بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن
ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)
المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
(المتوفى 911 هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 3
تنبيه:
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مصدر الكتاب نسخة مصورة قام الشيخ الجليل نافع - جزاه الله خيرا - بتحويلها
وقام الفقير إلى عفو ربه الكريم القدير بتصويبه
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.(1/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول عبيد الله سبحانه عبد الرحمن بن جال الدين السيوطي عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين إنه أرحم الراحمين:
الحمد لله الذي جعل معْجزَاتِ هذه الأمَّةِ عَقْلِيَّةً؛ لفَرْطِ ذَكائهم، وكمال
أفهامهم، وفَضْلِهم على مَنْ تقدمهم، إذ معجزاتهم حِسيّة لبلاَدتهم، وقلَّةِ
بَصِيرتهم، نَحْمَده سبحانه على قوله لرسوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وخَصّه بالإعانةِ على التبليغ فلم يقدر أحدٌ منهم
على معارَضَتِه بعد تَحَدِّيهم، وكانوا أَفصحَ الفصحاءِ وأبلَغ البلغاء، وأمهلهم طولَ السنين فعجزوا.
وقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) .
فأخبر تعالى أَنَّ الكتابَ آية من آياتِه قائمٌ مقامَ معجزاتِ غيره من الأنبياء
لفَنَائها بفَنَائهم.
وكانوا أحرصَ الناسِ على إطفاء نُورِه، وإخفاء، أمْرِهِ، فلو كان
في مقدرتهم معارضَتُه لعدلوا إليها تقويةً لحججهم، بل عَدلوا إلى العِنَادِ تارةً
وإلى الاستهزاء أخرى، فتارةً قالوا: ساحِر، وتارة قالوا: أساطيرالأولين.
كلّ ذلك مِنْ تَحَيّرِهم، ثم رضوا بتحكيم السَّيْفِ في أعناقهم، وسَبْيِ ذَرَارِيهم، وحُرمهم، واستباحة أموالهم، فنصب لهم الحَرْبَ ونصبوا له، وقتَل مِنْ عِلْيَتِهمْ(1/3)
وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بأن يَاتُوا بسورةٍ واحدة وآياتٍ يسيرة، إذ هي أنْقَض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغُ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعِهِ مِنْ بَذْلِ نفوسهم وخروجهم من أوطانهم، مع أنهم أشدّ الخَلْق أَنَفَةً، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سَيِّدُ عملهم، فحين لم يجدوا حِيلَةً ولا حجًّة قالوا له: أنْتَ تعرف مِنْ حال الأمم ما لا نَعْرِف، فلذلك يمكنُك ما لا يمكننا.
فقال لهم: هاتوها مفتريات لتَبْكِيتهم، فلم يرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر، ولا طبع منه أو تكلّفه، ولو تكلَّفَة لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد مَن يستجيره ويحميه، نصْرَةً لدِينهم، بل أظهر الله دينَه، وخرق العادةَ في أسلوبِ كلامهِ وبلاغته وحلاوتهِ، حتى التَذوا بسماعه ألذّ من أهل اللهْوِ في لهوِهم، وأبقى ذلك فيه إلى صفحات الدهر ليراها ذوو البصائر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِن الأنبياء نَبِيءٌ إلاّ أعطي من الآيات، ما مثْله آمَنَ عليه البَشَر، وإنما كان الذي
أوتيته وَحْياً أوْحَاه إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعاً يَوْمَ القيامة ".
فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي أدى الأمانةَ، ونصح أمّتَه
إلى رشدهم وهدايتهم، فهو أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضِيَ الله تعالى عن
أصحابه وأتباعِه الذين نَصَروة بأنفسهم وأموالهم.
أما بعد فإنَّ إطلاقَ السَّلَفِ رضي الله عنهم على كلامِ اللهِ أنه محفوظ في
الصّدور، مقروءٌ، بالألسنة، مكتوب في المصاحف هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليس يعنون بذلك حلولَ كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك، وإنما يريدون أنَّ كلامَه جلّ وعلا مذكور مدلول عليه بتلاوة اللسان، وكلام الجَنَان، وكتابة البنَان، فهو موجود فيها حقيقة وعِلْماً لا مدلولاً، لأنَّ الشيءَ له وجودات أربع: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، ووجود في اللسان، ووجود بالبَنَان، أي بالكتابة بالأصابع، فالوجودُ الأول الذات الحقيقي، وسائر الوجَودات إنما هي باعتبار الدلالة والفَهْم.
وبهذا تعرف أنَّ التلاوةَ غير المتلوّ، والقراءة غير المقروء، والكتابة غير المكتوب، لأنَّ الأول من كل قسمين من هذه الأقسام حادث، والثاني منها قديم لا نهاية له.(1/4)
وقد أفرد علماؤنا رضيَ الله عنهم بتصنيف إعجاز القرآن، وخاضوا في وجوهِ إعجازِه كثيراً، منهم الخطابي، والرمّاني، والزَّمْلَكاني، والإمام الرازي، وابن سراقة، والقاضي أبو بكر الباقِلاني، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين.
والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكي في المفتاح: اعلم أن
إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن
وصفها، وكالملاحة.
وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما.
وقال الأصبهاني في تفسيره: اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين:
أحدهما إعجاز يتعلق بنفسه.
والثاني بصرف الناس عن معارضته، فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه.
أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، فإن ألفاظه ألفاظهم، قال تعالى: (قرْآناً عَرَبِيًّا) .
(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ) . ولا بمعانيه، فإن كثيراً منها موجود في الكتب المتقدمة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) .
وما هو في القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد،والإخبار بالغيب، فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم، ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بالمغيب
سواء كان بهذا النظم أو بغيره، مورَداً بالعربية أو بلغة أخرى، بعبارة أو إشارة، فإذاً فالنظم المخصوص صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصره، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالقرط والخاتم والسوار، فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها، لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة والحديد، فإن الخاتم المتخذ من الذهب ومن الفضة ومن الحديد يسمى خاتماً،وإن كان العنصر مختلفاً.
وإن اتخذ خاتم وقرْط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدا.
قال: فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المحصوص.(1/5)
وبيان كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم
مخالف لما عداه من النظم.
فنقول: مراتب تأليف الكلام خمس:
الأول: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث
الاسم والفعل والحرف.
والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض، فتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جيعأ في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام.
والثالثة: ضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مَبَادٍ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم.
والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له السجع.
والخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن، ويقال له الشعر.
والمنظوم إما محاورة، ويقال له الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة، فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص.
والقرآن جامع لمحاسن الجميع على غير نظم لشيء منها، يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، كما يصح أن يقال هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم.
ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) .
تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظْم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخرى.
قال: وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضاً إذا
اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة كانت محمودة أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم
مناسبات خفية واتفاقات فعلية، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف(1/6)
فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مباشرتها، فيقبلها بانشراح صدر
ويزاولها بقلبه.
فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني
بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولم يقصدوا
لمعارضته، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهياً صرفهم عن ذلك.
وأيُّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة، مصروفة في الباطن عنها.
فإن قلت: هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة أم لا؟
فالجواب ظهور ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ذلك، ضرورة، وكونه معجزا يعلم بالاستدلال.
قال أبو الحسن الأشعري: والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم
إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من ليس ببليغ.
فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.
فإن قلت: إنما وقع العجز في الإنس دون الجن؟
فالجواب أن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله تعالى: (قلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنْس وَالْجِنّ.
..
) تعظيما لشأنه، لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرِض إجماع الثقلين، وظاهر بعضهم بعضا، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم: بل وقع للجن أيضاً والملائكة منويون في الآية، لأنهم لا
يقدرون أيضاً على الإتيان بمثل القرآن.
وقال الرُّماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر في الآية على ذكر الجن
والإنس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة.(1/7)
فإن قلت: قد قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .
وقد وجدنا فيه اختلافا وتفاوتا في الفصاحة، بل نجد فيه الأفصح والفصيح.
والجواب أنه لو جاء القرآن على غير ذلك لكان على غير
النمَط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتم الحجة في الإعجاز، فجاء على نمط كلامهم المعتاد ليتم ظهور العجز عن معارضته ولا يقولوا مثلاً: أتيت بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: قد غلبتك بنظري، لأنه يقول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادراً على النظر، وكان نظري أقوى من نظرك، فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح مني المعارضة.
وقيل: إن الحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون - مع أن الشعر الموزون من الكلام رتْبَته فوق رتبة غيره - إن القرآن منبع الحق، وجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخييل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق، وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عنه، ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب: شِعْريّة.
وقال بعض الحكماء: لم يُرَ متَدَيِّن صادق اللهجة مُفْلق في شعره، وأما ما
وجِد في القرآن مما صورته صورة الموزون
فالجواب عنه أنْ ذلك لا يسمى شعراً، لأن من شرط الشعر القصد، ولو كان شعراً لكان من اتفق له في كلامه شيء موزون شاعراً، فكان الناس كلهم شعراء، لأنه قل أن يخلو كلام أحد عن ذلك.
وقد ورد ذلك على الفصحاء، فلو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته
والطعن عليه، لأنهم كانوا أحرص شيء على ذلك، وإنما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصْوى في الانسجام.
وقيل البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمى شعراً.
وأقل الشعر بيتان "فصاعدا.
وقِيل الرجز لا يسمى شعراً أصلا.
وقيل:أقل ما يكون من الرجز شعراً أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال.(1/8)
قال الغزالي: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي اختلاف
الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه بعضه بعضاً، أو لا يشبه أوله آخره، أو بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، وهو مختلف النّظْم، فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منَزة عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم يناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق بمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفُهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات، إذ كلام الشعراء والمراسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، ثم في أصل الفصاحة، حتى يشتمل على الغَثّ والسمين، ولا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأغراض على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يذمون الجبْنَ ويسمونه ضَعْفاً، وتارة يمدحونه ويسمونه حزماً، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها
صرامة، وتارة يذمونها ويسمونها تهوراً.
ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف
الأغراض والأحوال.
والإنسان تختلف أحواله فتسعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه، وتتعذر
عليه عند الانقباض، وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه
أخرى، فيوجب ذلك اختلافاً في كلامه بالضرورة، فلا يصادَف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة - وفي مدة نزول القرآن - فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بشراً تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.(1/9)
فإن قلت: هل يقال إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟
فالجواب ليس شيء من ذلك معجزاً في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً
كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب.
وإنما لم يكن معجزاً لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز.
وقد ذكر ابن جنيّ في الخاطريات في قوله تعالى: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) .
أن العدول عن قوله: وإما أن نلقي لغرضين:
أحدهما - لفظي، وهو المزاوجة لرؤوس الآي.
والثاني - معنوي، وهو أنه تعالى أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم على موسى، فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منهم في إسنادهم الفعل إليه.
تم أورد سؤالا، وهو أنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان، فنذهب بهم
هذا المذهب من صنعَة الكلام.
وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون
الخالية إنما هو معرَّب عن معانيهم، وليس هو بحقيقة ألفاظهم.
ولهذا لا يشك أن قوله تعالى: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) .
إن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.
قال أبو حيان التوحيدي: سئل بُندار الفارسي عن موضع الإعجاز من
القرآن، فقال: هذه مسألة فيها حَيْف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولكم موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقدت حقيقته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا ئشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوِله، وأهدى لقائله، وليس(1/10)
في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت
البصائر عنده.
فإذا علمت عَجْزَ الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه فما فائدة ذكرها؟
لكنا نذكر بعضها تَطَفلآَ على من سبق، فإن كنتُ لا ممن أجول في ميدانهم، ولا أعَدّ من فرسانهم لعَمْرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفّل عليه فكيف
بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن كانت بعض الأوجه لا تعد عن إعجازه
فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك.
فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه في دار كرامته بخلق سَمْع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم، فإنه منعه في هذه الحياة الدنيوية لذيذَ المناجاة له بسبب ذنوبه، مصداقه قوله تعالى: (سأصْرِف عَنْ آياتِي الّذِينَ يتَكَبَّرونَ فِي الْأرْضِ بِغَيْرِ الْحَق) .
وانظر إلى ما صح عن كليمه موسى عليه السلام أنه كان يسد أذنيه لئلا
يسمع كلام الخلق، إذ صار عنده أشد ما يكون من أصوات البهائم المنكرة، حتى لم يكن يستطيع سماعه بِحِدْثان ما ذاق من اللذات التي لا يحاطنها ولا
تكيَّف عند سماع كلام من ليس كمثله شيء جل وعلا.
ولولا أنه سبحانه يغيّبه عما ذاق عند مناجاته مما لا يقدر على وصفه لما أمكن
أن يأنس إلى شيء من المخلوقات أبداً، ولما انتفع به أحد، فسبحانه من لطيف، ما أوسع كرمه وأعظم جلاله!
ومن أعجب الأمر في هذا عدم ذوبان اللذات وتلاشيها حتى تصير عدماً
محضاً عند اطلاعها من ذي الجلال عما اطلعت عليه، لولا أنه أثبتها وأمسكها، يشهد لهذا ما صح عن ابن الأسمر - وإن من الأبدال - أنه رأى مرة في نومه حوراء كلمته فبقي نحو شهرين أو ثلاثة لا يستطيع أن يسمع كلاماً إلا تقيأه.
فانظر هذا الأمر كيف صار كلام الناس بالنسبة إلى كلام الحوراء الذي هو
من جنس كلامهم أدنى وأقبح من صوت الحمير والكلاب بالنسبة إلى كلام(1/11)
الناس، إذ لا تجد من يتقيأ من سماع صوت الحمير أو الكلاب، ولو سمعته إثر
سماعك أفصح كلام وأعذبه، فكيف نسبة كلام الخلق إلى كلام الخالق الذي
جلّ عن المثل في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقال أيضاً رضي الله عنه: دخلت مسجد نبيء بالإسكندرية بالديمان، فوجدت النبيء المدفون هناك قائماً يصلي، عليه عباءة مخططة، فقال: تقدم فَصَلِّ!
قلت له: تقدم أنت فَصَلِّ.
قال: إنكم من أمة نبيء لا ينبغي لنا التقدم عليه.
قال: قلت له: بحق هذا النبي - وقد وضع فمه على فمي إجلالا للفظة النبي كي لا تبرز في الهواء - قال: فتقدمت وصليت.
فانظر إلى هذا المصاب الحالّ بنا في عدم احترامنا لذكر هذا الرسول
والكتاب المنزل عليه، فقف به على قدم الاعتذار، واكشف رأس التَجَبّر
والاستكبار، ونادِ بلسان الاضطرار: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) ، لعلك تسمع كلامه إذ
تشفعتَ إليه بكلامي فأنت من المقبولين، وتنال بذلك الفوز مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين، وحاشاك نسيان أخيك الجالب لك من أسرار كلامه تعالى ما تزيد فيه حلاوته والنظر فيه يزيدك لى محبة.
*******
(من وجوه الإعجاز)
الوجه الأول من وجوه إعجازه
وكيف لا وقد احتوى على علوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب، ولا
أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة.
قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكتَاب مِنْ شَيْء) .
وقال: (وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتَابَ تِبْيَاناً لكلً شيْء) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ستكون فتن.
قيل: وما المخرج منها، قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.
أخرجه الترمذي وغيره.
وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن مسعود، قال: من أراد العلم فعليه
بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين.(1/12)
قال البَيْهَقِي: يعني أصول العلم.
وأخرج البيهقي عن الحسن، قال: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، أودع
علومها أربعة منها: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علوم الثلاثة في الفرقان.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع
السنة شرح للقرآن.
وقال أيضاً: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن.
ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لا أحِلّ إلا ما أحلّ الله في كتابه، ولا أحَرِّم إلا ما حرم الله في كتابه ".
أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم.
وقال سعيد بن خبَيْر: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه إلا وجدتُ مِصْداقه في كتاب الله.
وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله.
أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقال الشافعي أيضاً: لَيْسَتْ تَنْزِل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله
الدليل علي سبيل الهدى فيها.
فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداءً بالسنة، قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب
الله في الحقيقة، لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفرض علينا الأخذ بقوله.
وقال الشافعي مرة بمكة: سَلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.
فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، عن(1/13)
حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.
وحدثنا سفيان عن مِسْرَ بن كِدَام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن
شهاب، عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.
وأخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشِمَة والمستوشمة، والمتنَمِّصَات والْمُتَفَلِّجات للحسن، المغَيًرات خلق الله.
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت له: بلغني أنك لعنت كيْتَ وكيت! فقال: ومالي لا ألعن مَنْ لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت: "قد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول".
قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه.
أما قرأت: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
قالت: بلى.
قال: فإنه قد نهى عنه.
وحكى ابن سرَاقة في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد، أنه قال: ما
شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله عز وجل، فقيل: فأين ذكر الخانات، قال في قوله عز وجل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) .
فهي الخانات.
وقال ابن برّجَان: ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قَرب أو بعد، فَهمَه مَنْ فَهمَهُ، وعَمِيَ عنه من عمي، وكذا كل ما حكم أو قضى به، وإنما يدركه الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه.
وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهّمه الله، حتى
إن بعضهم استنبط عمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وستين سنة من قوله في سورة المنافقين: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) .
فإنها رأس ثلاث وستين سورة وأعقبها بالتغابن في فقده.
وقال أبن أبي الفضل المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم
يحط بها علماً حقيقة إلا واهبها والمتكلم بها، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما خلا ما استأثر به(1/14)
سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء
الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، حتى قال: لو ضاع لي عِقَال بعير لوجدته في كتاب الله.
ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعد كلماته وآياته وسوره، وأحزابه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات، إلى غير ذلك، من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه، فسمّوا القراء.
واعتنى النحاةُ بالمعرب منه والمبنيِّ من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة
وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال واللازم
والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما تعلق به، حتى إن بعضهم أعرب
مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظا
يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فأجروا الأول على حُكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني، وأعمل كلّ فكره، وقال بمقتضى نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وقِدَمه، وبقائه، وقدرته وعلمه، وتنزهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما(1/15)
يقتضي الخصوص إلى غير ذلك، فاستنبطوا منها أحكام اللغات من الحقيقة
والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإخبار، والنص والظاهر والمجمل، والمحكم
والمتشابه، والأمر والنهي، والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيحَ النظر وصادقَ الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله، وفرَّعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسناً، وسموه بعم الفروع وبالفقه أيضاً.
وتَلَمَّحَتْ طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية، ونقلوا
أخبارهم، ودوّنوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير
والتبشير، وذكْر الموت والْمَعَاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار، فصولاً من المواعظ، وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
واستنْبَط قوم مما فيه من أصول التعبير مثْلَ ما ورد في قصة يوسف في
البقرات السمَان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسموه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب، فإن عزّ عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب، فإن عسر فَمِنَ الْحِكَم والأمثال، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم وعرْف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: (وَأمُرْ بِالْعُرْفِ) .
وأخذ قوم ما في آية المواريث من ذكر السِّهَام وأربابها وغير ذلك، وسموه
الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثَّمْن
حسابَ الفرائض ومسائل العَوْل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.(1/16)
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحِكَم الباهرة، في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج، وغير ذلك، فاستخرجوا منه
المواقيت.
ونظر الكتابُ والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحُسْن
السياق، والمبادي والمقاطع، والخالص، والتلوين في الخطاب، والإطناب
والإيجاز، وغير ذلك، فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.
ونظر فيه أربابُ الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان
ودقائق جعلوا لها أعلاماً اصطلحوا عليها، مثل الفناء والبقاء والحضور، والخوف، والهيبة، والأنس والوحشة، والقَبْض والبسط، وما أشبه ذلك - هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه.
وقد احتوى على علوم أخَر من علوم الأوائل، مثل، الطب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك.
أما الطبُّ فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون
باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة.
وقد جمع ذلك في آية واحدة، وهي قوله: (وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) .
وعرّفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوثَ الشفاء للبدن بعد
اعتلاله في قوله: (شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) .
ثم زاد على طلب الأجساد طِبَّ القلوب وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السماوات
والأرض وما بثّ فيها في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة ففي قوله: (انْطَلِقُوا إلى ظِل ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ.
..) .
وأما الجدَل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج، والقول(1/17)
بالموجب والمعارضة، وغير ذلك، شيئاً كثيراً.
ومناظرة إبراهيم نُمْرُود ومحاجّته قومه أصل في ذلك عظيم.
وأما الجَبْر والمقابلة فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مُدَد وأيام وأعوام
لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة الدنيا، وما
مضى، وما بقي، مضروب بعضها في بعض.
وأما النِّجامة ففي قوله: (أو أثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) .
وقد فسره بذلك ابن عباس.
وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها، كالخياطة في
قوله: (وَطَفِقَا يخْصِفَان عليهما) .
والحِدَادة: (آتُوني زُبَرَ الحديد) .
(وَألَنَّا له الْحَديد) .
والبناء في آيات.
والنًجارة: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِاعْيُنِنا) .
والغَزْل: (نقضَتْ غَزْلَها) .
والنسج: (كمثَلِ العَنْكَبُوت اتًخَذَتْ بَيْتًا) .
والفِلاَحة: (أفرأيْتُمْ مَا تَحْرُثون) .
والصيد في آيات، والغَوْص: (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) .
(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) .
والصياغة: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) .
والزّجَاجَة: (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) .
(مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) .
والفخارة: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) .
والملاحة: (أما السفينة) .
والكتابة: (علَّم بالقلم) .
والْخَبْز: (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا)
والطبخ: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)
والغسل: (وثيابك فَطَهرْ) .
والقِصَارة: (قال الحواريون) ، وهم القصّارون.
والجزارة: (إلا ما ذَكَّيْتُمْ) .
والبيع والشراء في آيات.
، الصبغ: (صِبْغَةَ اللهِ) . (جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ) .
والحجارة: (وتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بيوتاً)(1/18)
والكيالة والوزن في آيات.
والرّمْي: (وما رمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ) .
(وأعِدُّوا لهم ما استطعتُمْ مِنْ قوة) .
وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وجميع
ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . انتهي من كتاب المرسي ملخصاً.
وقال ابن سراقة في وجوه إعجاز القرآن: ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب
والجمع والقسمة والضرب، والموافقة والتأليف، والمناسبة والتصنيف، والمضاعفة،ليعلم بذلك أهلُ العلم بالحساب أنه - صلى الله عليه وسلم - صادق في قوله: إن القرآن ليس من عنده، إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ولا تَلَقَّى أهْلَ الحساب وأهلَ الهندسة.
وقال الراغب: إن الله تعالى كما جعل نبوءة النبيين بنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - مختتمة وشرائعهم بشرعته من وجه مُنْتَسخة، ومن وجهٍ متممة مكملة جعل كتابه المنزل عليه متضمناً لثمرة كتبه التي أولها: أولئك على هُدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
وقوله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) .
وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه - مع قلة الحجم - متضمن للمعنى الجم، بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، والآلات الدنيوية عن استيفائه، كما نبه عليه بقوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) .
فهو وإن كان لا يخلو الناظر فيه من نور ما يوريه ونفح ما يوليه:
كالْبَدْرِ من حيث التفتَّ رَأيْتَه ... يُهْدِي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالشمس في كَبِد السماء وضوءُها ... يَغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم، قال: قيل لموسى
عليه السلام: يا موسى، إنما مثل كتاب أحمد في الكتب المنزلة بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مَخَضْتَه أخرجت زُبْدته.(1/19)
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل: علوم القرآن خمسون علما
وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف، على عدد كَلِم القرآن مضروبة
في أربعة، إذ لكل كلمة ظَهْر وبطن، وحد ومقطع.
وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينهما من روابط، وهذا مما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله.
وأتم علوم القرآن ثلاثة: توحيد. وتذكير. وأحكام.
فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات، وصرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله.
والتذكير منه الوعد
والوعيد، والجنة والنار، وتصفية الظاهر والباطن.
والأحكام منها التكاليف كلها، وتبيين النافع والضار، والأمر والنهي والندب، ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن، لأن فيها الأقسام الثلاثة.
وسورة الإخلاص ثلثه، لاشمالها على أحد الأقسام الثلاثة، وهو التوحيد.
قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في كتاب "الإمام في أدلة الأحكام"
معظم آي القرآن لا تخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جليلة.
ثم من الآيات ما صرح فيها بالأحكلام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط إما
بأن ضَمّ إلى آية أخرى، كاستنباط صحة أنْكِحة الكفار من قوله: (وامرأتُه
حَمَّالَةَ الحَطَب) .
وصحة صوم الجُنب من قوله: (فَالآنَ بَاشِرُوهُن) ... إلى قوله: (حتى يتبيَّنَ لكم الْخَيْط ... ) الآية.
وإما به كاستنباط أنَّ أقلَّ الحَمْلِ ستة أشهر من قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) .
مع قوله: (وفِصَالُه في عاميْنِ) .
قال: ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر، وتارة بالإخبار مثل:
(أُحلَّ لكم) .
(حُرِّمَتْ عليكم الميتةُ) .
(كُتِبَ عليكم الصيام) .
وتارة بما رتب عليها في العاجل والآجل من خير وشر، أو نفع أو ضر.
وقد نوعّ الشارعُ ذلك أنواعاً كثيرة، ترغيبا لعباده، وترهيبا وتقريبا إلى
أفهامهم، فكل فعل عظَّمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعِلَه لأجله، أو أحبّه(1/20)
أو أحب فاعله أو رَضي به، أو رَضي عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب، أو أقسم به أو بفاعله، كالإقسام بالشَّفْع والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوّامة، أو نَصَبه سببا لذكره لعبده، أو لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنُصْرَة فاعله، أو ببشارته، أو وصف فاعله بالطيّب، أو وصف الفعل بكونه معروفاً، أو نَفَى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نَصبَ سبباً لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول لحصوله، أو وصفه بكونه قُرْبة، أو بصفة مدح، كالحياة والنور والشفاء - فهو دليل على مشروعيته المشركة بين الوجوب والندب.
وكلّ فعل طلب الشارع تركه أو ذمه، أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو مقَت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته أو محبة فاعله أو الرضا به، أو عن فاعله، أو شبّه فاعله بالبهائم أو الشياطين، أو جعله مانعاً من الهدَى، أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جُعِل سبباً لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم، أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو رجس أو نجس، أو بكونه فِسْقا أو إثماً، أو سبباً لإثم أو رجس، أو لَعْن أو غضب، أو زوال نعمة أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة أو خِزْي، أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته، أو الاستهزاء به أو سخريته، أو جعله للَه سبباً لنسيانه فاعله، أو وصَفَ نفسبما بالصبر عليه، أو بالحم، أو بالصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعِلَه بخبث أو احتقار، أو نسبَه إلى عمل
الشيطان، أو تزيينه أو تولي الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلماً أو بغياً، أو عدوانا أو إثماً، أو تَبَرَّأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه، أو نصب سبباً لخيْبَة فاعله عاجلاً أو آجلاً، أو رتّب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعلَه بأنه عدوّ لله أو بأن الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمّل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه: لا ينبغي هذا أو لا يكون، أو(1/21)
أمره بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضادِّه أو بهجر فاعله، أو تلاعَنَ فاعلوه في الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم على بعض، أو وصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله في شيء أو ليس من الرسول وأصحابه، أو جعل اجتنابه سبباً للفلاح، أو جعله سبباً لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل: هل أنت منْتَهٍ، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعاداً أو طرداً، أو لفظة قُتل من فعله، أو قاتله الله، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله في الآخرة ولا ينظر إليه ولا يُزَكيه، ولا يصلح عمله ولا يهدي كيْده، أو قيّض له الشيطان، أو جعل سبباً لإزاغة قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل، فهو دليل على المنع من الفعل، ودلالتُه على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة.
وتستفاد الإباحة من "لفظ الإحلال، ونفي الجناح والحَرَج والإثم وألمؤاخدة، ومن الإذن فيه والعفو عنه، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، ومن
السكوت عن التحريم، ومن الإنكار على من حرم الشيء، ومن الإخبار بأنه خُلِق أو جُعل لنا، والإخبار عن فعل مَنْ قبلنا غير ذام لهم عليه، فإن اقترن بإخبار مَدْحٌ دل على مشروعيته وجوباً أو استحباباً.
انتهى كلام الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وقال غيره: وقد يستنبط من السكوت.
وقد استدل جماعة على أن القرآن غير مخلوق بأن الله ذبكر الإنسان في ثمانية
عشر موضعاً وقال " إنه مخلوق"، وذكر القرآن في أربع وخمسين موضعاً ولم
يقل إنه مخلوق.
ولما جمع بينهما غاير، فقال: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) .
فهذا أحد وجوه إعجازه.
*******
الوجه الثاني من وجوه إعجازه
كونه محفوظاً عن الزيادة والنقصان، محروسا عن التبديل والتغيير على تطاول
الأزمان، بخلاف سائر الكتب.
قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
فلم يقدر أحد بحمد الله على التجاسر عليه.
*******(1/22)
الوجه الثالث من وجوه إعجازه
حُسْن تأليفه، والتئام كلمه، فصاحتها، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادةَ
العرب الذين هم فرسانُ الكلام وأربابُ هذا الشأن.
فجاء نطقه العجيب، وأسلوبه الغريب مخالفاً لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاءت عليه، ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصلُ كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجوه إعجازه أنه
بِنَظْمِهِ وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء
علماً، وأحاط بالكلام كلِّه علماً، فإذا ترتبَت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أىَّ لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره.
والبشَرُ محل الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر
لا يحيط بذلك، فلذلك جاء نظمُ القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيانُ بذلك، فصُرِفوا عن ذلك.
والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ ينقّح القصيدة أو
الخطبة حَوْلاً، ثم ينظر فيها، ثم يغير فيها، وهلمّ جرّا.
وكتابُ الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفَى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة.
وقامت الحجةُ على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة، كما كانت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة.
عيسى بالأطباء، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما تكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب في زمان عيسى، والفصاحة في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم -(1/23)
وقال حازم في منهاج البلغاء: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت
الفصاحة والبلاغة فيه في جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا
يقدِرُ عليه أحد من البشر.
وكلام العرب ومَنْ تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعترض
الفترات الإنسانية، فينقطع طيب الكلام ورونقهُ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه.
قال الجَعْبَرِي: لمعرفة فواصل الآي طريقان: توقيفي وقياسي، أما التوقيفي
فما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائماً تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة.
والوصلُ أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها.
وأما القياسي فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا
محذورَ في ذلك، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فَصْل أو
وصل.
والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياسي
إلى طريق تعرفه، فنقول: فاصلة الآية كقرينة السجع في النثر، وقافية البيت في الشعر.
ومما يذكر من عيوب القافية من اختلاف المد والإشباع والتَّوْجيه، فليس
بعيب في الفاصلة، وجاز الانتقال في الفاصلة والقَرِينة وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر بخلاف قافية القصيدة.
ومن ثم ترى "يرجعون" مع "عليم" و"الميعاد"
مع "الثواب"، و"الطارق" مع "الثاقب".
والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة، ومِنْ ثمَّ
أجمع العادُّون على تَرْك عَدّ: (ويَاْتِ بآخرين) النساء: 133.
(ولا الملائكةُ الْمُقَرَّبُون) النساء: 172، و (كَذَّب بها الأوَّلُون)
الإسراء: 59، و (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) : 97، بمريم)(1/24)
و (لعلهم يتَّقون) 113، بطه - و (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)
و (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : 11، 12، بالطلاق حيثُ لم
ئشاكل طرفيه.
وعلى ترك عَدّ: (أفَغَيْرِ دِين اللهِ يبْغُون) آل عمران: 83.
(أفَحُكْمَ الجاهلية يبْغون) المائدة.
وعدوا نظائرها للمناسبة، نحو: الأولي (الألباب) آل عمران: 190، بآل عمران.
و (على اللهِ كَذِبا) الكهف: 15، بالكهف.
و (السَّلْوَى) : 80، بِطَه.
وقال غيره: تقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها.
وهي الطريقة التيْ يبايِنُ القرآن بها سائر الكلام، وتسمى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل ما بينها وبين ما بعدها، وأخْذا من قوله تعالى: (كتاب فصِّلَتْ آيَاتُه) فصلت: 3.
ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعاً، لأن الله تعالى لما سلب عنه اسْمَ الشعر وجب
سلْبُ القافية عنه أيضاً، لأنها منه وخاصةٌ به في الاصطلاح.
وكما يمتنع استعمال القافية فيه يمتنع استعمال الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه.
وهل يجوزُ استعمال السجع في القرآن، خلاف: الجمهور على المنع، لأن أصله من سجع الطّيْرُ، فَشُرفَ القرآن أن يستعار لشيء منه لفظ أصله مهمل، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في وصفه بذلك، ولأن القرآن من صفاته تعالى، فلا يجوز وصْفُه بصفة لم يرد الإذن بها.
قال الرماني في إعجاز القرآن: ذهب الأشعرية إلى امتناع أن يقول في القرآن
سجع، وفرَّقُوا بينهما بأن السجع هو الذى يقصد في نفسه ثم مجال المعنى عليه، والفواصل التي تَتْبَع المعاني، ولا تكون مقصودة في نفسها.
قال: ولذلك كانت الفواصل بلاغة والسجع عيباً، وتبعه على ذلك أبو بكر الباقلاني.
وقال الخفاجي في سر الفصاحة: قول الرماني: إن السجعَ عَيْب والفواصل
بلاغة غلط، فإنه إن أراد بالسجع ما يَتْبَعُ المعنى - وهو غير مقصود فذلك(1/25)
بلاغة، والفواصل مثله.
وإن أراد به ما تقع المعاني تابعة له - وهو مقصود متكلف - فذلك عيب.
والفواصل مثله.
قال: وأظن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما
تماثلت حروفه سجعاً - رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من
الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غَرَضٌ في التسمية قريب.
والحقيقة ما قلناه.
قال: والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفواصل.
قال: فإن قيل: إذا كان عندكم أن السجع محمود فَهلا وَرَدَ القرآنُ كله
مسجوعاً، وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع، قلنا، إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى عُرْفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم
لا يكون كلامُه كله مسجوعاً، لما فيه من أمارات التكللف والاستكراه لاستماع طول الكلام، فلم يَرِدْ كله مسجوعاً جرياً منهم على عُرْفِهم في اللطيفة الغالبة من كلامهم، ولم يخل من السجع، لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة.
وقد ألف الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي كتاباً سماه " إحكام الراي في
أحكام الآي " قال فيه: إن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يُرتكب بها
أمور من مخالفة الأصول.
قال: وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت
منها على ما ينيف على الأربعين حكماً:
1 - تقديم المعمول إما على العوامل نحو: (أهؤلاء إياكم كانوا يعْبُدون)
قيل: ومنه: (وَإيّاك نستعين) .
أو معمول آخر أصله التقديم، نحو: (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنَا الْكبْرَى) .
إذا أعربنا (الكبرى) مفعول نرِي.
أو على الفاعل، نحو: (ولقد جاء آل فرعون النّذُر) .
ومنه تقديم خبر كان على اسمها، نحو: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) .(1/26)
2 - تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو: (فَلِلّهِ الآخِرَةُ والاْولى) .
ولولا مراعاة الفواصل لقُدمت " الأولى"، كقوله: (لهُ الْحَمْدُ في الأولى
والآخرة) . القصص: 70.
3 - تقديم الفاضل على الأفضل، نحو: (برَبِّ هَارون ومُوسى) .
وتقدم ما فيه.
4 - تقديم الضمير على ما يفسره، نحو: (فأوْجَسَ في نَفْسِه خِيفَة مُوسى) .
5 - تقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد، نحو: (وَنُخْرجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا) . الإسراء: 13.
6 - حذف ياء المنقوص العرّف، نحو: (الكبِير المتعال) الرعد: 10.
(يوم التناد) . المؤمن: 32.
7 - حذف ياء الفعل غير المجزوم، نحو: (واللّيْلِ إذَا يَسْرِ) .
8 - حذف ياء الإضافة، نحو: (فكيف كان عَذَابي ونُذُر) . القمر 18.
(فكيف كان عقاب) الرعد: 32.
9 - حرف المد، نحو: الظنُونَا، والرسولا، والسبيلا.
ومنه إبقاؤه مع الجازم، نحو: (لا تخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) أطه: 77.
(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) .، على القول بأنه نَهْي.
10 - صرف ما لا ينصرف، نحو: (قَوَاريرا. قَوَاريرا) . الإنسان: 15.
16.
11 - إيثار تذكير الجنس، كقوله: (أعجاز نَخْلٍ مُنْقَعِرْ) .
12 - إيثار تأنيثه، نحو: (أعجاز نَخْل خَاوية) . الحاقة: 7، ونظيرُ هذين(1/27)
قوله في القمر: (وكلّ صَغِير وَكَبير مستَطِر) . القمر: 53.
وفي الكهف: (لا يُغادِرُ صَغِيرة ولا كَبِيرة إِلاَّ أحصَاها) . الكهف: 49.
13 - الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرىء بهما في السبع في غير ذلك، كقوله: (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) الجن: 14) ، ولم يجئْ رشداً في
السبع، وكذا: (وهَبْ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَدا) . الكهف: 10) ، فإن الفواصل
في السورتين محركة الوسط، وقد جاء في: (وإن يَرَوْا سَبِيل الرّشْد) الأعراف: 146.
وبهذا يبطل ترجيح الفارسي قراءة التحريك بالإجماع عليه فيما تقدم.
ونظير ذلك قراءة: (تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَب) بفتح الهاء وسكونها، ولم
يقرأ: (سيصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب) المسد: 3.
إلا بالفتح لمراعاة الفاصلة.
14 - إيراد الجملة التي ورد بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية
والفعلية، كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بالله وَباليَوْمِ الآخر ومَا
هَمْ بمؤمِنين) البقرة: 8، لم يطابق بين قولهم " آمنّا" وبين ما ردّ به فيقول: لم
يؤمنوا، أو ما آمَنوا لِذَلك.
15 - إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك، نحو: (فليعلمنَّ الله
الذين صدقوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذبين) العنكبوت: 3.
ولم يقل الذين كذبوا.
16 - إيراد أحد جزأى الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها من
الجملة الأخرى، نحو: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتَّقُون) البقرة:
177.
17 - إيثار أغرب اللفظتين، نحو: (قِسْمَةٌ ضِيْزَى) . النجم: 22) ، ولم
يقل جائرة.
و (لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَة) . الهمزة: 4) ، ولم يقل جهنم أو النار.
وقال في المدثر: (سَأصْليهِ سَقَر) . المدثر: 26.
وفي سأل (إِنَّهَا لَظَى (15) .
وفي القارعة: (فأمهُ هَاوِية) . لمراعاة فواصل كل سورة.
18 - اختصاص كل من المشتركين بموضع، نحو: (وليذكَّر أولو الألباب)(1/28)
وفي سورة طه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) .
19 - حذف المفعول، نحو: (فأمَّا مَنْ أعطَى واتَّقَى) . الليل: هـ.
(ما وَدَّعَكَ ربُّكَ ومَا قَلَى) الضحى: 2.
ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل، نحو: (يَعْلَم السَرَّ وأخْفَى) ، (خَيْر وأبقى) .
20 - الاستغناء بالإفراد عن التثنية، نحو: (فلا ئخْرِجَتكمَا من الجنة
فتَشْقَى) .
21 - الاستغناء به عن الجمع، نحو: (واجْعَلْنَا للِمُتَّقِين إماماً) . ولم يقل أئمة، كما قال: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) ،: أي أنهار.
22 - الاستغناء بالتثنية عن الإفراد، نحو: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) .
قال الفراء: أراد جنة، كقوله: (فإن الجنةَ هي المأوَى) .
فثنى لأجل الفاصلة.
قال: والقوافي تحتمل من الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام.
ونظير ذلك قول الفراء أيضاً في قوله: (إذ انْبَعَثَ أشْقَاهَا) ، فإنهما رجلان فدَار وآخر معه ولم يقل أشقياها للفاصلة.
وقد أنكر ذلك ابن قتيبة وأغلظ فيه، وقال: إنما يجوز في رؤوس الآي زيادة
هاء السكت أو الألف أو حذف همزة أو حرف، فأما أن يكون الله وعد جنتين فيجعلهما جنة واحدة لأجل رؤوس الآى فمعاذ الله! وكيف هذا وهو يصفهما بصفات الاثنين.
قال: (ذَوَاتَا أفْنَان) الرحمن: 48) ، ثم قال: " فيهما".
وأما ابن الصائغ فإنه نقل عن الفراء أنه أراد جنات، فأطلق الاثنين على
الجمع لأجل الفاصلة، ثم قال: وهذا غير بعيد.
قال: وإنما أعاد الضمير بعد ذلك بصيغة التثنية مراعاة للفظ، وهذا هو الثالث والعشرون.(1/29)
24 - الاستغناء بالجمَع عن الإفراد، نحو: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ)
، أى ولا خُلّة، كما في الأخرى، وجمع مراعاة للفاصلة.
25 - إجراء غير العاقل مجرى العاقل، نحو: (رَأيْتُهُمْ لي ساجدين) .
(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) .
26 - إمالة ما لا يمال، كآى طه والنجم.
27 - الإتيان بصيغة المبالغة، كقدير، وعليم، مع ترك ذلك في نحو: (هو
القادر) ، و (عالم الغيب) .
ومنه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) .
28 - إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض، نحو: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) .
أوثر على عجيب لذلك.
29 - الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) .
30 - إيقاع الظاهر موقع المضمر، نحو: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) .
وكذا آية الكهف.
31 - وقوع مفعول موقع فاعل، كقوله: (حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
(إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) .
أي ساتراً، وآتياً.
32 - وقوع فاعل موقع مفعول، نحو (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) .
(ماءٍ دافق) .
33 - الفصل بين الموصوف والصفة، نحو: (أخرج المرعَى فجعلَهُ غثَاءً
أحْوَى) . الأعلى: 5، 6، إن أعْرِب أحوى صفة للمرعى، أي حالاً.
34 - إيقاع حرف مكان غيره، نحو: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) .
والأصل إليها.(1/30)
35 - تأخير الوصف غير الأبلغ عن الأبلغ.
ومنه: الرحمن الرحيم.
رؤوف رحيم، لأن الرأفة أبلغ من الرحمة.
36 - حذف الفاعل ونيابة المفعول نحو: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) .
37 - إثبات هاء السكت، نحو: مالِيَه. سُلْطَاييَه. مَا هِيَه.
38 - الجمع بين المجرورات، نحو: (ثم لا تَجِدُوا لكم عَلَيْنَا به تَبِيعا)
، فإن الأحسن الفصل بينهما، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت
عدمه.
39 - العدول عن صيغة المضي إلى صيغة الاستقبال، نحو: (فَفَرِيقاً كذَّبتم
وفريقاً تَقْتُلون) ، الأصل قتلتم.
40 - تغيير بنْية الكلمة، نحو: (وطورِ سينين) التين: 2.
والأصل طور سيناء.
قال ابن الصائغ: لا يمتنعُ في توجيه الخروج عن الأصل في الآيات المذكورة
أمور أخرى مع وجه المناسبة، فإن القرآن العظيم - كما جاء في الأثر - لا تنقضي عجائبه.
وقال ابن أبي الإصبع: لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء:
التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال.
والتمكين - ويسمى ائتلاف القافية: أن يمهد الناثرُ للقرينة أو الشاعر للقافية
تمهيداً تأتي به القافية أو القرينة متمكنة في أماكنها مستقرة في قرارها، مطمئنة
في مواضعها، غير نافرة ولا قلقة، ومتعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقاً تاما، بحيث لو طُرِحَت لاختل المعنى واضطرب الفهم، وبحيث لو سكت عنها كمّله السامع بطبعه.
ومن أمثلة ذلك قوله: (يا شُعَيْبُ أصَلاتُكَ تأمُرُكَ) .(1/31)
لما تقدم في الآية ذكر العبادة وتلاه ذكر التصرف في الأموال اقتضى ذلك ذكر الحلم والرشد على الزتيب، لأن الحلم يناسب العبادات، والرشد يناسب الأموال.
وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) ... إلى قوله: (أفلا يُبْصرُون) السجدة: 26، 27) .
فأتى في الآية الأولى بـ يهْدِ لهم، وختمها بِ "يَسْمَعُون "، لأن الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون.
وفي الثانية بـ يروا، وختمها بـ "يبصرون" لأنها مرئية.
وقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) .
فإن اللطيف يناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبير يناسب ما يدركه.
وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ...
إلى قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ، فإن في هذه الفاصلة التمكين التام المناسب لما قبلها.
وقد بادر بعض الصحابة حين نزل أول الآية إلى ختمها بها قبل أن يسمع
آخرها، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن زيد بن ثابت، قال: أمْلَى
عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ... إلى قوله: خلقاً آخر - قال معاذ بن جبل: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له معاذ: مِمَّ ضحكْتَ يا رسول الله، قال: بها خُتِمت.
وحكي أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: " فإنْ زَللْتُمْ من بعد ما جاءتكم البيناتُ
فاعلموا أن الله غفور رحيم ".
ولم يكن يقرأ القرآن، فقال: إن هذا ليس بكلام الله، لأن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه.
تنبيهات
الأول - قد تجتمع فواصل في موضع واحد، ويخالف بينها، كأوائل النحل.
فإنه تعالى تبدأ بذكر الأفلاك، فقال: (خلَقَ السَّماواتِ والأرضَ بالحقِّ)(1/32)
ثم ذكر خلق الإنسان (من نطْفَة) ، ثم ذكر خلق " الأنعام "، ثم عجائب النبات، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) الآية.
فجعل مقطع هذه الآية التفكر، لأنه استدلال بحدوث الأنواع
المختلفة من النبات على وجود الإله القادر.
ولما كان هنا مظنة سؤال، وهو أنه: لِمَ لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع
الفصول وحركات الشمس والقمر، وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال - كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقياً، فأجاب عنه تعالى من وجهين:
أحدهما - أن تغييرات العالم السفلي مربوطة بأحوال حركات الأفلاك، فتلك
الحركات كيف حصلت، فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل، وإن كان من الخالق الحكيم فذلك إقرار بوجود الإله تعالى، وهو المراد بقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) .
فجعل مقطع هذه الآية العقل، وكأنه قيل: إن كنًت عاقلاً فاعلم أن التسلسل باطل، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون مُوجِدها غير متحرك، وهو الإله القادر المختار.
والثاني: أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة
الواحدة - واحدة، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية
الحمرة والآخر في غاية السواد، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصولُ
هذا التفاوت في الآثار، فعلمنا أن المؤثر قادر مختار.
وهذا هو المراد من قوله: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) .
كأنه قال: اذكر ما يرسخ في عقلك أن الواجب بالطبع والذات
لا يختلف تأثيره، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع، بل الفاعل المختار، فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآيات.(1/33)
فإن الأولى ختمت بقوله: (لعلكم تعقلون)
والثانية بقوله: (لعلكم تذكرون) ، والثالثة بقوله: (لعلكم تتّقون)
لأن الوصايا التي في الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى، لأن الإشراك بالله لعدم استعمال العقل الدال على توحيده وعظمته.
وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقلُ لسبق إحسانها إلى الولد بكل طريق.
وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرازق الحي الكريم، وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل.
وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل، فحَسُنَ بعد ذلك يعقلون.
وأما الثانية، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية، فإن من علم أن له أيتاماً يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامَل به أيتامه.
ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ولا بَخْس.
وكذا من وعد له وعد لم يحب أن يُخْلَف، ومن أحب ذلك عامل
الناس به ليعاملوه بمثله، فترك ذلك إنما يكون لغفلته عن تدبر ذلك وتأمله.
فلذلك ناسب الختم بقوله: لعلكم تذكرون.
وأما الثالثة فلأن ترك اتباع شرائع الله الدينية يؤدي إلى غضبه وإلى عقابه
فحسُنَ (لعلكم تتقون) ، أى عقاب الله بسببه.
ومن ذلك قوله تعالى في الأنعام أيضاً: (وهو الذي جعل لكم النّجومَ ... )
الآيات، فإنه ختم الأولى بقوله: (لقومٍ يعلمون) ، والثانية بقوله: (لقوم
يَفْقَهون) ، والثالثة بقوله: (لقوم يؤمنون) .
وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء من ذلك، فناسب ختمه بـ يعلمون.
وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى
الدنيا ثم إلى حياة وموت، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق، فناسب ختمه
بـ يفقهون، لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة.
ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأقوات والأرزاق والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه.(1/34)
ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) .
حيث ختم الأولى بـ "تُؤْمِنُونَ"
والثانية بـ "تَذَكَّرُونَ".
ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة وواضحة لا تخفى
على أحد، فقول من قال شعر عناد وكُفْر محض، فناسب ختمه بقوله: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) .
وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إلى تدبّر وتذكّر، لأن
كلاًّ منهما نثر، فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحد كمخالفة الشعر، وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة فحسن ختمه بقوله: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) .
ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدَّث عنه واحد
لنكتة لطيفة، كقوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) .
ثم قال في سورة النحل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) .
قال ابن المنيِّر: كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا مُعْطيها، فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوما، وكونك كفارا، يعني لعدم وفائك بشكرها، ولي عند إعطائها وصفان، وهما أني غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني، وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء.
وقال غيره: إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه، وسورة النحل
بوصف النعم، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان.
وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته.
ونظيره قوله في الجاثية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) .
وفي فصّلَت ختم بقوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) .
ونكتةُ ذلك أن قبل الآية الأولى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) ، فناسب الختام بفاصلة البعث، لأن(1/35)
قبله وصفهم بإنكاره.
وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب، لأنه لا يضيّع عملاً صالحاً ولا يزيد على من عمل سيئا.
وقال في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) .
ثم أعادها وختم بقوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) .
ونكتة ذلك أن الأولى نزلت في اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس
في كتابه، والثانية نزلت في المشركين ولا كتاب لهم وضلالهم أشد.
وقوله في المائدة: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) .
ثم قال في الثانية: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) .
ثم قال في الثالثة: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) .
ونكتته أن الأولى نزلت في حكام المسلمين.
والثانية، في اليهود، والثالثة، في النصارى.
وقيل الأولى فيمن جحد ما أنزل الله، والثانية فيمن خالفه
مع علمه ولم ينكره، والثالثة، فيمن خالفه جاهلاً.
وقيل الكافر والظالم والفاسق
كلها بمعنى واحد، عبّر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب التكرار.
وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدَّث عنه مختلف، كقوله في سورة النور:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... إلى قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) .
ثم قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) .
التنبيه الثاني: من مشكلات الفواصل: قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) .
فإن قوله: "وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" يقتضي أن تكون الفاصلة الغفور الرحيم.
وكذا نقلت عن مصحف أبيّ، وبها قرأ ابن شَنْبوذ، وذكر في حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز أي الغالب(1/36)
والحكيم هو الذي يضع الشيء في محله.
وقد يخفى وجهُ الحكمة على بعض الضعفاء
في بعض الأفعال فيتوهَّمُ أنه خارجِ عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف
بالحكيم احتراس حكيم حسن، وإنْ تغْفِرْ لهم مع استحقاقهم العذاب فلا يعترض عليك أحد في ذلك، والحكمةُ فما فعلته.
ونظير ذلك في سورة التوبة قوله: (أولئك سيرحَمُهمُ الله إنَّ الله عزيز
حكيم) .
وفي سورة الممتحنة: (واغفر لنَا رَبّنَا إنّك أنْتَ العزيزُ الحكيم) .
وفي النور: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) .
فإن باديَ الرأي يقتضي تواب رحيم، لأن الرحمة مناسبة للتوبة، لكن عبّر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة.
ومن خفيِّ ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة البقرة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) .
وفي آل عِمْران: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) .
فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الخَتْمُ بالقدرة، وفي آل عمران الختم بالعلم.
والجواب أن آية البقرة لما تضمنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على
حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، وخلق السماوات خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت، والخالقُ على الوصف المذكور يجب أن يكون عالماً بما فعله كلياً وجزئياً، جملاً ومفصّلاً - ناسب ختمها بصفة العلم.
وآية آل عمران لما كانت في سياق الوعيد على موالاة الكفار، وكان التعبير بالعلم فيها كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ناسب ختمها بصفة القدرة.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) .
فالختم بالحلم والمغفرة عقب(1/37)
تسابيح الأشياء غيْرُ ظاهر في بادي الرأي، وذكر في حكمته أنه لما كانت
الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم بها مراعاةً للمقدر في الآية وهو العصيان، كما جاء في الحديث: لولا بهائم رُتّع، وشيوخٌ ركع، وأطفال رُضّع لَصُبَّ عليكم البلاء صبّا.
وقيل: التقدير: حليما عن تفريط المسبحين غفوراً لذنوبهم.
وقيل: حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بإهمالهم النظر في الآيات والعبر ليعرفوا بالتأمل فما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه.
التنبيه الثالث: من الفواصل ما لا نظير له في القرآن، كقوله عقب الغض في
سورة النور: (إنَّ الله خَبيرٌ بما يَصْنَعُون) .
وقوله عقب الأمر بالدعاء والاستجابة: (لعلهم يَرْشُدُون) .
وفيه تعريض بليلة القدر حيث ذكر ذلك عقب ذكر رمضان، أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها.
وأما التصدير فهو أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت في أول الآية، ويسمى
أيضأ رد العجز على الصدر.
وقال ابن المعتز هو ثلاثة أقسام:
الأول: أن يوافق آخرُ الفاصلة آخر كلمة في الصدر، نحو: (أنزله بعلمه
والملائكة ُ يشهدون وكفى بالله شهيدا) . النساء: 66.
والثاني: أن يوافق أول كلمة منه، نحو: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) .
(قال إني لِعملكمْ مِنَ القَالِين) الشعراء: 168.
الثالث: أن يوافق بعض كلماته، نحو: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) .
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) .
(قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ...
إلى قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) .(1/38)
وأما التوشيح فهو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية.
والفرق بينه وبين التصدير أن هذا دلالته معنوية، وذلك لفظية، كقوله تعالى: (إنّ اللهَ اصْطَفَى آدم ... ) . آل عمران: 33، الآية، فإن اصطفى يدلُّ على أن الفاصلة العالمين لا باللّفظ، لأن " العالمين " غير لفظ " اصطفى "، ولكن بالمعنى، لأنه يعلم أن من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختاراً على جنسه، وجنس هؤلاء المصطفين "العالمين".
وكقوله: (وآيةٌ لَهُمُ الليلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار ... ) الآية.
قال ابن أبي الإصبع: فإن من كان حافظاً لهذه السورة متَفَطِّناً إلى أن
مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة " مظلمون "، لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم، أي دخل في الظلمة، ولذلك سمي توشيحا، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزّل المعنى منزلة الوشاح، ونُزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشْح اللذين يجول.
عليهما الوشاح.
وقسم البديعيون السجع ومثله الفواصل إلى أقسام: مطرَّف، ومتَواز، ومتوازن، ومرصّع، ومتماثل.
فالمطرف: أن تختلف الفاصلتان في الوزن ويتفقا في حروف السجع، نحو:
(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) .
والمتوازي: أن يتفقا وزنا وتقفية، ولم يكن ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية
في الوزن والتقفية، نحو: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) .
والتوازن: أن يتفقا في الوزن دون التقفية، نحو: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) .
والمرصع: أن يتفقا وزناً وتقفية، ويكون ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية
وذلك، نحو: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) .
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) .(1/39)
والمتماثل: أن يتساويا في الوزن دون التقفية، ويكون أفراد الأولى مقابلة لما في الثانية، فهو بالنسبة إلى المرصّع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازي، نحو: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) .
فالكتاب والصراط متوازنان، وكذا المستبين والمستقيم، واختلفا في الحرف
الأخير.
(فصل)
بقي نوعان بديعيان متعلقان بالفواصل: أحدهما التشريع، وسماه ابن أبي
الإصبع التوأم، وأصله أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان العروض، فإذا سقط منهما جزء أو جزآن صار الباقي بيتاً من وزن آخر، ثم زعم قوم اختصاصه
وقال آخرون: بل يكون في النثر بأن يبني على سجعتين لو اقتصر على الأولى
منهما كان الكلام تاماً مفيداً، وإن ألحقت به السجعة الثانية كان في التمام
والإفادة على حاله مع زيادة معنى ما زاد في اللفظ.
قال ابن أبي الإصبع: وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن، فإن آياتها
لو اقتصر فيها على أولى الفاصلتين دون (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)
لكان الكلام تاماً مفيداً، وقد كمل بالثانية، فأفاد معنى زائداً من التقرير والتوبيخ.
قلت: التمثيلُ غير مطابق، والأولى بأن يمثل بالآيات التي في أثنائها ما يصلح
أن يكون فاصلة، كقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) .
الثاني: الالتزام، ويسمى لزوم ما لا يلزم، وهو أن يُلتزم في الشعر أو النثر
حرفٌ أو حرفان فصاعداً قبل شرط الروي بشرط عدم الكلفة، مثال التزام
حرف: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) .
التزم الهاء قبل الراء ومثله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) .
الآي التزم(1/40)
فيها الراء قبل الكاف.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) .
التزم فيها النون المشددة قبل السين.
(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) .
ومثال التزام حرفين: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) .
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) .
(بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) .
ومثال التزام ثلاثة أحرف: (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) .
تنبيهات
الأول: قال أهل البديع: أحسن السجع ما تساوت قرائنه، نحو: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) .
ويليه ما طالت قرينته الثانية نحو: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) .
والثالثة نحو: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) .
وقال ابن الأثير: الأحسن في الثانية المساواة، وإلا فأطول قليلاً، وفي الثالثة
أن تكون أطول.
