة وجهين:
الصف الذي يصلّى فيه، كما قال بعضهم: ما استطعت أن آتي الصف اليوم.
وصفوف الناس كما قال: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) .
وأما قوله تعالى: (إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صَفًّا) ، فقد قدمنا أنه ليس المراد به نفس التصافّ، وإنما المقصود به
الثبوت والجدّ في القتال، خلافاً لمن قال: إن قتال الرجالة أفضل مِنْ قتال
الفرسان، لأن التراصّ فيه يمكن أكثر مما يمكن للفرسان.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، خَفي على قائله مقصد الآية.
(صَفًّا صَفًّا) : مستوى من الأرض أملس لا نبات فيه.
(صَوَافَّ) : معناه قائمات قد صفَفْنَ أيديهن وأرجلهن، وهو
منصوب على الحال من الضمير المجرور، ووزنُه فواعل، وواحده صافة.
وقرئ صوافي، أي خوالص لا يشركون في نحرها أو في التسمية على نحرها.
(صَوَامع) :
منازل الرهبان، جمع صَوْمَعة - بفتح الميم - وهي موضع العبادة، وكانت للصابئين.
وسمي بها في الإسلام موضع الأذان.
والمعنى لولا دفاع الله لاستولى الكفَّار عليها.
فإن قلت: قد استولى الكفَّار عليها فهدَمُوها وخرَّبوا المساجد؟
فالجواب أن ذلك بذنوب أهلها، وما اجترحوا فيها من المعاصي، لأن الله
وعد بنصر مَنْ ينصرُ دِينه في مواضع من كتابه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) .
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) .(2/570)
(صَرْفاً ولا نَصْراً) .، أي حيلة ولا نصرة.
يعني أنهم لا يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم عذاب الله.
والصرفُ والمنعُ والحيلولة بمعنى واحد.
ومنه قوله تعالى: (وحِيْلَ بينَهم وبيْنَ ما يشْتَهُون) ، ويحتمل على
هذا أن يكون الخطابُ للمشركين أو المعبودين.
والصرف على هذين الوجهين صرف العذابِ عنهم.
أو يكون الخطاب للمسلمين، والصرف على هذا ردّ التكذيب.
(صَرْح) ، أي قصر.
وقيل صَحْن الدار، وإنما صنع سليمانُ هذا الصَّرْح لأنَّ الجن كرهوا تزوّج سليمان لبلقيس، فقالوا له: إن عقلها مخبول، وإن رِجْلها كحافر الحمار، فاختبر عقلها بتنكير العرش، فوجدها عاقلةً، لأنها قالت: (كأنه هو) ، ولم تَقُل نعم، لأنها تغيَّر عليها أمره، ولم تقل لا، لأنها كانت
ترى بَعْضَ علاماته.
ثم أمر بأن يتخذوا قَصْراً من زجاج، ويحفروا حولَه نهراً، ويجعلوا فيه السمك والضفادع، وأمر بأن يتَّخِذوا على الماء قنطرة من زجاج، ففعلوا ما أمروا، ثم أمرها أنْ تدخل الصرح، فعزمت على الدخول، فرأت
الزجاج على الماء، فحسبته لُجَّة وكشفت عن ساقَيْها، فرأى سليمان أنها ليس فيها شيء من العيوب والْمَنْقصة، وأسلمت فتزوّجها سليمان، وكان يأتيها في كل شهر مرة.
(صيَاصِيهم) : حصونهم.
وصَيَاصِي البقَر قرونها، لأنها تمنع بها وتدفع عن أنفسها، وصيصاء الديك: شَوْكاته، ونزلت الآية في يهود بني قُريظة، وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَقَضُوا عَهْده، وصاروا مع
قريش، فلما انصرفت قريش عن المدينة حصرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكم سَعْد بن معاذ، فحكم بأن يُقْتَل رجالهم، وتسْبَى نساؤهم، وذَرَاريهم.
(صَرِيخ) : هو المغيث والْمنقذ، من الغرق.
(صديق) : مَنْ صدقك محبته، وآثرك على نفسه، وهو
أقلّ من القليل.
وفي قوله تعالى: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) .
إشارةٌ إلى كثرة الشفعاء في العادة وقلَّة الأصدقاء.(2/571)
(صَافَّات) :
اختلف فيها، فقيل هي الملائكة التي تصفّ في
السماء صفوفاً لعبادة الله.
وقيل: هي مَنْ يصف مِنْ بني آدم في الصلاة والجهاد
والأول أرجح، لقوله عن الملائكة: (وإنا لنحن الصافّون) .
وأما قوله: (والطير صافَّات) فمعناه أنهن يصففن
أَجْنِحتهنّ في الهواء.
(صافِنَات) :
جمع صافن، وهو الفرس الذي يرفع إحدى
يدَيْه أو رِجْليه، ويقف على طرف الآخر.
وقيل: الصافن هو الذي يسوّي يديه.
والصفَن علامة على فراهة الفرس والجياد السريعة الجَرْي.
واختلف الناس في قصص هذه الآية.
فقال الجمهور: إنَّ سليمانَ عليه السلام عرضت عليه خَيْلٌ كان وَرثها عن أبيه.
وقيل: أخرجتها له الشياطين من البَحْر، وكانت ذوات أجنحة، وكانت ألف فرس، وقيل أكثر، فتشاغل بالنظر إليها
حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشيِّ، وقيل العصر، فأسف لذلك، وقال: ردّوا عليَّ الخيل، فطفق يضرب أعناقَهها وعراقيبها بالسيف حتى عَقَرها (1) لمّا كانت سبباً لفَوت الصلاة، ولم يترك منها إلا اليسير، فأبدله الله أسرعَ منها وهي الريح.
فإن قلت: تفويتُ الصلاة ذَنْبٌ لا يفعله سليمان، وعقْر الخيل لغير فائدة لا
يجوز، فكيف يفعله سليمان، وأي ذنْب للخيل في تفويت الصلاة؟
فالجواب: إنما عقرها لمجاعةٍ كانت بالناس، فتقرَّب بها إلى الله في إطعامهم
لها، لا سما على قول: إنه لم تَفتْه صلاة، ولا عقر الخيل، بل كان يصلّي
فعرضت عليه الخيل، فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها، فلما فرغ من الصلاة قال: ردّوها عليَّ فطفق يمسح عليها بيده كرامةً ومحبةً.
وقيل المسح عليها إنما كان وَسْماً في سُوقها وأعناقها، للحبس في سبيل الله.
وقد حكي أنَّ عبد الله بن المبارك فاتَتْه تكبيرة الإحرام مع الإمام بسبب بيْع
باعَهُ، فربح فيه ألْفَ دينار، فتصدَّق بها عسى أن يكون كفَّارةً لتلك التكبيرة.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.(2/572)
فاقْتَدِ أيها المسكين بتأسُّفك على ما فاتك من أوقاتك في المخالفة، ولا
يشغلك شاغلٌ عن الطاعة بجهد الاستطاعة، فإن سليمان أنعم الله عليه بأنواع
النعم، ولم يعاتبه باشتغاله لقوله: (هذا مِنْ فَضْل رَبِّي) .
ويوسف أعطاه الله الْمُلك ولم يُعاتبه على اشتغاله به، لأنه قال: (هذا من فضل الله علينا) .
وقال في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وكان فضل الله عليك عظيما) .
ولم يأذَن له في نظرة واحدة إلى الدنيا غيرةً منه عليه، فقال: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، فأظهر أن
فضله عليه في المنع أفضل منه في العطاء، وكذلك قال لأمّته: (قلْ بِفَضْلِ الله
وبرحمته فبذلك فلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مما يَجْمَعون) .
وروي أن وجوهَ هذه الأمة تُحْشَر يوم القيامة كالكوكب الدرِّيِّ، فتقول
الملائكة: ما عملكم في الدنيا، فيقولون: كُنَّا إذا سمعنا الأذان قُمْنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها، ثم تحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال: كُنَّا نتوضأ قبل الوقت.
ثم تُحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال: كنا
نسمع الأذان في المسجد.
وروي أن السلف كانوا يعزُّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتَتْهم التكبيرة الأولى
ويعزُّون سبعاً إذا فاتتهم الجماعة.
وحكي أنه كان شدّاد بن حكيم البلخي الحاكم يمرُّ يوماً بمسجد من مساجد
البلخي ومؤذّنه يؤذّن وبحذاء هذا المسجد حانوت رجل معدل، فلما فرغ المؤذّن من الأذان اشتغل ذلك المعدِّل بجمع المتاع الذي بين يديه، ثم خرج إلى الصلاة، فلما كان في الغد جاء المعدّل وشهد على رجل بحق، فرد شهادته وقال: إنك مستَخِفّ بأمر الصلاة حيث استقبلت أولاً إلى رفع الأمتعة التي بين يديك بعد الأذان، ثم خرجت إلى الصلاة.
ذكره في الإحياء.
(صَرْصر) : أحد رياح العقوبة، وثانيها العقيم، وثالثها القاصف، كما قال تعالى: (فيرسل عليكم قَاصِفا) ، وهذه الرياح تهبّ في البحر دون البر برحمةِ الله، إلاَ مَنْ أراد الله هلاكه بها.
ورياح الرحمة ثلاث: منشرات، كقوله تعالى: (والنَّاشِرات نَشْراً) .(2/573)
والمبشرة، كقوله: (مبَشرات) .
والثالث الذاريات.
فهذه رياح الرحمة تهبُّ على كل شيء في الدنيا.
وقيل ثلاث رياح تهب من الجنة.
الجنوب، والشمال، والصبا. ومنها خلق الله الفرس، وبها نصر الله نبيَّه، قال - صلى الله عليه وسلم -:
"نصرت بالصبا، وأهلكت عادٌ بالدّبور"
وريح الصبا ريح مباركة تهبُّ من قِبَل الكعبة وقْتَ الأسحار، وتحملُ الأنين والاستغفار إلى الملك الجبار، وهي الريح التي أوصلت ريحَ يوسف إلى يعقوب حيث قال: (إني لأجِد ريح يوسف) ، ولهذا قال أبو علي الدقاق: والريح رسول العشاق.
(صَفْحا) : مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال.
ومعناه على هذا: أنمسك عنكم الذكرَ عَفْواً عنكم وغفراناً لذنوبكم، أو مصدر من المعنى، أو مفعول من أجله، تقول: صفحت عنه إذا أعرضْت عنه، كأنه قال: أنتركُ تَذْكيرا إعراضاً عنكم.
(صَرَّةٍ) .
من صَرّ القلم وغيره إذا عوّت.
وقيل معناه في جماعة النساء، يعني أن امرأة إبراهيم صاحت بقولها: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ، فاستغربت من ولادة العجوز، ولذلك: (صَكَّتْ وجْهَها) ، أي غَطَّتْه حياءً من المبشرين لها، أو تعجُّباً من وِلادتها.
(صَلْصال) : قد قدمنا أنه الطين اليابس الذي يُصَلْصِل.
أي يصوت وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار.
ويقال الصلصال الْمُنْتِن، مأخوذ من صلّ اللحم وأصلّ: إذا أنتن، فكأنه أراد صلالاً، فقلبت أحد اللامين، وفيه إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحر، وذلك أنَّ الله خلقه من طيّب، وخبيث، ومختلف اللون، مرة ذكر في خلقه هذا ومرة هذا.
(صَغَتْ قلوبكما) ، أي مالت عن الصواب.
وقرأ ابن مسعود بالزاي.
والمعنى: إن تَتُوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة.
وهذا الخطاب لعائشة وحفصة مما جرى من تسببهما في تحريم رسول الله الجارية أو العَسَل الذي تقدم ذكرهما.(2/574)
(صَرِيم) : ليل، يعني أنهم حلفوا أنْ يقطعوا غَلَّة جَنَّتِهم عند
الصباح، فأصبحت كالليل، لأنها اسودَّتْ لِمَا أصابها.
وقيل: أصبحت كالنهار، لأنها ابيضَّت كالحَصِيد.
ويقال صريم لليل والنهار.
وقيل الصريم: الرماد الأسود، بلغة بعض العرب.
وقيل: أصبحت مصرومة، أي مقطوعة.
(صارِمين) ، أي حاصدين لثمرها.
(صَعَداً) : شاقا، يقال تصعَّدني الأمر: أي شقّ عليَّ، ومنه
قول عمر رضي الله عنه: ما تصعَّدني شيء ما تصعَّدَتْني خطبة النكاح.
ومنه: (سارْهِقه صَعودا) ، أي عقبةً شاقّة، يعني أن الوليد بن المغيرة يكلّف أن يصعد جبلا في النار من صَخْرة ملساء، فإذا صعد أعلاها لم يزل أن يتنفّس وجُذِب إلى أسفلها، ثم يكلف مثل ذلك.
(صَوَابا) : إصابة المراد.
ويقال في - المثل: أصاب الصواب.
ومنه: رُخاءً حيث أصاب.
وقد يعبَّر بالصواب عن الحق، فيقال: هذا صواب، أي حق، فكلّ مصيب فحِقّ وبالعكس.
(صاخَّة) : من أسماء القيامة، وهي مشتقّة من قولك: صخّ
الآذان إذا أصمها بشدة إِصْخاخها، فكأنه إشارة إلى النفخ في الصور، أو إلى
شدة الصوت حتى يَصخّ مَنْ يسمعه لصعوبته.
وقيل: هي من قولك أصاخ للحديث إذا استمعه والأول هو الموافق للاشتقاق.
(صَدَقة) :
تنطلق على الزكاة الواجبة، وعلى التطوّع: (إن الْمصَّدقين والْمصدِّقَات) - بالتشديد، أي المتصدقين والمتصدقات.
وأما قوله تعالى: (إنكَ لن الْمصَدِّقين) - بالتخفيف - فهو من التصديق.
(صَدّ) :
له معنيان: بالتعدي بمعنى منع غيره من شيء، ومصدره صَدًّا، ومضارعه بالضم.
وغيره بمعنى أعرض، ومصدره صدودا.(2/575)
(صار) : له معنيان: من الانتقال، ومنه: (تَصِير الأمور) ، والمصير.
وبمعنى ضَمّ، ومضارعه يصور، ومنه (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) .
(صَمَد) : هو الذي يُلْجأ إليه في الحوائج، ليس فوقه أحد.
وقيل: إنه الذي لا يأكل ولا يشرب لفوله: (وهو يُطْعِمُ ولا يُطعَم) .
وقيل: إنه الذي لا جَوْفَ له.
والأول هو المراد.
ورجَّحه ابن عطية، فإن الله هو موجد الوجودات
وبه قوامها، فهي مفتقرة إليه، إذ لا تقومُ بأنفسها وحيثما ورد في القرآن فنفى الولد عنه، كقوله في مريم: (قالوا اتخذ الرحمن ولداً) ، ثم أعقبه
بقوله: (إنْ كلّ مَنْ في السماوات والأرض إلاَّ آتِي الرحمنَ عَبداً) .
وقوله: (بَدِيع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد) .
(قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بَلْ له ما في السماوات والأرض) ، وكذلك في الإخلاص ذكره مع قوله: (لم يَلِد) ، ليكون برهاناً على نفْيِ الولد.
(صُرْهُنَّ) : بالنبطية فشققهن.
وأخرج ابن المنذر عن وهب بن وهب قال: ما في اللغة شيء إلا منها في القرآن شيء، قال: وما فيه من الرومية، قال: (فَصُرْهُنَّ) ، يعي قطعهنّ بكسر الصاد.
والضمير راجع إلى الطيور الذي أَمر الخليل بذبحها وتقطيع أجزائها، وهي الديك والطاوس والحمام والغراب، لما سأل الله رؤية إحياء الموتى.
فإن قلت: كيف يشكّ الخليل في إحياء الموتى، فيطلب رؤيته؟
فالجواب أنه لم يشكّ، وإنما طلب معاينة الكيفية لمّا رأى دابّة قد أكلتها
السباع والحيتان، فسأل عن الكيفية، وصورة الإحياء، لا عن وقوعه، وذلك لا يقدح في رسالته، وهو معصوم.
واشتكى بعض الفقراء لشيخه تهمّمه في الرزق، فقال له: خذْ كفًّا من تراب
ومُرْه يرجع ذهباً، فقال: ومَنْ إمامي في هذا، قال: الخليل حين قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) .(2/576)
قال: (أولم تُؤْمن) ، فالذي يقدر على رجوع التراب ذهباً في
يديك يقدر على رزقك حيثما كنْت.
والحكمةُ في هذا أن النفس لا تطمئن إلا بالمعاينة، وليس الخبر كالعيان.
(صُوَاعَ الملِك) :
أي مكياله، وهو السقاية، وكان يشرب
بها يوسف، ويكال بها الطعام، وكان من فضة.
وقيل من ذهب.
وقصد بجعله في رَحْلِ أخيه الاحتيالَ في أخْذه، إذ كان شرْع يعقوب أنَّ مَنْ سرق استعبده المسروق منه.
والسرّ فيه أن بنيامين لما تعرَّف إليه يوسف، وتحقَّق عنده بالمعرفة، لم يتنكر بأن نُودي عليه بالسرقة.
ولما رضي في معرفته بالبلاء كان ثمرته أن آواه إلى نفسه، كأَنّ مولاك يقول لك: لا تبال يا مؤمن ببلائي، فإن الجنة مَثْواك.
وورد في الحديث: "إن الله يطهّر المؤمن في الدنيا بأنواع البلاء، فإنْ بقِيتْ
عليه بقيةٌ طهَّرَه بشدة الموت، حتى يَلْقَى الله وليس عليه ذنب".
وقرأ يحيى بن يعمر: "صواغ الملك" - بغين معجمة: يذهب إلى أنه كان
مصوغأا، فسماه بالمصدر.
(صَخْرة) :
قيل أراد لقمان الصخرة التي عليها الأرض.
وهذا ضعيف، وإنما معنى الكلام أن مِثْقَالَ خَرْدَلة من الأعمال أو من الأشياء
لو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة، فإن الله يأتي بها يوم القيامة.
وكذلك لو كانت في السماوات أو في الأرض.
وأما قول موسى: (أرأيتَ إذ أوَيْنَا إلى الصَّخرة) فإن المراد بها التي نام عندها.
ومعنى (أرأيت) ، أي أخبرني.
فإن قلت: ما وجه التئام هذا الكلام، وإن كلّ واحد من أرأيت، وإذ
أوينا، فإني نسيتُ الحوت - لا متعلّق له؟
والجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه، وما اعتراه من(2/577)
نسيانه، فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، فكأنه قال: أرأيت ما دَهَاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، فحذف بعض الكلام.
(صَدَفَيْن) ، بضم الصاد وفتحها، بمعنى الجبلين.
(صُنْعَ الله) : مصدر العاملُ فيه محذوف.
وقيل هو منصوب على الإغراء، أي انظروا صُنْعَ الله، وهو فعله في مرور الجبال وهي جامدة.
(صحُفاً مطهَّرة) ، يعني القرآن في صحفه.
وأما قوله تعالى: (صحفاً مُنَشَّرة) - فقد قدمنا أنهم طلبوا مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطي كلّ واحد منهم صحيفةً يأمره فيها بالإيمان.
وقوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى) ، فالمراد به أن هذا الكتاب ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين، كما ثبت هذا الكتاب.
قلت: من أمثلة ما نزل على بعض الأنبياء سورة الأعلى.
قال - صلى الله عليه وسلم -: كلّها في صحف موسى وإبراهيم.
ولما نزلت: (والنجم إذا هوى) فبلغ: (وإبراهيم الذي وفَّى) ، قال: (وَفَّى ألا تَزر وازِرة وِزْرَ أخرى) إلى قوله (هذا نذير من النّذر الأولى) .
وأخرج الحاكم من طريق ابن القاسم، عن أبي أمامة، قال: أنزل الله على
إبراهيم مما أنزل على محمد: (التائِبُون العَابدون) ، إلى قوله: (وبشِّر المؤمنين) .
و (قد أفلح المؤمنون) ، إلى قوله: (هم فيها خالدون) .
و (إن المسلمين والمسلمات) ، الآية.
والتي في المعارج: (والذين هم على صلاتهم دائمون) ، إلى قوله: (قَائمون) ، فلم يَفِ بهذه السهام إلا إبراهيم ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -.
وأخرج البخاري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: "يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهداً ومبَشّراً ونَذيراً وحِرزاً للأميين" - الحديث.(2/578)
وأخرج ابن الضّرَيس وغيره عن كعب قال: فتحت التوراةُ بـ (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) .
وختمت بـ (الحمد للَه الذي لم يتخذ ولداً) ، إلى قوله: (وكبِّرْه تكبيرا) .
وأخرج عنه من وَجْهٍ آخر، قال: أول ما نزل في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام: (قل تعالوا أتْل ما حَرَّم ربكم عليكم) الخ.
قال بعضهم: هذه الآيات العشر التي كتبها اللَّهُ لموسى في التوراة أول ما كتب، وهي توحيد الله، والنهي عن الشرك، واليمين الكاذبة، والقتل، والعقوق، والزنى، والسرقة، والزور، ومدّ العين إلى ما في يَدِ الغير، والأمر بتعظيم السَّبْت.
وأخرج الحاكم عن أبي مَيْسرة أنَّ هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية:
أول سورة الجمعة: (يسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، قال: البرهان الذي أُرِي
يوسف ثلاث آيات من كتاب الله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) .
وقوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) .
وقوله تعالى: (أفمَنْ هوَ قائم على كلِّ نَفْس بما كسبت) .
زاد غيره آية أخرى: (ولا تَقْرَبوا الزنا) .
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: (لولا أنْ رأى برهَانَ
ربه) - قال: رأى آيةً من كتاب الله نهَتْهُ، مثّلت له في جدار
الحائط، فهذا ما وقفت عليه مما أنزل على غير نبينا - صلى الله عليه وسلم (1) .
واختلف في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
والصحيح أنَّ سليمان تلفظ بها، لحديث الدارقُطْني من حديث برَيْدَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لأعلِّمنّك آيةً لم تنزل على نبي
بعد سليمان غيري: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
ومن أمئلة ما خص به الفاتحة، وآية الكرسي، وخاتمة البقرة.
__________
(1) بعض هذا الكلام غير مسلم خصوصا ما ذكر في حق يوسف - عليه السلام - والعلم عند الله.(2/579)
وروى مسلم عن ابن عباس: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ملك، فقال: أبشر بنورين، قد أوتيتهما لم يُؤْتهما نبيء قبلك: فاتحة الكتاب.
وخواتيم سورة البقرة.
وأخرج أبو عبيدة في فضائله، عن كعب، قال: إنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعطي أربع آيات لم يُعطهن موسى، وإن موسى أعطي آية لم يعطها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي: اللهم
لا تولج الشيطان في قلوبنا، وخلِّصنا من أجل أنَّ لك الملكوت والأيد والسلطان والملك والحرم والأرض والسماء، الدهر الداهر، أبداً أبداً، آمين آمين.
وأما الأربع التي لم يعطهن موسى فهي: خواتيم البقرة.
(لله ما في السماوات وما في الأرض) ، وآية الكرسي.
(صِرَاط) :
هو في اللغة الطريق، ثم استُعمل في القرآن، بمعنى الطريقهّ الدينية، وأصله السين ثم ينقلب صاداً لحرف الإطباق بعدها.
وفيه ثلاث لغات: بالصاد، والسين، وبين الصاد والزاي.
وحيثما ورد في القرآن فمعناه الطريق الموصّل إلى الصراط الحسيّ المنصوب على مَتْنِ جهنم، ليَمُرَّ المؤمنون عليه، أرقّ من الشعر، وأحدّ من السّيف، وفي حافتيه كلاليب معلَّقة مأمورة بأخْذِ من أمرت بأخذه، فمخدوش ناج، ومكردس في نار جهنم، ويمرون عليه بحسب اتّباعهم لهذا الصراط المعنوي، فأولهُم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وكأشد الرجال حتى يجيء الرجل ولا يستطيع السير إلا زَحْفا.
وقد صح أنَّ له عقبات سبع لا يجاوزها إلا مَنْ قطع عَقَبات الدنيا.
وأنكره أكثَر المعتزلة، لعدم إمكان العبور عليه.
ويسهِّله الله على المؤمن كأنه واد واسع.
(صِبْغَة الله) : يعني دين الله، وهو استعارةٌ من صبغ
الثوب وغيره، ونَصْبه على الإغراء، أو على المصدر من المعاني المتقدمة، أو بدل من ملّة إبراهيم.
(صِرّ) .: بَرْدٌ شديد، أصاب حَرْثَ الذين ظلموا أنفسهم، وهم الكفار، فلم ينتفعوا به، وكذلك لا ينتفعون في الآخرة بأعمالهم.(2/580)
(صدّيقةٌ) : بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق.
ووصفُ مريم بهذه الصفة دون النبوءة يدفع قول مَنْ قال إنها نبيئة.
(صِنْوَان وغَيْر صِنْوان) : هي النخلات الكثيرة، ويكون
أصلها واحداً.
وغير الصِّنْوَان التفرق، ووَاحِد الصِّنْوان صِنْو.
(صِبْغ) : الصبغ والصباغ ما يصْبَغُ به، أي يغمس فيه
الخبز ويُؤكَل به.
(صِهْراً) :
النسب والصهر يعمّان كلَّ قُربى، فالنسب أن
يجتمع إنسان مع آخر في أَب وأم قَرب ذلك أو بعد.
والصهر: هو الاختلاط بالتناكح.
وقيل: أراد بالنسب المذكور، أي ذوي نسب ينتسب إليهم، وأراد بالصهر
الإناث، أي ذوات الصهر يصاهر بهن، فهو كقوله: (فجعل منه الزَّوْجَين
الذّكَر والأنثى) .(2/581)
(حرف الضاد المعجمة)
(ضرب) :
له أربعة معان: من الضرب باليد وشِبْهه.
ومن ضرب الأمثال.
ومن السفر، ومنه: (ضربتم في الأرض) .
ومن الإلزام، ومنه: (ضُرِبت عليهم الذِّلّة) ، أي ألزموها.
(وضَرَبْنَا على آذانهم
) ، ألقينا عليهم النوم.
و (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) ، أي نمسك عنكم التذكير.
(ضرَّ) ، بفتح الضاد وضمها بمعنى، وكذلك الضير - بالياء، ومنه: (لا
يَضرّكم كيْدهم) .
والضراء: ما يصيبه من المرض وسوء الحال.
(ضَيْق) ، وضَيّق مثل ميت وميت، ويجوز أن يكون
الضيق والضيق مصدر.
وفي قوله تعالى: (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) .
تسْلية له - صلى الله عليه وسلم -، أي لا يضيق صَدْرك بمكرهم، وهو منسوخ بآية السيف.
فإن قلت: أيّ فرق بين هذه الآية في حذف النون منها، وبين إثباتها في آية
النمل؟
والجواب: إنما حذفها في النمل موافقة لما قبلها، وهو قوله: (ولم يك من
المشركين) .
وأيضاً فقد قدمنا أنه سُلِّي بها عن قتل عمّه حمزة، فبالغ في الحذف.
ليكون ذلك مبالغة في التسلّي.
وجاء في النمل على القياس، ولأن الحزن هناك دون الحزْن هنا.
وهذه الكلمة كثر ورودها في القرآن، فحذف النون منها تخفيفاً من غير(2/582)
قياس، بل تشبيها بحروف العلة، وأتى ذلك في بضْعَة عشر موضعاً: سبعة منها (يك) با لياء، وموضعان (نَكُ) بالنون، وموضع آخر (أكُ) بالهمزة.
والله أعلم.
(ضَنْكا) ، أي ضيقة.
والمعنى أن الله تعالى ضيَّق عليه المعيشة، وهكذا حال مَنْ أنعم الله بوجوده مِنْ سبع ورَزَقه من سبع، فكفر بأنعمِ الله، وأعرض عنها، وصرف همَّتَه لغير ربّه أن يضيق عليه في الدنيا، ويحشر أعمى في العقبى، قال: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) .
فإن قلت: أما خلقنا مِنْ سبع، فقد فهمناها من الآية الكريمة، وأما رزقنا
من سبع فلم نفهم معناها؟
والجواب أن الله خلقنا في سبعة أحوال من سبعة أشياء، وأرواحنا من سبعة
أشياء، وخلق لنا سبعة أركان ظاهرة، وسبعة أركان باطنة، ثم رزقنا من سبعة أشياء، ثم وعدنا بسبع مقامات.
أما الأحوال السبعة فقال تعالى: (ولقد خَلَقْنَا الإنسانَ من سلاَلةٍ من طيِن) .
وأما الأرواح فمن النار، والنور، والريح، والطيب، والعلم، والأنس، والبقاء، ثم جمعه في قلبك فحينئذ تتحرك في بطن أمك، فحرارة الروح من النار، وضياؤه من النور، وطهارته من الطيب، ونفسه من الريح، وذهنه من العلم، وألفته من الأنس، وحياته من البقاء.
ثم رزقك من دَم الحيض إلى حال الخروج، ثم اللبن إلى الفطام، ثم بعد ذلك
خمسة أشياء: الماء مِنَ السماء، والنبات من الأرض، واللبن من الثدي، والثمار من الشجر، واللحم من الأنعام.
ثم خلقك من سبعة أشياء: من العظم، والعَصَب، والعروق، واللحم، والجلد، والظفر، والشعر.
وأعطاك سبعة أركان باطنة: القلب، والكبد، والطحال، والمرارة، والرئة، والدماغ، والمخ.(2/583)
وأعطاك سبعة أركان ظاهرة: اليدين، والرجلين، والعينين، والأذن.
والأنف، واللسان، والفرج.
ثم رزقك من سبعة أشياء، فقال تعالى: (إن صبَبْنَا الماءَ صَبًّا) .
فهذا معنى الحديث: خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع.
ثم وعدك بسبع مقامات: الموت، والقبر، والبعث، والميزان، والمحاسبة.
والصراط، والدَّارَيْن، فريق في الجنة وفريق في السعير.
فمن عرف هذا كيف يلتفت لسواه سبحانه، أو يطلب غيره، هذا في المعيشة
الضيقة في الدنيا والآخرة، هلا تشبَّه بالملائكة الكرام في السبع سموات: منهم مَنْ عَبَدَ اللهَ على الحياء والملازمة، ومنهم على الخوف والخشية، ومنهم على حسْن الظن، ومنهم على الخدمة والحرمة، ومنهم على المودّة والمحبة، ومنهم على الشوق والصفاء، ومنهم على القرب والمؤانسة.
ونحن لا مِنْ هؤلاء ولا مِن هؤلاء، بل من الذين قال الله فيهم: (إنْ همْ إلاَّ كالأنعام بَلْ همْ أضَلُّ) .
ورحم الله القائل: خلقك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته، ليعلمك
جلالةَ قَدْرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكنوناته.
وجميع العالم مبني على سبعة أشياء: ضياء، ونور، وظلام، ولطافة، وكثافة، ودقة، ورقة، فجعل الضوء نصيب الشمس، والنور نصيب القمر، قال تعالى: (هو الذي جعل الشمْسَ ضياء والقَمر نورا) .
وجعل الضوءَ نصيب وجهك.
والنور نصيب بصرك، والظلام نصيب الشياطين، وجعله لشعرك.
واللطافة نصيب الطيور، وهو نصيب قلبك.
والكثافة نصيب الجبال، وهو نصيب عظمك.
والدقة نصيب الماء، وهو نصيب ريقك.
والرقة نصيب الهواء، وهو نصيب رُوحك.
ثم جعل في قلبك الضوءَ مثل المعرفة، والنور مثل اليقين.
والظلام مثل السيئة، واللطافة مثل الرجاء، والكثافة مثل الخوف، والرقة مثل المحبة، والدقة مثل الشوق، فمن أراد أن تكون عيشته هنيئة، وحياته طيبة فليشْعِلْ في قلبه المعرفة بزَنْد الجهد، وحجر التضرع، وحراقة إطفاء الشهوة،(2/584)
وكبريت الانتباه، ومسرجة الصدق، وفتيلة الشكر، ودهن التوكل، حتى توقد نور المعرفة في قلبه، كالذي يريد أن يوقد ناراً يحتاج إلى سبعة أشياء: زند، وحجر، وحراقة، وكبريت، ومسرجة، وفتيلة، ودهن، ثم يعلق السراج بثلاث سلاسل في ثلاث غرا، وحينئذ يعلّق في سقف البيت.
وهكذا صاحب سراج المعرفة لا بد له من سلسلة الخوف معلَّقة بعرْوَة
العدل، وسلسلة من الرجاء في عروة الفضل، وسلسلة من المحبة في عروة
الكرامة، وحينئذ يعضد بالعرش، ولا تقدر رياح الأعضاء السبعة ومعاصيهن أن تُطْفِئ هذا السراج، فهؤلاء المجوس أوقدوا ناراً ليعبدوها فلم يقدر أحد على إطفائها، فكيف يقدر أحد على إطفاء نور المحبة.
والله تعالى يقول: (يريدون أنْ يطفِئُوا نورَ اللهِ بأفواههم ويأبَى اللَّهُ إلا أنْ يتِمَّ نوره ولو كرِهَ الكافرون) .
(ضَلَلْنَا في الأرض) :
أي صِرْنا تراباً، وهذا استبعاد من الكفار للبعث.
وقرئ صَلَلْنا، أي أنتنا وتغيَّرْنَا، من قولهم: صَلّ اللحم وصنّ
وأصن: تغيّر.
(ضَرِيع) :
فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه شوك، يقال له الشِّبْرِق، وهو سم قاتل.
وهذا أرجح الأقوال، لأن أرباب اللغة ذكروه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الضريع: شوك في النار.
الثاني: أنه الزّقّوم، لقوله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) .
الثالث: أنه نباتٌ أخضر منْتن ينبت في البحر. وهذا ضعيف.
الرابع: أنه وادٍ في جهنم.
وهذا أضعف، لأن ما يجري في الوادي ليس بطعام، إنما هو شراب، ولله دَرُّ مَنْ قال: الضريع طعام أهل النار، فإنه عَمَّ وسَلِم من عهدة التعيين.
واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة بمعنى المشابهة، لأنه
يشبه الطعام الطيب، وليس هو به.
وقيل: هو بمعنى مضْرع البدن أي مضعف.(2/585)
وقيل: العرب لا تعرف هذا اللفظ.
(ضحى) :
أول النهار.
والفعل منه أضحى.
وأما ضَحِي، بكسر الحاء، يَضْحَى في المضارع، فمعناه برز للشمس وأصابه
حرّها.
ومنه: (لا تَظْمَأ فيها ولا تضْحَى) .
(ضِعْف، وضُعْف) : لغتان.
وضاعف الشيء كثّره، وجرى فيه التشديد.
وضِعف الشيء، بكسر الضاد: مثلاه.
وقيل مثله.
والضعف أيضاً العذاب.
(ضلَّ) ، بضاد، من الضلال.
ومنه: (وأضَلّهم السامِرِيّ) .
وبالظاء المشالة، من الإقامة.
وأصله ظللت فحذفت إحدى اللامين.
ومنه: (ظلْتَ عليه عاكفا) - وأصله أقام بالنهار، ثم استعمل في الدؤوب على الشيء ليلاً ونهاراً.
(ضِغْثا) : مِلْء كفّ من الحشيش والشجر.
قال الضحاك: كالشجر الرطب.
قال ابن عباس: قبض أيوب قبضةً من سنبل، فوَسِعَتْ كفّه
مائةَ سنبلة، وذلك أنه حلف ليضربنَّ امرأتَه مائة جلدة لما باعت ذؤابتها، فأمره الله بأخْذ حُزمة مما قام على ساق، لأن لها حق الخدمة.
وأنت يا محمديّ إذا خدمْتَه وقُمْتَ بحقه، ولن تقدر على ذلك، لا يجمع
عليك عقوبتين، فتورد النار، لإبرار قسمه في قوله تعالى: (وإنْ مِنْكُمْ إلا
وَارِدها) .
وينجّيك منها لحرمة إيمانك، قال تعالى: (ثم ننَجِّي الذين اتقَوْا) .
(وسئجَتبُها الأتقى) .
(ضِدّا) ، يكون للواحد والجمع، ومعناه أن الكفَّار يكفرون
بعبادة المعبودين، ويكون لهم خلاف ما أمّلُوه منهم فيصير العزّ الذي أمّلوه ذلّة.
وقيل معناه العون.
(ضِيْزَى) :
أصلها فُعلى بضم الفاء، ولكنها كسرت للياء التي بعدها.
يقال ضازَه حقه إذا نقصه.(2/586)
(حَرف العَيْن المهمَلة)
(عاذ) : بالله يعوذ، أي استجار بالله ولجأ إليه، ليدفع عنه ما يخاف.
ويقال: استعاذ يستعيذ.
ومنه: (معاذ الله) .
(عالمَين) : جمع عالم، وهو عند المتكلمين كلّ موجود سوى الله تعالى.
وقيل العالمين الإنس والجن والملائكة لجمعه جَمْعَ العقلاء.
وقيل الإنسان خاصة، لقوله تعالى: (أتأتون الذّكْرَانَ من العالَمين) .
والأول هو الصحيح، لقوله تعالى: (وما أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رحمة للعالمين) .
لأنَّ رحمته - صلى الله عليه وسلم - عمَّت جميع الموجودات.
وقد قال لجبريل يوماً: ما نالك من رحمتي، قال له: لولا وجودك لم أذكر بقوله: (ذِي قُوّةٍ عند ذي العَرْش مَكين) .
(عَمه) : تحيَّر.
ومنه: (ويمدهم في طغيانهم يعْمَهون) .
أي يتحيرون في ضلالهم.
(عاكفين) : مقيمين للعبادة ملازِمين حيث وقع، ومنه قوله: (طَهِّرَا بيتي
للطائفين والعاكفين) .
فإن قلت: قد ورد في آية الحج [26] ، مكان العاكفين القائمين، فهل هما
بمعنى واحد؟
والجواب المراد بالقائمين ذوو الإقامة والملازمة على صفةٍ مخصوصة، وإذا
أريد بالقائمين هذا فهو والعكوف مما يصح أن يعبَّر بأحدهما عن الآخر، مع أن لفظ العكوف أخص بالمقصود، فيكون خصوص آية الحج بقوله: والقائمين،(2/587)
لتقدم ذكر العكوف في قوله قبل الآية: (سواء العاكِف فيه والبادِ) ، فلما تقدم ذكْر العكوف متصلاً بالآية وقع الاكتفاء بذلك، وعدل عن
التكرار الذي من شأن العرب العدول عنه إلا حيث يراد تعظيم أو تهويل، نحو قوله: (الحاقّة ما الحاقّة) ، وشبه ذلك.
ولما لم يقع ذكر العكوف قبل آية البقرة ولا بعدها وهو مرادٌ لكونه أخص بالمقصود لم يكن بدٌّ من الإفصاح، وكان قد قيل
في آية الحج: والقائمين، وأغنى ذكرهم متقدماً عن الإتيان به حالاً منبّهة.
وأغنى قوله في البقرة: (والعاكفين) عن قوله: (والقائمين) ، لأن العكوف الملازمة، وهو المراد بالقيام، فورد كلٌّ على ما يجب ويناسب.
ويراد بالركَّع السجود - المصلون.
ومن قال: إن المراد بقوله: والقائمون المصلون فوَجْهه أنَّ ذِكر
العكوف قد حصل فيما تقدم، فاكتفي به، ولم يكن وقع قبل آية البقرة ولا
بعدها، فلم يكن بدٌّ من ذكره.
وعَبّر عن المصلين بالركع السجود.
وتحصّل أنه المقصود بالآيتين، ووردتا على ما يلائم. واللَه أعلم.
(عدل) : مِثْل، كقوله: (أو عَدْل ذلك صِياماً) .
وفدية، كقوله: (ولا يُؤخذ منها عَدْل) .
وكذا قوله: (وإن تعدل كلَّ عَدْل لا يُؤْخَذ منها) .
والعدل من أسماء الله تعالى، لأن أفعاله كلها عدل، فقيل العدل هو الحق، فكل عدل حق، وما ليس بعدل فليس بحق.
فإن قلت: ما وَجْه تقديم العدل في آيةٍ وتأخيره في أخرى؟
والجواب أن في تقديم الشفاعة قَطعاً لطمَعِ مَنْ زَعم أن آباءهم تشفع لهم، وأنَّ الأصنام شفعاؤهم عند الله.
وأخَّرها في الأخرى، لأن التقدير في الآيتين لا ئقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول.
وقدَّمَ العدل في الأخرى ليكون لفظ القبول مقدماً فيها.
(عفونا) :
له ثلاثة معان: الصفح عن الذنب، والإسقاط من غير كلفة، ومنه: (ماذا ينْفِقون قل العَفْو) .(2/588)
وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل، مشاكلة للسؤال، على أن يكون: (ماذا ينفقون) مركباً مفعولاً بـ (ينفقون) .
وقرأ أبو عمرو بالرفع بالابتداء مشاكلة للسؤال
على أن يكون ما مبتدأ وذا خبره.
(عفا) :
له أربعة معان: عفا عن الذنب، أي صفح عنه.
وعفا أسقط حقّه، ومنه: (إلا أن يعْفون أو يَعفو الذي بيده عقْدة النكاح) .
وعفا القوم: كثروا، ومنه: (حتى عَفَوْا) .
وعفا المنزل درس.
(عنَت) : زنا.
ومنه: (لمنْ خَشِي العنَتَ منكم) .
وأما قوله تعالى: (لأعْنتكم) ، فمعناه لضيَّق عليكم
بالمنع من مخالطتهم.
ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى.
(عَوَان) : متوسطة بين ما ذكر، ولذلك قال " ذلك "، مع
أن الإشارة إلى شيئين.
(عَهدْنا إلى إبراهيم) :
العهد له معان: بمعنى اليقين:
(وأوْفوا بعَهْدِ الله) ، ألا ترى قوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) .
ويقال عليَّ عهد الله، أي اليمين باللهِ.
وبمعنى الأمان، قال تعالى: (فأتِمُّوا إليهم عَهدهمْ إلى مدّتهم) .
وبمعنى الوحي: (إنّ اللَهَ عَهد إلينا) .
وبمعنى الوعد: (قل أتَّخذْتم عند الله عَهْداً) .
وبمعنى الميثاق: (لا ينال عَهْدي الظالمين) ، أي ما وعدناكَ به لا ينال الظالمين من ذريتك.
والوعد من الله ميثاق.
وبمعنى المحافظة، ومنه الحديث: حسن العَهد من الإيمان.
وبمعنى الزمان، يقال: كان ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد إبراهيم وموسى وعيسى.
وبمعنى الوصية كهذه الآية، وكقوله: (ولقد عَهدْنا إلى آدم من قَبْل) ، أي وصيناه ألا يأكل من الشجرة، فنَسِيَ العهد الذي عهدناه، وأكل منها، فآدئم دخل الجنَّة بعهده، وخرج.(2/589)
وأنت يا محمديّ تدخل الجنة بعهْدِي، فلا تخرج.
والسرّ فيه أنَّ آدم لم يكن له ركوع ولا سجود، ولا جهاد ولا تضرعّ، ولكنه لم يعتقد الزلّة كما قال تعالى: (ولم نَجد له عَزْما) (1) .
وإبليس اعتقد الزلَّةَ بعد عبادته ولم يعتذر، فلم تخلّصه حسناته، كالكافر يعتقد الزلاّت الكثيرة، ولا يعتذر.
وأنت تعتذر فكيف لا أقبل عذْرك، وقد كلفتك بأوامر كثيرة، ونهيتُك
عن نواهي عديدة، وأبوك آدم لم يكن له إلا أمرٌ واحد وهو البعْدُ من الشجرة، وقد قبلت عذْرَه، فإن اعتذرتَ إليَّ ألحقتك بأبيك في السكنى معه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) .
(عابدون) : مخلصون.
وقيل أذلاّء، من قولهم: طريق معبّد، أي مذلّل قد أثّر الناس فيه.
(عزَموا الطَّلاق) ، أي طلّقوا أو آلوا، فيطَلّق عليهم الحاكم.
والضمير يعود على المؤْلِين، وطلاقهم بائنٌ عند الشافعي وأبي حنيفة.
رَجْعِيّ عند مالك.
(عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) :
في هذه
النفقة والكسوة قولان:
أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد أوْجَبها الله للأمّ على الوالد، وهو قول
الزمخشري وابن العربي.
الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وعلى ذلك حملها ابن فورك.
(عرَّضتم به منْ خِطْبَة النِّساء) :
إباحة للتعريض بخطبة المرأة المعتدَّة.
ويقتضي ذلك النهي عن التصريح.
(عَلَى الْموسعِ قدَرُه وعلى المقْتِر قدَرُه) : بإسكان الدال
وفتحها، وهما بمعنى.
وعلّق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: (حقا) .
وتعلّق مالك في الندب بقوله: (على المحسنين) ، لأن الحسن تطوّع بما لا يلزم.
__________
(1) هذا الكلام محل نظر، وقد يُفهم من هذا الكلام أن أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم - عليه السلام - وهذا كلام مردود.(2/590)
والحاصل أنه يمتّع كلّ أحد على قدر ما عنده، والموسع: الغنيّ.
والمقتر: الضيّق الحال.
(على نساء العالمين) :
هذا التفضيلُ لمريم ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهما، أو يكون على نساء زمانها.
وقيل: هذا الاصطفاء مخصوص بأنْ وُهب لها عيسى من غير أبٍ، فيكون (على نساء العالمين) عامًّا.
وقيل: إنها كانت نبيئة لتكيم الملائكة لها، قال بعض العلماء: إن عائشة أفضل من مريم، لأنَّ براءة مَريم كانت على لسان عيسى، وبراءة عائشة كانت بقول الله تعالى.
فالربّ الذي تولىّ براءتك وتطهيرك بقوله تعالى: (ولكن يريدُ ليطهِّركم) .
(التائبون العابدون الحامدون) .
وسمّاكم يا أمَّة محمد بالهداية والخير، والعدل والأمانة، أفتراه يطردهم بعد أن دعاهم إلى نفسه، وهو لا يُريد قبولهم.
وقد سمعناه يقول للتائبين: (وإني لغفّار لمَنْ تاب) إذا مشوا إليه برجْل الندامة على قدم الاعتذار، وللعابدين إذا مشوا برجل النّشاط على قدم الجهد والاجتهاد على قدم الدرجات، (ومَنْ يأته مؤمناً قد عمل الصالحات) .
وللزاهدين إذا مشوا برجل القناعة على قدم التوكّل مع مراد الله، (تلْك الدارُ الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علُوّاً في الأرْضِ ولا فَساداً) ، وللمحبين إذا مشوا برجل الرضا على قدم المودّة مع مُراد الذكر، (ألا بذكرْ الله تطْمئنُّ القلوب) ، وللمشتاقين إذا مشوا برِجْل المحبة على قدم الإنابة، مع مراد القربة: (وجوة يومئذٍ ناضرة) .
فإن قلت: ما الحكمة في تَبْرِيح العارفين؟
فالجواب لأنهم تعهدوا على الكفار بتبليغ الرسالة إليهم.
ومن كان شاهداً له يخدمه ويزكّيه ليكون شاهداً له على الحقيقة، قال تعالى: (يا أيُّها الذين آمَنُوا اتَّقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
(عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) :
أي تقرن السماوات والأرض بعضُها إلى بعض، كما تُبْسط الثياب، فذلك عرض الجنة،(2/591)
ولا يعلم طولها إلا الله، لأنَّ الله قال لها: امتدّي فامتدت، ثم قال لها: امتدي فامتدت، ثم قال لها: امتدي فامتدت، قالت: إلى أيْنَ يا رب، قال: إلى منتهى رحمتي، فقالت: لا منتهى لرحمتك.
فقال لها: ولا منتهى لك.
وقيل: ليس العَرْض هنا خلافَ الطول، وإنما المعنى سعتها كسعة السماوات
والأرض.
فإن قلت: إذا كان عرضها هذا، فما معنى ما ورد أنها في السماء، وقيل في
الأرض، وقيل بالوَقْف حيث لا يعلمه إلا الله؟
والجواب أن الذي يجب اعتقادُه ويفهم من القرآن والحديث أنَّ الجنة في عالم
الجبروت، وأن العرش سَقْفها، كما صحّ في الحديث: "سلوا الله الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة".
والآية الكريمة: (قلنا اهْبِطُوا) ، تدلّ على أنها فوق السماوات.
وقد قدمنا أنَّ العوالم أربعة: الملك، وهو الدنيا وما فيها.
والملكوت وهو السماوات وما فيها.
والجبروت وهو اللَّوْح والكرسي والقلَم.
والجنة وفوقها العرش الذي تأوي إليه أرواحُ الشهداء.
وعالم العزّة لا يَعْلَم ما فيه إلا الله ورسوله الذي زج فيه - صلى الله عليه وسلم - وشاهد فيه من العجائب ما أخبر الله به في قوله: (لقد رَأى مِنْ آياتِ رَبّه الكبْرَى) .، وخلف جبريل عند سِدْرَةِ المنتهى، وقال: يا محمد، لا
أقدر على مجاوزة هذا المكان، (وما مِنَّا إلا له مَقام معلوم) .
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من طريق عبيد، عن مجاهد، عن ابن
عمر - مرفوعاً: "أن جهنم محيطةٌ بالدنيا، وأن الجنة من ورائها، فلذلك كان الصراط على جهنم طريقاً إلى الجنة".
فإن قلت: يفهم من هذا الحديث أنَّ جهنم تحت الأرض؟
والجواب أنا نقول فيها بالوقف، إذ لا يعلم محلَّها إلا الله، ولم يثبت عندي
حديثٌ أعْتَمده في ذلك غير ما رواه ابن عبد البر وضعّفه، عن عبد اللَه بن عمر - مرفوعاً: "لا يركب البحر إلاَّ غازٍ أو حَاجّ أو معتمر، فإنَّ تحت البحر ناراً".(2/592)
وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن وهب بن منبه: "إذا قامت القيامةُ أمر بالمغلق
فيكشف عن سقَر وهو غطاؤها، فيخرج منه نار، فإذا وصلت إلى البحر المطبق على شَفِير جهنّم - وهو بحر البحور - نشفته أسرعَ من طرفة عَين، وهو حاجز بين جهنم والأرضين، فإذا نشفت الأرضين السبع فتدعها جمرة واحدة.
وقيل هي في وجه الأرض، لما رُوِي عن وَهْب أيضاً قال: أشرف ذو القرنين
على جبل قاف، فرأى تحته جبلا صغيرا إلى أنْ قال: يا قاف، أخبرني عن عظمة الله، فقال: إن شأنَ ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج، يحطّم بعضها بعضاً، ولولا هي لاحترقت من حرّ نار جهنم.
وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده، عن عبد الله بن سلام، قال: الجنة في السماء، والنار في الأرض.
وروى أن اليهود قالوا لعمر: (جنة عَرْضُها السماوات والأرض) ، فأين النار؟
قال عمر: أفرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل، فقالوا: إنها لمثلها في التوراة.
قالوا: إن باب الجنة في السماء وعرضها السموات والأرض.
فإن قلت: قد صحّ أنها لا منتَهى لها، وأن العرش سقفها، والعرش له حدّ
ومقدار، فما معناه.
والجواب أنَّ العرش لها كالخيمة، فلا يلزم أن يكون العرش محتوياً على
جميعها، وهذا مشاهد.
وقد صح أنها تَبْقَى بلا ساكن حتى يخلق الله لها مَن يسكنها.
فتفكرْ أيّها العبد عَبْد مَنْ أنت، ومَنْ أنْتَ حتى أهَّلكَ لخدمته وعرَّفك به
حتى طلبته، وما قيمة أعمالك في جَنْب مَنْ عبده، فاحمد الله على أن أهَّلك
لخطابه، وجعلك من أحبابه، وإياك ومعصيته، فإنها تورثك بُعْده.
أما علمت أنّه على قَدْر معرفتك به هنا تكون رؤيتك له هناك، وبمعرفتك له يتولّد منه(2/593)
التعبُ، لكنها توصلك إلى رؤيته التي يزول عنك بها النَّصَب والكَرْب، ولما علم سبحانه أنَّ الدنيا دار مِحَن ومعايش، جعل لهم هذه المعرفة التي يتوصَّلُون بها إلى رؤية ذاته، وعلى قَدْر طول الغربة يكون سرور الأوْبة، ولو رأيناه بغير تعب لما وجدنا لها لذّةً، ألا ترى آدَم لم يعرف قدرها حتى خرج منها، والمسوقُ بالتعب ألذّ من المسوق بلا تعب، فالمعرفة ميدان الخدمة، والرؤية ميدان الراحة، والمعرفة تكون مع بُعْد عن المراد، والرؤية مع قرب النفس إلى المراد، والمعرفة مع الخوف والخطر، والرؤية مع الرضا والكرامة.
والمعرفةُ أول الكرامة، والرؤية تتمتها، والمعرفة في جوار الشيطان، والرؤية في جوار الرحمن، والمعرفة البراءة عن الخلق، والرؤية الوصول إلى الحق.
والمعرفة للواصفين، والرؤية للواصلين.
والمعرفة في الجنس، والرؤية في الأنس.
وأهل المعرفة يشتاقون إلى موضع الواصلين، والواصلون لا يشتاقون إلى موضع العارفين، فكلُّ من رأى فقد عرف، وليس من عرف قد رأى.
فإن قلت: لم خصّت هذه الآية بما تمهَّد فيها من قصد المبالغة والتعظيم من
قوله: (سارِعوا إلى مغفرة) ، دون آية الحديد؟
والجواب لبنائها على الحضّ على الجهاد وعظيم فَضْلِه، وذكر قصة بَدْر واحُد من لدن قوله: (وإذْ غَدَوْتَ من أهلك تبَوِّئُ المؤمنين) .
إلى ما بعد الآية المتكلم فيها، ولما لم يكن في آية الحديد شيء من ذلك
ناسب كلاما ورد فيها. واللَه أعلم.
(عَزَمْتَ) ، أي صححت رأيك فيما مضى من الأمر.
والمخاطب بذلك نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(عَاشِرُوهُنَّ) ، أي صاحبوهن بالمعروف، وأمر الله في هذه
الآية الرجالَ بالصفح عنهن وممازحتهنّ وخدمتهن بما أمكن، وله عليها أعظم
من ذلك، لقول الله العظيم: (ولِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجةٌ والله عَزِيرٌ حكيم)(2/594)
(عَضل) المرأة، أي منعها من الزواج، ومنه: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) .
(وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) .
قال ابن عباس: هي في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من
التزوّج بعده، إلا أنَّ قوله: (مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) على هذا معناها ما آتاها الرجلُ الذي مات.
وقال ابن عباس أيضاً: هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة َ ويسيئون
عِشْرَتها حتى تفْتدي بصداقها، وهو ظاهر اللفظ في قوله: (مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) .
ويقَوِّيه قوله: (وعَاشِرُوهنَّ بالمعروف) ، فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج، وقد يكون في غيرهم، وقيل هي للأولياء.
(عَاقر) :
له معنيان: المرأة العقيم.
واسم فاعل من عقر الحيوان.
(عَزّرْتموهم) :
نصرتموهم، وأعنتموهم.
(عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) :
اعتداء، استدل المالكية بهذا على سدِّ الذرائع، يعني لا تسبّوا آلهتهم، فيكون ذلك سبباً لأن يسبّوا الله.
(عند الله) : يعني الآيات بيد الله لا بيدي.
(عَتَوْا) : تكبّروا وتجبّروا، وهم الذين لا يقبلون الموعظة.
(عَدَل) يعدل عدلاً: ضد جار، وعدل عن الحق عدولاً، وعدلت فلانا
بفلان سوَّيْت بينهما، ومنه: (ثم الذين كفَروا بربهم يَعْدِلُون) .
ودخَلَتْ (ثم) لتدلَّ على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق
السماوات والأرض والظلمات والنور.
وكذلك قوله: (ثم أنْتم تَمْتَرون) ، استبعاد لأن يمتروا فيه بعد وضوح آياته، وبعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فِعْلهم، وتوبيخ لهم.
(والذين كفروا) هنا عامّ في كل مشرك، وقد يختصّ بالمجوس بدليل ذِكْر الظلمات والنور، أو بعَبَدة الأصنام، لأنهم المجاورون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم يقع الرد في أكثر القرآن.(2/595)
(عَرَض الدُّنيا) .: عتاب لمن رغب في فداء الأسارى، فإذا
عاقب أحبَّ خَلْقِه على هذا الشيء التافه فما بالك بمن هو منغمس في الحرام، مرتكب للآثام، قد غلب عليه سكر الدام، لا يرْعَوِي عن قبيح، ولا يَزْدَجر عن لوم.
هذا وقد أحل الله لهم الأكل من الغنائم مع احتياجهم إليها.
(عَيْلة) : فَقْرًا، وذلك أن المشركين كانوا يجلبون الأطعمة
إلى مكة، فخاف بعضهم قلَّةَ القوت بها إذا منع المشركون منها، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فَضْله، فأسلمت العربُ كلها، وتمادى جلْبُ الطعام إلى مكة، ثم فتح المسلمون سائرَ الأمصار.
(عَنْ يَدٍ) : عن قهر وذل فيدفعها بيده لا يبعثها مع أحد، ولا يمطل بها، كقولك: يدًا بيد.
وقيل عن استسلام وانقياد، كقولك: ألْقى فلان يَدَه.
وقيل عن إنعام منكم عليهم بذلك، لأنَّ أخْذ الجزية منهم وتَرْك أنفسهم عليهم مِن بَذْل المعروف.
(عزيز) : اسم الله تعالى: معناه الغالب، ومنه: (عزَّني في الخطاب) ، أي غلبني.
والغلبة ترجع إلى القدرة والقوة، ومنه: (فعزَّزْنا بثالثٍ) ، أي قوّينا.
وقيل العزيز العديم المثل.
وأما قوله تعالى: (عزيز عليه مَا عنِتُّم) .
فعزيز صفةٌ للرسول، وما عنتّم فاعل بعزيز، وما مصدرية.
أو (ما عنتّم) مبتدأ و (عزيز) خبر مقدّم.
والجملة في موضع الصفة.
والمعنى أنه يشقّ عليه - صلى الله عليه وسلم - عَنتكم وما يضركم في دينكم ودنياكم، يقال عزة يَعزه عزا إذا غلبه.
ومنه قولهم: منْ عزَّ بزَّ، أي من غلب سلب.
(عَدْن) : هي أعظم مدن الجنة.
وقيل هو اسم علم على الإقامة.
(عاصم) : مانع، ومنه قوله تعالى: (لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ الله إلاَّ مَنْ رَحِم) .
وتحتمل الآية أربعة أوجه:(2/596)
أحدها: أن يكون (عاصم) اسم فاعل، و (مَنْ رحم) كذلك بمعنى الراحم.
فالمعنى لا عاصم إلا الراحم، وهو الله تعالى.
والثاني: أن يكون (عاصم) بمعنى العصمة، أي معصوم، و (مَنْ رحم) بمعنى
مفعول، أَي منْ رحمه الله.
فالمعنى لا معصوم إلا مَنْ رحمه الله، فالاستثناء على هذين الوجهين متصل.
والثالث: أنْ يكون (عاصم) فاعل، و (مَنْ رحم) بمعنى المفعول، والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن مَنْ رحمه اللَّهُ فهو المعصوم.
والراجى: عكسه، والاستثناء على هذين منقطع.
(عذابٌ يُخْزِيه) :
هو الغرق، والعذاب المقيم عذاب النار.
(عَمَلٌ غَيْر صالح) :
فيه ثلاثة تأويلات على قراءة الجمهور:
أحدها: أنْ يكونَ الضمير في (إنّه) سؤال نوح نجاة ابنه.
والثْاني: أن يكون الضمير لابْنِ نوح، وحذِفَ مضاف من الكلام، تقديره:
إنه ذو عمل غير صالح.
والثالث: أن يكون الضمير لابن نوح، وما مصدر وُصف به مبالغة.
كقولك: رجل صوم.
وقرأ الكسائي عمل - بفعل ماض، غَيْرَ صالح - بالنصب.
والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال، لأن الله تعالى لما أراد أن يعذبه قطع
نسبَه عنه، ووصفه بعدم الصلاحية.
وأنتَ يا محمديّ أضافك إلى نفسه، بقوله: يا عبادي، وإلهكم، أفَتراه يعذِّبك بعد هذه الإضافة.
ولذلك قيل الإشارات ستة: إشارة إلى المتقين بقوله: (وسارِعوا إلى مَغْفِرةٍ
مِنْ رَبِّكم) .
وإشارة العابدين: (فاسْعَوْا إلى ذكر الله) .
وإشارة العاصِين: (يا عبادِي الذين أسرفوا على أنفسهم) .
وإشارة الهاربين إلى حِصْنه: (فَفِرُّوا إلى الله) .(2/597)
وإشارة التائبين إلى الفلاح: (وتوبوا إلى الله جميعاً) .
وإشارة أهل الكتاب إلى الفلاح: (يا أهل الكتاب تعَالوا إلى كلمة) .
وإذا أردت محبةَ الله لعباده فانظر كيف خفَّف المعصية َ على النفس، وثقل
عليها الطاعة، ليكون لها حجة، ويقبل عذرها إذا رجعَتْ إليْه، فاللهُ يُثيبُ
المطيعَ بغاية الثواب للامتثال، ويعاقب الكافر بأقبح العقوبة للمخالفة، والعاصي يعاقبه في الدنيا بأنواع الأمراض والأسقام حتى في قطع شِسْع نعْله إن لم يتبْ، حتى يلقى الله ولا ذَنْب عليه.
قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) .
(عاهدتُم من المشركين) :
إنما أسند العَهْد إلى المسلمين، لأن فعْل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لازم للمسلمين، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان
- صلى الله عليه وسلم - قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم مَنْ وفى، فأمر الله أن يتمَّ عهدَه إلى مدته، ومنهم مَنْ نقض أو قارب النقض، فجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد.
(عَاهدْتَ منهم) : يريد بني قُرَيظة.
(على سَوَاءٍ) ، أي على مَعدلة.
وقيل معناه أنْ تستوي معهم في العلم فتنقض العهد.
(عَرَضاً قريباً) :
هذا الكلام وكثيرٌ مما بعده في هذه السورة في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزْوَة تبوك، وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحرِّ وطيب الظلال والثمار، فثقلت عليهم، فأخبر الله في هذه الآية أنَّ السفر لو كان لعرض الدنيا أو مسافة قريبة لاتّبعوه.
(عفَا الله عنك لِمَ أذنْتَ لهم) :
قدَّم الله العفْو لنبيّه قبل عتابه، إكراماً له وجَبْرًا لقلْبه أن ينصدع، وذلك لخوفه من ربه، كأنه قال: أصلحك الله يا محمد، لِمَ أذِنْتَ لهم في التخلّف عن الخروج معك حتى يتبيّن لك الذين صدَقوا وتَعْلم الكاذبين، لأنهم قالوا نستأذنه في القعود، فإن أذِن لنا(2/598)
قعدنا، وإن كان يظهر الصدق من الكذب، وإن لم يأذن قعد العاصي والمنافق
ويسافر المطيع.
(عَنِيد) : ومعاند وعَنود بمعنى واحد، أي معارض للحق مخالف، يقال:
عِرقٌ عَنود، وطعنة عنود، إذا خرج الدم منها على جانب.
(على تقْوَى مِنَ الله) :
أي حسن النية في تأسيس بُنْيانه، وقصد وَجْه الله، وإظهار شرعه.
والمراد به مسجد المدينة، أو مسجد قبَاء.
(على اللهِ رِزْقُها) : قد قدمنا أنه وَعْد وضمان.
فإن قيل: كيف قال: (على الله) بلَفْظِ الوجوب، وإنما هو تفضُّل، لأن اللَه
لا يجب عليه شيء؟
والجواب أنه ذكره كذلك تأكيداً في الضمان، ولأنه لما وعد فيه صار واقعاً
لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد.
(عَرْشُه على الماء) :
دليل على أنَّ الماء والعرش كانا موجودين قَبْل خَلْق السماوات والأرض، فسبحان مَنْ لا يُشْبه صنعَه صنع المخلوقين، ولا تدرك حَقائق حكمته بصيرة المحققين، إبليس كانت قبلته العرش، فصار مخذولاً ومطروداً، وعمر بن الخطاب كانت قبلته الصنم فصار مودوداً ومحموداً، إذا أراد الله أن يدْخِل المنافق فيمن يوافق، وإذا لم يرد إدخال الموافق فيمن ينافق لا رادَّ لقضائه، ولا معَقَب لحكمه، سمكة أخذنها اليهود فصاروا قردة، وسمكة أخذت يونس فصارت رئيس السمكِ.
(عَلَى أمَم مِمَّنْ مَعَكَ) ، أي في السفينة.
واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذريّة ممن معك.
ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة.
فَمِنْ على هذا لابتداء الغاية، والتقدير على أمم ناشئة ممن معك.
وعلى الأول تكون (مِنْ) لبيان الجنس.
(عذَابٍ غَليظ) :
يحتمل أن يريد به عذابَ الآخرة، ولذلك(2/599)
طف على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
ويحتمل أن يُريد بالثاني أيضاً الريح، وكرّره إعلاما بأنه عذاب غليظ، وتعديد النعمة في نجاتهم.
(عَصَوْا رسلَه) :
في جمع الرسل هنا وجهان:
أحدهما: أن مَن عصى رسولاً واحدا لزمه عِصْيان الجميع، فإنهم متفقون
على الإيمان بالله تعالى وعلى توحيده.
والثاني: أن يراد الجنس، كما قدمنا.
وانظر كيف شنَع كفْرَهم، وهَوّل على فعلهم بحرف التنبيه وبتكرار أسمائهم.
(عَصِيب) : شديد.
(عَالِيها سَافِلَها:
الضمائر لمدائن قوم لوط، واسمها سدوم.
يقال: أحور من قطاة سَدوم.
روي أن جبريل أدخل جناحَه تحت مدائنهم واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل
السماء صراخَ الديكة ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة.
(عليها حجارة مِن سِجِّيل) : أي على المدائن.
والمراد أهلها ومَنْ كان خارجاً منها.
وأما من كان فيها فقد هلك بقلْبها.
(على العرش) ، أي على سرير الملك، يعني أنَّ يوسف
رفع أبويه على العرش وخَرّوا سجداً، لأنه كان تحية السلام عندهم السجود، وإنما سمى خالته أمّاً لأن العرب تسمِّيها أمًّا وكان يعقوب تزوّجها من بعد وفاة أم يوسف.
والإشارة فيه أن يعقوب لما تغرّب من كنعان جعل حِجْر يوسف مأواه.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تغرّب من أبويه جعل حجر أبي طالب مأواه.
وأنت يا محمديّ إذا تغربت في الدنيا، وجعلت الآخرةَ منزلك جعل الله الجنة مَأواك، قال تعالى: (فإنّ الجنةَ هي المأوى) .
(عَمْر) ، وعُمْر، بالجزم والضم واحد، وهو الحياة، ومنه: (لعَمْرك) ، ولا يكون في القَسم إلا مفتوحاً.(2/600)
(عَبر) : يعبر: له معنيان: من عبارة الرؤيا، ومنه: (إن كنتم للرؤْيا تَغبرون) .
ومن الجواز على الموضع.
ومنه: (عابري سَبيل) .
(عَمِين) ، وعَمون، جمع علم، وهو صفة
على وزن فَعِل، بكسر العين، من العمى في البصر، أو في البصيرة.
(عَمَدٍ تَرَوْنَها) :
اختلف العلماء: هل للسماء أعمدة تروتها.
فالقائل بها قال: لها جبل قاف، وهذا القائل يجعل الضمير في ترونها عائد على العَمَد، فيكون المعنى أنها مرفوعة بغير عمد مرئي.
وهذا لا يصح.
والصواب مذهب الجمهور أنها مرفوعة بغير عَمد.
واستدل به ابنُ عبد السلام على أنَّ السماءَ بسيطة، إذ لو كانت كورية لما احتيج إلى قوله: (بغير عمد) ، لأن الكورية مرفوعة بعمد يعتمد بعضها على بعض) .
ابن عرفة: وهذا لا حجة فيه، لأنَّ الناس لا يعرفون ولا يقطعون بكونها كورية أو بسيطة، وإنما يصحّ هذا لو كانوا يقطعون بأحد الأمرين، فيقال لهم: (بغير عمَد) ليفهم كمالُ القدرة.
ورُوي أن ذا القَرْنَين لما وصل إلى جبل قاف صعد عليه حتى ربط خَيْله
بجانب السماء، وهذا يحتاج لنَقْل صحيح.
(عد) ، بغير ألف: من العدد، وأعد بالألف: يَسَّرَ الشيء وهيّأه.
(عَضُدا) : أعوانا.
(عَرَضْنا جهنَّم) ، أي أظهرناها حتى رآها الكفار.
(عَنَتِ الوجوه) ، أي ذلّت وخضعت، وكيف لا تخضع
وتذل، والأنبياء يومئذٍ يقولون: نَفْسي نَفْسي، لا أسألك غيرها!.
واعلم أنَّ الله ذكر الوجوه في القرآن على سبعة أوصاف، ورتّب وجوه الكفار في الآخرة على سبع: وَجه التسليم: (أسْلَمْتُ وَجْهي) .
ووَجْه العبرة: (على وَجْهِ أبي) .
ووجه الرضا والتفويض: (قد نَرَى تقلُّبَ وَجْهك) .
ووجه العبادة: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) .(2/601)
ووجه الإقبال والطاعة: (فوَلوا وجوهَكم شَطْره) .
ووجه الإخلاص: (وجَّهْتُ وَجْهي) .
ووجه الطهارة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) .
وأما وجوه الكفار فذكر لها سبعة ألوان من العذاب: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) .
(يضربون وجوههم وأدبارهم) .
(فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) .
(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) .
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) .
(وجوه يومئذٍ عليها غَبَرة) .
(فأما الذين اسوَدَّتْ وجوههم) .
فإياك أيها الأخ أن يكون وجْهك أحدَ هذه الوجوه، واحرص على أن يكون
من الوجوه السبعة الذين ذكرهم الله في الآخرة، قال تعالى: (تعرف في
وجوههم نَضْرةَ النَّعيم) .
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) .
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) .
(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) .
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كلَّ شيء رحمة وعلما.
(عَزْما) : رأياً مَعْزوما عليه.
(عَشِير) : صاحب.
(على عروشها) : قد قدمنا أن المراد به السقف حيثما وقع.
وعرش الله أعظم المخلوقات، ونسبة السماوات والأرض إليه كحلقة ملقاةٍ في فَلاَة من الأرض، ويحمله الأملاك على كواهلهم، ذاكرين الباقيات الصالحات، وإلا لعجزوا عنْ حَمْله.
(عَذاب يومٍ عَقِيم) : يعني يوم بَدْر.
ووصفه بالعقيم، لأنه(2/602)
لا ليلة بعده ولا يوم، لأنهم يقْتَلون فيه.
وقيل هو يوم القيامة، والساعة مقدماته.
ويقوِّي ذلك قوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) .
ثم قسم الناسَ إلى أصحاب الجحيم وأصحاب السَّعِير.
(على أعْقَابكم تَنْكِصُون) ، أي ترجعون إلى وراء.
والضمير راجع إلى المترفين، وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات، وهي
القرآن.
(عَنِ الصرَاطِ لنَاكِبُون) ، أي عادلون.
ويحتمل أن يكون صراط الدنيا، وهو المقصود الموصّل إلى الصراط الحسي.
(عَدَد سنِين) : يعني في جوف الأرض أمواتاً.
وقيل أحياء في الدنيا.
ويقال ذلك لأهل النار على وَجْه الاستهزاء والسخرية، فيجيبون
بأنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، لاستقصار المدة، ولِمَا هم فيه من العذاب بحيث لا يعدّون شيئاً، فيقال لهم: اسأل (العَادِّين) .
ويعنون به مَنْ يقدر أن يعدّ، وهو من عُوفي مما ابْتلوا به، ويعنون الملائكة.
(عَبَثا) ، أي باطلا.
والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب.
(عذابَهَا كان غَراماً) ، أي هلاكاً وخسراناً.
وقيل مُلازماً.
ويحتمل أن يكون هذا من كلامِ أهلِ النار، أو من كلام الله عز وجل.
(عَبَّدْتَ بني إسرائيل) ، أي ذَلّلتهم واتخذتهم عبيداً.
ومعنى هذا الكلام أنك عددت نعمةً عليَّ تعبيد بني إسرائيل، وليست في الحقيقة بنعمة، إنما هي نقمة، لأنك كنْتَ تذبح أبناءهم، فلذلك وصلتُ أنا إليك فربَّيْتَني، فالإشارةُ بقوله: (تلك) إلى التربية، و (أنْ عَبّدت) في
موضع رفْع عطف بيان على (تلك) ، أو في موضع نصب، على أنه مفعول من أجله.(2/603)
وقيل معنى الكلام تربيتك نعمة عليَّ، لأنك عَبَّدْتَ بني إسرائيل.
وتركتني، ففي المعنى الأول إنكار لنعمته، وفي الثاني اعتراف بها.
(عَوْراتٍ لكم) : معنى العورة الانكشاف فيما يكره كَشْفه، ولذلك قيل عورة الإنسان، وهي ما بين السرة إلى الركبة، وضمير خطاب
الجمع يعود على جواز الانكشاف في غير هذه الأوقات الثلاثة، وهي قبل
الصبح، وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الآخرة.
وقد قدمنا في حرف الثاء أنَّ هذه الآية محكمة، وقول المستأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الانصراف واحتجاجه: إن بيوتنَا عَوْرة - فمعناه منكشفة للعدوّ، وخالية، وقيل خالية للسراق، فكذَّبهم الله في ذلك بقوله: (إنْ يريدون إلا فرارًا) منك يا محمد.
(عَرَاء) : الأرض التي لا شجر فيها ولا ظلّ.
وقيل يعني الساحل.
(على شَرِيعةٍ من الأمْرِ) ، أي على ملّة ودين.
(عارضاً مستَقْبِلَ أوْدِيتهم) : قد قدمنا أن العارضَ السحاب، والضمير يعود على قوم عاد، فلما رأوْا هذا العارِضَ ظنّوا أنه مطر، ففرحوا به، فقال لهم هود: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) - عموم يراد به الخصوص.
(عَرَّفها لهم) : الضمير يعود على أهل الجنة، يعني أَنّ الله عرفهم
منازلَهم فيها، فهو من المعرفة، ولذلك صح في الحديث: "إن أحدهم أعرف
بمنزله فيها من معرفته بمنزله في الدنيا".
وقيل: إن الله طيَّبها لهم، فهو من العَرْف، وهو طيب الرائحة.
وقيل معناه شرَّفَها ورفَعها، فهو من الأعراف التي هي الجبال.
(عاصف) : ريح شديدة.
والعَصْف ورق الزرع.
وقيل التبن والرَّيحان.
وقيل هو الريحان المعروف.
وقيل كل مشموم طيِّب الريح من النبات.(2/604)
(عَبْقَرِيٍّ) :
منسوب إلى أرض يعمل فيها الوَشْي وهي خَبرة، وهو المدوح من الرجال والفرش.
وتزعم العرب أنه بلد الجان، فإذا أعجبها شيء نسبَتْه إليه.
والمعنى أن الله وصف طنافس أهل الجنة وزَرَابيهم ونسبها إلى عبقر.
وفي الحديث في نزع عمر: فلم أر عبقريًّا يَفْرِي فَرِيّه.
(عَتَتْ عن أَمْرِ رَبّها) ، أي تكبَّروا وتجبّروا.
والضمير يعود على القرية، والمراد أهلها، وكذلك: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) .
وهذا كلّه في الدنيا، لأنه قال بعده: (أعَدَّ اللَّهُ لهم عذاباً شديدًا) .
ولأن قوله: فحاسَبْنَاها وعذّبْنَاها - بلفظ الماضي، فهو حقيقة
فيما وقع، مجازٌ فيما لم يقع.
ومعنى (حَاسَبْنَاهَا) ، أي وأخذناهم بجميع ذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها، والعذاب هو عقابهم في الدنيا.
والنُّكر هو الشديد الذي لم يُعْهَد مثله.
فاشكر الله يا محمديّ على أن عقوبتك إنما هي في الدنيا إذا لم تَتبْ من الذنب
ولم تستغفر - بالآلام والأمراض والأسقام، ولا يجمع عليك عقوبتين، وإن
استغفرت فتكتب لك حسنات.
(عَلاَ في الأرْض) ، يعلو: تكبَّر، ومنه: (قَوْماً عَالِين) .
والعليّ اسمُ الله، والمتعالي والأعلى من العلاء، بمعنى الجلاَل والعظمة.
وقيل بمعنى التنزيه عما لا يليق به.
(عزب) الشيءُ: غاب.
ومنه: (وما يَعْزبُ عن رَبِّك) ، أي لا يخفى عنه.
(عبس وبَسَر) : البسور: تقطيب الوَجْهِ، وهو أشدّ من العبوس.
والمراد بهذا الوصف الوليد بن المغيرة لمّا حسد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يَدْرِ ما يقول فيه، وضاقت عليه الحيل عبس في وجهه، وقال لما قال له: إن قريشاً قد(2/605)
أَبغضتك لمقَارَبتك لحمد، ففكّر في نفسه، وقال: أقول فيه قولاً يرضيهم.
فقال: أَقول في القرآن شعر، ما هو بشعر.
أقول كاهن، ما هو بكاهن.
أقول سحر، وإنه قول البشر غير منزل من عند الله.
(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) .
أي حيث شاؤُوا من منازلهم تفجيرا سهلا، لا يَصْعب عليهم.
وفي الأثر: إن في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة عيناً تتفخر إلى قصور الأنبياء والمؤمنين على قَدْر اتَباعهم له.
وكيف لا وهو مَنْبَعُ الخير الدنيوي والأخروي، وجميع علومهم متفجرة مِن
علْمِه - صلى الله عليه وسلم -، وهل نال جميع الموجودات من الخيرات إلا مِنْ فَيْضَ جودِه، أو هل خلق اللَّهُ الجنةَ إلاَّ من أجله، فيعطيها مَنْ شاء مِنْ خَلْقه.
و (عَيْناً) في الآية بدلٌ من كافور، على القول بأن الخمر تمزج بالكافور.
وبدل من موضع (كأس) على القول الآخر، كأنه قال: يشربون خمرا خَمْر عين.
وقيل: هو مفعول بـ (يشربون) .
وقيل منصوب بإضمار فعل.
قال ابن عطية: الباء زائدة، والمعنى يشربها.
مهذا ضعيف، لأن الباء تزاد في مواضع ليس هذا محلّها، وإنما هي كقولك: شربت الماء بالعسل، لأن العين المذكورة يمزج بها الكأس من الخمر.
فلتتأَملْ أَيها الناظر إلى وصفهم بالعبودية وإضافتهم إلى الوصف العظيم.
تعرف بذلك عظيمَ منزلتهم، ويشهد لذلك تشريف نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (سبحان الذي أسرى بعبده) ، ولم يقل بنبيّه، لأن العبودية أشرف التحلية.
وإذا تأملْتَ وصف العبودية في القرآن لا تجِدها إلاَّ لمَنْ يتصف بالطاعة.
كقوله: (وعِبَاد الرَّحْمنِ الَّذِين يمْشون على الأرض هَوْناً) .
فما أحسنها من إضافة من محبٍّ لمحبوب، مرةً أضافهم إلى الاسم العظيم، ومرة إلى الرحمة، وأعظم من هذا أنه أضاف العاصي إلى نفسه، بقوله: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) ، كي لا يقدر إبليس أن يسلبه منه(2/606)
ولا يضرّه، فالذي أضافكَ إليه مع عصيانك أتراه لا يرزقك، أو إن رجَعتَ
إليه لا يَقْبَلك، أو إن استغفرته لا يغفر لك، كلا، والله، بل يقبلك على ما
فيك من العيوب، فسبحان مَنْ خلق الْخَلق ليرزقهم، ويظهر قدرته فيهم.
ويُميتهم ليظهر قَهْرَه، ويُحْييهم ليظهر جلالته، ويدخلهم جنّتَه ليظهر فَضْله، ويعذبهم ليظهر عدله فيهم ونِقْمته، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) .
(عَطَاءً حِسَاباً) :
أي كافياً، من أحْسَبَه الشيء إذا كفاه.
وقيل معناه على حسب أعمالهم.
ويقال أصل هذا أن تعطيه حتى يقول حَسْبي حسبي، فهناك أعطاهم بغير حساب.
وفي موضع قال: (كَفى بنَا حاسِبِين) .
وهم العاملون بالفَضْل.
وفي موضع قال: (كفى بنفسك اليومَ عليك حَسِيباًَ) .
وهم مَنْ أراد اللَّهُ أن يعامِلهم بالعدل.
(عَسْعَس) : من الأضداد.
ويقال عسعس الليل: أقبل ظلامه في أوله، وقيل في آخره.
وهذا أرجح، لأنَّ آخر الليل أفضله، ولأنه أعقبه بقوله: (والصبح إذا تنَفَّس) ، أي استطار واتسع ضَوْءه.
(عَدَّلك) ، بتشديد الدال: قوَّم خَلْقك، وبالتخفيف: صرفك إلى ما يشاء من الصورة في الْحُسْن والقبْح، والطول والقصر، والذكورة
والأنوثة، وغير ذلك، من اختلاف الصور.
وبالجملة فابن آدم من أكرم المخلوقات في تعديل صورهم في أيديهم، والمشي
على أرجلهم، وانتصاب قامتهم، وتركيب أجسادهم، والعلم والعقل، والأكل باليمين، وسَتْر العورة، واللباس، والرجال باللّحى، والنساء بالذوائب.
فتأمَّلْ يا ابن آدم في هذه الكرامات التي أكرمك بها، وأضافك بالكرامة
إليه، في قوله: (ما غَرَّكَ بربِّكَ الكريم) .
وإلى رسوله في قوله: (إنه لقَوْلُ رسولٍ كريمٍ) .
وإلى كلامه في قوله: (إنه لقرآن كريم) .
وإلى مدخل رحمته: (وندخلكَم مدْخَلاً كريماً) .
وإلى تفصيل(2/607)
أعضائك من عَظْم ولحم، ومخ وعصب وعروق ودم، وجلد وظفر وشعر، كل واحد منها لحكمة، لولاها لم يكن الجسد بحسب العادة، فالعظائم منها هي عمود الجسد، فضمّ بعضها إلى بعض بمفاصِلَ وأقْفال من العضلات والعصب - ربطت بها، ولم يجعلها عظماً واحداً، لأنك ترجع مثل الحجر، ومثل الخشبة، لا تتحرك، ولا تجلس ولا تقوم، ولا تركع ولا تسجد لخالقك، وجعل العصب على مقدار مخصوص، ولو كان أقواها هو لم تصحّ عادة حركةِ الجسم، ولا تصرّفه في منافعه، ثم خلق الله تعالى المخَّ في العظام في غاية الرطوبة، ليرطب يَبس العظام وشدّتها، ولِتَقْوى العظام برطوبته، ولولا ذلك لضعفت قوّتها، وانخرم نظام الجسم لضعفها بحسب مجرى العادة.
ثم خلق اللحم، وعبّأه على العظم، وسدّ به خللَ الجسد كله، فصار مستوياً لحمة واحدة، واعتدلت هيئة الجسد به، واستوت.
تم خلق العروق في جميع الجسد جداولَ لجريان الغذاءَ فيها إلى أركان الجسد.
لكلّ موضع من الجسد عددٌ معلوم من العروق صِغَاراً وَكباراً، ليأخذ الصغير
من الغذاء حاجَته والكبير حاجتَه.
ولو كانت أكثر مما هو عليه أو انقص، أو على غير ما هي عليه من الترتيب - ما صحَّ من الجسد بحسب العادة شيء.
ثم أَجْرَى الدمَ في العروق سيّالاً خاثراً، ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يَجْرِ في العروق.
ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء.
ثم كسا اللحم بالجلد، ليَسترَه كلَه، كالوعاء له.
ولولا ذلك لكان قشرا أحمر.
وفي ذلك هلاكه.
تم كساه الشعر وقاية للجلد وزينة في بعض المواضع.
وما لم يكن فيه الشعر جعل له اللباس عوضاً منه، وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتمَّ الانتفاغ ببقائه وَلِين أصوله، ولم يحعلها يابسة مثل رؤوس الإبر، إذ لو كانت كذلك لم يَهْنِه عَيْش.
وجعل الحواجبَ والأشفار وقاية للعين، ولولا ذلك لأهلكها الغبار والسقط.
وجعلها على وَجْهٍ يتمكن بسهولة من رَفْعِها على الناظر عند قَصْد النظر، ومن(2/608)
إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تُؤذى برؤيته ديناً أو
دنيا، ولم يجعل شعرها طبقاً واحدا لينظر من خللها.
ثم خلق شَفَتيْنِ ينطبقان على الفَمِ يَصُونان الفمَ والحَلْق من الرياح والغُبار.
وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح.
ولما فيهما أيضاً من كمال الزينة وغيرها.
ثم خلق بعدها الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطَحْنِه.
وجعل اللسان الذي يجمَعُ به ما تفرى من المأكول في أرجاء الفم، ليتمكن تسهيله للابتلاع بطَحْن الأرحاء، وخلق فيه معنى الذوق لكل مأكول ومشروب.
وَلم يخلق جَلّ وعلا الأسنان في أول الخلقة لئلا يضر بأمِّه في حال رضاعه بالعَضِّ، ولأنه لا يحتاج إليها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية التي تفتقر إلى الأسنان، فلما كبر وترعرع وصلح للغذاء خلق له الأسنانَ، وجعلها نوعين: بعضها محددة الأطراف، وهي التي للقطع، يقطع بها المأكول، وبعضها بسيطة وهي التي للطحن، فسبحانه! ما أكثر عجائب صُنْعه، وأوسع الآيات الدالة عليه! ولكن لا نبصر شيئاً إلا بتوفيق الله تعالى.
ثم لما كان المأكول شديداً كثيفاً، ولم يكن مجرى في الفم إلى الْحَلْق - وهو
كذلك على يبسه - أنبع الله تعالى في الفم عيْناً نَبّاعة على الدوام أحْلَى من كل حلو، وأعذب من كل عذب، فيحرك اللسان الغذاء، ويمزجه بذلك الماء، فيعود زلقاً، فينحدر في الحلق بلا مؤونة، ولهذا إذا أبدل الله تعالى تلك العين جفوفاً من المرض لم يَمْضِ على الحلْق شيء، وإن مضى فبمشقَّة عظيمة، ومن عجيب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم في كلّ وَقْتٍ حتى يتكلفَ الإنسان مؤونة عظيمة في طَرْح ذلك عنه.
جرت على وَجْه الحكمة فيه أن تعدد أوْجُه منفعتها، (فتبارك الله أحسن الخالقين) .
ثم خلق أظفار اليدين والرجلين، لتشتدَّ بها أطرافها، لكثرة حركتها.
والتصرف بها في الأمور، وليحكّ بها، وينتفع في موضع الحاجة.(2/609)
وانظر إلى خلْق الأصابع، وجعلها مفرقة ذات مفاصل، ليتمكن بذلك من
قَبْضها وبَسْطِها بحسب الحاجة.
ولما كان الشّعر والظّفر مما يطول لما في طولها من الصالح لبعض الناس، وفي
بعض الأوقات، وكان جَزّها مما يحتاج إليه في بعض الأوقات، لم يجعلها كسائر الأعضاء في تألم الإنسان بقطعها.
فانظر إلى دقائق هذا الصنع الجليل، وحُسْن المعاني مِنْ ربّ جميل لجميع
الحيوان، وخص هذا الآدمي بخصائص وحِكم يُعْجِز ذكرها.
وقد أشرنا إلى بعضها، وقد ذكر أهل التشريح تفصيلها.
وبالجملة فهذا الآدميّ هو العالَم الأكبر، وجميع المخلوقات هو العالم
الأصغر، وكيف لا وقد جمع الله فيه ما تفرق في كلّ الأشياء، فإن كان للسماء علوّ فللآدَمِيّ القامة.
وإن كان في الفلك شمس وقمر فللآدمي العينان.
وإن كان له نجوم فللآدمي الأسنان.
وإن كان للفلك الدوران فللآدمي السير.
وإن كان للسماء القطر فلعين الآدمي الدمعة.
وإن كان للبرق لمعة فللآدمي اللمحة.
وإن كان للأرض الزلزلة فلنفس الآدمي الرّعْدة.
وإن كان للأرض القرار فللآدمي السكون والوقار.
وإن كان في الأرض الأنهار فللآدمي العروق.
وإن كان للأرض النبات والأشجار فلنَفْسِ الآدمي الشعور.
وإن كان في السماء العرش فهمّة المؤمن أعلى وأعظم، وهي متعلقة بالمولى.
وإن كان في السماء الجنّة فللمؤمن القلب، وهو أزين منها، لأن الجنة محل الشهوة، والقلب محل المعرفة، وخازن الجنة رضوان وخازن قلب المؤمن الرحمن.
"إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".
وفي رواية:" القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء".
اللهم يا مقَلِّبَ القلوبِ ثبت قلوبنا على طاعتك، وأعِنْها على عبادتك، وهَبْ لها أرواحاً تَقودها إلى مشاهدتك، فإنك قلت: (والسابقون السابقون أولئك الْمقَرَّبون) .
(فأصحاب الْمَيْمَنَةِ ما أصْحَاب الْمَيْمَنَةِ) ، وأعِذْنا من أرواح أصحابِ المشأمة.(2/610)
قال بعضهم: للمؤمنين أربعة أرواح: روح الإيمان، وبها عَبَدوا اللَهَ ووَحَّدوه.
وروح القوة، وبها جاهدوا أعداء الله.
وروح الشهوة، وبها أصابوا لذة المطعم والمشرب والتمتّع.
وروح الحياة، وبها تحركوا إلى الطلبات.
وأما أصحاب المشأمة فبروح الحياة استعانوا على طول الأمل، وبروح القوة
على المعصية، وبروح الشهوة على أخْذ الحرام والشبهة، فلذلك شبههم بالأنعام فقأل: (إنْ همْ إلاَّ كالأنعام) .
وقال آخر: إنْ كان في العالم سبع سموات فللآدميِّ سبعة أعضاء، وأمر أن
يسجد عليها: اليدين، والرجلين، والركبتين، والوجه.
وإن كان في العالم الحيوان فللآدمي القمل والبراغيث والصئبان.
وإن كان للعالم شمس فللآدمي المعرفة أنور منها والعلم.
وفي العالم النجوم وفي الآدمي العلوم.
وفي العالم الطيور وفي الآدمي الخواطر.
وفي العالم جبال وفي الآدمي العظام.
وفي العالم أربع مِيَاهٍ: عذب، ومنْتن، ومرّ، ومالح.
وفي الآدمي العذب في فَمِه، والمرّ في أذنيه، والمالح في
عينيه، والْمنْتن في أنفه.
فتفكَّر يا ابن آدم كيف خلقك وصوَّرك على سبعة أعضاء، وسبعين مفصلاً.
ومائة وثمانية وأربعين عظماً، وثلاثمائة وستين عرْقاً، ومائة ألف وأربعة وعشرين ألف شعرة، حياتها بروح واحدة.
وجميع الأجناس المختلفون خالقهم العزيز الجبّار.
(عَيْن آنِيَة) :
قد قدمنا أنها شديدة الحر، ووَزن آنيَة هنا فاعلة، بخلاف (آنية مِنْ فضة) فإن وزنها أفعلة.
(عالية) :
نعت للجنة، لكن يحتمل أن تكون من علوّ المكان، أو من علوّ المقدار، أو الوجهين.
(عَيْنٌ جارية) :
يحتمل أن يريد جنْسَ العيون، أو واحدة شرّفها بالتعيين.(2/611)
(عَلَيْنَا لَلهُدَى) ، أي بيان الخير والشر.
وليس المراد الإرشاد عند الأشْعرية، خلافاً للمعتزلة
(عائِلاً فأغْنَى) :
يقال عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجاً، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله، وهذا الفقر والغنى هو في المال، وغِنَاه عليه السلام هو أنْ أعطاه الله الكفاف.
وقيل: هو رِضَاه بما أعطاه الله.
وقيل: المعنى وجدك فقيراً إليه فأغناك به.
(عَلَق) :
جَمْع علَقة، وهي النّطْفَة من الدم، يخلق منها الإنسان.
وإنما جمع العلق في سورة اقرأ، لأنه أراد الجماعة، بخلاف قوله: (فإنا
خلَقْنَاكمْ مِنْ تُراب ثم مِنْ نطفة ثم مِنْ عَلقة) ، لأنه أراد كل
واحدٍ على حِدته، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا.
لأنه لم يخلق من علقة، وإنما خُلِق من طين.
فليتأمل العاقل خِلْقته من علقة في رَحم مغمومة من دَم حيض، فلما كبر
وترعرع صار يخاصِمُ مَوْلاه، كما قال تعالى: (فإذا هو خَصِيم مُبين) .
(عَلّم بالقلم) :
هذا تفسير للأكرم المذكور قبله، فدل بهذا
على أن نعمةَ التعلمِ أكبر نعمة.
وخص من التعليمات الكتابة بالقلم، لما فيها من
تخليد العلوم، ومصالح الدنيا والدين.
وقرأ ابن الزبير علم الخط بالقلم.
يا معاشرَ العلماء، قد كتبتُم ودَرَستم، ولو ناقشكم بالمحاسبة لأفلستم، ما
يكون جوابكم إذا قال لكم: يا أمَّة أحمد، قد كُرمْتُم وفُضلْتُم، وأعطيتكم ما لم أعطِه أمةً قبلكم، وشرفتكم بما شرفت به الأنبياء.
أمَا سمعتم ما قلت لنوح: (اهْبِطْ بسَلام مِنَّا) .
ولكم: (وسلام على عباده الذين اصطفى) .
وقلت لإبراهيم: (يا نارُ كُونِي برْداً وسلاماً على إبراهيم) ، ولكم: (ثم نُنَجي الذين اتقَوْا) .
وأعطيت العَصَا لموسى.
ولكم قُلْت: (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)(2/612)
وأحييت على يدِ عيسى الْمَوْتَى، وقلت لكم: (أوَ مَنْ
كان مَيْتاً فأحيَيْنَاه) .
وأعطيت الملك لسليمان، وأعطيتكم الملك، وخصوصاً الملك الكبير.
وأحضرت العرش على يد آصف وأزلفْتُ الجنة لكمِ.
ولئن بشرت يعقوب بريح القمِيص فقد قلت لكم: (فرَوْح ورَيْحان
وجَنّة نعيم) .
فبأيّ عمَلٍ تدخلوها، وبأي نية نويتموها، علّمتكم ما لم تعلموا، وخاطبتكم بما تفهمون، واستملت قلوبكم لتأنسوا، فلم تزيدوا إلا بعْداً، ودعوتكم لدار كرامتي فأعرضتم عنها، فلا إليَّ تقرَّبْتمْ، ولا لها أردتمْ، ولا بها تلذّذتم.
أما علمتم أنكم لا تَدْعُون لدياركم إلاَّ من تحبّون أن تطعموه، ولا تنسبون إلى أنفسكم إلا مَنْ تريدون أن تكرموه.
أما سمعتم قولي: (واللَه يَدْعو إلى دار السلام) .
(يدعوكم ليغفر لكم مِن ذنوبكم) ، فلِمَ تقاعستم؟؟!!!
اللهم إنكَ أنعمتَ علينا بنعم لا تحصى، وأعظمها الخطُّ بالقلم، وعلمتنا ما لم نكن نعلم، فجعلناها سُلّماً لمعاصيك، فحلمْتَ عنا، ولم تعاجلنا بالعقوبة فضلاً منك علينا، فأنّى لنا بجوابك عند العَرْض عليك، والوقوف بين يديك، إلا قولنا لك: غَرّنا حِلمك وكرمك، فأتْمِمْ علينا جودك وإحسانك، وقولك لعبدك: سترتُهَا عليكَ في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، وإن لم يقَعْ منك ذلك فقيِّضْ نبينا وحبيبنا للشفاعة، فإنك أخبرتنا على لسانه الصادق المصدَّق، أنَّ شفاعتَه لأهل الكبائر من أمته، ونحن من أمته المؤمنون به المصلّون عليه.
عليه الصلاة والسلام، يا سيد الخلق، ها أنا أتَوَسَّلُ بك إلى ربي في غفراْن ذنوبي.
(عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يَعْلَمْ) :
يعني العلوم على الإطلاق، أو علْمَ
الكتابة بالقلم.
وعلى هذا فالإنسان نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: (وعلَّمَكَ ما لم تكن تعلم) .
وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب ولم يقرأ.
(عَصْر) :
دَهْر، أقسم اللهُ به في كتابه، لكن اختلف ما المراد به، فقيل صلاة العصر، أقسم الله بها لفَضْلها، ولذا ورد في الحديث:
"مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ".
أي خسرهما.(2/613)
وقيل إنه العشيّ، أقسم به كما أقسم بالضحى، ويؤيّد هذا قول أبيّ بن كعْب: سألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن العصر، فقال: أقسم ربكم بآخر النهار.
(على الأفْئِدة) : يعني أنَّ النارَ تبلغ القلوبَ بإحراقها.
قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع ما في القلوب من العقائد والنيات بإطلاع الله إياها.
(عَنْ صَلاَتِهم سَاهون) :
هو تركها بالكلية، وهذا كقوله تعالى: (أضاعوا الصلاة واتَّبَعوا الشهوات) .
وقيل هم الذين يؤخِّرونها عن وقتها تهاوناً بها، كما ورد في الحديث.
وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها: واللَه ما ضيَّعوها، وإنما أخَّروها عن وقتها المختار.
(عُدْوَان) : ظلْم وتعدّ حيثما وقع.
وقوله: (فلا عُدْوَانَ إلاَّ على الظالمين) ، أي فلا جزاء ظلم إلا على ظالم، تسميةً لعقوبته باسم ذنبه.
(عَرَفات) :
اسم علم للموقف.
سمِّي بذلك لتعارفِ الناس به.
والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر، لا تنوين صَرْف، فإن فيه التعريف والتأنيث.
وقيل: إنما سمي به لأنَّ آدم عرف فيه حواء.
(عَرَج) : يعرج - بفتح الراء في الماضي وضمها في المضارع:
صعد وارتقى.
ومنه: (المعارج) .
وعرِج بالكسر في الماضي والفتح في المضارع: صار أعرج.
(عرْضةً لِأَيمانكم) ، أي لا تكثروا الحلف به فتَبْتَذِلوا اسمه.
ويقال هذا عرضة لك، أي عدة لك.
(عقود) :
ما عقده المرء على نفسه مع غيره من بيع ونكاح
وعِتْق وشِبْه ذلك.
وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات، كالحج والصيام وشبه ذلك.(2/614)
وقيل: ما عقده اللَّهُ على عباده من التحليل والتحريم في دينه.
ويجبُ الوفاء بكل ذلك كما وصّى بذلك في غير ما موضع.
(عُرْف) : هو أفعال الخير.
وقيل العرف الجاري بين الناس من العوائد.
واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد.
(عُصْبَة) ، أي جماعة من العشرة، ومراد إخوة يوسف بهذا
القدرة على النّفْعِ، وأنهم لا يقاومون اطمئناناً لأبيهم.
(عُقْبَى الدَار) ، أي عاقبة.
وعاقَب له معنيان: من العقوبة على الذنب، ومن العقبى.
ومنه: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) ، أي أصبتم عقبى.
(عَيْن) :
له في القرآن معنيان: العين المبصرة، وعين الماء: وله في غير القرآن
معان كثيرة.
(عِتِيًّا) ، وعسيًّا وعسوَّا بمعنى واحد، وهو يبس في الأعضاء والمفاصل.
وقيل مبالغة والكبر.
(عسى أنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدا) :
هذا كلامٌ أمِر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله.
والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف، أي عسى أن يؤتِيَنِ الله من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوءتي من خبر أصحاب الكهف.
واللفظ يقتضي أن المعنى عسى أن يوفقني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرْشَد من خبر أصحاب الكهف وأقرَبُ إلى اللَه.
وقيل: إن الإشارة إلى المنسي، أي إذا نسيتَ شيئاً فقُلْ عسى أن يهدين الله
لشيء آخر هو أرشد من المنسيّ.
(عُقْدة) ، أي خبْسة، والمراد بها الرّتَّة التي كانت في لسان موسى من الْجَمْرَةِ التي جعلها في فِيه، وهو صغير، حين أراد فرعونُ أن يجربه.
وإنما قال (عُقْدة) - بالتنكير، لأنه طلب حلَّ بعضها ليَفْقَه قوله، ولم يطلب
الفصاحةَ الكاملة.(2/615)
(عُجَاب) ، وعجيب بمعنى واحد، وهو قولُ الكفَّار الذين
تعجّبوا من التوحيد ولم يتعجبوا من الكفر الذي لا وَجْهَ لصحته.
ورُوي أنَّ المسلمين فرحوا بإسلام عمر، وتغيَّر المشركون لذلك، فاجتمعوا
ومشَوْا إلى أبي طالب وقالوا: أنْتَ شيْخُنا وكبيرنا، وقد علمتَ ما فعل هؤلاء السفهاء منا، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابْنِ أخيك، فاستحضر أبو طالب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا ابْنَ أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تَمِلْ كلَّ الْميل على قومك.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ماذا تسألونني، فقالوا، ارفض آلهتنا وارْفضنا وندعك وإلهك ".
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيتكم إنْ أعطيتكم ما سألتم أمُعْطِيّ أنتم كلمةً واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، " قالوا: نعم وعشراً، أي نعطيكها وعشر كلمات معها.
فقال: قولوا لا إله إلا الله.
فقاموا، وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) ، أي بليغ في العجب.
(عُرباً) : جمع عَروب، وهي المتودّدة إلى زوجها بإظهار
محبّتها، وعبَّر عنهن ابن عباس بأنهن العواشق.
وقيل هن الحسنة الكلام.
(عُتلٍّ) ، أي غليظ الجسم، قاسي القلب، بعيد الفهم، كثير
الجهل.
(عُتْبَى) : معناه الرضا، ومنه: (فما هم مِنَ الْمعْتَبِين) .
(ولا هم يُسْتَعْتَون) .
والعتاب: العذاب.
(عِبْرة) : اعتبارًا وموعظة حيثما وقع.
(عِيدا) : كل يوم مجمع، ولذا طلب عيسى المائدة أن
تكون تنزل عليهم كلّ يوم عيد.
وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعة لجميعنا
أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة، لا عيداً يدور، وإنما سُمِّي عيداً لعوْدِه
بالفرح والسرور على قومٍ وعلى قوم بالحزن، وكذلك المأتم، سُمِّي بذلك، لأنه لم يتم لأحد فيه أمر.(2/616)
(عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) :
قد قدمنا سرَّ الإفصاح بأمه، ولم يسمّ امرأة في القرآن
غيرها، وذلك لنفي التهمة، لأن العادة بين الْخَلق ألاَّ يصرح الرجل باسم امرأته، فسمّاها الله باسمها كي لا يظنَّ ظانّ أنها زوجته، وخلقه الله بغير أبِ.
وكلّم الناسَ في الْمَهد ككلامه في حال الكهولة، وعلّمه التوراةَ في بطن أمهَ، وأحيا الموتى على يديه، وأبرأ الأكْمَه والأبْرَصَ، وأكرمه الله بالزُّهد في الدنيا حيث لم يتخذ من الدنيا شيئاً، ولهذا قال عليه السلام: "مَنْ أراد أن ينظرَ إلى زهْد عيسى فلينظر إلى زُهد أبي ذَرٍّ".
وعلمه الخطَّ الجيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:
الخط عشرة أجزاء: أحدها لجميع الْخَلْق وتسعة لعيسى ابن مريم خاصة.
وكانت مدة حَمْله ساعة.
وقيل ثلاث ساعات.
وحملَتْ به وهي بنْت عشر سنين.
وقيل بنت خمس عشرة سنة.
ورفعه الله إلى السماء، وله ثلاث وثلاثون سنة.
ونؤمن بنزوله في آخر الزمان، ويقتل الدجال.
وفي مسند أحمد من حديث جابر:
يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنْ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنْ الْعِلْمِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً يَسِيحُهَا فِي الْأَرْضِ الْيَوْمُ مِنْهَا كَالسَّنَةِ وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالشَّهْرِ وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالْجُمُعَةِ ثُمَّ سَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ هَذِهِ وَلَهُ حِمَارٌ يَرْكَبُهُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا فَيَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمْ وَهُوَ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ ك ف ر مُهَجَّاةٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٌ وَغَيْرُ كَاتِبٍ يَرِدُ كُلَّ مَاءٍ وَمَنْهَلٍ إِلَّا الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَامَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَبْوَابِهَا وَمَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ وَالنَّاسُ فِي جَهْدٍ إِلَّا مَنْ تَبِعَهُ وَمَعَهُ نَهْرَانِ أَنَا أَعْلَمُ بِهِمَا مِنْهُ نَهَرٌ يَقُولُ الْجَنَّةُ وَنَهَرٌ يَقُولُ النَّارُ فَمَنْ أُدْخِلَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجَنَّةَ فَهُوَ النَّارُ وَمَنْ أُدْخِلَ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّارَ فَهُوَ الْجَنَّةُ قَالَ وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَعَهُ شَيَاطِينَ تُكَلِّمُ النَّاسَ وَمَعَهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ وَيَقْتُلُ نَفْسًا ثُمَّ يُحْيِيهَا فِيمَا يَرَى النَّاسُ لَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ النَّاسِ وَيَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَّا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَيَفِرُّ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جَبَلِ الدُّخَانِ بِالشَّامِ فَيَأْتِيهِمْ فَيُحَاصِرُهُمْ(2/617)
فَيَشْتَدُّ حِصَارُهُمْ وَيُجْهِدُهُمْ جَهْدًا شَدِيدًا ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُنَادِي مِنْ السَّحَرِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ فَيَقُولُونَ هَذَا رَجُلٌ جِنِّيٌّ فَيَنْطَلِقُونَ فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَيُقَالُ لَهُ تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَيَقُولُ لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ فَإِذَا صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ قَالَ فَحِينَ يَرَى الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي يَا رُوحَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ فَلَا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ.
وفي الصحيح أحاديث بمعنى ذلك.
وفي أحاديث أنه يتزوَّج ويولَدُ له الولد، ويمكث في الأرض سبع سنين، ويدْفن معه - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الصحيح أنه رَبْعة أحمر كأنما خرج من دِيْمَاس - يعني حَمَّاما.
وعيسى اسم عبراني أو سرياني، وهو أحد الأربعة الذين سمّاهم الله قبل
وجودهم.
فإن قلت: قد اختاره الله لإقامةِ دينه، وخَصَّه بما لم يخصّ به أحد غيره، فلِمَ
لا يتقدم للصلاة بهذه الأمّة، وما الحكمة في تمثيل الله له بآدم، ولِمَ خلِق من
غير أب؟
والجواب أن الله ينزله لتجديد الشريعة المحمدية، فلو أمّ بهم لظنّوا أنه أتى
بشريعته المتقدمة، فنفى توهّم ذلك بقوله: ليتقدم إمامكم.
وأمَّا تمثيل اللهِ له بآدم فلأنَّ بقاءَ آدم بالتراب وبقاءَ النفس بالريح، والترابُ
طيّب والريح طيبة، والتراب يميز الخبيث من الطيب، والريح تميز الْحَبَّ من
التَبن، والريح رحمة والأرض رحمة، والأرض مسخرة، قال تعالى: (هو الذي
جعل لكم الأرْضَ ذَلُولا) .
والريح مسخّرة، والأرض مختلفة: خبيث وطيب، وحَزْن وسَهْل، والريح مختلفة منها لواقح وصَرْصر، وصَبا وشمال، ودَبور وجُنُب، والتراب يطفئ النار، والريح أيضاً يطفئها.
وكما مثّل الله عيسى بآدم مثّل الدنيا بماء السماء، قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) .(2/618)
في أنَّ كثرته يضرّ، وقِلّته ينفع.
ومثَّل المنفق بالزرع، قال تعالى: (مثَل الذين ينْفِقون أموالَهم) .
ومثّل عابدَ الأصنام بالعنكبوت، قال تعالى: (مَثَل الذين اتّخَذوا من دون الله أولياء كمثل العنَكبوت) ، في ضَعْفِ نسجها.
ومثّل أعمالَ المنافقين بالسرابَ يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده
شيئاً.
ومثّل أهْلَ الكتاب بالحمار، في قوله: (مَثَل الذين حمِّلوا التوراة ثم لم
يحملوها كمثل الحِمَار يحمل أسفاراً) .
ومثّل بلعام بالكلب، قال تعالى: (فمَثَلُه كمثَلِ الكلْب) .
وشبَّه التوحيد بشجرة النخلة، قال تعالى: (كشجرة طيِّبَة) .
والكفر بشجرة الدِّفْلَى كما قدمنا.
ومثَّل آدم بالتراب.
وخلق الله عيسى من غير أب، ليكون دليلاً على ثبوت الصانع.
وذلك أنه خلق آدمَ مِنْ غير أبِ ولا أمّ، وخلق عيسى من غير أب، وخلقك من أبٍ وأم، ليكون دليلاً على وحدانيته، وكمالِ قدرته، وبطلان الطبع والنجوم.
(عِوَجا) :
اعوجاج حيثما وقع بكسر العين في المعاني التي لا تحَس، وبالفتح في الأشخاص ونحوها.
ومعناه عدم الاستقامة، ومعناه في قوله: (ولم يجعل له عِوَجا قَيماً) .
الذي لا تناقضَ فيه، ولا خَللَ فيه، وقيل لم يجعله مخلوقاً.
واللفظ أَعَمُّ من ذلك.
(عُدْوَة) ، بكسر العين وضمها: شاطئ الوادي.
والمراد بالدنيا في قوله: (إذ أنتم بالعُدْوَةِ الدنيا) : القريبة من المدينة.
والعدوَة القصْوى البعيدة.