وقال الخفاجي: لا يجوز أن تكون الثانية أقصر من الأولى.
الثاني: قالوا: أحسن السجع ما كان قصيراً، لدلالته على قوة المنشىء، وأقله كلمتان نحو: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) .
و (الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) .
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) .
و (الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) .(1/41)
والطويل - ما زاد على العشرة كغالب الآيات، وما بينهما متوسط كآيات سورة القمر
الثالث: قال الزمخشري في كشافه القديم: لا تحسن المحافظةُ على الفواصل
لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم
والقوافي، فأما أن تهمل المعاني ويُهتمّ بتحسين اللفظ وحده، غير منظور فيه إلى مؤداه، فليس من قبيل البلاغة، وبني على ذلك أنَّ التقديم في: (وبالآخرة هم يُوقِنون) - ليس لمجرد الفاصلة، بل لرعاية الاختصاص.
الرابع: مبنى الفواصل على الوقف، ولهذا ساغ مقابلة المرفوع بالمجرور، وبالعكس، كقوله: (إنا خلقناهم مِنْ طِين لاَزِب) ، مع قوله: (عَذَابٌ وَاصِبٌ) ، و (شَهَابٌ ثاقبٌ) ، وقوله: (بماءٍ منْهَمِر) ، مع قوله: (قَدْ قُدِرَ) (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) .
وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) ، مع قوله: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) .
الخامس: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون.
وحكمته وجود التمكن مع التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنهم إذا ترنموا
يلحقون الألف والياء والنون، لأنهم أرادوا مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا، وجاء القرآن على أسهل موقف وأعظم مقطع.
السادس: حروف الفواصل إما متماثلة، وإما متقاربة، فالأول مثل:
(وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) . والثاني مثل: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) .
قال الإمام فخر الدين وغيره: إن فواصل القرآن لا تخرج عن هذين(1/42)
القسمين، بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة، قال: وبهذا يترجح مذهب الشافعي على مذهب أبي حنيفة في عد الفاتحة سبع آيات من البسملة وجعل صراط الذين ... إلى آخرها آية، فإن مَنْ جعل آخر الآية: (أنعمت عليهم) مردود بأنه لا يشابه فواصل سائر آيات السورة لا بالمماثلة ولا بالمقاربة، ورعاية المتشابه في الفواصل لازمة.
السابع: كثر في الفواصل التضمين والإيطاء، لأنهما ليسا بعيبين في النثر وإن
كانا عيبين في النظم.
فالتَّضمين أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقاً بها، كقوله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) .
والإيطاء تكرر الفاصلة بلفظها، كقوله تعالى: في الإسراء:
(هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) .
وختم بذلك الآيتين بعدها.
*******
الوجه الرابع من وجوه إعجازه.
مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني.
وقد ألف عماؤنا في أسرارها تواليف كثيرة منهم العلامة أبو جعفر بن الزبير
شيخ أبي حيان في كتاب سمَّاه " البرهان " في مناسبة ترتيب سور القرآن.
ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سمَّاه نظم الدرر في تناسب الآي والسور.
وكتابي الذي صنفته في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات
السور والآيات مع ما تضمَّنه مرتباً من جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء لطيف سميته تناسق الدرر في
تناسب السور.
وعلم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، وممن أكثر منه الإمام
فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان كثير العلم في(1/43)
الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئت عليه الآية: لم جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد، لعدم علمهم بالمناسبة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في
حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على
أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط.
ومَنْ ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نَيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربْطُ بعضه ببعض.
وقال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وَهِمَ من قال: لا يطلب للآية الكريمة
مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة.
وفصلُ الخطاب أنها على حسب الوقائع
تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً، وتأصيلاً، فالصحف على وفق اللوح
المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة.
ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم.
وهكذا في السور يطلب وجْه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
وقال الإمام الرازي في سورة البقرة: ومَنْ تفكر في لطائف نظم هذه السورة
وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف
معانيه فهو أيضاً معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز
بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه
اللطائف، غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصارُ صورتَه ... والذنْبُ للطرف لا لِلنَّجْمِ في الصغَر
المناسبة في اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى
رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع(1/44)
علاقات التلازم الذهنيّ، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين
والضدين ونحوه.
وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك
الارتباط، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم التلائم الأجزاء فنقول:
ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلام بعضه
ببعض وعدم تمامه في الأولى، فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على
وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل، وهذا القسم لا كلام فيه.
وإما ألا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها
خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم، أو لا.
فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه، كقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) .
وقوله: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) .
للتضاد بين القبض والبصط، والولوج والخروج، والنزول والعروج، وشبه التضاد بين السماء والأرض.
ومما العلاقة فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة.
وقد جرت عادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً أو وعيدا.
لتكون باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه، ليعلم عِظَم الآمر الناهي.
وتأمَّلْ سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك.
وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤْذن باتصال الكلام، وهي قرائن
معنوية تؤذن بالربط.
وله أسباب:
أحدها: التنظير، فإن إلحاق النَّظير بالنَّظير من شأن العقلاء،(1/45)
كقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) - عَقِب قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضيَ لأمره في الغنائم على
كُرْهٍ من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير أو القتال
وهم له كارهون، والقصدُ أن كراهتهم لما فعله من قسم الغنائم ككراهتهم
للخروج.
وقد تَبَين في الخروج الخير من النصر والظفر والغنيمة وعزّ الإسلام.
فكذا يكون فيما فعله في القسمة، فليطيعوا ما أمروا ويتركوا هَوَى أنفسهم.
الثاني: المضادة، كقوله في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) .
فإن أول السورة كان حديثاً عن القرآن، وأن من شأنه الهدايةَ للقوم الموصوفين بالإيمان.
فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فبينهما جامع وهميّ بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثاً عن المؤمنين بالعَرَض لا
بالذات، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن، لأنه مفتتح القول.
قيل: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن، والعمل به، والحثّ على الإيمان، ولهذا لما فرغ من ذلك قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) . - فرجع إلى الأول.
الثالث: الاستطراد: كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) .
قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ
السَّوْءات، وخَصْف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العراء وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى.(1/46)
وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، فإن أول الكلام ذكر فيه الرد
على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة.
ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص، وهو أن
ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً دقيق
المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما.
وقد غلط أبو العلاء بن غانم في قوله: لم يقَعْ منه في القرآن شيء لما فيه من
التكلف، وقال: إن القرآن إنما وقع رداً كل الاقتضاب الذي هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم.
وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحيّر العقول.
وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) .
وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله.
وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) .
فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله: (ييَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) .
وفي سورة الكهف حكى سدّ " ذو القرنين " بقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، فتخلَّص منه إلى وصف حالهم بعد ذكر الذى(1/47)
هو من أشراط الساعة ثم النفخ في الصور، وذكر الحَشْر، ووصف حال الكفار والمؤمنين.
وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلص تركت ما
كنتَ فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه.
وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مروراً كالبرق الخاطف ثم تتركه إلى ما كنت فيه، كأنك لم تقصده، وإنما عرض عروضاً.
قال: وبهذا يظهر أن ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا
التخلص، لعَوْدِه في الأعراف إلى قصة موسى بقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ) .
وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم.
ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً للسامع
مفصولاً بهذا كقوله في سورة ص - بعد ذكر الأنبياء: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) .
قال: هذا القرآن نوع من الذكر لَمّا انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعاً آخر وهو ذكر الجنة
وأهلها، تم لما فرغ قال: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) .
فذكر النار وأهلها.
قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل هو أحسن من الوصل، وهي
علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر.
ويقرب منه أيضاً حسن الطلب.
قال الزنجاني والطيبي: وهو أن يخرج إلى الغرض بعد تقدمة الوسيلة، كقولك: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
قال الطيبي: وما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله تعالى - حكاية
عن إبراهيم: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي) ...
إلى قوله (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) .(1/48)
قاعدة
لبعض المتأخرين: الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبة الآيات في جميع القرآن
هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرْب والبعْد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في مقدمات إلى ما تستتبعه من استشراف، نَفْس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المعين على حكم الربط بين جيع أجزاء القرآن، فإذا فعلْتَه بيَّن لك وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة وسورة.
تنبيه:
من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة
القيامة: (لا تحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ به ... ) . القيامة: 16، الآيات، فإن
وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسير جداً، فإن السورة كلها في أحوال
القيامة، حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى زعم القَفّال فيما حكاه الفخر الرازي إلى أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل، في قوله: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) ..
قال: يعرض عليه كتابه، فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفاً، فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت، ثم إن علينا بيانَ أمرِ الإنسان وما يتعلق بعقوبته.
وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسانَه حالة نزول الوحي.
وقد ذكر الأئمة لها مناسبات:
منها: أنه تعالى لما ذكر القيامة، وكان من شأن من يقصّر عن العمل لها حبّ العاجلة، وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى(1/49)
أفعال الخير مطلوبة، فنبه على أنه قد يعترِض على هذا المطلوب ما هو أجل منه، وهو الإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يراد منه، والتشاغل بالحفظ قد يصدّ عن ذلك، فأمر بألا يُبادر إلى التحفظ، لأن تحفيظه مضمون على ربه، وليصغي إلى ما يرد عليه إلى أن يقضى، فيتّبع ما اشتمل عليه.
ثم لما انقضت الجملةُ المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبدأ بذكره، ومن هو من جنسه، فقال: (كلا) . القيامة، 20، وهي كلمة رَدعْ، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عَجَل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة.
ومنها أن عادة القرآن إذا ذكر الكلام المشتمل على عمل العبد حيث يعرض
يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في الكهف: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ... ، إلى أن قال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) .
وقال في طه: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) .
إلى أن قال: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) .
ومنها أن أول سورة القيامة لما نزل إلى: (ولَوْ ألْقَى مَعَاذِيره) القيامة:
15، صادف أنه اعمط في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وتحرك به لسانه من عجلته خشيةً من تفلته، فنزل: لا تحرك به لسانك ...
إلى قوله: ثم إن علينا بيانه، ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدىء به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مسألة فتشاغل
الطالب بشيء عرض له، فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهم ما أقول.
ثم كمل المسألة، فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسباً للمسألة بخلاف مَنْ عرف ذلك.
ومنها أن " النفس" لما تقدم ذكرها في أول السورة عدل إلى ذكر نفس(1/50)
المصطفى، كأنه قال: هذا شأن النفوس، وأنت يا محمد نفسك أشرف النفوس، فلتأخذْ بأكمل الأحوال.
ومن ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن الأهِلَّةِ) .
فقد قيل: أي رابط بين أحكام الأهلّة وبين حكم إتيان البيوت من أبوابها؟
وأجيب بأنه من باب الاستطراد، لما ذكر أنها مواقيت للحج، وكان هذا من
أفعالهم في الحج - كما ثبت في سبب نزولها - ذكر معه من باب الزيادة في الجواب على ما في السؤال على حد: سئل عن ماء البحر، فقال: هو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيْتَته.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) .
فقد يقال: ما وجه اتصاله بما قبله، وهو قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) .
فقال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن الدهان يقول: وجه اتصاله هو أن تخريب بيت المقدس قد سبق، أي فلا يَجْرِمَنَّكم ذلك واستقبلوه، فإن لله المشرق والمغرب.
فصل
من هذا النوع مناسبة السور.
وقد أفردت فيه جزءاً لطيفاً سميته مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع.
وانظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته، وقوله: (فلَنْ
أكُونَ ظَهيراً لِلْمُجْرِمين) القصص: 17.
وخروجه من وطنه.
وختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يكون ظهيراً للكافرين، وتسليته عن إخراجه من مكة، ووعده بالعود إليها، لقوله في أول السورة: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) القصص: 7.
قال الزمخشري: وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنون: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) .
وأورد في خاتمتها: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) .
فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.(1/51)
وذكر الكَرْمَاني في العجائب مثله، وقال في سورة ص: بدأها بالذكر
وختمها بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) .
وفي سورة ن بدأها بقوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) .
وختمها بقوله: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) .
ومنه مناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها، حتى إن منها ما يظهر تعلقها به
لفظاً، عما في: (فجعلهم كعَصْفٍ مَأكول) .
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) .
فقد قال الأخفش: اتصالها به من باب قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) .
وقال الكواشي في تفسير المائدة: لما ختم سورة النساء أمراً بالتوحيد والعدل
بين العباد أكد ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
وقال غيره: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به
السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) .
وكافتتاح سورة فاطر بالحمد أيضاً، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله
تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) .
كما قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) .
وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به.
وكافتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) .
فإنه إشارة إلى الصراط في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) .
كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط قيل لهم: ذلك الصراط المستقيم الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب.(1/52)
وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة.
ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة التي قبلها، لأن السابقة وصف الله
المنافق فيها بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر فيها في مقابلة البخل: إنا أعطيناك الكوثر، أي الخير الكثير.
وفي مقابلة ترك الصلاة فصلِّ، أي فَدمْ عليها.
وفي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس.
وفي مقابلة منع الماعون وانْحَر، وأراد به التصدق بلحم الأضاحي.
وقال بعضهم: لترتيب وضع السور في الصحف أسباب تُطْلِعُ على أنه توقيفي
صادر عن حكيم:
أحدها: بحسب الحروف، كما في الخواتيم.
الثاني: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى وأول
البقرة.
الثالث: للوزان في اللفظ، كآخر " تبّت" وأول " الإخلاص ".
الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة أخرى كالضحى و" ألم نشرح ".
قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالرّبوبية والالتجاء إليه في
دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية.
وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين.
وآل عمران تكملة المقصود، فالبقرة بمنزلة إقامة الدين على
الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيه ذكر
المتشابه لما تمسك به النصارى.
وأوجب الحج في آل عمران.
وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في
آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور الكلية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميعُ الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا بأهل الكتاب، يا بني إسرائيل، يا أيها الذين آمنوا.(1/53)
وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بيْنَ الناس، وهي نوعان:
مخلوقة لله تعالى، ومقدرة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) .
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ.
فانظر هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم بخلق زوجه منه، ثم بثّ منهما رجالاً كثيرا ونساء في غاية الكثرة.
وأما المائدة فقد تضمنت بيان تمام الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بعهود
الرسول، وما أخذ على الأمة، وبهما تم الدين، فهي سورة التكميل، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كالوضوء، والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإتمام والإكمال، وذكر فيها أن من ارتد عَوضَ الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملاً، ولهذا ورد فيها أنها آخر ما نزل، لما فيها من إشارات الختم والتمام.
وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب.
وقال أبو جعفر بن الزبير: حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على جمع
القرآن، ووضعوا سورة " القَدْر " عقِبَ " العَلَق "، استدلوا بذلك على أن المراد بذلك الكناية في قوله: (إنا أنزلناه في ليلةِ القَدْرِ) الإشارة إلى قوله اقْرَأ.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جداً.(1/54)
قال في البرهان: ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل
واحدة بما بدئت به، حتى لم تكن ترد آلم في موضع آلر ولا حم في موضع طس.
قال: وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع " ق " موضع " ن "، لم يمكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله.
وسورة " ق " بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذلك القرآن، والخلق، وتكرير القول، ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد والرقيب، والسابق، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، والقلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، وحقوق الوعيد، وغير ذلك.
وقد تكررت الراء في سورة يونس من الكلام الواقع فيها إلى مائتي كلمة أو
أكثر، فلهذا افتتحت بالراء.
واشتملت سورة " ص " على خصومات متعددة، فأولها خصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار وقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) .
ثم اختصام الخَصْميْن مع داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام المَلَأِ الأعْلَى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم.
والم جمعت الخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها، وذلك إشارة
إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والتوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي.
وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة.
وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص: قصة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)
، ولهذا قال بعضهم: معنى الص: ألم نشرح لك صدرك.(1/55)
وَزِيد في الرعد لأجل قوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) ، ولأجل ذكر
الرعد والبرق وغيرهما.
واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق
بالقرآن، كقوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) .
(نَزَّل عليكَ الكتابَ) .
(المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) .
(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) .
(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) .
(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) .
(يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) .
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) .
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) .
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) .
إلا في ثلاث سور: العنكبوت، والرّوم، ون، ليس فيها ما يتعلق به، وقد ذكرتُ حكمة ذلك في أسرار التنزيل.
وقال الحرالي: في معنى حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر.
وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
اعلم أن القرآن نزل عند انتهاء الخلق، وكمال كل الأمر بَدْءاً، فكان التخلق به جامعاً لانتهاء كل خلق، وكمال كل أمر، فكذلك هو قيم الكون، وهو الجامع الكامل، ولذلك كان خاتماً وكتابه كذلك.
وبدأ المعاد من حين ظهوره، فاستوفى هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها، وتممت عنده غاياتها، بعثت لأتَمِّمَ مكارم الأخلاق، وهي صلاح الدين والمعاد التي جمعها قوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها
معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي.
وفي كل صلاح إقدام وإحجام، فتصير الجوامع الثلاثة ستة هي حروف القرآن الستة، ثم وهب حرفاً جامعاً شائعاً فردا لا زوج له، فتمت سبعة.
فأدنى تلك الحروف هو صلاح الدنيا، فلها حرفان: حرف الحرام الذي لا
تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه، لبعده عن تقويمها.
والثاني حرف الحلال(1/56)
الذي تصلح النفس والبدن عليه لوافقته تقويمها، أصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن.
ويلي ذلك حَرْفَا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي
الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهر منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي لا تصلح الآخرة إلا عليه لتقاضيه لحسناها، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن.
ويلي ذلك حرفا صلاح الدين: أحدها حرف المحكم
الذي بان للعبد فيه خطابُ ربه، والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه، فالحروف الخمسة للاستعمال، وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلهما، وتمامهما في القرآن.
ويختص القرآن بالحرف السابع، وهو حرف المثل المبين للمثل الأعلى.
ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به القرآن، وجمع فيه جوامع
الحروف السبعة التي بثها في القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد
الشائع، والثانية تشتمل على حَرْفَي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بها الدنيا والرحيمية الآخرة.
والثالثة تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدو أمرها في الدين.
والرابعة تشتمل على حرفي الحكم في قوله: إيّاك نَعْبُد، والمتشابه في قوله:
وإياك نستعين.
ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة
بالسادس المعجوز عنه، وهو المتشابه.
انتهى كلام الحرالي.
والمقصود منه هو الأخير.
على أني أقول: المناسبة في ابتداء البقرة بـ "الم" أحسن مما قال، وهو أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد الذي لا يُعْذَر أحد في فهمه - ابتدئت البقرة بمقابله، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيلة.
ومن هذا النوع مناسبة أسماء السور لمقاصدها.
وفي العجائب للكَرْماني: إنما سُميت السور السبع " حم " على الاشتراك في(1/57)
الاسم لما بينهنَّ من التَّشَاكُل الذي اختصت به، وهو أن كل واحدة منها
استفتحت بالكتاب أو صِفَة الكتاب، مع تفاوت المقادير في الطول، والقِصَر، وتشاكل الكلام في النظام.
*******
الوجه الخامس من وجوه إعجَازه افتتاح السور وخواتمها
وهو من أحسن البلاغة عند البيانيين.
وهو أنْ يتأتقَ فىِ أول الكلام، لأنه
أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً قِبَل السامع قَبِلَ الكلام ووعاه، وإلا
أعرض عنه، وإن كان في نهاية الحسن، فينبغي أن يُؤتى فيه بأعذب اللفظ
وأرقّه، وأجزله وأسلسه، وأحسنه نظماً وسبكاً، وأصحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملْبِس، أو الذي لا يناسب.
قالوا: وقد أتت فواتح جميع السور على أحسن الوجوه وأكملها، كالتحميدات، وحروف النداء، والهجاء، وغير ذلك.
ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى براعة الاستهلال، وهو أن
يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتلكم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله، والعَلَم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن! فإنها مشتملة على جميع مقاصده، لأنه افتتح فيها فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن.
وهذا هو الغاية فىِ براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة.
وخواتم السور مثل الفواتح فىِ الحسن، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى لا يبقى معه للنفوس تشوّق إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا، وفرائض، وتحميد وتهليل ومواعظ، ووعد ووعيد، إلى غير ذلك، كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة الفاتحة، إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي السبّبة لغَضَبِ الله والضلال، ففصّل جملة(1/58)
ذلك بقوله: الذين أنعمت عليهم.
والمراد المؤمنون، ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيده ليتناول كلَّ إنعام، لأنَّ مَنْ أنعم الله عليه بنعمة الإيمان فقد أنعم عليه بكل نعمة، لأنها مسببة لجميع النعم، ثم وصفهم بقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين.
يعني أنهم جعوا بين النعم المطلقة - وهي نعمة الإيمان - وبين السلامة من
غضب الله والضلال المتسبّبَيْن عن معاصيه وتعدي حدوده، وكالدعاء الذي
اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة، وكالوصايا التي
ختمتنها سورة آل عمران، والفرائض التي ختمت بها سورة النساء، وحَسُنَ
الخَتْم بها لما فيها من أحكام الموت الذي هو آخر كل امرئ حي، والآخر ما
نزل من الأحكام وكالتبجيل والتعظيم الذقي خُتِمَتْ به المائدة.
وكالوعد والوعيد الذي ختمت به الأنعام.
وكالتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به الأعراف.
وكالحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختمت به الأنفال.
وكوصف الرسول ومدحه والتهليل الذي ختمت به براءة.
وتسليته عليه السلام التي ختم بها سورة يونس.
ومثلها خاتمة هود.
ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به يوسف.
والرد على من كذّب يوسف والرد على من كذب الرسول الذي ختم به الرعد.
ومن أوضح ما آذن بالختام خاتمة إبراهيم: (هذا بلاغ للناس) .
ومثلها خاتمة الأحقاف، وكذلك خاتمة الحجر: (واعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأتيكَ
اليَقين) ، وهو مُفَسّر بالموت، وهو في غاية البراعة.
وانظر إلى سورة الزّلْزَلة كيف بدئت بأحوال القيامة، وختمت بقوله:
(فَمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يرَه) .
وانظر إلى براعة آخر آية نزلت، وهي قوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، وما فيه من الإشعار بالآخرية المستلزمة للوفاة.
وكذا آخر سورة نزلت، وهي سورة النَّصْرِ، فيها الإشعار بالوفاة، كما قال ابن عباس، كأنه قال له: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) .
فذلك علامة أجَلك.
(فسبِّحْ بحمده رَبِّكَ واستَغْفِرْه إنه كان تواباً) ، ووافقه عمر على ذلك.(1/59)
فإن قلت: ما الحكمة في ختم هذا القرآن العظيم بالمعوّذتين؟
والجواب ما قاله ابن جرير في تفسيره عن شيخه ابن الزبير: لثلاثة أمور:
الأول: لما كان القرآن العظيم من أعظم نعم الله على عباده، والنعم مظنّة
الحسد، فختم بما يطفىء الحسد من الاستعاذة بالله.
الثاني: إنما ختم بهما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيهما: أنْزِلَتْ عليَّ آيات لم أرَ مِثْلَهن قط، كما قال في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها، فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين لم ير مثلهما، ليجمع حسن الافتتاح والاختتام.
ألا ترى أن الخطَب والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما يُنظر فيها إلى
حسن افتتاحها واختتامها.
الثالث: أنه لما أمر القارىء أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ختم
القرآن بالمعوذتين لتحصُلَ الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، ليكون القاريء محفوظاً بحفظ الله الذي استعاذ به من أول الأمر إلى آخره.
قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، حدثنا محمد بن
صالح بن هانيء، حدثنا الحسين بن الفضل، حدثنا عفان بن مسلم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومه منها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علم التوراة والإنجيل والزبور في الفرقان، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم جميع الكتب المنزلة.
وقد وُجّه ذلك بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن وقامت بها الأديان
أربعة: علم الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته، وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم.
ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم.(1/60)
ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة بـ مالِكِ يوْم الدين.
وعلم العبادات، وإليه الإشارة بـ إيّاكَ نَعْبد.
وعلم السلوك، وهو حَمْلَ النفس على الآداب الشرعية، والانقياد لرب
البرية، وإليه الإشارة بإياك نستعين، اهْدِنا الصِّرَاط المستقيم.
وعلم القصص، وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ليعلم المطلع على ذلك سعادة من أطاع الله وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله: صراط الذين أنعمت عليهم غَيْر المغضوب عليهم ولا الضالين.
فنَبَّه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال
- مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة.
وكذلك أول سورة اقْرَأ لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر
بالقراءة والبداءة فيها باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب، وإثبات ذاته وصفاته، من صفات ذات وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين.
وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: (عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يعْلَمْ) .
ولهذا قيل: إنها جديرة أن تُسمى عنوان القرآن، لأن
عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
والكلام في هذا الوجه عريض، أفرده بالتأليف ابن أبي الإصبع في كتاب
سماه " الخواطر السوانح في أسرار الفواتح "، وهأنا ألخص هنا ما ذكره مع زوائد من غيره، طالبا ممن نظر فيه دعوة خالصة في وقت استجابةٍ أن ينفعنا بهذا القرآن العظيم بجاه نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم:
اعلم أن الله تعالى افتتح القرآن بعثصرة أنواع من الكلام لا يخرج شيء من
السور عنها:
الأول: الثناء عليه تعالى، والثناء قسمان: إثبات لصفات المدح، ونفي وتنزيه عن صفات النقص.
فالأول التحميد في خمس سور، و (تبارك) في سورتين.
والثاني: التسبيح في سبع سور.
قال الكِرْماني في متشابه القرآن: التسبيح كلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر(1/61)
في بني إسرائيل، لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد والحشر، لأنه أسبق
الزمانين، ثم بالضارع في الجمعة والتَّغَائن، ثم بالأمر في الأعلى، استيعابا لهذه
الكلمة من جميع جهاتها.
الثاني: حروف التهجي في تسع وعشرين سورة، وسيأتي الكلام عليها في وجه تشابهه، ومضى في وجه مناسبة سوره.
الثالث: النداء في عشر سور، خمس بنداء الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الأحزاب، والطلاق، والتحريم، والمزَّمّل، والمدَّثّر.
وخمس بنداء الأمة: النساء، والمائدة، والحج، والحجرات، والممتحنة.
الرابع: الجمل الخبرية، نحو: (يسألونك عن الأنفال) .
(برَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسولِه) .
(أتى أمْر اللهِ) .
(اقترب للناسِ حِسابهم) .
(قد أفلح المؤمنون) .
(سورَةٌ أنزلناها) .
(تَنْزِيل الكتَاب) .
(الذين كفَروا) .
(إنَّا فَتَحْنَا) .
(اقْتَرَبَتِ الساعة) .
(الرحمن علَّم القرآن) .
(قد سَمِع)
(الحاقَّةُ) .
(سأل سائل) .
(إنا أرسلنا نوحاً) .
(لا أقْسم) في موضعين القيامة، والبلد.
(عبس) .
(إنا أنزلناه) .
(لم يكن)
(القارعة) .
(ألهاكم) .
(إنا أعطيناك) .
فتلك ثلاثٌ وعشرون سورة.
الخامس: القَسَم في خمس عشرة سورة أقسم فيها بالملائكة وهي: والصافّات. وسورتان بالأفلاك: البروج، والطارق.
وست سور بلوازمها: في النجم أقسم بالثريا.
والفجر بمبدأ النهار.
والشمس بآية النهار.
والليل بشطر الزمان.
والضحى بشطر النهار.
والعصر بالشطر الآخر، أو بجملة الزمان.
وسورتان بالهواء الذي هو أحد العناصر: والذاريات، والمرسلات.
وسورة بالتربة التي هي منها أيضاً، وهي الطور.
وسورة بالنَّبَاتِ وهي: والتين.
وسورة بالحيوان الناطق، وهي: والنازعات.
وسورة بالبهائم، وهي: والعاديات.(1/62)
السادس: الشرط في سبع سور: الواقعة.
والمنافقون. والتكوير. والانفطار. والانشقاق. والزّلْزَلَة. والنَّصْر.
السابع: الأمر في ست سور: (قل أوحى) .
(اقرأ) (قل يا أيها الكافرون) والإخلاص. والمعوِّذتين.
الثامن: الاستفهام في ست: (هل أتى) . (عَمَّ يتساءلون) . (هل أتاك)
(ألم نشرح) . (ألم تر) . (أرأيت)
التاسع: الدعاء في ثلاث: (وَيْلٌ لِلْمُطَففِين) .
(وَيْلٌ لِكلّ همزة) .
(تَبَّتْ يَدَا) .
العاشر: التعليل في: (لإيلَافِ فريش) .
هكذا جمع أبو شامة، قال وما ذكرناه في قسم الدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر، وكذا الثناء كله خبر إلا سبّح
فإنه يدخل في قسم الأمر، وسبحان يحتمل الأمر والخبر، ثم نظم ذلك في بيتين:
أثنى على نَفْسِهِ سبحانه بثبو ... ت الحمد والسلب لَمَّا استفتح السّوَرَا
والأمرُ شرط النِّدا التعليل والقَسَم ال ... عما حروف التهجِّي استفهمِ الْخَبَرا
وسئل الشيخ الإمام تاج الدين السبكي عن الحكمة في افتتاح سورة الإسراء
بالتسبيح، والكهف بالتحميد.
فأجاب بأن التسبيح حيث جاء مقدم على
التحميد، نحو: فسبح بحمد ربك.
سبحان الله والحمد لله.
وأجاب ابن الزَّمْلكاني بأن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء الذي
كذّب المشركون به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيبه تكذيبٌ لله تعالى - أتى بسبحان لتنزيه الله عما نُسب إليه ولنَبِيِّه من الكذب.
وسورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف
وتأخير الوحي نزلت مبيّنَةً أنَّ الله تعالى لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.
وفي تفسير الحوفي: افتتحت الفاتحة بقوله: الحمد للهِ رب العالين، فوصف بأنه(1/63)
مالك جميع المخلوقين.
وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر لم يوصَف بذلك، بل
بفرد من أفراد صفاته وهو خلقُ السماوات والأرض، والظلمات والنور في
الأنعام، وإنزال الكتاب في الكهف، ومالك ما في السماوات وما في الأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر، لأن الفاتحةَ أمّ القرآن ومطلعه، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها وأشملها.
قال الأستاذ ابن الزبير: وأما مناسبة الوصف الوارد في سورة الأنعام فمن
حيث ما وقع فيها من الإشارة إلى مَنْ عبد الأنوار، وأعاد سبحانه ذكر ما فيه
الدلالة البينة على بُطلان مذهب مَنْ عَبد النَّيِّرات أو شيئاً منها في قوله تعالى:
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية.
فقال: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) .
ثم قال عليه السلام على جهة الفَرْض وإقامة الحجة على قومه: " هذا رَبّي " فلما أفل قال: لا أحِبُّ الآفلين.
ثم قال في الشمس والقمر مستدلاّ بتغيُّرهما وتقلبهما في الطلوع
والغروب على أنهما حادثين مربوبين مسخرين طالعين لموجدِهما المنَزّه عن سمات التغير والحدوث، فقال عليه السلام عند ذلك لقومه: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) .
فأخبر عن حاله قبل هذا الاعتبار وبعده.
قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) .
وفي طيّ قوله: وما كان من المشركين تنزيهه عن عبادة النيرات وغيرها مما
سواه تعالى، وبانَ من هذا كله ما افتتحت به السورة من انفراده تعالى بخلق
السماوات والأرض، والظلمات والنور، فوضح التلازمُ والتناسب.
وأما سورة الكهف فإنها لما انطوت على التعريف بقصة أهل الكهف، ولقاء
موسى عليه السلام والخضر، وما كان من أمرهما، وذكر الرجل الطّواف وبلوغه مطلع الشمس ومغربها، وبنيانه سدَّ يَأجُوج ومأجوج، وكل هذا إخبار بما لا مجال للعقل فيه، ولا تُعْرَف حقيقته إلا بالوحي والإنباء بالصدق الذي لا عِوَج فيه ولا امْتِراءَ ولا زيْغ - ناسب ذكر افتتاح السورة المعرّفة بذلك بالوحي(1/64)
المقطوع به قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتَابَ ولم يجعل له
عِوجاً) .
والتناسب في هذا أوضح من أن يتوقف فيه.
وأما سورة سبأ فلما تضمنت ما منح سبحانه داود عليه السلام من تسخير
الجبال والطير والريح وإلانةِ الحديد ناسب ما به افتتحت السورة من أن الكل
ملكه وخلقه، فهو المسخّر لها والتصرف في الكل بما شاء، فقال تعالى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) .
وهذا أوضح التناسب.
وأما سورة الملائكة فمناسبة وصفِه تعالى باختراع السماوات والأرض لما ذكره
من خلق عامّ في السماوات من الملائكة وجعلهم رسلاً أولي أجنحة، وإمساكه
السماوات والأرض أنْ تَزولا - أبْين شيء وأوْضَحه، وليس شيء من هذه
الأوصاف العليّة بمناسب لغير موضعه لمناسبته موضعه الوارد منه.
فقد بان مجيء كلّ منها في موضعه ملائماً لما اتصل به.
والله أعلم.
قال الكَرْمَاني في العجائب: إن قيل كيف جاء يسألون أربع مرات بغير واو.
(يسألونك عن الأهِلَّةِ) .
(يسألونك ماذا ينْفِقُون) .
(يسألونك عن الشَّهْرِ الحَرَام) .
(يسألونك عن الخمر) .
ثم جاء ثلاث مراتٍ بالواو:
(ويسألونك ماذا يُنْفقون) (ويسألونك عن اليَتَامَى) .
(ويسألونك عن المحِيض) .
قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأوَل وقع متفرقاً، وعن الحوادث الأخَر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.
فإن قيل: كيف جَاء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
، وعادة القرآن مجيء قل في الجواب بلا فاء؟
أجاب الكرماني بأن التقدير لو سئلت عنها فَقُلْ.(1/65)
فإن قيل: كيف جاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بِقُلْ.
قلنا: حُذِفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء في أشرف المقامات، ولا
واسطة بينه وبين مولاه.
ورد في القرآن سورتان، أولهما يا أنها الناس في نصفه الأول، وهي تشتمل
على شرح البدأ، والتي في النصف الثاني على شرح المعاد.
*******
الوجه السادس من وجوه إعجازه (مُشْتَبِهات آياته)
وذلك أن القصة الواحدة ترد في سوَرٍ شتَّى وفواصل مختلفة بأن يأتي في
موضع واحد مقدماً وفي آخر مؤخراً، كقوله في البقرة: (وادخُلُوا البَابَ
سُجَّداً وقولُوا حِطَّة) . البقرة: 58.
وفي الأعراف: (وقولوا حِطّة وادْخُلُوا البابَ سُجّداً) . الأعراف: 161.
وفي البقرة: (وما أهِل بهِ لغَيْرِ اللهِ)
وسائر القرآن: (وما أهِلّ لغَيْرِ الله به) .
وفي موضع بزيادةٍ وفي موضع بدونها، نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) .
وفي يس: (وَسَوَاء) . يس: 10، وفي البقرة: (ويَكونَ الدِّينُ للَهِ) البقرة: 163.
وفي الأنفال: (كُلّه لله) الأنفال: 39.
وفي موضع معرفاً وفي آخر منكراً.
أو مفرداً وفي آخر جمعاً.
أو بحرف وفي آخر بحرف آخر.
أو مدغماً أو مفككاً.
وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات.
وقد أفرده بالتصنيف جماعة أولهم فيما أحسب الكسائي، ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه الكرماني كتابه "البرهان في متشابه القرآن".
وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل" لأبي عبد الله الرازي (1) .
وأحسن منها كلها "ملاك التأويل في متشابه التنزيل" لأبي جعفر بن الزبير.
وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه "كشف المعاني عن متشابه المثاني".
وفي كتابي أسرار التنزيل المسمى
__________
(1) الراجح نسبة الكتاب إلى الخطيب الإسكافي رحمه الله، وقد نقل عنه الكرماني في "البرهان في متشابه القرآن" بعض الأجوبة، - ناسبا الكتاب - للخطيب الإسكافي، ومعلوم أن الكرماني متقدم على الرازي. والله أعلم.(1/66)
قطف الأزهار في كشف الأسرار من ذلك الجمّ الغفير، لَكنَّا "نُشِير هنا إلى توجيه أمثلة منها تتميما للفائدة:
قوله في البقرة: (هُدًى للمتَّقين) البقرة: 2) ، لأنه لما ذكر هنا جموع
الإيمان ناسب المتقين، ولما ذكر في لقمان الرحمة ناسبه: هدى ورحمةً للمحسنين.
وإنما ذكر في البقرة: (وكُلاَ) . البقرة: 35، بالواو، وفي الأعراف:
(فَكُلاَ) . الأعراف: 19، - بالفاء، لأن المراد بالسكنى في البقرة الإقامة.
وفي الأعراف اتخاذ المسكن، فلما ناسب القول إليه تعالى: (وقُلْنَا يَا آدَم)
البقرة: 35، ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالة على الجمع بين السكنى
والأكل، ولذا قال فيه رغداً، وقال: حيث شئتما، لأنه أعلم.
وأتى في الأعراف: يا آدم، فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها، لأن الأكل بعد الاتخاذ، ومن حيث لا يعطي عموم " حيث شئتما ".
قوله في البقرة: (ولا يُقْبَل منها شَفَاعَةٌ) ، وقال بعد ذلك:
(ولا يقْبَلُ منها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُهَا شفاعةٌ) ، ففيه تقديم
وتأخير، والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفي أخرى، وذكر في حكمته أن
الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى، وفي الثانية إلى النفس الثانية، فبيّن في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا تُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عَدْل، وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على بَذْل العدل عنها.
وبيّن في الثانية أن النفس المطلوبة بجُرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها، ولا
تنفعها شفاعة شافع فيها، وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند
رده، ولذلك قال في الأولى: لا يقبل منها شفاعة، وفي الثانية: ولا تنفعها
شفاعة، لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع، وإنما تنفع المشفوع له.
قوله تعالى في البقرة: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) .
وفي إبراهيم: (وَيُذَبِّحُونَ) ، بالواو، لأن الأولى من كلامه تعالى لهم فلم يعدد(1/67)
عليهم المحن تكريما في الخطاب.
والثانية من كلام موسى فعددها في الأعراف:
(يُقَتّلون) ، وهو من بديع الألفاظ المسمى بالتفنن.
قوله تعالى: (وإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذه القَرْية) ، وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ، ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر النعم عليهم
حيث قال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) .
فناسب نسبة القول إليه تعالى، وناسب قوله رغداً، لأن النعم به
أتم، وناسب تقديم: وادخلوا الباب سجداً، وناسب خطايا، لأنه جمع كثرة، وناسب الواو في: وسنزيد الحسنين لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في فكلوا، لأن الأكل قريب من الدخول.
وآية الأعراف افتتحت بما به توبيخهم، وهو قوله: (اجعَلْ لنا إلهاً كما لَهُمْ
آلهة) . الأعراف: 138.
ثم اتخاذهم العجل، فناسب ذلك: وإذا قيل لهم، وناسب ترك " رَغَدا " والسكنى تجامع الأكل فقال: وكلوا، وناسب تقديم مغفرة
الخطايا، وترك الواو في سنزيد.
ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله:
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) ، ناسب تبعيض الظالمين بقوله: الذين ظلموا منهم، ولم يتقدم في البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم.
والإرسال أشد وقعاً من الإنزال، فناسب سياق ذكر النعمة البقرة ذلك، وختم آية البقرة بـ يفسقون.
ولا يلزم منه الظلم، والظلم يلزم منه الفسق، فناسب كل لفظ منها سياقه.
كذا في البقرة " فانفجرت " وفي الأعراف: انبجست، لأن الانفجار أبلغ في
كثرة الماء، فناسب ذكر النعم التعبير به.
قوله تعالى في البقرة: (وقالوا لَنْ تَمَسّنَا إلا أيّاماً معدودةً)
وفي آل عمران (معدودات) .
قال ابن جماعة: لأن قائلي ذلك فرقتان من اليهود: إحداهما قالت إنما نُعذب
بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا.
والأخرى قالت: إنما نُعذب أربعين يوماً، عدة(1/68)
أيام عبادة آبائهم العجل، فآية البقرة تحتمل قَصْدَ الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة، وآل عمران الفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة.
وقال أبو عبد الله الرازي: إنه من باب التفنن.
قوله في البقرة: (إنَّ هُدَى اللهِ هو الهدَى) .
وفي آل عمران: (إنّ الهدَى هُدَى الله) ، لأن الهدى في البقرة
المراد به تحويل القبلة، وفي آل عمران المراد به الدّين، لتقدم قوله: " لِمَنْ تَبعَ دِينَكم"، ومعناهُ دين الإسلام.
قوله تعالى في البقرة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) .
وفي إبراهيم عرّفه، لأن الأول دعا به قبل مصيره بلدا عند ترك هاجر
وإسماعيل به وهو واد، فدعا بأن يصير بلدا.
والثاني دعا به بعد عوده وسكنى جرْهم به ومصيره بلداً فدعا بأمنه.
وقيل: لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة.
وقيل تقديره في البقرة: هذا البلد بلداً آمناً، فخذف البلد اكتفاء
بالإشارة، فتكون الآيتان سواء، وهذا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء مرتين.
والظاهر أنه مرة حكى لفظه فيها على وجهين.
قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) البقرة:
120، فجعل الذي مكان قوله فما بعد: (ما) ، وزاد (من) البقرة:
145، والرعد 37، لأن العلم في الآية الأولى علم بالكمال الذي ليس وراءه علم، لأن معناه بعد الذي جاءك من العلم بالله وصفاته، فكان لفظ الذي أليق به من لفظ " ما "، لأنه في التعريف أبلغ وفي الوصف أقعد، لأن " الذي " تعرّفه صلته ولا يتنكر قط، ويتقدمه أسماء الإشارة، نحو قوله: (أمَّن هذا الذي هُوَ جُنْدٌ لكم) ، (أمَّن هذا الذي يرْزُقكم) .
فيكتنفه بيانان: الإشارة والصلة ويلزمه الألف واللام، ويثنى ويجمع، وليس لـ " ما " شيء من ذلك، لأنه يتنكر مرة ويتعرَّفُ اخرى، ولا يقع وصفاً لأسماء الإشارة، ولا يدخله الألف واللام، ولا يثنَّى ولا يجمع.(1/69)
وخص الثاني بما لأن المعنى من بعد ما جاءك من العلم بأن قبلة الله هي
الكعبة، وذلك قليل من كثير من العلم.
وزيد معه " من " التي هي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالكعبة، لأن القبلة الأولى نُسخت بهذه الآيات، وليس الأول موقتاً بوقت.
وقال في سورة الرعد: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)
، فعبّر بما، ولم يزد من هنا لأن العلم ها هنا هو الحكم العرفي، أي
القرآن، فكان بعضاً من الأول ولم يزد من لأنه غير موقت.
وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران: (مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ من العلم) .
قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) ، وفي آل عمران: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) .
لأن الأولى خطاب للمسلمين، والثانية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (قُلْ آمنّا بالله) ، و"إلى" ينتهى به من كل جهة، و"على" لا ينتهى به إلا من جهة واحدة وهي العلو.
والفرقان يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم.
وإنما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة العلو خاصة، فناسب قوله (علينا) ، ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلَى، وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى.
قوله تعالى في البقرة: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) .
وحذف ما في آل عمران
لأنه تقدم فيها ذكر ذلك: قوله تعالى: (لَمَا آتيْتُكم) .
قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .
إنما كرر هذه الآيات ثلاث مرات، لأن الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب، وهو قوله: وإنه للْحَق مِنْ ربك.
والثالثة للعلة وهي قوله: (لئلا يكونَ للناس عليكم حُجّة) .
وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد.(1/70)
وقيل في الآية خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه الكعبة، وخروج إلى
مكان لا ترى أي الحالتين فيه سواء.
قوله تعالى: (إلا الذينَ تَابوا وأصْلَحُوا) . البقرة: 160.
إنما لم يزد هنا (من بعد ذلك) كما في غيرها.
لأن قبله من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، فلو أعاده لالْتَبَسَ.
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) ، لأنه ذكر في البقرة الاتباع مَنْفِيّا بما هو دون العلم
لتكون كل دعوى منفيا بما يُلائمه.
ولما ذكر في المائدة، ادعاءهم النهاية بلفظ "حَسْبُنا" نفى ذلك بالعلم الذي هو أبلغ درجة من العقل، ولهذا جاز وصفه تعالى بالعلم، ولم يجز وصفه بالعقل، ولكن لما كان دعواهم في المائدة أبلغ لقولهم: (حَسْبُنَا ما وَجَدْنَا) ، وكذلك في سورة لقمان، لأن وجدت يتعدى مرة إلى مفعول واحد، تقول: وجدت الضالة، ومرة إلى مفعولين: وجدت زيداً جالساً، فأتى في آية البقرة بألفيت، لأنه يتعدى إلى مفعولين، تقول ألفيت زيدا
قائما، وأتى في المائدة بما هو أعلم.
قوله تعالى: (ومَا اهِلَّ يهِ لِغَيْرِ الله) البقرة: 173.
فقدم ضمير المجرور في البقرة، وأخَّره في المائدة، والأنعام، والنحل، لأن تقديم الباء الأصل بأنه يجري مجرى الألف والتشديد في التعدي، فكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأول أوْلى بما هو الأصل، ليعم ما يقتضيه اللفظ.
وأما ما عدا هذه السورة فأخّر به لأنه قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله، وتقدم ما هو بالغرض أولى، ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذي الحال، والظرف على العامل فيه، إذا كان أكثر الغرض في الإخبار، وزاد في هذه السورة: فلا إثم عليه، وفي السور الثلاث تضميناً، لأن قوله: " غفور رحيم " يدل على أنه لا إثم عليه.
وإنما ختم في الأنعام بذكر الرب، لأنه تكرر فيها مرات.
فكان لفظ الرب بها أليق.
قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تقْرَبُوها) . البقرة: 187.
وقال بعد(1/71)
ذلك: (فلا تَعْتَدوها) ، لأن الأولى وردت بعد نواهٍ، فناسب
النهي عن قربانها، والثانية بعد أوامر، فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن
يوقف عندها.
قوله تعالى: (نَزّلَ عَلَيْكَ الكتَاب) آل عمران: 3.
وقال: (وأنزل التوراةَ والإنْجِيل) آل عمران: 3) ، لأن الكتاب أنزل منجماً، فناسب الإتيان بنزل الدالة على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة واحدة.
قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) .
وفي الإسراء: (خَشْيَةَ إمْلاَق) ، لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين، أي لا تقتلوهم من فقركم، نحن نرزقكم ما يزول به إملاقُكم، ثم قال: وإياهم.
والثانية خطاب للأغنياء، أي خشية فقر يحصل لكم بسببهم، ولهذا
حسن: نحن نرزقهم وإياكم.
قوله تعالى: (فاستَعِذْ باللهِ إنهُ سَمِيعٌ عَلِيم) الأعراف: 200.
وفي فُصّلت: (السميع العليم) فصلت: 36) ، لأنها نزلت ثانيا فحسن التعريف، أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره عند نزوغ الشيطان.
قوله تعالى: (المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم مِنْ بَعْض) .
وقال في المؤمنين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، وفي الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، لأن المنافقين ليسوا
متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، وكان بعضهم يهوداً وبعضهم
مشركين، فقال: من بعض، أي في الشك والنفاق.
وكان المؤمنون متناصرين على دين الإسلام.
وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم
ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين، كما قال تعالى: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) .
فهذه أمثلة يستضاء بها، ويأتي منها كثير في وجه التقديم والتأخير، وتقدم في
نوع الفواصل، وهذا بحر لا ساحل له، فلنرجع إلى المقصود.
*******(1/72)
الوجه السَّابع من وجوه إعجَازه (ووود مشكله حتى يوهم التعارض بين الآيات)
وكلامه تعالى منزة عن ذلك، بل فيه إعجاز للكلام كما صنف في الحديث.
وبيان ذلك الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وقد تكلم في ذلك ابن عباس.
وحكي عنه التوقف في بعضها.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن رجل عن المنهال بن عمرو عن
سعيد بن خبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت أشياء تختلف عليَّ من القرآن؟ فقال ابن عباس: ما هو، أشك، قال: ليس بشك، ولكنه اختلاف.
قال: هات ما اختلف عليك من ذلك.
قال: أسمع الله يقول: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) .
وقال: (ولا يكتمون اللهَ حديثاً) . النساء: 42، فقد كتَمُوا.
وأسمعه يقول: (فَلاَ أنْسَابَ بينهم يومئذٍ ولا يتَسَاءَلُون) المؤمنون: 101.
ثم قال: (وأقْبَلَ بعضُهم على بعض يتساءلون) الصافات: 27.
والطور: 25.
وقال: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، حتى بلغ: (طائِعين) ، ثم قال في الآية الأخرى: (أم السماء بنَاها) .
ثم قال: (والأرض بعد ذلك دَحَاها) .
وأسمعه يقول: (كان الله) ، ما شأنه يقول: (وكان الله) ؟
فقال ابن عباس: أما قوله: ثم لم تكن فتنتهم فإنهم لما رأوا العذاب يوم
القيامة، وأن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا
يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم، فقالوا: والله ربنا ما كُنَّا مشركين.
فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون، فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسَوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً.(1/73)
وأما قوله: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - فإنه إذا نفخ في الصور
فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأما قوله: "خلق الأرض في يومين" فإن الأرضَ خُلقت قبل السماء، وكانت
السماء دخانا فسواهنّ سغ سموات في يومين بعد خلق الأرض.
وأما قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها": يقول: جعل فيها جبالا، وجعل فيها أنهاراً، وجعل فيها أشجارا، وجعل فيها بحارا.
وأما قوله: كان الله فإن الله كان ولم يزل كذلك، وهو كذلك عزيز حكيم
عليم قدير، ثم لم يزل كذلك، فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه ما ذكرْتُ لك، وإن الله لم ينزل شيئاً إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وأصله في الصحيح.
قال ابن حجر في شرحه: حاصل ما فيه السؤال عن أربعة مواضع:
الأول: نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها.
الثاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه.
الثالث: خلق السماء والأرض أيهما تقدم.
الرابع: الإتيان بحرف " كان " الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة.
وحاصل جواب ابن عباس عن الأول أن نفي المساءلة فيما قبل النفخة الثانية
وإثبانها فما بعد ذلك.
وعن الثاني أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وأرجلهم.
وعن الثالث أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوّة، ثم خلق السماوات، فسوّاهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في
يومين، فتلك أربعة أيام للأرض.(1/74)
وعن الرابع: بأن " كان " وإن كانت للمضي لكنها لا تستلزم الانقطاع، بل
المراد أنه لم يزل كذلك.
فأما الأول فقد جاء فيه تفسير آخر: إن نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق
والمحاسبة والجواز على الصراط، وإثباتها فما عدا ذلك، وهو منقول عن السدي.
أخرجه ابن جرير من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس أن نفي المساءلة عند
النفخة الأولى، وإثباتها بعد النفخة الثانية.
وقد تأول ابن مسعود نفي المساءلة على معنى آخر، وهو طلب بعضهم من بعض العفو، فأخرج ابن جرير من طريق زادان، قال: أتيت ابن مسعود فقال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادى هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق قِبلَه فليأت.
قال: فتودُّ المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون.
ومن طريق آخر قال: لا يسأل يومئذ أحد بنسب شيئاً، ولا يتساءلون به ولا
يمتّ برحم.
وأما الثاني فقد ورد بأبسط منه فيما أخرجه ابن جرير عن الضحاك بن
مُزَاحم: أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال: قول الله: ولا يكتمون الله
حديثاً، وقوله: واللَه ربنا ما كُنَّا مشركين.
فقال: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم: آتي ابن عباس ألْقِي عليه متشابه القرآن، فأخبِرْهُم أن الله إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون: إن اللهَ لا يَقْبَل إلا مِمَّنْ وحَّدَه، فيسألهم فيقولون: واللَه ربنا ما كُنَّا مشركين.
قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم.
ويؤيده ما أخرجه مسم من حديث أبي هريرة في أثناء حديث، وفيه: ثم يلقى
الثالث فيقول: يا رب، آمنت بك وبكتابك ورسولك، ويثْني ما استطاع.
فيقول: الآن نبعث عليك شاهداً، فيقول في نفسه: من الذي يشهد عليّ! فيختم على فيه وتنطق جوارحه.(1/75)
وأما الثالث ففيه أجوبة أخر، منها: أن ثم بمعنى الواو، فلا إيراد.
وقيل: المراد ترتيب الخبر لا المخبر به، كقوله: (ثم كان من الذين آمنوا) . وقيل على بابها، ولكي لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في الزمان.
وقيل خلق بمعنى قَدَّر.
وأما الرابع وجواب ابن عباس عنه فيحتمل كلامه أنه أراد سَمّى نفسه
غفوراً رحيما، وهذه التسميةُ مضَتْ، لأن التعلق انقضى.
وأما الصفتان فلا تزالان كذلك لا تنقطعان، لأنه إذا أراد المغفرة أو الرحمة في الحال أو الاستقبال وقع مراده، قاله الشمس الكرماني، قال: ويحتمل أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين:
أحدهما أن التسمية هي التي كانت وانقضت، والصفة لا نهاية
لها، والآخر أن معنى كان للدوام، فإنه لا يزال كذلك، ويحتمل أن يحمل
السؤال على مسلكين والجواب على دفعهما، كأن يقال هذا اللفظ يُشعرِ بأنه في الزمان الماضي كان غفورا رحيما مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أو يرحم، وبأنه ليس في الحال كذلك لما يشعر به لفظ " كان ".
والجواب عن الأول بأنه كان في الماضي تسمّى به.
وعن الثاني بأن " كان " تعطي معنى الدوام.
وقد قال النحاة: كان لثبوت خبرها ماضياً دائماً أو منقطعا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن يهودياً قال: إنكم
تزعمون أن الله كان عزيزا حكيماً، فكيف هو اليوم، فقال: إنه كان في نفسه عزيزاً حكيماً.
موضع آخر توقف فيه ابن عباس: قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل عن أيوب.
عن ابن أبي مُلَيْكة، قال: سأل رجل ابن عباس عن (يَوْم كانَ مِقْدَاره ألف
سنة) .
وقوله: (يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) .
فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، والله أعلم بهما.(1/76)
وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه، وزاد: ما أدري ما هما، وأكره أن
أقول فيهما ما لا أعلم.
قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلت على سعيد بن المسيب فَسُئل
عن ذلك فلم يدر ما يقول.
فقلت: ألاَ أخْبِرك بما حضرت عن ابن عباس.
فأخبرته.
فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس قد اتَّقَى أنْ يقول فيها، وهو
أعلمُ مني.
وروي عن ابن عباس أيضاً أن يوم الألف هو مقدار سَيْرِ الأمرِ وعروجه
إليه، ويوم الألف في سورة الحج أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات.
ويوم الخمسين ألفاً هو يوم القيامة، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سماك عن
عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً قال له: حدثني ما هؤلاء الآيات: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
(وإن يَوماً عند ربك كألْفِ سنة) . الحج: 47.
فقال: يوم القيامة حساب الخمسين ألف سنة.
والسماوات في ستة أيام كل يوم يكون ألف سنة.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) .
قال ذلك مقدار السير.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بهما يوم القيامة، وأنه باعتبار حال المؤمن
والكافر، بدليل قوله: يوم عسير على الكافرين غير يسير.
فصل
قال الزركشي في "البرهان": للاختلاف أسباب:
أحدها: وقوع الخبر به على أحوال مختلفة وتطورات شتى، كقوله في خلق
آدم مرة: (مِنْ ترَاب) آل عمران: 59) ، ومرةً: (مِنْ حَمَأ مَسْنون)
الحجر: 26) ، ومرة: (مِنْ طِين لازِبِ) الصافات: 11) ، ومرة -: (مِنْ
صَلْصَال كالفَخَّار) . الرحمن: 14) ، فهَذه ألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال
مختلفة، ً لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.(1/77)
وكقوله: (فإذا هي ثعْبَانٌ) ، في موضع.
وفي موضع: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، والجان الصغيرُ من الححَّاتِ، والثعبان الكبير منها، وذلك لأن خَلْقَهَا خلقُ الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وحركته وخفّته.
الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) .
وقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) .
- مع قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) .
قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل.
والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوءات من شرائع الدين وفروعه.
وحمله غيره على اختلاف الأماكن، لأن في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضع: يسألون، وفي موضع آخر: لا يسألون.
وقيل: إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ والمنفي
سؤال المعذرة وبيان الحجة.
وكقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، مع قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: الآية الأولى على التوحيد، بدليل قوله بعدها: (ولا تموتنَ إلا وأَنْتمْ مسلمون) .
والثانية على الأعمال.
وقيل: بل الثانية ناسخة للأولى.
وكقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) .
مع قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) .
فالأولى تفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه.
والجواب أن الأولى في توفية الحقوق.
والثانية في الميل القلبي، وليس في قدرة البشر.
وكقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ، مع قوله:(1/78)
(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) .
فالأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير.
الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل، كقوله: (فَلَمْ تَقْتلوهم ولكنَّ اللهَ
قتَلَهم وما رَمَيْتَ إذ رميت ولكنَّ اللهَ رمى) .
فأضاف الفعل إليهم والرمي إليه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير.
الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) .
أي سكارى من الأهوال مجازاً، لَا منَ الشراب حقيقة.
الخامس: بوجهين واعتبارين، كقوله: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) .
مع قوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) .
قال قطْرب: فبصرك اليوم، أي عِلْمك ومعرفتك بها قوية.
من قوله: بَصرَ بكذا أي علم، وليس المراد رؤية العين.
قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: (فكشَفْنَا عنكَ غطاءك) .
وكقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) .
مع قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .
فقد يظنّ أن الوجل خلاف الطمأنينة.
وجوابه أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد.
والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
وممّا استشكلوه قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) .(1/79)
فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين.
وقال في آية أخرى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) .
فهذا حصر آخر في غيرهما.
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة
أن تأتيهم سنة الأولين من الخسف أو غيره، أو يأتيهم العذاب قبلاً في الآخرة.
فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين.
ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي، لأن الله هو المانع في الحقيقة.
ومعنى الآية الثانية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب بعثه بشرا رسولاً، لأن قولهم ليس مانعاً من الإيمان، لأنه لا يصلح لذلك، وهو يدل على
الاستغراب بالتزام، وهو المناسب للمانعية، واستغرابهم ليس مانعاً حقيقيا، بل عادياً، لجواز وجود الإيمان معه بخلاف عادة الله، فهذا حصر في المانع العادي، والأول حصر في المانع الحقيقي، فلا تنافي ... انتهى.
ومما استشكل قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) .
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) .
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) .
إلى غير ذلك من الآيات.
ووجهه أن المراد هنا بالاستفهام النفي، والمعنى لا أحد أظلم، فيكون خبراً.
وإذا كان خبراً وأخِذت الآيات على ظاهرها أدى إلى التناقض.
وأجيب بأوجه: منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته، أي لا أحد من
المانعين أظلم ممن منع مساجد الله.
ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله.
وكذا باقيها، وإذا تخصص بالصِّلات زال التناقض.
ومنها: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لَمّا لم يسبق أحد إلى مثله حكم
عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سِالكاً طريقهم، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية.(1/80)
ومنها - وادعى أبو حيان أنه الصواب: أن نفي الأظلمية لا يستدعي نفي
الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض، لأن فيها إثبات التسمية في الأظلمية، ثم لم يكن أحد وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية، وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى، وممن منع ونحوها، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر، كما إذا قلت لا أحد أفقه منهم ... انتهى.
وحاصل الجواب أن نفي التفضيل لا يلزم منه نفي المساواة.
وقال بعض المتأخرين: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير
قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة، ولا نفيها عن غيره.
وقال الخطابي: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج، قال:
سأل رجل بعض العلماء عن قوله: (لا أقسم بهذا البلد) .
فأخبر أنه لا يقسم به، ثم أقسم به في قوله: (وهذا البلد الأمين) التين: 3) ، فقال: أيّهما أحبّ إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك، فقال: أقطعني ثم أجبْني.
فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة رجال وبين ظهراني قوم، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مَغْمَزا وعليه مطْعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا منه ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تدخل لا في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتاً.
ومما استشكلوه أيضاً قوله تعالى في سورة سبحان: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) .
وفي سورة فصلت: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) .
ومن لوازم الإياس نفي مطلق الدعاء، وأثبته في سورة فصلت.(1/81)
وقد رام بعض المتأخرين الجمع بينهما في تأليف بديع) ، مقتضاه أن الدعاء
العريض في أول الأمر والإياس في ثاني الحال.
تنبيه:
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب
والجمع طلب التاريخ، وترك المتقدم بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا.
وإن لم يعمل، وكان الإجماع على العمل بإحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها.
قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين.
قال غيره: وتعارض القراءتين بمنزلة تعارض الآيتين، نحو: (وَأَرْجُلَكُمْ)
، بالنصب والجر، ولهذا جمع بينهما بحمل النصب على الغسل، والجر
على مسح الخف.
وقال الصيرفي: جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صحّ أن يضاف
بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض، وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة، ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك أبدا، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين.
وقال القاضي أبو بكَر: لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار.
وما يوجبه العقل.
فلذلك لم يجعل قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
معارضا لقوله: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) .
لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق له غير الله، فتعين تأويل ما عارضه.
فيؤوّل تخلقون على تكذبون، وتخلق على تصور.
وذكر الكرماني عند قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .(1/82)
الاختلاف على وجهين:
اختلاف تناقض، وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن.
واختلاف تلازم، وهو ما يوافق الجانبين، كاختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد.
*******
الوجه الثامن من وجوه إعجازه (وقوع ناسخه ومنسوخه)
وهو مما خصت به هذه الأمة لِحكَم، منها التيسير.
وقد أجمع المسلمون على جوازه! وأنكره اليهود ظنًّا منهم أنه بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له أنه باطل، لأنه بيان مدة الحكم، كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة، وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بَدَاءً، فكذا الأمر والنهي.
واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن، لقوله تعالى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
قالوا: ولا يكون مثلَ القرآن وخيراً منه إلا قرآن.
وقيل: بل ينسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضاً من عند الله، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) .
وجعل منه آية الوصية الآتية.
والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نَسخت، وإن كانت
باجتهاد فلا.
حكاه ابن حبيب النيسابوري في كتابه التفسير.
وقال الشافعي: حيث وقع نسخ القرآن بسنة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له، ليتبين توافق القرآن والسنة.
وقد بسطت هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول.
وقد أفرد بالتصنيف في هذا الفن خلائق لا تحصى، منهم: أبو عبيد القاسم
ابن سلام(1/83)
، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، ومكي.
وابن العربي، وآخرون.
لكن في هذا النوع مسائل:
الأولى: يَرِد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه قوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) .
وبمعنى التبديل، ومنه: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) .
وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى
واحد.
وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما فيه
حاكياً للفظه وخطه.
قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن.
وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجّاً بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ.
وأنه إنما يأتي بلفظ آخر.
وقال السعيدي: يشهد لما قاله النحاس قوله: (إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كنتُم
تَعْمَلُون) الجاثية: 29.
وقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) .
ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوماً جميعه في أم الكتاب، وهو اللوح
المحفوظ، كما قال تعالى: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) .
الثانية: لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي
ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد.
وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صُنْع من أدخل في كتاب النسخ كثيراً من آيات الإخبار والوعد والوعيد.(1/84)
الثالث: النسخ أقسام:
أحدها: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهو النسخ على الحقيقة، كآية النجوى.
الثاني: ما نُسخ مما كان شرعاً لمن قبلنا كآية شرع القصاص والدية.
أو كان أمر به أمراً جملياً، كنسخ التوجه إلى بيت القدس بالكعبة، وصوم عاشوراء برمضان، وإنما يسمى هذا نسخاً تجوزا.
الثالث: ما أمِرَ به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر - حين القلة والضعف -
بالصبر والصلح، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخاً، بل من قسم المنْسَأ، كما قال تعالى: (أو نُنْسِها) ، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون.
وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبه
يضعف ما لَهجَ به كثيرون من أن الآيات في ذلك منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورَدَ يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله.
وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مُشعراً بالتوقيت والغاية مثل
قوله في البقرة: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
محكم غير منسوخ، لأنه يؤجّل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه
الرابعة: قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة: الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون.
وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة، وثلاث بعدها،(1/85)
والحج، والنور، وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، وكوّرت، والعصر.
وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ستة: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى.
وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية، كذا قال.
وفيه نظر يُعرف مما يأتي.
الخامسة: قال مكي: الناسخ أقسام: فرضٌ نَسَخَ فَرْضاً، ولا يجوز العمل
بالأول، كنسخ الحبس للزَّوَاني بالحد.
وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصابرة.
وفرض نسخ ندباً، كالقتال، كان ندباً ثم صار فرضا.
وندب نسخ فرضاً، كالقيام نسِخَ بالقراءة في قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
السادسة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها ما نسخ تلاوته وحكمه معاً، قالت عائشة: كان فما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فما يقرأ من القرآن.
ورواه الشيخان.
وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ من القرآن، فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك.
وأجيب بأن المراد قارب الوفاة، وأن التلاوة نسخت أيضاً، ولم يبلغ ذلك
كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي وبعض الناس يقرؤها.
قال أبو موسى الأشري: نزلت ثم رفعت.
وقال مكي: وهذا المثال فيه المنسوخ غير المتلوّ، والناسخ أيضاً غير متلوّ، ولا أعلم له نظيراً.
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذي فيه(1/86)
الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جداً، وإنْ أكثر الناس من تعديد الآيات فيه، فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي ميز ذلك وأتقنه.
والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء، ولا من التخصيص، ولا له علاقة بهما بوجه
من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) .
(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) .
ونحو ذلك، قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك، بل هو باق.
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم
بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في
الأمور المندوبة، كالإعانة والضيافة، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة.
والآية الثانية تصح كلها على الزكاة، وقد فسرت بذلك.
وكذا قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8.
قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة.
وقوله في البقرة: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) .
عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف.
وقد غلطه ابن الحَصَّار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني
إسرائيل من الميثاق، فهو خبر، فلا نسخ فيه.
فقس على ذلك.
وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ.
وقد اعتنى ابن العربي بتجريده، فأجاد، كقوله: (إنَّ الإنسان لفي خسْر.
إلا الذين آمَنوا)
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) .
(إلا الذين آمنوا) . الشعراء: 224، 227.
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) .
وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية.
وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ،(1/87)
ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) .
قيل نسخ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
وإنما هو مخصوص به.
وقسم رَفع ما كان عليه من الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا، أو في
أول الإسلام ولم ينزل في القرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية
القصاص، والدية، وحصر الطلاق في الثالث.
وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجّحه مكي وغيره، ووجهوه بأن ذلك لوْ عدّ في الناسخ لعد جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب.
وقالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية ... انتهى.
نعم النوع الآخر منه - وهو رافع ما كان في أول الإسلام - إدخاله أوجب من القسمين قبله.
إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون من الجمّ الغفير
مع آيات الصلح والعفو إن قلنا إن آية السيف لم ينسخها، وبقي ما يصلح لذلك عدد يسير.
وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف، وها أنا أورده هنا محرراً:
من البقرة قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ) .
قيل منسوخة بآية الميراث، وقيل بحديث: لا وصية لوارث.
وقيل بالإجماع، حكاه ابن العربي.
قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .
قيل منسوخة بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .
وقيل محكمة و" لا " مقَدّرَة.
قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) .
ناسخة لقوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ،(1/88)
لأن مقتضاها الموافقة فما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم.
ذكره ابن العربي، وحكى قولاً آخر أنه نسخٌ لما كان بالسنة.
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) .
منسوخة بقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) .
أخرجه ابن جرير عن عطاء ابن ميسرة.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) .
إلى قوله: (متاعاً إلى الحَوْلِ) .
منسوخة بآية: (أربعة أشْهُر وعَشْراً) .
والوصيةُ منسوخة بالميراث.
والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث: ولا سكنَى.
قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) .
منسوخة بقوله بعده: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
ومن آل عمران قوله تعالى: (اتَقُوا الله حقَّ تُقَاته) .
قيل إنه منسوخ بقوله: (فاتَقُوا اللَهَ ما استَطَعْتُمْ) .
وقيل: لا، بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية.
ومن النساء قوله تعالى: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) .
منسوخة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) .
قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) .
منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) .
منسوخة بآية النور.
ومن المائدة قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) .
منسوخة بإباحة القتال فيه.(1/89)
قوله تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) .
منسوخة بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
قوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) .
منسوخ بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق: 2.
ومن الأنفال قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ) .
منسوخة بالآية بعدها.
ومن بَرَاءَةَ قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) .
منسوخة بآية العذر، وهي قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) .
وقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) ... . التوبة: 91، الاآيتين
وبقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) .
ومن النور قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) .
منسوخ بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) .
قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
قيل: منسوخة.
وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
ومن الأحزاب قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) .
منسوخة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) .
ومن المجادلة قوله تعالى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) .
منسوخة بما بعدها.
ومن الممتحنة قوله تعالى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) .
قيل منسوخ بآية السيف.
وقيل بآية الغنيمة.
وقيل محكم.
ومن المزمل قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إلا قليلا) . المزمل: 2.
منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس.(1/90)
فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلافٍ في بعضها لا يصح دعوى
النسخ في غيرها.
والأصح في آية الاستئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسع عشرة.
ويضم إليها قوله تعالى: (فأيْنَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) البقرة: 165.
على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ السجدِ الحرام) .
فتتم عشرين.
وقد نظمتها فقلت:
قد أكثر الناسُ في المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آياً ليْسَ تنحصِرُ
وهاك تحرير آي لا مزيدَ لها ... عشرينَ حرَّرَها الحُذّاقُ والكُبَرُ
آي التوجّه حيث المرء كان وأن ... يُوصي لأهليه عند الموت محتَضر
وحرمة الأكل بعد النوم مع رفَث ... وفدية لمُطيق الصوم مشتهر
وحقّ تقواه فما صحّ في أثر ... وفي الحرام قتالٌ للألي كفروا
والاعتداد بحَوْل مَعْ وصيتها ... وأن يدَان حديثُ النفس والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك ألي ... كُفر، وإشهادهم والصبر والنّفَر
ومنع عقدٍ لزان أو لزانيةٍ ... وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءَتْ وآية نجـ ... واه كذاك قيامُ الليل مُسْتَطِرُ
وزيد آية الاستئذان من ملكت ... وآية القسمة الفضلى لمن حَضَرُوا
فإن قلت: ما الحكمة في رفع الحكم وإبقاء التلاوة، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الفرقان كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيُتلى لكونه كتاب الله، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
والثاني: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف.
فأبقيت التلاوة تذكيراً للرحمة ورفع الشقة.
وأما ما ورد في القرآن ناسخاً لما كان عليه الجاهلية، أو كان في
شرع من قبلنا، أو في أول الإسلام، فهو أيضاً قليل العدد، كنسخ استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان، في أشياء أخر حررتها في كتابي المشار إليه.(1/91)
قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلا والمنسويخ قبله في الترتيب إلا آيتين:
آية العِدَّة في البقرة، وقوله: (لا يَحِلّ لكَ النساء) ، كما تقدم.
وزاد بعضهم ثالثة، وهي آية الحشر في الفيء على رأي من قال إنها منسوخة
بآية الأنفال: (واعْلَموا أنما غَنِمْتم مِنْ شَيْء) .
وزاد قوم رابعة، وهي قوله: (خُذِ العَفْوَ) . الأعراف: 198، - يعني
الفضْل من أموالهم على رأي من قال إنها منسوخة بآية الزكاة.
وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض
والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف، وهي: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها.
وقال أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: (خذِ العَفْوَ) .
فإن أولها وآخرها - وهو: وأعرض عن الجاهلين - منسوخ، ووسطه
محكم، وهو: وأمر با لعرْف.
وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، ولا نظير لها، وهي
قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة: 105.
- يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله: (عليكم
أنفسكم) المائدة: 105.
وقال السعدي: لم يمكث منسوخٌ مدة أكثر من قوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) .
مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية.
وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال في قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) .
أن المنسوخ من هذه(1/92)
الجملة وأسيراً، والمراد بذلك أسير المشركين، فقريء عليه الكتاب وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبت.
قال: وكيف، قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعَم ولا يقتل جوعا.
فقال: صدقت.
وقال شَيْذَلة في البرهان: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً، كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) .
نسخها قوله: (فاقْتُلُوا المشركين) .
ثم نسخ هذه بقوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ) .
كذا قال، وفيه نظر من وجهين:
أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه.
والآخر أن قوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ)
- مخصِّص للآية لا ناسخ، نعم يمثل له بآخر سورة المزمل، فإنه ناسخ لأولها
منسوخ بفرض الصلوات الخمس.
وقوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) ، ناسخ لآية الكفّ، منسوخ بآية العُذْر.
وأخرج أبو عبيد عن الحسن وأبي ميسرة، قالا: ليس في المائدة منسوخ.
ويشكل بما في المستدرك عن ابن عباس أن قوله: (فاحْكمْ بينهم أو أعْرِضْ
عنهم) المائدة: 42، - منسوخ بقوله: (وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله) .
وأخرج أبو عبيد وغيره، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة.
وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه، قال: أول آية نسخت من
القرآن القبلة، ثم الصيام الأول.
قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في المكي ناسخ.
قال: وقد ذكر أنه وقع فيه في آيات، منه قوله تعالى في سورة غافر: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) . غافر: 7.
فإنه ناسخ لقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) الشورى: هـ.(1/93)
قلت: أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقاً.
تنبيه:
قال ابن الحصّار: إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي يقول: آيةُ كذا نسخت كذا.
وقال: قد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التأويل، ليعلم
المتقدم والمتأخر.
قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من
غير نقل صريح ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فالمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد.
قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقْبَلُ في النسخ أخبار
آحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد.
والصواب خلاف قولهما.
الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه.
وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً.
وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلاّ أبقيت التلاوة ليجتمع
العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟.
وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في
المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع
به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والنائم أدنى طريق الوحي.
وأمثلة هذا الضرب كثيرة، قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن
أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يقولَنَّ أحدكم قد أخذت القرآن كله(1/94)
وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما
ظهر.
قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن أبي لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُروة بن
الزبير، عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر إلا على ما هو الآن (1) .
وقال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن الفضالة، عن عاصم بن أبي
النجود، عن زِرّ بن حبيش، قال: قال لي أبَيّ بن كعب: كأيّن تعد سورة
الأحزاب، اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثاً وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل
سورة البقرة، وإن كُنَّا لنقرأ فيها آية الرجم.
قلت: وما آية الرجم، قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجوهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم.
وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد
ابن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي امامة بن سهل - أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجوهما ألبتة بما قضيا من اللذة.
وقال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي حميد، عن حميدة بنت
أبي يونس، قالت: قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.
وعلى الذين يصلون الصفوف الأول - قالت قبل أن يغيّر عثمان المصاحف.
وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوحي إليه أتيناه فعلّمنا مما أوحي إليه.
قال: فجئت ذات يوم فقال: إن الله يقول إنا أنزلنا
المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا لأحب أن يكون إليه
الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون له الثالث، ولا يملأ جوفَ ابن آدم
إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
__________
(1) رواية لا تصح ولا تثبت، وهي تتعارض مع قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وهل يعقل أن يتواطأ الصحابة على ترك كتابة بعض آيات القرآن، "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ" وشتان بين نظم هذه الرواية وما يذكر بعدها من روايات، وبين نظم القرآن الكريم. فتأمل ولا تكن من الغافلين. والله أعلم.(1/95)
وأخرج الحاكم في المستدرك، عن أبيّ بن كعب، قال: قال لي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، ومن بقيتها: لو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه سأل ثانياً، وإن سأل ثانيا سأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية السمحة غير اليهودية ولا النصرانية، ومن يعمل خيراً فلن يكفره.
وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي
حرب، عن أبي الأسود، عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت، وخفظ منها: إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي موسى الأشعري، قال: كُنَّا نقرأ سورة نشبِّهها بإحدى المسبِّحات، فأنسيناها، غير أنى حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألونَ عنها يَوْمَ القيامة.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عدي بن
عدي، قال: قال عمر: كُنَّا نقرأ لا ترغبون عن آبائكم فإنه كفر بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: كذلك، قال: نعم.
قال: وحدثنا - ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجمحي، حدثنا ابن أبي
مليكة، عن المِسْوَر بن مَخْرمة، قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة، فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.
وقال: حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المُعَافِري، عن
أبي سفيان الكَلاعي - أن مسلمة بن مخَلّد الأنصاري، قال لهم ذات يوم:
أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود(1/96)
سعد بن مالك، فقال مسلمة، إن الذين آمنوا وهاجَروا وجاهَدُوا في سبيلِ اللهِ بأموالهم وأنفسهم، ألا فأبْشِروا أنتم أيها المفلحون.
والذين آووْهم ونصَرُوهم وجادَلوا عنهم القوم الذين غَضِب اللَهُ عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفِيَ لهم من قرَّةِ أعْين جزاءً بما كانوا يعْمَلون.
وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غادِيَيْنِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرا ذلك له، فقال: إنها مما نسخ فالهوا عنها.
وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا: وقنت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على قاتليهم.
قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفع:
أنْ بلّغوا عنّا قَوْمَنا أن قد لقينا ربَّنا فَرَضِيَ عنَّا وأرْضَانَا.
وفي المستدرك عن حذيفة، قال: ما تقرأون ربعها - يعني براءة.
قال أبو الحسين بن المنادي في كتابه الناسخ والمنسوخ: ومما رفع رسمة من
القرآن ولم يرفع حفظه من القلوب سورة القنوت في الوتر، وتسمى سورة الخلع والحفد.
تنبيه:
حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم، إنكار هذا الضرب، لأن
الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لاحجة فيها.
وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه.
ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكَتْبه في الصحف.
فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) .(1/97)
ولا يعرف اليوم منها شيء، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا توفي لا يكون مَتْلُوّاً من القرآن، أو يموت وهو متلو موجود بالرسم، ثم ينسيه الله الناس ويرفعه من أذهانهم.
وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
انتهى.
وقال في البرهان في قول عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله
لكتبتها - يعني آية الرجم، ظاهره أن كتابتها جائزة، وإنما منعه قول الناس.
والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون
ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب.
وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعَرِّج على مقالة الناس، لأن
مقال الناس لا يصلح مانعاً.
وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد، والقرآن لا
يثبت به وإن ثبت لا يحكم.
ومن هنا أنكر ابن ظَفَر في " الينبوع " عدَّ هذا مما نسخ تلاوته، قال: لأن خبر الواحد لا يثبت به القرآن.
قال: وإنما هذا من المنسأ لا النسخ، وهما مما يلتبسان، والفرق بينهما أن
المنْسَأَ لَفْظُه قد يعلم حكمه. انتهى.
وقوله: لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقاها من النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصَّلْت، قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاصي يكتبان المصحف، فمرّا على هذه الآية فقال زيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنيا الشيخ والشيخة، فارجوهما ألبتّة.
فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أكتبا، فكأنه كَرِهَ ذلك.
فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رُجِمَ.
قال ابن حجر في شرح البخاري: فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ
تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها.
قلت: وخطر لي في ذلك نكتة حسنة، وهو أن سببه التخفيف على الأمة(1/98)
بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقياً، لأنه أثقل
الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى ندب الستر.
وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في
المصحف، قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثَّيِّبَيْن يرجمان، وقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: وأنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم.
قال: لا أستطيع.
قوله: أكتبني، أي ائْذَنْ لي في كتابتها، ومكنّي من ذلك.
وأخرج ابن الضرَيْس في فضائل القرآن، عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن
أسلم، أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، وقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبيّ بن كعب، فقال: ألست أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدفعت في صدري وقلت تستقرىء آية الرجم وهم يَتَسَافَدون تسافُدَ الحمر.
قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.
تنبيه:
قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ
والمنسوخ، وجميع هذه الأوجه، مع علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول.
قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا.
قال: هلكت وأهلكت.
قال الخوَيِّي: علم التفسير علم غير يسير، أما عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان الوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه.
وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يُعلم إلا بأن يسمع من الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد مستنبط بأمارات ودلائل.
والحكمة فيه أن الله أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر نبيّه بالتنصيص
على المراد في جميع آياته.(1/99)
وقد كان الصحابة يتحاشون عن تفسير القرآن بالرأي، ويتوقّفون عن أشياء
لم يبلغهم فيها شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ظهر لي تفصيلٌ حسن أخذته مما رواه ابن جرير عن ابن عباس، موقوفاً من طريق، مرفوعاً من أخرى:
التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعرفه
أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فما كان عن
الصحابة مما هو من الوجهين الأولين فليس بمرفوع، لأنهم أخذوه من معرفتهم
بلسان العرب، وما كان من الوجه الثالث فهو مرفوع إذ لم يكونوا يقولون في القرآن بالرأي.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) .
قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس -
مرفوعاً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.
قال: القرآن.
قال ابن عباس: يعني تفسيره فإنه قد قرأه البَرُّ والفاجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا
أحزنتْني، لأني سمعت الله يقول: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) .
قال ابن عباس: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذّ الشِّعْرَ
هذًّا.
وأخرج أبو عبيد، عن الحسن، قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم
فِيْمَ أنْزلت، وما أراد بها.
وأخرج ابن الأنباري عن أبي بكر الصديق، قال: لأنْ أعرب آية من القرآن
أحب إليّ من أن أحفظ آية.(1/100)
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن بُريدة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أعلم أني إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت.
وأخرج أيضاً من طريق الشعبي، قال: قال عمر: من قرأ القرآن وأعربه كان له عند الله أجر شهيد.
قلت: معنى هذه الآثار عندي إرادة البيان والتعبير، لأن إطلاق الإعراب
على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقتهم لا يحتاجون إلى
تعليمه، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته وقال بجواز أن يكون المراد
الإعراب الصناعي، وفيه بعْدٌ.
وقد يستدل له بما أخرجه السّلَفي في الطيوريات من حديث ابن عمر -
مرفوعاً: أعربوا القرآن يدلكم على تأويله.
وقد أجمعوا على أن التفسير من فروض الكفاية، وأجَلُّ العلوم الشرعية.
قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك
أن شرف الصنعة إما لشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميْتَة.
وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة
الكِنَاسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح.
وإما بشدة الحاجة إليها، كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون من أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعضُ الناس في بعض الأوقات.
إذ عُرِف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاثة، أما
من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة.
ومَعْدِنُ كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.(1/101)
وأما من جهة الغرض فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى.
وأما من جهة شدة الحاجة فلأن كل كمال ديني أو دنيويّ عاجلي أو آجلي
مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله.
والكلام هنا عريض تكفّل بجمعه أئمتنا رضي الله عنهم.
وإنما ذكرتُ في هذا المجموع بعض ما يحتاج إليه بعد تقرير قاعدة، وهي
أن كل من وَضَع من البشر كتاباً فإنما وضعه ليُفْهَمَ بذاته من غير شرح، وإنما
احتيج إلى الشرُوح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة كلام المصنف، فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة
في اللفظ الوجيز، فربما عَسُرَ فَهْمُ مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني
الخفية، ومن هاهنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح
غيره.
وثانيها: إغفاله بعض تتمّات المسائل، أو شروط لها، اعتماداً على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبها.
وثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز، والاشتراك، ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارحُ لبيان غرض المصنف وترجيحه.
وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بَشَر من السهو والغلط، أو تكرار
الشيء، أو حذف المهم، أو غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.
وإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمان أفصح
العرب، وكانوا يعلمون ظاهره، وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر، كسؤالهم لما نزل: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الأنعام: 82) ، فقالوا: وأينَا لم يظلم نفسه، ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرْك، واستدل عليه بقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .(1/102)
وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير، فقال: ذلك العرض.
وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأسود والأبيض، وغير ذلك مما سألوا عن
آحاد منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم
يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير.
ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبيل بسط الألفاظ وكشف معانيها.
وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض.
فإن قلت: قد قلتم إنه يقع النسخ إلى غير بدل.
وقد قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وهذا إخبار لا يدخله خلف.
فالجواب ما قاله ابن الحصار: كل ما ثبت الآن من القرآن ولم ينسخ فهو بدل
مما نُسخت تلاوته، فكل ما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه الآن فقد أبدله الله مما علمناه وتواتر إلينا لفطه ومعناه.
*******
الوجه التاسع من وجوه إعجازه (انقسامه إلى محكم ومتشابه)
فهو محكم لا يتطرق النقصُ إليه والاختلاف، ويشبه بعضُه بعضاً في الحق
والصدق والإعجاز.
وقد اختلف علماؤنا في التعبير عن المحكم والمتشابه على أقوال كثيرة، وألفوا
فيه تواليف منيرة، وقصدنا في هذه النبذة اختصار ما فيها.
فقيل: الحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل.
والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، والحروف المقطعة في أوائل السور.
وقال الماوردي: المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً.
والمتشابه بخلافه.(1/103)
وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان.
وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلا بردّه إلى غيره.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات:: (قل تَعَالَوْا) ، والآيتان بعدها.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى: (فيه آيات
محْكَمَات) .
قال: من هاهنا: (قل تَعَالَوْا) إلى ثلاث آيات.
من هاهنا: (وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاّ إياه) ، إلى ثلاث آيات بعدها.
قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم الذي
يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به.
واختلف أيضاً هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه أو لا يعلمه إلا الله
على قولين، منشؤهما الاختلاف في قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ في العلم يقولون) ، هل هو معطوف ويقولون حال، أو مبتدأ خبره يقولون
والواو للاستئناف.
وعلى الأول طائفة يسيرة، منهم مجاهد وهو رَاوِيهِ عن ابن
عباس: فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) - قال: أنا ممن يعلمُ تأويله.
وأخرج عبيد بن حميد عن مجاهد في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) - قال: يعلمون تأويله ... ويقولون آمنّا له.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله.
ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه.
واختار هذا القول النووي، فقال في شرح مسم: إنه الأصح، لأنه يَبْعُدُ أن
يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.(1/104)
وقال ابن الحاجب: إنه الظاهر.
وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم خصوصاً أهل السنة فذهبوا إلى الثاني، وهو أصح الروايات عن ابن عباس.
قال ابن السمعاني: لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة.
واختاره الغنيمي.
قال: وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة، لكنه سقط في هذه المسألة.
قال: ولا غَرْو فإن لكل جَوَاد كبوة، ولكل عالم هفوة.
قلت: ويدلّ لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره
والحاكم في مستدركه عن ابن عباس - أنه كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلا
الله.
ويقول الراسخون في العلم آمنّا به، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف، لأن هذه الرواية وإن لم تثبتْ بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على مَنْ دونه.
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متّبِعي المتشابه، ووصفهم بالزَّيْغِ وابتغاء
الفتنة، وعلى مدح الذين فوّضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب.
وحكى الفَرَّاء أن في قراءة أبي بن كعب أيضاً: ويقول الراسخون.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن
مسعود: وإنْ تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: (هو الذي أنزل عليكَ الكتاب ... إلى قوله: (أولو الألباب) ، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذرهم.
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أخاف على أمَّتي إلاّ ثلاث خِلاَل: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيَقْتَتِلوا.
وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا
الله ... الحديث.(1/105)
وأخرج ابن مَرْدَويه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به.
وأخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلّوا حلاله وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: (آمنّا به كلّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العَوْفيِّ، عن ابن عباس، قال: نُؤمن
بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله.
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه.
وأخرج الدارمي في مسنده، عن سليمان بن يسار - أن رجلا يقال له صَبِيغ
قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر - وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت، قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه.
وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دَبِراً، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فأذن له إلى أرضه.
وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين.
وأخرج الدارمي، عن عمر بن الخطاب - أنه قال: إنه سيأتيكم ناس
يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.(1/106)
فهذه الآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله، وأن الخوض فيه
مذموم، وسيأتي قريباً زيادة على ذلك.
قال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه خلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أوْ لا.
والثاني النص.
والأول إما أن يكون دلالته على ذلك الغير أرجح أم لا، والأول هو الظاهر.
والثاني إما أن يكون مساويه أم لا.
والأول هو المجمل والثاني المؤول.
فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك من المجمل، والمؤول هو المتشابه.
ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم موضع المتشابه، فالواجب أن يفسَّر
الحكم بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية، وهو الجمع مع التقسيم، لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) ، وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما يشاء، فقال أولاً: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ... إلى أن قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) .
وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه
وضع موضع ذلك: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، لإتيان لفظ الرسوخ، لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع العام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب
على طرق الرشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق.
وكفى بدعاء الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) .
شاهداً على أن الراسخين في العلم مقابل لقوله: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) .
وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) تام، وإلى أن علم بعض
المتشابه مختص بالله تعالى، وأنه من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: " فاحْذَروهم ".
وقال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء
العبادة، وكمن صنف كتاباً أجملَ فيه أحياناً فيكون موضع خضوع المتعلم
لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره.(1/107)
وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والتشاغل به هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافاً بقصورها.
وفي ختم الآية بقوله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ، تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين - يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من ذوي العقول، ومن ثم قال الراسخون: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ... )
إلى آخر الآية، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللَّدني بعد أن استغاثوا به من الزيغ النفساني.
وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدها ما إذا رد إلى الحكم واعتُبر به
عرف معناه.
والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل
الزيغ فيظنون تأويله، ولا يبلغون كُنْهَه، فيرتابون به فيفْتَتِنون.
وقال ابن الحصار: قسّمَ اللهُ آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن
المحكمات أنها أم الكتاب، لأنه إليها تردّ المتشابهات، وهي التي تُعتمد في فهم
مراد الله من خلقه، أي في كل ما تعبّدهم به من معرفته وتصديق رسله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وبهذا الاعتبار كانت أمهات.
ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.
ومعنى ذلك أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة
كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات، ومراد الشارع منا التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين، ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك.
ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التتبع إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم
الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والشروع، ومثَلُ هؤلاء من المشركين
الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءو بها، ويظنون أنهم لو
جاءتهم آياتٌ أخر آمنوا عندها جهلاً منهم، وما علموا أن الإيمان بإذن الله
تعالى. انتهى.(1/108)
وقال الراغب في مفردات القرآن: الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة
أضرب: محكم على الإطلاق.
ومتشابه على الإطلاق.
ومحكم من وجه ومتشابه من وجه.
فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب:
متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى فقط، ومن جهتهما.
فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة.
نحو: اللازب وينزفون.
أو الاشتراك كاليد والعين.
وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:
ضرب لاختصار الكلام، نحو: (وإن خِفْتمْ ألاَّ تقْسِطُوا في اليَتَامَى
فانْكِحوا مَا طَابَ لكمْ مِنَ النساء) .
وضَرْبٌ لبَسْطه، نحو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع.
وضرب لنظم الكلام، نحو: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا) .
تقديره: أنزل على عَبْدِه الكتاب قَيِّماً، ولم يجعل له عوجاً.
والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى، وأوصاف القيامة، فإن تلك
الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو ليس
من جنسه.
والمتشابه من جهتها خمسة أضرب:
الأول - من جهة الكمية، كالعموم والخصوص، نحو: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
والثاني - من جهة الكيفية، كالوجوب والندب، نحو: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) .(1/109)
والثالث - من جهة الزمان، كالناسخ والمنسوخ، نحو: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) .
والرابع - من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) ، (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) .
فإن مَنْ لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية.
والخامس - من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة
والنكاح.
قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير
المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج الدابة، ونحو
ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة، والأحكام الغلقة.
وضرب متردد بين الأمرين يختص بصرفته بعض الراسخين في العلم، ويَخفَى
على مَنْ دونهم، وهو المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: اللهم فقِّهْهُ في الدين، وعلمه التأويل.
وإذا عرفت هذه الجملة عرفت أن الوقوف على قوله: (وما يَعْلَم تأويلَه إلا
اللهُ) ، ووصله بقوله: (والراسخون في العِلْمِ) - جائزان، وأن لكل واحد منهما وجهاً حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. انتهى.
وقال الإمام فخر الدين: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من
دليل منفصل، وهو إما لفظي وإما عقلي.
والأول لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية، لأنه لا يكون قاطعا، لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة(1/110)
المعروفة، وانتفاؤها مظنون، والموقوف على المظنون مظنون، والظني لا يكتفى به في الأصول.
وأما العقلي فإنه يفيد صرف اللفظ عن ظاهره لكون الظاهر محالاً.
وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل، لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز وتأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي، والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن، والظن لا يعوَّل عليه في المسائل الأصولية القطعية فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال - تركَ الخوض في تفسير التأويل. انتهى.
وحسبك بهذا الكلام من الإمام.
فصل
من المتشابه آيات الصفات.
ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد، نحو: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) .
(كلّ شيء هالك إلا وجْهَه) .
(يَدُ اللهِ فَوْقَ أيديهم) ، ونحوها.
وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض
معناها المراد إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها.
أخرج أبو القاسم اللّالكَائي من طريق في السنة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، قال: الكيف غير
معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر.
وأخرج أيضاً عن محمد بن الحسن، قال: اتفق الققهاء كلهم من الشرق إلى
الغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الترمذي في الكلام على حديث الرؤية: المذهب في هذا عند أهل العلم
من الأئمة - مثل سفيان الثوري، ومالك، وابن المبارك، وابن عيينة، ووَكيع،(1/111)
وغيرهم - أنهم قالوا: نروي هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن - بها، ولا يقال كيف، ولا نفسر ولا نتَوَهّم.
وذهبت طائفة من أهل السنّة أنّا نؤوّلها على ما يليق بجلاله تعالى، وهذا
مذهب الخلف.
وكان إمام الحرمين يذهب إليه، ثم رجع عنه، فقال في الرسالة
النظامية: الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها.
وقال ابن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صَدْر الأمة وساداتها، وإياها
اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من
المتكلمين من أصحابنا يَصْدف عنها ويأباها.
واختار ابن بَرْهان مذهب التأويل، قال: ومنشأ الخلاف بين الفريقين: هل
يجوز أن يكون في القرآن شيء لم يُعلم معناه أم لا، بل يعلمه الراسخون.
وتوسّط ابن دَقِيق العيد، فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم
ينكَر، أو بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أرِيد به التنزيه.
قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، مما في قوله: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)
فنحمله على حق الله وما يجب له.
وكذا استواؤه على العرش بالعدل والقهر، كقوله: (قائماً بالقِسْطِ) ، فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنه أعطى
كل شيء خلقه موزوناً بحكمته المبالغة.
وقد أكثر بعض الناس في جواب هذه الآية حتى أنهاه إلى عشرين حذفناها
للإطالة.
ومن ذلك قوله تعالى: (تعلم ما في نَفْسي) .
خرج على سبيل المشاكلة، مراداً به الغيب، لأنه مستتر كالنفس.(1/112)
وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ، أي عقوبته، وقيل إياه.
وقال السُّهَيْلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد.
وقد استعمل من لفظها النفاسة، والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه.
وقال ابن اللبان: أوَّلَهَا العلماء بتأويلات، منها أن النفس عبّر بها عن الذات، قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدي الفعل إليها بفي المفيد للظرفية محال عليه تعالى.
وقد أوّلها بعضهم بالغيب، أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك.
قال: وهذا حسن، لقوله آخر الآية: إنك أنْتَ علاّم الغيوب.
ومن ذلك " الوجه "، وهو مؤَوَّل بالذات.
وقال ابن اللبان - في قوله: (يريدون وَجْهَه) .
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) الدهر: 9.
(ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) .
المراد إخلاص النية.
وقال غيره في قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، أي الجهة التي أمر بالتوجه إليها.
ومن ذلك "العَيْن"، وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك، بل قال بعضهم: إنها
حقيقة في ذلك، خلافاً لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز في تسمية
العضو بها.
وقال ابن اللبان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة، بها سبحانه ينظر
للمؤمنين وبها ينظرون إليه.
قال: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) .
نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقاً لأنها المرادة المنسوبة إليه.
وقال: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)
قال: فقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) .
أي بآياتنا تنظر إليها بنا وننظر بها إليك، قال: ويؤيد أن المراد بالأعين الآيات(1/113)
كونها علّل بها الصبر لحكم ربه صريحاً في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) .
قال: وقوله في سفينة نوح:
(تجري بأعيننا) ، أي بآياتنا، بدليل قوله: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) .
وقال: و (لتُصْنَعَ على عَيْني)
أي على حكم آيتي التي أوحَيْتُها إلى أمّك: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) . انتهى.
وقال غيره: المراد في الآيات كلاءته وحفظه.
ومن ذلك اليد في قوله تعالى: (لما خَلَقْتُ بيديّ) .
(يَدُ الله فوق أيديهم) ، (مما عملت أيدينا) .
(وأن الفضل بيد الله) ، وهي مؤولة بالقدرة.
وقال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك
مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) .
ولم يمدحهم بالجوهار، لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر.
قال الأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع.
والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلا أنها
أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فإن في اليد تشريفاً لازماً.
وقال البغوي في قوله: (بيديّ) : في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنها
ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة، وأنهما هنا صفتان من صفات ذاته.
وقال مجاهد: اليد هاهنا صفة وتأكيد، لقوله: (ويَبقَى وَجْهُ رَبِّك) .
قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صفة لكان لإبليس أن
يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم في الخلق مزِيَّة على إبليس.(1/114)
وقال ابن اللبان: فإن قلت: فما حقيقة اليدين في خلق آدم، قلت: الله أعلم بما أراد، ولكن الذي استفسرته من تدبر كتابه أن اليدين استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله ولنوره القائم بصفة عدله، ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله، قال: وصاحبة الفضل هي اليمين التي ذكرها في قوله: (والسماواتُ مَطْوِيًاتٌ بيمينه) .
ومن ذلك قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) .
ومعناه عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق.
وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة، عن ابن عباس - أنه سئل عن قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) .
قال: إذا خَفِي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
اصبر عَنَاق إنه شَرّ باقْ ... قد سنَّ لي قَوْمُك ضَرْبَ الأعناقْ
وقَامَتِ الحربُ بِنَا على ساقْ
قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة.
ومن ذلك صفة الفوقية في قوله: (وهو القاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) .
(يخافُون رَبهُمْ مِنْ فَوْقهم)
المراد بها العلو من غير جهة.
وقد قال فرعون: (وإنا فَوْقَهُم قَاهِرون) .
ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني.
ومن ذلك صفة المجيء في قوله: (وجاء ربُّك) الفجر: 23.
أو يأتي رَبُّك، أي أمره، لأن الملك مجيء بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى: (وهم بأمره يَعْمَلُون) ، فصار كما لو صرح به.
وكذا قوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
: أي اذهب بربك، أي بتوفيقه وقربه.
ومن ذلك صفة الحب في قوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
(فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .(1/115)
وصفة الغضب في قوله: (غَضِبَ اللَّهُ) .
وصفة الرضا في قوله: (رضي اللَّهُ عنهم) .
وصفة العجب في قوله: (بل عجِبْتُ ويَسْخَرُون) الصافات: 11، - بضم
التاء (1) .
وقوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) .
وصفة الرحمن في آيات كثيرة.
وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسَّر بلازمها.
قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة، والفرح.
والسرور، والغضب والحياء والكره والاستهزاء لها أوائل ولها غايات، مثاله
الغضب، فإن أوله غليان القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار.
وكذلك الحياء له أول، وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك
الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس.
انتهى.
وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه.
وسئل الجنيد
عن قوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فقال: إن الله لا يعجب من شيء.
ولكن الله وافق رسوله، فقال: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) ، أي هو كما تقول.
ومن ذلك لفظة "عند " في قوله: (عِنْدَ رَبِّك) الأعراف: 206.
و (من عنده) المائدة: 52، ومعناها الإشارة إلى التمكين والزّلْفَى والرفعة.
ومن ذلك قوله: (وهو معكم أين ما كُنْتُمْ) الحديد: 4) ، أي بعلمه.
وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) .
قال البيهقي: الأصح أن معناه أنا المعبود في السماوات وفي الأرض، مثل قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) . الزخرف: 84.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (عجبت) الآية 12 فحمزة والكسائي وخلف بتاء المتكلم المضمومة أي قل يا محمد بل عجبت أنا أو أن هؤلاء من رأى حالهم يقول عجبت لأن العجب لا يجوز عليه تعالى على الحقيقة لأنه انفعال النفس من أمر عظيم خفي سببه وإسناده له تعالى في بعض الأحاديث مؤول بصفة تليق بكماله مما يعلمه هو كالضحك والتبشبش ونحوهما فاستحالة إطلاق ما ذكر عليه تعالى محمولة على تشبيهها بصفات المخلوقين وحينئذ فلا إشكال في إبقاء التعجب هنا على ظاهره مسندا إليه تعالى على ما يليق به منزها عن صفات المحدثين كما هو طريق السلف الأسلم الأسهل وافقهم الأعمش والباقون بفتحها والضمير للرسول أي بل عجبت من قدرة الله تعالى هذه الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك مما تريهم من آثار قدرة الله تعالى أو من إنكارهم البعث مع اعترافهم بالخالق. اهـ (إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر. 1/ 472)(1/116)
وقال الأشعري: الظرف متعلق بيعلم، أي عالم بما في السماوات والأرض.
ومن ذلك قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
أي نقصد جزاءكم.
قال ابن اللبان: ليس من المتشابه قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
لأنه فسره بعده بقوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) .
تنبيهاً على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه وإعادته، وجميع تصرفاته في مخلوقاته.
ومن المتشابه أوائل السور.
والمختار فيها أنها أيضاً من الأسرار التي انفرد الله بعلمها.
وقد كثرت الأقوال فيها، ومرجعها كلها إلى قول واحد، وهو أنها
حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى.
والاكتفاء ببعض الكلمة معهود من العربية، قال الشاعر:
قُلْت قِفِي فقالت قافْ
أي وقفت.
وقال:
بالخير خيراتٍ وإن شرّا فا ... ولا أريدُ الشرَّ إلا أنْ تَا
قالوا جميعاً كلهم ألا فا
أراد ألا تركبوا ألا فاركبوا.
وهذا القول اختاره الزجاج.
وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل على الكلمة التي هو منها.
وقيل: إنها الاسم الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وكذا نقله ابن
عطية.
وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: هو اسم الله الأعظم.
قال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر
للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة.
قال ابن حَجَر: وهذا باطل لا يُعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر(1/117)
عن عد " أبي جاد " والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة.
وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم
الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقد تحصّل لي فيها عشرون قولا، وأزيد، ولا أعرف واحدا يحكم عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم.
والذي أقول إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل
صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً عندهم لا إنكار فيه.
وقيل: هي تنبيهات كما في النداء - عده ابن عطية مغايراً للقول بأنها فواتح.
والظاهر أنه معناه.
قال أبو عبيدة: الم افتتاح كلام.
وقال الحوفي: القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده غزيرة، فيريد أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله الم، والر، وحم، ليسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت جبريل، فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما لم يستعمل
الكلمات المشهورة في التنبيه كألاَ وأمَا، لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتي فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قَرْع سمعه.
وقيل: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله هذا النظم
البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب وتلين الأفئدة.
عدّ هذا جماعة ٌ قولاً مستقلاً.
والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة
لبعض الأقوال لا قولا في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى.
وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف:(1/118)
ألف، ب، ت، ث، فجاء بعضها مقطعاً مؤلفاً، ليدل القوم الذي نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تقريعاً لهم، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفوبها، ويبنون كلامهم عليها.
وفي المحتسب لابن جنّي أن ابن عباس قرأ حم عسق، بلا عين ويقول:
السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون.
قال ابن جني: وفي هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور، ولو كانت أسماء لله لم يجزْ تحريف شيء منها.
وقال الكرْماني في غرائبه: في قوله: (الم: أحسِبَ الناس) ، الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها.
فإن قلت: هل للمحكم على المتشابه مزية أم لا، فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع، أو بالأول فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء، وأنه منزل بالحكمة.
وأجاب أبو عبد الله البكرَاباذِي بأن المحكم كالمتشابه من وجه، ويخالفه من
وجه، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع، وأنه لا يختار القبيح.
ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد.
فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال.
والمتشابه محتاج إلى فكرة ونظر، ليحمله على الوجه المطابق، ولأن المحكم أصل، والعلم بالأصل أسبق، ولأن المحكم يعلم مفصلا، والمتشابه لا يعلم إلا مجملاً.
فإن قلت: وقد أراد الحق البيانَ والهدى لعباده، وأمر بذلك رسوله في قوله:
لئبَيِّنَ للناس ما نزَل إليهم.
والجواب أن له فوائد:
أحدها الحث للعلماء على النظر فيه الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن
دقائقه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب إن كان مما يمكن علمه.(1/119)
وثانيها إظهار التفاضل وتفاوت الدرجات، إذ لو كان القرآن كله محكماً لا
يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق، ولم يظهر فضل العالم على غيره.
وإن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد:
منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوّقف فيه، والتفويض والتسليم، والتعبّد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه.
وإقامة الحجة عليهم، لأنه لو أنزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وإفهامهم دل على أنه نزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف.
وقال الإمام فخر الدين: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على
المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فالْجَبْرِي يتمسك بآيات الجبر، كقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) .
والقدري يقول: هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى
حكى ذلك عنهم في معرض الذم لهم في قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) .
وفي موضع آخر: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) .
ومنكر الرؤية يتمسك بقوله: (لا تدْرِكه الأبصار) .
ومثبت الجهة يتمسك بقوله: (يخافون رَبهمْ مِنْ فَوْقهم) .
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) .
والنافي يتمسك بقوله: (ليس كَمِثْلِهِ شَيءٌ) .
ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة له متشابهة، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا.
قال: والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فوائد لوجوه:
منها أنه يوجب مزيد الشقة في الوصول إلى المراد منه، وزيادة المشقة توجب
مزيدَ الثواب.(1/120)
ومنها أنه لو كان القرآن كله محكماً لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان
بصريحه مبطلاً لما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينَفِّر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، والانتفاع به، فلما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله، ويتوصل إلى الحق.
ومنها أن القرآن إذا كان مشتملاً على المتشابه افتقر إلى العلم بطريق
التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.
ومنها أن القرآن مشتمل على دعوة الخواصّ والعوامّ، وطبائع العوامّ تنفر في
أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود
ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح.
فالقِسْم الأول هو الذي يخاطبون به في أول الأمر من التشابهات.
والقسم الثاني هو الذي يكشف لهم في آخر الأمر
من المحكمات.
*******
الوجه العاشر من وجوه إعجازه (اختلاف ألفاظه في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما)
وقد ألَّف الناس في هذا الفن تواليف كابن الجزري والشاطبي وغيرهما ممن لا
نطوِّل بذكرهم.
وبالجملة فالقراءات السبع متواترة عند الجمهور.
وقيل: بل مشهورة.(1/121)
وقال الزركشي: والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة.
أما تواترها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه نظر، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نَقْل الواحد عن الواحد.
قلت: في ذلك نظر لما سيأتي، واستثنى أبو شامة الألفاظ المختلف فيها عن
القراء، واستثنى ابن الحاجب ما كان من قبيل الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف
الهمزة.
وقال غيره: الحق أن أصل المد والإمالة متواتر، ولكن التقدير غير
متواتر للاختلاف في كيفيته، كذا قال الزركشي.
قال: وأما أنواع تخفيف الهمزة فكلها متواترة.
وقال ابن الجزري: لا نعلم أن أحداً تقدم ابنَ الحاجب إلى ذلك، وقد نص
على تواتر ذلك كله أئمة الأصول، كالقاضي أبي بكر وغيره، وهو الصواب، لأنه إذا ثبت تواتر اللفظ ثبت تواتر هيئة أدائه، لأن اللفظ لا يقوم إلا به، ولا يصح إلا بوجوده.
قال الكواشي: من المهم صرفة توجيه القراءات، وفائدته أن يكون دليلاً على حسب المدلول عليه أو مرجحاً، إلا أنه ينبغي التنبيه على شيء، وهو أنه قد ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يسقطها، وهذا غير مرضِ لأن كلاًّ منهما متواتر.
وقد حكى أبو عمر الزاهد في كتاب " اليواقيت " عن ثعلب أنه قال: إذا
اختلف إعرابان في القرآن لم أفضل إعراباً على إعراب، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضّلت الأقوى.
وقال أبو جعفر النحاس: السلامة عند أهل الدين - إذا صحّت القراءتان -
ألا يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيَأثَم مَنْ قال ذلك، وإن كان رؤساء الصحابة ينكرون مثل هذا.
وقال أبو شامة: أكثر المصنفون من الترجيح بين قراءة مالك ومَلِكِ حتى إن(1/122)
بعضهم يبالغ إلى حد يسقط وجْهَ القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمود بعد
ثبوت القراءتين. انتهى.
وقال بعضهم: توجيه القراءات الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة.
تنبيهات:
الأول: قال النخعي: كانوا يكرهون أن يقولوا قراءة سالم، وقراءة عبد الله، وقراءة أبيّ، وقراءة زيد، بل يقال فلان كان يقرأ بوجه كذا، وفلان كان يقرأ بوجه كذا.
قال النووي: والصحيح أن ذلك لا يكرَهُ.
الثاني: قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي
أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما ظن ذلك بعض أهل الجهل.
وقال أبو العباس بن عمار: لقد فعل مُسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له.
وأشكل هذا الأمر على العامة بإيهامه كل من قَلّ نظره أن هذه القراءات
المذكورة في الخبر، وليته إذا اقتصر نَقَص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة.
ووقع له أيضاً في اقتصاره عن كل إمام على راوِيَيْن - أنه صار مَنْ سمع قراءة راو ثالث غيرهما أبطلها، وقد تكون هي أشهر وأوضح وأظهر، وربما بالغ مَنْ لا يفهم فخطّأ أو كفّر.
وقال أبو بكر بن العريي: ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز
غيرها، كقراءة أبي جعفر، وشيبة، والأعمش وغيرهم، فإن هؤلاء مثلهم أو
فوقهم، وكذا قال غير واحد، منهم: مكيّ، وأبو العلاء الهمذاني، وآخرون من أئمة القراء.
وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد ومَنْ تبعه من القراءات المشهورة
إلا النَّزْر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راوياً، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة(1/123)
أنفس، فكيف يقتصر على السّوسي والدّوري، وليس لهما مزية على غيرهما، لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان، والاشتراك في الأخذ.
قال: ولا أعرف لهذا سبباً إلا ما قضى من نَقْص العلم.
وقال مكي: مَنْ ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كعاصم، ونافع، وأبي عمرو
- أحد الحروف السبعة التي في الحديث - فقد غلط غلطاً عظيما.
قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف ألا يكون قرآناً، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صَّنفوا في القراءات من الأئمة المتقدمين، كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل القاضي - قد ذكروا أضعاف هؤلاء، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو، ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة، وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد
اسم الكسائي وحذف يعقوب.
قال: والسبب في الاقتصار على السبعة - مع أن في أئمة القراء مَنْ هو أجَل
منهم قدراً، ومثلهم أكثر من عددهم - أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا على ما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة به، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماماً واحداً، ولم يتركوا مع ذلك نقْلَ ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراء ولا القراءة به، كيعقوب، وأبي جعفر، وشَيْبَة، وغيرهم.
قال: وقد صنّف ابن خبير المكي - قبل ابن مجاهد - كتاباً في القراءات.
فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إماماً، وإنما اقتصر على ذلك لأن
المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال: إنه وجّهَ لسبعة: هذه الخمسة، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين،(1/124)
لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبر، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من مصحف البحرين واليمن قارئين كمل بهما العدد، فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد به الخبر، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة، ولم تكن له فطنة، فظن أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع.
والأصل المعتمد عليه صحة المسند في السماع، واستقامة الوجه في العربية.
وموافقة الرسم.
وأصح القراءات سنداً نافع وعاصم، وأفصحها أبو عمرو والكسائي.
وقال القَرّاب في الشافي: التمسك بقراءات سبعة من القراء دون غيرهم ليس
فيه أثر ولا سنّة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر، وأوْهَمَ أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقلْ به أحد.
وقال الكواشي: كل ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق خط
المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، ومتى فقِدَ شَرط من الثلاثة فهو شاذ.
وقد اشتد إنكار الأئمة في هذا الشأن على من ظن انحصار القراءات المشهورة
في مثل ما في التيسير والشاطبية، وآخر مَنْ صرّح بذلك الشيخ تقي الدين
السبكي، فقال في شرح المنهاج: قال الأصحاب: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع، ولا تجوز بالشاذة، وظاهر هذا يوهم أن غير السبع المشهورة من الشواذ.
وقد نقل البغوي الاتفاقَ على القراءة بقراءة يعقوب وأبي جعفر مع السبع
المشهورة، وهذا القول هو الصواب.
قال: واعلمْ أن الخارج عن السبع المشهورة على قسمين: منه ما يخالف رسم
المصحف فلا شك في أنه لا تجوز قراءته لا في الصلاة ولا في غيرها.
ومنه ما لا يخالف رسمَ المصحف ولم تشتهر القراءة به، وإنما ورد من طريق غريب لا يعَوَّل عليها، وهذا يظهر المنع من القراءة به أيضاً.(1/125)
ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديماً وحديثاً فهذا لا وَجْهَ
للمنع منه، ومن ذلك قراءة يعقوب وغيره.
وقال البغوي: أول من يعتمد عليه في ذلك، فإنه جامع للعلوم، قال: وهكذا التفصيل في شواذ السبعة، فإن عنهم شيئاً كثيراً شاذاً. انتهى.
وقال ولده في منع الموانع: إنما قلنا في جمع الجوامع والسبع متواترة، ثم قلنا في الشاذ: والصحيح أنه ما وراء العشرة، ولم نقل والعشر متواترة، لأن السبع لم يختلف في تواترها، فذكرنا أولاً موضع الإجماع، ثم عطفنا عليه موضع الخلاف، فدل على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعْتبر قوله في الدين.
قال: وهي لا تخالف رسم المصحف.
قال: وسمعت أبي يشدّد النكير على بعض القضاة، وقد بلغه أنه منعه من القراءة بها، واستأذنه بعض أصحابنا مرة في إقراء السبع، فقال: أذِنْت لكَ أن تقرأ لي العشر. انتهى.
وقال في جواب سؤال سأله ابن الجزري: القراءات السبع التي اقتصر عليها
الشاطبي والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف متواترةٌ معلومة من الدين ضرورة، وكل حرفٍ انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين
بالضرورة أنه قد قرئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل.