والقصوى والدنيا تأنيث الأقصى والأدنى.
(عِير) : رفقة، وقيل إبل تحمل المِيْرة.
(عِجَاف) :
قد بلغت في الهُزل النهاية، وكان الملك قد رأى في نومه سبْعَ بقرات سِمَان أكلتهنّ سَبْع عِجَاف، فتعجَّب كيف غلبتهن، وكيف وسعتها في بطونهن.
(عِضِين) :
قد قدمنا أنَّ معناه أجزاء، ومفرده عِضَه.(2/619)
والعاضِهُ الساحر، قال عكرمة: العِضَة: السحر - بلغة قريش.
يقولون للساحرة:
عاضهة، ويقال عضهوه آمنوا بما أحبّوا منه، وكفروا بالباقي، فأحبط كفْرُهم إيمانَهُم.
(عِجْلاً جَسَدًا) :
ولد البقرة، والجمع العجاجيل، والأنثى عِجْلة، وبقرة معْجِلة: ذات عِجْل.
قيل سمي عجلاً لاستعجال بني إسرائيل عبادته، وكانت مدةَ عبادتهم له أربعون يوماً، فعوقبوا في التَيهِ أربعين سنة كلّ يوم بسنة، وكان السامريّ من قوم يعبدون البقر، واسمه موسى بن ظفر، وكان جسداً لا يأكل ولا يشرب.
ونقل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله أنه سئل عن قوم يجتمعون
في مكان يقرأون القرآن، ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدّف والشبّابة، هل الحضور معهم حلال أم لا، فقال: مذهب الصوفية أنَّ هذا بطالة وجهالة وضَلالة، وما الإسلام إلا كتابُ الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الرقْص والتواجد فأوَّل مَنْ أحدثه أصحاب السامريّ لما اتخذ لهم
عِجْلاً جَسَدًا له خوار، قاموا يرقصون حَوْله، ويتواجدون، فهو دين الكفَّار
وعباد العجل، وإنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحايه كأنما على رؤوسهم الطير مع الوقار.
فينبغي للسلطان مع نوّابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا
يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يُعينهم على باطلهم.
هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد من أئمة المسلمين رضي الله
عنهم أجمعين.
وقال القشيري: كان إبراهيم عليه السلام مضْيَافاً، وكان عامّة ماله البقر.
وقدم العجل للملائكة، واختاره سَمِيناً زيادةً في إكرامهم.
وقيل: إن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام مسرعاً حتى لحق بأمِّهِ.
ومما يُحْكى من محاسن القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن فريعة(2/620)
البغدادي، ووفاته سنة سبع وستين وثلاثمائة: أن العباس بن المعلى الكاتب كتب إليه: ما يقول القاضي وفّقه الله تعالى في يهوديّ زنى بنصرانية، فولدت ولداً جِسْمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟
فكتب القاضي بديها: هذا من أعدل الشهود على أن الملاعين اليهود أشربوا
حبَّ العجل في صدورهم، حتى أخرج من أيورهم.
وأرى أن ينَاط برأس اليهودي رأس العجل ويصْلَب على ُنق النصرانية: الرأس مع الرِّجْل، وأن يُسحبا على الأرض، وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض. والسلام.
وروي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغَيْضَة.
وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فكبر الولد - وكان بارًّا بأمه، وكانت من أحسن البقر، فساوموها حتى اشتروها بملء جِلْدها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة التي أمرهم الله بذبحها أربعين سنة (1) .
(عِفْريت من الجِنّ) :
قد قدمنا أن اسمه الكوْدَن، وهو القويُّ المارد من الشياطين، والفاء فيه زائدة.
قال ابن عباس: هو صخر الجني.
وقال ابن زيد: استدعاه ليريه القدرة التي هي من عند الله.
ورُوي أن هذا العرش الذي أمر سليمان بمجيئه كان من فضة وذهب مرَصَّعا
باليواقيت والجوهر، وأنه كان في جوفه سبْع بيوتٍ عليها سبعة أغلاق.
قال ابن عباس: كان سليمان مهيباً لا يُبْدَأ بشيء حتى يكون هو الذي يسألُ
عنه، فرأى ذات يوم رَهجاً قَرِيباً منه، فقال: ما هذا، فقالوا له: بلقيس.
فقال: (أيها الْمَلأ أيّكم يأتيني بعرشها) ، فقال له العفريت: (أنا آتِيكَ به قَبْل أن تقوم من مقامك) .
وكان يجلس مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر، فقال الذي عنده علم من الكتاب - وهو آصَف بن برْخيا، وكان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل، كان يعلم اسْم اللَهِ الأعظم.
وقيل هو الخضر، وقيل جبريل.
والأول أشهر: (أنا آتيك به) - في الموضعين - يحتمل أن يكون فعلاً مستقلاً، واسم فاعل - قبل أن يرتدّ إليك طَرْفُك، أي قبل أن
__________
(1) لا يخفى ما فيه من المبالغة والبعد.(2/621)
تغْمِضَ بصرك إذا نظرت إلى شيء.
فدعا باسم الله العظيم الأعظم، وهو: يا حيّ، يا قيّوم، يا إلهنا، وإله كل شيء، إلهاً واحدا لا إله إلا أنت.
وقيل يا ذا الجلال والإكرام.
فشُقّت الأرض بالعرش حتى نبع بين يدي سليمان.
وقيل: جِيءَ به في الهواء.
وكان بين يدي سليمان والعرش مسيرةُ شهرين للْمُجدِّ.
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) ، جعل يشكر الله الذي أنعم عليه
يعبارة فيها تعليمٌ للناس وعرضة للاقتباس.
(عِين) ، بكسر العين: جمع عَيْناء، وهي الكبيرة العينين في جمال.
(عِزَّةٍ وشِقَاق) ، أي تكبّر وعداوة وقصد المخالفة، يعني أن
كفرهم ليس ببرهان، بل هو بسبب العزة والشقاق، ونكَّرهما للدلالة على شدَّتهما وتفاقم الكفار فيهما.
(عِصَمِ الكوَافِر) :
جمع عصمة: النكاح، وأمر اللهُ المسلمين في هذه الآية أن يفارقوا نساءهم المشركات مِنْ عَبَدة الأوثان، فالآية ُ على هذا محكمةٌ.
وقيل: يعني كلَّ كافرة، فعلى هذا نسخ منها جواز تزوّج
الكتابيات بقوله: (والْمُحْصَنَاتُ من الذين أُوتوا الكتابَ مِنْ قَبْلكم) .
وقيل إن قوله: (ولا تُمْسِكوا بعِصَمِ الكوَافر) .
- نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلّقها.
(عِزين) :
جمع عِزَة - بتخفيف الزاي، وأصله عزوة.
وقيل عزهة، ثم حذفت الهاء وجُمعت بالواو والنون عوضاً من اللام المحذوفة.
(عِشَار) :
جمع عُشَراء، وهي الناقة الحامل التي مرَّ لحملها عشرة أشهر، وهي أنْفَسُ ما عند العرب وأعزّها، فلا تعطّل إلا من شدة الهول.
وتعطيلها هو تركُها مسيَّبة أو ترك حَلبها.
(عِيشة رَاضِية) :
قد قدمنا أنَّ المرادَ بها ذاتُ رضا، فهو كقولهم: تامر، لصاحب التمر.(2/622)
قال ابن عطية: ليست بذا اسم فاعل.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكونَ اسْمَ فاعل، نسب الفعل إليها مجازاً وهو لصاحبها حقيقة.
(على) :
حرف جر له معان:
أشهرها: الاستعلاء حِسًّا أو معنى، نحو: (وعَليها وعَلَى الفُلْكِ تحْمَلون) .
(كلُّ مَنْ عليها فانٍ) .
(فضَّلْنا بعضَهم على بعض) .
(ولهم عليَّ ذَنْب) .
ثانيها: المصاحبة، كمع، نحو: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) ، أي مع حُبِّهِ.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) .
ثالثها: الابتداء كمنْ، نحو: (إذا اكْتَالوا على الناس) ، أي من الناس.
(لفرُوجهم حافظون إلاَّ على أزواجهم) ، أي منهم، بدليل "احفظ عَوْرتك إلاَّ مِنْ زوجتك".
رابعها: التعليل، كاللام، نحو: (ولِتكَبِّروا الله على ما هداكم) ، أي لهدايته
إياكم.
خامسها: الظَّرْفية كَـ فِي، نحو: (ودخل المدينةَ على حِين غَفْلَة) ، أي في حين غَفْلة.
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) ، أي في زَمَن ملْكِه.
سادسها: معنى الباء، نحو: (حقيق على ألاَّ أقولَ على الله إلاَّ الحق) ، أي بأن
أقول، كما قرأ أبي.
فائدة
هي في: (وتوكّلْ على الحيِّ الذي لا يموت) - بمعنى الإضافة والإسناد، أي
أضِفْ توكّلك وأسنِدْه إليه.
كذا قيل.
وعندي أنها بمعنى باء الاستعانة.
وفي نحو: (كتب على نفْسِه الرحمة) - لتأكيد المجازات.
قال بعضهم: وإذا ذُكرت النعمة في الغالب مع الحمد لم تقترن بعلى، وإذا أريدت النقمة أُتي بها.
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى مما يعجبه قال: "الحمد لله الذي بنعمته وجلاله تتمُّ الصالحات".
وإذا رأى ما يكرَه قال: "الحمد للهِ على كل حال".(2/623)
تنبيه:
تَرِد (على) اسماً فيما ذكره الأخْفَش إذا كان مجرورها وفاعل متعلقها
ضميرين لمسمًّى واحد، نحو: (أَمْسِك عليكَ زَوْجَك) ، لما
تقدمت الإشارة اإليه في (إلى) .
وترد فعلاً من العلوّ، نحو: (إنَّ فِرْعَونَ عَلاَ في الأرض) .
(عن) :
حرف جَرٍّ له معان:
أشهرها: المجاوزة، نحو: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفون عن أمْرِه) ، أي يجاوزونه
ويتعدَّون عنه.
ثانيها: البدل، نحو: (لا تَجْزي نَفْسٌ عن نفْس شيئاً) .
ثالثها: التعليل، نحو: (وما كان استِغْفَارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عَنْ مَوْعِدَة وعَدَها
إيّاه) - أي لأجل موعدة.
(ما نحن بِتَارِكي آلهتنا عَنْ قَولك) - أي لقولك.
رابعها: معنى على، نحو: (فإنما يَبْخَل عَن نفسه) - أي عليها.
خامسها: معنى مِنْ، نحو: (يَقْبَل التوبةَ عن عباده) - أي منهم، بدليل: (فتقبًل من أحدهما) .
سادسها: معنى بَعْد، نحو: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) ، بدليل أنَّ في آية
أخرى: (مِن بعد مواضعه) .
(لتركبن طَبَقاً عن طبق) - أي حالة بعد حالة.
تنبيه:
ترد اسماً إذا دخل عليها من، وجعل منه ابن هشام: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) .
قال: فتقَدَّر معطوفةً على مجرور مِنْ لا على مِنْ ومجرورها.
(عسى) :
فعل جامد لا يتصرّف، ومِنْ ثَمَّ ادَّعى قوم أنه حرف، ومعناه
الترجِّي في المحبوب، والإشفاق في المكروه.
وقد اجتمعا في قوله:(2/624)
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) .
قال ابن فارس: وتَأتي للقرب والدنّو، نحو: (قل عسى أن يكون رَدفَ
لكم) .
قال الكسائي: كل ما في القرآن من عَسَى على وَجْه الخبر
فهو موَحد، نحو الآية السابقة، وواحد على معنى عَسَى الأمر أن يكون
كذا.
وما كان على الاستفهام فإنه يجمع، نحو: (فهل عسَيْتُم إنْ توليتم أن
تفْسِدوا في الأرض) .
قال أبو عبيدة: معناه هل عَدَدْتم ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس قال: كل عسى في
القرآن فهي واجبة.
وقال الشافعي: يُقَال عسى من الله واجبة.
وقال ابن الأنبارى: عسى في القرآن واجبة إلا في موضعين:
أحدهما: (عَسَى ربُّكم أنْ يرحمكم) - يعني يا بني النضير.
فما رحمهم الله، بل قاتلَهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوقع عليهم العقوبة.
والثاني: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) .
فلم يقع التبديل.
وأبطل بعضهم الاستثناء، وعمم القاعدة، لأنَّ الرحمة
كانت مشروطة بألَّا يعودوا كما قال: (وإنْ عُدْتُم عُدْنا) .
وقد عادُوا فوجب عليهم العذاب، والتبديل مشروط بأن يطلّق ولم يطلق.
فلا يجب.
وفي الكشاف في سورة التحريم: عسى إطْمَاع من الله لعباده وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون على ما جرت به العادة من الإجابة بلعل وعسى، ووقوعُ
ذلك من الجبابرة موقع القطع والبتّ.
والثاني: أن يكون جِيءَ به تعلما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء.
وفي البرهان: عسى ولعل من الله واجبتان.
وإن كانتا رجاءً وطمعاً في كلام المخلوقين، لأن الخلق هم الذين يعرض لهم الشكوك والظنون، والباري منَزَّهٌ عن ذلك.
والوجه في استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون(2/625)
ولا يقطعون على الكائن منها، واللَه يعلم الكائنَ منها على الصحة صارت لها نسبتان: نسبة إلى الله تعالى تسمَّى نسبة قطع ويقين، ونسبة إلى المخلوق تسمّى نسبة شكّ وظن، فصارت هذه الألفاظ لذلك تارة ترد بلفظ القطع حسبما هي عليه عند الله نحو: (فسوفَ يأتي اللهُ بقَوْمٍ يحبّهم ويحبونه) .
وتارة بلفظ الشكّ بحسب ما هي عليه عند الْخَلْق، نحو: (فعسَى اللهُ أنْ يأتيَ
بالفَتْح أو أَمرٍ مِنْ عنده) .
(فقولاَ له قَوْلاً ليّناً لعلَّه يتذكَّرُ أو يخْشى) ، وقد علم الله حالَ إرسالها ما يفضي إليه حال فرعون، لكن ورد اللفط بصورة ما يختلج في نفس موسى وهارون من الطمع والرجاء، ولما نزل القرآن بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك، والعربُ قد تخْرج الكلام المتيقَّن في صورة المشكوك لأغراض.
وقال ابن الدهان: عسى فعل ماضي اللفظ والمعنى، لأنه طمَعٌ قد حصل في
شيء مستقبل.
وقال قوم: ماضي اللفظ مستقبل المعنى، لأنه إخبار عن طمع يريد
أن يقع.
تنبيه:
وردت في القرآن عسى على وجهين:
أحدهما رافعةٌ لاسْمٍ صريح بعده فعل مضارع مقرون بأن.
والأشهر في إعرابها حينئذ أنها فعل ناقص عامل عملَ كان، فالمرفوع اسمُها وما بعده الخبر.
وقيل متعدٍّ بمنزلة قارب معنى وعملاً، أو قاصر بمنزلة قرب، وأنْ يفعل بدل
اشتمال مِنْ فاعلها.
الثاني أن يقع بعدها أن والفعل، فالمفهوم من كلامهم أنها حينئذ تامة.
وقال ابن مالك: عندي أنها ناقصة أبداً، وأنْ وصِلَتها سدَّتْ مسدّ الجزأين
كما في: (أحسِب الناسُ أن يُتْركوا) .(2/626)
(عند) :
ظرف مكان تستعمل في الحضور والقُرْب، سواء كانا حسيَّيْن.
نحو: (فلما رآه مستَقِرًّا عنده) .
(عند سِدْرَةِ المنْتَهى عندها جَنَّة المأوى) .
أو معنوييْن نحو: (قال الذي عنده عِلْم مِنَ الكتاب) ، (وإنهم عندنا لن
الْمصطَفين الأَخْيار) .
(في مَقْعَد صِدْق عند مَلِيك مقْتدر) .
(أحياء عند ربهم) .
(ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنة) .
فالمراد في هذه الآية قرْب التشريف والمنزلة وطلب الجار قبل الدار.
ولا تستعمل إلا ظرفاً أو مجرورة بمن خاصة، نحو: من عندك.
(ولما جاءهم رسول مِنْ عند الله) .
وتعاقبها لدى ولدن، نحو: (لَدَى الحَنَاجر) ، (لَدَا الْبَابِ) .
(وما كنْتَ لدَيْهم إذ يُلْقون أقلامَهم) .
وقد اجتمعتا في قوله تعالى (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) .
ولو جِيءَ فيهما بعند أو لدن صح، ولكن ترك دفْعاً للتكرار، وإنما حسن
تكرار لدى في: (وما كنت لدَيْهم) ، لتَبَاعد ما بينهما.
وتفارق عند ولدى " لَدن " من ستة أوجه، فعند ولَدَى تصْلع في محل ابتداء
غاية وغيرها، ولا تصلح لدن إلا في ابتداء غاية.
وعند وَلَدَى يكونان فَضْلَة نحو: (وعندنا كتابٌ حَفيظ) (ولدينا كتابٌ
ينطِق بالحق) .
ولدن لا تكون فَضْلة.
وجر "لدن " بِمنْ أكثَر من تصْبِها، حتى إنها لم تجئ في القرآن منصوبة.
وجرُّ (عند) كثير.
وجَرُّ (لدى) ممتنع.
وعند ولدى معربان، ولَدن مبنية، في لغة الأكثرين.(2/627)
ولدن قد لا تضاف، وقد تضاف للجملة بخلافهما.
وقال الراغب: لدن: أخصّ من عند وأبلغ، لأنه يدلّ على ابتدائها بالفعل.
وعند أمكَن من لدن من وجهين:
أنها تكون ظرفية للأعيان والمعاني بخلاف لدى، وعند تستعمل في الحاضر والغائب، ولا تستعمل لدى إلاَّ في الحاضر.
ذكرهما ابن الشجري وغيره.(2/628)
(حرف الغين المعجمة)
(غمَام) : سحاب أبيض، سمِّي بذلك لأنه يغمّ السماء، أي يسترها.
ومنه: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) :
جمع ظلة، وهو ما علاكَ من فَوْق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال، وإن كان لله فهو من المتشابه، فيجب الإيمان بها من غير تكييف كما قدمنا في وَجه المتشابه.
وتأويله عند المتأولين يأتيهم عذاب الله في الآخرة، أو أمره في الدنيا.
ويحتمل أن يكون (يَنْظُرُونَ) بمعنى يطلبون ذلك لجهلهم، كقولهم: (لولا يكلمنا الله) .
(غفور) :
من أسماء الله، ومعناه الساتر على عبادة ذنوبهم.
ومنه الْمِغْفَر، لأنه يستر الرأْسَ.
وغفرتُ المتاعَ في الوعاء إذا جعلته فيه، لأنه يغطيه ويستره.
(غلول) :
من الخيانة والأخذ من الغنم بغير حق.
وقد جاء الوعيد لمن غلّ شيئاً لأَنْ يسوقه يوم القيامة على رقبته في قوله تعالى: (يَأتِ بما غَلَّ يوم القيامة
) .
وقد جاء ذلك مفَسَّراً في الحديث، قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لا ألفينَّ أحدَكم على رقبته رِقاعٌ يوم القيامة (1) .
لا ألفينَّ أحدَكم على رقَبته صامتٌ (2) .
لا ألفينَّ أحدَكم على رقبته إنسان، فيقول: يا رسول الله أغِثْني، فأقول: لا أملك لكَ من اللَه شيئاً" (3) .
فتأمل أيها المخالف، هل يمنعك من اللَهِ أحدٌ إلا أن يأخذَ الله لمن يشاء.
هذا رسولُ الله سيد الأوَّلين والآخرين يقول: يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً.
يا فاطمة بنت محمد، لا أملك لك من الله شيئاً.
فكيف يتَّكل المغرور على أحد في مخالفته أمر الله.
__________
(1) الرقاع جمع رقعة: وهي قطعة من جلد أو ورق يكتب عليه، أراد بالرِّقاع ما عليه من الحُقُوق المكْتُوبة في الرّقاع
(2) الصامت: من المال هو الذهب والفضة.
(3) نص الحديث في مستخرج أبي عوانه:
"5718 - حدثنا محمد بن عبيد الله بن المنادي، ومحمد بن أحمد بن الجنيد، قالا: ثنا أبو النضر، قثنا الأشجعي، عن سفيان، عن أبي حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظم، فقال: «لا ألفين أحدكم، يجيء على رقبته صامت، يقول يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك شيئا فقد أبلغتك، لا ألفين أحدكم على رقبته رقاع تخفق يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم، يعني على رقبته، نفس لها صياح، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا، لا ألفين أحدكم يجيء على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، أقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك»(2/629)
(غائط) :
مكان منخفض، ثم استعمل في حاجةِ الإنسان، لأن العرب كانوا يطلبون ذلك في قضاء حوائجهم، فكني عن الحدَثِ بالغائط.
(غَمَرات الموت) :
شدائده وكرباته كما يغمر الشيء إذا علاه وغطَّاه، فتذكر أيها الأخ كرباته وسكراته، فإن كنْتَ منهمكاً نفّرك.
وإن كنت تائباً رقاك بمحبة تأخيره لتغنَم أو تعجيله لتسلم.
وإن كنت محبًّا شوّقك، لأن المحب يحبُّ لقاء حبيبه، ولكن التفويض أعلى.
ولو انتظرنا ضربة شرطى لتكدّر عيشنا، فكيف وفي كلّ نفس يمكن مجيء الموت بسكراته وغصصه، ونودُّ أن لو قدرنا على صِيَاح وأنين، ويودُّ مَنْ حضره فترة ساعةٍ، ليقول: لا إله إلا اللَه، فلا يمْهل، وتجْذَب روحه من كل عضو وعِرق، فتبرد قدماه ثم ساقاه، ثم فَخِذاه، وهكذا حتى تبلغ الحلقوم، فعنده ينقطع نظَره إلى دنياه، ويغلق عنه باب توبته، كما روِي:
"إن اللهَ يقبل توبةَ عَبْده ما لم يغرغر".
ثم يرى ملائكةَ ربه تعالى وثناءهم عليه، وقولهم: (اليوم تجْزَوْن عذابَ الْهونِ) .
فيا لها من مصيبة لو عقل، ولهذا كانوا رضي الله عنهم يديمون ذِكْرَ الموت.
ويخافون من سوء العاقبة.
وفي الصحيحين: "إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبّ إليه مما أمامه، ومن ختم له بشرٍّ فضدّه، وسببه عقيدةٌ فاسدة تثمر عند موته الجحود أو الشك، فما لم يُرْحَم بتوبةٍ
عذابه دائمٌ، نسأل الله العافية.
وإذا تأملنا وجدنا أسباب سوءِ الخاتمة موجودة فينا، وسأنبئك بأقلها، وهي:
الإصرار على فعل منهيّ، أو صفة مذمومة، كعُجْب ونحوه.
ومنها الغفلة عن ذكر الله، فقد خطف خلق كثير بنزغة الشيطان لتمكنه
منهم.
ولهذا اختار الشارعُ لفْظَ الشهادتين، فإن الشيطان يجهد في شبهة مكفّرة
عند الموت، غالبها في الرسالة، لعلمه اقتصارنا على التعليلة، وكل ما نزغ في التوحيد دفع بلا إله إلا الله، أو في الرسالة دفع بمحمد رسول الله، فكأنَّ التهليلة صلاة، وذكر سيدنا ومولانا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبطلها، وإن كان أجنبيًّا منها.(2/630)
كيف وأجلّ أسنان مفتاح التهليلة الشهادة الثانية، فأكْثِر من ذِكْرِ هذه
الكلمة المشرّفة، حتى تمتزجَ مع معناها بلحِمك ودمك، واطلب منه سبحانه
الثباتَ عليها، فقد قطع ظهورَ العابدين سوء الخاتمة، فكيف يُخْصِب لك جَنَابٌ حتى ترى ما خُطّ لك في أمّ الكتاب.
وعلامة حسن الخاتمة استقامةٌ ودوام ذكرٍ، للحديث:
"يموت المرءُ على ما عاش عليه".
ولحديث: كلّ ميَسَّر لِمَا خلِق له.
فكيف نطمع بحسنها وقد غرقنا في حب الدنيا والمواظبة على خصالٍ مذمومة، وعند فراقنا لها يخاف علينا من استيلاء الشيطان لتمكنه منَّا عند الموت.
وعلامة ذلك أن في حبها طولَ أملنا، ونسينا الآخرة، والهوَى يصدّ عن الحق، فكل فتنة أتتنا فمِنْ حبِّ الدنيا والْجَهْل بمصارع أقراننا في كل ساعة.
أمرنا الصادق المصَّدوق أن نكونَ فيها كالغريب أو عابري سبيل، وإذا أمسينا فلا ننتظر الصباحَ، وإذا أصبحنا فلا ننتظر المساءَ، ونأخذ من صحتنا لسقمنا، ومن حياتنا لموتنا، فأعرضنا عن نصْحه، وأطَلْنَا أملنا مع رؤيتنا لموت الأطفال والشبّان، ولهذا بادر مَنْ فتح الله بصيرته، فكان يصلِّي الصبح بوضوء العشاء، وآخر لم يضعْ جَنْبه على الأرض عشرين سنة، وآخر حسب ما بين مضغ اللقمة وبَلْعها خمسين تسبيحة، فكان لا يتقوّت إلا بحساء الشعير، وآخر يقوئ ليلا ولا يغْفِي إلا إغفاءَ الطير.
وآخر وِرْدهُ كلّ يوم مائة ألف تسبيحة.
وآخر لا يتحدث مع أخيه فيعاتبه على ذلك، فيقول له: أبادِر خروج روحي.
ونحن مشتغلون بدنْيا فانية، ويا ليتنا نِلْنَا منها شيئاً، وهذا سليمان أعطي منها ما لم يُعْطه أحدٌ قبله ولا بعده، والرياح تجري بأمره رُخاءً حيث أراد، فلما استَوْسق ملكه قال: (هذا من فَضْلِ ربي) ... الآية، فما عَدَّها نعمةً كما نعدها، ولا حسبها كرامةً من الله كما نظنّها، بل خاف أَن يكونَ استِدْراجاً من حيث لا يعلم، ونحن أنعم علينا بنعمه لنصرفها في الطاعة، فغفلنا عنه وصرفْناها في معصيته، أليس من الخسْران المبين ما نحن فيه من الضلال المبين، عِشْنا عَيْش البهائم، بل هي أحسن حالاً منَّا، لأنها تحس ونحن في موت الحسِّ.
اللهم يا منقِذَ الغرقى، ويا منجّي الهلْكَى بعد أن يئسوا، أنقذْنا من هذا الوحل العظيم بجاه نبيك الكريم، عليه أفضل صلاةٍ وأزكى تسليم.(2/631)
(غبر) :
له معنيان: ذهب وبقي.
ومنه: (عجوزاً في الْغَابِرين) ، أي في الهالكين.
قد غبرَتْ في العذاب: أي بقيت فيه ولم تَسِرْ مع لوط.
ويقال في الباقين، وإنما جمع جَمْع المذكر تغليباً في الرجال.
(غَيًّا) :
خسرانا، وقد يكون بمعنى الضلال، كقوله: (وإن يَرَوْا سبيلَ الغَيّ يتخذوه سبيلا) .
فيكون على حذف مضاف، تقديره يلقَون جزاءَ غَيّ.
(غار) : نقب في الجبل.
(غَيَابَتِ الْجُبِّ) : غوره، وما غاب منه.
قال بعض أهل العلم: إنما قال ألْقوه في (غَيَابَتِ الْجُبِّ) أخوه إربيل، وقيل يهوذا، ففعلوا ذلك، فلما أرسلوه في الجبّ أرادوا أن يقطعوا الحَبْل، فبعث الله جبريل عليه السلام ليأخذه ويُؤْنسه، وقال: يا يوسف، لا تغتمّ، إنهم قطعوا حبْل النَّسب، وأنا وصْلَت حبل الوصلة والسبب.
كذلك المؤمن، يريد الشيطان أن يقطعَ بينه وبين مولاه حبلَ الوصلة، واللَه
يريد وَصْلها به، لأنه الغفور الوَدود، وكيف يقطعها وقد حبَّب إليه الإيمانَ
وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان! ألا ترى يوسف وموسى ومحمداً صلَّى الله عليهم وسلَّم أجمعين، حبّبهم الله إلى الْخَلْق، ولم يضيّعهم في أيدي الأعداء، بل تولَّى حِفْظهم ونجاتهم.
(غاشِيَةٌ مِنْ عذابِ الله) :
غَشِي الأمر يغشى - بالكسر في الماضي والفتح في المضارع - معناه غَطَّى، حِسًّا أو معنى، ومنه: (واللَّيل إذا يَغْشَى) ، لأنه يُغطي بظلامه.
وينقل بالهمزة والتشديد، فيقال: غَشّى وأَغشى.
(ومِنْ فوقهم غَوَاشٍ) ، يعني ما يغشيهم من العذاب.
والغاشية أيضاً القيامة، لأنها تغشى الخلق.
وقيل: هي النار، من قولهم: (وتَغْشَى وجوهَهم النار) .
وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد ذلك قسمين: أهل الشقاوة، وأهل السعادة.(2/632)
(غَوْراً) :
مصدر وُصف به، فهو بمعنى غائر، أي ذاهبٌ في الأرض.
وقد قدمنا معناه في قوله: مَعين.
(غَرَاماً) : ملازماً.
قال الحسن: كلّ غريم مفارق غريمه إلا النار.
(غرورا) :
قد قدمنا أنه بفتح الغين الشيطان، وبضمها
الباطل، مصدر، من غررت.
(غَرَابِيب سود) :
قد قدمنا أنه جمع غِرْبيب، وهو الشديد السواد، وقدم الوصف الأبلغ لقصد التأكيد.
(غَوْل) .
بفتح الغين: اسم عام في الأذى والضرّ.
ومنه يقال: غالَه وأغاله، إذا أهلكه.
وقيل: الغَوْل وَجَع في البطن.
ويقال الغضب غَوْل للحم، والحرب غول للنفوس، وإنما قدم المجرور في قوله: (لا فيها غَوْل) ، تعريضاً بخَمْر الدنيا، لأن فيها غَوْل.
(غَسَّاقاً) : بتخفيف السين وتشديدها: صَدِيد أهل النار.
وقيل: ما يَسِيل من عيونهم.
وقيل: عذابٌ لا يعلمه إلا الله.
(غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) :
فيه أقوال: الليل إذا أظلم.
ومنه قوله: (إلى غَسق الليل) ، وهو قول الأكثر، لأن ظلمةَ الليلِ ينتشر
عندها أهل الشر من الإنس والجن، ولذلك قيل في المثَل: الليل أَخفَى للويل.
وقيل القمر، للحديث: "يا عائشة، استعيذي بالله مِنْ شرِّ هذا الغاسق، وأشار إليه.
ووُقوبه على هذا كسوفه، لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة
والسَّوَاد، وبمعنى الدخول، فالمعنى إذا دخل في الكسوف، أو إذا أظلم به.
وقيل، الشمس إذا غربت، والوقوب على هذا بمعنى الظلمة، أو الدخول.
وقيل النهار إذا دخل في الليل وهذا قريبٌ من الذي قبله وقيل الغاسق سقوط الثريا، لأنها تهيج عندها الأسقام والطاعون للحديث: "النجم هو الغاسق". فيحتمل أن يريدَ الثريا.(2/633)
وقيل إنه الذّكَر إذا قام، حكاه النقاش عن ابن عباس، لأنه لا يملك
الإنسان نفسه مع انتشاره، ولهذا أكْرِم من ذكر الله عند جماعه بأن الشيطان لا يضرّ ولده إنْ كان، لأنه آثر ذِكْرَ الله على شهوة نفسه.
وقال الزمخشري: يجوز أن يريد بالغاسق الأسود من الحيات، ووقَبَه ضربه.
وحكى السهيلي أنه إبليس.
(غادَرَ) : ترك.
ومنه: (لا يُغَادِرُ صغيرةً ولا كبيرة) .
(فَلَمْ نغَادِرْ منهم أحدا) .
(غُلْف) :
جمع أغلف، وهو كلّ شيء جعلته في غلاف، ولما قالوا: (قلوبنا في أَكِنَّة مما تَدْعونا إليه) ، أي محجوبة - ردّ الله عليهم بأنَّ عدمَ إيمانهم بسبب كفرهم، (فقليلاً ما يُؤمنون) ، أي إيماناً قليلاً يؤمنون.
وما زائدة ويجوز أن تكون القلةُ بمعنى العدم أو على أصلها، لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض.
(غرْفة) :
بضم الغين لها معنيان: المسكن المرتفع، ومنه: (أولئك يُجْزَون الغرْفَة) .
(وهم في الغُرفات آمِنون) .
وغَرفة من الماء - بالفتح: المرة الواحدة.
ومنه: (إلا من اغترف غرفةً بيده) .
وقرئ بضم الغين، وهو المصدر، وبفتحها هو الاسم.
(غفْرانَك) :
مصدر، والعامل فيه مضمر، ونصب على المصدرية، تقديره: اغفر غفْرانك.
وقيل على المفعولية، تقديره نطلب غفرانك.
(غزَّى) :
جمع غاز، ووزنه فعّل - بضم الفاء وتشديد العين.
ومعناه أن المنافقين قالوا لإخوانهم من الأوْس والخزرج يوم أحد: (إذا
ضربوا في الأرض) ، أي سافروا، وإنما قال (إذا) التي(2/634)
للاستقبال مع قالوا، لأنه على حكايةِ الحال الماضية، لأنهم ظنوا أن إخوانهم لو كانوا عندهم لم يموتوا ولم يُقتلوا.
وهذا قول مَنْ لا يؤمن بالقَدَر والأجَل المحتوم، ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجَلين.
(غَلَا) يَغْلو، وهو مجاوزة الحدّ والإفراط، ومنه: (لا تغْلوا في دينكم) .
(غمَّةً) : وغَمّ، ككربة وكَرْب بمعنى ظلْمة.
(غثَاء) : يعني هالكين كالغثَاء، وهو ما يحمل السيلُ من الورق وغيره مِمّا يبلى ويسودّ.
ومنه قوله قعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) .
فمعناه أنَّ الله أخرج النباتَ أخضر، فجعله بعد خضْرته غثاء أَسود، لأن الغثاء إذا قدم تعفَّن واسوَدَّ.
وقيل: إن (أَحْوَى) حال من المرعى، ومعناه الأخضر الذي يضرِب إلى
السواد.
وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير، تقديره الذي أخرج المرعى أحوى.
فجعله غثاء.
وفي هذا القول تكلّف.
(غرفات) : جمع غرفة.
وقد قدمنا أنها اسم جنس.
(غُصَّة) : أي يختنق به آكله.
وقيل: هو شَوْك من نار يعترض في حلوق أهل النار، لا ينزل ولا يخرج.
وروي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فصعق.
(غِشَاوة) :
مجاز باتفاق بمعنى الغطاء، تقول: غشيت الشيء غَطيته، ووحّد السمع في قوله: (وعلى سَمعهم) ، لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجْمع.
(غِلّ) : عداوة وحسد.
ومنه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) .(2/635)
(غِلْظَة) :
أي شدة، ومنه: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، أي تفرقوا.
وأما قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) . فمعناه الأمر بقتْل الأقرب فالأقرب، والشدة في إجلابهم على تدريج.
وقيل إنها إشارة إلى قَتْل الروم بالشام، لأنهم كانوا أقرب الكفَّار إلى أرض
العرب، وكانت أرض العرب قد عمَّها الإسلام، وكانت العراق حينئذ بعيدة.
(غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) :
المراد به هزم كسْرى ملك الفرس.
وأَدنى الأرضِ بين الشام والعراق، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس.
وقيل: في أدنى أرضِ العرب منهم، وهي أطراف الشام.
وقد قدمنا أنها سُميت الروم باسم جدّهم.
(غيض) الماء، وغاض: نقص، بلغة الحبشة.
(غسْلين) : قد قدمنا أنه غسالة أهْل النار، وكلّ جرح أو دبر غسلته فخرج منه ماء فهو غِسْلين.
(غَير) :
اسم ملازم للإضافة والإبهام، فلا تنصرف ما لم تقع بين ضِدّين.
ومن ثَمَّ جاز وصف المعرفة بها في قوله: (غير المغضوب عليهم) .
والأصل أن تكون وصفاً للنكرة نحو: (نعمل صالحا غير الذي كُنَّا نعمل) .
وتقع حالاً إن صلح موضعها لـ لا واستثناء إن صَلح موضعها إلا، فتعرب
بإعراب الاسم الواقع بعد إلا في ذلك الكلام.
وقرئ قوله تعالى (لا يستوي القاعِدون من المؤمنين غَيْر أولي الضرَر) - بالرفع على أنها صفة للقاعدين، أو استثناء وبدل على حَدِّ: (ما فعلوه إلا قليل) .
وبالنصب على الاستثناء.
وبالجر خارج السبع صفة للمؤمنين.
وفي المفردات للراغب: غير يقال على أوجه:(2/636)
الأول: أن تكون للنفي المجرد من غير إثباتِ مَعْنى به، نحو: مررتُ برجل
غير قائم، أي لا قائم، قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) .
(وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) .
الثاني: بمعنى إلاَّ فيسَتْثنَى به، ويوصف به النكرة، نحو: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) .
الثالث: لنفي الصورة من غير مادَّتها، نحو: الماء إذا كان حارًّا غيره إذا كان
باردًا.
ومنه قوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) .
الرابع: أن يكون ذلك متناولاً لذاتٍ، نحو: (تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) .
(أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) .
(ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) ، (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) .
*******************
تم الجزء الثاني، ويليه إن شاء الله الجزء الثالث وأوله حرف الفاء.(2/637)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن
ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)
المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
(المتوفى 911 هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م
الجزء الثالث(3/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حرف الفاء
(فسق) :
أصله الخروج، وتارة يرد بمعنى الكفر، وبمعنى العِصْيان، وكلُّ خارج عن أمر الله فهو فاسق.
يقال فسقت الرّطَبَة إذا خرجت عن قشرها.
(فما فَوْقَها) :
الضمير راجع للبعوضة.
ولما ذكر الله في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفّار ذلك.
فأنزل الله: (إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ مَثَلاً ما بعوضةً فما فوقها) .
قال قطْرب: الحروف المقطعة والأمثال وضعها الله لإطفاء شغَف الكفار
حيث قالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه) ، فوضع الله
هذه الحروف والأمثال يسمعونها، لأنها عربية لم يسمعوها قبل ذلك، ثم يبلغ
الرسول رسالته بعد ذكرها ذلك.
(فأَزَلهما الشيطان عنها) ، أي عن الجنة أو عن الشجرة، والزلل متعد من زلل القدم.
وأزلهما بالألف من الزوال، وضمير التثنية لآدم وحواء، وكذا (فأخرجهما مما كانا فيه) .
والصحيح كما قدمنا أن آدَم أكل منها نسياناً، وحلف له إبليس، فظنّ أنه
لا يحلف أحد بالله كاذباً، فجعل الله له الأكل من الشجرة سبباً في إخراجه من الجنة، لِحكَمٍ -، منها:
أنه كان في حكمةِ الحكيم أن يكون خليفةً في الأرض، ويقوم فيها، فأراد(3/3)
آدم أن يقيم في الجنة، فجعل الله بأكل إخنطة وتناولها سببا لخروجه من الجنة!
لينفذَ ما قضى وقدّر.
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكونَ مقامه بمكة، وكان في حِكمَة الحكيم أن يمكث في المدينة مدةً، ويعلي كلمتَه فيها، فجعل جفاء المشركين سبباً لخروجه منها، لسَبقِ مقاديره إلى مواقيتها.
كذلك العَبْد المخلص يريد أن يكون في طاعة ربه، ولا يقع في مخالفته.
وكان في حكمة الحكيم أن يكون كفوراً وغافرًا وغفَّاراً، فجعل خذلان العاصي سبباً لخروجه عن أمره، ثم يمنُّ عليه بالتوبة، فيتداركه برحمته، فيظهر حكمته وتقديره، ويبدي للعالمين غفرانه.
ومنها لكون الكفَّار في صلبه إذ لم تكن الجنة محلاً للكافرين، وكذلك المؤمن
يخرجه من النار لكون المعرفة في قلبه، إذ ليست النار محلاَّ للعارفين.
ومثال المؤمن والكافر في صلب آدم كتاجر أخفى المسك في وسط البُحْدُق
حتى لا يحسَّ به قاطع الطريق، فإذا بلغ الْمَأمَن كان المسك قد أخذ بطرف من رائحة البُحْدُق، وكذلك البُحْدُق تعلق به شيءٌ من رائحة المسك، فيبسطهما على بساط فتهحت الرياح فتتلاشى الروائح المستعارة، كلّ رائحة تعود إلى أَصْلها، فيبقى الأصل على ما خُلق عليه.
فكذلك الكافر والمؤمن في صلْب آدم، فأصاب الكافر رائحةً من المؤمن، فيعمل منها الحسنات، وأصاب المؤمن رائحةً من الكافر فيعمل منها السيئات، فإذا كان يوم القيامة يجمعهم اللَّهُ في بساطٍ واحد، فتهب رياح القيامة، فترجع حسنات الكافر إلى المؤمن، ويرثُ بها منزله في الجنة، وسيئات المؤمن إلى الكافر ويرث بها منزلَه في النار فتتلاشى العواري، وتبقى الأصول على ما قُدر وقُضى، قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .
وقال: (وليَحمِلُنَّ أَثقالهم وأثقالاً مع أَثْقالهم) .
ومنها أنه كان في خروجه من الجنة رحمة من الله له وإكراماً بالنبوءة والتكاليف.(3/4)
والفائدةُ فيه أنه يرحم مَنْ عصاه في جواره، فالأوْلى ألا يعاقب مَنْ
عصاه في جوار إبليس.
قيل: إنه قال: يا رب، إني أستحيي من ولد محمد.
فقال له: سأمَهّد له عُذرك، فقال: (ولم نَجِد له عَزْماً) ، أي لم يعتقد الذنب، ولم يثبتْ عليه، بل اعتذر وندم.
وكذلك مهَّد الله عُذْر هذه الأمة المحمدية بقوله: (للذين عَملوا السّوءَ بجهالةِ) .
وقال: (وخُلق الإنسان ضعيفا) .
(خلق الإنسان من عَجَل) .
أدبك بأوامر ولم يرض أن يعاتبك غيرةً منه إليك، فاعتذر منك إليك.
(فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ) ، أي أخذ، قيل، على قراءة الجماعة وقرأ ابنُ كثير بنصب آدمَ ورَفْع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء، والكلمات هي قوله: (ربَّنا ظلَمنا أنْفسنا) ، بدليل ورودها في الأعراف.
وقيل غير ذللك.
وهذه إحدى الخصائص التي خصّ الله آدم بها، خلقه الله بيده، ونفخ فيه
من رُوحه، وأسجد له ملائكته، وأمرهم بحَمله إلى الجنة على أكتافهم، وعلّمه أسماءَ كل شيء، تم عرضهم على الملائكة، وأدخله الجنة بغير عملٍ إلا أمْره بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلمه مواجهة.
ولما عطس قال: الحمد للهِ، فأجابه الله بقوله: يرحمك الله، يا آدم لهذا خلقْتك.
فهذا معنى قوله تعالى: (ولولا كلمة سَبَقَتْ مِنْ ربِّكَ) .
(فإما يَأتينَّكم مني هدًى) :
إن شرطية، وما زائدة للتأكيد.
والهدى هنا يراد به كتاب الله ورسالتُه.
(فمن تَبع) ، شرط، وهو جواب الشرط الأول.
وقيل: (فلا خوف) جواب الشرطين.
واعلم أن الكتابَ كتابان: كتاب من الله إليكَ، وكتاب منك إليه بيد
الْحفَظَة، فإذا قبلتَ كتابه الذي فيه الأمْر والنهي، والوَعد والوعيد، ونزول(3/5)
البلاء عليك، ووجود الرضا منك، وإن كان فيه ما يخالف هواكَ، أفتراه لا
يقبل كتابك في يوم القيامة وإن كان مملوءا زَلاَّت، وهي لا تضرّه، ألا تراه
يقول في إبراهيم: (ولقد اصْطَفَيْنَاه في الدّنيا وإنّه في الآخِرة لمِنَ الصّالحين) ، واصطفاك أنتَ بكتابه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنا الكتابَ الذين اصطَفَينا مِنْ عبادنا) .
والاصطفاءُ فعْل الله، وفعل الله مبنيّ على الابتداء، قال تعالى: (كما بدأكُمْ
تَعُودون) .
والصلاح فعل العبد، وفعل العبد مبني على الخواتيم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ".
واعلم أنَّ مَنْ سأل الله شيئاً سأل الله منه، فمن لا يقوم للَه فما سأل منه لا
يعطيه ما يسأل، ومَنْ قام للهِ فما سأل منه أعطاه بلا مؤونة، ألا ترى أن الله أعطى لإبراهيم المالَ في الدنيا والولد والمعجزات بغير سؤال، فلما سأل إبراهيم بقوله: (إِني ذاهب إلى ربّي سيهْدِين) - سأل منه الكلّ فقال له:
أسلم، أي الكل إلى الكل، إنْ أردْتَ الوصول إلى الكل.
ولما سأل منه إحياء الموتى سأل الله منه إماتة الحى، ألا ترى أنه قال: (فلمَا أسْلَما) .
يعني وضع السكين على حَلْقه قال: إلهي بكَ ولَكَ وإليْكَ، أي بك
الصبر على فراقه، ومنكَ إعطاؤه، ولكَ الحكم فيه، وإليك يرجع الأمر كله.
فإن قلت: ما الحكمة في جزعَ إبراهيم وصَبر إسماعيل؟ (1)
والجواب: إسماعيل عَرف - برؤية المعرفة - أن إبراهيم إنما ابْتلي بذبحه، لأنه
التفت بقلبه عن الله، فلو أنَّ الولد التفت بقلبه لابْتُلي كما ابتلي إبراهيم.
وأيضاً جزع إبراهيم على مفارقة حبيبٍ لم يكن له وصلة في ذلك الوقت إلى مَنْ هو أحب إليه منه.
وإبراهيم لم يجزَعْ، لأنه وصل إلى الحبيب المجازي.
وقيل لما وضع السكين على حَلْقه أراه الله نوراً من أنواره أنساه ما يجِد من
الألم لوجود لذة ذلك النور، كنساءِ مِصْرَ اللواتي قطّعْنَ أيديهن برؤية يوسف.
__________
(1) معاذ الله أن يجزع الخليل - عليه السلام - وأين ذلك الجزع المزعوم؟؟!!! هذا خلاف ما حكاه عنه القرآن بقوله (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) .(3/6)
وقيل إن اللَهَ قال له: يا إبراهيم، جزعتَ على مفارقة حبيب زائل عنك.
وضاق ذَرعك به، فكيف بمفارقة الحبيب الباقي، فكان جزعه لهذا السبب لا
لِلوَلد.
(فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، أي عالم أهلِ زمانهم، لأنه يجب الاعتقاد بتفضيل هذه الأمةِ المحمدية لفَضل نبيهم.
قيل: أعطى اللَّهُ الكليمَ عشر معجزات، وأكْرَمَ قَوْمَه بعشر كرامات، وشكى عليهم بعشر شكيات، وعاقبهم بعشر عقوبات:
أما المعجزات: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ) ، والعصا، واليد، والحجر، والألواح، والصّحف.
وأما الكرامات: (وإذ أنجيناكم) ، (وإذ فرقنا بكم البحر) .
(ثم بعثناكم من بعد موتكم) .
(وظللْنا عليكم الغَمام وأنزلْنَا عليكم المنَّ والسّلْوَى) .
(ثم عفونا عنكم مِنْ بعد ذلك فتاب عليكم) .
(يغفر لكم خطاياكم) .
(قد علم كلّ أناس مَشْرَبهم) .
(وإذ آتينا موسى الكتاب) .
والشكيات: (ثم اتخذتم العِجْل) .
(قالوا أرِنَا الله جَهْرة) .
(فبدّل الذين ظلموا قَوْلا) .
(ادع لنا ربك) .
(ثم يحرّفونه) .
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) .
(فبما نَقْضِهم ميثاقَهم وكُفْرهم بآيات الله وقَتْلهم الأنبياءَ بغير حق) .
والعقوبات: (ضربت عليهم الذلَّة والمسكنة) .
والجِزْية (وباءوا بغضبٍ من الله) .
(فاقتلوا أنفسكم) .
(يذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) .
(كونوا قردةً خاسئين) .
(فأرسلنا عليهم رِجزاً من السماء) .
(واللَه مخْرِج ما كنتم تَكْتمون) .
(فَرقنا بكم البَحرَ) ، أي جعلناه فرقاً، اثني عشر طريقاً على عدد الأسبَاط.
والبحر المراد به القلزم.
(فاقتلوا أنفسكم) :
روي أنَّ من لم يعبد العجل قتل من عبده حتى بلغ القتل فيهم سبعين ألفاً، فعفا الله عنهم.(3/7)
(فتاب عليكم) :
قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فَحْوى الخطاب، أي فعلتم ما أمرتم به من القَتْل فتاب عليكم.
(فانفجرَتْ) :
قبله محذوف تقديره: فضربه فانفجرت، أي سالتْ.
ومنه انفجر، وكان هذا الاستسقاء في فحص التِّيه، وكان الحجر من
جبَل الطور، وهو المشهور، لأنه أبلغ في الإعجاز، ولهذا كانوا يجدونه في كل مَرْحلة.
ولا خلاف أنه كان حجراً مربّعا منفصلا له أربع جهات كانت تنبع من
كلّ جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى عليه السلام، وإذا استغنوا عن الماء
ورحلوا جفَّت العيون.
وقيل إن هذا الحجر هو الذي وضع موسى ثوبه عليه ففرَّ بثوبه، ومرَّ على
مَلأ من بني إسرائيل حين رموه بالأُدْرَة، فلما وقف أتاه جبريل عليه السلام.
فقال له: إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر، فإنَّ لي فيه قدرةً، ولك فيه معجزة، فرفعه ووضعه في مِخْلاته.
وكان موسى ضربه اثنتي عشرة ضربة، فيظهر بكل ضربة مثل ثَدْي المرأة فيعرفه فتنفجر الأنهار منه، ثم يسيل الماء.
فإن قلت: هل الانفجار والانبجاس بمعنى واحد، لأنه اختلف التعبير بهما؟
والجواب أنَّ الانبجاس أقل من الانفجار، لأن الانفجار انصباب الماء
بكثرة، والانبجاس ظهور الماء.
فالواقع هنا طلب موسى عليه السلام من ربه، قال تعالى: (وإذ استَسْقَى موسى لقَوْمِه) .
فطلبهم ابتداء فقيل - إجابة لطلبه: فانفجرت، مناسبة لذلك.
وفي الأعراف طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام السقي، قال تعالى: (وأوحينا إلى موسى إذ استَسْقَاه قَوْمه) ، فقيل - جواباً لطلبهم: فانبجست، فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغايةَ.
واعلم أنَّ اللَهَ تعالى وضع الدولة على ثلاثة أحجار، والقدرة في ثلاثة أحجار، والملك في ثلاثة أحجار، أما الدولة فوضعها في الكعبة، وجعلها موضعَ طواف المؤمنين.(3/8)
وجعل مقامَ إبراهيم قبلةً للمؤمنين.
والحجر الأسود جعله بينه وبين خَلقِه عَهْداً وشهيدًا.
وأما القدرة فوضعها الله في حجر موسى، وحجر ناقة صالح، وحجر موسى
الذي برّأَه الله بسببه مما قالوا.
وأما الملك ففي خاتم سليمان، وصخرة بيت القدس، وحجر داود.
وبالقدرة يخرج من الحجر الماء والذهب والنار.
(فكلوا) :
خطاب لبني إسرائيل، وجاء هنا بالفاء التي للترتيب، لأن الأكل بعد الدخول فيها، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله: (اسْكنوا) ، لأنَ الأكلَ مقارن للسكنى.
(فارض) : مسِنًة.
وبِكْر: صغيرة.
(فاقِعٌ) : شديد الصفرة.
(فآدَّارَأتم فيها) ، أي اختلفتم، وهو من الْمدارأة، أي المدافعة.
(فذَبحوها) ، من الذبح الذي هو قَطْع الْحلقوم والوَدَجين.
وبهذا استدل مَنْ قال بذبح البقرة ولا يجزئ غيره.
(فَأَتمهنَّ) : يعني وَفَى بهن.
ولما ادَّعَى محبةَ الله تعالى ابتلاه بعشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فأتمهن، أي وفى بهن.
وقال بعض: هو على الظاهر، وتحت كلّ واحدة منهن إشارة.
وقيل أراد بالكلمات الدعوات، وهي قوله: (رَبَّنا إني أسكنت) .
(ولا تخْزِني) .
وقيل ابتلي بالنار، فقال: حسبي الله.
وقيل: لما وضع السكين على حَلْق إسماعيل قال: منك ما أَرى، ومنِّي ما
ترى، فأنجاه الله بهذه الكلمات.
وقيل غير هذا.(3/9)
قال بعضهم: ابتلى الله خليلَه بعشرة أشياء، ثم أثْنَى عليه بعشرة، ثم أعطاه
عشرة.
أما الابتلاء فهو مناظرة النّمْرُود، والكوكب والقمر والشمس، وبكسر
الأصنام، ومناظرة الأب، وبالهجرة، وبنار النّمْرود، وبذبح الولد، وبالإخلاص
في قول الله له: (أَسْلِمْ) .
وبالعشر كلمات، وبالملائكة الذين بعثهم الله إليه شبه المجوس يعرض عليهم الإيمان.
وأما الثناء عليه فسمّاه (أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) ، شاكراً لأنْعمه، وفيًّا صديقاً
نبيئا قيما أَوّاباً مُنيباً.
واصطفاه بالاجتباء والاهتداء، والبركة والبِشارة بإسحاق، والحجة على
قومه، والإمامة والمقام، ونسبة الأمة المحمدية، على جميعهم السلام، والخلّة في قوله تعالى: (واتّخذ الله إبراهيم خَلِيلاً) .
(فمن عُفي له من أخيه شيء) .
فيها تأويلان.
أحدهما أن المعنى مَن قتل فعُفِي عنه فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء
المقتول اتباعه بها بمعروف، فعلى هذا " من " كناية عن القاتل، وأخوه هو
المقتول أو وَليّه.
وعُفي من العَفْو عن القصاص.
وأصله أن يتعدى بعن، وإنما تعدى هنا باللام، لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه.
والثاني أنَّ المعنى إِنّ مَن أَعطيته الدية فعليه اتباع بمعروف، وعلى القاتل أداء
بإحسان، فعلى هذا " منْ " كناية عن أولياء المقتول، وأخوه هو القاتل أو
عاقِلَته، وعفي بمعنى يسر، كقوله: (خذ العَفْو) ، أي تيَسَّر.
ولا إشكال.
في تعدّي عفِي بإلى على هذا المعنى.(3/10)
(فمن اعْتَدَى بعد ذلكَ فَلَه عذَابٌ أليم) ، أي قتَلَ قاتلَ وليه بعد أخذ الدية منه فله القصاص منه.
وقيل عذاب الآخرة.
(فمن تطَوَّع) ، أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة.
وذلك على القول بالنسخ.
وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الطعام، وذلك على القول بعدم النسخ.
(فمن شَهِد منكم الشهرَ فلْيَصمه) ، أي كان حاضراً غير مسافر.
والشهر منصوب على الظرفية.
والمراد به شهر رمضان المتقدم.
(فَلْيَسْتَجِيبوا لي) ، أي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة
(فاعْتَدوا عليه) :
تسمية العقوبة باسم الذنب، أي قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة صدّكم عن مكة.
(فما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي) :
وأقلّ ذلك شاة تذبحونها.
(فمَنْ كان مِنْكم مَرِيضاً) :
نزلَت في كَعب بن عُجْرَة لما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لعلك تؤْذيك هوَامّ رأسك، فقال: نعم.
فقال له - صلى الله عليه وسلم -، احلق رأسك، وصمْ ثلاثة أيام، أو أطْعِم ستة مساكين، أو انْسك بشاةٍ.
فمعنى الآية: إنَّ مَنْ كان في الحج واضطره مرضٌ أو قمل إلى حَلْق رأسه قبل
يوم النَّحْر جاز له حَلْقه، وعليه صيامٌ، أو صدقة، أو نسك، حسبما فسّر في الحديث.
وقاس الفقهاء على حَلْق الرأس سائرَ الأشياء التي يمنع الحج منها، إلا الصيد
ووَطء النساء.
وقاس الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بد في الآية من مضْمَر لا يستقلّ
الكلام دونه، وهو المسمى فَحْوى الخطاب، وتقديره: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى مِنْ رأسه) فَحَلَق رأسه فعليه فِدْية.(3/11)
(فاَذْكُروني أَذْكرْكمْ) : قد قدمنا مرارا أنَّ منزلة العبد
من الله حيث أنزله العبد، ولهذا لما قال داود: يا رب، كنْ لسليمان كما كنْتَ لي.
فأَوحى اللَهُ إليه: قل له يكون لي كما كنْتَ لي أكون له كما كنتُ لك.
وقد أمرنا الله بهذا في آياتٍ من كتابه، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) .
(فافسَحُوا يَفْسح الله لكم) .
(إنْ تَنْصُروا الله ينصركم) .
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
(هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان) .
وقد اختلفت الأقاويل في قوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) - نحواً من أربعين قولاً، فإن ذكرته بالإيمان يذكرك بالجنة، لقوله: (وعد الله المؤمنين) .
وإن ذكرته بالاسترجاع يذكرك بالرحمة.
وإن ذكرته بالاستغفار يذكرك بالمغفرة.
وإن ذكرته بالإنفاق يذكرك بالْخَلَف.
وإن ذكرته بالشكر يذكرك بالزيادة.
وإن ذكرته بالصبر يذكرك بالأجر.
وإن ذكرته بالتقوى يذكرك بالفرج.
وإن ذكرته بالتوكّل يذكرك بالكفاية.
وإن ذكرته بالتوبة يذكرك بالقبول.
وإن ذكرتَه بالدعاء يذكرك بالإجابة.
وإن ذكرته بالمجاهدة يذكرك بالهداية.
وإن ذكرته بالطاعة يذكرك بالمودة.
وإن ذكرته بالسجود يذكرك بالقرب.
وإن دْكرته بالإحسان يذكرك بالرحمة.
وإن ذكرته بالاستقامة يذكرك بالأمْن.
وإن دْكرته بالقَرْض يذكرك بالتضعيف.
وإن ذكرته بالفرائض يذكرك بالفلاح.
وإن ذكرته بالخشية يذكرك بالفوز.
وإن ذكرته بالاعتصام يذكرك بالنصر.
وإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه.
وإن ذكرتَه في مَلَأ دْكرك في ملأ خير مِنْ ملَئك.
وإن ذكرته بالنوافل ذكرك بالمحبة.
وإن تقرَّبت إليه شِبْراً تقرّب منك باعاً.
وإن أتيته مَشْياً أتاك هَرْوَلة.
وإن أتَيتَه بقرَاب الأرض خطيئة ولم تشرِك به أتاك بمثلها مغفره، وهو الغفور الرحيم.
وفي التوراة: يا ابن آدم أظهرتَ الذنوب معي وأخفيتها عن الخلق، وأبديت
الحسنات لِخَلْقي ولم تخْلِصْها لي، وأكلْتَ رزقي ولم تشكرني، وبارزتَني بالمعاصي ولم تَستَحِ منّي، ولم تحذرني، أمّا ما أظهرت من الذنوب فقد غفرتها لك،(3/12)
وما أتيْتَ من الحسنات بغير إخلاص فقد قبلْتها منك، وما أكلت من رزقي ولم تشكرني فلم أَحرمك الزيادة، وما بارزتني به ولم تستح مني فأنا أستحي أن أعذِّبك بعد شهادتك لي بوَحْدانيتي، وأنا الغفور الرحيم.
فتأَمَّلْ أَيها العاصي هذه الكرامات التي أكرمك بها، دعاك أولاً بنفسه بقوله:
(واللَهُ يدعو إلى دار السلام) ، من دارٍ أولها بكاء، وأوسطها عَناء، وآخرها فَناء، إلى دارِ أولها عطاء، وآخرها لقاء، وهي أحسن البنيان المسدس، فإن اللهَ خلقك مسَدَّساً! فخمسة منها يدعوك إلى خمس جهات واللَه سادسهم: يدعوك من تلك الجهات كلِّها إليه، فالأمَل يدعوك من بين يديك، والشيطان يدعوك من خَلْفك، والهوى يدعوك عن يسارك، والشهوة عن يمينك، والدنيا تَحْتَك! والله من فوقك، فذلك قوله: (ولا خمسة إلا هو سادِسهم) .
فإن كانت همتك في دار الأشجار والبساتين والأنهار فقد دعاكَ لذلك
بقوله: (جنات عَدْن تجري مِنْ تحتها الأنهار) .
وإن كانت همتك الطعام والشراب فقد دعاك لذلك بقوله: (كلوا واشْربوا) .
(يُطَافُ عليهم بصِحافٍ مِنْ ذَهَب) .
(ولَحْمِ طَيْرٍ مما يشتهون) .
وإن كانت همتك التمتع بالنسوان فقد دعاك لذلك بقوله:
(وحورٍ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون) ، لو تفلَتْ إحداهنّ على البحر لعَذب.
ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لأضاء ما فيها.
وإن كانت همتك اللباس فقد رغبك بقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) .
وإن كانت همتكَ الغلمان والولدان فقد رَغبَك بقوله: (وِلْدَان مخَلَّذونَ) .
(غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مَكْنون) .
وإنْ كانت في الشرب والخمور فقد ذكر لكَ أنَّ فيها أنهاراً من خَمْرٍ لذة
للشاربين.
وإن كانت همتك رضاه والنظر إليه فقد دعاك في مواضع من كتابه.
وحرَّضكَ عليه، فما ظنّك بربٍّ كريم يدعوكَ للضيافة وتقبّل دعوته، أتراه لا
يرضيك، وقد بعث إليكَ الملائكة تبشِّرك حين نَزْعك، وأعطاك في حياتك(3/13)
مراكب الجمال إلى بيتك، وأعناق الرجال إلى قَبْرِك، والبراق إلى حَشْرك، قال تعالى: (يوم نَحْشُر الْمُتَّقِينَ إلى الرحمن وَفْداً) .
(فعِدةٌ من أيام أخَر) :
هذا من رحمة الله بهذه الأمة، حيث أباح لها التفريقَ في قضاء رمضان، وهو من خصائص هذه الأمة، قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتِبَ عليكم الصيامُ كما كتِب على الذين من قبلكم) .
فإن قلت: قد قلتم: إنَّ هذا الصيام من خصائص هذه الأمة، فما معنى
الصيام على غيرها؟
فالجواب أنه اختلف: فقِيلَ ثلاثَة أيام مِنْ كلِّ شهر.
وقيل: عاشوراء، ففي هذه الآية الشريفة نرى عذْرَين ونهيين ونسْخَين ورحمتين وكرامتين.
أما العذْران فقوله: (كما كُتِب على الذين مِن قَبْلكم) .
والثاني: (أيَّاماً معدودات) ، أي قليلة تمضي سريعاً.
وأما النسْخان فقوله: (وعلى الذين يطيقونه فِديَةٌ طعام مسكين) ، أي في
بَدءِ الإسلام إن مَنْ لم يصم ثم أطعم لم يكن له بذلك.
والثاني أن المجامعة كانت حراماً في ليالي رمضان، فأباح الله لهم بسبب عمَر
قوله: (أحِل لكم ليلةَ الصيامِ الرَّفَث إلى نِسائكم) يعني الجماع.
وأما الأمران فقوله: (ولتكمِلوا العِدة) ، وقوله: (ولتكَبروا اللهَ على ما هَدَاكم) .
وأما النهْيان ففي المؤاكلة والمجامعة بالنهار، وهو قوله: (ثم أتِمّوا الصيامَ
إلى الليل) .
وأما الرحمتان: (فمَن كان مِنْكم مَرِيضاً أو على سفر فعدَة مِنْ أيام
أخر) ، فرخص له في الإفطار والقضاء بأيام أخر.(3/14)
وأما الكرامتان فقوله: (شَهْر رَمَضان) .
وليلة القَدْر التي هي خَيْرٌ من أَلْفِ
شهر، فالصيام أفضل الطاعات، لأنه يصوم بأمر، ويفطر بأمر: (كلوا واشْرَبُوا) .
والجوع والعطش وغير التمتّع مِنْ عذابِ أهل النار، والله لا يجمَع على الصائم عذابَين، ويعطون الغرف في الجنة بصبرهم، قال تعالى: (أولئك يجْزَون الغرفَة بما صَبَروا) .
وكلّ عمل لا يخلو من وجهين: إما طاعة مع الغَفْلة، أو مَعصِية مع الشهوة، فجعل الله قبول الطاعة بالصوم قوله: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وجعل غُفْرانَ المعصية بالصوم، قال تعالى: (ومَنْ قتل مؤمناً. . . فصيام شهرين. . .) .
وانتهاء المناهي أفضل من ائتمار الأوامر، ألا ترى أنه قال: (مَنْ جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها) .
قال: (ونهى النَّفْس عن الْهَوَى) .
والصوم من انتهاء المناهي، والزّهد في الحلال أفضل من الزهد في الحرام، والصوم من الزهد في الحلال، وفي نداء عباده تعالى بالإيمان من اللطائف والفضائل ما لا يحيط بها إلا هو، كأنه سبحانه يقول: يا مَنْ أقْرَرْتم بوَحْدَانيتي، وعرفْتم دَيموميتي، لا تَقْنَطوا من رحمتي.
قال بعضهم: النداء على عشرين وجهاً:
خمس من الله في الدنيا، وخمس للآدميين في الدنيا، وخمس من الملائكة في
الدنيا، وخمس من الملائكة في الآخرة.
أما الذي من الله فنداء الجنس: (يا أيها الناس) .
ونداء النسبة: (يا بني آدم) .
(يا بني إسرائيل) .
ونداء المدحة: (يأيها الذين آمنوا) ، لأن الله جمع أوصافَ المؤمنين
ونُعوتهم ومعانيهم في هذا النداء، لأنه لم تَبْقَ حسنة إلا دخلت تحته، كما أن الله عَلَم على ذاته القدسية، ومَن ذكره فكأنما ذكر جميع أسمائه التي هي ألفُ اسم ثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الإنجيل، وثلاثمائة في الزَّبور، وواحد في صُحف إبراهيم، وتسع وتسعون في القرآن، فأوَّل جميع الكتبِ اللهُ.
ونداء المذمة: (يأيها الذين كفروا لا تَعتَذِروا اليوم) .(3/15)
ونداء الإضافة: (يا عباديَ الذين آمَنوا) .
(يا عبادي الذين أَسرفوا) .
وأما الذي للآدميِّين: نداء الشريعة، وهو لإبراهيم حيث قال له: (وأذنْ في
الناس بالحج) .
ونداء العتاب ليولسف: (يا أيها العزيز مَسَّنَا وأَهلَنا الضرُّ) .
ونداء الإيمان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا)
ونداء الجمعة للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودِي للصلاة مِنْ يَوْمِ الجمعة) .
ونداء الجماعة للمنافقين.
وأما الذي للملائكة في الدنيا: فملك ينادي في كل صباح: يا أبناء الثلاثين.
لا تَغْتَرّوا بالشباب.
يا أبناء الأربعين، لا تجترئوا.
يا أبناء الخمسين، أَلاَ تستحيون.
يا أبناء الستين، قد دَنا حصادكم.
يا أبناء السبعين، الرحيل الرحيلَ.
ومَلك ينادي بالمقابر كل يوم: يا أهْلَ القبور، من تغبطون اليوم، قالوا: نغبط أَهلَ المساجد الذين يذكرون اللَهَ ولا نَذْكر، ويصلُّون ولا نصلي، ويصومون ولا نصوم، وملك ينادي عند رأس قَبْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا مَنْ زال عن سنّة صاحب هذا القبر فقد برئ من شفاعته.
وملك ينادي في الموقف: مَنْ حَجَّ وكسْبه حرام ردَّ الله حجَّهُ.
وأما الذي من الملائكة في الآخرة فأوله عند البعث: أيتها العظام البالية.
والأجساد النخِرة، هَلمّوا إلى الحساب عند ربّكم.
وملك عند الحساب: أبشروا يا أمة محمد! فإنَّ رحمة الله قريبٌ منكم.
وملك عند المحاسبة يقول: أيْنَ فلان ابن فلان، هلمَّ إلى العَرْض على الرحمن.
وملك ينادي عند الفراغ من الحساب:
ألاَ إنَّ فلانَ ابن فلان سعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
وملك آخر على أَهل الشقاوة ينادي: ألا إن فلانِ ابن فلان شقي شقاوة لا يسعَد بعدها أبداً.
أعاذنا اللَه من ذلك بمنه.
(فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) :
يعني بقبولهم ورحمتهم، لا بقُرب المسافة.
وسببُ نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام سئل أين ربنا، فَوْقنا أو(3/16)
تحتنا، أو يميننا أو يسارنا، أو خلفنا أو قدّامنا، فأنزل الله: (وإذا سألكَ عبادِي عَنّي فإني قَريب) .
يعني وحاجتكم أنا، لا المكان، فإن وجدتموني فما تصنعون
بالمكان وأنا منَزَهٌ عن المكان.
وفي رواية: إن اليهود سألوه عليه السلام أقريب ربّنا فننَاجيه أم بعيد
فنُنَادِيه، فأنزل الله: (ونحن أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الوَرِيد) .
يعني بالعلم والقدرة والإجابة لا بالذات، فادْعوني سِرًا أو جَهْرًا، فإني قريب
أجيب، إنْ سألني العاصي غفرت له، وإن سألني المحسن أعطيته سؤلَه.
فهنيئاً لكم أيتها الأمة المحمدية، نسبكم إلى آدم في قوله: (يا بني آدم) .
وبالشريعة إلى نوح في قوله: (شرعَ لكم من الدِّين ما وصَّى به نوحاً) .
وبالملّة إلى إبراهيم.
وبالأمة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالعبوديّة إلى نفسه، والحكمة فيه حتى يشفع آدم فيكم، فيقول: يا رب، هم أولادي، ويقول
نوح: أهل شريعتي.
ويقول إبراهيم: أَهل مِلَّتي.
ويقول محمد: أمَّتي.
ويقول الله: عبادي وخواصِّي، فالذي نسبك إليه أَترى أنه يريد معاقَبتك.
وقد قال لنوح لَما أراد عقوبة ولده: إنه ليس من أَهلِك.
أو الرسول الذي بعِث إليك يريد تعذيبَ أمته، وهو لم ينْسَهم في الأربعة مقامات: مقام التحية لولاه في قوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
ومقام الشكر في قوله: (والمؤمنون كلّ آمَنَ بالله وملائكته) .
ومقام الحاجة سأل من الله عشر حاجات، فأعطاه ما سأل قوله
تعالى: (غفرانكَ ربَّنا وإليكَ الْمَصِير) . . . إلى آخر السورة.
ومقام الشفاعة: (ولسوف يعْطِيكَ ربّكَ فَتَرْضَى) .
أفترى أنه يرضى بقاء أمته في النار وهو في الجنة، ولذلك يقول له جبريل:
أنت منعَّم، وأمتك في النار، فيستأذن في الشفاعة فيهم في حديثٍ طويل.
وقد عاتبه الله يوم بَدْر لما كان في العَرِيش وأصحابه في الشمس، فقال: يا
محمد، أنْتَ في الظل وأصحابك في الشمس، أهكذا هي الصحبة! فسبحان
اللطيف بعباده وخصوصاً بهذه الأمة (1) .
__________
(1) لا أصل لهذه الرواية، وأين هذا الكلام من قول بعض الصحابة - رضي الله عنهم - كُنَّا إذا اشتد الوطيس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم:
3309 - حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ح وحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ.(3/17)
وفي الحديث: أن جميع الأنبياء قالوا ربَّنا، كما قال آدم: (ربَّنَا ظلَمْنا أنْفُسَنا) .
وإبراهيم: (رَبّنا واجعلْنَا مسْلمَيْن لك) . وغيرهما.
فلما بلغ الأمرُ إلى أمة محمد هابُوا أن يضيفوه إلى أنفسهم، فيقولوا: ربنا، فسكتوا، فأضاف الله نَفْسَه إليهم بقوله: (وقال ربكم ادْعُوني أسْتَجِبْ لكم) .
وكان جميع الأمم لم يكن لهم جراءة على أن يدعوا ربَّهم، ولكن كانوا يقولون: (ادع لنا ربك) .
(هل يستطيعُ ربُّك) .
وهذه الأمةُ رفع الله الواسطةَ بينهم وبينه، وأمرهم بالدعاء، فإن لم يدعوه
فهو يدعوهم ليغفر ذنوبهم.
وتأمل قوله تعالى: (فإنّي قَرِيب) ، ولم يقل هو كما قال: (يسألونك ماذا
ينفقون قل العَفْو) .
(قل هو أذًى) .
(قل إصلاح لهم خير) .
وقال: (فلْيَسْتَجِيبوا لي) إذا دعوتهم إلى المغفرة، فإن دعوني بلا غفلة أجَبْتُهم بلا مهملة، وإن دعوني بالصفاء أجبتهم بالعطاء، وإن دعوني بلسان الشهادة أجبْتُهم بإعطاء الولاية.
وإن دعوني بالنعمة أجبتهم بالشهادة، وإن دعوني بجميع الجوارح أجبتهم إجابةَ ناصح، وإن دعَوْني بالإخلاص أجبتهم بالخلاص، وإن دعَوْني بالمغفرة أجبتهم بتبديلها بعشرة، وإن دعَوْني بالخوف والرجاء أجبتهم بالرحمة والجزاء.
وإن دعَوْني بالاضطرار أجبتهم بالافتخار.
وإن دعوني بأسمائي الْحسْنَى أجبْتهم بالعطية الكبرى.
فانظروا أيها الأمة ما أرْحَمه بنا! وقد رآيناه أجاب الذاكرين بقوله:
(أذكركم) .
وأجاب المتفكرين: (بل الله يَمنُّ عليكم) .
وأجاب الداعين: (أستَجِبْ لكم) .
وأجاب الخائفين: (ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا) .
وأجاب المقربين بالوصلة: (فقد استَمْسكَ بالغرْوَة الوثقى) .
وأجاب المستغفرين بالمغفرة: (إنه كان غَفَّارًا) .
وأجاب المتضَرّعين بقوله: (يوم لا يخْزِي الله النبي) .
فإن قلت: قد رأينا مَنْ يَدْعو ولا يستجيب له؟
والجواب إذا وقع الدعاءُ من المضطرّ حصل جوابه على كل حال.(3/18)
ومَنْ وُفّق للدعاء لم يُحرم الإجابة.
ومن وفّق للتوبة لم يحرم القبول.
ومن وفّق للشكر لم يحرَم المزيد.
ومن وفق للصبر لم يحرم الجزاء.
ومن وفق للتوكّل لم يحرم الكفاية.
ومن وفق للعمل الصالح لم يحرم المودةَ عند الله وعِنْد خَلْقه.
ومِصداق هذا كله قوله تعالى، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) .
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) .
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) .
(وجزاهمْ بما صَبَروا) .
(ومَنْ يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُه) .
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .
فإن قلت: بيِّن لنا الاضطرار وشروط الدعاء؟
فالجواب: أنَّ الاضطرار ألاَّ تبقى فيك علاقة مع غيره سبحانه، وإن
أخلصتَ له في الدعاء وتضرعت، ورجوتَ وخِفْتَ، واستغَثْتَ به، فلا بد من إجابتك إما عاجلا فتبلغ سؤْلك أو يكفّر لك به من ذنوبك، أو يؤَخَّر لك
لمصلحتك، أو يرفع درجتك، ولعلّه يعطيك سؤْلك فتغفل عنه، وهو يحبُّ
المُلِحِّين في الدعاء.
ألاَ تسمعه سبحانه يقول لبعض الداعين: أعطوه سؤْله، فإني أكره صوته، فإجابة الدعاء في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد.
ورحم الله القائل:
اللهُ يَغْضب إن تَرَكْتَ سؤَاله ... وابن آدَمَ حين يُسْأل يَغْضَبُ
وقد وعدنا الله تعالى بالكرامة على أنواع من الطاعات، فأكرم الساجد
بالقربة، ودخول البيت الحرام بالأمن.
والجهاد بالجنة.
والصدقة بأضعافها.
والزكاة بالفَلاَح.
والدعاء بالإجابة، لكن العلّة منا وإلينا، وشؤْمَ نفوسنا عائدٌ
علينا، كما قال إبراهيم بن أدْهم لما قالوا له: يا أبا إسحاق، الله يقول: (ادْعوني أَسْتَجِبْ لكم) ، ونحن نَدْعوه ولا يَستَجِيب لنا، فأطْرق ساعة وقال: لأنَ قلوبَكم ماتَتْ في عشرة أشياء، فقالوا: هاتها.
قال: عرفْتمِ الله ولم تؤدّوا حقّه، وقرأتم كتابه ولم تعملوا به، وعرفتم رسولَه وتركتم سُنَّته.
وقلتم الشيطان لنا عدوّ فَوَافَقْتموه، وادعَيْتم حبّ الجنة ولم تعملوا لها.
وقلتم نخافُ النار ووهبتم لها أبدانكم.(3/19)
وقلتم: الموت حقّ ولم تتهيئوا له.
وانتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب إخوانكم.
وأَكلْتم رزْقَه ولم تشكروه.
ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، فأنَّى يُستجابُ لكم!
وفي الحديث ما يعضده قوله: "مَطْعَمه حَرامٌ، وملْبَسه حرام، ويقول: يا
رب، يا رب، فأَتى يُستجاب له! "
وصدق الصادق المصدوق، فإن الدعاء مثل الطائر، وكيف يطير مقصوص
الجناح.
فاجتهد في إخلاص المطعم والملبس، وتَخَيَّرْ أوقات الإجابة وأماكنها المفضّلة
في الحصن الحصين لابن الجزري، وخصوصاً بعد الأذان، وقبل الإقامة، وبعد الصلوات، وخصوصاً صلاة الجمعة، والسَّحَر أسرع إجابة لخلوّك بالمحبوب.
وبعضهم ترك الدعاء لِعِلْمِه بأن الله لا يغفلُ عنه، واشتغل بذكره، للحديث
القُدسي: "من شغله ذِكْري عن مسألتي أعطيته أفضلَ ما أعطي السائلون"، ولهذا أشار ابن عطاء الله بقوله: "طلَبك منه اتهامٌ له". . . الخ.
وبعضهم لم يرفع رَأسَه للدعاء حياءً منه.
وبعضهم قال: الدعاءُ تحكم على الله، وقد سبق تقديره قَبْل وجودي، فإن سبق سعادتي فأناله، وإن لم يسبق فكيف اطلب منه ما لم يرد (1) .
وبعضهم دعاه في الشدة، وأعرض عنه في الرخاء، وهذا حالنا كما قال سبحانه: (فإذا مَسَّ الإنسانَ ضرّ دَعَانَا) .
وبعضهم قال: لا أقولُ نحن، لأن الملائكة قالت: (نحن نسبِّح بحمدك) ، فلم يرْضَ الله منهم، وإبليس قال: أنا، فلعنه الله.
وفرعون قال: (أَليس لي ملْك مصر) ، فأغرقه الله.
وقارون قال: عندي، فخسف الله به الأرض.
وأعلى من هؤلاء من امتثل أمْرَ ربه في الدعاء، ورأى نفسه عَبْداً مملوكاً لا
يقدر على شيء، وإنما قام بحقّ الربوبية، فطلبه لمحبَّته في الطلب، وفوّضَ الأمر له، كما قال بعضهم لما قيل له: سَلْ تُعْطَ، فقال: عالم من جميع الوجوه يقول لجاهل من جميع الوجوه: سَلْ تُعْطَ، لا أعلم ما يصلح بي، ولكن يختار هوَ لي.
__________
(1) بل الدعاء مطلوب ومأمور به على الدوام (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) .(3/20)
ولهذا قال ابن عطاء الله: لا يكن طلبك تسبّباً إلى العطاء منه، فيقلّ فَهْمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية.
فإن قلت: إذا سبق العطاء منه فما فائدة الطلب، وقد أعطانا بغير سؤال؟
فالجواب إذا سبق في أَزَلِه العطاء وفَّق عَبْدَه لطلبه، فيجيب، ويفرح العبد
بذلك، ولو أعطاك بغير سؤال لطمع الكافر والمؤمن.
وهذه أسباب ووسائط يوفّق الله العبدَ إليها في أي وقت شاء على يد من يشاء
(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) .
والكلامُ هنا طويل، وقد ألَّفت فيه تأليفاً عجيباً سميته مفاتح الطلب.
فانظره إن ظفرتَ به، وإلا ففي هذه النبذة كفاية إن شاء الله.
(فإذَا أَمِنْتم) :
الخطاب للمحْرمين مِنْ أَهل مكة وغيرهم.
ومعناه: إذا كنتم بحال أَمْنٍ، سواء تقدَّم مرض أو خوف عدوّ، أو لم يتقدم.
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعمْرَة) : والتمتع هو أَنْ يعتمر الإنسان في أشهر الحج ثم يحج من عامه، فقد تمتّع بإسقاط أحد السفَرين للحج أو العمرة.
وقال عبد الله بن الزبير: التمتّع هو أن يحْصَر عن الحج بعدو حتى يفوته
فيعتمر عمْرةً يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج مِنْ قابل قضاءً لحاجته، فهو قد
تمتع بفعل الممنوعات للحج من وقت تحلله بالعمرة إلى الحجّ القابل.
وقيل: التمتع هو قِران الحجِّ والعمرة.
(فمَنْ لم يَجِدْ فصِيام ثلاثةِ أيامٍ في الحجّ وسبْعَةٍ إذا رجَعْتم) :
يعني من لم يجد الشاةَ فليصمْ ثلاثة أيام، وقْتها من إحرامه إلى يوم
عرفة، فإن فاته صام أيام التَّشْريق وسبعة إذا رجع إلى بلاده.
(فمَنْ فَرض فيهنَ الحجَّ) .
أي أَلزم الحجَّ نفسه في شوال وذو القعدة وذو الحجة.
(فلا رَفَثَ) ، وهو الجماع،(3/21)
(ولا فسوقَ) ، وهي المعاصي، إذْ علامةُ قبول الحج ترك المعاصي، ولا جزاء له إلا الجنة، كما صح.
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، لأن الإنسان كثيراً ما يذكر أباه.
والعارفُ يذكر الله أكثر، لأنه مخترعه وخالِقه كيف شاء، ورازِقه من أين شاء، وممِيته متى شاء، ويحييه إذا شاء، فكيف يغفل عمن هذه صفته، وقد دعا الْخَلق إلى نفسه، فالسابق منهم همّه اسمه، فدعاه بلفظ الرب، وقال: (وأنِيبوا إلى رَبِّكم) .
(فَفِرّوا إلى الله) .
والمقتصد منهم همه الرزق، فدعاه بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) ، وقال: (يرزق مَنْ يشاء بغير حساب) .
والظالم همه غفران ذنوبه، فدعاه بقوله: (وسارِعوا إلى مغفرةٍ مِنْ رَبِّكم) .
فعلى كل حال العبد لا يغفل عن سيده.
ولما كانت العرب تذكر أباها كثيراً مفاخرة عند الجمرة أمر الله بذكره
عوضاً عن ذلك، لأنه الضارُّ النافع.
(فَضْلاً مِنْ رَبِّكم) :
التجارة في أيام الحج أباحها الله لعباده، ولا يضر نيتها، ولا تفسد العبادة بها خلافاً لبعض الصوفية.
والصحيح أن النيةَ الصحيحة تقلِب القبيح حسناً، والحسن قبيحاً.
وتشريك النية الصالحة جائزة، بل مطلوبة في الأفعال، ورضي الله عن السيد الذي دق عليه، فقال لبعض التلامذة: قمْ حلّ له الباب.
فقام، فقال بعد رجوعه: بأي نيّةٍ قمْتَ له.
فقال: نيًة فتْح الباب.
فقال: هلاّ نوَيْت قضاء حاجته إن احتاج، والسلام عليه ومصافحته، وصار يعدد له سبْعَ نيات.
هكذا كانوا رضي الله عنهم يشركون أفعالهم لتضعيف حسناتهم، ونحن بالضدّ مِنْ هذا، فليس لنا نية ألبتَّة.
فلا تتحرك أيها الأخ حركةً إلا للَه تكثراً بنيتك، كلبْثِك بالمسجد بغية(3/22)
الزيارة لله، وانتظار الصلاة، وكفّك عما نهيت، وعكوفك على الطاعة وسلامةِ الناسِ من شرِّك، وتعَلّم وتعليم واستفادة أخ، ونحوها.
وبدخولك الأسواق: ذكر الله تعالى، والسلام على إخوانك، وشهادة البقاع لك، ومَنْع الشيطان وطَرْده، وتغيير ما رأيتَ من المناكر إن قدرت صيانة، وأمرك بالمعروف صدقة، ورؤية نعمة فراغك وتوفيقك.
وقد علمت ذاكر اللَه في الغافلين كالمجاهد خَلْف الفارّين، ولا تشغلك رؤية شهوةٍ، فتصدَّقْ بقدميْك لزيارة إخوةٍ لئلا تحوجهم لزيارتك، وقضاء حاجتهم، ورد السلام على مَنْ سلّم منهم، وسماحاً في بَيْع، ورؤية صالح، ورؤية آياته تعالى: من تصرّف الخلق في معايشهم وحركاتهم وألوانهم، وما جبلوا عليه من حبِّ الدنيا، واختلاف أغراضهم، وتَصَرّفهم في المأكل والملابس، واختلاف السلع.
والكلام هنا طويل.
والقصد منه أنه يجب علم حقيقة النية، وتخليصها من كل
حظّ دنيوي حتما، ومن كل حظ أخرويّ ندْباً، وهي تمييز الأغراض بعضها من بعض، (وما يَعْقِلها إلا العالمون) .
ومتى حصلت الحركة وعَقَبها باعثٌ واحد فنيَّةٌ خالصة، وإيثارُ الراجح
اختيار، واقترانها بحكم فقضاء وبما له مقدار، أو عني بشيء خاص فعناية.
وتصميم الإرادة عَزْم وهَمّ ومشيئة.
وللحنفية: إنَّ المشيئة مشتقّ من الشيء، وفي كتب اللغة أنها إرادة لا فعل.
صح: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
ومَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهوَ في سبيل الله، ومن هَمَّ بحسنةٍ ولم يعملها كتبت له حسنة، وإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، ونظره تعالى إلى القلب للنية، والنية والعلم وغيرها مما ينسب للقلب، وهو قائم بالنفس، والعقل في القلب.
وتأمَّل قوله تعالى: (لَهمْ قلوب يعْقِلونَ بها) .
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) .(3/23)
فتأمَّل أيها الأخ صُنْع الله في هذا المؤمن، حيث جعل له داخل ضميره شمساً
ساكناً في وسط الأحشاء أضْوَأ من الشمس اللامعة، حتى جاز الهوى، وملَك
طريق السماء، فلم يسكن على شيء دون الرّبّ جَلّ جلالُه، فصار حاله في الضمير كعود نصِب له في الأرض، فإذا اتَّصل بالأرض، والأرض به، نبتت المعرفة به، فصارت نزهةً للعارفين، ثم الشهادة عطاء المحبين، ثم المحبة على السابقين.
(فمن تَعَجَّلَ في يومين فلا إثْمَ عليه) :
قد قدمنا أنَّ هذه الآية أباحت التعجّل والتأخر.
وقيل: إنه إخبار عن غفْران الإثم، وهو الذنب للحاجِّ، سواء تعجّل أو تأخر.
وعلى الأول فيكون (لمن اتَّقَى) أنْ يَأثَم في التعجُّل والمتأخر لا إثم عليه.
وعلى الثاني أنَّ الغفران إنما هو (لمن اتَّقَى) الله في حَجِّه.
للحديث: "مَنْ حَجّ هذا البيت فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذُنوبه كيوم ولدَتْه أمه".
فاللام متعلقة إما بالغفران أو بالإباحة المفهومَيْن من الآية.
(فحَسبه جَهَنَّم) :
الضمير يعود على مَنْ لا يطيع من يأمره بالتقوى تكبراً وطغْياناً، وهو الذي يُقال له: اتَّق الله، فتأخذه العزَّةُ بالإثم.
والباء يحتمل أن تكون سببية، أو بمعنى مع.
وقال الزمخشري: هي كقولك: أخذ الناس الأمير بكذا، أي ألزمهم إياه.
فالمعنى حملته العزةُ على الإثم.
(فاعلَموا أَن اللهَ عَزِيزٌ حكيم) :
تهديد لمن زَلّ بعد البيان.
ويحتمل أن يكون الخطاب بقوله: (ادخلوا في السِّلْم) لأهل الكتاب، على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام.
ولما سمع بعض الأعراب قارئاً يقرأ: (فاعلموا أن الله غفورٌ رحيم) - قال له: أخطأت.
فقال: من أين علمت، قال: أَيغريهم على المعصية.
(فلِلوَالدين والأقربين) :
بيان مَصْرف نفقَة التطوّع.
وتقدم في الترتيب الأهمّ فالأهمّ، وإن أريد بالنفقة الزكاة المفروضة فذلك
منسوخ.
(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) :
أي اجتنبوا جِمَاعَهُنّ في(3/24)
الفرج، لا فيما عداه من أعكانها وبين فخذيْها، والاستمناء بيدها.
وقد فسر ذلك الحديث بقوله: لتشد عليها إزارها وشأنك بأعلاها.
(فاءُوا) ، أي رجعوا إلى الوطْءِ، وكفّروا عن اليمين.
فإن الله يغفر ما في الإيلاءِ من الإضرار بالمرأة.
(فنِصفُ ما فَرَضْتمْ) ، يعني من الصداق لمن طلّق قبل الدخول، فإن كان لم يفرض لها صداقاً، وذلك في نكاح التفويض، فلا شيء
عليه من الصداق، ويؤمر بالمتعة، لقوله: (ومَتِّعوهُنَّ) .
(فإذا أَمِنْتم فَاذْكروا اللهَ) :
قيل المعنى إذا زال الخوف فصلّوا الصلاةَ التي عُلِّمتموها وهي التامة.
وقيل: إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزيكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأول بمعنى الصلاة.
وقد ذكر الله للصلاة اثني عشر اسماً: القرآن: (إن قرآنَ الفَجْرِ كان مَشهوداً) .
والأَمانة: (إنّا عَرَضْنا الأمانةَ) .
والحسنات: (إنَّ الحسناتِ يذهِبنَ السيئات) .
قال ابن عباس: إن الصلوات الخمس يكفرنَ الخطايا.
والتوبة: (ذلكَ ذِكْرَى للذَّاكِرين) يعني توبةً للتائبين.
والبقاء: (والباقيات الصالحات) .
والذكر: (الذين يذكرون الله) .
والاستغفار: (والمستغفرين بالأَسحار) .
والتسبيح: (فَسبْحانَ الله حين تمسون) .
والركوع: (واركَعوا مع الراكعين) ، أي صَلّوا مع المصلّين.
والسجود.
وعلى القول الثاني فمعنى الذكر الشكر، وعلى كلاَ القولين فالواجب على
الإنسان أن يذكر الله على كل حال.
والذكر على سبعة أوجه: ذِكْر اللسان، وهو الحمد للَه والثناء، وذكر الْجَنان وهو التسليم والرضا، وذكر الأبْدَان وهو الجهد والعناء.
وذكر العينيْن، وهو(3/25)
العبرة والبكاء، وذكر اليدين وهو السخاء والعطاء، وذكر الرِّجْلين وهو المشي إلى الحج، وثبات النفس لِلِّقاء.
وذكر الروح وهو الخوف والرجاء.
(فإنْ خَرَجْنَ) :
الضمير يعود على الْمعْتَدّات اللواتي يُتَوَفَّى أزواجهن ألاَّ يخرجن من ديارهنَّ أربعة أشهر وعشراً، وليس لأولياء الأزواج إخراجهنَّ، فإذا كان الخروج من قِبَلهن فلا جناح على أحد فيما فعَلْنَ في أنفسهن من تزوُّجٍ وزِينة.
(فمَنْ شَرِب مِنْه فليس مِنِّي) :
هذا من قول طالوت لَما جاز على نهر فلسطين اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب.
(فشَرِبوا منه إلا قليلاً منهم) ، وكانوا ثمانين ألفاً، ولم يشرب منهم إلا ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أصحاب بَدْر، فأما مَنْ شرب فاشتدَّ عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش.
(فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) :
يعني أنَّ الله فضّل الأنبياء والرسل على بعضٍ من غَيْر تعيين الفاضل على المفضول، لكن الإجماع على تفضيل أولي العزْم منهم.
واختلف فيما بينهم، فقيل آدم لأنه أبو البشر.
وقيل نوح، لأنه أول رسول بعث في الأرض.
وقيل إبراهيم، لأنه خليل الله.
وقيل موسى، لأنه كليم الله.
وقيل عيسى، لأنه روح الله.
والإجماع على أنَّ نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيدهم وإمامهم، والمبعوث إليهم، وإلى الملائكة، لا يختلف في هذا القول إلا جاحد ومَنْ لا خَلاَقَ لَه.
فإن قلت: ما معنى قوله عليه السلام: " لا تفَضّلوني على يونس بن مَتى "؟
فالجواب أنه قال ذلك على وَجْه التواضع والانبساط، والتنبيه للمخاطب على أَلاّ يتعرض لأنبياء اللْهِ ورسله بالغَيْبة.
أو قال ذلك قبل أن يعلم بفَضْلِه على سائر أنبيائه ورسله.
وانظر كيف يكون حال مَنْ يتعرض بالنَّقْصِ لهم من هؤلاء القصَّاص(3/26)
والمؤرخين بنسبه الذَّنب لهم، كآدم، وداود، ويونس، وغيرهم، ورَضِيَ اللَه عن الإمام عليٍّ حيث يقول: "مَنْ حَدَّث بما يقول هؤلاء القصَّاص جلَدْته حدَّين لما ارتكب مِنْ صَرْف.
ومن رفع الله محلّه هذا في الجملة، فكيف بمن تنقَّصَ أو عاب سيّدهم وإمامهم، والذي عليه مدار أمْرِهم.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " كنت نبيئاً، وآدم بين الماءء والطين "، ويظهر لك تفضيله على أولي العزم من الرسل في قوله تعالى:
(وإذ أخَذْنا من النبيّين ميثاقَهم ومِنْكَ ومِنْ نوح) ، فقدّمه
على أولي العَزْم منهم، تنبيهاً لكَ على أنك لا تعلم حقيقته هنا، إنما يظهر كمال شرفه إذ يستشرف من شرف المحشر، فيشرف بالشفاعة، فآدم ومَنْ سِوَاه تحت لوائه، وكلهم يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه يُسْلِم نفسه لصاحب النفس، ويقول: لا أسألُك نفسي ولا فاطمة ابنتي، وإنما أسألُكَ أُمَّتي، أُمَّتي يا مَنْ لا يخْلِف الميعاد.
وقد وعدتني ألاَ تخْزِيني فيهم.
فأقسم عليك يا سيد الأولين والآخرين بمن أعطاك هذه الكرامة والْمَنْزِلة الرفيعة، لا تَنسَ عَبدَك في ذلك اليوم العظيم، بل في الدنيا، ينْقذني مِنْ شرِّ هوَاي وشهوتي، ويُقبل بي عليه وعلى طاعته، ويستعملني في خدمته، ولست بأهلٍ لذلك، إن لم تكن نفحةٌ من بحر جودك، وإلاّ فأنا متعلق بذَيْلِك، متوستل لك بمدحك والصلاة عليك، وهي من أعظم الوسائل
عندك، للَه دَرُّك من محبوب! ما أعْذَبَ ذِكْرك! كم غَرَّت غرتك من غِرّ جاء
ليغرف عند مشاهدتك.
قال: ما هذا وجه كذّاب، غاية جمال يوسف أن أفْتَنَ نسوةً، وجمالك قد أفتن الكونين، كم عاداك من عاد إليك، كل قلْب قَلاك فأقْلَبه
القدَرُ فانقلب إليك، ما طاب عيش عباده الأنبياء حتى صليت بهم في صوامع
السموات، ما جلا عروس رسالتك ليلةَ الإسراء على منصب قاب قوسين
إلاّ ليعلم عُذَّال: (أتجعل فيها مَنْ يفْسِد فيها) ، ما حوت صدفة
آدم من يتيمة الوجود، اجتمع في مدرسة درس رئيس الملائكة، يسأل ما
الإسلام، وما الإيمان، وما الإحسان، ومِن خواص الجنّ من غلبهم التعجّب، فقالوا: (إنا سمِعْنا قرآناً عَجَباً) .
ومن فضلاء الإنس من كان به الأنس كـ (ثَانِيَ اثنين إذْ هما في الغار) .
إن كانت شمس(3/27)
السماء تظهر الظاهر فشمس شرْعك تُظهر الغيب.
اتَقُوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، إذا كان في النجوم هدى للسالك في السالك، فكم بنجوم آياتك من مهتدٍ إلى الحق.
(فأماتَه الله مائةَ عامٍ ثم بعثه) :
الضمير يعود على عزَير.
وقيل: على الخضْر، وذلك أنه مرّ على قرية، وهي بيت المقدس لما خرَّبَها
بخْت نَصّر، وقيل قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فسأل عن كيفية إحيائهم، فأراه الله ذلك عياناً في نفسه، ليزدادَ بصيرة، وأماته مائةَ عام ثم بعثه، وذلك أنه أماته غدوة يومٍ، ثم بعثه قبل الغروب من يومِ آخر بعد مائة عام، فظنَّ أنه يوم واحد.
ثم رأى بقيَّةً من الشمس، فخاف أن يَكذب، فقال: (يوماً أو بعض يوم) .
وروي أنه قام شابًّا على حالته، فوجد أولاده وأولادهم شيوخاً.
وكذلك قصة أصحاب الكهف، لما بعثهم قال بعضهم لبعض: (كم لبِثْتُم) .
وكذلك يسألون في القيامة: (كم لبثتم) (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) ، كل ذلك دلالة على أنَّ الدنيا كلها كثيرهاَ كقليلها، ولا يلبث الإنسان فيها إلا كنَفَس واحد.
وهذا مشاهد، وليس الخبر كالعيان.
(فلما تبَيَّن له) ، أي تبيَّنَ له كيفية الإحياء، فأراه الله في نفسه ذلك.
ولذلك قال: (انظر إلى طعامِكَ وشرابك لم يتَسنَّه) ، أي يتغير.
وانظر إلى حمارك كيف تركْتَه مربوطا بحبل من ليف، ولم يتغير.
قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) - بهمزة قطع وضم الميم - اعترافاً.
وقرئ بألف وَصْل والجزم على الأمر، أي قال له الملك ذلك.
فإن قلت: ما الحكمة في أنَّ عزيراً سأل الإحياء، فعاقبه، وإبراهيم سأل مثل
ذلك فأجابه؟
فالجواب أن عزَيراً سأل عن القدرة، فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)(3/28)
وإِبراهيم سأل عن كيفية القدرة، فقال: (كيف تحيى الموتى) ، لأن قوله (أنى) بمعنى كيف، إذ لا يشكّ في الله في القدرة، فسؤاله إنما كان على جهة الاستخبار لا الإنكار، كما زعمه بعضهم.
وقيل: إن إبراهيم عرف بالقلب، فأراد أن يرى بالعَيْن، وذلك أنه لما قال
النمرود: (أنا أُحيي وأميت) ، فقتل رجلاً وأحيا آخر، فقال إبراهيم:
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) ، لأني أعلم أنه ليس فعلك كفعله، فأراه
الله ذلك في أربعةٍ من الطير، وفَرَّق أجزاءَها، وجعل جزءاً من الحمام مع جزءٍ من الدّيك، وخلط بعضَها مع بعض، ليكون أبلغ في القدرة حيث رجع كلّ جزء إِلى صاحبه، فاطمأنّ قلْبُه كما طلب، ولهذا كانت هذه الطير طير العبرة، وطير المحنة الطاوس الذي كان سبب خروج آدم من الجنة.
وطير التجربة الحمار الذي كان لنوح في السفينة حتى دخل إبليس بين قوائمه.
وطير الفتنة لداود حيث تسوّرَ له في المحراب.
وطير الهلكة لسليمان.
وطير الحجة لعيسى حيث صوَّره من طين، ونفخ فيه، فصار طائراً بإذن الله.
وطير الكرامة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وطير اللعنة للنمرود حيث دخل في خياشيمه وهي البعوض، وأمهله ثلاثةَ أيام، لعله يتوب.
وطير الهلكة للحبشة لما أرادوا هَدْم الكعبة، فأرسل الله عليهم طَيراً أَبَابِيل
تَرميهم بحجارة من سِجِّيل، على كل واحد اسم صاحبه.
وطير المعرفة للعارفين يطير حتى يتعلق بالمولى سبحانه (1) .
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
أي إن لم تنتهوا عن الربا حورِبْتم.
ومعنى (فَأْذَنُوا) : فاعلموا.
وقرئ بالمد، أي أعْلِموا غيركم.
(فاكْتُبوه) :
ذهب قوم إلى أنَ كتابةَ الدَّيْن واجبة بهذه الآية.
وقال قوم: إنها منسوخةٌ بقوله: (فإنْ أمِنَ بعضكم بعضاً) .
وقال قوم: إنها على الندب.
(فرَجلٌ وامْرَآتان) :
قال قوم: لا تجوز شهادةُ المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال.
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح، وفي بعضه من الإسرائيليات ما فيه.(3/29)
وقالوا: معنى الآية: (إن لم يكونا) ، أي لم يوجدا.
وأجازه الجمهور، لأن المعنى إن لم يستشهد رجلان فرجل وامرأتان، وارتفاع رَجل بفعل مضمر، تقديره فليكن رجلٌ، فهو فاعل.
أو تقديره فليستشهد رجل، فهو مفعول لم يسمَّ فاعله، أو بالابتداء، تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون.
(فإنّه فسوقٌ بكم) .
أي إن وقعتم في الإضرار المتقدّم في قوله: (ولا يُضَارَّ كاتِبٌ ولا شَهيد) .
(فرِهَانٌ مَقْبُوضَة) :
بهذا احتجّ الشافعيّ على صحة الرهن.
واحتج مالك بأنه شرط كمالٍ.
وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله.
وأجاز الجمهور وَضْعه على يد عدل.
(فإنْ أَمِنَ بعضُكم بَعْضاً) .
أي أمن صاحب الحق المَدِين لحسن ظنه به، فليستَغْن عن الكتابة، وعن الرهن، فأمر أوّلاً بالكتابة ثم بالرهن، تم بالائتمان، فالدين ثلاثة أحوال.
ثم أمر المَدِين بأداء الأمانة، ليكون عند ظن صاحبه به.
(فإنه آثِم قَلْبُه) :
معناه قد تعلّق به الإثم اللاحق عن المعصية في كِتمان الشهادة، وارتفع آثم بأنه خَبَرُ إن، وقلبه فاعل به.
ويجوز أن يكون (قَلْبُه) مبتدأ و (آثم) خبره.
وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كانت جملة المكاتم هي الآثمة، لأن الكتمان من فعل القَلْب، إذ هو يضمرها، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان.
(فيَغفر لِمَنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يَشَاء) :
قرئ بالجزم فيهما عطفاً على (يحاسبكم) ، وبرفعهما على تقدير فهو يَغفر.
(فَإِنْ حَاجُّوكَ) ، أي جادَلُوك.
والضمير يعود على نصارى نَجْران، أو اليهود.
(فإنما عليكَ البَلاَغ) ، أي إنما عليك تبليغُ رسالة ربّك، فإذا بلَغتها فعلْتَ ما عليك.
وقيل إنها موادعة منسوخة بالسيف.(3/30)
(فتقَبَّلَها رَتها بقَبُول حَسَن) : الضمير يعود على مريم.
وفيه وجهان:
أحدهما - أن يكون مصدرا على غير الضمير.
والآخر - أن يكون اسماً لا يقبّل به، كالسَّعوط اسم لما يستَعط به، يعني أن
اللَه رضِيها للمسجد مكان الذَّكَر، لأنها قالت: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، يعني لخدمته.
(فأنْفُخ فيه فيكون طائراً بإذْن الله) ، وقرئ (طيْراً) بياء ساكنة على الجمع.
قيل: هو الَخفّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، ولها أسنان وثَدي، وهي تَحيض.
قال وهب: كان يطير ما داموا ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط
ليعلم أن الكمال للهِ تعالى، وأنَّ فِعْلَ الخالق مخالفٌ لفعل المخلوق.
وذكر: (بإذن الله) ، ليرفَعَ وَهْمَ من توهَّم في عيسى الربوبية.
وأراد على قراءة نافع بالألف النوع.
فإن قلت: ما وَجْهُ تذكير الضمير هنا وتأنيثه في المائدة في قوله: (فتنفخ
فيها) ، وهل يجوز أن يكون كلّ واحد منهما مكان الآخر؟
والجواب أنه أنّث الضمير في المائدة، لأنه يعود على الهيئة، وذَكَره هنا، لأنه
يعود على الطير، أو على الكاف من (كهيئة) ، وإنما خصّه بالتذكير هنا، لأنه إخبار قبل الفعل، وفي المائدة خطاب الله له في القيامة.
قال الزمخشري: في الأولى الضمير للكاف، أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير، فيكون طيرا، أي فيصير طيرا كسائر الطيور.
وقال في قوله: (فتنفخ فيها) الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة
التي يخلقها عيسى، وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها، لأنها ليست من خلقه ولا نفْخِه في شيء.
قال: وكذلك الضمير في تكون. . . انتهى كلامه.
وهو في غاية الوضوح.
(فَوْرهم) :
الضمير للملائكة، أي من ساعتهم.
وقيل المعنى من شَرِّهم (1) .
والمعنى أنَّ الله أمدَّ المسلمين بهذا العدد، ليزيدهم قوة.
__________
(1) أي من غضبهم.(3/31)
فإن كان في يوم بَدْر فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان في يوم أحد فقد شرط
أن تصبروا وتتقوا، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة.
(فما وهَنوا) ، الضمير للربيين على إسناد القتل للنبىء، وهو لمن بغى منهم على إسناد القتل إليهم.
(فأثابَكمْ غَمًّا بغَمٍّ) ، أي جازاكم غَمًّا بسبب الغم
الذي أدخلتموه على رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين، إذ عصيتم وتنازَعتم.
وقيل: أثابكم غمّاً متصلاً بغم، وأَحَد الغَمَّين ما أصابهم من القتل والجراح، والآخر ما أرجف من قَتْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(فَشَلْتم) : أي جَبنْتم.
(فَزَادهم) :
الفاعل ضمير القول، وهو أنَ الناس قد جمعوا لكم.
والصحيح أَن الإيمان يزيد وينقص، فمعناه هنا قَوَّى إيمانهم وثقتهم بالله.
(فانقلبوا) ، أي رجعوا بنعمة السلامة وفَضْل الأجْر.
(فلا تَخَافوهم وخافونِ) :
يعني أنَّ الشيطان يخوِّفُ أولياءَه فيخوفونكم أيها المؤمنون، فلا تخافوهم.
وقراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه.
وقيل المعنى: يخوف المنافقين، وهم أولياؤه من كفّار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف.
(فلا تحسبنّهم) : بالتاء وفتح الباء خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -
وبالياء وضمّ الباء، أسند الفعل للذين يفرحون، أي لا يحسبون أنفسهم.
(فإن آنسْتم منهم رشداً) :
الخطاب لأولياء الأيتام أن يدفَعوا إليهم أموالَهم إذا رشدوا، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدّين.
واشترط قومٌ الدين، واعتبر مالك البلوغَ والرشد.
وحينئذ يدفع المال.
واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفَه.
وقوله مخالف للقرآن.(3/32)
(فَليَسْتَعْفف) :
أمر الوصيَّ الغنِيَّ أن يستعفف عن مال اليتيم
ولا يأكل منه شيئاً، وإنْ كان فقيراً فليأكل بالمعروف من غير إسراف.
وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقَدرِ عمله وخدمته.
وقيل نسخها: (إن الذينَ يأْكلُونَ أموالَ اليتامى ظُلْماً) .
قال عمر بن الخطاب: لا بأس للوصيّ الفقير أن يستسلف من مال محجور له، فإذا أيسر ردَّه.
(فانْكحوا ما طابَ لكم من النساءِ) ، أي ما حلّ.
وإنما قال " ما " ولم يقل " من "، لأنه أراد الجنس.
وقال الزمخشري: لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله تعالى: (أو ما ملكَتْ أيْمَانُكم) .
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) .
إباحة للأزواج أو للأولياء على ما تقدم من الخلاف - أن يأخذوا ما دفعه النساء من صدقاتهن عن طِيبِ أنفسهن.
وقد قال بعضهم: مَنْ أصابه ألم فليأخذ مِنْ صَدَاق زوجه أربعةَ دراهم، ويشتري بدرهمين عسلاً وبدرهمين زيتاً ويشربها بماء مطر، فإن الله يعافيه، لأن الله قال في الزيت مباركاً، وفي المطر مباركا، وفي العسل شفاء، وفي الصداق الهناء -.
وإن أضاف إليها آيةً من كتاب الله ففيه الشفاء أيضاً.
(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) ، إنما أنّثَ ضمير الجماعة في (كن) ، لأنه قصد الإناث.
وأصله أن يعود على الأولاد، لأنه يشمل الذكور والإناث.
وقيل: يعود على المتروكات.
وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة، والضمير مبْهَم، ونساء تفسير.
(فوق اثنَتَين) :
ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك جمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثين، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة.
وقال الجمهور: لهما الثلثان.
وتأولُوا فوق اثنتين فما فوقهما.
وقال قوم: إن فوق زائدة كقوله: (فاضرِبوا فوق الأعناق) .(3/33)
وهذا ضعيف.
وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنّة لا بالقرآن.
وقيل بالقياس على الأختين.
(فلها النصف) :
نصّ على أنَّ للبنت النصف إذا انفردت، ودليلٌ على أن للابن جميعَ المال إذا انفرد، لأن للذكر مثل حظّ الأنثيين.
(فلأمه الثلث) :
لم يجعل الله للأم الثلث إلا بشرطين:
أحدهما عدم الولد.
والآخر إحاطة الأبوين بالميراث، ولذلك دخلت الواو
لِتَعْطِفَ أحدَ الشرطين على الآخر.
وسكت عن حظ الأب استغناء بفهمه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلا الثلثان ولا وارث إلا الأبوان، فاقتضى ذلك أنَ الأب يأخذ بقيّته وهو الثلثان.
(فإن كان له إخوة فلأمَه السّدس) :
أجمع العلماء على أن ثلاثة من الإخوة يردّونَ الأم إلى السدس.
واختلفوا في الإثنين، فمذهب الجمهور أنهما يردانها إلى السدس.
ومذهب ابن عباس أنهما لا يردانها إليه، بل هما كالأخ الواحد.
وحجَّته أنَّ لفْظَ الإخوة لا يقع على الإثنين، لأنه جمعٌ لا تثنية.
وأقلّ الجمع ثلاثة.
وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقَع على الإثنين، كقوله: (وكُنا لِحكمِهِم شاهِدين) .
و (تسوَّروا المحراب) .
(وأطرَاف النهار) .
واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الاثنان فصاعدا جماعة ".
وقال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعداً.
ومذهبه أن أقلّ الجمع اثنان، فعلى هذا يحجب الأخَوان فصاعداً الأم عن الثلث إلى السدس، سواء كانا شقيقين، أو لأب، أو لأم، أو مختلفين، وسواء كانا ذَكَرَيْن أو أنثيين، أو ذكراً وأنثى، فإن كان معهما أبٌ ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأمَّ ولا يرثون.
وقال قوم: يأخذون السدس الذي حَجَبوا عنه الأم، وإن لم يكن أب ورثوا.(3/34)
(فهم شرَكاء في الثّلث) :
يعني إن كان الإخوةُ للأم اثنين فأكثر فلهم الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى، لأن قوله: (شركاء) يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك.
ولما وقع النزاع بين فَقِيهَيْنِ في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة، رأى
أحدهما رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كلّ منكم مصيبٌ، فإن أقلً جمع التثنية اثنان.
وأقل جَمْع الإفراد ثلاثة.
فانظر كيف أَرضماهما ظولف بقوله.
(فاستَشْهِدوا عليهنَّ أربعةً منكم) ، إنما جعل شهداء الزنى
أربعة تغليظاَ على المدعي، وسَتْرًا على عباده، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "هَلاَّ سترتَه بردائك".
وفي حديث آخر: "من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستترْ عنا بستر
الله، ومن أبدى لنا صَفْحَة وجهه أقمنا عليه الحدَّ".
وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين.
(فأَمسكوهن في البيوت) : كانت عقوبةُ الزنى الإمساك في
البيوت، تم نُسخ ذلك بالإيذاء المذكور والتوبيخ.
وقيل إن الإمساك في البيوت للنساء، والإيذاء للرجال، فلا نَسخ بينهما.
ورجَّحه ابن عطية والزمخشري وابن الغرس بقوله في الإمساك: من نسائكم، وفي الإيذاء: منكم، ثم نسخ الإمساك والإيذاء بالرجم للمحصَن، وبالجلد لغير المحصَن.
واستقر الأمرُ على ذلك،فأما الجلد فمذكور في سورة النور، وآما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه، وبَقِي حكمه.
وقد رجم - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً الأسلمي وغيره.
(فأَعرِضوا عنهما) :
لما أمر بالإيذاء للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو تَركُ الإيذاء، وفيه ترجية للتائب.
وقد أخبرنا الله في أربع آيات من كتابه أنه يتوب على المؤمنين، قال تعالى: (لقد تاب الله على النبي) .
(ويتوبَ اللَهُ على المؤمنين) .
(والله يريد أن يتوبَ عليكم) .
(إنما التوبة على الله) .
وأخبرنا في ثلاث آيات أنه يقبل توبتهم،(3/35)
قال تعالى: (ألم يعلموا أن اللهَ هو يَقْبَل التوبةَ عن عباده) .
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) .
(وقابل التَّوْبِ) .
وذكر لنا أنه يغفر لهم في ثلاث آيات، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) .
و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) .
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) .
وأخبرنا في آيتين أنا إنْ رجَعْنا إليه قَبلنا، قال تعالى: (وأنِيبوا إلى رَبكم) .
وقال: (فَفِرُّوا إلى اللهِ) .
وقد قدمنا أن في هاتين الآيتين إشارةً إلى فلاح التائب ومحبته له.
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) .
فقدم محبةَ التائب على التطهر، وما ذلك إلآ أنَ التائبَ تقَع ندامته واستغفاره، وطلب العذْر والدعاء من مولاه، ولذلك كان المعصوم على الإطلاق يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة.
وقال الصحابي: إنْ كُنّا لنعدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد: رب اغفر لي وتُبْ عليَّ - أكثر من سبعين مرة، فكيف بك أنها الغَرِيقُ! ولا يخلصك من ذلك إلا بكثرة الاستغفار، والصلاة على النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما يَمْحَقان الذنوب مَحْقاً.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " التائب من الذنب كمن لا ذَنْبَ له ".
وإذا لأَمًلْتَ الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، تجد فيها محبةَ الله للتائب
والمستغفر، ألا ترى أن اللَهَ قدّمه في آيات من كتابه، كقوله تعالى: (التّائبُون
العابِدُون الحامدون) .
(فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقْتَصِد) .
وفي الحديث: " طُوبَى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ".
وقد قرن اللهُ صحبةَ التائبين مع الصابرين، والمجاهدين والمحسنين.
والمتوكلين والْمُتَقين والمقاتلين في سبيله، والمتّبعين لنبيه، فما أشرفَها من خصلة إن وفَّقَك الله إليها! ويا لها من نعمة يجب عليك شكرُها! وكيف لا تشكره عليها(3/36)
والشكر نعمةٌ أخرى، لكنه سبحانه يعطي الكثير، ويَرْضى باليسير.
، فاللسان ترجمان القلب.
ولو جعل الله في قلبك رؤية هذه النعم لحركته فما يدفَع عنك
النَقَم، أعجبتكَ نفسك، فرضيت أفعالها! ألم تعلم أنَّ أصْل كلِّ معصية الرضا عن النفس.
سرحت لسانك في أعراض إخوانك، وهل خلقه لك إلا لتسبِّحه، أو
تذكر نِعَمه، أو تستغفر من ذنوبك الصادرة منك! فإنّا للَه وإنّا إليه راجعون
على مصابنا وعدم اهتبالنا بما كسبته جوارِحُنا، نسأله سبحانه السلامة والعافيةَ في ديننا ودنيانا، بجاه نبينا وحبيبنا.
(فاحشة ومَقْتاً) .
قد قدمنا أن الفاحشةَ معناها الزنى، وزاد في هذه الآية (مَقْتاً) ، لأنَ تزوّجَ الرجل زوجة أبيه أشدّ من الزنى.
(فَتَيَاتكم المؤمنات) : هنَّ الإماء.
ويجوز نكاحهن إذا لم يجد طَوْلاً للمحصنات.
(فانكحوهنَّ بإذْن أهلهن) ، أي ساداتهنَّ المالكين لهن.
(فإذا أُحْصِنَّ) .
معناها إذا زنت الأمَة بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة.
(فَتِيلا) : هو الخيط الذي في شقّ نواة التمرة.
وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفّيك إذا فتلتهما، وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء، فيدل على الأكثر بطريق الأولى.
(فَردوه إلى الله والرسول) :
الردُّ إلى الله هو النظر في كتابه.
والرد إلى الرسول هو سؤائه في حياته، والنظر إلى سنَّته بعد وفاته.
(فَمِنْهمْ مَنْ آمَن به) .
معناها أنَّ مِنَ اليهود مَنْ آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بالقرآن المذكور في قوله: (مصدّقاً لما معكم) .
أو بما ذكر من حديث إبراهيم.
فهذه الضمائر في (به) .
وقيل منهم، أي من آل إبراهيم، ومنهم من كفر كقوله: (فمنهم مهْتَدٍ وكثير منهم فاسقون)(3/37)
(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) .
معناها: كيف يكون حالُهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم، ويقولون: لم نرد إلا
مُوافَقتك يا محمد، مع أنهم كاذبون في قولهم، فانظر هذه الملاطفة الواقعة مِنْ أمْرِ اللَه لرسوله في شأنهم.
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) :
لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها.
ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم.
ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا.
وقيل بسبب خصام الزبير مع الأنصاريّ في الماء الذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن كان ابن عمتك ".
وحكمها عام.
(فأولئك مع الَّذِين أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم.. .) .
أشار بها إلى أنَّ مَنْ أطاع الله ورسوله يحشر معهم.
وهي مفسرة لقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
(فانْفِروا ثُبَاتٍ) ، أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرقين، أو جماعات.
وفيها إشارةٌ إلى السرايا، وأنَ مَنْ خرج بها فهو كالمجاهد، ولا يُقال إنَّ المجاهد لا يكون إلاَّ مع الإمام، وقد صحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا أن أشقّ على أمتي ما قعدْتُ خِلاَف سَرِيّة ".
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا ويحرِّض عليها.
وقد وصف من تخلّف عنها بأنه من المسْتهزئين.
(فبما نَقْضِهم ميثاقَهم) :
(ما) زائدة للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره: بسبب نقضهم فعلنا ما فعلنا، والباء تتعلق بقوله: (حَرَّمْنَا عليهم) ، ويكون (فبِظُلمٍ) على هذا بدلاً من قوله (فبما نَقْضِهم) .
(فآمِنُوا خَيراً لكم) :
انتصب (خيراً) هنا، وفي قوله: (انتهوا خيراً لكم) - بفعل مضمر تقديره: وأْتُوا إيماناً خيراً لكم.
هذا مذهب سيبويه، وعلى هذا فنصبُه على النعت لمصدر محذوف.
وقال بعض الكوفيين: هو خبر كان المحذوفة، تقديره يكن الإيمان خيراً لكم.(3/38)
(فمن اضْطرَّ) :
راجع إلى المحرمات المذكورة قَبْلَ هذا: أباحها اللَّهُ عند الاضطرار.
(فاغْسِلوا وجوهَكم وأَيدِيَكُمْ إلى المرافق) :
ذكر الله في هذه الآية صفةَ الوضوء، وذكر فيها أربعة أعضاء: اثنان محدودان وهما اليدان والرجلان، واثنان غير محدودَيْن وهما الوجه والرأس.
فأما الحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرِّجلان إلى الكعبين وجوباً بإجماع، فإنَّ ذلك الحد هو الذي جعل الله لهما.
واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين وغسل الرجلين مع الكعبين أم
لا، وذلك مبني على معنى إلى، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله: (إلى المرافق)
و (إلى الكعبين) - أوجب غسلهما، ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غَسْلهما.
واختلف في الكعبين: هل هما اللذان عند معقد الشِّراك لذكرهما بلفظ
الجمع، كما ذكر المرافق، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد.
وأما غير المحدودين فاتّفق على وجوب إيعاب الوَجه، وحَدّه طولا مِنْ أَوَّل
منابت الشعر إلى آخر الذقن واللحية، وحدّه عَرْضاً من الأذن إلى الأذن.
وقيل من العِذار إلى العِذَار.
وأما الرأس فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه.
ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما روي في الحديث أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القَدْرِ الذي يجزئ على أقوال كثيرة.
وسِرّ الأمر في غسْل هذه الأعضاء في الوضوء أن الله أكرم هذه الأمة في
الجنة بالخواتم والخلاخل والأسورة والتِّيجان والنظر إلى الله، فأمرهم بغسل هذه الأعضاء، ليطهرهم من الذنوب الواقعة منها، فيلقوه ولا ذَنْب عليهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعرف أمتي يومِ القيامة، لأنهم غرّ محجلون من آثار الوضوء ".
فلا يحافظ عليه إلا مؤمن، لأن مفتاحَ الجنّة لا إله إلا الله، ومفتاح الصلاة(3/39)
الوضوء: قال الله تعالى: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) .
فانظر كيف سوَّاهم مع رسول الله، لقوله: (إنما يريد الله ليذْهِبَ عنكم
الرِّجْسَ أَهلَ البَيت) .
(ويتم نعمته عليك) .
فإن قلت: لم مُنِع المتيمم من مسح رأسه؟
والجواب أنَّ وَضْعَ التراب على الرأس علامة الفراق من الحبيب، والله تعالى
لا يحب فراقهم، فلم يجعل لهم ما يتفاءلون به على الفراق.
(فَاطَّهَّروا) :
هذا أَمرٌ بالغسل لمن وجب عليه، وفيه إجمال، بخلاف الوضوء، فإنما فصله لأنه من خصائص هذه الأمة، ولم يكونوا يعرفونه، بخلاف الغسل، فإنما علموه مما تقدم.
وبهذا أمر الله الأمم المتقدمة، وسِره ليذوق الإنسان وبالَ ما أصابه من اللذة في الوقاع، وأن الدنيا لا تَخْلو من كَدَرِ، وفيه معنى النظافة، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن تمرّ عليه جمعة إلا ويغتسل فيها مرةً، مع أنه يكفر السيئات، ويرفع الدرجات، وقد صحّ أنه يكفر بعدد شعر جسده من السيئات.
فإن قلت: ما معنى الحديث: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قَبلي " لَمّا غسل الأعضاء ثلاثاً، مع قولكم: إنه من خصائص هذه الأمة؟
والجواب أنه كان من خصوصية الأنبياء لا أممهم، لما قدمناه من أنَ الله أراد
بذلك تطهيرهم، ولهذا تقول الأنبياء والأمم يوم القيامة: كادت هذه الأمة أن تكون كلها أنبياء، فما أشرفها من أمة نبِيٍّ كريمٍ!
(فأغريْنا) ، أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الغراء.
(فَترَةٍ) : سكون وانقطاع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث بعد انقطاع
الرسل، لأنها كانت متواترة، كلّما جاء أمةً رسولها كذّبوه إلى وقت رَفْع عيسى، فانقطعت الرسل إكراماً لهذا النبي الكريم.(3/40)
(فَلِمَ يعَذَبُكم بِذنوبِكم) :
رد عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، فردّ الله عليهم أنه يعذبهم وينتقم منهم، والأبُ لا يعذّب ولده، والحبيب لا يرضى بعذاب حبيبه، ففيه تبكيتٌ لهم، وإشارة إلى أن من أحبَّه يرفع درجته، ولا يكون العبد محبوباً عند مولاه إلا بعد الإخلاص في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية.
وأمّا من يدَّعي المحبّة وهو عَريّ عنها فهو كاذِبٌ في دَعْواه، غَيْر واصل لما
يتمنّاه.
واعلم أن العَبْدَ مع الله على ثلاثة أوجه:
حال يكون للعبد عليه.
وحال يكون للَه على العبد.
وحال يكون على رأس العبد شاء ذلك العبد أو أَبى.
فأما الحال التي تكون للعبد على الله فهي حال الشدة والمحنة، فللعبد على اللَه الأجر والعوض، قال تعالى: (ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظَمَأ ولا نَصَب) .
وأما الحال التي تكون للَه على العبد فهي حال النعمةِ والرخاء، ولله على العبد الشكر والنعمة، قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) .
وقال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) .
وأما الحال التي تكون على رَأس العبد فهي حال القضاء والقدر، قال تعالى:
(قل لَنْ يُصيبنا إلاَّ ما كتَب الله لنا) .
وإذا علمت هذا فمرادُ الله منك في حال النعمة - الشكر، ومجازيك بالزيادة: (لَئِنْ شَكَرْتمْ لأَزِيدَنكم) .
وفي حال النقمة الصبر، ومجازيك بالثواب الجزيل (وجَزَاهمْ بما صَبَروا جَنَّةً وَحَرِيرا) .
وفي حال الطاعة - الإخلاص، ومجازيك بالقَئول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
وفي حال المعصية التوبة والرجوع إليه، ومجازيك بالمغفرة.(3/41)
فمن ادَّعى محبَّته تعالى وهو غَيْرُ ممتثل لأمْرِه فهو كذاب في دعواه، غير
مدرك ما يتمنّاه.
وهذه دعوى اليهود والنصارى وهم مخالفون في أَمره، فإياك
والتشبّه بهم، فالتشبّهُ بأهل الخير فلاح.
وإذا كان سبحانه يسأل الصادقين عن صِدقهم فكيف بمَنْ لم يعمل، وقد
قالوا: عمَل بلا إخلاص كحقيقةٍ بلا روح، فلا تكثروا العملَ بالبَهْرَج، غدير صاف أنفع من خليج كَدِر.
ما أشبه حجر الْمَهَا بالْجوهر، لكن بين الثمنين بَون بعِيد.
ربح المرائي منتن يَشِين القلوب الصافية.
(فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) :
هو من الفرقة.
وقيل من الفَصْل، أي افصل بَيْنَنا وبينهم بحكم.
(فإنّها مُحَرَّمة عليهم أربعين سنةً) :
قد قدمنا أنَّ الله حرَّم على بني إسرائيل الأرضَ المقدَّسة أربعين سنة، مدة عبادتهم العِجْل، حتى مات كلّ مَنْ قال: (إنا لنْ نَدْخلَها) ، ولم يدخلها أحَد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التِّيه أيضاً.
وقيل إِن موسى وهارون لم يكونا في التّيه، لقوله: (فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) .
وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتلَ الجبَّارين، وفتح المدينةَ.
والعامل في أربعين محرّمة - على الأصح، فيجب وَصْله معه.
وقيل العامل فيه يتيهون، فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: (مُحرَّمة عليهم) .
وهذا ضعيف، لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا، مع أنَّ القولَ الأول أكمل معنى، لأنه بيانٌ لمدة التحريم والتّيه معاً.
(فلا تأْسَ على الْقَوْمِ الفاسِقين) .
أي لا تَحْزَنْ على مَنْ فسق منهم يا محمد، لإنكارهم هذه القصص في كتابك، مع علمهم بها في كتبهم.
وقيل الخطاب لموسى.
(فكأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعاً) :
تمتيل قاتِلِ الواحدِ بقاتل الجمع يتصوَّر من ثلاث جهات:
إحداها: القِصاص في قَتْل الواحد والجمع سواء.(3/42)
والثاني: انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان.
والثالث: الإثْم والعذاب الأخْرَوِي.
قال مجاهد: إنَّ الله وعد قاتل النفس بجهنّم والخلود فيها، والغضب واللعنة.
والعذاب العظيم.
فإن قَتَل جميع الناس لم يزِدْ على ذلك.
وهذا الوجه هو الأظهر، لأنَّ القصد بالآية تعظيم قَتْلِ النفس، والتشديد فيه، ليَزْدَجِر الناس عنه.
وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع، لتعظيم الأمْرِ والترغيب فيه.
وإحْياؤها هنا إنقاذها من الموت، كإنقاذ الغريق وشبهه.
وقيل بترك قَتْلها.
وقيل بالعفو إذا وجب القصاص.
(فمَنْ تاب منْ بَعْد طلْمه) :
توبة السارق هي أن يندم على ما مضى، ويُقْلِعَ فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى مَنْ يستحقّه.
واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القَطْع، وهو
مذهب الشافعي لظاهرِ الآية، أو لا يسقط عنه، وهو مذهب مالك، لأن
الحدودَ عنده لا تسقط بالتوبة، إلا المحارب، للنصّ عليه.
(فَتَرى الذِين في قلوبهم مَرَضٌ) :
هم المنافقون، كعبد اللَه ابن أبي بن سَلول وأصحابه.
(فعسى اللَهُ أن يأتِيَ بالفتح أوْ أَمْرٍ مِنْ عنده) :
لا يكون فيه تسبّب لمخلوق.
وقيل أَمْرٌ من الله لرسوله بقَتْل اليهود.
والفَتْح: هو ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين.
(فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) :
مِنْ قَصْدِهم الاستعانة باليهود على المسلمين، وإضمار العداَوة للمسلمين.
(فسوف يَأتي اللَّهُ بقَوْم يحِبّهم ويحبّونه) : قرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه
الآية، وقال لهم: قوم هذا، يعني أبا موسى الأشعري.
والإشارة بذلك - والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن.
وقيل المراد أبو بكر الصدِّيق وأصحابه الذين قاتلوا أَهْلَ الردَّة.
ويقَوِّي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه(3/43)
من الجد في قتالهم، والعَزْم عليه، حتى خالف في ذلك
عزم الناس، فاشتد عزمه، ووافقوه، وأجمعوا معه حتى نَصرهم الله على أهل
الردة.
ويقوّي ذلك أيضاً أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي في
أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) ، وكان أبو بكر ضعيفاً في نفسه قوياً في الله.
وكذلك قوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) .
إشارة إلى مَنْ خالف أبا بكر ولامة في قتال أهْلِ الردة، ولم يرجع عن عَزْمه.
فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟
والجواب أنه محذوف، تقديره: مَن يَرتَدِدْ مِنكمْ عن دِينه فسوف يأتي الله
بقومَ.
(فَعَمُوا وَصَمُّوا) :
عبارة عن تماديهم على المخالفة والعِصيان.
(فاجتَنِبوه) : نصّ في التحريم.
والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة.
(فيقُول ماذَا أجبتم) .
أي يقول الله للرسل يوم القيامة: ماذا أجابكم الأمم من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية.
والمقصود بهذا السؤال توبيخ مَن كفَر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم.
وانتصب ماذا بأجبتم بانتصاب مصدره.
ولو أراد الجواب لقال: ماذا أجَبْتم.
فإن قلت: يفهم من قوله تعالى: فيقول للمرسلين (ماذا أجبتم) أنه يخاطبهم
هناك، وكذا الخطاب منه سبحانه حيث وقع، كقوله لعيسى: (أأنْتَ قُلْت
للناس) ، وقد قلتم إنَّ كلامه تعالى قديم ملازم لِلذاتِ القديمة، وقول الرسل: (لا عِلْمَ لنَا) ما معناه، لأنهم علموا بمجاوبة قولهم وإنكارهم؟
والجواب أن الله يسمعهم خطابه حينئذ، لا أنه يحْدِثه، لأنه قديم قائم(3/44)
بذات، وهكذا نداؤه سبحانه للرسل والأمم يومئذ، كقوله: (ويَوْمَ ينادِيهم
فيقولُ ماذا أَجَبْتُم الْمُرْسَلين) .
والرّسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يذهلوا عن جوابِ قومهم لهم في الدنيا، لأنهم آمِنون يومئذ، وإنما تأدَّبوا مع الله سبحانه لردّ العلم إليه سبحانه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا.
وقيل معناه عِلْمنا ساقط في جَنْب علمك.
ويقوّي هذا قولهمِ: (إنَّكَ أنْتَ عَلاَّم الغُيوب) ، لأن من علم الخفيَّات لم تَخْف عليه الظواهر.
وسؤال الله لهم مع علمه توبيخٌ واحتجاجٌ على المخالفين.
وانظر الصحابة رضي الله عنهم كيف تأدبوا بهذا الْخُلق العظيم في آخر حجَّةِ
الوداع لما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّ يوم هذا، أي شهر هذا، أي مكان هذا، فأجابوا بقولهم: الله ورسوله أعلم، مع أنهم علموا الشهر واليوم والمكان، لكنهم تأدّبوا معه - صلى الله عليه وسلم -، وتوهموا لعله أن يريد غير هذا.
(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) .
هذه عادةُ الله سبحانه في عقاب مَنْ طلب مِنَ الرسول آيةً
فكفرها، وأصحابُ المائدة سألوها من عيسى، فقال الله: (إني مُنَزلها عليكم) ، فكفروا، فمسخهم الله قردةً وخنازير.
قال عبد اللَه بن عمر: أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة مَن كفَر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، والمنافقون.
(فانظروا) :
أمَر الله رسولَه أن يأمر قريشاً بالسير في الأرض للاعتبار بمنازل الكفار الذين كانوا قبلهم.
فإن قلت: ما الفرق بين قوله: (فانظروا) ، و (ثم انظرُوا) ؟
والجواب أنه جعل النظر مسبَّبا عن السير في قوله: (فانظروا) ، فكأنه قال:
سيروا لأجل النظر.
وأما قوله: (قُلْ سيروا في الأرض ثم انْظروا) ، فمعناه إباحةُ السير للتجارة وغيرها من النافع، وإيجاب النظر في الهالكين.
(فإنّهم لا يكذِّبونك) .
بتشديد الذال بمعنى لا يكذبونك(3/45)
معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون الحق جمع علمهم به.
ومن قرأه بالتخفيف قيل معناه لا يجدونك كاذباً.
يقال: أكذبْت فلاناً إذا وجدته كاذباً، كما يقال
أحْمدته إذا وجدته محموداً.
وقيل هي بمعنى التشديد، يقال أكْذَب فلانٌ فلاناً، وكذّبه بمعنى واحد.
وهو الأظهر، لقوله بعد هذا: (يجحدون) .
ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل، فإنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذِّبك، ولكن نكذب ما جئْتَ به، وإنه قال للأخنس بن شَرِيق: والله إن محمداً لصادق، ولكني أحسده على الشرف.
(فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، أي من الذين يجهلون أنَّ اللَه لو شاء لجمعهم على الهدى.
وقد قدمنا أن قول الله: (فَلَا تَكُونَنَّ) - بالتأكيد - لرسوله لإفراط محبته فيه، لأن العادة أن يكون الاجتهاد على قدر المحبة، بخلاف قوله لنوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، لأنه صَفِيّ، ولا يبلغ قَدْر المحب.
(فَرَّطْنَا) ، أي ضَيَّعنا وأغفلنا.
والمراد بالكتاب في الآية اللَّوْح المحفوظ.
والكلام على هذا عامّ.
وقيل القرآن، ومعناه أن الله لم يفرط فيه من شيء، فيه هداية الْخَلق، والبيان لهم.
وقد قدمنا أنَّ جميعَ العلوم الدنيوية والدينية مستنبطةٌ منه.
(فلولا إذْ جَاءَهم بأسُنَا تَضَرَّعوا) :
في هذه الآية عرض وتحضيض على التضرع، ومدح لهم في رجوعهم إلى الله، ودليل على أن من أخذه اللَه بذنوبه فلم يرجع إليه يقسو قلبه، كما ذكر في هؤلاء الكذابين.
(فلما نَسوا ما ذكَروا به) :
أي من الشدائد، ولم يتعظوا بها، فتح عليهم أبواب الرزق والنعم، ليشكروا عليها فلم يشكروا، فأخذهم الله.
(فتَطْردهُمْ) :
هذا جواب النفي في قوله: (ما عليك) .
(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) :
استفهم عن المؤمنين والكافرين لعلهم يجيبون، فأجاب عن السؤال بقوله: (الذين آمَنوا ... ) .(3/46)
وقيل إن (الذين آمنوا) استئناف، وليس من كلام إبراهيم.
(فإنْ يكْفرْ بها هؤلاء) : أي أهل مكة.
(فقد وَكَّلْنَا بها قوماً لَيْسوا بها بِكافرين) : هم الأنبياء المذكورون.
وقيل الصحابة، وقيل كلّ مؤمن.
والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك.
ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها، والقيام بحقوقها.
(فبِهدَاهمْ اقْتَدِه) :
استدل به مَنْ قال إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنا شرع لنا.
وقد قدمنا أن الاختلاف إنما وقع في الفروع.
والخلاف: هل يقتدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء في (اقْتَدِه) للوقف، فينبغي الوقف عليها، وتسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعَى ثبونها في خط المصحف.
(فأخْرَجْنَا به) : أي بالماء.
ومنه: أي من النبات.
وذكر الله الإخراج في كتابه في خمس آيات: إخراج القدرة، وهو الصبيان.
(والله أخرجكم من بُطون أمَّهَاتِكُم) .
وإخراج النعمة كهذه، وكقوله: (فأخرج به من الَثمرات رِزْقاً لكم) .
(فأخرجنا به أزواجاً من نَبَاتٍ شتّى) ، كالحبّ والعِنَب.
وإخراج العقوبة: (فأخرجَهُمَا ممَّا كانَا فيه) .
وإخراج الهيبة: (يخرجون من الأجداث سِرَاعاً) .
وإخراج الكرامات: (يُخْرِجهم من الظَّلماتِ إلى النور) .
أي من الكفر إلى الإيمان، ومن النكرة إلى المعرفة.
فإن قلت: لم جمع الظلمات، وأفرد النور، وجمع السماوات وأفرد الأرض
حيث وقع في كلامه سبحانه؟
والجواب لما شَعَّب سبحانه الكفْرَ على شعب كثيرة جمعه بهذا الاعتبار.
والنُّور واحد أفرده وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وكما نشاهد السماوات بعلامة الكواكب، والمنّة للهِ علينا فيها، لأن فيها منفعتنا ذكرهنَّ بلفظ الجمع، بخلاف الأرض، لأنّا لا نشاهد غير الأرض التي نحن(3/47)
عليها، ولا منفعة لنا في غيرها، ولو كانت لنا فيها منفعة فالسموات أعظم
لخدمتهن، والاستدلال بكواكبهن، وخدمة أهلهن لنا كما قدمنا.
(فاعْبدوه) :
مسبَّب عن مضمون الجملة، أي من كان هكذا فهو المستحقُّ للعبادة وحده.
(فكلُوا مما ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليه) :
أباحت هذه الآية أكْلَ ما ذُكر اسمُ الله عليه، والنهي عما ذبح للنّصُب وغيرها، وعن الْمَيْتَة.
وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر، ثم صرح به في قوله: (ولا تَأكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرِ اسْم الله عليه) .
وقد استدل بذلك مَنْ أوجب التسميةَ على الذبيحة، وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الْمَيْتَة وغيرها، فإنْ حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على ذلك.
وقال عطاء: هذه الآية أمْرٌ بذكر الله على الذبح والأَكل والشرب.
(فما كانَ لِشُرَكَائهم فلا يَصِلُ إلى الله) :
كانوا إذا هبّت الريح فحملت شيئاً من الذي لله إلى الذي للأصنام أقَرُّوه، وإذا حملت شيئاً من الذي للأصنام إلى الذي لله ردُّوه، وإذا أصابتهم سنَةٌ أكلوا الذي لله وتحامَوْا نصيب شُرَكائِهم، وهذا من جَهْلهم.
ولهذا رد الله عليهم بقوله: (ساء ما يَحْكمُونَ) .
(فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البالغَةُ) :
لما أبطل حجّتهم أثبت حجة الله، ليظهر الحق، ويبطل الباطل.
(فإنْ شَهدُوا فلا تَشْهَد مَعَهُم) ، لأنهم يكذبون في شهادتهم، ونسبتهم لله ما لا يليق به، فكيف تشهد يا محمد وأنتَ على الحق.
(فَالق الحبّ والنوَى) :
أي يفرق الحبّ تحت الأرض، والحنطة لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها.
وقيل أراد الشق الذي في النواة والحنطة.
والأول أرجح لعمومه في أصناف الحبوب.
(فالق الإصْبَاح) :
أي الصبح، فهو مصدر سُمِّي به الصبح.(3/48)
ومعنى فَلقه إخراجه من الظلمة.
وقيل: إن الظلمة التي تنفلق عن الصبح، فالتقدير فالق ظلْمةِ الإصباح.
(فتَفَرَّقَ بكمْ عن سبِيله) :
أي تفرقكم عن سبيل الله.
والفعل مستقبل، حذفت منه المضارعة، ولذلك شدَّده.
(فرَّقوا دِينَهم وكانُوا شِيَعاً) :
جمع مَنْ فرق دينه من اليهود والنصارى وأهل البِدَع.
وقرئ: (فارَقوا) ، أي تركوا.
وفي الحديث:
" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصَارى على اثنَتَين وسبعين.
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة.
قيل: ما هي يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي ".
ولولا الإطالة لذكرت فرق هذه الأمة ومذاهبها.
وقد تكفّل بذكرها أئمتنا للاحتراز منهم، جزاهم الله عن هذه الأمة خيراً.
(فجاءَهَا بأْسنَا بيَاتاً) :
لا يصح عطْف هذه الآية بالفاء، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك.
ويحتمل أن يكون استئنافاً على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلّف.
والمراد أهلكنا أهلها، فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل: (أوْ هم قَائلون) ، من القائلة بالنهار.
وقد أصاب العذابُ بعضَ الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار.
و (أو) هنا للتنويع.
(فما كان دَعْوَاهمْ) :
أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا الاعتراف بأنهم ظالمون.
وقيل: المعنى أن دَعْوَاهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب بأنهم كانوا ظالمين في ذلك.
(فَلَنَقصَّنَ عليهم بِعِلْمٍ) :
أي على الرسل والأمم.
(فَبِمَا أغْوَيْتَنِي) :
الفاء للتعليل، وهو متعلِّق بفعل قسم محذوف، تقديره أقسم بالله بسبب إغوائك، لأغوينَ بني آدم، وما مصدرية.
وقيل استفهامية، ويبطله ثبوت (فَبِما) مع حرف الحر.
وفي الحديث أنه قال:(3/49)
" لا أزال أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ".
فقال الله:، " وعِزَّتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني، وأنا الغفور الرحيم ".
(فَعَفوا فاحِشة) :
هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عرايا: الرجال، والنساء.
ويحتمل عموم الفواحش.
(فمن أظلَم ممَّن افترى على الله كذباً) :
هذه الآية بالفاء، وفي الثانية من الأنعام، وفي يونس، لما فيها من المناسبة اللفظية، لأنه افتتح آية الأنعام بقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ، ثم قال: (ومَنْ أظْلَم) .
وختم الآية بقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) .
ليكون آخر الآية لفظ أول الآية، وتتبع هذه الآية يطول ذكرها، فقِسْ ما ذكرته على ما لم نذكره.
(فَمَا كانَ لكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل) :
هذا من قول أولاهم - وهم الرؤساء والقادة، لأُخْراهُمْ - وهم الأتباع والسفلَةُ: لم يكن لكم علينا من فَضْل في الإيمان والتقوى يُوجب أن يكون عذابنا أشدَّ من عذابكم، بل نحن وأنتم متساوون.
(فذوقوا العذابَ بما كنتم تَكسِبون) :
هذا يحتمل أن يكون من قولهم أيضاً، أو من قول الله لهم.
(فصَبْرٌ جَمِيلٌ) :
هذا وعْدٌ من يعقوب بالصبر، وارتفاعُه على أنه مبتدأ تقديره صَبْر جميل أمْثَل، أو خبر مبتدأ تقديره شأني صبر جميل.
روي أن يعقوب عليه السلام لما طال بكاؤه، واشتد حزنه، نهاه الله عن ذكر
يوسف، ثم أمر جبريل عليه السلام أن يتصور بصورة يوسف، فلما بصر به
يعقوب تأوّه، فأوحى الله إليه: قد علمتُ ما تحت أنينك، لو كان ميتاً لنشرته لحسن وفائك.
فقال: يا جبريل، ما أعلمني بحياته، فأحبّ أن أشمَّ ريحه.
فقال له: الآن بعد ما شكوته ودعوته بلسان الضرورة سأوصل إليك يوسف (1) .
وكذلك أنت يا مؤمن وعدَكَ ربُّك بالإجابة عند الاضطرار، وبغُفران
__________
(1) هذا أشبه بالإسرائيليات.(3/50)
الذنوب عند الاستغفار، فقال: (استغفروا رَبَّكم إنه كان غَفَّاراً) .
(فَتَاها) ، أي عَبْدها.
ويقال بمعنى الشاب، والعرب تسمي المملوك شاباً كان أو شيخاً فَتًى.
فتأمل هذه الإضافة.
وفي قوله: (وراوَدَتْه التي هُوَ في بَيْتِها) : يوضّح لك أنكَ
في بيته وتحت يده، فإذا اجتنبت الكبائر وما أشبهها يعفو عنك الصغيرة، لأنك في بيته، قال تعالى: (إنْ تجتنبوا كبائِرَ ما تنْهَوْن عنه) .
كما عفا عن يوسف للنظر إليها والمخاطبة لاجتنابه الدنوَ إليها، لأنه كان في بيتها.
(فقدسرق أَخ لَه من قَبْل) :
هذا من كلام إِخْوَة يوسف، ومرادهم أنَّ هذا الأمر صدرَ مِنْ ابنٍ لأمّ لا مِنّا، وقصدوا بذلك رفع المَعَرَّة عن أنفسهم ورَمَوْا بها يوسف وشقيقه.
واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال:
الأول: أن عمّته ربَّتْه فأراد والده أن يأخذه منها، وكانت تحبّه ولا تصبر
عنه، فجعلت عليه منْطقةً لها، ثم قالت: إنه أخذها منها، فاستعبدته بذلك.
وبقي عندها إلى أن ماتت.
والثاني: أنه أخذ صنما لجدّه والدِ أمه فكسره.
والثالث: أنه كان يأخذ الطعام من دَارِ أبيه ويعطيه للمساكين (1) .
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) :
الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) .
(فتحسَّسُوا مِن يوسفَ وأخيه) ، أي تعرّفوا خبرهما.
والتحسس طلب الشيء بالحواس الأربعة: السَّمْع، والبَصَر، والشَّم، والذَّوْق.
وإنما لم يذكر الولد الثالث، لأنه بقي هناك اختياراً منه، لأن يوسف وأخاه كانا أحبَّ إليه لصغرهما.
__________
(1) لا دليل على واحد من الأوجه الثلاثة، والظاهر أنه افتراء من إخوة يوسف - عليه السلام - والله أعلم.(3/51)
فإن قلت: أليست الحواسّ خمسة؟
قلت: الذي مشى عليه الفخر في تفسير قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم
ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) أن الحواسّ أربعة، فجعل الذوق واللمس واحداً، أَلا ترى أن الشم لا تكليف فيه ألبتَّة، ولا يتعلق به أمر ولا نهي، ولما كان الاسم الشريف من أربعة أحرف دلَّ على أن الحواس أربعة.
فالألف للسمع، والحاء للبصر، والميم للشم، والدال للذوق.
ووقع للفخر في سورة الحمد مناسبة اسمه - صلى الله عليه وسلم - أحمد ومحمد من الحمد، لأنه أول ما خلق الله العقل، فكان أول ما نطق به الحمْد، وآخر ما نطق به الحمد، وكان آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فناسب الاسم أن يكون من نوع المبدأ، فاشتق له من الحمد اسمان: محمد وأحمد، فأهل السماء هو أحمدهم، وأهل الأرض هو مَحْمودهم.
(فلما دخلوا على يوسفَ) :
هنا محذوفات يدلّ عليها الكلام، وهي: فلما رحل يعقوب بأهله حين بلغه خبر يوسف - آوى إليه أبويه، أي ضَمَّهما وتعانقا، ورأى يعقوب أناساً كثيراً، فقال: يا يوسف، مَنْ هؤلاء، قال: يا أَبت، إن هؤلاء كلهم عَبيدي، وقد أعتقتهم كلَّهم لرؤيتك.
فكذلك أنتم يا أمةَ محمد، يقول الله عز وجل: يا محمد، يوسف أعتق عبيده
برؤية أبيه، وإني أعتق برؤيتك جميعَ عصاة أُمتك.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ) :
هذه على القراءة بالعطف بالفاء المقتَضِية للتسبيب والتعقيب، ولا يصح العطف بالفاء، لأنَّ السبب على ثلاثة أنواع: ظاهر، وخفي، ومتوسط.
وإنما يحتاج إلى الفاء في التوسط والخفي، وأما هنا فظاهر كونه سبباً فما بعده، فلا يحتاج في عطفه إلى ما يبيّن كونه سبباً.
والآية عند بعض العلماء من باب القَلْب.
والأصل فيها: وأولئك في أعناقهم الأغلال، لأن الأغلال محيطة بأعناقهم كإحاطة الظرف بالمظروف، وأعناقهم هي المظروف.(3/52)
وقد قالوا: إن القلب لا يجوز إلا في الضرائر أو فيما قلّ من الكلام.
وقد جعلوا منه: (ما إنَّ مَفاتِحَه لتَنوء بالعصْبَة أولي القوة) .
وفي الآية دليل على أنَّ منكِرَ البعث كافر، واشتملت على اللفظ العام
والإبهام، ثم التفسير، لأن قوله: (وأولئك الأغلال في أعناقهم) - تفسير للعذاب النازل بهم.
وهذا من باب ذكر المسبب عقب السبب، لأنَّ الكفر سبب في غلّ
الأعناق.
فإن قلت: هل هذا على التوزيع، أو كلّ واحد في عنقه أغلال؟
فالجواب أن آية الحاقّة، تدل على التوزيع لكلّ واحد غلّ واحد، أو
تكون الأغلال في رؤوسهم، وهو يقوم مقامَ سلاسل متعددة في عنق كلّ واحد من سائرهم، حتى لا يظهر منه شيء.
وقيل: إن هذا مجاز فيكونون في الدنيا ممنوعين من الإيمان، كقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) .
والإشارة بأولئك وتكرارها للذين قالوا: (أإذا كنَّا ترابا) .
(فَاخْرج مِنها) :
الضمير يعود على الجنة، وإن لم يَجْرِ لها ذكر، أو من السماء، كما قال في آية الأعراف: (فاهْبِطْ منها) .
ويحتمل أن يعود الضمير على جملة الملائكة، وعلى هذا فيكون إبليس من
الملائكة، وهو الظاهر من القرآن، ومِنْ كثير من الأحاديث، وانتقده ابن عطية بأن الملائكة معصومون، قاله الأصوليون.
وحكى الطبري عن ابن عباس أن الله خلق ملائكةً فأمرهم بالسجود لآدم، فأبوا فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم.
ورُدَّ بثبوت العصمة للملائكة.
(فبما أغويتني) :
قد قدمنا مراراً أنَّ الإغواء هو الحَملُ على الوقوع في المعاصي، فلا يقدر على إغواء المخلصين(3/53)
بوَجْه، لكن يزيِّن لهم فقط، لأن التزيين هو تحسين القبائح، فالإغواءُ يستلزم
الفعل، والتزيين لا يستلزمه.
فإن قلت: ما الفرق بين قسمه في الأعراف بالإغواء.
وفي (ص) : قال: (فبعزَّتِكَ لأغْوِيَنّهم) ؟
فالجواب أنه أقسم بالأول في الفعل، وفي الثاني بالصفة.
قال بعضهم: فعادَتهم يقولون: هذا مناقِضٌ لأصل الزمخشري، لأنه ينفي الصفات جملة، يقول: إن اللَه سميع لا يسمع، بصير لا يبصر، عليم لا يعلم، مريد لا بإرادة، قادر لا بقدرة، بل سميع لذاته، بصير لذاته، عالم لذاته.
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) :
هذا تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمَّن الأول.
وقال غيره: لو وقف على كلهم لصلحت
للاستثناء وصلحت على معنى المبالغة، مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كلّ الناس يعرف هذا، وهذا يزيد لأن المذكور أَمر مشتهر، فلما قال (أجمعون) رفع الاحتمال بأن بعضهم لم يسجد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد.
وقال المبرد: لو وقف على (كلُّهم) لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن
كثيرة، فلما قال (أجمعون) دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.
قال ابن عطية: واعترض على قول المبرد بأنه جعل قوله (أجمعون) حالاً بمعنى
مجتمعين، ويلزمه على هذا أن يكون أَجمعين، هذا على أَن يقرب من التنكير، إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تَأبى قوله.
فإن قلت: ما فائدة إتيانه في الحِجر وفي (ص) بهذا اللفظ دون غيرهما؟
فالجواب أنه لما بالغ في السورتين في الأمر بالسّجُود - وهو قوله: (فقَعُوا له
ساجدين) في السورتين بالغ في الامتثال فيهما فقيل: (فسجد الملائكة كلهم
أجمعون) ، لتقع التوفقة بين أولاها وأخراهَا.(3/54)
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) :
هذا من قول إبراهيم عليه السلام على وَجْه التعجب مِنْ ولادته في كبره، أو على وَجْه الاستبعاد لذلك، حسبما قدمناه.
وقرئ بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية، وبالكسر والتخفيف على حذف أحد النونين، وبالفتح - وهو نون الجمع.
(فاسْألُوا أهْلَ الذّكْرِ) :
يعني أحبارَ اليهود والنصارى، لأن جميعهم يشهدون أن الرسل من البشر.
ويؤخذ من هذه الآية وجوبُ سؤال الجاهل عما يحتاج إليه في أمْرِ دينه، ولا
يُعذَر بجهله.
وفيها دليل على أن خَبر التواتر يفيد العلم، لأن المعنى: فاسألُوا أهلَ
الذِّكرِ لتعلموا إن كنتم لا تعلمون، فهو سؤال عمّا لم يعلم ليعْلم.
فإن كان المسؤولون بَالِغينَ عددَ التواتر فهو خَبَر تواتر، وإلا فهو خبر واحد محصل للعلم في الوجهين.
(فالذين لا يُؤْمِنُون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرة) :
الفاء للتسبيب، وليس هو من باب ذكر اللازم، وإنما هو من باب ذكر الشيء عقيب نقيضه، لأن لازم كونه إلهاً واحدًا التصديق لا الإنكار والكفر.
(فخَرَّ عليهم السقْفُ مِنْ فَوْقِهم) :
هذا كقوله لهم: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) .
وهل السقف إلا فوقهم.
وقد قدمنا سِرَّ التعببر من فوقهم فيما نقلناه عن ابن عطية.
(فادْخُلُوا أبوابَ جهنَّم) : حال مقدرة.
وجهنّم الطبقة الأولى من النار.
فإن قلت: كيف قال هنا: (ادخلوا أبْوَابَ جهنم) ، مع أنها مأوى العصَاة من
هذه الأمة؟
والجواب أنَّ دخولهم فيها ليس على جهة الاستقرار، وإنما هو على جهة
الدخول لما تحتها، لأن النصارى قيل في الثانية، واليهود في الثالثة.(3/55)
ورُدَّ هذا بأنَّ الرسل مهما كثرت كانت عقوبة مكذبيها أشدّ، وقوم موسى
كفروا بموسى فقط، والنصارى كفَروا بعيسى وهو بعد موسى فعذابه أشد.
لأنه سبقه من الأنبياء كثيرون دَعَوْا إلى مثل ما دعا هو قومه.
(فتَمتَّعوا) : أي في الدنيا.
وهذا على وجه التهديد لمن عقل.
(فهو وَلِيّهم اليوم) :
فسره الزمخشري بوجوه:
منها أنَّ الضمير راجعٌ لكفار قريش، وأنه زَيّن لآبائهم أعمالهم فهو وليّ هؤلاء، لأنهم منهم، فعلى هذا يكون الألف واللام في اليوم لتعريف الحضور، وعلى الوجوه الأخر التي ذَكَر هو وغيره تكون إما لتعريف الماهية، أو لتعريف العهد.
(فأحْيَا بهِ الأرْضَ) :
الفاء للتعقيب، وخصوصا في مكة، لحرارة أرْضها كما قدمنا أنها تصبح أرضها خضراء بصب المطر أول الليل.
(فَرْثٍ ودَمٍ) :
قد قدمنا فيما نقلناه عن الزمخشري أنَّ الفرث ما في الكرش من القذر، وهذا من عجيب القُدرة أن اللبن متوسط بين الفَرْث والدم، ولا يغيِّران له لوناً ولا طعماً ولا رائحة.
قال أبو حيان: (من بين فَرْث ودم) حال من ضمير (نسقيكم) ، أي خارجا من بين فَرْث ودم.
وقيل متعلق بـ (نسقيكم) المقدر، إذ لا يتعلق مجروران بفعل واحد.
ويجوز هنا لاختلاف معناهما، لأن من الأولى للتبعيض، والثانية لابتداء الغاية.
(فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) :
في هذه الآية دلالة على الوحدانية، كأنًّ الله يقول: أنتم لا تسوُّون بين أنفسكم وبين عبيدكم، ولا تجعلونهم شركاء لكم، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي؟
والآخر أنها عتاب وذمّ لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما جاء في الحديث: " أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون ".
وفيها دليل على صحة(3/56)
إطلاق لفظ البعض على النصف وعلى أكثر منه، لأن الفاضل أكثر رزقا من
المفضول.
وحكي الخلاف في البعض: هل يطلق على النصف أم لا؟
فإن قلت: التفاوتُ إنما هو في الرزق التكميلي الزائد على ما يُقيم الرّمَق
ويستر البدن.
وأما الحاجِيّ فهم فيه مع المماليك مستوون، فهلا قيل: فما الذين
فُضّلوا برادّي فَضْل رِزْقهم، كما قال: (والله فَضّل بعضَكم على بعض في
الرزق) ؟
والجواب: لو قيل: فما الذين فضلوا برادّي فَضْل رزقهم لكان فيه غثاثةٌ
لتكرار لفظ الفضل ثلاث مرات، وهذا يقال له في علم البيان الاستخدام، وهو أَن يعبَّر باللفظ عن غيره خوْفَ السآمة والملَل.
وأيضا فضل الرزق أخصّ من الرزق، فاستعمل الأخص في الثبوت، والأعم في النفي، لأن نفي الأعمّ يستلزم نَفْي الأخص.
فإن قلت: لفظ الردّ يقتضي سابقية: الملك والحوز، والمماليك لم يكن لهم ذلك بوجْه، فهلا قيل: فما الذين فضِّلوا بمعْطين رزقهم لما ملكت أيمانهم، وهذا نحو ما أوردوا في قوله تعالى، (أو لتعودُنَّ في مِلَّتِنا) ؟
والجواب: أنه إشارةٌ إلى تأكيد النفي، وأن هذا امتنعوا من إعطائه للمماليك
يمكن إن كان يكون للمماليك بدلا عنهم، فكانوا قابلين لأن يملكوه، لأن الذي أعطاه لسادتهم كان قادراً على إعطائه لهم دون ساداتهم بناء على أنَّ من ملك أن يملك يعدّ مالكاً، وإن فسرنا الرزق بما منعه السادات مماليكَهم في قوله: (فما الذين فُضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) فتكون النعمة في قوله: (أَفَبِنعْمَة الله) - الرزق.
وإن جعلناه تمثيلاً، أي كما أنِفوا أن يشاركَهم أحَدٌ في رزقهم كذلك ينبغي ألاَّ يجعلوا مع الله شريكاً، فيكون المعنى أفبالدَّلائل الدالة على وحدانية الله يجحدون.
وانظر إذا ردّوا كلَّ رزقهم عليهم لا يكونون فيه سواء، وإنما يستوون معهم
بردّهم عليهم نصفَ فَضْل رزقهم، فإما أن يكونَ على حذف مضاف، أو يكون(3/57)
الرزق مضافاً إلى ضمير ما ملكت أيمانهم، ويكون الذين فَضَّلُوا به مملوكهم هو رزق مملوكهم الذي يساوِيهم به في نفس الأمر.
(فلا تَضْرِبوا للهِ الأمْثَال) :
الضمير يعود على مَنْ عبد غير اللَه وأشركوهم في العبادة، مع أنهم لا يملكون شيئاً، فنبههم سبحانه بهذه الأمثال والمواعظ ليتنبّهوا ويرجعوا، لكن من المصيبة خطاب غير العاقل، والعاقل تكفيه الإشارة، ولا يستغرب هذا في حقهم، لأنَّا مثلهم في عدم الفهم والإدراك.
(فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) :
إما أن المراد به الكفار باعتبار من سيؤْمِنُ منهم وهم أقلّهم، فأقلهم يعلمون، وإما أن يراد به الأصنام، وعبَّر بالأكثر عن الكل، وهو بعيد.
ويحتمل أن يكون الحمد للَه من كلام الله تعالى، أثنى على نفسه بنفسه، أو
أمْرًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصا به، أو عامًّا له ولأمته: قولوا الحمد للَه على ما أنعم علينا، بأنْ هدانا ووفّقنا.
وفي قوله: (يَسْتَوُون) دليل لمن يقول: إنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما قدمنا.
ونَفْيُ المساواة يقع في القرآن على وجهين: تارة مطلقاً كهذه الآية، وكقوله: (هل يَسْتَوي الذين يَعْلَمون والذين لا يَعْلمون) ، وتارة مع تعيّن الأرجح، كقوله: (لا يستوي أصحاب النارِ وأصحاب الجنةِ أصحابُ الجنة هم
الفائِزون) .
وكقوله: (لا يَسْتَوِي منكم مَن أنْفَق مِن قَبلِ الفَتْح) .
وإنما لم يعين هنا الأفضل لظهوره قبل، وكذلك كل أحد يعلم أنَّ أصحاب الجنة هم الفائزون.
وذلك أنَّ أصحاب النار يدخل فيهم العُصاة من المؤمنين والكفار، فهل قصد تفضيل أصحاب الجنة بالإطلاق على أصحاب النار بالإطلاق، أو على الكفار، فلما أعيد ذكر الأفضل علم أن المراد بأصحاب النار أصحابها حقيقة، وهو من حُكمَ عليه بالخلود فيها.
فإن قلت: الآية خرجت مخرج المدح لفاعل ذلك، فَهَلاَّ ذكر فيها صدقةَ
السرّ فقط، لأنها أفضل؟(3/58)
والجواب: أنه قصد التنويه على كثرة إنفاقه ومبادرته إلى أفعال البِرّ كيفما
أمكنه، وبدأ بالسر، لأنه أفضل.
(فكفَرَتْ بأنْعُمِ الله) :
الضمير للقرية المذكورة في المثل.
واختلف فيها، فقيل مكة، لأنها كفرت بنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأصابهم الجَدْب والخوف من غَزْو النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم.
وقيل: إنما قصد قريةً غير معينة أصابها ذلك، فضرب الله بها مثلاً، وهذا أظهر، لأن المراد وعظ أهلِ مكة بما جرى لغيرهم، والضمير في قوله: (فأذاقَها الله لِبَاسَ الجوع والخَوْف) لأهل القرية: فاعل قوله: بما كانوا يصنعون.
والإذاقة واللباس هنا مستعاران، أمّا الإذاقة فقد كثرَ استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة.
وأما اللباس فاستعير للجوع والخوْف لاشتمالهما على اللّابس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب.
(فحقً عليها القَوْلُ) ، أي القضاء الذي قضاه الله.
والضمير يعود على القرية التي أمر مُتْرَفيها ففسقوا فيها، أي قضينا عليه بالفِسق.
وعلى قراءة مدّ الهمزة من (آمرنا) فهو بمعنى كثّرنا.
وقراءة أمَّرنا - بتشديد الميم فهو من الإمارة، أي جعلهم أمراء ففسقوا.
(فَضَلْنَا بعْضَهم على بَعْضٍ) :
أي في رزق الدنيا، ليتخذ بعضهم بعضاً سخْرياً.
(فَاسأَلْ بني إسرائيل إذْ جاءَهم) :
هذه الآية خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعناها سلَ الْمعاصرين لكَ من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى، لتزدادَ بذلك يقينا.
وقال الزمخشري: المعنى قلنا لموسى: سَلْ بني إسرائيل من فرعون، أي اطْلُب منه أنْ يرسلهم معك، فهو كقوله: (أرسل معي بني إسرائيل) .
أو سلهم أن يعضدوك ويكونوا معك.
وهذا أيضاً على أن يكون الخطاب لموسى.
والأول أظهر.(3/59)
والعامل في إذ على هذا القول الأول آتينا موسى، أو فعل مضمر.
والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف.
(فَجْوَة) : متسع.
ويقال معناه أي موضع تصيبه الشمس.
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) :
لفظه أمْر وتخيير.
معناه أن الحق قد ظهر، فيختار كلّ إنسان لنفسه إما الحقّ الذي ينجّيه، وإما
الباطل الذي يُرْديه، ففي ضمن ذلك تهديد.
(فاختلط به نَبَات الأرْض) :
الباء سببية.
والمعنى صار به النبات مختلطاً، أي ملتفاً بعضه ببعض من شدّة تكاثفه.
(فأصبح هَشِيماً) ، أي متفتتاً، وأصبح بمعنى صار.
(فلَنْ يَهْتَدوا إذاً أبداً) :
يريد به من قضى أنه يؤمن.
(فأرَدْتُ أَن أعِيبَها) :
الضمير للسفينة.
وهذا مؤخّر في المعنى عن ذكر غَصْبها، لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها.
وإنما قُدّم للعناية به، وأسند الإرادة هنا لنفسه، لأنها لفظ عيب فتأدّب بألا يسندها إلى الله، وذلك كقول إبراهيم: (وإذا مرضْت فهو يَشْفِين) .
فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، تأدُّبا.
واختلف في قوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) :
هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله.
وقوله: (فأراد رَبُّك) .
أسندها إلى الله في هذه لأنها أمر مغيب مستأنف لا يعلمُ ما يكون منه إلا الله.
وقال بعض الصوفية: لما قال: فأردتُ، فأردنَا - تعرَّضَ له جبريل، فقال: مَنْ أنتَ وما فعلك، فأسنده في الثالثة إلى فاعل الأمور الذي بيده مقاليدها (1) .
(فأتْبعَ سَبباً) أي طريقاً يوصله.
__________
(1) كلامٌ لا دليل عليه.(3/60)
(فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) .
أي من تمادَى على الكفر قتله، وهو معنى قوله: (فسوف نُعَذِّبُه) .
ومَنْ أسلم أحسن إليه.
(فما اسْطَاعُوا) :
أصلُه استطاعوا، وحذفت التاء في هذا تخفيفا.
(فأوْحى إليهم) : أي أشار.
وقيل: كتب في التراب، إذ كان لا يقدر على الكلام، مع أنه سليم من الخرس، وإنما جعل الله له ذلك علامةً على حَمْل امرأته.
(فحمَلَتْهُ) : يعني في بطنها.
(فأجَاءهَا) ، معناه ألجأها، وهو منقول من جاء بهمزة التعدية.
(فإمَّا تَرَيِنَّ) :
هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد.
وترين فعل خوطبت به مريم، دخلَتْ عليه النون الثقيلة للتأكيد.
(فأتَتْ به قَوْمَها تَحْمِلُه) :
لما رأت الآيات ِ علمت أن الله سيبيِّنُ عذرها، قالوا لها: (يا مريم لقد جئْتِ شيئاً فَرِيًّا) .
من الفرْية، وهي الشنعة.
(فأشارَتْ إليه) ، أي إلى ولدها ليتكلَّم، وصمتت هي كما أمِرت.
فتولى الله تبرئتها، كذلك يعقوب بلغ به البلاء حتى ضاق به الأمر.
فأظهر الله له الفرج ببشارة القميص.
وكذلك موسى وعيسى، وكذلك عائشة لما ضاق بها الأمر حتى تركت العلائق، ورفعت قَلْبها عن الخلائق، فأنزل الله طهارتها، فقال لها أبوها: قومي فقبِّلي رأسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: بحمد الله
لا بحمدكما، لأن الله طهَّرني بالآيات (1) .
كذلك أنْتَ يا محمدى، إذا ضاق بك الأمر، وتركت العلائق إلا من الله فتح
عليك باب البشارة، وأدخلك دار كرامته.
__________
(1) لفظه عند أبي داوود:
13963- أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الرُّوذْبَارِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فِى قِصَّةِ الإِفْكِ ثُمَّ قَالَ تَعْنِى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِرِى يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكِ» . وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ فَقَالَ أَبَوَاىَ: قُومِى فَقَبِّلِى رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَحْمَدُ اللَّهَ لاَ إِيَّاكُمَا.(3/61)
(فاختلف الأحزبُ مِنْ بَيْنهم) ، أي من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم.
والأحزاب: اليهود والنصارى، والحق خلاف أقوالهم كلِّها.
(فوَيْلٌ للذين كفروا) : قد قدمنا أنَّ الويل هو الحزن والثّبور.
ورُوي هذا الكفر الذي كفروا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من
أنفسهم أربعةَ أحبار غايةً في المكانة والجلالة عندهم، وطلبوا أن يبينوا أمر
عيسى، فقال أحدهم: هو الله نزل إلى الأرض، فأخيا من أَحيا وأَماتَ من
أمات.
تم صعد فقال له الثلاثة: ليس الأمر كذلك.
واتبعه اليعقوبية.
ثم قال أحد الثلاثة: عيسى ابن الله، فقال له الاثنان: كذبت، واتبعه
النسطورية.
ثم قال أحدهما: عيسى أحد ثلاثة: عيسى إله، وأمه إله، والله إله.
فقال له الرابع: كذبْتَ واتبعه الإسرائيلية.
فقال الرابع: عيسى عبد الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم، فاتبع كلَّ واحد من الأربعة فريقٌ من بني إسرائيل، ثم اقتتلوا، وغلب المؤمنون، وقتلوا، وظهرت اليعقوبية على الجميع.
وروي أنه في ذلك نزلت: (إنَّ الذين يكفُرون بآيات الله) .
فإن قلت: ما الفرق بين وصفهم هنا بالكفر، وفي الزخرف بالظلم؟
فالجواب أنً الكفر أبلغ من الظلم.
وقصة عيسى في سورة مريم مشروحة فيها، ذكر نسبهم فيها إلى الله تعالى، حتى قال: (ما كان للهِ أن يتخذ مِنْ وَلَدٍ سبحانه) ، فذكر بلفظ الكفر.
وقصته في الزخرف جملة فوصفهم بلفظٍ دونه وهو الظلم.
وقيل غير هذا من الأجوبة حذفناه اختصاراً.
(فلا تَعْجَلْ عليهم) ، أي لا تستبطىء عذابهم وتطلب تعجيله، إنما نعُدّ مدة بقائهم في الدنيا.
(فلما أتاها نُودِيَ يا موسى) .
ضمير الإتيان راجع إلى النار، ولم يناده من الشجرة، وإنما ناداه عند وصوله إليها، وإنما أمره بخلع نعْليْه، لأنهما(3/62)
كانتا من جلد حمار ميِّت، فأمر بخلع النجاسة.
واختار ابن عطية أنه إنما أمِر بخلعهما ليتأدب، ويعظّم البقعة المباركة، ويتواضع في المناجاة مع خالقه (1) .
وأين هذا المقام من مقام سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما زُجَّ به في عالم العزَّة!
أراد أن يخلع نعلية، فإذا النداء: يا محمد، لا تخلع نعليك.
فقال: يا ربِّ سمعتك تقول لموسى: (فاخلع نعليك) .
فقال: يا محمد، لئن أمرت موسى بنزع نعليه على جبل الطور فقد أبحنا لك أن تطأ بنعليك على بساط النور، لأنك المكرَّم عندنا، والعزيز لدينا (2) .
اللهم بحرمته لديك اعف عنا واغفر لنا.
قيل أصحاب الشجرة في القرآن أربعة: آدم: (ولا تَقرَبا هذه الشجرة)
، وموسى: (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقْعَةِ المباركة من الشجرة) .
ومريم: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) .
ومحمد - صلى الله عليه وسلم -: (إذ يبَايعونك تَحْتَ الشجرة) .
فآدم دَنا من شجرته باختيار نفسه، فصارت عليه محنة، حتى خرج منها
بسببها.
وموسى دنا من شجرته بالأمر، فصارت عليه بركة، وأوْصله بالوادي
المقدس، ونودي (إني أنا رَبُّك) .
ومريم دَتتْ من شجرتها باخْتِيار نَفْسها، فصارت عليها محنة، حتى قالوا ما قالوا، ونالها من الألم ما نالها، ولم تَصِلْ إلى رزقها إلا بالعناء.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - دنا من شَجَرته من حيث الأمر، فعادت عليه رحمةً، وبايعوه تحتها، وظهر الإسلام، واستقام الشرع.
وكذلك مثَّل الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة.
وقيمة الشجرة بالثمار والأنوار، وقيمة المؤمن بمعرفة الجبَّار، كأنه تعالى يقول: قلبك بموضع شجرة إنباتها معرفتي، وثمرها شهادتي، ونورها حديثي ومنها تصير يا عبدي موحِّدي.. .
آدم قصد شجرةً وفيها للعدو نصيب، - فأصابه من الذلِّ والمِحَن
والخروج من الجوار ما أصابه (3) .
والشجرة التي هي في موضع نظري ومقام معرفتي إذا قصدها الشيطان أتراني أسلمها له، وأنا أنظر إليها كل يوم ثلاثمائة وستين
__________
(1) اختيار العلامة ابن عطية - رحمه الله - أقرب إلى الصواب. والله أعلم.
(2) المعنى صحيح لكنه يحتاج إلى سند صحيح.
(3) أكثر هذا الكلام فيه نظر، ولا يخفى على أولى البصائر. والله أعلم(3/63)
نظرة لحُرمتها، أفتراني أسلمها للشيطان إذا قصدها! بل أطرده وأكافئه كما
كافَأت آدم، حين قصد شجرة فيها للعدو نصيب أخرجته منها لنصيبه.
والشجرة التي هي نصيبى أكافئه بأن أضع ذنوبك على عنقه، وأدخلك الجنة
لنصيي فيك.
فإن قلت: قد اختلفت الألفاظ في قصة موسى، ففي موضع قال: آتاها، وفي موضع: جاءها، وفي آية: (إني أنا ربُّك) ، وفي آية: (إني أنا الله) ؟
فالجواب أن لفظ جاء وأتى بمعنى واحد، لكن كثُر هنا لفظ الإتيان، نحو:
فأتِيَاه، فلنأتينّك، ثم أتى، ثم ائْتُوا صفا.
وكثُر في النمل لفظ جاء، نحو: (فلما جاءهم) .
(وجئتك من سبَأ) .
(فلما جاء سليمان) .
وإنما أبرز الضمير في هذه الآية بقوله: ربك، لأنه خاطبه مرّتين، كل مرة
بما يليق به، ففي الأولى أظهر له النعمة في إنجائه من فرعون، وتحنّن شعيب له، وإكرامه بالكلام.
فلما تأنّس وزالت عنه الدهشة خاطبه بالألوهية الْمشْعرة
بالخوف من هذا الاسم العظيم.
فسبحان اللطيف بعباده، الْمُنْعم عليهم بنعمه: خلقهم بلا مثل، وصورهم بلا مشاورة، ورباهم بلا قوة، وهداهم بلا شفاعة، ورزقهم بلا دعوة، وأمرضهم بلا واسطة، وشفاهم بلا دَوَاء، وأماتهم بالعدل، وأحياهم بالقدرة، وغفر لهم بالرحمة.
وقد قدمنا أنَّ موسى خرج لطلب النار، فوجد الجبَّار.
ويوسف خرج للنزهة فوجد العبودية.
وبلقيس خرجت للنظر فوجدت المعرفة.
وطالوت خرج لطلب حماره فوجد الملك.
وأنت يا محمديُّ إذا خرجتَ من الدنيا لِطَلَب مَوْلاك أفتراك لا تجده وقد
خرجت لأجله! كلا، بل تجده، وينيلُك ما انتهت عيْنُك، ولذَّت نفسك.(3/64)
ألا تراه قال لموسى لا توجّه تِلْقَاء مدين وجاع وعَيي ورفع رأسه فقال: أنا الغريب الفقير المريض - فأجابه: الغريب الذي ليس له مثلي حبيب، والفقير الذي ليس له مثلي نصيب، والمريض الذي ليس له مثلي طبيب.
فرضي بهذه الكلمات.
(فلا يَصدّنَّكَ عنها) :
الضمير للساعة، أي لا يصدنَّكَ عن الإيمان بها والاستعداد لها.
والخطاب لموسى.
وقيل لنبينا ومولانا محمد، وهو بعيد، لأنه قد استعدَّ لها.
وقيل الضمير للصلاة، وهو بعيد.
(فتَرْدَى) ، أي تهلك.
وهذا الفعل منصوب في جواب (لا يصدنَّك) .
(فألْقَاهَا فإذا هي حيَّةٌ) :
لما ذكر موسى عليه السلام المنافع التي كانت في عصاه بسؤال الله له أمره أنْ يُلْقيها ليَرَى فيها عجائب غير التي كانت فيها، ويعلمَ أن الله يؤيده وينصره ويعزّه، فألقاها امتثالاً لأمْرِ ربه، فقلب الله أوصافَها وأعراضها، فصارت حيّةً تسعى، أي تنتقل من مكان إلى مكان.
والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، والصغير والكبير.
وقد قدمنا أنَّ الله سمّاها بأسماء مختلفة: بالحية، والثعبان، والجان، فأراد
بالحية أول أمرها صغيرة رقيقة، ثم تتزايد وتصير كالثعبان في سرعة حركة
الجان.
وقيل: كان لها عرْف كعرف الفرس، وكان بين لَحْيَيْها أربعون ذراعاً (1) .
قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلعُ الحجرَ والشجر، لها كلام كالرعد
القاصف.
فلما رآها موسى كذلك خاف.
وقد قدمنا أن خوفه إنما كان ممن أجل عِلْمه أنها كانت من الشجرة التي أكل منها آدم، وقيل: لأنها كانت معجزة بالخوف منها، فخاف منها كل أحد.
فقال الله له: يا موسى، اذهب بها إلى فرعون، وخُذْها، ولا تَخَفْ، سنُعيدها سيرتها الأولى.
وموسى أمّنه الله من أربع مخاوف: من إلقاء العصا، وفرعون، وقومه، ومن
قَتْل القبطي، فأمنه الله منها جميعا.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.(3/65)
وأنت يا محمدي إذا رجعْتَ إليه أفتراه لا يُنجيك من غمِّ الدنيا، وعند
النّزعْ، وفي القبر، وفي أهوال القيامة.
وقد قال لك: (إن الله مع المؤمنين) .
إن الله مع الصابرين) .
(إن الله مع الذين اتَّقَوْا) .
(وإن الله لَمَعَ المحسنين) .
موسى كانت في يمينه العصا، فضرب البحر بها فانفلق حتى جاوزَه هو
وقومه، والمؤمن الذي بيده كتاب ربِّه أتراه لا يضرب به بحرَ الموت فينفلق له، ويقول له: كن عليَّ رحمةً (1) فتنزع روحه نوماً برفْق كالقطر من الصفا، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لملك الموت: " ارفق بأمتي.
فقال له: أبشر، فإني بكل مؤمن رفيق ".
(فاقذفيه في الْيَمِّ) :
اليم: هو البحر، وأمْر الله في هذه الآية لأمّ موسى أن ترميه في بَحر النيل، لأن فرعون لما ذكر له أن هلاكَه على يد رجل من بني إسرائيل أمر بذبح كلّ ذكر يولد لهم، فألقَتْه في تابوت، وألقت التابوتَ في البحر، وكان فرعون في موضع يُشْرف على النيل، فلما رأى التابوتَ أمر به
فسِيق إليه، وامرأتُه معه، ففتحه فأشفقت عليه امرأته، وطلبت أن تتخذه ولداً، لأنها لم يكن لها ولد، فأباح لها ذلك، فذلك قوله: (وألقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مني) .
فهذه المحبةُ نفعت امرأة فرعون، وكذلك صَفُورا نفعت محبتها لموسى، وزُليخا ليوسف، وخديجة لمحمد - صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن الذي يحبُّ الله ويحبُّه الله أفتراه لا تنفعه محبته، وهو يقول:
(يحبُّهم ويحبُّونَه) ، ولم تكن هذه المحبة إلا لأمّة الحبيب، لأنه كان حبيباً، وحبيبا كحبيب حبيب، ألا ترى آدم كان صفيًّا، فلم يجد أحد من قومه الصفوة، وإبراهيم كان خليلاً فلم يجد أحدٌ من قومه الخلة، وهكذا سائر الأنبياء، لكن من علامة المحبة أولها الإفلاس، وآخرها الوَسواس، ومن فَرّ منه دعاهُ بكثرة الإحسان حتى يستحيي من الله، فيرجع إليه.
(فتقول هل أدُلّكم على مَنْ يَكفُلُه) :
يعني أنَّ فرعون لما أخذه من التابوت، وأسلمه لآسية صارت ترْضعه في المراضع، فلم يَقْبَل ثَدْيَ مرْضعة.
__________
(1) قياسٌ مع الفارق، فأين نحن من سيدنا موسى - عليه السلام - اللهم احشرنا في زمرة حبيبك ومصطفاك - صلى الله عليه وسلم.(3/66)
حتى شاع خبره، فذهبت أخته إليهم، وقالت: (هل أدلكم على من يكفُله) .
(فرَدَدْناه إلى أمِّه) :
وهذا مِنْ مِنَنِ الله عليه لما قالت لهم: أنا أدُلكمْ على أهْلِ بيت يكْفلونه لكم وهم له ناصِحون، وحَرَّضَتْهم بهذا الكلام قالوا لها: أنْت تعرفين هذا الغلام، قالت: لا، غير أني أعلم من هذا البيت الحرصَ على التقرب إلى الملكة والجدّ في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بامّ موسى، فلما أخذته التْقَمَ ثَدْيهَا، ففرحت آسية لذلك، وقالت لها: تكونين معي في القصر.
فقالت لها: ما كنْتُ لأدعَ بيتي وولدي - تعني هارون.
ولكنه يكون عندي.
فأحسنت آسية إليها غايةَ الإحسان، واعتَز بنو إسرائيل بهذا الوليد السعيد، فهذا معنى رجوعه إلى أمّه، وإقرار عينها، وذهاب الحزن عنها.
وهذا كله من ثقتها بربها، وتسليم الأمْرِ إليه
بعد امتثال أمره، ولولا أن الله رَبَط على قَلْبها بالصَّبْر لكادت تُبدي به، لكن
رجعت إلى ربها، فجمع الله شَمْلَها به.
ويعقوب لما رجع في حِفْظِ يوسف إلى أولاده وقولهم له: (وإنا له لحافظون) ، واطمأن إلى حفظهم ابتلاه الله بمفارقته.
ولما زال عن حفظ إخوته ردّه الله إلى حفظه، فقهر له العبادَ والبلاد، وردّ عليه والده.
وأنْتَ يا محمدي لو رجعْتَ إلى الله وتوكلْتَ عليه لحفظك في أهلك ومالك
وولدك، وجمع بينك وبين أحبتك يوم القيامة، ولكنك أسأتَ الأدب.
واطمأنَنْتَ إلى المخلوقين، فكيف تطمع بنيل مركوبك وقد أعرضت عنه؟!
فإن قلت: أي فرق بين الرجوع في هذه الآية وفي آية القصص بالرد؟
والجواب هما بمعنى واحد ولما كان لفظ الرجوع ألطف خُصَّت به هذه الآية.
وعبَّر في القصص بالرد لمناسبة قوله: (إنا رَادُّوه إليكَ) .
(فنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ) : لما خاف مِن قَتْلِ القبطي أمَّنه الله بقوله: (لا تخف نَجَوْت من القوم الظالمين) .(3/67)
وكذلك المؤمن يخاف من غَمّ القيامة، فيسمع النداء: لا تخف فالمراد به
غيرك.
(فَتَنَّاكَ فُتُوناً) ، أي اختبرناك اختباراً حتى ظهر منك أنك
تصلح للنبوءة والرسالة.
وقيل: خلّصناك من محنة بعد محنة، لأنه خلصه من
الذبح، ثم من اليمّ، ثم من القصاص بالقتل.
والفتون يحتمل أن يكون مصدراً أو جمع فتنة.
(فلبثْتَ سنين في أهل مَدْين) :
يعني الأعوام العشرة التي استَأْجَره فيها شعيب لرَعْي الأغنام، فقال له شُعيب في العام الرابع: يا موسى، كلما وُلدت أنثى من الحمْلَان فهي لك في هذه السنة، فكان موسى يُلقي عصاه في الماء، ويسقي الأغنام منها، فولدت كلها أنثى في تلك السنة، فقال شعيب عليه السلام في السنة العاشرة: كلما ولدت ذكورا من الْحُمْلان فهي لك، فولدت في تلك - السنة كلها ذكورا.
فاجتمع له أغنام كثيرة، فرجع مع أهله إلى مصر، فآنس في الطريق ناراً، كما قال الله تعالى، فلما دنا منه الكلِيم صار نوراً، وكذلك نار الخليل لما دنا منها الخليلُ صارت روضة ورحمة.
وكذلك جبّ يوسف كان مملوءاً عفاريت وحيّات، فلما دنا منه الصديق صار رحمةً، وكذلك البحر لما دَنَا منه الكليم صار يبساً، وكذلك القبر موضع الوَحْشة والديدان فإذا نام فيه الحبيبُ صار عليه روضةً من رياض الجنة.
وكذلك يوم القيامة - يوم الحسرة والندامة - فإذا قام فيه الحبيب يصير يوم العز والقربة، والدنوِّ والرتبة.
وكذلك النار موضع الملامة فإذا دخل عليها الحبيب صار موضع إظهار الكرامة.
(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) :
ضمير التثنية يعود على موسى وهارون، وضمير الإفراد على فرعون.
يعني أن الله أمرهما بالإتيان إليه ليخْبِراه بالرجوع عما هو فيه، لِمَا في إخبارهما له بإقامة الحجة عليه.
وفي ضمن ذلك دعوتُه إلى الإيمان.
والمرادُ بإرسال بني إسرائيل معهما لإخراجهم عن ملكه، ومن دائرة حكمه.
وفي ذلك تحقير لشأنه وإبطال ما ادَّعاه من السلطان.(3/68)
فإن قلت: لم حذف من هذه الآية اسم فرعون وأثبته في الشعراء؟
والجواب أنه تقدم ذكره في قوله: (اذْهَبَا إلى فرعون إنّه طغَى) - فلم تكن
إعادة اسمه ظاهراً مع الاتصال والقرب، إذ لم يفصل بين ظاهره ومضمره إلا
كلمتان.
أما آية الشعراء، فوَجْه إظهارِه أنه قد اجتمع فيها أمران:
أحدهما: الفصل بين مضمر الاسم وظاهره، مع إتيان الظاهر مضافاً إليه
فَضْلُه إلى ما ذكر من الفَضْل ببضع وعشرين كلمة.
والثاني: أمر موسى عليه السلام أولاً، وإنما أورد بإتيانه قوم فرعون.
قال تعالى: (وإذ نادى ربّك موسى) ، فقد يتوهم أن الجاري على هذا أن لو قيل عوض قوله: فأتيا فرعون - فأتهم - إلا أنه لم يقصد
ثانياً إلا ذكر متبِعيه، فلم يكن بدّ من الإفصاح باسمه غير مضمر.
وأما قوله تعالى في الأولى: فقولا إنا رسولا ربك - بتثنية لفظ " رسولا "
فوارد على اللغة الشهيرة.
وأما قوله في الثانية: (إنا رسول ربِّ العالمين) - فعلى لغة مَنْ يقول رسول للواحد والاثنين والجماعة والذكر والمؤنث، فورد الأول في
الترتيب الثابت على اللغة الشهيرة، والثاني على اللغة الأخرى، على ما قد تقدم في مثل هذا.
وعَكس الوارد مخالف للترتيب، ولا يناسبه.
وأما قوله: (إنّا رسولَا ربك) بإضافة اسمه تعالى إلى ضمير الخطاب فإنه يناسب من حيث ما فيه من التلطف والرفق لما تقدمه من قوله تعالى: (فقولَا لَهُ قَوْلاً ليِّناً) .
وقد تفسر هنا القول، وتبيَّن ما فيه من التلطّف في قوله تعالى في آية النازعات: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) .
وناسب هذا ما بنيت عليه سورة طه من تَأنيس نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتأنيس موسى كليمه بقوله: (وأنَا اخْتَرْتك فاسْتَمِعْ لما يُوحَى) ، وما بعده إلى قوله: (قد أُوتِيتَ سؤْلَكَ يا موسى) ، وما بعده.
فلما كان مَبْنَى هذه السورة(3/69)
بجملتها على التلطّف والتأنيس ناسب ذلك بما أمر موسى عليه السلام من دعاء فرعون وأنسه ولطفه، وأمر موسى عليه السلام وأخيه هارون بذلك، فقيل لهما: (فقولَا له قَوْلاً ليِّنا) .
وجرى على ذلك قوله: (إنا رسولا ربك) ، فأشعرت هذه الإضافة بالتلطف الربّاني.
ولما لم تكن سورة الشعراء مبنية على ما ذكر، وإنما تضمنت تعنيفَ فرعون
وملأه وإغراقهم، وأخذ المكذّبين للرسل بتكذيبهم، وهذا في طرف من التلطف
- ورَدَ فيها: (فقولا إنا رسول رب العالمين) ، بإضافة اسمه تعالى إلى العالمين.
لتحصيل أنه مالك الكلّ، وأنهم تحت قَهْره تعالى، وفي قبضته، وعدل عن
الإضافة إلى ضمير الخطاب، إذ لم يقصد هنا ما قدم من التلطف.
ونظير الوارد في هاتين الآيتين قوله تعالى: (ولو شاء ربّك ما فعلوه) - تأنيساً لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم ورد فيما بعد: (ولو شاء
الله ما فعَلوه) .
فقِفْ على ذلك، وقد تبين جليل النظم، وهو التناسب، وتأمل أَمرَهما الله هنا بالإخبار بأنهما رسولَا رَبِّه، وأمرهما في آية أخرى بالتلطف له في الموعظة، لأنه أعون على قَبُول النصح، وإنفاذ الدعوة، وإمالة القلوب إلى ما تدعى إليه، وهذا كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
واختلف في معنى القول اللين، فقيل: عِدَاهُ شباباً لا يهرم بعده (1) ، وملكاً لا
ينزع منه إلا بالموت، وأن تبْقى له لذة المطعم والمشرب والْمَنْكح إلى حين موته.
وقيل: لا تواجهاه بما يكره، فإن في ذلك تنفيرا له، أو لما له من حق التربية
لموسى، فقد روي أنَّ الله عزّ وجل قال: كانت لفرعون على موسى حقّ التربية، فأردت أن أكافئه بقولي: (فقُولاَ له قَولاً ليّنا) .
وقيل كنِّياه، وكان له ثلاث كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة.
وقد رُوي أن إبليس أتى إليه ودقَّ عليه الباب، فقال: مَنْ، فقال له
__________
(1) هذا الأمر لا يتحقق إلا لأهل الجنة فقط، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه ومنِّه.(3/70)
إبليس: من ادَّعَى الرّبوبية يعرف مَنْ أنا، فقال له فرعون: هل علمت من هو شر منّا، قال إبليس: مَنْ باع آخرته بدنْيا غيره.
فانظر هذا اللطف العظيم مع من ادَّعَى الربوبية، فكيف بمن أقر له بالعبودية
وعبده مدةً مديدة، أتراه لا يعامله بما تدهش له النفوس من العيشة الهنية.
(فمنْ ربّكمَا يا موسى) :
خطاب لهما، مع أنَّ موسى الأصل في النبوءة وهارون تابعٌ له.
(فيُسْحِتَكم) : معناه يهلككم.
وقيل سحت وأسْحَت، وقد قرئ بفتح الياء وضمها.
والمعنى متفق.
(فأَجمعوا كيْدَكمْ) ، أي اعزموا وأنفذوه.
وهذا من قول موسى على وَجْه الإسراع في مقصودهم لعِلْمه بباطلهم.
(فرجع موسى إلى قَوْمه) :
يعني بعد كمال الأربعين يوماً التي كلَّمه الله فيها في قوله: (وواعَدْنَا موسى ثلاثين ليلة) ، فتناول منها ورقةَ زيتون، فأمر بعشرة أخرى، فانظر بالله ورقة زيتون منعت متَناولها عن المراد، فكيف تنال مرادك مع تناول شهواتك، وخصوصاً إن كانت من ظلم للعباد.
(فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) .
أي في طاعتك لإبليس، فجعل المسبّب مع السبب.
فإن قلت: لم خصّ آدم بالشقاء والتوبة في قوله: فتاب عليه وهَدَى، وحوَّاء
كانت المتسببة؟
فالجواب: أن آدم كان نبيئاً وحوَّاء كانت من جملة الأولياء الذي يجب أن
يكون مأمون العاقبة، ومن شرط الولاية كثرة الْحُزن والخوف إلى آخر الزمان.
وخص آدم بالخطاب، لأنه كان المخاطب أولاً والمقصود بالكلام، وأَضاف
الإخراج إلى إبليس والإنزال إلى نفسه بقوله: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ)(3/71)
لأن الضيف إذا كان كريماً لا يُخْرج ضيفَه من ضيافَتِه، فلما خرج قال له: يا آدم، أسكَنْتك في جوارِ العدو لتعصيه فيها، وتطيعني، فأقول هذا بذاك، والمحبة بيننا باقية، كذلك يوم القيامة يقول:
عبدي أنعمت عليك برضاك، وأطعتني برضائي، وعصيتني مخالفاً لأمري، دع الطاعة في مقابلة النعمة، والزّلَّة في مقابلة البليّة، والمعرفة بيننا باقية.
(فإمّا يَأْتِيَنَكم مني هدًى) :
إن الشرطية دخلَتْ عليها ما الزائدة وجوابها.
(فمن اتَّبع هدَاي فلا يَضِل ولا يشْقَى) .
أي لا يضلّ في الدنيا، ولا يَشقى في الآخرة.
(فلا تستعجلون) ، أي لا تستعجلون العذاب.
وقيل المراد هنا آدم، لأنه لما وصل الروح إلى صدره أراد أنْ يقومَ، وهذا ضعيف.
(فَعَلَهُ كَبِيرُهم هذا) :
ضمير الفعل للصنم، وذلك أنهم لما سألوه عمَّنْ كسر الأصنام قال لهم هذا القولَ، ومقصوده بذلك تبكيتهم لإقامة الحجة عليهم، كأنه يقول: إن كان إلهاً فهو قادر على أن يفعل، وإن لم يقدر فليس بإله، ولم يقصد الحقيقة الْمَحْضة.
فإن قلت: قد ورد في الحديث: أنَّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات، إحداها هذه؟
والجواب: أن معناها قال قولاً ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى
آخر.
ويدلُّ على ذلك قوله: (فَاسألوهمْ إنْ كانوا يَنْطِقون) .
وهذا التأويل أولى، لأن نفي الكذب يعارِض الحديث، والكذبُ الصراح لا
يجوز على الأنبياء عند أهل التحقيق.
وأما المعاريض فهي جائزة، وعلى تقدير جواز الكذب فإنما جاز له ذلك، لأنه فعله من أجل الله.(3/72)
(ففَهَّمْنَاهَا سلَيْمان) :
الضمير يعود على القضية المذكورة قبل هذا في الرجلين.
(فهل أَنْتم شاكِرون) :
لفظه استفهام، ومعناه استدعاء إلى الشكر.
(فنَفخنا فيها مِنْ روحِنَا) :
عبارة عما ألقاه الحق سبحانه من أَسرار آثار أسماء الأفعال، وسرى إليها من ذلك السر، فتكوَّن الولد في رحمها، وذلك الإلقاء إما بواسطة الملك المعبَّر عنه بالرّوح أو دونه، وإضافةُ الروح إلى ضميره تعالى إضافة الملك إلى المالك.
وقد كثرت الأقاويل في الروح، حتى أنهاه بعضهم إلى أربعمائة قول، ولا يعلم حقيقته إلا الله، كما قال: (مِنْ أمْرِ رَبِّي) ، أي من عجائب ربي.
وقيل: من علم ربي.
وقيل الروح آدم، (ونفخت فيه من روحي) .
وقيل جبريل، (وأيدْنَاه بروح القدس) .
وقيل الروح: الْخَلْق العظيم الذي في عالم العزّة يأمر بما يأمره الله به جميع الملائكة، وهو خلق عظيم أعظم العوالم يسبّح كلّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحةٍ ملكاً يجيىء يوم القيامة صفاً واحداً، فذلك قوله: (يوم يقوم الرّوحُ والملائكةُ صفًّا) .
فإن قلت: لم أنث الضمير هنا وذكّره في التحريم، مع أن القصة واحدة؟
والجواب أنه لما كان المقصود في سورة " اقتربت " ذكْرها وما يؤُول إليه
أمرها حتى ظهر ابنها وصارت هي وابنها آية، وذلك لاَ يكون إلا بالنَّفْخِ في
جملتها خُصَّت بالتأنيث، وما في التحريم مقصور على ذِكْرِ إحصانها
وتصديقها بكلمات ربها، وكان النفخُ في جميعها وهو مذكَّر، فلذا قال:
(فيه) .
وأيضاً فهنا أنَّث بعد ذكر جملة من الأنبياء والرسل بخصائص عليَّة، وآياتٍ
نبوية ناسب ذلك ذكر مريم وابنها بما منحا.
وأما آية التحريم فمقصود فيها ذِكر(3/73)
عظتين عظيمتين تبيّن بهما حكم السبقية بالإيمان أو الكفر، وهما قضية امرأتي نوح ولوط، وإن انضواءهما إلى هذين النبييْن الكريمين انضواء الزوجية التي لا أقْرب منها، ومع ذلك لم يغْنيا عنهما من الله شيئاً، وقضية امرأة فرعون وقد انضوت إلى الكافر لم يضرّها كفْره، ثم ذكرت مريم عليها السلام للالتقاء في الاختصاص وسبقية السعادة، ولم يَدعُ داعٍ إلى ذِكْر ابنها، فلا وَجْه لذكره هنا.
(الْفَزَع الأكْبَر) :
فيه أقاويل، قيل النفخ في الصور.
(ففَزعَ مَنْ في السماوات) .
وقيل: هو صوتُ القطيعة، وهو قوله لأهل النار: (اخْسَئوا فيها ولا تكَلِّمُون) .
(فإن يصْبِروا فالنار مَثْوًى لهم) .
وقيل يوم ذبح الموت بين الجنة والنار.
وقيل يوم يسمعون: (وامْتَازُوا الْيَوْمَ أيُّها الْمجْرِمون) .
وقيل يوم أمر الله آدم ابعث من ذريتك بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحدٌ إلى الجنة.
وقد سمَّى الله في كتابه ثلاثة أشياء أكبر:
هذا، (ولذِكْر اللهِ أكبر) .
(ورِضْوانٌ من الله أكبَر) .
(فَاعْبُدُون) : خصَّت هذه الآية بالعبادة، لأنه لم يرد في سورتها ذكْر لفَظ التقوى في أمرٍ ولا خبر من أولها إلى آخرها، بل ورد فيها
الأمْر بالعَبادة في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) .
بخلاف سورة المؤمنين، فإنه تكرر فيها ذكر التقوى في ثلاثة مواضع: في قصة نوح: (أفلا تتقون) .
والتالية لها: (أفلا تَتَقون) .
فروعي في الأولى ما تقدمها، ونُوسب بالثانية ما اكتنفها، وأيضاً فإنَّ العبادة
بها ليحصل لهم الاتّقاء، فهي مقدَّمة في الطلب لتحصل ما يتسبَّب عنها إذا كانت الإجابة.
وعلى ذلك ورد دعاءُ الخلق، قال تعالى: (يا أيها الناسُ اتَّقوا ربَّكم) ، فالاتّصاف بالتقوى ثان عن الاتصاف بالعبادة، فقيل في الأنبياء: (فاعبدون) .
وفي الثالثة: (فاتقُون) ، على مقتضى الترتيب.(3/74)
(فَتَقطعُوا أَمرَهم بَيْنَهم) .
أي اختلفوا فيه، وهو استعارةٌ من جعل الشيء قطَعاً، والضمير للمخاطبين، والأصل تقطعتم أمْرَكم بينكم، إلا أَن الكلامَ صرِف إلى الغيبة على طريق الالتفات، كأنه يَنْعَى عليهم ما أَسدَوه إلى آخرين، ويقتح عندهم فِعلهم، ويقول هم: ألا تَرَوْن إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، وإن اختلفوا في الدين مرجعُهم إلينا وحسابهم علينا.
فإن قلت: ما فائدة عطف هذه الآية بالفاء وزيادة (زبُراً) ؟
والجواب أن زيادته تأكيد لافتراقهم، ونصب الحال الواردة بياناً وتأكيداً
لقُبْح تفرقهم، وتشنيع مرتَكَبهم، فناسب ذلك مقصود هذه الآية لما هنا من
التخويف والإنذار، ولم يكن ليناسب آية الأنبياء، لبنائها على غيرها لما
تقدمها من تأنيس نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعريفه بما منح سبحانه متقدمي الرسل، وما أعقبهم صبرهم على أممهم، ولذلك عطفها بواو العطف، كأنه يقول: نبَّهناهم على السؤال، وأوضحنا لهم أمر مَن تقدمهم، وعاقبة الاستجابة لمن تمسّك بهَدي المذكورين، وهم مع ذلك على عنادهم وافتراقهم، وكأن الكلام وارد مورد التعجب من أمرهم، ولم يَشُبْه شدة الوعيد، ليبقى رجاؤه.
(فَلَك) :
هو القطب الذي تدور عليه النجوم.
(فَجٍّ عمِيق) ، أي طريق بعيد.
(فكلوا منها) ، ندب للأكل من الأضحية، وهو من
خصائص هذه الأمة المحمدية، يأكلون صدقاتهم فيؤْجَرون عليها بخلاف من
تقدم، فسبحان من أنعم عليهم بنعم دنيا وأخرى، جعلنا الله ممن أحبهم.
(فاجتَنِئوا الرجسَ من الأَوثان) :
من لبيان الجنس، كأنه قال الرجس الذي هو الأوثان، والمراد النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقرّباً لها كا كانت العرب تفعل.(3/75)
(فيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشيطان) :
أي فيُبْطِله، كقولك: نسخت الشمس الظلَّ.
(فلا ينَازِعنّكَ في الأمر) ، أي في الدين والشريعة، وضمير
الفاعل للكفار.
والمعنى أنهم لا ينبغي لهم منازعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسَعُ النزاع فيه، فجاء الفعل بلفظ النهي، والمراد غير النهي.
وقيل المعنى: لا تنازعْهم فينَازِعوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ويحتمل أن يكون نهياً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ.
(فأَقِيموا الصلاة) :
الظاهر أنها المكتوبة، لاقترانها مع الزكاة، وإقامتها بإتيانها بالخضوع والحضور، إذ ما كل مصَلٍّ مقيم، ولا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، الصلاة طهرة القلوب، واستفتاحٌ لباب الغيوب.
(فاسْلكْ فيها من كلً زَوْجين اثنين) :
لما صنع نوحٌ السفينة، وجعل الله علامةَ خروج الماء إفارةْ التنور أَمر جبريل أنواعَ الحيوان أن تأتيه فيضع يمينه على الذَّكَر ويساره على الأنثى.
وروي أن أول من دخل السفينة الذّر، وآخر من دخلها الحمار، فتمسك
الشيطان بذَنَبه، فزجره نوح، فلم ينبعث، فقال له: ادخل، ولو كان معك
الشيطان.
قال ابن عباس: زَلَّت هذه الكلمة عن لسانه، فدخل الشيطان حينئذ.
وكان في مؤخرة السفينة (1) .
وروي أن نوحاً عليه السلام ومَنْ في السفينة شم نتن الزبل والعذرة فأوحى
اللَه إليه أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل، وقيل من أنفه
خنزير، فكفى نوحاً وأهله ذلك الأذى، فيؤخذ من هذا أن نوع الخنزير لم يكن قبل ذلك.
وروي أن الفأر آذى الناسَ في السفينة بقَرْض حوائجهم، فأمر الله نوحاً أن
يمسح على جبهة الأسد، ففعل، فعطس فخرجت منه هِرّة وهِرّ فكفَيَاهم الفأر.
__________
(1) لا يخفي ما فيه من البعد وإبليس عليه لعنة الله لا يحتاج إلى ركوب السفينة خوفا من الغرق، فهو من المنظرين كما أخبر القرآن، ومرد هذا الخبر وما شاكله إلى أساطير بني إسرائيل. والله أعلم.(3/76)
وروي أيضاً أن الفأر خرج من أنف الخنزير، وهذا كله ليس له مستند.
وروي أن إبليس لما دخل في السفينة طمع في إغواء أهلها، فشَكَا نوح إلى
اللَه، فأمره أن يحمل معه تابوت آدم في السفينة حتى ينظر إليه إبليس، فيذوب حسرة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: الشدّ بالقَيْد أهوَن من النظر إلى الضد، وإذا كانت مشاهدة العدو تمنع الاشتغال بالنفس وتمنع عن الطعام والشراب، فكيف لا تذوب أنْتَ يا محمدي والمحبة في قلبك، كما ذاب إبليس حين نظر إلى عدوه.
لو صدقَتْ محبتُك في صحبة معبودك لمنعك مشاهدته عن الشهوات وطلبِ
الفضول والتلذذِ بالزلات، ولا يقدر إبليس على وَسوَستك وإغوائك في جميع
الأوقات، ألا ترى أنه لم يقدر على دخول السفينة إلا بإذن صاحبه، فكيف
يدخل قَلْبَك وفيه مولاك، أما سمعته يقول: (وإذا ذَكَرْتَ ربَّك في القرآن
وَحْدَه وَلَّوْا على أدبارهم نُفُورا) .
وفي الحديث: إن له صفتين: وسواس، وخَنّاس، فإذا خنس على ابن آدم وشَمّه ووجد فيه الغَفْلة وسوس، وإذا وجده متيقظًا خنس، فانظر بأيّ شيء تعمره، إن عمرته بذكره سبحانه والتفكرِ في عجائبه - طردَهُ عنك، ووصلْتَ إلى حضرته، ألا تراه سبحانه أمر نوحاً بحَمْله معه الحيوان الذي لا معرفةَ له، ولم يفرق بينه وبين محبوبه، فكيف يذيق عَبْدَه المؤمن أليمَ فُرْقته بعد طول خدمته، وقديم معرفته!
كأنه سبحانه يقول: يا نوح، احمل ما هو مفارِق لك، وهارب عنك، لتُرِيَ
الْخَلْقَ حُسْنَ خُلقك، فيستدلون بحسن خلقك على لطيف صُنعي، أنا لما ذَكَرني الموفون الملازمون ببابي، والخواصّ من عبادي - هديتُهم، وأنعمت عليهم، هذه معاملتي معهم في دار الْمِحْنة، فكيف معاملتي معهم في دار النعمة، إنك أدخلْتَ الخلائق في سفينتك ولكَ إليها حاجة، فأي عجب لو أدخلْتُ جميع العصاة في الجنة ولا حاجة لي فيها!
(فبُعْداً) :
مصدر وُضِع موضع الفعل، بمعنى بَعُدُوا، أي هلكوا، والعامل فيه مضمر لا يظهر.(3/77)
(فارَ التّنُّور) :
يعني بالماء، ولمّا أخبرته امرأتُه بوجود الماء فيه ركب هو وأهلُه السفينة، وكان هذا التّنور لآدم، فخلص إلى نوح.
واختلف في موضعه، والصحيح أنه كان في مسجد الكوفة، وقيل بدمشق.
(فكان من الْمُغْرَقين) :
الضمير يعود على ابن نوح، لمّا لم يسمع قولَ أبيه أغرقه الله ببوله، وذلك أنه اتخذ قارورة وأدخل فيها نفسه لظنّه أنه يَنْجو (1) ، فأظهر الله مَوْجَ القدرة، وحال بينه وبين ولده، وكذلك الكافر في خروجه من الدنيا يظهر له موج الشقاوة، فيحول بينه وبين ما يشتهيه من قبول العذر والإقرار بالوحدانية، كما قال تعالى: (وحِيلَ بينهم وبين ما يَشْتَهُون) ، كذلك العبد العاصي يدعو ربَّه بالندامة، فيظهر له موج الرحمة، فيحول بين صرفته ومعصيته، وتَبْقى صرفته، وذلك قوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءَ وقَلْبه) .
وفي الخبر أن نوحاً قال: يا رب، أنت وعدتَني بنجاةِ أهلي وإنَّ ابني من
أهلي، فأوحى الله إليه: إنه ليس من أهلك الذين وعدتُكَ بنجاتهم، وقد
وافقتك في دعائك على الكفار، أفلا تُوافقني أنْتَ في واحد هو ابنك بعد أن
قلْتُ لك: إنه ليس من أهلك! كأنه سبحانه يقول: عبدي، أسلمت إليكَ الدنيا بأسرها عاجلاً، والعُقْبى آجلاً موافقة لسؤالك وإجابة لدعائك، أفلا تسلم لي واحداً من أعضائك، وهو القلب، فأكون لك نعم الرب!
(فلا أنسابَ بَيْنَهم) ، يعني في الآخرة، لأن كلً واحد
منهم مشغول بنفسه، وكل منهم يفرُّ من أبناء جنسه، مخافةَ أن يتعلق بشخصه، قال تعالى: (يوم يَفِر الْمَرءُ من أخيه) .
(فَرضْنَاها) ، أي فرضنا الأحكامَ التي فيها.
وقرئ بالتشديد مبالغة.
(فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جَلْدَةٍ) ، ليس على عمومه.
__________
(1) كلام يفتقر إلى دليل، وظاهر القرآن يفيد أنه كان من المغرقين في الطوفان. والله أعلم.(3/78)
يخص منه الْمحصن والمحصنات والعبد والأمة، وصِفَتُه عند الشافعي أن يفرّق
على جميع الأعضاء والمجلود قائم.
وعند مالك في الظهر والمجلود جالس، وتُستر المرأة بثوبِ لا يقيها الضرْبَ، ويجرَّد الرجل عند مالك، وقال يجلد على قميص ويؤخرُ المريض والحامل للبُرْء.
واختلف هل يجوز أن يجمع مائة سوط ويضرب بها ضربة واحدة، وأجازه
الشافعي للمريض، لورود ذلك في الحديث، ومنعه مالك، وأجازه أبو حنيفة لما في قصة أيوب.
فإن قلت: ما الحكمة ُ في سقوط الحدِّ عن المريض؟
فالجواب أن المقصود به التأديب لا القتل، ولذلك أمر بالتخفيف عنه في
الحرّ الشديد والبرد الشديد.
كذلك العاصى من هذه الأمة إذا دخل النارَ يقول الله لمالك: لا تُقَربه إلى النار العظمى، ولا تعذِّبه عذاب الكفرة، لأن القصد في
إدخاله التأديب لا التعذيب، هذا حدُّ العاصي في الدنيا، وهذا حد الجاني في
العقبى.
(فشهادَة أحدِهم أرْبَعُ شهادات) :
بالنصب على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم.
وقرئ بالرفع، وهو خبر (شهادة أحدهم) .
وقوله: (بالله) ، وإنه لمن الصادقين - من صلة أربع شهادات، أو مِنْ صلة:
" شهادة أحدهم "، أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله، لقد رأيْتُ هذه المرأة تزني، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني، ولقد زَنت، وإني لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: لعنة اللَهِ عليَّ إنْ كنْتُ من الكاذبين.
(فارِهين) ، بألف وعدمها، منصوب على الحال من المفعول في (تَنْحِتُون) ، وهو مشتق من الفَرَاهَة، وهي النشاط والكيس.
وقيل: أشِرين بَطرِين.
(فأصْبَحوا نادِمين) :
الضمير يعود على قوم صالح، لما تغيرت أَمْوَالُهم كما ذكرناه - ندِموا.(3/79)
فإن قلت: ما بالُهم لم ينفعهم الندم كقوم يونس؟
والجواب أن ندمهم إنما كان على عدم قتلهم لولد الناقة، ولم يندموا على
قتلها، وكذلك نَدَم قابيل، ندم على كونه عجز عن إخفاءِ أخيه لا على قَتْله، فلذلك لم ينفعهما الندم، بخلاف قوم يونس فنَدَمهم كان حقيقةً، وآمنوا فنفعهم إيمانهم، وهذه الأمة المحمدية ينفعهم الندم للحديث: "الندم توبة".
وفي الحديث:
"إن الحفظة تصعد بعمَل العبد يقابلونه باللوح المحفوظ، فلا يجدون ما كتبوا
فيختلجوا، وإذا النداءُ من قِبَل الله: وصلت ندامةُ قلبه قبل وصولكم إليَّ".
(فبعثَ اللَّهُ غُرَاباً يبحثُ في الأرض) :
لما قتل قابيلُ أخاه، وأراق دمه، فاجتمع النّسور عليه، فتحير قابيل في دَفْنه، فأخذ يدور في الأرض، فكل قطرة وقعت من دم هابيل عليها صارت سبِخَة، فبعث الله غرابَين يقتتلان، فقتل أَحدهما الآخر، نم بحث الأرض بمنقاره ودفنه، فاقتدى به قابيل، فذلك قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) .
والحكمة في بَعث الغراب لاسودَادِه، ولما كان القتل مستغرباً
إذ لم يكن معهودًا قَبْلَ ذلك ناسب بعث الغراب إليه، ولهذا اشتقوا من اسمه
الغربة والاغتراب والغريب.
ورَوَى أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " امتَنّ اللهُ على ابن آدم بالريح بعد الروح "، ولولا ذلك ما دَفن حبيب حبيباً، وقابيلُ أول من يُساق إلى النار، وهو المراد بقوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ، وهما قابيل وإبليس.
وروَى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن يوم الثلاثاء، فقال: يوم الدم، فيه حاضت حواء، وفيه قَتَل ابنُ آدم أخاه.
قال مقاتل: كانت السباع والطير تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربت منه الطير والوحش، ومالت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبَرَّت الأرض.(3/80)
وعن ابن أبي واقد عن ابن حبيب، قال: بينما أنا عند أبي بكر الصديق إذ
أتى بغراب، فلما رآه بجناحيه حمد الله، ثم قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِنْ صيد مصيد إلا بنَقْصٍ من تسبيح، ولا أنبت اللَّهُ نابتة إلا وَكَل بها ملَكاً يُحصي تسبيحها حتى يأتي به يوم القيامة، ولا عُضدت شجرة، ولا قطعت إلا بنقصٍ من تسبيح، ولا دخل على امرئ مكروه إلا بذنب، وما عفا الله أكثر ".
"يا غراب، اعبد الله "، ثم خلى سبيله.
(فَكهين، وفاكهون) ، أي معجبون، كما يقال حذِر وحاذر.
وفي التفسير: فاكهون: ناعمون، وفكِهون: معجبون، وفاكهون
أيضاً الذين عندهم فاكهة كثيرة.
كما يقال: رجل لابنٌ وتامر، أي ذو لبن وتمر كثير.
(فَرَض عَلَيْكَ القرآن) ، أي أنزله عليكَ وأثبته.
وقيل معناه أعطاك القرآن.
والمعنى متقارب.
وقيل: فرض أحكام القرآن، فهو على حذف مضاف.
(فلبث فيهم ألْفَ سنة) : الضمير لنوح.
والمعنى أنه بقي هذه المدة بعد بَعْثه.
وروي أنه عمّر بعد الطوفان ثلاثمائة سنة.
وأكثر الصحابة على أنه قبل إدريس، واسمه عبد الغفار.
وروى الطبراني، عن أبي ذَرّ.
قال: قلْتُ: يا رسول الله، مَنْ أول الأنبياء، قال: آدم.
قلت، ثم مَنْ، قال: نوح، وبينهما عشرة قرون.
(فالزاجراتِ زَجْراً) : هي الملائكة تزجر السحاب وغيره.
وقيل: الزاجرون من بني آدم بالمواعظ.
وقيل: آيات القرآن المتضمنة الزَّجْر عن المعاصي.
(فالتَاليات ذِكْراً) :
هي الملائكة تتلو القرآن والذكر.
وقيل: هم التالون للقرآن، والذكر من بني آدم، وهي كلّها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد.(3/81)
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) :
يعني أن قوم إبراهيم طلبوا منه أنْ يَخْرج معهم إلى عيد لهم، وأراد الامتناعَ من ذلك، فنظر في النجوم لأنهم كانوا منَجِّمين، وقال لهم: إني سقيم، أي فيما يستقبل، لأن كلَّ إنسان لا بد له أنْ يمرض، أو أراد أنه سقيم النفْسِ مِنْ كفرهم وتكذيبهم له، وهذا التأويل أولى.
وقيل: إنه كانت تأخذه الْحمَّى في وقت معلوم، فنظر في وقتِ أخْذِها له، واعتذر عن الخروج معهم لذلك.
وقيل: نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم، لأنه أراد كسر أصنامهم، فقال: إني سقيم.
والنجوم على هذا ما يَنْجم مِنْ حاله معهم، وليست نجوم السماء، وهذا بعيد.
(فما ظَنُّكم بربِّ العالمين) :
المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره، أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدْتم غيره، كما تقول: ما ظنّك بفلان إذا قصدت تعظيمه، فالقصد على المعنى الأول تهديد، وعلى الثاني تعظيم للَه وتوبيخ لهم.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) .
لما قال لهم: إني سقيم - خافوا أن يكون طاعوناً، فخافوا منه.
وتباعدوا خَوْفاً مِن عَدْواه، فمال إلى آلهتهم، وقال هذا القولَ على وجه الاستهزاء بالذين يعبدونها، وقد قدمنا فائدة إدخال الفاء في هذه الآية.
(فجعلناهم الأسْفَلين) :
يعني قوم النمرود، وذلك أنه قال له: يا إبراهيم، إن كان ربّك ملكاً فليحارِبْني بعسكره، وليأخذ الملك مني.
فقال إبراهيم: إلهي، إن نمرود ركب مع جنوده، فأرْسِلْ إليه جنْداً من أضعف خَلْقك، وهي البعوض، لأنها إذا شبعت تموت وسائر الحيوان إذا شبع يَحْيَا، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، لو لم تسأل جند البعوض لأرْسلتُ عليهم جنْداً ما لَوْ جمعت منه لم يكن مثل ما أهلكتهم به (1) .
قال تعالى: (وما يعلم جنودَ ربِّك إلا هو) .
فركب نمرود - لعنه الله - في سبعمائة ألف فارس مقَنّع ومدَرع، وخرج إلى الخلاء يطلب المبارَزة، فأرسل الله جنْدَ البعوض، وقال لهم:
__________
(1) كلام فيه نظر، فظاهره طلب جند معين من الله تعالى وفيه شيء من التحكم وهو مخالف لما هو معلوم من أدب الأنبياء مع الله تعالى.(3/82)
جعلتُ اليوم رزقكم هذا الجند، وقوَّى الله مناقرها، فلم يحجبها الدروعُ والمغافير حتى أكلت لحومهم ودماءهم، ولم يبق منهم أحد غير نمرود، فإنه هرب ورجع إلى بيته، وأوحى الله إلى البعوض الموكل به أن يمْهله حتى يرى ما صنع الله بجنده، فلما دنا وقتُ عَذابه جعل يَحوم حَوْلَ منخره ودخله بعد ثلاثة أيام تنبيهاً لنمرود وإمهالاً له، كأنه تعالى يقول: أمهلتكَ لمعاصيك وكفرك ولم نأخذك بغتة، فإن رجعت إلينا في الثلاث فلك الأمان، ومنا القبول والإحسان، وإن لم ترجع فالعيبُ منك، أما نحن فقد استعملنا فَضْلنا وكرمنا.
وهكذا عادته سبحانه في إمهال الكفرة وعدَم أخْذِهم بغتة، فكيف بك يا
محمدي إنْ رجعْتَ إليه! أَتراه لا يقبلك، وقد عاتب أنبياءَه في عدم رحمتهم
بالكفَرة اللئام.
فإن قلت: قد عبَّر في آية الأنبياء، بـ (الأخسرين) ، فهل هما بمعنى
واحد؟
والجوابُ أن الصفتين من السفالة غاية حال الكافرين، ومَنْ كان من
الأسفلين فقد خسر خسراناً مبينا، فلا تضادَّ بين الصفتين، لأن السفول لاحق في ذات المنسفل والخسْرَان حقيقة في خارج عنه، فالسفول أبلغ، فقدّم ما هو لاحق خارجيّ وأخّرَ ما لا يتعدى ذات المتصف به، تكملةً وتَتمَّة، إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رَعيْ الترتيب، والتسفّل ضد الترقي.
وقيل: رُوعي في الصفة مقابلة قولهم: (ابْنوا له بنْياناً) ، لأنه يفهم منه إرادتهم علوَّ أمرهم بفعلهم ذلك، فقوبلوا بالضدّ، فجعلوا الأسفلين، وهو حسن.
(فإنهم يومئذ في العذاب مشْتَرِكون) :
الضمير يعود على المتبعين والأتباع، واشتراكهم في العذاب حكم عدل، إذ كلّ منهم مستحق، ألا ترى كيف وصفهم جميعاً بأنهم مجرمون.
فإن قلت: هل يفهم من اشتراكهم في العذاب استواؤهم فيه؟(3/83)
والجواب: لا استواء بينهم، لأن الشركة في الشيء قد تقتضي تساوي
الشركاء في ذلك المشترك فيه وقد لا تقتضي.
والضال والمضلّ وإن اشتركا في العذاب فللمضِلِّ ضعفان، لأنه ضلَّ وأضلّ.
فإن قلت: قد قال الذين كفروا: (إنا كلٌّ فيها) ، أي في النار؟
فالجواب أنه إخبار عن التَّساوي في المكان، لا عن الواقع فيه، لأنهم في
دَرَكات متفاوتون.
وقد صح أن سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم - سأل عن سكانها، فقال: الطبق السابع مأوى المناففين.
والسادس مأوى مَنْ طغى وبغَى وادعَى الربوبية.
والخامس مأوى الجبّارين والظالمين.
والرابع مأوى المتكبرين والكافرين.
والثالث مأوى اليهود.
والثاني مأوى النصارى! وسكت عن الأول، فقال له: أخبرني عن الأول - وألحّ عليه، فقال: عصاة أمتك يا محمد، فأغمي عليه فلما أفاق بكى بكاءً شديدا، وأغلق عليه الباب، وصار يطلب في أمته، فجاءه جبريل وبشّره بالشفاعة فيهم.
اللهم كما جعلته رحيما بنا لا تحرمنا من شفاعته، أقسم عليك بجاهه عندك.
(فَبَشَّرْنَاه بغلام حَليم. . . الآيات، إلى قوله: (وفَدَينَاه بِذِبْحٍ عظيم) .
هذه البشارة انطوت على ثلاثة أشياء: على أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أَوَان الحلم، وأنه يكون حليما.
قيل: ما نعَتَ الله الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام بأقل مما نَعَتَهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده.
ولقد نعت الله به إبراهيم، وأَيّ حلم أعظم من حلمه لمّا عرض
عليه أبوه الذبح قال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) .
والحادثة شهدت بحلمهما جميعاً.
وفي هذا دليل على أنَّ الإشارة بإسماعيل وهو الذّبيح، وأمْرُ ذبحه كان
بالحجاز بمنى، وتمّ رَمى إبراهيم الشيطان بالجمرات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: أنا ابن الذَّبِيحين، يعني إسماعيل، وعبد اللَه أباه الذي نذر عبد الطلب لما حفر بئر زمزم أنْ يَذْبح أحد أولاده، فخرج السهم على عبد اللَه، فمنعه أخواله وقالوا له: افْدِ(3/84)
ابْنَك بمائة من الإبل، ففداه بها، ونحرها عن آخرها، تقرّباً إلى الله، فأخذ منها الناس ما يحتاجون والطير والسباع.
قال علماء الإسلام: ومن جَرَّى هذه الواقعة كانت دِيَة الإبل عدد وصفه، كما كان الكبش الذي فدى الله به إسماعيل مثالاً لما وقعت به مشروعية الأضحية.
وروي أن إسماعيل أول مَنْ خطّ بالقلم.
ورأيت في بعض التقاييد أن أول من خط بالقلم من العرب هود عليه السلام وأن ... كان يكتب به، فرأى في منامه مَنْ نهاه عن كتبه في الأحجار، وأنه إنما خص الله به نبيئاً يبْعث في آخر الزمان، فينزل عليه كتاباً يقرأ ويخطّ بهذا الخط العربي.
وعن الأصمعي قال: سألتُ عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي، أَين عَزُب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان بها إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أبيه.
وذكر الطبري، عن ابن عباس، قال: الذبيح إسماعيل، وتزعم اليهود أنه
إسحاق، وكذَبوا.
وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديًّا كان أسلم وحَسن إسلامه.
قال: الذبيح إسماعيل واليهود يعلمون ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكونَ هذه الفضيلة في أبيكم.
وفي رياض النفوس أن أسد بن الفرات قال: كنت بالعراق زمن قراءتي على
محمد بن الحسن، فقلت له: اختلف الناس في الذّبيح، من هو، وعندي أنه
إسماعيل.
قال: لِمَ، قال: لأن الله يقول: (فبَشَّرْنَاها بإسحاق ومِن وراء إسحاق
يعقوب) ، فكيف يؤْمر بذبح مَنْ قد أخبر أنه سيولد له، ومن
المعلوم أن الإخبار إنما يقع على مجهول العاقبة، فتعيّن أنه إسماعيل.
قال الشيخ رحمه الله: هذا إن كان صحَّ الخبر قبل الأمر بالذبح.
فإن قلت: لِمَ وصف المبشر به هنا بالحلم، وفي الذاريات، والحِجْر
بالعلم؟
فالجواب أنه وصفه هنا بالحم لاَنقياده لخكم ربه، واستسلامه له، ووصفَه في(3/85)
غيرها بالعلم لكبره.
وقيل: إن الحليم إسماعيل، والعليم إسحاق.
وعن محمد بن كعب القرَظي قال: كان مجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال: اللهم ربَّ إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل.
فقال: يا رب، ما لمجتهد بني إسرائيل يدعو بهذا، وأنا بين
أظهرهم، قد أَسمعتني كلامك، واصطفيتني برسالتك.
قال: يا موسى، لم يحبّني أحدٌ حٌبَّ إبراهيمَ قط، ولا خيّر بين شيء قط وبيني إلا اختارني.
وأما إسماعيل فإنه جادَ بنفسه، وأما إسرائيل فإنه لم ييأس من روحي في شدةٍ نزلت به قط.
فإن قلت: لِمَ كان الأمر بالذبح هنا مناماً دون اليقظة؟
فالجواب: لتعْلَم أنَّ النبوءة اثنان: رسالة، ورؤيا منام، ولما كان إسماعيل
أحب إليه من كل شيء لم يرد اللهْ أن يواجه خليلَه بما فيه كراهية له، فأراه في المنام، كأنه استَحْيىَ منه، وهكذا عادته سبحانه مع أنبيائه وخيرته من خَلْقه، ألاَ ترى رؤيا يوسف سجود إخوته وأبويه، ورؤيا سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - دخول المسجد الحرام، وما سواهما، للدلالة على تقوية صِدْقهم، وإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.
فإن قلت: قد قال الله له: " قد صدَّقْتَ الرؤيا "، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذَّبْح، ولم يصح؟
فالجواب أنه قد بذل وسْعه فيما أمر به من بطْحه على شقِّه، وإمرار الشَّفْرَة
على حَلْقه، ولكن الله منعها من القطع، ليعم أنَّ القطع لله لا للسكين، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، فلا يسمى عاصياً ولا مفَرّطاً.
فإن قلت: الله تعالى هو الْمفْتدى منه، لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون
فاديا حتى قال: (وفَدَيناه) ؟
والجواب الفادي هو إبراهيم عليه السلام، والله عزّ وجل وهب له الكبْش
ليفتدي به، وإنما قال: وفَدَيْناه - إسناداً للفداء إلى السبب الذي هو الْمُمَكَّن من الفداء بهبته.
فإن قلت: لم يشاوره في أَمْر هو حَتم من الله؟(3/86)
فالجواب أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكن ليعلم ما عنده، لأنه بشّر
بالحلم، وأيضاً ليوطًن الولدُ نفسه على الصبّر، ويحتسب، فجاوبه عليه السلام بأحسن جواب، ألا تراه قال له: يا أبت، خذْ بناصيتي، واجلس على كتفي لئلا أوذيك إذا أصَابني حَرّ الحديد.
ففعل إبراهيم، فلما أمَرَّ السكين على حلقه انقلبت السكين، فلحرْمة تعفير وجهه رُفِع عنه الذّبح، فالمؤمن الذي عفّر وجهه في التراب سنين عديدة أتراه يحرقه بالنار؟!!
ولما سأل إبراهيم الولدَ الصالح وبُشِّر به أمر بذبحه، ليعلم أنَّ هذا الولد هو
الذي طلبه، وكذلك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سأل اللهَ تعالى صلاحَ أمته في وقت وفاته، وطلب منه هو الخليفةَ بعده عليهم، فأجاب الله دعاءه، وأراه سؤاله فيهم: إسماعيل استسلم لقضاء ربه، ومِنْ عادة الصبيان الجزَغ من الألم، ومِن طبع الحديد القَطْع، فلما صبر وغيّر عادته لأجل الله غَيَّر طَبع الحديد لأجله، ولم يقطع كذلك حال المؤمن مع الله، إذا صبر واستسلم للقضاء غيَّر الله طبع العوائد عليه وأثابه الحُسْنى.
وقيل: إنه لما صُرع للذّبح كشف الله له عن الجنة حتى يسهل عليه اللقاءُ مع
ربه، وكذلك المؤمن في حالة الموت يكشف اللَّهُ له على ما أعدَّ له من النعيم، فيسهل عليه خروج روحه.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من
النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو
أَحسن ليكون عليه حَسرة ".
قيل: لما أُتي إبراهيم بالكبْش يَدَاه مشدودتان إلى قَرْنه، لأن إسماعيل قال
له، أَطلقْ لي رِجْلاً واحدة لتعلمَ الملائكة أني فعلْتُ ذلك عن رِضًى مني وطِيب
نفس، وأني لم أجزع، فأُتي بالكبش كذلك.
وأنتَ يا محمدي لو وافقْتَ ربك فيما أمركَ به لرأيتَ العجائب من لطفه في
موافقة جميع المخلوقات لك، لكنّك خالفْتَ فاختلفت عليك الأمور، ولذلك
قال بعضهم: إني لأعلم حالي مع ربي حتى في غلامي ودابَّتي.(3/87)
ومَرَّ ابن المبارك بفرس يُبَاع بأبخس ثمن، فقال: ما بال هذا، فقيل له: به
عيوبٌ كثيرة، من حَرَن ورَكْض، وذَعَارة، فاشتراه وقال في أذنه: إني أتوب من جميع ما عصيتُ الله به، فإياك والمخالفة، فَذلّلَه الله له، وصار كأحسن ما كان.
كلّ ذلك من طاعة الله، وعدم المخالفة.
ولما فدى الله إسماعيل من الذبح دعا بدعوات منها: اللهم اغفر لكل مَنْ
وحَّدَك، ومن أصابته محنة - فتذكَر مِحْنَتي - ففَرج عنه.
وقال: يا رب، حاجتي إليك أن تغفر لكل مؤمن ومؤمنة يذكرك فإني أسألك كما بردت النار على خليلك إبراهيم، وانجيتني من الذبح، كذلك خلِّص المؤمنين من النار.
فانظر ما أعظم حرمتك عند ربك يا مؤمن، الملائكة والأنبياء وجميع
المخلوقات يستغفرون لك، ورسولُك - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيك، أفتراه يعذِّبك بعد هذه الفضائل، بل يفديك من النار بيهودي أو نصراني كما فدى إسماعيل بالكبش الذي تقرَّبَ به هابيل ورباه في الجنة لإسماعيل.
فإن قلت: لم وصف الفداء بالعظمة؟
فالجواب: لكيلا يدخل في حدٍّ محدود، إذ لو كان محدودا لوجب الافتداء
به، وكذلك سائر المسلمين.
وكان فيه مشقة.
وقيل: لأنه من عند الله.
وانظر كيف وصفه بالعظمة، مع أنه وصف نفسه وكتابَه والأجر بالعظيم، والفوز العظيم، والعذاب العظيم، والظلم شِرْك عظيم، والبهتان، وكَيْد النساء عظيم، وزلزلة الساعة شيء عظيم، والعرش العظيم.
وقال: (أنْ تَميلوا ميلاً عظما) .
(فقد افترى إثْماً عظيما) ، (وتحسبونه هيِّنا وهو عند الله عظيم) .
وقيل: إن الله أمر إبراهيم بتعليق قَرْن الفداء على الكعبة إشارة له أن عَلِّق
قلبك بعرشي، ولا تلتفت لسواي، لأني ربُّ الكل.
وأنت يا محمديّ إذا علقت قلبَك بربك، وأخفيتَ ما بينك وبينه، ولم تطلِع
عليه أَحداً من خَلْقه، أفتراه لا يقْبَلك، وقد أخْفى لك ما لا يخطر ببالك من
قرة أعين،(3/88)
فإن قلت: لِمَ لمْ يقل في هذه القصة كما قال قبل: إنَّا كذلك نَجْزِي
المحسنين) ، فيكون ذكره تفخيمًا لأمره؟
فالجواب أنه تقدم في قصة إبراهيم نفسها: (إنا كذلك) ، فاستغنى عن إعادتها.
(فأتوا بكتابكم إنْ كنْتم صادقين) :
عجَّز قريشاً بهذا الخطاب، لأنهم ليس لهم كتاب يحتجُّون به، وكذلك: (فاسْتَفْتِهم) ، على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بناتْ الله.
(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) .
يعني بما تعبدون من الأصنام وغيرها.
(وَمَا تَعْبُدُونَ) عطف على الضمير في (إِنَّكُمْ) .
ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع.
ومعنى فاتنين مضِلِّين.
والضمير في عليه يعود على ما تعبدون، وعلى سببية، معناها التعليل.
و (مَن) مفعول بـ فاتنين.
والمعنى إنكم أيها الكفَّار وكل ما تعبدونه لا تضِلون أحداً إلا مَنْ قضى الله أنه يصْلَى الجحيم.
وقال الزمخشري: الضمير في " عليه " يعود على الله تعالى.
(فَتَولَ عنهم حتّى حِينٍ) ، أي إلى حضور آجالهم.
وقيل: حضور يوم القيامة.
وقيل: حضور يوم بدر، وهذه موادعةْ منسوخة بالقتال.
(فسوف يُبْصرون) :
وعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووَعِيدٌ لهم.
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية، ولم حُذِف في الثانية المفعول؟
فالجواب: من وجهين: أحدهما أنه اكتفى بذكره أولاً عن ذكره ثانياً.
فحذَفه اختصاراً.
والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم، كأنه
قال: أبصر جميع الكفار، بخلاف الأول، فإنه في قريش خاصة.
(فإذا نزل بساحَتِهم فساءَ صبَاحُ الْمنْذَرين) .
الساحة، الفنَاء حول الدار، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرِد على الإنسان من محذور.(3/89)
وسوء الصباح مستعمل في ورود الغارة والرزايا، ومقصدُ الآية التهديد بعذاب يحلُّ بهم بعد أن أنذروا فلم ينفعهم الإنذار، وذلك تمثيل بقوم أنذرهم - ناصح بأنَّ جيشاً يحلّ بهم، فلم يقبلوا نصْحه، حتى فاجأهم الجيش فأهلكهم.
وفي صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - صعد على الصفا، ونادى بأعلى صوته: يَا صَبَاحَاهْ ففزعت إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) .
(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ) :
هذا تعجيز لهم وتهَكّم بهم.
ومعنى يرتقوا يصعدوا، والأسباب هنا السلالم والطرق وشِبْه ذلك مما يوصل به إلى العلو.
وقيل: هي أسباب السماء.
والمعنى إن كان لهم ملك السماوات والأرض
فليصعدوا إلى العرش ويدَبِّرُوا الملك.
(فَوَاق) :
فيه ثلاثة أقوال: أحدها - رجوع، أي لا يرجعون
بعدها إلى الدنيا، وهو على هذا مشتق من الإفاقة.
الثاني - ترداد، أي هي واحدة لا ثاني لها.
الثالث - ما لها من تأخير ولا توقّف مقدار فوَاق ناقة وهو ما
بين حَلبتيها، وهذا القول إنما يجري على قراءة (فُواق) بالضم، لأن (فُواق) بالضم، كذا في الحديث، والقولان الأول على الفتح، والثاني على الضم.
(فَصْلَ الخِطَاب) .
هو فصل القضاء بين الناس بالحق عند ابن عباس، وعند علي بن أبي طالب - هو إيجاب اليمين عليه والبَيِّنة على المدَّعِي.
وقيل كلمة أَما بعد، فإنه أول مَن قالها.
وقال الزمخشري: معنى فصل الخطاب: البَين من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به، وهذا هو الذي اختاره ابن عطية، وجعله من قوله: (إنه لقول فَصْلٌ) .
(فاعبُدوا ما شِئْتم مِنْ دونه) :
هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه.(3/90)
(فسلَكهُ يَنَابِيعَ في الأرض) .
أي أدخل المطر وأجراه.
والينابيع: جمع ينبوع، وهو العين، وفي الآية دليل على أنَّ ماء المطر هو الْمخْرِج للعيون.
(فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) ، أي في حق الله.
وقيل في أمره، وأصله من الجنب، بمعنى الجانب، ثم استعير لهذا المعنى.
ومعناه اتقوا يوماً تقول فيه كلّ نفس: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) .
ندامةً على استهزائه بأمر الله تعالى.
فإن قلت: لم نكرت النفس؟
فالجواب أن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد
نفس متميِّزَة من الأنفس إمّا بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، ويجوز أن تكون للتكثير، قال قتادة: لم يكْفه أنْ ضَيّعَ طاعةَ الله حتى سخر من امتثالها.
وروي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك عِلْمه وفسق - أتاه إبليس، فقال
له: تمتَّع من الدنيا ثم تبْ.
فأطاعه، وكان له مال، فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألَذ ما كان، فقال: "يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ"، ذهب عمْري في طاعة الشيطان، وأسخطت الملك الدَّيان، فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن.
فليتأمل العاقلُ هذا الوعيد الهائل، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، على طَمْس
قلوبنا، وغَفْلتنا عما يراد بنا.
صدق الله العظيم في قوله في بعض كتبه: " يا علماء السوء، قد وعظتكم وأنذرتكم، ومِنْ فعل القبيع حذّرْتُكم، وكثير من الآيات أريتكم فلم تنتفعوا بالمواعظ والآيات، (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) ، تطيعون أنفسكم فيما تشتهون وهي تعصيكم فيما تأمرون، بئس العبيد أنتم إذا علمتم أنكم لا تنالون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تبلغون كل ما
تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، تريدون مرافقة النبيين والصديقين والشهداء(3/91)
والصالحين، بأي عمل عملتموه، بأي غيْظ كظمتموه، بأي رحم وصلتموه، بأي قريب باعَدْتموه، بأيِّ بعيد قَرَّبتموه، وبأي زلة لإخوانكم عَفَوْتم عنها.
بأي شهوة تركْتموها، هل أنتم إلا كالْحَمْقَى، أما علمتم أنَ مَن كثر شبعه كثر لحمه، ومن كثر لحمه كثرت شهْوَته، ومن كثرت شهوته كثرت ذنوبه، ومَن كثرت ذنوبه قَسا قلبه، ومَنْ قسا قلبه غرق في الآفات، أما علمتم أن المسيء ميت وإن كان في منازل الأحياء، والمحسن حيٌّ وإن انتقل إلى منازل
الأموات ".
(فَوْج) :
مفرد أفواج، وهي الجماعة من الناس.
(فَطَرني) ، أي خلقه ابتداء، ومنه فاطر السماوات والأرض.
و (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) .
وأفطر بالألف من الإطعام.
(فعليه كَذِبه) :
هذا من قول مؤمن آل فرعون، يعني إن كان موسى كاذباً في دعوى الرسالة فلا يضركم كذِبه، فلأي شيء تقتلونه؟!!
فإن قلت: كيف قال: وإن يك كاذباً - بعد إيمانه به.
فالجواب أنه لم يقلْ ذلك على وجه التكذيب، وإنما قاله على وجه زعمكم أنه كاذب، وقصد بذلك المحاجّة عليهم.
وفيه احتجاجٌ عليهم، كأنه قال: قدَّرنَا كذِبَه، ماذا عليكم من كذبه، هَبْه رجلاً منكم كذب عليكم، فأقام عليهم الحجة على تقدير الكذب والصدق.
(فأَطَّلِعَ) بالرفع على (أبلغُ) ، وبالنصب على إضمار " أن " في جواب لعلي، لأن الترجي غير واجب، فهو كالتمني في انتصاب جوابه، ولا نقول إن لعلل أشربت معنى ليت، كما قاله بعض النحاة.
وهذا من قول فرعون لما أمر هامان ببنيان الصرح الذي رام أن يصعد به إلى(3/92)
السماء، وانظر ضَعف عقولهما وعقول قومهما وجهلهم بالله في كونهم طمعوا أنْ يصِلوا إلى السماء ببنْيان الصرح.
وقد روي أنه أول من علمنا الآجر، وصعد على الصرح بعد بنيانه، ورَمى
بسهم إلى السماء، فرجع السهم مخضوباً بالدم، وذلك فتنة له ولقومه، وتهكم به.
(فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) :
ضمير التأنيث يعود على السماوات، قوله: ائتيا مجاز، وهو عبارة عن تكوين طاعتهما، وكذلك قولهما: (أتَيْنَا طائعين) ، عبارة على أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما.
وقيل: بل ذلك كلام حقيقة، أنطق الله السماوات والأرض بالطوع، ولهذا جعهما جمع العقلاء لفعلهما فعلهم.
وقول الله لها عبارة عن لزوم طاعتهما كما يقول الملك لمن
تحت يده: افعل كذا، شئْتَ أو أبَيتَ، أي لا بدّ لك من فعله.
وقيل تقديره: أتيتما طوعاً وإلا أتيتما كَرْهاً.
وقيل: إن المجيب له من الأرض موضع الكعبة.
ومن السماوات البيت المعمور، فلِذا أكرمهما الله بالطواف بهما.
فإن قلت: هلّا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنها سموات
وأرضون؟
فالجواب لما جعِلن مجيبات ومخاطبات ووُصفن بالطوع والكره قال: (طائعين)
في موضع طائعات، نحو قوله: ساجدين - تغليبا.
فإن قلت: لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرضُ
مخلوقَة قبل السماء بيوميين؟
فالجواب قد خلق جرم الأرض أولاً غير مَدْحوَّة كما قدمنا، فالمعنى ائتيا
على ما ينبغي أن تأْتيا عليه من الشكل والوَصْف، ائتي يا أرض مدحوة قراراً
ومِهَاداً لأهلك، وائتي يا سماء مقبية سقْفًا لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع.
وتنصره قراءةُ من قرأ واتَتَا من المواتاة، وهي الموافقة، أي يتواتِ كلّ واحدة
أختها ولتوافقها، قالتا: وافقنا وساعدنا.(3/93)
(فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) :
قد قدمنا أنه لما نظر إلى ملْكه، واستعظمه، بأنْ أَلقى على كرْسيه جسداً، فقيل ولده الذي مات.
وقيل: الصنم الذي اتخذته بنْتُ ملك الروم التي أسرها سليمان ثم تزوجها، وهذه عادَتُه سبحانه مع أنبيائه وأحبابه، ولذلك أمر حبيبه بألا يلتفت إلى غيره غيرةً منه عليه، ولما لم يلتفت إلى غيره قَرَّبَه منه، فكان كقَاب قَوْسين أو أدنى.
(فوَيلٌ للقاسيةِ قلوبُهم من ذِكْرِ الله) :
الويل: وادٍ في جهنم تستعيذ منه كلَّ يوم سبعين مرة، وقد ذكره الله لثمانية عشر صنفاً: اليهود: (فوَيْل لهم مما كتبت أيديهم) .
(ويل لكل أفاك أثيم) .
(وَئلٌ يومئذ للمكذبين) .
و (ويل للمطففين) .
و (ويل لكل همَزة لمَزَة) .
(يا ويلنا إنا كنّا طاغين) .
(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) .
(يا ويلنا قد كُنَّا في غفلة من هذا) .
(يقولون يا ويلتنا) .
(ولكم الوَيْل مما تصِفون) .
(يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) .
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) .
(وويل للكافرين من عذاب شديد) .
(فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) .
ولا أظنُّ أحداً في هذا الزمان سلم من هؤلاء الأصناف، وخصوصاً القاسية
قلوبهم مِنْ ذكر الله، فقد اتصفنا بها أجمعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وهذه حالةَ تقتضي ختم القلوب وتغذيها بالحرام الذي يبعد عن المربوب.
(فقضَاهنَّ سبْعَ سَموَاتٍ) :
أي صنعهن، وانتصانبا على التمييز تفسيراً للضمير، وأعاد عليها هنا ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل.
فإن قلت: قد قال أولاً في يومين، وبعده في أربعة أيام، وهنا في يومين.
وهذا يقتضي أنها ثمانية أيام.(3/94)
والجواب لما ذكر أنَّ الأرضَ خُلِقَتْ في يومين عُلم أن ما فيها خلق في يومين.
فبقيت المخايرة بين أن يقول في يومين، وأن يقول في أربعة أيام، فتلك أربعة
أيام، ثم خلق السماوات في يومين، فتلك ستة أيام حسبما ذُكر في مواضع كثيرة من القرآن، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زائدة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملةُ ثمانية أيام، بخلاف ما ذكر في مواضع كثيرة.
قال بعض العلماء: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في يوم الأحد، فمن أراد البناء فليبن فيه، وخلق الشمس والقمر في يوم الإثنين وصفتهما السير، فليسافر فيه، وخلق الحيوان يوم الثلاثاء، وأباح ذَبْحها وإراقةَ دمها، فمن أراد الحجامة فيه فليحتجم فيه، وخلق البحار والأنهار يوم الأربعاء وأباح شربها، فمن أراد شرب الدواء فليشرب فيه، وخلق الجنة والنار يوم الخميس وجعل الناس محتاجين إلى دخول الجنة والنجاة من النار، فمن أراد قضاءَ الحوائج
فليسأل فيه، وخلق آدم وحواء يوم الجمعة وزوجهما فيه، فمن أراد عقد التزويج فليتزوج فيه، أخذه من قول الإمام علي رضي الله عنه:
لنعم السبت يوم السبت حقا ... لصيدٍ إن أردْتَ بلا امترا.
وفي الأحد البناء، لأن فيه ابْتدأ اللَّهُ خَلْقَ السماء
وفي الإثنين أسفار وربح ... وأمْنٌ في الطريق وفي العطاء
وإنْ ترد الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعتها هرق الدماء
وإن شرب امرؤ يوماً دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضا حوائِج ... وفيه الله يأذن بالقضاء
ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء
وهذا العلم لا يحويه إلا ... نَبيّ أوْ وَصِيّ الأنبياء
فإن قلت: كيف ذكر الأيام التي خلق الله فيها المخلوقات، وإنما تعتبر
بوجود الشمس؟
والجواب أنه يحتمل أن يجعلها على التقدير، وإن لم تكن الشمس خُلقت(3/95)
بعد، وكان تفصيل الوقت أنها الأحد ويوم الإثنين، كما ذكر فخلق الأرض غير مَدْحوَّة، ثم خلق السماوات فسواهنَّ في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل الرواسيَ وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض، وهذا معنى قوله تعالى: (والأرض بَعْدَ ذلكَ دَحَاها) .
كلُّ ذلك تعليم لعباده، وإشارةً لهم في التأنِّي في الأمور، لأنه كان سبحانه قادراً على قوله لها: كنْ، فكانت.
وفي الحديث أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الأحد، فقال: يوم غَرْس وعمارة، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله، قال: لأن فيها ابْتدأ الله خلق الدنيا وعمارَتها.
فإن قلت: بم علق قوله: (للسائلين) ؟
قلت: بمحذوف، كأنه قال: هذا الْحَصرُ لأجل مَنْ سأل في كَمْ خلقت
الأرض وما فيها، أو يقدر فيها الأقوات لأجل الطالبين إليها من المقتاتين.
وهذا الوَجْه الأخير لا يستقيم إلا على طريقة الزجاج.
(فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) :
الضمير يعود على الأمم المذكورة الذين جاءتهم رسلهم بالبينات.
فإن قلت: أي علم عندهم حتى يفْرَحوا به؟
فالجواب أنهم كانوا يفرحون بما عندهم من العلم في ظنّهم ومعْتقدهم من أنهم
لا يبعثون ولا يحاسبون، واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعاش، وظنّوا أنه يَنْفَعهم.
وهذا لقول بعضهم: (وما أظنّ الساعةَ قائمة) .
وقيل: أراد علم الفلاسفة والدهريِّين، من بني يونان، وكانوا إذا سمعوا
بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له: لو هاجَرْتَ إليه.
فقال: نحن قوم مهذَّبون، فلا حاجةَ بنا إلى من يُهَذبنا.
وقيل: فرحوا بما عند الرسل من العلم فَرَحَ ضَحِك منه واستهزاء به، كأنه(3/96)
قال: استهزأوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوَحْي.
ويدل عليه قوله: (وحاق بهم ما كانُوا به يَسْتَهْزئون) ، جزاء جهلهم واستهزائهم.
وقيل: الضمير عائد على الأنبياء، وفي هذا التأويل حَذْفٌ، وتقديره: فَلمّا جاءتهم رسلُهم بالبينات كذّبوهم، ففرح الرسل بما عندهم من العلم والثقة به، وبأنه سينصرهم.
و (حاق) معناه نزل بهم وثبت، وهي مستعملة في الشرِّ.
و (ما) في قوله: (ما كانوا) هو العذاب الذي كانوا يكذِّبون به ويستهزئون بأمره.
والضمير في بهم عائد على الكفار بلا خلاف.
فإن قلت: ما معنى ترادف هذه الفاءات في هذه الآيات؟
قلت: أما قوله: (فما أغْنَى عنهم ما كانوا يكسبون) .
فهو نتيجة قوله (كانوا أكثر منهم) .
وأما قوله: (فلما جاءتهم رسلُهم بالبينات فرحوا) ، فجارٍ مَجْرَى البيان والتفسير لقوله تعالى: (فما أغْنَى عنهم) ، كقولك: رُزِق زيد المال فمنع
المعروف، فلم يُحسن إلى الفقراء.
وأما قوله: (فلما رَأوْا بَأسَنا قالوا آمَنَّا) ، فكذلك: (فلم يك ينفعهم إيمانُهم) ، تابع لإيمانهم لما رأوْا بَأس الله.
فحق لمن سمع هذه الموعظة أنْ يبادر إلى الطاعة، ولا يتأنَّى.
بلى، والله.
وقعت منا المخالفة وقتَلْنَا أنفسنا بالمعاصي بئس ما اخترنا!
كم وعظنا المشيب ولا قبلنا، علمنا أنَّ الدنيا ثلاثة أنفاس: نفَس مضى عملنا فيه ما عملنا، ونَفَس لا ندري أَنملكه أم لا، فليس لنا إلا النفس الذي نحن فيه.
حرصنا على درهم لا ندري لمن يبْقَى، ومزقنا ثوب المعاصي ولم نكفه بتوبة، فما أسرع الملتقى!
أليس هذا من العمى، إذا شغلنا بالدنيا خسرنا فكيف يكون حالُنا وقد شغلتنا المعاصي عن الإقبال عليه!
بئس ما استنفدنا زمانَ الصبا في المعاصي واللهو، ولم ننته في الكبر عن لَهْونا، ولو تُبْنَا لحقَّ لنا البكاء، فكيف وقد انهمكنا!
إذا تاب الشيخ(3/97)
يقول الله عز وجل: الآنَ جئتنا حين ضعفَتْ مفاصلك.
الآن وقد ذهبت قُوّتك.
الآن وقد نفد عمرك.
الآن وقد قَسا بالمعاصي قَلْبك.
الآن وقد ضاع في البطالة وقْتك.
هذا لمن تاب، فكيف حال مَنْ هو في قَفص الطبع محجوب
عن العتاب، نعقد عقدة التوبة بخيط العنكبوت ظاهراً وباطناً، نتلذّذ بها، فكيف لا نحلها، لو صدقت التوبة منا لوجدنا مرارتها، كما وجدنا حلاوتها، إلهي التوبة لا تدوم لي، والمعصية لا تنصرف عني، ولا أدري بِمَ تختم لي، غير أنَّ عفوك ورجاءك أطمعني أن أسألك ما لا أستَوْجِبه منك، فهب لي منك توبةً باقية، واصرف أزمة الشهوات عني، وحقّقني بحقيقة الإيمان، وأعنّي على نفسي والهوى والشيطان، بحرمة سيدنا ونبينا ومولانا سيد الثَّقَلين صلى الله عليه وعلى آله ما اختلف الْمَلَوان.
(فإن أعْرَضوا) :
الضمير لقريش، أي أعرضوا عنك يا محمد فسآخذهم أخذةً شديدةً، مثل أخذ عادٍ وثمود، وقد كانوا أشدَّ منهم قوةً وأكثر أموالاً وأولادا، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.
(فإنا بما أُرسِلتُم به كافرون) :
ليس فيه اعتبار الكفار بالرسالة، وإنما معناه بما أرسلتم على قولكم ودَعْوَتكم، وفيه تهكم.
(فالَّذِينَ عِنْد ربِّك) :
يعني الملائكة، ووصفهم بالعندية للتشريف والتكريم، إذ يستحيل في حقه جلّ وعلا التجسيم، المجسم أعمى والمعطل أكمه.
(فحكمه إلى اللَهِ) :
الضمير في المختلف فيه، يعني ما اختلفتم أنتم والكفّار مِنْ أمر الدين الْحُكم فيه إلى الله بأنْ يعاقب المبطل ويُثيب المحق، أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكَمُوا فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا كقوله: (فردوه إلى الله والرسول) .
(فإمّا نَذْهَبَن بكَ فإنَّا منهم مُنْتَقِمون) :
يحتمل أن يريد بهذا الانتقام قَتْلهم يوم بَدْر، وفَتْح مكة، وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا،(3/98)
أو يريد به عذابَ الآخرة.
وقيل: إن الضمير في (منهم منتقمون) للمسلمين، وإن معنى ذلك أن اللهَ قضى أن ينتقم منهم بالفِتَن والشدائد، وأنه أكرم نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بموته قبل رؤيته الانتقام منهم.
والصحيح أنَّ مقصد الآية وَعِيدٌ الكفار، يعني إن عَجَّلْنَا وفاتَك قَبْلَ الانتقام
منهم فيقع الانتقامُ منهم بعده، وإن أخَّرْنا وفاتَك إلى حين الانتقام منهم (فإنَّا
عليهم مقتدرون) .
ثم شهد له بأنه على صِرَاطٍ مستقيم، وكيف لا يكون على الصراط الستقيم
وقد كان يقمُّ البيْتَ، ويحلب الشاة، ويعلف الناضح، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، وينام على الحصير، ولا ينام على الوَثِير، ويسلِّمُ مبتدراً على مَنْ لقي من صغير أو كبير، ويأخذ بيد الخادم ويَطْحَن معها إذا عيَّت، حتى قال الحق فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وأنزل عليه الكتابَ الحكيم، وشرح صَدْرَه، ويَسَّر أمره، وأعْلَى في العالمين ذِكْرَه، وأمره بالاستمساك بما أوْحى إليه، ليَقتَدِي به مَنْ بعده، فهو أحمد، وأمَّته الحامدون، ومستغفِرٌ وأمَّتُه التوَّابون، خصه الله وأمته بخصائص لم يعطها مَن تقدم في الدنيا ولا في الآخرة: في الدنيا يطول ذكرها، وفي الآخرة لا يُقدر قَدرها، كالحوض، والكوثر، واللواء الذي عَرْضُه ما بين الْمَشْرِق والْمَغْرِب مكتوب عليه:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، تقدمته آدم ونوح، وخلفه إبراهيم وموسى، وعن يمينه جبريل وميكائيل، وعن يساره إسرافيل وعزرائيل، وساقته أصحابه وأمته، رافعاً صوته: يا ربّ، أمتي أمتي، وقد وعدتني الشفاعةَ فيهم، وهم عَبيدُك، فاغفر لهم ما جَنَوْا، ولا تُؤَاخذهم بما عَصَوا، يا أكرم الْخَلق، يا رسول الله، عبدك الصنف قد وحل في شَرَك المعاصي، ولم يجد منْقِذاً ينْقذه منه غَيْرَ جاهك العظيم، فلا تخيّبه منه، وخُذْ بيده، ولا تعامِلْة بما جفاك به، حاشا لفضلك أنْ تخيب راجياً، الخير أكبر، والمواهب أوسع!
(فأنا أولُ العابدين) :
هذه الآية ردٌّ على الكفار،(3/99)
واحتجاج عليهم، لأنهم كانوا يقولون: إنَّ له ولداً، ومعناها: لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنْتُ أنا أول من يعبد ذلك الولد.
كما يعظِّمُ خدامُ الملك ولدَ الملك لتعظيم أبيه، ولكن ليس للرحمن ولد، وما ينبغي له أن يتخذ ولداً، فلا نعبد غيره.
وهذا نوع من الأدلة يسمَّى دليلَ التلازم، لأنه علَّقَ عبادةَ الولد بوجوده.
ووجودُه محال، فعبادته محال.
ونظير هذا أن يقول المالكي - إذا قصد الرد على الحنفي في تحليل النبيذ: إن كان النبيذ غير مسْكِر فهو حلال، لكنه مسكر فهو حرام.
قال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب، ونحوه قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) .
قال ابن عطية: ونحوه قوله تعالى في مخاطبة الكفار: (أَين شركائي) يعني في زعمكم.
وقد تكلم الزمخشري هنا بزعمه الفاسد بما لا يليق ذِكْرهُ للمبتدئ، وأما المنتهي فيعلم فسادَ مذهبه، ورضي الله عن ابن خليل السكوني في ردِّه عليه للتحرز منه، عامله الله بلطفه.
(فاصْبِرْ كما صبرَ أولو العَزْمِ مِنَ الرسُلِ) :
قد قدمنا أن الله ذكرهم في قوله: (وإذَ أخذنَا من النبيين ميثاقَهم ومنك)
في هذا التقديم إشعارٌ بفَضْلِه - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ سواه.
وقيل: أولو العزم الثمانية عنتر المذكورون في الأنعام، لقوله تعالى: (فبهدَاهم اقْتَدِه) .
وقيل: كلّ من لقي من أمته شدة.
وقيل: الرسل كلهم أولي عَزْم، فـ (مِنَ الرسُلِ) على هذا لبيان الجنس، وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض.
(فضَرْبَ الرِّقَاب) :
أصله: فاضربوا ضَرْباً، ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه.
والمراد قتلهم، ولكن عَبَّر عنه بضرب الرقاب، لأنه الغالب
في صفة القتل.(3/100)
(فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) .
قد قدمنا في حرف التاء اختلاف الأوزار، ومتى يكون ذلك، وانتصب
المنّ والفِدَاء على المصدرية، والعامل فيهما فعلان مضمران.
ومعنى الْمَنّ العتق.
والفداء: فك الأسير بمال.
وأمر الله في هذه الآية بوثاق الأسير حتى يفدى أو يُمنّ عليه، والإمامُ مُخَيَّر في ذلك أو القتل، والاسترقاق، وضَرْب الجزية.
وقيل: لا يجوز المن ولا الفداء، لأن الآية منسوخة بقوله: (فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجدتموهم) .
فلا يجوز على هذا إلاَّ قتلهم.
والصحيح أنها محكمة.
(فقد جاء أشْرَاطُها) :
يعني علامات الساعة، والذي جاء من ذلك مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين.
وقد أخبرنا أنَّ لها دلائل، منها ظهور الفتَن وكثرة المعاصي، والحرص في
الدنيا، والتنافس عليها، وتوسيد الأمر لغير أهله، فحينئذ يظهر الدجال.
ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وتفصيل هذا كلّه يحتاج لطول نفس، لكنّهم اختلفوا في أول الآيات ظهوراً، وذلك يتوقف على صحة نَقْلٍ.
وظهور المهدي والدجال بعده، وعيسى بعده، ويعلم الله ما بعد ذلك.
والصحيح أنها كالخرز إذا ظهرت واحدةٌ تبعتها أختها.
(فأوْلَى لهم) :
في معناه قولان:
أحدهما أنه بمعنى أحق، وخَبَره على هذا (طاعةٌ) .
والمعنى أن القول المعروف والطاعة أولى لهم وأحق.
والآخر أنَّ أولى لهم كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم، كقولك: وَيْل لهم.
ومنه قولى (أوْلَى لك فأوْلى) ، فيوقف على أولى لهم على هذا القول، ويكون (طاعةٌ) ابداء كروم، تقديره طاعةٌ وقول معروف أمْثَل، والمطلوب منهم طاعة وقول معروف، أو قولهم لك يا محمد: طاعة وقول معروف بألسنتهم دون قُلوبهم.(3/101)
(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ) :
أسند " الأَمْرَ " إلى العزم مجازاً، كقولك: نهارُه صائم، وليلُه قائم.
ويحتمل أن يريد صِدْقَ اللسان، أو صِدْق العزم والنية، وهو أظهر.
وانظر كيف خرج من الغَيْبَة إلى الخطاب بقوله: (عسَيْتم) ، ليكون أبلغ في
التوبيخ.
والمعنى: هل يُتَوَقَّع منكم الإفساد في الأرض، وقَطْعُ الأرحام، إنْ تولّيْتم.
ومعنى توليتم: صرتم ولاةً على الناس، وصار الأمْرُ لكم، وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني أمية.
وقيل معناه: أعرضتم عن الإسلام.
(كيف إذا تَوَفَّتْهم الملائكةُ) :
ضمير الفاعل للملائكة. وقيل: إنه للكفار، أي يضربون وجوه أنفسهم، وذلك ضعيف.
(فَلَنْ يَغْفِرَ الله لهم) :
هذا قَطع بأن مَنْ مات على الكفر لا يَغْفِر الله له.
وقد أجمع المسلمون على ذلك.
(فلا تَهنُوا وتدْعوا إلى السَّلْمِ وأنتم الأعْلَون واللهُ معكم) :
معناها لا تضْعفوا عن مقاتلة الكفار، وتبدءونهم بطلب الصلح، فهو كقوله:
(وإنْ جَنَحوا للسَّلْمِ فاجْنَحْ لها) .
(فَيُحْفِكُم) ، أي يلح عليكم.
والإحفاء: هو أشدُّ السؤال.
و (تبخلوا) جوابُ الشرط.
(فسيقولون بَلْ تَحْسذوتنَا) :
الضمير يعود على المنافقين.
معناه أنهم يقولون: يعز عليكم مالاً وغنية.
و (بل) هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله: (لن تَتَّبِعونا كذَلكمْ قال الله من قبل) ، فمعناه رد أن يكون الله حَكم ألاَّ يتبعوهم.
وأما (بل) في قوله تعالى: (بل كانوا لا يَفْقَهون إلاَّ قَليلاً)(3/102)
فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد، وإثباث لوصف الْمخَلَّفين
بالجهل.
(فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) :
يعني مِنْ صدق الإيمان، وصِدْق العزم على ما بايَعُوا عليه.
وقيل: مِنْ كراهة البَيْعَة على الموت، وهذا باطل، لأنه ذمّ للصحابة.
(فعجّل لكم هذِه) : يعني فَتْح خَيْبَر.
وقيل: إن المغانم التي وعدهم بها مغانمُ خَيْبَر، والإشارة ب (هذه) إلى صُلْح الحديبية.
(فآزَرَه) : أي قوّاه، وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة.
ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع والمفعول (شطْأه) ، أو بالعكس، لأن كلَّ واحد منهما يقَوِّي الآخر.
وقيل معناه ساواه طولاً، فالفاعل على هذا الشَّطْء، ووَزْن
آزره أفعله، وقيل فاعله.
وقرئ بقصر الهمزة على وزن فَعَله.
(فاستَغْلَظَ) ، أي صار غليظاً.
(فاستَوى على سُوقِه) ، جمع ساق، أي قام الزرع على سوقه.
وقيل كزرع النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج شَطْاه بأبي بكر، فآزرَه بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سُوقه بعلي بن أبي طالب.
(فقال الكافرون) :
أي من قريش، ووضَع الظاهر موضع المضمر لقَصْد ذَمّهم، وانْهمَاكهم في الغيّ، كما قال تعالى: (أولئك هم الكافرون حَقًّا) ، هل ترى كفْرا أعظمَ من تكذيب مَنْ صدقه الله بوَحْيِه ويتعجبوا من إنذاره لهم مع علمهم بصدقه وأمانته.
فإن قلت: عطفه هنا بالفاء بخلاف سورة (ص) بالواو يدلّ على أنها قضيتين؟
والجواب أنَّ آية (ص) إنما وردَتْ مورد الإخبار بمرتكبات من أفعال العرب
وأقوالهم فجيء بتلك الجمل منسوقاً بعضها ببعض، وأخبر تعالى أنهم في عِزّةٍ
وثقاق، وأنهم عجبوا أنْ جاءهم منذر منهم، ولم يكن من الملائكة، وأنهم رموه(3/103)
بالسحر والكذب، وأنهم تعجبوا من جعله الآلهة إلهاً واحداً، وأنهم تمالئوا على قولهم: (امشموا واصْبِروا على آلهتكم) ، فلما قصد هنا الإخبار بجملةٍ
مِنْ مرْتكباتهم جاءت منسوقا بعضها على بعض بالواو التي لا تقتضي ترتيباً ولا تسبباً.
وأما آية (ق) فمقصودٌ بها التعريف، فتعجبهم من البعث الأخْروي
واستبعادهم إياه، ولم يقصد هنا غير هذا، قصده، فربطه بالفاء، أي عجبوا من البعث بعد الموت، فقالوا: كذا، فجيء لكل بما يحرزه.
(فالحامِلاَت وِقْرًا) ، هي السحاب يحمل المطر.
والوقر: الحمل، وهو مفعول به.
(فالجارِيات يُسْرا) :
هي السفن تجري في البحر، وإعرابُ " يسرًا " صفة لمصدر محذوف، ومعناه بسهولة.
(فالمقْسِمَاتِ أمْراً) ، هي الملائكة تقْسم أمورَ الملكوت
من الأرزاق والآجال وغير ذلك.
و (أمْراً) مفعول به.
وقيل: إن الحاملات وِقْراً: السفن.
وقيل جميع الحيوان الحامل.
وقيل: إن (الجاريات يسْراً) السحاب.
وقيل: الجاري من الكواكب، والأول أشهر، لأنه
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) :
هذا قسمٌ أقسم اللَة باسمه، كقوله: (فوَرَبِّك لنَسْألَنَّهمْ أجمعين) .
ولما ذكر الله في هذه الآية رزْقَ عباده، وأنه يوصله لهم، أقسم لهم اطمئناناً
لنفوسهم، ويقسم اللَّهُ في كتابه إما لفضيلة وإما لمنفعة.
وأقسم بنفسه كهذه الآيات، وبفعله مثل: (والسماء وما بناها) ، وما ضاهاها من أفعاله، كقوله تعالى: (والنجم إذا هوى) .
(والطور) . (والتين) . (والليل) .(3/104)
فإن قلت: إن كان القسم لأجل المؤمن فإنه يصدقه بغير قسم، وإن كان
للكافر فإنه لا يصدقه، فما فائدته؟
والجواب أن قسمَه تعالى لإكمالِ الحجة وتأكيدها، والحاكم يقبل الحكم َ
باثنين، إما بالشهادة وإمّا بالقسم، فذكر اللَّهُ القَسم في كتابه كي لا تَبْقَى لهم
حجة على الله، فإنا للَه وإنا إليه راجعون على هذه العقول الخَسيسة، اختارنا من بين جامد وناي، وناطق وصامت، وذلك أنه اختار الناي من الجامد لما كان فيه من الخضرة والزهرة والطيب والمنفعة، ثم اختار الحيوان من الناي لما فيه من الحركة والقوَّة والتصرف والزينة، ثم اختار الناطق من الحيوان لما فيه من الفصاحة والذّلاقة والفِطْنَة والبصيرة، ثم أختار الممتحن من الناطق لما أفادهم من العلم والحجة والدعوة والشريعة، ثم اختار المؤمن من الممتحن لما آتاه الله من المعرفة والهِدَاية والتوحيد والشهادة، ثم اختار المحب بالثناء والبشارة والمحبة، قال تعالى: (التًائِبون الْعَابدون الْحَامِدون) .
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
واصطفاك يا محمدي لوَحْيه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنَا الكتابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عبادنا) .
فأنت مختار المختار، ووعدَك برزقه كي تتفرغ لخدمته، وضَمِنه لك ولم تَثِقْ بضمانه حتى أقسم لك به، فأعرضْتَ عن هذا كله، واشتغلت بالمعاصي والفجور عن طاعته، أما علمت أنَّ زلَّة الوزير ليست كزلَّةِ العامّة، يعْصِي الوزير فيضرب رَقبته، ويعصي أحَد العامة فلا يُلتفت إليه، أليس من الغبْنِ العظيم والرزء الجسيم - أنك تثق بمخلوق مثلك، يقول لك: غذاؤك اليوم والعشاء عليَّ فلا تدَبّر معه، وتَثِق بقوله، ولا تثق بقول أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين! وأعظم من هذا أنْ لو قاله لك يهودي أو نصراني لوثقت بقوله، ولم تَثِقْ بإلهك الذي خلقك وصوّرك ووعدك، ورَضِي الله عن الإمام علي في قوله:
اتطْلُب رِزْق الله مِنْ عند غيره ... وتصْبح من خوف العواقب آمنا
وترضى بطرف وإن كان مشركاً ... ضَمِيناً ولا ترْضى بربك ضامنا(3/105)
قال بعضهم: نبشت على أكثر من سبعين فوجدت وجوهَهم محوَّلة عن القِبْلة، وذلك اتهامهم ربّهم.
اللهم ارحمنا إذا صرْنا إليك.
(فقالوا سلاَماً) :
نصب على أنه في معنى الطلب، وهو مفعول بفعل مضمر.
وموقع الثاني مرفوع لأنه خبر تقديره: عليكم سلام، وهذا
على أن يكون السلام بمعنى السلامة، وإن كان بمعنى التحية فإنه رفع الثاني ليدلّ على إثبات السلام، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيَّوْه، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية، تقديره سلمنا عليكم سلاماً، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره سلام عليكم.
(فتَوَلَّى بركْنِه) ، أي أعرض فرعون عن الإيمان، واستمسك بقوته وسلطانه، وقال: موسى ساحر أو مجنون.
(فأخذَتْهُم الصاعِقةُ وهم يَنْظُرون) ، لأنها كانت بالنهار، زيادةً في نكالهم، إذ ليس الموت صَبْراً كالغِيْلةِ.
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) :
أمر الله في هذه الآية بالإيمان به والدخول في طاعته، وعبَّر عن الأمر بذلك بلفظ الفِرَار، لينَبه على أن وراء الناس عقاباً وعذابا أليماً حَقُّه أن يُفَرّ عنه إن لم يُفَر منه طوْعاً يفر منه خوفاً، ونحن لم نفر منه لا طوعا ولا خوفاً، ولو علمنا ما تحت هذه الكلمة من التحذير والاستدعاء لم يهدأ رَوعنا، ألاَ تراه كرَّره للإبلاع وهزّ النفس للتشمير.
وتحكيم التحذير، وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بقرينة
شدة الصوت، لكن الجاهل ضعيف الاستخراج، فيا لها من مصيبة لو عقلها
العاقلُ.
(فإنَّ للذِين ظَلموا) :
هم كفار قريش وأصحابهم ممن تقدم من الكفار، يعني أن لهم نصيبا من العذاب.(3/106)
(فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) :
أي المغلوبون في الكيد.
ويعني مَنْ تقدم الكلام عليهم وهم قريش، فوضع الظاهر موضع المضمر.
(فبأيِّ آلاءَ رَبِّكَ تتَمارى) :
هذه مخاطبة الإنسان على الإطلاق، يعني بأي نِعَمِ ربك تشكّ، وقد منّ عليكَ، وجعل رَحِمَ أمِّكَ سكنَك، والأرضَ مِهادك، والشمسَ سِرَاجك، والإسلام خلقتك، ومحمد نبيك، والكعبة قِبْلتك، والجنةَ منزلك، والنارَ سِجْن أعدائك، والملائكة خدامك، والشيطانَ حِبَالَ عِصْيانك، والعقل والفَهْم والانتباه خصالك، فما لك أعرضْتَ عنا وتركت الالتفات إلينا! أهكذا معاملتك معنا! بئس العبد، لنعم الرب.
(فما تغْنِ النّذر) ، بمعنى الاستبعاد والإنكار.
(فتَوَلَّ عنهم) : لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم، وأمره بالإعراض عنهم لمّا لم يَقْبَلوا كلامَه.
وفيه إشارة إلى أن مَنْ لم يقبل الإنذارَ يُعرض الله عنه، وإذا أعرض عنك أيها الأخ كيف يكون حالك؟!
(فكذبوا عَبْدَنا) ، يعني محمداً عبدنا، فما أشرفها من إضافة
لأنه قرنه بنون العظمة.
(فكيف كان عَذَابي ونذُر) :
توقيف فيه تذكير لقريش.
والنّذُر: جمع نذير.
(فتعَاطى فَعَقَر) ، أي اجْتَرأ على أمرٍ عظيم، وهو عَقْر الناقة.
وقيل: تعاطي السيف.
(فبأَيِّ آلاءِ رَبِّكما تكذِّبَان) وما بعدها،:
الآلاء: هي النعم، واحدها إلَى على وَزْن فعًى.
وقيل ألاً على وزن فعاً، وقيل غَيْر هذا.
والخطاب للثَّقَلين: الإنس والجن، بدليل قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
وروي أنه لما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات سكت أصحابه، فقال:(3/107)
إن جواب الجن خَيْر من سكوتكم، إني لما قرأتها عليهم قالوا: لا تكذب بشيء من آلاء رَبِّنا.
وكرر هذه الآية تأكيداً ومبالغة.
وقيل: إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبلها، فليس بتأكيد: لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات.
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) :
قد قدمنا أن السؤال المنفي هنا على وَجْه الاستخبار وطلب الصرفة، إذ لا يحتاج إلى ذلك، وأَما السؤال فلا بد منه، قال تعالى: (فورَبِّكَ لنَسْألنَّهمْ أجْمَعين) .
وأحوال القيامة مختلفة على حسب الخلق.
(فاكهةِ زَوْجَان) .
أي من كل ما يتفَكَّه به نوعان، بخلاف الدنيا، وإنما جعل ما فيها أنموذج على ما في الجنة لا أنه مثلها.
(فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) :
الضمير للمأكول ووزن الهيم فعل، بضم الفاء، وكسرت الهاء لأجل الياء، وهو جمع أهيم، وهو الْجَمل الذي أصابه الْهُيَام بضم الهاء، وهو داء معطش يشرب منه الْجَمَل حتى يموت أو يسقم، والأنثى هَيْماء.
وقيل: هو جمع هائم وهائمة.
وقيل: الهيم: الرمال التي لا ترى من الماء، وهو على هذا جمع هَيام بفتح الهاء.
وقرِئ شُرب بضم الشين، واختلف هل هو مصدر أو اسم للمشروب.
وقرئ بالفتح، وهو مصدر.
فإن قلت: كيف عطف قوله: (فشاربون) على (شاربون) ، ومعناهما واحد؟
فالجواب أنَّ المعنى مختلف، لأن الأول يَقْتَضِي الشرب مطلقاً، والآخر
يقْتَضِي الشرب الكثير المشبه لشرْبِ الهِيم.
(فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) :
تحضيض على التصديق.
إمَّا بالخالق تعالى، وإما بالبعث، لأنَّ الخلقة الأولى دليل عليه.(3/108)
(فلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ) :
تحضيض على التذكّر والاستدلال بالنَّشْأة الأولى على النَّشأةِ الآخرة.
وفي هذا دليل على صحةِ القياس.
(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) :
لولا هنا عرض، والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس، لأن سياقَ الكلام يقتضي ذلك، وبُلوغها الحلقوم حين الموت، والفعلُ الذي دخلت عليه " لولا " هو قوله:
(تَرْجِعونَها) ، أي هلاَّ ردَدْتم النفس حين الموت.
ومعنى الآية: احتجاجٌ على البشر، وإظهارٌ لعجزهم، فإنهم إذا حضر
أَحدَهم الموتُ لم يقدروا أن يردّوا رُوحَه إلى جسده، وذلك دليلٌ على أنهم
مقهورون تحت قدْرته، (وهو القاهِر فوق عباده) ، والمقهور لا يقدر على شيء، وذلك أشدُّ لحسرته.
(فَسَلاَم لكَ مِنْ أصحابِ الْيَمِين) :
معنى هذا على الجملة نجاة أصحابِ اليمين وسعادتهم.
والسلامُ هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية.
والخطابُ في ذلك يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأصْحَابِ اليمين.
فإنْ كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالسلام بمعنى السلامة.
والمعنى سلامٌ لك يا محمد منهم، أي لا ترى فيهم إلا السلامة من العذاب.
وإن كان الخطابُ لأصحاب اليمين فالسلام بمعنى التحية.
والمعنى سلام لكَ، أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك، وهم أصحاب اليمين، أي يسلِّمون عليك فهو كقوله: (إلا قِيلاً سَلاماً سلاماً) .
أو يكون السلام بمعنى السلامة، والتقدير سلامة لك يا صاحبَ اليمين، ثم يكون قوله: (مِن أصْحَاب اليمين) - خَبر ابتداء مضمر، تقديره أنت من أصحاب اليمين.
فهنيئاً لكَ يا محمديُّ بما منحكَ اللَّهُ من هذه التحية التي حيَّا بها أنبياءَه
وأصفياءَه في قوله لنوح: (اهبِطْ بسلامٍ منَّا) .
ولإبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) .
حياك في الدنيا بقوله: (وسَلامٌ على عباده الذين اصْطَفى) .(3/109)
وفي الآخرة يأتيك الملكُ بكتابِ منه: أمّا بعد السلام عليك فزرنا، لأنا اشتقنا لكَ، لا رَاعَى الله مَن لا يرَاعي الذَمم.
(فَسبِّحْ باسْمِ رَبِّك العَظيم) :
لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم.
فلما نزلت: (سَبّح اسْمَ رَبِّكَ الأعلى) قال: اجعلوها في سجودكم.
فلذلك استحبَّ مالك وغيره في السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع سبحان ربي العظيم، وأوجبها الظاهرية.
ويحتمل أن يكون المعنى سبَح اللهَ بذكر أسمائه، والاسم هنا جنس الأسماء.
والعظيم صفةٌ للرب، أو يكون الاسم هنا واحداً، والعظيم صفة له، وكأنه أمره أن يسبِّحَ باسمه الأعظم، ويؤيِّد هذا ويشير إليه اتصالُ سورةِ الحديد بها، وفي أولها التسبيح، وجعله من صفات اللهِ وأسمائه.
وقد قال ابن عباس: اسْم الله الأعظم موجودٌ في ست آيات من أول سورة الحديد.
ورُوي أنَّ الدعاءَ بعد قراءتها مستجاب.
(فالذِين آمَنوا منكم وأنْفَقوا لهُمْ أجْرٌ كَبِير) :
نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهَّز جَيْش العُسْرة يومئذ.
ولفْظ الآيةِ مع ذلك عامّ، وحكمها باق لكل من أنفق في سبيل الله وطاعته، ويدخل فيه النفقة على العِيال بنيَّة تعفُّفهم وإعانتهم، بل هي من أعظم النفقات للحديث: " دِرْهم يُنفقه أحدُكم على أهله خير من ألْف ينفقها في سبيل الله ".
(فطَالَ عليهم الأمَدُ) :
أي مدة الحياة وقيل انتظار القيامة.
وقيل انتظار الفتح.
والأول أظهر.
(فمنهم مهْتَدٍ) :
قد قدمنا أن الضمير راجع لذرية نوح وإبراهيم لتقدم ذكرهها، ولأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.
(فافْسَحُوا) :
هو التوسع دون القيام، لأنه منهيٌّ عنه للحديث: " لا يقم أحدكم من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه، ولكن توسَّعوا وتفَسَّحوا ".
واختلف: هل هذا النهي محول على التحريم أو الكراهية،(3/110)
ْ (فَانْشزوا) ، أي ارتفعوا.
واختلف في هذا النشوز المأمور به، فقيل: إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة.
وقيل: إذا أمروا بالقيام مِنْ مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان يحبُّ الانفرادَ أحياناً، وربما جلس قوم حتى يُؤْمَروا بالقيام، ولهذا أخبر اللَّهُ أنَّ جلوسهم (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) .
(فَبَايعْهُنَّ) :
الضمير يعود على النساء اللواتي بايَعْنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثاني يوم الفتح على جبل الصَّفَا، وبايعهنَّ بالكلام، ولا تمس يده يدَ
امرأة.
وقيل: إنه غمس يَدَه في الماء ودفعه إلى النساء، وغمس أيديهن فيه.
وروي أنه لما بايعهنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المبايعة فقرَّرَهنَ على ألاَّ يسرِقْنَ، قالت هند بنت عتبة، وهي امرأة أبي سفيان بن حرب: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شَحِيح، فهل عليَّ إن أخذتُ من ماله بغير إذنه، قال: خُذِي ما يكفيك ووَلدك بالمعروف، فلما قَرَّرهن على ألا يَزْنين قالت هند: يا رسول الله، أتزني الحرة، فقال عليه السلام: لا تزني الحرة - يعني في غالب الأمر، وذلك أن الزني في قريش إنما كان في الإمَاء.
فلما قال: (ولا يَقْتُلْنَ أولادهن) قالت: رَبّيْناهم صغاراً وقتَلْتَهم أنت ببَدْر كباراً، فتبسم - صلى الله عليه وسلم -، فلما وقفهن على ألاَّ يعصينه في
معروف قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أنْ نعصيك.
وهذه المبايعة للنساء إنما كانت في ذلك اليوم، ولا يعمل بها اليوم، لإجماع العلماء على أنه ليس على الإمام انْ يشترط عليهن هذا.
فإمَّا أنْ تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ، أو يكون ترك هذه الشروط، لأنها قد تقررت وعُلمت من الشريعة فلا حاجة إلى اشتراطها.
(فلما جاءَهُم بالبَينَاتِ) :
يحتمل أن يريد عيسى أو محمد - صلى الله عليهما وسلم.
ويؤيدُ الأولَ اتصاله بما قبله.
ويؤيد الثاني: (وهو يُدْعَى إلى الإسلام) ، لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد - صلى الله عليه وسلم.
(فأصبَحُوا ظَاهِرين) :
قيل إنهم ظهروا بالحجة.(3/111)
وقيل غلبوا الكفار بالقَتْل بعد رَفع عيسى عليه السلام.
وقيل: إنَّ ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد - صلى الله عليه وسلم -
(فقالوا أبَشَر يَهْدونَنا) :
استبعدوا أن يرْسل الله بشراً، أو تكبَروا عن اتباع بَشر.
والبشر يقع على الواحد والجماعة.
(فإذَا بلَغْنَ أَجلَهنَّ فأمْسكوهنَّ بمعروف أو فَارِقوهنَّ بمعروف) :
يعني في أداء الصدَاق والإتباع حين الطلاق.
وبلوغ الأجل خطابٌ بآخر العدة.
والإمساك بمعروف هو تحسين العشرة وتَوْفِية النفقة.
فإن قلت: ما الحكمة في تعبيره في آية البقرة بالسراح في مكان الفراق هنا؟
والجواب لاكتناف آية البقرة النهي عن مضارَّة النساء وتحريم أخْذ شيء منهن
ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ألاَّ يقما حدودَ الله، فلما اكتنفها ما ذُكر
واتْبع ذلك بالمنع عن عَضْلِهنَّ، وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن
والإحسان إليهن حالَي الاتصال والانفصال لم يكن لينَاسِبها - قصد من هذا أن يعبّر بلفظ: (أو فارقوهن) ، لأن لفظ الفراق أقرب إلى الإساءة منه إلى
الإحسان، فعوَّل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة، وهو لفظ
التسريح.
فقال تعالى: (فأمْسِكوهنَّ بمعروفٍ أوْ سرحوهن بمعروف) ، وليجري مع ما تقدم من قوله تعالى: (الطلاق مرَّتَان فإمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان) .
وقيل هنا: بإحسان، ليناسب به تعالى المذكور من قوله: (أو تسريح) .
وقد رُوعي في هذه الآي كلِّها مقصد التلطّف، وتحسين الحال في الصحبة والافتراق، ولما لم يكن في سورة الطلاق تعرّض لعَضْل، ولا ذِكْر مضارة - لم يذكر، وورد التعبير بلفظ: (أو فارقوهنَّ) ، على الانفصال، ووقع الاكتفاء فما يراد من المجاملة في الحالين بقوله: معروف، وبانَ افتراق القِصتين في السورتين، وورود كل من العبارتين على ما يجب.
(فأنْفِقوا عليهنَّ حتى يضَعْنَ حَمْلهن) :
اتفق العلماء على وجوب النفقة للمطلقة الحامل، عملاً بهذه الآية، إذَا كان الطلاق رجْعِيًّا.(3/112)
وإن كان بائناً فاختلفوا في نَفَقتها.
وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقة.
وقال قوم: لها النفقة في التركة.
(فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) :
هو أبو بكر الصديق على قول مَنْ قال إنه مفرد.
وقيل علي بن أبي طالب.
وعلى القول بأنه جمع محذوف النون للإضافة فهو على العموم في كلِّ صالح.
والخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني إن تعاونتما عليه بما يسوؤه من إفراط الغيرة وإفشاء سره ونحو ذلك فإنَّ له مَنْ ينصره.
ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم فيوقف على (مولاه) ، ويكون (جبريل) مبتدأ و (ظهير) خبره وخَبَر ما عطف عليه.
ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون (جبريل) معطوفاً، فيوصل مع ما قبله، ويوقَف على (صالح المؤمنين) ، ويكون (الملائكة) مبتدأ
و (ظهير) خبره.
وهذا أرجح وأظهر لوجهين:
أحدهما: أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتشريفٌ له.
وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غيره، لأنَّ اللهَ مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزيّة له.
والوجه الثاني: أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما يشقّ عليك من أمْرِ النساء، فإن كنْتَ طلقتَهنَّ فإن الله معك وملائكته، وجبريل معك، وأبو بكر معك، وأنا معك، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، فقوله: معك يقتضي معنى النصرة.
وقد أفرد جماعة ٌ من العلماء تصنيف ما نزل من القرآن على لسان بعض
الصحابة.
والأصل فيه موافقاث عمر، وقوله رضي الله عنه: وافقت ربي، ووافقني في أربع مرات: في الحجاب.وفي أسارى بَدْر. وفي مقام إبراهيم.(3/113)
وفي قوله: (ولقد خلقنا الإنسانَ من سُلاَلةٍ من طين) .
لما نزلت قلت أنا: (فتبارك الله أحسن الخالقين) ، فنزلت كذلك.
وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقِي عُمر بن الخطاب فقال:
إن جبريل الذي يَذْكره صاحبُك عدوٌّ لنا.
فقال عمر: مَنْ كان عدوًّا للَه وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإنَّ الله عدو للكافرين، فنزلت كذلك.
وأخرج الترمذي، عن ابن عُمر - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله جعل الحقً على لسان عمر وقَلْبه ".
قال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلاَّ نزل القرآنُ على نحو ما قال عمر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لما أبطأ على الناس الخبر في أحُد خرجن يستخبرن فإذا رجلان مُقْبلان على بعير، فقالت امرأة: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالا: حَيٌّ.
قالت: فلا أبالي، يتخذ الله من عباده الشهداء، فنزل قوله تعالى: (ويَتَّخذَ منكم شهَداء) .
(فلَمَّا رَأوه زُلْفةً) :
أي قريباً، وضمير الفاعل للكفار، والمفعول للعذاب.
(فطافَ عَلَيْهَا طائِف) :
الطائف: الأمر الذي يأتي بالليل.
(فتَنَادَوْا مُصْبِحين) :
أي نادَى بعضهم بعضاً حين أصبحوا، وقال بعضهم لبعض: اغدوا على حَرْثكم، فلما لم يعرفوها ورأوا ما أصابها قالوا: (بل نحن محرومون) ، أي حَرمنا الله خيرها، فقال أوسطهم، وهو أفضلهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) .
وهو عبارة عن طاعة الله وتعظيمه.
وقيل: أراد الاستثناء في اليمين، كقوله: إن شاء الله.
والأول أظهر، لقولهم بعد ذلك: (سبحان ربِّنا إنَّا كُنَّا ظالمين) (فأقْبل بعضُهم على بعض يتَلاَوَمُون) : أي يلوم بعضهم بعضاً على ما كانوا عزموا عليه من مَنعْ المساكين، أو على غَفْلتهم عن التسبيح.(3/114)
فإن قلت: ما معنى عطفه هنا بالفاء، وفي الثانية من سورة الصافات.
بخلاف الأولى؟
والجواب أن هذه الآية من كلام أهل صنعاء لما رأوا جتتهم محرقة وندموا
على ما كان منهم وجعلوا يقولون: (سُبْحَانَ رَبِّنَا) ، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) .
وأما عطف أولى الصافات بالواو فلأنه عطف جملة على جملة فحسب، وعطف الآية بعدها بالفاء، لأنه عطف جملة على جملة بينهما مناسبة والتئام، لأنه حكى أحوالَ أهْل الجنة ومذاكرتهم فيها، وما جرَى بينهم في الدنيا وبيْن أصدقائهم، وهو قوله: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) .
(فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) ، أى ثمانية أملاك، والمراد بالفوقية
أنهم - يزادون يوم القيامة أربعة، لأنهم اليوم أربعة رؤوسهم عند العرش، وأرجلهم تحت الأرض السابعة.
وقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحدٌ عدتهم.
والأول أصح لوروده في الحديث.
(فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) :
أي يتمنى أنه لا يُعْطَى كتابه.
وقال ابن عطية: يتمنى أن يَكون معدوماً لا يَجْرِى عليه شيء.
والأول أظهر.
(فَصِيلتِه التي تُؤْوِيه) ، أي تَضُمُّه، فيحتمل أن يريد تضمّه في الانتماء إليها، أو في نُصرته وحِفْظه من المضرات.
(فَأُدْخِلُوا نَارًا) :
يعني جهنم، وعَبَّر عن ذلك بالفعل الماضي، لأنَّ الأمر محقق وقيل: أراد عَرْضَهم على النار، وعَبَّر عنه بالإدخال.
(فاجراً) : مائلاً عن الحق.
وأصل الفجور الميل.
(فزَادُوهم رَهَقاً) :
ضمير الفاعل للجن، وضمير المفعول للإنس.(3/115)
والمعنى أنَّ الجن زادوا الإنس ضلالأ أو إثما لما عاذوا بهم، أو زَادُوهم
تخويفاً لما رأوا ضعْفَ عقولهم.
وقيل ضمير الفاعل للإنس، وضمير المفعول للجن، والمعنى أن الإنسَ زَادوا الجنّ تكبُّراً لَمّا عاذوا بهم، حتى كأن الجني يقول أَنا سيد الجن والإنس.
(فَمنْ يَسْتَمِع الآنَ) ، أي وقت استراقه.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) .
قد قدمنا أن الرصد اسم جمع للواحد كالحرس للحراس، ومعنى الآية: أنَّ الله يسلك من بين يدي الرسول ومِنْ خلفه ملائكة يكونون رَصدا يحفظونه من الشياطين.
قال بعضهم، ما بعث اللَّهُ رسولا إلا ومعه ملائكةٌ يحرسونه حتى يبلِّغَ رسالةَ
ربه.
وإذا كان الله يحفظ غَيْرَ الرسل فما بالك بهم.
وتأمل حكاية َ الشيطان الذي أتى لوسوسة القائم الذي كان في المسجد يصلّي فلم يقدر على الدخول، فقال أخوه من الشياطين: ما بالُك لا تدخل إليه، فقال: نفس النائم منعني من توسوس القائم، وكان النائم إبراهيم بن أدهم.
(فقُتِل كيف قَدَّر) :
دعاءٌ على الوليد بن المغيرة، وذَمٌّ لحاله، وكرره تأكيداً.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مقتضاه بزَعْمِه الأول
حين أعجبه القرآن، فيكون قوله: (قُتِل) لا يُرَادُ به الدعاء عليه، وإنما هو
كقولهم: قاتل اللهُ فلاناً ما أشجعه! يريدون التعجبَ من حاله واستعظامَ وصفه.
وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون ثناء عليه على طريقة الاستهزاء، أو حكاية لقول قريش تهكماً به.
فإنْ قُلْتَ: ما معنى (ثُم) الداخلة في تكرير الدعاء؟
قلت: الدلالة على أنَّ المرة الثانية أبلغُ من الأولى، ونحوه قوله:
ألاَ يا اسلمي ثم اسْلَمي. . .
فإن قلت: فما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟(3/116)
قلت: الدلالة على أنه قد تأتي في التأمُّل والتمهل، وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد.
فإن قلت: فلم عطف فقال بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟
قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يلبث أن نطق بها من غير
لبْث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟
قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مَجْرى التوكيد من المؤكد.
(فمَنْ شاء ذَكَره) :
فاعل شاء ضمير يعود على مَنْ.
وفي ذلك حَفْز وترغيب.
وقيل الفاعل هو الله.
ثم قَيَّد فعلَ العبد بمشيئة الله.
(فاقِرَةٌ) ، أي مصيبة قاصمة الظَّهْر، تقول: فقرتُ
الرجل، إذا كسرت فقَارَه، كما تقول: رأسْتُه، إذا ضرَبْت رأسه.
(فأوْلَى) :
قد قدمنا في مواضع أنه كرّرَ ذلك تأكيداً، وأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لبَّبَ أبا جهل، وقال: إن اللهَ يقول لكَ: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) .
فنزل القرآن بموافقة ذلك.
(فالعاصِفَاتِ عَصْفاً) :
هي الملائكة، لأنهم يعصفون كما تعصفُ الرياح في سرعة مُضِيهم إلى امتثال أوأمرِ اللَهِ.
وقيل: الرياح، لقوله: ريح عاصف.
(فالفَارِقَاتِ فَرْقأ) :
قيل الملائكة لأنهم يفرقون بين الحق والباطل.
وقيل الرياح، لأنها تفرق السحاب، ومنه: (ويجعله كِسَفاً) .
(فالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً) :
هم الملائكة، لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم السلام.
والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح، لأن وَصْف
الرياح بالعصف حقيقة.
والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة،(3/117)
لأنَّ الوصف في الفارقات أليق بهم من الرياح، ولأن الْمُلْقيات المذكورة بعدها هي الملائكة، ولم يقل أحَدٌ إنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء، فقال، والمرسلات، فالعاصفات، ثم عطف على ما ليس مِنْ جنسها بالواو، فقال: والناشرات، ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء.
وقيل في الْمُرْسلاَت والْمُلْقِيات إنهم الأنبياء عليهم السلام.
فإن قلت: هل يصحُّ قولُ القائل إن الْمرْسلات الرياح لمعنى قوله: عُرْفاً؟
والجواب أنَّ معنى عُرْفاً على كلّ قَوْل -: فَضْلا وإنعاماً، وانتصابُه على أنه
مفعول من أجله، وقيل معناه متتابعة، وهو مصدرٌ في موضع الحال.
وأما عَصْفاً ونَشْراً وفَرْقاً فمصادِر.
وأما ذِكْراً فمفعول به.
(فإنْ كانَ لكمْ كَيْدٌ فَكِيدون) :
تعجيز وتعريض بكَيْدِهم بالدنيا، وتقْريع عليهم، كَقول نوح: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) .
وكقول موسى: (فأجْمِعوا كَيْدَكم ثم ائْتوا صَفًّا) .
(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) :
قيل إنها الملائكة، سمّاهم اللَه نازعات، لأنهم ينزعون نفوسَ بني آدم من أجسادها، وناشطات، لأنهم ينشطونها، أي يخرجونها، فهو من قولك: نشطت الدّلْوَ من البئر، إذا أخرجتَها.
وسابحات، لأنهم يسبحون في سيرهم، أي يسرعون فيسبقون فيدبّرون
أمورَ العباد والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمُرهم الله.
وقيل: إنها النجوم، وسماها نازعات، لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب.
وناشطات لأنها تنشط من بُرج إلى برج، وسابحات لأنها تسبَح في الفلك، ومنه: (كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحون) ، فتسْبق في جَرْيها، فتدبِّر أمْراً من علم الحساب.
(فالْمُدَبرَاتِ أمرًا) :
قال ابن عطية: لا أعلم خلافًا أنها ْ الملائكة، وحُكي فيها القولانِ، كما تقدم.(3/118)
فإن قلت: ما معنى (غَرْقاً) على القولين، وأين جواب القسم؟
فالجواب إنْ قلنا إن النازعات الملائكةُ ففي معنى غَرْقاً وجهان:
أحدهما أنه من الغرق، أي تُغْرِق الكفَّار في جهنم.
والآخر أنه من الإغراق بمعنى المبالغة فيه، أي تُبالغ في نَزْعِ النفوس حتى تُخْرِجها من أقاصي الأجساد.
وإن قلنا إن النازعات النجوم فهو من الإغراق بمعنى المبالغة، أي تبالغ في نُزوعها، فتقطع الفَلَكَ كله.
وإن قلنا إنها النفوس فهو أيضاً من الإغراق، أي تُغْرِق في الخروج
من الجسد.
وإعراب (غَرْقا) المصدر في موضع الحال.
ونَشْطاً وَسبْقاً وسبْحاً مصادر، و (أمرًا) مفعول به.
وجواب القسم محذوف، وهو بَعْثُ الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذِكْر
القيامة.
وقيل الجواب: (يوم تَرْجُفُ الراجفةُ. تَتْبَعُها الرادِفَةُ) .
على تقدير حَذْف لام التوكيد.
وقيل: هو: (إن في ذلك لعبْرَةً لمَنْ يَخْشَى) ، وهذا بعيد لبُعْدِه من القسم، ولأنه إشارة إلى قصةِ فرعون لا لمعنى القسم.
(فإنَّما هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة) :
هذا من كلام الله ردًّا على الذين أنكروا البَعْث، كأنه يقول: لا تظنّوا أنه صعب على الله، َ بل هو عليه يسير.
(فإذا هُمْ بالساهرة) .
أي وجه الأرض، والباء ظرفية، وإذا فجائية، والمعنى إذا نفخ في الصُّور حصلوا بالأرض أسرع شيء.
(فحَشر فنَادَى. فقال أنا رَتكُم الأعْلَى) .
يعني أن فرعون جمعَ جنُودَه، ونادى قومه، وقال لهم ما قال.
ويحتمل أنه أمر مَن يُنَاديهم.
والأول أظهر، لأنه روي أنه قام فيهم خطيباً.
(فَسَوَّاها) :
الضمير يعود على السماء، أي أتقَن خلقتها.
وقيل: جعلها مستويةً، ليس فيها مرتفع ولا منخفض.(3/119)
(فإذا جاءت الطامّة الكبرَى) .، هذا أحد أسماء يوم القيامة، وقد سماه الله في كتابه بثلاثين اسما لعظمه:
يوم الآزِفَة.
ويوم التلاق.
ويوم التناد.
ويوم التغَابن.
ويوم الثبور.
ويوم الْجَمع.
ويوم الحق.
ويوم الخصومة.
ويوم الدين.
ويوم الراجفة.
ويوم الزلزلة.
ويوم الشفاعة.
ويوم الصاخَّة.
ويوم عظيم.
ويوم عَبوس.
ويوم العُسْر.
ويوم الفارقة.
ويوم القَمْطَرِير.
ويوم الفَصْل.
ويوم القيامة.
ويوم النّفخ.
ويوم الوَعيد.
واليوم الموعود.
ويوم القارعة.
ويوم الواقِعة.
واليوم المشهود.
ويوم الحاقة.
ويوم النُّشور.
يخرجون من الأجداث كأنهم جَراد منْتشر، يكشف للمرء ما أخفاه، ويتذكر حينئذ غَفْلته وهواه، فإنا للَه وإنا إليه راجعون على غفلتنا على ما يراد بنا! يقول الله تعالى في بعض كتبه:
" عَبْدي أعطيتُك منية المرضى، وأهل السجون، وأهل القبور، وأهل
النشور، وأهل الجِنَان، وأهل النيران، فما لك لا تغتنم ساعتَكَ التي أنْتَ فيها، ألم تعلم أنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً طلبه، ومَنْ طلب شيئاً وجده، ومَن خاف من شيء هرب منه، ومَنْ أراد سفرًا اهتمّ له، ومنْ أحبَّ اللحوق بقوم اقتدى بفعالهم وسلك سبيلهم، ومَنْ فضل قوماً بالعلم يحق أن يفضلهم بالعمل، فليكن الغالب مِن همومك هَمَّ المَعَاد والتزوّد له، والغالب مِنْ كلامك ذكر الموت والاستعداد له، فهو أشدُّ شيء نزل بك قط، وأهونُ شيء فيما بعده، لأن بعده سبعين هَوْلاً، كلّ هَوْل أشدّ من الموت، فلا يستتبعك الشيطان في الدنيا، والمنافقون في الآخرة.
فإن قلت: لِمَ خُصَّت النازعات باسم الطامَّة، وعبس باسم الصاخَّة، مع أنهما شيء واحد؟
فالجواب أن اسمَ الطامّة أرهب وأنْبَأ بأهوال القيامة، لأنها من قولهم: طَمَّ
السيل، إذا علا وغلب.
وأما الصاخَّة فالصيحة الشديدة، من قولهم صخَّ بأذنيْه
مثل أصاخ، فاستُعير على أسماء القيامة مجازاً، لأن الناس يصيخون لها، فلما كانت الطامّة أبلغ في الإشارة إلى أهوالها خصّ بها أبلغُ السورتين في التخويف والإنذار.(3/120)
وعلى ذلك بنيت سورة " النازعات "، ألا ترى قوله: (يوم تَرْجف الراجفة.
تتبعها الرادفة) .
ووصف الطامة الكبرى، وما أتْبع به بَعْدُ.
وابتداء السورة وختامها قَبْلها تخويف وترهيب، فناسبها أشدّ العبارتين موقعاً، وأرهبها.
وأما سورة عبس فلم تبْن على ذلك الغرض، وإنما ئنيت على قصة عبد اللَه ابن أم مكتوم الأعمى.
وذلك مشهور، ثم ورد قوله: (فإذا جاءت الصاخّة) عَقِب التذكير
بقوله: (إنها تَذْكِرَة) ، والتذكير للاعتبار بقوله: (فلْيَنْظُر الإنسان إلى طعامه) ، إلى قوله: (مَتَاعاً لكم ولأنعامكم) .
ثم أتبع بعد ذكر الصاخة بقوله: (وجوه يَوْمَئِذ مسْفِرَةٌ. ضاحكةٌ مستبْشرة) .
فسورةُ النازعات على الجملة أشدّ في التخويف والترهيب، فناسبَها أبلغ العبارتين من أسماء القيامة.
وقيل: إنما خُصَّت النازعات بالطامّة، لأن الطمَّ قبل الصخ، وهو الصوت
الشديد والفَزع قَبْل الصوت، فكانت هي السابقة.
وخصَّت سورة " عبس " بالصاخّة، لأنها بعده وهي اللاحقة.
(فليَنْظر الإنسانُ إلى طَعَامه) :
أمر بالاعتبار في الطعام، كيف خلقه اللَّهُ بقدرته، ويَسَّرَه برحمته، فوجب على العبد طاعته وشكره.
وتقبح معصيته والكفر به.
وقيل: فلْيَنْظر الإنسان إلى طعامه كيف يَصير، فيَزْهَد في دنْيا هذه حالها، ولا يرغب في لذّاتها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: ما طعامك.
قال: اللحم واللبن.
قال: فإلى ماذا يَصِير، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يشبع من خُبز الشعير زُهْداً فيها.
قال يحيى بن سلام: بعد أن ذكر اللَّهُ زواجرَ الكفَّار استأنف
ضَرْبَ المثل لأهل الإيمان، ليزدادوا اعتباراً بقوله: (فلينظر الإنسانُ إلى طعامه) الذي يحيا به ويأكله، من أي شيء كان "، ثم صار بعد حفظه ابن آدم، وهو الجسد.
قال الحسن: ملك يميل رقبة ابن آدم حين يجلس.
وقيل: فلينظر الإنسان إلى طعامه ويفكّر فيما هيّأه من سماءٍ وأرض، وماء وحَرّ وبرد ونحْوها، وآلة عديدة، وأسنان، منها كاسرة وطاحنة، بريق حُلو لذَوْقِه وَصَوْغه وقوة(3/121)
هاضمة، ودافعة، وإذا استوى طعامُه بحرارة كبده ونحوه أعطى اللهُ تعالى لكل
جُزْء وشعرة نصيبا.
(فأقْبَره) .
أي جعله ذَا قَبْر، يقال: قبرت الميت إذا دفَنْته، وأقبرته إذا أمرت أن يُدْفَن.
(فلْيَتنافَسِ المتَنَافِسون) :
التنافس في الشيء هو الرغبةُ فيه، والمغالاة في طلبه، والتزاحمُ عليه، وهذا كقوله: (لمِثْلِ هذَا فلْيَعْمَل العامِلُون) ، فسبحان من جذب عباده إليه تارةً بذكر نعيمه، وتارة بالتخويف من عذابه، وتارةً بإحسانه إليهم لعلهم يرجعون إليه، لم يَكفه ما أعطاهم من رياسة الدنيا، وتسخير المخلوقات لهم حتى وعدهم بالملك العظيم، والفَوْز المقيم، والرضوان الجسيم، ورؤيتُه تعالى أعظم من هذا كله.
(فالْيَوْمَ الذين آمَنُوا من الكفَّار يَضْحَكُون) :
لما كان الكفار في الدنيا يضحكون على المؤمنين قلب الله الحقائق، فيضحك المؤمنون من الكفار حينئذ ويقولون لهم: (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) .
(اصْلَوْها اليوم بما كنتم تكفرون) .
(فلا أقْسِم بالشَّفَق) .
هو الحمرة التي تَبقى بعد غروب الشمس.
وقال أبو حنيفة: هو البياض.
وقيل: هو النهار كله.
والأول هو المعروف عند الفقهاء وأهل اللغة.
(فمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُون) :
أيُّ شيء يمنع الكفار من الإيمان بعد رؤيتهم هذه العِبَر.
(فبَشرْهُم بعذَابٍ أليم) :
وضع البشارة موضع النذارة تهكماً بهم.
(فَتَنُوا المؤمنينَ والمؤمناتِ) :
إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنةُ هنا بمعنى الإحراق، وإن كانت في كفَّار قريش(3/122)
فالفتْنة بمعنى الفتنة والتعذيب.
وهذا أظهر، لقوله: (ثم لم يتوبوا) ، لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا، بل ماتوا على كفرهم.
وأما قريش فمنهم مَنْ أسلم وتاب.
وفي الآية دليلٌ على أنَ الكافر إذا أسلم يُغفر له ما فعل في
حال كفْره، للحديث: الإسلام يَجبُّ ما قَبله.
واختلف هل يكتب له ما فعل من الخير؟
الصحيح أنه يكتب له، للحديث:
" أسلمت على ما أسْلفت من الخير:.
وقد ألَّف بعضُهم فيه تأليفاً مفيداً.
(فلْيَنْظر الإنسان ممَّ خلق) :
حذف ألف ما لأنها استفهامية، وجوابها: (خُلِقَ من ماءٍ دافق) ، واستَفْهَم هنا عن ابتداءِ الخِلْقة ليعلم الإنسان مَنْ هو، وسن أي شيء خلق، كي لا يتكبر، وكيف يتكبر مَنْ خلق من ماء نجس غمس في دم نجس، ولذلك قال بعضهم: ما يصنَع بالكبْر مَنْ خلق من نطفة مَذِرة وآخره جِيفة قَذِرة، وهو فما بينها حامل عَذِرَة!
(فما له من قوَّةٍ ولا ناصر) :
قد قدمنا أنَّ الضمير للإنسان، وفيها التنبيه له على الرجوع إلى خالقه وناصره، ولا يلتفت إلى غيره مِن والد وزوج وأخٍ وولد، إذ كلّهم ينقطعون عنه، ولا يجدُ إلا مولاه الذي ينصره حيًّا وميتاً، يقول تعالى في بعض كتبه: " عبدي أحباؤك أربعة: حبيب يصلح لأولاك ولا يصلح لأخْراك، وهما الأبوان يخدمانك ويربيانك في صغرك، فإذا كبرا يكونان ضعيفين لا يقدران على أن يربّياك.
وحبيب يصلح في أخراك ولا يصلح لأولاك، وهم أولادك يخدمونك في آخر عمركَ.
وحبيب يصلح لظاهرك ولا يصلح لباطنك، وهم الأخلاء والأصدقاء.
وحبيب يصلح لباطنك ولا يصلح لظاهرك، وهنَّ أزواجك، فإذا أردتَ أن تحبَّ أحداً فإني أحبك أوَّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأنصرك، في كل الأحوال، أتترك من يحبك في كل الأحوال وتحبُّ من لا يحبك على كلِّ حال.
(فَسَوَّى) :
حذف مفعول خَلَق فسوَّى، لقصد الإجمال الذي يفيد العموم.
والمراد خلق كل شيء فسوَّاه، أي أتقن خِلْقَته.(3/123)
(فهَدَى) :
حذف المفعول أيضاً لمفيد العموم، فإن كان من التقدير فالمعنى قَدَّر لكل حيوان ما يصْلحه فهداة إليه، وعرَّفه وجْهَ الانتفاع به.
وقيل: هدَى ذكورَ الحيوان إلى وطْءِ الإناث لبقاء النسل.
وقيل: هو المولود حين وَضْعِه إلى مَص الثدي.
وقيل: هدى الناس للخير والشر والبهائم للمراتع.
وهذه الأقوال أمثلة.
والأول أعم وأرجح، فإن هدايةَ الإنسان وسائرِ الحيوانات
إلى مصالحها بابٌ واسع فيه عجائب وغرائب.
وقال الفراء: المعنى هدى وأضل، واكتفى بالواحدة، لدلالتها على الأخرى.
وهذا بعيد.
(فذَكًرْ إنما أنْتَ مذَكَر) ، أي ذَكَرْ كلَّ أحد، (إلا مَنْ تولَّى) ، يئست منه، فهو على هذا متصل.
وقيل: (إلاَّ مَنْ تولى) استثناء من قوله: (لست عليهم بمصَيْطر) .
أي لا تتسلَّط إلا على مَنْ تولى وكفر، وهو على هذا متصل لا نَسْخَ فيه، إذ لا موَادعة فيه، وهذا بعيد، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة.
(فَصبَّ عليهم ربُّكَ سَوْطَ عَذَاب) :
قد قدمنا أنه استعار للسوط العذاب، لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره، قاله ابن عطية.
قال الزمخشري: ذِكْر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهون من
عداب الآخرة، كما أن السوط أهونُ من القتل.
(فأمّا الإنسان إذَا ما ابْتَلاَه رَبُّه) :
قد قدمنا أن معنى الابتلاء الاختبار، واختباره تعالى لعَبْدِه لتقومَ الحجةُ عليه بما يبدو منه، وقد كان الله عالماً بذلك قبل كونه.
والإنسانُ هنا جنس.
وقيل نزلت في عتْبة بن ربيعة، وهي مع ذلك على العموم فيمَنْ كان على هذه الصفة، وذكر اللهُ في هذه الآية ابتلاءَه للإنسان بالخير والشر اختباراً وفتْنَة.
(فقدَر عَلَيْهِ رِزْقَه) ، أي ضَيَّقَه.
وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد.
وفي التشديد مبالغة.
وقيل معنى التشديد جعله على قدر معلوم.(3/124)
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) :
مَن قرأ بكسر الذال من (يعذب) والثاء من (يوثق) فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى.
ومَنْ قرأ بالفتح فالضمير للإنسان، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوئق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي.
وروي أَن أبا عمرو رجع إليها، وهي قراءة حسنةٌ صحّتْ
عنه - صلى الله عليه وسلم.
(فادْخلي في عِبَادِي) ، أي فادخلي في عبادي الصالحين.
وقرئ: فادخلي في عَبْدي بالتوحيد، ومعناه ادخلي في جسده، وهو خطاب
للنفس.
ونزلت هذه الآية في حمزة.
وقيل في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفّار بمكة، ولَفْظُها يَعمّ كلَّ نفس مطمئنة، لأن النفوس ثلاثة: لوّامة، وأمًارة، ومطمئنة، والمدوح منها الأخيرة.
(فلا اقْتَحَم العَقَبة) :
قد قدمنا أنَّ الاقتحام الدخول بشدة ومشقة.
والعقبة: عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة بَعْد، وجعلها عقبة استعارةً
من عقَبة الجبَل، لأنها تصد ويشقّ صعودها على النفوس.
وقيل هي جبل في جهنم له عقَبة لا يجاوزُها إلا من عمل هذه الأعمال و"لا" تحضيض بمعنى هلاّ.
وقيل هي دعاء.
وقيل نافية.
واعترض على هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها.
وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة، فلا فَك رقبة، ولا أطعم مسكيناً.
(فألْهَمَها فجورَها وتَقْوَاها) .
أي عرفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوةً يصح.
معه! اكتساب أحد - الأمرين.
ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو، كقوله: (إنا هَدَيناه السبيلَ إمَّا شاكِراً وإمّا كفورا) .
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ) :
منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقةَ الله، أوْ احْذَروا ناقةَ الله.(3/125)
(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) .
أي سوى القبيلة لم يُفْلت أحداً منهم.
وقال الزمخشري: الضمير للدمدمة، أي سوَّاها بينهم.
فانظر كيف هوَّل عليهم بهذه اللفظة بسبب ذَنْبهم، وهو التكذيب، وعَقْر
الناقة، ليتعظ غيرهم.
(وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) :
ضمير الفاعل لله تعالى.
والضمير في عقباها للدَّمْدَمة والتسوية، وهو الهلاك، أي لا يخاف عاقبةَ إهلاكهم ولا درك عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم، وفي ذلك احتقارٌ لهم.
قيل: وضمير الفاعل لصالح، وهو بعيد.
وقرئ فلا يخاف بالفاء وبالواو.
وقيل في القراءة بالواو إن الفاعل أشْقاها.
والجملة في موضع الحال، أي انبعث ولم يخَفْ عقبى فعلته، وهذا بعيد.
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) :
مخاطبة من الله أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - على تقدير: قل يا محمد.
(فَحَدِّثْ) :
أمر من الله لرسوله أنْ يحدّث بنعمه، وهي الْقرآن، والرسالة، وجميع النعم التي أعطاه من دِينية ودنيوية، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
" التحدث بنعم الله شكرٌ لها وكتمانُها كفرها ".
ولهذا كان بعض السلف يقول: صليتُ البارحة كذا، وصمْتُ من الشهر كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وَجْهِ الشكر، أو ليُقْتدى به، لا على وَجْهِ الفَخْر والتكبّر.
وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث
وصايا، فقابل قوله: (ألم يجِدْكَ يتما) بقوله: (فأما اليَتيمَ فلا تَقْهَر) .
وقوله: (ووجدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) بقوله: (وأما السائلَ فلا تنْهَرْ) على قول مَنْ قال: إنه السائل عن العلم.
وقابله بقوله: (وأمَّا بنعمة رَبِّكَ فحدِّثْ) - عَلى القول الآخر.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) :
هذا وعْد بالسسْر بعد العسر،(3/126)
وتسليةٌ لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لما كانوا يلْقَوْن من الأذَى من الكفار.
وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقارنة ليدلَّ على قُرْب اليسر من العسر.
فإن قيل: ما وَجْه ارتباط هذا مع ما قبله؟
والجواب: لما عدّدَ عليه النعم تسليةً له وتأنيساً قَوِي رجاؤه بالنصر، كأنه
يقول له: إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظْهرك ويبدّل لك هذا
العسر يسراً قريباً، ولذلك كرَّر: (إنّ مع العسر يسراً) ، مبالغة.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لن يغلب عُسر يُسرين ".
وقد روى ذلك عمر، وابن مسعود، وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد، لأن الألف واللام للعهد، كقولك: جاءني رجل فأكرمْتُ الرجل.
واليسر اثنان لتنكيره.
وقيل: إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة، وقد أكثر الناسُ في هذه الآية وألفُوا فيها تواليف منها كتاب: " الفَرَج بعد الشدة "، وجنة الرضا، وغيرهما مما يطول ذكر شيء منها.
وبالجملة فمَنْ تَذَكًر سَبْقَ نعمته عليه، وكثْرَة نعمه إليه، وعظيم ثوابه.
وصدْقَ وعْده، وسعةَ رحمته وسَبْقَها غَضبه - آثر له قوة رجائه فيه، وهان عليه ما يَلْقَاه في ضيقه، قال تعالى في بعض كتبه: يا مطرود، لا تبرح، ويا مَرْدُود لا تَيأْس، ويا مهجور لا تَقْلق، قد فتحنا لك البابَ وجعلناك من الأحباب، وهب أني طردْتُك عن بابي، وألزمْتك حِجابي فإلى بابِ مَنْ تلتجئ، وعلى أي جهة تقف، فكنْ معي كالصبي مع أمّه، كلما زجَرَتْه رجع إليها، وكلما طردته تمرًغ بين يديها، فلا يزال معها حتى تقبله، فانْقُل قدمَ الإقدام لبابي، واكشف رأْسَ الاستغفار ونادِ بلسان الحقْر والاضطرار: ربي مَسني الضرّ وأنْتَ أرْحَمُ الراحمين - يقع لك جواب: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) .
(فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) :
هو من النصَب بمعنى التَّعب.
والمعنى إذا فرغت من أمْرٍ فاجتهد في أمرٍ، ثم اختلف في تعيين الأمرين، فقيل:(3/127)
إذا فرغت من الفرائض فانْصَبْ في النوافل.
وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانْصَبْ في الدعاء.
وقيل: إذا فرغت من شغْل دنياك فانصب في عبادة ربك.
(فارْغَبْ) :
إنما قدم المجرور في (إلى ربك) ليدلَّ على الحصر، أي لاَ ترغب إلا إلى ربك وحْدَه.
وفي هذا إشارة إلى عدم الركون للخلق، فإن الركونَ إليهم وحشة والالتجاء إليهم إعراض عن الحق.
وقد قدمنا من هذا المعنى كثيراً.
(فلهم أجْر غير مَمْنون) :
أي غير منقوص، يقال: مننت الحَبْلَ إذا قطعته.
وقال مجاهد: غير محصور، لأن كلّ مَحْسوب محصور، فهو
معدّ لأن يمنَّ به.
ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المنِّ والأذَى من حيث هو من جهة الله
تعالى، فهو شريف لا منَّ فيه، وأعطياتُ البشر هي التي يدخلها المنُّ.
قال السدي: نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزمناء إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر ما كانوا يعملون.
فإن قلت: أيّ حكمة في الإخبار بهذا، ولم زيدت هنا الفاء، وحذفت من
آية الانشقاق، وفصِّلَتْ؟
والجواب إنما زيدت لمراعاة الفاء التي بعدها، وفائدة تكرير هذه الآية
والإخبار بها للتأسي والتخلّق بأفعال الحق في عدم مَنِّه، لأنَّ المنَّ يكدِّرُ الإحسانَ ويذهب بلذّته، ولذلك قال تعالى: (لا تبْطِلوا صدقَاتِكم بالمَنِّ والأذَى) .
قال المفسرون: المنُّ أن يذكره، والأذى أن يظهره.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تأكل طعام المنَّان، فإنه داء ". . . إلى غير ذلك من الأحاديث مما يطول
ذكرها.
(فمن يعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) :
قد قدمنا في حرف الميم ما في هذه الآية وتسميتها بالجامعة الفاذة، ولما نزلت هذه السورة بَكى أبو بكرٍ(3/128)
وقال: يا رسول الله، أو أُسأل عن مثاقيل الذّرّ من أعمالي، قال له - عز وجل -: يا أبا بكر، ما رأيته في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذَرِّ الشر ويَدَّخِر لك الله مثاقيلَ ذرِّ الخير. . . إلى آخره.
فانظر بكاء المشهود له بالجنة على نفسه، وخَوْفه من ذنوبه مع أن الله بشَّره
بشفاعته في عدد ربيعة ومُضَر من هذه الأمة، وأنت تريد اللحوقَ بهم مع عدم خوفك وبكاك، وكثرة أوزارك محيطة بك، ما يكون جوابك إذا قيل لك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ، فما أعظمها من كربة إذا حملْتَ حُزمة سيئاتك، وصرت تقرؤها بين يدي ربك، وما مثلنا إلا كحاطبٍ يجمع كلً ما يَلْقَى، فإذا جاء يرفعها لم يقدر عليها، وقد أخفى الله غضبه في معاصيه، فلا تحقرن منها شيئاً، فإنها عند الله بمكانٍ، وكلّ ما صغر في عينك عظيم عند الله.
قال الفضيل بن عياض: أتاني رجل، فقال: عِظْني، فقرأتُ عليه: (إذا
زُلْزِلَت) ، فغاب مدةً ثم أتاني، فقلت له: أين غَيْبَتُك، قال:
كنْتُ مشغولاً بتحقيق الحساب الذي علَّمْتَني، فقلت له: وما هو، قال: (فمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره) .
ورئي بعض المشايخ وقد بلغ جدَاراً، وكان في زمن الشتاء، وهو يتصببُ عرقاً فسئل عن ذلك، فقال: أخذتُ من هذا الحائط قطعةَ طين غسل يده بها ضيفٌ، ولم أستحل من صاحبه حتى مات، فأنا كلما مررتُ به لم أمًلك نفسي.
هذا حالُهم، فأنَّى لنا اللحوق بهم! مَلأْنَا بطونَنا من الحرام، وتراكمت على
قلوبنا سحائبُ الآثام، وغلب علينا سكر المنام، وادعيْنَا الدعاو ى الباطلة
والآمال الكاذبة.
فإن قلت: ما سِرُّ تقديم الخير في هذه الآية على الشر؟
والجواب لما كان المطلوب في العمل تقديمُ الخير على الشر جاء في اللفظِ على
الوَجْهِ المطلوب.
وأيضا لما كان فاعلُ الخير مقدَّماً في الرتبة على فاعلِ الشرِّ جاء
العملُ مرتباً على ترتيب عامله.(3/129)
(فلْيَعْبدوا رَبَّ هذا البيت) :
هذا إقامة حجةٍ عليهم، واستدعاءٌ لهم، بملاطفة وتذكير بالنعم حيث كان الناسُ يتخطفون مِنْ حَوْلهم، وهم لا يُصيبهم ما أصَاب غيْرَهم، من الأمن وإتيان الرزق إليهم، لحرْمَةِ هذا البيت المعظم عند جميع بني آدم، كأنه يقول لهم: إن لم تعبدوه لما شَرَفكم بالعقل، وجعلكم محبوبين، فاعبدوه لهذا البيت الذي شرَّفكم به، ودفَع عنكم مَنْ قَصد ضرَّكم من جميع الأمم.
(فَسبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك) :
قد ذكرنا معنى التسبيح والاستغفار، وأن هذه السورة إعلام من الله لرسوله بقُرْب أجله.
فإن قيل: لم أمره بالتسبيح والْحَمْدِ والاستغفار عند رؤْية النصر والفَتْح.
وعند اقتراب أجله؟
فالجواب أنه أمره بالتسبيح والْحَمْد ليكونَ شُكْرهُ على النصر والفَتْح وظهورِ
الإسلام، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المَرْءَ لا يَختم صحيفَته إلا بخير الأعمال، ويهيئ
زاداً للقاء ربه، ولا يَغْفل كما غفل في أول أجله.
والاستغفار والتَسبيح من أفضل الأعمال، لما فيهما من تَنْزِيه الخالق، وانكسار القَلْب مع الاستغفار، وهو تعالى عند المنكسرة قلوبهم.
(فَرَاش) :
قد قدمنا أنه طير دقيق يتساقطُ في النار ويقْصِدها، ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يَحْتَرق.
ومنه الحديث: " أنا آخذ بحجَزِكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تَقَاحمَ الفراش والجنادب.
فإن قلت: قد شبههم في سورة القمر بالجَرَاد المُنْتَشر، وهنا
بالفَراش، فهل بينهما توافق أم لا؟
فالجواب أن بينهما موافَقة على قول بعضهم، قال الفراء: الفَراشُ غوغاء
الجراد، وهو صغِيره الذي ينتشر في الأرض والهواء.
قال بعض العلماء: الناس أول قِيامهم من القبور كالفَراش المبثوث، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام،(3/130)
ثم يدعوهم الداعي فيتوجَّهون إلى ناحية المَحْشر كالجراد المنتشر، لأن الجرادَ
إنما تَوَجّهه أبداً إلى ناحية مقصودة، وبهذا يظهر لك الجَمْعُ بين الآيتين.
وروى البيهقي في الشعب عن النَّوَّاس بن سمعان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافُتَ الفراش في النار، كلّ الكذب مكذوب إلا الكذب في الحرب أو الكذب لإصلاح ذات البَيْن، أو الكذب على امرأته ليرضيها.
قال الغزالي: ولعلك تظنّ أنَّ ذلك لنقْصانها وجهلها، فاعلم أن جَهْلَ الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الإنسان في الإكباب على الشهوات صورة الفَراش في التهافت على النار، فلا يزال يَرْمِي بنفسه فيها إلى أن يغمس فيها، ويهلك هلاكاً مؤبَّداً، فليت جهل الآدمي كان كَجَهْل الفراش، فإنما اغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلَّصت في الحال، والآدمي يبقى في الحال أبَدَ الآبادِ، ومدة مؤبَّدة، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم تتهافتون في النار تهافتَ الفراش وأنا آخذ بحُجزكم.
قلت: وقد قدمنا أن الفرش صغار الإبل كالعجاجيل والفصْلان، لأنها
تُفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها.
فإن قلت: ما سِرّ تقديم الحمولة على الفرش مع احتياج الناس إليها أكثر
ومنفعتها أهَمُّ؟
فالجواب أن الحمولة أعظم في الانتفاع، لأنها للأكل والحَمْل.
قال الفراء: ولم أسمع بالفراش يُجمع.
ويحتمل أن يكون مصدراً سُمِّيَ به، من قولهم: فرشها اللَه فَرْشاً.
(فرْقَان) :
له ثلاثة معانٍ: القرآن، ومنه: (يَجْعَل لكم فرقاناً) ، أي تفرقة.
ويوم بَدْر، ومنه: (وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرقان) .
(فَلَك) : سفينة، ويستوي فيها الفرد والجمع.(3/131)
(فقه) :
فهم، ومنه: (لا يفْقَهُون) .
و (ما نَفْقه كثيراً مما تقول) .
(فُومِهَا) : هو الثوم.
وقيل الحنطة بالعبرانية.
ويقال: فوموا، أي اختبئوا، ويقال: الفُوم الخرنوب.
(للفقراء الذين احْصِرُوا في صبيل الله) البقرة: 373،: متعلق
بمحذوف، تقديره: الإنفاق للفقراء المهاجرين الذين حُبِسوا بالعدوّ أو بالمرض، والمراد بهم أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: (إنما الصدقاتُ للفقراء) - فالمرادُ أنَّ الزكاة تُدفع للفقراء، وهم أحد الأصناف الثمانية.
والفقيرُ الذي له بُلْغة من العيش، وقد قدمنا أنَّ المسكينَ أحوجُ من الفقير، لأنه الذي لا شيء له بالكلية.
والعاملين عليها الذين يقْبِضُونها ويفرِّقونها.
والمؤلفة قلوبهم: كفّارٌ يُعْطَونها ترغيباً في الإسلام، كإعطائه للأقْرع بن حابس مائةً من الإبل.
وقيل: هم مسلمون يُعْطَون ليتمكَنَ إيمانُهم.
واختلف: هل بقي حكْمهم أو سقط للاستغناء عنهم، وفي الرِّقَاب: يعني العبيد يُشْترون ويُعْتَقون.
والغارِمِين: يعني مَن عليه دين.
ويشترط أن يكونَ استَدانَ في غير فَساد ولا إسراف.