الثالث: باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام، ولهذا بنَى الفقهاء
نَقْض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءة في: (لمستم) ، و (لامَسْتم)
النساء: 43) ، وجواز وطء الحائض عند الانقطاع قبل الغسل وعدمه على
الاختلاف في (يَطْهُرْن) البقرة: 222.
وقد حكوا خلافاً غريباً في الآية إذا قرئت بقراءتين، فحكى أبو الليث
السَّمَرْقَنْدي في كتاب " البستان " قولين: أحدهما - أن الله تعالى قال بهما جميعاً.
الثاني: أن الله تعالى قال بقراءة واحدة، إلا أنه أذن أن تقرأ بقراءتين، ثم اختار(1/126)
توسطاً، وهو أنه إن كان تفسير يغاير الآخر فقد قال بهما جميعاً وتصير
القراءاتان بمنزلة آيتين، مثل: حتى يطهرن.
وإن كان تفسيرهما واحداً كالبُيوت والبِيوت فإنما قال بأحدهما، وأجاز القراءة لكل قبيلة بهما على ما تعوَّد لسانهم.
قال: فإن قلتم إنه قال بإحداهما فأي القراءتين، قلنا: بلغة قريش.
انتهى.
وقال بعض المتأخرين: لاختلاف القراءة وتنوعها فوائد:
منها التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة.
ومنها إظهار فضلها وشرفها على سائر الأمم، إذ لم ينزل كتاب غيرهم إلا
على وجه واحد.
ومنها إظهار أجْرها من حيث أنهم يفرغون جهدهم في تحقيق ذلك، وضبطه
لفظة لفظة حتى مقادير المدَّات وتفاوت الإمالات، ثم في تتبّع معاني ذلك
واستنباط الحكم أو الأحكام من دلالة كل لفظ، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح.
ومنها إظهار سر الله في كتابه وصيانته له عن التبديل والاختلاف، مع كونه
على هذه الأوجه الكثيرة.
ومنها المبالغة في إعجازه بإيجازه، إذ تنوع القراءات بمنزلة الآيات، ولو
جعلت دلالة كل لفظة آيةً على حدة لم يخْفَ ما كان من التطويل، ولهذا كان
قوله: " وأرجلكم " منَزَّلاً لغسل الرجل والمسح على الخفّ، واللفظ واحد، لكن باختلاف إعرابه.
ومنها أن بعض القراءات تبيّن ما لعله جمل في القراءة الأخرى، فقراءة
يطهَّرن - بالتشديد - فبينة لمعنى قراءة التخفيف.
وقراءة: (فامْضوا إلى ذِكْرِ اللهِ) الجمعة: 9، - تبيِّن أن المراد بقراءة " فاسعوا " الذهاب لا المشي السريع.
وقال أبو عبيد في " فضائل القرآن ": القصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها،(1/127)
كقراءة عائشة وحَفْصة: (والصلاةِ الوسْطى صلاة العَصْر) . البقرة: 238.
وقراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيْمانَهُمَا) . المائدة: 38.
وقراءة جابر: (فإنَّ الله مِنْ بعد إكراههن لهنَّ غفور رحيم) النور: 23.
قال: فهذه الحروفُ وما شاكلها قد صارت مفسِّرة للقرآن، وقد كان
يروى مثلُ هذا من التابعين في التفسير فيستحسن، فكيف إذا روي عن كبار
الصحابة، ثم صار في نفس القراءة! فهو الآن أكثر من التفسير، وأقوى، فأدنى ما يستتبط من هذه الحروف معرفةُ صحة التأويل.
وقد اعتنيت في كتابي " أسرار التنزيل " ببيان كل قراءة أفادت معنى زائداً
على القراءة المشهورة.
الرابع: اختلف في العمل بالقراءة الشاذة، فنقل إمام الحرمين في البرهان عن
ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يجوز، وتبعه أبو نصر القشيرى، وجزم به ابن
الحاجب، لأنه نقله على أنه قرآن ولم يثبت.
وذكر القاضيان: أبو الطيب والحسين، والرّويَاني، والرافعي - العمل بها تنزيلأ لها منزلةَ خبر الآحاد.
وصححه ابن السبكي في جمع الجوامع وشرح المختصر.
وقد احتج الأصحاب على قطع يمين السارق بقراءة ابن مسعود، وعليه أبو
حنيفة أيضاً، واحتج على وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين بقراءته:
" متتابعات "، ولم يحتجّ بها أصحابنا لثبوت نسخها كما تقدم.
*******
الوجه الحادي عشر من وجوه إعجازة (تقديم بعض ألفاظه وتأخيرها في مواضع)
إما لكون السياق في كل موضع يقتضي ما وقع، كما تقدمت الإشارة إليه.
وإما لقصد البداءة والختم به للاعتناء بشأنه.
كما في قوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) .
وإما لقصد التفنن في الفصاحة وإخراج الكلام على عدة أساليب، كما في
قوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) . البقرة: 58.(1/128)
وقوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) . الأعراف: 161.
وقوله: (إنَّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدًى ونُور) . المائدة: 44.
وقال في الأنعام: (قل مَنْ أنزل الكتابَ الذي جاءَ بهِ موسى نُوراً وهُدًى للناس) الأنعام: 91.
وهو قسمان:
الأول: ما أشكل معناه بحسب الظاهر، فلما عرف أنه من باب التأخير
والتقديم اتّضح، وهو جدير أن يُفرد بالتصنيف.
وقد تعرّض السلف لذلك في آيات، فأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله:
(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
- قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا
أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) .
- قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما.
وأخرج عن قتادة في قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) .
قال: هذا من المقدم والمؤخر، أي رافعك إليّ ومتوفّيك.
وأخرج عن عكرمة في قوله: (لهم عذابٌ شديد بما نَسوا يَوْمَ الحساب) .
قال: هذا من التقديم والتأخير، يقول: لهم يوم القيامة عذاب شديد بما نسوا.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) .
قال: هذه الآية مقدمة ومؤخرة، إنما هي أذاعوا به إلا قليلاً منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير.
وأخرج عن ابن عباس في قوله: (فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)(1/129)
قال: إنهم إذا رأوا الله نفسه رأوه، إنما قالوا جهرة أرنا الله.
قال: هو مقدم ومؤخر.
قال ابن جرير: يعني أن سؤالهم كان جهرة.
ومن ذلك: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) .
قال البغوي: هذا أول القصة وإن كان مؤخراً في التلاوة.
وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذَبْح البقرة، وإنما أخّر في
الكلام لأنه لما قال تعالى: (إن الله يأمركم) ... الآية عَلِم المخاطبون أن البقرة لا تُذبح إلا للدلالة على قاتل خَفِيَتْ عَيْنُه عنهم، فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) فسألتم موسى فقال: إن اللهَ يأمركم أن تَذْبَحُوا بقرةً.
ومنه: (أفرأيْتَ من اتَخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ) الجاثية: 23.
والأصل هواه إلهَه، لأن من اتخذ إلهَهُ هواه غير مذموم، فقدم المفعول الثاني للعناية به.
وقوله: (أخرج المرْعَى فجعله غُثَاءً أحْوَى) ، على تفسير الأحوى بالأخضر، وجعله نعتاً للمرعى، أي أخرجه أحوى فجعله غُثاء.
وأخَره رعاية للفاصلة.
وقوله: (وَغَرَابِيبُ سُودٌ) .
والأصل سود غرابيب، لأن الغربيب الشديد السّوَاد.
وقوله: (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاها) .
أي بشرناها فضحكت.
وقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) .
قيل: المعنى على التقديم والتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها.
وعلى هذا فالهمّ منفيّ عنه.
الثاني: ما ليس كذلك.
وقد ألف فيه العلامة شمس الدين بن الصائغ كتابه
" المقدمة في سر الألفاظ المقدمة "، قال فيه: الحكمة الشائعة الذائعة في ذلك
الاهتمام، كما قال سيبويه في كتابه، كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم، وهُمْ ببيانه أعنى.(1/130)
قال: هذه الحكمة إجمالية.
وأما أسباب التقديم وأسراره فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع:
الأول: التبرك، كتقديم اسم الله في الأمور ذوات الشأن.
ومنه قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) .
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) .
الثاني: التعظيم، كقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) .
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) .
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) .
الثالث: التشريف، كتقديم الذَّكَرِ على الأنثى في نحو: (إنَّ المسلمين
والمسلمات) .
والحر في قوله: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) .
والحي في قوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) .
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) .
والخيل في قوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) .
والسمع في قوله: (وعلى سمعهم وعلى أبصارهم) .
(إنَّ السَمْعَ والبَصَر والفُؤاد) .
وقوله: (إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ) .
حكى ابن عطية - عن النقَّاش أنه استدل بها على تفضيل السمع على البصر، ولذا وقع في سمعه تعالى: (سميع بصير) ، بتقديم السمع.
ومن ذلك تقديمه - صلى الله عليه وسلم - على نوح ومن معه في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) .
وتقديم الرسول في قوله: (مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) الحج: 52.
وتقديم المهاجرين في قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) .
وتقديم الإنس على الجن حيث ذُكرا في القرآن.
وتقديم النبيين على الصديقين، والشهداء على الصالحين في آية النساء.(1/131)
وتقديم إسماعيل على إسحاق، لأنه أشرف بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولده وأسنّ.
وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام، وقدم هارون عليه في
سورة طه رعاية للفاصلة، وتقديم جبريل على ميكائيل في آية البقرة، لأنه أفضل.
وتقديم العاقل على غيره في قوله: (يُسَبِّح له مَنْ في السّماواتِ والأرضِ والطيْرُ صَافّاتٍ) .
وقوله: (متاعاً لكم ولأنعامكم) .
وأما تقديم الأنعام في قوله: (تأكلُ منه أنعامُهم وأنفسُهم)
، فلأنه تقدم ذكر الزرع، فناسب تقديم الأنعام، بخلاف آية عبس فإنه
تقدم فيها: فلينظر الإنسان إلى طعامه، فناسب تقديم لكم.
وتقديم المؤمنين على الكفار في كل موضع.
وأصحاب اليمين على أصحاب الشمال.
والسماء على الأرض، والشمس على القمر حيث وقع إلا في قوله: (خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) .
فقيل: لمراعاة الفاصلة، وقيل: لأن انتفاع أهل السماوات العائد عليهن الضمير به أكثر.
وقال ابن الأنباري: يقال إن القمر وجهه يضيء لأهل السماوات وظهره
لأهل الأرض، ولهذا قال تعالى: فيهن، لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله: (عالِم الغَيْبِ والشهَادةِ)
، لأن علمه أشرف.
وأما قوله: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) . فأخر فيه رعاية للفاصلة.
الرابع: المناسبة، وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام، كقوله: (ولكُم
فيهَا جَمَال حِينَ تُرِيحُونَ وحين تسرحون) ، فإن الجَمَال بالجِمال
وإن كان ثابتاً حالتي السراح والإراحة إلا أنها حالة إراحتها، وهو مجيئها من
المرعى آخر النهار، يكون الجمال بها أفخر، إذ هي فيه بطان، وحالة سراحها للرعي أول النهار يكون الجمال بها دون الأول، إذ هي فيه خماص.(1/132)
ونظيره قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) .
قدم نفي السرف، لأن السرف في الإنفاق.
وقوله: (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، لأن الصواعق تقع مع أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات.
وقوله: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) .
قدمها على الابن لما كان السياق في ذكرها في قوله: (والتي أحصنَتْ فَرْجَها) .
ولذلك قدم الابن في قوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) .
وحسّنه تقديم موسى في الآية قبله.
ومنه قوله: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) .
قدم الحكم - وإن كان العلم سابقاً عليه، لأن السياق فيه، لقوله في أول الآية: (إذ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ) .
وأما مناسبة لفظ هو من التقدم أو التأخر، كقوله: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) .
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) .
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) .
(بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) . ا
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) .
(له الحَمْدُ في الأولى والآخرة) .
وأما قوله: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) - فلمراعاة الفاصلة.
وكذا قوله: (جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) .
الخامس: الحث عليه والحضّ على القيام به حذراً من التهاون به، كتقديم
الوصية على الدَّين في قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) .
مع أن الدين مقدم عليها شرعاً.
السادس: السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد، كتقديم الليل على
النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوح، ونوح على إبراهيم،(1/133)
وإبراهيم كل موسى، وهو على عيسى، وداود على سليمان، والملائكة على البشر في قوله: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) .
وعاد على ثمود.
والأزواج على الذرية في قوله: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ) .
والسنة على النوم في قوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) .
أو باعتبار الإنزال، كقوله: (صُحُفِ إبراهيم وموسى) .
(وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) .
أو باعتبار الوجوب والتكليف، نحو: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) .
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) .
(إنّ الصّفَا والمرْوَةَ مِن شعائر الله) .
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: نبدأ بما بدأ الله به.
أو بالذات، نحو: (مَثْنَى وثُلاث ورْباع) .
(مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) .
وكذا جميع الأعداد، كلّ مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.
وأما قوله: (أنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وفُرَادى) - فللحثّ على الجماعة والاجتماع على الخير.
السابع: السببية، كتقديم العزيز على الحكيم، لأنه عزَّ فحكم.
والعليم عليه، لأن الإحكام والإتقان ناشيء عن العلم.
وأما تقديم الحكيم عليه في سورة الأنعام، فلأنه مقام تشريع الأحكام.
ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة، لأنها سبب حصول
الإعانة.
وكذا قوله: (يحب التوَّابين ويُحِبُّ المتَطَهِّرِين) ، لأن التوبة سبب للطهارة.
(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) ، لأن الإفْكَ سبب الإثم.
(يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ، - لأن البصر داعية إلى الفرج.(1/134)
الثامن - الكثرة، كقوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، لأن الكفار أكثر.
(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) . - قدم الظالم لكثرته
ثم المقتصد، ثم السابق.
قيل: ولهذا قدم السارق على السارقة، لأن السرقة في الذكور أكثر.
والزانية على الزاني. لأن الزفنى فيهن أكثر.
ومنه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن غالبا، ولهذا ورد: إن
رحمتي غلبت غضي.
وقوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) .
قال ابن الحاجب في أماليه: إنما قدم الأزواج، لأن المقصود الإخبار أن فيهم
أعداء، ووقوع ذلك في الأزواج أكثر منه في الأولاد، وكان أقعد في المعنى
المراد فقدّم، ولذلك قدمت الأموال في قوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) .
لأن الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) .
وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها، فكان تقديمها أولى.
التاسع - الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ) .
بدأ بالأدنى لغرض الترقي، لأن اليد أشرفُ من الرجل، والعين أشرف من اليد، والسمع أشرف من البصر.
ومن هذا النوع تأخير الأبلغ، وقد خُرِّج عليه تقديم الرحمن على الرحيم.
والرؤوف على الرحيم، والرسول على النبي في قوله: (وكان رسولاً نبيّاً) .
وذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة.
العاشر - التدلّي من الأعلى إلى الأدنى.
وخُزج عليه: (لا يُغَادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً) . الكهف: 49.
(لا تَأخذُه سِنَةٌ ولا نومٌ) .
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ) .
هذا ما ذكره ابن الصائغ، وزاد غيره أسبابا أخر، منها كونه أدل على القدرة(1/135)
وأعجب، كقوله: (فمنهم مَنْ يَمْشي على بَطْنِه) .
وقوله: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) .
قال الزمخشوي: قدم الجبال على الطير، لأن تسخيرها له وتسبيحها له
أعجب، وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد، والطير حيوان
ناطق.
ومنها رعاية الفواصل كما تقدمت الأمثلة لذلك.
*******
الوجه الثاني عشر من وجوه إعجازه (إفادة حصره واختصاصه)
وهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص.
ويقال أيضاً إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
وينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وكلّ منهما إما حقيقي وإما مجازي، مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقياً نحو ما زَيْد إلا كاتب، أي لا صفة له غيرها، وهو عزيز لا يكاد يوجد، لتعذر الإحاطة بصفات الشيء حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية، وعلى عدم تعذرها يبعد أن يكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها، ولذا لم يقع في التنزيل.
ومثاله مجازيّاً: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) ، أي مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي استعظموه، إنه شأن الإله.
ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقياً: لا إله إلا الله.
ومثاله مجازياً: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) .
كما قال الشافعي فما تقدم نقله من أسباب النزول: إن الكفار لما كانوا يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهِلّ لغير الله به، وكانوا يحرمون كثيرا من المباحات، وكانت سجيَّتهم تخالف وضع(1/136)
الشرع، ونزلت الآية مستوفية بذكر شبههم في البَحيرة والسائبة والوَصيلة
والحامي، وكان الغرض الرد عليهم والمضادة لا الحصر الحقيقي.
وقد تقدم بأبسط مِنْ هذا.
وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: قصر إفراد، وقصر قلب.
وقصر تعيين:
فالأول: يخاطَب به من يعتقد الشركة، نحو، (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) .
وخوطب به من يعتْقد اشتراك الله والأصنام في الألوهية.
والثاني: يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له، نحو:
(رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) البقرة: 258.
خوطب به نُمْرود الذي اعتقد أنه المحي المميت دونَ الله.
(ألا إنهم هم السفهاء) . البقرة: 13.
خوطب به من اعتقد من المنافقين أن المؤمنين سفهاء دونهم.
(وأرسلْنَاكَ للناسِ رَسولاً) .
خوطب به من يعتقد من اليهود اختصاص بعثته بالعرب.
والثالث: يخاطب به من تساوى عنده الأمران، فلم يحكم بإثبات الصفة
لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها.
وطرق الحصر كثيرة، أحدها النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أو ما أو
غيرهما.
والاستثناء بإلا أو غير، نحو: لا إله إلا الله.
وما من إله إلا الله.
(ما قلت لهم إلا ما أمَرْتنِي به) .
ووجه إفادة الحصر أن الاستثناء المفرّغ لا بد أن يتوجه النفي فيه إلى مقدّر
وهو مستثنى منه، لأن الاستثناء إخراج فيحتاج إلى مُخْرج منه.
والمراد التقدير المعنوي لا الصناعي.
ولا بد أن يكون عاماً، لأن الإخراج لا يكون إلا من عام.
ولا بد أن يكون مناسباً للمستثنى منه في جنسه مثل ما قام إلا زيد، أي لا أحد.
وما أكلت إلا تمراً، أي مأكولاً، ولا بد أنْ يوافقه في صفته، أي إعرابه، وحينئذ يجب القصر إذا أوجب منه شيء بإلا ضرورة بإبقاء ما عداه على صفة الانتفاء.(1/137)
وأصل استعمال هذا الطريق أن يكون المخاطب جاهلاً بالحكم.
وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة الجهول لاعتبار مناسب، نحو: (وما محمدٌ إلا رسول) ، فإنه خطاب للصحابة، وهم لم يكونوا يجهلون
رسالةَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه نَزّل استعظامهم له عن الموت منزلةَ من يجهل رسالته، لأن كل رسول فلا بد من موته، فمن استبعد موته فكأنه استبعد رسالته.
الثاني: (إنما) الجمهور على أنها للحصر، فقيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم.
وأنكر قوم إفادتها، منهم أبو حيان، واستدل مثبتوه بأمور:
منها: قوله تعالى: (إنما حَرَّمَ عليكم الميتةَ) ، بالنصب، فإن معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة، لأنه المطابق في المعنى لقراءة الرفع فإنها للقصر، فكذا قراءة النصب.
والأصل استواء معنى القراءتين.
ومنها أن إن للإثبات وما للنفي، فلا بد أن يحصل القصر للجمع بين النفي
والإثبات، لكن تعقّب بأن " ما " زائدة كافة لا نافية.
ومنها أن (إن) للتأكيد و (ما) كذلك، فاجتمع تأكيدان، فأفاد الحصر، قاله السكاكي.
وتعقب بأنه لو كان اجتماع تأكيدين يفيد الحصر لأفاده نحو إن زيد القائم.
وأجيب بأن مراده لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر.
ومنها قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) .
(قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ) .
(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) .
فإنه إنما تحصل مطابقة الجواب إذا كانت (إنما) للحصر ليكون
معناها لا آتيكم به، إنما يأتيكم به الله إنْ شاء.
ولا أعلمها إنما يعلمها الله.
وكذا قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) .
(مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ... إلى قوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) .
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ)(1/138)
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) .
لا يستقيم المعنى في هذه الآيات ونحوها إلا بالحصر.
وأحسن ما يستعمل (إنما) في مواقع التعريض، نحو: (إنما يَتَذكر أولو الألباب) .
الثالث،: (أنما) بالفتح: عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي.
فقالا في قوله: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) .
- أنما لقَصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، نحو: إنما زيد قائم.
وإنما يقوم زَيْد، وقد اجتمع الأمران في هذه الآية، لأن إنما يوحى إليّ مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم بمنزلة إنما زيد قائم.
وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقصور على استئثار اللَه بالوحدانية.
وصرح التَّنوحي في الأقصى القريب بكونها للحصر، فقال: كل ما أوجب
إنما - بالكسر للحصر أوجب أنما - بالفتح للحصر، لأنها فرع عنها، وما ثبت للأصل ثبت للفرع ما لم يثبت مانع منه، والأصل عدمه.
ورد أبو حيان على الزمخشري ما زعمه بأنه يلزمه انحصار الوحي في
الوحدانية، وأجيب بأنه حصر مجازي باعتبار المقام.
الرابع: العطف بلا أو بل، ذكره أهل البيان، ولم يحكوا فيه خلافا، ونازع
فيه الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح، فقال: أي قصر في العطف بلا، إنما فيه نفي وإثبات، فقولك: زيد شاعر لا كاتب لا تعرُّض فيه لنفي صفة ثالثة، والقصر انما يكون بنفي جميع الصفات غير المثبتة حقيقة أو مجازا، وليس هو خاصا بنفي الصفة التي يعتقدها المخاطب.
وأما العطف ببل فأبعد منه، لأنه لا يستمر فيها النفي والإثبات.(1/139)
الخامس: تقديم المعمول نحو: (إيّاكَ نَعْبد) .
(لَإلَى اللهِ تحْشَرون) .
وخالف فيه قوم، وسيأتي بسط الكلام فيه قريباً.
السادس: ضمير الفصل، نحو: (فالله هوَ الوَليّ) ، لا رب غيره.
(وأولئك هم الْمُفْلِحُون) .
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) .
(إن شانِئَك هو الأبْتَر) .
وممن ذكر أنه للحصر البيانيون في بحث المسند إليه، واستدل له السّهَيْلي بأنه
أتي به في كل موضع ادّعي فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله، ولم يُؤْتَ به حيث لم يدّع، وذلك في قوله: (وأنه هو أضْحَكَ وأبكى) .
إلى آخر الآيات، فلم يؤت به في: (وأنه خلق الزّوْجَين) ، (وأنّ عليه النشأةَ الأخرى) .
(وأنه أهلك عادًا الأولى) ، لأن ذلك لم يدّع لغير الله، وأتي به في الباقي لادِّعائه لغيره.
قال في عروس الأفراح: وقد استنبطت دلالته على الحصر في قوله: (فلما
توفَيْتَنِي كنْتَ أنتَ الرقيبَ عليهم) ، لأنه لو لم تكن للحصر
لما حَسنَ، لأن الله لم يزل رقيباً عليهم، وإنما حصر بتوفيته أنه لم يبق لهم رقيب غير الله.
ومن قوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) .
فإنه ذكر لتبيين عدم الاستواء، وذلك لا يحسن إلا بأن يكون الضمير للاختصاص.
السابع: تقديم المسنَد إليه على ما قال الشيخ عبد القاهر: قد يُقدم المسنَد إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي.
والحاصل - على رأيه - أن لها أحوالاً.
أحدها: أن يكون المسند إليه معرفة والمسند مثبتاً، فيأتي التخصيص، نحو:
أنا قُمْتُ، وأنا سعَيْتُ في حاجتك، فإن قصِد به قصر الإفراد أكد بنحو:
وحدي، أو قصر القلب أكد بنحو: لا غيري.
ومنه في القرآن: (بل أنْتُمْ بِهَدِيّتِكم تفْرَحُون) .
فإن ما قبله من قوله: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ)(1/140)
ولفظ (بل) مشْعر بالإضراب - يقتضي بأن المراد بل أَنتم لا غيركم، فإن المقصود نفي فرحه هو بالهدية لا إثبات الفرح لهم بهديتهم.
قاله في عروس الأفراح.
قال: وكذا قوله: (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، أي لا يعلمهم إلا نحن.
وقد يأتي للتقوية والتأكيد دون التخصيص، قال الشيخ بهاء الدين: ولا يتميز ذلك إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام.
ثانيها: أن يكون المسند منفياً، نحو: أنت لا تكذب، فإنه أبلغ في نفي
الكذب من " لا تكذب " ومن لا تكذب أنت ".
وقد يفيد التخصيص، ومنه: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ) .
ثالثها: أن يكون المسند إليه نكرة مثبتاً، نحو: رجل جاءني، فيفيد
التخصيص إما بالجنس، أى لا امرأة، أو الوحدة، أي لا رجلان.
رابعها: أن يليَ المسند إليه حرف النفي فيفيده، نحو: ما أنا قلت هذا، أي
لم أقله مع أن غيري قاله.
ومنه: (وما أنْتَ علينا بعَزِيز) .
أي العزيز علينا رهْطُك لا أنت، ولذا قال: (أرَهْطِي أعزُّ عليكم من الله) .
هذا حاصل رأي الشيخ عبد القاهر، ووافقه السكاكي، وزاد شروطاً
وتفاصيل بسطناها في شرح ألفية المعاني.
الثامن: تقديم المسند، ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر
على المبتدأ يفيد الاختصاص.
ورد صاحب الفلك الدائر بأنه لم يقل به أحد، وهو ممنوع، فقد صرح السكاكي وغيره بأن تقديم ما رُتْبته التأخير يفيده، ومثّلُوه بنحو: تميمي أنا.
التاسع: ذكر المسند إليه، ذكر السكاكي أنه قد يُذكر ليفيد التخصيص.
وتعقّبه صاحب الإيضاح، وصرح الزمخشري بأنه أفاد الاختصاص في قوله:(1/141)
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) .
وفي قوله: (اللهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحديث) .
وفي قوله: (واللهُ يَقُولُ الحقَّ وهو يهْدِي السبيلَ) .
ويحتمل أنه أراد أن تقديمه أفاده، فيكون من أمثلة الطريق السابع.
العاشر: تعريف الجزأين، ذكر الإمام فخر الدين في " نهاية الإيجاز " أنه يفيد
الحصر حقيقة أو مبالغة، نحو: المنطلق زيد، ومنه في القرآن فما ذكر الزملَكاني في أسرار التنزيل: الحمد لله، قال: إنه يفيد الحصر، كما في إياك نعبد، أي الحمد لله لا لغيره.
الحادي عشر: نحو: جاء زيد نفسه، نقل بعض شراح التلخيص عن بعضهم
أنه يفيد الحصر.
الثاني عشر: نحو: إن زيد القائم، نقله المذكور أيضاً.
الثالث عشر: نحو: قائم - في جواب زيد إما قائم أو قاعد، ذكره الطيبي في
شرح التبيان.
الرابع عشر: قلب بعض حروف الكلمة، فإنه يفيد الحصر على ما نقله في
الكشاف في قوله: (والَّذين اجتَنَبُوا الطاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها) .
قال: القلب للاختصاص بالنسبة إلى الطاغوت، لأن وزنَه على فعلوت، من
الطغيان، كملكوت ورحموت، قُلِب بتقديم اللام على العين، فوزنه فَلَعُوت، ففيه مبالغات: التسمية بالمصدر، والبناء بناء مبالغة، والقلب، وهو للاختصاص، إذ لا يطلق على غير الشيطان.
تنبيه:
كاد أهلُ البيان يطْبِقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر، سواء كان
مفعولاً أو ظرفاً أو مجروراً، ولهذا قيل في: (إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاك نستعين) معناه
نخصك بالعبادة والاستعانة.
وفي: (لَإلَى اللهِ تُحْشَرون) .
معناه إليه لا لغيره.(1/142)
وفي: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) .
أخرت الصلة في الشهادة الأولى، وقدمت في الثانية، لأن الغرض في
الأولى إثبات شهادتهم، وفي الثانية إثبات اختصاصهم بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم.
وخالف في ذلك ابنُ الحاجب، فقال في شرح المفصّل: الاختصاص الذي
يتوهّمه كثير من الناس من تقديم المعمول وَهْم، واستدل على ذلك بقوله:
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) .
(بل الله فاعْبد) . الزمر: 66.
ورد هذا الاستدلال بأن (مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) أغنى عن إعادة الحصر، كما قال
الله تعالى: (واعْبدوا رَبَّكم) .
وقال: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)
بل قوله: (بل اللهَ فاعْبُدْ) - أقوى من أدلة الاختصاص.
فإن قبلها: (لئن أشركتَ ليَحْبَطَن عَملك) ، فلو لم يكن للاختصاص وكان معناها أعبد الله لما حصل الإضراب الذي هو معنى بل.
واعترض أبو حيان على مدعي الاختصاص بنحو: (أفَغيرَ اللهِ تأمرونّي
أعْبُد) .
وأجيب بأنه لما كان مَنْ أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله كان أمْرُهم
بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة.
ورد صاحب الفلك الدائر الاختصاص بقوله: (كُلاًّ هَدْينَا ونُوحاً هدَينَا
مِنْ قَبْلُ) .
وهو من أقوى ما ردّ به.
وأجيب بأنه لا يدعى فيه اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشيء عن الغالب.
قال الشيخ بهاء الدين: وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة، وهي
(أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) ، فإن التقديم في الأولى قطعا ليس للاختصاص.
وفي إياه قطعاً للاختصاص.
وقال والده الشيخ تقي الدين في كتاب الاقتصاص بين الحصر والاختصاص:
اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ومن الناس من ينكر(1/143)
ذلك ويقول: إنما يفيد الاهتمام.
وقد قال سيبويه في كتابه: وهم يقدّمون ما هم به أعْنى.
والبيانيون على إفادة الاختصاص.
ويَفْهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر، وليس كذلك، وإنما
الاختصاص شيء آخر، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظةَ الحصر، وإنما عبّروا بالاختصاص.
والفرق بينهما أن الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور.
والاختصاص قصد الخاص من جهة خصوصه، وبيانُ ذلك أن الاختصاص
افتعال من الخصوص: والخصوص مركب من شيئين: أحدها عام مشترك بين
شئين أو أشياء.
والثاني معنى مُنْضَمٌّ إليه يفصله عن غيره، كضرب زيد، فإنه
أخص من مطلق الضرب.
فإذا قلتَ ضربت زيداً أخبرت بضرب عام وقع منك
على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصّاً لما انضم إليه منك ومن زيد، وهذه المعاني الثلاثة، أعني مطلق الضرب، وكونه واقعاً منك، وكونه واقعاً على زيد، قد يكون قصدَ المتكلمُ لها ثلاثتها على السواء.
وقد يرجّح قصده لبعضها على بعض، ويُعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه، فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به، وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم، فإذا قلت زيداً ضربت عُلِمَ أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود.
ولا شك أن كل مركب من خاص وعام له جهتان، فقد يقصَد من جهة
عمومه، وقد يقصَد من جهة خصوصه.
والثاني هو الاختصاص، وأنه هو الأهم عند المتكلم، وهو الذي قصد إفادته السامع من غير تعرض ولا قصد لغيره لإثباب ولا نَفْي، ففي الحصر معنى زائد عليه، وهو نفي ما عدا المذكور، وإنما جاء هذا في: (إيّاكَ نَعْبُد) ، للعلم بأن قائليه لا يعبدون غير الله، ولذا لم يطرد في بقية الآيات.
فإن قوله: (أفَغَيْرَ دين الله يَبْغُون) آل عمران: 83.
لو جُعل في معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه - لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، وليس المراد.
وكذلك: (آلهةً دونَ اللهِ تُرِيدون) الصافات: 86، المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر.(1/144)
وقد قال الزمخشري في: (وبالآخِرَة هم يوقنون) البقرة: 4.
في تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هُمْ تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه مَنْ آمَن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.
وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن.
وقد اعترض عليه بعضهم، فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على
أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها.
وهذا الاعتراض من قائله مبنيّ على ما فهمه من أن
تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك.
ثم قال المعترض: وتقديم هم أفاد أن هذا القصر يختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيماناً بغيرها حيث قالوا:
(لَنْ تَمَسَّنَا النارُ إلا أياماً معدودة) . البقرة:.8.
وهذا منه أيضاً استمرار على ما في ذهنه من الحصر، أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها.
وهذا فهم عجيب ألجأه إليه فهمه الحصر، وهذا ممنوع.
وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام:
أحدها: بما وإلا، كقوله: ما قام إلا زيد - صريح في نفي القيام من غير
زيد، ومقتضى إثبات القيام لزيد، قيل بالمنطوق، وقيل بالمفهوم، وهو الصحيح لكنه أقوى المفاهيم، لأن " إلا " موضوعة للاستثناء وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو عَيْن القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك، فقال: إنه بالمنطوق.
والثاني: الحصر بإنما، وهو قريب من الأول فما نحن فيه، وإن كان جانبُ(1/145)
الإثبات فيه أظهر، فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت: إنما قام زيد بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم.
الثالث: الحصر الذي قد يفيده التقديم، وليس على تقدير تسليمه مثل الحصر في الأوّلين، بل هو في قوة جملتين: إحداهما ما صُدّر به الحكم نفياً كان أو إثباتاً، وهو المنطوق.
والأخرى ما فُهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق
دون ما دل عليه من المفهوم، لأن المفهوم لا مفهوم له.
فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك - أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه، وقد قال تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) . - أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه بعده: (والزانية لا يَنْكحُهَا إلاّ زَان أو مُشْرِك) ، بياناً لما سكت عنه في الأولى، فلو قال: " بالآخرة يوقِنون " أفاد بمنطوقه إيقانهم بها، ومفهومه عند مَنْ يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصوداً بالذات.
والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حَصْر مجازي، وهو دون قولنا: يُوقِنُون بالآخرة دون غيرها، فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره لا يوقنون إلا بالآخرة.
إذا عرفت هذا فتقديم "هُمْ" أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا
التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم المعترض، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة.
ولا شك أن هذا ليس بمراد، بل المراد إفهام أن غيرهم لا
يُوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهومُ عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر، لأن الحصر لم يدل عليه بجملة واحدة، مثل ما وإلا، ومثل إنما، وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد نفي الإيقان مطلقاً عن غيرهم، وهذا كله على تقدير تسليم الحصر، ونحن نمنع ذلك، ونقول: إنه اختصاص، وإن بينهما فرقاً.
*******(1/146)
الوجه الثالث عشر من وجوه إعجازه (احتواؤه على جميع لغات العرب وبلغة غيرهم من الفرس والروم والحبشة وغيرهم)
وقد رأيت فيه تأليفاً مفرداً.
وقد أفردث في هذا النوع كتاباً سميته
" المهذب فما وقع في القرآن من العرّب ".
وألخص هنا ما وقع تَتِمة للفائدة، ومن الله أرجو حسن العائدة، بعد أن أذكر اختلاف العلماء في وقوع المعرّب في القرآن.
فالأكثرون، ومنهم الإمام الشافعي، وابن جرير، وأبو عبيدة، والقاضي أبو
بكر، وابن فارس، على عدم وقوعه فيه، لقوله تعالى: (قرآناً عَرَبيّاً) .
وقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) .
وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك.
وقال أبو عبيدة: إنما أنْزِل القرآن بلسان عربي مبِين، فَمَنْ زعم أن فيه غير
العربية فقد أعظم القول.
ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول.
وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهّم متوهم أن
العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.
وقال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن
إنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد.
وقال غيره: بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة
لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلقت العرب من لغاتهم ألفاظاً غيرت بعضها
بالنقص من حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى
العربي الفصيح، ووقع بها البيان.
وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
وقال آخرون: كل هذه الألفاظ عربية صرف، ولكن لغة العرب متسعة(1/147)
جدا، ولا يبعد أن تخفى على أكابر إلجلّة.
وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح.
قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي.
وقال أبو المعالي عزَيْري بن عبد الملك: إنما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب، لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظاً.
ويجوز أن يكونوا سُبِقوا إلى هذه الألفاظ.
وذهب آخرون إلى وقوعه فيه.
وأجابوا عن قوله: (قُرآناً عَرَبيّاً)
بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربياً.
فالقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية.
وعن قوله: (أأعجميّ وعربي) - بأن المعنى من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منعَ صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة.
وردّ هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل خلاف، فالكلام في غيرها.
فَوِّجّه بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس.
وأقوى ما رأيته للوقوع - وهو اختياري - ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي مَيْسرة التابعي الجليل، قال: في القرآن من كل لسان.
وروي مثله عن سعيد بن جُبير، ووَهْب بن مُنَبه، فهذه إشارة إلى أن حكمة
وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن، لتتم إحاطته بكل شيء، فاختير من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب.
وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِ) ، فلا بد أن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قَوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو.
وقد رأيت الحوفي وابن النقيب ذكره، وذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة
أخرى، فقال: إن قيل إن " إستبرق " ليس بعربي، وغير العربي من الألفاظ
دون العربي في الفصاحة والبلاغة، فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن(1/148)
يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك.
وذلك لأن الله تعالى إذا حثّ عباده علي الطاعة فإن لم يرغّبهم بالوعد الجميل
ويخوّفهم بالعذاب الوبيل - لا يكون حثّه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظراً إلى الفصاحة واجب.
ثم إن الوعد بما يرغب فيه العقلاء، وذلك منحصر في أمور الأماكن الطيبة، ثم المآكل الشهية، ثم المشارب الهنيّة، ثم الملابس الرفيعة، ثم
المناكح اللذيذة، ثم ما بعده مما تختلف فيه الطباع.
فإذاً ذكْر الأماكن الطيبة والوعد به لازم عند الفصيح، ولو تركه لقال مَنْ أمر بالعبادة ووُعد عليها بالأكل والشرب: إن الأكل والشرب لا التذاذ به، إذا كنت في حبس أو موضع كريه، فلذا ذكر الله الجنة ومساكن طيبة فيها، وكان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير وأما الذهب فليس مما يُنْسج منه ثوب.
ثم إن الثوب الذي من غير الحرير لا يعتبر فيه الوزن والثقل.
وربما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن.
وأما الحرير فكلما كان ثوبه أثقل كان أرفع، فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثمن، ولا يتركه في الوعد لئلا يقصر في الحثّ والدعاء.
ثم إن هذا الواجب الذكر إما أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح أو
لا يذكر بمثل هذا.
ولا شك أن الذكر باللفظ الواحد الصريح أولى، لأنه أوجز
وأظهر في الإفادة، وكذلك " إستبرق ".
فإن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ، ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه، لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، ولا يجد العربي لفظا واحداً يدل عليه، لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفرس، ولم يكن لهم بها عَهْدٌ، ولا وُضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عَرَّبوا ما سمعوا من العجم، واستغنوا به عن الوضع، لقلة وجوده عندهم، ونَزرة لفظهم به.
وأما إن ذكره بلفظين فأكثر فإنه يكون قد أخلّ بالبلاغة، لأن ذكر لفظين
لمعنًى يمكن ذكره بلفظٍ تطويل، فعلم بهذا أن لفظ " إستبرق " يجب على كل(1/149)
فصيح أن يتكلم به في موضعه، ولا يجد ما يقوم مقامه.
وأي فصاحة أبلغ من ألا يوجد غيره مثله، انتهى.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام - بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء
والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي مذهبٌ فيه تصديق القولين جميعاً.
وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فَعَرّبَتْها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: عجمية فصادق.
ومال إلى هذا القول الجواليقي، وابن الجوزي، وآخرون.
وهذه الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة الحجاز.
وأما ما وقع فيه بغير لغة العرب فنذكر تفسير الغريب على حروف المعجم.
أخرج أبو عبيد من طريق عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (وأنْتمْ
سامِدون) النجم: 161، قال الغناء.
وهي لغة يمانية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: هي بالحميرية.
وأخرج أبو عبيد عن الحسن، قال: كُنَّا لا ندري ما الأرائك حتى لَقِيَنَا رجلٌ
من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم هي الحجَلة فيها السرير.
وأخرج عن الضحاك في قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قال: ستوره بلغة أهل اليمن.
وأخرج عن عكرمة في قوله: (وزوَّجْنَاهم بحورٍ عِين) .
قال: هي لغة يمانية، وذلك أن أهل اليمن يقولون: زوجنا فلاناً بفلانة.
قال الراغب في مفرداته: ولم يجيء في القرآن زوجناهم حوراً كما يقال زوجته امرأة، تنبيهاً على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فما بيننا بالمناكحة.
وأخرج عن الحسن في قوله: (لو أردنا أنْ نتَّخِذَ لَهْواً) .
قال: اللهو بلسان اليمن المرأة.(1/150)
وأخرج عن محمد بن علي في قوله: (ونادَى نوح ابْنَه) .
قال: هي بلغة طي ابن امرأته.
قلت: وقد قرئ: ونادى نوح ابنها (1) .
وأخرج عن الضحاك في قوله: (أعصرُ خَمْراً) . ي
قال: عنباً بلغة أهل عمان، يسمون العنب الخمر.
وأخرج عن ابن عباس في قوله: (أتَدْعُونَ بعْلاً) .
قال: ربّاً بلغة أهل اليمن.
وأخرج عن قتادة قال: بعلاً ربّاً - بلغة أزد شنوءة.
وأخرج أبو بكر ابن الأنباري في كتاب الوقف عن ابن عباس قال لي: الوزَر
وَلَدُ الوَلد بلغة هذيل.
وأخرج فيه عن الكل قال: المرجان صغار اللؤلؤ بلغة اليمن.
وأخرج في كتاب الردّ على مَنْ خالف مصحف عثمان، عن مجاهد، قال الصواع الطَرْجِهَالَة بلغة حمير.
وأخرج فيه عن أبي صالح في قوله: (أفلم ييْأسَ الذين آمنوا) .
قال: أفلم يعلم بلغة هوازن.
وقال الفراء: قال الكلبي بلغة النخع.
وفي مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس: يغتِنكم: يُضِلّكم بلغة هوازن.
وفيها: بوراً: هَلْكى بلغة عمان.
وفيها: فنَقَّبُوا: هربوا بلغة اليمن.
وفيها: لا يلِتْكلم: لا ينقصكم بلغة بني عبس.
وفيها: مرَاغماً: منفسحاً، بلغة هذيل.
وأخرج سعيد بن منصور في سُنَنه عن عمرو بن شرحبيل في قوله: "سَيْل
العرَم" قال: المسنَّاة بلحن أهل اليمن.
وأخرج في تفسيره، عن ابن عباس، في قوله: (في الكتاب مَسْطُوراً)
قال: مكتوباً، وهي لغة حميرية، يسمون الكتاب أسطوراً.
وقال أبو عبيد القاسم في الكتاب الذي ألفه في هذا النوع: في القرآن بلغة
__________
(1) لا يخفى ما فيه من البعد البعيد، وصريح القرآن يغنينا عن هذه التكلف البعيد، ولقد عصم الله زوجات الأنبياء من الوقوع في الفاحشة - تكريما وإجلالا - لمكانتهم صلوات اللله وسلامه عليهم أجمعين وما ورد في شأن امراة نوح ولوط في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) محمول على إبطان الكفر وإظهار الإيمان، والله أعلم.(1/151)
كنانة: السفهاء: الجهال. خاسئين: صاغرين. شَطر: تلقَاء.
لا خَلاَق: لا نَصِيب. وجعلكم ملوكاً: أحرارا.
قَبِيلاً: عياناً. مُعْجزين: سابقين. يَعزب: يغيب.
تركنوا: تميلوا. فجْوة: ناحية. مَوئلاً: ملجأ.
مُبْلسون: آيسون. دُحُوراً: طرداً.
الخراصون: الكذّابون. أسفاراً: كتباً.
أُقَتَتْ: جمعت. كَنُود: كَفُور للنعم.
وبلغة هُذَيل: الرّجْز: العذاب. شَرَوْا: باعوا.
عزموا الطلاق: حققوا. صَلْداً: نقياً.
آناء الليل: ساعاته. فَوْرِهم: وجوههم.
مِدْراراً: مُتَتابعاً. فُرقاناً: مخرجاً.
حرض: حض. عَيْلَة: فاقة.
وليجة: بطانة. انفروا: اغْزُوا. السائحون: الصائمون.
العَنَت: الإثم. غُمَة: شبهة. ببَدَنك: بِدِرْعك.
هامدة: مُغْبَرَّة. دلوك الشمس: زوالها.
شاكِلَته: نا يته. رجْماً: ظنا.
مُلْتَحَداً: مَلْجأ. يرجو: يخاف.
هَضْماً: نَقْصاً. المبذّر: المسرف.
واقصد في مَشْيِك: أسرع.
الأجداث: القبور. ثاقب: مضيء.
بالهم: حالهم. يهْجَعُون: ينامون.
ذَنوباً: عذاباً. دُسُر: المسامير.
تفاوت: عيب. أرجائها: نواحيها.
أطواراً: ألواناً.
بَرْداً: نوماً. واجفة: خائفة.
مَسْغَبة: مجاعة
وبلغة حمير: تَفْشَلوا: تَجْبنوا.
عُثِرَ: اطَّلع.
سفاهة: جنون.
زيَّلْنَا: مَيَّزْنَا.
مَرْجُوًّا: حقيراً.
السقاية: الإناء.
مسنون: منتن.
إمام: كتاب.
يُنْغِضُون: يحركون.
حُسْباناً: بَرَداً.
من الكبر عِتيّاً: نُحولاً.
مآرب: حاجات.
خَرْجاً: جعْلاً.
غرا ماً: بلاءً.
الصَّرْح: البيت.
أنكر الأصوات: أقبحها.
مرض: زنا.
القطر: النحاس.
محشورة: مجموعة.
معكوفاً: محبوساً.
يَتِركم: ينقصكم.
مدينين: محاسبين.
بجبّار: بمُسلّط.
رابية: شديدة.
وَبيلاً: شديداً.
وبلغة جُرْهم: فباؤوا: استوجبوا.
شقاق: ضلال.
خيراً: مالاً.
كدأب: أشباه.
تعدلوا: تميلوا.
يغنوا: يتمتعوا.
شرِّد: نكِّل.
أراذِلُنا: سفلتنا.
عصيب: شديد.
لفيفاً: جميعاً.
محسوراً: منقطعاً.
حَدَب: جانب.
الخلال: السحاب.
الودْق: المطر.
شِرْذمة: عصابة.
ريع: طريق.
يَنْسِلون: يخرجون.
الحبك: الطرائق.
سور: الحائط.(1/152)
وبلغة أزْد شنوءة: لا شية: لا وضح.
العضْل: الحبْس.
أمَّة: سنين.
الرسّ: البئر.
كاظمين: مكروبين.
غِسْلين: الحار الذى تناهى حَرّه.
لوَّاحة: حراقة.
وبلغة مدلج: رفث: جماع.
مُقيتا: مُقتدراً.
بظاهر من القول: بكذب.
الوصيد: الفناء.
حقباً: دهراً.
الخرطوم: الأنف.
وبلغة خَثْعم: تُسِيمون: ترعون.
مريج: منتشر.
صَغَتْ: مالت.
هَلُوعا: ضجوراً.
شططاً: كذبا.
وبلغة قيس عيلان: نِحْلة: فريضة.
حرج: ضيق.
لخاسرون: مضيَّعون.
تفنَدون: تستهزئون.
صياصيهم: حصونهم.
تُحْبَرون: تنعمون.
رجيم: ملعون.
يلِتْكم: ينقصكم.
وبلغة سعد العشيرة: حفدة: أخْتان.
كل: عيال.
وبلغة كندة: فجاجاً: طرقات.
بُسَّت: فتتَتْ.
تبتئس: تحزن.
وبلغة عذرة: اخسئوا: اخزوا.
وبلغة حضر موت: رِبّيون: رجال.
دمرنا: أهلكنا.
لغوب: إعياء.
مِنْسأته: عصاه.
وبلغة غسان: طفقاً: عمداً.
بئيس: شديد.
سيء بهم: كرههم.
وبلغة مُزَينة: لا تَغْلُوا: لا تزيدوا.
وبلغة لخم: إملاق: جوع.
ولتعْلُنّ: تقهرن.
وبلغة جُذام: فجاسوا خلال الديار: تخللوا الأزقَّة.
وبلغة بني حنيفة: العقود: العهود.
الجناح: اليد.
والرهب: الفزع.
وبلغة اليمامة: حَصِرت: ضاقت.
وبلغة سبأ: تميلوا ميلاً عظيما: تخطئوا خطأ بيناً.
تَبّرنا: أهلكنا.
وبلغة سليم: نكلص: رجع.
وبلغة عمارة: الصاعقة: الموت.
وبلغة طي: ينعق: يصيح.
رغدا: خصباً.
سفه نفسه: خسرها.
يس: يا إنسان.(1/153)
وبلغة خزاعة: أفيضوا: انفروا.
والإفضاء: الجماع.
وبلغة عمان: خبالاً: غيّا.
نَفَقاً: سربا.
حيث أصاب: أراد.
وبلغة تميم: أمة: نسيان.
بغيا: حسداً.
وبلغة أنمار: طائره: عمله.
أغطش: أظلم.
وبلغة الأشعريين: لأحتَنِكَنَّ: لاستأصِلَنَّ.
تارة: مرة.
اشمازت: مالت ونفرت.
وبلغة الأوس: لينة: النخلة.
وبلغة الخزرج: ينفضَّوا: يذهبوا.
وبلغة مدين: فاقض: فامض.
انتهى ما ذكره أبو القاسم ملخصاً.
وقال أبو بكر الواسطي في كتابه " الإرشاد في القراءات العشر:
في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم.
والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرْهم، واليمن، وأزد شنوءة.
وكندة، وتميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضر موت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومدلج، وخزاعة، وغَطَفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلبة، وطي، وعامر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبليّ، وعذْرة، وهوازن، والنمر، واليمامة.
ومن غير العربية: الفرس، والنبط، والروم، والحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط.
ثم ذكر في أمثلة ذلك كالب ما تقدم عن أبي القاسم، وزاد الزجر: العذاب بلغة طىء.
طائف من الشيطان: نخسة، بلغة ثقيف.
الأحقاف: الرمال بلغة ثعلبة.
وقال ابن الجوزي في "فنون الأفنان": في القرآن بلغة همدان: الريحان:
الرزق.
والعيناء: البيضاء.
والعبقري: الطنافس.
وبلغة نصر بن معاوية: الختّار: الغَدّار.
وبلغة عامر بن صعصعة: الحفدة: الخدم.(1/154)
وبلغة ثقيف: العول: الميل.
وبلغة عك: الصّور: القرن.
وقال ابن عبد البر في " التمهيد ": قول من قال: نزل القرآن بلغة قريش
معناه عندي الأغلب، لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات، من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز.
وقال الشيخ جمال الدين بن مالك: أنزل الله القرآن بلغة الحجازيين إلا قليلاً، فإنه نزل بلغة التميميين، كالإدغام في: (ومَنْ يشاقّ اللهَ) الحشر: 4.
وفي: (مَن يَرْتَدّ منكم عَن دِينه) المائدة: 54) ، فإن إدغام المجزوم لغة تميم.
ولهذا قلّ.
والفك لغة الحجاز، ولهذا كثر، نحو: (وليُمْلِل) (يُحْبِبكم الله) .
(يمددْكم) (واشدد به أزْري) .
(ومن يحلُلْ عليه غَضَبىِ) .
قال: وقد أجمع القراء على نصب: (إلا اتبَاعَ الظن) ، لأن لغة الحجازيين
التزام النصب في المنقطع، كما أجمعوا على نصب: (ما هذا بَشراً) يوسف:
31) ، لأن لغتهم إعمال ما.
وزعم الزمخشري في قوله: (قل لا يعْلَمُ مَنْ في السماوات والأرض الغيب إلا
اللَهُ) النمل: 65، - أنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم.
فائدة
قال الواسطي: ليس في القرآن حرف غريب من لغة قريش غير ثلاثة
أحرف، لأن كلام قريش سهل، لين واضح، وكلام العرب وحشي غريب.
فليس في القرآن إلا ثلاثة أحرف، غريبة: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ)
وهو تحريك الرأس: (مُقِيتًا) : مقتدرا.
(فَشَرِّدْ بِهِمْ) : سمع.
*******(1/155)
الوجه الرابع عشر من وجوه إعجازه (عموم بعض آياته وخصوص بعضها)
وهو لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر، وصيغته (كل) مبتدأة نحو:
(كلّ مَنْ عليها فَان) الرحمن: 26.
أو تابعة، نحو: (فسجد الملائكة ُ كلّهم أجمعون) الحجر: 30.
والذي والتي وتثنيتهما وجعهما، نحو: (والذي قال لوَالِدَيه أف لكما)
، فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد
(أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ في أمم) الأحقاف: 18.
(والذين آمَنُوا وعَمِلوا الصالحاتِ أولئك أصحابُ الجنَّةِ هم فيها خالدون) .
(للّذين أحسَنُوا الخسْنى وزِيادة) .
(للّذين اتَّقوا عند ربِّهم جنّاتٌ) .
(واللائي يَئِسْنَ من الحيض) .
(واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا) .
(واللّذانِ يَأتِيَانِها منكم فآذُوهما) .
وأي. وما. ومن - شرطاً أو استفهاماً أو موصولاً، نحو: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) .
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) .
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
والجمع المضاف، نحو: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) .
والمعرَّف بأل، نحو: (قد أفلح المؤمنون) ، (واقتلوا المشركين) .
واسم الجنس المضاف، نحو: (فليَحْذَرِ الذين يخالِفونَ عن أمره) .
أي كلَّ أمرٍ لله.
والصرَّف بأل نحو: (وأحلَّ اللهُ البَيْعَ) ، أي كل بيْع.
(إن الإنسان لفي خُسْرٍ) ، أي كل إنسان، بدليل: (إلاَّ الذين آمنوا) .
والنكرة في سياق النفي والنهي، نحو: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)(1/156)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) .
(فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) .
(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) .
وفي سياق الشرط، نحو: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) .
وفي سياق الامتنان، نحو: (وأنزلنا من السماء ماء طَهورا) .
فصل
العام على ثلاثة أقسام:
الأول: الباقي على عمومه، قال القاضي جلال الدين البُلقيني: ومثاله عزيز، إذْ مَا مِنْ عامّ إلا ويتخيّل فيه التخصيص، فقوله: (يا أيها الناس اتَّقُوا
ربكم) قد يخص منه غير المكلف.
وحُرِّمَتْ عليكم الميتَة خص منه حالة الاضطرار وميتة السمك والجراد.
وحرم الربا - خص منه العرايا.
وذكر الزركشي في البرهان: أنه كثير في القرآن، وأورد منه: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) .
(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ..
(اللهُ الذي خلقَكُمْ ثم رَزَقكُم ثم
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) .
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) .
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) .
قلت: هذه الآيات كلها في غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد البُلقيني
أنه عزيز في الأحكام الفرعية.
ولقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها.
وهي قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
فإنه لا خصوص فيها.
الثاني: العام المراد به الخصوص.(1/157)
الثالث: العام المخصوص، وللناس بينهما فروق:
منها: أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، ولا
من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها.
والثاني أريد عمومه وشمولُه لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم.
ومنها أن الأول مجاز قطعاً لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي، بخلاف الثاني.
فإن فيه مذاهب أصحها أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة، ونقَله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء.
وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب الشافعي وأصحابه، وصححه السبكي.
لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله بلا تخصيص، وذلك
التناول حقيقي اتفاقاً، فليكن هذا التناول حقيقياً أيضاً.
ومنها أن قرينة الأول عقلية، والثاني لفظية.
ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه، وقرينة الثاني تنفك عنه.
ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقاً، وفي الثاني خلاف.
ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) .
والقائل واحد نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزَاعة، كما أخرج ابن مردويه من حديث أبي رافع، لقيامه مقام كثير في تثبيطه المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان.
قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد: (إنّها ذَلِكم الشيطانُ) .
فوقعت الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى واحد بعينه، ولو كان
المعنيُّ به جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ.
ومنها قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة.(1/158)
ومنها قوله: (ثم أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ الناسُ) .
أخرج ابن جرير من طريق الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (مِنْ حَيْثُ أفاضَ الناسُ) ، قال إبراهيم: ومن الغريب قراءةُ سعيد بن جُبير: من حيث أفاض الناسي قال في المحتسب: يعني آدم، لقوله: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) .
ومنها قوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) ، أي جبريل، كما في قراءة ابن مسعود.
وأما المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً، وهي أكثر من المنسوخ، إذ ما
من عام فيه إلا وقد خص، ثم المخصص له إما متصل، وإما منفصل، فالمتصل خمسة وقعت في القرآن:
أحدها: الاستثناء، نحو: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) . النور: 4.
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) ... إلى قوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) .
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
(كلّ شيء هالكٌ إلاَّ وَجْهَه) .
الثاني: الوصف، نحو: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) .
الثالث: الشرط، نحو: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) .
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) .
الرابع: الغاية، نحو: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .(1/159)
(ولا تقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْن) .
(وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) .
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) .
الخامس: بدل البعض من الكل نحو: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) ..
والمخصص آية أخرى في محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس.
فمن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) .، خص بقوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) .
وبقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) .
خص من الميتة السمك بقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) .
ومن الدم الجامد بقوله: (أو دَماً مَسفوحاً) .
وقوله: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) .
خص بقوله: (فلا جُنَاحَ عليهما فما افتدَتْ به) .
وقوله: (الزَّانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائةَ جلدة) .
خص بقوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) .
وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) .
خص بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى: (وأحَلَّ اللهُ البَيْعَ) .
خص منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة، بالسنّة.