وفي سبيل الله: يعني الجهاد، فيُعْطَى منها المجاهدون ويشترون منها آلاتِ الحرب.
واختلف هل تُصْرف في بناءِ الأسوار وإنشاء الأصاطيل، وابن السبيل: يعني الغريب المحتاج.
(فَرِيضةً) ، أي حقًّا محدودا، ونصبه على المصدر.
وقد قدمنا أن لفظة الفَرْض تحتمل معاني كثيرة: بمعنى التقدير، ومنه الحديث: زكاةُ الفِطْر فريضة، أي مقدَّرة.
وبمعنى النزول، ومنه: (سورة أنْزَلْناها وفَرَضْنَاها) .
وقرئ بتشديد الراء، يعني بيَّنَّاها.
وبمعنى التحليل، قال تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) ، يعني فما أحلَّ اللهُ له.(3/132)
وقال تعالى: (وقد فَرَضْتُم لهن فريضة) ، أي سمّيتم، وقوله: (فَمَنْ فرَض فيهن الحج) : يعني أوجب.
وقال تعالى: (قد فَرض اللهُ لكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم) ، يعني بَيَّنها.
فإن قيل: لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذِكر المنافقين؟
فالجواب أنه خَصَّ مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طَمَع المنافقين
فيها، فاتَصَلَتْ هذه الآية في المعنى بقوله: (ومنهم مَن يَلْمِزُكَ في الصدقات) .
(فُسُوقٌ بكم) :
خطاب لمن وقع في الإضرار في الكاتب والشهيد المتقدمين في الذكر.
وقد قدمنا أنَّ الفِسْقَ هو الخروج عن الطاعة، وقد عَبَّر سبحانه عن المنافق بالفاسق في قوله تعالى: (أفمَنْ كان مؤْمِناً كمَنْ كان فَاسِقا) .
(فُرَادَى) :
متفردين عن أموالكم وأولادكم.
وأما قوله: (قل إنما أعِظكم بواحدة أنْ تقوموا للهِ مَثْنَى وفرادَى) - فمعنَاها
أن تقوموا للنظر في أمْرِ محمد - صلى الله عليه وسلم - قِياماً خالصاً ليس فيه اتِّبَاعُ هَوى ولا مَيْل، وليس المراد بالقيامِ بالأمْر الجد فيه، وأن تقوموا بدل أو عطف بيان، أو خبر ابتداء مضمر.
ومَثْنى وفرَادى حال من الضمير في (أن تقوموا) .
والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلباً للتحقيق.
وتقوموا واحداً واحداً لاستحضار الذهْن وإجماع الفِكرة.
(فُرطاً) :
من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف.
(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) :
الضمير للملائكة، وقد قدمنا أنهم إذا سمعوا الوَحْيَ إلى جبريل يفزعون لذلك فزعاً شديداً، فإذا زال الفَزَعُ عن قلوبهم قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، قالوا: الحقّ.
ومعنى (فُزِّعَ) زال عنها الفَزَع، فالضمير في (قالوا) للملائكة.(3/133)
فإن قلت: كيف ذلك ولم يتقدم للملائكة ذِكْرٌ يعود الضمير عليه؟
والجوابُ أنه قد وضعت إليه إشارة بقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ، لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكةَ ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكْر الشفاعة يقتضي ذِكْرَ الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دَلّ عليهم لَفْظ الشفاعة.
فإن قيل: بِمَ اتّصل قوله، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، ولأي شيء وقعت حتى غاية؟
فالجواب: أنه اتصل بما فهم من الكلام مِن أنَّ ثَمَّ انتظاراً للإذن في الشفاعة
وتوقّفاً وفزَعاً حتى يَزول الفَزع بالإذْن في الشفاعة، ويقرب من هذا المعنى قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ) .
ولم يفهم بعض الناس اتصالَ هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال
بعضهم: هي في الكفار بعد الموت، ومعنى (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) رأوا الحقيقةَ، فقيل لهم: ماذا قال ربّكم، فيقولون: قال الحق، فيقرّون حين لا ينفعهم الإقرار.
والصحيح أنها في الملائكةِ لورود ذلك في الحديث، ولأن القَصدَ الردُّ على
الكفار الذين عبدوا الملائكةَ بذكر شدةِ خَوْفِ الملائكة من الله وتعظيمهم له.
(فُرُوجٍ) :
انشقاق، وذلك دليل على إتقان الصنعةِ.
ومنه: (أولم يرَ الذين كَفَروا أنَّ السماواتِ والأرضَ كانتا رَتْقاً ففتقناهما) .
والفروج والانشقاق والفطور والصدوع والفتوق بمعنى واحد.
(فِرَاشاً) :
بمعنى مهاداً، يعنى ذَلَّلناها لكم، ولم نجعلها صعبةً غليظة لا يمكن الاستقرارُ عليها.
(فؤَاد) : قلب، وجمعه أفئدة.
(فِصَال) من الرضاع، وإنما عبر عن مدّته بالفصال، وهو الفطام، لأنه
منتهى الرضاع.(3/134)
فإن قلت: قد قال في سورة لقمان: (وفِصَاله في عامين) ، وفي الأحقاف: (وفِصَالهُ ثلاثون شَهْراً) ؟
فالجواب أنَّ ما في لقمان مدة رضاعه، وفي الأحقاف حَمْلُه وفصاله ثلاثون
شهراً.
وهذا لا يكون إلا بأن ينقص من أحد الطرفين، وذلك إما أنْ تكون
مدة الحمل ستة أشهر، ومدة الرضاع حَوْلين كاملين، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر، ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر.
ومن هذا أخذ عليٌّ بن أبي طالب مدةَ الحمل ستة أشهر.
(فِتْنة) :
وردت على أوجه: الشرك: (والفِتْنَة أشَدّ من القَتْل) ، (حتى لا تكونَ فِتْنَة) .
والضلال: (ابتغَاء الفِتْنَة) .
والقَتْل: (أنْ يَفْتِنَكم الذين كفَروا) .
والصدُّ: (واحْذَرْهم أنْ يَفْتِنوك) .
والضلالة: (ومَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَه) .
والمعذرة: (ثم لم تكن فتْنَتهم) .
والقضاء: (إن هي إلا فِتْنَتك) .
والضلالة: (ألاَ في الفتْنَةِ سقَطوا) .
والمرض: (يُفتنون في كل عام) .
والعبرة: (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) .
والعقوبة: (أن تصيبهم فتنة) .
والاختبار: (ولقد فتَنَّا الذين مِنْ قبلهم) .
والعذاب: (جعل فِتنَةَ الناس كعذابِ الله) .
والإحراق: (يوم همْ على النار يُفْتَنون) .
والجنون: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) .
***
(فرعون) :
قد قدمنا أن اسْمَه الوليد بن مصعب.
وقيل إن كلّ مَنْ ملك مصر يسمى فرعوناً، كما يقال تبَّع لكل من ملك اليمن، أي يتبع صاحبه كالخليفة يخلف غيره.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: كان فرعون فارسياً من أهل
إصطخر.(3/135)
(فِجَاجاً) : مسالك، واحدها فَجّ.
(فِرْدوس) :
مدينة في الجنة، وهي جنة الأعقاب.
وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن مجاهد، قال: الفردوس بستان - بالرومية.
وأخرج عن السُّدِّي، قال: الكَرْم بالنبطية، وأصله فرداساً.
فإن قلت: يُفهم من إعادة الضمير عليها مؤنثاً على معنى الجنة، وهذا مخالفٌ
لما ذكر في سورة المعارج، أنه ذكر أوصافَ هؤلاء، فقال: (أولئِكَ هم
الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) - (في جناتٍ مكرمون) ، فدلّ على أنها جنات، وهو الصحيح.
قلت: لا تنافي بينهما، لأنه ذكر في الْمعَارِج مسكن كل فرد فَرد، وهنا ذكر جَنَّات الفِرْدوس التي هي مسكنه عليه الصلاة والسلام، ومساكن مَنِ اتبعه من أمته.
ولذلك ورد في الحديث: " إذا سألْتُم الله فاسْألوه الفردوس، فإنه أعْلَى
الجنة، ومنه تفجَّر أنهار الجنة ".
***
(في)
حرف جر له معان: بمعنى الظرفية مكاناً أو زماناً، نحو:
(غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ) .
حقيقة كالآية، أو مجازاً، نحو: (ولكم في القصاص حَيَاةٌ) .
(لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين) .
(إنّا لَنَرَاكَ في ضَلاَلً مُبِين) .
ثانيها: المصاحبة كمع، نحو: (ادْخُلوا في أمَمٍ) ، أي معهم - (في تسع آيات) .
ثالثها: التعليل، نحو: (فَذالِكُنَّ الذي لمْتُنَّنِي فيهِ) .
(لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ) ، أي لأجْله.
وابعها: الاستعْلاء، نحو: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) .
خامسها: معنى الباء، (يَذْرَؤُكم فيه) ، أي بسببه.(3/136)
سادسها: معنى إلى، نحو: (فردُّوا أيديهم في أفواههم) ، أي إلى أفواههم.
سابعها: معنى مِن، نحو: (يَوْمَ نبعَثُ في كُلِّ أمةٍ شَهيدا) ، بدليل الآية الأحْرى.
ثامنها: معنى عن، نحو: (فهو في الآخرة أعمى) ، أي عنها وعن محاسنها.
تاسعها: المقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، نحو:
(فما متَاعُ الحياةِ الدنْيَا في الآخرة إلا قليل) .
عاشرها: التوكيد، وهي الزائدة، نحو: (وقال ارْكَبُوا فيها) ، أي اركبوها.
***
(الفاء)
ثلاثة أنواع: ملطفة، ورابطة، وزاحفة للفعل بإضمار أن، ومعناها
للترتيب والتعقيب والتسبّب.(3/137)
(حرف القاف)
(قَسَتْ قُلوبُكم) :
يبست وصلبت، وقلب قاسٍ، وجاس، وعاس، وعات، أي صلْب يابس جاف عن الدين غير قابل له.
وهذا الخطاب لبني إسرائيل لقبح قساوةِ قلوبهم بعد رؤيتهمِ للآيات، فهي كالحجارة أَوْ أَشد قسوة، ولم يقل أقسى مع أنَ فعل القسوة يُبْنى منه أفعل، لكون أشد أدَلّ على فرط القسوة.
(قَفَّيْنَا) :
مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قَفَا الأول.
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) :
سبَبها اجتماعُ نصارى نجران مع يهود المدينة، فذمَّت كلّ طائِفة الأخرى، وهذا أيضاً منهم موجود في هذا الزمان، فإن كل طائفة
منهم مقِرَّة بأن الإسلام خير من دين الفريق الآخر.
(قال الَّذِين لا يعلمون) : هم هنا وفي الموضع الأول كفّار
العرب على الأصح، وقيل هنا: هم اليهود والنصارى.
(قال الَّذِين مِنْ قَبْلهم) : يعني اليهود، والنصارى على
القول بأنَّ الذين لا يعلمون كفَّار العرب.
وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى فالذين مِنْ قبلهم أمم الأنبياء المتقدمين.
(قد بَيَّنّا الآيات) :
أخبر تعالى أنه قد بيّن الآيات الدالة
على وحدانيته وعلى صِدْقِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تطلب الآيات بعد بيانها؟!(3/138)
إنما فهمها الذين يوقِنون، ولذلك خصهم بالذكر بخلاف الكفَّار المعاندين، فإنهم لا تنفعهم الآيات لعنادهم.
(قانتون) :
القنوت له خمسة معان: العبادة، والطاعة، والقيام في الصلاة، والدعاء، والسكوت.
(قَضَى) :
ورد على أوجه: الفراغ: (فإذا قَضَيْتُم مَنَاسِككم) .
والأمر: (إذا قَضَى أمْرا) .
والأجل: (فمنهم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) .
والفصل: (لقُضِيَ الأَمْر بيني وبينكم) .
والمضي: (ليَقْضِيَ اللَهُ أمْراً كان مفعولاً) .
والهلاك: (لقضِيَ إليهم أجَلُهم) .
والوجوب: (لَمَّا قُضِيَ الأمر) .
والإبرام: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) .
والإعلام: (وقَضَيْنَا إلى بني إسرائيل) .
والوصية: (وقَضَى ربّكَ ألاَّ تعْبدوا إلا إيَّاه) .
والأداء والوفاء: (ذلك بيني وبينك أيما الأجَلين قَضَيْت) ، يعني أديت ووفيت.
والفراغ: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) ، أي فرغ ومضى.
والحكم: (واللهُ يَقْضي بالحق) ، أي يحكم.
والموت: (فلما قضينا عليه الموت) .
والخلق: (فقضَاهُنَّ سَبْعَ سمواتٍ في يَوْمَيْن) .
والفعل: (كلاَّ لما يقْضِ ما أمَره) ، يعني حقاً لم يفعل.
والعهد: (إذْ قَضَيْنَا إلى موسى الأمْر) .
***
(قَوَاعد البيت) : أساسه.
والقواعد من النساء، التي قعدت عن الولد.
وقيل التي إذا رأيتها استقذرتها.
وقيل: قعدت عن التصرف.
(قَيّوم) :
من أسماء الله تعالى، وزْنه فَيعُول.
ومنه بناء مبالغة، من القيام على الأمور.
ومعناه، مُدبِّر الخلائق في الدنيا والآخرة.(3/139)
ومنه: (أَفَمَنْ هو قائِمٌ على كل نَفْس بما كسَبت) .
قال الواسطي: القيوم هو الذي لا ينام بالسريانية.
***
(قدر) :
له خمسة معان: من القدرة، ومن القدير، ومن القدار، ومن القدر والقَضَاء، وبمعنى التضييق، نحو: (ومن قُدِر عليه رزْقُه) .
وقد يشدد الفعل ويخفف.
والقَدَر - بفتح الدال وإسكانها القضاء والمقدار.
وبالفتح لا غير من القضاء.
(قَوَّامون) :
قام له ثلاثة معان: من القيام على الرِّجْلَين، ومن القيام على الأمر بتدبيره وإصلاحه، وهذا بناء مبالغة، وقام الأمْرُ ظهر
واستقام، ومنه: (الدين القَيِّم) .
قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء.
(قانتات) ، أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات
لأزواجهن، أو مطيعات لله في حق أزواجهن.
(قَتَلْنَا المسيحَ عيسى ابن مريم) :
هذا من قول اليهود على وَجْه الافتخار والْجُرْأَة مع أنهم كذبوا في ذلك ولزمهم الذنْبُ وهم لم يقتلوه، بل صلبوا الشخْصَ الذي أُلقي عليه شبهه وهم يعتقدون أنه عيسى.
وروي أنَّ عيسى قال للحواريين: أيكم يُلْقَى عليه شبهي فيُقْتل ويكون رفيقي في الجنة؟
فقال أحدهم: أنا، فألقي عليه شبه عيسى، فقتل على أنه عيسى.
وقيل: بل دل على عيسى يهوديٌّ، فألقى الله شبَه عيسى عليه، فقُتل على أنه عيسى، ورُفع عيسى إلى السماء.
وسبَبُ قتلهم له أنهم قالوا في عيسى: إنه ساحر فاغتَمَّ لذلك ودعا عليهم.
فجعل الله منهم قِردة وخنازير، فبلغ الخبر إلى ملكهم، وخاف من دعائه، فأمر بقتله.
ويقال: إن اسم الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى اشيوع، وهكذا وقع
- لنبينا - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعت فريش لقتله، قال لعليٍّ رضي الله عنه: ارْقُد في مكاني(3/140)
حتى تدخل عليك قريش، ويريدون قتلك، فإن قُتِلت كنْتَ رفيقي في الجنة.
فدخلوا عليه فوجدوه عليًّا، وانقلبوا خاسئين، ولم يقدروا على شيء، فقال الله لجبريل وميكائيل: انظرا إلى حبيبي كيف فداه ابنُ عمه، وعِزَّتِي وجلالي لأجعلن اليهودَ والنصارى فداءً لأمة حبيبي، إني أردْتُ رَفْعَ عيسى إليَّ، فجعلت إيذاء اليهود سببا لذلك، كذلك أجعل وسوسةَ اللّعين سبباً لإغوائهم وأرحمهم مع ذلك.
فانظر هذه الرحمة النازلة عليك يا محمديُّ.
ورحم الله القائلَ: لولا المؤمن لضاعت جنَّة النعيم، ولولا الكافر لضاعت نارُ الجحيم، ولولا المعاصي لضاعت رحمةُ الرحيم.
(القنَاطير الْمقَنْطَرة) :
جمع قنطار، وهو ألف ومائتا أوقية.
وقيل ألف ومائتا مثقال، وكلاهما مرويٌّ عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأكدها بالمقنطرة كقولهم: ألف مؤلَّفة.
وقيل المضروبة دنانير أو دراهم.
وقال الفراء: المقنطرة المضعفة، كأن القناطير ثلاثة والمضعفة تسعة.
(قَرْح) :
أي جراح، ومعنى الآية: إن مسكم قَتْل أو جراح في أُحُدٍ فقد مَسَّ الكفارَ مِثلُه في بَدْرِ.
وقيل: قد مَسَّ الكفار يوم أُحُدٍ مِثْلُ ما مسكم فيه، فإنهم نالوا منكم ونِلْتُم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي.
(قد خلت مِنْ قَبْلكم سُنَن) :
خطاب للمؤمنين وتأنيس لهم.
وقيل للكفار تخويفاً لهم.
(قالوا كُنَّا مستَضْعفين في الأرض) :
اعتذار عن التوبيخ الذي وبختهم الملائكة، أي لم يقدروا على الهجرة، وكان اعتذاراً بالباطل.
ولذلك قالوا لهم: (ألم تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسعة فَتُهَاجِرُوا فيها) ..
) قَوَّافمين للهِ شُهَدَاءَ بالقِسْطِ) :
أي بالعَدْل مجتهدين في إقامته.(3/141)
فإن قلت: ما فائدة تقديم القسط في آية النساء، وتأخيره في آية المائدة؟
والجواب آيات النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط، قال تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
وقال بعد: (ويستَفْتُونَكَ في النساء) ، ثم قال: (وأنْ تَقُوموا لليتامى بالقِسْط) ، وتوالت الآي بَعْدُ على هذا المعنى، فقدم القسط ليناسب ما ذكر.
وأما آية المائدة فذكر قبلها الأمر بالطهارة، ثم تذكيره سبحانه بتذكّر نعمته.
والوقوف مع ما عَهد به إلى عباده والأمر بتقواه، فناسب قوله: (كونوا قوّامين لله) ، ثم اتبع لما بني على ذلك من الشهادة بالقسط.
فتأمل ما بني على هذه وما بني على آية النساء يتَّضح لك ما قلت.
(قال اتقُوا اللهَ إنْ كنْتُم مُؤمنين) :
هذا من قول عيسى للحواريين حين سألوه نزولَ المائدة، ويحتمل أن يكون زَجْراً لهم عن طلبها واقتراحِ الآيات.
ويحتمل أن يكون زَجْراً عن الشك الذي يقتضيه قولهم: (هل يستطيع رَبُّكَ) على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ، وإن لم يكن فيه شك.
وقوله: (إن كنتم مؤمنين) هو على ظاهره على مذْهب الزمخشري.
وأما على مذهب ابن عطية وغيره فهو تقرير لهم، كما نقول: افعل
كذا إن كنت رجلا.
ومعلوم أنه رجل.
وقيل إن هذه المقالة صدرت منهم في أول الأمر قبل أنْ يَروا معجزات عيسى.
(قالوا نرِيد أن نأْكُلَ منها) .
أي أكلاً نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن.
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) .
أجابهم عيسى إلى سؤال المائِدَة من الله، فلبس جُبة شعر وقام يصلي
ويدعو ويبكي.
(قال اللهُ إني مُنَزِّلها عليكم) :
أجابه الله إلى ما طلب،(3/142)
ونزلت المائِدة عليها خبْز وسمك.
وقيل زيت ورُمَّان.
وقال ابن عباس: كان طعام المائِدة ينزل عليهم حيثما نزلوا.
والكلام في قصة المائِدة كثير تركْته لعدم صحته.
(قال اللَهُ يا عيسى ابْنَ مريم أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاس.. .) .
قال ابن عباس والجمهور: هذا القولُ من الله يكون يوم القيامة على رؤوس
الأشهاد، ليرى الكافرُ تبرئةَ عيسى مِمّا نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على
باطل.
وقال السُّدِّي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت، وزعموا أنَّ
عيسى أمَرهم بذلك، فسأله الله حينئذٍ عن ذلك.
(قالوا إنْ هي إلاَّ حياتُنا الدنيا) :
حكاية قولهم في إنكار البعث الأخْرَوي.
(قالوا يا حَسْرَتَنا على ما فَرَّطْنَا فِيها) :
الضمير بـ (فيها) للحياة الدنيا، لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يَجْرِ لها ذكر.
وقيل للساعة، أي
فرطنا في شأنها والاستعداد لها.
والأول أظهر.
(قد نَعْلَمُ إنّه لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُون) :
قرئ يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن إلا قوله: (لا يَحْرنهم الفَزَعُ الأكبر) .
وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي، وهو أشهر في
اللغة، والذي يقولون: قولُهُمْ شاعرٌ ساحر كاهن.
(قَرَاطيس) :
هي الصحائف.
قال الجواليقي: يقال إن القرطاس أصله غير عربي.
ومعنى هذه الآية أن الله ردَّ بها على اليهود بأنه
ألزمهم ما لا بدَّ لهم منه، لأنهم أقرُّوا بإنزال التوراة على موسى.
وقيل القائلون قريش، وألزموا ذلك، لأنهم كانوا مقرِّين بالتوراة.
(قد جاءكم بَصَائِرُ مِنْ رَبكم) :
جمع بصيرة، وهي نورُ القلب، والبصر: نور العين، وهذا الكلام على لسان نَبِينا - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: (وما أنا عليكم بحفِيظ) .(3/143)
(قائلون) : من القائلة.
(قليلاً ما تَذَكَرون) ، انتصب قليلاً بـ (تذكرون) ، أي تذكرون تذكراً
قليلاً، وما زائدة للتأكيد.
(قالوا إنَّا كُنَّا ظالمين) :
اعتراف منهم بأنهم كانوا ظالمين لما جاءهم العذابُ، ولو اعترفوا قبل ذلك لنَفَعهم.
(قَاسَمَهُمَا) ، من القسم، وهو الحلف، وذكر قسم
إبليس لآدم وحواء بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين، لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أَقسم لهما وأقسما له أن يَقْبلا نصِيحته.
(قَبِيلُهُ) : أمته.
ومعنى الآية أن إبليس وجماعته يرى الإنسان من حيث لا يرونهم في الغالب، لأنه قد جاءت في رؤيتهم أحاديث كثيرة، فتحْمل الآية على الأكثر جَمْعاً بينه وبين الأحاديث، وفي الآخرة يراهم الإنسان ولا يرونهم، عَكس الدنيا، فسبحان من قَلب الحقائِق.
(قالوا وَجَدْنَا عليها آباءَنا) :
اعتذروا بعُذْرَين باطلين:
أحدهما تقليد آبائهم، والآخر افتراؤهم على الله بأنه أمرهم، فرَدَّ الله عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء.
(قالت أخْرَاهُم لأولاهُم) :
قد قدمنا أن الأولى هم الرؤساء والقادة، والأخرى هم الأتباع والسفلة، والمعنى أن أخْرَاهم طلبوا من الله أنْ يُضاعف العذاب لأولاهُم، لأنهم أضلُّوهم.
وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطاباً لهم، إنما هو كقوله: قال فلان لفلان كذا، أي قال عنه وإن لم يخاطبه به.
(قال أوَلوْ كنّا كارِهين) :
الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم وما يكون لنا أنْ نعود فيها ونحن كارهون.(3/144)
وهذا الخطاب من شعيب لقومه لَمّا قالوا له: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) .
فإن قلت: العود إلى الشيء يقتضي أنه فُعل قَبْل ذلك، وهذا محال في حق
الأنبياء قبل الرسالة؟
والجواب أن " عاد " قد تكون بمعنى صار، فلا تقتضي تقدّم ذلك الحال
الذي صار إليه، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: إن المراد بذلك الذين آمنوا
بشُعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم
بقولهم: (لنخرجنَّك والذين آمَنوا معكَ من قريتنا) ، فغلبوا في الخطاب بعود
الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك لا يُجَاب على قوله: (إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) .
فإن قلت: ما معنى هذا الاستثناء من شُعيب مع عِلْمه بعصمته، وأنه لا يعود
فيها، ولا يريد الله ذلك منه؟
والجواب: ما قدمناه من أنَّ الأنبياء يتبرّأون من إسناد الأمور إليهم
ويتأدبون مع الله.
فإن قلت: ما المانع من أنَّ الكفار ادّعوا على الرسل أنهم كانوا قبل البعثة
على ملَتهم وافتروا عليهم ذلك؟
والجواب يمنع منه أنَّ هذا أمر مشاهَد حسيّ، وليس بعقلي، وقالوا في أصول
الفقه: إن عددَ التواتر يقَع في الأمر الحسيّ بخلاف العقلي، فلو أقرَّ عشرون ألفاً بعدَم العالم لما قبِلَ قولُهم بخلاف ما لو أخبر جماعة بقدوم زيد، فإنا نقبلُ قولَهم على الكذب فيه.
وأما الأول فالعقلُ يكذبهم، نعم يحتمل أن يكون العود على
حقيقته لاحتمال كَوْن الرسل لم يُظْهروا لهم قبل البعثة أنهم مخالفون لدينهم، فلما بعثوا إليهم أظهروا المَخالفة.(3/145)
فإن قلت إخراجهم إياهم من أرضهم عقوبةٌ ناشئةٌ عن عدم العَوْد، فهلاّ
قالوا: لتعودنّ في مِلَّتِنا أو لنخرجنَّكم من أرضنا؟
فالجواب أنَّ المقام مقام التخويف، فلذلك بدأوا بالإخراج.
(قال الْمَلَأ من قَوْم فِرْعون) :
حكى الكلامَ هنا عن الْمَلَأ، وفي الشعراء، عن فرعون، فكَأنه قد قاله هو وهمْ، أو قاله هو ووافَقوه عليه كعادة جُلساء الملوك في اتَباعهم لما يقولون لهم.
(قالوا إنَّ لَنَا لأجْراً إنْ كنَّا نَحْن الغالبين) :
هذا من قول السحرة، طلبوا الأجر من فرعون إنْ غَلَبوا موسى.
فإن قلت: لِمَ ورد هنا مجيء السحرة عقب قوله: (يأتوك بكل ساحر
عليم) ، وأُخِّرَ جمعهم ومجيئهم في الشعراء، فقال: (فجُمِعَ السحرة) : الآيات المذكورة فاصلة؟
فالجواب أن فيها إطناب يناسبه ما تقَدَّمَ من ذلك في مجاورة موسى عليه
السلام ومكالمتَه فرعون مِن لَدن قوله تعالى: (وإذ نادى ربُّك موسى أن ائْتِ
القومَ الظالمين) .
إلى هذه الآية، ولم يقع في قصصه عليه السلام في السّوَر الوارد فيها قصصه من الإحالة في مراجعة فرعون مثل الوارد هنا، فناسب ما أعْقَب به مما لم يقع الإخبارُ به في الأعراف.
ولما كان الوارد قَبْلَ آية الأعراف مَبْنِيًّا على الإيجاز وتحصيل المراد بأوجز كلام - ناسبَه إيجاز الآية المذكورة، ووردَ كلّ مِنْ ذلك على ما يجب ويناسب.
(قال نعم وإنكمْ لَمِنَ الْمقَرَّبين) :
لما طلبوا الجُعل من التقريب من فرعون أنعم لهم بذلك، فهذا عطف على معنى نعم.
كأنه قال للسحرة: نُعطيكم أجركم، ونقرِّبكم، واسم رئيسهم يومئذ شمعون أو يوحنَّا.
فإن قلت: ما وَجْهُ حذفِ " إذًا " هنا وإثباتها في الشعراء؟
والجواب أن ذلك من الإطناب المذكور، وأيضاً فهي مضمرةٌ مقدرة،(3/146)
ومعناه: إن غلبتم قَرَّبْتكم، ورفعْتُ منزلتكم، فهي جزاء.
وورد في الشعراء مفصحاً، ليناسب بزيادتها ما مضَتْ عليه آي هذه السورة من الاستيفاء والإطناب.
(قالوا يا موسى إمّا أنْ تلْقِيَ وإما أنْ نكونَ نحْن الْملْقين) :
(أنْ) هنا في موضع نصب، أي إما أن تفعل الإلقاء.
ويحتمل أن تكون في موضع رفع، أي إمّا هو الإلقاء.
وخَيَّر السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر، وهذا فِعْل العَدْل الواثق بنفسه.
والظاهرُ أن التقدّم في التخييلات والمخارق أحجج، لأن بديهتها تمضي في النفوس، فلما أراد الحقّ أن يُظْهرَ نبوءةَ موسى قوَّى نفسه ويقينَه، ووثَّقه بالحق، فأعطاهم التقدم، فبسطوا وسرّوا حتى أظهر اللَّهُ الحق وأبطل سَعْيهم.
فإن قلت: ما معنى اختلاف كل السحرة وتخييرهم في الإلقاء؟
والجواب لأنه كان في موطنين، أو لعله كان قد تكرر منهم، أو لعل بعضَهم
قال هذا وبعضهم هذا، أو لعل المعنى الذي حكي عنهم تعطيه العبارتان، وهذا أقرب شيء لما بين اللغات من اختلاف المقاصد عند الواضع الأول، أو قَصَد الإيهام على الخلاف في ذلك، ومع هذه الإمكانات يسقط الاعتراض رأساً.
(قال فرعون آمنْتم به قبل أن آذَنَ لَكمْ) .
هذا قول فرعون دليل على وَهَن أمره، لأنه إنما جعل إذْنَهم مفارقاً لإذنه، ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط.
والضميرُ في (به) يحتمل أن يعودَ على اسم الله تعالى، ويحتمل أن يعودَ على موسى عليه السلام، وعنَّفَهم على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم
أن هذا كان من اتفاق منهم، فقال لهم موسى: إن غلبتكم أتؤْمنون بي، فقالوا له: نعم، فعلم بذلك فرعون، فلهذا قال: (إن هذا لمكر مَكَرْتموه) ، أي صنيع صنعتموه في مصر، لتستولوا عليها، فلسوف تعلمون ما أفْعل بكم.
فإن قلت: ما وجْهُ إظهار اسم فرعون في هذه الآية، وحذفه من طه؟(3/147)
والجواب لأنه تقدَّمَها قوله: (قال الملَأ من قوم فرعون) ، فعرفت هذه الآية أنهم كانوا متولّين للتجربة من تكذيب الآية، ورَدّ ما جاء به موسى عليه، ولم يجر هنا ذِكر لفرعون ولا فيما يلي الآية َ ويَتْلوها من المجاورة والمراجعة بين الملأ وأتباعهم إلى قوله: (رَبِّ موسى وهارون) ، فلما لم يقع إفصاح باسمه في هذه الجملة مع أنه ليس القائل على كل حال: (آمنتم به) غير فرعون وإنْ بَعُدَ ذلك، ولو لم يكن ليس ألبتة، فإن كونه لم يجْرِ له ذِكر مما يقتضي أن يذكر.
ولما تقدم في سورة طه أَمْر موسى عليه السلام بإرساله إلى فرعون في قوله
تعالى: (اذهَب إلى فرعونَ إنه طَغَى) ، وقوله لموسى وهارون:
(اذهبا إلى فِرعَوْن إنه طَغَى) ، ثم كرر ذلك، ثم وقع بعد ذلك
سؤال فرعون لهما في قوله: (فَمنْ رَبُّكما يا موسى) ، فتكرّرُ اسم
فرعون ظاهر ومضمر، ولم يجرِ للملأ به ذِكْراً مفْصِحاً به ظاهراً ألبتَّة ولا
مضمراً سوى الجاري مضمراً في قوله: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) ، إلى ما بعد هذا - من غير إظهارِ ألبتَّة، فلتكرر اسم فرعون كثيراً ظاهراً ومضمراً، وارتفاع اللبْس ألبتَّة، حَسُن إتْيَانه مضمراً في قوله: (قال آمنتم له) ، إذ ليس الوارِد هناك كالوارِد في الأعراف للافتراق من حيث ما ذكرنا.
(قد جاءكم الفَتْح) :
إن كان الخطاب للكفّار فالفَتْح هنا بمعنى الحكم، أي قد جاءكم الفتح الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقَتْل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين فالفَتْح هنا يحتمل أن يكونَ بمعنى الحكم، لأنَّ الله حكم لهم.
أو بمعنى النصر.
(قالوا: سمِعنَا وهم لا يسمعون) :
أي سمعنا بآذاننا، وهم لا يسمعون بقلوبهم، فسماعُهم كَلَا سَماع.(3/148)
(وقاتِلُوا الْمشْرِكِينَ كَافَّةً) ، أي في الأشهر الحرم، فهذا
نسخ لتحريم القتال فيها.
(وكافة) حال من الفاعل أو المفعول.
(قالوا لا تَنفِروا في الْحَرِّ) :
قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفَر إلى تَبوك في الحر، فأمر الله نبيّه أن يقول: (قل نَار جهنم أشدُّ حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فحرارةُ هذا السفر دفعت حَرَّ نارِ جهنم، وكذلك الجوع والتعب الذي ينال الإنسان في الدنيا يقابَل في الآخرة بضده.
(قعد الذينَ كذَبوا اللَهَ ورسولَه) :
هم قوم لم يعتَذِروا وكذَبوا في دعواهم الإيمان، إذ لو كانوا صادقين لم يتخلَّفوا عن رسول الله، فأخبر اللَّهُ رسوله بأنه سيصيب الذين كفروا منهم عذابٌ أليم.
(قَدَّرَه مَنَازِل) :
الضمير للقمر، والمعنى قَدَّرَ سيْرَه في المنازل، ليعلموا عددَ السنين والأشهر والأيام والليالي، ويكون القدر بمعنى التقدير، كقوله تعالى: (إنّا كلَّ شَيء خلقْنَاه بقَدَر) .
وبمعنى التصوير، كقوله تعالى: (فقَدَرْنَا فنعم القادرون) ، يعني
صوَّرنا، وبمعنى الوجود، كقوله تعالى: (إلا امْرأته قَدَّرْناها من الغابرين) ، وبمعنى القضاء، كقوله تعالى: (فالتقى الماءُ على أمر قَدْ قدِر) .
وبمعنى التضييق، كقوله: (ومَنْ قدِر عليه رِزْقه) ، (فظَن أنْ لن نَقْدِر عليه) .
وبمعنى التسوية، كقوله تعالى: (نحن قَدَّرنا بينكم الموتَ) .
وبمعنى المثل، كقوله تعالى: (فسالت أودِية بقَدَرِها) : أي بمثلها، ومنه سميت القدرية قدرية، لأنهم يقولون بمثل قول المجوس، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: القدرية مجوس هذه الأمة.
(قَدَم صِدق عند ربهم) ، أي عملَ صالح قدَّموه.(3/149)
وقال ابن عباس السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ.
وقيل غير هذا.
والظاْهر أنه محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن أمته قدموه بين أيديهم.
(قال الكافرون إنَّ هذا لسِحر مبِين) : يعنون به ما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وعلى قراءة - الساحر - فيعنون به سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسيراً لما ذكر قبل مِن تعجبهم من النبوءة، أو يكون خبراً مستأنفاً.
(قادِرونَ عليها) ، أي متمكنون من الانتفاع بها.
(قَتَر) ، أي غبار يغبِّر الوجه، وهذا كقوله تعالى: (وجوه يومئِذٍ عليها غَبَرَةّ تَرهقها قتَرة) .
والقتور من التقتير.
(قوماً صالحين) ، أي بالتوبة والاستقامة، وقيل صالحين مع أبيهم يعقوب، فانظر كيف سوَّفوا التوبةَ، وعلموا أنهم أخطأوا الصواب، ولا يُنسب لهم الخطأ، لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم وقع منهم هذا قبل النبوءة لا
بَعدَها (1) .
(قال: لا يَأْتِيكمَا طَعَامٌ ترزَقَانِه) ، تقتضي أنه وصفَ لهما نفسه بكثرة العلم، ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله، وفيها وجهان:
أحدهما أنه قال ذلك يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا مِن طعام قبل أَنْ
يأتيهما، وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء.
والآخر أنه قال: لا يأتِيكما طَعام في المنام أخبرتكما بتأويله قبل أنْ يظهر تأويله في الدنيا.
(قال الذي نجَا منهما) : هو ساقي القوم.
(قليلاً مِمَّا تأكلون) ، أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج
للأكل خاصة خوفَ ضياعه.
(قال الْمَلِكُ ائْتوني به) :
قبل هذا محذوف، وهو: فرجع
__________
(1) الراجح عند المحققين القول بعدم نبوتهم. والله أعلم.(3/150)
الرسول إلى الملك فقصَّ عليه مقالةَ يوسف، فرأى عِلْمَه وعَقْله، فقال: ائتوني به.
(قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) .
لما أمر الملكُ بإخراج يوسف من السجن وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبَرِّئَ نفسه مما نسِب إليه مِن مرَاوَدة امرأة العزيز عن نفسه، وأنْ يعلمَ الملك وغيره أنه سُجن ظُلْما، فذكر طرفاً من قصته لينظرَ الملك فيها، فيتبين له الأمْر، وكان هذا الفعل من يوسف صبرًا وحلماً، إذ لم يُجِبْ إلى الخروج من السجن ساعةَ دعِي إلى ذلك بعد طول المدة.
فإن قلت: قد قال سيدنا - صلى الله عليه وسلم -:
" رحم الله أخي يوسف، لو لبثت في السجن ما لبث فيه لأجبت الداعيَ ".
وهذا يقتضي أن الإجابةَ أولى من الْمكْثِ فيه؟
والجواب أن هذا عنه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الْمَدْح ليوسف والتواضع منه - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فصَبر يوسف في السجن فيه فوائد، منها: إظهار منزلته عند الملك وتبرئته مما قِيل، وليزدادَ منزلةً عنده فيصير سائساً للدولة وحافظاً، ألا تراه كيف قال:
(اجعَلْني على خزائنِ الأرضِ إنَّي حفيظٌ عَلِيم) ، وإنما طلب
منه الولاية شفقةً على عباد الله، ورغبةً في العدل، وإقامة الحق والإحسان إلى
الضعفاء من عباد الله، لأن هذا الْمَلِكَ كان كافراً فأسلم لمَّا رأى من حسن
سيرته، وكَمْ له في هذه الولاية من المصالح الدينية والدنيوية، والمراد بخزائن
الأرض أَرض مصر، لأن الملك لم يملك غيرها، فتأسَّ يا محمدي بهذه الأخلاق
الكريمة، واجتهد في إصلاح هذه الأمة: وَقِّرْ كبيرهم، وارحم صغيرهم، وتجاوَزْ عن مسيئهم، ألا ترى الصدِّيقَ لم يذكر امرأة العزيز مع ما كان منها من الإساءة، بل ذكر النسوة اللاتي قطَّعْنَ أيديهنَّ، وعفا عن إخوته فما صدر منهم، هكذا أولو العَزْم في معاملتهم مع أمّة نبيهم، تعلموا منه الصفْحَ والإحسان، فعامَلُوا أمته بسَتْرِ ذوي العصيان والدعاء لهم بالرحمة والإحسان، راجين بذلك معاملةَ الله لهم، وكما تَدِين تدَان.(3/151)
فإن قلت: هل يجوز لنا الاقتداء بمَدْح يوسف لنفسه؟
والجواب أنه مدح الصفتين اللتين أودعهما الله فيه، فالمدحُ إنما هو للهِ لا
لنفسه، ولولا ذلك لهلك الْخَلْق.
وقد أخبره اللَهُ أن صلاح هؤلاء العامة إنما يكون بسببه لصبره على بلائه، وكذلك أنتَ يا محمدي إذا جُهل أمرك، ورجوت صلاح إخوانك، فلا ينبغي لك السكوت، لما فيه من المصلحة، هذا إن رجوت
بذلك منفعة غيرك، ولذلك استحبَّ للعلماء لُبْس الجيّد، والتشبّه بأرباب الدنيا، لأن العامة لا تقبل كلامَ رَثِّ الهيئة، ولا تلتفت إليه، فضلاً عن سماع كلامه، ورَضي الله عن السيد الذي طُولب بولاية القضاء ففرَّ منها، فلما كان بغَدٍ أعطي أَلف دينار، فقال له الملك: بالأمس هربت منها، والآن أرشيت عليها، فقال: بالأمس كان غيري أَولى بها، والآن أعتقْتُ هذه الأمة ممن يريد أكلها، هكذا كانوا رضي الله عنهم، يراعون مصلحة الأمة رَعْياً لنبِيها، ويَرْحمونها لوصيته عليها.
فيا أبناء الطريقة ورجال الحقيقة، استَوْصوا خيراً بهذه الخليقة، وخصوصاً
بهذه الأمة، فاخفضوا لها جناحَ الذل من الرحمة ولا توحشوها ما أنستها مِنْ رَبّها ونبيها، وعاملوا الكلّ على الإطلاق بمكارم الأخلاق، صلوا مَنْ قطعكم، وأعطوا مَنْ حرمكم، واعفوا عمن ظلمكم، وإن لم يكونوا لها أهلاً فكونوا أنتم لها أهلاً.
(قال إني أَنا أخوك) .
أي قال يوسف لأخيه: إني أنا أخوك واسْتَكْتَمَه الأمر.
وحبسه بتهمة السرقة، فكتب إليه يعقوب وقال لموصله: انظره، فإنْ نظر فيه وتغيَّرَ لوْنُه فاعلم أنه يوسف، ثم قال له في كتابه:
إن الله اصطفاك فاستحال عليكَ اسمُ السرقة، كذلك مَن اصطفاه اللَّهُ يستحيل أَن تنسبه إلى السرقة، فلما نظر يوسف إلى الكتاب تغيَّرَ لوْنه، فقال للرسول: مِثْلُ هذا الكتاب لا يقرَا إلا في الخلوة، ثم قرأه وبكى كما قدمنا.
وأنت يا محمديّ اصطفاكَ ربّك في الأزَل، وأخرجك في خير الملل، وبعث
إليك خاتم الأنبياء والرسل، وخاطبك بكتابه الذي ليس له مِثْل، فامتَهَنْتَه ولم
تلتفت إليه، بل وصفْتَ نَفْسك بشرِّ الخصال، وعرَّجْتَ عليه كأنكَ لم تصدِّق(3/152)
بالمآل، ولم تعرِف أنكَ تُرض عليه عند الموت ويوم السؤال، وتطالب - مع هذا الْجَوْر والقصور - بالتنعم باللذات والحبور، أنت تعلم ما تقاسي على صفة منتنة، وما تحتاج إليه من مؤونة، وتريد الوصولَ إلى الجواري الحسان اللاتي لم يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ ولا جان، هؤلاء الملائكة مع جليل قَدْرهم، وكَثْرَة عبادتهم، يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عَبَدْنَاكَ حقَّ عبادتك، ولو استكثرت أعمالهَا لتباعدت من خالقها، يقول تعالى في بعض كتبه:
" أيطلب أحدكم الجنةَ بقيام الليل، والحاريس
يحرسُ ليلةً بدانِقَيْن، فكيف يمنّ عليَّ بليْلةٍ، وهي تساوي دَانِقين، أخذت بزيّ كسرى وقيصر، وتريد أنْ ترافِقَ أحبابي! وَيْحَك اعرض نفسك على كتابي تجد فيه وصفَ أحبائي وأعدائي، وانظر إلى أيِّ الصنفين أنْتَ أقرب، فإنكَ بهم يوم القيامة تلحق.
كيف تأمن مَكْرِي، أو تطلب جواري، ولست تدري في أي
الفريقين أنتَ يوم الميثاق حيث قلت: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، أَم حين خلقتك في ظلمات ثلاث، وكتب عليك ملَكُ الأرحام بالشقاوة أو السعادة، أو يوم المطلع حين تبَشَّر برضائي أو سخطي، أم يوم يصير الناس أشتاتاً، ولا تدري أي الطريقتين تَسْلك، فمحقوق صاحبُ هذه الأخطار ألا يلتفت إلى الأغيار، ولا يتشبه بالأحرار، ما حيلتكَ إذا اضطجعْتَ في حفرتك، وانصرف المشيعون من جيرانك، وبكى كلُّ غريب عليك لغُرْبتك، ودَمَع عليك المشفقون مِن عشيرتك، وناداكَ من شَفِير القبر ذو مَوَدَّتك، ورحمك المعادي عند صَرْعتك، ولم يَخْفَ على الناظرين عَجر حيلتك، فإن كنت عندي حبيباً، وإليَّ قريباً، أحسن ضِيافتك، وأكون أشفق من قرابتك، وأقول لملائكتي: فريد قد نعاة الأقربون، ووحيد قد جفاهُ الأهلون، فأشْفِقوا عليه وارحموه، ويا هوامّ لا تقربوه، ويا أرض توسمعي عليه ولا تؤذيه، ويا رضوان افتح عليه مِنْ نعيم ما يُؤْنِسه ويغذيه، (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
(قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) :(3/153)
هذا الكلام من إخوة يوسف على وَجْهِ الاستعطاف، لأنهم كانوا أعلموه بشدة محبَّةِ أبيه.
(قال كَبببرهم) ، أي في السن، وهو روبيل، أو في الرأي، وهو شمعون، وقيل يَهوذا.
(قال بل سوَّلَتْ لكم أنْفسُكم أمْراً) ، قبله محذوف، تقديره: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له: (إن ابنكَ سرق) ، عند الجمهور بفتح السين وضمها وشدّ الراء وتخفيفها، فقال: (بل سوَّلَتْ لَكم أنْفسكم) ، لأنه علم أَنَّ كلَّ ذلك لم يكن.
(قال: يا أَسَفَى عَلَى يوسف) :
تأسَّف على يوسف دون أخيه لإفراط محبته فيه، ووَحْشَته له، ومصيبته كانت السابقة، فجدّدت له هذه الثانية وَحشَته.
وهكذا عادته فيمن أحبَّ غيره ابْتلي بفراقه، فلا تجعل محبك ومحبوبك إلا
مَن لا يفارقك.
وروي أن يوسف عليه السلام جاءه رجل فقال له: إني أُحبُّك.
فقال: لا تفعل، أحبَّني أبي فعمي بصره، وألقيت في الجب، وامرأة العزيز
أحبَّتني فابتليت بالملامة، وحُبست في السجن، وكذلك سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ جبريل فابتلي بحَبسه عنه مدةً، وأحبَّ مكةَ فابْتلي بالخروج منها، وأحبَّ عائشة فابْتلي بقصة الإفْك، كلّ هذا غيرةً منه سبحانه على أحبابه، ليكون شغلك يا محمدي بالله لا بغيره إن فهمت، وإلا فهكذا يُفعل بك.
(قالوا أإنَّكَ لأنْتَ يوسف) :
قرئ بالاستفهام والخبر، فالخبر على أنهم عرفوه، والاستفهام على أنهم توهَّموا أنه هو ولم يحقِّقوه.
(قال أبوهم إنِّي لأجِدُ رِيحَ يوسف) .
كان يعقوب ببيت المقدس، ووجد ريح القميص، وكان مع يوسف في بيته زماناً لا ريح له، فلما فصلت العِير اتَّصل ريحه بيعقوب.
كذلك قلبك يا محمدي مع مالك خزانتك،(3/154)
فإذا أنفقْتَ مالكَ في طاعة الله تفَرغَّ قلبُك لعبادته، وترى حينئذ من لطف الله
بكَ حالاً لا يخطر ببالك.
(قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) :
وعدهم يعقوب بالاستغفار، لأنهم جاءوا متضَرَعين معترفين بما جنوه، كذلك أنْتَ يا عبد الله، إذا أذنبتَ وأتيتَ معترفاً لرسولك الذي أرسل إليك متضرعاً وجِلا، فإنه يستغفر لك، ويشفعُ فيك، لأن الله أمره بالاستغفار لك، وأذن له في الشفاعة فيك.
وكيف لا وهو أكرم الْخَلْق عليه! وقد وعدنا بذلك في قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) .
وإني قد مُنعت يا سيد الأولين والآخرين عن الإتيان إليكَ بذنوب جَنَيْتها على نفسي، فأنْتَ تعلم عُذْري، ولا حيلةَ لي غير التعلق بجاهك العظيم والصلاة عليك، صلى الله عليك وعلى آلك أفضل صلاة وأزكى تسليم.
فإن قلت: لِمَ وعدهم الله بالاستغفار ولم يستغفر في الحين؟
والجواب أنه وعدهم بالاستغفار للسَّحَر، لأنه وقت إجابة، والدعاء في وقت
الإجابة لا يُرَدُّ.
فأخذ العلماء من هذه الآية التعرض لنفحات رحمةِ الله، ومَنْ راقب يراقب، ومن غفل غُفِل عنه، وقالوا: الوعد مع العطاء أفضلُ من العطاء
بغير وعد، فجبر قلوبَهم بالوَعْدِ بالاستغفار، ثم استغفر لهم فكَمُلت الفَرْحَتان.
(قَصَصِهم) :
الضمير للرسل على الإطلاق.
أو ليوسف وإخوانه، والأول أعلم، لقوله تعالى: (وظَنّوا أنهم قد كُذِبوا) .، بتشديد الذال وتخفيفها.
وقد قدمنا معناها في حرف الكاف.
(قارعةٌ) :
يعني في أنفسهم وأولادهم، أو غزوات المسلمين إليهم، وانظر قوله تعالى: (حتى يأتي وَعْدُ الله) ما المراد به؟
وبهذا تمسك أهلُ الاعتزال، وقالوا بوجوب إنفاذ الوعيد، وهو مختَلَف فيه
عندنا، لكن الكلام القديم الأزَلي الذي هو صفةٌ ذاتيةٌ لله تعالى يستحيل فيه(3/155)
الْخلف، وأما كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو ترجمة عن ذلك الكلام فليس كذلك
ومثالهُ إذا قلت: مَنْ يقتل زيدًا فأنا أقتله، فتارة تقصد الحقيقةَ، وتارة تكون
غير مريد قَتْله، لكنك تقصد المبالغة في العبارة على جهة التخويف والتنفير عن فعل ذلك، فعبارتكَ يمكن فيها عدَم الوقوع، وأما في نيتك وقَصْدِك فلا بُد من وقوعه، لأنك عزمْتَ على ما أجمعت عليه، وهو قصدٌ حقيقي بخلاف الكلام الذي هو ترجمةٌ عمَّا في القلب فإنه قد يكون مجازاً.
وهذا هو جوابُ أهل السنة عن قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) .
(قائم على كلِّ نَفْس بما كسبَتْ) .
إن قصِد استعلام الخبر فهو استفهام، وإلا فإن كان المعنى ثابتاً في نفسِ الأمر فهو تقرير، وإن لم يكن ثابتاً فهو إنكار.
وهو تقرير لقول ابن عطية: المراد أفمن هو قائم على كل
نفس بما كسبت أحقُّ بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر، وهو معطوف على مقدَّر، فمنهم من كان يقدِّره: أهم جاهلون بمن هو قائم، ومنهم من قَدره: أهم غافلون عمن هو قائم، وهو الصواب، قال: وهل هذا من العمومات المخصوصة أو لا، قال: إن قلنا إن ذات الباري تعالى لا يُطْلَق عليها نَفْس فيكون عامًّا باقياً على عمومه، وإن جوّزْنَا الإطلاق، لقوله تعالى: (تَعْلَمُ ما في نَفْسي ولا أَعْلَمُ ما في نفْسك) ، فيكون هذا مخصوصاً بالباري جلّ وعَلَا، إذ لا يقال إنه حفيظ على نفسه.
قيل: (بما كسبت) بدل على التخصيص.
وقيل: بل هو متعلق بقائم، وليس بصفة للنفس.
والكسب: الصوابُ تَفْسِيرُه بما قاله أهل السنة، لأن الأصل عدم
النقل، ومعنى (قائم) أي حفيظ ورَقيب وعالم.
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) :
أي في ألوهية اللَهِ شَكٌّ.
وقال الفارسي: أفي وحدانية الله شَكٌّ، وإنما قرَّرَه الفارسي هكذا، لأن أول ما يحضُّ الرسل قومَهم على اعتقاد وحدانية الله، بخلاف الألوهية، إذ لم يخالف فيها(3/156)
أحد، وقد خالف فيها المجوس الذين عبدوا الشمس وإنْ عبدوها فلم ينكروا
البَعْثَ بدليل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .
والدهرية، قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا) .
وكان بعضهم يقول في هذه الآية: انظر كلامَهم، جعلوا أنفسهم مظروفين في
الشك، والشكَّ ظرفاً لهم، وكلامُ الرسل جعلوا الشك مظروفًا في أمر الله، أي في شأن الله، وجعلوا شأن الله ظرفاً له، وقالوا: هذا لوجهين: نَقْلِي وعقلي، أما النقليّ فلأنَّ الظرف أوسع من الظروف، فالشكّ محيط بالكفّار من جميع الجهات، وهم مفتقرون إليه، إذ المتحيز مفتقر إلى الحيِّز، والحالّ مفتقر إلى المحلّ لا بدَّ منه.
وقول الرسل: (أفي الله شَكٌّ) - جعلوا الشكَّ متحيزاً حالاًّ في أمر
الله، فأمْر الله أعْلَى منه وأكبر، فهو حَيِّز له، فهو إشارةٌ إلى تقليل الشكّ، أي لا يتصّور أن يقعَ شكّ في الله بوَجْه وإن قلَّ، فإذا أنكروا أن يكون أمر اللَه حيِّزاً للشك مع قِلته فأحْرَى أن يكون الشك حَيِّزاً له مع كثرته.
فإن قلت: أضاف الرسلَ إليهم ولم يقل رسلنا؟
قلت: تنبيهاً على أنَّ الرسل منهم بحيث يعلمون حالَهم، وأنهم لم يَعْهَدوا منهم كذباً، ولا علموا أنهم خالطوا سحَرةً، فدَل على أن ما جاءُوهُمْ به حقّ.
قال الفخر في المحصل: مذهبُ أهل السنة أنَّ الرسل ليس في خِلقتهم وبِنْيتهم زيادة علمية، ولا خاصية ذاتية اختصوا بها عنا، وما وُجد منهم من القوة على الوَحْي وغير ذلك فأمور عَرَضية، كالشجاعة للبطل.
ومذهبُ الفلاسفة أنَّ بنْيتهم مخالفةٌ لنا، ولا بدّ فيهم من خاصية ذاتية اختصُّوا بها عنا.
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) :
لم يثبت الخافض في الأولى وأثبته هنا، لأنها إما مقالة خاصة أو هي جواب عَن قولٍ صدرَ منهم، والمقالة الأولى لهم ولغيرهم.
وقيل: لما كان وجود الله تعالى أمراً نظريًّا ليس بضروري، وكَوْن الرسل
مثلهم أمراً ضروريًّا لا يحتاج إلى نظر لظهوره، فكأنه يقول: ما قالوا هذا إلا لهم(3/157)
لا لغيرهم لغَفْلَتهم وغَبَاوتهم وجَهْلهم، كما أنً القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا
- ما يخَاطب بها إلا مَنْ هو في غاية الجهل والغَباوة.
وأجاب بعض النجباء أن قوله: (أفِي الله شكٌّ) - خطاب لمن عاند فيه، وهو
كالعاند في الأمر الضروري، فلذلك أسقط المجرور، لأن الْمجيبَ عن ذلك
يجيب به من حيث الجملة، ولا يُقْبِل بالجواب على المخاطب لغباوته عنده
ومعاندته، فيجيب وهو معرض عنه، بخلاف قولهم: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فإنه تقرير لمقالتهم، وتثبيتٌ لها، والمقر لمقالة خَصْمه
يُقبل عليه بالجواب، لأنه لم يبطل كلامه بالإطلاق، بل يقرِّرُه ويزيد فيه زيادات تبطل دعوى خصمه.
فإن قلت: لم جمع السبل في قوله تعالى: (وقد هَدَانا سُبلَنا) ، وقد ذكرتم غير مرة أن طريق الهدى واحدة؟
فالجواب أنه على التوزيع، فَلِكلّ رسول طريقٌ باعتبار شريعته وأحكامه.
قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .
(قال إبراهيم رَبِّ اجعَلْ هذا البلد) : المراد به مكة.
وهذا الدعاءُ وقع من إبراهيم حين خلَّف هاجر (بِوَادٍ غَيْر ذِي زَرْع) ، فنفى القليل والكثير، والمراد ليس فيه لحم ولا شجر ولا ماء.
فإن قلت: آية البقرة مدنيَّة، وآية إبراهيم مَكية، والقاعدة أنَّ الاسمَ إذا كرر ذكرُه يأتي أولاً منَكَّراً وثانياً معرفاً؟
والجواب أن الإنسان إذا دعا أولاً إنما يَدْعو لشخص معَيَّن يقْصِده ويعيِّنه
في ذهنه، فإذا أَراد الدعاء يعيد نكرةً أو معرفة أو كيف ما كان، اكتفاءً
بحصول تعيينه أولاً.
وقيل: هذا تأكيد، هذا إذا قلنا إن المنزل أولاً هو المدعو به ثانياً، لأن الاسم إذا تقدم نكرةً ثم يُعاد فإنما يُعيده معرَّفاً، قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) .(3/158)
فإن قلت: القاعدة أن يكون المبتدأ معلوماً وخَبَره مجهولاً، والبلد في هذه
الآية أصله قبل دخولِ الفِعْلِ عليه مبتدأ، لأنه نعتٌ لهذا، ونعت المبتدأ مبتدا، و (آمِنًا) خبره.
وفي قوله: اجعل هذا بلداً آمناً (هذا) مبتدأ، و (بلدا) خبره، و (آمِنًا)
نعت أو خبر بعد خبر، والقصة واحدةٌ.
وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس هو كغيره معه، فهو معلوم من حيث
كونه، مجهول من حيث كونه بلدا آمنا، فالأول كما تقول: اجعل هذا الرجل صالحاً، دعَوْتَ له بالصلاح فقط، والثاني كقولك: اجعل هذا رجلاً صالحاً مع أنه رجل، لكنك دعوت له بتحصيل المجموع.
ورُدَّ بأنه يلزم عليه أن يجوز زيد زيد العاقل، فيخبر بزيد العاقل عن زيد نفسه، مع أنه لا يفيد شيئا، لأن الأول هو الثاني.
وأجيب إنما نظيره زيد القائم زيد العاقل، فيخبر بزيد مع غيره، أما إذا
أثبت بمجرد لفْظِ الأول فلا يجوز
فإن قلت: كيف يدعو الخليل بقوله: (واجْنبْنِي وبنِيَّ أنْ نَعْبدَ الأصنام) ، وقد علم أن عبادةَ الأصنام مستحيلة في حق النبي، فأحْرَى في حق الخليل؟
فالجواب دعا بهذا على وَجْهِ التذلّل والخضوع، وعادة الأنبياء صلوات اللَه
وسلامُه عليهم عدَم الانبساط مع الربوبية، لتمكَن الخوف من قلوبهم، وهذا فيه الاقتداءُ بغيره، ويؤخذ من هذه الآية أنه لا يدعو الشخص بالمستحيل عقلا، كقول الإنسان: رَبَ اجعَلْني في غير حَيِّز، أو غير ذلك من المستحيلات.
وقد ذكرها القَرَافي في قاعدة ما يجوز من الدعاء وقاعدة ما لا يجوز، حذفنا ذكرها للطول.
(قالوا يا أيّها الذي نُزِّلَ عليه الذِّكْر) ، يعني بزعمك ودَعْواك لا بإقرارنا.(3/159)
فإن قلت: الوصفُ الأخصّ هو القرآن، والذكْرُ وصف أعمّ، فلِمَ عَبَّروا
بالأعَمّ دونَ الأخص؟
والجواب أنه في التعبير بالأخص تنبية وتذكير بالمعجزات التي ورد بها
القرآن، وهم مقصدهم تعمية ذلك وإخفَاوه.
وانظر الى المثل السائر: ذكَّرْتني الطعنَ وكنْتُ ناسياً.
فإن قلت: هل أرادوا اتّصافَه بالجنون، لما جاء به من الوحي إلى الذين
يسترقون السمع؟
فالجواب أنهم أرادوا أن به جنوناً يصحبونه بدليل قوله تعالى: (أم يقولون
به جِنَّة) .
(بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) :
هذا الإضراب منهم إضراب انتقال، لأنهم أضربوا عن مفهوم قولهم: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ، لأن مفهومه أنَّ باقي جسدهم لم يسكر، وما زال صحيحاً، فأضربوا عن هذا المفهوم، وقالوا: بل جميع ذواتنا مسحورة، ولو كان إضراب إبطالِ للزم عليه أن تكون أبصارُهم غير مسحورة، وليس ذلك مرادهم، وقوله: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ظاهره كالمناقض لقوله: (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) .
فإن قلت: ما أفاد قولهم (قَوْمٌ) ، ولو قالوا: بل نحن مسحورونَ لاستقلّ
الكلام؟
فالجواب أنه أفاد الإخبار بكمال عبادتهم، وأنهم جماعة كثيرون، وتعدّدُ
الأشخاص مظنة التفطن والفَهم، ومع هذا فكلُّهم يتعامَوْن وتعمُّهم الضلالَة ولا يهتدون إلى الإيمان به بوَجهٍ.
(قال رَبِّ بما أغْوَيْتَنِي) :
قد قدمنا معنى الإغواء.
واعترافه بالربوبية يُفهم منه أنَّ كفْرَه كان باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم.
وقدمنا أيضاً أن الفاء لم تدخل في الحجر كما في الأعراف، اكتفاءً(3/160)
بمطابقة النداء لامتناع النداء منه، لأنه ليس بالذي يستَدْعيه النداء.
فإن ذلك يقَعُ مع السؤال والطلب، وهذا قسم عند أكثرهم، بدليل ما في (ص) [82] .
وخبر عند بعضهم، والذي في (ص) جاء على قياس ما في الأعراف، لأن ما
فيها موافق لما قبله في مطابقة الفاء، وزاد فيها الفاء التي هي لعطف جملة على جملة لتكونَ الثانية مربوطة بالأولى، فموافقتُها أكثر.
وقال في (ص) : (فبعزَّتِكَ) وهو قَسَم عند الجميع.
(قال هذا صِرَاطٌ عليَّ مستقيم) :
القائل لهذا هو اللَّهُ تعالى، والإشارةُ بهذا إلى نجاة المخْلصين من إبليس، وأنه لا يقدر عليهم، وإلى تقسيم الناس إلى غويّ ومخلص.
(قالوا إنَّا ارْسِلْنَا إلى قومٍ مُجْرمين) ، قالت الملائكة: أرسلنا إلى قوم لوط.
(قالوا بَشَّرْناكَ بالحق) :
الضمير لإبراهيم، أي بَشَّرْناكَ باليقين الثابت، فلا تستبعده، ولا تكنْ من القانطين: من اليائسين.
(قدّرنا إنها لمِنَ الْغَابرين) :
إنما أسند الملائكةُ فعل التقدير إلى أنفسهم، وهو للَه وحْدَه، لا لهم من القرْب والاختصاص بالله، - لا سيما في هذه القضية، كما يقول خاصة الملك: دَبَّرْنا كذا.
ويحتمل أن يكون حكايةً عن الله.
(قوم منْكَرون) ، أي لا نعرفهم.
(قالوا بل جِئْنَاكَ بما كانوا فيه يَمْتَرون) :
يعني جئناك بما كانوا يَشُكُّون من العذاب لقومك.
(قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) .
كان قوم لوط نَهَوْه أن يُضِيف أحدًا، فقالوا له هذه المقالة احتجاجاً بما سبق من إنذاره، فأجابهم بتزوِّج بناته إنْ أرادوا شيئاً،(3/161)
وفدّاهم ببناته.
واختلف في عددهم، وكان أبو البنات، كما كان إبراهيم أبو الذكور، وجَمَعَ اللهُ لنبينا الذكورَ والإناثَ، فكان له أربعة ذكور وأربع نسوة.
وهذا من اعتدال مزاجه - صلى الله عليه وسلم -.
(قال الذين أُوتوا العِلمَ إنَّ الخِزْيَ اليوم والسوءَ على الكافرين) .
الخِزْي: راجع لأمر الباطن النازل بهم، والسوء راجع لأمر الظاهر الحالّ
بهم في أبدانهم.
فإن قلت: كيف أكَّدَ بأنّ خِطابَهم إنما هو لله تعالى العالم بأنَّ ذلك حق؟
والجواب أن هذه المقالة صدرَتْ منهم قبل حلُولِ العذاب بأولئك، فهم في
قضية الإنكار لها يريد أنهم استسلموا لقضاء الله، والمغلوبُ إذا استسلم تارة
يعترفُ ويُقرُّ، كقوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألْقَى إليكم السَّلاَم لسْتَ مُؤْمناً)
، وتارة ينْكِرُ موجبات العقوبة، كهذه الآية، طمعاً في أنْ يُقبل
ذلك منه، ويُتَغاضى عنه ويترك.
(قال النار مَثوَاكم) :
هذا من قول الله.
وقال: (مَثْواكم) ولم يقل داركم، لأن الدارَ محلّ السكنى، والسكنى مظنّة الطول، فناسب الإتيان بالدار في محل المدح للمتقين، لأنَّ الإنسانَ قد يسكن الموضع الزمانَ القليل ويملُّ مِن سكناه، ولا يحبُّ البقاء فيه.
والمَثْوى: الإقامة مطلقا، تطلق على القليل والكثير.
(قال أرأيتَك هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ) :
الكاف لا موضِع لها من الإعراب، وهذا مفعول بـ أرأيت والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمْته عليَّ وأنا خير منه، فاختصر الكلام، فحذف ذلك.
وقال ابن عطية: أرأيتَك هنا تأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني.
ومعنى الاحتناك الميل، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشدَّ على حنكها بحَبْل فتنقاد.
(قال اذهَبْ) :
خطاب من الله لإبليس، وما بعده من(3/162)
الأوامر على وَجْه التهديد لإبليس.
قال الزمخشري: ليس المراد هنا الذهاب الذي
هو ضد المجيء، وإنما معناه: امْضِ لشأنك الذي اختَرْتَه، خذلاناً له وتخلية.
ويحتمل عندي أن يكون معناه الطرد والإبعاد.
(قاصِفاً مِنَ الريح) :
القصف: هو الكَسْر، وفيه تهديدٌ لمَنْ ركب البحر ولا يخاف الله.
(قَبيلا) :
قيل معناه مُقَابلة ومعاينة.
وقيل ضامناً شاهداً يصدقك.
والقَبالة في اللغة الضمان.
(قَيِّماً) :
أي مستقما.
وقيل قَيِّما على الخلق بأمر الله.
وقيل (قَيِّماً) على سائر الكتب بتصديقها.
وانتصابه على الحال من الكتاب، والعاملُ فيه (أنزل) .
ومنع الزمخشري ذلك الفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه
فعلٌ مضمر، تقديره جعله (قَيِّماً) .
(قال له موسى هل أتَّبعُك) :
في الآية مخاطبة فيها تلاطف وتواضع، وكذلك ينبغي أن يكونَ الإنسان مع مَنْ يريد أن يتعلَّم منه، يُنْصِتُ لكلامه، ولا يعارضه، ويخدمه بنفسه ومالِه، ويُسرع في قضاء حوائجه.
(قال ألَمْ أقلْ لكَ) :
هذا مِنْ قول الخضر لموسى، وذلك
أن مولمى نَسِيَ العَهْدَ الذي بينهما، هذا قول الجمهور.
فإن قلت: ما فائدة زيادة اللام في الثالثة؟
فالجواب لما فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في الأوليين.
وفي صحيح البخاري: كانت الأولى من موسى نِسياناً، وفيه - عن مجاهد قال: كانت الأولى نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة عَجْزاً.
قال ابن عطية: وهذا كلام معتَرَض، لأن الجميع شرط، ولأن العَمْدَ يَبْعُدُ على موسى عليه السلام، وإنما هو التأويل، إذ جنب صفة السؤال أو النسيان.
وروى الطبري، عن أبي كعب، أنه قال: إن موسى عليه السلام لم ينسَ، ولكن قوله هذا من معاريضِ الكلام.(3/163)
قال ابن عطية: ومعنى هذا القول صحيح، ولم يبَيِّنه.
ووَجْههُ عندي أنَّ موسى عليه
السلام إنما رأى العَهْد في أن يسأل، ولم يرَ إنكار هذا الفعل شنِيعاً سؤالا، بل
رآه واجباً، فلما رأى الخضر قد أخذ العَهْدَ على أعمّ وجوهه فضمَنه السؤال
والإنكار والمعارضة، وكلٌّ اعتراض، إذ السؤال أخَفّ من هذه كلها - أخذ معه في باب المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، فقال له: (لا تؤاخذني بما نَسيت) ، ولم يقل إني نسيت العَهْد، بل قال لفْظاً يُعطى للمتأول أنه نسي العهد، ويستقيم أيضاً تأويلُه وطلَبه مع أنه لم ينسَ العهد، لأن قوله:
(لا تؤاخذني بما نسيت) -كلامٌ جيد -، وليس فيه للعهد ذِكْر، هل نسيه أم لا، وفيه تعريض أنه نسي العهد، فجمع في هذا اللفظ بين العُذْر والصدق، وما يخل بالقول.
(قال انفخُوا) :
يريد نَفْخَ الكير، أي أوقدوا النارَ على الحديد.
وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماءَ، ثم جعل البنيان من زُبَر الحديد
حتى ملأ به بين الجبَلين، ثم أفرغ عليه قِطْراً: نحاساً مُذاباً.
وقيل هو الرصاص.
وهذا السدّ من عجائب الدنيا، إذ لا يقْدِر على هَدْمه أهْل الدنيا.
ولمّا فرغ من بنائه قال: هذا رحمةٌ من ربي.
ولما أُسْري به - صلى الله عليه وسلم - رآه وتعجّب من
صنعته، وقال رجل: يا رسول الله، رأيتُ سدَّ يأجوج ومأجوج.
فقال: كيف رأيتَه، قال: كالبُرْد المحبَّر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد رأيته.
(قَبس) :
قد قدمنا أنه الجَذْوَة من النار تكون على رأس العود
أو القصبة ونحوها.
فإن قلت: ما معنى اختلاف هذه الألفاظ والتقديم والتأخير في مواضع من
السور؟
والجواب أنَّ ذلك يختلف باختلاف المَقْصد، والتناسب، ففي آية طه
، رؤية موسى النار وأمْره أهله بالمكث وإخباره إياهم أنه آنس نارا،(3/164)
وأطمعهم بأن يأتيهم بنار يصطلون بها، أو خبرٍ يهتدون به - إلي الطريق الذي
ضلوا عنه، ولكنه نقص من النمل رؤية موسى النار وأمْره أهله بالمكْثِ
اكتفاء بما تقدم، وزاد في القصص: قضاء موسى الأجَل المضروب وسيره بأهله إلى مصر، لأن الشيء قد يُجْمَل ثم يفصَّل، وقد يفصَّل ثم يجمل، وفي طه فَصل ثم أجمل، تم فَصل في القصص، وبالغ، فيه، وقوله في طه:
(أو أجِدُ على النار هدى) ، أي مَن يخبرني بالطريق فيهديني إليه، وإنما أخّر ذلك الخبر فيها وقدمه فيهما مراعاةً لفواصل الآي في السور جميعاً، وكرر (لَعَلي) فِي القصص لفظاً وفيهما معنى، لأن (أو) في قوله: (أو أجد) نائب عن (لعلي) .
وقوله: (سآتيكم) تضمن معنى لعلي.
وفي القصص: (أو جَذْوة من النار) ، وفي النمل: (بشهابِ قَبَس) ، وفي طه (بقَبَس) : فهي في السور الثلاث عبارة عن معبَّرٍ [معنى] واحد، وهذا برهان لامع.
(قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) .
أي أعطيتك كل ما طلبتَ من الأشياء المذكورة.
(قد جئناكَ بآيةٍ من ربك) :
يعني قَلْب العصا حيَّة، وإخراج اليَدِ بيضاء، وإنما وحدها وهما اثْنان، لأنه أراد إقامةَ البرهان، وهو معنى واحد.
(قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) :
قرئ إن هاذين بالياء ولا إشكال في ذلك، وقرئ بالتخفيف، وهي مخففة من الثقيلة، وارتفع بعدها هذان بالابتداء.
وأما عَلَى قراءةِ.
نافع وغيره بتشديد (إنَّ) ورَفْع (هذان) فقيل: إنَّ هنا بمعنى نعم، فلا تنصب، ومنه ما روِي في الحديث: إنَّ الحمدُ لله بالرفع.
وقيل اسم إنَّ ضمير الأمر والشأن، تقديره إن الأمر، وهذان لساحران مبتدأ
وخبر في موضع خبر إن.
وقيل: جاء في القرآن في هذه الآية بلغة بلحارث بن كعب، وهي إبقاء التَّثنية بالألف في حال النصب والخفض، وقالت عائشة: هذا مما لحن فيه كاتبُ المصحف (1) .
__________
(1) لم يثبت ذلك ولم يصح عن أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهو من وضع الزنادقة.(3/165)
وقد أكثروا في الكلام في هذه الآية وألفوا فيها تأليفاً.
(قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) :
إنما حكى اللَّهُ عن قريش هذه الأقوال الكثيرة ليُظْهرَ اضطرابَ أمرهم وبطلان أقوالهم.
(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) :
القبضة: مصدر قبض، وإطلاقها على المفعول مِنْ تسمية المفعول بالمصدر، كضَرْب الأمير.
ويقال قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفِّه، وبالصاد الهملة إذا أخذه بأطراف الأصابع.
وقد قرئ كذلك في الشاذّ، وإنما سمّي جبريل رسولاً لأن الله أرسله
إلى موسى.
(قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) :
والقَصْم: الكسر.
قال ابن عباس: هي قرية باليمن، يقال لها حَضور، بعث الله إليهم رسولا فقتلوه، فسلّط الله عليهم بخت نَصّر ملك بابل، فأهلكهم بالقتل.
وظاهر اللفظ أنه على العموم، لأنَّ (كمْ) للتكثير، فلا يريد قريةً معينة.
(قائمين) : مصَلين.
(قانع) ، سائل، يقال: قنَع فنوعاً إذا سأل، وقَنِعَ قناعة إذا
رضي.
(قَلَى) يقلي أبغض، ومنه: (وما قلى) ، و (لعَملكم من القَالِين) .
(قوماً عَالين) : متكبرِين.
والمراد بهم قوم فرعون.
(قال طائِركم عِنْدَ الله) ، أي السبب الذي يحدث عنه
خيركم وشركم هو عند الله، وهو قضاؤه وقَدَره، وذلك ردٌّ عليهم في تطيُّرِهم ونسبتهم ما أصابهم من القَحْط إلى صالح عليه السلام.
(قال إنِّي مُهَاجر) :
فاعل (قال) إبراهيم.
وقيل لوط، وهاجرا من بلادهما من أرض بابل إلى الشام.(3/166)
(قال إن فيها لوطاً) :
ليس إخبارا بأنه فيها، وإنما قصد نجاةَ لوط من العذاب الذي يصيب أهلَ القرية وبراءته من الظلم الذي وُصفوا به، فكأنه قال: كيف تهلِكون أهْلَ هذه القرية وفيها لوط، وكيف تقولون: إنهم ظالمون وفيهم لوط؟
(قَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) :
الضمير لعيسى، وذلك أنهم قالوا: إن كان عيسى يدخل النارَ فقد رضينا أن نكونَ وآلهَتنا معه، لأنه خير من آلهتنا.
وقيل: إنهم لما سمعوا ذِكْرَ عيسى قالوا: نحن أهْدَى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميًّا، ونحن عَبَدْنَا الملائكةَ فمقْصِدهم تفضيل آلهتهم على
عيسى.
وقيل: إن قولهم: (أم هو) يَعْنون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمدٌ أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى قالوا: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) - يريدون تفضيلَ آلهتهم على محمد، والأظهر أنَّ المرادَ بـ (هو) عيسى.
وهو قول الجمهور، ويدلّ على ذلك تقدم ذكْرِهِ.
(قوم خَصِمون) :
هذا من قول الله لهم، يعني يريدون أن يغالطوك في عيسى وإنما هو عَبْدٌ أنْعَمْنا عليه بالنبوة وَالمعجزات وغير ذلك.
(قال الذين كفَروا للّذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونَا إليه) :
القائلون لهذه المقالة هم أكابِر قريش لما أسلم الضعفاء، كبلال وعَمَّار
وصيهيب - قالوا: لو كان الإيمان خيراً ما سبقَنا هؤلاء إليه.
وقيل: بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمَتْ غفار ومزَينة وجهينة، وقيل: بل قالها اليهود لما أسلم عَبْدُ الله بن سلام.
والأول أرجح: لأن الآية مَكيّة.
فإن قلت: كان الأوْلى أن يقول ما سَبَقْتمونا إليه، لأن قول الذين كفروا
للذين آمنوا مواجهة؟
والجواب معنى الذين آمنوا: من أجل الذين آمنوا، أي قالوا ذلك عنهم في
غَيْبتهم، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام، لأنه لو كان خطاباً لقالوا: ما سبقتمونا إليه.(3/167)
(قد خَلَتِ النّذُر من بين يَدَيْه ومِنْ خَلْفِه) ، أي تقدمَتْ من قبله ومِنْ بعده.
والنّذر: جمع نذير.
فإن قيل: كيف يتصور تقدُّمها من خلفه؟
فالجواب أنَّ هذه الجملة اعتراض، وهي إخبار من الله تعالى أن الله قد بعث
رسلاً متقدمين قَبل هُود وبعده.
وقيل من خلفه: يعني خَلْفه في زمانه.
(قال إنما العِلْمُ عند الله) :
قال هود: العذابُ الذي قلتم ائتا به ليس لي علم وَقْت كونه، وإنما يعلمه الله، وما عليَّ إلا أنْ أبلغكم ما أرسلت به، ولكني أَراكم قوماً تجهلون أمْر الله ووَعيده.
(قالوا للذين أوتُوا العلم ماذا قال آنِفاً) :
قد قدمنا معنى آنفاً.
والمعنى أن قرَيشاً كانت تقول ذلك إمَّا احتقاراً لكلامه، كأنهم قالوا أيُّ
فائدة فيه، وإما جهلاً ونسياناً، لأنهم كانوا وقْتَ كلامه - صلى الله عليه وسلم - مُعْرِضين عنه.
(ق) :
قد قدمنا أنه جبل محيط بالأرض، أو هو مِن أسماء الله تعالى: القاهر، أو المقتدر، أو القادر (1) .
فإن قلت: أين جواب القسم، وما الفرق بينه وبين (يس) في إظهار
جوابِ القسم ووصف القرآن بالمجيد؟
والجواب أنَّ جوابَ القسم محذوف، تقديره ما ردُّوا أمرك بحجةٍ، وما
كذّبوا ببرهان، وشبه ذلك، وعن هذا المحذوف وقع الإضراب بـ بل.
ووصف كلامه هذا بالمجيد لشرفه، وفي سورة يس بالحكيم، لأنه محكم على غيره لرعاية الفواصل.
وقد قدمنا أنَّ اللهَ سمَّاه بستين اسماً، وما ذلك إلا لتعظيمه، فاعرفْ
قَدْرَ ما وصل إليكَ يا مَنْ أكرمه الله به.
(قعيد) ، أي قاعد، وقيل مقاعد يعني مجالس.
ورَواه ابنُ عطية بأنَّ المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، وإنما أفرده وهمَا اثنان، لأنَّ
__________
(1) كلام فيه نظر.(3/168)
التقدير عن اليمين قَعِيد وعن الشمال قَعِيد من (المُتَلَقَيَانِ) ، فحذف أحدهما
لدلالة الآخر عليه.
وقال الفراء: لَفْظُ (قَعيد) يدل على الاثنين والجماعة، فلا يحتاج إلى حذف، وذكر جماعة ٌ عن مجاهد أن (قَعِيد) اسم كاتب السيئات.
(قاصِرَات الطَّرْف) :
معناه أنَّ الحُورَ العِين يقصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم.
(قالوا لولا نزل هذا القرآنُ على رَجُل من القَرْيَتَيْنِ عَظيم) :
لم يكْفِ قريشاً معَانَدتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ضموا إليه مكابرتهم والاستخفاف بكتابِ الله وشرائعه والاحتكام على حكمة الله في تخيَّر - صلى الله عليه وسلم - مِن أهل زمانِه.
ومعنى القريتين: مكة، وعَنَوْا بالرجل منها الوليد بن المغيرة.
وقيل عتبة بن ربيعة.
والأخرى الطائف، وعَنَوْا بالرجل منها عروة بن مسعود.
وقيل حبيب بن عُمير.
ووصفوه بالعظمة لكثرة ماله، فأنكر اللهُ عليهم اعتراضَهم
وتحكُّمهم، وأن يكون لهم التدبير لأمر النبوءة بقوله: (أهُم يَقْسمون رحمةَ
رَبِّك) ، والتخير لها مَنْ يصلح لها ويقوم بها والمتولِّين لقسمة
رحمةِ الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قُدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلاً
فأعلَم أنهم عاجزون عن تدبر خُوَيصة أمْرِهم وما يصلحهم في دُنْياهم، وأن الله عزّ وعلا هو الذي قَسم بينهم معيشتَهم وقدَّرها ودبَّر أحوالَهم تدبير العالم بها، فلم يُسَوِّ بينهم، ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء وأغنياء، ومحاويج وضعفاء، وموالي وخدماً، ليصرّف بعضهم بعضاً في حوائجهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويتوافروا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وَكَلَهُم إلى أنفسهم، وولاَّهُم تدبيرَ أمرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير المعيشةِ الدنيَّةِ في هذه الحياة الدنيا على هذه الصفة فما ظَنُّك بهم في تدبير أمْرِ الدين الذي هو رحمةُ اللهِ الكبرى ورَأفَتُه العظمى، وهو الطريقُ إلى خيار حظوظ الآخرة والسُّلَّم إلى حلول دار السلام.(3/169)
(قَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) :
يعني من إجابتك.
وقولهم: (إننا لمُهْتَدون) : وَعْدٌ نَوَوْا إخلافَه، لأنهم رَأوْا تسعَ آيات فلم يؤمنوا.
وقولهم: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ) : إما أنْ يكون عندهم غَيْرَ مذموم، لأن السحر كان عِلْمَ أهْلِ زمانهم، وكأنهم قالوا يا أيها العالم.
وإما أنْ يكون ذلك اسماً قد ألِفوا تسميةَ موسى به من أوّل ما
جاءهم، فنطَقُوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه.
فإن قلت: ظاهِرُ كلامهم يقتضي تكذيبَهم له، وقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)
يقتضي تصديقَه، فما معنى الجمع؟
والجواب أنَّ القائلين لذلك كانوا مكذّبين، وقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)
يريدون: على قولك وزَعمك، فدعا الله موسى فكشفه عنهم فنكثوا عَهْدهم.
(قال يا قوم أليس لي مُلْكُ مِصْر) :
القائل لهذا فرعون، وقصَدَ بذلك الافتخارَ على موسى والتعظيمَ لملكه، ومِصْرُ هو البلد المعروف، وما يرجع إليه، ومنتهى ذلك من نهر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل، فانظر عَقْلَه الفاسد، وبلادَته، حيثُ فخَر بتافِهٍ من الدنيا، ولم يعتبر بمَنْ تقدَّمه من الملوك الذين كانوا أعظَم منه، (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
(قال قَرِينُه هذا ما لديَّ عَتِيد) :
اختلف ما المراد بالقرين، هل الشيطان الذي كان يُغْويه، أو الملك الذي يسوقه، أو الملك الذي يتولَّى عذابَه في جهنم، والأولُ أرجح، لأنه هو القرين المذكور بعد، ولقوله: (نُقَيِّضْ له شَيْطاناً فهو له قرين) .
وقوله: (هذا ما لديَّ عتيد) ، أي هذا الإنسان حاضر لديَّ قد استَعَدْتُه ويسَّرته لجهنم، وكذلك المعنى إن قلنا إنَّ القرينَ هو الملك السابق.
وإن قلنا إنه إحدى الزبانية فمعناه هذا العذاب لديَّ حاضر.
ويحتمل أن يكون (ما) في قوله: (ما لديَّ) موصولة، فـ (عَتِيد)
بدل منها، أو خَبَر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو تكون موصوفة(3/170)
فـ (عَتِيد) صفة لها، ويحتمل أن يكون (عَتِيد) الخبر ويكون (ما) بدلاً مِنْ هذا أو منصوبة بفعل مضمر.
فإن قلت: إذا كان القَرِين في الآية الثانية، بعد هذا فما فائدة تكرُّره وعطفه بالواو أولاً؟
فالجواب أنهم اختلفوا، هل المراد بهما قرين واحد أم لا، إذ المقارنة تكون
على أنواع.
وقال بعض العلماء: قرين في هذه الآية الثانية ليست عطفاً بل جواباً.
وأما عطفه بالواو فلأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من آياتٍ هي إخبار عما يَلْقَاهُ الإنسان المتقدم ذكره مِن الأهوال والشدائد في المواقف الأخروية، وما بين يديها: أولها قوله: (وجاءت سكْرَة الموت بالحق) .
ثم قال: (ونُفِخ في الصور ذلك يوم الوَعِيد) .
(وجاءت كل نفسٍ معها سائِق وشهيد) .
(وقال قرِينُه هذا ما لديَّ عَتِيد) ، فهذه إخبارات عن
شدائد يلي بعضُها بعضاً.
فطابَق ذلك وورد بَعْضها معطوفاً على بعض.
وأما قوله بعد: (قال قرينه ربنا ما أطْغَيْته) ، فهو إخبار مبتدأ مستأنف
معرًف بتَبَرِّي قرينه من حَمْله على ما ارتكبه واجترحه، ولا طريق إلى عطف
ذلك على ما قبله، إنما هو استئناف إخبار، فوُجد كلّ على ما يرد.
(قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) :
أي كان جبريل من محمد - صلى الله عليه وسلم - بمقدار القاب - وهو مقدار المسافة بين قَوْسين عَرَبيين، ومعناه من طَرَف العود
إلى طَرَفه الآخر.
وقيل من الوتر إلى العود.
وقيل ليس القوس الذي يُرْمَى بها، وإنما هي ذِراع تُقَاس به المقادير.
ذكره الثعلبي، وقال: إنه من لغة أهل الحجاز، وتقدير الكلام: مقدار مسافة قُرْبِ جبريل من محمد - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُ قاب
قوسين، ثم حذفت هذه المضافات.
ومعنى أدنى أقرب.
و (أو) هنا مثل قوله: أو تريدون.
وأشبَهُ التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل أن يكونَ قاب قوسين، أو يكون أدنى.
وهذا الذي ذكرنا أن الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح.
وقد ورد ذلك في الحديث عن سيِّدنا(3/171)
ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنها لله تعالى، وهذا القول يردّ عليه الحديث والعقل.
إذ يجبُ تنزيهُ اللَهِ تعالى عن تلك الأوصاف من الدنوّ والتدلِّي وغير ذلك.
(قاضِيهَ) :
يعني من أعطي كتابه بشماله يتمنى أنْ يكون مات في الموتة الأولى بحيثُ لا يكون بعدها بعث ولا حياة.
(قاسطون) :
من قسط الثلاثي يعني جار، وأقسط الرباعي - بالألف، إذا عدل.
بالرومية، ومنه: (إنَّ اللهَ يحبُّ المُقْسِطين) .
(قصص) :
له معنيان: من الحديث، ومن قَصِّ الأثر.
ومنه: (فارتَدَّا على آثارِهما قصصا) ، (قُصِّيه)
(قَسْورَة) :
ابن عباس: هو الرامي.
وقال أيضاً القسورة بلغة أهل الحبشة هو الأسد.
وقيل أصوات الناس.
وقيل الرجال الشداد، وقيل سوَاد أولَ الليل.
فإن قلت: سواد أول الليل لا يليق، لأنَّ اللفظة مأخوذة من القَسر الذي هو
للقهر والغلبة؟
والجواب: أنه يليق باللفظة، لأنه لا شيء أشد نفارا لحُمرِ الوحش من
قُرْب الظلام لتوحّشها.
(قَمْطَرِيرا) :
معناه طويل، وقيل شديد.
(قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ) .
منونين، وبتنوين الأول، وهذا التنوين بدل من ألف.
الإطلاق، لأنه فاصلةٌ، والثاني لإِتْبَاعه الأول.
وقرئ قوارير - بالرفع، على: هي قوارير، والضمير في (قدَّروها تقديراً) يحتمل أن يكون للطائفين وأن يكون للمنعمين، ومعنى تقديرهم أنهم قدروها في أنفسهم، أو تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدَّروا، والتقدير(3/172)
إما أن يكون على قدر الأكف، قاله الربيع، أو على قَدْر الرِّي، قاله مجاهد.
قال ابن عطية: وهذا كله على قراءة مَنْ قرأ قَدَّروها بفتح القاف.
وقرئ قُدروها على البناء للمفعول، ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر، تقول: قُدرت الشيء، وقدرك على فلان إذا جعلك قادراً له.
والمعنى جعلوا قادرين له كما شاءُوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.
فإن قيل: من المعلوم أن القارورة من الزجاج، فكيف قال من فضة؟
فالجواب أنَّ المراد أنها في أصلها من فضة، وهي تشبه الزجاج في صفائها
وشفيفها.
وقيل: هي من زجاج، وجعلها من فضة على وَجْه التشبيه لشرفِ
الفضة وبَيَاضها.
(قَصْر) :
واحد القصور، وهي الديار العظام.
وقد قدمنا وَجْهَ تشبيه الشرر به في عِظَمه وارتفاعه في الهواء.
وقيل: هو الغليظ من الشجر واحده قَصْرة كجَمْرة.
(قَضْبا) ، هي الفِصْفصة، وقيل علف البهائم.
واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤْكل رطباً.
(قَيِّمَة) :
فيعلة، وفيه مبالغة، تقديره اللَّهُ القيّمة أو الجماعة القيمة، ومعناه أنَّ الذي امروا به من عبادة الله والإخلاص له، وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة، هو دين الإسلام، فلأيِّ شيء لا يدخلون فيه؟
(قرآناً) :
يكون بمعنى القراءة، ويقال فلان يقرأ قرآناً حسناً، ومنه: (إنَّ قرآنَ الفَجْرِ كان مشهودا) .
وقد قدمنا أنه لا ئسمى بهذا الاسم غَيْر كتابِ الله، لأنه يجمع السور ويضمّها، والقارئ مَنْ له القراءة ومَنْ لا قراءة له فليس بقارئ، ولا يكون قارئاً إلا عند وجود القراءة، ولو كانت القراءة قديمة لكان يجب أن يكونَ الحافظ لكتاب الله قارئاً له في جميع أحواله، فلما بطل ذلك دلَّ على أنها محْدَثة، والقراءة غير الحفظ،(3/173)
والكتابة غير السمع.
والمتلوُّ والمقروء والمحفوظ والمكتوب والمسموع واحدٌ، ولهذا لو قال:
واللهِ لا قرأت القرآن ثم سمعه من غيره لم يحْنَث، وهكذا لو قال: واللهِ
لا حفظت القرآن ثم كتبه أو قرأه أو سمعه من غير أن يحفظه لا يَحْنث، فدلّ
ذلك على تغاير الكتابة والقراءة والحِفْظ والسمع. والله أعلم.
(قَرِّي عَيْنًا) :
أي طيبي نفساً لما فعل اللَّهُ لكِ من ولادة نَبئ
كريم، أو من تيسير المأكول أو المشروب، كقولك: قرِرت به عيناً أقَرّ بالكسر في الماضي والفتح في المضارع، وقرَرت بالمكان بالفتح في الماضي، والكَسر في المضارع.
(قَرْضًا) :
سلفاً، والفعل منه أقرض يقرض.
(قلنا) :
مذهب العرب إذا أخبر الرئيس منها عن نفسه قال: قلنا وفعلنا وصنعنا، لعلمه أن أتباعه يفعلون بأمره كفعله، ويَجرون على مثل أمره، ثم كثر الاستعمال بذلك حتى صار الرجل من السوقة يقول فعلنا وصنعنا.
والأصل ما ذكرت.
(قُرُوء) :
جمع قرء، وهو مثترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحَمَلَه مالك والشافعي على الطهر لإثبات التاء في ثلاثة، فإن الطهر
مذكر والحيض مؤنث، ولقول عائشة رضي الله عنها: الأقراء هي الأطهار.
وحمَلَه أبو حنيفة على الحيض، لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلكَ مقصود
العِدَّة، فعلى قول مالك والشافعي تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة، إذا طلقها في طُهْرِ لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها.
(قرْبان) :
ما يتَقرَّب به إلى الله عز وجل مِنْ ذبح وغيره، والقُرْبة هي الطاعة، ومن شرطها العلمُ بالمتقرب إليه، فمحال وجود القُربة قبل العلم بالمعبود والنظَر والاستدلال المؤدّيين إلى معرفته عزّ وجل، فهو واجب وطاعةٌ له، فكل قربة طاعة، وليست كل طاعة قُرْبة، لأن الصلاة في(3/174)
الدار المغصوبة تقَعُ واجبة وطاعة، وليست بقربة، لأنه لا يُثَاب عليها، وإنما
الفرض يسقط عند الفقهاء والمتكلمين من أهل الحق، ومَنْ لا قربة له فليس
بمتقَرب.
ولا يقال متقرب إلا لمَنْ كثرت قُرَبُه وطاعته.
(قُبُلًا) :
أصناف، جمع قبيل، أي صنف صنف.
وقُبلاً أيضاً جمع قبيل، أي كفيل.
وقبلاً أيضاً مقابلة.
وقُبلاً عيانا.
وقُبلاً استئنافاً.
وقولُ سليمان، (لا قِبَل لهم بها) ، أي لا طاقة لهم.
(قِسْطاس) :
قال مجاهد: هو العدل بالرومية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جُبير، قال: القسطاس - بلغة الروم:
الميزان.
(قمَّل) - بضم القاف وتشديد الميم: صغار الجراد.
وقيل البراغيث.
وقال الواسطي: هو الذِّبان بلسان العبرانية والسريانية.
وقرئ بفتح القاف والتخفيف، وهو على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم، ومن طبعها أن تكون في الشعر الأحمر أحمر وفي الأسود أسود وفي الأبيض أبيض، ومتى تغيّر الشعر تغير إلى لونه، وهو من الحيوان الذي إناثُه أكبر من ذكوره.
وقيل: إن الصئبان بيضه.
وأما قملة النسر التي تسقط منه إذا عضّت قتلت.
وروي أن موسى عليه السلام مشى بعصاه إلى كثيب أهْيل، فضربه فانتشر
كلّه قمل في مصر.
ثم إنهم قالوا: ادع لنا ربك في كَشْف هذا عنا، فدعا، فرجعوا إلى كفرهم.
وروى الترمذي الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة لا يقتلها، بل
يدفنها، لِمَا رُوي أنه مَنْ قتل قملة على رأس خلائه بات معه في شِعَاره شيطانة تُنسيه ذِكْرَ الله أربعين صباحاً.
وقد رخص - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف والزُّبير
ابن العوام لُبْس الحرير لدفع القمل، لأنه لا يقمل بالخاصية.
قال الجاحظ، وربما كان للإنسان قمل الطباع، وإن تنظف وتعطر وبدَّل الثياب، فعند الشافعية يجوز(3/175)
لُبْس الحرير لهذه النازلة.
وقال مالك: لا يجوز لبسه مطلقا، لأنَّ وقائع الأحوال عنده لا تعمّ.
وفي فتاوى قاضي خان: لا بأس أنْ يطرح القملة حيّة، والأدب
أن يقتلها.
وإذا رأى المصلِّي في ثوبه قملة أو برغوثاً فالأوْلى أن يتغافلَ عنها.
فإن ألقاها بيده أو أمسكها حتى يَفْرغ فلا بأس، فإن قتلها في الصلاة عُفي عن دمها دونَ جلدها، فإن قتلها وتعلَّق جلدها بظُفْره أو ثوبه بطلت صلاته.
قال الغزالي: ولا بأس بقتلها كما لا بأس بقَتْل الحية والعقرب.
قال القمولي: ولا بأس
بإلقائها بغير المسجد، والذي قاله صحيح، للحديث:
" إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فلْيَصرّها في ثوبه حتى يخرج من المسجد ".
رواه الإمام أحمد في الصحيح.
وروى الحاكم في أوائل المستدرك من حديث أبي سعيد أنه قال: قلت: يا رسول الله، مَنْ أشدُّ الناس بلاءً، قال: الأنبياء.
قال: ثم مَنْ؟ قال: العلماء.
قال: ثم مَنْ؟ قال: الصالحون، كان أحدهم يُبْتلى بالقمل حتى تقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلْبَسها، ولأحدهم كان أشدَّ فرحاً بالملأ من أحدكم بالعطاء، قال: صحيح على شرط مسلم.
(قرَّة عَين لي ولك) :
مشتق من القَرّ، وهو الماء البارد، ومعنى قولهم: أقر اللَّهُ عينكَ: أبرد اللَّهُ دمعك، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.
(قُدورٍ راسيات) :
قد قدمنا أنها ثابتات لا تنزل، لأنها كانت أثَافِيها منها، ويطبخ فيها الجمل، لا يخرج منها إلا عظامه.
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، أي الكذابون.
والإشارة إلى الكفار.
وقُتِل معناه لعن.
قال ابن عطية: واللفظة لا تقتضي ذلك.
وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقَتْل، ثم جرى مَجْرى اللعن والقبْح.
(قُطوفها) :
جمع قطف، وهو ما يُجنى من الثمار ويُقطف كالعنقود.(3/176)
(قِبْلَةً) :
جهة، وسُميت الكعبة بذلك لأنها تُقابل المصلِّي ويقابلها.
(قيلاً، وقولاً) بمعنى واحد، ومنه: (وأقوم قيلاً) .
(قِسّيسين) : جمع قَس، وهو العالم.
وفي الحديث: يُبعث بن ساعدة أمةً وحده.
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيته على جَمل بعُكاظ، وهو
يقول: أيها الناس اسمَعُوا وَعُوا، مَنْ عاش مات، ومَنْ مات فات، وكلّ ما هو آت آت، مالي أرى الناسَ يذهبون ولا يرجعون، أرَضُوا بالإقامة فأقَاموا، أمْ تركوا هنالك وناموا، إن في السماء لخبرًا، وإنَّ في الأرض عبراً.
سَقْفٌ مرفوع، ومهاد موضوع، وبحار تَمُور، ونجوم تحور، ثم تعود.
اقسم باللهِ قسماً لا كَذب فيه ولا إئماً: إن للهِ لدِيناً هو أرضى من دِيْنٍ نحن عليه، ثم تكلم بأبيات شعر لا أدري ماهي.
قال أبو بكر: كنت حاضراً، والأبيات عندي.
وأنشد:
في الذاهبين الأوليـ ... ن من القرون لنَا بَصَائر
لما رأيتُ موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمشي الأكابرُ والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غَابر
أيْقَنْث أني لا محا ... لة حيث صارالقَوْمُ صائر
له هذا يدلّ على أنه تنبّه بعقله في هذه، فاتَّعظ واعتبر، ولو أدركته الرسالة
لنبّه بعقله من كان في جهالة.
(قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) :
جمع قطعة، ومَنْ قرأ قطْعاً - بتسكين الطاء - أراد اسم ما قُطع، تقول قطعت الشيء قَطْعاً، بفتح القاف من المصادر، واسم ما قطعت، والجمع أقطاع، (مُظْلِمًا) على قراءة فتح الطاء حال من الليل، وأمَّا على إسكانها فصفةٌ له أو حال من الليل.(3/177)
(قِطَع مُتَجَاوِرَات) :
قد قدمنا أنَّ معناها قُرى متصلة، ومع تلاصقها فإنَ أرضها تتنوع إلى طيب ورديء، وصلب ورخو، وغير ذلك.
(قِيعَة) :
جمع قاع، وهو المنبسط من الأرض.
وقيل القيعة بمعنى القاع، وليس بجمع.
(قَرْن) :
مفرد قرون، وهو مائة سنة، وقيل سبعون، وقيل أربعون.
فإن قلت: قد ورد في آيات من القرآن زيادة (من) كآية الأنعام.
ويس، وفي السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) .
وفي (ص) : (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) ، هذه، الآيات الثلاث بزيادة (من) فيها، وسائرها ورد في القرآن مثل هذه الآي لم تزد فيها (مِنْ) ؟
والجواب أنها تزاد حيث يراد تأكيد مضمن الآي من العصاة، والإشارة إلى
الوعيد، وهي أبداً في أمثال هذه المواضع محرِزة معنى التأكيد لا تنفكّ عن
ذلك، ثم إن حذفها أوجز من إثباتها، ولكلِّ مقام مقال، فحيث ورد من هذه
الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدي في أمة بعينها أو أكثر، أو تكرر التهديد
وشدة التخويف من مقتضى السياق وهو فحوى الكلام، فذلك موضع زيادتها والتأكيذ بإثباتها، وحيث لا يتقدم تفصيلٌ على ما ذكرناه، أو تكون آية التهديد لا تَبْلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد، فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها، إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر.
(قَرْنَ في بيوتكنَّ) :
قرئ بكسر القاف، ويحتمل وجهين:
أحدها أن يكون من الوقار، أو من القرار في الموضع، ثم حذفت الراء
الواحدة كما حذفت اللام في (ظَلْتَ) .
وأما القراءة بالفتح فمن القرار في الموضع على لغةِ مَنْ يقول: قرِرت بالكسر أقر بالفتح.
والمشهور في اللغة عكس ذلك.(3/178)
وقيل: هو من قارّ يقار إذا اجتمع.
ومعنى القرار أرجح، لأن سودة رضي الله عنها
ْقيل لها: لِمَ تحتَجِبين؟ فقالت: أمرنا الله أن نقرَّ في بيوتنا، وكانت عائشة
إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيامَ الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن اللهَ أمرك أن تقَرّي في بيتك.
(قال رَدت إني قتَلْتُ منهم نَفْسا) :
هذا من قول موسى، والإشارة بالنفس إلى القِبْطي، فقال الله: ألَمْ أحفظ خضرة الشجرة من النار لم تحرقها ولم تضرها، فكذلك يا موسى احفظك وأنْجيك من فرعون ولا يضرك بشيء، فلما خرج موسى من مصر حين قتل القبطي سأل اللهَ الهداية، فقال: (رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) ، فلم يجبه حتى بعث إلى مصر ثانية، فقال عند خروجه: سمعتُ نِدَاءَك وأجبتكَ، واليوم هديتك إلى كلامي، إني انا الله العزيز الحكيم، فكذلك أنْتَ يا مؤمن لمّا أنزلتُك إلى الدنيا عرَْفت المحن التي توجهَتْ إليك، فقلت: اهدنا الصراط المستقيم، فأسمع وأجيب، تم إذا قرب رجوعك إليّ وفوضتَ أمرك إليّ أقول لك: إني أنا الغفور الرحيم، وأَجعل الجنةَ منزلك ومَثْواك، كما جعلت دِيارَ فرعون ومقامه ميراثا لبني إسرائيل، فأظت: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) .
فإن قلت: ما ورد في الشعراء، أن الله أهلك القبط على أيدي بني
إسرائيل وأورثهم ملكه ودِيارهم، والذي في الدخان، أن الله أورثها
آخرين ليسوا هم؟
الجواب أنه وقع الخلاف في رجوع بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاكِ
فرعون، وقد قدمنا في مشهور التواريخ أنهم لم يرجعوا إليها ولا ملكوها قطّ، وإنما أمرهم الله بدخول الأرض المقدَّسة، ولهذا قال قتادة: القوم الآخرون هم بنو إسرائيل، فورثوا نوعها في بلاد الشام، وإنما سماهم آخرين، لأنهم ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا وَلاء، لأنهم كانوا مسَخّرين مستعبدين في(3/179)
وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أنَّ بني إسرائيل لما رجعوا إلى مصر بعد هلاك
فرعون - ويقوي قوله آية الشعراء - إليه، ونصبه بالكاف في كذلك يدل على رجوعهم، أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، وأوْرَثْناها لهم، وسمّاها وِراثة من حيث كانت لأناس ووصلت إلى آخرين بعد موت الأولين، وهو حقيقة الميراث في اللغة ورَبطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث.
(قِطَّنَا) :
قد قدمنا أنَّ القِط في اللغة له معنيان:
أحدهما الكتاب بالنبطية، والآخر النصيب.
وفي معناه - في قوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) ، ثلاثة أقوال: أحدها نصيباً من الخير، أي دعَوا أَن يعجِّل اللَّهُ لهم في الدنيا.
والآخر نصيبهم من العذاب، فهو كقولهم: (أَمْطِر علينا حجارةً من السماء) .
والثالث صحائف أعمالنا.
فتبًّا لقومٍ طَبع اللَّهُ على قلوبهم وطلبوا الحجارةَ أو العذاب مع علمهم أنه الحق ولولا أنَّ اللهَ رحمهم بوجوده معهم لعاجَلهم بالحجارة ونزولِ العذاب، لكنه - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالم، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) .
وقال معاوية لرجل من أهل سبَأ: ما أجهل قومك حين ملَّكوا أمرهم امرأة!
ققال له: قوْمك أجهل من قومي حيث قالوا حين دعاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحق: (إنْ كان هذا هو الحق من عندك فأمْطِرْ علينا حجارةً) .
ولم يقولوا: اهْدِنا له.
فإن قلت: قد قال بعدها: (وما لهم ألاَّ يعَذِّبهم الله) ، وهي مناقضة لقوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنْتَ فيهم) ؟
فالجواب أن هذه الآية نزلت كلّها بمكة إثر قولهم: (أو ائْتِنَا بعذابٍ أليم) .
ونزل قوله: (وما كان الله معذبَهم وهم يستغفرون) ، عند خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقِيَ
بمكة مؤمنون يستغفرون.
وقيل: إن قوله: (وما لهم ألاَّ يعذِّبهم الله) نسخ(3/180)
لقوِله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) - وفيه نظر، لأن الخبر لا
يدخله نسخ.
والظاهر أن: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) - يقتضي الوعيد.
وتقديِره: وما يملكهم، أو ما يدْرِيهم، ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن
تكونَ (أن) في موضع نصب.
وقال الطبري: تقديره: وما يمنعهم أن يعذبوا.
قال ابن عطية: والظاهر في قوله: (وما) أنها استفهام على جهة التقرير
والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول، وأقطع في الحجة.
والمعنى: وأيّ شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم وهم معذّبون لا محالة، وكيف لا يعذبون وحالُهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام جَوْراً وتعدِّياً عامَ الحديبية، وإخراجهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصدّ.
(قد) :
حرف يختص بالفعل المتصرف الْخَبَريّ المثبت المجرَّد من ناصب
وجازم.
وحرف تنفيس ماضياً أو مضارعاً.
ولها معان:
التحقيق مع الماضي، نحو: (قد أفْلَح المؤمنون) .
(قد أْفلح من زَكَّاها) ، وهي في الجملة الفعلية المجابِ بها القسم.
مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التوكيد والتقريب مع الماضي
أيضا، تقربه من الحال، تقول: قام زيد، فيحتمل الماضي القريب والماضي
البعيد.
فإن قلت: قد قام، اختص بالقريب.
قال النحاة: وانبنى على إفادتها ذلك أحكام، منها: مَنْع دخولها على ليس.
وعسى، ونِعْم، وبئس، لأنهن للحال، فلا معنى لذِكْرِ ما يقرّب ما هو حاصل، ولأنهن لا يفِدْن الزمان.
ومنها وجوب دخولها على الماضي الواقع حالا، إما ظاهرة، نحو: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) .
أو مقدرة، نحو: (هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا) .
(أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) .
وخالف في ذلك الكوفيون والأخفش، فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك لكثرة وقوعه حالا بدون قد.(3/181)
وقال السيد الجرجاني وشيخنا العلامة الكافِيجي: ما قاله البصريون غلط، سبَبه اشتباه لفْظِ الحالِ عليهم، فإنَّ الحال الذي يقربه (قد) حال الزمان، والحال المبيّن للهيئة حال الصفات، وهما متغايران.
المعنى الثالث التقليل مع المضارع، قال في المغني: وهو ضربان تقليل وقوع
الفعل نحو: قد يصدق الكذوب.
وتقليل متعلَّق الفعل نحو: (قد يعلم ما أنْتُم عليه) ، أي أنَّ ما هم عليه هو أقل معلوماته تعالى، قال: وزعم بعضهم أنها في هذه الآية ونحوها للتحقيق.
ومِمّن قال بذلك الزمخشري، قال:
إنها دخلت لتوكيد العلم، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد.
الرابع: التكثير، ذكره سيبويه وغيره، وخرّج عليه الزمخشري: (قد نرى
تقَلب وَجْهك في السماء) ، أي ربما نرى، ومعناه تكثير الرؤية.
الخامس: التوقع، نحو قد يقدم الغائب لمَنْ يُتَوقع وقوعه وينتظره.
وقد قامت الصلاة، لأن الجماعة ينتظرون ذلك، وحمل عليه بعضهم قوله تعالى: (قد سمع اللَّهُ قولَ التي تُجادلك في زوجها) ، لأنها كانت تتوقَّع
إجابة الله لدعائها.(3/182)
(حرف السين المهمَلة)
(سليمان بن داوود) .
قال كعب: كان أبيض، جسيما، وَسِيماً، وَضيئاً.
جميلا، خاشعاً متواضِعاً، وكان أبوه يشاوِرُه في كثير من أموره مع صِغَر سنه
لوفور عقله وعلمه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: ملك الأرض
مؤْمنان: سليمان، وذو القرنين.
وكافران: النُّمرود، وبخت نصّر.
قال أهل التاريخ: ملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة، وابتدأ بناءَ بيت المقدس بعد مُلكه بأربع سنين، ومات وله ثلاث وخمسون سنة.
(سواءَ السّبِيل) :
هو الطريق، وجمعه سبُل، ثم استعمل في طرايق الخير والشر.
وقد قدمنا أنَّ سبيلَ الله الجهاد، وابن السبيل الضيف.
وسوَاء بالفتح - والهمز من التسوية بين الأشياء.
وسواء الجحيم وَسطها، وسيأتي معناها آخر الحرف.
(سَنَزِيد المحسنين) :
أي يزيدهم أجراً إلى المغفرة.
(سَلْوى) :
طائر يشبه السُّمَاني، كان ينزل على بني إسرائيل من المنّ.
(سجَّداً) :
معناه رُكعاً، لأن الدخول لا يتأتّى مع السجود.
وقيل: متواضعين.
وقد قدمنا أنَّ سجودَ الملائكة لآدم كان بِوَضْع جباههم في
الأرض، وأول مَن سجد إسرافيل، ولذا جازاه اللهُ بولاية اللوح المحفوظ.
(سفِه نفسه) : منصوب على التشبيه بالمفعول به.
وقيل: الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب.
وقيل تمييز، ومعناه أهلكها وأوْبقها.(3/183)
(سيَقول السفهاءُ) :
ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه.
وقال ابن عباس: نزلَتْ بعد قولهم، والمراد بهم اليهود أو المشركون أو المنافقون.
وأما: (ولا تُؤْتوا السفهاءَ أموالَكم) .
فالمراد بهم أولاد الرجل ونساؤه لأنهم يبذَرون.
وقيل السفهاء المحجورون، وأموالكم، أي أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وهي تحتَ ولايتهم.
(سِرًّا) ، وسروراً بمعنى واحد.
(تسليما) : ملاطفة وقَصْداً.
(سلَف) الأمر، أي تقدم، وأسلفت الرجل أي قدمته، ومنه: (بما
أسْلَفْتم في الأَيام الخالية) .
(سَلم) - بفتح السين: السلامة، والمراد به عقد الذمة بالجزية.
وقرئ بكسر السين بمعنى الدخول في الإسلام.
وأما السَّلَم بغير ألف فهو الانقياد.
ومنه: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) ، وقرئ بالألف بمعنى
التحية.
(سارعوا) :
بغير واو استئناف، وبالواو عطف على ما تقدم، ومعناه المبادرة إلى الأمر.
(سَعِيراً) :
اتقادا، وهو اسْم من أسماء جهنم.
(سلام) :
اسم من أسماء الله، وهو بمعنى الخير، (فاصْفَحْ عنهم وقل سلام) .
وبمعنى الثناء: (سلام على نوح في العالَمِين)
وبمعنى السلامة: (اهْبِط بسلام منَّا) .
(لهم دار السلام عند رَبهم) .
وبمعنى الشجر العظام، واحدتها سَلَمَة.
(أسلم) :
له ثلاثة معان:
الدخول في الإسلام، والإخلاص للهِ، والانقياد.
ومنه: (أسلمت لرب العالمين) .
(فلما أسْلَما وَتَلَّه للْجَبِين) .(3/184)
سكينة) : وقار وطمائينة.
وقال الراغب في مفرداته قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الفتح: 4،: إنه ملك يسكن قَلْب المؤمن ويؤمنه، كما روي: إن السكينة تنطِقُ على لسان عمَر.
وقيل في سكينة
تابوت بني إسرائيل: إن لها وجهاً مثل وَجه الإنسان، ثم هي بعد
ريح هفَّافة.
وقيل: رأس مثل رأس الهرّ وجناحان، وهي من أمر الله.
(سكن)
يسكن: له معنيان، من السكون ضد الحركة.
ومن السكنى في الموضع، ومنه: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ) .
فإن قلت: إذا كان من السكون الذي معناه الإقامة، فما معنى عطف الأكل في البقرة بالواو بخلاف آية الأعراف؟
والجواب أنَّ مورد الآيتين مختلف في الموضعين، لأن الواردَ.
في البقرة قُصد به مجرد الإخبار والإعلام به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جرى في قصة آدم عليه السلام
وابتداء خلقه، وأمر الملائكة له بالسجود، وما جرى من إبايَة إبليس عن
السجود، ثم ما أمر به آدم من سكنى الجنة والأكل منها، ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانيّ أو تحديد غايةٍ، فناسبَهُ الواو، وليس موضع الفاء.
وأما آية الأعراف، فمقصودُها تعدادُ نِعَم الله تعالى على آدم وذُرّيته، ألا
ما تقدَّمها من قوله تعالى: (ولقد خلَقْنَاكم ثم صوَّرْنَاكم) .
وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفْرِداً لإبليس: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) ، مفرداً بذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعا بالتأنيس له ووصية الذرية في قوله: (يا بني آدمَ لا يفتنَنَّكم الشيطانُ) ، فناسب هذا القصد العطف بالفاء الْمُحْرِزة معنى الترتيب.
والواو لا تقتضي ذلك، وإنما بابُها الْجَمع حيث لا يُراد ترتيب، وليس موضع شرط وجزاء، فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورد ها هنا لما ذكرتُه من قصد تجريد التفضيل المحصّل لتعديد النعم.
ولما اختلف القَصْدَان اختلفت العبارة فيهما.(3/185)
(سعى) يسعى: له ثلاثة معان، عمل عملاً، ومنه: (وأن ليس للإنسان
إلاّ ما سعى) .
ومشى، ومنه: (فاسعَوْا إلى ذِكْر الله) .
وأسرع في مشيه، ومنه: (وجاء رجلٌ من أقْصَا المدينة يسْعَى) .
فإن قلت: ما وَجْه تقديم الرجل في هذه الآية وتأخيره في آية يس؟
والجواب إنما أخره في يس لأوجه، منها: أنه كان يعبد الله في جَبَل، فلما
أسمع خبر الرجل سعى مستعجلا.
وقيل: حيث قدّم الظرف على رجل أراد أن ينبه أن الرجل من المدينة
نَفْسها، وحيث أخَّر الظرف لم يرد أن يُنَبّه على المعنى المذكور.
وقيل: لما كانت مقالة الرجل في سورة يس تقتضي الإِرشادَ أخر ذكْرَه ليكون موالياً لإسناد قوله إليه، وليعلم القائل أنَّ مقالته تقتضي الإنذار قدم ذكره وفصَل بينه وبين مقالته ليبعد إسنادها إليه، إذ المقالة تقتضي الإخفاء، وهو أيضاً كذلك، فكان بعد إسناد المقالة إليه فيه ضربٌ من إخفائه.
وقيل غير هذا من الوجوه حذفناه لطوله
(سَوْءَةَ أخيه) ، أي عورته، وخصها بالذكر لأنها أحق
بالستر من سائر البدن، والضميرُ في (أخيه) عائد على ابن آدم، وأما قوله:
(فبَدَتْ لهما سَوْءاتُهما) ، فقد قدمنا أنه زال عنهما اللباسُ الذي
كان عليهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.
(سَمَّاعونَ للكذبِ سَمَّاعُون لقوم آخَرِين) ، أي لقوم
آخرين من اليهود الذين لا يأتُون النبي - صلى الله عليه وسلم - لإفراط البغْضَةْ والمهاجرة.
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذا السماع هنا؟
فالجواب أنه إن كان سمّاعون الأول استنئاف إخبار عن المنافقين والذين
هادُوا فيكون الثاني في اليهود خاصة، وإن كان من الذين هادوا استئنافاً منقطعاً(3/186)
عما قبله فيكون سمّاعون الأول راجِعاً إليهم خاصة، فكرّر الثانية تأكيداً.
وبالجملة - فالآيةُ خطابٌ للنبى - صلى الله عليه وسلم - على وجه التسلية.
وأما قوله في براءة:
(فيكم سمّاعون لهم) ، فمعناه خطاب للصحابة بأنهم يسمعون
كلامَ المنافقين في إخبارهم بابتغائهم فتنتكم، وتنقلونها لإخوانكم المؤمنين، وهم معْ لك طالبون فسادكم.
وقيل سمّاعون، أي يتجسسون لهم الأخبار.
(سأرِيكم دارَ الفاسقين) ، أي دار فرعون وقومه، وهو مصر، فالمعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلَكُوا.
وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدمة ليعتبروا بها.
وقيل جهنم.
وقرأ ابن عباس بالثاء المثلثة -: " سأورثكم " من الوراثة، وهي على هذا مصر كما قدمنا.
(سأصْرِف عن آياتي الذين يتكبَّرُون في الأرض بغير الحقّ) :
يحتمل أن يريد بها آيات القرآن وغيره من الكتب فيطمس الله فَهْمَها.
والتدبّر في معانيها على المتكبرين، وهذا كقوله: (واتَّقُوا اللهَ ويعلِّمُكم الله) .
وفي الحديث: العلم نور يضَعُه الله في قلْبِ الخائف.
وفيه: " مَن عمل بما علم أورثه الله عِلْمَ ما لم يعْلم ".
مَنْ لم يتّق الله يصرفه عن فَهْم آياته، ويصده عن الإيمان عقوبة له على تكبّره.
وقيل: الصرف منعهم عن إبطالها.
(سكتَ عَنْ موسى الغَضَب) ، أي سكن، وبذلك قرأ بعضهم
والغضب: شعلة نار، وهو مذموم، مَنْ وجده فليستعِذْ بالله منه، وإن
كان قائما جلس، وإن كان جالساً فليَضْطَجع، وغضبُ موسى إنما كان لله في غضبه ِعلى اتخاذ العِجْل في غيبته إلى الطور، فلما رجع ألْقَى الألواحَ التي كانت عنده لما لحقه من الدهش، وأخذ برأس أخيه هارون يجرُّه، لأنه ظن أنه فرَّط في كفِّ الذين عبَدُوا العجل، فقال: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) ، الآية، فسكن حينئذ موسى.
وإنما دعاه هارن بأمِّهِ، لأنه أدْعَى إلى العطف والحنوّ.
وقرئ ابن أمِّ بالكسر على الإضافة(3/187)
إلى ياء المتكلم وحذفت الياء، وبالفتح تشبيهاً بخمسة عشر، جعل الاسمان اسماً واحداً.
وفي الآية تنبيه على أنَّ الغضبَ للَه من النصرة لدين الله، فلا يغفل المرء عن
الحبِّ في الله والبغْض في الله.
وإنما غضب موسى على مَنْ ظنّ منه الإفادة والانتهاء عما هو فيه.
وأما مَن ظن عدم ذلك فلا ينبغي إلا هجرانُه وطرْدة.
ولعمري هل فيك نفحة من هذه النفحات فتغضب على أهلك ووَلَدك وما
ملكت يمينك إذا رأيتهم خالفوا أَمْرَ ربهم، كَلاّ لو فهموا منك تغضباً لتَرْكِ
دينهم كما تغضب عليهم إذا ضيعوا دنياك لانْتَهَوا، ولكنك لا تغضب عليهم
لعدم صِدْقك مع الله فلم يزيدوا إلا طغياناً كبيراً.
(سَيَّارة) :
قوم مسافرون.
ورُوي أنَّ السيارة التي أخرجت يوسف كانت من مَدْين.
وقيل أعراب السيارة طلبوا الماءَ فوجدوا يوسف.
وسليمان طلبَ السمكةَ فوجد الخاتم، وموسى طلب النارَ فوجد الجبّار.
وأنْتَ يا عبدَ الله، هَلاَّ ترمي شبكةَ الندامة في بَحْر
الاستغفار وتَصطاد لنفسك الضعيفةِ حوتَ السلامة من الفرقة والقطيعة، فإن
كنت أحذق فعليكَ بالأوفق، لا يشغلك شاغل عن الطاعة بجهد الاستطاعة، فإن وقعتَ في ظلمة أو وَحلة يخرجك كما أخرج يوسف، وإن صيّره ملكاً فيصيّرك ملكا كريماً في دارِ ضيافته، ويكشف لك عن كمال ذاته، فتنظر إلى جماله.
(سيِّدَها) :
قد قدمنا أن السيد يراد به الرئيس والذي يفوق في الخير قومَه.
والسيد في الحقيقة هو المالك.
ولذا أضاف امرأةَ العزيزِ إليه، لأنه مالكها، فلما رأته خجلَت واستحيت وقالت: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، قتلًا أو ضرباً وَجيعاً.
قالت ذلك ضجَرًا لِمَا فاتها منه، ولما ظنت أن يَنْسب إليها من ذلك.
وأنتَ يا عبد الله، تفوتك من مولاك اغتنام الطاعات، ولا تبكي على فَقْدها،(3/188)
ولا تهتم من عقوبة معصيته.
أما علمْتَ أنَّ عقوبةَ غيبة الحبيب أشدّ من عقوبة الغضب.
غضبت زليخا ساعةً فأورثها خزْناً طويلاً، كانت تقوم الليل وتقول: يا
يوْسف، هل أنتَ نائم أو ساهر، أما أنا فأنا ساهرة من حبك، ليتني لم أمر بك إلى ما ترى! وأنت لا تخاف من غضب مَنْ لا يقوم لغضبه شيء.
فلا تحسبنَّ إمهاله لكَ إهمالاً، أما سمعتَه يقول: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) ، أي نؤاخذُهم قليلاً ولا نباغتهم كما يرتقي الراقي الدرجةَ
ْفيتدرّجِ شيئاً بعد شيء حتى يصلَ إلى العلوّ، قال بعضهم: معناه كلما جدَّدوا
ْخطيئة جدّدنا لهم نعمةً حتى نأخذهم بغتة.
(سَبعٌ شِدَاد) : يعني ذات شدة وجوع سَبْعَ سنين.
هذا تعبير الرؤيا، وذلك أنه عبَّر البقرات السمان بسبع سنين مجْدبة، وكذلك السنبلات الخضر واليابسة.
فإن قلت: ما وجه اختلافِ العددَيْن في هذه الآية وآية البقرة في قوله:
(سبع سنابل) ؟
فالجواب أن بابَ ما يجمع بالألف والتاء أن يكون للقليل ما لم ينص عليه أو
يعرض عارض، لأن آية البقرة مبنية على ما أعدَّ الله تعالى للمنفق في سبيله وما يضاعف له من أخر إنفاقه، وأن ذلك ينتهي إلى سبعمائة ضعف، وقوله: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، قد يفهم الزيادة على ما نص عليه من
ذلك، كما أشارت إليه آياتٌ وأحاديث، فمَبْنى هذه الآية التكثير، فناسب
ذ ر ورود المفسّر على ما هو مِنْ أبنية الجموع للتكثير لحظاً للغاية المقصودة.
ولم يكن ما وَضْعه للقليل في الغالب لينَاسب ما لحظ فيه الغاية من التكثير.
أما آية يوسف فإنما بناؤها على إخبار الملك عن رؤياه: (سبع سنْبلات)
: فلا طريقَ هنا للَحْظِ قِلّة ولا كثرة، لأنه إخبار برؤيا، موَجْفه الإتيان
من أبنية الجموع بما يناسب المراد وهو قليلٌ، لأن ما دون العشرة قليل، فلحظ في آية البقرة وما بعدها مما يتضاعف إليه هذا العدد، وليس في آية يوسف ما يلحظ، فافترق القَصْدَان وجاء كلّ على ما يجب.(3/189)
(سارِب) :
قد قدمنا أن (سَارِبٌ) عطف على (مُسْتَخْفٍ)
بالليل، لا على (مُسْتَخْفٍ) وحْدَه، وأما قوله: (فاتخذ سبيله في البحر سَرَبا)
، فمعناه أنَّ الحوتَ سار في البحر، فقيل: إن الحوتَ كان ميتاً
مملوْحاً ثم صار حيّا بإذن الله، ووقع في الماء، فسار فيه.
وقال ابن عباس: بل صار موضع سلوكه ماءً جامداً.
قال ابن عطية: وهؤلاء يتأوّلون سَرَباً بمعنى جَولاناً، من قولهم مَحَل سارب، أي مهمل يرْعَى فيه حيث شاء.
وقالت فرقة: اتخذ سَرَبا في التراب من المِكْتَل إلى البحر، وصادفَ في طريقه بَحْراً فثقبه.
وظاهر الأمر أن السرَب إنما كان في الماء.
ومن غريب ما رُوي في البخاري في قصص هذه الآيات أنَّ الحوت إنما حي
لأنه مستَه عَين هناك تَدْعى كين الحياة ما مستَتْ قطّ شيئاً إلا حيي.
ومن غريبه أيضاً أن بعضَ المفسرين ذكر أنَّ موضع سلوك الحوت عاد
حجرًا طريقاً، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفْضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر.
وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضَفة البحر يدلُّ عليه قوله: (فارْتَدَّا عَلَى آثارِهما قَصَصاً) .
وإنما ذَكر بعده: (واتَّخذ سبيله في البحر عَجَبا) - بالواو: لأنه يحتمل أن يكون من كلام يوشعَ لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجباً للناس.
ويحتمل أن يكون قوله تمام الخبر، تم استأنف التعجب، فقال
من قبل نفسه: عجباً لهذا الأمر.
وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأُكل شقّه الأيسر تم حيي بعد ذلك.
قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته فإذا هو شقه حوت وعين واحدة
وشق آخر ليس فيه شيء.
قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء
قشر له قشرة رقيقة تشفّ تحتها شوكة، وشقه الآخر.
ويحتمل أن يكون قوله: (واتخذَ سَبِيلَه) . الآية إخباراً من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذَ سبيلَ الحوتِ من البحر عجباً، أي تعجَّب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذَ سبيلَه عجباً للناس.(3/190)
وقرئ: واتخاذ سبيله، فهذا مصدر معطوف على الضمير في (أن أذْكرَه)
(سَرَابِيلهم مِنْ قَطِران) ، بفتح القاف وكسر الطاء.
وبفتحهما وبسكون الطاء، وإنما جعل قُمص أهلِ النار من القَطران، وهو الذي تهنأ به الإبل، لأن للنار اشتعالاً شديداً.
فإن قلت: ما فائدة الإتيان بِمنْ، وقد كان يستغنى عنها؟
فالجواب أن فائدة الإتيالن بها نَفْيُ توهّم مجاز التشبيه، نحو زيد أسد.
وكقوله عليه السلام في صحيح مسلم: "إنَّ أحدَكم لا يزال راكباً ما انتعل".
ففرْق بين خاتم فضة ومِنْ فضة، فإن الأول يحتمل أنه تشبيه محذوف الأداة، والثاني نص لا يتطرق إليه احتمالٌ ألبتَّة.
وقد يقال: إن الإتيانَ بها هو الأصل، لأن الإضافةَ في مثله على معنى مِن.
نحو ثوب خز، وإنما يُستغنى بذكرها مع الإضافة، ولما تعذرَت الإضافة هنا
بإضافة السرابيل إلى ضمير المحدّث عنهم تعين الإتيان بها رجوعاً للأصل.
لتدل على التبعيض المقصود مِن هذا التركيب.
وفائدة قصْدِه هنا الإعلام بأن هناك قَطراناً غَيرَ ما جعل من السرابيل، ليصبّ عليه، فيزداد اشتعال النار - بذلك، أَو تجدد منه السرابيل إن ذهبت الأولى بذهاب الجلودِ التي طليت بما شبّه منه بالسرابيل: (كلما نَضِجَتْ جلودهم بدَّلْناهم جلوداً غيرها) .
أو يسوقونه فتحترق أفئدتهم كلما أَحرقَت جلودَهم (نار الله الموقدة التي تطَّلِع على الأفئدة) ، أو لغير ذلك، ولو لم تذكر (مِن) لما غم أنَ هناك منه غير ما جعلت السرابيل إلا بدليل آخر.
نَظير ما ذكرناه من فائدة قصد التبعيض هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حكاية عن قول
إبراهيم: (فاجعَلْ أفئدةً من الناس تَهْوِي إليهم وارْزقْهم من الثمرات) ، ولا يتأتى السربال حقيقة من القَطران إلا بأنْ تبدّل صفته من
المائعية إلى التجمد، وحينئذ يكون إخباراً، بخلاف الْمَعْهود منه.
ويشبه على هذا(3/191)
الْجَعل أن يكون تنكيره للنوعية، أي نوع من القطران غير متعارف، فظهر من هذا أن احتمالَ التشبيه مع ذكْر " من " قائم كما هو مع حذفها.
ويحتمل أنه قصد التشبيه بالقطران لشدةِ سوادها واشتعال النار فيها ونَتنها
بحيث يقال إنها من القطران، وربما يكون من تلك السرابيل المسوح التي تقْبض فيها أرواحُ الكفار على ما ورد مرادًا بها الحقيقة في قراءة تنوين قَطرانٍ، ووصف بأنه أقرب، ويدل على أن التصريح بمن لا يُنافي التشبيه الإتيان بها مع صريحه، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كأنه من رجال شنوءة، وكأنه من رجال الزط".
(سبعاً من الْمَثَاني والْقرآنَ العظيم) :
قال بعضُ العَدديين:
إنما خص لَفظ السبع هنا لأنها أول العدد الكامل الزائد على العدد التام
الأجزاء، لأن الستة عدد تام الأجزاء، وهذا العدد له نسبة في المخلوقات
الجملة، كعدد السماوات والأرض والأيام والأعضاء، وأبواب جهنم.
وغير ذلك مما يطول ذكرها.
وذكر الله لهذه السورة أسماء كثيرة، وفيها سبع آيات، وهي
خالية من أحرف العذاب: الثاء: (لا تدعوا اليوم ثبُوراً واحداً) .
والخاء: (ألاَّ تخافوا ولا تحْزَنُوا) .
والشين: (ولا تَشثقَى) .
والجيم: (لهم نار جَهنم) - يعني الكفار.
والزاي: (إن شَجَرةَ الزّقّوم) .
والفاء: (يومئذٍ يتفرَقون) .
والظاء: (أو كظلُمَاتٍ) .
فسبحان من خصَّ هذه الأمة بمحامدَ وخصائص يجب عليهم شكْرُها إن عقلوا، ولو لم يكن لهم افتتاح هذا الكتاب المنزَّل عليهم بالحمد تعلما لهم وإرشاداً لحمده.
وكرَّر عليهم ذكر ذلك في كتابه:
كقوله لنبيه: (قل الحمد للَه الذي لم يتخذ وَلَداً) .
(قل الحمد للَه بل أكثرهم لا يعلمون) .
فإن قلت: لم أمر بالحَمْد للَه على عدم اتخاذِ الوَلد؟
والجواب أنه لو كان له ولد فلا بد من عبادته، وعبادة إلهين يشقّ علينا، ولو
كان له ولد لأعطاه أفضل الأشياء، فانفرد بالملك كلّه، ولو كان له ولد لكان(3/192)
له إلى النساء حاجة، والمحتاج لا يستحق الربوبية: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ) .
فإن قلت: لم أمر عباده بالحمد قَبْلَ سائرْ الطاعات؟
والجواب لأن أول كل شيء منه نعمة، وهو الْخَلْق السويّ، والمعرفة.
والإسلام، والهداية، فأمرنا بالحمد ليكونَ جزاؤه فقد الإنسية فيشق علينا
أداؤه، وإذا أردت أن تعرف قيمةَ الحمد فتأمَّل إلى أهل الجنة حيث حمدوه إذا
فرغوا من الحساب: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وإذا عَبَرُوا على الصراط قالوا: (الحمد للَه الذي أذهَب عنّا الحزَن) فاطر:
، وإذا بلغوا بابَ الجنة قالوا: (الحمد للهِ الذي صدَقَنَا وعْدَه) ، فإذا نزلوا منازلهم قالوا: الحمد للَه (الذي أحلَّنا دارَ الْمقَامة من فَضْله) .
فإذا فرغوا من الطعام قالوا: (الحمد للَه ربّ العالمين)
قال تعالى: (وآخِر دَعْواهم أنِ الحمد للهِ رب العالمين) .
فانظر كيف لم يغفلوا عن الحمد في كل الأحيان مع أنَّ الله ختم لهم بالحسْنى.
ِفكيف تَغْفُل يا محمديّ عَمَّن ناصيَتك بيده، وأعطاكَ سورة لا بدّ لك من
ذكرها في صلاتك، كل ذلك لمحبته فيك، ألاَ ترى أنه قسمها بينك وبينه.
وجعل جوارِحَك سبعاً وأبواب جهنم سبعاً، فإذا قرأتها أعتق الله من النار سبعاً بسبع، وجمع لكَ ذِكر عشر نفرِ من الأنبياء قبل نبيك: نوح، قال: (إن أجريَ إلا على رب العالمين) .
وهود: (إن أجريَ إلا على الله) .
وموسى: (إني رسول ربّ العالمين) .
وإبراهيم: (أسلمتُ لربِّ العالمين) .
ونبيك: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وهارون: (إنّ ربكم الرحمن) .
وإبراهيم: (ومَنْ عصاني فإنكَ غفورٌ رحيم) .
ومحمد: (لكم دينكم وليَ دِين) .
وأولاد يعقوب لما سألهم قالوا:(3/193)
(نعبد إلهكَ وإله آبائك) .
ومحد: (رَبَّنا الرحمن الْمُسْتَعانُ على ما تَصِفون) .
وموسى: (إنَّ معي رَبي سيَهْدين) .
وسليمان أمره الله بقوله: (أنْ أشْكُرَ نعمتَكَ التي أنعمْتَ عليَّ) .
وموسى: (رب بما أنعمتَ عليَّ) .
والمغضوب عليهم ذكره في الذين كفروا من بني إسرائيل في قوله إذ غضب
الله عليهم: (وباءُوا بغضبِ من الله) .
ولا الضالين ذكره في قصة داود عليه السلام تحذيرا له من الضلال وتطولاً
عليه كما تطوَّل علينا قوله: (ولا تَتَّبع الْهَوى فيضِلّك عن سبيلِ الله) .
وذكر الذين قتلوا أولادهم سفَهآ بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراء
على الله (قد ضَلّوا) .
وذكره عن كفرة بني إسرائيل:
(وضَلّوا عن سوَاءِ السبيل) .
فانظر كيف أمرك بالدعاء بها في كل صلاةٍ، واختصر لك فيها التوراةَ
والإنجيل، والزَبور، والفرقان، وصحفَ إدريس وإبراهيم وموسى، فلهذا مَنَّ الله بذكرها على نبيه بقوله: (ولقد آتيناكَ سَبعاً من المثاني) .
فإن قلت: إيتاء النعم والسكوت عنها وتَنَاسيها هو أكمل من إيتائها والمنة
بها، كما قال القائل:
وإنَّ اْمرَا أسدَى إليَّ بنعمة ... وذَكَّر فيها مرةً لبخيل
والجواب أن التذكير بالنعمة الماضية إنْ كان إشعاراً بورود نعمةٍ أخرى في
المستقبل فلا شيء فيه، وإنما يكون امتنانأ إذا! يشعر بورود نعمةٍ أخرى في
المستقبل، وعليه قوله تعالى: (ألَئ يجِدكَ يتيما فآوَى. ووجدك ضَالاً فهدَى) .
وأيضاً ذكَّر بها ليرتّبَ عليها أمراً تكليفياً فيكون أدخل في مقام الامتثال.(3/194)
فإن قلت: الجملة الثانية كأنها مبيِّنَة عن الأولى
فهلاّ عطفت بالفاء، فكان يقال: " فلا تمدنً عينيك"؟
فالجواب أنه لما كانت السببية ظاهرة أغْنَتْ عن الإتيان بالفاء.
فإن قلت: ما سر تسمية الفاتحة بالسبع المثاني، والقرآن العظيم، والفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والوافية، والكافية، والكنْز، والأساس، وسورة الحمد، وسورة الشكر، والواقية، والشافية، والشفاء، وسورة الدعاء، وتعليم المسألة، وغير ذلك من أسمائها؟
فالجواب أن ذكر فضائلها وأسمائها يحتاج لمجلد مستقل كما قال الإمام عليّ
- رضي الله عنه -: لو شئت أن أَضع على الفاتحة وقْر سبعين بعيراً لفعلت، لكني أشير لك إلى ما فتح الله به من كتب ساداتنا وأئمننا رضي الله عنهم:
فسُميت بالمثان! لأنها تثنّى في كل ركعة أو في كل صلاة، أو بسورة أخرى.
أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها على قسمين: ثَنَاء، وَدعَاء، أو لأنها إدْا قرأ العبد منها آيةً ثناه الله بالإخبار عن فعله، كما في الحديث الصحيح: " إذا قال العبدُ: الحمد للَه رب العالمين قال الله: حَمَدني عَبدي ".
. . إلى آخر الحديث، أو لأنها جمع كل فيها فصاحة المباني وبلاغة المعاني، أو لأنها من الثُّنْيَا لأن اللهَ استثناها لهذه الأمة.
وإنما سُمِّيت بالقرآن العظيم، لاشتمالها على المعاني التي في أمّ القرآن.
فاتحة الكتاب، لأنها يُفتتح بها في المصاحف، وفي التعليم، وفي القراءةْ، وفي
الصلاة، أو لأنها أول سورة نزلت، أو لأنها أول سورة كتبت في اللوح
المحفوظ) أو لأنها فاتحة كل كلام.
وسميت بأم الكتاب وأم القرآن لحديث أبي هريرة: إذا قرأتم الحمدَ فاقرءُوا
بسم الله الر حمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب.
السبع المَثَاني - قال الماوردي: سُميت بذلك لتقدمها وتأخر ما سواها تَبَعاً(3/195)
لها، لأنها أمَّتْه، أي تقدمَتْه، ولهذا يقال لراية الحرب أمّ، لتقدمها واتّباع الجيش لها.
ويقال لما مضي من سِني الإنسان أمّ لتقدمها، ولمكة امّ القرى لتقدمها على
سائر القرى.
وقيل أم الشيء أصْلُه، وهي أصل القرآن لانطوائها على جميع
أغراض القرآن وما فيه من العلوم والحكم وقيل: إنها أفضل السور كما يقال
لرئيس القوم أم القوم.
وقيل لأن حرمتها كحرمة القرآن كله.
وقيل لأن مَفْزعَ أَهل الإيمان إليها.
وقيل: لأنها محْكمة، لأن المحكمَات أم القرآن.
وسميت الوافية لأنها وافية بما في القرآن من المعاني، أو لأنها لا تقبل
التنصيف، فإن كلّ سورة من القرآن لو قرئ نصفُها في كل ركعة والنصف
الثاني في أخرى لجاز بخلافها.
وقال المرسي: لأنها جمعت ما لله والعبد.
وسميت بالكنز لما رَوى البيهقي في الشعب من حديث أنس مرفوعاً: إن الله
أعطاني فيما مَنَّ به عليَّ أني أعطيت فاتحة الكتاب.
وهي من كنوز العرش.
وفي رواية عن أبي أمامة، قال: أربع آيات نزلن من كَنْز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر، يعني خاصة به - صلى الله عليه وسلم.
وسميت الكافية، لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها.
والأساس، لأنها أَصل القرآن، وأول سورة فيه.
وسورة الحمد، وسورة الشكر، وسورة الحمد الأولى.
وسورة الحمد القصوى، والواقية، والشافية، والشفاء، والصلاة، لحديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، أي السورة.
وسورة الدعاء، لاشمالها عليه في قوله: (اهدنا الصراط) .
وتعليم المسألة، لأن فيها آداب السؤال، ولها أسماء غير هذه، وقد ذكر اللهُ
الحمد من سبعة نَفَر، فوجد كل واحد منهم كرامةً، لآدم حين عطس، قال: الحمد للهِ، فوجد الرحمةَ من الله بقوله: يرحمك الله.
ونوح قال: (الحمد لله الذي نَجّانا من القوم الظالمين) المؤمنون: 138، فوجد السلامة بقوله:(3/196)
(يا نوح اهْبطْ بسلام مِنّا وبركات عليك) .
والخليل قال: (الحمد للَه الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق) ، فوجد الفداء: (وفدَيْنَاه بذبح عظيم) .
وداود وسليمان قالا: (الحمد للهِ الذي فَضلنا على كثير من عباده المؤمنين) ، فوجدا النبوءة والْملْك بقوله تعالى: (وكلاَّ آتيْنَا حكماً وعِلماً) .
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أمره الله تعالى بالحمد، فوجد الرِّفْعة والشرف بقوله تعالى: (ألم نشرح لكَ صَدْرَك) .
وأنت يا محمدي إذا أكثرتَ من هذه السورة وطلبتَ منه سبحانه شيئاً أتراك
لا تَنَاله وقد أعطاكَ الله ما أعطى الأنبياء، فاحْمَدِ اللهَ الذي هداكَ لها.
وخصكَ بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسم وعلى آله أفضل صلاة وأزكى
تسليم.
فإن قلت: هل للسور غيرها من القرآن هذه التسمية أوْ لهَا اسم واحد
يخصها؟
فالجواب: قد قدمنا في حرف اللام تسمية سوَر باسم واحد، ونذكر لكَ
الآن تسمية بعض السور بأسماء تتمةً للفائدة:
فالبقرة تسقى بفسطاط القرآن لما جمع فيها من الأحكام التي تذْكَر في
غيرها.
وسنام القرآن، لأنها أعلاه.
وآل عمران: اسمها في التوراة طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة
الزهراوين.
والمائدة: تسمى أيضاً العقود، والْمنْقذة، قال ابن الغرس: لأنها تنقذ
صاحبها من ملائكة العذاب.
والأنفال: تسمى سورة بَدْر.
وبراءة: تسمى التَّوبة، لقوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي) .
والفاضحة لأن فيها: ومنهم، ومنهم، قال ابن عباس:(3/197)
حتى ظننا أنه لم يَبقَ منا أحد إلا ذكر فيها.
وسورة العذاب، قال حذيفة: تسمو بها سورة التوبة
وهي سورة العذاب.
وقال عمر: هي إلى العذاب أقرب، ما كادت تقلع عن
الناس حتى ما كادت تُبْقِي منهم أحداً.
والمقْشقشة لقول ابن عمر: ما كُنَّا ندعوها إلا المقْشقشة، أي البراءة من النفاق.
والنقرة لأنها نقرت عما في قلوب المشركين، قاله ابن عمر.
والبَحوث، بفتح الباء، لما أخرج الحاكم عن المقداد.
قيل له: لو قعدت العام عن الغَزْو! قال: أبَتْ علينا البَحوث، يعني براءة.
. . الحديث.
والحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، ذكره ابن الغرس.
والمثيرة
لما أخرج ابن أبي حاتم عن عبادة، قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة، فضحت المنافقين، وكان يقال لها المثيرة، أنبأتْ بمثالبهم وعَوْراتهم.
وحكى ابن الغرس من أسمائها المبعثرة، وأظنه تصحيف المنقرة، فإن صح كملت الأسماء عشرة، ثم رأيته كذلك، أعني المبعثِرة بخط السخاوي في جمال القراء، وقال: لأنها بعثرت عن أي أسرار المنافقين.
وذكر أيضاً فيه من أسمائها المخزية، والْمنَكَلَة.
والمشددة، والمدمدمة.
النحل: قال قتادة: تسمى سورة النعم، لأن الله عدّد فيها من النعم على
عباده.
الإسراء: تسمى سورة سبحان، وسورة بني إسرائيل.
الكهف: سماها ابن مَرْدَويه في الحديث سورة أصحاب الكهف.
ورَوَى البيهقي من حديث ابن عباس - مرفوعاَ - أنها تدْعى في التوراة الحائلة، تحول بين النار وبين قارئها.
طه: تسمى سورة الكليم، ذكره السخاوي في جمال القرّاء.
الشعراء: تسمى سورة الجامعة. ذكره الإمام مالك.
النمل: تسمى سورة سليمان.
السجدة: تسمى سورة المضاجع، لقوله تعالى: (تتجافَى جنوبهم عن
المضاجع) .(3/198)
فاطر: تسمى سورة الملائكة.
يس: سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلْبَ القرآن.
وفي حديث أبي بكر - مرفوعاً:
سورة يس تدْعى في التوراة المعمَّة، تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة، وتدْعَى
الدافعة والقاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كلَّ حاجة.
الزمر: تسمى الغرف.
غافر: تسمى سورة الطَّوْل والمؤمن، لقوله فيها: (وقال رجل مؤْمِن) .
فُصلت: تسمى السجدة، وسورة المصابيح.
الجاثية: تسمى الشريعة، وسورة الدهر، حكاه الكرماني في العجائب.
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - تسمى القتال.
(ق) : تسمى الباسقات.
اقتربَتْ: تسمى القمر، وأخرج البيهقي عن ابن عباس أَنها تُدعى في التوراة المبيِّضة، تبيض وَجْهَ صاحبها يوم تسوَدُّ الوجوه.
الرحمن: سميت في حديثٍ عروس القرآن، أخرجه البيهقي عن علىّ مرفوعاً.
المجادلة: سُمِّيت في مصحف أبيٍّ الظهار.
الحشر: سمّاها ابنُ عباس سورة بني النَّضِير، قال ابن حجر: كأنه كرِه
تسميتها بالحشر، لئلا يظنّ أن المراد يوم القيامة، وإنما المراد به هنا إخراجُ بني النّضِير.
الممتحنة، قال ابن حَجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء، وقد
تكسر، فعلَى الأولى هي صفة المرأةِ التي نزلت السورة بسببها، وعلى الثاني هي صفة السورة كما قيل لبراءة الفاضحة.
وفي جمال القُرَّاء: تسمَّى أيضاً سورة الامتحان، وسورة المودَّة.
الصف: تسمى أيضاً سورة الْحَوَارِيين.
الطلاق تسمى سورة النساء القُصْرى.
لأن الطول والقصر أمر نسبي.
وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال:(3/199)
طول الطوليَيْنِ، وأراد بذلك سورة الأعراف.
والتحريم يقال لها التحرّم، وسورة لم تحرِّم.
سورة الملك تسمى المانعة، لأنها تمنع صاحبها من عذاب القَبْر، وأخرج
الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعاً هي المانعة هي المنجية، تُنْجيه من عذاب القبر.
وقال ابن مسعود: كُنَّا نسميها في عَهْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المانعة.
وفي جمال القراء تسمى أيضاً الواقية والمنَّاعة.
سأَلَ: تسمى المعارج، والواقع.
عم: يقال لها النّبَأ، والتساؤل، والمعصرات.
لم يكن: تسمى سورة أهل الكتب، كذلك سُمِّيت في مصحف أبيٍّ.
وسورة البيّنة، وسورة القيامة، وسورة البرية، وسورة الانفكاك.
ذكر ذلك في جمال القراء.
أرأيت: تسمى سورة الدِّين، وسورة الماعون.
الكافرون: تسمى المقشقشة، وتسمى أيضاً سورة العبادة، وذكره في جمال القراء.
النصر: تسمى سورة التوديع، لما فيها من الإيماء إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -
تَبَّتْ: سورة الْمَسَد.
والإخلاص تسمى سورة الأساس، لاشمالها على توحيد الله، وهو أساس الدين.
قال: والفلق والناس يقال طما المعوذتان بكسر الواو، والمقشقشتان، من قولهم: خطيب مقشقش.
فهذا ما وقفتُ عليه.
وعلى القول بأن أسماء السور المفتتح بالحروف المقطعة هي أسْماء لها، لكن منها ما هو أحدي، كـ (ص) ، و (ن) ، و (ق) .
وثنائي، كـ (طه) ، و (يس) ، والحواميم، وثلاثي مثل
(الم) ، (طسم) .
ورباعي: (المر) ، (المص) .
وخماسي: (كهيعص) ، و (حم عسق) .
وقد أكثر الناس الكلام على هذه الحروف المقطعة.
والذي عندي أن الله وَضعها لإطفاء تشغيب الكفار حيث قالوا: (لا تَسْمَعوا لهذا القرْآن) ، فأتى الله بها ليسمعوها لغَرابتها، تم يبلغ الرسول رسالته.
كأنَّ الله يقول لهم: إن لم تصدقوه فأتوا بسورة من مثله في مثل هذه الحروف وأنتم لا تفهمون معناها.
وهذه دلالة لنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله ذكر في الكتب الماضية أنه يخرج في آخر الزمان رسول، وعلامته أن تكونَ بعض رؤوس سور كتابه الحروف المقطعة، وهي أسماء اللَهِ فرَّقها ووضعها على بعض السور لشرفها عنده.(3/200)
(سائغاً للشَاربين) :
قد قدمنا أنه صفة للبن - سهلاً للشرب، حتى إنه لم يغَصّ به أحد.
وقد جعل فيه غنْية عن الطعام والشراب، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - حين شربه: اللهم زدْنا منه سَكَراً، يعني الخمر، ونزل ذلك قبل
تحريمها (1) .
فهي منسوخة بالتحريم.
وقيل: إن هذا على وَجْه المنفعة التي في الخمر، ولا تعَرُّضَ فيه لتحليل ولا تحريم، فلا نسخ.
وقيل السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخلّ والرب، والرزق الحسن: العنب والتمر والزبيب.
(سَرَابِيلَ تَقِيكم الحرَّ) :
قد قدمنا أن السرابيل القمص.
وذَكَر وقايةَ الحر ولم يذكر وقايةَ البرد، لأنه أهم عندهم لحرارة بلادهم.
والخطاب معهم.
(سبباً) :
هو الطريق الموصِّل إلى المقصود، من علم أو قدرة
أو غير ذلك.
وأصْل السبب الْحَبْل، ومنه: (فليَمْدد بسببٍ إلى السماء) .
(فأتْبَعَ سَبباً) ، فسمي الطريق سبباً، لأنه يتوصَّل
بسلوكه إلى المقصود.
وأما (أسباب السماوات) ، فمعناه أبوابها.
(سَمِيًّا) ، أي نظيرًا، وهذا مدح ليحيى عليه السلام، وسمَّاه الله قَبْلَ وجوده، وبهذه الآية احتجَّ أهل السنَّة على المعتزلة، لأنه لو كان الاسم
غير المسمَّى لكان المخاطب غير يحيى، وقد قال له: (يا يحيى خذِ الكتابَ
بِقُوَّةٍ) .
وقوله: (سبَح اسْمَ ربِّكَ الأعْلَى) لو كان الاسم غير المسمى لكان قد أمر بأن يسبّح الاسم دونه، وهذا لا يقوله محصل.
فدلّ ذلك على أن الاسمَ هو المسمَّى.
(ساوَى بين الصَّدَفَيْنِ) :
من التسوية بين الأشياء وجعلها سوية، بمعنى أتقن وأحسن، ومنه: (فسوَّاكَ فعدَلَك) .
(سَرِيَّا) :
قال مجاهد: هو بالسريانية: نهرًا.
وقال سعيد بن خبير: بالنبطية.
وحكى شَيْذلة أنه باليونانية، وعلى كل قولٍ ما كان قريباً من
__________
(1) لا يثبت ولا يصح.(3/201)
جِذع النخلة، فسَّرَه عليه الصلاة والسلام بذلك.
وقيل يعني عيسى، فإن السري
الرجل الكريم.
(سوِيًّا) : أي قويما.
(سلامٌ عليكَ) :
إنما سلم إبراهيم سلام موَادعة ومفارقة لا تحيّة، لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز، فإذا سلّم عليه الكافر يقول له: وعليكم، أو عليك السِّلام، بكسر السين، وهي الحجارة.
وفي الحديث: إنَّ عائشة قالت ليهودٍ سلموا: وعليكم السام واللَّعْنة.
فقال لها عليه الصلاة والسلام:
مَهْلاً يا عائشة، فإن اللَهَ رفيق يحبُّ الرفْقَ.
فقالت: أو لم تسمع ما قالوا، قالوا: السام عليكم.
فقال: قد قلت لهم وعليكم.
(سأسْتَغفِر لكَ رَبِّي) :
لما طلب آزَرُ من إبراهيم الاستغفار وعده أنْ يدعوَ له.
قال ابن عطية: معناه سأدعو اللهَ أنْ يهديك، فيغفر لكَ بإيمانك.
وذلك لأن الاستغفارَ للكافر لا يجوز.
وقيل: وعَدَه أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم انَّ اللَهَ لا يغفر للكافر حتى أعلمه اللَّهُ بذلك.
ويقَوِّي هذا قوله: (واغْفرْ لأَبي إنه كان من الضالِّين) .
ومثل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: " لأستغفِرَنَّ لك ما لم أنْهَ عنك ".
وروي أنه لما نزلت: (إن تستَغْفر لهم سبعين مرة فلن يغفرَ اللَّهُ لهم) ، - قال
- صلى الله عليه وسلم -: " لأزيدنَّ على السبعين "، فلما فعل عبد اللَه بن أبي وأصحابه ما فعلوا، وقولهم: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، وتوليتهم عن استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم شدَّدَ اللَّهُ عليهم بقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .
وفي هذا نظر، لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني الْمصْطلق قَبْل الآية ِ الأخرى بمدة.
وروي أنه إذا كان يوم القيامة يجعل اللَّهُ آزَر تحت قدم إبراهيم على صورة كبش ملطَّخ بالدم ويُؤْمَرُ إبراهيم بذبحه، لأنه لما حملت أمّه بإبراهيم اشتهى أن يكونَ غلاماً فيذبحه تحت رِجل النمرود رضاءً له(3/202)
فجازاه اللَّهُ بذلك، وحوَّله كبشاً، لأنه دعا ألَّا يخزيه في أبيه، كذلك أهل مصر تمنّى كلّ واحد منهم أن يكون يوسف عبداً له، فجعلهم الله عبيده.
وأنت يا عبد الله إذا كانت نِيَّتك ومرادك غَيْرَ عصيان الله يعاملك على نيتك
ومرادك فيجعل سيئاتك على الكفار، ويجعلهم فداءً لك عقوبةً لهم، وعلى إبليس الذي كان سبباً في إغوائك، ألا تراه سبحانه يقول لك: إذا قلت أذنبْتُ عَفَوْتُ وَصَفَحْتُ، وإذا قلت اللهم اغْفِرْ لِي يقول لك: قد غَفَرْتُ لكَ وأنا الغفور الرحيم.
(سنكتب ما يقول) :
من قوله: لئن بعثت كما يزعم محمد ليكوننّ لي هناك مال ووَلد، وإنما جعله مستقبلاً، لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل.
(سيكفرونَ بعبَادَتهم ويكونونَ عليهم ضِدًّا) :
الضمير للكفار، وفي عبادتهم للمعبودين، وهذا كقولهم: (ما كنتم إياه تعبدون) .
(سَيَجْعَل لهم الرحمن ودًّ أ) ، هو المحبة والقبول الذي يجعله
اللَه لمن أَطاعه.
وقد صحَّ في الحديث أن الله ينادي: يا أهل السماء، إني أحبّ
فلاناً فأحِبّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض.
وقال بعضهم: يكتب جبريل له صحبةً فيضعها في الماء المشروب منه.
وقيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب.
والأول أظهر لعمومه، والعيان يشهد بذلك، وهذه أولُ
كرامة يكرِمُ الله بها أولياءه.
(سنعِيدها سيرتَها الأولى) :
يعني أن موسى لا أخذ العصا
عادت كما كانت أَولَ مرة، وإنما أمره بالإلقاء أوَّلاً ليستَأنِس بها، وانتصب
(سيرتها) على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر.
(سلك لكمْ فيها سبلاً) .
أي أنهج لكم في الأرض طرقاً تمشون فيها.
وأما قوله تعالى آمراً للنحل: (فاسْلكي سبلَ رَبِّكِ ذلُلاً)(3/203)
فقد قدمنا أنَّ الله أمرها بالرجوع.
وقيل بالذهاب، قال أبو حيان: إنْ أريد بالطريق الحسيّ فهو مفعول به، وإن أريد المعنوي فهو ظرف.
(سَحيق) : بعيد.
(سَخرْنَاهَا لكم) :
أي كما أمرناكم بهذا كلِّه سخرناها لكم.
وقال الزمخشري: التقدير مثل التسخير الذي علمتم سخَّرْنَاها لَكم.
(سَبْعَ طرائق) :
سموات، واحدتها طريقة، وسمِّيت بذلك، لأنها بعضها فوق بعض، كمطارقة النعل.
وقيل: يعني الأفلاك، لأنها طرق الكواكب.
(سامِرًا) :
مشتق من السمر، وهو الجلوسُ بالليل للحديث، وكانت قريش تجتمع في الليل بالمسجد يتحدثون بسبِّ رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم.
والمعنى أنهم سامرون بذكره وسبِّه.
و (سامِرًا) مفرداً بمعنى الجمع، وهو منصوب على الحال.
(سَراب) :
هو ما يرى في الفَلوات مِنْ ضوء الشمس في الهَجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وَجْه الأرض.
وشبَّه اللهُ به أعمال الكفار في الآخرة بأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب.
والتمثيل الثاني في قوله: (أو كظلمات) ، يقتضي بطلانَ أعمالهم في الدنيا.
وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمات التي بعضها فوق بعض.
(سنَا بَرْقِه) :
السنا - بالقصر الضوء، وبالمد المجد والشرف.
(سبَأ) :
قبيلة من العرب، سُمِّيت باسْمِ أبيها الذي تناسلت منه.
وقيل باسم أمها.
وقيل باسم موضعها، والأول أشهر، لأنه ورد في الحديث.
(سرْمَدا) :
دائماً، وفيه تعديد النعم على عبيده، بحيث جعل لهم اختلاف الملَوَان، هذا لراحتهم، وهذا لعنائهم وشغلهم، وخِلْفَةً لمَنْ أراد أن يذَّكرَ أو أرادَ شكوراً.(3/204)
(سلَقُوكُم بألسنةٍ حِدَاد) .
أي إذا نصركم اللهُ أيها المؤمنون، فزال الخوفُ رجع المنافقون إلى إذَايَتكم بالسبِّ وتنقَّص الشريعة، وإذا جاء الخوفُ نظروا إليكم ولإخوانكم من شدة خوفهم، (تدُورُ أعينُهم كالذي يغْشَى عليه من الموت) ، وهو عبارة عن المتكلم بكلام مستَكْرَه.
ومعنى (حداد) فصحاء قادرين على رفع الصوت، لأن السلق والصّلق رفع الصوت.
(سابغات) :
كاملات، والضمير يعودُ على الدَّروع التي كان يعملها داود من الحديد، لأنه كان تَحْتَ يده كالعجين يصنَعُ به ما يشاء، وهو
المراد بقوله: (وقَدِّرْ في السَّرْدِ) ، أي قدِّرْها بألاَّ تعمل الحلْقَة
صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها.
وقيل: لا تجعل المِسْراد رقيقا ولا غليظاً.
والسرد: الخرز أيضاً.
ويقال للإشْفَى مِسْرد ومِسْرَاد.
(سيَهْدِين) :
هذا من قول إبراهيم بعد خروجه من النار، وأراد أنه ذاهب إلى الله، مهاجر إلى أرض الشام.
وقيل: إنه قال ذلك قبل أن يطْرَح في النار، وأراد أنه ذاهب إلى ربِّه بالموت، لأنه ظن أن النار تحرقه.
و (سيَهْدِين) على القول الأول يعني الهدي إلى صلاح الدين والدنيا.
وعلى القول الثاني إلى الجنة.
وقالت المتصوفة: معناه ذاهب إلى ربِّي بقلبي، أي مقبل
على الله بكليته، تاركٌ لما سواه.
(ساحة البيت) : فناؤه.
والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محذور.
(سواء) الطريق: الواضح والطريق اللائح.
(سَلَماً لِرَجل) : أي خالص.
وقرئ بألف، والمعنى واحد.
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) .
سماهم بالمخلفين لأنهم تخلَّفوا عن غَزْوة الحُدَيبية، والمراد بالأعراب أهل البوادِي، كمزَينة وجهينة، ومَنْ كان حول المدينة، لأنهم ظنوا أنه لا يرجع - صلى الله عليه وسلم - من(3/205)
غَزْوَته تلك، ففضحهم اللهُ في هذه الآية، وأعلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم واغترارهم قبل رجوعهِ إليهم، فكان كما قال: (شَغَلَتْنَا أموالنا وأهلونا) الآية.
فإن قلت: لم أبرز الضمير في هذه الآية وحذَفه فيما بعدها؟
فالجواب أن المُخْبرَ عنهم من المخلَّفين طلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - الاستغفارَ لهم لتخلّفهم عنه، وأفردوه بخطابهم، إذ ليس ذلك من مطلوبهم لغيره، فوردت العبارةُ عن ذلك بإفراد الخطاب، وأعْلَم اللَهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بنِفَاقهم وكَذِبهم في اعتذارهم بقوله: (يقولون بألْسِنَتهم ما ليس في قلوبهم) .
وأما الآية الثانية فليس قولهم: (ذَرُونا نتَبِعكم) ، خطاباً خاصا له - صلى الله عليه وسلم -، بل له وللمؤمنين، والسياقُ يفصح بذلك، وما أمر به عليه
السلام من مجاوبته في قوله لهم: (لن تتَّبعونا) ، فلم يُرِد هنا
إفراده عليه السلام بخطابهم له كما ورد في الأول، وجاء كل على ما يناسبه.
فإن قلت: إن خطابهم له خاصّ كالأول، ولكن خاطبوه مخاطبة التعظيم
بقولهم: (ذَرُونا نَتَّبعكم) ؟
قلت: وعلى فرض هذا فمراعاةُ الألفاظ في النظم أكِيدة جدًّا، وبها إحرازه.
وعلى هذا لا يُلائم هنا الخطاب كيفما هو إلا بصورة ما للجميع.
والله أعلم بالمراد.
(سَكرَة الموت) :
أي غصصه ومشقّاته.
وقد قدمنا الحديثَ أنه أشد من سبعين ضربة بالسيف، ولما حضرته الوفاةُ جعل يدَه - صلى الله عليه وسلم - في إناءَ ماءٍ ومسح بها وجهه وقال: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم الرفيق الأعلى.
ولما بلغ روحه سرته قال: يا جبريل، ما أشدَّ مرارةَ الموت، فولَّى جبريل وجهه، فقال: يا جبريل، أكرِهْتَ النظَرَ إلى وجهي، فقال: يا حبيبَ الله، ومَنْ يقدر أن ينظر إليك وأنتَ تُعالج الموت!
هذا نبيك المعصوم قاسى منه ما سمعت، ووعك وعك رجلين كما صح،(3/206)
فكيف بكَ أنها المغرور لا تبكي على نفسك، وتعالج هوَاك لعلّه يرحمك ويسمع أنينك!
(سائق وشَهيد) :
السائق: ملك يسوقه، والشهيدُ يشهَذ عليه.
وهو الأظهر.
وقيل صحائف الأعمال.
وقيل: جَوارح الإنسان، لقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
(سال، وسأل) ،: بالهمز: طلب الشيء والاستفهام عنه.
وسال بغير همز من المعنيين المذكورين، ومن السيل.
ومنه سأل سائل.
فمن قرأه بالهمز احتمل معنيين:
أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب، وتكون الإشارة إلى قول الكفار: (أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، وكان الذي قالها النَّضْرُ بن الحارث.
والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار، أي سأل سائل عن عذابِ واقع، والباء على هذا بمعنى عن، وتكون الإشارةُ إلى قولهم: (متى هذا الوعْدُ إن كنْتُم صادقين) ، وشبه ذلك.
وأما مَنْ قرأ سال - بغير همز - فيحتمل وجهين:
الأول أن يكون مخفًفاً من المهموز، فيكون فيه المعنيان المذكوران.
والثاني أن يكون مِن سال السيل إذا جرى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس سال سيل، وتكون الباء على هذا كقولك: ذهبت بزيد.
وإذا كان من السيل احتمل وجهين:
أحدهما أن يكون شبّهَ في شدَّته وسُرْعَة وقوعه بالسيل.
وثانيهما أن يَكون حقيقة.
قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يقال له سايل.
فتلَخَّص من هذا أنه في القراءة بالهمز يحتمل وجهين، وفي القراءة بغير همز أربعة معان.
(سقْف مرفوع) :
يعني السماء.
(ساقِطاً يقولوا سَحَابٌ مركوم) :
كانوا قد طلبوا أن ينزَلَ عليهم كسْفاً من السماء، فأخبر اللهُ أنهم لو رأوه ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغْيان(3/207)
والجهل والعناد أن يقولوا: ليس بكسف، وإنما هو سحاب مركوم، أي كثيف بعضه فوق بعض.
(سامِدُون) :
لاعبون ولاهون.
وقيل: غافلون.
والسامد: الساكت والحَزين الخاشع قَلْبه، فله على هذا خمسة معان.
(سائحات) :
من ساح في الأرض إذا ذهب فيها.
وقيل معناه صائمات، وقد روِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقيل معناه مهاجرات.
والسائحون من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة براءة، هم الذين اختاروا الحقَّ على كل شيء وثبتوا على ذلك، وتواصوا بالحق، وتواصَوْا بالصبر، وهؤلاء يقال لهم الأبدال وأرباب الكمال، وهم سبعة رجال قد تبدَّلتْ عوالمهم وتخلَّصَتْ من الشوائب البشرية جواهِرُهم، فأخذوا بالسياحة في البُلْدان لطلب لقاءِ الرجال، إذ هي كبيعة الخير، وفي الباطن لنيل المقامات والأحوال الواردة من عين الجود بالجلال والكمال والجمال.
وأما الساجدون فهم الذين أقعدت رسومهم، وفَنيت بالمجاهدة نفوسهم وجسومُهم، وهم أرباب الفناء المتجردون عن كل المناقد، تخلّصوا من رقِّ البشرية لتحقّقهم أنه اللطيف الخبير السَّميع البصير.
عاشوا عيشاً تاما كاملاً، فإنَ ترك التدبير للَه عيش، كما أن التدبير نصفُ
العيش، ويقال لهذا الوجه الأوتاد، وهم أربعة رجال، مقام كلّ واحد مقام ركن من الأركان: شرقاً، وغرباً، وجنوبا، وشمالاً، واحداً يتصرف عندهم
لتجريدك عن الكون وثبوتك بالحق.
ومنه قول الشيخ القطب ابن العريف: مَن شهد الخلق للفِعْل لهم فقد فاز، ومن شهدهم لا حياةَ لهم فقد جاز، ومن شهدهم عين العدم فقد وصل، والكلامُ هنا طويل، وعلى هذه الآية الكريمة ُ بُنِي التصوف، وسبيل التعرف، وقد صنَّف فيها من ذاق أهلها وعرفهم تأليفاً عجيباً ورتّبهم ترتيبًا غريباً لا ينبغي لنا أنْ نحومَ حولَ حمَاه، ولا نتعرض لما قد تعاطاه، لأنا لسنا منهم فنستغفر اللَهَ من الكلام معهم، وكان الأولى بنا اشتغالنا عن هذا
بالانتباه مِنْ رَقْدةِ الغَفْلة، وتخليصنا من وَرْطة الفترة، وإيقاظنا من السّكرَة،(3/208)
لكن نسأله سبحانه أن يهَبَ لنا نُور التنبيه من ظلمة هذه النفس، فيظهر لنا
بمجيئها وقبيح ذَنْبها، فنقلع في الحال، ونعزم على ألاَّ نعود في الاستقبال.
ونبحث على ما خفي من دسائس النفس، ونستعد للمنازلة في الرَّمْس، ونشمِّر للمعاملة في المحبة، ونطلب ممن نظر في هذا الكتاب بالدعاء إلى العبادة ظاهراً وباطناً فإنما نحن به وله.
(سنَسِمه على الخرْطوم) :
أصل الخرطومٍ أتف السبع، ثم استعير للإنسان استخفافاً به وتقبيحاً له، والمعنى نجعل له سِمَة، وهي العلامة على خرطؤمه.
واختلف في هذه السِّمَة، فقيل: هي الضربة بالسيف يوم بَدْر.
وقيل علامة من نار تجعل على أنْفه في جهنم.
وقيل علامة تُجعل على أنفه يوم القيامة لِيعرف بها، كما يجعلون أهل الدنيا لمواشيهم علامة يعرفونها بها.
(سَلْهم أَيّهم بذلكَ زَعِيم) :
قد قدمنا أنَّ الزعيم الضامن.
ومعناها: سَلْ يا محمد قريشاً أنهم زَعِيمٌ بذلك الأمر.
(يَسْأمُ) : يسأم، أي يمل، ومنه: (وهم لا يسْأمون) ف.
(سبب) :
له خمسة معان: أحدها الحَبْل، وقد تقدم.
والاستعارة من الحبل في المودة والقرابة، ومنه: (وتقطَّعَتْ بهم الأسباب) .
والطريق، ومنه: (فأتْبَع سَبَباً) .
وسبب الأمر: موجبه.
(ساق) :
ما بين القدم إلى الركبة، وأما قوله: (يوم يُكْشَفُ عن ساق) .
فقد قدمنا أن ذلك عبارة عن هَوْل يوم القيامة وشدَّته.
وفي الحديث الصحيح أنه قال: " ينادِي منادٍ يوم القيامة لتتبع كلّ أمة ما كانت تعبد، فيتيع الشمسَ مَن كان يعبد الشمس، ويتبع القمر مَن كان يعبد القمر، ويتبع كلّ أحد ما كان يعبد، ثم تبقى هذه الأمة وغبَّراتٌ من أهل الكتاب معهم منَافِقوهم، فيقال لهم: ما شأنكم، فيقولون: ننتظر ربنا.
قال: فيجيئهم اللَّهُ في غير الصورة التي عرفوه، فيقول: أنا ربُّكم.
فيقولون: نعوذ باللهِ منك.
قال: فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها، فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق،(3/209)
فيقولون: نعم، أنْتَ ربُّنا، ويخرون للسجود، فيسجد كل مؤمن، وترْفع
أَصلاب المنافقين عَظْماً واحداً فلا يستطيعون سجوداً.
وتأويل الحديث كتأويل الآية.
(سَبحاً طويلاً) :
السَّبْح هنا عبارة عن التصرف في الأشغال.
والمعنى يكفيك النهار في التصرّف في أشغالك، وتفرَّغْ في الليل لعبادة ربك.
وقيل المعنى: إنْ فاتك شيءٌ من صلاة الليل فاخلفه بالنهار، فإنه طويل يسَع فيه ذلك، وقرئت سبخاً، أي بالخاء المعجمة، أي سعة، يقال سبِّخي قطنك، أي وَسِّعيه، والتسبيخ أيضاً التخفيف، يقال: اللهم سبَخْ عنه الحُمَّى: أي خفّفها عنه.
(سأرهِقه) :
أي سأكلفه المشقَّةَ من العذاب في صَعود، وهي العقَبة الصعبة.
(سلَككم في سَقَر) :
ذكر الجواليقي أنها عجمية، ويحتمل أن يكون خطاب المسلمين لأهل النار أو الملائكة، فأجابوهم بقولهم: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) .
وإنما خصّ التكذيب بيوم الدين تعظيما له، لأنه أكبر جرائمهم.
(سَلْسَبِيلاً) :
اسم أعجمي، ومعناه سلساً منقادًا بجَرْيهِ.
وقيل سهل الانحدار في الحَلق، يقال شراب سلسل وسلسال وسَلْسَبِيل بمعنى
واحد، وزِيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلامته، فصارت الكلمة خماسية.
وقيل سل فعل أَمر وسبيلا مفعول به، وهذا في غاية الضعف.
فإن قلت: قد قال في الآية الأولى قبلها: (كان مِزَاجها كافورا) ، فهل يمزجان مع الخمر أم لا؟
والجواب أنه كالكافور في طِيب رائحته، وهو علم لذلك الماء.
واسم الثاني زنْجَبِيل، وقيل اسمها سلسبيل.
وقال بعضهم: سل من الله سلسبيلاً، فيجوز أن(3/210)
يكونَ اسمها هذه الجملة! كقولهم: تَأبّط شرًّا، وبرقَ نَحْرُة.
ويجوز أن يكون معنى (تسمَّى) تُذْكَر، تم قال الله: سَلْ سبيلاً، واتصاله في المصحف لا يمنَعُ هذا التأويل لكثرة أمثاله فيه.
(ساهرة) :
قد قدمنا أنها وجه الأرض، وأصلها مسهورة ومسهور فيها، فصُرف من مفعوله إلى فاعله.
كما يقال عيشة راضية أي مرضيّة، ويقال الساهرة أَرض القيامة.
(سَفَرة) :
هم بالنبطية القراء، وبالعربية الملائكة الذين يسفرون بين الله وبين عباده، واحدهم سافر، وهم الملائكة، وقيل الذين يكتبون القرآن في الصحف، وقيل يعني القرَّاء من الناس.
وفي الحديث: "الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة".
أي أنه يعمل مثْلَ عملهم في كتابة القرآن وتلاوته، أوْ لَهُ من الأجر على القرآن مثل أجورهم.
وقد قدمنا أنه نزل جملة إلى بيت العِزّة في سماء الدنيا، وأن الملائكة
يتدارسونه بينهم لتعظيم شأن هذه الأمة عند الملائكة وتعريفهم عنايةَ الله بهم
ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة بتشييع سورة الأنعام.
(سرائر) :
جمع سريرة، وهي ما أسَّر العبْدُ في قلبه من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال، وبلاؤها هو تعرفها والاطلاع عليها.
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة، وهذه معظَمها، فلذلك خصَّها بالذكر، والعامل في (يوم) قوله: (رَجْعِهِ) ، أي يرْجعه يوم تبْلى السرائر.
واعترض بالفصل بينهما.
وأجيب بقوة المصدر في العمل.
وقيل العامل، قادر، واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم، لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أَن البعْثَ إنما يقَع في ذلك اليوم.
وقال من أحرز من الاعتراضين في القولين المتقدمين: الفاعل فعل مضمر من المعنى تقديره: يرجعه يوم تبْلى السرائر، وهذا(3/211)
كلّه على المعنى صحيح في رَفْعه.
وأما على القول الآخر فالعامل في يوم مضمر
تقديره: اذكر.
(السماء ذات الرَّجْع) :
أي المطر، وسمّاه رَجْعاً بالمصدر، لأنه يرجع كل عام، أو لأنه يرجع إلى الأرض.
وقيل: الرَّجْع السحاب الذي فيه المَطَر.
وقيل: هو مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من منزلةٍ إلى
منزلة.
(سَعْيَكمْ لَشَتَّى) :
جمع شتيت، ومعناه مختلف، فمنه حسنات ومنه سيئات، وهذا جواب القسم في قوله: (والليل) .
(سجى) :
فيه أربعة أقوال: أدبر، وأقبل، وأظلم، وسكن، أي استقر، واستوى أو سكن فيه الناس والأصواتُ، ومنه: ليلة ساجية، إذا كانت ساكنة الريح، وطَرْفٌ ساج، أي ساكن غير مضطرب النظر.
وهذا أقرب في الاشتقاق، وهو اختيار ابن عطية.
(سبحان) : تنزيه.
وسبَّحت الله، أي نزَّهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأضداد.
(سُحْت) :
يعمُّ كلَّ حرام من رشوة ورِباً وغير ذلك.
(سُلَّما) ، بضم السين وفتح اللام مشددة: هو الذي يصْعَد
فيه، ولما كان - صلى الله عليه وسلم - شديدَ الحِرْصَ على إيمانهم قال الله له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء لتأتيَهم بآية يؤمنون بها فافعل، وأنْتَ لا تقدر على ذلك، فاستَسْلم لأَمر الله.
(سُقِطَ في أيديهم) .
أي نَدِموا، يقال: سُقِط في يد فلان إذا عجز عما يريد، ووقع فيما يكره.
وضمير الغيبة يعود على الذين عبدوا العجل.
ويحتمل أن يريد الذين لم يغيروا على مَنْ عبده.(3/212)
(سوء الحساب) :
مناقشته والاستقصاء في السؤال، وهو عبارة عن مؤَاخذة العَبْد بخطاياه كلّها.
(سُوء الدار) :
يحتمل أن يريد بها في الدنيا والآخرة، وهو تَهكم بهم، لأن ذلك عليهم لا لهم، وكذلك قوله: (وبئس المهاد) ، تهكّم، لأن المِهاد هو ما يُفْرش ويُوطَأ.
(سُكِّرَت أبصارُنا) :
قد قدمنا أن الضمير لكفّار قريش المعاندين المختوم عليهم بالكفر، والمعنى أنهم لو رأوا أعظم آيةٍ لقالوا إنها تخيّل أو سِحر.
وقرئَ بالتشديد والتخفيف، ويحتمل أن يكون مشتقَّا من السكر.
ويكون معناه خدعت أبصارنا، فرأينا الأمر على غير حقيقته، أو من السكر
وهو السدّ فيكون معناه منعت أبصارُنا من النظر.
(سرَادِقها) :
قال الجواليقي: هو معرب، وأصله سرادار.
وهو الدهليز.
وقال غيره: الصواب أنه بالفارسية سرادره، أي ستر الدار.
وسرادق جهنم: حائط من نار، وقيل دخان.
(سنْدس وإِستبرق) :
قال الجواليقي، رقيق الديباج بالفارسية.
وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفَسِّرون في أنه معرب.
وقال شيذلة: هو بالهندية.
(سؤْلكَ) ، أي بغيتك.
(سلالة من طين) :
أي ما يَسيل من الشيء ويُستخرج منه، ولذلك قوله بعد هذا: (ثم جعلناه نطْفةً) - لا بد أن يرَاد به ابن آدم، فيكون الضمير على مَنْ ذكر أوّلاً، لكن يفسره سياق الكلام، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عَوْد الضمير عليه، ويكون معنى خَلَقَه من سلالَةٍ من طين أنه خلق أصْلَه وهو أبوه آدم.
ويحتمل عندي أن يريد بالجنس الذي يعمّ آدم وذريته، فأجملَ ذِكْرَ الإنسانِ أوّلاً ثم فصَّله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم، وهي من طين، وإلى الخلقة المختصة بذريته وهي النطفة.(3/213)
فإن قلت: ما الفرق بين مِنْ ومِنْ؟
فالجواب ما قاله الزمخشري: إن الأولى للابتداء، والثانية للبيان، كقوله: من
الأوثان.
(سوق) :
جمع ساق، أي قايم الزرعُ على سوقه، ومنه: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) ، أي التفّت ساقه إلى ساقه الأخرى عند المساق.
وقيل ماتت ساقه فلا تحمله.
(سُعُر) :
جمع سعير في قول أبي عبيدة، ومعناه الجنون، يقال ناقة مسعورة إذا كان بها جنون.
(سور) : المحيط به.
وبالهمز: البقية من الشيء، ومنه قول أم سلمة رضي الله عنها: أسئروا لأمكم من هذا الشراب، وقوله: (فضرِب بينهم بسور له بابٌ) ، فمعناه أنه يضْرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصِل بينهم، وفي هذا السور بابٌ لأهل الجنة يدخلون منه، وقيل: إن هذا السور هو الأعراف، وهو سورٌ بين أهل الجنة والنار.
وقيل: هو الجِدار الشرقي من بيت المقدس، وهذا بعيد.
(سُحْقاً) :
انتصب بفعل مضمر على معنى الدعاء على أصحاب السعير.
ومعناه البعد، ومنه: (مكان سَحِيق) .
(سواع) :
اسم صنم كان يُعبَد في زمان نوح عليه السلام، وكذلك يَعوق ويَغوث وودّ.
ورُوي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صَدْر الدنيا، فلما ماتوا صَوَّرهم أهل ذلك العصر من حجَارة، وقالوا: ننظر إليها لنتذَكر أعمالهم، فهلك ذلك الجيل، وكَثُر تعظيم مَن بعدهم لتلك الصور حتى عبَدوها مِن دون الله، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها.
وقيل: بل الأسماءُ فقط إلى قبائل من العرب، فكان ودّ لكَلْب بِدوْمة الجندل، وكان سوَاع لهذيل، وكان يغوث لمراد، وكان يعوق لهَمْدَان، وكان نَسر لذي الكلاع من حِمْير.(3/214)
سُدًى) :
مهملاً، عَبثاً، وهذا توبيخ، ومعناه أيظنّ الإنسان أن يَبقَى بغير حساب ولا جزاء، فهو كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) .
والإنسان هنا جنس.
وقيل نزلت في أبي جهل، ولا يبعد أن يكون سببها خاصًّا ومعناها عام.
(سُبَاتاً) : راحة.
وقيل معناه قطعاً للأعمال والتصرّف.
والسبَت القطع.
وقيل معناه موت، لأن النومَ هو الموت الأصغر، ولذلك لا ينام أهل الجنة، والسبات: ما يغيّب العقل والحواسّ حتى يظن الناظر أنه ميت وما هو بميت، وقد دفن بعضهم بهذا الداء لظنّهم موته تم قام من قبره، ورجع لداره بسبب حفرِ نَبّاش عليه لأخْذِه أكفانه، ولذلك يؤخر الميت عن دفنه لئلا يكون من هذا القبيل.
(سُجِّرَت) :
أصله من سجرت التنورَ إذا أحميته، والبحار إذا ملأتها، والمعنى أن البحار تفجر بعضها إلى بعض حتى تعودَ بَحراً واحداً.
وقيل إنها تملأ نارًا لتعذيب أهلها.
وقيل تفرغ ماؤها فتيبس.
والقول الأول والثاني أليق بالأصل.
وقد قدمنا أنَّ البحارَ سبعة لقوله: (والبحر يَمدّه من بعده سبعة أَبحر) :
بحر طبرستان، وبحر كرمان، وبحر عمان، وبحر القلزم، وبحر هندوستان، وبحر الروم، وبحر المغرب.
(سعَرَت) :
أوقدت وأحميت، يزَاد في حرها يوم القيامة على مَا هي عليه الآن، وهذه النار طيبت في الثلج سبعين سنة، ولولا ذلك لم ينتفع بها، فقِسْ حَرّها على ما يزاد فيها يوم القيامة، وإذا تأملت قوله: (ترمي بِشَرَر كالقَصر) ، تَفْهم منه أنها تأكل بعضها بعضاً من شدة غيظها، كما قال تعالى: (تَكَاد تَمَيَّز من الغَيْظ) : فأيُّ جسم يَقْوَى على هذه الأحوال لولا أن الله قَوَّاها، اللهم كن لنا حافظاً منها، فإنه لا طاقَة لنا عليها.(3/215)
(سُطِحَتْ) .
أي بُسطت، والمرادُ بذكر هذه الأشياء الاستدلال بقُدْرة الخالق على هذه المخلوقات.
وقد قدمنا أن من العجائب ما قاله بعضُ المفسرين: إن من الأقاليم الستة عندهم ستة أشهر منها نهار وستة ليل خالص، وهذا مذكور في علم الهيئة، فانظره في حرف الميم.
وقال قتادة: الدنيا أربعة عشر ألف فرسخ للسودان، وثمانية آلاف فرسخ للروم، وثلاثة آلاف فرسخ لفارس، وألف فرسخ للعرب، وألف فرسخ لأهل الترك والصين.
وقال بعضهم: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، ثلاثمائة قفار، ومائة بِحَار، وثمانون لـ يأجوج ومأجوج، وثمانية عشر للسودان، وعامين للبيض.
وفي الخبر أن عبد الله بن سلام أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد: مِنْ أي شيء خَلَق اللَهُ الأرض؟ قال: مِنْ زَبَد.
قال: فمن أي شيء خلق الزبد؟
قال: من الْمَوْج.
قال: فمن أي شيء خلق الموج؟
قال: خلق من البحر.
قال: فمن أيِّ شيء خلق البحر؟
قال: من الظلمة.
قال: يا محمد، فقرار الأرض من أي شيء؟
قال: بالجبال.
قال: وقرار الجبال بأى شيء؟
قال: بجبل قاف.
قال: وجبل قاف من أي شيء؟
قال: من زمردة خضراء وخضرة السماوات منه.
قال: صدقت، فكم مسيرة علوه؟
قال: خمسمائة سنة.
قال: صدقت فكم مسيره حواليه؟
قال: مسيرة ألف سنة.
قال: صدقت.
فهل وراء جَبل قاف شيء؟
قال: وراءه سبعون أرضاً من المسك.
قال: فما وراءها؟
قال: سبعون أرضا من الذهب.
قال: وما وراءها؟
قال سبعون أرضاً من الحديد.
قال: فهل وراء هذه الأرضين شيء؟
قال عليه السلام: ومِنْ وراء هذه الأرضين سبعون ألف عالم، في
كل عالم ملائكةٌ لا يَعْلَم عددَهم إلا الله، وهذه الملائكة لا يعلمهم آدم وبنوه
ولا إبليس، وتسبيحهم سبْعُ كلمات: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
قال: صدقت، هل وراء هؤلاء شيء؟
قال: نعم، حية أدارت ذَنبها على هذه العوالم.
قال: صدقت.
ثم قال: أخبرني عن سكان الأرضين.
قال عليه السلام: في الأرض السابعة(3/216)
ملائكة، وفي السادسة إبليس وأعوانُه، وفي الخامسة الشياطين، وفي الرابعة
الحيات، وفي الثالثة العقارب، وفي الثانية الجنّ، وفي الأولى الإنس قال: صدقت.
فهذه الأرضون على أي شيء؟
قال: على الثور.
قال: وكيف صفة الثور؟
قال: له أربعة آلاف رأس ما بين الرأسين مسيرة خمسمائة عام.
قال: صدقتَ.
أخبرني عن الصخرة على أي شيء هي؟
قال: على ظهر الحوت.
قال: والحوت على أي شيء؟
قال: على بحر، والبحر قَعْره مسيرة ألف سنة.
قال: صدقت.
أخبرني عن ماء البحر على أي شيء؟
قال: على الريح.
قال: والريح على أي شيء؟
قال: على الظلمة.
قال: والظلمة على أي شيء؟
قال: على نار جهنم.
قال: صدقت، ونار جهنم على أي شيء؟
قال: على الثرى.
قال: صدقت.
قال: فهل تحت الثرى شيء، قال عليه السلام: سؤالك هذا خطأ لا يعلم ما تحت الثرى إلا الله.
فانظر تصديقَ عبد الله حَبْر بني إسرائيل والمسلمين لسيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لوجود ذلك كله في التورأة التي جعل الله فيها تبيان كل شيء وتفصيله.
فإن قلت: أيّ فائدة في التحريض إلى ذكر الإبل وابتدائه بها في الآية، وهي
أدنى من خَلْقِه السماوات والأرض، ومن المعلوم الاستدلال بأعظم المخلوقات
أقوى؟
فالجواب لاعتناء العرب بها، إذ كانت معايشهم في الغالب منها في شُرْب
ألبانها، وهي أكْثَر المواشي في بلادهم، وأيضاً لما في خَلْقها من الاعتبار، لأنها
في خلقتها دالّة على وحدانية خالقها، شاهدةٌ بتدبير منشئها وحكمته، حيث
خلقها للنهوض بالأثقال، وجعلها تَبْرك حيث تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت، وسخَّرها منقادةً لكل مَنْ يقودها بأزمتها، حتى حُكي أن فأرة قادت ناقةً لا تمَاري ضعيفاً، ولا تمانع صغيراً، وبَرَاها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار.
وعن بعض الحكماء أنه لما حدَّث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ ببلاد(3/217)
الإبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وصلة إلى العقدة التي جعل الله في صَدْرِها جامعةً للأعصاب، ومثلها في أعالي ظهورها، كلَّ ذلك زيادة في قواها، وحين أراد بها أن تكونَ سفائن البر صبرها على احتمال العطش حتى أن إضمارها ليرتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابتٍ في البراري والمفاوِز مما لا يَرْعاه سائر الحيوان، فهي يسيرة المؤونة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإبل عزّ لأهلها، والغَنم بركة، والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وكان لشريح القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكنَاسة حتى نَنْطر
إلى الإبل كيف خلقت.
قال القرافي في فروقه:
اعلم أنَّ النواهي تعتمد الفاسد، كما أنَّ الأوامر تعتمد المصالح، فما حرَّم الله تعالى شيئاً إلا لمفسدة، وما أمر بشيء إلا لمصلحة تحصل مِنْ تناوله.
وقد أجْرى الله تعالى أن الأغذية تنقل الأخلاق لخلق الحيوان المغذى به حتى
يقال: إن العرب لما أكثرَتْ من لحوم الإبل حصل عندها فَرْط الإيثار بأقواتها، لأن ذلك شأن الإبل، فيجوع الجميع من الإبل الأيامَ الكثيرة، ثم يوضع لها ما تأكله مجتمعةً فيضع كل منها فَمَه فيتناول منها حاجَته من غير مدَافعة عن ذلك الحبّ، ولا يطرد مَنْ يأكل معه، ولا تزال الإبل تأكل علفها كذلك بالرفق حتى يفنى جميعاً من غير مدافعة بعضها بعضاً، بل معْرِضة عن ذلك، وعن مقدار ما أكله غيرها ممن يجاوِرها.
وغيرها من الحيوانات تَقْتَتل عند الأغذية على حَوْز الغذاء، وتمنع من يأكلها
معها أن يتناول شيئاً، وذلك مشاهدٌ في السباع والكلاب والأغنام وغيرها.
فانتقل ذلك لخلق الأعراب، فحصل عندهم من الإيثار للضيف ما لم يحصل
عند غيرهم من الأمم، كما أنه حصل عندهم أيضاً الْحِقْد، لأن الجملَ يأخذ
ثأرَه ممن آذاه بعد مدة طويلة، ولا يزول ذلك مِن خاطره حتى يقال: إن أربعاً أكلت أربعاً، فأورثهم أربعاً، أكلت العرب الإبل فأفادتها الكرم والحقد.(3/218)
وأكلت السودان القِردة فأفادتها الرقص.
وأكلت الفرنج الخنزير فأفادتها عدم الغيرة.
وأكلت الترك الخيل فأفادتها القساوة.
فإذا تقرر هذا فهذه السباع في غايةِ الظلم وقلَّة الرحمة تأكل الحيوانات من غير اكتراث واهتمام بها، بل تفسد تبيعها وتقطع لحومها، ولا تبالي بما تجده من الألم في تمزيق أعضائها، وتثب على ذلك وثوباً شديداً من غير توقّف لذلك في حاجة ولغير حاجة، وذلك لفَرْط ظلمها، وقلة الرحمة، تأكل الحيوانات من غير اكْتِراث، وذلك متوفّر في سباع الوحش أكثر منه في سباع الطير، فأين الأسد من العُقَاب والصقر، وأين النمر والفَهْد والسبع وغيرها من الحيوانات مِن الحدأ والغربان ونحوها، فلما عظمَت المفسدة والظلم في سِبَاع الوحش حرمت لئلا يتناولها بنو آدم فتصير أخلاقهم كذلك، ولا قَصرت مفسدة سباع الطير عن ذلك فمِن الفقهاء مَنْ نهض عنده ذلك للتحريم دَفْعاً لمفسدة سوءَ الأخلاق.
وإن قلَّت: ومنهم من لم ينهض عنده ذلك للتحريم لخفّة أمره، فاقتصر به على الكراهة.
(سرًّا)
له معان: ضد العلانية.
ومنه (الذين ينْفِقون أموالَهمْ بالليل والنهار سِرًّا وعَلاَنية) .
قال: قال أبو هريرة: نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، لأنه تصدّق بِدرْهم في الليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سراً وبدرهم علانية.
والنكاح، ومنه: (لا تواعِدوهنَّ سِرًّا) ، أي لا تواعدوهنَّ في العدة خيفةَ أن تتزوَّجوهن بعد العدة، وسر كل شيء خياره.
(سِنَة) .
هي ابتداء النوم، لا تفسد، كقول القائل: في عينه
سنَةٌ وليس بنائم.
فالسنَة في الرأس والنوم في القلب.
(سِنِين) :
جمع سَنَة، وهي عبارة عما أخذ الله بني إسرائيل
من القَحْط والجدب لعلهم يرجعون، فلم يزدهم ذلك إلا طغياناً.
(سيروا، وسيحوا) ، بمعنى واحد، وأمر اللهُ قريشاً بالسير في الأرض للاعتبار بمخلوقات الله، والنظرِ فيمَنْ تقدَّم من(3/219)
الهالكين، وقد كانوا أشد منكم قوةً وأكثر جمعاً، وأخذ بعضُ الصوفية من هذا أنَّ مَنْ سافر للاعتبار في مخلوقاته ورؤية نباتِ الأرض وسَهْلها وجبالها وأنهارها فهو أَفضل من الإقامة، وكيف لا وقد قطع علائقَه بمعرفة عيوب نفسه بغربة ابتعاده، ألا ترى رفق الله بالمسافر، فرخص له القَصْر والجمع، والفِطْر في رمضان، ومزيد مدة مسح الخف، والتنفل راكباً، وترك الجمعة، وعدم قضاء المسافة لمضرات زوجة أخذه بالقرعة، واستجابة دعوته، وصحّ أنه ضيفُ الله ما لم يعصه، إلى غير ذلك من فوائد ذكرها أبو حامد في إحيائه.
فإن قلت: قد قال في الأنعام: (ثم انظروا) ، وعطف في غيرها بالفاء فما الفرق بينهما؟
فالجواب أنه لما كانت (ثم) للتراخي، فأمروا باستقراء الديار وتأمّل
الآثار، وفيها كثرة، فيقع ذلك سَيْرٌ بعد سيرٍ وزَمَان بعد زمان.
وقد قدمنا في حرف الفاء أن معنى (ثم انظروا) إباحة السّير للتجارة
وغيرها، فنبّه بـ (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح.
وأما تحديد السياحة في الأرض بأربعة أشهر فهو الأجل الذي جعل الله
لأمنِهم.
واختلف في وقتها، فقيل هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
لأن السورةَ نزلت حينئذ، وذلك عام تسْعَة.
وقيل: هي عيد الأضحى إلى تمام العشر من ربيع الآخر، لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ، وذلكَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث تلك السنة أبا بكر الصديق فحجَّ بالناس، ثم بعث بعده عليٌّ بن أبي طالب فقرأ بعده سورة براءة يوم عرفة.
وقيل يوم النحر.
(سيءَ بهم) :
أي أصابه سوء وضَجَر لما ظن أنهم من بني آدم وخاف عليهم من قومه.
(سِجِّيل) :
بالفارسية أوله حجارة وآخره طين، قاله مجاهد، يعني أنها كانت مثل الآجر المطبوخ.
وقيل: هو من سجله إذا أرسله.(3/220)
(سقَاية) :
قد قدمنا أنه الصاع الذي كان يشرب به يوسف.
وأما قوله تعالى: (أجعلتم سِقَايةَ الحاجِ وعِمَارة المسجد الحرام)
فسببها أنَّ قوماً من قريش افتخروا بسقاية الحاج وبعمارة المسجد الحرام.
فَبيَّن الله أن الجهاد أفضلُ من ذلك.
ونزلت الآية في عليٍّ والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة - افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وعندي مَفَاتحه.
وقال العباس: أنا صاحبُ السقاية.
وقال علي: لقد أسْلمتُ قبل الناس وهاجرْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
(سجلّ) ، بلغة الحبشة: الرجل عند ابن عباس.
وعند ابن جني الكتاب، قال قوم: هو فارسي معرب.
وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن أبي جعفر الباقر، قال: السجل ملك، وكان هاروت وماروتُ من أعوانه.
وأخرج عن ابن عمر، قال السجل ملك.
وأخرج عن السدِّى، قال: ملك موكّل بالصحف.
ومعنى: (يوم تطْوِي السماء كطيِّ السجلِّ للكتب) أن اللهَ يْطوِي السماءَ كما يُطْوَى السجلُّ ليكتب فيه، أو لتصانَ الكتب التي فيه.
وقد ضعَّف بعضهم كونه ملك، ولا أدري ما وَجْه تَضعيفه.
وفيه ضعف.
(سَنَا) :
أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: (سَنَا) بالنبطية الحَسَن.
وقيل بالحبشية.
وفي الحديث سَنَهْ سَنَهْ، أي حسنة بالحبشية.
(سُخْريًّا) ، بضم السين من السخرة بمعنى التحول، وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء، وقد يقال هزءاً بالضم، وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين، على أن معنى الاستهزاء هنا أليق، لقوله: (وكنتم منهم تضحكون) ، وفي الزخرف استخدام بعضهم بعضاً أَليق، لقوله: (ورحمة رَبِّكَ خير مما يجمعون) .(3/221)
(سِدْرٍ مَخْضود) :
قد قدمنا في حرف الميم أنه النبق الذي قطع شوكه.
(سجِّين) :
اسم علم منقول من صفة على وزن فعّيل للمبالغة.
وقد قيل عظم الله أمره بقوله: (وما أدْرَاك ما سجِّين) ، ثم فسره بقوله بأنه
كتاب مرقوم، أي مسطور بيِّن الكتابة، وهو كتابٌ جامع يكتب فيه أعمالُ
الشياطين والكفار والفجَّار، وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس، لأنه سبب
الْحَبْس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح في مكان والعذاب كالسجن، فقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأرض السفلى.
وروي أنه في بئر هنالك.
وحكى كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك.
وحكى البِكالي بسند صحيح عن رجل كان بمكة انتهت حاله في العبادة إلى مقام عظيم، ويقصده أصحاب الأموال التي تركها التجار بمكة، ويسافرون، فاتفق أنَّ رجلاً ذا مال جليل أراد السفَر من مكة إلى أرض بعيدة فدلَّ على ذلك الرجل في أن يترك عنده وَدِيعة، ففعل، وسافر، وقدم على الرجل لما حضرته الوفاة فأوصى بكل ما كان عنده لأربابه من الودائع، فتوفي، فأخذ الناس ودائِعَهم سوى ذلك الرجل فإنه لم يوجد له ذِكر، فحار دليل الرجل، فدلَّ على رجل كبير القدر أنْ يخبره بقصته، قال: وكل من أخبره عن المتوفي بشيء كان خيراً، قال: فلما انتهيت إلى الثاني وأخبرته قال لي: يا بني، ما عندي ما أدلك عليه إلا أنك تأتي ليلةَ الجمعة لبئر زمزم آخر الليل وتنَادي فيه: يا فلان بن فلان، فإنْ أجابكَ سَلْه عن مالك فإنه يخبرك كيف اتفق فيه، فإن لم يجِبْك فافعل ذلك سبع ليال من ليالي الجمعة، فإن أجابك فحَسَن، وإلا فأخبرني.
ففعلت، ولم يجبني أحد، فأخبرت الرجلَ بذلك، فقال: يا بني، ما أرى
الرجل إلا من أهل النار، فتسافر إلى أرض حضرموت، وتأتي إلى بئر هنالك
يقال له بئر برهُوت، فتنادي فيه باسم الرجل ليلةَ الأربعاء، فإنه يجيبك ضرورةً فاسأله يخبرك.(3/222)
قال: فسرتُ إلى الوضع فناديتُ أول ليلة باسم الرجل، فأجابني، فسألته عن مالي، فأخبرني أنه نسي أنْ يُوصِيَ بمكانه حيث دفنه، قال: ولما أخبرني بمكانه من محلّ سكناه قال لي: بالله عليك إلا ما بلغت رسالة لأختي ببلد كذا من مكان كذا، واسم زَوْجها وابنتها، وأمارات، وقل لها: تجعلني في حِل من كوني فارقْتها من غير طيب نَفْس منها، ووقع بيني وبينها مهاجرة، فتضرَّعْ لها وأرغبها لعل اللَهَ يُنقذني من هذا المقام، فإني عُوقِبْتُ من سبب قطعي لرحمها.
وتمامُ الحكاية أنه وجد مالَه، واستعفي من الأخت لأخيها، وعاد الرجل إلى
مكة، ونادى ليلة الجمعة باسمِ الرجل، فأجابه وجزاه خَيْرًا، وأخبره أنَّ الله قد غفر له.
ومما يؤكّد صحة هذا أن الأرواحَ حيثما ذكر - ما ذكره القرطبي في سورة
قد أفلح: اختلف في مقر الأرواح على أقوال ذكر فيها قولا إن بئر زمزم
خاصّ بالسعداء وبئر برهوت خاص بالأشقياء.
قلت: وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الأرواح على أحوال مختلفة، فمنها
ما هو يعلق في ثمر الجنة، ومنها ما هو في قناديل معلقة تحت العرش، ومنها ما
هو في كفالة آدم، ومنها ما هو في كفالة إبراهيم، ومنها ما هو في أفْنِيَة قبورها تردّ على مَنْ يسلِّم عليها، ومنها ما هو لتلقّي أرواح المؤمنين من إخوانهم يسألونهم عنهم، فيقول بعضهم لبعض: دعوه يستريح مِنْ هَمِّ الدنيا وغمومها.
***
(السين) :
حرف يختص بالمضارع ويخلِّصه للاستقبال، ويتنَزل منه منزلةَ
الجزاء فلذا لم تعمل فيه.
وذهب البصريون إلى أن مدةَ الاستقبال معه أضيق منها
مع سوف، وعبارة المعربين فيها حرف تنفيس، ومعناها حرف توسع، لأنها
نقلت المضارعَ من الزمن الضيّق - وهو الحال - إلى الزمن الواسع، وهو
الاستقبال.
وذكر بعضهم أنها قد تأتي للاستمرار لا لِلاسْتِقبال، كقوله: (ستَجِدون
آخرين) .
(سيقول السّفَهَاء) .(3/223)
لأن ذلك إنما نزل بعد قولهم: (ما وَلاَّهُمْ) فجاءت السينُ إعلاما
بالاستمرار لا بالاستقبال.
قال ابن هشام: وهذا لا يعرف النحويون، بل الاستمرار مستفاد من المضارع، والسين باقيةٌ على الاستقبال، إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل.
قال: وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة، ولم أر مَنْ فَهم وَجْه ذلك، ووجهه أنها تُفيد
الوعد بحصول الفعل، فدخولُها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض لتوكيده
وتثبيت معناه، وقد أومأ إلى ذلك في سورة البقرة، فقال: (فسيكفيكهم الله وهو السميعُ العليم) - معنى السين أن ذلك كائن لا محالة، وإن تأخر إلى حين.
وصرح به في سورة براءة فقال في قوله: (أولئك سيرحمهم الله) ،: السين مفيدة وجودَ الرَّحْمة لا محالة، وهي تؤكد الوعد، كما تؤَكد الوعيد في قولك: " سأنتقم منك ".
***
(سوف) :
كالسين أو أوسع زماناً منها عند البصريين، لأن كثرةَ الحروف
تدل على كثرة المعنى، ومرادفة عند غيرهم، وتنفرد عن السين بدخول اللام
عليها نحو: (ولَسَوْف يعطِيكَ ربُّك فَتَرْضَى) .
قال أبو حيان:
وإنما امتنع إدخال اللام على السين كراهةَ توالي الحركات في " لَسَيُدَحْرَج " ثم طرد الباقي.
قال ابن بابشاذ: والغالب على سوف استعمالها في الوعيد والتهديد، وعلى السين استعمالها في الوعد، وقد تستعمل سوف والسين في الوعيد.
و (سوَاء) : تكون بمعنى مستَوٍ، فتقصر مع الكسر، نحو: (مكاناً سِوًى)
، وتمد مع الفتح نحو (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ، وبمعنى الوسط فتمدّ مع الفتح نحو: (في سوَاءِ الجحيم) ، وبمعنى التمام نحو: (في أربعة أيام سواءً للسائلين) ، أي تماماً، ويجوز أن يكون منه: (واهدنا إلى سوَاء الصرَاط) ، ولم ترد في القرآن بمعنى غير.
وقيل وردت، وجعل منه في(3/224)
البرهان: (فقد ضلَّ سواءَ السبيل) ، وهو وَهْم، وأحسنُ منه
قول الكلبي في قوله تعالى: (ولا أَنتَ مكانا سُوى) - إنها استثنائية، والمستثنى محذوف، أي مكاناً سوى هذا المكان، حكاه الكرماني في
عجائبه، وقال: فيه بُعْد، لأنها لا تستعمل غير مضافة.
***
(ساءَ) :
فعل للذم لا يتصرف.
(سبحان) : مصدر بمعنى التسبيح لازمَ النصب والإضافة إلى مفردٍ ظاهر.
نحو: (سبحان الله) .
(سبحان الذي أسرَى) ، أو مضمر، نحو: (سبحانه أن يكون له ولد) .
(سبحانكَ لا علم لنا) ، وهو مما أُمِيتَ فعله.
وفي العجائب للكرماني: من الغريب ما ذكره المفضّل أنه مصدر سبح إذا
رفع صوته بالدعاء والذكر، وأنشد:
قبح الله له وهوهَ تغلبَ ... كلَّما سَبَح الحجِيجُ وكبروا إهْلالا
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (سبحان الله) - قال: نزَه الله
نفسه عن السوء.(3/225)
(حَرف الشين المعجمَة)
(شُعيب) :
قال ابن إسحاق: وهو ابن ميكاييل، كذا بخط الذهبي في اختصار المستدرك، وقال غيره: ابن ملكاين.
ورأيتُ بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجن بن مدين بن إبراهيم الخليل، كان يقال له خطيب الأنبياء، وبُعث إلى أُمَّتين: مدين، وأصحاب الأيْكَه رسولا، وكان كثير الصلاة، وعَمِي في آخر عمره.
وقد قدمنا قَوْلاً بأن مدين وأصحاب لَيْكة واحدة.
قال ابن كثير: ويدل على ذلك أن كلًّا منهما وعظ بوفاءَ الكيل والميزان، فدلّ على أنهما واحد.
واحتج الأول بما أخرجه السُّدِّي وعكرمة، قالا: لم يبْعَث الله نبياً مرتين إلا شعيباً: مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحةِ، ومرة إلى أصحاب لَيْكَة، فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة.
وأخرج ابنُ عساكر في تاريخه، عن عبد الله بن عمرو - مرفوعاً - أن قوم
مدين وأصحاب ليْكة أُمتان بعث الله إليهما شعيباً، قال ابن كثير: وهو غريب.
وفي سرِّ رَفْعِه نظر، قال: ومنهم من زعم أنه بُعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرَّس.
(شعر) بالأمر يشعر، أي علمه.
والشعور: العلم من طريق الجسم، ومنه:
(وَمَا يَشْعُرون) ، أي لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم.
فإن قلت: هل العلم والشعور بمعنى واحد، لأنه يظهر من تكرير قوله: (لا
يشعرون) أنهما بمعنيين؟(3/226)
والجواب ما قاله أبو الفضل ابن الخطيب: إنما قال ذلك في قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) ، وفيما قبلها: (ول@كن لا
يشعرون) ، لوجهين:
أحدهما: أن الوفق على أن المؤمنين على الحق، وهم على الحقّ أمر عقلي
نظري، وأما أنَّ النفاق وما فيه من البغي يفْضي إلى الفساد في الأرض
فضروري، جار مجرى المحسوس.
والثاني: أنه لما ذكر السفَه، وهو جهل، كان ذِكْرُ العلم أحسن طبافاً.
والله أعلم.
(شَكور) :
من أسماء الله، لأنه المجازِي للعباد على أعمالهم بجزيل الثواب.
وقيل: الْمُثْني على العباد.
وأما الشكور من عباده فهو المصرِّفُ جوارِحَه فيما أمَر الله به عبادَه من الطاعة، وهو موجب للزيادة كما قدمنا.
وقام - صلى الله عليه وسلم - حتىْ تفطَّرَتْ قدماه، وقال: أفلا أكونُ عبداً شَكوراً، فالشكرُ إذاً طاعة الله في كل نعمة بما هو الأولى مع رؤية مِنَّةِ الله تعالى! والحياء من تتَابع نِعمه واستعظام صغيرها، واعترافه بعجزه عن شكرها، وأنها وشكرها نعمة منه تعالى، وعدم ركونه إلى غير المنعم، وأعظم النعم حسن خلق، لأنه ما ضرّ أبداً كسوء خلق، ويجب العلم بما قَبّحه الشرع وبما حسَّنَه، وكل نِعَمِه فإنها منه تعالى إجماعاً، فالشّكْرُ بما يجب حَتْمٌ، وبما يستحبّ ندب، ولما كانت نِعَم الله تعالى مبذولة لم يشكر الجاهل إلا ما خصّه بقوله الحمد للهِ، ولو عمي مثلاً لتسخَّط
وشكى، ولو عاد بصَره شكر.
(شَرَوْا) :
بمعنى باعوا، كقوله تعالى: (وشَرَوْه بِثَمن بَخْسٍ) .
(شَطْرَ الْمَسْجِدِ الحرام) :
تلقاءه، بلسان الحبشة،(3/227)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يرفع رَأسه إلى السماء رجاء أن يُؤْمَر بالصلاة إلى الكعبة، لأنها قِبْلَة إبراهيم، أو كان يحِبُّ ذلك من أجل أنَّ اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، فقال لجبريل: وَدِدْتُ أن يُحوِّلَني الله إلى الكعبة، فإنها قِبْلة إبراهيم، فقال جبريل: إنما أنا عَبْد مثلك، وأنتَ كريم على ربك، فاسأل أنْتَ ربَّك، فَعرج جبريل إلى السماء، فأنزل الله الآية، فهي متأخرة تلاوة مقدمة معنى، لأنها رَأس القصة، وأوَّل ما نُسخ من أمور الشرع أمْرُ القبلة.
فإن قلت: ما فائدة تكريرها ثلاث مرات من سورة البقر ة؟
فالجواب أنَّ الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب، وهو قوله: (وإنَّهُ لَلْحقّ
من ربك) ، والثالثة لعلة، وهو قوله: (لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجةٌ) .
وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد.
وقيل في الآية خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه الكعبة، وخروج إلى مكان لا ترى أيّ الحالتين فيه سواء.
وقيل في الجواب غير هذا حذفناه لطوله.
(شَهيدَيْنِ مِنْ رِجَالكم) :
نَصّ في رفض شهادة الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظُ يتناولهم، ولذلك أجاز ابن حنبل شهادَتهم، ومنعها مالكٌ والشافعيّ لنَقص الرِّق، وإنما أمر الله بالإشهاد في البياعات حفْظاً للأموال، فشهادة الرجلين أو رجل وامرأتين جائزة في الأموال لا في غيرها بشرط العدالة، ومعناها اجتنابُ الذنوب الكبائر وتوقّي الصغائر مع المحافظة على المروءة.
وروي أن آدم - صلى الله على نبينا وعليه وسلم - لما رأى ذريته عند خروجها من ظهره، فسأل الله عنهم، فقال له: هم الأنبياء من أولادك، فقال: يا رب، كم أعمارهم، فأخبره بِعُمْر كلِّ واحد، فوجد عمر داود أربعين، فقال: يا رب، قد وهبتُ له من عمري أربعين أخرى، فلما بقي من عمره هذه الأربعون أتَى ملَكُ الْمَوتِ ليقبِضَ رُوحه، فقال: إني لمْ أهب شيْئاً.(3/228)
فقال الله له: أمرًا أحدثته بين أولادك، فمَنْ كان عليه حق أنكره، فلذلك
أمره الله بالإشهاد، فقال: (واستَشْهدوا شهيْدَيْنِ مِنْ رِجالكم) .
ولذلك وَكل على كل أحَدٍ من الآدميين مَلَكين شاهدين حتى لا يجدَ
إلى الإنكار سبيلاً.
فانطرْ هذا التَّأنيسَ العظيم لأمة هذا النبي الكريم.
وقيل: إنه كان نور المصطفى في وَجْه آدم ينظر إليه، فقال: يا رب، هل بقي في ظهري من هذا النور شيء، قال: نور أصحابه.
قال: يا رب، اجعله في بقية أصابعي، فجعل نور أبي بكر في الوسْطى، ونور عمر في البنصر، ونور عثمان في الخنصر، ونور عليٍّ في الإبهام (1) ، فكان آدم، - صلى الله عليه وسلم -، ينظر إلى تلك الأنوار ويعجبُ منها إلى أن أهْبَطه الله من الجنة، ومارَسَ أعمالَ الدنيا، فعادت الأنوارُ إلى ظهره.
وأنْتَ يا عاصي، تمَارِسُ المعاصي والفواحش، ولا تخاف مِنْ زوال نورِ
الإيمان من قَلْبك! ألم تسمع إلى قول ربك: (كلا بَلْ رَانَ على قلوبهم ما كانوا
يكْسِبون) .
فإن قلت: ما بال آدم لم يرد الرجوع إلى الجنة، بل رجع فيما وهب لداود.
وكان قد بكى عليه بعد خروجه منها حتى لو أجْرِيت السفن في دموعه لجرت؟
والجواب أن آدم عليه السلام لما ذاق حلاوةَ النعمة في الجنة بكى على فِرَاقها، فلما خرج إلى الدنيا وكلفه الله فيها بالعبادة، لأنها محلُّ تكليف، وذاق حلاوته، اختار ما فيه رضَا الله على حظ النفس.
وقيل: كَرِه الخروجَ من الجنة لطلب الراحة وخوف الموت، لأنَّ الله أخبره أنه لا موت فيها، ولما خرج إلى الدنيا، وعلم بمرارة الموت فيها لم يرِد الخروجَ منها، فإذا أبو بكر المطهر من الذنوب يخاف من هذه الأهوال، فكيف بكَ أيها الغريق لا تخاف من الفراق، وقَطْع حَبْل التلاق.
__________
(1) كلام يفتقر إلى دليل.(3/229)
(شاوِرهم في الأمر) :
أمَر الله رسولَه بمشاورة أصحابه في الحروب وغيرها لا في أحكام الشريعة.
وقال ابن عباس: وشاوِرْهم في بعض الأمر، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يشاوِرهم في مواطن كثيرة، كيوم بَدْر، ويوم الأحزاب، والطائف، وغير ذلك.
وينبغي للإنسان أن يشاوِرَ في أموره مَنْ يثِق منه بعقل صحيح وودٍّ صريح.
ولا يستغني برأيه، فإن استغنى برأيه زلَّ.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " المشاورة تزيد الرجل ذَكاءً ".
وقد ورد في هذا المعنى من الأحاديث والأخبار ما لا نطيل بذكره.
والله الموفق.
(شَجَر بَينَهم) ، أي اختلط.
واختلفوا فيه، ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يَرَضوا بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت الآية والتي قبلها في المحاكمة بين المنافقين.
فإن قلت: كثيراً ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسباباً متعددة فبأي السبب
نأخذ؟
والجواب أن الاعتمادَ في ذلك أن تنظر إلى العبارة الواقعة، فإن عَبَّر أحدهم
بقوله: نزلت في كذا، والآخر نزلت في كذا، وذكر أمراً آخر، فهذا يرَاد به التفسير لا ذِكر سببِ النزول، فلا منافاةَ بيبن قولهما إذا كان اللّفظ يتناولهما، وإن عبَّر واحذ بقوله نزلت في كذا، وصرح الآخر بذكر سببِ خلافه فهو المعتمد.
وقد يكون للآية أسباب، وقد أفرد أسباب النزول بالتَّصنيفَ جماعة ٌ أقدمهم علي ابن المديني شيخ البخاري، وألَّف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل بن جعفر كتاباً مات عليه مسوّدة فلم يقف عليه كاملاً.
وقد ألَّفتُ فيه كتاب النقول في أسباب النزول، فقِف عليه لعل قلبكَ يَميل.
(شَنَآنُ قَوْمٍ) ، أي بغضهم وحِقْدهم.
ومعنى الآية: لا يحملنَّكم عَدَاوة قوم على أن تعتَدوا عليهم مِنْ أجْل أنْ يَصدّوكم عن المسجد الحرام.(3/230)
ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أنْ يَسْتَأصِلوهم
بالقتل، لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عامَ الحدَيبية، فنهاهم اللَه عن قَتْلهم لعلمه بأنهم يؤمنون.
(شَهَادَةُ بَيْنِكم) :
مرفوعٌ بالابتداء، وخبره اثْنَانِ.
التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، أو شهادة " آخران " على أن تكون إذا
بمنزلة حين لا تحتاج جواباً.
ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدلُّ عليه ما تقدم قبلها، فإن
المعنى إذا حضر أحدَكم الموتُ فينبغي أن يَشهد.
وسبب نزول الآية أنَّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجلٌ آخر
لتجارة، فَمرضَ في الطريق، فكتب كتاباً قَيَّدَ فيه كُلَّ ما معه، وجعله في
متاعه، وأوصى الرجلين أن يؤَدِّيَا رَحْله لورثته، فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفَعا رَحْلَه إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه، وفقدوا منها أشياء قد كتبها.
فسألوهما عنها، فقالا: لا ندري، هذا الذي قَبضْناه، فرفعوهما إلى رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم -، فاستحلفهما، فبقي الأمْرُ مدةً، ثم عثر على إناءٍ عظيم من فضة، فقيلَ لمَنْ وجده عنده: مِنْ أين لكَ هذا، فقال: اشتريتُه مِن فلان وفلان - يعني الرجلين، فارتفع الأمرُ في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر رجلين مِنْ أولياء الميت أن يَحْلِفَا، فحلفا واستحقَّاه، فمعنى الآية: إذا حضر الموتُ أحداً في السفَر فليشْهد
عَدْلَين بما معه، فإن وقعت رِيبةٌ في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا، ولا بَدَّلا، فإن عُثِر بعد ذلك على أنها كذَبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغَرِمَ الشاهدان ما ظهر عليهما.
قال مكي: هذه الآية أشكلُ آية في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً، وتلخيصها
ما ذكرناه.
(شك) :
الشك تَجويز أمرين لا مَزِيَّة لأحدهما على(3/231)
الآخر، نحو: شَك الإنسان في الغيم غير المشف أنه سيمطر.
وقيل التردد بين حكمين من غير تغليبِ لأحدهما على الآخر.
(شَعَائر الله) :
ما جعله الله عَلماَ لطاعته، واحدتها شَعِيرة، مثل الجرائم، يقول: لا تحلوه، وكان المشركون يحجّون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقيل لهم: لا تغيروا عليهم ولا تصدوهم.
وقيل: هي الْحَرَم، وإحلاله الصيد فيه.
وقيل: هي ما يحرم على الحاج من النساء والصيد وغير ذلك، وإحلاله فِعْله.
(شَاقّوا الله وَرسوله) .
أي حاربوهما وصاروا في شقّ غير شقّ المؤمنين.
(شرِّدْ بهم مَنْ خَلْفَهم) .
أي افعل بهم من النِّقْمة ما يَزْجز غيرهم من القتل والتعذيب.
ويقال: شرِّد بهم: سمّع بهم، بلغة قريش.