وحرم الربا. خص العرايا منه بالسنة.
وآيات المواريث خص منها القاتل والمخالف في الدين بالسنة.
وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة.
وآية ثلاثة قروء خص منها الأمَة بالسنة.
وقوله: ماءً طَهوراً، خص منه المتغير بالسنّة.
وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)
خص منهما مَنْ سرق دون ربع دينار بالسنة.(1/160)
ومن أمثلة ما خص بالإجماع آية المواريث، خص منها الرقيق فلا يرث
بالإجماع، ذكره مكي.
ومن أمثلة ما خص بالقياس آية الزنا: (فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة
جَلْدَة) ، خص منه العبد بالقياس على الأمة المنصوصة في قوله:
(فَعَليْهنّ نصْفُ ما على المحصَنَاتِ من العذاب) ، المخصص لعموم
الآية، ذكره مكيّ أيضاً.
فصل
من خاص القرآن ما كان مخصصاً لعموم السنَّة، وهو عزيز.
ومن أمثلته قوله
تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: أُمِرْتُ أنْ أقَاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله.
وقوله: (حافِظُوا على الصَّلَوَاتِ والصلاةِ الوُسْطَى) . البقرة: 238.
خص عموم نهيْه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في الأوقات المكروهة بإخراخ الفرائض.
وقوله: (ومِنْ أصوافها وأوْبارها) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبين مِنْ حَيّ فهو ميتة.
وقوله: (والعامِلِينَ عليها والمؤلَّفَةِ قلوبُهم) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحلّ الصدقةُ لغَنِيّ ولا لذي مِرّة سويّ.
وقوله: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا الْتَقَى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار.
(فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص)
الأول: إذا سِيقَ العام للمدح أو الذم فهل هو باق على عمومه، فيه
مذاهب:(1/161)
أحدها: نعم، إذ لا صارف عنه، ولا تنافي بين العموم وبين المدح أو الذم.
والثاني: لا، لأنه لم يسَقْ للتعميم، بل للمدح أو الذم.
والثالث: وهو الأصح: التفصيل، فيعم إن لم يعارضه عام آخر لم يُسق
لذلك، ولا يعلم إن عارضه ذلك جمعاً بينهما.
مثاله، ولا مُعَارِض، قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) .
ومع المعارض قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) .
فإنه سِيق للمدح، وظاهِرُهُ يعُمُّ الأخْتَيْن بملك اليمين جمعاً، وعارضه في ذلك: (وأن تَجْمَعوا بين الأختين) ، فإنه شامل لجمعهما بملك اليمين، ولم يُسَق
للمدح، فحمل الأول على غير ذلك بأن لم يرد تناوله له.
ومثاله في الذم: (والذين يَكنِزُونَ الذهبَ والفضّة) .
الآية - فإنه سيق للذم، وظاهره يعم الحلي المباح.
وعارضه في ذلك حديث جابر: ليس في الحلي زكاة، فحمل الأول على غير ذلك.
الثاني: اختلف في الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم -، نحو: (يا أيها النبي) ، (يا أيها الرسول) ، هل يشمل الأمّة، فقيل: نعم، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفاً.
والأصح في الأصول المنع لاختصاص الصفة به.
الثالث: اختلف في الخطاب ب (يا أيها الناس) ، هل يشمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مذاهب:
أصحها: وعليه الأكثرون: نعم، لعموم الصفة له، أخرج ابن أبي حاتم عن
الزهري، قال: إذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا افعلوا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
والثاني: لا، لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره، ولما له من الخصائص.
والثالث: إن اقترن بقُلْ لم يشمله، لظهوره في التبليغ، وذلك قرينةُ عدم
شموله، وإلا فيشمله.(1/162)
الرابع: الأصح في الأصول أن الخطاب ب " يا أيها الناس " يشمل الكافر والعبد، لعموم اللفظ.
وقيل: لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه في الفروع، ولا العبد
لصَرْف منافعه لسيده شرعاً.
الخامس: اختلف في " مَنْ " هل يتناول الأنثى، فالأصح: نعم، خلافاً
للحنفية، لأن قوله تعالى: (ومَنْ يعمَلْ من الصالحات مِنْ ذكر أو أنثى)
- فالتفسير بهما دالّ على تناول (مَنْ) لهما.
وقوله: (ومن يَقْنتْ مِنْكنّ للَهِ ورسوله) .
واختلف في جمع المذكر السالم هل يتناولها، فالأصح لا.
وإنما يدخلن فيه بقرينة.
أما المكسّر فلا خلاف في دخولهن فيه.
السادس: اختلف في الخطاب ب " يا أهل الكتاب "، هل يشمل المؤمنين.
فالأصحًّ لا، لأن اللفظ قاصر على من ذكر.
وقيل: إن شركوهم في المعنى شملهم وإلا فلا.
واختلف في الخطاب ب " يا أيها الذين آمنوا " - هل يشمل أهل الكتاب.
قيل: لا - بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع.
وقيل: نعم -، واختاره ابن السمعاني.
وقيل قوله: يا أيها الذين آمنوا خطاب تشريف لا تخصيص.
*******
الوجه الخامس عشر من وجوه إعجازه (ورود بعض آياته مجملة وبعضها مبيّنة)
وفي ذلك من حسن البلاغة ما يعجز عنه أولو الفصاحة، لكن هل يجوز بقاؤه
مجملاً أم لا، أقوال.
أصحها لا يبقى المكلف بالعمل به بخلاف غيره.
وللإجمال أسباب:
أحدها: الاشتراك، نحو: (والليل إذا عَسْعَس) .
فإنه موضوع لأقبل وأدبر.
(ثلاثة قُروء) ، فإن القُرْءَ موضوع(1/163)
للْحَيْض والطهر.
(أو يَعْفُو الذي بيده عُقدة النكاح) .
يحتمل الزوج والوليّ، فإن كلاًّ منهما بيده عقدة النكاح.
وثانيها: الحذف، نحو: (وترغَبونَ أنْ تنكحُوهنَّ) .
يحتمل في، وعَنْ.
وثالثها: اختلاف مرجع الضمير، نحو: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) .
يحتمل عود ضمير الفاعل في يرفعه إلى ما عاد عليه ضميرُ إليه، وهو الله، ويحتمل عَوْده على العمل.
والمعنى إن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب.
ويحتمل عوده إلى الكلم الطيب، أي أن الكلم الطيب - وهو التوحيد - يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان.
ورابعها: إجمال العطف والاستئناف، نحو: (إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) .
وخامسها: غرابة اللفظ، نحو: (فلا تعْضُلُوهنّ) .
وسادسها: عدم كثرة الاستعمال، نحو: (يلْقُونَ السَّمعَ) .
أي يسمعون.
(ثاني عِطْفِه) ، أي متكبِّراً.
(فأصبح يقَلِّبُ كفَّيْه) ، أي نادماً.
وسابعها: التقديم والتأخير، نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) .
أي: ولولا كلمة وأجَل مسمى لكان لزاماً.
(يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها) ، أي يسألونك عنها كأنك حَفِيٌّ.
وثامنها: قلب المنقول، نحو (طورِ سِيْنِين) ، أي: سيناء
(على إلْ يَاسين) ، أي إلياس.
وتاسعها: التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر، نحو: (للّذِينَ
استضْعِفُوا لمن آمَنَ منهم) .(1/164)
فصل
قد يقع التبيين متصلا، نحو: (من الفَجْر) . البقرة: 187، بعد قوله:
(الخيْط الأبيض من الخيْطِ الأسود) . البقرة: 187.
ومنفصلاً في آية أخرى، نحو: (فإنْ طلَّقَها فلا تحلَّ له مِنْ بعْدُ حتى تنْكحَ زَوْجاً غيره) ، بعد قوله: (الطلاقُ مرّتان) ، فإنها بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرّجْعة بعده، ولولاهما لكان الكل منحصراً في الطلْقَتَيْن.
وقد أخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، وسعيد بن منصور وغيرهم، عن ابن
سعيد الأسدي، قال: قال رجل: يا رسول الله، الطلاق مرتان، فأين الثالثة، قال: أو تسريح بإحسان.
وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله، ذكر الله
الطلاق مرتين، فأين الثالثة، قال: (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) .
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمئذٍ ناضِرَةٌ، إلى ربّها ناظِرَةٌ) .
دال على جواز الرؤية، ويفسر أن المراد بقوله: لا تدركه الأبصار: لا تحيط به دون لا تراه.
وقد أخرج ابن جرير من طريق العَوْفي، عن ابن عباس، في قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، قال: لا تحيط به.
وأخرج عن عكرمة أنه قيل له عند ذكر الرؤية: أليس قد قال: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، فقال: أفلست ترى السماء أفكلها تُرى.
وقوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) .
فسره قوله: (حُرمَتْ عليكم الميْتَةُ) .
وقوله: (مالك يوْمِ الدين) .
فسره قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) .(1/165)
وقوله: (فتلَقّى آدمُ مِنْ رَبِّهِ كلماتٍ) .
فسره قوله: (قالا ربنا ظَلَمْنَا أنْفُسَنا) .
وقوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا) .
فسره قوله في آية النحل: (بالأنثى) .
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) .
قال العلماء: بيانُ هذا العهد قوله: (لئن أقَمْتُم الصلاةَ وآتيْتُم الزكاةَ وآمنتُم بِرُسلي) .
فهذا عهده. وعهدكم: (لأكفرنّ عنكم سيِّئاتكم) .
وقوله: (صراطَ الذين أنعمْتَ عليهم) .
بيّنه قوله: (فأولئك مع الذين أنْعَمَ اللهُ عليهم من النبيين) .
وقد يقع التبيينُ بالسنّة، مثل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.
ولله على الناس حِجّ البيت.
وقد بينت السنّةُ أفعال الصلاة والحج ومقادير نُصب الزكاة في أنواعها.
تنبيه:
اختلف في آيات، هل هي من قبيل المجمل أم لا؟.
منها السرقة، قيل: إنها مجملة في اليد، لأنها تطلق على العضو إلى الكوع، وإلى المرفق، وإلى المنكب.
وفي القطع، لأنه يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، ولا ظهور لواحد من ذلك.
وإبانة الشارع إلى الكوع تبيّن أن المراد ذلك.
وقيل لا إجمال فيها، لأن القطع ظاهر في الإبانة.
ومنها: (وامسحوا برؤوسكم) .
قيل إنها مجملة، لترددها بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع الناصية مُبينٌ لذلك.(1/166)
وقيل: لا، وإنما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطلق عليه الاسم ويفيده.
ومنها: (حُرمَتّ عليكم أمهاتكم) .
قيل: إنها مجملة، لأن إسناد التحريم إلى العين لا يصح، لأنه إنما يتعلق بالفعل، فلا بد من تقديره، وهو محتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها ولا مرجح لبعضها.
وقيل: لا، لوجود المرجح، وهو العرف، فإنه يقْتضِي بأن المراد تحريم
الاستمتاع بوطء أو نحوه، ويجري ذلك في كل ما يجري فيه التحريم والتحليل
بالأعيان.
ومنها: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) .
قيل: إنها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه زيادة، فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم.
وقيل: لا، لأن البيع منقول شرعاً، فحمل على عمومه، ما لم يقم دليل
التخصيص.
وقال الماوردي: للشافعي في هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنها عامة، فإن لفظها لفظُ عموم يتناول كل بيع، ويقتضي إباحة
جميعها إلا ما خصه الدليل.
وهذا القول أصحها عند الشافعي وأصحابه، لأنه
عليه الصلاة والسلام نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز، فدل على أن الآية تناولت إباحةَ جميع البيوع إلا ما خص منها، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - المخصوص.
قال: فعلى هذا في العموم قولان:
أحدهما أنه عموم أريد به العموم وإن دخله التخصيص.
والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص، قال: والفرق بينهما أن
البيان في الثاني متقدم على اللفظ، وفي الأول متأخر عنه ومقترن به.
قال: وعلى القولين يجوز الاستدلال بالآية في المسائل المختلف فيها ما لم يَقُمْ دليل تخصيص.
والقول الثاني أنها مُجْمَلة لا يعقل منها صحةُ بَيع مِنْ فساده إلا ببيان النبي
- صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: هل هي مجملة بنفسها أم بعارض ما نُهي عنه من البيوع؟
وجهان.(1/167)
وهل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها، لأن لفظ البيع اسم لغوي
معناه معقول، لكن لما قام بإزائه من السنّة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلا ببيان السنة، فصار مجملاً لذلك دون اللفظ، أو في اللفظ أيضاً، لأنه لما لم يكن المراد منه ما وقع عليه الاسم وكانت له شرائط غير معقولة في اللغة كان مشكلاً أيضاً، وجهان.
قال: وعلى الوجهين لا يجوز الاستدلالُ بها على صحة بَيْع ولا فساده، وإن
دلت على صحة البيع من أصله.
قال: وهذا هو الفرق بين العموم والمجمل حيث
جاز الاستدلال بظاهر العموم ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل.
والقول الثالث أنها عامة جملة معاً، قال: واختُلِف في وجه ذلك على أوجه:
أحدها: أن العموم في اللفظ، والإجمال في المعنى، فيكون اللفظ عاماً
مخصوصاً، والمعنى مجملاً لَحِقَه التفسير.
والثاني: أن العموم في: وأحلَّ اللهُ البَيْعَ، والإجمال في: وحرّم الربا.
والثالث: أنه كان جملاً، فلما بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - صارَ عامًّا فيكون داخلا في المجمل قبل البيان، وفي العموم بعد البيان، فعلى هذا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها.
والقول الرابع: أنها تناولت بيعاً معهوداً، ونزلت بعد أن أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعاً وحرم بيوعاً، فاللام للعهد، فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها.
ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية، نحو: (وأقيموا الصلاةَ وآتوا
الزكاة) .
(فمن شهدَ منكم الشَّهْر فَلْيَصُمْه) .
(وللهِ على الناس حِج البيتِ مَنِ استطاع إليه سبيلا) .
قيل: إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج
لكل قَصْد، والمراد بها لا تدل عليه اللغة، فافتقرت إلى البيان.
وقيل: لا، بل تُحمل على كل ما ذكر إلا ما خص بدليل.(1/168)
تنبيه:
قال ابن الحصّار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد.
والصواب أن المجمل المبهم الذي لا يُفهم المراد منه.
والمحتمل اللفظ الواقع باللفظ الأول على معنيين مفهومين فصاعداً، سواء كان حقيقة في كلها أو في بعضها.
فالفرق بينهما أن المجمل يدل على أمور معروفة، واللفظ مشترك متردد
بينها.
والمبهم لا يدل على أمر معروف مع القطع بأن الشارع لم يفْضِ لأحد
ببيان المجمل، بخلاف المحتمل.
*******
الوجه السادس عشر من وجوه إعجازه (الاستدلال بمنطوته أو بمفهومه)
وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص، نحو: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
، وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جداً في
الكتاب والسنة.
وقد بالغ إمام الحرمين وغيره في الرد عليهم، قال: لأن الغرض من النص
الاستقلال بإفادة المعنى على قطع، مع انحسام جهات التأويل والاحتمال، وهذا
وإن عزّ حصوله بوضع الصيغ رداً إلى اللغة فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية. انتهى.
أو مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً، فالظاهر، نحو: (فَمَنِ اضْطُرّ غير باغ
ولا عَادٍ) .
فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم، وهو فيه أظهر وأغلب.
ونحو: (ولَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ) ، َ فإنه يقال الانقطاع ظاهره الوضوء والغسل، وهو في الظاهر أظهر.
وإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل، ويسمى المرجوح المحمول عليه
مؤولاً، وهو كقوله: (وهو مَعَكمْ أيْنَ ما كنتُم) ، فإنه يستحيل
حمل المعيّة على القُرب بالذات، فتعين صَرْفُه عن ذلك، وحمله على القدرة والعلم، أو على الحفظ والرعاية.(1/169)
وكقوله: (واخْفِض لهما جَنَاحَ الذّل من الرحمة) .
على الظاهر، لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة، فيُحمل على الخضوع وحسن الخلق.
وقد يكون مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصلح حمله عليهما جميعاً.
فيُحمل عليهما سواء، فلهذا قلنا هل يجوز استعمال اللفظ في معنييه أم لا، ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا
ومن أمثلته أيضاً: (ولا يُضَارّ كاتِبٌ ولا شَهيد) ، فإنه يحتمل ولا يضار الكاتبُ والشهيد صاحبَ الحق بجوْرٍ في الكتابة والشهادة، ولا يضارر -
بالفتح: أي لا يضرهما صاحبُ الحق بإلزام ما لا يلزم وإجبارهما على الكتابة والشهادة.
ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمارٍ سميت دلالة اقتضاء، نحو:
(واسأل القرية) ، أي أهلها، وإن لم تتوقف ودل اللفظ على ما
لم يقصد به سميت دلالة إشارة، كدلالة قوله تعالى: (أحِلّ لكم ليلةَ الصيام
الرّفَث إلى نسائكم) - على صحة صَوْم من أصبح جُنُباْ، إذ
إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جنباً في جزء من النهار.
وقد حكي هذا الاستنباط عن محمد بن كعب القُرَظي.
فصل
والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، وهو قسمان: مفهوم موافقة.
ومفهوم مخالفة.
فالأول: ما يوافق حكمه المنطوق، فإن كان أولى سُمّي فحوى الخطاب.
كدلالة: (فلا تَقُلْ لهما أفّ) - على تحريم الضرب لأنه أشد.
وإن كان مساوياً سمّي لحن الخطاب، أي معناه، كدلالة: (إن الذين يأكلون
أموالَ اليتامَى ظلْماً) - على تحريم الإحراق، لأنه مساوٍ للأكل في
الإتلاف.(1/170)
واختلف هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقية، على أقوال
بيناها في كتبنا الأصولية.
والثاني: ما يخالف حكمه المنطوق، وهو أنواع: مفهوم صفة، نعتاً كان أو
حالا أو ظرفاً أو عددا، نحو: (إنْ جَاءَكم فاسقٌ بِنَبَأ فَتَبيَّنُوا) .
مفهومه أن غير الفاسق لا يجب التبين في خبره، فيجب قبول خبر الواحد
العدل.
(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) .
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) ، أي فلا يصح الإحرام به في غيرها.
(فاذكروا الله عند المشْعَرِ الحرام) ، أي فالذكر عند غيره
ليس محصلاً للمطلوب.
(فاجْلِدُوهم ثمانين جَلْدَةً) ، أي لا أقل ولا أكثر.
وشرط نحو: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) .
أي فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن.
وغاية، نحو: (فلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حتى تنكحَ زَوْجاً غَيْرَه) ، أي فإذا نكحته تحل للأول بشرطه.
وحصر، نحو: (لا إله إلا الله) .
(إنما إلهكم إله واحد) ، أي فغيره ليس بإله.
(فالله هو الولي) أي فغيره ليس بولي.
(لَإلى اللهِ تُحْشَرُون) أي لا إلى غيره.
(إياك نعبد) ، أي لا غيرك.
واختلف في الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة.
والأصح في الجملة أنها
كلها حجة بشروط:
منها: ألا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثَمّ لم يعتبر الأكثرون مفهومَ
قوله: (ورَبَائِبكم اللاتي في حُجوركم) ، فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج، فلا مفهوم له، لأنه إنما خُص بالذكر لغلبة حضوره في الذهن.
وألا يكون موافقاً للواقع، ومن ثَمّ لا مفهوم لقوله:(1/171)
(ومن يدْعُ مع اللهِ إلهاً آخَرَ لا برْهَانَ له) .
وقوله: (لا يتَّخِذ المؤمنون َالكافرين أولياءَ مِنْ دون المؤمنين) .
وقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) .
والاطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول.
فائدة
قال بعضهم: الألفاظ إما أن تدل بمنطوقها، أو بفَحْواها، أو بمفهومها، أو
باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها المستنبط منها، حكاه ابن الحصار، وقال: هذا كلام حسن.
قلت: فالأول دلالة المنطوق.
والثاني دلالة المفهوم.
والثالث دلالة الاقتضاء.
والرابع دلالة الإشارة.
*******
الوجه السابع عشر من وجوه إعجازه (وجوه مخاطباته)
وهي ثلاثة أقسام: قسم لا يصلح إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقسم لا يصلح إلا لغيره، وقسم يصلح لهما.
قال بعض الأقدمين: أنزل القرآن على ثلاثين نحواً، كل نحو منه غير صاحبه.
فمن عرف وجوهها ثم تكلم في الدين أصاب ووُفِّق، ومن لم يعرفها وتكلم في
الدين كان الخطأ إليه أقرب، وهي: المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والتقديم والتأخير، والمقطوع والموصول، والسبب والإضمار، والخاص والعام، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحدود والأحكام، والخبر والاستفهام، والأبّهة والحروف الصرفة، والإعذار والإنذار، والحجة والاحتجاج، والمواعظ والأمثال، والقسم.
قال: والمكي مثل: (واهجُرْهم هجْراً جيلاً) .
والمدني مثل: (وقاتلوا في سبيل الله) -
والناسخ والمنسوخ واضح.(1/172)
والمحكم مثل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) .
(إن الذين يَأكُلُون أموالَ اليتامى ظُلْما) ، ونحوه مما أحكمه الله وبيَّنَه.
والمتشابه مثل: ("يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تَدْخُلوا بيوتاً غَيْرَ بيوتِكم حتى
تَسْتَأنِسُوا) .
ولم يقل: (ومن يفعل ذلك عدْوَاناً وظلماً فسوف نُصْلِيه نارا) ، كما قال في المحكم.
وقد ناداهم في هذه الآية بالإيمان ونهاهم عن المعصية ولم يجعل فيها وعيداً
فشُبّه على أهلها ما يفعل الله بهم.
والتقديم والتأخير مثل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) .، التقدير: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت.
والمقطوع والموصول مثل: (لا أقسِمُ بيوم القيامة) .
فلا مقطوع من لا أقسم، وإنما هو في المعنى أقسم بيَوم القيامة (ولا اقسم بالنَّفْسِ اللوَّامة) ، ولم يقسم.
والسبب والإضمار، مثل: (واسْألِ القريةَ) ، أي أهل القرية.
والخاص والعام، مثل: (يا أيها النبي)
فهذا في المسموع خاصا - (إذا طلقَتُم النساءَ) ، فصار في المعنى عاما.
والأمر وما بعده إلى الاستفهام، أمثلتها واضحة.
والأبّهة نحو: (إنّا أرْسلنا) . القمر: 19، 31، 34.
(نحن قسَمْنا) الزخرف: 32.
عبّر بالصيغة الموضوعة للجماعة للواحد تعالى، تفخيما وتعظيما
وأبهة.
والحروف المصرفة، كالفتنة تطلق على الشرك، نحو: (حتى لا تكون فِتْنَة) .
وعلى المعذرة، نحو: (ثم لم تكن فِتْنَتُهم)(1/173)
أي معذرتهم.
وعلى الاختيار نحو: (قد فَتَنَّا قَوْمَك مِنْ بعْدِك) .
والإعذار نحو: (فبما نَقْضِهم مِيثَاقَهم لَعَنَّاهم) .
اعتذر أنه لم يفعل ذلك بهم إلاَّ بمعصيتهم.
والبواقي أمثلتها واضحة.
قال ابن الجوزي في كتابها "النفيس": الخطاب في القرآن على خمسة عشر
وجهاً.
وقال غيره: على أكثر من ثلاثين وجها.
أحدها: خطاب العام، والمراد به العموم، كقوله: (الله الذي خلقَكُم) .
والثاني: خطاب الخاص والمراد به الخصوص، كقوله: (أكفَرْتُم بعد
إيمانكم) .
(يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ) .
الثالث: خطاب العام والمراد به الخصوص، كقوله: (يا أيها الناسُ اتَّقوا
ربكم) .
لم يدخل فيه الأطفال والمجانين.
الرابع: خطاب الخاص والمراد به العموم، كقوله: (يا أيها النبي إذا
طلّقْتُم) .
افتتح الخطاب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد سائر مَنْ يملك
الطلاق.
وقوله: (يا أيها النبي إنَّا احْلَلْنَا لكَ أزواجك) .
قال أبو بكر الصيرفي: كان ابتداء الخطاب له، فلما قال في الموهوبة:
(خالصةً لكَ من دون المؤمنين) - علم أن ما قبلها له ولغيره.
الخامس: خطاب الجنس، كقوله: (يا أيها الناس) .
السادس: خطاب النوع، نحو: (يا بني إسرائيل) .
السابع: خطاب العين، نحو: (يا آدم اسْكنْ أنْت وزَوْجكَ الجنَّةَ) .
(يا نوح اهْبطْ) .
(يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيَا) .
(يا موسى لا تخَفْ) .
(يا عيسى إني متَوَفِّيك) .
ولم يقع في القرآن الخطاب بيا محمد.
بل بـ يا أيها النبي، يا أيها الرسول، تعظيما له وتشريفا
وتخصيصاً له بذلك عمَّن سواه وتعليما للمؤمنين ألا ينادوه باسمه.(1/174)
الثامن: خطاب المدح، نحو: (يا أيها الذين آمنوا) ، ولهذا وقع خطاباً
لأهل المدينة: والذين آمنوا وهاجروا.
أخرج ابن أبي حاتم عن خَيْثَمة قال: ما تقرأون في القرآن (يا أيها الذين
آمنوا) ، فإنه في التوراة يا أيها المساكين.
وأخرج البيهقي وأبو عُبيد وغيرهما، عن ابن مسعود، قال: إذا سمعتَ الله
يقول: (يا أيها الذين آمنوا) - فأوْعِها سَمْعَك، فإنه خير يأمر به أو شر ينْهَى
والتاسع: خطاب الذم، نحو: (يا أيها الذين كفروا لا تعتَذِرُوا اليوم)
(قل يا أيها الكافرون) .
ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين.
وكثر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا على الموَاجهة، وفي جانب الكفار جيء بلفظ الغيبة، إعراضاً عنهم، كقوله: (إنَّ الذين كفَرُوا) .
(قل للذين كفروا) .
العاشر: خطاب الكرامة، كقوله: (يا أيها النبي) .
(يا أيها الرسول) .
قال بعضهم:
وتجد الخطاب بالنبي في محل لا يليقُ به الرسول، وكذلك العكس، كقوله في
الأمر بالتشريع العام: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .
وفي مقام الخاص: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) .
وقد يعبر بالنبي في مقام التشريع العام، لكن مع قرينة إرادة التعميم.
كقوله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتُم النساءَ) .
ولم يقل طلقت.
الحادي عشر: خطاب الإهانة، كقوله: (فإنّك رَجِيم) .
(اخْسَئُوا فيها ولا تُكلمون) .
الثاني عشر: خطاب التهكم، نحو: (ذُقْ إنّكَ أنْتَ العزيزُ الكريم) .(1/175)
الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد، كقوله: (يا أيها الإنسانُ ما
غَرّكَ بربك الكريم) .
الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع، نحو: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... إلى قوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) .
فهو خطاب له - صلى الله عليه وسلم - وحده، إذ لا نبي معه ولا بعده، وكذا قوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا) .
خطاب له - صلى الله عليه وسلم - وحده، بدليل قوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) .
وكذا قوله: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، بدليل قوله: (قل فأتُوا) .
وجعل منه بعضُهم: (قال رَبّ ارْجِعون) ، أي ارجعني.
وقيل رب خطاب له تعالى، وارجعون للملائكة.
وقال السهيلي: هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب، فاختلط، فلا يدري ما يقول من الشطط، وقد اعتاد أمراً يقوله في الحياة مِنْ ردّ الأمر إلى المخلوقين.
الخامس عشر: خطاب الواحد بلفظ الاثنين، نحو: (ألْقِيَا في جهنَّم) .
والخطاب لمالك خازن النار، وقيل لخزنة جهنم والزبانية، فيكون من
خطاب الجمع بلفظ الاثنين، وقيل للملكين الموكلين به في قوله: (وجاءَتْ كلُّ نَفْس معها سائق وشَهيد) .
فيكون على الأصل.
وجعل المهدوي من هذا النوع: (قال قد أجِيبَتْ دعوتكما) .
قال: الخطاب لموسى وحده، لأنه الداعي.
وقيل لهما، لأن هارون أمّن على دعائه والمؤمِّن أحد الداعين.
السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد، كقوله: (فمَنْ ربُّكما يا
موسى) ، أي ويا هارون.
وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أفرده بالنداء لإدْلاله عليه بالتربية.
والآخر: أنه صاحب الرسالة والآيات، وهارون تَبَع له، ذكره ابن عطية،(1/176)
وذكر في الكشاف آخر، وهو أن هارون لما كان أفصح لساناً من موسى نكب فرعون عن خطابه حذراً من لسانه.
ومثله: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) .
قال ابن عطية: أفرده بالشقاء لأنه المخاطب أولاً، والمقصود في الكلام.
وقيل: لأن الله تعالى جعل الشقاء في معيشة الدنيا في جانب الرجال.
وقيل إغضاء عن ذكر المرأة، كما قيل من الكرم سَتْرُ الحرم.
السابع عشر: خطاب الاثنين بلفظ الجمع، كقوله: (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)
الثامن عشر: خطاب الجمع بلفظ الاثنين، كما تقدم في " ألْقِيَا ".
التاسع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد، كقوله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) .
قال ابن الأنباري: جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومثله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتم النساء) .
العشرون: عكسه نحو: (وأقيموا الصلاة) .
(وبَشِّر المؤمنين) .
الحادي والعشرون: خطاب الاثنين بعد الواحد، نحو: (أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ) .
الثاني والعشرون: عكسه، نحو: (فمن رَبُّكما يا موسَى) .
الثالث والعشرون: خطاب العَيْن، والمراد به الغير، نحو: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) .
الخطاب له - صلى الله عليه وسلم -، والمرَاد أمته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان تقيًّا، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الكفار.
ومنه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) .
والمراد بالخطاب التعريض بالكفار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: لم يشك - صلى الله عليه وسلم -.(1/177)
ومثله: (واسالْ مَنْ أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسلنا) .
(فلا تكوننَّ من الجاهلين) ، وأنحاء ذلك.
الرابع والعشرون: خطاب الغير والمراد به العين، نحو: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) .
الخامس والعشرون: الخطاب العام الذي لم يُقصد به مخاطب معين، نحو:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) .
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) .
ولم يُقصد بذلك خطاب معين، بل كل أحد، وأخرج في صورة الخطاب لقصد العموم، يريد أن حالهم تناهت في الظهور بحيث لا يختص بها راءٍ دون راء، بل كل من أمكن منه الرؤية داخلٌ في ذلك الخطاب.
السادس والعشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره، نحو: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ، خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال للكفار: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، بدليل: (فهَلْ أنتُم مسلمون) .
ومنه: (إنّا أرْسَلنَاكَ شاهداً) إلى قوله: (لِتُؤْمِنُوا بالله) الفتح: 8، 9.
إن قرئ بالفوقية.
السابع والعشرون: خطاب التلوين، وهو الالتفات.
الثامن والعشرون: خطاب الجمادات خطابَ مَنْ يعقل، نحو: (فقال لَهَا
ولِلأرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً) .
التاسع والعشرون: خطاب التهييج، نحو: (وعلى الله فتوكَّلُوا إنْ كنتُم
مُؤمنين) .
الثلاثون: خطاب التحنّن والاستعطاف، نحو: (يا عبادِىَ الذين أسْرَفوا
على أنْفُسِهم) .
الحادي والثلاثون: خطاب التحبّب، نحو: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) .(1/178)
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) .
(يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) .
الثاني والثلاثون: خطاب التعجيز، نحو: (فأتُوا بسورةٍ) .
الثالث والثلاثون: خطاب التشريف، وهو كل ما في القرآن مخاطبة بقل.
فإنه تشريف منه تعالى لهذه الأمة بأن يخاطبها بغير واسطة لتفوز بشرف
المخاطبة.
الرابع والثلاثون: خطاب المعدوم، ويصح ذلك تبعاً لموجود، نحو: (يَا بَنِي آدَمَ) ، فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ولكل مَنْ بعدهم.
قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد مَلِكًا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّةُ الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عباده، مطلعاً على
أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع.
ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور، نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذَرّة إلا بإذنه، ولا تسقط من ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغّبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوِّعُ الأدلة والبراهين، ويجيب عن شُبَه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها،(1/179)
ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقُبْحها وألمها، ويذكّر عباده فقرهم إليه، ولشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغنيّ بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرةً من الخير فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ونشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك يقيل عثراتهم، ويغفر زَلّاتهم، ويقبل أعذارهم، ويصلح فسادهم. والمدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليُّهم الذي لا ولي سواه، فهو مولاهم الحق. وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
وإذا شهدت القلوب من القرآن مَلِكاً عظيما رحيما جليلاً هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه أشهى عندها من رضا كل مَنْ سواه، وكيف لا تلهج بذكره، وتصيِّر حُبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها، وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بهياكلها.
*******
الوجه الثامن عشر من وجوه إعجازه (ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات)
وما لم يكن وما لم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، كقوله:
(لَتَدْخُلُنَّ المسجِدَ الحرامَ إنْ شاء اللهُ آمِنين) .
وقوله: (وهم من بَعْدِ غَلَبِهم سيَغْلِبُون في بِضْعِ سنين) .
وقوله: (ليُظْهرَهُ على الدِّين كله) .
وقوله: (وعَدَ اللَّهُ الذين آمنوا منكم وعمِلُوا الصالحات) .
وقوله: (إذا جاء نَصْرُ اللَهِ والفَتْح) .
الخ، فكان جميع هذا كما قال، فَغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناسُ في الإسلام أفواجاً، فما مات عليه السلام وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله(1/180)
الإسلام، واستخلف المؤمنين في الأرض، ومكن لهم فيها دينهم، وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، كما قال عليه السلام: زُوِيت لي الأرضُ فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْك أمتي منها ما زُوي لي منها.
وقوله: (قاتِلُوهم يُعَذَبهم الله بأيديكم) .
وقوله: (أرسل رسولهُ بالهُدَى) .
وقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ) .
فكان كل ذلك.
وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم وكذبهم في حلفهم وتقريعهم بذلك، كقوله: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) .
وقوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) .
وقوله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) .
ولما نزلت بشَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بأن الله كفاهم إياهم، وكان المستهزئون ينفّرون الناس عنه ويؤذونه، فهلكوا.
وقوله: (واللَه يَعْصِمُك من الناس) ، فكان كذلك على كثرة منْ رام ضرّه وقصد قتله، والأخبار بذلك معروفة معلومة.
*******
الوجه التاسع عشر من وجوة إعجازه (إخباره بأحوال القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الداثرة)
مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه.
وإن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا بمثاقبة، ولم يغب عنهم ولا جهل حاله أحدٌ منهم، وقد كان أهل الكتاب كثيراً ما يسألونه عد عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه، كقصص الأنبياء مع قومهم، وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزَّبور، وصحف إبراهيم وموسى مما صدّقه فيه العلماء بها ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك، فمَنْ وفق آمن بما سبق له من خير، ومن شقي فهو معاند حاسد، ومع هذا فلم يُحك عن واحد من اليهود(1/181)
والنصارى على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم، وكثرة سؤالهم له عليه السلام وتعنيتهم إياه -، عن أخبار أنبيائهم، وأسار علومهم، ومستودعات سيرهم، وإعلامهم بمكنون شرائعهم، ومضمّنات كتبهم، مثل سؤالهم عن الروح، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعيسى، وحكم الرجم، وما حَرَّم إسرائيل على نفسه، وما حرم عليهم من الأنعام، ومن طيبات كانت أحلت لهم، فحرمَتْ عليهم ببغيهم.
وقوله: (ذَلكَ مَثَلُهم في التّوْرَاة ومَثَلُهم في الإنجيل) .
وغير ذلك من أمورهم التي نزل بها القرآن فأجابهم وعرفهم بها أوحي إليه
من ذلك - أنه أنكر ذلك أو كذب، بل أكثرهم صرح بصحة نبوءته، وصدق مقاله، واعترف بعناده مع حسدهم إياه، كأهل نَجْرَان، وابن صوريا، وابن أخطب، وغيرهم.
ومَنْ باهت في ذلك بعض المباهتة، وادعى أن فيها عندهم لما حكاه مخالفة
دُعي إلى دليل، وإقامة حجة، وكشف دعوته، فقيل له: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) .
إلى قوله: (الظالمون) ، فقرع ووبخ، ودعا إلى إخبار ممكن غير ممتنع، فمن معترف ما جحده، ومتواقح باق على فضيحته من كتابة يده، ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلافَ قوله من كتبه، ولا بدأ بدْءاً صحيحاً ولا سقيما من صحفه، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) .
*******
الوجه العشرون من وجوه إعجازه (الروعة التي تلحق قلوبَ سامعيه وأسماعهم عند سماعه) ، والهيْبَة التي تعْتَريهم عند تلاوته لقوة حاله وإبانة خطره، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا(1/182)
يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفوراً، كما قال تعالى، ويودّون انقطاعه لكراهتهم له، ولذا قال عليه السلام: إن القرآن صعب مستَصْعَب على من كرهه وهو الحكم.
وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً، وتكسبه
هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، قال تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) .
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) .
ويدل على هذا شيء خُصّ به أنه يعتريه من لا يفهم معانيه، ولا يعلم
تفاسيره، كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي، فقيل له: مِمّ
بكيت، قال: للشجاعة والنظم.
وهذه الروْعة قد اعترف بها جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها
لأول وهْلة وآمن به، ومنهم من كفر، فحكي في الصحيح عن جُبير بن مطعم، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: والطور ... )
فلما بلغ هذه الآية: (أم خُلِقُوا من غَيْرِ شيء أمْ هُمُ الخالقون) ...
إلى قوله: (المصيطرون) .
كاد قلبي أن يطير.
وفي رواية: وذلك أول ما دخل الإيمانُ قلبي.
وعن عتبة بن ربيعة، أنه علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من خلاف قومه، فتلا عليهم. (حم فصلت) ...
إلى قوله: (صاعقة مثْلَ صاعقةِ عادٍ وثمود) .
فأمسك عُتبة بيده على في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وناشده الرحم أن يكف.
وفي رواية: فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وعتبة مُصْغ ملْق يديه خلف ظهره معتمداً عليهما حتى انتهى إلى السجدة، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقام عتبة لا يدري بما يراجعه، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم، وقال: لقد كلمني بكلام والله ما سمعَتْ أذُنَاي بمثله قط، فما دريتُ ما أقول له.
وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه أعترته روعة وهيبة كفَّ بها
عن ذلك.
فروي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه، وشرع فيه، فمر بصبي يقرأ:(1/183)
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) .
فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر.
وكان أفصح أهل وقته.
وكان يحيى بن حكيم الغزال بليغَ الأندلس في زمنه، فحكي أنه رام شيئاً من
هذا، فنظر في سورة الإخلاص، ليحذو على مثالها وينسج - بزعمه - على منوالها، قال: فاعترتني خشيةٌ ورقَّة حملتني على التوبة والأوبة.
وحكي عن بعضهم أنه كان إذا أخذ المصحف بيده يغشى عليه من هيبته.
*******
الوجه الحادي والعشرون من وجوه إعجازه (أن سامِعَه لا يمجه وقارئه لا يَملة فتلذ له الأسماع وتشغف له القلوب)
فلا تزيده تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده إلا محبة، ولا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام - ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه - يمَلّ مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، لأن إعادة الحديث على القلب أثقل من الحديد، وكتابنا بحمد الله يستلذّ به في الخلوات، ويؤنس به في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث لها أصحابها لحوناً وطربا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن بأنه لا يَخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تَفْنَى عجائبه، ليس بالهزل، لا يشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنْتَه الجن حين سمعته أن قالوا:
(إنّا سمعْنَا قرآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرشْدِ فآمَنّا به) .
مَنْ قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجِر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحَبْل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، ولا يعوج فيقوَّم، ولا يزيغ فيستعتب.(1/184)
ونحوه عن ابن مسعود، وقال فيه: ولا يختلف ولا يُتَشَانأ، فيه نبأ الأولين
والآخرين.
وفي الحديث: قال الله لمحمد عليه السلام: إني مُنَزل عليك توراةً حديثة، تفتَحُ به أعْيُناً عمياً، وأذُنآ صُمًّا، وقلوباً غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة.
*******
الوجه الثاني والعشرون من وجوه إعجازه (تيسيره تعالى حفظه وتقريبه على متحفظيه)
قال تعالى: (ولقد يسّرْتا القرآنَ للذِّكْر) ، وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحدُ منهم، فكيف الجمّ على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر
حفظه للغلمان في أقرب مدة، حتى إن منهم من حفظه في المنام.
وحكي أنه رفع إلى المأمون صبي ابن خمس سنين وهو يحفظ القرآن.
قال ابن عطية: يسّر بما فيه من حسن النظم، وشرف المعاني، فله لَوْطة
بالقلوب، وامتزاج بالعقول، وهذا مشاهد بالعيان، فلا يحتاج فيه إلى برهان.
وأعظم من هذا أن الله يُقْدِرُ بعض خلقِه على خَتْمه في آن واحد مرات
كثيرة.
قال بعضهم: كنت أستغربه حتى شاهدت بعضهم خَتَمَهُ في دورة الطواف
بالبيت الحرام، فحققته مشاهدة.
قال الشيخ ولي الله المرجاني: وذلك أن الله أطلق كل شعرة في الجسد لقراءته. والله أعلم.
وهذ، أحوال يهبها الله لمن يشاء من عباده.
قال أبو عمران: من الناس من أقدره الله على أن يختم القرآن في الليلة الواحدة أربع مرات ثم يغتسل.
وكان من الصحابة من يختمه مرة، ومنهم من يختمه
مرتين، ومنهم من يختمه ثلاثاً.
*******(1/185)
الوجه الثالث والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الحقائق والمجاز فيه)
وقد أنكر قوم وقوع المجاز فيه، وقالوا: إنه أخو الكذب، والقرآنُ منزّه
عنه، وإن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى.
وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شَطْرُ الحسن، فقد
اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن عن المجاز
وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتكنية القصص وغيرها.
وقد أفرده بالتصنيف الإمام عز الدين بن عبد السلام، ولخصته مع زيادات
كثيرة في كتاب سميته " مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن ".
وهو قسمان:
الأول: المجاز في التركيب، ويسمى مجازَ الإسناد، والمجاز العقلي، وعلاقته
الملابسة، وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لملابسته له، كقوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) .:
نسبت الزيادة، وهي فعل الله تعالى، إلى الآيات لكونها سببا لها.
(يُذَبِّح أبناءهم)
(يا هَامَانُ ابْنِ لي) ، نسب الذبح، وهو فعل الأعوان، إلى فرعون، والبناء وهو فعل العملة، إلى هامان، لكونهما آمرين به.
وكذا قوله: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) .
نسب الإحلال إليهم لتسببهم في كفرهم بأمرهم إياهم به.
ومنه قوله تعالى: (يَوْماً يجعلُ الوِلْدَان شِيبا) .
نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه.
(عِيشَةٍ راضية) . أي مرضيّة.
(فإذا عزم الأمر) : أي عزم عليه، بدليل: (فإذا عزَمْتَ)(1/186)
وهذا القسم أربعة أنواع:
أحدها: ما طرفاه حقيقيان، كالآية المصدّر بها، وكقوله: (وأخرجَتِ
الأرضُ أثقالَها) .
والثاني: مجازيان، نحو: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ، أي ما ربحوا فيها.
وإطلاق الربح والتجارة هنا مجاز.
ثالثها ورابعها: ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر، إما الأول أو الثاني.
كقوله: (أم أنْزَلنَا عليهم سُلْطاناً) ، أى برهاناً.
(كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) .
فإن الدعاء من النار مجاز.
وكقوله: (حتى تضَعَ الحرْبُ أوْزَارَها) .
(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) .
(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) ، فاسم الأم هاوية مجاز، أى أن الأم كافلة
لولدها ملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع.
القسم الثاني: المجاز في المفرد، ويسمى المجاز اللغوي، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، وأنواعه كثيرة:
أحدها، الحذف، وسيأتي مبسوطاً في نوع الإيجاز، فهو به أجدر، خصوصاً
إذا قلنا: إنه ليس من أنواع المجاز.
الثاني: إطلاق اسم الجزء على الكل، نحو: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ، أي ذاته.
(فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، أي ذواتكم، إذ الاستقبال يجب بالصدر.
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) .
عبّر بالوجوه عن جميع الأجساد، لأن التنعم والنصب حاصل لكليهما.
(ذلك بما قدَّمَتْ يدَاكَ) .
(فَبِما كسبَتْ أيديكم) ، أى قدمتم وكسبتم.
نسب ذلك إلى الأيدى، لأن أكثر الأعمال تتناول بها.
(قُمِ اللَّيْلَ) ، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) .
(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) .
أطلق كلاًّ من القراءة(1/187)
والقيام والركوع والسجود على الصلاة وهو بعضها.
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) ، أي الحرم كله، بدليل أنه لا يذبح فيها.
الثالث: إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ)
، أي أناملهم، ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارةُ إلى إدخالها
على غير المعتاد، مبالغة من الفرار، فكأنهم جعلوا فيها الأصابع.
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) ، أي وجوههم، لأنه لم ير جملتهم.
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .
أطلق الشهر، وهو اسم لثلاثين ليلة، وأراد جزءاً منه، كذا أجاب به الإمام فخر الدين عن استشكال أن الجزء إنما يكون بعد تمام الشرط، والشرط أن يشهد الشهر، وهو اسم لكله حقيقة، فكأنه أمر بالصوم بعد مضي الشهر، وليس كذلك.
وقد فسره علي وابن عباس وابن عُمر على أن المعنى من شهد أول الشهر فليصم جميعه، وإن سافر في أثنائه.
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، وهو أيضاً من هذا النوع، ويصلح
أن يكون من نوع الحذف.
تنبيه:
ألحق بهذين النوعين شيئان:
أحدهما: وصف البعض بصفة الكل، كقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) .
والخطأ صفة الكل، وُصف به الناصية.
وعكسه: كقوله: (إنّا منكم وَجِلُون) ، والوجل صفة القلب.
(ولَمُلِئْتَ مِنْهُم رُعْبا) .
والرعب إنما يكون في القلب.
والثاني: إطلاق لفظ بعض مرادا به الكل، ذكره أبو عبيدة وخرّج عليه
قوله: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، أي كله.
(وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) .(1/188)
وتعقب بأنه لا يجب على النبي بيان ما اختلف فيه، بدليل الساعة والروح ونحوهما، وبأن موسى كان وعدهم بعذاب ذكره في الدنيا والآخرة، فقال: يصبكم بعذاب في الدنيا - وهو بعض الوعيد - من غير نفي عذاب الآخرة.
ذكره ثعلب.
قال الزركشي: ويحتمل أيضاً أن يقال: إن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه.
فكيف بعضه، ويؤيد ما قاله ثعلب قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) .
الرابع: إطلاق اسم الخاص على العام، نحو، (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) .
الخامس: عكسه، نحو: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، أي للمؤمنين، بدليل قوله: (ويستَغْفِرُون للَّذِين آمنوا) .
السادس: إطلاق اسم الملزوم على اللازم.
السابع: عكسه، نحو: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً) ، أي هل يفعل - أطلق اسم الاستطاعة على الفعل، لأنها لازمة له.
الثامن: إطلاق السبب على السبب، نحو: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) .
(قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) ، أي مطراً يتسبب عنه الرزق واللباس.
(لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) ، أي مؤونة من مَهْرٍ ونفقةٍ وما لا بد للمتزوج منه.
التاسع: عكسه، وهو نحو: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ، أي القبول والعملَ به، لأنه متسبب عن السمع.
تنبيه:
من ذلك نسبةُ الفعل إلى سبب السبب، كقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) .
(كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ، فإن المخرج في الحقيقة هو الله، وسبب ذلك أكل الشجرة، وسبب الأكل وسوسةُ الشيطان.(1/189)
العاشر: تسمية الشيء باسم ما كان عليه، نحو: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)
، أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يُتمْ بعد البلوغ.
(فلاَ تَعْضُلُوهنَّ أنْ يَنْكحْنَ أزواجَهنّ) ، أي الذين كانوا اْزواجهن.
(من يأتِ ربَّه مُجْرِماً) .
سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام.
الحادي عشر: تسميته باسم ما يؤول إليه، (إني أراني أعْصِرُ خَمْراً) .
أي عنباً يؤول إلى الخمرية.
(وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) ، أي صائراً إلى الكفر والفجور.
(حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) .
سماه زوجاً لأن العقد يؤول إلى زوجية لأنها لا تنكح في حال كونها زوجاً.
(فبشّرْنَاه بغُلام حليم) .
(نُبَشِّرُكَ بغلام عَليم) .
وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم.
الثاني عشر: إطلاق اسم الحال على المحل، نحو: (فَفِي رَحْمَةِ الله هم فيها
خالدون) ، أي في الجنة، لأنها محل الرحمة.
(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) ، أي في الليل.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) ، أي عيْنك، على قول الحسن.
الثالث عشر: عكسه، نحو: (فليَدع نادِيَه) ، أى أهل ناديه، أي مجلسه.
ومنه التعبير باليد عن القدرة، نحو: (بِيَدِهِ الملْك) .
وبالقلب عن العقل، نحو: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) ، أي عقول.
وبالأفواه عن الألسن، نحو: (وتقولون بأفْوَاهِكم) .
وبالقرية عن ساكنيها، نحو: (واسألِ القريةَ) .
وقد اجتمع هذا النوع وما قبله في قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، فإن أخذَ الزينة غير ممكن، لأنها مصدر، فالمراد محلّها، فأطلق عليه اسم الحال.
وأخذها للمسجد نفسه لا يجب، فالمراد به الصلاة، فأطلق اسم المحل على الحال.(1/190)
الرابع عشر: تسمية الشيء باسم آلته، نحو: (واجعلْ لي لسانَ صِدْق في
الآخِرين) ، أى ثناء حسناً، لأن اللسان آلته.
(وما أرسلنا مِنْ رسولٍ إلاَّ بِلِسانِ قَوْمه) ، أى بلغة قومه.
الخامس عشر: تسمية الشيء باسم ضده، نحو: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
، والبشارة حقيقة في الخبر السار.
ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه، ذكره السكاكي وخرَّج
عليه قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) .
يعني ما دعاك إلى ألا تسجد.
وسَلِمَ بذلك من دعوى زيادة لا.
السادس عشر: إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيهاً، نحو: (جِدَاراً
يُريدُ أن يَنقَضَّ) ، وصفَه بالإرادة، وهي من صفات الحي تشبيهاً لميله للوقوع بإرادته.
السابع عشر: إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته، نحو: (فإذا
بَلَغْنَ أجلَهُنَّ فأمْسكوهُنّ) ، أي تاربن بلوغ الأجل، أي انقضاء
العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده، وهو في قوله: (فبلغْنَ أجلهنّ فلا
تَعْضُلُوهنّ) - حقيقة.
(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) ، أي فإذا قرب مجيئه.
وبه يندفع السؤال المشهور فيها: إنه عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ) ، أي لو قاربوا أن يتركوا خافوا.
لأن الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده أموات.
(إذا قُمْتُم إلى الصّلاَة فاغْسِلوا) ، أي أردتم القيام.
(فإذا قرأتَ القرآنَ فاسْتَعِذْ) ، أي أردت القراءة، لتكون الاستعاذة
قبلها.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) ، أى أردنا إهلاكها، وإلا لم يصح العطف بالفاء.
وجعل منه بعضهم قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ، أي من يرد الله هدايته، وهو حسن جداً لئلا يتحد الشرط والجزاء.(1/191)
الثامن عشر: القلب، وهو إما قلب إسناد، نحو: (إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) ، أى لتَنوء العصبةُ بها.
(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) .
أي لكل كتاب أجل.
(وحرَّمْنَا عليه المراضِعَ من قبْلُ) ، أي حرمناه على المراضع.
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) ، أي تعرض النار عليهم، لأن المعروض عليه هو الذي له الاختيار.
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) .
أي وإن حبه للخير.
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) ، أي يريد بك الخير.
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ، لأن المتلقي حقيقة هو آدم، كما قرئ
بذلك أيضاً.
أو قلب عطف، نحو: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ) ، أي فانظر ثم تولَّ.
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) .، أي تدلى فدنا، لأنه بالتدلي مال إلى الدنو.
أو قلب تشبيه، وسيأتي في نوعه.
التاسع عشر: إقامة صيغة مقام أخرى، وتحته أنواع كثيرة:
منها: إطلاق المصدر على الفاعل، نحو: (فإنهم عَدُو لي) ، ولهذا أفرده.
وعلى المفعول، نحو: (ولا يُحِيطون بشيء من عِلْمِه) ، أي من معلومه.
(صُنْعَ اللهِ) ، أي مصنوعه.
(وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ، أي مكذوب فيه، لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام.
ومنه إطلاق البُشرى على المبشّر به، والهوى على المهوي، والقول على القول.
ومنها إطلاق الفاعل على المصدر، نحو: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) ، أي تكذيب.
وإقامة المفعول مقام المصدر، نحو: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، أي الفتنة، على أن الباء غير زائدة.
ومنها: إطلاق فاعل على مفعول، نحو: (مَاءٍ دَافِقٍ) ، أي مدفوق.(1/192)
(لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ، أي لا معصوم.
(جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) ، أي مأموناً فيه.
وعكسه، نحو: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ، أي آتياً.
(حِجَابًا مَسْتُورًا) ، أي ساتراً.
وقيل: هو علي بابه، أي مستوراً عن العيون لا يحس به أحد.
ومنها: إطلاق فعيل بمعنى مفعول، نحو: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) .
ومنها: إطلاق واحد من المثنى والمفرد والجمع على آخر منها.
مثال إطلاق المفرد على المثنى، نحو: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) .
أي يرضوهما، فأفرد لتلازم الرضاءين.
وعلى الجمع (إن الإنسانَ لفي خُسْر) ، أي الأناس، بدليل الاستثناء منه.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) ، بدليل: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) .
ومثال إطلاق المثنى على المفرد: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ) ، أي ألق.
ومنه كل فعل نُسب إلى شيئين، وهو لأحدهما فقط، نحو: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العَذْب.
ونظيره: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ)
، وإنما تخرج الحلية من الملح.
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) .، أي في إحداهن.
(نَسِيَا حُوتَهما) ، والناسي يوشع.
بدليل قوله لموسى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) ، وإنما أضيف النسيان إليهما معاً.
لسكوت موسى عنه.
(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) .
والتعجيل في اليوم الثاني.
(عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) .
قال الفارسي: أي من إحدى القريتين.
وليس منه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) .
وإن المعنى جنة واحدة، خلافاً للفراء.
وفي كتاب " ذا القدّ " لابن جنّي: أن منه:(1/193)
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) .
وإنما المتخذ إلهاً عيسى دون مريم.
ومثال إطلاقه على الجمع: (ثم ارْجع البَصَر كرَّتين) ، أي كرات، لأن البصر لا يحسر إلا بها.
وجعل منه بعضهم: (الطلاقُ مرَّتان) .
ومثال إطلاق الجمع على المفرد: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ، أي ارجعني.
وجعل منه ابن فارس: (فناظِرةٌ بِمَ يَرْجع المرسلون) .
والرسول واحد، بدليل: ارجع إليهم.
وفيه نظر، لأنه يحتمل أنه خاطب رئيسهم، لا سيما وعادة الملوك جارية ألا يرسلوا واحداً.
وجعل منه: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) .
(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) ، أي جبريل.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) . والقاتل واحد.
ومثال إطلاقه على المثنى: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ف.
(قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ) .
(فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، أي أخوان.
(فقد صَغَتْ قلوبُكما) ، أي قلباكما.
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) ... إلى قوله:
(وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) .
ومنها إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه، لمحو: (أتى أمْرُ اللَهِ)
، أي الساعة، بدليل: (فلا تستعجلوه) .
(ونُفِخَ في الصّورِ فصعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ) .
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) .
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) .
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ) .
وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار، فكأنه وقع واستمر، نحو: (أتأمُرون
الناسَ بالبِرِّ وتنْسَوْنَ أنفُسَكم) .
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)
أي قلت.(1/194)
(ولقد نعْلَمُ) ، أي علمنا.
(قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي علم.
(فلِمَ تقتلونَ أنبياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) ، أي قَتلْتُم.
وكذا: (فريقاً كذَّبْتُم وفريقاً تقْتُلون) .
(ويقول الذين كفروا لسْتَ مُرْسلاً) ، أي قالوا.
ومن لواحق ذلك التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو المفعول، لأنه حقيقة في
الحال لا في الاستقبال، نحو: (وإنّ الدينَ لواقع) .
(ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) .
ومنها إطلاق الخبر على الطلب أمراً أو نهياً أو دعاء، مبالغة في الحث عليه.
حتى كأنه وقع وأخبر عنه.
قال الزمخشري: ورودُ الخبر، والمراد به الأمر أو النهي أبلغ من صريح الأمر أو النهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال، وأخبر عنه، نحو: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) .
(والمطققَاتُ يتربَّصن) .
(فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) - على قراءة الرفع.
(وما تُنْفِقون إلا ابتغًاءَ وجْه الله) ، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله.
(لا يمسّه إلا المطَهّرون) .
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) ، أي لا تعبدوا، بدليل قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) .
(لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) ، أي اللهم اغفر لهم.
وعكسه، نحو: (فليَمْدُدْ له الرْحمنُ مَدًّا) ، أي يمد.
(اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) ، أي ونحن حاملون، بدليل: (وإنهم لكاذِبون) . والكذِبُ إنما يرِدُ على الخبر.
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا) .
وقال الكواشي في الآية الأولى: الأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر، لتضمّنه
اللزوم، نحو: إن زرتنا فلنكرمك، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم.
وقال ابن عبد السلام: لأن الأمر للإيجاب فأشبه الخبرية لإيجابه (1) .
__________
(1) قال العلامة الدمياطي:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وكذا أبو جعفر ويعقوب () فلا رفث ولا فسوق () بالرفع والتنوين وافقهم ابن محيصن واليزيدي والحسن وقرأ أبو جعفر ولا جدال كذلك بالرفع والتنوين وافقه الحسن ووجه رفع الأولين مع التنوين أن الأول اسم لا المحمولة على ليس والثاني عطف على الأول ولا مكررة للتأكيد ونفي الاجتماع وبناء الثالث على الفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج لأن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام فرفع الخلاف بأن أمروا أن يقفوا كغيرهم بعرفة وأما الأول فعلى معنى النهي أي لا يكونن رفث ولا فسوق
وقرأ الباقون الثلاثة بالفتح بلا تنوين على أن لا لنفي الجنس عاملة عمل أن مركبة مع اسمها كما لو انفردت. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. 1 / 176 ـ 177) .(1/195)
ومنها: وضع النداء موضع التعجب، نحو: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) .
قال الفراء: معناه يا لها من حسرة.
وقال ابن خالويه: هذه من أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة لا تنادى، وإنما ينادى الأشخاص، لأن فائدته التنبيه، ولكن المعنى على التعجب.
ومنها: وضع مجموع القلة موضع الكثرة، نحو: (وهم في الغُرفَاتِ آمِنُون) .
وغرف الجنة لا تحصى.
(هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) .
ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة.
(يتوفى الأنْفُس) ، (أياماً مَعْدُودات) .
ونكتة التقليل في هذه الآية التسهيل على المكلفين.
وعكسه، نحو: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) .
ومنها: تذكير المؤنث على تأويله بمذكر، نحو: (فمن جاءه موعظةٌ من ربه) ، أي وعظ.
(وأحْيَيْنَا به بلدةً مَيْتاً) ، على تأويل البلدة بالمكان.
(فلما رأى الشمس بازِغَة قال هذا ربي) ، أى الشمس أو الطالع.
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
قال الجوهري: ذُكّرت على معنى الاستحسان.
وقال الشريف المرتضى قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) : إن الإشارة للرحمة، وإنما لم يقل " ولتلك " لأن تأنيثها غير حقيقي، ولأنه يجوز أن يكون في تأويل أن يرحم.
ومنها: تأنيث المذكر، نحو: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) .
أنث الفردوس - وهو مذكر - حملاً على معنى الجنة.
(مَنْ جاءَ بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) ، أنث عشراً حيث حذف الهاء
مع إضافتها إلى الأمثال وواحدها مذكر، فقيل لإضافة الأمثال إلى مؤنث، وهو ضمير الحسنات، فاكتسب منها التأنيث.
وقيل: هو من باب مراعاة المعنى، لأن الأمثال في المعنى مؤنثة، لأن مثل الحسنة حسنة، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها.
وسيأتي في آخر الكتاب في القواعد المهمة قاعدة في التذكير والتأنيث.(1/196)
ومنها: التغليب، وهو إعطاء شيء حكم غيره.
وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين، نحو: (وكانت من الْقَانتين) .
(إلا امرأته كانتْ مِن الغابرين) .
والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من الذكر بحكم التغليب.
(بل أنتم قومٌ تجْهَلون) ، أتى بتاء الخطاب تغليباً لجانب أنتم على جانب قوم.
والقياس أن يؤتى بياء الغيبة، لأنه صفة لقوم، وحسَّن العدول عنه وقوع الموصوف خبراً عن ضمير المخاطبين.
(اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ) ، غّلب في الضمير المخاطبين
وإن كان (منْ تبعك) يقتضي الغيبة، وحسنّه لأنه لما كان الغائب تبعا
للمخاطب في المعصية والعقوبة جُعل تبعاً له في اللفظ أيضاً.
وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، غلّب غير العاقل حيث أتى "بما" لكثرته.
وفي آية أخرى عبّر بمَنْ، فغلب العاقل لشرفه.
(لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) .
أدخل شعيب في "لَتَعُودُنَّ" بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود فيها.
وكذا قوله: (إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم) .
(فسجد الملائكة ُ كلهم أجمعونَ إلا إبليس) .
عُدّ منهم بالاستثناء تغليبا لكونه كان بينهم.
(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) ، أي الشرق والمغرب.
قال ابن الشجري: وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين.
(مَرجَ البَحْرَيْنِ) ، أي الملح والعذب، والبحر خاص بالملح، فغلّب لكونه أعظم.
(ولكل درجاتٌ) ، أي من المؤمنين والكفار، والدرجات للعلو
والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليباً للأشرف.
قال في البرهان: وإنما كان التغليب من باب المجاز، لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وُضع له، وكذا باقي الأمثلة.(1/197)
ومنها: استعمال حروف الجر في غير معانيها الحقيقية كما تقدم.
ومنها: استعمال صيغة أفعل لغير الوجوب وصيغة " لا تفعل" لغير التحريم.
وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور أو التصديق، وأدوات التمني والترجي
والنداء لغيرها، كما سيأتي.
ومنها: التضمين، وهو إعطاء الشيء معنى الشىء، ويكون في الحروف
والأفعال والأسماء، وسيأتي في حروف الجر.
وأما الأفعال فإنه تضمين فعل معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين معاً، وذلك بأن يأتي الفعل متعدياً بحرفٍ ليس من عادته التعدي به، فيحتاج
إلى تأويله أو تأويل الحرف ليصح التعدي به، الأول تضمين الفعل، والثاني
تضمين الحرف.
واختلفوا أيهما أولى، فقال أهل اللغة وقوم من النحاة: التوسع في الحرف.
وقال المحققون: التوسع في الفعل، لأنه في الأفعال أكثر، مثاله: (عَيْناً يشربُ بها عبادُ الله) .
فيشرب إنما يتعدى بمن، فتعديتُه بالباء إما على تضمينه معنى يروى ويلتذ، أو بتضمين الباء معنى من.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) .
فالرفث لا يتعدى بإلى إلا على تضمين معنى الإفضاء.
(هل لك إلى أنْ تزكّى) .
والأصل في، أو تضمين معنى أدعوك.
(يقْبَلُ التوبةَ عن عباده) .
عُدّيت بعَنْ لتضمينها معنى العفو والصفح.
وأما في الأسماء فإنه تضمين اسم معنى اسم لإفادة معنى الاسمين معاً، نحو
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، ضمّن (حَقِيقٌ) معنى حريص، ليفيد أنه محقوق يقول الحق وحريص عليه، وإنما كان التضمين
مجازا، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، فالجمع بينهما مجاز.(1/198)
فصل في أنواع مختلف في عدها من المجاز
وهي ستة:
أحدها: الحذف، فالمشهور أنه من المجاز، وأنكره بعضهم، لأن المجاز
استعمال اللفظ في غير موضعه، والحذف ليس كذلك.
وقال ابن عطية: حذف المضاف هو عين المجاز ومعظمه، وليس كل حذف
مجازاً.
وقال الفراء: في الحذف أربعة أقسام:
قسم يتوقف عليه صحة اللفظ ومعناه من حيث الإسناد، نحو (واسأل
القَرْيَة) ، أي أهلها، إذ لا يصح إسناد السؤال إليها.
وقسم يصح بدونه، لكن يتوقف عليه شرعا كقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .
أي فأفطر فعدة.
وقسم يتوقف عليه عادة لا شرعًا، نحو: (اضرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَق) .
أي فضربه.
وقسم يدل عليه دليل غير شرعي ولا هو عادة، نحو: (فقبضْتُ قبضةً من
أثر الرسول) ، دلّ الدليل على أنه إنما قبض قبضة من أثر حافر
فرس الرسول.
وليس في هذه الأقسام مجاز إلا الأول.
وقال الزنجاني في المعيار: إنما يكون مجازًا إذا تغير حكم، فأما إذا لم يتغير
كحذف خبر المبتدأ المعطوف على جملة فليس مجازًا، إذ لم يتغير حكم ما بقي من الكلام.
وقال القزويني في الإيضاح: من تغيَّر إعراب الكلمة بحذف أو زيادة فهو
مجاز، نحو: (واسأل القرية) .
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .(1/199)
فإن كان الحذف والزيادة لا يوجب تغيُّر الإعراب، نحو: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) ، (فَبِمَا رحمةٍ) ، فلا توصف الكلمة بالمجاز.
الثاني: التأكيد، زعم قوم أنه مجاز، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده الأول.
والصحيح أنه حقيقة.
قال الطرطوسي في العمدة: ومَنْ سماه مجازاً قلنا له: إذا كان التأكيد بلفظ
الأول، نحو: عجل عجل ونحوه، فإن جاز أن يكون الثاني مجازاً جاز في الأول، لأنهما في لفظ واحد، إذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه، لأنه مثل الأول.
الثالث: التشبيه: زعم قوم أنه مجاز، والصحيح أنه حقيقة.
قال الزنجاني في " المعيار ": لأنه معنى من المعاني، وله ألفاظ تدل عليه وضعا
فليس فيه نقلُ اللفظ عن موضوعه.
وقال عز الدين: إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذف فهو مجاز بناء على أن
الحذف من باب المجاز.
الرابع: الكناية، وفيها أربعة مذاهب:
أحدها: أنها حقيقة.
قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر، لأنها استعملت فيما وضعت له، وأريد به الدلالة على غيره.
الثاني: أنها مجاز.
الثالث: أنها لا حقيقة ولا مجاز، وإليه ذهب صاحب التلخيص لمنعه في
المجاز أن يراد المعنى الحقيقي مع المجازي وتجويزه ذلك فيها.
الرابع: وهو اختيار الشيخ تقي الدين السبكي أنها تنقسم إلى حقيقة ومجاز، فإن استعملْتَ اللفظ في معناه مراداً منه لازم المعنى أيضاً فهو حقيقة، وإن لم
يرد المعنى، بل عبّر بالملزوم عن اللازم فهو مجاز لاستعماله في غير ما وُضع له.(1/200)
والحاصل أن الحقيقة منها أن يُستعمل اللفظ فيما وضع له ليفيد غير ما وضع
له، والمجاز منها أن يريد بها غير موضوعها استعمالاً وإفادة.
الخامس: التقديم والتأخير: عده قوم من المجاز، لأن تقديم ما رتبته التأخير
كالمفعول، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل - نقْلٌ لكل واحد منهما عن رتبته وحقه.
قال في البرهان: والصحيح أنه ليس منه، فإن المجاز نقل ما وضع إلى ما لم
يوضع له.
السادس: الالتفات، قال الشيخ بهاء الدين السبكي: لم أر مَنْ ذكر هل هو
حقيقة أو مجاز.
قال: وهو حقيقة حيث لم يكن معه تجريد.
فصل فيما يوصف بأنه حقيقة أو مجاز باعتبارين
هو الموضوعات الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فإنها حقائق بالنظر إلى الشرع مجازات بالنظر إلى اللغة.
فصل في الواسطة بين الحقيقة والمجاز
قيل بها في ثلاثة أشياء -:
أحدها: اللفظ قبل الاستعمال، وهذا القسم مفقود في القرآن، ويمكن أن
يكون منه أوائل السور على القول بأنها للإشارة إلى الحروف التي يتركب منها
الكلام.
ثانيها: الأعلام.
ثالثها: اللفظ المستعمل في المشاكلة، نحو: (ومَكرُوا ومَكر الله) ، (وجَزَاء سيِّئةٍ مِثْلها) .
ذكر بعضهم أنها(1/201)
واسطة بين الحقيقة والمجاز، قال: لأنه لم يوضع فيما استعمل فيه، فليس حقيقة، ولا علاقة معتبرة، فليس مجازًا، كذا في شرح بديعية ابن جابر لرفيقه.
قلت: والذي يظهر أنها مجاز، والعلاقة المصاحبة.
خاتمة
لهم مجاز المجاز، وهو أن يُجْعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة
بالنسبة إلى مجاز آخر، فيتجوّز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما، كقوله
تعالى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) ، فإنه مجاز عن مجاز، فإن الْوَطْء تجوز عنه بالسر، لكونه لا يقع غالبا إلا في السر، وتجوز به عن العقد، لأنه مسبب عنه، فالمصحح للمجاز الأول الملازمة والثاني السببية.
والمعنى لا تواعدوهن عقد نكاح.
وكذا قوله: (ومَنْ يكفر بالإيمانِ فقد حَبِطَ عَمَله) ، فإن قول: (لا إله إلا الله) مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ، والعلاقة السببية، لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان، والتعبير بلا إله إلا الله
عن الوحدانية من مجاز التعبير بالقول عن المقول فيه.
وجعل منه ابن السيد قوله: (أنزلنا عليكم لِبَاساً) ، فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس، بل الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس.
*******
الوجه الرابع والعشرون من وجوه إعجازه (تشبيهه واستعاراته وهو من أشرف أنواع البلاغة وأعلاها)
قال المبرد في الكامل: لو قال قائل هو أكثر كلام العرب لم يبعد.
وقد أفرد تشبيهات القرآن بالتصنيف أبو القاسم بن البندار البغدادي في كتاب سماه " الجمان ".
وعرفه جماعة منهم السكاكي بأنه الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى.(1/202)
وقال ابن أبي الإصبع: هو إخراج الأغمض إلى الأظهر.
وقال غيره: هو إلحاق شيء بذي وصف في وصفه.
وقال بعضهم: هو أن تثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به.
والغرض منه تأنيس النفس بإخراجها من خفيّ إلى جَلِيّ، وإدنائه البعيد من
القريب ليفيد بيانا.
وقيل: الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار.
وأدواته حروف وأسماء وأفعال:
فالحروف: الكاف، نحو (كرَمَادٍ) .
وكأنّ، نحو: (كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) .
والأسماء: مثل، وشبه، ونحوهما مما يشتق من المماثلة والمشابهة.
قال الطيبي: ولا تستعمل مثل إلا في حال أو صفة لها شأن وفيها غرابة، نحو: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) .
والأفعال، نحو: (يَحْسَبه الظَّمْآنُ ماءً) .
(يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهم أنها تَسْعَى) .
قال في التلخيص - تبعاْ للسكاكي: وربما يُذكر فعلٌ يُنْبئ عن التشبيه فيؤتى بالتشبيه القريب، بنحو: علمت زيداً أسداً الدال على التحقيق.
وفي البعد بنحو: حسبتُ زيدأ أسداًا لدال على الظن وعدم التحقيق.
وخالفه جماعة منهم الطيبي فقالوا في كون هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه نوع
خفاء.
والأظهر أن الفعل ينبئ عن حال التشبيه في القرب والبعد، وأن الأداة
محذوفة مقدَّرة لعدم استقامة المعنى بدونه.(1/203)
ذكر أقسامه
ينقسم التشبيه باعتبارات:
الأول: باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام، لأنهما إما حسيّان، أو عقليان، أو
المشبه به حسي والمشبه عقلي، أو عكسه.
مثال الأول: (والقمرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عادَ كالْعُرْجونِ القديم)
، (كأنَّهم أعجازُ نَخْل مُنْقَعِر) .
ومثال الثاني: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) .
وكذا مثَّل به في البرهان، وكأنه ظن أن التشبيه واقع في
القسوة وهو غير ظاهر، بل هو واقع بين القلوب والحجارة، فهو من الأول.
ومثال الثالث: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) .
ومثال الرابع لم يقع في القرآن، بل منعه الإمام أصلاً، لأن العقل مستفاد من
الحس، فالمحسوس أصل للمعقول، وتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً، وهو غير جائز.
وقد اختلف في قوله تعالى: (هُن لِبَاسٌ لكم وأنتُم لِبَاس لهُنَّ) .
الثاني: ينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب، والمركب أن ينتزع وجه
الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله: (كمثَلِ الحِمَارِ يحملُ أسفاراً) ، فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ
نافع مع تحمّل التعب في استصحابه.
وقوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ... )
إلى قوله: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)
، فإنَّ فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضّيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس(1/204)
بها - بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه
الأرض، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها.
وظنوا أنها مسلَّمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس.
وقال بعضهم: وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران:
أحدهما: أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تغررت، وإن أخذت قدر
الحاجة انتفعت به، فكذلك الدنيا.
والثاني: أن الماء إذا أطبقت عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك
الدنيا.
وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) .
شبه نورهُ الذي يلقيه في قلب المؤمن بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة إما بوضعه في مشكاة - وهي الطاقة التي لا تنفذ، وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للبصر.
وقد جُعل فيها مصباح في داخل زجاجة تشبه الكوكب الدُّرِّي في صفائها، ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقوداً، لأنه من زيت شجرة في وسط السراج، لاشرقية ولا غربية، فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل تصيبها الشمس أعدل إصَابة.
وهذا مثل ضربه الله للمؤمن، ثم ضرب للكافر مثلين: أحدهما: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) ، والآخر: (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) .
وهو أيضاً تشبيه مركب.
الثالث: ينقسم باعتبار آخر إلى أقسام:
أحدها: تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع، اعتمادا على معرفة النقيض
والضد، فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة، كقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) .
شبّه بما لا يُشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانا.(1/205)
الثاني: عكسه، وهو تشبيه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه، كقوله:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) .
أخرج ما لا يحس - وهو الإيمان - إلى ما يحس وهو السراب.
والمعنى الجامع بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة.
الثالث: إخراج ما لا تجري العادة به إلى ما جرت، كقوله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) .
والجامع بينهما الارتفاع في الصورة.
الرابع: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها، كقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .
والجامع العظم، وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة.
الخامس: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، كقوله تعالى:
(وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) .
والجامع فيهما العظم، ولفائدته إبانة القدرة على تسخير الأجسام العظام في ألطف ما يكون من الماء، وما في ذلك من انتفاع الخلق بحمل الأثقال وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة، وما يلازم ذلك من تسخير الرياح للإنسان، فتضمّن ذلك نبأ عظيما من الفخر وتعداد النعم، وعلى هذه الأوجه الخمسة تجرى تشبيهات القرآن.
الرابع: ينقسم باعتبار آخر إلى مؤكد، وهو ما حذفت فيه الأداة، نحو:
(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) ، أي مثل مر السحاب.
(وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) .
ومرسل، وهو ما لم يحذف، كالآيات السابقة.
والمحذوف الأداة أبلغ، لأنه نُزّل فيه الثاني منزلة الأول تجوزا.(1/206)
قاعدة
الأصل دخول أداة التشبيه على المشبَّه به، وقد تدخل على المشبه، إما لقصد المبالغة فيُقلب التشبيه ويجعل المشبه هو الأصل، نحو: (قالوا إنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الربا) ، كان الأصل أن يقولوا إنما الربا مثل البيع، لأن الكلام في الربا لا في البيع، فعدلوا عن ذلك وجعلوا الربا أصلا ملحقاً به البيع
في الجواز، وأنه الخليق بالحِلِّ.
ومنه قوله تعالى: (أفَمَنْ يخْلُقُ كمَنْ لا يخْلُقُ) ، فإن الطْاهر العكس، لأن الخطاب لعبدة الأوثان الذين سموها آلهة تشبيهاً بالله سبحانه، فجعلوا غير الخالق مثل الخالق، فخولف في خطابهم، لأنهم بالغوا في
عبادتهم، وغلوا حتى صارت عندهم أصلاً في العبادة، فجاء الرد على وفق ذلك.
وإما لوضوح الحال، نحو: (وليس الذَّكَرُ كالأنثَى) .
فإن الأصل: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن الأصل، لأن المعنى: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهبت.
وقيل: لمراعاة الفواصل، لأن قبله: إني وضعتها أنثى.
وقد تدخل على غيرهها اعتمادا على فَهْم المخاطب، نحو: (كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) .
المراد كونوا أنصار الله حالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا.
قاعدة أخرى
القاعدة في الذم تشبيه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى.
وفي المدح تشبيه الأدنى بالأعلى، لأن الأعلى ظاهِرٌ عليه، فيقال في المدح: حصى كالياقوت.
وفي الذم: ياقوت كالزجاج، وكذا في السلب.
ومنه، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) ، أي في النزول لا في العلو.
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) .(1/207)
أي في سوء الحال، أى لا نجعلهم كذلك.
نعم أورد على ذلك: (مثَلُ نُورِهِ كمِشْكَاةٍ فيها مِصْبَاحٌ) .
شبه فيه الأعلى بالأدنى لا في مقام السلب.
وأجيب بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين، إذ الأعلى من نوره مشبه به.
فائدة
قال ابن أبي الإصبع: لم يقع في القرآن تشبيه شيئين بشيئين ولا أكثر من
ذلك، وإنما وقع فيه تشبيه واحد بواحد.
زُوِّج المجاز بالتشبيه فتولد بينهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة.
ويقال في تعريفها: اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي.
والأصح أنها مجاز لغوى، لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم
منهما، فـ "أسد" في قوله: رأيت أسداً يرمى - موضوع للأسد لا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما، كالحيوان الجريء مثلاً، ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما.
وقيل مجاز عقلي، بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوى، لأنها لا
تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، فكأن استعمالها فيما وُضعت له فتكون حقيقة لغوية، ليس فيها غير نقل الاسم وحده.
وليس نقل الاسم المجرد استعارة، لأنه لا بلاغة فيه، بدليل الأعلام
المنقولة، فلم يبق إلا أن يكون مجازاً عقلياً.
وقال بعضهم: حقيقة الاستعارة أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى
شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجليّ، أو حصول المبالغة، أو المجموع، مثال إظهار الخفي: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) .(1/208)
فإن حقيقته: وإنه في أصل الكتاب، فاستعير لفظ الأم
للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول.
وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئياً، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليّاً: (واخْفِضْ لهما جنَاحَ الذّل مِنَ
الرحْمَة) ، فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة، فاستعير
للذل أولاً جانب ثم للجانب جناحاً.
وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لها جناح الذل، أي اخفض جانبك ذلاَّ.
وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئياً لأجل حسن البيان.
ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يُبقي الولد من الذل لها
والاستكانة ممكناً احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ
الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن مَنْ مَال جانبه إلى جانب السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه.
والمراد خفضٌ يلصق الجنب بالأصل ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر.
ومثال المبالغة: (وفَجَّرْنَا الأرضَ عُيوناً) .
وحقيقته: وفجرنا عيون الأرض، ولو عبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيوناً.
فرع
أركان الاستعارة ثلاثة: مستعار، وهو اللفظ المشبه به.
ومستعار منه، وهو اللفظ المشبه.
ومستعار له، وهو المعنى الجامع.
وأقسامها كثيرة باعتبارات، فتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام:
أحدها: استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، نحو: (واشْتَعَلَ الرأس
شَيْباً) ، فالمستعار منه هو النار، والمستعار له الشيب، والوجه هو(1/209)
الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيب، وكل ذلك محسوس.
وهو أبلغُ مما لو قيل: اشتعل شيب الرأس، لإفادته عموم الشيب لجميع الرأس.
ومثله: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) .
أصل الموج حركة الماء، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.
والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه من الكثرة.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ، استعير خروج النفَس شيئاً فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا، بجامع التتابع على طريق التدريج.
وكل ذلك محسوس.
الثاني: استعار محسوس لمحسوس بوجه عقلي، قال ابن أبي الإصبع: وهي
ألطف من الأولى، نحو: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) .
فالمستعار منه السلخ الذي هو كشط الجلد عن الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وحصوله عقب حصوله، كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل.
والترتب أمر عقلي.
ومثله: (فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) .
أصل الحصيد النبات، والجامع الهلاك، وهو أمر عقلي.
الثالث: استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي.
قال ابن أبي الإصبع: وهي ألطف الاستعارات، نحو: (مَنْ بعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) .
المستعار منه الرقاد، أي النوم، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل، والكل عقلي.
ومثله: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) .
والمستعار السكوت، والمستعار منه الساكت، والمستعار له الغضب.
الرابع: استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي أيضاً، نحو: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) .
استعير المس، وهو حقيقة في الأجسام، وهو محسوس، لمقاساة الشدة، والجامع اللحوق، وها عقليان.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) .
فالقذف والدمْغ مستعاران، وها محسوسان.(1/210)
والحق والباطل مستعار لهما، وهما معقولان.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) .
استعير الحبل المحسوس للعهد وهو معقول.
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) .
استعير الصدع، وهو كسر الزجاجة، وهو محسوس، للتبليغ وهو معقول.
والجامع التأثير وهو أبلغ من بلِّغ، وإن كان بمعناه، لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا" يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزما.
(واخفِضْ لهما جناحَ الذل) .
قال الراغب: لما كان الذل على ضربين: ضرب يَضَع الإنسان، وضرب
يرفعه، وقصد في هذا المكان إلى ما يرفع استعير لفظ الجناح، فكأنه قيل استعمل الذل الذي يرفعك عند الله.
وكذا قوله: (الذينَ يَخوضُون في آياتنا) .
(فَنَبَذُوه ورَاء ظُهورِهم) .
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) .
(وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) .
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .
(فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) .
(فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) .
(ولا تجعَلْ يَدَك مغلولةً إلى عُنقك) .
كلها من استعارة المحسوس للمعقول.
والجامع عقلي.
الخامس: استعارة معقول لمحسوس، والجامع عقلي أيضاً، نحو: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) .
المستعار منه التكبر وهو عقلي، والمستعار له كثرة الماء وهو حسي، والجامع الاستعلاء وهو عقلي أيضاً.
ومنه: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) .
(وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) .
وتنقسم باعتبار اللفظ إلى: أصلية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس كآية: بحبل الله. من الظلمات إلى النور.
في كل وَادٍ.
وتبعية، وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس، كالفعل والمشتقات، كسائر(1/211)
الآيات السابقة، وكالحروف، نحو: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) .
شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب غلبة
الغائية عليه، ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به.
وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحَة، ومجَرَّدة، ومطلَقة:
فالأولى: وهي أبلغها - أن تقترن بما يلائم المستعار منه، نحو: (أولئكَ الذين
اشتَرَوُا الضلالةَ بالهُدَى فما رَبِحَتْ تجارتُهم) .
استعير الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قُرن بما يلائمه من الربح والتجارة.
والثانية: أن تقترن بما يلائم المستعار له، نحو: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) .
استعير اللباس للجوع، ثم قُرن بما يلائم المستعار له
من الإذاقة، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، لكن التجريد أبلغ لما في لفظ
الإذاقة من المبالغة في الألم باطناً.
والثالثة: ألا تقترن بواحد منهما.
وتنقسم باعتبار آخر إلى: تحقيقية، وتخييلية، ومكنية، وتصريحية:
فالأولى: ما تحقق معناها حساً، نحو: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) .
أو عقلا، نحو: (وأنزَلْنَا إليكم نُوراً) .
أى بياناً واضحاً وحجة دامغة.
(اهْدِنا الصراطَ المستقيم) .
أى الدين الحق، فإن كلاًّ منهما متحقق عقلاً.
والثانية: أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى
المشبه، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يَثْبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، ويسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية ومكنياً عنها، لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه.
ويقابله التصريحية.
ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه(1/212)
استعارة تخييلية، لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه وقوامه في وجه الشبه، لتخيل أن المشبَّه من جنس المشبه به.
ومن أمثلة ذلك: (الذين ينقضُونَ عَهْدَ اللَهِ مِنْ بعْدِ ميثاقِه) .
شبه العهد بالحبل، وأضمر في النفس، فلم يصرح بشيء من أركان التشبيه
سوى العهد المشبه، ودل عليه بإثبات النقيض الذي هو من خواص المشبه به، وهو الحبل.
وكذا ة (واشتعل الرأسُ شَيْبا) .
طوى ذكر المشبه به وهو النار، ودل عليه بلازمه وهو الاشتعال.
(فَأَذَاقَهَا اللَّهُ) .
شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر فأوقع
عليه الإذاقة.
(ختم اللهُ على قلوبهم) .
شبهها في ألا تقبل الحق بالشيء الموثوق المختوم، ثم أثبت لها الختم.
(جِدَاراً يُريدُ أنْ ينْقَضَّ) .
شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي، فأثبت له الإرادة التي هي
من خواص العقلاء.
ومن التصريحية آية: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) .
(مَنْ بعثَنَا مِنْ مَرْقَدِنا) .
وتنقسم باعتبار آخر إلى وفاقية، بأن يكون اجتماعهما في شيء ممكناً، نحو:
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، أي ضالاً فهديناه.
استعير الإحياء من جعل الشيء حياً - للهداية التي هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء.
وعنادية، وهي ما لا يمكن اجتماعهما في شيء، كاستعارة اسم المعدوم
للموجود لعدم نفعه، واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع.
ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض، نحو: (فبَشِّرْهُم بعذابٍ أليم) ، أي أنذرهم.
استُعيرت البشارة وهي في الإخبار بما يسر للإنذار الذي هو ضده بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء، ونحو: (إنَّكَ لأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيد) .
عنوا الغوى السفيه تهكماً.
(ذُقْ إنكَ أنْتَ العزيزُ الكريم) .(1/213)
وتنقسم باعتبار آخر إلى: تمثيلية، وهي أن يكون وجه الشبه فيها منتزعاً من
متعدد، نحو: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) .
شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته والنجاة من المكاره باستمساك الواقع في مَهْوَاةٍ بحبل وثيق مدَلَّى من مكان مرتفع يؤمَن انقطاعه.
تنبيه
قد تكون الاستعارة بلفظين، نحو: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) .
يعني تلك الأواني ليست من الزجاج ولا من الفضة، بل وصفاء
القارورة وبياض الفضة.
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) .
فالصب كناية عن الدوام، والسوط عن الإيلام، فالمعنى عذبهم عذاباً دائماً مؤلما.
فائدة
أنكر قوم الاستعارة بناء على إنكارهم المجاز، وقوم إطلاقها في القرآن، لأن
فيها إيهاماً للحاجة، ولأنه لم يرد في ذلك إذْنٌ من الشرع، وعليه القاضي
عبد الوهاب المالكي.
وقال الطرطوسي: إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها، وإن امتنعوا امتنعنا، ويكون هذا من قبيل أن الله عالم، والعلم هو العقل، ثم لا نَصِفُه به لعدم التوقيف. انتهى.
فائدة ثانية
تقدم أن التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها.
واتفق البلغاء على أن الاستعارة أبلغ منه، لأنها مجاز وهو حقيقة، والمجاز أبلغ، فإذاً الاستعارة أعلى مراتب الفصاحة، وكذا الكناية أبلغ من التصريح.
والاستعارة أبلغ من الكناية كما قال في عروس الأفراح: إنه الظاهر، لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة، ولأنها مجاز قطعاً.
وفي الكناية خلاف.
وأبلغ أنواع الاستعارة التمثيلية، كما يؤخذ من الكشاف، ويليها المكنية،(1/214)
صرح به الطيبي لاشتالها على المجاز العقلي.
والترشيحية أبلغ من المجردة والمطلقة.
والتخييلية أبلغ من التحقيقية.
والمراد بالأبلغية إفادة زيادة التأكيد والمبالغة في
كمال التشبيه، لا زيادة في المعنى لا توجد في غير ذلك.
خاتمة
من المهم تحرير الفرق بين الاستعارة والتشبيه المحذوف الأداة، نحو: زيد
أسد، قال الزمخشري في قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) .
فإن قلت: فهل يسمى ما في الآية استعارة؟
قلت: مختلف فيه.
والمحققون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة، لأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون، وإنما تطلق الاستعارة حيث يُطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خِلْوا عنه صالحاً لأن يراد المنقول عنه والمنقول له لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام.
ومن ثَمَّ ترى المفْلِقين المهرة يتناسَوْن التشبيه، ويضربون عنه صفحاً.
وعلله السكاكي بأن من شرط الاستعارة إمكانَ حمل الكلام على الحقيقة في
الظاهر وتنَاسي التشبيه، و" زيد أسد" لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز أن يكون استعارة.
وتابعه صاحب الإيضاح.
وقال في عروس الأفراح: وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة
صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر.
قال: بل لو عكس ذلك، وقال: لا بد من صلاحيته لكان أقرب، لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، فإن لم تكن له قرينة امتنع صرفُه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة: إما لفظية أو معنوية، نحو: زيد أسد.
فالإخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقته.
قال: والذي نختاره في نحو " زيد أسد " أنه قسمان: تارة يُقصد به التشبيه.
فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة فلا تكون مقدّرة، ويكون الأسد مستعملاً في حقيقته، وذكر " زيد " والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقةً(1/215)
قرينة - صارفة إلى الاستعارة دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة
صرنا إليه، وإن لم تكن فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار
إليها.
ومِمّن صرح بهذا الفرق عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة، وكذا قال
حازم: الفرق بينهما أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف
التشبيه لا يجوز فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك، لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه.
*******
الوجه الخامس والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الكناية والتعريض)
وقد قدمنا آنفاً أن الكناية أبلغ من التصريح، وها من أنواع البلاغة وأساليبِ
الفصاحة.
وعرّفها أهل البيان بأنها لفظ أريد به لازم معناه.
وقال الطيبي: ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم، فينتقل منه إلى
الملزوم.
وأنكر وقوعها في القرآن من أنكر المجاز فيه بناء على أنها مجاز.
وقد تقدم الخلاف في ذلك.
وللكناية أسباب:
أحدها: التنبيه على عظم القدرة، نحو: (هو الذي خلقكم مِنْ نفْس
واحدة) ، كناية عن آدم.
وثانيها: ترك اللفظ إلى ما هو أجل، نحو: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) ، فكنى بالنعجة عن المرأة (1) كعادة العرب
في ذلك، لأن ترك التصريح بذكر المرأة أجل منه، ولهذا لم تذكر في القرآن
امرأة باسمها إلا مريم.
قال السهيلي: وإنما ذُكرت مريم باسمها على خلاف عادة
الفصحاء لنكتة، وهي أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ.
__________
(1) فيه نظر لأنه ينبني عليه أقاويل وافتراءات على نبي الله داوود - عليه السلام - مردها جميعا إلى أساطير وأباطيل بني إسرائيل. والله أعلم.(1/216)
ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالفرس والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر، فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرّح الله باسمها، ولو لم يكن تأكيدا للعبودية التي هى صفة لها، وتأكيدا، لأن عيسى لا أب له وإلا لنُسب إليه.
ثالثها: أن يكون الصريح مما يستقبح ذكره، ككناية الله عن الجماع بالملامسة والمباشرة، والإفضاء والرفَث، والدخول، والسر في قوله: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) .
والغشيان في قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكني.
وأخرج عنه، قال: إنَّ الله كريم يكني ما شاء، وإن الرفَث هو الجماع.
وكنى عن طلبه بالمراودة في قوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ)
وعنه أو عن المعانقة باللباس في قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ، وبالحرث في قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) .
وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) .
وأصله المكان المطمئن من الأرض.
وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها: (كانا يأكُلاَنِ
الطعام) .
وكنى عن الأستاه بالأدبار في قوله: (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) .
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يعني أستاههم.
ولكن الله يكني ما شاء.
وأورد على ذلك التصريح بالفَرْج في قوله: (والتي أحصنَتْ فَرْجَها)(1/217)
وأجيب بأن المراد به فرج القميص، والتعبير به من لطيف الكنايات
وأحسنها، أي لم يعلق ثوبها ريبة، فهي طاهرة الثوب، كما يقال نقيُّ الثوب، وعفيف الذيل - كناية عن العفة.
ومنه: (وثِيَابَك فَطَهِّرْ) .
وكيف يظن أن نفخ جبريل وقع في فرجها، وإنما نفخ في جيبِ درْعها.
ونظيره أيضا: (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) .
قلت: وعلى هذا ففي الآية كناية عن كناية، ونظيره ما تقدم من مجاز
المجاز.
رابعها: قصد المبالغة والبلاغة، نحو: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) .
كنى عن النساء بأنهنّ ينشّأن في الترفّه والتزيّنَ والشواغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك، والمراد نفي ذلك عن الملائكة.
وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) .
كناية عن سعة جوده وكرمه جداً.
خامسها: قصد الاختصار، كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ " فعل "، نحو:
(لَبِئْسَ ما كانوا يَفْعَلُون) .
(فإنْ لم تَفْعَلوا ولَنْ تَفْعلوا) .
أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله.
سادسها: التنبيه على مصيره، نحو: (تَبّتْ يَدَا أبي لَهَب) .
أي جهَنّمي مصيره إلى اللهب.
حَمّالة الحطب في جيدها حبل، أي نَمّامة، مصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم في جيدها غُل.
قال بدر الدين بن مالك في المصباح: إنما يعدل عن الصريح إلى الكناية
لنكتة، كالإيضاح، أو بيان حال الموصوف، أو مقدار حاله، أو القصد إلى
المدح أو الذم، أو الاختصار، أو الستر أو الصيانة، أو التعمية أو الإلغاز، أو التعبير عن الصعب بالسهل، أو عن المعنى القبيح باللفظ الحسن.
واستنبط الزمخشري نوعاً من الكناية غريبا، وهو أن تعمد إلى جملة معناها
على خلاف الظاهر، فتأخذ الخلاصة من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة والمجاز،(1/218)
فتعبّر بها عن المقصود، كما تقول في نحو: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) .
إنه كناية عن الملك.
فإن الاستواء على السرير لا يكون إلا مع الملك، فجعل كناية عنه.
وكذا قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، - كناية عن عظمته وجلاله من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين: حقيقة ومجاز.
تذنيب
من أنواع البديع التي تشبه الكناية الإرداف، وهو أن يريد المتكلم معنى فلا
يعبِّر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بدلالة الإشارة، بل بلفظ يرادفه، كقوله
تعالى: (وقُضِيَ الأمْرُ) .
والأصل: وهلك من قضى الله هلاكه، ونجا من قضى الله نجاته، وعدل عن لفظ ذلك إلى الإرداف، لما فيه من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع، وقضاء من لا يُرد قضاؤه، والأمر يستلزم آمراً، فقضاؤه يدل على قدرة الآمر به وقهره، وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضّان على طاعة الآمر، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص.
وكذا قوله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) .
حقيقة ذلك: جلست، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى مرادفه، لما في الاستواء من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس.
وكذا: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) .
عفيفات، وعدل عنه للدلالة على أنهن مع العفة لا تطمح أعينهن إلى غير أزواجهن، ولا يشتهين غيرهم.
ولا يؤخذ ذلك من لفظ العفة.
قال بعضهم: والفرق بين الكناية والإرداف أن الكناية انتقال من لازم إلى
ملزوم.
والإرداف من مذكور إلى متروك.
ومن أمثلته أيضاً: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) .(1/219)
عدل في الجملة الأولى عن قوله "بالسوءى" مع أن فيه مطابقة كالجملة الثانية - إلى بما عملوا، تأدّباً أن يُضاف السوء إلى الله تعالى.
" فصل "
للناس في الفرق بين الكناية والتعريض عبارات متقاربة، فقال الزمخشرى:
الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له.
والتعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره.
وقال ابن الأثير: الكناية ما دل على معنى يجوز حملُه على الحقيقة والمجاز
بوصفٍ جامع بينهما.
والتعريض: اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع
الحقيقي أو المجازي كقول مَنْ يتوقع صلة: والله إني محتاج، فإنه تعريض
بالطلب، مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازاً، وإنما فهم من عُرض اللفظ، أي جانبه.
وقال السبكي في كتاب الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض: الكناية
لفظ استعمل في معناه مراداً منه لازم المعنى، فهو بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوّز في إرادة إفادة ما لم يوضع له، وقد لا يراد منها المعنى، بل يعبَّر بالملزوم عن اللازم، وهي حينئذ مجاز.
ومن أمثلته: (قُلْ نارُ جَهَنَّم أشد حَرًّا) .
فإنه لم يقصد إفادة ذلك، لأنه معلوم، بل إفادة لازمه وهو أنهم يرِدونها ويجدون حرها إن لم يجاهدوا.
وأما التعريض فهو لفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره، نحو: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) .
نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، كأنه غضب أن تُعْبَد الصغار معه، تلويحاً لعابديها بأنها لا تصلح أن تكون آلهة لما يعلمون - إذا نظروا بعقولهم - من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزًا، فهو حقيقة أبداً(1/220)
وقال السكاكي: التعريض ما سيق لأجل موصوف غير مذكور، ومنه أن
يخاطَب واحد ويُراد غيره، وسمي به لأنه أمِيل الكلام إلى جانب مشاراً به إلى
آخر، يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي جانبه.
قال الطيبي: وذاك يفعل إما لتنويه جانب الموصوف، ومنه: (ورَفَع بَعْضَهم
درَجاتٍ) ، أي محمداً - صلى الله عليه وسلم - إعلاء لقدره، أي أنه العلم الذي لا يشتبه.
وإما التلطّف به واحترازاً عن المخاشنة، نحو: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ،: أي وما لكم لا تعبدون، بدليل قوله: (وإليه ترجعون) .
وكذا قوله: (أأتَّخِذُ مِنْ دُونِه آلهة) .
ووجهُ حسنه إسماع من يقصد خطابه الحقَّ على وجه يمنع غضبه، إذ لم يصرح بنسبته للباطل، والإعانة على قبوله، إذ لم يرد له إلا ما أراد لنفسه.
وإما لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، ومنه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ) .
خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأريد غيره، لاستحالة الشرك عليه
شرعاً.
وإما للذمّ، نحو: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، فإنه تعريض
بذم الكفار، وأنهم في حكم البهائم الذين لا يتذكرون.
وإما للإهانة والتوبيخ، نحو: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) .
فإن سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه.
قال السبكي: التعريض قسمان:
قسم يراد به معناه الحقيقي، ويشار به إلى المعنى الآخر المقصود كما تقدم.
وقسم لا يراد، بل يضرب مثلاً للمعنى الذي هو مقصود التعريض، كقول
إبراهيم: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) .
*******(1/221)
الوجه السادس والعشرون من وجوه إعجازه (إعجازه في آية وإطنابه في أخرى)
وهما من أعظم أنواع البلاغة
واختلف، هل بينهما واسطة - وهي المساواة - أوْ لاَ، وهي داخلة في قسم
الإيجاز، فالسكاكي وجماعة على الأول، لكنهم جعلوا المساواة غير محمودة ولا مذمومة، لأنهم فسروها بالمتعارف من كلام أوساط الناس الذين ليسوا في رتبة البلاغة، وفسروا الإيجاز بأداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف.
والإطناب أداؤه بأكثر منها لكون المقام حقيقاً بالبسط.
وابن الأثير وجماعة على الثاني، فقالوا: الإيجاز التعبير عن المراد بلفظ غير
زائد.
والإطناب بلفظ أزيد.
وقال القَزْويني: الأقرب أن يُقال إن القبول من طرق التعبير عن المراد تأدية
أصله، إما بلفظ مساو للأصل المراد، أو ناقص عنه واف، أو زائد عليه لفائدة.
والأول المساواة، والثاني الإيجاز، والثالث الإطناب.
واحترز بواف عن الإخلال، وبقوله لفائدة - عن الحشو والتطويل، فعنده ثبوت المساواة واسطة، وأنها من قسم القبول.
فإن قلت: عدمُ ذكرك المساواة في الترجمة لماذا؟ هل هو لرجحان نَفْيِها، أو
عدم قبولها، أو لأمر غير ذلك؟
قلت: لهما، ولأمر ثالث، وهو أن المساواة لا تكاد توجد خصوصاً في
القرآن.
وقد مثّل لها في التلخيص بقوله تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) .
وفي الإيضاح بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) .
وتُعقب بأن في الآية الثانية حذف موصوف الذين، وفي الأولى إطناب بلفظ(1/222)
الشيء، لأن لفظ المكر لا يكون إلا سيئًا، وإيجاز بالحذف إن كان الاستثناء غير مفرغ، أي بأحد، وبالقِصَر في الاستثناء وبكونها حاثَّة على كف الأذى عن جميع الناس، محذرة عن جميع ما يؤدي إليه، وبأن تقديرها يضر بصاحبه مَضَرة بليغة، فأخرج الكلام مخرج الاستعارة التبعية الواقعة على سبيل التمثيلية، لأنَّ يحيق بمعنى يحيط فلا يستعمل إلا في الأجسام.
تنبيه:
الإيجاز والاختصار بمعنى واحد، كما يؤخذ من المفتاح، وصرح به الخطيب.
وقال بعضهم: الاختصار خاص بحذف الجمل فقط، بخلاف الإيجاز.
قال الشيخ بهاء الدين: وليس بشيء.
والإطناب قيل بمعنى الإسهاب، والحق أنه أخص منه، فإن الإسهاب التطويل
لفائدة أو لغير فائدة، كما ذكره التنوخي وغيره.
فصل
الإيجاز قسمان: إيجاز قصر، وإيجاز حذف
فالأول هو الوجيز بلفظه.
قال الشيخ بهاء الدين: الكلام القليل إن كان
بعضا من كلام أطول منه فهو إيجاز حذف، وإن كان كلاماً يعطي معنى أطول
منه فهو إيجاز قصر.
وقال بعضهم: إيجاز القصر هو تكثير المعنى بتقليل اللفظ.
وقال آخر: هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود
عادة.
وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: أوتِيتُ جوامعَ الكلم.
وقال الطيبي في التبيان: الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام:(1/223)
أحدها: إيجاز القصر، وهو أن يُقصر اللفظ على معناه، كقوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) .
جمع في أحرف العنوان والكتاب والحاجة.
وقيل في وصف بليغ: كانت ألفاظه قوالبَ معناه.
قلت: وهذا رأي من يدخِل، المساواة في الإيجاز.
الثاني: إيجاز التقدير، وهو أن يقدر معنى زائداً على المنطوق، ويسمى
بالتضييق أيضاً، وبه سماه بدر الدين بن مالك في الصباح، لأنه نقص من الكلام ما صار لفظه أضيق من قدر معناه، نحو: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) ، أي خطاياه غُفرت، فهي له لا عليه.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، أي الضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى.
الثالث: الإيجاز الجامع، وهو أن يحتويَ اللفظُ على معان متعددة، نحو: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
فإن العدل هو الصراط المستقيم التوسطَ بين طرفي الإفراط والتفريط المؤدي به إلى جميع الواجبات في الاعتقاد والأخلاق والعبودية.
والإحسان هو الإخلاص في واجبات العبودية لتفسيره في الحديث بقوله: أنْ تَعْبدَ اللهَ كأنكَ ترَاه، أي تعبده مخلصاً في نيتك، وواقفاً في الخضوع، آخذاً أهْبَة الحذر إلى ما لا يُحصى، " وإيتاءِ ذي القُرْبى " هو الزيادة على الواجب من النوافل، هذا في الأوامر.
وأما النواهي فـ "بالفحشاء" الإشارة إلى القوة الشهوانية، وبالمنكر إلى الإفراط الحاصل من آثار الغضبية أو كل محرم شرعاً، وبالبغي إلى الاستعلاء الفائق من ألوهيته.
قلت: ولهذا قال ابن مسعود: ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه
الآية.
أخرجه في المستدرك.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه قرأها ثم وقف فقال: إن الله جمع لكم الخير والشر كله في آية واحدة،(1/224)
فوالله ما ترك العدلُ والإحسان من طاعة الله شيتاً إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئًا إلا جمعه.
وروي أيضاً عن ابن شهاب في معنى حديث الشيخين: بُعثت بجوامع الكلم، قال: بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع لكم الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكُتُب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) .
فإنها جامعة لمكارم الأخلاق، لأن في أخذ العفو التساهل والتسامح في الحقوق، واللين والرفق في الدعاء إلى الدين.
وفي الأمر بالعرف كفُّ الأذى وغضَّ البصر وما شاكلها من المحرمات.
وفي الإعراض الصبر والحلم والتُّؤدة.
ومن بديع الإيجاز قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) .
فإنه نهاية التنزيه.
وقد تضمنت الرد على نحو أربعين فرقة، كما أفردها
بالتصنيف بهاء الدين بن شداد.
وقوله: (أخرج منها ماءَها ومَرْعَاها) .
دلّ بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعا للأنعام من العشب والشجر، والحب والثمر، والعصف والحطب، واللباس والنار والملح، لأن النار من العيدان، والملح من الماء.
وقوله: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) .
جمع فيه عيوب الخمر من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب.
وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
أمر فيها ونَهَى، وأخبر ونادى، ونعت وسمَّى، وأهلك وأبقى، وأسعد وأشقى، وقص من الأنباء ما لو شُرِح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام.
وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف.(1/225)
وفي العجائب للكِرْماني: أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن
الإتيان بمثل هذه الآية بعد أن فتَّشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها، وحسن نظمها، وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال.
وقوله: (يا أيُّها النَّمْلُ ادخُلُوا مَساكِنَكم) .
جمع في هذه اللفظة أحد عشر جنساً من الكلام، نادت وكنَتْ، ونبّهت وسمت، وأمرت وقصَّت، وحذَّرت، وخصَّت وعمَّت، وأشارت وأعذرت.
فالنداء يا.
والكناية أي.
والتنبيه ها.
والتسمية النمل.
والأمر ادخلوا.
والقصص مساكنكم.
والتحذير لا يحطمنَّكم.
والتخصيص سليمان.
والتعميم جنوده.
والإشارة وهم.
والعذر لا يشعرون.
فأدت خمسة حقوق: حق الله، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق جنود سليمان.
وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
جمع فيها أصول الكلام: النداء، والعموم، والخصوص، والأمر، والإباحة، والنهي، والخبر.
وقال بعضهم: جمع الله الحكمة في شطر آية: (كلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفوا) .
وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) .
قال ابن العربي: هي من أعظم آي القرآن في الفصاحة، إذ فيها أمران ونهيان، وخبران وبشارتان.
وقوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) .
قال ابن أبي الإصبع: المعنى صرِّح بجميع ما أوحي إليك، وبلغ كل ما أمِرت ببيانه، وإن شقَّ بعضُ ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهةُ بينهما فما يوثره التصريح في القلوب، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار أو الاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة، فانظر(1/226)
إلى جليل هذه الاستعارة، وعظيم إيجازها، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة.
وقد حُكي عن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الآية سجد وقال: سجدت
لفصاحة هذا الكلام.
وقوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) .
قال بعضهم: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الْخَلقُ كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه.
وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) .
قال: معناه كثير، ولفظه يسير، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتل قُتِلَ به كان ذلك داعيا إلى ألا يقْدِم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعضٍ، وكان ارتفاع القتل حياة لهم.
وقد فُضِّلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو
قولهم: القتل أنْفَى للقتل - بعشرين وجهاً أو أكثر.
وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام
الخالق وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أفهامهم فيما يظهر لهم من ذلك.
الأول: أن ما يُناظره من كلامهم، وهو قوله: (الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أقلّ
حروفاً، فإن حروفها عشرة، وحروف: القتل أنفى للقتل - أربعة عشر.
الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والآية ناصَّة على ثبوتها التي هي
الغرض المطلوب منه.
الثالث: أن تنكير حياة تفيد تعظيما، فتدل على أن القصاص في حياة
متطاولة، كقوله: (ولتجدنَّهم أحْرَصَ الناسِ على حياةٍ) .
ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
الرابع: أن الآية مطردة بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل(1/227)
قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، وإنما ينفيه قتلٌ خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبداً.
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ " القَتْل " الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه، وإن لم يكن مخلاَّ بالفصاحة.
السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن فيه
حذف " من " التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف قصاصاً مع القتل
الأول وظلماً مع القَتْل الثاني، والتقدير: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من تركه.
السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص مشعر بضد الحياة، بخلاف القتل.
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو
الفَناء والموت محلاًّ ومكاناً لضده الذي هو الحياة، واستقرارُ الحياة في الموت
مبالغة عظيمة، ذكره في الكشاف وعبّر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه.
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة، وهو السكون بعد الحركة
وذلك مستَكرَه، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت فصاحته بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فجثت ثم تحركت فجثت لا يتبين انطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة.
العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر، لأن الشيء لا ينفي نفسه.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الوجب للضغط والشدة، وبُعدها عن غُنَّة النون.
الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد، إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء
والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض، فهو(1/228)
غير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسنُ من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبُعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك
تكرير القاف والتاء.
الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشْعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة.
فإن الطباع أقْبل له من لفظ القتل.
الخامس عشر: أن لفظ القصاص مُشْعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل.
بخلاف مطلق القتل.
السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات والمثَل على النفي، والإثباتُ
أشرف، لأنه أول، والنفي ثان عنه.
السابع عشر: أن المثل لا يكاد يُفْهَم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة.
وقوله: (ولكم في القصاص حياة) مفهوم من أول وَهْلة.
الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة
التاسع عشر: أن أفعل في الغالب تقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص
نافياً للقتل، ولكن القصاص أكثر نفياً، وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.
العشرون: أن الآية رادعة عن القتل والجرح معاً لشمول القصاص لها.
والحياة أيضاً في قصاص الأعضاء، لأن قطع العضو ينقص مصلحة الحياة، وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل.
ثم في أول الآية: (ولكمْ) .
وفيها لطيفة، وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمَنْ سواهم.(1/229)
تنبيهات
الأول: ذكر قُدامة من أنواع البديع الإشارة، وفَسَّرَها بالإتيان بكلام قليل
ذي معان جمَّة، وهذا هو إيجاز القِصر بعينه، لكن فرق بينهما ابن أبي الإصبع
بأن الإيجاز دلالته مطابقة، ودلالة الإشارة إما تضمين أو التزام، فعُلم منه أن
المراد به ما تقدم في مبحث المنطوق.
الثاني: ذكر القاضي أبو بكر في إعجاز القرآن أن من الإيجاز نوعاً يسمى
التضمين، وهو حصول معنى في لفظ من غير ذكرٍ له باسم أو صفة هي عبارة
عنه، قال: وهو نوعان: أحدها ما يُفهم من البنية، كقولك: معلوم، فإنه
يوجب أنه لا بد من عالم.
والثاني من معنى العبارة، كـ بسم الله الرحمن الرحيم.
فإنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم للهِ والتبرك باسمه.
الثالث: ذكر ابن الأثير وصاحب عروس الأفراح وغيرها أن من أنواع
إيجاز القِصَر باب الحصر، سواء كان بإلا أو بإنما أو غيرها من أدواته، لأن
الجملة فيها نابت مناب جملتين.
وباب العطف، لأن حرفه وضع للإغناء عن إعادة العوامل.
وباب النائب عن الفاعل، لأنه دل على الفاعل بإعطائه حكمه.
وعلى المفعول بوضعه.
وباب الضمير، لأنه وضع للاستغناء عن الظاهر اختصاراً.
ولهذا لا يُعْدل إلى المنفصل مكان المتصل.
وباب علمت أنك قائم، لأنه محل لاسم واحد سدَّ مَسَدَّ المفعولين من غير
حذف.
ومنها باب التنازع إذا لم تقدر على رأي الفراء.
ومنها طرح المفعول اختصاراً على جَعْل المتعدي كاللازم، وسيأتي تحريره.
ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط، فإنَّ " كم مالك "، يغني عن قولك:
أهو عشرون أم ثلاثون، وهكذا إلى ما لا يتناهى.
ومنها الألفاظ الملازمة للعموم كأحد.(1/230)
ومنها لفظ التثنية والجمع، فإنه يغني عن تكرير المفرد، وأقيم الحرفُ فيها
مقامه اختصاراً.
ومما يصلح أن يعد من أنواعه المسمى بالاتساع من أنواع البديع، وهو أن يأتي بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما تحتمله ألفاظه من المعاني، كفواتح السور، ذكره ابن أبي الإصبع.
القسم الثاني من قسمي الإيجاز إيجاز الحذف، وله فوائد.
ذكر أسبابه:
منها: مجرّد الاختصار والاحتراز عن العبث لظهوره.
ومنها: التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف، وأن الاشتغال
بذكره يُفضي إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء، وقد اجتمعا في قوله: (ناقةَ اللهِ وسُقْيَاها) ، فناقة الله تحذير بتقدير ذَرُوا، وسقياها إغراء بتقدير الزموا.
ومنها: التفخيم والإعظام لما فيه من الإيهام.
قال حازم في " منهاج البلغاء ":
إنما يحسن الحذفُ لقوة الدلالة عليه، أو يقصد به تعديد أشياء، فيكون في
تعدادها طولٌ وسآمة، فيحذف ويكتفى بدلالة الحال وتُتْرك النفس تجول في
الأشياء المكتفى بالحال عن ذكرها.
قال: ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد
بها التعجب والتهويل على النفوس.
ومنه قوله في وصف أهل الجنة: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) .
فحذف الجواب إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجُعِل الحذف دليلاً على ضيق الكلام عن
وصف ما يشاهدونه وتَرْك النفوس تقدر ما شاءته، ولا تبلغ مع ذلك كنه ما
هنالك.
وكذا قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، أي لرأيت أمرأ فظيعاً لا تكاد تحيط به العبارة.
ومنها: التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، كما في حذف حرف النداء، نحو:(1/231)
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .
ونون لم يك، والجمع السالم.
ومنه قراءة: (والمقيمي الصلاة) .
وياء: (واللَّيْل إذا يَسْرِ) .
وسأل المؤرَج السدوسي الأخفش عن هذه الآية، فقال: عادة العرب أنها إذا
عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يَسْرِى، وإنما يُسرى فيه، نقص منه حرف، كما قال تعالى: (وما كانت أمّكِ بغيّا) .
الأصل بغية، فلما حوّل عن فاعل نقص منه حرف.
ومنها: كونه لا يصلح إلا له، نحو: (عالم الغَيْبِ والشهادة) ، (فعال لما يُرِيد) .
ومنها: شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء، قال الزمخشري: وهو نوع من دلالة الحال التي لسانها أنطؤ من لسان المقال، وحمل عليه قراءة حمزة:
(تَسَاءَلونَ بهِ والأرْحَامِ) ، لأن هذا مكان شهر بتكرير الجار، فقامت الشهرة مقام الذكر.