(شَهراً) :
قال الجواليقي: ذكر بعضُ أهل اللغة أنه بالسريانية.
(شفَا جُرف) :
طرف حُفْرة.
وشَفَا الوادي والقبر شفيره.
(شغَفَها حبًّا) :
بَلغ شِغَافَ قلبها، وهو غِلافه.
وقيل السويداء منه.
وقيل: الشغاف داء يَصِل إلى القلب يقتل مَنْ تمكَّن منه.
وقولهم فلان مشغوف بحبِّ فلانة إذا ذهب به الحبُّ أقصى الذهب.
(شجرة ملعونة) :
يعني شجرة الزَّقُّوم، وذلك أنَّ قريشاً لما سمعوا أنَّ في جهنم شجرةَ الزقوم سخِروا من ذلك، وقالوا: كيف تكون شجرةٌ في النار، والنار تحرق الشجر، فقال أبو جهل: ما أعْرِف الزَّقُّوم إلا التمر بالزبد، وهذا كلّه استهزاء وتهَكّم بنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فقد علموا
قدْرةَ الله، وكيفَ لا وهمْ يُخْرِجون من الشجر الأخضر نارا ينتفعون بها.
فإن قلت: أين لُعنت شجرة الزقوم في القرآن؟(3/232)
والجواب أنَّ المراد - لعنة آكلها.
وقيل: إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد والكراهية.
لأنها في أصل الجحيم.
(شاكِلَتِه) :
ناحيته وطريقته التي تُشَاكله.
ويدلّ على ذلك قوله: (فرَبّكم أعْلَم بمَنْ هُو أهْدَى سبيلاً) .
وقيل شاكِلته طبيعته، وهو من الشكل، يقال: لسْتَ على شكلي وشاكلتي.
(شَطَطًا) :
أي جَوْرا وغلُوًّا، أي لو دعونا من دونه إلهاً لقُلْنا قولاً شَطَطا.
(شَتَّى) ، أي أصنافاً مختلفة.
(شَجَرة الْخُلْد) :
هذا من قول إبليس لآدم وحوَّاء، وعدَهُما بأنَّ مَنْ أكل منها لا يموت.
(شاطئ الْوَادِي) ، أي شَطّه.
(شاخِصَةٌ) :
من الشخوص، وهو إحْدَاد النظر من الخوف، لا تكاد تُبْصر.
(شَجَرةٌ تَخْرجُ في أصْل الجحيم) :
أي تنبت في قَعْر جهنّم، وترتفع أغصانُها إلى دركاتها.
وشَبَّه طَلْعَها برؤُوس الشياطين مبالغة في قبْحه وكراهته، لأنه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها، وإن لم يَرَوها، ولذلك
يقولون للقبيح النظر: وجه شيطان.
وقيل رؤوس الشياطين شجرة معروفة باليمن.
وقيل: هو صنف من الحيات.
(شَوْباً مِنْ حَميم) .
أي مزاجاً من حَمِيم حار.
فإن قلت: لم تُعطف هذه الجمل بـ ثم؟
فالجواب مِن وجهين: أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان.(3/233)
والمعنى أنهم يملأون البطون من شجرة الزقوم، وبعد ذلك يشربون الحميم.
والثاني أنه لترتيب مضاعفة العذاب، فالمعنى أنَّ شربهم للحميم أشد مما ذكر قبله.
(شَكلِه) .
أي مثله ونوعه.
والمعنى أن الله تعالى نوع على أهل النار أنواعاً من العذاب.
(شَرع لكمْ من الدين) : قد قدمنا أن الله تعالى فتح لنا
بالدين الذي هو التوحيد والإيمان برسله وكتبه والدار الآخرة.
(شَرِيعةٍ من الأمر) ، أي ملَّة ودين.
(شطْأه) :
قد قدمنا أنها فراخ السنبلة التي تَنْبت حول الأصول.
ويقال بإسكان الطاء وفتحها دون مدٍّ، وفتحها مع المد، وهي لغات.
(شَدِيدُ القُوَى) :
هو جبريل، وقيل الله تعالى.
والأول أرجح، لقوله: (ذِي قُوَّة عند العرش) .
والقُوَى جمع قُوّة.
(شَوى) :
أطراف الجسد.
وقيل: جلد الرأس.
والمعنى أنَّ النار تنزعها ثم تعاد.
(شراباً طهوراً) .
أي ليس بِنَجس كخمر الدنيا.
وقيل معناه أنه لم تَعْصرهُ الأقدام، وقيل معناه، لا يصير أذى.
(شامخات) ، أي مرتفعات.
ومنه يقال: شمخ بأنْفِه.
(شفَق) :
الحمرة التي تَبْقَى بعد غروب الشمس.
وقال أبو حنيفة: هو البياض.
وقيل: هو النهار كله.
وهذا ضعيف، والأول هو المعروف عند الفقهاء، وأهْل اللغة.
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) :
يحتمل الشاهد أن يكون من الشهادة على الأمر، أو يكون من معنى الحضور، وحذف المعمول، وتقديره مشهود عليه، أو مشهود به، أو مشهود فيه.(3/234)
وقد اضطرب الناسُ في تفسير الشاهد والمشهود اضطراباً عظيما، ويتلخص
من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولا، يقابِلُها في المشهود اثنان وثلاثون قَولا:
قيل الشاهد هو الله تعالى، لقوله: (وكفى بالله شهيدًا) .
والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أقوال:
أحدها أن يكون الخلق، بمعنى أنه يشهد فيه، أي يحضر للحساب والجزَاء، أو تقع فيه الشهادةُ على الناس.
وقيل إن الشاهد محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (ويكون الرسولُ عليكم شهيدًا) .
والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته، لأنه يشهد عليهم، أو أعمالهم، لأنه يشهد بها، أو يوم القيامة، لأنه يشهد فيه، أي يحْضر، أو تَقَع
فيه الشهادة على الأمة.
وقيل الشاهد أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (وتكونوا شُهَداءَ على الناس) .
والمشهود على هذا سائر الأمم، لأنهم يشهدون عليهم، أو أعمالهم، أو يوم
القيامة.
وقيل الشاهد عيسى عليه السلام، والمشهود أمَّتُه، لقوله: (وكُنت عليهم
شهيداً ما دُمْتُ فيهم) .
أو أعمالهم، أو يوم القيامة.
وقيل إن الشاهد جميع الأنبياء، والمشهود أممهم، لأن كل نبيٍّ يشهد على أمته:
أو يشهد بأعمالهم، أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه.
وقيل إن الشاهد الملائكة الحفَظة.
والمشهود على هذا أعمال الناس، لأن الملائكة يشهدون بها، أو يوم القيامة، أو صلاة الصبح، لقوله: (إنَّ قرآن الفَجْرِ كان مشهوداً) .
وقيل إن الشاهد جميعُ الناس، لأنهم يشهدون يوم القيامة، لقوله: (وذلك
يوم مشهود) .
وقيل: الشاهد الجوارح، والمشهود عليه أصحابُها، لقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) .(3/235)
أو الأعمال، لأن الجوارح تشهد بها، أو يوم القيامة لأن الشهادة تقع فيه.
وقيل الشاهد الله والملائكة وأولو العلم، لقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) .
والمشهود به الوحدانية.
وقيل الشاهد جميع المخلوقات.
والمشهود به وجودُ خالقها، وإثباتُ صفاتها
من الحياة والقدرة وغير ذلك.
وقيل الشاهد النجم، لما ورد في الحديث: " لا صلاةَ بعد العصر حتى يطلعَ
الشاهد، وهو النجم ".
والمشهود على هذا الليلُ والنهار، لأنَّ النجم يشهد بانقضاء
النهار ودخولِ الليل.
وقيل الشاهد الحجَر الأسود.
والمشهود الناس الذين يحجُّون، وقال - صلى الله عليه وسلم -:
" الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عَرفة ".
وذلكَ لأنَّ يوم الجمعة يشهد بالأعمال، ويوم عَرَفة يشهده جميع عظيم من الناس.
وقيل الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر.
وقيل الشاهد يوم التَّرْوِية.
والمشهود يوم عَرفة.
وقيل الشاهد يوم الإثنين.
والمشهود يوم الجمعة.
(شَفْع) :
يعني ثني، وأما قوله تعالى: (والشَّفْع والوتر) ، فقد كثرت فيه الأقاويل.
وفي الحديث أن الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة.
وذلك لأن يوم النحر عاشر، فعدَدُهُ شفْع، ويوم عرفة تاسع، فعدَدُه وَتْر.
وروي عنه عليه السلام أنها الصلوات، منها شفْع ووتر.
وقيل الشفع التنفل بالصلاة مَثْنَى مَثْنَى، والوَتْر: الركعة الواحدة المعروفة.
وقيل الشفع: العالَم، والوتر الله، لأنه واحد.
وقيل الشفع آدم وحواء، والوَتْر الله تعالى.
وقيل الشّفع الصفا والمروة، والوَتْر البيت الحرام.
وقيل الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية، والوتر أبواب النار، لأنها سبعة.
وقيل الشفع قِرَان الحج والوتْر إفراده.(3/236)
وقيل المراد الأعداد منها شَفْع ووتر، فهذه عشرة أقوال.
وقيل الشفع الصلوات، والوتر المغرب.
وقيل الشفع رجب وشعبان، والوتْر رمضان.
وقيل الشَّفْع صفات الْخَلْق كالعجز والقدْرة، والعلم والجهل، والعزّ والذل.
وقيل الشّفْع ما يتكرر من الفرائض، كالصلاة، والصوم.
والوتر: ما لا يتكرر.
وقرئ الوتر بفتح الواو وكسرها، وهما لغتان.
(شُرَّعًا) :
بضم الشين: ظاهرة قَرِيبة منهم.
يقال شرع منا فلان، إذا دنا، وقِصَّتهم أن الله تعالى أكرم موسى عليه السلام بيوم السبت، وأمره أنْ يأمر بني إسرائيل بتعظيمه، ولا يشغلوا بشيء من أحوال الدنيا، وكانت بلدة يقال لها أيْلَة، وكان أهلها صيّادين يصطادون السمك، فأرسل الله تعالى إليهم داود عليه السلام، وامره ان يمنع الصيادين عن صَيْد السمك في يوم السبت، وأباح لهم في سائر الأيام، فبلَّغَ داود عليه السلام رسالةَ ربه، فلم يقبل اليهود، فابتلاهم اللَّهُ تعالى، فكانت تدخل سمكُ جميع الأبحر في بَحْرهم يوم السبت، ولا تدخل في سائر الأيام سمكةٌ قط، فوقع القحط والغلاء، وسقَط الله عليهم الجوع، فاضطروا فحفَروا حياضا وأنهاراً، وأسالوا الماءَ من الأنهار في الحياض يوم السبت، فإذا رأوا امتلاءَ الحياض أَلْقَوْا شباكهم يوم الجمعة بعد العصر، وأخرجوها يوم الأحد، فيأكلون ويبيعون، فنصحهم العلماء والحكماء الزّهاد بالكف عن صيدهم، فلم يمتنعوا.
فلما لم يسمعوا مواعظهم خرجوا مِنْ ديارهم كي لا يُعاقَبوا معهم، فلما أراد الله عقوبتهم بعد إمهالهم سنتين أرسل إليهم رسولا لينصحهم ويعظهم، فلم يتعظوا، فيوماً من الأيام دخل العلماء في البلدة فلم يروا فيها أحداً من الناس، ففتحوا أبوابَ البيوت، ودخلوا فرأوا الذكور والإناث كلّهم قد مسخوا قردة، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) ، الآية، والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول: مَنِ احتال في صيد السمك جزاؤه أنْ أحَوِّل صورته قِرَدة، فكيف بمن احتال في تحليل ما حرَّمْتُ من خَمر ورِبا، أفلا يخاف من تحويل صورته وإن رَفع اللَّهُ مَسْخَ الظاهر ببركة سيدنا ومولانا محمد الطاهر، فإنَّ مَسْخَ البواطن معلوم كما هو مشاهَدٌ في(3/237)
الشّرَط والْجَلاَوِزة وشِبْههم، تراهم طولَ يومهم يروعون الناس، ويغضبون في وجوههم، فهؤلاء مُسخوا على صورة الكلاب، ومنهم على صورة الخنازير، وهم أهل القَذَارة والبلادة، وهكذا تَتَبع بنظرك صفةَ كل شخص في خَلْقه تستدلّ بذلك على مسخ قلبه ما هو.
وقد يبقى متحيِّرا لا مَسْخَ في قلبه، إِلا أن قلبه قد مات، وقد أخبر بذلك الصادقُ المصدوق في قوله:
" يأتي على الناس زمان يموت فيه قلْبُ المرء كما يموت بَدَنُه، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم.
لأن القلب إذا لم تبق فيه تلك الحرارةُ الغريزية حتى يَفْقَه مصالِحه فهو ميت، وقد يكون موته حقيقياً. والله أعلم.
والقدرةُ صالحة أن يكون حسيًّا أو معنويا، فإنه إذا لم ينتفع بقلبه في النوع
الذي أرِيد منه، وتوالَتْ عليه الشهواتُ حتى لا يَرَى إلا هي، فذلك مَوْتُه، لأن الفائدة التي في حياة القلب معدومة منه، ولذلك شبه - صلى الله عليه وسلم - الذاكر به بالْحَي، والغافل بالميت، واحتمل أن يكون موته حسيًّا حيث شاء الله كما ييبس عُضْو من أعضاء الشخص مثل يَده أو رِجله أو غيره من الجوارح، وباقي بَدنه صحيح القُدْرة صالح.
وقد ذكر بعضُ شُرًاح البخاري عن بعض مَنْ سمع الحديث: أمَا يخشى الذي
يرفع رَأسه قبل الإمام في الصلاة أن يحوِّل الله رأسه رَأسَ حمار! فاستَهْوَنه، ورفع رأسه امتحاناً بما صحَّ عن الصادق المصدوق، فحوَّل اللهُ رَأسَه رَأسَ حمار، وصار عجباً ينظر إليه.
فإن قلت: قد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - أمان من المسخ، فكيف يمسخ هذا، وما معنى الحديث؟
فالجواب: أن معناه تحويل بعض الأجزاء من الإنسان لا مَسْخه كله، وهَبْ
أنه مُسخ كله فهو أمَان في الغالب وفي جميع الأمة، وأما في بعض الأفراد
فممكن والله أعلم.
وإذا تأمَّلْتَ إخبارَ الله لرسوله في أصحاب السبت في مواضع
تَجد ذلك تحريضاً وتأكيداً للنهي عن ارتكاب ما حَرّم الله ورسوله، أوّلها قوله:(3/238)
(إنما جُعِل السَّبْتُ على الذين اختلَفُوا فيه) .
(ولقد علمْتُم الذينَ اعتَدَوْا منكم في السَّبت) .
(أو نَلْعَنَهُمْ كما لَعَنَّا أصحابَ السَّبْت) .
(قلْنَا لهم لا تَعْدُوا في السبت) .
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) .
وافترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت بالصيد يوم السبت، وفرقة
نهت عن ذلك واعتزلت، وفرقة سكتت واعتزلت ولم تَنْهَ ولم تعْص، وإن هذه الفرقة لما رأت مهاجرةَ الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية: لم تَعِظُونَ قوماً يُريد اللَهُ أنْ يُهلكهم أو يعذبهم، فقالت الناهية: ننهاهم معذرة إلى الله، ولعلهم يتقون: فهلكت الفِرقةُ العاصية، ونَجَت الناهية، واختلف في الثالثة، هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتَرْكها العصيان.
فانظر يا محمدي، كيف يكون حالُك لولا أنَّ الله مَنَّ عليك بني كريم شفع
لك وفيك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
" حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، أمّا حياتي فأسنُّ لكم وأشرع لكم الشرائع، وأما مماتي فإن ذنوبكم تُعْرَضُ عليَّ، فما كان منها سيئاً استغفرتُ الله لكم ".
فأكثِر من الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله في كل وقت وحين.
(شُقَّة) ، أى طريق ومسافة.
(شُعُوب) .
جمع شَعب بفتح الشين، وهو أعظمِ من القبيلة، وتحته القبيلة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وهم القرابة الأدْنون، فمُضَر وربيعة وأمثالهما شعوب، وقريش قبيلة، وبنو عبد مناف، وبنو هاشم فخذ - ويقال بإسكان الخاء فَرْقاً بينه وبين الجارحة، وبنو عبد المطلب فصيلة.
وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل.
(شُوَاظ) :
لهب نار.
وقرئ بكسر الشين، وهما لغتان.
(شُهُب) :
جمع شهاب، وهو كل متوقد مضيء.(3/239)
فإن قلت: ما فائدة تكريره في سورة الجن في موضع واحد؟
والجواب: أنه كرره لاختلاف اللفظ، ووصف الحرس بالشديد، وهو مفرد، لأنه يحتمل أن يُريد به الملائكة الحراس أو النجوم الحارسة.
(شيث) : ولد آدم عليه السلام.
(شيبا) ، وهو في اللغة الأبيض الرأس، وقوله تعالى: (لا شِيَةَ) ، أي لا لون فيها غير الصفرة، وهو من وَشَى، ففاؤه واو محذوفة كعدة.
(شِقَاق) :
عداوة وقصد المخالفة وقد قدمنا أن تنكير العزة والشقاق للدلالة على شدتهما وتفاقم الكفار فيهما.
(شِرْعَة) ، أي شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال إن شريعة مَنْ قبلنا في الفروع ليست شرعاً لنا.
وقيل الشرعة معناها ابتداء الطريق.
(شِيَعا) :
جمع شيعة، أي متفرقين، كل فرقة تتشيَّع لمذهبها.
وقوله: (في شِيَع الأوَّلين) ، أي أمَم الأولين.
(شِقَ الأنْفس) ، أي مشقَّتها.
(شِرْذِمة) .
أي طائفة من الناس، وفي هذا احتقار لهم، على أنا قدمنا أنهم كانوا ستمائة ألف، ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير.
(شِرْب) : نصيب.
(شِيعته) :
أعوانه، مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يُشعل به النار ويعين الحطب الكبار على اتّقاد النار.
وقيل الشيعة الأتباع من قولهم: شاعك كذا وكذا إذا اتبعك.
(شِعْرَى) :
نجم في السماء، ويسمى كلب الحيار، وهما شِعرْيَان: الغُمَيْصَاء، والْعَبُور.
وقد قدمنا تخصيصهما بالذكر لعبادةِ بعْض العرب لهما.(3/240)
(حرف الهاء)
(هارون) :
شقيق موسى - عليهما السلام.
وقيل لأمه فقط، حكاهما الكرماني في عجائبه.
كان أطول منه، فصيحاً جدًّا، مات قبل موسى، وكان وُلد قبله بسنة.
وفي بعض أحاديث الإسراء:
" صعدت فيه إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون ونصفُ لحيته بيضاء ونصفها أسود، تكاد لحيته تضرب سُرَّته من طولها.
فقلت: يا جبريل، مَنْ هذا، قال: المحب في قومه هارون بن عمران ".
وذكر ابن مسكويه أن معنى هارون بالعبرانية المحب.
وقال ابن عباس: إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء، فالماء بالقبطية
مُو، والشجر سا.
وفي الصحيح أنه وصفه بآدم طوال.
فإن قلت: ما فائدة لُقْيَاه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهل كان لقاؤه
لأرواحهم، أو للأجساد مع الأرواح؟
فالجواب أن الله أسرى بأجسادهم ليراهُم - صلى الله عليه وسلم -، ويؤم بهم، ويتشرفون برؤيته.
ولما رأوا فَضْلَه وتَعْظيمَه في كتبهم طلبوا من الله أنْ يُريهم وجهه الكريم.
ولذا طلب موسى وعيسى أن يكونا من أمته.
(هود) :
له معنيان: بمعنى اليهود، ومنه: (كانوا هُودا) .
وهاد يهود في اللغة إذا تاب.
(والَّذِين هَادُوا) ، أي تهودوا، وصاروا يهوداً، من قوله: (هُدْنَا إليكَ) .
وهود: اسْمُ في قَوْم عاد، كان أشبهَ الناس بآدم.
وقال ابن مسعود: كان(3/241)
رجلاً جَلْداً.
أخرجه في المستدرك.
وقال ابن هشام: اسمه عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح.
وقال غيره: الراجح أنه هود بن عبد اللَه بن رباح بن داود بن عاد
ابن عوص بن آدم بن سام بن نوح.
قال الجواليقي: هود: اليهود، أعجمي.
وحكى شيذلة وغيره أن معنى (هدْنا إليْك) تبْنَا إليك - بالعبرانية.
(هَدْي) :
بالهاء مفتوحة وإسكان الدال: ما يُهْدَى إلى الكعبة من البهائم، واحدته هَدْي وهَدْية.
(هاجروا) :
تركوا بلادهم وأموالهم حبًّا للَه ورسوله.
وفي الحديث: "المهاجِرُ مَنْ هجر ما نهى الله عنه".
(هار) :
مقلوب من هائر، أي ساقط، يقال هار البناء
وانْهَار وتَهَوَّر: سقط.
(هَمّت طائفةٌ منهم أنْ يُضِلُّوك) :
هم الذين جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَرئوا ابْنَ الأبَيْرق من السرقة، وهذه الآيات وإن كانت إنما نزلت بسبب سرقة لبعض الأنصار فهيَ أيضاً تتضمن أحكاماً غيرها.
(هَيْتَ لَكَ) :
أي هَلمَّ بالنبطية.
وقال الحسن: هي بالسريانية.
وقال عكرمة: بالحورانية.
وقال أبو زيد الأنصاري: هي بالعبرانية، وأصلها هيتلح، أي تعاله.
وقرئ بفتح الهاء وضمها وكسرها.
والمعنى في ذلك كلّه واحد، وحركة التاء للبناء.
وأما من قرأه بالهمز فهو فعل من تهيّأت، كقولك: جئْت.
لَمَّا قالت له هلم أَنا لكَ وأنت لي، فقال لها يوسف: أنت لزوجك وأنا لربي.
وكذلك أنت يا محمديّ يَدَّعِي إبليس أنكَ له ليدخلك معه في النار، فيقول:
تعال، أنت للنار وهو للعزيز الجبار، فعليك بشُكرِ مولاك، والرجوع إليه.
ليكون لك، ألا تَرى زليخا غلقت الأبواب كلَّها عليه لتصيب الخلوة معه.
فكذلك أنت غلق العلائق كلها من قلبك لتكونَ له خاصة، ولا يقدر إبليس(3/242)
على الدخول فيه، لأنه لا يدخل إلا بيتاً ليس فيه حب المولى، وأما البيت الذي هو مشغوف بخالقه، فكيف يدخل فيه، والله يقول: (إنَّ عِبَادِي ليس لكَ عَليهم سُلْطان) .
وقال: (لا تدخلوا بيوتاً غَيْرَ بيوتكم حتى تَسْتَأنِسوا) .
ولا تغتر بحبّ وَليّ أو عالم، وتطمع أنْ يَشْفعَ فيك أَحد، فإن سَيِّدَ الأولين والآخرين لم يقدر على هداية أعمامه أو أحد من خَلْقه.
فكيف بغيره؟
وإذا كنت معه سبحانه فلا يقدر إبليس على إغوائك.
(وهَمَّ بها) :
الضمير لزليخا، وقد أكثر الناسُ الكلامَ في هذه الآية وألَّفوا
فيها تواليف، فلا تأخذ منها ما ذكره بعضهم من حل تكته وقعوده بين رِجليْها وغيره، بل هَمَّ بها إنما كانت خطرة له ولم يعزم، بل أقلع في الحال حتى محاها من قلبه لَمّا رأى برْهَانَ ربه.
وقد قدمنا أنَّ البرهان كان أنه رأى في الحائط مكتوب: (ولا تقْرَبوا
الزنى) .
وقيل تكلم صبي في المهد: يا يوسف، إن الله مطَّلِع عليك وإن لم تره.
وقيل: رأى صورةَ يعقوب على الجدار عاضًّا على أنامله من الغضب.
وقيل: إن زليخا ستَرَتْ صنما لها بديباج، فقال لها يوسف: لِمَ فعلت
هذا، فقالت: أنا أستحي منه.
فقال: أنت تستحين من صنم لا عَقْل له، فكيف لا أستحي أنا ممن خلقني! وقيل غير هذا.
والصحيح أن اللَهَ عصمه من المخالفة، واستغفر مما خطر له من الهم، فكتبت له حسنة.
ويقال: إن ثلاثة من الأنبياء رأوا ثلاثةَ أشياء، فازداد لهم بها ثلاثة: أولهم
إبراهيم رأى ملكوتَ السماوات والأرض فازداد له يقيناً.
ويوسف رأى برهان ربه فازداد عصمة.
ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أراه الله الإسراءَ فازداد به رؤية المولى.
قال تعالى: (ما كذبَ الفؤَاد ما رأى) .
(هذا للَه بِزَعْمِهم) .
أي بدَعْوَاهم وقولهم من غير دليل ولا شَرع.
وأكْثَر ما يقال الزَّعْم في الكذب.
وقرئ بضم الزاي وفتحها، وهما لغتان.(3/243)
قال السهيلي: هم حيٌّ من خَوْلان يقال لهم الأديم كانوا يجعلون من
زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيباً لله ونصيباً لأصنامهم.
(هَوَاء) - بالمد: منخرمة لا تعِي شيئاً من شدة الجزَع.
فشبهها بالهواء في تفرغه من الأشياء.
ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم، وقد قدمنا قول الزمخشري إن البيانيين يجعلونه استعارة، وإنه إشارة إلى ذهاب أفئدتهم وعدم انتفاعهم بها.
وهوى النفس - بالقصر: ما تحبه وتميل إليه.
ومنه: (ونَهَى النَّفْسَ عن الهوَى) .
والفعل منه بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع.
وهَوَى يَهْوي، بالفتح في الماضي والكسر في المضارع: وقع من علو.
ويقال أيضاً بمعنى الميل.
ومنه: (أفئدَة من الناسِ تَهْوِي إليهم) .
والهواء، بالمد والهمز: ما بين السماء والأرض.
(هؤلاء وهؤلاء من عَطَاءِ رَبِّكَ) :
الإشارة إلى الفريقين المتقدمين.
والعطاء: هو رزق الدنيا.
وقيل: من الطاعات لمن أراد الآخرة، ومن المعاصي لمن أراد الدنيا.
والأول أظهر.
(هَشِيماً) :
متفتّتا، ومنه سمي الرجل هاشماً.
(هَدًّا) ، أي انهداماً وسقوطاً إلى أسفل، وهو قَعْر جهنم.
(هَدَى) ، أي هدَى خَلْقَه إلى التوصل إلى العلم والهداية، فضلاً منه وإحساناً.
(همْسًا) :
هو الصوت الخفي، ويعني به صوت الأقدام إلى المحشر.
(هَضمًا) ، أي بَخْساً ونَقْصاً لحسناته، يقال هضمه
واهتضمه، إذا نقصه حقه.(3/244)
(هاتوا بُرْهَانكم) :
تعجيز لهم، وهو من هاتَى يُهاتي، ولم يُنطق به.
وقيل: أصله أتوا، وأبدل من الهمزة هاء.
(هذا ذِكْر مَنْ مَعِيَ وذِكْر مَنْ قَبْلي) :
رد على المشركين.
والمعنى هذا الكتابُ الذي مَعِي والكتب التي من قبلي ليس فيها ما
يقتضي الإشراكَ بالله تعالى، بل كلّها متفقة على التوحيد.
(أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) :
لما كان الذكر بمدح وبذم ذكروا أن إبراهيم يذكر آلهتكم بالذم، دلت
على ذلك قرينة الحال، وهم بذكر الرحمن في موضع الحال.
أي كَيف ينكرون ذمّك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن، فهو أحقّ بالملامة.
وقيل: معنى بِذِكْر الرحمن تسمية بهذا الاسم، لأنهم أنكروها، والأول أغرق في ضلالهم.
(هذه أُمَّتكم) .
أي مِلَّتكم ملةٌ واحدة، وهذا خطاب للناس كافة أو المعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.
(هامِدَة) : يعني لا ثبات معها.
(همزَاتِ الشيَاطِين) :
يعني حركاتهم ونزغاتهم.
وقيل جنونهم، والأول أعم.
(هبَاءً) :
هي الأجرام التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على وضع ضَيّق كالكوة.
وقد قدمنا أنه النور المتفرق، ومنه: (هَبَاءً مُنْبَثًّا) ، وهو ما سطع بيْن سنابك الخيل، من الْهَبْوَة، وهي الغبار.
(هَوناً) :
رُوَيداً، يعني أنهم يمشون بحلم ووَقار.
ويحتمل أن يكون وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم، وعَبَّر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم وحياتهم.(3/245)
(هَضِيم) ، أي ليّن رطب.
يعني أن طَلْعها يثمر ويرطب.
(هؤلاء الذين أغْوَيْنَا) :
الإشارة إلى أتباعهم من الضعفاء.
فإن قلت: كيف الجمع بِين قولهم: (أغويناهم) وبين قولهم: (تَبَرّأنَا
إليك) ، فإنهم اعترفوا بإغوائهم وتبرءوا مع ذلك منهم؟
فالجواب أن إغواءهم لهم هو قولهم لهم بالشرك.
والمعنى أنَّا حملناهم على الشرْك كما حملنا أنْفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدونهم، وإنما كانوا يعبدون غيرهم من الأصنام وغيرها، فتبرأنَا إليكَ عن عبادتهم لها، فتحصّل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغْوَوا الضعفاء وتبرَّءُوا من أن يكونوا هم آلهتهم، فلا تناقض في الكلام.
وقد قيل في الآية غير هذا مما هو تكلّف بعيد.
(هل لكم مِمَّا ملكت أيْمانُكم) :
هذا مثل مضروب، معناه أنكم أيها الناس لا يشارِككم عبيدكم في أموالكم، ولا يَسْعَوْنَ معكم في أحوالكم، فكذلك الله لا يشارِكه عَبِيده في ملكه، ولا يُمَاثِلُه أحد في ربوبيته.
فذكر حرف الاستفهام، ومعناه التقرير على النفي، ودخل فيه قوله: (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، أي لستم فيه سواء مع
عبيدكم، ولستم تخافونهم كما تَخَافون الأحرار مثلكم، لأن العبيد عندكم أقل من ذلك.
(هَلمَّ إلينا) .
هذا من قول المنافقين الذين قعدوا بالمدينة عن الجهاد، كانوا يقولون لقرابتهم وأخِلاّئهم من المنافقين: هَلمَّ إلى الجلوس معنا بالمدينة وتَرْك القِتال.
(هل يَنْظرونَ إلاَّ تَأوِيله) .
أي عاقبة أمره وما يؤول إليه من ظهور ما نطق من الوَعْد والوعيد.(3/246)
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) :
جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام تنبيهاً للمخاطب ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة التي ينبغي أنْ يلقى البال لها.
(هذا أَخي له تسْع وتسعون نَعْجَةً) :
هذا من حكاية كلاَم أحَدِ الخصمين.
والأخوة هنا أخوة الدين.
ومنه الحديث: "إذا ضرب أحدكم أخاهَ فليجتنب الوَجْه".
والنّعجَة تقَعُ في اللغة على أنثى بَقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وهي هنا
عبارة عن المرأة (1) ، وكأنه لم يرِد الإفصاح بقصة داود مع امرأة أوريا، وإنما ضرب له المثل لينتبه.
(هذا ذكر)
الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذِكرِ الأنبياء وقيل الإشارة إلى القرآن بجملته.
والأول أظهر، فكأن قوله (هذا ذكر) ختام للكلام المتقدم، ثم شرع
بعده في كلامٍ آخر كما يتم المؤلف باباً ثم يقول هذا باب، ثم يشرع في آخر.
(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) ، تقديره: الأمْر هذا.
لما تمِ ذِكْر أهل الجنة ختمه بقوله: (هذا) ، ثم ابتدأ وَصْف أهل النار، ويعني بالطَاغِين الكفار.
(هذا فلْيَذُوقوه حَمِيمٌ) :
(هذا) مبتدأ وخبره (حميم) ، و (فليذوقوه) اعتراض بينهما.
(هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) :
هذه الآية تدل على رحمانية الله وتَرد على المشركين في عبادتهم الأَصنام.
وسبَبها أنهم خوَّفوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - منها فنزلت الآية مبينةً أنهم لا قدرة لهم.
فإن قلت: كيف قال كاشفات وممْسكات بالتأنيث؟
فالجواب: أنها لا تعقل فعامَلَها معاملةَ المؤنث.
وأيضاً ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عَبدها.
__________
(1) كلام لا يصح، ولا يصح ما ترتَّب عليه من قصص وأباطيل وإسرائيليات منكرة ذُكرت في شأن نبيِّ الله داوود - عليه السلام.(3/247)
(هَذه أبداً) :
هو قَوْلُ الوليد بن المغيرة، وأنكر بقوله أنْ يكونَ الله تفضَّل عليه.
وهذا إنكار للبعث، لقوله بعده: (وما أظنّ الساعةَ قائمة) .
ومعناه إن بعثت على زعمكم فلي الجنة، وهذا تَخَرّص
وتكبر من الوليد.
(هذه الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) :
هذا من قول فرعون، ويعني بالأنهار الخلجان الكبار الخارجة من تحت النيل، وكانت تجري تحت قصوره.
وقد قدمنا أنها أنهار الإسكندرية ودمياط وتنيس، وطولون.
(هذا إِفْكٌ قَدِيم) :
هذا من قول مَنْ لم يَهْتَدِ بالقرآن، ووصفوه بالقِدَم لأنه قد قيل قديماً.
فإن قلت: كيف عَمِل (فسيقُولون) في (إذ) وهي للماضي، والعامل
مستقبل؟
فالجواب أنَّ العامل في إذ محذوف تقديره إذ لم يهتدوا به من عنادهم
فسيقولون، قال ذلك الزمخشري.
ويظهر لي أنَّ إذْ هنا بمعنى التعليل في القرآن وفي كلام العرب، ومنه: (ولن يَنْفَعكم اليومَ إذْ ظَلمتم) .
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) :
خاطب بها المنافقين المذكورين، وخرج من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أَبلغ في التوبيخ، ومعناها هل يُتَوقَّع منكم إلا فساد في الأرض، وقَطْعُ
الأرحام.
(إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ، أي صرتم ولاةً على الناس، وصار الأمْر لكم، وعلى هذا
قيل: إنها نزلت في بني أمية.
وقيل معناه: أعرضتم عن الإسلام.
(ها أنتم هؤلاء) :
منصوب على التخصيص، أَو منادى: ناداهم إلى الإيمان بالله والإنفاق في سبيله.
(هذَا ما لدَيَّ عَتِيد) :
قد قدمنا أنه مِنْ قول القَرِين، ومعناه هذا الإنسان حاضر لدي قد أَعْتَدْتُه ويسَّرْته لجهنم.(3/248)
(هل مِنْ مزيد) :
اختلف هل تتككم جهنم بهذا، أو مجاز بلسان الحال.
والأظهر أَنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومَعْنى طلب زيادنها أنها لم
تمتَلئ.
وقيل معناه لا مزيد، أَي ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد
امتلأت.
والأول أظهر وأرجح، لما ورد في الحديث:
" لا تزال جهنّم يُلْقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع الجبَّار فيها قَدَمه ".
أي خَلْقاً سماه القَدم، أو قدرته، لأن الجارحة تستحيل في حق الله سبحانه.
وقيل: إن الخطاب من خزَنتها.
والمزيدُ يحتمل أن يكون مصدراً كالمحيض، أو اسم مفعول، فإن كان
مصدراً فوَزْنُه مفعل، وإن كان اسم مفعول فوزنه مفعول.
(هذا ما تُوعدون لكل أوابٍ حفيظ) :
هذا من كلام الله يحتمل أن يقوله لأهل الجنة عند إزْلاَفِها، كما قال في الآية الأخرى: (هذا يومكم الذي كنْتم توعَدون) .
ويحتمل أن يكون خطاباً لهذه الأمة.
والأوَّاب الحفيظ: هو الذي يمتثل أمْرَ الله، ويترك نَوَاهيه.
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) :
المراد بهذا الاستفهام التفخيم والتهويل، ووصفَهم بالْمكْرَمين لأن الملائكة مكرمون، أو لأنه خدمهم بنفسه أَو أخْدَمهم امرأته.
(هذا نَذِير من النّذُر الأولى) :
قد قدمنا أنَّ الإشارةَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرف النون.
(هَمًاز) :
هو الذي يعيبُ الناسَ.
وأصل الهمْز الغَمْز.
وقيل لبعض العرب: الفأرة تهمز، فقال: السنور يهمزها.
(هل ترى لهم مِنْ باقِيَة) ، أي من بقية.
وقيل: من فئة باقية.
وقيل: إنه مصدر بمعنى البقاء.
(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) :
هاؤم اسم فعل.(3/249)
قال ابن عطية: تعالوا.
وقال الزمخشري: هو صوت يُفْهم منه معنى خذْ.
و (كتابيه) مفعول يطلبه (هاؤم) ، و (اقرَءُوا) من طريق المعنى، تقديره هاؤم كتابي اقرءوا كتابي، ثم حذف الأول لدلالة الأخير عليه، وعمل فيه العامل الثاني، وهو (اقرَءُوا) عند البصريين.
والعامل الأول وهو (هاؤم) عند الكوفيين.
والدليلُ على صحة قول البصريين أنه لو أعمل الأول لقال اقرءوه.
والهاء في (كتابيه للوقف) ، وكذلك في (حسابيه) ، و (ماليه) .
و (سلطانيه) ، وكان الأصل أنْ تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط
المصحف.
وقد أسقطها في الوصل بعضُهم.
ومعنى الآية أن العبد الذي يُعطَى كتابه بيمينه يقول للناس: اقْرَءُوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه.
(هلك عني سلطانيه) :
هذا مِنْ قول الشقيّ، يقول: زال عني ملكي وقدْرتي حين يعاين العذابَ.
وقيل: ذهبت عني حجّتي.
ومنه قوله: (ما أنْزَلَ الله بها مِنْ سُلْطان) .
(هَلُوعًا) :
قد فسره، وهو قوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) .
وذكر الله ذلك على وَجْه الذم لهذا الخلق، ولذلك استثنى منه الْمصَلِّين، لأن صلاتهم تَخضُّهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شَرّها ولا يبخلون بخيرها.
(هَزْل) :
لعب ولهو، يعني أن هذا القرآن جدّ كله لا هَزْل فيه.
(هُدًى) :
بضم الهاء: له سبعة وعشرون وجهاً:
بمعنى الثبات: (اهْدِنا الصر اطَ المستقيم) .
والبيان: (أولئك على هدًى من ربهم) .
والدين: (إنَّ الْهدَى هُدَى الله) .
والإيمان: (ويزيد اللَّهُ الذين اهتدوا هدى) .
والدعاء: (ولكل قومٍ هاد) ، (وجعلناهم أئمةً يَهْدون بأمرنا) .
وبمعنى الرسل والكتاب: (فإمَّا يأتِيَنَّكم مني هُدًى) .
والمعرفة: (وبالنجم هم يَهتَدون) ا.
والنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) .(3/250)
وبمعنى القرآن: (ولقد جاءهم من رَبِّهم الهدَى) .
والتوراة: (ولقد آتينا موسى الهدى) .
والاسترجاع: (وأولئك هم الْمهْتَدون) .
والحجة: (ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ) .
ثم قال بعده: (والله لا يَهْدي القوم الظالمين) ، أي لا يهديهم حجة.
والتوحيد: (نتبع الْهدَى معك نتَخَطّف من أرضنا) .
والسنة: (فبِهدَاهم اقْتَدِه) .
(وإنا على آثارهم مهْتَدون) .
والإصلاح (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) .
والإلهام: (أَعطى كل شيء خَلْقَة ثم هَدى) ، أي ألْهم المعايش.
والتوبة: (إنا هُدْنا إليك) .
والإرشاد: (أنْ يَهْديني سواءَ السبيل) .
(هُون) :
هَوَان وذِلة.
(هجر) :
من الهجران.
وبمعنى الْفجر أيضاً، وهو فحش الكلام، وقد يقال في هذا أهجر بالألف.
(همْ نَجْوى) :
الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالآخرة، يعني أنهم جماعة يتناجَوْنَ، فأخبر الله أنه يعلم ما يتناجون به.
(هنالك الوَلاَيةِ للَهِ الحقِّ) :
ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصراً، أو يكون في موضع خبر الولاية، وهي بكسر الواو بمعنى الرياسة والملك، وبفتحها من الموالاة والمودة.
(هُدُوا إلى الطيِّبِ من القولِ) :
هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، واللفظ أعمَّ من ذلك، (وصراط الحميد) : صر اط الله، فالحميد: اسْم الله.
ويحتمل ان يريد الصراط الحميد، وأضاف الصفة إلى الموصوف، كقوله: مسجد الجامع.
(هو أُذُن) .
أي يسمع كلّ ما يقال له ويصدّقه، وكانوا يؤْذون بهذا القول سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم.(3/251)
(هُمزَة) :
هو على الجملة الذي يَعِيبُ الناس ويأكل أَعراضهم، واشتقاقه من الهمْز واللّمْز، وصيغة فُعَلَة للمبالغة.
واختلف في الفرق بين الكلمتين، فقيل: الْهَمْز في الحضور، واللمز في الغيبة، وقيل بالعكس.
وقيل الهمز بالعين واليد، واللمز باللسان.
وقيل هما سواء.
ونزلت السورةُ في الأخنس بن شَرِيق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس.
ولَفْظُها مع ذلك على العموم في كلّ مَنِ اتّصف بهذه الصفات.
(الهاء) :
اسم ضمير غائب يستعمل في الجر والنصب، نحو: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) .
وحرف للغيبة، وهو اللاحق لإيَّا.
وللسكت، نحو: (ماهِيَهْ) ، (كِتَابيهْ) ، (حِسَابيه) ، (ماليه) ، (سُلْطَانِيَه) .
(لم يَتَسَنّهْ) .
وقرئ بها في أواخرها آي الجمع، كما تقدم وَقْفا.
(ها)
ترِد اسْمَ فعل بمعنى خذ، ويجوز مَدُّ ألفه فيتصرف حينئذ للمثنى
والجمع، نحو: (هاؤُم اقرءوا كتابيه) .
وَاسْماً ضميراً للمؤنث، نحو (فأَلْهَمَهَا فجورَها وتَقْواها) .
وحرف تنبيه، فتدخل على الإشارة، نحو هؤلاء، (هذان خَصْمَان) .
ها هنا.
وعلى ضمير الرفع، نحو: (ها أنتم أُوْلاء) .
وعلى نعت أي في النداء، نحو: (يا أيها الناس) .
ويجوز في لغة أسد حذف ألف هذه وضمها إتباعاً، وعليه قراءة:
(أَيُّهُ الثقلان) (1) .
(هات) :
فعل أمْر لا يتصرف، ومِنْ ثم ادَّعَى بعضهم أنه اسم فعل.
(هل) :
حرف استفهام يُطلب به التصديق دون التصور، ولا يدخل على
مَنْفِيّ ولا شرط، ولا أَن، ولا اسم بعده فعل غالباً، ولا عاطف.
__________
(1) بضم الهاء من (أَيُّهُ) وَصْلاً، وهي قراءة ابن عامر. انظر (إتحاف فضلاء البشر. ص: 527)(3/252)
قال ابن سيده: ولا يكون الفعل معها إلا مستقبلا، ورُدَّ بقوله: (فهَلْ
وجدْتُم ما وَعَد رَبُّكم حَقَّا) .
وترد بمعنى " قد "، وبه فُسر: (هَلْ أتى على الإنسان) .
وبمعنى النفي، نحو: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) .
وقد قدمنا في معاني الاستفهام مباحث غير هذَا.
(هَلُمَّ) :
دعاء إلى الشيء، وفيه قولان:
أحدهما أن أصله " ها ولمّ " من قولك: لممتُ الشيء، أي أصلحته.
فحذفت الألف وركب.
وقيل أصله هل أم، كأنه قيل: هل لك في كذا، أمَّه.
أي اقصده فركَّبا.
ولغة الحجاز تركه على حاله في التثنية والجمع، وبها ورد
القرآن، ولغة تميم إلحاقه العلامة.
(هنا) :
اسم ئشار به للمكان القريب، نحو: (إنا ها هنا قَاعِدون) .
وتدخل عليه اللام والكاف فيكون للبعيد، نحو: (هنالِكَ ابْتُلِي المؤمنون) ، وقد يُشارُ به للزمان اتساعاً، وخُرِّج عليه: (هنَالكَ تبْلو كلَّ نفس ما أسلفَتْ) .
(هنالك دَعَا زَكَريا رَبَّه) .
(هَيت) :
اسم فعل بمعنى أسرع وبادِرْ، قاله في المحتسب.
(هيهات) :
اسم فعل بمعنى بَعُد، قال تعالى: (هيهات هيهات لما توعَدون) ، البعْد لما توعدون، قاله الزجاج.
وقيل: وهذا غلط أوقعه فيه اللام، فإن تقديره بَعد الأمر لما توعدون، أي لأجله.
وأحسن منه أن اللام لتبيين الفاعل، وفيها لغات، قرئ منها بالفتح، وبالضم
وبالخفض مع التنوين في الثلاثة وعدمه.(3/253)
(حرف الواو)
(وَيل) :
كلمة شَرٍّ، وقد قدمنا معناه، قال الأصمعي: (ويل) كلمة
قبح، ووَيس استصغار، وويح ترحم.
(واسع) :
جواد لما يسأل.
ويقال الواسع المحيط بعلم كل شيء، كما قال (وَسِعْتَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً) .
ووسع يسع سعة من الاتساع، ضد الضيق، (وموسِع) : غني، أي واسع الحال، وهو ضد المقتر (وإنا لَموسِعُون) .
قيل أغنياء، وقيل: قادرون، و (إلا وسْعَها) : طاقتها.
(وَدّ) يود: له معنيان: من المودة والمحبة، وبمعنى التمني، نحو: (وَد كثيرٌ
من أهل الكتاب) ا.
(وَدُّوا لو تكفرون) .
والودّ بالضم: المحبة.
وقد قدمنا أنه اسم صنم عبِد من دون الله.
(وَسَطا) :
الوسط من كل شيء: خيَارُه، وكيف لا تكون هذه الأمة خياراً وهم يشهدون يوم القيامة للأنبياء بإبْلاَغ الرسالة إلى أممهم.
فإن قلت: لم أَخر المجرور في هذه الآية: (شهَدَاءَ على الناس) ، وقدمه في قوله: (عليكم شَهيداً) ؟
فالجواب أن تقديم المعمولات يفيد الْحَصْر، فقدمه لاختصاص شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته، ولم يقدمه في الأمة لأنه لم يقصد الْحَصْر.(3/254)
فإن قلت: هل الأمة يشهدون كلهم، برّهم وفاجرهم، أوْ لاَ يشهد إلا لمن
هو أَهلٌ لذلك؟
والجواب أن لفظ الآية عام، لكن الذي يظهر من لفظ الآية أنه لا يشهد إلا
العدول، فلا يشهد منها إلا خيارها، والحكم هناك كالحكل هنا، وقد قال:
(ممَّنْ تَرْضَوْن من الشهداء) .
وأيضاً قد ذكر في حديث قوم نوح أنهم يقولون: كيف يَشهد علينا من لم يحضرنا، فيقولون: يا ربنا، أنزلْتَ علينا كتاباً فوجدنا فيه قصَّتَهم، ثم يقرأون سورةَ نوح، فهذا لا يكون جواباً إلا ممن له علم بالكتب، وكثير من هذه الأمة لا يعلمون من الكتاب شيئاً، ومن طريق النظر من هذه الأمة إذ ذاك في نوع من أنواع العذاب كيف يستشهدون، وكيف تقبل لهم شهادة، فإذا كان العالِم الذي لا يَخفى عليه شيء لا يَحكُم بعلمه فيما بيننا في ذلكَ اليوم، فكيف بالغير، فيا أخا البطالة والتلويث لنفسك، انتبه، الحاكم قد زَكاك وأنْتَ بما ارتكبت من قبيح الأوصاف تجرح نفسك، وبذلك تفرح، فقد خضْتَ بحارَ المهالك، وعلى عَقِبك من الخير نكصت.
أعلمك بهذه الرتبة الرفيعة لعلك تحافظ عليها فتكون ممن يشهد إذ ذاك.
فأعرضتَ عن الشهادة على غيرك، وتعرضتَ لشهادة جوارِحك عليك! بئس ما استبدلت!
وقد جاء أنَّ أول من يُساقُ للحساب الذي العَرْش على كاهله والعرق يتَحدر
على جَبينه، فيقول الله له: ما صنعت بعهدي، فيقول: يا رب، بلَّغْته جبريل، فيؤتى جبريل، فيقول له الحق جل جلاله: هل بلغكَ إسرافيل عهدي، فيقول: نعم، فيخلّي حينئذ عن إسرافيل، ويسأل جبريل فيقول عز وجل له: ما صنعْتَ في عهدي، فيقول: يا رب، بلغْته الرسل، فيؤتى بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول لهم: هل بلّغَكم جبريل عَهْدي، فيقولون: نعم، فحينئذ يخلي عن جبريل، فأول مَنْ يسأل مِن الرسل نوح عليه السلام، فيكون من قصته ما ورد في الحديث - أنه يُجَاء بنوح عليه السلام، فيقال له: هل بلّغْتَ، فيقول:(3/255)
نعم يا رب، فتسأل أمّته: هل بلغكم، فيقولون: ما جاءنا من نذير.
فيقال: مَنْ شهودك، فيقول: محمد وأمته.
قال - صلى الله عليه وسلم -: فيُجَاء بكم فتشهدون، ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وَسطا) .
فإن قلت: يعارضنا هنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: أوَّل مَنْ يحاسَبُ من يجوز على الصراط؟
والجواب: أنه ليس بينهما تعارض، لأن حساب الأمم على نوعين، وبذلك
يجمع الحديثان، ولا يبقى بينهما تعارض، وهو أن النوع الأول أنْ تسأل الأمم: بلّغهم الرسل أم لا، فهذا الذي يتقدم جميعَ الأمم على هذه الأمة، لأنهم هم الشهود عليهم، فلا بد من حضورهم إلى آخر الأمم.
والنوع الآخر هو سؤال الأمم كلّ شخص منهم منفرداً عن عمله بمقتضى
شريعته، فهذا الذي تكون هذه الأمة أوَّل مَنْ يُحاسب.
وسيِّدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - شاهد، كما قال تعالى: (وجئنا بكَ على هؤلاء شَهيداً) .
تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بنبيٍّ يشهد على أمته بأعمالهم.
ولما قرأها ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَرفت عيناه بالدموع، وقال: حَسْبُكَ يا ابن مسعود.
(ولا يَأبَ الشهداء إذا ما دعُوا) ، أي لا يمتنعوا إذا دعُوا إلى أداء الشهادة.
وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واتفق العلماء على أنَّ أداءَ الشهادة واجبٌ إذا دُعي إليها.
وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادةِ وكَتْبها.
وقيل إلى الأمرين.
(ولا تسأموا) ، أي لا تملّوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت، سواء كان الحق صغيراً أو كبيراً، ونصب صغيراً على الحال.
(وأشْهدوا إذا تبايعْتُم) :
هذا أمر يُفهم منه الإشهاد، وأَهل الظاهر أوجبوه خلافًا للجمهور.
وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله: (فإن أَمِنَ بعضُكم بعْضاً) ، وذهب قوم إلى أنه على الندب.
(ولا يُضَار كاتبٌ ولا شَهيد) :
يحتمل أن يكون كاتب(3/256)
فاعلاً على تقدير كسر الراء المدغمة من (يضار) .
والمعنى على هذا نَهْي للكاتب والشهيد أن يضرَّا صاحبَ الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه أو النقصان منه والامتناع من الكتابة أو الشهادة.
ويحتمل أن يكون (كاتب) مفعولاً لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء
المدغمة، ويقوِّي ذلك قراءة عمر بن الخطاب: "لا يضارَر"، بالتفكيك وفتح الراء.
والمعنى النهي عن الإضرار بالكاتب والشهيد، بإذايتهما بالقول أو بالفعل.
(وإن تفعَلوا) ، أي وقعتم في الإضرار فإنه فسوق حالٌّ بكم.
(والله يؤيِّد بنَصْره مَنْ يشاء) ، يعني أنَ النصر بمشيئة
الله لا بالقِلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا
أكثر منهم.
(ورِضوان من الله أكبر) ، أي من نعيم الجنة حسبما ورد في الحديث - أنه يقول لهم:
" تريدون شيئاً أَزيدكم، فيقولون: قد أَعطيتنا بغْيتنا، فيقول: أزيدكم رضواني فلا أَسخط عليكم أبدًا، فلولا الرضوان لم يطب لهم
نعيمها لتخوّفهم من فراقها ".
(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)
هذا من كلام عيسى - عليه السلام.
وروي أنهم كانوا يجمعون إليه الجماعةَ من العميان والبرصاء، فيدعو لهم فيبرأون، ويضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلّمه.
وروي أنه أحيا سام بن نوحْ، وكان يقول: فلان أكلتَ كذا، وادخرْتَ في
بيتك كذا.
(ومُصَدًقاً) :
عطف على (رسولاً) : أو على موضع (بآية من ربكم) ، لأنه في موضع الحال، وهو أحسن، لأنه من جملة كلام عيسى على تقدير: جئتكم بآيةٍ وجئتكم مصدقاً، ولأحِلَّ لكم عطف على بآية.(3/257)
وكانوا قد حُرِّمَ عليهم الشحم وَلَحْم الإبل وأشياء من الحيتان والطير، فأحلّ
لهم عيسى بعض ذلك.
(وَجيهًا في الدنيا والآخرة) ، إلى آخر الآيات: حال
(ويعلمه) ، معطوفة، إذ التقدير ومعلماً للكتاب.
(ورسولاً) يضمر له فعل، تقديره أرسل رسولاً أو جاء رسولاً.
(وما كان مِنَ المشركين) : نَفْيٌ للإشراك الذي هو عبادة الأوثان.
ودخل في ذلك الإشراك الذي يتضَمّنه دين اليهود والنصارى.
(وأنا معكم من الشاهدين) :
تأكيد للعهد بشهادة اللَه جل جلاله.
(وشهدوا) ، عطف على أيمانهم، لأن معناه بعد أن آمنوا.
وقيل الواو للحال.
وقال ابن عطية: عطف على كفروا، والواو لا ترَتب.
(ولو افْتَدى بهِ) :
قيل هذه الواو زائدة.
وقيل للعطف على محذوف، كأنه قال: لن يقبل من أحدهم لو تصدق به، ولو افتدى به.
وقيل نَفَى أولاً القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفديةَ بالنفس، كقولك: أَنا لا أفعل أصلاً ولو رغبت إليَّ.
(ومَنْ كفر) :
عطف على (من استطاع) : أي من استطاع الوصول إلى مكة بصحة البدن إما راجلاً وإما راكباً مع الزاد المباح والطريق الآمن، أو الزاد والراحلة - فواجب عليه الحج.
ومَنْ لم يحجَّ فقد كفر، وعبَّر عنه بالكفر تغليظاً، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومَنْ ترك الصلاةَ فقد كفر "؟
فإن الله غنيّ عنه، ولا يعود وَبال ذلك إلا عليه.
وفي الحديث: " من مات ولم يحجَّ ولم يحدًث به نفسه مات على شعبة من
النفاق ".
وقيل: إنما عبر بالكفر إشارة إلى مَنْ زعم أنَّ الحج ليس بواجب.
(واعْتَصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعاً ولا تَفَرَّقوا) :(3/258)
أي تمسكوا بحبل الله.
وهو القرآن، وقيل الجماعة، ولا تفرَّقَوا فتَفْشلوا، لأن الجماعةَ
رحمة، والفرقة عذاب، ومن فارق الجماعة شبرًا خلع رِبْقَة الإسلام من عُنقه، ولأجل الألفة والجماعة أمر الله باجتماع كل درب ومحلة في اليوم خمس مرات، وفي الجمعة لأهل البلد حتى إنها لا تصح إلا في العتيق في العيدين الكبير والصغير
وفي عرفة لأهل الأرض كلّهم، كلّ ذلك للجَمْع.
(ولِيَعْلَم) :
متعلق بمحذوف تقديره: أصابكم ما أصاب ليعلم ذلك علماً ظاهراً لكم تقوم به الحجة عليكم، ويتخذ منكم شهداء في قَتْلكم يوم أُحُد، وليمحِّصَ اللَّهُ المسلمين، لأن إحالة الكفار عليهم تمحيصاً لهم، ونَصر المؤمنين على الكفار هلاكٌ لهم.
(ولقد صَدَقَكم اللَّهُ وَعْده) :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعد المسلمين عن الله بالنصر، فنصرهم اللَّهُ أولا، وانهزم المشركون، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً، (وعَصيْتم) ، أي خالفتم ما أمِرْتمْ بِه من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالِف بعضهم، ووعظا للجميع وسَتْراً على مَنْ فعل ذلك.
(ولَقَدْ عَفَا عنكم) ، إعلام بأنّ الذّنْبَ كان يستحق أكثر مما نزل بهم من الهزيمة، لولا عَفْوُ الله عنهم، فمعناه لقد أبقى عليكم.
(وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) ، أي كان يقول في ساقتهم: إليَّ عبادَ الله، ففيه مَدْحٌ له - صلى الله عليه وسلم -، وعَتْب لهم، لأن الأخرى هو موقف الأبطال، وكيف لا وبه يتأنّس الجيش، ويؤمن من العدو، وعاتَبهم على عدم الوقوف معه.
(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) :
هم المنافقون كانوا خائفين من رجوع المشركين إليهم.
(ولِيَبتَلِيَ اللَّهُ ما في صدورِكم) ، يتعلق بفعل، تقديره:
فعل بكم ذلك ليبتلي.(3/259)
(ولئن قتِلْتم في سبيل الله) ، الآية: تخبر بأن مغفرةَ الله تعالى ورحمته تعمّ إذا قتلوا أو ماتوا في سبيل الله خَيْر لهم مما يجمعون من الدنيا.
(ولو كنتَ فَظَّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حولك) :
وصف الله رسولَه باللين واللطف لأصحابه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يوَاجِة أحداً بما يكره، وقد أمره الله بالغلظ على الكفار، وبهذا وصف اللَّهُ الصحابة بأنهم كانوا أَشداءَ على الكفار رحماء بينهم.
(وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) .
من لطف الله بهذه الأمة أنه لم يعين المخالفَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموافق، لأنه تعالى أَراد السّتْر على عباده، فأبْشر يا محمديّ بما أنعم الله به عليك حيث ستر على عدوِّك.
والمراد بهذه الآية عبد اللَه بن أبي بن سلول، لأنه لم يُرد الخروج إلى المشركين
يوم أحُد، فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - غضب، وقال: أطاعهم وعصاني، فى جمع ورجع معه نحوء ثلاثمائة رجل، فمشى في أثرهم عبد اللَه بن عمرو الأنصاري، فقال: يا قوم ارجعوا وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا يعني عن المسلمين إن لم تقاتلوا، فقال له عبد الله بن أبي: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) .
(ويَسْتَبْشِرون بالَّذِين لم يَلْحَقُوا بهم) :
المعنى أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم، لأنهم يرجون أنْ يستشهدوا مثلهم، فينالوا ما نالوا من الأمن وعدم الحزن
وسبب نزول الآية أن جماعةً من الصحابة استشهدوا فقال لهم الحقّ تعالى:
" تَمنَّوْا ما تريدون "، فقالوا: الرجوع إلى الدنيا للشهادة في سبيلك، فقال: سبق في أَزلي أنه لا يرجع إلى الدنيا أَحَدٌ، فقالوا: أَعْلِمْ إخوانَنا الذين بقوا فيها أنك رضيتَ عنَّا وأرضيتَنا،(3/260)
(ولا يَحْزُنْكَ الذِينَ يُسَارِعُون في الكُفْر) :
الخطاب لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، سلاه الله بهذه الآية.
والمسارعون إلى الكفر - المنافقون أو الكفّار في مبادَرتهم إلى أقوالهم وأفعالهم.
(وقَتْلَهم الأَنبياءَ بغير حقٍّ) :
أسند القتل إليهم مع أن آباءهم هم الذين قتلوهم، لكنهم رضوا بذلك، وتبعوا مَنْ فعل ذلك منهم، فهم شركاء، لأَن الراضي بالمعصية كفاعلها.
فإن قلت: ما فائدة تنكير الحق هنا وتعريفه في الآية الأولى من البقرة، ومعلوم أنه لم يقتل نبيٌّ بحق؟
والجواب أنه عرفه لاجترائهم على قتلهم مع معرفتهم بأنه بغير حق، ولذلك
قرئ بالتشديد تعظيما للذنب والشنعة لِلَّذي أتوه، وإنما أباح اللَّهُ تعالى من أباح منهم، وسلّط عليهم عدوه كرامةً لهم، وزيادة في منازلهم، كقتل مَنْ يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن اعباس وغيره: لم يقتل قطّ من الأنبياء إلاَّ مَنْ لم يُؤمَر بقتال، وأما مَنْ أمر بالقتال فإنَّ الله نَصره.
وإنما عُرِّف الحقّ في البقرة
إشارة إلى الحق الذي أَخذ الله أن تقْتل النفس به، وهو قوله: (ولا تقْتُلوا
النّفْسَ التي حَرم الله إلا بالحق) ، فكان الأوْلى بالذكر، لأنه من الله، وما في هذه السورة نكرة، لأنه في معتقدهم وتَدينهم، وكان هذا بالتأخير أولى.
فإنْ قلت: المذكورون في الآيات الثلاث من بني إسرائيل قد اجتمعوا في
الكفر والاعتداء، فما وَجْه اختصاص الآية بجمع التكسير فيما جمع في
الآيتين جمع سلامة، فقيل (النبيين) في الآيتين، وقيل في هذه الآية الأخيرة الأنبياء مكسراً؟
فالجواب أن جمْعَ التكسير يشمل أولي العلم وغيرهم، وجمع السلامة يختصُّ في
أصل الوضع بأولي العلم، وإن وُجد في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه، كقوله تعالى: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) ، وما يلحق بهذا.(3/261)
وإذا تقرر هذا فورود جَمْع السلامة في قوله في سورة البقرة، (ويقتلون
النبيين بغير الحق) ، مناسب من جهتين:
إحداهما شرف الجمع لشرفِ المجموع.
والثانية مناسبةُ زيادةِ المدّ لزيادة أداة التعريف في لفظ الحق.
وأما الآية الأولى من سورة آل عمران فمثْل الأولى في مناسبة الشرف ومناسبة
زيادة المد للزيادة في الفعل العامل في اللفظ المجموع في قراءة مَنْ قرأ: "ويقاتلون".
ولما لم يكن في الآية الثالثة سوى شَرَف المجموع، وكانت العرب تتَّسع في جموع التكسير فتوقِعها على أولي العلم وغيرهم أتى بالجمع هنا مكسراً لتحصلَ اللغتان، حتى لا يبقى لمن يتحدَّى القرآن حجة، إذ هم مخاطبون بما في لغاتهم، فلا يقتصر في شيء من خطابهم على أحد الجائزين دون الآخر إلا أن يتكرر، فإذ ذاك يَرد على وَجْهٍ واحد مما يجوز فيه.
فتأمّل ما أجملته، فسوف يتَّضِح لك به إذا استوفيته ما يعِينك على فهم
الإعجاز.
(وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) :
هذه الآيات في الذين آذاهم الكفار بمكة حتىَ خرجوا منها، ولحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقاتلوا معه.
(وإنَّ مِنْ أهلِ الكتاب لَمنْ يؤْمِن بالله) :
نزلت في النجاشي ملك الحبشة، والجمهور على أنها عامَّةٌ في كل من أسلم من اليهود أو النصارى.
(وَجْه النهارِ واكفروا آخِرَه) :
هذه مقالة قومٍ من اليهود قالوها لإخوانهم ليخدعوا المسلمين فيقولوا: ما رجع هؤلاء عن دين الإسلام إلا عن علم.
وقال السهيلي: إنَّ هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيْف، وعدي بن زيد.
والحارث بن عوف.
(ولا تقْتلوا أَنفسكم) :
أجمع المفسرون أنَّ المعنى: لا يَقْتل(3/262)
بعضكم بعضاَ، ولَفْظها يتناول قَتْل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينْكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا سمعه، وسكوته - صلى الله عليه وسلم - دليل على صحة قوله.
(ومَنْ يَفْعَلْ ذلك) :
إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكور.
وقيل إليه وإلى أكْل المال بالباطل.
وقيل إلى كل ما تقدّم من المنهيَّات من السورة.
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) :
في معنى هذه الآية وجهان:
أحدهما لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه.
فمِمَّا ترك على هذا بيان لكل.
والآخر لكل أحد جعلنا موالى يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا يتعلق بفعل مضمر، والموالي هنا: العصبة والورثة.
(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) :
اختلف، هل هي منسوخة أو محْكمة، فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية.
وقيل بالمؤاخاة التي آخَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين
أصحابه، ثم نسخَتْها (وأولو الأرحام بعضُهم أولَى ببعض) ، فصار الميراث للأقارب.
والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال ابن عباس: هي في المؤازرة والنصرة
بالحلف لا في الميراث.
وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وإن الرجلين إذا والى أَحدهما الآخر على أَنْ يتوارثا صحَّ ذلك وإن لم تكن بينهما قرابة.
(وإذا حضَر القِسْمَةَ أولو القرْبى واليَتَامى والمساكينُ) :
خطاب للوارثين، امروا أن يتصدقوا من الميراث على قرَابتهم، وعلى اليتامى، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل على الندب، وهو الصحيح.
وقيل نسِخ بآية المواريث.
فإن قلت: ما فائدة حذف (واكسوهم) من هذه الآية وإثباتها فيما قبل؟(3/263)
والجواب: لأَن المراد في الأولى السفيه المتصير إليه المال بإرث، ولا يحسن
القيام عليه، فيحجر عليه ماله إبقاءً عليه، ولا يمكَّن منه إلا بقَدْر ما يأكله
ويلبسه، فالنَّهْى إنما هو للأوصياء، ونسبتة المال إليهم مجاز بما لهم فيه من
التصرف والنظر.
أمّا هذه الآية فليست في شأن أحوال السفهاء وحكمها، وإنما
المراد بها المقتسمون لميراثٍ يخصهم لا حقَّ فيه لغيرهم، فيحضر قريب فقير ويتيم محتاج، فندِبوا إلى التصدق عليهم والإحسان، لا حقَّ لهم في الميراث ولا في المال، فمن أين تلزم كسوتهم والتنصيص عليها، إنما ندبوا إلى الإحسان إليهم فالعَفو عما يخف عليهم وَسعِ ذلك كسوتهم أو لم يَسع، فافترق مقصودُ الآيتين.
وجاء كلٌّ على ما يناسب.
(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) :
ابن عباس: الرفيق في السفر.
علي بن أبي طالب: الزوجة.
(وأولي الأَمرِ منكم) : هم الولاة، وقيل العلماء.
ونزلت في عبد اللَه بن حُذافة بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَرِيَّة.
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) :
قيل هم المنافقون.
وقيل قوم من ضعفاء المسلمين، كانوا إذا بلغهم خَبَرٌ عن السرايا
والجيوش وغير ذلك تكلّموا به وأَشهروه قبل أن يعلموا صحَّتَه، وكان في
إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة، وقلة التثبت، قأنكر اللَه عليهم ذلك.
(وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) :
معنى الآية أنَّ المقتول خطأ إن كان قومه كفّارًا معاهدين، ففي قَتْله تحرير رقبة والديَّة إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفّارة في قَتل الذمِّي.
وقيل: إن المقتول في هذه الآية كافر، فعلى هذا تجبُ الكفّارة في قتل الذمي.
وقيل: هي عامة في المؤمن والكافر، واللفط مطلق إلا أنه قيّده قوله:
(وهو مؤمن) في الآية قبلها.
وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن.(3/264)
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) .
أي يسألونك عما يجب عليهم في أَمر النساء.
(وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)
عطف على اسم الله، أي يفتيكم اللَّهُ، والمتلوّ في
الكتاب بمعنى القرآن.
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) :
عطف على يتامى النساء، أَي والذي يُتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، لأن العرب كانت لا تورِّث البنات، ولا الابن الصغير، فأمر الله أن يأخذوا نصيبَهم من الميراث.
(وأن تقوموا لليتامى بالقِسط) :
عطف على المستضعفين، أي والذي يتلَى عليكم في أَن تقوموا لليتامى بالقسط.
ويجوز أن يكون منصوباً، تقديره ويأمركم أن تقوموا، والخطاب في ذلك للأولياء والأوصياء والقضاة وشبههم، والذي يُتْلى عليكم في ذلك هو قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموالَ اليتامى ظلماً) .
وقوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) .
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) :
لفظ عام يدخل فيه صلْح الزوجين وغيرهما.
وقيل معناه صلح الزوجين خَيْر من فراقهما، فخَيْر على هذا للتفضيل.
واللام في الصلح للعهد.
(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) :
معناه أن الشح جُعل حاضراً مع النفوس لا يغيب عنها، لأنها جبلت عليه، والشّحّ هو ألاَّ يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه.
وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقِّها من النفقة والاستمتاع.
وشْحّ الزوج: هو مَنع الصداق أو التضييق في النفقة وزهده في
المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها.
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) :
معناه القول التام في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك، فرفع الله ذلك عن(3/265)
عباده، فإنهم لا يستطيعونه، وإذا كان الصادق المصدَّق يعدل بين نسائه مع أن الله لم يأمره بذلك، بل كان يتطوع لهنَّ بذلك، ويقول: اللهم هذا فِعْلي فيما أَمْلك فلا تؤاخذني فيما لا أملك، يعني ميلهْ بقلبه، والأمْر القلبي مرفوع عن الحرج، وخصوصاً للمحسنة منهنَّ، فإن القلوبَ جُبلت على حبِّ مَنْ أحسن إليها وكراهةِ من أَساء إليها، هذا أمر جليٌّ.
وقد قدمنا أن الحبَّ يتوارث والبغض يتوارث.
وقيل: إن الآية نزلت في مَيْله - صلى الله عليه وسلم - بقلبه إلى عائشة، فمعناها على هذا اعتذار من الله تعالى عن عباده.
(ولو عَلَى أَنْفسكم) :
يتعلق ب (شهَداء) ، وشهادة الإنسان على نفسه هي إقرارُه بالحق، ثم ذكر (الوالدين والأقربين) ، إذ هم مظنّة التعصب والميل، فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أحرى وأولى.
(وإن تَلْوْوا أَؤ تعرِضوا) :
قيل: إن الخطاب للحكام.
وقيل للشهود، واللفظ عام في الوجهين.
والليُّ: هو تحريف الكلام، أي إن تَلْووا عن الحكم بالعدل، أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له - فإنه خبير بما تعملون.
وقرئ تَلُوا - بضم اللام من الولاية، أي إن وليتم إقامةَ الشهادة أو أعرضتم
(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) :
روي أنه لما وقع قَتْل المشبّه بعيسى قالوا: إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، فاختلفوا، فقال بعضهم: هو هو.
وقال بعضهم: ليس هو، فأجمعوا أَنّ شخصاً قتل، واختلفوا مَنْ كان.
فإن قيل: كيف وصفهم بالشكّ، ثم وصفهم بالظن، وهو ترجيح أحَدِ
الاحتمالين؟(3/266)
فالجواب: أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارة فظنّوا.
وقد يقال الظن بمعنى الشك، وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك.
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) :
في هذه الآية تأويلان:
أحدهما أن الضمير في (مَوْتِهِ) لعيسى، والمعنى أن كلَّ أحد من
أهل الكتاب يُؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض قَبْل أنْ يموت وتصير الأديان
كلّها حينئذ ديناً واحداً وهو دين الإسلام.
والثاني أن الضمير في موته للكتابي الذي تضمنه قوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) ، والتقدير وإن من أهل الكتاب أَحد إلاَّ ليؤمن بعيسى ويعلم أنه نبىء قبل أنْ
يموت هذا الإنسان، وذلك حين معَاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه.
وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره.
وفي مصحف أبيّ بن كعب: "قبل موتهم".
وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في (به) لعيسى على الوجهين.
وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم.
(وبِصَدِّهم) :
يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون (كثيرًا) صفة لمصدر محذوف، أي صدًّا كثيراً، أو بمعنى صدّهم لغيرهم.
فيكون كثيراً مفعولاً بالمصدر، أي صدوا كثيرًا من الناس عن سبيل الله.
(وكَلَمَ الله موسى تَكْليما) :
تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة: إنَّ الشجرة هي التي كلمت موسى.
(ولا الملائكةُ المقَرّبون) :
فيه دليل لمن قال: إن الملائكة أَفضل من الأنبياء، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومَنْ فوقه أنْ يكون عبدًا لله.
وفيه رد على مَن قال: إنهم أولاده.
(وما أكل السَّبع) ، أَي أكل بعضه.
والسبع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر.(3/267)
(وَسِيلة) :
كل ما يُتَوسَّل به من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك، ومنه: (أولئك الذين يدْعونَ يبتَغون إلى ربهم الوسيلةَ أيهم أقرب) .
أي أولئك الآلهة الذين تَدْعون من دون الله يبتغون القرْبَةَ إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، فكيف تعبدونهم معه؟
وإعراب (أولئك) مبتدأ و (الذين يدعون) - صفةٌ له، و (يبتغون) خبره، والفاعل في يدعون ضمير للكفار، وفي (يبتغون) للآلهة - المعبودين.
وقيل: إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين.
وقيل في قوله: (ولقد فَضَّلْنا بعضَ النبيين على بعض) .
(وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) .
انظر كيف سلّى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مواضع من كتابه.
وقرئ بفتح الياء - وضم الزاي حيث وقع مضارعاً من حزن الثلاثي، وهو أشهر في اللغة من أحزن.
(وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) :
هم قوم من اليهود دخلوا كفّاراً وخرجوا كفاراً، ودخلت " قد " على خرجوا ودخلوا، تقريباً للماضي من الحال، أي ذلك حالهم في دخولهم
وخروجهم على الدوام.
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، أي بلاءٌ واختبار.
وقرئ تكون بالرفع على أن تكون (أن) "مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية.
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) .
إخبار بأن النصارى أقربُ إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باقٍ إلى آخر الدهر، فكلّ يهودي شديد العداوة للإسلام وأهله، وكيف، لا وهم الذين قالوا: (ليس علينا في الأميين سَبِيل) ، وأحبارهم يقولون لهم: قال بنو العرب: مَنْ غشنا فليس منا، فغشوهم لئلا تكونوا منهم.(3/268)
وانظر حكاية عبد الله بن عمر لما سافَر معه اليهوديُّ، فوجد منه من النصح ما أشعر به، فسأله ابن عمر عن هذه النصيحة وأنه لم يصدر منه في جانبه إلا
المودة، فقال له: كنْت أمشي على ظلّك، لأني لم أقدر لك على غيره من النكاية، وقد شدَّدَ العلماء في خلطتهم ومحبتهم، وكيف لا يشددون والله يقول: (لا تجد قوماً يؤمنون باللهِ واليوم الآخر يوَادّون مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَه) ، فمصاحبة من حادّ الله ورسوله تفْضي إلى النار، نسأل الله السلامة.
(وكلوا) :
جاء هذا الأمر بعد النهي عن الاعتداء في التشديد على الأَنفس رِفْقاً من الله بعباده، وخَصَ الأكلَ بالذكر، لأنه أعظم حاجاتِ الإنسان.
(ومَنْ قتلَه منكم متَعَمِّدًا) :
مفهوم الآية يقتضي أنَّ جزاءَ الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر.
وقال جمهور الفقهاء: إن المتعمِّد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في تأويل قوله: (متَعَمِّدًا) على ثلاثة أقوال:
أحدها أن المتعمد إنما ذكر لينَاط به الوعيد الذي في قوله: (ومن عاد فيَنْتقم الله منه) ، إذ لا وعيدَ على الناسي.
والثاني أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمّد.
والثالث أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن، وأن الجزاءَ على الناسي ثبت
بالسنة.
(وَبَال أمْرِه) :
عاقبة أَمره من الشر والوَبَال وسوء العاقبة، يقال: ماء وبيل وكلأ وبيل، أي وبيل لا يستمر أو تَضرُّ عاقبته، والوبيل والوخيم ضد المرىء.
(وطعامه) :
الضمير عائد على البحر، يعني ما قذفَ به، ولا يطفو عليه، لأن ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقال ابن عباس: طعامه: ما صلح منه.(3/269)
(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) .
لما ذكر أن صيدَ البحر حلال ذكر هنا أن صيد البر لا يحل للمحرم تناوله.
(وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) :
فيه معنى الوعيد على السؤال، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألْتم أبْدِي لكم ما يسوءكم.
والمراد ب (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) زمان الوَحْي.
(وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) .
أي يكذبون عليه بتحريم ما لم يحرِّم، واخترعوا تحريمها من
عندهم، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلِّدون لهم.
(ولا تكونَن) :
الخطاب حيثما وقع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون معطوفًا على معنى (أُمرت) فلا حذف، وتقديره أمرت بالإسلام
ونهيت عن الشرك.
(وجعلنا على قلوبهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه وفي آذَانِهم وَقْرًا) :
عبر بالأكِنة والوَقر مبالغة، وهي استعارة، يعني أنَّ الله حال بينهم وبين فَهم
القرآن إذا استمعوه، و (أن يَفقَهوه) في موضع مفعول من أجله، تقديره
كراهةَ أن يفقهوه.
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) :
الضمير في (وهم) للكفار، و (عنه) يعود على القرآن.
والمعنى أنهم ينهون الناسَ عن الإيمان به، وينأوْن عنه بمعنى يبعدون.
وقيل الضمير في (عنه) يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى ينهون عنه يبْعدون الناس عن إذايته، وهم مع ذلك يبعدون عنه.
والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومَنْ كان معه يحمِي النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره بنفسه وماله، ويقول له: لا تخَفْ أحَداً.
فإني أذُبُّ عنك بنفسي ومالي، وهو القائل:
واللَه لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أُوَسَّد في التراب دَفينا(3/270)
فانهض لأمرك ما عليك غضاضة ... وطِبْ نَفْساً وقَرّ منك عيونا
فإنا لله وإنا إليه راجعون، نصر واستنصر، ولم يجر بإيمانه القدَر، جيء
بواحد من فارس، وآخر من الحبشة، وآخر من الروم، وأبو طالب على الباب،حُرِم الدخول، اللهم لا مانع لما أعطيْتَ، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الْجَد منك الْجَدّ.
(وذلك الفَوْز المبين) :
الإشارة راجعة إلى صرف العذاب أو الرحمة، أي ذلك هو النجاة الظاهرة.
فإن قلت: ما فائدة حذف ضمير " هو " في آية الأنعام؟
والجواب: أنه لم يتقدم فيها ما يستدعي إبرازه لما تقدمها من قوله تعالى:
(إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) .
ثم أعقبه بقوله تعالى: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) ، والمراد مَنْ يصرف عنه العذاب في الآخرة فقد رحمه، عطف عليه قوله: (وذلك الفَوز المبين) ، وكأَنَّ الكلامَ في قوّة فقد رحم وفاز، كما في قوله: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) .
والفاء هنا، وفي قوله: (فقد رحمه) جواب الشرط.
والفوز مسبب عن الرحمة، فاكتفي بذكره في آية آل عمران.
وذكرا معاً في آية الأنعام، فعطفُه عليه بَيِّن، ولم يتقدم من أول السورة إلى هنا ما يتوهّمه العاقل فوْزاً، فيتحرز منه بما يعطيه ضمير " هو " من المفهوم، فلم يقع الضمير هنا.
(ومنهم مَنْ يَسْتَمِع إليك) :
الضمير عائد على الكفار، وأفرد وهو فعل جماعة حملاً على لفظ (مَنْ) .
و (الأكنّة) جمع كنان، وهو الغطاء.
فإن قلت: ما معنى وروده هنا بالإفراد بخلاف آية يونس؟
فالجواب: أن هذه الآية نزلت في أبي سفيان، والنضر بن الحارث، وعتبة.
وشيبة، وأمية، وأبَيّ بن خلف، فلم يكثروا كثرةَ مَنْ في سورة يونس، لأنَ المرادَ(3/271)
بهم جميع الكفار، فحمل ها هنا مرةً على لفظ (من) فوحد لقلتهم، ومرةً على المعنى فجَمع، لأنهم وإن قلّوا جماعة، وجمع ما في يونس ليوافق اللفظ المعنى.
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) .
جواب لو محذوف ليكون أبلغ، لأن المخاطب يترك مع غاية تخيّله.
ووقعت (إذ) موضع إذا التي هي لما يستقبل، وجاز ذلك، لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبَّر عنه كما يعبَّر عن الماضي الوقوع.
و (وُقِفوا) معناه: حُبسوا، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا، ووقفت غيري.
قال الزهراوي: وقد فرّق بينهما في المصدر، ففي المتعدي وقفت وقْفاً، وفي غير المتعدي وقفت وقوفاَ.
ويحتمل أن يكون وقوفهم على النار دخولهم فيها، ويحتمل إشرافهم عليها
ومعايَنَتها.
فإن قلت: ما فائدة تكرير الوقوف؟
فالجواب: لأنهم أنكروا النارَ في القيامة، وأنكروا جزاءَ اللهِ ونكالَه في النار.
فختم بقوله: (فَذوقوا العذابَ بما كنْتم تكفرون) .
وهذه استعارةٌ بليغة، والمعنى باشروه مباشرةَ الذائق، إذ هي من أشد المباشرات.
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) :
هذه الآية ابتداء كلام على تأويل الجمهور، وإخبار عنهم بهذه المقالة لإنكارهم البَعْثَ الأخروي.
فإن قلت: ما فائدة إسقاط قولهم: (نموت ونحيا) ، في هذه الآية؟
والجواب: لأنها عند كثير من المفسرين متّصلة بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) .
وقالوا: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، ولم يقولوا ذلك بخلاف ما في سائر السور، فإنهم قالوا ذلك، فحكى الله عنهم.(3/272)
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) :
هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى أنها إذا كانت فانيةَ منقضية لا طائل لها أشبهت اللهو واللعب الذي لا طائل له إذا انقضى.
فإن قلت: قد قدم اللعب في أكثر الآيات وفي بعضها أخّره، فهل لذلك
وَجْه؟
والجواب: إنما قدم اللعب في الأكَثر، لأنه زمان الصبا، واللهو زمان
الشباب، وزمان الصبا مقدَّم على زمان اللهو، يبَينه قوله في الحديد: (اعلموا أنما الحياةُ الدنيا لعب) ، كلعب الصبيان، ولهو كلهو الشباب.
وزينة كزينة النساء، وتفاخر كتفاخر الإخوان، وتكاثر كتكاثر السلطان.
وقريب من هذا في تقديم لفظ اللعب على اللهو قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) ، وقدم اللهو في الأعراف، لأن ذلك في القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأ بما بدأ به الإنسان انتهاء من الحالتين.
وأما العنكبوت فالمراد بذكرهما ذكر زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) ، أي الحياة التي لا أَمد لها ولا نهاية لأَمدها، فبدأ بذكر اللهو، لأنه في زمان الشباب كما فدمنا أنه أكثر مِنْ زمان اللعب.
(ولَلْدار الآخرة خَيْر) :
سميت الآخرة لتأخرها عن الدنيا.
وقرأ الستة من القراء: و (للدَّار) بلامين والآخرة نْعت للدار.
وقرأه ابن عامر وَحْدَه: ولَدَار - بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وكذلك هو لَدَار الحياة الآخرة.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: أفلا تعقلون، على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف، وإنما قال فيها: (ولَدَار الآخرة) بالإضافة، لأن ما قبلها في هذه السورة: (وما الحياة الدنيا) ، فالدنيا(3/273)
صفة للحياة، كذلك جعل الآخرة صفة للدار، ولأنه في المصاحف بلامين إلا
في مصحف الشام، وما في يوسف بلام واحدة على الإضافة، فوافقوا المصاحف، وقراءة ابن عامر على الإضافة موافقةٌ لمصحفهم، واعتباراً بما في يوسف.
ويقَوّي ما في هذه السورة ما في الأعراف: (والدار الآخرة خير) .
(وقالوا لولا نزِّلَ عليه آيةٌ) :
الضمير عائد على الكفار.
ولولا تحضيض بمعنى هلاّ.
ومعنى الآية: هلا أنزل على محمد بيانٌ واضح لا يَقَع معه توقف من أحد، كمَلَك يشهد له، أو غير ذلك مِنْ تشططهم المحفوظ في هذا فأمِر عليه السلام بالردِّ عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلكَ
الآيات، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، أنها لو نزلت ولم يؤمنوا
لعوجلوا بالعقوبة.
ويحتمل: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، أن الله تعالى إنما جعل الإنذار في آيات معروضة للنظر والتأمّل ليَهْتدِيَ قومٌ ويضِلَّ آخرون.
فإن قيل: ما وَجْه إفراد الآية هنا وجمعها في العنكبوت، ولِمَ طلبوا
الآية وقد أتى بمعجزات وآيات؟
فالجواب: أن (لولا) في الآيتين تحضيض، وإنما يجري في كَلاَمِه عندما
يراه المتكلم به أولى أو أهمّ في مقصود ما أو أتمّ في مطلب ما، إلى أشباهِ هذا، مما يستدعي التحضيض، فأفردوا هنا الآية لما قصدوه من أنه عليه السلام لو جاءهم بآية واحدةٍ من الضَّربِ الذي طلبوه.
أما آية العنكبوت فقد تقدَّم قبلها: (بل هو آيات بيناتٌ) ، وقال بعدها: (وما يَجْحَد بآياتنا) ، وقال بعدها: (قل إنما الآيات عند الله) ، فلم يكن ليناسب بعد اكتناف هذه الجموع توحيد آيةٍ، ثم إن هذه الآية لم يتقدمها من التهديد وشديد الوَعيد ما تقدَّم آيةَ الأنعام، فناسب ذلك ورود
الفعل غير مضعَّف.
وجاء ذلك كلّه على ما يجب.(3/274)
وإنما طلبوا الآية، لأنهم لم يعتدّوا بما أتى به، فكأنه لم يأت بشيء عندهم
لجحدهم وعنَادهم، وأيضاً فإنما طلبوا آيةً تضطرهم إلى الإيمان من غير نظَر ولا تأمل.
(وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهم ببعض) :
أي ابتلينا الكفّار بالمؤمنين، وذلك أنَّ الكفار كانوا يقولون: هؤلاء العبيد والفقراء مَنَّ الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا، ونحن أشرف منهم وأغنياء، وكان هذا الكلام منهم على جهة الاستبعاد لذلك.
(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) .
قد قدمنا مِرَاراً أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الشيطان، وكيف لا وشيطانه أسلَم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعانني عليه فأسلم "، فالخطاب على هذا لأمته.
ومعنى الآية إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم، فلا تَقْعد بعد أن تذكر
النّهيَ معهم.
وإما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة.
(وما علَى الَذِين يتَّقون مِنْ حسابِهم مِنْ شَيْءٍ) :
الضمير في (حسابِهم) للكفار المستهزئين.
والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار
على استهزائهم وضلالهم.
وقيل: إن ذلك يقتضي إباحةَ جلوسِ المؤمنين مع الكافرين، لأنهم شقَّ عليهم النهى عن ذلك، إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطَّوَاف بالبيت وغير ذلك، ثم نسخت بآيةِ النساء وهي:
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) .
وقيل: إنها لا تقتضي إباحةَ القعود.
(وليكون من الموقِنين) :
يتعلق بمحذوف تقديره: نرِيه
ملكوتَ السماوات والأرض ليكون عالماً من الموقنين.
(وتلك حُجتنَا) :
إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه.(3/275)
(وَكيل) : كفيل بالأمور.
وقيل: كاف.
(وأعْرض عن المشركين) :
إن كان معناه عما يدعونكَ إليه أو عن مجادلتهم فهو محْكم، وإن كان أعْرِض عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ.
وكذلك: (ما أنا عليكم بحَفِيظ) ، و (بوكيل) .
(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) :
ردّ على الكفار، لأنهم قالوا: اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تَبَاعة تتوقعها في دنياك وأخراك، فنزلت الآية، أي ليس كما قلتم، وإنما كسب كلّ نفس عليها خاصة.
(وسوس) الشيطان للإنسان: ألقى في نفسه.
والوسواس: الشيطان.
(ونَزَعْنَا ما في صدورهم مِنْ غِلً) :
أي من كان في صدره غلّ لأخيه في الدنيا نُزع منه في الجنة، وصاروا إخواناَّ على سرر متقابلين.
وإنما عبر بلفظ الماضي في (نزعنا) وهو مستقبل لتحقق وقُوعه في المستقبل.
حتى عبّر عنه بما يُعبّر به عن الواقع.
وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية اللفظ.
، وهي تقع في الآخرة، كقوله: (ونادَى أصحابُ الجنة) .
فإن قلت: أي فائدة لزيادة (إخواناً) ، في آية الحجر؟
والجواب: لأنها نزلت في الصحابة رضوان الله عليهم، وما سِوَاها عام في
المؤمنين.
- وذكر أنَّ ابْناً لطلحة كان عند علي بن أبي طالب، فاستأذن الأشْتَر
فحبسه مدةًْ - ثم أذن له، فقال: أَلهذا حَبسْتَني.
وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له، فقال علي نعم، إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: (ونَزَعْنَا ما في صدورهم من غِل إخواناً على سُرُرٍ متَقابلين) .
قال بعضهم: فقال له بعض مَن حضر: كلا، اللهُ أعدل مِنْ أن يجمعك(3/276)
وطلحة في مكان واحد.
فقال: لمَنْ هذه الآية لا أمَّ لك! وإنما قال له هذا القائل هذا لأن طلحةَْ قاتلَ عليًّا مع معاوية.
والآية تدلّ على أن الغِل لا ينَافي التقوى، والتقوى مساويةٌ للإيمان، وليست
أخص منه، بخلاف غيرها من الآيات، إذ لو كانت أخصّ منه لما كان في
قلوبهم غل.
فإن قلت: لعل الغل في قلوبهم وهم يجاهدونه؟
فالجواب: الآية تأبى ذلك، وهذه صفةٌ ممدوحة، وهذا إن كان النزع في
الآخرة، وإن كان في الدنيا فلا كلام.
(وأنا أَوَّلُ المؤمنين) :
أي أول قومِه، أو أول زمانِه، أو على وجه المبالغة في السبْق إلى الإيمان.
(واتَّخَذَ قَوْم موسى مِن بعده) ، أي من بعد غيبته في الطور.
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) .
قد قدمنا أن الوحي ينقسم إلى أقسام، وهذا أحدها، وهو الإلهام، أو يكون بمعنى الأمر بأن ربك أوحى لها.
ومما يدل على أن هذا إلهام قوله: (ثم كلِي من كل الثمرات) .
وأتى بصيغة الأمر مبالغة في قصدها إلى ذلك، كما اشترط في المأمور القَصد
إلى الافتعال.
وقيل: إنه أمْرٌ حقيقة، أي ثم قال لها: (كلِي من كل الثمرات) .
قال ابن الخطيب:
وبيتُها الذي صنعته مسدّس، وقام البرهان في علم الهندسة على أنه
أحسن الخواتم، لأنه مفصّل الزوايا، ليس بينها خلل، بخلاف المربع والمثمن.
وذلك الاتصال وعدمه لا يظهر إلا لمن قرأ ست مقالات من كتاب إقليدس.
والشكل المسدس أقرب إلى الاستدارة كدائرة الضابط، قال: وفي بنائها حكمةٌ عظيمة، وهو أنها تنسج ملأ البيت الأعلى على ملأ البيت الأسفل، وهذا دليلٌ على أنه لا يشترط في الإحكام والإتقان علم الصانع.
ذكره في المحصل.
فإن قلت: هل ترْعَى النَّوْرَ أو ما ينزل عليه وهو الترنجبيل؟(3/277)
فالجواب: هو الظاهر، فإنه لا يظهر لرعيها في النور أثر.
والظاهر الأول لاختلاف طَعْم عسلها بالحلاوة والمرارة بحسب ما ترعى، ولو رَعَت الترنجبيل فقط لاتَحَدَ طعْم عسلها.
وأيضاً فالترنجبيل عند الأطباء بارد، والعسل حار.
فإن قلت: يكتسب الحرارة من النحل؟
قلنا: نجد عسل السعتر والخلنج أشدّ حرارة من عسل الإكليل، ولو كان منها لما اختلف.
فإن قلت: قد قال تعالى: (فيه شفاءٌ للناس) ، فهل هو عام
أو مطلق؟
فالجواب: ليس على العموم، ولأنَّ الأمزجة مختلفة، فإنما هو شفاء لمن مازجه
البلغم أو السوداء في بعض الأحيان.
فإن قلت: كيف يكون شفاءً لصاحبِ الصفراء والسوداء مع اختلاف
أمزجتهما، لأنه إن كان عندكم يقمع الصفراء فلا يقمع نقيضها؟
وأجيب: بأنّ الترياق يقوي الروح، فتتقوى الغريزة النفسية، فتغلب على
الطبيعة المزاجية، فتقمعها، فصحَّ بذلك كونه دواءا للشيء ونقيضه.
وقال أرسططاليس: إنه شفاء من مائة داء خاصّة.
(وعلى اللهِ قَصْد السبيلِ) :
يعني أن من الناس مَنْ هداه الله بالدلائل العقلية، فاهتدى، ومنهم من ضَلّ فجار وخالَفها.
(ومنه شَجَرٌ) :
يريد به كَلأ الأرض، ولفْظ الشجر مشترك بين الجزء والكل.
وقال عكرمة: الشجر ما ليس له ساق.
(وسَخَّر لكم الليلَ والنَّهار) .
في تقديم الليل ما يدلّ على أنه عدم، والعدم سابق على الوجود، أو لأن العرب إنما يؤَرخون بالليالي، وأول الشهر ليلة، وفي هذا دليل على أن الليل أفضَل من النهار، لأن التقديم يُؤْذِن بالفضل، ومعراج الخليل، وإدريس، وتكليم موسى الكليم، وعيسى(3/278)
إلى البيت العمور، ومعراج الحبيب إلى قاب قوسين كان ليلاً.
وأيضأ خدمة العباد وخلواتهم إنما تكون ليلاً، وأيضا فالليل من الجنة والنهار من الجحيم.
وذلك أن الله لما خلق النارَ بإخراج الظلمة من الجنة، لتكون نورا صافياً كلّها
ليس فيها نار، وجعل الليل والنهار في الدنيا علامةً على الجنة والنار، وذلك أن الراحة والأمن إنما يكون بالليل، والتعب والشدة بالنهار، وقَدَّم الشمس في الآية وإن كانت مؤنثة، لأن ضوء القمر يستمدّ منها
(وتَسْتَخْرِجوا منه حليةً تلْبَسونَها) :
قد قدمنا أن الضمير يعود على البحر، والمراد بها اللؤلؤ أو المرجان، ولذلك قال في سورة الرحمن: (يخرج منهما اللؤلؤ والْمَرْجَان) .
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) :
يعني أنهم قالوا خيراً، ويجوز أن يكون كلاماً مبتَدأ من القائلين، يعني أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكي عنه.
ونظير ذلك أن يقول زيد يقول خيراً الحمد للَه.
فتقول أنت - حاكياً لكلامه: قال زيد خيراً الحمد لله، فهذه من كلام الحاكي.
والقول يحكى به الجمل والمفرد المؤدي معناها.
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) .
الآية: فيها دليل على أن اللهَ بعث لكل أمة رسولاً منهم.
فإن قلت: هذا مناقض لما قلتم: إن الله بعث شعيباً إلى أمَّتين.
وقد صح أن رسالةَ نوح ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كانتا عامتين للعرب والعجم مما يدل على أن غيرهما لم يرسل إلى العجم، فنرى العقل خلا من السمع؟
والجواب: أن ذلك في التفاصيل والأحكام، وأما الإخبار بوجود الله
ووحدانيته فكلّ نبىء أرسل بذلك على العموم.
فإن قلت: قس بن ساعدة وغيره من فصحاء العرب وعَبَدة الأصنام كانوا
لا يعرفون الإله بوَجْه؟(3/279)
والجواب: إنما ذلك في عوامهم، وأما رؤساؤهم فيعرفون وجودَ الإله، وإن
كانوا معاندين في ذلك.
(وما أرسلنا مِنْ قبلك إلا رجالاً نُوحي إليهم) .
الآية: تدل على تخصيص الرسالة بالرجال، فيحتج به مَن قال إن مريم ليست بنبيَّة.
ويجاب بأن الآية إنما اقتضَتْ تخصيصَ الرجالَ بالرسالة بالنبوءة، وإما بأنَّ قوله
" بالبينات " متعلق بأرسلنا.
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) :
قد قدمنا أن المراد بالذكر القرآن، يعني إمّا بسَرْدِك عِلْم آياته، وإما بتفسيرك الجمل وشرح ما أشكل منه، فيدخل فيه ما بيَّنَتْه السنَّة من أمر الشريعة، فعلى الأول المراد بالناس أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وإن أراد ما بينَتْه السنَّة فالناسُ عامة.
وانظر قوله: (لعلهم يتفكرون) .
والتفكر إنما يكون من العلماء.
فإن قلت: المبين بعد المبين، وأنزل يقتضي الإجمال، وإنزاله دفعة واحدة.
ونزل يقتضي التنجيم حسبما ألمَّ به الزمخشري في أول خطبة كتابه، والقرآن نزل أولاً دفعةً إلى سماء الدنيا، ثم نزل منها منجما، فأنزل قبل نزل، وجاءت الآية على العكس، وهو أن بيان ما نزل يقع بإنزال الذكر، فجعل متعلق أنزل بمتعلق نزل؟
والجواب: ما قدمناه: أن متعلق أنزل راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومتعلق نزل راجع لأمته، فأنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، ليبين بها ما نزل على أمته مفَصَّلاً منَجَّماً.
(وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) ، أي دائماً.
وانظر هل أراد بالدين الطاعة أو الجزاء، وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: (مالك يَوْم الدين) إنه يوم الجزاء.
وفي الآية دليل لمن حكى الإجماع على منع الردة في الْخَلْق كلهم.
فإن قلت: قوله تعالى أولاً: (وله ما في السماوات) ، أتَتْ(3/280)
دليلاً على وجود الصانع، فلِمَ عطف عليه: (وله الدين) ، وهو لا يحسن أن
يكون دليلاً على وجود الصانع، لأنه إنما يستدلّ على وجوده بخلقه لا بالأحكام والشرائع التي كُلِّفوا بها، لأنها مسببة عن ذلك، فلو كان العطف بالفاء لصح لأنها تدل على السببية؟
والجواب: بأن المراد من بعد خلقه للعالم، فما من زمانٍ يأتي إلا وهو معبود
فيه مطَاع، تَعْبده الملائكة وبعض الناس، فهذا يدل على صحة وجوده.
واستدلوا في علم الكلام على وجود الصانع بطريقين: إما حدوث العالم، وإما إمكانه، لأن الممكن لا بدّ له من مخصص يوقعه على أحد الجائزين، وطريق الاستدلال بالحدوث يستلزم الإمكان، لأنَّ كلَّ حادث ممكن، وليس كل ممكن حادثا؟
فإن وجود حجر من زيبق أو من ياقوت ممكن، وليس هو بحادث، إذ المراد
الحدوثُ بالفعل، وهذا الجواب إنما يتم على قول مَنْ فسر الواصب بالدائم.
(واللَه خلقَكم ثم يَتَوَفَّاكمْ) :
قد قدمنا أن الخلق أبلغ من الوجود، ولما قدم في الآية التي قبلها التذكير بقدرة الله، وما اشتملت عليه من الآيات والحكم - عقبه ببيان قدْرته في خَلْق الإنسان، وفي خلق أنفسكم.
وأسند فعل التوفي هنا لله تعالى، وقال في سورة السجدة: (قل يَتَوَفَّاكم مَلَك الموت) .
والْجَمْعُ بينهما ينتج صريحَ مذهب أهل السنة القائلين بالكسب.
فإن قلت: لم قال: (ومنكم من يُرَدُّ) ، بحذف الفاعل، وقال
يتَوَفَّاكم - فذكر الفاعل؟
والجواب: أنه إذا كان المقصود الإشعار بالفعل على الإطلاق يحذف الفاعل.
كقولك رأى الهلال، وإن كان المقصود الإخبار بفاعل الفعل يذْكر، كقولك
طَعَن عمر غلام المغيرة، ولما كان التوفي قد خالفوا فيه، وقالوا: ما يهلِكنَا إلا الدهر - ذكر فاعله، بخلاف الرد إلى أرذل العمر، فإنه أمْر ظاهر لا يحتاج إلى ذِكر فاعله.(3/281)
وأجاب بعضهم بأنه لما ذكر فاعل البدأة وفاعل النهاية أنه الله تعالى، عُلِمَ أن
ما بينهما من فعله، فاكتفي بذلك، ولم يحتَجْ إلى ذكره في الرد إلى أرذل العمر، لأنها حالةٌ متوسطة بين البداية والنهاية.
(ويعبدون من دونِ الله ما لا يَملكُ لهم رِزْقاً) :
الضمير راجع للكفار، يعني أنهم يعبدون الأصنام وغيرهم.
فإن قلت: لَمْ يخصُّوهم بالعبادة لأنهم يقولون: (ما نَعْبُدهم إلا ليُقَربونا إلى
الله زلْفى) ، فلِمَ ذكر هنا العبادة لهم، وما فائدة إبراز الضمير في لهم؟
والجواب أن ذلك الجزء الذي صرفوه لهم من العبادة، عبدوهم وهم فيه من
دون الله، وإنما أبرز الضمير، لأنه إذا أبرز الضمير لمن عبده فأحْرَى ألا يملكه
لغيره، وقدْ قدمنا أن (شيئاً) في الآية بدل من (رزقاً) .
(ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كلَّ شيء) :
يحتمل أن يريدَ رحمته في الدنيا، فيكون خصوصاً في الرحمة وعموماً في كل شيء، لأن المؤمن والكافر والْمُطيع والعاصي تنالهم الرحمة ونعمته في الدنيا.
ويحتمل رحمةَ الآخرة فيكون خصوصاً في كل شيء، لأن الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين.
ويحتمل أن يريد جنْس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموماً في الرحمة وفي كل شيء.
وقد صح أنً للهِ مائة رحمة، رحمة في الدنيا للجميع، ويضم هذه الرحمة للتسعة وتسعين ويخصها بالمؤمنين.
(وقَطَّعْناهم في الأرض أُمَماً) :
أي فرقناهم في البلاد، ففي كل بلد فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه، وذلك بقتلهم الأنبياء.
(وإذْ أخذَ رَبك مِنْ بني آدَمَ) :
في معنى الآية قولان:
إن اللَهَ لما خلق آدم أخرج ذرِّيته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم
العهد بأنه ربهم، فاقرّوا بذلك، والتزموا.
روي هذا المعنى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق كثيرة، وقال به جماعة ٌ من الصحابة وغيرهم.(3/282)
والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخْذ الذرية عبارة عن إيجادهم في
الدنيا.
وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الآيةَ على ربوبيته، وشهدتْ
بها عقولهم، فكأنه أشْهَدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألَسْتُ بربكم، فقالوا بلسان واحد: بلى، أنْتَ ربنا.
والأول هو الصحيح، لتَوَاتر الأخبار به، إلا أن ألفاظَ الآية لا تطابقه
بظاهرها، فلذلك عدل عنه مَنْ قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل، وذلك أَن أخْذَ الذرية إنما كان من صلْب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخْذ الذرية من بني آدم.
والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم، كقوله:
(ولقد خَلَقْنَاكم ثم صَوَّرنَاكم) .، الآية، على تأويل لقد
خلقنا أباكم آدم من صورته.
وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريته مَنْ كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
والصحيح المشهور أن المراد جميع بني آدم حسبما ذكر.
وفي الحديث: إن أول من أجاب الأنبياء، ثم العلماء سمعوهم فأجابوا، ثم العامة، ثم الكفار، فكلهم أقَرّوا له بالربوبية.
(وإنْ تَدْعوهم إلى الْهدَى لا يسْمَعوا) :
يحتمل أن يريد الأصنام، فيكون تحقيراً لها وردًّا على مَنْ عبدها، فإنها جماد مَوَات لا تسمع شيئاً، أو يريد الكفار، ووصفَهم بأنهم لا يسمعون، يعني سمعاً ينتفعون به لإفراط نفورهم، أوْ لِأنَ اللهَ طبع على قلوبهم.
(وتَرَاهم ينظرون إليكَ) :
إن كان هذا من وصْفِ الأصنام فهو مجاز، وقوله: (لا يُبْصِرون) حقيقة، لأن
لهم صورة الأَعين وهم لا يبصرون شيئاً.
وإدْ كان مِن وَصْف الكفار فينظرون حقيقة، ولا يبصرون مجازاً على وَجْه المبالغة، كما وصفهم بأنهم لا يسمعون.
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)(3/283)
الضمير في الجميع للشيطان وأريد بفْوله: (طائِف من الشيطان) الجنس، فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة.
وإخوانهم هم الكفار، ومعنى (يمدونهم) يكونون مَدًّا لهم، أي يعضدونهم.
وضمير المفعول في (يَمدّونهم) للكفار، وضمير الفاعل للشياطين.
ويحتَمل أن يريد بالإخوان الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار.
والمعنى على الوجهين أنَّ الكفَّار يمدّهم الشيطان.
وقرئ " يمدونهم " - بفتح الياء وضمها.
والمعنى واحد.
و (الغي) يتعلق بـ (يمدونهم) .
وقيل يتعلق بـ (إخوانهم) ، كما تقول: أَخوه في الله أو في الشيطان.
(وإذَا لَمْ تأْتِهم بآية قالوا لولا اجْتَبَيْتَها) :
في معناها قولان:
أحدهما اخترعتها من قِبَل نفسك: فالآية على هذا من القرآن.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأخر عنه الوَحْى أحياناً، فتقول الكفَّار: هلا جئت بقرآن من قولك، والاجتباء معناه طلبتها من الله وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة أي يقولون اطلب من الله المعجزة.
(وإذا قرِئ القرآن فاسْتَمِعوا له) :
كانوا إذا سمعوا القرآن اشتغلوا عنه، فأمر اللَّهُ بالإنصات لقراءته على الإطلاق، ولا معنى لمن قال: إن معناها الإنصات لقراءة الإمام أو الخطبة، لأن الآية مَكّية، والخطبة إنما شرِعت بالمدينة.
وأيضاً اللفظ عام، ولا دليلَ على تخصيصه.
(وَجِلَتْ قلوبُهم) ، أي خافت.
وقرأ أبيّ بن كعب فزعت.
ومنه: لا توجل، ووجلون.
فاعرِضْ نفسك على هذا الميزان، هل تجد لذِكْرِ الله وجلاً في قلبك، فأنْتَ
مؤمن حقاَ، وحينئذ فلا تنْسَ نفسك وإخوانك من الدعاء، وإلا فابْكِ على
نفسك لحرمانك بخطيئتك، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
(وإنّ فريقاً من المؤمنين لكَارِهونَ) ، أي لقتل العدو،(3/284)
وذلك أنَّ عير قريش أقبلَتْ من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكباً، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين، فسمع بذلك أهْلُ مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عَدَدٍ كثير ليمنعوا عيرهم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد، إنَ الله يَعِدُكم إحْدَى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشارهم - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: العير أحبُّ إلينا من
لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له سعد بن عبادة: امضِ لما شئت، فإنا متبعوك.
وقال سعد بن معاذ: والذي بعثك بالحق لو خضتَ هذا البحر لخضناه معك.
(ولِيَربِطَ على قلوبكم ويثَبِّتَ به الأَقْدام) :
لما عدم الصحابة الماء قبل وصولهم إلى بدْر أنزل الله عليهم الماءَ فتطهَّروَا به، وثبتت قلوبهم بزوال ما وَسْوس لها الشيطان من عدم الماء لوضوئهم وغسلهم، وأزال عنها الكسل، وكانوا في رملة دَهسَة لا يثبت بها قَدم، فلما نزل المطر تلبَّدَت، ولبَّدَت الطريق، وسهل المشي والوقوف.
وروي أنَّ ذلك المطر صعب الطريق على المشركين، فكان فيه لطف من الله، فلذلك عدَّدَه من نعمه عليهم.
(وإنْ تعودوا نَعدْ) :
أي إنْ تعودوا إلى الاستفتاح والقتال نعد لقتلكم والنصر عليكم.
(ولا تَوَلَّوْا عنه وأنْتم تسمعون) ، أي القرآن والواعظ.
(وإذ يمكر بكَ الذين كفَروا) .
عطف على (إذ أنْتم قَليل) ، أو استئناف، وفيها إشارةٌ إلى اجتماع قريش
بدار النّدْوة.
قال الثعلْبي: كانوا اثني عشر رجلا دخلوا الدارَ، ودخل معهم إبليس لعنه
الله على صورةِ شيخٍ في يده عصاه، فقال له أبو جهل: إنَّا قد اجتمعنا في تدبير أَمرِ خفيّ، فارجع أنْتَ يا شيخ.
فقال إبليس: إني شيخ من أرض نجْد رأيت الدهور، وكرَّت الأمور عليَّ، أنا أعلم مصالح التدبير وموافقة التأويل والتفسير، فأدخلوني معكم لعلي أنبئكم بتأويله.
وإنما نسَب نَفْسَه لنَجْد، لأنهم قالوا:(3/285)
لا تدْخِلوا معكم أحدًا من أهل تهامة لمحبتهم في محمد، فلما دخلوا قال لهم عتبة: إن الموت حق، فاصبروا حتى يقضيَ الله على محمد فتَنْجوا من شره.