ومنها: صيانته عن ذكره تشريفاً، كقوله: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) .
حذف فيها المبتدأ في ثلاثة مواضع قبل ذكر الرب، أى هو رب.
والله ربكم. والله رب المشرق، لأن موسى استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال فأضمر اسم الله تعظيما وتفخيما.
ومثله في عروس الأفراح: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، أي ذاتك.
ومنها: صيانة اللسان عنه تحقيراً له، نحو: (صم بكم) .
أي هم، أو المنافقون.
ومنها: قصد العموم، نحو: (وإياك نستعين) ، أي على(1/232)
العبادة وعلى أمورنا كلها.
(والله يَدْعُو إلى دار السّلام) ، أي كل واحد.
ومنها رعاية الفاصلة، نحو: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) .
أى وما قلاك.
ومنها: قصد البيان بعد الإبهام، كما في فعل المشيئة، نحو: (فلَوْ شاء
لهدَاكم) ، أي فلو فاء هدايتكم، فإنه إذا سمع السامع (فلو شاء) تعلّقت نفسه بما شاء، انْبهَم عليه، لا يدرى ما هو.
فلما ذكر الجواب استبان بعد ذلك.
وأكثر ما يقع ذلك بعد أداة شرط، لأن مفعول المشيئة مذكور في جوابها.
وقد يكون مع غيرها استدلالاً بغير الجواب، نحو: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) .
وقد ذكر أهل البيان أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكر إلا إذا كان غريباً
أو عظيما، نحو: (لمن شاء منكم أنْ يَسْتَقِيم) .
(لو أرَدْنا أن نتَّخذ لَهواً) .
وإنما اطرد أو كثر حذدث مفعول المشيئة دون سائر الأفعال، لأنه لا يلزم
من وجود المشيئة وجود المشاء، فالمشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مشيئة الجواب، ولذلك كانت الإرادة مثلها في اطراد حذف مفعولها.
ذكره الزملكاني والتنوخي في الأقصى القريب، قالوا: إذا حذف بعد (لو)
فهو المذكور في جوابها أبداً.
وأورد في عروس الأفراح: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) .
فإن المعنى لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل الملائكة، لأن المعنى معين على ذلك.
فائدة
قال الشيخ عبد القاهر: ما من اسم حُذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها
إلا وحَذْفه أحسن من ذكره.(1/233)
وسمى ابن جِنّي الحذف شجاعة العربية، لأنه يشجع على الكلام.
قاعدة
في حذف المفعول اختصارًا واقتصارًا
قال ابن هشام: جرت عادة النحويين أن يقولوا بحذف المفعول اختصاراً
واقتصاراً، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل، وبالاقتصار الحذف لغير دليل، ويمثلونه بنحو: (كُلوا واشْرَبوا) ، أي أوقعوا هذيْنِ الفعلين.
والتحقيق أن يقال: يعني كما قال أهل البيان: تارة يتعلق الغرض بالإعلام
بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين مَنْ أوقعه ومن أوقع عليه، فيجاء بمصدره
مسنداً إلى فعل كون عام، فيقال حصل حريق أو نهب.
وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفعل للفاعل، فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوى، إذ المنوي كالثابت، ولا يسمى محذوفاً، لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول معه، ومنه: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) .
(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .
(وكُلوا واشربوا ولا تسْرِفُوا) .
(وإذا رأيتَ ثَمَّ) .
إذ المعنى ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة.
وهل يستوي مَنْ يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه
العلم، وأوْقِعوا الأكل والشرب وذَروا الإسر اف.
وإذا حصلت منك رؤية.
ومنه: (ولما ورَد ماءَ مَدْيَن) .
ألا ترى أنه عليه السلام رحمهما إذ كانتا على صفة الذياد وقومهما على السقي لا لكون مذودهما غنما ومسقيّهم إبلاً، وكذلك المقصود من " لا نسقي " السقي لا السْقِيّ.
ومن لم يتأمل قدر: يسقون إبلهم، وتذودان غنمهما، ولا نسقي غنما.
وتارة يُقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله، فيذكران، نحو: لا
تَأكُلُوا الربا) ، (ولا تقْرَبوا الزنا) .
وهذا النّوْع الذي إذا لم يذكر محذوفه قيل(1/234)
محذوف، وقد يكون في اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجود تقديره، نحو: (أهذا الذي بَعثَ اللهُ رسولا) .
(وكُلاًّ وعدَ اللهُ الحُسْنَى) .
وقد يشتبه الحال في الحذف وعدمه، نحو: (قل ادْعُوا اللهَ أو ادْعُوا الرحمن) .
قد يتوهم أن معناه نادوا فلا حذف، أو سمّوا فالحذف واقع.
ذكر شروطه
هي ثمانية:
أحدها: وجود دليل إما حاليّ، نحو: (قالوا سلاما) .
أي سلمنا سلاماً.
أو مقاليّ، نحو: (وقيل للذين اتَّقَوْا ماذا أنزل ربُّكم قالوا خيراً) .
أى أنزل خيراً.
(قال سلامٌ قومٌ مُنْكَرُون) .
أي سلام عليكم، أنتم قوم منكرون.
ومن الأدلة العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف.
ثم تارة يدل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه، بل يستفاد التعيين
من دليل آخر، نحو! (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) .
فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة، لأن التحريم لا يضاف إلى الإحرام، وإنما هو والحل مضافان إلى الأفعال، فعُلم بالعقل حذف شيء.
وأما تعيينه وهو التناول فمستفاد من الشرع، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما حرم أكلُه لأن العقل لا يدرك محل الحرام ولا الحرمة.
وأما قول صاحب التلخيص إنه من باب دلالة العقل أيضاً فتابَعَ فيه
السكاكي من غير تأمل أنه مبني على أصول المعتزلة.
وتارة يدل العقل أيضاً على التعيين، نحو: (وجاءَ ربك) ، أي أمره، بمعنى عذابه، لأن العقل دل على استحالة مجيء الباري، لأنه من سمات(1/235)
الحادث، وعلى أن الجائي أمره.
(أوفوا بالعقود) .
(وأوْفُوا بعَهْدِ الله) .
أي بمقتضى العقود وبمقتضى عهد الله، لأن العقد والعهد قولان قد دخلا في الوجود وانقضيا، فلا يتصور فيهما وفاء ولا نَقْض، وإنما الوفاء والنقض بمقتضاهما وما ترتب عليهما من أحكامهما.
وتارة يدل على التعيين العادةُ، نحو: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) .
دلَّ العقل على الحذف، لأن يوسف لا يصح ظرفا للوم، ثم يحتمل أن
يقدر لمتنني في حبه، لقوله: قد شغَفَها حبّاً، أو في مراودته، لقوله: (تُرَاوِد
فَتَاها) .
والعادةُ دلت على الثاني، لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه عادة.
لأنه ليس اختيارياً، بخلاف المراودة للقدرة على دفعها.
وتارة يدل عليه التصريح به في موضع آخر، وهو أقواها، نحو: (هل
ينظرون إلا أن يأتيهم الله)
أي أمره، بدليل: أو يأتي أمر ربك.
(وجنّة عرضها السماوات) .
أي كعرض، بدليل التصريح به في آية الحديد.
(رسول من الله) ، أي من عند الله بدليل: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) .
ومن الأدلة على أصل الحذف العادة، بأن يكون العقل غير مانع من إجراء
اللفظ على ظاهره من غير حذف، نحو: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) ، أي مكان قتال، والمراد مكاناً صالحاً للقتال، وإنما كان كذلك
لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، ويتعيرون بأن يتفوهوا بأنهم لا يعرفونه.
فالعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقةَ القتال، فلذلك قدّره مجاهد مكان قتال.
ويدل عليه أنهم أشاروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يخرج من المدينة.
ومنها الشروع في الفعل، نحو: (بسم الله) .
فيقدر ما جعلت التسميةُ مبدأ له، فإن كانت عند الشروع في القراءة قدرت أقرأ، أو الأكل قدرت آكل.
وعلى هذا أهلُ البيان قاطبة، خلافًا لقول النحاة: إنه يقدر ابتدأت، أو ابتدائي كائن بسم الله.(1/236)
ويدل على صحة الأول التصريح به في قوله: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) .
وفي الحديث: باسمك اللهم وضعت جَنْي.
ومنها الصناعة النحوية، كقولهم في لا أقسم: التقدير لأنا أقسم، لأن فعل
الحال لا يقسم عليه.
وفي: (تاللهِ تَفْتَأ) : التقدير لا تفتأ، لأنه لو كان الجواب مثبتاً لدخلت اللام والنون كقوله: (وتاللهِ لأكِيدَنّ أصنامَكم) .
وقد توجب الصناعة التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه، كقولهم في
لا إله إلا الله: إن الخبر محذوف، أي موجود.
وقد أنكره الإمام فخر الدين، وقال: هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير.
وتقدير النحاة فاسد، لأن نفي الحقيقة مطلقة أتم من نفيها مقيدة، فإنها إذا
انتفت مطلقة كان ذلك دليلاً على سلب الماهية مع القيد.
وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر.
ورد بأن تقديرهم موجود يستلزم نفي كل إله غير الله قطعاً، فإن العدم لا
كلام فيه، فهو في الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة.
ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهر أو مقدر، وإنما يقدر النحويُّ ليعطي القواعد حقَّها وإن كان المعنى مفهوماً.
تنبيه:
قال ابن هشام: إنما يشترط الدليل فما إذا كان المحذوف الجملة بأسرها، أو
أحد ركنيها، أو يفيد معنى فيها هي مبنية عليه، نحو: (تاللهِ تَفْتَأ) ، أما الفضلة فلا يشترط لحذفها وجدان دليل، بل يشترط ألا يكون في
حذفها ضرر معنوي أو صناعي.
قال: ويشترط في الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف.
ورد قول الفراء في (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ) .(1/237)
إن التقدير: بل ليحسبنا قادرين، لأن الحسبان المذكور بمعنى الظن، والمقدر بمعنى العلم، إذ التردد في الإعادة كفر، فلا يكون مأمورا به.
قال: والصواب فيها قول سيبويه: إن (قادرين) حال، أي بلى نجمعها
"قادرين" لأن فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان، ولأن (بلى) لإيجاب المنفي، وهو فيها فعل الجمع.
الشرط الثاني: ألا يكون المحذوف كالجزء، ومن ثم لم يحذف الفاعل ولا
نائبه، ولا اسم كان وأخواتها.
قال ابن هشام: وأما قول ابن عطية في: (بئس مَثَلُ القوم) .
إن التقدير بئس المثل مثل القوم.
فإن أراد هذا الإعراب، وأن الفاعل لفظ المثل محذوفاً فمردود، وإن أراد تفسير المعنى وأن في بئس ضمير المثل مستتر فسهل.
الثالث: ألا يكون مؤكداً، لأن الحذف مناف للتأكيد، إذ الحذف مبني على
الاختصار والتأكيد مبني على الطول، ومن ثم رد الفارسي على الزجاج في قوله: (إنْ هَذَانِ لساحِرَان) - إن التقدير: إن هذان لهما ساحران.
فقال: الحذف والتوكيد باللام متنافيان.
وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما، لأن المحذوف لدليل كالثابت.
الرابع: ألا يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر، ومن ثم لم يُحذف اسم الفعل
لأنه اختصار للفعل.
الخامس: ألا يكون عاملاً ضعيفاً، فلا يحذف الجار والناصب للفعل والجازم
إلا في مواضع قَوِيت فيها الدلالة، وكثر فيها استعمال تلك العوامل.
السادس: ألا يكون عوضاً عن شيء، ومن ثم قال ابن مالك: إن حرف
النداء ليس عوضاً من أدعو، لإجازة العرب حذفه، ولذا أيضاً لم تحذف التاء من إقامة واستقامة.
وأما: (وإقامَ الصلاة) ، فلا يقاس عليه، ولا خبر كان، لأنه عوض أو كالعوض من مصدرها.(1/238)
السابع: ألا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ولا إلى إعمال
العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي، ومن ثم لم يقس على قراءة:
(وَكُلّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) .
فائدة
اعتبر الأخفش في الحذف التدريج حيث أمكن، ولهذا قال في قوله:
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) .
إن الأصل لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر فصار تجزيه، فحذف الضمير فصار تجزي.
وهذه ملاطفة في الصناعة.
ومذهب سيبويه أنهما حذفا معاً.
قال ابن جني: وقول الأخفش في النفس أوفق وآنس من أن يحذف الحرفان معاً في وقت واحد.
قاعدة
الأصل أن يقدر الشيء في مكانه الأصلي، لئلا يخالف الأصل من وجهين:
الحذف، ووضع الشيء في غير محله، فيقدر المفسر في نحو: زيداً رأيته، مقدما عليه.
وجوّز البيانيون تقديره مؤخراً عنه، لإفادة الاختصاص، كما قاله النحاة
إذا منع منه مانع، نحو: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) .
إذ لا يلي أما فعل.
قاعدة
ينبغي تقليل المقدر ما أمكن، لتقل مخالفة الأصل، ومن ثم ضعف قول
الفارسي في: (واللائي لم يحِضْنَ)
إن التقدير فعدتهن ثلاثة أشهر.
والأوْلى أن يقدر كذلك.
قال الشيخ عز الدين: ولا يقدر من المحذوفات إلا أشدها موافقة للغرض
وأفصحها، لأن العرب لا يقدِّرون إلا ما لو لفظوا به لكان أنسب وأحسن
لذلك الكلام، كما يفعلون ذلك في الملفوظ به، نحو:(1/239)
(جعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرأمَ قِياماً للناس) .
قدَّر أبو علي جعل الله نُصْبَ الكعْبَة.
وقدر غيره حرْمةَ الكعبة وهو أولى، لأن تقدير الحرمة في الهدْي والقلائد والشهر الحرام لا شك في فصاحته، وتقدير النصب فيها بعيد من الفصاحة.
قال: ومهما تردد المحذوف بين الحَسَن والأحسن وجب تقدير الأحسن، لأن الله وصف كتابه بأنه أحسن الحديث، فليكن محذوفه أحسن المحذوفات، كما أن ملفوظه أحسن الملفوظات.
قال: ومتى تردد بين أن يكون مجملاً أو مبيناً فتقدير المبين أحسن، نحو: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) .
لك أن تقدر " في أمر الحرث " و" في تضمين الحرث "، وهو أولى لتعينه، والأمر مجمل لتردده بين أنواع.
قاعدة
إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلاً والباقي فاعلاً، وكونه مبتدأ والباقي
خبراً، فالثاني أولى، لأن المبتدأ عين الخبر فالمحذوف عين الثابت، فيكون حذفه كلا حذف.
فأما الفعل فإنه غير الفاعل، اللهم إلا أن يعتضد الأول برواية
أخرى في ذلك الموضع، أو بموضع آخر يشبهه، فالأول كقراءة: (يسَبَّح له فيها بالغُدوِّ والآصال) - بفتح الباء.
(كذلك يُوحَى إليك وإلى الذين مِنْ قبلك الله) - بفتح الحاء، فإن التقدير يسبحه رجال، ويوحيه الله، ولا يقدّران مبتدأين حُذف خبرهما لثبوت فاعلية الاسمين في رواية منْ بنى الفعل للفاعل.
والثاني، نحو: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)
فتقدير " خلقهم الله " أولى من " الله خلقهم " لمجيء: خلقهنَّ العزيز العليم.
قاعدة
إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولاً أو ثانياً فكونه ثانياً أولى.
ومن ثَمَّ رجح أن المحذوف في نحو: (أتُحَاجّونّي في الله) - نون الوقاية لا نون الرفع.
وفي: (ناراً تَلَظَّى) التاء للتأنيث لا تاء المضارعة.(1/240)
وفي: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) .
أن المحذوف خبر الثاني لا الأول.
وفي نحو: (الحجّ أشهر) .
أن المحذوف مضاف للثاني أي حج أشهر، لا إلى الأول، أي أشهر الحج.
وقد يجب كونه من الأول، نحو: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) .
وفي قراءة من - رفع ملائكته، لاختصاص الخبر بالثاني، لوروده بصيغة الجمع.
وقد يجب كونه من الثاني، نحو: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) .
أي بريء أيضاً، لتقدم الخبر على الثاني.
فصل
الحذف على أنواع
أحدها: ما يسمى بالاقتطاع، وهو حذف بعض أحرف الكلمة.
وأنكر ابن الأثير ورود هذا النوع في القرآن.
ورد بأن بعضهم جعل منه فواتح السور على القول بأن كل حرف منها من اسم من أسمائه تعالى كما تقدم.
وادعى بعضُهم أن الباء في قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ، أول كلمة " بعض " ثم حذف الباقي.
ومنه قراءة بعضهم: " ونادَوْا يا مَالِ"
بالترخيم، ولما سمعها بعض السلف، قال: ما أغْنَى أهلَ النَار عن الترخيم.
وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة.
ويدخل في هذا النوع حذف همزة " أنا " في قوله: (لكنَّا هُوَ اللهُ رَبّي) .
إذ الأصل " لكن أنا "، حذفت همزة أنا تخفيفاً وأدغمت
النون في النون.
ومثله: ما قرىء: ويمسك السماء أن تقع علَّرْض.
بما أنزِلّيك، فمن تعجّل في يومين فلَثْم عليه.
إنها لحْدَى الكُبَر.(1/241)
النوع الثاني: ما يسمّى بالاكتفاء، وهو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما
تلازم وارتباط، فيكتفى بأحدها عن الآخر لنكتة.
ويختص غالباً بالارتباط العطفي، كقوله تعالى: (سَرَابِيل تَقِيكلم الحرَّ) .
أي والبرد، وخصص الحر بالذكر، لأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة والوقاية عندهم من الحر أهم عندهم، لأنه أشد من البرد.
وقيل لأن البرد تقدم ذكر الامتنان بوقايته صريحاً في قوله، (ومِنْ أصوافها وأوْبارِها وأشعارِها أثاثاً) .
وفي قوله: (وجعل لكم مِنَ الْجِبَال أكناناً) .
وفي قوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) .
ومن أمثلة هذا النوع: (بِيَدِك الخير) .
أي والشر، وإنما خص الخير بالذكر، لأنه مطلوب العباد ومرغوبهم، أو لأنه أكثر وجوداً في العالم، أو لأن إضافة الشر إلي الله تعالى ليس من باب الآداب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: والشر ليس إليك.
ومنها: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) .
أي وما تحرك، وخص السكون بالذكر، لأنه أغلب الحالين على المخلوق
من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون.
ومنها: (الذين يُؤْمِنون بالغيب ويُقِيمون الصلاةَ) .
أي والشهادة، لأن الإيمان بكل منهما واجب، وآثر الغيب، لأنه أمدح، ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس.
ومنها: (ورَبُّ المشارق) ، أي والمغارب.
ومنها: (هدًى للمتقين) ، أى وللكافرين، قاله ابن الأنباري.
ويؤيده قوله تعالى: (هُدى للناس) .
ومنها: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) .
أي ولا والد، بدليل أنه وجب للأخت النصف، وإنما يكون ذلك مع فقد الأب لأنه يسقطها.
النوع الثالث: ما يسمى بالاحتباك، وهو من ألطف الأنواع وأبدعها،(1/242)
وقلَّ مَنْ تنبّه له أو نبّه عليه من أهل البلاغة، ولم أره إلا في شرح بديعية الأعمى لرفيقه الأندلسي، وذكره الزركشي في البرهان ولم يسمه هذا الاسم، بل سماه الحذف المقابلي، وأفرده بالتصنيف من أهل العصر العلامة برهان الدين البقاعي الأندلسي في شرح البديعية، قال: من أنواع البديع الاحتباك، وهو نوع عَزِيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، كقوله تعالى: (ومَثَل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِقُ) .
التقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق، والذي يُنْعَق
به، فحذف من الأول الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه، ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه.
وقوله: (وأدْخِلْ يَدكَ في جَيْبِك تخرج بيضاء) .
التقدير: تدخل غير بيضاء وأخرجها تخرج بيضاء، فخذف من الأول تدخل غير بيضاء.
ومن الثاني: وأخرجها.
وقال الزركشي: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كل واحد
منهما مقابله، لدلالة الآخر عليه، كقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35.
التقدير: إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنتم بريء منه، وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون.
وقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
التقدير: ويعذب المنافقين فلا يتوب عليهم، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم.
وقوله: (ولا تقربُوهُنَّ حتى يطْهُرْنَ فإذا تطَهَّرْنَ فأتُوهُنَّ) .
أي حتى يَطْهرن من الدم ويَطَّهرن بالماء، فإذا طهرن وتطهَّرن
فأتوهن.
وقوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) .
أي عملاً صالحاً بِسَيء وآخر سَيِّئًا بصالح.
قلت: ومن لطيفه: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) .(1/243)
أي فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل
الطاغوت.
وفي الغرائبِ لِلْكَرْمَاني: في الآية الأولى التقدير: مثل الذين كفَرُوا معك يا
محد كمثل الناعِق مع الغنم، فحذف من كل طرف ما يدل عليه الطرف الآخر.
وله في القرآن نظائر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام. انتهى.
ومأخَذُ هذه التسمية من الحبك الذي معناه الشد والإحكام، وتحسين أثر
الصنعة في الثوب، فحبك الثوب سدّ ما بين خيوطه من الثوب وشده وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق.
وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفُرج من الخيوط.
فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه، فوضع الحذوف
موضعه، كان حابكا له، مانعاً من خلل يطرقه، فسد بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق.
النوع الرابع: ما يسمى بالاختزال، وهو ما ليس واحدا مما سبق.
وهو أقسام، لأن المحذوف إما كلمة اسم، أو فعل، أو حرف، أو أكثر.
أمثلة حذف الاسم:
حذف المضاف: وهو كثير جداً في القرآن حتى قال ابن جنَيّ: في القرآن منه
زهاء ألف موضع، وقد سردها الشيخ عز الدين في كتابه المجاز على ترتيب السور والآيات، ومنه: (الحجّ أشهر) ، أي حج أشهر، أو أشهر الحج.
(ولكن البِرَّ مَنْ آمَنَ) ، أي ذا البر، أو بر من.
(حرِّمَت عليكم أمّهَاتُكم) النساء: 23) ، أي نكاح أمهاتكم.
(لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) ، أي ضعف عذاب.
(وفي الرِّقَابِ) ، أي وفي تحرير الرقاب.
حذف المضاف إليه: يكثر في ياء المتكلم، نحو: (وَبّ اغْفِرْ لي)(1/244)
وفي الغايات، نحو: (للَهِ الأمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ)
أي من قبل الغلب ومن بعده.
وفي أيّ، وكلّ، وبعض، وجاء في غيرهن كقراءة: (فلا خوف عليهم)
- بضم بلا تنوين، أي فلا خوف شيء عليهم.
حذف المبتدأ: يكثر في جواب الاستفهام، نحو: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) . أي هي نار.
وبعد فاء الجواب، نحو: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) ، أي فعمله لنفسه، (ومَنْ أساء فعلَيْها) ، أي فإساءته عليها.
وبعد القول، نحو: (قالوا أساطِيرُ الأوَّلين) .
(قالوا أضغاثُ أحلام) .
وبعد ما الخبر صفة له في المعنى، نحو: (التائِبُون العابدون الحامِدُون) .
ونحو: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) .
ووقع في غير ذلك، نحو: (لا يغرنَّك تقَلّبُ الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليل) .
(لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ) ، أي هذا.
(سورةٌ أنْزَلْنَاها) ، أي هذه.
ووجب في النعت المقطوع إلى الرفع حذف الخبر، نحو: (أكُلُهَا دائم
وظلُّها) ، أي دائم.
ويحتمل الأمرين: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، أي أجمل، أو فأمري صبر.
(فتحرِيرُ رقَبَةٍ) ، أي عليه، أو فالواجب.
حذف الموصوف: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ، أي حور قاصرات.
(أن اعْمَلْ سابغَاتٍ) ، أي دروعاً سابغات.
(أيّها المؤمنون) ، أَي القوم المؤمنون.
حذف الصفة: (يَأخذ كلَّ سفينةٍ) ، أي صالحة، بدليل
أنه قرىء كذلك، " وأنْ تعيبها " لا يخرجها عن كونها سفينة.(1/245)
(الآن جئتَ بالحق) ، أي الواضح، وإلا لكفروا بمفهوم ذلك.
(فلا نُقيم لهم يوْمَ القيامة وَزْنا) ، أي نافعاً.
حذف المعطوف عليه: (أن اضْرِبْ بعصاك البحر فانْفَلَق) ، أي فضرب فانفلق.
وحيث دخلت واو العطف على لام التعليل ففي تخريجه وجهان:
أحدهما: أن يكون تعليلاً معلله محذوف، كقوله: (وليُبْلِيَ المؤمنين منه بلاءً
حسناً) .
فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك.
والثاني: أنه معطوف على علة أخرى مضمرة لتظهر صحةُ العطف، أي فعل
ذلك ليذيق الكافرين بأسه وليبلي.
حذف المعطوف مع العاطف: (لا يستوي منكم مَنْ أنفقَ من قَبْل الفَتْحِ
وقاتل) ، أي ومن أنفق بعده.
(بِيَدِكَ الخير) ، أي والشر.
حذف الْمُبْدل منه: وخرِّج عليه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) .
أي لا تصفه، والكذب بدل من الهاء.
حذف الفاعل: لا يجوز إلا في فاعل المصدر، نحو: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) ، أي دعائه الخير.
وجوزه الكسائي مطلقاً لدليِل، وخرج عليه: (إذا بلغت التَّرَاقِي) ، أي الروح.
(حتّى توَارَتْ بالحِجَاب) ، أي الشمس.
حذف المفعول: تقدم أنه كثير في مفعول المشيئة والإرادة، ويرد في غيرها.
نحو: (إنَّ الذين اتخذوا العِجْلَ) ، أي إلهاً.
(كلاَّ سوف تعلمون) ، أي عاقبة أمركم.
حذف الحال: يكثر إذا كان قولاً، نحو: (والملائكة يَدْخلُونَ عليهم مِنْ كل
باب سلام) ، أي قائلين.(1/246)
حذف المنادى: "ألاَ يَاسجُدُوا". النمل: 15، أى يا هؤلاء.
"يا ليت"، أى يا قوم.
حذف العائد: يقع في أربعة أبواب:
الصلة، نحو: (أهذا الذى بعث اللَهُ رَسُولاً) ، أى بعثه.
والصفة، نحو: (واتَّقُوا يوماً لا تجْزِى نفْسٌ عن نَفْس) ، أي فيه.
والخبر، نحو: (وكلاًّ وَعدَ اللهُ الحسنَى) ، أى وعده.
والحال.
حذف مخصوص نعم: نحو: (إنا وجدْنَاه صَابراً نِعْمَ العَبْدُ) .
(فَقَدَرْنَا فنِعْمَ القادِرُون) ، أي نحن.
(ولَنِعْمَ دارُ المتقين) ، أي الجنة.
حذف الوصول: (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ، أي والذى أنزل إليكم، لأن الذي أنزل إلينا ليس هو الذى أنزل إلى مَنْ قبلنا.
ولهذا أعيدت ما في قوله: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) .
أمثلة حذف الفعل:
يطّردُ إذا كان مفسراً، نحو: (وإنْ أحَدٌ من المشركين استجارَكَ)
أالتوبة: 6، (إذا السماء انشقّت) .
(قل لو أنتم تملكون) .
ويكثر في جواب الاستفهام، نحو: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) ، أي أنزل.
وأكْثَر منه حذفُ القَوْل، نحو: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ، أى يقولان ربنا.(1/247)
قال أبو علي: حذف القول من حد: حدّث عن البحر ولا حَرَج.
ويأتي في غير ذلك، نحو: (انْتَهو خَيْراً لكم) ، أي وأتوا.
(والذين تبوَّءُوا الدارَ والإيمان) ، أي وألفوا الإيمان واعتقدوه.
(اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، أي وليسكن زوجك.
(وامرأته حَمّالَةَ الحطَب) ، أي أذم.
(والْمقِيمينَ الصّلاَةَ) ، أي أمدح.
(وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) ، أي كان.
(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) ، أي يوفوا أعمالهم.
قال ابن جني في المحتسب: أخبرنا أبو على، قال: قال أبو بكر: حذف
الحرف ليس بقياس، لأن الحروف إنما دخلت الكلام لضَرْبِ من الاختصار.
فلو ذهبت تحذفها لكنت مختصراً لها هي أيضاً، واختصار المختصَر إجحاف به.
حذف همزة الاستفهام:
قرأ ابن محيصن.
(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) .
وخرّج عليه: (هذا ربّي) في المواضع الثلاثة.
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا) ، أي وتلك.
حذف الموصول الحرفي:
قال ابن مالك: لا يجوز إلا في أن، نحو: (ومِنْ آياته يُريكم البَرْقَ) .
وحذف الجارّ يطّرِد مع أنْ وأنَّ، نحو: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) .
(أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) .
(أيَعِدكم أنكم) ، أي بأنكم.
وجاء مع غيرها، نحو: (قَدّرْنَاهُ مَنَازِل) ، أي قدرنا له.
(ويبْغونَهَا عِوَجاً) ، أي لها.
(يخوِّفُ أوْلياءَه) ، أي يخوفكم بأوليائه.
(واختار موسى قَوْمَه) ، أي من قومه.
(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) ، أي على عُقْدَة النِّكَاحِ.(1/248)
حذف العاطف: خرج عليه الفارسي: (ولا على الذين إذا ما أتوْكَ لِتَحْمِلَهُم
قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عليه تولَّوْا) ، أي وقلت.
حذف فاء الجواب: خَرّج عليه الأخفش: (إنْ ترَكَ خيراً الوصِيَّةُ للوالدين
والأقْرَبِين) .
حذف حرف النداء كثير: (ها أنتم أولاء) .
(يوسُف أعْرِضْ عن هذا) .
(قال رَبِّ إني وَهَن العَظْمُ مني) .
(فاطرِ السماواتِ والأرض) .
وفي العجائب للكَرْماني: كثر حذف " يا " في القرآن من الرب، تنزيهاً
وتعظيما، لأن في النداء طرفاً من الأمر.
حذف " قد " في الماضي إذا وقع حالاً، نحو: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) .
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) .
حذف لا النافية: يطرد في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعاً، نحو:
(تاللهِ تَفْتأ) ، وورد في غيره، نحو: (وعلى الذين يُطِيقُونَه فِدْيةٌ) .
أي لا يطيقونه.
(وألْقَى في الأرض رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بكم) .
أي لئلاَّ تميد.
حذف لام التوطئة: (وإن لم يَنْتَهُوا عمّا يقولُونَ لَيَمَسَّنَّ) .
(وإن أطَعْتُموهم إنكم لمُشْرِكون) .
حذف لام الأمر: خُرّج عليه: (قل لِعَبادِي الذين آمَنُوا يُقيموا الصلاةَ) .
أي ليقيموا.
حذف لام لقد: يحسن مع طول الكلام، نحو: (قد أفْلَح مَنْ زَكّاها) .
حذف نون التوكيد: خرج عليه قراءة: (ألم نشرح) ، بالنصب.
حذف نون الجمع: خرج عليه: (وما هم بضَارِّين به مِنْ أحد) .(1/249)
حذف التنوين: خرج عليه قراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) . (ولا الليلُ سابِقُ النهارَ) - بالنصب.
حذف حركة الإعراب والبناء، خرج عليه: (فتوبُوا إلى بارِيْكم) ، (ويأمُرْكم) . (وبعُولَتْهُنَّ أحقّ) - بسكون الثلاثة.
وكذا: (أو يَعْفُو الذي بيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح) .
(فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي) .
و (مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) .
حذف مضافين: (فإنّها مِنْ تَقْوَى القلوبِ) ، أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب.
(فقبَضْتُ قَبْضَةً من أثَر الرَّسُولِ) .
أي من أثر حافر فرس الرسول.
(تَدُور أعينُهم كالَّذِي يُغْشَى عليه) ، أي كدوران عين الذي.
(وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم) ، أي بدل شكر رزقكم.
حذف ثلاثة متضايفات: (فكان قابَ قَوْسَين) ، أي فكان
مقدار مسافة قربه مثل قاب، فحذف ثلاثة من اسم كان وواحد من خبرها.
حذف مفعولي باب ظن: (أيْنَ شُرَكائي الذين كنْتُم تزْعمون) ، أي تزعمونهم شركاء.
حذف الجار مع المجرور: (خلَطُوا عمَلاً صالحاً) ، أي بسَيِّءٍ.
(وآخر سيئاً) ، أي بصالح.
حذف العاطف مع المعطوف: تقدم.
حذف حرف الشرط وفعله، يطَّرد بعد الطلب، نحو: (فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُم
الله) ، أي إن اتبعتموني.
(قُلْ لِعِبَادِي الذين آمَنُوا يُقِيمَوا الصلاةَ) ، أي إن قلت لهم يقيموا.
وجعل منه الزمخشري:
(فلن يُخْلِف اللهُ عَهْدَه) ، أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف.
وجعل منه أبو حيان: (فَلِمَ تَقْتُلونَ أنبياءَ اللهِ مِن قَبْل) ، أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون.(1/250)
حذف جواب الشرط: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ) ، أي فافعل.
(وإذا قِيل لهم اتّقُوا ما بين أيديكم وما خَلْفكم لعلكم تُرْحَمُون) ، أي أعرضوا، بدليل ما بعده.
(أئِن ذُكَرْتُم) ، أي تطيّرتم.
(ولو جِئْنا بمثْلِه مَدَداً) ، أي لنفد.
(ولو ترى إذ الجرمون تاكِسُو رؤُوسهم) ، أىِ لرأيت أمراً عظيما.
(ولولا فَضْلُ اللهِ عليكم ورحمتُه وأنَّ اللهَ رءوفٌ رَحِيم) ، أي لعذبكم.
(لولا أنْ رَبَطْنَا على قَلْبِها) .، أي لأبدت به.
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) ، أي لسلطكم على أهل مكة.
حذف جملة القسم: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) ، أي والله.
حذف جوابه: (والنازعات غَرْقاً) ، أي لتبعثنَّ.
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ، أي إنه لمعْجز.
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ، أي ما الأمر كما زعموا.
حذف جملة مسَبَّبَة عن المذكور، نحو: (لِيُحِقَّ الحقَّ ويُبْطلَ الباطل) ، أي فعل ما فعل.
حذف جُمَل كثيرة: (فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) ، أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، ففعلوا، فأتاه، فقال له: يا يوسف.
خاتمة
تارة لا يُقام شيء مقام المحذوف كما تقدم، وتارة يقام ما يدل عليه، نحو:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) ، فليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم، وإنما التقدير: فإن تولوا فلا لوم علي، أي فلا
عذر لكم لأني أبلغتكم.
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) .(1/251)
أي فلا تحزن واصبر.
(وإنْ يَعُودوا فقد مضَتْ سُنّةُ الأوَّلين) ، أي يصيبهم مثل ما أصابهم.
فصل
كما انقسم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف، كذلك انقسم الإطناب إلى
بسط وزيادة.
فالأول الإطناب بتكثير الجمل، كقوله: (إنَّ في خَلْقِ السماواتِ والأرْضِ) .
في سورة البقرة، أبلغ في إطنابها لكون الخطاب مع الثقَلين وفي كل عصر وحين، للعالم منهم والجاهل، والموافق والمنافق.
وقوله: (الذين يَحْمِلُون العَرْشَ ومَنْ حوله يُسبّحون بحَمْدِ ربّهم ويؤمنون
به ويستغفرون) .
فقوله: (ويُؤمنون به) إطناب، لأن إيمان حملة العرش معلوم وحسَّنه إظهار شرف الإيمان ترغيباً فيه.
(وَويْل للمشركين الذين لا يُؤتُونَ الزكاة) ، وليس من المشركين مُزَكٍّ، والنكتةُ الحثّ للمؤمنين على أدائها، والتحذير من المنع منها حيث جعلها من أوصاف المشركين.
والثاني يكون بأنواع:
أحدها: دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد الآتية في نوع الأدوات.
وهي: إنَّ، وأنَّ، ولام الابتداء، والقسم، وألا الاستفتاحية، وأما، وها التنبيه، وكأن في تأكيد التشبيه، ولكن في تأكيد الاستدراك، وليت في تأكيد التمني، ولعل في تأكيد الترجي، وضمير الشأن، وضمير الفصل، وإما في تأكيد الشرط، وقد، والسين، وسوف، والنونان في تأكيد الفعلية، ولا التبرئة، ولن ولمَّا في تأكيد النفي.
وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطَب بها منكراً أو متردداً.(1/252)
ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه، كقوله تعالى حكاية عن رسل
عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى: (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) .
فأكد بأن، واسمية الجملة.
وفي المرة الثانية: (رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) .
فأكد بالقسم، وإن، واللام، واسمية الجملة، لمبالغة المخاطبين في
الإنكار، حيث قالوا: (مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) .
وقد يؤكد بها والمخاطب به غَيْرُ منكر، لعدم جَرْيه على مقتضى إقراره.
فينزل منزلةَ المنكر.
وقد يترك التأكيد وهو معه منكر، لأن معه أدلة ظاهرة لو تأملها لرجع عن
إنكاره، وعلى ذلك يخرج: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) .
أكد الموت تأكيدين، وإن لم ينكر، لتنزيل المخاطبين - لتماديهم في الغفلة - تنزيل من ينكر الموت.
وأكد إثبات البعث تأكيداً واحداً وإن كان أشد نكيراً، لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا ينكر، فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر، حثاً لهم على النظر في أدلته الواضحة.
ونظيره قوله تعالى: (لا رَيْبَ فيه) .
نفى عنه الرَّيْبَ بلا على سبيل الاستغراق، مع أنه ارتاب فيه المرتابون، لكن نزل منزلة العدم، تعويلاً على ما مرّ به من الأدلة الباهرة، كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك.
قال الزمخشري: بولغ في تأكيد الموت، تنبيهاً للإنسان على أن يكون الموت
نصب عينيه، ولا يغفل عن ترقُّبه، فإن مآله إليه، فكأنه أكد جملته ثلاث مرات لهذا المعنى، لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غايةَ السعي حتى كأنه يخلد،(1/253)
ولم يؤكد جملة البعث إلا بأن أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يَقْبل إنكارا.
وقال التاج بن الفركاح: أكد الموت ردا على الدهرية القائلين ببقاء النوع
الإنساني خلفا عن سلف، واستغنى عن تأكيد البعث هنا، لتأكيده، والرد على منكره - في مواضع، كقوله تعالى: (بَلَى وربّي لتبْعَثنَّ) .
وقال غيره: لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغني عن إعادة اللام لذكرها
في الأول.
وقد يؤكد بها للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوّح بالخبر، فاستشرفت
نفسه إليه، نحو: (ولا تُخاطِبْنَي في الذين ظَلموا) أي لا تَدْعني يا نوح في شأن قومك، فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحاً، ويشعر بأنه قد
حق عليهم العذاب، فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا
محكوماً عليهم بذلك أم لا.
فقيل: إنهم مغرقون - بالتأكيد.
وكذا قوله: (يا أيّها الناس اتَّقوا ربكم) .
لما أمرهم بالتقوى، وظهور ثمرتها، والعقاب على تركها محله الآخرة، تشوّفت نفوسهم إلى وصف حال الساعة، فقال: (إنّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيء عظيم) - بالتأكيد، ليتقرر عليه الوجوب.
وكذا قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) ، فيه تحيير للمخاطب، وتردد في أنه كيف لا يبريء نفسه، وهي بريئة زكية ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء، فأكده بقوله: (إنّ النَّفْسَ لأمَّارَة بالسّوء) .
وقد يؤكد لقصد الترغيب، نحو: (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
أكد بأربع تأكيدات، ترغيباً للعباد في التوبة.(1/254)
وسيأتي الكلام في أدوات التأكيد ومعانيها ومواقعها في حروف المعجم.
فائدة
إذا اجتمعت إنَّ واللام كان بمنزلة تكرير الجملة ثلاثَ مرات، لأن إنَّ
أفادت التكرير مرتين، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثاً.
وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر، وإنَّ لتوكيد الاسم، وفيه تجوز، لأن
التوكيد للنسبة، لا للاسم ولا للخبر، وكذلك نون التوكيد الشديدة بمنزلة
تكرير الفعل ثلاثاً، والخفيفة بمنزلة تكريره مرتين.
وقال سيبويه - في نحو: " يا أيها ": الألف والهاء لحقت " أيّا " توكيداً.
فكأنك كررت " يا " مرتين، وصار الاسم تنبيهاً.
هذا كلامه، وتبعه الزمخشري.
فائدة
قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) .
قال الجرجاني في نظم القرآن: ليست اللام فيه للتأكيد، فإنه منكر.
فكيف يحقق ما ينكر، وإنما قاله حكاية لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الصادر منه بأداة التأكيد، فحكاه، فنزلت الآية على ذلك.
النوع الثاني: دخول الأحرف الزائدة:
قال ابن جني: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة
مرة أخرى.
وقال الزمخشري في كشافه القديم: الباء في خبر ما وليس لتأكيد النفي، كما
أن اللام لتأكيد الايجاب.
وسئل بعضهم عن التأكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاطه لا يخل بالمعنى.
فقال: هذا يعرفه أهل الطباع، يجدون من زيادة الحرف معنًى لا يجدونه بإسقاطه.
قال: ونظيره العارف بوزن الشعر طبعا إذا تغيّر عليه البيت بنقص أنكره،(1/255)
وقال: أجد في نفسي خلافَ ما أجدها في إقامة الوزن، فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع بنقصانها ويجد في نفسه بزيادنها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانها.
ثم باب الزيادة للحروف وزيادة الأفعال قليل، والأسماء أقل.
أما الحروف فيزاد منها إنْ، وأنْ، وإذ، وإذا، وإلى، وأم، والباء، والفاء.
وفي، واللام، ولا، وما، ومن، والواو، وستأتي في حروف المعجم مشروحة.
وأما الأفعال فزِيْدَ منها " كان "، وخرّج عليه: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) .
وأصبح، وخرج عليه: (فأصْبَحُوا خاسرين) .
وقال الرُّماني: العادة أن من به علة تزاد في الليل أن يرجوَ الفرج عند
الصباح، فاستعمل أصبح، لأن الخسران حصل في الوقت الذي يرجو فيه
الفرج، فليست زائدة.
وأما الأسماء فنصَّ أكثر النحويين على أنها لا تزاد، ووقع في كلام المفسرين
الحكم عليها بالزيادة في مواضع، كلفظ " مثل " في قوله: (فإنْ آمَنُوا بمثْلِ ما
آمنْتُم به) ، أي بما.
النوع الثالث: التأكيد الصناعي، وهو أربعة أقسام:
أحدها: التوكيد المعنوي بكلّ، وأجمع، وكِلاَ، وكِلْتا، نحو: (فسجد
الملائكة ُكلّهم أجمعون) .
وفائدته رفع توهُّم المجاز وعدم الشمول، وادَّعى الفراء أن (كلهم) أفادت ذلك، وأجمعون أفادت اجتماعهم على السجود، وأنهم لم يسجدوا متفرقين.
ثانيها: التأكيد اللفظي، وهو تكرار اللفظ الأول إما بمرادفه، نحو: (ضَيِّقًا
حَرِجاً) . - بكر الراء.
(غَرَابيبُ سودٌ) .
وجعل منه الصفّار: (فيما إنْ مَكناكم فيه) ، على القول بأن كليهما للنفي.(1/256)
وجعل منه غيره: (قِيل ارْجِعُوا وراءكم فالتَمِسُوا نورا) .
فوراء ليست ها هنا ظرفًا، لأن لفط ارجعوا ينبئ عنه، بل هو اسم فعل بمعنى
ارجعوا، فكأنه قال: ارجعوا ارجعوا.
وإما بلفظه، فيكون في الاسم والفعل والحرف والجملة.
فالاسم نحو: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ)
(دَكًّا دَكًّا) ، (صَفًّا صَفًّا) .
والفعل، نحو: (فَمَهِّلِ الكافرين أمْهلهم روَيدا) .
واسم الفعل، نحو: (هيهاتَ هيهاتَ لما توعَدون) .
والحرف، نحو: (ففِي الجنَّةِ خالدِين فيها) .
(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) .
والجملة، نحو: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
والأحسن اقتران الثانية بثمَّ، نحو: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) .
(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) .
ومن هذا النوع تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، نحو: (اسْكنْ أنْتَ
وزَوْجك الجنة) .
(اذهَبْ أنْتَ ورَبُّك) .
(وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) .
ومنه تأكيد المنفصل بمثله: (وهم بالآخرة هم كافرون) .
ثالثها: تأكيد الفعل بمصدره، وهو عوض من تكرار الفعل مرتين، وفائدتُه
رفع توهم المجاز في الفعل، بخلاف التوكيد السابق، فإنه لرفع توهم المجاز في
المسند إليه كذا فرق به ابن عصفور وغيره.
ومن ثم رد بعض أهل السنة على بعض المعتزلة في دعواهم نفي التكليم حقيقة بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) .
لأن التوكيد رفع المجاز في الفعل.
ومن أمثلته: (وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) .
(يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) .
(جزَاؤكم جزاءً مَوْفورا) .
وليس منه: (وتظنّون باللهِ الظنونا) ، بل هو جمع ظن، لاختلاف أنواعه.(1/257)
وأما (إلاَّ أنْ يشاءَ رَبّي شيئاً) ، فيحتمل أن يكون منه، وأن يكون الشيء بمعنى الأمر والشأن.
والأصل في هذا النوع أن يُنعت بالوصف المراد، نحو: (اذكروا اللهَ ذِكْراً
كثيراً) .
(وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) .
وقد يضاف وصفُه إليه، نحو: (اتَقُوا اللهَ حقَّ تُقَاتِه) .
وقد يؤكد بمصدر فعل آخر، أو اسم عين نيابة عن المصدر، نحو: (وتَبَتَّل إليه تبْتيلا) .
والمصدر تبتلا، والتبتيل مصدر بتَّل.
(أنْبتَكم من الأرض نباتاً) ، أي إنباتاً، إذ النبات اسم عَيْن.
رابعها: الحال المؤكدة، نحو: (ويَوْم أبْعَثُ حَيّا) .
(ولا تَعْثَوْا في الأرض مُفْسِدين) .
(وأرسلْنَاكَ للناسِ رَسُولا) .
(ثم تولَّيْتُم إلا قليلاً منكم وأنْتُم مُعْرِضُون) .
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) .
وليس منه: (ولَّى مُدْبِراً) ، لأن التولي قد لا يكون إدباراً، بدليل قوله: (فَولِّ وجْهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرام)
ولا: (فتَبَسَّم ضاحكا) ، لأن التبسم قد لا يكون ضحكاً.
ولا: (وهو الحقُّ مصَدِّقا) ، لاختلاف المعنيَيْن، إذ كونه حقا في نفسه غير كونه مصدقاً لما قبله.
النوع الرابع: التكرير، وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة.
خلافاً لبعض من غلط.
وله فوائد:
منها: التقرير، وقد قيل: إن الكلام إذا تكرر تقرر، وقد نبه تعالى على
السبب الذي لأجله كرر القصص والإنذار بقوله: (وصزرفْنَا فيه منَ الوَعيد
لعلهم يتَقون أو يُحْدِثُ لهم ذِكْرا) .
ومنها: التأكيد.
ومنها: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقّي الكلام بالقبول، ومنه: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) .(1/258)
فإنه كرر فيه النداء لذلك.
ومنها: إذا طال الكلام وخُشي تناسي الأول أعيد ثانياً تطرية له وتجديداً
لِعَهْدِه، ومنه: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) .
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) .
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) .
(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) .
(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) .
ومنها: التعظيم والتهويل، نحو: الحاقة ما الحاقة.
القارعة ما القارعة.
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين.
فإن قلت: هذا النوع أحد أقسام النوع قبله، فإن منها التوكيد بتكرار
اللفظ، فلا يحسن عدّه نوعا مستقلاً.
قلت: هو يجامعه ويفارقه، ويزيد عليه وينقص عنه، فصار أصلاً برأسه.
فإنه قد يكون التأكيد تكراراً كما تقدم في أمثلته، وقد لا يكون تكراراً كما
تقدم أيضاً.
وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد
معنى.
ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين
مؤكده، نحو: (اتّقُوا اللهَ ولْتَنْطرْ نَفْسٌ ما قدمَتْ لغَدٍ واتقُوا اللهَ) .
(إن الله اصْطفَاكَ وطهَّركَ واصْطَفَاك على نساء العالمين) .
فالآيتان من باب التكرير، لا التأكيد اللفظي الصناعي.
ومنه الآيات المتقدمة في التكرير للطول.(1/259)
ومنه ما كان لتعدد المتعلق، بأن يكون المكرر ثانياً متعلقاً بغير ما تعلق به
الأول.
وهذا القسم يسمى بالترديد، كقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) .
وقد وقع فيها الترديد أربع مرات.
وجعل منه قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة الرحمن.
فإنها تكررت نيفاً وثلاثين مرة، كلُّ واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان عائداً على شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يزيد عليها، قاله ابن عبد السلام وغيره.
وإن كان بعضها ليس بنعمة فذكرُ النقمة للتحذير نعمة.
وقد سئل: أي نعمة في قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، فأجاب بأجوبة أحسنها النقلةُ من دار الهموم إلى دار السرور، وإراحة المؤمن من الكافر، والبار من الفاجر.
وكذا قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، في سورة المرسلات، لأنه تعالى ذكر قصصاً مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، كأنه قال عقب كل قصة: ويل للمكذب بهذه القصة.
وكذا قوله في سورة الشعراء: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) .
كررت ثمان مرات، كل مرة عقب كل قصة، فالإشارة في كل واحدة بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها، وما اشتملت عليه من الآيات والعبر.
وبقوله (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قومه خاصة، ولما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصفي العزيز الرحيم، للإشارة إلى أن العزة على من لا يؤمن منهم والرحمة لمن آمن.
وكذا قوله في سورة القمر: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) .
قال الزمخشري: كرر ليجدِّدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظاً وتنبيهاً، وأن
كلاًّ من تلك الأنباء مستحق لاعتبار يختص به، وأن يتنبهوا كي لا يغلبهم
السرورُ والغفلة.(1/260)
قال في عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس
بإطناب، بل هي ألفاظ، كل أرِيد به في ما أريد بالآخر.
قلت: إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر
ولكن كرر ليكون نصّاً فيما يليه وظاهرا في غيره.
فإن قلت: يلزم التأكيد.
قلت: والأمر كذلك، ولا يَرِد عليه أن التأكيد لا يزاد عليه عن ذلك، لأن
ذلك في التأكيد الذي هو تابع.
أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع. انتهى.
ويقرب من ذلك ما ذكره ابن جرير في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) .
قال: فإن قيل: ما وَجُْ تكرار قوله: (وَلِلَّهِ ما في السماواتِ وما في
الأرض) في آيتين إحداهما في أثر الأخرى؟.
قلت: لاختلاف معنى الخبرين عما في السماوات والأرض، وذلك أن الخبر
عنه في إحدى الآيتين ذِكْر حاجته إلى بارئه، وغِنَى بارئه عنه، وفي الأخرى
حفظُ بارئه إياه، وعلمه به وبتدبيره.
قال: فإن قيل: أفلا قيل: وكان الله غنياً حميداً، وكفى بالله وكيلا؟.
قيل: ليس في الآية الأولى ما يصلح أن تُخْتم بوصفه معه بالحفظ والتدبير.
انتهى.
وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) .
قال الراغب: الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكور في قوله تعالى:(1/261)
(فَوَيْل للّذِين يكتبون الكتابَ بأيديهم) .
والكتاب الثاني التوراة.
والثالث لجنس كتب الله كلها، أى ما هو من شيء من كتب الله
وكلامه.
ومن أمثلة ما يُظن أنه تكرار وليس منه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) .
فإن لا أعبد ما تعبدون أي في المستقبل، ولا أنتم عابدون أي في الحال، ما أعبد في المستقبل، ولا أنا عابد أي في الحال.
ما عبدتم في الماضي. ولا أنتم عابدون، أي في المستقبل.
ما أعبد أي في الحال.
والحاصل أن القَصْد نفيُ عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة، وكذا:
(فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) .
ثم قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) .
ثم قال: (واذكرُوا الله في أيام مَعْدوداتٍ) .
فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر، فالأول الذكر بالمزدلفة عند الوقوف بقُزَح، وقوله: (واذكرُوه كما هَداكُمْ) إشارة إلى تكرره ثانيا وثالثاً.
ويحتمل أن يراد به طوافُ الإفاضة، بدليل تعقيبه بقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) .
والذكر الثالث إشارة إلى رَمْي جمرة العقبة.
والذكر الأخير لرمي أيام التشريق.
ومنه تكرير حرف الإضراب في قوله: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) .
وقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) .
ومنه قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) .
ثم قال: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) .
فكرر الثاني ليعم كل مطلقة، فإن الآية
الأولى في المطلقات قبل الفَرْض والمسيس خاصة.
وقيل: لأن الأولى لا تشعر بالوجوب، ولهذا لما نزلت، قال بعض الصحابة: إن شئت أحسنت وإن شئت فلا، فنزلت الثانية، قاله ابن جرير.(1/262)
ومن ذلك تكرير الأمثال، كقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ.
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة، بالمستَوتقدِين نارا، ثم
ضربه بأصحاب الصّيِّب، قال الزمخشري: والثاني أبلغ من الأول، لأنه أدل على فَرْط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، قال: ولذلك أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.
ومن ذلك تكرير القصص، كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء.
قال بعضهم: ذكر الله موسى في كتابه في مائة وعشرين موضعًا.
وقال ابن العربي في القواصم: ذكر الله قصةَ نوح في خمسة وعشرين موضعاً.
وقصة موسى في تسعين آية.
وقد ألف البَدْرُ بن جماعة كتاباً سماه المقتنص في فوائد تكرير القصص.
وذكر في فوائده:
أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله، أو إبدال كلمة بأخرى
لنكتة، وهذه عادةُ البلغاء.
ومنها: أن الرجل كان يسمع القصةَ من القرآن، ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر
بعده آخرون يحكون ما نزل بعد صدور مَنْ بعدهم، فلولا تكرار القصص
لوقعت قصةُ موسى إلى قوم وقصةُ عيسى إلى آخرين، وكذا سائر القصص.
فأراد الله اشتراكَ الجميع فيها، فيكون فيه إفادةٌ لقوم وزيادة تأكيد لآخرين.
ومنها: أنَ في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا
يخفى من الفصاحة.
ومنها: أن الدواعيَ لا تتوفر على نَقْلها كتوفرها على نقل الأحكام، فلهذا
كررت القصص دون الأحكام.(1/263)
ومنها: أنه تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثله، ثم أوضح
الأمر في عجزهم بأن كرَّرَ ذكر القصة في مواضع إعلاماً بأنهم عاجزون عن
الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا وبأي عبارة عبّروا.
ومنها: أنه لما تحداهم قال: (فأتُوا بسورة من مِثْله) .
فلو ذُكرت القصة في موضع واحد، واكتفى بها لقال العربي: ائتونا أنتم بسورة من مثله، فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعاً لحجتهم من كل وجه.
ومنها: أن القصة الواحدة لما كُررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادةٌ
ونقصان، وتقديم وتأخير، وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في إخراج الأمر الواحد في صورة متباينة في النظم، وجذب النفوس إلى سماعهم لما جُبلت عليه من حب التنقل بين الأشياء المتجددة، واستلذاذها بها، وإظهار خاصة القرآن، حيث لم يحصل - مع ذلك التكرير فيه -
هُجْنةٌ في اللفظ، ولا مَلَل عند سماعه، فبايَنَ بذلك كلام المخلوقين.
وقد سئل: ما الحكمةُ في عدم تكرير قصة يوسف، وسَوْقها مساقاً واحداً في
موضع واحد دون غيرها من القصص، وأجيب بوجوه:
أحدها: أن فيها تشبيبَ النسوة به، وحالَ امرأةٍ ونسوة افتتنوا بأبدع الناس
جمالاً، فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر.
وقد صحح الحاكم في مستدركه حديثَ النهي عن تعليم النساء سورة يوسف.
ثانيها: أنها اختصت بحصول الفَرَج بعد الشدة، خلاف غيرها من القصص.
فإن مآلها إلى الوبال، كقصة إبليس وقوم نوح وهود وصالح وغيرهم، فلما
اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقْلها لخروجها عن سِمَةِ القصص.
ثالثها: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفَرايني:
إنما كرر الله قصص الأنبياء، وساق قصةَ يوسف مساقاً واحداً إشارة إلى
عجز العرب، كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلته في سائر القصص.(1/264)
قلت: وظهر لي جواب رابع، وهو أن سورة يوسف نزلت بسبب طلب
الصحابة أن يقص عليهم، كما رواه الحاكم في مستدركه، فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة، وترويح النفس بها، والإحاطة بطرفيها.
وجواب خامس، وهو أقوى ما يجاب به: أنَّ قصص الأنبياء إنما كُررت
لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كَذَّبوا رسلهم، والحاجةُ داعية إلى ذلك
لتكرير تكذيب الكفار للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما كذّبوا أنزلت قصة مُنْذرة بحلول العذاب، كما حل على المكذبين، ولهذا قال تعالى في آيات: (فقد مضَتْ سنَّة الأولين) .
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) .
وقصة يوسف لم ئقصد منها ذلك، وبهذا أيضاً يحصل الجواب
عن حكمة عدم تكرير قصة أهل الكهف، وقصة ذي القَرْنين، وقصة موسى مع الخضر، وقصة الذّبيح.
فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين، وليست من
قَبِيل ذلك؟
قلت: الأولى في سورة كهيعص، وهي مكية أنزلت خطاباً لأهل
مكة، والثانية في سورة آل عمران، وهي مدنية أنزلت خطاباً لليهود ولنصارى نجران حين قدموا، ولهذا اتصل بها ذكر الحاجّة والمباهلة.