فقال له إبليس: أفّ لك! أين أنْتَ عن التدبير، أنت لا تصلح إلا لرَعْي المواشي، فلو صبرتم حتى يموتَ محمد يظهر دِينه في مشارق الأرض ومغاربها، فتجمع عنده عساكر عظيمة لمحاربتكم، فيهلككم.
فقالوا: صدق الشيخ النجدي.
ثم قال شيبة: إني أرى أنْ نحْبِسه في بيتٍ ونغلق أبوابه حتى يموت فيه جوعاً وعطشا.
فقال إبليس: وهذا أيضاً ليس بصوابِ، فإنَّ بني هاشم يجتمعون ويأخذونه من أَيديكم، ويخلون سبيله، ويقع بينكمَ وبين أقربائه عداوة عظيمة.
فقالوا: صدق الشيخ النَّجْدي.
فقال عامر بن وائل: نعضد محمداً على بعير ونَسوقه في البادية
ليهلك فيها.
فقال إبليس: ليس بصواب، لأن محمداً فصيح اللسان، مَليح
الجنان، قويم القامة، صبيح الوَجْه، كلّ مَن رآه أحبه، وربما لقِيَه أحدٌ وهداه إلى البلاد، فيصدقه كلّ من يسمع كلامه، ويجتمع عنده جمع عظيم، فيرجع إليكم، ويحاربكم، فصاحوا جميعاً: صدق الشيخ النجدي.
فقال أبو جهل لعنه الله: إني أرى أنْ نخْرِجَ من كل قبيلة شابّاً فيهجمون
على محمد في ليلة فيضربه كلّ واحد منهم ضربةً جميعاً بالأسلحة حتى لا يعْلم قاتِله بعينه، فإذا طَلب أقارِبه الديةَ نجمَع الأموال من القبائل ونعْطيهم وننجو من شره.
فقال إبليس: أحسنْتَ وأصبْتَ، لرَأْيك أحسن الرأي، وتدبيرك أحسن
التدبير، فاتفقوا عى قَتْله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرقوا من دار الندوة، فنزل جبريل بهذه الآية، تم قال: إن الله يقول لكَ: اخرج من مكة.
فأتى إلى أبي بَكْر، وكان يأتيه كلّ يوم طرفي النهار، فأتاه في الظَّهيرة، فقال أبو بكر: ما جاء بك في هذا الوقت، فِداك أبي وأمي؟
فقال لي: أَخرِج مَنْ معك.
فقال: وهل هم إلا أهلك.
فقال: أما شعرت أنَّ الله أمرني بالخروج، وكان يقول لأبي بكر: لا تهاجر حتى أَجِدَ لك رفيقاً، فقال له: الصحبة يا رسول الله، فقال: الصحبة.
فقال: خذْ إحدى هاتين الناقتين.
فقال له: لا آخذها إلا بالثمن، ليكون مهَاجراً بنفسه وماله.(3/286)
ثم قال لأصحابه: أيّكم يبيت على فِراشي أضمن له على الله الجنة، فقال عليٌّ: أنا يا رسول الله، وأجعل نفسي فداك.
فبات عليٌّ على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وجاء الكفار يحرسونه ويرتقبون خروجَه، وإبليس معهم، فسلط اللهُ عليهم الْغَفْلَةَ والنومَ، ونام إبليس لعنه الله، ويقال: إنه لم ينم قط إلا في تلك الليلة، ولا ينام بعدها أبداً، فخرج - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر ورآهم نائمين، فأخذ التّرَابَ وحَثَى على رؤوسهم.
وقرأ سورة يس حين قَصد المرور، فلم يره أحَد ببركة يس.
وفي الحديث: إن الله أوحى إلى جبريل، وميكائيل عند رجليه، وجبريل
يقول: منْ يقتلك يا ابن أبي طالب باهى اللهُ بك الملائكة، فأنزل الله عليه:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) .
(وَلِيجةً) :
كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وَليجة فيه، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وَلِيجة.
(وقيل اقْعدوا مع القَاعِدين) :
يحتمل أن يكون القائل اللَه تعالى، أو يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، وعلى الأول فهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود.
(والسابقون الأَوَّلون) :
قيل هم مَنْ صلى القِبْلَتين، وقيل مَنْ شهد بدراً.
وقيل مَنْ حضر بيعةَ الرضوان.
وقيل: مَنْ أسلم قبل الهجرة.
وقيل: مَن اشتغل بمعادِه عن معاشه.
وقيل: الذي غلبَ عقْله على شهوته.
(والذين اتَبَعوهم) :
سائر الصحابة، ويدخل في ذلك الباقون، ومَنْ بعدهم إلى القيامة بشرط الإحسان.
(وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) :
الضمير عائد على الكفار، لأن هذا شأنهم، قنعوا بالدنيا، وسكنَتْ نفوسهم عن ذكر الانتقال منها، فإياكَ والاتصاف بهذا الوصف، وهو حالُ أكثرنا، لأنا نفرح بالزيادة منها، ونحزن لفقدانها، فيوشك أخْذنا منها بغتةً.(3/287)
(ويعْبدونَ مِنْ دون الله ما لا يضرُّهم ولا يَنْفَعهم) :
الضمير عائد على الكفار من قريش الذينَ تقدمَتْ محاورتهم، فأخبر الله أنّ
أصنامهم لا تضر ولا تنفع.
وردّ على منْ زعم نَفْعَهم لهم.
وقدم الضر هنا لتناسب الوارِدَ مِنْ متصل قوله: (ولا ينفعهم) بقوله:
(ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) .
(ومنهم من يؤْمِن به) :
أخبر الله فيها بما يكون منهم في المستقبل.
وقيل: إنَّ بعضهم يؤمن وهو يكْتم إيمانه، ومنهم من يكذب.
(ومنهم مَن يئظر إليكَ أَفأنتَ تَهدِي العُميَ) :
المعنى أتريد أن تهدي العمي، وذلك لا يكون.
فإن قلت: ما الفرن بين (من) في الاستماع وبين هذه، لأنه جاء أولاً بلفظ
الجمع وهنا بلفظ الإفراد؟
فالجواب: أن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف النظر، فكان في المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى، ووَحّد ينظر حملاً على اللفظ، إذ لم يكثروا كَثْرَتهم.
وقد قدمنا أنه إذا جاء الفعل على لفظ " من " فجائز أن يعطف عليه آخر على معناها، وإذا جاء أَولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلتبس حينئذ، وكأنه قال: ومنهم من يَنْظر إليك ببصره، لكنه لا يعتبر، ولا ينظر ببصيرته، فهو لذلك كالأعمى فسلاه الله بهذه الآية، والهداية إنما هي بيد الله، ولو شاء الله لجمعهم على الْهدَى.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) .
قال مجاهد: المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم
صُيِّرَ قَوْم للجنة وقوم للنار، فذلك القضاء بينهم بالقسط.
وقيل: المعنى فإذا جاء رسولهم في الدنيا وبعث صاروا ممن ختم اللَّهُ بالعذاب لقومٍ والمغفرة لآخرين(3/288)
لغاياتهم، فذلك قضاء القِسْطِ بينهم، وقرر بعض المتأولين هذه الآية بقوله تعالى: (ومَا كنّا معَذِّبين حتى نَبْعَثَ رسولاً) ، وذلك يتفِق بأن
يجعل معذبين في الآخرة، وإما بأن يجعل القضاء بينهم في الدنيا بحيث يصحّ
اشتباه الآيتين، وإنما ورد في سورة يونس بالقسط في الموضعين، لأنه بمعنى العدل والتسوية في الحكم بمظنة وروده حيثُ يُراد موازنة الجزاء بالأعمال من غير زيادة.
(وأُمِرْتُ أنْ أكونَ من المؤمنين) :
هذه مخاطبة من الله لنبيّه، ويدخل تحته جميع المكلفين من أمته، وهذه الآية قبلها يتسق معناها بمحذوفات يدلّ عليها هذا الظاهر الوجيز.
والمعنى إن كنتم في شكٍّ من ديني فأنتم لا تعبدون الله، فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله.
وأمره هنا بالإيمان بخلاف آخر النمل، لأنه تقدم قبلها: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) .
(وما كان لنَفْس أنْ تؤْمن إلا بإذْن الله) .
وبعد هذا: (وما تغْنِي الآيات والنّذُر عن قَوْمٍ لاً يؤمنون) .
وبعد هذا كله: (كذلك حقَّا علينا ننج المؤْمنين) .
وآما آية النمل فإن قبلها قوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .
وهذا يقتضي تسليم كل شيء له والتبري من توهّم شريك أو نظير، فناسب هذا قوله: (وأمِرْتُ أنْ أكونَ من المسلمين) .
(وأن أقمْ وَجْهَك) ، أي قَصْدَك ودينك.
(واصْبِرْ حتى يَحْكمَ اللَّهُ وهو خَيْرُ الحاكمين) :
وعد بالنصر والظهور على الكفار، وإنما زاد في الأعراف (بيننا) ، لأنه من خطاب الله لشعيب، فناسبه البسط في الكلام.
(ويَتْلوه شَاهِدٌ منه) :
الضمير في (يتلوه) للبرهان، وهو البينة، أو لمن كان على بينة من رَبِّه، والضمير في (منه) للرب تعالى.
ويتلو هنا بمعنى يتبع، والشاهد يراد به القرآن.
والمعنى يتبع ذلك البرهانَ شاهدٌ من الله،(3/289)
وهو القرآن فيزيد وضوحه وتعظيم دلالته.
وقيل: إن الشاهد المذكور هنا هو عليٌّ بن أبي طالب، فيالها من فضيلة! كرر ذِكْرَه في مواضع، ولذلك قال له - صلى الله عليه وسلم -: الناس في شجر شتّى وأنتَ في شجرةٍ واحدة.
وشبّهه بسورة الإخلاص في قوله: مَنْ قرأ سورة الإخلاص مرة واحدة فله ثوابُ ثلث هذه الأمة، ومَنْ قرأها مرتين فله ثلثا ثواب هذه الأمة، ومن قرأها ثلاث مرات فله ثوابُ هذه الأمة.
وقال: مَنْ أحب عليًّا بقلبه فله ثلث ثواب هذه الأمة، ومن أحبه بقلبه
ولسانه فله ثلثا ثواب هذه الأمة، ومن أحبّه بلسانه وقلبه وجوارحه فله ثواب جميع هذه الأمة (1) .
وقال مجاهد: نزلت في عليٍّ سبع آيات، لأنه كانت له أربعة أشياء لم تكن
لغيره: السخاوة، والشجاعة، والزهادة، والعلم.
وله من جهة الرحمن امرأته أفضل النساء، وصهره أفْضل الخلق، وشاهده جبريل، وولده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
(ومِنْ قَبْلِهِ كتابُ موسى) .
أي من قبل ذلك الشاهد كتابُ موسى يشهد بأنَّ هذا القرآن هو من عند الله.
وقيل أقوال غير هذه، هذا أصحّها.
(ويَقول الأشْهَاد) :
جمع شاهد كأصحاب.
ويحتمل أن يكون من الشهادة، فيراد به الملائكة والأنبياء، أو من الشهود بمعنى الحضور، فيراد به مَنْ حضر الموقف.
(ومَنْ آمَنَ) :
معطوف على (أهلَك) ، أي احمل أهلَك ومَنْ آمَنَ من غيرهم.
(وعلى أمَم مِمنْ مَعَك) : يعني في السفينة.
واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية مَنْ معك، ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة، فـ (مِنْ) على هذا لابتداء الغاية.
والتقدير على أمم ناشئة ممن معك، وعلى الأول تكون مِنْ لبيان الجنس.
__________
(1) هذا القول وسابقه فيه نظر.(3/290)
(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ، أي بمتاع الدنيا، وهم الكفار إلى يوم
القيامة.
(ولما جاء أمْزنا) :
الأمر واحد الأمور، ويحتمل أن يكونَ مصدر أمر يأمر، أي أمرنا للريح، أو لخزَنتها، ونحو ذلك.
فإن قلت: لِم قال هنا وفي قصة شعيب: (ولا) بالواو، وفي قصة صالح ولوط: (فلما) بالفاء؟
والجواب: على ما قال الزمخشري: إنه وقع ذلك في قصة صالح ولوط بعد
الوعيد، فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب، كما تقول: وعدته، فلما جاء الميعاد، بخلاف قصة هود وشعيب فإنه لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو.
وقيل في الجواب غير هذا مما يطول ذكره.
(ونَجَّيْنَاهم من عَذَابِ غَلِيظ) :
يحتمل أن يريد به عذابَ الآخرة ولذلك عطف علىَ النجاة الأولى التي أراد بها النجاةَ من الريح.
ويحتمل أن يريد بالثاني أيضاً الريح، وكرره إعلاماً بأنه عذابٌ غليظ وتعديد النعمة في نجاتهم.
(واتْبِعُوا في هذه الدنيا لعْنَةً) :
حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذابُ بهم، وقد تيقّن أن هؤلاء وافوا على الكفر، فيلعن الكافر الموافي على كفْره، ولا يلعن أحداً بعينه حتى البهيمة، لأن معناها البعد من رحمة الله.
فإن قلت: لم جمع في قصة هود بين اسم الإشارة ولفظ الدنيا الجاري عليه
وصفاً، واكتفى في قصة موسى باسم الإشارة دون التابع؟
والجواب أنَّ قصة هود عليه السلام في هذه السورة أكثر استيفاء من قصة
موسى عليه السلام بكثير، فناسب الطول الطولَ، والإيجاز الإيجازَ، ولا يليق
العكس.(3/291)
(وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا) :
هذا من قول قوم صالح، أخبروه أَنهم في شك من أَقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدًا إلى مرتبته من الشك، ولا فَرْق بين هذه الحال وحالة التصميم على الكفر، وإنما أثبتوا النونين الداخلين للتأكيد، وأفرد الضمير في (تَدْعُونَا) ، وألحقه في سورة إبراهيم، لأنها واردة على الأصل في اتصال الضمير المنصوب بها.
ثم يجوز حذْف إحدى المضاعفين تخفيفاً، فتقول: إنا، فتكتفي بالضمير عن النون المحذوفة، وذلك من فصيح كلامهم.
والأصل الأول.
(وأخذ الذين ظَلَمُوا الصَّيْحَة فأصْبَحوا في دِيَارهم جَاثمين) :
إنما ذَكَّرَ الفعل المسند إلى الصيحة، لأنها بمعنى الصياح وتأنيثها غَيْرُ حقيقي.
وقيل جاز ذلك وهي مؤنثة لما فصل بين الفعل وبينها كما قالوا: حضر القاضي اليوم امرأة.
والأول أصوب.
وإنما أسقط تاء التأنيث من هذه القصة وأثبتها في قصة شعيب، لأنه على ضربين: حقيقي، وغير حقيقي، فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالباً إلا أن يَقَع فصل، نحو قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل
حسن الحذف.
ومن كلامهم، كما قدمنا لو الإشارة مع الحقيقي ما لم يكن جَمْعا.
وأما التأنيث غير الحقيقي فالحذْفُ فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: (فمَنْ
جاءَه موعظة من ربه) ، وهو كثير، فإن زاد الفصل أزداد حسناً، والحذف والإثبات هنا جائزان، فجاء الفعل في هذه الآية على الوجه الأول، وفي قصة شعيب على الوجه الثاني، جَمْعاً بين الوجهين، إذ الآيتان في سورة واحدةٍ، وتقديماً للأولى على ما ينبغي، وهذا ما لم يكن الفاعل ضمير
مؤنث فله أحكام تخصه. والله أعلم.
(ولما جاءَتْ رسلنا لوطاً) :
قد قدمنا أنه أعاد الضمير، لظَنِّه أنهم من بني آدم وخوفه عليهم من قومه، وقوله لهم: (لو أن لي بكم قوة) .
ولما قالها قالوا له: إنَّ رُكْنَك لشَدِيد.(3/292)
فإن قلت: كيف ينطق بهذا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
" يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوِي إلى رُكْن شديد، وفي الحديث: لم يبعث الله نبيئاً إلا في مَنَعة وعزة؟
والجواب: أنه خشي عليه السلام أنْ يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في
الأضياف، كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم، فتمنىِ ركْناً من البشر
يعاجِلهم، وهو يعلم أنَّ اللهَ تعالى مِنْ وراء عقابهم، وأيضاً فإنَّ قَوْمَه إنما يمنعونه هو لو أرادوه بضرٍّ، وقد كان المطيع فيهم قليلاً.
ولقد أصيب نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في غير ما موطن مِنْ شجِّ رأسه، وكَسْرِ رباعيته، وطَرح سلا الجزور على ظَهْره، ولم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة.
فإن قلت: لِمَ حذف من هذه الآية إن الزائدة في العنكبوت؟
والجواب: أنها كثيراً ما تزَاد، ولما وردت هذه الآية بلفظها مرتين، وردت
الثانية بزيادتها ليحصلَ بين التَّوَارُدين ما يرفع تثاقل اللفظ المتكرر.
فإن قلت: فإنه قد تباعد ما بين الآيتين، ومِثْل هذا لا يلحظ فيه ما
ذَكَرت؟
فأقول: لما كان اللفظُ اللفظَ، وكان زيادة " إن " وعدم زيادتها هنا مقيس
فصيح جيء بالجائزين معاً، وتأخرت الزيادة، إذ هي غير الأصل إلى المتأخر من الآيتين.
فإن قلت: إن قوله تعالى: (فلَمَّا أنْ جاء البَشير) ، لم يقع فيه تكرار، فلِم زيد (أن) ولم يأت على الأصل؟
قلت: لما كان مجيء البشير إلى يعقوب عليه السلام بعد طول الزمن، وتَبَاعد
المدة، ناسب ذلك زيادة (أن) لما في مقتضى وَصْفِها من التراخي، فورَد كلّ
من هذا على ما يجب.(3/293)
(ولقد أرْسلْنَا موسى بآيَاتِنَا وسلْطَان مُبين) :
قيل هو مشتق من السليط الذي يستضاء به.
وقيل: إنه مسلط على كل منّا ومخاصم، وزاد السلطان في هذه الآية وفي سورة غافر زيادة قوله: (وسلطان مبين) ، وورد في سورة يونس، والمؤمنين، ذكر تأييد موسى بأخيه هارون عليهما السلام، ولم يرد ذلك في غيرهما.
وانفردت سورة المؤمنين بالْجَمع بين تأييده عليه السلام بأخيه وسلطان مبين، لأنه حيث يذكر سورة المرسل إليهم وقبْح جوابهم يقال أبداً بتأييده بأخيه أو عضده بالآيات مما يقتضي القَهْرَ والإرغام، وهو المعبَّر عنه بالسلطان المبين، فيكون ذلك في مقابلة شَنِيع مجاوبتهم وسوء رَدِّهم.
وبالجملة فإنه إذا اجتمع إفصاحهم بالتكذيب واستكبارهم جمع في التمهيد
المتقدم بين التأييد بهارون والسلطان المبين، وحيث يصرح بالتكذيب أو ما يعطيه بينا، كقوله: (فاتبَعوا أمْرَ فِرْعون) .
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) :
هذا المجروو في موضع الحال من (ربك) ويحتمل أن يريد بظلم منه تعالى لهم.
قال الطبري: وقيل يحتمل أن يريد بشرك منهم، وهم مصلحون في أعمالهم وسيرهم وعَدْل بعضهم في بعض، أي أنهم لا بد من معصية تقترن بكفْرهم.
وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل إن الله تعالى يمْهل الدّوَل على الكفر، ولا يمْهلهَا على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متَّجِهاً، أي ما كان الله ليعذِّبَ أمة بظلم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان.
والاحتمال الأول أصحُّ إن شاء الله.
وجيء بالفعل هنا (ليهلك) إشارة إلى التكرر بحسب ما يكون منهم، فلو
كان في كل أمة وقَرْن مَنْ يَنْهَى عن الفساد والظلم لما أخذوا بذوي الظلم منهم ولكن الله تعالى يدفَع ببعضهم عن بعض، ولكن تكرر الفساد، وعَمّ كل قَرْن، فتكرر عليهم الجزاء والأَخذ، فأشار بالفعل إلى التكرر، ولم يكن قوله، (مهلك) في سورة القصص ليعطي ذلك وهنا كقوله تعالى:(3/294)
(أولم يَرَوْا إلى الطير فوقهم صافَّات ويقبضن) ، ولم يقل وقابضات لما قصد من
معنى التكرر.
(وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ، الإشارة إلى الاختلاف في المذاهب والأديان والملل.
وقيل الإشارة إلى الرحمن، وقيل إليهما.
(وكُلاًّ نقُصُّ عليكَ مِنْ أنباءَ الرُّسُل) :
انتصب كُلاًّ بـ نقصُّ و (ما) بدل من كلاًّ، والإشارة في: (وجاءَكَ في هذه) إلى السورة.
(وإن كنْتَ مِنْ قَبْلِه لمِن الْغَافِلين) ، أي من قبل القصص
غافلاً عن معرفته، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله، لكونه جاء به من غير تعليم.
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) :
قيل هي عبارة الرؤيا، واللفظ أعمّ من ذلك.
(والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأيْتهم لي ساجِدِين) :
كرر الفعل لطول الكلام، وأجرى الكواكبَ والشمس والقمر مجرى العقلاء في ضمير الجماعة لمّا وصفها بفعل مَنْ يعقل.
هذا يوسف أنجاه عِلمُه من ذلِّ السجن والبلوى، وأنتَ يا محمدي عَلّمك الله
عِلْمَ كتابه، أفلا ينْجيك علمك به من ذل الذنب، ويوصلك إلى جوار الرب، وقد اجتباك بقوله تعالى: (هوَ اجْتَتاكم) .
هذه رؤيا وافق تعبيره على ما رأى، وعصمه الله، ووصل إلى الملك، وكيف لا يعدّلك الملكَ الأعظم، ويحفظك من مكايد إبليس ونزغاته عند الموت.
(وَاردَهُم) : الوارد هو الذي يستقي الماء، وكان سيدَ القافلة مالَك بن ذعر من العرب العاربة، فلما رأى يوسفَ تَفرَّس فيه الصلوحية،(3/295)
فطلب من يوسف الدعاء، فدعا له بالنسل، لأنه لم يكن له، فدعا له فرزقه اللَهُ اثني عشر ولداً، أعقب كلّ واحد منهم قبيلة.
(وأسَرّوهُ بضَاعة) :
الضمير للسيارة، والمفعول ليوسف.
أي أخفوه من الرّفْقَة، وقالوا: دفعه لنا قومْ لنبيعه بمصر.
(واللهُ غالِبٌ على أمْرِه) :
في عودة الضمير وجهان:
أحدهما أن يعود على الله.
والمعنى أنه يفعل ما يشاء لا رادَّ لحكمه.
والثاني أنه يعود على يوسف، أي يدبِّر اللَّهُ أمره بحفظه وكرامته، الا ترى أنه لما كان يوسف بحضرة والده وبِعَيْنِه حمله إخوته على أعناقهم، فلما غاب عن بصره توجهت إليه المحنُ، وقاسى الشدائد، وكانت عاقبته الملك.
وأنت يا محمدي، مالك لا تخاف من نظر اللهِ إليك، فيراكَ على مخالفته.
ويحرمك من رحمته.
(وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، لأنها جبذته إلى نفسها حين فَرَّ منها، ولهذا يحكم القاضي بالقرائن المغلِّبة للظن غالباً.
وقد قدمنا أن هذا الصبي كان من أقرباء زليخا وصل وزارة يوسف بشهادته
له.
وأنْتَ تشهد لخالقك بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، أتراه لا يوصلك للملك الكبير، وهو على كل شيء قدير!
اللهم إني أشهدك بما شهدت به لنفسك، وثَنَّيْت بملائكة قدسك، وثلثت
بأولي العلم من جِنِّكَ وإنسك، إنك أنْتَ الله لا إله إلا أنت وحْدَكَ لا شريك
لك.
وإن محمداً عبدك ورسولك، وأستودعك هذه الشهادة وأنْتَ تحفظ الودائع.
ولا تخيب من استودعك، فرُدَّها علينا وقْتَ احتياجِنا إليها.
(ولج) يلج، أي دخل، ومنه ما يلج في الأرض.
وأولج يولج، ومنه: (يولج الليلَ في النهار) .(3/296)
(وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ من الحزْن) ، أي من البكاء الذي هو
ثمرة الحزن، فقيل: إنه عمي.
وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً.
وفي الحديث:
إن يعقوب حزن حزْنَ سبعين ثَكلَى.
وما ساء ظنّه باللهِ قطّ، فلذا أعطي أجْرَ مائة شهيد.
(وأعْلَم مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمون) :
هذا من قول يعقوب، يعني إني أعلم من لطفه ورحمته ما يوجِب حسْنَ ظني به وقوة رجائي فيه.
(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) :
روي أنها لما نزلت قال عليه السلام: أنا المنذِر، وأنْتَ يا عليٌّ الهادي (1) .
وقيل: معناها إنما أنت نبيء منذر، ولكل قوم هاد
من الأنبياء ينذرهم، فليس قولك بمبْدع ولا مستَنْكر.
وقيل المعنى: إنما عليكَ الإنذار، والله هو الهادي لمن شاء إذا شاء.
(وجَعَل فيها رَوَاسِيَ وأنهاراً) :
قد قدمنا أنَّ الرواسي الجبال، وقدمنا فائدة جَمْع الأنهار جمع قلة، والرواسي جمع كثرة.
(ومِنْ كلّ الثمرات جَعَلَ فيها زَوْجَيْن اثْنَين) :
قيل إنه معطوف على قوله: (رَوَاسي) ، فيكون متعلقاً بجعل الأول.
وقيل: إنه متعلق بجعل الثاني.
ورَدَّه بعض النحويين بأنّ فيه الفصل بين حرف العطف والمعطوف.
وقد قال ابن عصفور في شرحه الكبير: ولا يجوز فصل حرف العطف والمعطوف إلا بالقسم أو بالظرف والمجرور، بشرط أن يكون حرف العطف على أزيد من حرف واحد.
" وجعل " هنا معطوف على (جعل) الأول، ففصل بين الواو
وبينه بالمجرور، وهذا جيد إلا أنْ يجاب بأنه من حرف الجمل، فهو استئناف.
فإن قلت: هل المراد بالزوجين اثنين الذكر والأنثى، كقوله: (ومِنْ كلِّ
شيءٍ خلَقْنَا زَوْجين) ؟
فالجواب: أنَّ المراد بالزوجين النوعين، قال الزمخشري: كالأسْوَد والأبيض.
__________
(1) لا يخفي ما فيه من بعد بعيد، ولعله من أقوال الشيعة.(3/297)
والحلو والحامض، والصغير والكبير، فإنها في أصلها كانت زوجين ثم تفرَّعت
منها أنواع، فصارت أزواجاً.
(وإنْ تعْجَبْ فعَجب قولُهم) :
انظر هل هذا أمر تقريري، أو هو استدعاء له ليعجب.
فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقَّق الوقوع، وإن تدخل على المشكوك
فيه، والتعجبُ من هؤلاء محقَّقٌ وقوعه، لأنهم أنكروا البَعْثَ، وخالفوا، مع
علمهم أنَّ اللهَ خلقهم وأوجدهم، ومَنْ أوجد المخلوقات من عدم قادرٌ على
إعادتها، قال: وعادتُهم يجيبون بأنَّ التعجبَ إنما يكون مما خَفِي بسببٍ، فما
يَتَعَّجب إلا مَنْ يخفى عليه السبب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بأنّ ذلك الواقع منهم، أمْر قَدَّره الله، وأراده منهم، فهو في خاصته لا يَتعجَّب منهم، فضلاً على أن يكون تعجّبه منهم محققا، بدليل قوله تعالى: (أتَعْجَبِينَ مِنْ أمْر الله رحمةُ الله وبركاتُه)
قال أبو حيان: فعَجب مبتدأ وخبره قولهم إذا.
ورُدَّ بوجهين: الأول أن قولهم في رتبة العلم، وعَجب نكرة.
والثاني أن محل الفائدة في عجب، لأنه المجهول، وقولهم: أإذا كتا تُراباً - هو المعلوم.
وقولهم: (لفي خَلْقٍ جديد) يحتمل أنْ يريد بالجديد ما سبقه عدَم، ويحتمل أنْ يريدَ به ما لم يُسْبَق بوجود.
وهذا هو الأظهر، لأجل تعنُّتهم، فهم يجعلون الإعادة كأنها خَلْقٌ آخر لم يسبق بوجود ألبتَّة، فلذا نفَوْها.
ومذهبُ أهل السنة أنَّ الإعادة ممكنة عقلاً واقعةٌ سَمْعا، وهل تُعَادُ الأجساد
أم لا، مذهب أهلِ السنة أنها تُعَاد، لأنَّ الوجود قسمان: إما متحيز أو قائم
بالتحيز، فالأرواح إن كانت متحيزة فهي أجسام، وإن لم تكن متحيزة فلا
تستقلّ بنفسها، ولا بُدّ لها من أجسام تحلّ فيها، فلا بدَّ من إعادة الأجسام
خلافاً للحكماء وغيرهم.
(ويَسْتَعْجِلونَكَ بالسيِّئةِ قَبْلَ الحسنةِ وقد خَلَتْ من قبلهم الْمَثُلاَت) .
انظر هل المراد أنهم طلبوا الأمْرَيْن، أو طلبوا السيئة فقط، وهو(3/298)
الظاهر، لأن الحسنةَ بعدها، فما تأتيهم إلا وهم قد هلكوا.
ويحتمل أن يهلكوا من غير استئصال، والمراد بالْمَثلاَت القرون، لأنه وقع بها من العذاب ما صيَّرها يُضْرب بها الْمَثَل.
(وإنَّ ربَّكَ لذو مَغْفِرةٍ للناس على ظلْمهم) :
قال ابن عبد السلام: هذه الآية نزلت على ترجيح جانبِ الخوف على جانب الرجاء، لقوله: (ذو مغفرة) ، وهو للتقليل، وإنما أخذه من كون المغفرة مصدراً محدوداً بالتاء الدالة على الواحدة، على العقاب، مصدر مبهم يقع على القليل والكثير، فلو قال: إن ربك لغفار للناس لأَفاد المبالغة.
قال ابن عطية: والظاهر في معنى المغفرة هنا إنما هو سَتْره وإمهاله للكفرة.
أَلاَ ترى التيسير في لفظ المغفرة، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة، كما في قوله تعالى: (وإني لغَفَّار لمَنْ تاب) .
وذكر الزمخشري في سورة غافر في قوله تعالى: (إنّ اللَهَ لذو فَضْلٍ على الناس) ، أن إدخال (ذو) يدل على عِظَم فَضْله وكثرته، ونحوه لابن عطية في سورة الروم في قوله: (فآتِ ذَا القرْبى حَقَّه) ، ونحوه للقاضي عياض في الإكمال في حديث سعد بن أبي وقَّاص في الوصية حيث قال: قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وإني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي.
(وكلّ شيء عنده بمقدار) :
انظر هل المراد به القدرة وهي الإبراز من العدم إلى الوجود، أو الإرادة وهي التخصيص، أو العلم وهو الكشف والاطلاع.
والظاهر أنَّ المراد به الإرادة وأن كل شيء عنده مقدَّر مراد، لأنه
أَتى به عُقَيب قوله: (وما تَغِيضُ الأَرْحامُ وما تَزْدَادُ) ، فثمَّ حمل
ناقص، وحمل زائد، وحمل معتدل، فقال: كلّ ذلك مقدَّر مرَاد له، لأن
تخصيص الناقص بالنقص، والزائد بالزيادة، إنما هو راجع للإرادة، والظاهر أنه من العمومات الغير مخصصة، كقوله تعالى: (واللَه بكلِّ شيء عليم) .
(وإذا أَراد الله بقَؤمٍ سوءًا فلا مَرَدَّ له) :
هذا احتراس،(3/299)
إشارة إلى أنَّ (الْمُعَقِّبات) ، إنما يحفظونه مما أراد الله عدمَ وقوعه.
وأهل السنة يعمِّمون لفظَ "القَوْمِ" في الطائع والعاصي، والمعتزلة
يخصصونه بالعاصي بناء على قاعدةِ التحسين والتقبيح عندهم.
(ولا مردَّ له) ، أي لا دافع عنه ابتداء قبل وقوعه بهم، ولا ناصر لهم برفعه
عنهم بعد وقوعه.
(ويُنْشِئُ السَّحَابَ الثقَال) :
اختلفوا في ماء المطر، هل هو من السماء، أو من البحار يتصعّد منها بخار وتكسبه الأهوية رِقّة وعذوبةً فيتكون في السحاب ثم ينزل مطراً.
وقيل بالوقف، وهو اختيارُْ ابْنِ رشد في البيان.
وذكر بعضهم أنه إذا سخن ماء البحر وجُعلت على القِدْ نشّافة فإنه يَعْذب.
وقيل: بل تنكسر حدَّته ويشربه المضطر إليه.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) :
قيل: إنَّ الرعد اسم ملك، وردَّه بعضهم لقوله تعالى: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) .
فقد نكره، فإن كان لفظ الرعد هو العلَم على الملك لم يجُزْ حذف الألف واللام منه، كما لا يُحْذَف من القاسم والعباس، وإن كان العلم
عليْه الرعد لزم إدخال الألف واللام هنا على الاسم العلم، وهو جائز.
ويحتمل أن يكون الألف واللام لِلَمح الصفة، فإن لمحتَها أدخلتها وإلا فلا.
وقيل الرعد صوت ملك.
وقال الحكماء: اصطكاك الأجرام.
فإن قلت: لم أسند الحمد للرعد والخوف للملائكة؟
فالجواب إن كان الرعد اسم ملك فأسند الحمد إليه إما لأنه جرْم أعظم من
سائر أجرام الملائكة، فهو في مقام الحمد لا في مقام الْخَوف، وإمّا ليدل اللفظُ دَلالتين: دلالة مطابقة والتزام، فأسند التحميد إليه مع الملائكة لدخوله فيهم، أو يكون حذَفَ من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول، أي ويسبِّحُ الرعْدُ من خيفته بحمده والملائكة بحمده من خيفته.(3/300)
وإن أريد بالرعد السحاب فالمعنى أنه سبَّح اللهَ وحمده على إبرازه إياه من
العدم إلى الوجود بلسان الحال لا بالقول، إذ لا عقل له، فلذلك لم يُسنِد
الخوف إليه، بخلاف التسبيح، لقوله: (وإنْ من شيء إلاَّ يسبِّحُ بحَمْده) .
والخوف إنما يقَعُ من العاقل.
(والذين يَدْعون مِن دونه) :
لم يَدْعُوهم مِنْ دون الله: لكن الجزء الذي شركوهم فيه مع الله في العبادة دعوهم فيه من دونه.
(يستجيبون) :
ليس هو من استفعل بمعنى طلب الفعل، وإنما هو كقول
الشاعر:
وداعٍ دعا يَا مَنْ يُجيب إلى النَّدا ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذلك مُجِيب
فعلى هذا لا سؤال، وإن لم يكن بمعنى أجاب يرد فيه بأن استجاب خاصة
بمن أجاب بما يوافق غَرَض السائل.
وأجاب علامة في المجيب بالموافق والمخالف، فيقال لهم نفي جوابهم بالموافق، مع أنهم لا يجيبون بشيء على الإطلاق، فيجاب بأن مطلوبهم من الآلهة إنما هو حصولُ غَرضهم، فنفاه.
وأما غيره فليس مطلوباً لهم، فلم يحتج إلى نفيه، قاله الزمخشري.
وقوله: (كباسطِ كَفيه) :
يحتمل أن يريد به إلا استجابة كاستجابة باسط، أي كاستجابة الماء من بسط كفيهِ إليه يطلب أنْ يبلغه فاه.
والماء جماد لا يشعر بعطشه ولا بدعائه له.
وشَبَّه باسطَ كفيه للماء دون فاتح فيه للماء، لأنه داعٍ، وشأن الداعي أن يبسط يديه.
(وما هو بِبَالغهِ) :
الفعل يقتضي التجدد، والاسم يقتضي الثبوت، فإذا أريد المبالغة عبّر في الثبوت بالاسم، وفي النفي بالفعل، لأنه يلزمُ من نفي ثبوت الصفة وقتا ما نَفْى ثبوتها دائماً، ولا يلزم من نفي ثبونها دائما نفي ثبوتها وقتاً ما، وكذلك يؤتى في الأعم بالنفي، وفي الأخص بالثبوت، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأعم يستلزم تفْي ثبوت الأعم، ونحوه(3/301)
للزمخشري في قوله: (فلما أضَاءَتْ ما حَوْلَه ذهب الله بنورهم) .
وجاءت هذه الآية على العكس في قوله: لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) .
فعبَّر بالثبوت في الفعل، وفي النفي بالاسم، فنفى عنه البلوغ الثابت دائما، ولا يلزم منه في البلوغ المتجدد الثابت وقتاً ما؟
والجواب أنَّ القرينةَ هنا تنفي هذا المفهوم المتوهَّم، وتعتن أنَّ المراد نفْيُ
البلوغ على الإطلاق كيفما كانت.
(ومِمَّا يوقدون عليه في النار ابتغاءَ حِلْيَةٍ أو مَتاع زَبدٌ مِثْلُه) :
الزمخشري: هو كل ما يلين من المعادن، فإذا برد اشتد وتبين، كالذهب
والفضة والحديد والنحاس والرصاص.
والحلية: كل ما يتحلَّى به من الذهب والفضة وغيرها.
(والذين يَنْقُضون عهدَ الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللهُ به أن يوصَل) : هذا دليل على أن العهد يطلق على الوعد، وعلى الأمْرِ المشقّ الْمُلْتَزَم، ولو كان العهد هنا الميثاق لما كان لقوله: (من بَعْد ميثاقه) فائدة.
وقيل هي مباينة لما قبلها، ووقعت المبالغة فيما قبلها بتسعة أوصاف، وفي هذه بثلاثة أوصاف: لأن الأولى في معرض الجزاء على الطاعة.
وهذه في معرض العقوبة على المعصية، فناسب المبالغة في الأولى، تأكيداً على
المثابرة على الطاعة، وعدم المبالغة في هذه تنفيراً عن المعاصي، وأن العقاب يقع على أدنى شيء من المعصية.
ووجْه ثان: وهو أن نقض العهد إشارةٌ إلى العهد المأخوذ على الخلائق يوم: (ألَسْتُ بربكم) ، فهو راجع إلى التوحيد.
وقطع ما أمر الله بوصله: راجع إلى الإيمان بالرسول، لأن تكذيبه قطع له
مِن مرسله، والإيمان به إقرار بصلته مع مرسله.
والفساد في الأرض راجعٌ إلى المعاصي.
وفي الآية حجةٌ لمن يقول: إن المندوب غير مأمور به، لأنها في معرض الذم لفاعل ذلك، فلو كان مأموراً به لما(3/302)
تناوَلَهُ الذمُّ، وليس المراد مَنْ جَمعَ هذه الأوصاف، بل من اتصف بواحدٍ منها.
فإن قلت: هل قوله تعالى: (لهم اللعنةُ ولهم سوءُ الدار) ، لمن
اتصف بها، سواء كان مؤمناً أو كافراً؟
والجواب: أنَّ اللعنةَ للكفار وسوء الدار للعُصَاة، فهو لفٌّ ونشر! وإدخال
اللام تهكم بهم وإشارة إلى أن اللعنةَ أمرٌ ملائم لهم ومناسبٌ لفعلهم! فليَحْذَر
العاقلُ هذا الوعيد الهائل ولا يستحقر العاصي.
(وفَرِحوا بالحياةِ الدنيا) :
هذا يرجع إلى الكفار الذين جعلوا الدنيا دَارَهم، وهل هي إلا سجنُ المؤمن إن عقل، لِمَا يَسْتَولي عليه فيها من الهموم والبلايا والحيات والقمل.
ووَجْهُ المناسبة بينها وبين السجن ظاهرة، فانظر ما أغْفَلَنا عن الآخرة مع
مشاهدتنا لهذه الأمور! ولهذا تجد الكفار يوسعَّ عليهم في الدنيا ليزدادُوا كفْرا
وفِسقاً، وكذلك الموسَّع عليه منا أكثر ترفُّهاً وعصياناً، ولهذا قال في حديث: " أولئك قوم عجلت لهم طيباتُهم في الدنيا ".
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) :
لولا للتحضيض، كقول الفقير للغني: لولا أحسنْتَ إليَّ.
فأجابهم الله بأن يقول لهم: إنما أنا عبد، والعبد ليس له مع سيده اختيارٌ، وسيِّدُه أعلمُ بأموره، إما أنْ يضلّه أو يهدي إليه مَنْ أناب.
فإن قلت: لم جعل فعْلَ المشيئة مضارعاً والإنابة ماضياً، والمناسب العكس.
لأن مشيئة الله قديمة وإنابة العبد حادثة، وفي غافر: (وما يتَذَكَّرُ إلا مَنْ
يُنيب) ؟
فالجواب، أن فعل المشيئة أتى مضارعاً باعتبار متعلّقها، وهو من فعل العبد
وغير مطلوب لأن أصلها من الله، فلم يحتَجْ إلى طلب متعلّقها.
والإنابة من فعل(3/303)
السيد، فجاء فعلها ماضيا إشارة إلى تأكد طلبها حتى كأنها واقعة.
وأيضاً مشيئة الله دائمة مستمرة، وإنابة العبد منقطعة، فهو إشارة إلى أن مَنْ أناب ليس على وثوق مِنْ بقاء إنابته واستمرارها في المستقبل إلا بهداية الله وتوفيقه.
والآية عندي صريحةٌ في مذهب أهل السنة، لقوله: (يَهْدي إليه) ، أي يخلق في قلبه الهدايةَ ويُرشده إليها.
وأناب إشارة إلى ماله في ذلك من الكسب.
ثم ذكر حالهم أنهم آمَنوا به واطمأنّت قلوبهم بذكره.
فإن قلت: كيف تطمئنُّ قلوبهم بذِكْرِه وقد ذكرهم الله في آية أخرى:
(الذين إذا ذكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهم) ، فهذه اقتضت أنَ ذكر
الله موجب خَوْفه والوَجَلَ منه، والأولى اقتضت طمأنينة قلوبهم؟
والجواب: أنهم لما سمعوا ذكره تعالى حدث لهم خَوْف منه ووَجَل، ثم تعقبه
طمائينة وسكون، كما قال القائل.
وإنّي لتَعْزوني لذِكْرَاك فَترة ... كما انتفض العصفورُ بلَّلَه القَطَر
وقال ابن عبد السلام: معنى الأولى أنهم إذا أخبروا أنَّ الله تعالى ذكرهم
اطمأنَت قلوبهم وسكنَتْ، لأنهم يعلمون أنَّ ذلك رحمة منه بهم واعتناء
بذكرهم، وجاء قولهم: (إذا ذكِر الله وجلَتْ قلوبهم) على الأصل من حالهم، لأن حالهم الخوف، فإذا ذكر الله ازداد وَجَلهم وخوفهم من عقابه.
وهذا جوابٌ حسن.
وهذه أمور ذوقية لسنا من ذلك على ذوق، فلا القلب يطمئن ولا يوجل، اللهم أقِل العَثْرَة واغفر الزلة.
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) .
وجوابها مقدر، أي لا آمنوا به، والقضية الشرطية تقتضي نفيَ الأول لانتفاء الثاني، نحو: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان.
وتارة تقتضي ثبوتَه لثبوته، نحو: لو لم يكن هذا حيواناً لما كان إنساناً، لكنه إنسان فهو حيوان.
وتارة تقتضي مجردَ الملازمة والارتباط، نحو: لو حضر زيد لحضر ثوبه،(3/304)
والآية من هذا القسم، والعطف فيها تدلّ، لأن تسيير الجبال أقرب وأعجب لعظم جرمها وكونها جماداً لا يقبل الاتصاف بصفة الحيوان، والسير من صفة الحيوان، ولم يقع ذلك فيها بوجه، ثم يليه تقطيع الأرض لكثرة وقوعه، لاسيما ما قاله ابن عطية من أنه تفجير أنهارها.
ويليه تكليم الموتى، لأنه قد وقع لعيسى عليه السلام وغيره.
(ولقد استهْزِئَ برسُلٍ من قبلك) .
الآية: فيها دليلٌ على أنه لا أثر للاستهزاء على الكفر مع الكفر، لأن الاستهزاء كفر وزيادة.
وتعليق الحكم على الوصف المناسب يُشعر بغلبته له، والاستهزاء هو عَيْن الكفر، وهؤلاء لم يكونوا في زمن الفترة، بل كانوا مؤمنين بغيره، وما عُلِم كفْرهم به إلا من لفظ الاستهزاء، وفيها دليل على صحة العمل بالقياس، لأن الآيةَ سيقت مساق التخويف للكفار، والتسلية لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما وَجه التخويف إلا من ناحية أَن المشاركة في الوصف توجب التسوية في الحكم الناشء له، والكفار المعاصرون لنبينا مشاركون لمن سبقهم في الاستهزاء.
واقتضت الآية أنَّ مَنْ سبقهم عُوقب، فكذلك هؤلاء.
ولا معنى للقياس إلا إثبات حكم الأصل للفرع لعلة جامعة.
وتنكير لفظ (رسل) للتشريع، ولا يناسب التعظيم، ولا يحصل به التخويف.
لأنهم يقولون: إنما عُوقبوا أولئك على استهزائهم بعظماء الرسل فما يلزم منه
عقابنا نحن.
فإن قلت: كيف أكد هذا القسم باللام وقد مع أن الماضي بعيد عن زمن
الحال؟
والجواب: تنزيلاً له منزلةَ القريب، ليحصل كمال التخويف.
ولما أخبرهم بالإملاء فعلم العاقل منهم أنَّ الإملاء أشد من الإمهال بكثير، لأنه يتضاعف به العذاب، فأسرع إلى الدخول في الإسلام، وعَلم أن تيسير أسبابِ الوقوع من موجبات عذاب آخر، والأمر كذلك، لأنَ الله تعالى يقول: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) .
ويحكون في مثل هذا أنَّ صبيّاً مسلماً(3/305)
صفع يهوديّاَ في الحمام، فأعطاه اليهوديّ ديناراً مكيدةً منه للصبي، فدخل ذو هيئة فصفَعه الطفل ظانًّا أنه يأخذ منه أكثر، فقطعت يده.
فافْهَمْ يا محمدي ما تَحت الإمهال والإملاء من الأهوال، ولا تحسبن إمهاله إهمالا.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) :
تارة تبطل الدعوى ببيان بطلان مدلول دليلها، وأبطل عليهم بهذه مدلولهم السمعي.
وهو قوله: (أم بظَاهِرٍ مِنَ الْقَول) ، وهو قولهم: (ما نَعْبدهم إلاَّ ليقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى) ، وقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عِنْدَ الله) .
فقيل لهم: هل بلغكم ذلك عن الله على ألسنة الرسل أم لا، وقد خلط الزمخشري في قوله: (شركاء) على عادته في خَلْط لفظ القرآن بكلامه.
وأما العقلي فبطلَ ببطلان مدلوله، وهو قوله: (قل سَمّوهم أم تنَبِّئونه بما لا
يَعْلم في الأرض) ، فهو غَيْرُ معلوم للَه، وكلُّ ما ليس بمعلوم لله فليس بموجود ولا معدوم إن قلنا إنَّ المعدوم الممكن معلوم، فدل على أنه محال.
فإن قلت: كيف قال: (قل سَمُّوهم) وهم سمّوهم، فقالوا: اللات
والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى، وفي آية يونس: (قل أتنبِّئونَ اللهَ بما لا يعلم في
السماوات ولا في الأرض) .
وفي هذه السورة: (بما لا يعلم في الأرض) .
وفي سورة إبراهيم: (وما يخْفَى على الله من شيءً في الأرض ولا في
السماء) ؟
والجواب: ليس المراد مجرد التسمية، بلِ تعيينهم.
والمعنى أنه إنما يستحقُّ اسْمَ الإله مَنِ اتّصفَ بالاستغناء والكمال، وتنزه عن العجز والاحتياج، فعيِّنوا لنا شركاء متَّصفين بذلك، فإنهم لا يجدونهم.
وإنما خصَّ الأرض بالذكر لأنّها المشاهَدَة القريبة، وإلاّ فقد عبدوا الشِّعْرَى والعَبور، وعَبدوا الشمس إلى غير ذلك.
ونَفْى علم الشيء عن الله يستلزم عدمَ ذلك الشيء، وفيه دليل على أنَّ
العدم غير معلوم.
وفي المسألة ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور.
إلى أنه معلوم، وقيل إنه غير معلوم.
وقيل المستحيل غير معلوم، والممكن معلوم.(3/306)
(وإمَّا نرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهم) .
الآية: تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووَعْدٌ له بتعذيبهم.
ومعناها إمّا نرِيَنَّكَ بعضَ ما ينزل بهمِ من العذاب فلا تَتَوهم أنَّ عليك في ذلك شيئاً، لأنك إنما عليكَ البلاغ، وقد بلّغْتَ، أوْ نتَوفّاكَ
قبل رؤيتك ذلك فعلينا حسابهم، لأنهم إذا عذّبوا بعد وفاته انتفى التوَهُّم.
فإن قلت: هل هذا وعْد له - صلى الله عليه وسلم - بتعذيبهم أو وَعيد، فأطلق الوعد على الوعيد؟
والجواب أنهما اجتمعا في هذه الآية، وآية الزخرف أبلغ لأن قوله تعالى: (أوْ نرينكَ الذي وَعَدْناهم) ، اقتضت رؤيته بعض عذابهم.
وهو ماينزل بهم في الدنيا قَبْل وفاته، وكان بعضهم يقول:
الوعد بالإحسان أو بالنصرة على الأعداء من السلطان أو الرجل ذي الهيبة ليس كالوَعْد ممن دونه، لأنَّ الأول يحصل منه كمال الطمأئينة والركون.
فإن قلت: ما الفائدة في تأكيد الآيتين بالنون مع أن أحدها محقّق الوقوعِ
لا شك فيه، وإنما المُهمّ تعيين الواقع منهما؟
والجواب: أَنَ التأكيد راجع للجزاء لا للشرط.
فإن قلت: إنما هو في الشرط فقط، فاعلم أنَّ الشرط والجزاء مرتبطان، ألا
تَرى أن القائل: إنْ قام زيد فأنا أكرمه - يحسن أن يقال له صدقت أو كذبت، والتصديق والتكذيبُ إنما هو للجزاء لا للشرط.
(وهوَ سَرِيعُ الحساب) :
سرعة حسابه إما باعتبار قرْب أوانه أو قِصر زمانه وقلة مكثه.
وقال ابن عطية في سورة آل عمران عن مجاهد:
يحتمل أنَّ المرادَ بسرعة الحساب أنَّ الله تعالى لإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عدول أو فكرة.
ويستدلّ بها أنَّ الله سبحانه يحاسب آلاف آلاف في وقتٍ واحد من غير علم أحدهم بالآخر، وهذا مشاهَدٌ في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في أقطار شتى على هيئات مختلفة، ورؤية أموات في أقطار الأرض لمنكر ونكير في وقتٍ واحد هذا يقع له التبشير بقولهم، وآخر يضربانه ضربةً يشتعل منها قَبْرُه ناراً.(3/307)
(وقد مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهم) :
قد قدمنا صفةَ مكرهم.
ولذلك أجابهم بقوله: (فلِلَّهِ المَكرُ جميعاً) ، لأن مكرهم من
غير قدرة، وقدْرَتُه تعالى على الفعل، وهو عالم بهم، لا يخفاه شيء من أمرهم.
فإن قلت: " من " لابتداء الغاية.
فيقتضي أول أزمنة القبلية، وقد يقرب الماضي من زمن الحال، فكيف صح الجمع بينهما؟
والجواب المراد أوَّل أزمنة هذا المكر القريب، وهو الزمنُ القريب مِن وقتك.
(ويقول الذين كفَرُوا لسْتَ مُرْسلاً) :
هذا تصريح بإنكارهم وقبح مقالهم، وكيف لا وقد رأوا ظهورَ الخوارق المعلوم صِدْق من ظهرت على يديه بالضرورة، وكان الواجب عليهم النظر، لأنه واجب بالشرع خلافاً للمعتزلة، فإنهم قالوا بالعقل، ولو كان واجباً بالشرع للزم عليه إفْحام الرسل، لأنه يقول: ما ننظرُ في معجزتك حتى يجب ذلك عليَّ، ولا يجب عليَّ إلا بقولك، وأنَا لا أصدقك.
وأجاب أهل السنة على ذلك بأن المعجزات والخوارق من الأمر الغريب.
والنفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور، وأيضاً إن قلنا: إن النظر بتكليف ما لا يُطاق، فنقول: إنه واجب، ولا يلزم ما ذكروه، وإن لم نقل بذلك فنقول: إنه متوقف على تمكّن العلم بنبوءةِ الرسل لا على حصول العلم بنبوءته.
ونقول له: إنك متمكّن من العلم، فانْظُر النظر الذي يوصلك إلى ذلك العلم.
فإن قلت: مقالَتهم ماضية، فلم قال، (ويقول الّذين كَفرُوا) ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أتى به مستقبلاً للتعجيب، كقوله: (ألم ترَ أنَّ الله أنزلَ من السماء
ماء فتصْبِحُ الأرْضُ مخْضَرَّة) ، ولم يقل فأصبحت.
والثاني للتصوير، كأنها لم تزل واقعة مشاهدة.
والثالث ليتناول اللفظ مَنْ قالها ومَنْ سيقول مثلها في المستقبل.(3/308)
فإن قلت: هَلاَّ قال: لست نبيئاً، فينتفي الأعَم! لأن نَفْيَ الأعم يستلزم نَفْيَ
الأخَص؟
والجواب أنَّ نفي الأخص هنا يستلزم نَفْيَ الأعم، لأنه قال لهم: (يا أيها
الناس إنِّي رسول الله إليكم جميعاً) ، فكذَّبوه في هذه المقالة، فإذا كذّبوه فيها فهم لا يصدِّقونه في نبوءته! لأن النبي لا يَكذِب.
(وما أرْسلْنَا من رسولٍ إلا بلسان قَوْمِه) :
فيها دليل على أنَّ واضعَ اللغة هو الله تعاَلى.
واختلف هل الكتب المنَزَّلة نزلت بلغاتهم أو بالعربية، وكلّ رسول يعبِّر لهم بلغتهم.
وقد قدمنا ذلك.
وفي قوله: (فيُضِلُّ اللَه مَنْ يشاء ويَهْدِي مَنْ يشاء) ، دليلٌ على أنَّ حصولَ العلم عقيب النظر عاديّ، وليس بعقلي، إذ لو كان عَقْليّاً للزم من البيان الهداية.
ويحتمل أن يقال لا يلزم ذلك، لأن المخاطب قد لا ينظر النَّظَر الموصِّل للعلم.
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ من الظلماتِ إلى النُّور) .
الظاهر أن (أنْ) هنا تفسيرية.
وقال بعض النحاة: إن النحويين يمنعون وصلَ (أن) بالجملة غير الخبرية.
وذكر ابن العطار في شرح الجزولية جوازَ ذلك.
فإن قلت: هلا قال: أن أخْرح قومك من الظلمات إلى النور بإذن الله، كما
قال أوَّلاً: (لتُخْرجَ الناسَ من الظّلُمات إلى النور بإذْن رَبِّهم) ؟
والجواب أنَّ الأول خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وشَرِيعَتُه من أسهل الشرائع، فناسب فيها ذِكر الإذْن لئفِيد معنى السهولة واللين المأذون فيها، وهذه الآية الثانية خطابٌ لموسى، وقد كانت شريعته صعبةً، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فتُوبُوا إلى بارئكم فاقْتلُوا أنْفُسكم) .
وأيضاً " أخْرج " فعل أمر! فهو بنفسه دليل على الإذن، فلم يحتج إلى ذكره معه، بخلاف قوله: (لتُخْرج الناسَ) ، فإنه جملة خبرية لا تدل على الإذْن، فلذلك قيدت به.(3/309)
(وذَكِّرْهُم بأيَّام الله) :
التذكير لقوم موسى سببٌ في إخراجهم من الظلماتَ إلى النور، واللفظُ يعمّ النعمَ والنقَم، فإذا علموا عقوبتَه تعالى للأمم المتقدمة حرَّكوا أنفسهم للإخراج من الكفر.
فإن قلت: كان حقه أنْ يقدم السببَ على المسبب، فَلِمَ أخَّرَه عنه، وما
الفائدة في تعبيره عنه بالأيام؟
والجواب: أن التذكير هو الموعظة، والدعاء إلى الإسلام متقدِّم عليها.
والموعظة إنما تكون بعد ذلك، لأنه يريهم المعجزةَ ابتداء، فإذا آمنوا وعظهم
ليدوموا على إيمانهم.
وعبَّرَ عنه بالأيام، لأن العقوبةَ كانت في أيام، وذلك تعظيم
لها، كقولهم: يوم كذا.
(ويَسْتَحْيون نساءكم) :
لما أخبر فرعون أنه يولد من بني إسرائيل مولود يكون سببَ هلاكه صار يَذْبَحُ المذكور، ويَسْتَحْيي النساء كما قدمنا.
فإن قلت: هَلاَّ قال: يستحيون بناتكم، ليوافق أبناءكم؟
والجواب: أن البنات في حالِ صغرهنَّ لا مؤونة منهنَّ ولا مشقة، وإنما يلحق
آباءهم المؤونة والمشقة إذا كبرن وصِرْنَ نساء، وفيها إشارةٌ إلى الوصف الذي لأجله أحيوا البنات وهو بقاؤهن حتى يكبرن فيحتقروهن ويذلّوهن لبقائهن بغير رجال.
فإن قلت: هذا العطف بـ يذَبحون ويستحيون على يسومونكم مشكل، لأن
العطفَ يقتضي المغايرة، فإن كان السوم هو الذبح لزم عطْفُ الشيء على نفسه، وإن كان غيره لزم تفسير الشيء بغيره؟
والجواب: أنه غيره.
لكنه أعَمّ منه، فالسَّوْمُ هو أوائل العذاب ومقدماته، والذبح أخصُّ منه.
فإن قلت: ما الفرق بين هذه الآية وآية البقرة في عطفه هنا بالواو؟(3/310)
والجواب: أن المنَّةَ في آية البقرة وقعت من الله تعالى، لأنه قال فيها: (وإذ
نَجَّيْناكم من آل فِرْعون) ، فأسند الفِعْلَ إلى نفسه، والملك كلّ
الأشياء عنده حقير، فلهذا أتى بالجملة الثانية غير معطوفة لتكونَ مفسِّرة للأولى وكأنهما شيء واحد، لأنه لا يَسْتَعْظِم الأشياء إلا مَنْ لا قدرةَ له، فالمائة دينار لا قَدْرَ لها عند الغني، وهي عند الفقير مال معتبر، وأما في هذه السورة فالمِنَّةُ فيها من موسى عليه السلام، لأن أولها: (وإذ قال موسى لقومه) ، فناسب فيها المبالغةُ في العطف بالواو التي تقتضي المغايرةَ والتباين، لتكثر أسباب المنِّ.
وأجاب صاحب درة التنزيل بأنّ آيةَ إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر
آخر قبله: وهو قوله: (ولقد أرسلنا) . - (وإذ قال موسى) ، فتضمَّن الأول الإخبار عن إرسال موسى بالآيات، والثاني تنبيهه لقومه على نِعم الله، فيقوى معنى العطف (يذَبحون) ، لأنه هو وما عطف عليه داخلٌ في جملة معطوفة على غيرها، فالمقام مقام الفصل، بخلاف آيةِ البقرة، فإنه أخبر فيها بخبر واحد، وهو إخباره عن نفسه بإنجاء بني إسرائيل، فلذلك لم يعطف، وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين، فلذلك عطف، يريد والجملة
المتقدمة في سورة البقرة إنما هي طلبية، وهي قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، والمشاكلة تقتضي الإخبارَ، وتُجرَى مَجْرًى
واحداً في الفصل والوصل، بخلاف الخبر والطلب، فإنه لا يعامل أحدهما معاملةَ الآخر، ألاَ ترى أنَّ المشهور عند النحويين أنه لا يجوز عطفُ الجملة الخبرية على الطلبية ولا العكس.
(وإذ تأذَّنَ ربُّكم) :
قيل أذَّنَ ربّك، ونظيره توعّد وأوعد، وتفضل وأفضل، ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ تأذن ربّكم إيذانا بليغاً ينفي عنه الشكوك، ولأجل أن تفعّل يقتضي التكلّف والمشقة حمله الزمخشري - والله أعلم - على أنَّ التضعيف للتأكيد والمبالغة في الإذن.(3/311)
فإن قلت: لأي شيء أضاف الربّ للمخاطب، والأصل إضافته إلى المتكلم.
فيقال: ربّنا؟
والجواب: أنه لا طلب منهم الشكر أتاهم بأحد موجباته، وهو اللفظُ الدالُّ
على الترقي والحنان، وأضافَهُ إليهم ليكونَ آكدَ في الشكر.
وأما هو فشكره حاصل، ومعرفته بذلك مستقرةٌ ثابتة.
(وإنّا لفِي شَكٍّ) :
قد قدمنا في قصة صالح أنَّ الشك هو التردد بين أمرين.
فإن قلت: قد قال في سورة هود: (قالوا يا صَالحُ قد كنْتَ فِينا مَرجُوًّا) ، فلم حذفه هنا؟
والجواب: لتكرارها في (تدعوننا) ، ولم يحذفها لعدم تكرارها في تدعوننا، لأنه خطاب لصالحٍ وحْدَه، فهو ضمير مفرد.
فإن قلت: كيف جزموا أولاً بالكفر، ثم قالوا: (وإنا لفي شَكٍّ) ، والشاكَّ غير حاكم بشيء فضلاً عن أن يكونَ جازِماً به؟
والجواب: أنَّ بعضهم قالوا: إنا كفَرْنَا، وبعضهم قالوا: إنا لفي شك.
أو يجاب باحتمال أنْ يريدوا بالأول قسم التوحيد، وبالثاني قسم الشرائع والأحكام.
أو باحتمال العكس.
أو يراد إنَّا كفرنا بما أرسلتم به من حيث الجملة.
وإننا لفي شكٍّ في الرسل بدليل قوله: (أفِي اللَهِ شَك) ، فهم كفروا باللهِ
وكفروا بما جاءت به الرسل من عنده.
وقد قدمنا أنَّ قَوْلَ الرسل: (أفي اللهِ شَكٍّ) إشارة إلى تقليل الشكِّ، أي لا يتصور أن يقعَ شكّ في الله بوَجْه وإن قل، فإذا أنكروا أنْ يكونَ أمر الله حيِّزاً للشك مع قلَّته فأحْرَى أنْ يكون الشكّ حيَزًا مع كثرته.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) :
لما كان وجود اللَهِ أمْراً نظريا ليس بضروري، وكون الرسل مثلهم أمراً ضرورياً لا يحتاج إلى(3/312)
نظر لظهوره قالوا لهم هذا لا لغيرهم.
ومعناه يمنّ على مَنْ يشاء بالإيمان والخروج
عن دين آبائه، فلما سمعوا هذا منهم آذَوْهم فقالوا لهم:
(ولنصبرنَ على ما آذَيْتمونَا) :
وما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية، والعائد محذوف تقديره آذيتموناه أو آذيتمونا به.
(وقال الذين كفروا لرسلهم) .
قد قدمنا في حرف الكاف أن الرسل لم يكونوا في ملّة قومِهم قبل الرسالة.
(وما ذلِكَ على اللهِ بِعَزيز) ، أي بمتعذر ولا صَعْب.
وأَحسن منه بمتعسِّر، لأن قوله: (إنْ يَشَأْ يُذْهبكم) ، أفاد إمكانه، فإنه غير متعذر.
(وبَرَزوا للَهِ جميعا) :
قد قدمنا معنى البروز وحرف الباء، وحينئذ فيقول الضعفاء.
فإن قلت: لِمَ عَبَّر هنا وفي غافر بالاسم، وفي سبأ: (يقول الذين استضعفوا لِلَّذِين استكبروا) ؟
والجواب: أن الاسم يقتضي الثبوتَ، وكلما ثبت الأخص ثبت الأعَم، فإذا
كان مطلق الاستكبار يمنع من إيمان مَنِ اتَّصفَ بأخصّ الضعف فأحْرى أنْ يمنع
من إيمان من اتصف بأعَمِّه.
وأما سورة سبأ فالمراد فيها تبعيّة مَنِ اتّصف بمطلق الضعف لمن اتصف بمطلق الكفر، فإذا كان وجود مطلق الاستكبار لا ينفع لمن اتصف بمطلق الضعف فأَحرى أَلا ينفع لمن اتصف بأخصه ولا ينعكس.
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ) :
هذا إما على التوزيع، فلكلِّ واحد جنَّة أو لكل واحد جنات، و (خالدين فيها) حال من الذين آمَنوا مقدَّرة، لأن الدخول غَيْر مقارن لزمن الدخول.
فإن قلت: ما فائدة ذِكْر الأنهار في كل موضع يذكر فيه الجنة مع أنَّ الجنة
معلومة بالماء؟(3/313)
والجواب: أنَّ التمدح بالماء معلوم عند الناس، لأنه أصل كلِّ لشيء.
وحُكي أنَّ بعض ملوك الروم كان يهْدِي لمعاوية ويُهاديه معاوية، فطلب مرة
من معاوية أن يبعثَ له بأصل كل شيء، فاستشار معاوية خواصَّه، فأشار إليه
عبد الله بن عباس بأنْ يبعثَ له قارورة مملوءة بالماء، فلما بعثها له قال له الرومي:
ما أشار عليكَ بهذا الأمر إلا مَنْ فيه عضو من النبوءة.
(واستفتحوا) :
الضمير للرسل، أي استنصروا بالله.
وأصله طلب الفتح، وهو الحكم.
(ويُسْقَى من ماءٍ صَدِيد) :
معطوف على محذوف، تقديره من ورائه جهنم يُلْقَى فيها ويُسْقى، وإنما ذكر السقي تجريدا بعد ذكر جهنم، لأنه من أَشدّ عذابها، ألا ترى كيف علّله بقوله: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) ، لأن اللهَ قضى عليهم ألاَّ يموتوا، فسبحان من حبس أرواحهم مع هذه الكربات.
(وفَرْعُها في السماء) :
الضمير يعود على الشجرة التي أصْلُها ثابت.
وقرئ: ثابت أصلُها، والقراءة المشهورة أبلَغ، لأن " ثَابث أصْلهَا " صفة
رفعت الفاعل، فهي في معنى الفعل، وأصلها ثابت مبتدأ وخَبر، فليس في معنى الفعل، والإخبارُ بالاسم عندهم أبْلَغُ من الإخبار بالفعل، فلذلك كان زيد أبوه قائم أبلغ من زيد قائم أبوه.
فإن قلت: كيف عَبَّر عن الكلمة الطيبة بالفعل، وعبَّر عن الكلمة الخبيثة
بالاسم فرفع؟
والجواب: المؤمن له حالتان: انتقل مِن الكفر إلى الإيمان، والكافرُ له حالة
واحدة ثبت عليها، ولم ينتقل عنها، فلذلك عَبَّر عن مثله بالاسم.
وقد قدمنا أنَّ أصحاب الشجرة أربعة.
(وأنزل من السماء ماء) : كلّ ما علاَكَ يسمى سماء، وسمي(3/314)
السحاب سحاباً لعلوِّه، وهذا جارٍ على الخلاف في المياه على ما قدمنا، هل هي من السماء، أو هي من بخارٍ لطيف يصعَد من البحار فيتكوّن منه السحاب، والصحيح الوقف.
(وسَخَّر لكم الفُلْكَ لتَجْرِيَ في البحر بأمْرِه) :
هذا مثل: (ولا طائر يطير بجناحيه) ، لأن جَرْيَها ليس إلا في البحر، وجَرْيها في البحر لا يقع إلا بإذن الله.
فإن قلت: ما فائدة قوله: (بأمره) مع أنه معلوم؟
والجواب: لما كان لجَرْيِها أسبابٌ في محاولة البحر وخدمة النواتية ربما يُتَوَهم
أنّ جَرْيها بسبب ذلك، فاحترس منه بقوله: (بأمره) ، وبهذا تفهم الحكمةَ في إدخال اللام في قوله في الواقعة: (لو نشاء لجَعَلْنَاهُ حُطَاماً) ، دون إدخالها في قوله: (لو نشاء جعلناه أجَاجاً) ، لأن الأول فيه لابن آدم تسبب ومحاولة، فقد يتوهّم أن ذلك من فعلهم، بخلاف الماء فإنهم لا تسبّب لهم في كونه حُلْواً.
(وآتاكمْ مِنْ كل ما سَألْتُموه) :
مِنْ للتبعيض، و (كلِّ)
للعموم، ومتعلقهما مختلف، فالعموم في الأنواع، والتبعيض في أنواع تلك
الأشخاص، أي وآتاكم بَعْضَ كلَّ نوع مما سألتموه.
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) :
إفراد النعمة من باب التنبيه بالأدْنى على الأعلى، بمعنى أنَّ الإنسانَ لا يستطيع إحاطة جزئيات النعمة الواحدة، فأحرى ما هو أكثر.
و (نعمة) مصدر محدود بالتاء، فليس المراد به الجنس، بل هو مفرد حقيقة، بدليل أن المصدر المحدود بالتاء يجوز تَثْنيته وجَمْعه، بخلاف المبهم.
فإن قلت: الشرط لا يكون مناقِضاً للجزاء، فلا تقول: إن قام زيد لم يقدر
على القيام، والعدُّ هو عين الإحصاء؟(3/315)
والجواب: معناه إنْ أردتم أنْ تعدّوا نعمةَ الله لا تحصوها، مثل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
وانظر كيف وصف الإنسان بالظلم وجحد النعمة، والمراد به العموم، إلا إن
استثنى، كقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
(وَهَبَ لي عَلى الكبَر إسماعيلَ وإسحاق) :
حمد إبراهيم ربَّه على أنْ ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاماً.
والحمد مشتق من التثنية، فهو إنما يصدق على مَنْ حمد مرةً بعد أخرى، وكذلك هذا، لأن وجود إسماعيل مقدم على إسحاق، فقد صدق أنه حمد مرتين.
قال الزمخشري: على بمعنى مع، أو بمعنى في، والأول أولى، لإفادتها زَمَن الكبر كلّه على الجملة.
(ولا تحسبَنَّ الله غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظالمون) :
هذه الآية بجملتها فيها وَعيدٌ للظالمين وتسليةٌ للمظلومين.
والخطابُ لنبينا - صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هو - صلى الله عليه وسلم - غير غافل، وعطف هنا بالواو وفيما بعدها بالفاء؟
والجواب: أنَّ معْناها الثبوت على علمك يا محمد، ومن اعتبر من أمتك
وغيرهم أن الله لا يُنْجِز ميعادَه في أخْذِ الظالم حين ظُلْمه، فإن الله يمهله، ولذا
عطف الآية بعدها بالفاء، وقد يعجل العقوبة على بعض الظالمين لرحمته بهم، وإن أخرهم ليوم تشْخَصُّ فيه الأبصار فسيعلمون ما يلحقهم.
فإن قلت: لِمَ تَعلَّق النفْى هنا بالأخص، ونفي الأخصّ لا يستلزم نَفْيَ
الأعم، لأنَ الحسبان النفي مؤكَّد بالنون الشديدة، فهو أخصُّ من مطلق
الحسبان؟
والجواب: بأن النون دخلت على الفعل النفي، فأكَّدَتْه، لأنَّ النّفْيَ دخل على الفعل المؤكد فنفاه، فهو تأكيد للنفي لا نفي للفعل المؤكد، فهو نَفْي أخصُّ لا نفي أعم.(3/316)
فإن قلت: ما فائدة شدة الوعيد على الظالم؟
فالجواب: أن الله لما ذكر الإنسان أنه ظلوم جحود لنعمةِ الله لا يستغني بما
أحِلَّ له عما حُرم عليه، وكان الواجب في حقه أنْ يشكرَ اللَهَ على ما آتاه، ولو لم يشكره على نعمه كلّها فالواجبُ عليه الشكر على بعضها، إذ لا يقدر أحدٌ على إحصائها، كما قال تعالى، فلما كفر نِعَمَ اللهِ عليه وتَعدَّى كفره إلى ظلم أخيه الضعيف بالغ بهذا التهديد العظيم، لعله يرجع، كما جرى لبعضهم لا ظلم، فقال له الظلوم: أشكوكَ إلى السلطان.
فقال له: السلطانُ يعرفني، فقال أشكوك إلى الله، فلما لقِيَه بعد أيام قال له كالمستهزئ به: ما قال لك الله، فقرأ عليه الآية، فاسترجع الظالم وأناب.
وهكذا حال من أراد الله هدايته.
فإن قلت: ما مناسبة هذه الآية لقوله تعالى: (إن الإنسان لظلوم كفار) ، وختم آية النحل بقوله: (إن الله لغفور رحيم) ؟
والجواب: أنه تقدم آية إبراهيم: (ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين بَدَّلُوا نعمةَ اللَهِ كُفْراً) .
. . إلى قوله: (وآتاكُمْ من كلِّ ما سَألْتُموه) ، فناسبه ما ذكره تعالى من توالي إنعامه ودُرور إحسانه، ومقابلة ذلك من العبيد بالتبديل، وجعل الأنداد - وصف الإنسان بأنه ظلوم كفار.
وأما آيةُ النحل فلم يتقدمها غير ما نبّه سبحانه لعباده المؤمنين من تَوَالي آلائه وإحسانه وما ابتدأهم به من نِعَمه من لَدن قوله: (خلَق الإنسانَ من نطفة) .، فذكر بضعاً وعشرين من أمهات النعم إلى قوله - منبهاً وموقظاً من الغفلة والنسيان: (أَفَمَنْ يَخْفق كَمَنْ لا يَخْلُق) ، فناسب ختام: (وإنْ تَعُدّوا
نعْمةَ اللَهِ لا تحْصوها) بالغفران.
فانظر هذا اللطف الجميل بعباده والتناسب الواضح.
(وتَبَيّنَ لكم كيف فَعَلْنَا بهم) :
يفهم من هذه الآية أن التواتر يُفيد العلم، لأنهم لم يتبين لهم ذلك إلا بالإخبار عن الأمم السابقة.(3/317)
(وليَعْلَموا أنما هو إلهٌ وَاحد) .
الآية: تفيد أنَّ الوحدانية تثبت بالسمع، وهو أحَذ القولين عند الأصوليين، وأتَتْ هذه الآية بالتعري من تاء التفعل لتقدُّمها قوله تعالى: (ولِيُنْذَرُوا به ولِيَعْلَموا) ، وقد عريت الكلمتان من حروف الشدة، فعطف عليه:
(ولِيَذكَّرَ) ، لأن جميعها من الرخوة بخلاف آية (ص) ، فإن قبلها
(لِيَدَّبَّرُوا) ، وفيه حرفان من حروف الشدة، فناسبهما: " وليتذكر ".
والتناسب واضح.
(وما بكم من نِعمةٍ فمِنَ الله) : نبَّه اللهُ عبادَه بهذه الآية
مؤمنهم وكافرهم على أنْ يشكروه ويتأدبوا معه.
ويؤخذ منها أنَّ الكافر منْعَمٌ عليه، وقيل غير منعم عليه، للآية: (أنما نمْلِي لهم ليَزْدَادوا إثْما) .
وقيل منعم عليه في ظاهر حاله في الدنيا، وغير مُنْعم عليه في عاقبته ومآله، وتنكير (نعمة) للعموم لا للتقليل، إذ لا يوصف عطاء الله بالقلة، وقوله: (ثم إذا مَسَّكم الضرَّّ فإليه تجأرون) :
المهلة معلومة، لبعد ما بين غفلة الإنسان وذهوله من النعمة، وما بين تضرّعه وذلته زمَن الضر، كقوله:
وما يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَراتِ الموتِ ثم يَزورُها
ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو للحال، فيكون الكلامُ متصلاً بما
قبله، أي كيف تتّقُون غَيْرَ الله وما بكم من نعْمةٍ فمنه وحْدَه، وبهذا يظهر لك تناسب الآيات.
(واتّبعْ أدبارهم) ، أي كن خَلْفَهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد، وليكونوا قُدّامه، فلا يشتغل قَلْبه بهم، ولو كانوا وراءَه
لاشتغل لخوْفِه عليهم، وبهذا يَظْهَر لك رحمةُ لوط بقومه الذين آمنوا معه.
(واللَهُ يعلم ما تسِرون وما تعْلِنون) :
لما تقدم هذه الآية:(3/318)
إن الله لا يؤاخذ عباده بعدم القيام بشكر النعم لذكره المغفرة والرحمة عقب قوله بهذه الآية، أي ما تحدِّثُون به أنفسكم، وليس المراد السر في اصطلاح الفقهاء.
وتضمنت الآية الإشعار باتصاف الله تعالى بالقدرة والعلم، فالقدرة بقوله:
(أفَمَنْ يَخْلُق كَمَنْ لا يَخْلُق) ، وهذا للعلم.
وعطف (ما يسرون وما يعلنون) للتسوية، فهو أمر استَأثر اللهُ به، كما قال: (إنَّ الله عنده عِلْمُ الساعة) .
(وإنَّ لكم في الأنْعام لَعِبْرَةً) :
لما كان التفكر منفعة عامة في العاقل وغيره أعقبه بالمنفعة الخاصة بالعاقل، وأكّده بأنّ واللام لغفلة المخاطب عن الاعتبار والتذكر، لا لكونه منكراً لذلك.
وقد قدمنا في حرف الفاء أن زيادة لكم تنبيه على العبرة، والعبرة يُرَاد بها الاتّعاظ، لقوله: (فاعتبروا يَا أولِي الأبصار) .
(ومما يَعْرِشون) :
قد قدَّمنا أن الله تعالى أوحى إلى النحل أَنْ تتخذ البيوت في الجبال والشجرِ وبيوتِ الناس حيث يعرشون، أي يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيوتاً في غير هذه الثلاثة ألبتَّة.
وتأمل كيف كان أكثر بيوتها في الجبال، وهو المتقدم في الآية، وفي الأشجار
وهي دون ذلك، ومما يعرش الناس، وهي أقلّ بيوتها.
وانطرْ كيف رآها حسنة الامتثال إلى أن اتّخَذَت البيوتَ قبل المرعى فهي
تَتخذها أولاً، فإذا استقرَّ لها بيتٌ خرجت منه وَرَعَتْ، فأكلت من كلِّ
الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربَّها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً، ثم
بالأكل بعد ذلك.
قال في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، إذ فيه أوحى
الله إلى النحل صنعةَ العسل.
قال الغزالي: لؤ تأملت عجائبَ أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها من النجاسات والأقذار وطاعتها لواحدٍ من جملتها، وهو أكبرها شخصا، وهو أميرها، ثم ما سخّر اللَّهُ له من أمرها من العدل(3/319)
والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ كلّ ما وقع على نجاسة
لقضيْتَ من ذلك العجب إنْ كنْتَ بصيراً في نفسك، وفارغاً من هَمِّ بطنك
وفَرجِك وشهوات نفسك في معَاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنيانها من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مُرَبّعاً ولا مخمَّساً، بل مسدساً لخاصية في ميل المسدس يقصر فَهم الهندسين عن دَرك ذلك، وهو أنَّ أوسع الأشكال وأحْوَاها المستدير، وما يقرب منه، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فتركَ المرَبّع حتى لا تبقى الزوايا فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارجَ البيوت فُرَجٌ ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصَّة، ولا شكل من الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فُرْجة إلا المسدس وهذه خاصية هذا الشكل.
فانظر كيف ألهمَ اللَّهُ تعالى هذا النحل على صِغَر جرمه لُطْفاً به وعنايةً
بوجوده فيما هو محتاج إليه ليتهنّأ عيشه، فسبحانه! ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه!
ولو ذكرنا منافع النحل، وما أوْدع فيها لاحتاج إلى مجلد، ولذلك مثّل - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بالنحلة إن صاحَبْتَه نفعك، وإن سارَرته نفعك، وإن جالسته نفعك.
وكذلك النحلة على ما فيها من منافع.
قال ابن الأثير: وجه المشابهة من المؤمن في النحلة حِذْق النحل في فِطنته وقلة
أذاه وحقارته ومنفعته وقناعته وسَعْيه في الليل وتنزهه عن الأقذار، وطيب
أَكْله، لأنه لا يأكل من كسب غيره، وتحوله وطاعته لأميره، وإنَّ للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله ظُلمة الغفلة، وغَيْم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعية، ونار الهوى.(3/320)
وفي مسند الدارمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كونوا في
الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس في الطير شيء إلاَّ وهو يستَضْعفها، ولو تعلم الطّيْرُ ما في أَجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناسَ بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإنَّ للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحبَّ.
والمعروف من قول علي بن أبي طالب أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم.
فأشرَفُ المطعوم العسل، وهو قيء ذباب، وأشرف المشروبات الماء يستوي فيه البرّ والفاجر.
وأشرفُ الملبوسات الحرير، وهو نسج دودة.
وأشرف المركوبات الخيل، وعليها يقتل الرجال.
وأشرف المشمومات المسك وهو دَمُ حيوان.
وأشرف المنكوحات المرأة وهو مبال في مبال.
وروى الكواشي في تفسيره الأوسط: أن العسلَ ينزل من السماء فينبت في
أَماكن، فتأتي النحلُ فتشربه، ثم تلقيه في الشمع المهيَّأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض الناس أنَ العسل من فضيلات الغذاء وأنه قد استحال في المعدة عسلاً، هذه عبارته.
ومما يدلك على كمال قُدْرته سبحانه أنه جمع في النحلة السمّ والعَسل، دليل على كَمالِ قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجاً بالشمع، كذلك عمل المؤمن ممزوج بالْخَوْف والرجاء.
وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء، والحلاوة، واللين، كذلك المؤمن، قال تعالى: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، يخرج من الشاب
خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، كذلك حال المقتصد والسابق، أمرها اللَه تعالى بأمرِ حتى صار لعابها شفاء، ودواء الأطباء مرٌّ، ودواء الله حُلو، وهو العَسَل، وهي تأكل من كلّ الشجر، ولا يخرج منها إلا حُلْو، ولا يعتريها اختلافٌ بأكلها، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) .(3/321)
(وشارِكْهم في الأمْوَال) :
بكسبهم للربا والحرام، وإنفاقها في المعاصي، وغير ذلكَ، والأولاد باستيلاد أولاد الزنى، وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك.
(وعِدْهم) :
من المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وغير ذلك.
(وكيلاً) :
قدمنا أن الوكيل هو القائم بالأمور الكافي.
(وَصيد) :
باب الكهف، وقيل عتبته.
(ولْيَتَلَطَّف) :
أي في اخْتِفائه، وتخيّله، لأنهمِ خافوا على أنفسهم في بَعث أحدهم إلى المدينة، وكانت الورق التي أعطوها فضة تزودوها حين خروجهم إلى الكهف، وأخذ من قضيتهم: تزود المسافر أفضل مِن تركه.
فإن قلت: كيف اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم؟
فالجواب كأنهم قالوا: (ربُّكم أعلم بما لبِثْتم) ، ولا سبيلَ
لكم إلى العلم بذلك، فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفَع لكم، فابعثوا أحدكم إلى المدينة.
قيل إنها طرسوس.
(وَلبِثوا في كَهفِهم ثلاثَ مائةٍ سِنينَ وازْدَادوا تِسْعاً) :
في هذه الآية قولان:
أحدهما أنه حكاية حال عن أهل الكهف، يدل على ذلك ما في قراءة ابْنِ مسعود: وقالوا لبثوا في كهفهم، وهو معطوف على قوله:
(سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كَلْبُهم) ، فقوله: (قُل الله أعْلَم بما لَبِثوا) .
ردَّ عليهم في هذا العدد المحكي عنهم.
والقول الثاني أنه من كلام الله تعالى وأنه بيان لما أجمل في قوله: (فضرَبْنَا
على آذَانِهم في الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ، ومعنى قوله (قل الله أعلم
بما لبثوا) ، أي أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم.
وقد أخبر بمدة لبثهم، فإخباره هو الحق، لأنه أعلم من الناس، فكان قوله: (قُل الله أعلم)(3/322)
احتجاج على صحة ذلك الإخبار، وانتصب (سنين) على البدل، أو عطف
البيان، أو على التمييز، وذلك على قراءة التنوين في ثلاث مائة.
وقرئ بغير تنوين على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد.
(وأُحِيطَ بثَمره) :
عبارة عن هلاكه.
(وأعَز نَفَرا) ، يعني الأنصار والخدم.
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) :
أفرد الجنةَ هنا لأنه إنما دخل الجنةَ الواحدة من الجنتين، إذ لا يمكن دخولها معاً في دَفْعَة واحدة.
(ويقول يا ليتني لم أشْرِك بِرَبِّي أحَداً) :
قال ذلك على وجه التمني لما هلك بُسْتَانه، أو على وجه التّوْبة من الشرْك.
(وترَى الأرْضَ بارِزةً وحشَرْنَاهم) ، أي ظاهرة لزوال الجبال عنها.
(وتلْكَ القُرَى أهلَكنَاهم لَمَّا ظَلمُوا) :
الإشارة إلى عاد وثمود وغيرهم من المتقدمين.
والمرادُ أهل القرى، وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفّار قريش.
(وَرَاءَهم) :
قيل قدامهم.
وقرأ ابنُ عباس أمامهم.
وقال ابن عطية: إنَّ وراءهم على بابه، ولكن رُوعي به الزمان، فالوراء هو المستقبل، والأمام هو الماضي.
(ويسألُونَكَ عن ذِي القَرْنَيْن) :
الإشارةُ إلى قريش بإشارة اليهود لهم على اختلاف الروايات، وذلك أنهم سألوه عن الروح، وفتية أهل الكهف، وذي القرنين، وقد ذكرنا أنَّ الله مَكَّن له في الأرض ودانت له ملوكها.
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) .
المعنى أن الناس تموج يومَ القيامة كموج البحر.(3/323)
وقيل: إنَّ الضمير يعود على يأجوج ومأجوج، والأول أرجح، لقوله بعد ذلك: (ونفخ في الصور فجمَعْنَاهم جَمعاً) .
(وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) :
قد قدمنا أن هذا استعارة للشيب، من اشتعال النار، وهذا القول من زكرياء حين ضعف فطلب من الله أنْ يهب له الولد.
(ولم أكنْ بدعَائِكَ رَبِّ شَقِيا) :
أي قد سعدتُ بدعائي لكَ فيما مضى.
فاستجِبْ لي في هذا، فتوسَّلَ إلى الله بإحسانه القديم إليه، ولذلك
قيل:
إذا أثنى عليكَ المرء يوماً ... كفى من تعرّضه الثناء
(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) ، أي من بعدي.
قيل: خاف أن يرثه أقاربه دون نَسْله (1) .
وقيل: خاف أنْ يضيِّعوا الدِّينَ من بعده، فطلب من
الله إقامة دينه، ولهذا قال: (واجعله رَبّ رَضِيًّا) ، فاستجاب الله
دعاءه وبشّره بيحيى الذي لم يجعل له من قبل سمِيًّا.
(واهْجرْنِي مَلِيًّا) :
عطف (اهجرني) على محذوف تقديره: احذر رَجمي لك حينا طويلا.
وقال هذا لإبراهيم لما أَيِس من اتَباعه.
(وَفْدًا) :
قد قدمنا أنَّ الوفد هو الراكب، وسرُّ تخصيص المتقين بالوفد لإكرامهم.
وقد صح أنهم يُحْشرون ركباناً.
وأما الكفار فـ (عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) .
(وَزِيراً) .
أي معيناً، وإنما طلب موسى أخاه ليشدَّ به أزْرَه، أي يقوِّيه.
ويؤخذ منه الاستعانة على الأمور بمَنْ هو أقوى، ولذلك قال موسى
(وأخي هارون هو أفْصَح مني لسانًا) .
(وإنَّ لكَ موعدًا لن تخْلَفَه) :
يعني العذابَ في الآخرة زيادة على عذاب الدنيا، وكان عذابه في الدنيا كما قال: (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ) .
__________
(1) هذه الأمور الصغيرة يترفع عنها مقام الأنبياء، ومن ثَمَّ فلا يجوز نسبة ذلك وما شابهه لهم - صلى الله عليهم وسلم. والله أعلم.(3/324)
والصحيح أنَّ الله تاب على السامري وغفر له لسخائه (1) .
(ورضِي قوله قَوْلاً) :
إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع له فاللامُ في له بمعنى من أجله، أي رضي من المنافع من أجل المشفوع فيه.
وإنْ أراد الشافع فالمعنى رَضِيَ قولَه في الشفاعة.
(ولا يُحيطون به عِلْماً) :
قيل المعنى: لا يحيطون بمعلوماته، كقوله: (ولا يُحيطون بشيء مِن عِلْمه إلا بما شاء) .
والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفةِ ذاته، إذ لا يعْرِف الله على الحقيقة إلا الله، ولو أراد المعنى الأول لقال: ولا يحيطون بعلمه، ولذلك استثنى هناك (إلا بما شاء) ، ولم يستثن هنا.
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) :
الكلمة هنا القضاء السابق بتأخير العذاب عنهم.
(لكَان لِزاماً) : أي واقعاً بهم.
(ولو أنَّا أهلكنَاهم بعذاب مِن قَبْلِه) .
أي قبل مبعثك يا محمد لاحتَجُّوا وقالوا: لولا أرسلْتَ إلينا رسولاً، فبعثتُكَ لتكونَ لنا الحجةُ عليهم ببَعْثِك لهم.
(وأسَرّوا النَّجْوَى) :
الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله، (والذين ظلموا) ، بدل من الضمير.
(وَلا يَسْتَحْسِرون) ، أي لا يعيون ولا يملُّون.
والضمير يعود على الملائكة، وكيف يملُّون وقد أعانهم اللهُ وقوَّاهم على عبادته، فأين عبادتك منهم، وماذا يخطر ببالك من مُزَاحمتهم.
(ولا يشفَعون إلاَّ لِمَنِ ارْتضَى) .
أي لمن ارتضى اللهَ بالشفاعة له ويحتمل أن تكون شفاعة الملائكة للعاصي في الدنيا بالاستغفار له أو في الآخرة.
(وَسْوَسَ) :
قد قدمنا أنه يُقال لا يقع في النفوس وسواس.
__________
(1) يفتقر إلى دليل، وظاهر القرآن على خلافه. والله أعلم.(3/325)
ولا يقع من عمل الخير إلهام من الله.
ولا يقع من التقدير الذي لا على الإنسان ولا له خاطر.
(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ) .
أي على فرض أن قالوا ذلك، ولكنهم لا يقولونها، وإنما مقصود الآية الرد على المشركين.
وقيل: إن الذي قال إني إله إبليس.
(وهو الذي خلَقَ الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون) : التنوين في كل عوض من الإضافة، أي كلهم في فلك يسبحون، يعني الشمس والقمر دون الليل والنهار، إذ لا يوصف الليل والنهار
بالسبح في الفلك، فالجملةُ في موضع الحال من الشمس والقمر، أو مستأنفة.
فإن قيل لفظ كلّ ويسبحون جمع، يعني الشمس والقمر وهما اثنان؟
فالجواب أنه أراد جِنْسَ مطلعها كلّ يوم وليلة.
وهي كثيرة، قاله الزمخشري.
وقال الغزنوي: أراد الشمسَ والقمرَ وسائِرَ الكواكب السيارة، وعبَّر عنها بضمير الجماعة العقلاء في قوله: يسبحون، لأنه وصفهم بفعل العقلاء، وهو السبح.
فإن قلت: كيف قال في فلكٍ وهي أفلاك كثيرة؟
والجواب أنه أراد كلّ واحد يسبح في فلكٍ، وذلك كقولك: كساهم الأمير
حلة، أي كسى كلَّ واحد منهم حلَّة.
ومعنى الفلك جسمٌ مستدير.
وقال بعض المفسرين: إنه مذموم، وذلك بعيد.
ومعنى يسبحون، أي يجْرُون أو يدورون، وهو مستعار من السبح بمعنى
العَوْم في الماء.
وقد قدمنا أن مجاري القمر ثمانية وعشرون، لأنه يقطع الفلك في
شهر، ومجاري الشمس مائة وثمانون لأنها تقطع الفلك في سنة.
ووجهه أنَّ السنة ثلاثمائة وستون يوماً ونصفها مائة وثمانون فهي تقطع في نصف السنة ستة بروج، ثم ترجع صاعدة أو هابطة فتمشي في نظائر تلك البروج.
فما مجاريها في الحقيقة إلا ستة بروج، فسبحان من دَبَّر الأشياء كيف شاء وأتقنها بحكمته، فلا يعلم أحد بحقيقتها إلاَّ من أطَّلَع عليها.(3/326)
(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) ، أي حفظنا أمْرَ سليمان وما صنع من الفساد.
وقيل معناه: عالمين بعددهم.
(وكذلك نُنْجِي الْمُؤْمِنين) ، أي مطلقاً من همومهم، أي إذا دعوا بدعاءَ يونس: (لا إله إلا أنْتَ سبحانك إني كنْتُ من الظالمين) .
وقد قدمنا في قصة الحديث: " دَعْوة أخي ذا النون ما دعا بها مكروب إلا استُجيب له ومن دَعَا بها في مرضه أربعين مرة فمات غُفر له ".
(والتي أحصَنَتْ فَرْجَها) :
ضمير التأنيث يعود على الصديقة المطهرة، لقولها: (لم يَمْسَسْنِي بشَر) ، فأحصنَتْه عن الحلال والحرام، حتى أراد اللهُ فيها ما أراد، وقد قدمنا قصتها.
(وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) :
قرئ بكسر الحاء بمعنى حرم (1) .
واختلف في معنى الآية، فقيل حرام بمعنى ممتنع على
قرية أهلكها اللَّهُ أن يرجعوا إلى الدنيا، ولا زائدة في الوجهين.
وقيل حرام بمعنى حتم لا محالة، ويتصور فيه الوجهان، وتكون لا نافية فيهما، أَي حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتّوبة، أوْ حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا.
وقيل المعنى ممتنع على قرية أهلكها اللَّهُ أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة " ولا " على هذا نافية أيضاً، ففيه رد على من أنكر البَعْثَ.
(ولقد كتَبْنَا في الزَّبُورِ من بعد الذِّكْرِ) :
فيه قولان:
أحدهما أنه كتاب داود، والذكْر هنا التوراة التي أنزل اللهُ على موسى، أو ما في الزبور من حكم الله تعالى.
والقولُ الآخر أنَّ الزبور جنس الكتُب التي أنزلها اللهُ على جميع الأنبياء، وذلك خمسين صحيفة على شيث، وثلاثين لإدريس، وعشرين لإبراهيم، والتوراة لموسى، والزبور لداود، والإنجيل لعيسى، والفرقان لمحمد
صلوات الله عليهم أجمعين.
والذكر على هذا اللوح المحفوظ، أى كتب اللَهُ هذا في الكتاب الذي أفرد له بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ، حين كتب الأمور
كلها.
والأولُ أرجح، لأن إطلاقَ الزبور على كتابٍ واحد أظهر وأكثر
__________
(1) القراءة بكسر الحاء وحذف الألف الألف هكذا (وَحِرْمٌ) وهي قراءة شعبة وحمزة والكسائي. انظر (إتحاف فضلاء البشر. ص: 394) .(3/327)
استعمالاً، ولأن الزَّبور مفرد فدلالتُه على الواحد أرجَحُ من دلالته على الجمع، ولأن النصَّ قد ورد في زبور داود بأن الأرض يَرِثُها الصالحون، والأرضُ على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها.
وقيل الأرض المقدسة.
وقيل أرض الجنة:
والأول أظهر.
والعبادُ الصالحون في الآية أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ففي الآية ثناء عليهم، وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود، إذ فتح الله لهذه الأمَّة مشارقَ الأرض ومغاربها.
(وأنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يريد) :
قال ابن عطية: أنَّ في موضع خبر الابتداء، والتقدير الأمر أنَّ اللهَ، وهذا ضعيف، لأن فيه تكلفَ إضمارٍ وقطعاً للكلام عن المعنى الذي قبله.
وقال الزمخشري: التقدير أن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات، فجعل أن تعليلا للإنزال، وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو، والصحيح عندي أنَّ قوله: وأن الله معطوف على آيات بينات، لأنه مقدر بالمصدر، فالتقدير أنزلناه آيات بينات، وهذا لمن أراد الله أن يهديه.
(وكثير من الناس) :
إنْ جعلنا سجودَ مَنْ في السماوات والأرض بمعنى الانقياد للطاعة فيكون (كثير من الناس) معطوف على ما قبله من الأشياء التي تسجد، ويكون قوله: (وكثير حقَّ عليه العذَاب) ، مستأنف يراد به الانقياد للطاعة، ويوقف على قوله: (وكثير من الناس) ، وهذا القولُ هو الصحيح.
وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاءَ الله وتدبيره
فلا يصحّ تفصيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد، لأنَّ جميعهم
يسجد بذلك المعنى، وقيل: إن قوله: (وكثير من الناس) معطوف على ما
قبله، ثم عطف عليه (كثير حق عليه العذاب) ، فالجميع على هذا يسجد، وهذا ضعيف، لأن قوله: حقَّ عليه العذاب يقتضي ظاهِرة أنه إنما حقَّ عليه
العذاب بتَرْكهِ السجود.
وتأوّله الزمخشري على هذا المعنى بأن إعراب كثير من(3/328)
الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد له كثير من الناس سجودَ طاعة، أو
مرفوعاً بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب، وهذا تكلُّف بَعِيد.
(وذوقُوا) :
التقدير يقال لهم: ذُوقوا.
(ولُؤْلؤا) - بالنصب - مفعول بفعل مضمر، أي يحلَّوْن لؤلؤا أو معطوف على موضع من أساور، إذ هو مفعول، وبالخفض معطوف على
أساور أو على ذهب.
(وَأذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ) : خطاب لإبراهيم.
وقيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، والأول أصح لوروده في الصحيح أنه لما بنى البيت أمره أنْ ينادِي الناس، فقال: يارب، وأين يبلغ أذَاني، فقال: يا إبراهيم، منك الأذَان وعلينا الإبلاع، فصعد على جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس، إنَّ اللهَ أمركم بحج هذا البيت، فحجّوا، فسمعه كلّ مَنْ يحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم، وأجاب في ذلك الوقت كل شيء من جماد أو غيره، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، فجرت التلبية على ذلك.
وقيل: مَنْ لبى مرةً حجَّ مرة، ومن لبّى غير ذلك حجَّ على عدد التلبية.
(وجَبَتْ جُنوبُها) ، أي سقطت إلى الأرض عند موتها.
يقال وجب الحائط وغيره إذا سقط.
وقد قدمنا أنَّ هذه اللفظة تطْلَق على معان كثيرة.
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) .
بيَّن الله في هذه الآية عَجزَ الأصنام بحيث لو اختطف الذبابُ منهم شيئاً لم يقدروا على استنقاذِه حال ضعفه.
وقد صَحَّ أنهم كانوا يجعلون على أصنامهم الطيب وغيره
من ألوان الأطعمة، فيأتي الذبابُ فيخطفه، ولا يقدرون على خلاصه منه، وهو أقلُّ الخلق.
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله في تجهيل قريش ورَكاكة عقولهم،(3/329)
وكيف لا وقد وصفوا آلهتَهم بالقدرة والعلم، ولا يقدرون على هذا الخلق الضعيف، ولا يَنْتَبِهون لعمايتهم وضَلاَلهم، فهمْ أضلّ من البهائم، ولذا ورد الحديث: " إذا وقع الذبابُ في إناء أحدكم فَلْيلْقِه فإنَّ في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء، وإنه يتَّقي بجناحه الذي فيه الداء ".
فإن قلت: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك في نفسها حتى تقدِّمَ جناحَ الداء وتؤخر جناحَ الشفاء، وما حملها على ذلك؟
والجواب: أنَّ هذا غير منْكر، لأنا نجد في أنفسنا وفي أنفس عامةِ الحيوان
قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادّة إذا تلاقَتْ تفاسدت، ثم إن الله تعالى قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي فيها بقاؤها وصلاحها لجدير ألاَّ يذكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد، وإن الذي أَلهمَ النحلةَ لاتخاذ البيتِ العجيب الصنعة، وألْهَم الذرة أنْ تَدَّخر قوتها، وتدخره لأوَان حاجتها إليه هو الذي خلق الذّبابة وجعل لها الهدايةَ إلى أن تؤخَر جناحا وتقدِّمَ جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مَدْرجة التعُّبد، والامتحان الذي هو مِضْمَار التكليف، وله في كل شيء حكمة وعنوان.
(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) .
وقد تأملت الذباب فوجدته يتقِي بجناحه الأيسر، وهو مناسب للداء، كما
أنَّ الأيمن موافق للدواء، واستفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائِع أنه يموت فيه ولا يتنجس، وفي ذلك يخرج أنَّ ما يعلم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعمّ كالخنافس والعقارب تنجس، وهو متَّجِه لا محيد عنه.
(وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، أي حرم الزنى.
وقيل حرم تزوّج الزانية لغير الزاني، فإن قوماً منعوا أنْ يتزوجها أحد، وهذا على القول الثاني في الآية قبلها، وهو بعيد لجوازِ تزوّج الزانية.
وروي كراهة تزوجها.
(وأنْكحوا الأيَامَى مِنكم) :
معناه الذين لا أزواج لهم رجالاً كانوا أو نساء أبكاراً أو ثيِّبا.
والخطاب هنا للأولياء والحكام، أمرهم اللَّهُ بتزويج(3/330)
الأيَامى، فاقتضى ذلك النهي عن عَضْلهن من التزويج.
وفي الآية دليلٌ على عدم استقلال النساء بالنكاح، واشتراط الولاية فيه، وهو مذهبُ الشافعي ومالك خلافاً لأبي حنيفة.
(والصالحين مِنْ عبادكم وإمَائِكم) :
يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم، والمخاطبون هنا ساداتهم.
ومذهبُ الشافعي أنَّ السيد يُجْبر على تزويج عبيده لهذه الآية خلافاً لمالك.
ومذهب مالك أنَّ السيد يُجْبِر أمته وعبده على النكاح خلافًا للشافعي.
(وأعانه عليه قوم آخرون) .
هذا من قول الكفار، ويعنون قوماً من العبيد منهم عدّاس ويسار وأبو فكيهة الرومي.
(وَعْدًا مَسْئُولًا) .
أي سأله المؤمنون أو الملائكة في قولهم: (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) .
وقيل معنى وَعْداً واجب الوقوع لأنه قد حتمه.
(ولكن مَتّعْتَهم وآباءَهم) :
معناه متعْتَهم بالنعم في الدنيا.
وكان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته.
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) :
المراد بالظالم هنا عقبة بن أبي معيط، لأنه جنح إلى الإسلام، فنهاه أبيُّ بن خلف.
والآية تعمّ كلّ ظالم سواء كان كافراً أو مؤمناً ظالماً، إذ كلّ عاص يعضّ على أَنامله من الندم، وإذا كان المطيعُ يتحسَّر على ما فاته من زيادة الطاعة، فما بالك بالعاصي.
(وكان الشيطان للإنسان خَذولا) :
يحتمل أن يكونَ هذا من قول الظالم، أو ابتداء إخبار، من قول الله تعالى.
ويحتمل أن يكونَ الشيطان إبليس، أو الخليل المذكور.
(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) :
يحتمل أن يكون قال هذا في الدنيا أو في الآخرة أو مجموعهما.(3/331)
(وكذلك جَعَلْنا لكل في عَدُوًّا مِنَ المجرمين) :
العدوُّ هنا جمع، والمراد تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتأسِّي بغيره من الأنبياء.
(وقُروناً بين ذلك كَثِيرا) :
يقتضي التكثير والإبهام، والإشارة بذلك إلى أصحاب الرسِّ وثمود وغيرهم.
(وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) :
قد قدمنا في حرف الباء والحاء أنَّ معناه الحاجز، وضمير التثنية يعود على البحرين، لا يختلط أحدهما بالآخر، وأغربُ منه وجود اللبن مِنْ بين فَرْثٍ ودم، ووجود الشهد والسم في النحل، فالسمّ سبَب هلاك الأحياء، والشّهْدُ سببُ شفاء المرضى، وجعل بينهما حاجزًا لا يختلطُ أحدهما بالآخر، وكذلك جعل في المؤمن النفس والْقَلْبَ، فالنّفْس تميلُ إلى الدنيا، والقلب يميل إلى العقبى، فأعطى له الدين مع الدنيا، وجعل بينهما حاجزاً، فلا تضر الدنيا مع الدين بفَضْلِه وكرمه.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) .
لأنَّ ما سواه يموت، والاعتزاز بمن يموت لا يبقى، فكيف يعتزّ مخلوقٌ بعد هذه الآية بمخلوق مثله، أفٍّ لقالب بلا قلب! لقد عميت بصيرتنا، وأظلمت سريرتُنا فظهرنا بالصلاح والتوكل للمخلوقين، وقَلْبنا خَلِيّ عن رب العالمين.
(وسيَعْلَم الذين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلبِ ينْقَلِبون) :
هذا وعيد لمن ظلم أحدًا من خلق الله.
وعملَ ينقلبون في أي.
وقيل إن العامل في (أيّ سيعلم.
(وسبحانَ اللهِ رَبِّ العالمين) :
نزَّه الله نفسَه مما عسى يكون ببال السامع في معنى النداء، وفي قوله: (بُورِكَ مَنْ في النار) ..
إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه اللهِ عنه.
(وأوتينا من كل شيء) :
عموم معناه الخصوص.
وقد قدمنا أن المرادَ بقول سليمان هذا التكثير، كقولك: فلان يَقْصِده كلّ أحد.
ويحتمل أن يريد نفسه وأباه، أو نفسه خاصة على وَجْه التعظيم، لأنه كان ملكاً.(3/332)
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) .
اعتبربما أعطِى الله سليمانَ من الجند، واختلف في عسكره اختلافاً كثيراً، فقيل كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للإنسِ، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ فسطاطاً من ذهب وإبريسم فرسخ في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحَوْله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الإنسُ والجن على الكراسي وحَوْلَهم الناس، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع رِيح الصبا البساط، فتسير مسيرةَ شهر (1) .
ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرُّخَاء تسيّره، فأوحى اللهُ
إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في مُلْكك، لا يتكلم أحد بشيء إلا ألْقَتْه الريح في سمعك.
فيحكى أنه مَرَّ بحرَّاث، فقال: لقد أوتي آلُ داود مُلْكاً عظيما، فألقى الريحُ في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث، وقال: إنما مشيتُ إليك لكيلاً، تتمنّى ما لا تقدر عليه! ثم قال: لتَسْبِيحةٌ واحدة يَقْبَلُها الله خير مما أوتي آل داود.
وروي أنه سمع قولَ النملة من ثلاثة فراسخ، وكان يفهم كلامَ الطيور
ومعانيها وأغراضها، وهذا نحو ما كان نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - يسمعُ أصواتَ الحجارة بالسلام.
ويحكى أن سليمان مَرَّ على طائر في شجرةٍ يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال
لأصحابه: أتَدْرون ما يقول، قالوا: الله ونبيه أعلم.
قال: يقول أكلْتُ نصفَ تمرة، فعلى الدنيا العفاء.
فإن قلت: الظاهر من قول نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أنْ يُوثقه في سارية من سَوَاري المسجد، فقال:
__________
(1) كلام أقرب الإسرائيليات. والله أعلم.(3/333)
ذكرت قولَ أخي سليمان: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، فأرسلته، أنه لم يبلغ هذا الملك؟
فالجواب أن لفظة ينبغي إنما هي لفظة محتملة ليست بقَطْع في أنه لا يعطي
اللهُ عز وجل نحو ذلك الملك لأحد، ونبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لو ربط الجني لم يكن ذلك نَقْصاً لما أوتيه سليمان عليه السلام، لكن لما كان فيه بعْضُ الشبهة تركه جَرياً منه - صلى الله عليه وسلم - على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع، ألا ترى لما عرض عليه أن يكون نبيئاً عبداً أو نبيئاً ملكاً فاختار العبودية، وقال: إنما أنا
عَبْدٌ آكل كما يَأكُلُ العبد، فعوَّضَه الله بتواضعه الشفاعة العظمى، والوسيلَة التي لا ينالها غيره.
وهذا مع ما كان عليه من تسخير الكونين والثقلين.
وقد ألف بعضُ العلماء في موازاة معجزاته عليه السلام لمعجزات الأنبياء على
جميعهم السلام تأليفاً عجيباً، وكذلك نظم بعضهم قصيدةً في معجزاته عليه
السلام موازياً لمعجزاتهم.
فإن قلت: كيف يتعرض الشيطان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد إفسادَ صلاتهِ، ويفرّ من لقاء عمر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو سلك عُمر فَجًّا لسلك الشيطانُ فَجًّا غير فَجِّ عمر"؟
والجواب أنه ليس بمنكر أنْ يتعرَّضَ العفريت له إظهاراً لمعجزته وغلبته له.
وأيضاً فأين يَفر منه - صلى الله عليه وسلم - وهو مالكُ الأرض كلها، بل والآخرة بأسْرها، فإلى أين يفر من ملاقاته، وعُمَرُ لا يملك إلا الفجَّ الذي هو فيه، فكان يفرُّ منه لغير ملكه، ولقد علم اللعين - أنه لو ظفر به لقتله لشدّةِ عمر وغِلْظَتِه في الله ونصرة دينه، ونبيُّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في غاية الشفقة والرحمة على من يُؤذيه.
وقد حكى ولي الله أبو محمد المهدوي أن أبا مدين قال لتلامذته يوماً: أيّما
أفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أمة سليمان، فأجيب بأن الفضل بينهما معروف.
فقال لهم: ما بالُ آصف أوتي علماً من الكتاب تمكَنَ به من الإتيان بعرش بلقيس، وأنت يا محمدي أوتيت عِلْمَ الكتاب، ولم تتمكن من الإتيان برغيف، قال:(3/334)