النوع الخامس: الصفة.
وترِد لأسباب:
أحدها: التخصيص في النكرة، نحو: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) .
الثاني: التوضيح في المعرفة، أي زيادة البيان، نحو: (ورَسولِه النبي الأمّيِّ) .
الثالث: المدح والثناء، ومنه صفات الله تعالى، نحو: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .(1/265)
(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) .
ومنه: (يَحْكُمُ بها النبيُّون الذين أسْلَمُوا) .
فهذا الوصف للمدح، وإظهار شرف الإسلام
والتعريض باليهود، وأنهم بعدوا عن ملّة الإسلام الذي هو دينُ الأنبياء كلهم، وأنهم بمعزل عنها، قاله الزمخشري.
الرابع: الذم، نحو: (فاستَعِذْ باللهِ من الشيطانِ الرجِيم) .
الخامس: التأكيد لرفع الإيهام، نحو: (لا تَتَخِذُوا إلهين اثنين) .
فإن إلهين للتثنية، فاثنين بعده صفة مؤكدة للنهي عن الإشراك، ولإفادة
أن النهي عن اتِّخاذ إلهين، إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط، لا لمعنى آخر من
كونهما عاجزين أو غير ذلك، ولأن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية، كقوله
- صلى الله عليه وسلم -: إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد.
وتطلق ويراد بها نفيُ العدة بالتثنية باعتبارها.
فلو قيل: لا تتخذوا إلهين فقط لتوهم أنه نهى عن اتخاذ جنسين آلهة.
وإن جاز أن نتخذ من نوع واحد عدداً آلهة، ولهذا أكد بالوحدة قوله: (إنما
هُوَ إله واحد) .
ومثله: (فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) - على قراءة تنوين كل.
وقوله: (إذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحدةٌ) .
فهو تأكيد لرفع توهُّم تعدد النفخة، لأن هذه الصيغة قد تدل على الكثرة
بدليل: (وإن تَعدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .
ومن ذلك قوله: (فإنْ كانَتَا اثْنَتَيْن) .
فإن لفظ (كانتا) يفيد التثنية، فتفسيره باثنتين لم يفِدْ زيادة عليه.
وقد أجاب عن ذلك الأخفش والفارسي بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن
الصفة، لأنه قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين أو صالحتين أو غير ذلك من الصفات، فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثنتين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط، وهذه فائدة لا تحصل من ضمير المثنى.(1/266)
وقيل: أراد فإن كانتا اثنتين فصاعدا، فعبّر بالأدنى عنه وعما فوته اكتفاءً.
ونظيره: (فإنْ لم يكونا رجلَيْنِ فرجل وامْرأتان) .
والأحسنُ - فيه أن الضمير عائد علىْ الشهيدين المطلقين.
ومن الصفات المؤكدة قوله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) .
فقوله: يطير - لتأكيد أن المراد بالطائر حقيقته، فقد يطلق مجازاً على غيره.
وقوله: بِجَنَاحَيْهِ، لتأكيد حقيقة الطيران، لأنه يطلق مجازًا على شدة العَدْوِ
والإسراع في المشي.
ونظيره: (يقولون بألسنتهمِ) ، لأن القول - يُطلق مجازًا على
غير اللساني، بدليل: (ويقولون في أنفسهم) .
وكذا: (ولكنْ تَعْمَى القلوبُ التي في الصدور) ، لأن القلب قد يطلق مجازاً على العين، كما أطلقت العينُ مجازاً على القلب في قوله: (الّذين
كانَتْ أعْينُهم في غِطاء عن ذِكرِي) .
قاعدة
الصفة العامة لا تأتي بعد الخاصة، لا يقالَ رجل فصيح متكلم، بل متكلم
فصيح.
وأشكل على هذا قوله تعالى في إسماعيل: (وكان رَسولاً نبِياً) .
وأجيب بأنه حال لا صفة أي مرسلاً في حال نبوته.
وقد تقدم في وجه التقديم والتأخير أمثلة من هذا.
قاعدة
إذا وقعت الصفة بعد متضايفين أولها عدَد جاز إجراؤها على المضاف وعلى
المضاف إليه، فمن الأول: (سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً) .
ومن الثاني: (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) .(1/267)
فائدة
إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن إن تباعد معنى الصفات العطفُ، نحو:
(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ، وإلا ترْكه، نحو (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) .
فائدة
قطعُ النعوت في مقام المدح والذم أبلغ من إجرائها.
قال الفارسي: إذا تكررت صفات في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالَف في إعرابا، لأن المقام يقتضي الإطناب، فإذا خُولف في الإعراب كان المقصود أكمل، لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الاتحاد تكون نوعاً واحدا، مثاله في المدح: (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) .
(ولكنَّ البِرَّ مَنْ آمنَ بالله واليوم الآخر) ... إلى قوله: (والموفُونَ بعَهْدِهم إذا عاهَدُوا والصابرين) .
وقرىء شاذا: الحمد لله رب العالمين - برفع رب ونصبه.
ومثاله في الذم: (وامرأتُه حَمّالَةَ الْحَطَبِ) .
النوع السادس - البدل:
والقصد به الإيضاح بعد الإبهام.
وفائدته البيانُ والتأكيد.
أما الأول فواضح أنك إذا قلت رأيت زيداً أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير.
وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل، فكأنه من جملتين، ولأنه دل على ما دل عليه الأول، إما بالمطابقة في بدل الكل، وإما بالتضمين في بدل البعض.
أو بالاشتمال في بدل الاشتمال.
مثال الأول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .(1/268)
(إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ) .
(لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) .
ومثال الثاني: (وَلِلَّهِ على الناسِ حجُّ البيْتِ مَنِ استطاعَ إليه سبيلاً) .
(ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بَعْضَهم ببعض) .
ومثال الثالث: (وما أنْسَانِيهُ إلا الشَّيْطان أنْ أذْكُرَه) .
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) .
(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) .
(لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) .
وزاد بعضهم بدل الكل من البعض، وقد وجدت له مثالاً في القرآن، وهو
قوله: (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ) .
فجنات عدن بدل من الجنة التي هي بعض.
وفائدته تقرير أنها جنات كثيرة لا جنة واحدة.
وقال ابن السيد: وليس كل بدل يقصد به رفْعُ الإشكال الذي يعرض في البدل منه، بل من البدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله
غنياً عنه، كقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) .
ألا ترى أنه لو لم يذكر الصراط الثاني لم يشك أحد في أن الصراط
المستقيم هو صراط الله.
وقد نصّ سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد. انتهى.
وجعل منه ابن عبد السلام: (وإذ قال إبراهيمُ لأبِيه آزَر) .
- قال: ولا بيان فيه، لأن الأب لا يلتبس بغيره.
ورُدّ بأنه قد يطلق على الجد، فأبدل لبيان إرادة الأب حقيقة.
النوع السابع: - عطف البيان:
وهو كالصفة في الإيضاح، لكن يفارقها في أنه وُضع ليدل على الإيضاح
باسم مختص به، بخلافها فإنها وضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعها.(1/269)
وفَرّقَ ابن كَيْسان بينه وبين البدل بأن البدل هو المقصود، وكأنك قررته في
موضع المبدل منه، وعطف البيان وما عطف عليه كل منهما مقصود.
وقال ابن مالك في شرح الكافية: عطف البيان يجري مجرى النعت في تكميل
متبوعه، ويفارقه في أن تكميله بشرح وتبيين، لا بدلالة على معنى في المتبوع أو سببيه، ومجرى التوكيد في تقوية دلالته، ويفارقه في أنه لا يفارقه توهم مجاز، ومجرى البدل في صلاحيته للاستقبال، ويفارقه في أنه غير منويّ الاطراح.
ومن أمثلته: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) .
(مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) .
وقد يأتي لمجرد المدح والإيضاح.
ومنه: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)
فالبيت الحرام عطف بيان للمدح والإيضاح.
النوع الثامن: عطف أحد المترادفين على الآخر:
والقصد منه التأكيد أيضاً، وجعل منه: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) .
(فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا) ، (فلا يخافُ ظُلْماً ولا هَضْماً) .
(لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) .
(لا تَرَى فيها عِوَجاً ولا أمْتاً) .
قال الخليل: العِوَج والأمْتُ بمعنى واحد.
(سِرَّهُم ونَجْواهُم) .
(شرْعةً ومِنْهاجاْ) .
(لا تُبْقِي ولا تَذَر) .
(إلا دُعَاءً ونِدَاءً) .
(أطعْنَا سادتَنا وكُبَراءَنا) .
(لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) .
فإن نَصِب كلغب وزناً ومعنى - (صلواتٌ من رَبّهم ورحْمَةٌ) 157.
(غذْراً أو نُذْراً) .
قال ثعلب: هما بمعنى واحد.
وأنكر المبرد وجود هذا النوع في القرآن، وأوَّل ما سبق على اختلاف المعنيين.
وقال بعضهم: الملخص في هذا أن تعتقد أن مجموع المترادفين(1/270)
يحصِّل معنى لا يوجد عند انفرادها، فإن التركيب يحدث معنى زائدا.
وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ.
النوع التاسع: عطف الخاص على العام:
وفائدته التنبيه على فَضْله، حتى كأنه ليس من جنس العام، تنزيلاً للتَّغَاير في
الوصف منزلة التغاير في الذات
وحكى أبو حيان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول: هذا العطف
يسمَّى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة، وأفرد بالذكر تفصيلاً.
ومن أمثلته: (حافِظُوا على الصلواتِ والصلاةِ الوُسطَى) .
(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) .
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) .
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) .
وإنما إقامتها من جملة التمسك بالكتاب، وخُصَّت بالذكر إظهاراً لرتبتها، لكونها عماد الدين.
وخص جبريل بالذكر رداً على اليهود في دعواهم عداوته.
وضم إليه ميكائيل، لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد، كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح.
وقيل: إن جبريل وميكائيل لما كانا أميري الملائكة لم يدخلا في لفظ الملائكة أولاً، كما أن الأمير لا يدخل في مسمى الجند.
حكاه الكرماني في العجائب.
ومن ذلك: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) .
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) .
بناء على أنه لا يختص بالواو، كما هو رأي ابن مالك فيه وفيما قبله.
وخصَّ المعطوف في الثانية بالذكر تنبيهاً على زيادة قبحه.
تنبيه
المراد بالخاص والعام هنا ما كان فيه الأول شاملاً للثاني لا المصطلح عليه في
الأصول.(1/271)
النوع العاشر: عطف العام على الخاص:
وأنكر بعضهم وجوده فأخطأ.
والفائدة فيه واضحة، وهو التعميم.
وأفرد الأول بالذكر اهماماً بشأنه.
ومن أمثلته: (إن صَلاَتِي ونسُكِي) .
والنسك العبادة فهو أعلم.
(آتيناك سَبْعاً من المثاني والقرآن العظيم) .
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .
(فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) .
وجعل منه الزمخشري: (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) . - بعد قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) .
النوع الحادي عشر: الإيضاح بعد الإبهام:
قال أهل البيان: إذا أردت أن تبْهم ثم توضِّح فإنك تطنب.
وفائدته إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام، والإيضاح، أو ليتمكن المعنى في النفس تمكناً زائداً لوقوعه بعد الطلب، فإنه أعز من المنساق بلا تعب، أو لتكمل لذة العلم به، فإن الشيء إذا علم من وجه ما تشوفت النفس للعلم به من باقي وجوهه، وتأملت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة.
ومن أمثلته: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) .
فإن (اشرح) يفيد طلب شرح شيء ما له، وصدري يفيد تفسيره وبيانه.
وكذلك: (يَسِّرْ لي أمْرِي) .
والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤْذِن بتلقي الشدائد، وكذلك: (ألم نشرَحْ لك صَدْرَكَ) .
فإن المقام يقتضي التأكيد، لأنه مقام امتنان وتفخيم.
وكذا: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) .(1/272)
ومنه التفصيل بعد الإجمال، نحو: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) .
وعكسه، كقوله: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) .
أعيد ذكر العشرة لدفع توهم أن الواو في (وَسَبْعَةٍ) بمعنى " أو " فتكون الثلاثة داخلة فيها، كما في قوله: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، ثم قال: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ) ، فإن من جلتها اليومين المذكورين أولاً، وليست أربعة غيرهما.
وهذا أحسن الأجوبة في الآية، وهو الذي أشار إليه الزمخشري، ورجحه ابن عبد السلام، وجزم به الزملكاني في أسرار التنزيل.
قال: ونظيره: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) . - فإنه رافعٌ لاحتمال أن تكون تلك العشرة من غير مواعدة.
قال ابن عسكر: وفائدة الوعد بثلاثين أولاً ثم بعشر، ليتجدد له قرب
انقضاء المواعدة، ويكون فيه متأهباً، مجتمع الرأي، حاضر الذهن، لأنه لو وعد بالأربعين أولاً كانت متساوية، فلما فصلت استشعرت النفس قرب التمام، وتجدّد بذلك عزم لم يتقدم.
وقال الكرماني في العجائب: في قوله: (تلك عشرة كاملة) ثمانية أجوبة:
جوابان من التفسير، وجواب من الفقه، وجواب من النحو، وجواب من اللغة، وجواب من المعنى، وجوابان من الحساب، وقد سقْتها في أسرار التنزيل.
النوع الثاني عشر: التفسير:
قال أهل البيان: وهو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيأتي بما يزيله
ويفسّره.
ومن أمثلته: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) .
فقوله: (إذا مَسَّه ... ) الخ تفسير - للهلوع، كما قال أبو العالية وغيره.
(الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)(1/273)
قال البيهقي في شح الأسماء الحسنى: قوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) ... الخ تفسير للقيَّوم.
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ) .
فيذبحون وما بعده تفسير للسوء.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) .
فَخَلَقه وما بعده تفسير للمثل.
(لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) .
فُتْلقُون ... الخ تفسير لاتخاذهم أولياء.
(الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) .
قال محمد بن كعب القرظي: (لَمْ يَلِدْ) ... الخ تفسير للصّمد.
وهو في القرآن كثير.
قال ابن جنّي: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها، لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمّم له، وجار له مجرى بعض أجزائه.
النوع الثالث عشر: وضع الظاهر موضع المضمر:
ورأيت فيه تأليفاً مفرداً لابن الصائغ، وله فوائد:
منها: زيادة التقرير والتمكين، نحو: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) .
(وبالحق أنزلنَاهُ وبالحق نزل) .
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) .
(لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
ومنها: قصد التعظيم، نحو: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) .
(أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) .
(وقرآنَ الفَجْرِ إنَّ قرآنَ الفجْرِ كان مشهوداً) .
(ولِبَاسُ التَقْوَى ذلك خير) .
ومنها: قصدُ الإهانة والتحقير، نحو: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) .(1/274)
(إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) .
ومنها: إزالة اللبس حيث يوهم الضمير أنه غير الأول، نحو: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) .
لو قال تؤتيه أوْهَم أنه الأول، قاله ابن الخشاب: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) .
لأنه لو قال: عليهم دائرته لأوهم أن الضمير عائد على الله.
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) .
لم يقل منه، لئلا يتوهم عودُ الضمير إلى الأخ، فيصير كأنه مباشر يطلب
خروجَها، وليس كذلك، لما في المباشرة من الأذى الذي تأباه النفوس الأبية، فأعيد لفظ الظاهر، لنفي هذا.
ولم يقل من وعائه، لئلا يتوهم عَوْدُ الضمير إلى يوسف، لأنه العائد إليه ضمير استخراجها.
ومنها: قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم
المقتضي لذلك، كما تقول: الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا.
ومنه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) .
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
ومنها: قَصْدُ تقوية داعية الأمور، ومنه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) .
ومنها: تعظيم الأمر، نحو: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)) .
(قل سيرُوا في الأرض فانْظُروا كيفَ بدأ الْخَلق) .
(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) .
ومنها: الاستلذاذ بذكره، ومنه: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) .
ولم يقل منها، ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة.(1/275)
ومنها: قصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، ومنه: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) ، بعد قوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) ، ولم يقل: فآمِنُوا باللَه ربي، ليتمكنَ من إجراء الصفات التي ذكرها، ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وُصِف بِهذه الصفات، ولو أتى بالضمير لم يمكن ذلك لأنه لا يوصف.
ومنها: التنبيه على عِلِّيَّة الحكم، نحو: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) .
(فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا) .
(فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) .
ولم يقل لهم، إعلاماً بأن مَنْ عادى هؤلاء فهو كافر، وإن الله إنما عاداه لكفره.
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) .
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) .
(إنَّ الذين آمنُوا وعمِلُوا الصالحاتِ إنا لا نُضِيع أجْرَ مَنْ أحسنَ
عملاً) .
ومنها: قصد العموم، نحو: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) .
ولم يقل إنها، لئلا يتوهم تخصيص ذلك بنفسه.
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) .
(وأعْتَدْنَا للكافرين عذَاباً مُهيناً) .
ومنها: قصد الخصوص، نحو: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) .
لم يقل لك تصريحاً بأنه خاص به.
ومنها: الإشارة إلى عدم دخول الجملة الأولى، نحو: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) الشورى: 24.
فإنَّ (وَيَمْحُ اللَّهُ) استئناف لا داخل في حكم الشرط.
ومنها: مراعاة الجناس، ومنه: (قل أعوذُ بربِّ الناسِ) .
ذكره الشيخ عز الدين، ومثَّله ابن الصائغ بقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) .(1/276)
ثم قال: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) .
فالمراد بالإنسان الأول الجنس، وبالثاني آدم، أو من يعلم الكتابة، أو
إدريس، وبالثالث أبو جهل.
ومنها: مراعاةُ الترصيع وتوازن الألفاظ في التركيب، ذكره بعضهم في قوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .
ومنها: أن يتحمل ضميرا لا بد منه، ومنه: (أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) .
لو قال استطعماها لم يصح، لأنها لم يستطعما القرية، أو استطعماهم فكذلك، لأن جملة استطعما صفة لقرية النكرة لا لأهل، فلا بد أن
يكون فيها ضميرٌ يعود إليها، ولا يمكن إلا مع التصريح بالظاهر، كذا حرره
السبكي في جواب سأله الصلاح الصفدي في ذلك، قال الصفَدي:
أَسَيِّدَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ وَمَنْ إذَا ... بَدَا وَجْهُهُ اسْتَحْيَا لَهُ الْقَمَرَانِ
وَمَنْ كَفُّهُ يَوْمَ النَّدَى وَمِداده ... عَلَى طِرْسِهِ بَحْرَانِ يَلْتَقِيَانِ
وَمَنْ إنْ دَجَتْ فِي الْمُشْكِلَاتِ مَسَائِلُ ... جَلَاهَا بِفِكْرٍ دَائِمِ اللَّمَعَانِ
رَأَيْت كِتَابَ اللَّهِ أَكْبَرَ مُعْجِزٍ ... لِأَفْضَلَ مَنْ يَهْدِي بِهِ الثَّقَلَانِ
وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِعْجَازِ كَوْنُ اخْتِصَارِهِ ... بِإِيجَازِ أَلْفَاظٍ وَبَسْطِ مَعَانِ
وَلَكِنَّنِي فِي الْكَهْفِ أَبْصَرْت آيَةً ... بِهَا الْكُفْرُ فِي طُولِ الزَّمَانِ
عَنَانِي وَمَا هِيَ إلَّا "اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا" فَقَدْ ... يُرَى اسْتَطْعَمَاهُمْ مِثْلَهُ بِبَيَانِ
فَأَرْشِدْ عَلَى عَادَاتِ فَضْلِك حَيْرَتِي ... فَمَالِي بِهَا عِنْدَ الْبَيَانِ يَدَانِ
***
تنبيه:
إعادةُ الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه، كما مر في آيات: (إنا لا
نُضِيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملا) .
(إنا لا نُضِيع أجرَ المصلحين) ، ونحوهما.(1/277)
ومنه: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) .
فإن إنزال الخير مناسب للربوبية وأعاده بلفظ الله، لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية، لأن دائرة الربوبية أوسع.
ومنه: (الحمدُ لله الذي خلق السماوات والأرض) ، إلى قوله: (ثم الذين كفَروا بربِّهم يَعْدِلُون) .
وإعادته في جملة أخرى أحسنُ منه في الجملة الواحدة لانفصالها، وبعد الطول أحسن من الإضمار، لئلا يبقى الذهن متشاغلا بسبب ما يعود عليه فيفوته ما شرعَ فيه، كقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) . - بعد قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) .
النوع الرابع عشر: الإيغال:
وهو الإمعان، وهو خَتمْ الكلام بما يفيد نكتة يتم - المعنى بدونها.
وزعم بعضهم أنه خاص بالشعر، ورُدّ بأنه وقع في القرآن، من ذلك قوله: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) .
فقوله بعده: " وهم مهتدون " إيغال، لأنه يتم المعنى بدونه، إذ الرسول مهتد لا محالة، لكن فيه زيادة مبالغة في الحث على اتباع الرسل والترغيب فيه.
وجعل ابنُ أي الإصبع منه: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) .
فإن قوله: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) زائد على المعنى، مبالغة في عدم انتفاعهم.
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) .
فإن قوله: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) زائد على المعنى لمدح المؤمنين، - والتعريض بالذم لليهود، وأنهم بعيدون عن الإيمان.
(إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) .
فقوله: (مِثْلَ مَا) .
إيغال زائد على المعنى لتحقيق هذا الوعد، وأنه واقع معلوم ضرورة لا يرتاب فيه أحد.(1/278)
النوع الخامس عشر - التذييل:
وهو أن يؤتى بجملة عَقِبَ جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، لتأكيد
منطوقه أو مفهومه، ليظهر المعنى لمن لا يفهمه، ويتقرر عند من فهمه، نحو:
(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) .
(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) .
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) .
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) .
النوع السادس عشر: الطرد والعكس:
قال الطيبىّ: وهو أن يأتي بكلامين يقرر الأولُ بمنطوقه مفهومَ الثاني.
وبالعكس، كقوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) .
إلى قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ، فمنطوقُ الأمر بالاستئذان في تلك الأوقات خاصة مقرر لمفهوم رَفْعِ الجناح فيما عداها، وبالعكس.
وكذا قوله: (لا يعْصُون اللهَ ما أمرهم ويفعلونَ ما يُؤمرون) .
قلت: وهذا النوع يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك.
النوع السابع عشر: التكميل:
ويسمى بالاحتراس، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلافَ المقصود بما يدفع
ذلك الوهم، نحو: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) .
فإنه لو اقتصر على أذلة لتوهم أنه لضعفهم، فرفعه بقوله: (أعزة) .
ومثله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، فإنه لو اقتصر على أشداء
لتوهم أنه لغلظهم.
(تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) .
(لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) .
فقوله: (وهم لا يشعرون) - احترايس لئلا يتوهَّم نسبة الظلم إلى سليمان.
ومثله: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) .
وكذا: (قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) .(1/279)
فالجملة الوسطى احتراس لئلا يتوهم أن التكذيب في نفس الأمر.
قال في عروس الأفراح:
فإن قلت: كلّ من ذلك أفاد معنى جديداً، فلا يكون إطنابا.
قلت: هو إطناب لما قبله من حيث رفع توهّم غيره، وإن كان له معنى في
نفسه.
النوع الثامن عشر: التتميم:
وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم غير المراد بفَضْلةٍ تفيد نكتة، كالمبالغة في
قوله: (ويُطعِمُون الطعامَ على حُبِّه) ، أي مع حب الطعام أي
اشتهائه، فإن الإطعام حينئذ أكثر أجراً.
ومثله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ
) .
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)
، فقوله: (وهو مُؤمِن) تتميم في غاية الحسن.
النوع التاسع عشر: الاستقصاء:
وهو أن يتناول المتكلم معنى يستقصيه، فيأتي بجميع عوارضه ولوازمه بعد أن
يستقصي جميع أوصافه الذاتية، بحيث لم يترك بعده فيه مقالاً، كقوله تعالى:
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ) .
فإنه لو اقتصر على قوله: (جَنَّةٌ) لكان كافياً، فلم يقف عند ذلك حتى قال في تفسيرها: (مِنْ نخيل وأعناب) ، فإنَّ مصاب صاحبها بها أعظم، ثم زاد: تجري من تحتها الأنهار - متمماً لوصفها بذلك، ثم كمل وصفها بعد التتميمين، فقال: (لهُ فيها مِنْ كلِّ الثمرات) ، فأتى بكل ما يكون في الجنان ليشتد الأسفُ على إفسادها.
ثم قال في وصف صاحبها: وأصابه الكبر، ثم استقصى المعنى في ذلك بما
يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر: (وله ذُرّيةٌ ضُعَفاء) .
ولم يقف(1/280)
عند ذلك حتى وصف الذرية بالضعف، ثم ذكر استئصال الجنة التي ليس لهذا
المصاب غيرها بالهلاك في أسرع وقت، حيث قال: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) .
ولم يقتصر على ذكره للعلم بانه لا يحصل به سرعةُ الهلاك، فقال:
(فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) .
ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر باحتراقها، لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفي بإحراقها لما فيها من الأنهار ورطوبة الأشجار، فاحترس عن هذا الاحتمال بقوله: (فَاحْتَرَقَتْ) .
فهذا أحسنُ استقصاء وقع في كلام وأتمه وأكمله.
قال ابنُ أبي الإصبع: والفرقُ بين الاستقصاء والتتميم والتكميل أن التتميم يَرِدُ على المعنى الناقص ليتم.
والتكميل يرد على المعنى التام فيكمل أوصافه.
والاستقصاء يرِدُ على المعنى التام الكامل فيستقصي لوازمَه وعوارضه وأسبابه
وأوصافه حتى يستوعب جميع ما تقع الخواطر عليه فلا يبقى لأحد فيه مساغ.
النوع العشرون: الاعتراض:
وسماه قُدامه التفاتاً، وهو الإتيان بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب أثناء
كلام أو كلامين اتصلا معنى لنكتة غير رَفْع الإيهام، كقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) .
فقوله: (سبحانه) اعتراض لتنزيه الله عن البنات والشناعة على فاعليها.
وقوله تعالى: (لتدخلنَّ المسجدَ الحرامَ إنْ شاء اللهُ آمنين) .
فجملة الاستثناء اعتراض للتبرك.
ومن وقوعه بأكثر من جملة: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) .
فقوله: (نِسَاؤُكُمْ) متصل بقوله: فأتوهن، لأنه بيان له، وما بينهما اعتراض
للحثّ على الطهارة وتجنب الأدبار.
وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
فيه اعتراض بثلاث جمل، وهي (وَغِيضَ الْمَاءُ) ، (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) .(1/281)
قال في الأقصى القريب: ونكتته إفادة أن هذا الأمرَ واقع بين القولين لا
محالة، ولو أتى به آخراً لكان الظاهر تأخيره، فبتوسُّطه ظهر كونه غير متأخر، ثم فيه اعتراض في اعتراض، فإن: (وقُضِي الأمر) معترض بين وغيض.
واستوت، لأن الاستواء يحصل عقب الغَيْض.
وقوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) .
إلى قوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ)
فيه اعتراض بسبع جمل إذا أعرب حالا منه.
ومن وقوع اعتراض في اعتراض: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) .
اعترض بين القسم وجوابه بقوله: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) ، وبين القسم وصفته بقوله: (لَوْ تَعْلَمُونَ) ، تعظيما للمقسَم به، وتحقيقاً لإجلاله، وإعلاماً لهم بأن له عظمةً لا يعلمونها.
قال الطيبي في التبيان: ووجه حسن الاعتراض حسنُ الإفادة مع مجيئه مجيء ما
لا يُترقب، فيكون كالحسنة تأتيك من حيث لا تحتسب.
النوع الحادي والعشرون: التعليل:
وفائدته التقرير والأبلغية، فإن النفوس أبعثُ على قبول الأحكام المعلَّلة من
غيرها، وغالبُ التعليل في القرآن على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى، وحروفه: اللام، وإنَّ، وأنَّ، وإذ، والباء، وكي، ومن، ولعل.
وتأتي إن شاء الله في حروف المعجم.
ومما يقتضي التعليل لفظ الحكمة، كقوله: (حِكمَةٌ بالغة) .
وذكر الغاية من الخلق، نحو: (جعل لكمُ الأرضَ فِراشاً والسماءَ بِنَاءً) .
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) .
*******(1/282)
الوجه السابع والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع البدائع البليغة فيه)
وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي نوع.
وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة.
وقد أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع، وقد قدمنا منها في نوع الفواصل
والمناسبات والفواتح والخواتم وفي الوَجْه الذي قبل هذا ما لا مزيدَ لذكره.
ونذكر هنا بعضَها لتطَّلِع بذلك على أسرار هذا الكلام الذي أعجز عقول ذوي الأفهام عن إدراك عجائبه التي لا تنقضي، لأنه في أحسن نظام، فإن أيقظ المتكلم به أحدَ هذه الأمة المحمدية للنظر في هذا الكتاب فلا يغفل عن أجرة الدلال الموصل له هذه الذخائر التي يعجز عنها كثير من الطلاب - بالدعاء له بمجاورة الموصّل لنا هذا بعد الصلاة والسلام عليه وعلى جميع الآل والأصحاب.
وإن لم يفتح الله له جملة - وهذا ظني لوصف الخلق بأوصاف البَطَلة - فنرده إلى الله ورسوله، ونسأله بمعاقد العز مِنْ عرشه، ومنتهى الرحمة من كتابه واسمه الأعظم أن يجعله لنا وجميع ما ألَّفْنا وقاية وشفيعا من جميع المكلاره ديناً ودنيا، لأنه وليّ ذلك والقادر عليه.
فمن ألقاب علوم البديع:
الإيهام: ويدعى التّورية: أن يُذكر لفظ له معنيان، إما بالاشتراك، أو
التواطؤ، أو الحقيقة، أو المجاز: أحدهما قريب والآخر بعيد، وئقصد البعيد
وئورّى عنه بالقريب، فيتوهمه السامع في أول وهلة.
قال الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطفَ من التورية، ولا أنفع
ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله.
قال: ومن أمثلته:
(الرحمنُ على العرش اسْتَوَى) ، فإنَّ الاستواء على معنيين: الاستقرار
في المكان - وهو المعنى القريب المورَّى به الذي هو غير مقصود لتنزيهه تعالى
عنه.(1/283)
والثاني الاستيلاء والملك، وهذا المعنى البعيد المقصود الذي ورّى عنه
بالقريب المذكور. انتهى.
وهذه التورية تسمى مجردة، لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورَّى به ولا
المورَّى عنه.
ومنها ما تسمى مرشَّحة، وهي التي ذُكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا.
كقوله تعالى: (والسماء بَنَيْنَاها بأيْدٍ) ، فإنه يحتمل الجارحة
وهو المورَّى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البُنْيان.
ويحتمل القدرة والقوة، وهو البعيد المقصود.
وقال ابن أبي الإصبع في كتابه الإعجاز: ومنها: (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي
ضَلاَلِكَ القديم) .
فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى، فاستعمله
أولادُ يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب.
(فاليَوْمَ ننَجِّيك بِبَدَنِكَ) .
على تفسيره بالدرع، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد، والمراد
البعيد وهو الجسد، قال: ومن ذلك قوله تعالى - بعد ذكر أهل الكتاب من
اليهود والنصارى حيث قال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) .
ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي، وتوجهت إليه اليهود، وتوجهت
النصارى إلى المشرق كانت قبلةُ الإسلام وسطاً بين القبلتين، قال تعالى:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ، أي خياراً، فظاهر اللفظ
يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين - صدق على لفظة " وسط " ها هنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين.
ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية.
قلت: وهي مرشحة بلازم الموري عنه، وهو قوله: (لتكونوا شهداءَ على
الناس) ، فإنه من لوازم كونهم خِيَاراً، أى عدولا، والإتيان قبله من قسم
المجردة.(1/284)
وفي ذلك قوله: (والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَان) ، فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر، وعلى ما لا ساق له من
النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود في الآية.
ونقلتُ من خط شيخ الإسلام ابن حَجَر أن التّوْرِية في القرآن قوله تعالى:
(وما أرسلْنَاكَ إلاَّ كافةً للناس) ، فإن كافة بمعنى مانع، أي
يكفُّهم عن الكفر والمعصية والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب
المتبادر أن المراد جامعة، أي جميعاً، لكن منع مِنْ حمله على ذلك أن التأكيد
يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول رأيت جميعاً الناس لا تقول رأيت كافة
الناس.
ومنها الاستخدام، وهو والتورية أشرفُ أنواع البديع، وهما سيّان، بل فضَّله بعضهم عليها، وله فيه عبارتان:
إحداهما: أن ئؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد معانيه، ثم يؤتى
بضميره مرادآَ به المعنى الآخر، وهذه طريقة السكاكي وأتباعه.
والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يُفهم من أحدهما أحد المعنيين.
ومن الآخر الآخر، وهذه طريقةُ بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليه ابن أبي الإصبع، ومثّل له بقوله تعالى: (للِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) .
فلفظ كتاب يحتمل الأمَدَ المحتوم والكتاب المكتوب، فلفظُ
(أجل) يخدم المعنى الأول، " ويمحو " يخدم المعنى الثاني.
ومثّل غيره بقوله تعالى: (لا تقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم سُكَارى) .
فالصلاةُ يُحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها.
وقوله تعالى: (حتى تعلَمُوا ما تَقُولون) ، يخدم الأولى، و (إلاَّ عابِري سبيل)
يخدم الثاني.
قال: ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي.
قلت: وقد استخرجتُ بفكري آيات على طريقته:(1/285)
منها قوله: (أتَى أمْرُ اللهِ) .
فأمر الله يُراد به قيام الساعة
والعذاب وبعثة - صلى الله عليه وسلم -، وقد أريد بلفظه الأخير، كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: (أتى أمْرُ اللهِ) - قال: محمد، وأعيد الضمير عليه في (تستعجلوه) مُراداً به قيام الساعة والعذاب.
ومنها - وقد أريد بلفظه أظهرها - قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) .، فإن المراد به آدم، ثم أعيد الضمير عليه مراداً به ولده، فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) .
ومنها قوله تعالى: (لا تسألُوا عن أشياءَ إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم) ، ثم قال.
(قد سألها قوم مِنْ قَبْلكم) .
أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سألوا عنها، فَنُهُوا عن سؤالها.
ومنها الالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب، إلى آخر، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور.
وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فما حقُّه التعبير بغيره.
وله فوائد، منها: تَطْرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجَر والملل، لِمَا
جُبِلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على مِنْوَال
واحد.
هذه فائدته العامة.
ويختص كل موضع بنُكَت ولطائف باختلاف محله كما سنبيِّنُه.
مثالُه من التكلم إلى الخطاب، ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عناية وتخصيص بالواجهة - قولُه تعالى: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) .
الأصل: وإليه أرجع.
فالتفت من التكلُّم إلى الخطاب.
ونكتته أنه أخرج الكلام في موضع مُنَاصحته لنفسه، وهو يريد نُصْحَ قومه تلطفاً وإعلاماً أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت لكونهم في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله، كذا جعلوا هذه الآية من(1/286)
الالتفات، وفيه نظر، لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبارَ عن نفسه في كلا
الجملتين، وهنا ليس كذلك، لجواز أن يريد بقوله: (وإليه ترجعون)
المخاطبين لا نفْسه.
وأجيب بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكارى، لأن رجوع
العَبْد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يُعيده غير ذلك الراجع، فالمعنى كيف لا أعبد من إليه رُجوعي، وإنما عدل عن "وإليه أرجع" إلى: (وإليه ترجعون) .
لأنه داخل فيهم، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة، وهي تنبيههم على أنه مثلُهم في وجوب عبادة مَنْ إليه الرجوع.
ومن أمثلته أيضاً قوله: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ) .
ومثاله من التكلم إلى الغَيْبَةِ - ووَجْهه أن يفهم السامع أن هذا غلَطَ المتكلم
وقَصْده من السامع حضر أو غاب، وأنه في كلامه ليس ممن يتلوّن ويتوجه
ويبدي في الغيبة خلافَ ما يبديه في الحضور - قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
والأصل ليغفر لك.
(إنا أعطيناكَ الكوْثَر فصَل لربِّك)
والأصل لنا.
(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) .
والأصل منا.
(إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
والأصل وبي، وعدل عنه لنُكتَتين:
إحداهما دفْعُ التهمة عن نفسه بالعصبية لها.
والأخرى تنبيههم على استحقاقه الاتّباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوّة.
ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن، ومثَّل له بعضهم بقوله:
(فاقْضِ ما أنْتَ قاض) .
ثم قال: (إنا آمنّا بربِّنا) .
وهذا المثال لا يصح، لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحداً.
ومثاله من الخطاب إلى الغيبة:(1/287)
(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) .
والأصل بكم، ونكتةُ العدول عن خطابهم إلى حكاية
حالهم لغيرهم التعجّبُ من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت
تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولاً كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم، بدليل:
((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، فلو كان: وجَرَيْن بكم
للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص.
قلت: ورأيتُ عن بعض السلف في توجيهه عكسَ ذلك، وهو أن الخطاب
أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - قال: ذكر الحديثَ عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل: " وجَرَيْنَ بكم"، لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجَرَيْن بهؤلاء وغيرهم من الخلق، هذه عبارته.
فلله درُّ السلف، ما كان أوقعهم على المعاني اللطيفة التي يَدْأب المتأخرون فيها زماناً طويلاً، ويُفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أنْ يحومُوا حول الحمى.
ومما ذُكر في توجيههم أيضاً أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاكَ
وغلبة الريح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، لم يبق حضورُهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية.
ومن أمثلته أيضاً: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) .
(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) .
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ) .
والأصل عليكم، ثم قال: (وأنْتُم فيها خالدون) ، فكرر الالتفات.
ومثاله من الغَيْبَة إلى التكلم: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ) .
(وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) .(1/288)
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) ... إلى قوله: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَ) .
ثم التفت ثانياً إلى الغيبة فقال: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
وعلى قراءة الحسن ليريه - بالغيبة يكون التفاتاً ثانياً من (باركنا) .
وفي آياتنا التفات ثالث، وفي إنه التفات رابع.
قال الزمخشري: فائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد.
ومثاله من الغيبة إلى الخطاب: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) .
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) .
(وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً) .
(إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة، فإنَّ العَبْدَ إذا ذكر الله تعالى وحْدَه، ثم
ذكر صفاته التي كلُّ صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها: (مالكِ يوْم الدين) ، المفيد أنه مالك للأمر كله في يوم الجزاء - يجد من نفسه حاملاً لا يقدر على دَفعه على خطاب مَنْ هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
وقيل: إنما اختير لفظُ الغيبة للحمد، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن
الحمد دون العبادة في الرتبة، لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده، فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب، لينسبَ إلى العظيم حالَ المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة، وذلك على طريق التأدب.
وعلى نحوٍ من ذلك جاء آخر السورة.
فقال: (الذين أنعمْتَ عليهم) ، مصرِّحاً بذكر المنْعِم وإسناد الإنعام إليه لفظاً، ولم يقل صراط المنعم عليهم.
فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه، فلم ينسبه إليه لفظاً، وجاء باللفظ منحرفاً عن ذكر الغاضب، فلم يقل: غير الذين
غضبت عليهم، تأدباً عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة.
وقيل: إنه لما ذكر الحَقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه(1/289)
رب العالمين، ورحماناً ورحيما، ومالكا ليوم الدين - تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بأن يكون معبوداً دون غيره، مستعاناً به، فخُوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة، تعظيما لشأنه، حتى كأنه قيل: إياك يا مَنْ هذه صفاته نَخُص بالعبادة والاستعانة، لا غيرك.
قيل: ومن لطائفه التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبةُ منهم عنه سبحانه.
وقصوركم عن محاضرته ومخاطبته، وقيامُ حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له وتوسّلوا للقرب بالثناء عليه، وأقرّوا بالمحامد له، وتعبَّدوا له بما يليق بهم
- تأهلوا لمخاطبته ومناجاته، فقالوا: إياكَ نعبدُ وإياك نستعين.
تنبيهات:
الأول: شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقَل إليه عائداً في نفس
الأمر إلى المنْتَقل عنه، وإلا يلزم عليه أن يكون في: أنت صديقي - التفات.
الثاني: شرطه أن يكون في جملتين، صرح به صاحب الكشاف وغيره.
الثالث: ذكر التنوخي في الأقصى القريب، وابن الأثير وغيرهما، نوعاً غريباً
من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه، كقوله: (غير المغضوب عليهم) بعد (أنعمتَ) ، فإن المعني غير الذين غضبتَ عليهم.
وتوقّف فيه صاحب عروس الأفراح.
الرابع: قال ابن أبي الإصبع: جاء في القرآن من الالتفات قسم غريب جدّاً لم
أظفر في الشعر بمثاله، وهو أن يقدم المتكلم في كلامه مذكورين مرتين، ثم يخبر عن الأول منهما، وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبار عن الثاني، ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، كقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) .
انصرف عن الإخبار عن الإنسان إلى الإخبار عن ربه تعالى، ثم قال منصرفاً عن الإخبار عن ربه إلى الإخبار عن نفسه: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) .(1/290)
قال: وهذا يحسن أن يسمَّى التفات الضمائر.
الخامس: يقرب من الالتفات نَقْلُ الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو
الجمع إلى الخطاب الآخر، ذكره التنوخي وابن الأثير، وهو ستة أقسام أيضاً:
مثاله من الواحد إلى الاثنين: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) .
وإلى الجمع: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) .
ومن الاثنين إلى الواحد: (فمَنْ ربُّكما يا موسى) .
(فلا يُخْرِجنّكُمَا مِنَ الجنة فتَشْقَى) .
وإلى الجمع: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) .
ومن الجمع إلى الواحد: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) .
وإلى الاثنين: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) ... إلى قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) .
السادس: ويقرب منه أيضاً - الالتفات من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى
آخر: مثاله من الماضي إلى المضارع: (أرْسل الريَاحَ فتُثِير سَحَاباً) .
(خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْ) .
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) .
وإلى الأمر: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ)
(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) الحج: 130.
ومن المضارع إلى الماضي: (ويوم يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزع) .
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ) .(1/291)
وإلى الأمر (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) .
ومن الأمر إلى الماضي: (واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبراهيم مُصلى وعَهدْنا) .
وإلى المضارع: (وأنْ أقِيمُوا الصلاَةَ واتَّقُوه وهو الذي إليه تُحْشَرون) .
الإطراد
وهو أن يذكر المتكم أسماء آباء المدوح مرتبة على حكم ترتيبها في الولادة.
قال ابنُ أبي الإصبع: ومنه في القرآن قوله تعالى - حكاية عن يوسف: (واتّبعْتُ ملّةَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ) - قال: وإنما لم يأت به
على الترتيب الألوف، فإن العادة الابتداء بالأب ثم بالجد ثم الجد الأعلى، لأنه لم يُرد هنا مجرد ذكر الآباء، وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها، فبدأ بصاحب الملة، ثم بمن أخذها عنه أولاً فأولاً على الترتيب.
ومثله قول أولاد يعقوب: (نَعْبُد إلهكَ وإلهَ آبائك إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاق) .
الانسجام
هو أن يكون الكلام لخلوّه عن العَقَدةِ متحدّراً كتحدّر الماء المنسجم، ويكاد
لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقّةْ.
والقرآن كله كذلك.
قال أهل البديع: وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت فقراته موزونة بلا
قصد، لقوة انسجامه.
ومن ذلك ما وقع في القرآن موزوناً، فمنه من بحر الطويل: (فَمنْ شاءَ فليُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فلْيَكفُر) .
ومن المديد: (واصْنَعِ الفُلكَ بأعْيُننا) .(1/292)
ومن البسيط: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) .
ومن الوافر: (ويُخْزِهم ويَنْصُرْكُم عليهم ويَشْفِ صدُورَ قوم مُؤْمنين) .
ومن الكامل: (واللهُ يَهْدِي مَنْ يشاءُ إلى صراط مستقيم) .
ومن الهزَج: (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) .
ومن الرَّجَز: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) .
ومن الرمَل: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) .
ومن السريع: (أو كالّذِي مَرّ على قَرْيةٍ وهي خاوِيةٌ على عُروشها) .
ومن المنْسَرح: (إنّا خلَقْنَا الإنسانَ مِنْ نُطْفَة أمْشَاج نَبْتَلِيه) .
ومن الخفيف: (لا يَكَادُون يَفْقَهُون حديثاً) .
ومن المضارع: (يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) .
ومن المقتضب: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .
ومن الْمُجْتَث: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) .
ومن المتقارب: (وأُمْلِي لهم إنَّ كَيْدِي مَتِين) .
الإدماج
قال ابن أبي الإصبع: هو أن يدمج المتكلم غرضاً في غرض، أو بديعاً في
بديع، بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين، كقوله:
(وله الحَمْدُ في الأولى والآخِرة) .
أدمجت المطابقة في المبالغة،(1/293)
لأن انفراده تعالى بالحمد في الآخرة - وهي الوقت الذي لا يُحْمد فيه سواه - مبالغةٌ في الوصف بالانفراد بالحمد، وهو وإنْ خرج مخرج المبالغة في الظاهر فالأمرُ فيه حقيقة في الباطن، فإنه ربّ الحمد والمنفرد به في الدارين.
انتهى.
قلت: والأوْلى في هذه أن يقال: إن الآية من إدماج غرض في غرض، فإن
الغرض منها تفرّده تعالى بوصف الحمد، فأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء.
الافتنان
هو الإتيان في كلام بفتنين مختلفين، كالجمع بين الفخر والتعزية في قوله
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) .
فإنه تعالى عزَّى جميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وسائر
أصناف ما هو قابل للحياة، وتمدّح بالبقاء بعد فناء الموجودات في عشر
لفظات، مع وصفه تعالى ذاتَه وانفراده بالبقاء بالجلال والإكرام سبحانه.
ومنه: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
جمع فيها بين هناء وعزاء.
الاقتدار
هو أن يُبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور، اقتداراً منه على نظم الكلام
وتركيبه، وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض، فتارة يأتي به في لفظ
الاستعارة، وتارة في صورة الإرداف، وحينا في مخرج الإيجاز، ومرة في قالب
الحقيقة.
قال ابن أبي الإصبع: وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن، فإنك ترى القصة
الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة وقوالبَ من الألفاظ متعددة، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه، ولا بد أن تجد الفرقَ بين صورها ظاهراً.(1/294)
ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى
الأول: أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضاً، بأن يقرَن الغريب بمثله.
والمتداوَل بمثله، رعاية الفاصلة لحسن الجواب والمناسبة.
والثاني: أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد، فإن كان فخما كانت
ألفاظه فخمة، أو جزلاً فجزلة، أو غريباً فغريبة، أو متداولة فمتداولة، أو
متوسطاً بين الغرابة والاستعمال فكذلك.
فالأول كقوله تعالى: (تاللهِ تَفْتَأ تذكرُ يوسفَ حتى تكونَ حَرَضاً) .
أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء، فإنها أقل استعمالاً، وأبعدُ
من أفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، فإن " تزال " أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً منها، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو الحرض، فاقتضى حسنُ الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة تَوَخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم.
ولما أراد غير ذلك قال: (وأقسموا باللهِ جهْدَ أيمانهم) .
فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها.
ومن الثاني قوله تعالى: (ولا ترْكَنُوا إلى الّذينَ ظلمُوا فَتَمَّسكُم النارُ) .
لما كان الركون إلى الظالم، وهو الميل إليه، والاعتماد عليه، دون
مشاركته في الظلم.
وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظالم، فأتى
بالمَسّ الذي هو دون الإحراق والاصطلام.
وقوله: (لها ما كَسَبَتْ وعَليها ما اكتسبَت) .
أتى بلفظ الاكتساب المشْعِر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها.
وكذا قوله: (فكبْكبُوا فيها هم والغَاوُونَ) ا.
فإنه أبلغ من كبّوا للإشارة إلى أنهم يكبون كَبّاً عنيفاً فظيعاً(1/295)
(وهم يَصْطَرِخُون فيها) .
فإنه أبلغ من يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخا
منكراً خارجاً عن الحدّ المعتاد.
(أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِر) .
فإنه أبلغ من قادر، للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة، وأنه لا رادّ له ولا معقّب.
ومثل ذلك: (واصْطَبِرْ) ، فإنه أبلغ من اصبر.
و (الرحمن) أبلغ من الرحيم، فإنه مشعر باللطف والرفق، كما أن الرحمن مشعر بالفخامة والعظمة.
ومنه الفرق بين سقى وأسقى، فإن سقى لما لا كُلْفة معه في السقيا، ولذا
أورده تعالى في شراب الجنة، فقال: (وسقَاهم رَبّهم شرَاباً طَهُوراً) .
وأسقى لما فيه كلفة، ولهذا أورده تعالى في شراب أهل الدنيا، فقال:
(وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) .
(لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) .
لأن السقي في الدنيا لا يخلو من كلفة أبدًا.
الاستدراك والاستثناء
شرط كونهما من البديع أن يتضمّنا ضرباً من المحاسن زائداً على ما يدل عليه
المعنى اللغوي، مثال الاستدراك قوله تعالى: (قالت الأعرابُ آمَنَّا قل لم تؤْمِنُوا ولكن قولُوا أسلَمْنَا) .
فإنه لو اقتصر على قوله: (لم تُؤمنوا) لكان منفِّراً لهم، لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقاد إيمانا، فأوجبت البلاغة ذكْرَ الاستدراك، ليعلم أن الإيمان موافقة القلب اللسان، وإن انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما، ولا يسمى إيماناً.
وزاد ذلك أيضاً بقوله: (ولَمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم) .
فلما تضمّن الاستدراك إيضاح ما عليه ظاهر الكلام من الإشكلال عُدَّ من المحاسن.
ومثال الاستثناء: (فلَبِثَ فيهم ألْفَ سنةٍ إلا خمسين عاما) ، فإن الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة يمهد عذر نوح في دعائه على قومه
بدعوةٍ أهلكتهم عن آخرهم، إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً لم يكن فيه من التهويل ما في الأول، لأن لفظة الألف في الأول أولُ ما يطرق السمع(1/296)
فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام.
وإذا جاء الاستثناء لم يبق له بعد ما تقدمه وَقْعٌ
يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف.
الاقتناص
ذكره ابن فارس: وهو أن يكون كلامٌ في سورة مقتنصا من كلام في سورة
أخرى أو تلك السورة، كقوله تعالى: (وآتيْنَاه أجْرَهُ في الدنيا وإنّه في الآخرة
لمِنَ الصَّالحين) .
والآخرةُ دار ثواب لا عمل فيها، فهذا مقتنصٌ من قوله: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) .
ومنه: (ولولا نِعْمَةُ رَبّي لكنْتُ من الْمُحضَرين) .
مأخوذ من قوله: (فأولئك في العذاب مُحْضَرون) .
وقوله: (ويوم يقومُ الأشهاد) .، - مقتنص من أربع آيات.
لأن الأشهاد أربعة: الملائكة في قوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) .، والأنبياء في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) .
وأمة محمد في قوله: (لتكونُوا شُهَدَاء على الناس) .
والأعضاء في قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ) .
وقوله: (ويوم التَّنَادِ) .
قرىء مخففا ومشدداً، فالأول مأخوذ من قوله: (ونادَى أصحابُ الجنةِ أصحَاب النار) .
والثاني من قوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) .
الإبدال
هو إقامة بعض الحروف مقام بعض، وجعل منه ابن فارس: (فَانْفَلَقَ) .
أي فانفرق، ولذا قال: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) .
فالراء واللام يتعاقبان.(1/297)
وعن الخليل - في قوله: (فجَاسوا خِلاَلَ الديار) .
أنه أريد فحاسوا، فقامت الجيم مقام الحاء، وقد قرىء بالحاء أيضاً.
وجعل منه الفارسي: (إنيْ أحبَبْتُ حُبَّ الخير) ، أي الخيل.
وجعل منه أبو عبيدة: (إلاّ مُكاءً وتَصْدِية) .، أي تصددة.
تاكيد المدح بما يشبه الذم
قال ابن أبي الإصبع: هو في غاية العِزَّة في القرآن.
قال: ولم أجد منه إلا آية واحدة، وهي قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) .
فإن الاستثناء بعد الاستفهام الخارج مخرج التوبيخ على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان - يوهم أن ما يأتي بعده مما يوجب أن ينقم على فاعله، مما يُذَم به، فلما أتى بعد الاستثناء ما يوجب مَدْحَ فاعله كان الكلام
متضمنا تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قلت: ونظيرها قوله: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
وقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) .
فإن ظاهر الاستثناء أن ما بعده حق يقتضي الإخراج.
فلما كان صفةَ مدح تقتضي الإكرام لا الإخراج كان تأكيداً للمدح بما يشبه
الذم.
وجعل منه التنوخي في الأقصى القريب: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) .
استثنى (سَلَامًا سَلَامًا) الذي هو ضد اللغو والتأثيم، فكان ذلك مؤكداً لانتفاء اللغو والتأثيم.(1/298)
التفويف
هو إتيان المتكلم بِمَعَان شتى، من المدح، والوصف، وغير ذلك من الفنون.
كلّ فن في جملة منفصلةٍ عن أختها، مع تساوي الجمل في الزِّنَة، ويكون في الجمل المتوسطة والطويلة والقصيرة.
فمن الطويلة: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) .
ومن المتوسطة: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) .
قال ابن أبي الإصبع: ولم يأت المركب من الجمل القصيرة في القرآن.
التقسيم
هو استيفاء أقسام الشيء الموجودة، لا الممكنة عقلاً، نحو: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) .
إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين.
وقوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) ، فإن العالم لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة، إما عاص ظالمَ لنفسه.
وإما سابق مبادر للخيرات، وإما متوسط بينهما مقتصد فيهما.
ونظيرها: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) .
وكذا قوله تعالى: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) .
استوفى أقسام الزمان، ولا رابع.(1/299)
وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) .
استوفى أقسام الْخَلْق في المشي.
وقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) .
استوفى جميع هيئات الذاكرين.
وقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) .
استوفى جميع أحوال المتزوجين، ولا خامس لها.
التدبيج
هو أن يذكر المتكمُ ألواناً يقصد التوريَة بها والكناية، قال ابن أبي الإصبع:
كقوله: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) .
قال: المراد بذلك - والله أعلم - الكنايةُ عن المشتبه والواضح من
الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جداً، وهي
أوضح الطرق وأبْينُها، ودونها الحمراء، ودون الحمراء السوداء، كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الوضوح والظهور.
ولما كانت هذه الألوانُ الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور والبياض، والطرف الأدنى في الخفاء والسواد، والأحمر بينهما على وَضْع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل عَلَم نصب للهداية منقسماً هذه القسمة - أتت الآية الكريمة منقسمةً كذلك، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم.
التنكيت
هو أن يقصد المتكم إلى شيء بالذكر دون غيره، مما يسد مسدَّه، لأجل نكتة
في المذكور ترجِّح مجيئه على سواه، كقوله تعالى، (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) .
- خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم،(1/300)
وهو تعالى ربُّ كل شيء، لأن العربَ كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أي كبْشَة عَبَد الشًعْرَى، ودعا خلقاً إلى عبادتها، فانزل الله: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) .، التي ادَّعيتَ فيها الربوبية.
التجريد
هو أن ينتزع من أمرٍ ذي صفة آخر مثله، مبالغة في كمالها فيه، نحو: لي من
فلان صديق حميم.
جرّد من الرجل الصديق آخر مثله متّصفا بصفة الصداقة.
ونحو: مررتُ بالرجل الكريم، والنَّسمة المباركة.
جرَّدوا من الرجل الكريم آخر مثله متصفاً بصفة البركة، وعطفوه عليه، كأنه غيره، وهو هو.
ومن أمثلته في القرآن: (لهم فيها دَارُ الْخُلْدِ) .
ليس المعنى أن الجنة فيها غير دار الخلد، ودار الخلد، بل نفسها دار الخلد، فكأنه جرَّد من الدار داراً - ذكره في المحتسب.
وجعل منه: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) ، على أن المراد بالميت النطفة.
قال الزمخشري: وقرأ عبيد بن عُمَيْر: (فكانَتْ وردةٌ كالذهان)
بالرفع، بمعنى حصلت منها وردة.
قال: وهو من التجريد.
وقرئ أيضاً: (يرِثُني وارِثٌ مِنْ آل يَعْقُوب) .
قال ابن جني: هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهَبْ لي من لدنك وَلِيّاً يرثني منه وارث من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثاً.
التعديد
هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد، وأكثرُ ما يوجد في الصفات.
كقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) .
الاَوة وقوله: (التائبُون العابدُون الحامِدون) .
وقوله: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) .(1/301)
الترديد
هو أن يورد أوصافَ الموصوف على ترتيبها في الخلقة الطبيعية، ولا يُدْخل
فيها وصفاً زائداً، ومثَّله عبد الباقي اليمني بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا) .
وبقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) .
التضمين
يطلق على أشياء:
أحدها: إيقاع لفظٍ موقع غيره، لتضمنه معناه، وهو نوع من المجاز تقدم
فيه.
الثاني: حصول معنى فيه من غير ذكرٍ له باسم هو عبارة عنه، وهذا نوع من
الإيجاز تقدم أيضاً.
الثالث: تعلُّق ما بعد الفاصلة بها، وهذا مذكور في نوع الفواصل.
الرابع: إدراج الغير في أثناء الكلام لقصد تأكيد المعنى، أو ترتيب النظم.
وهذا هو النوع البديعي.
قال ابن أبي الإصبع: ولم أظفر في القرآن بشيء منه إلا
في موضعين تضمَّنا فصلين من التوراة والإنجيل: قوله: (وكتَبْنَا عليهم أن
النفْسَ بالتفْسِ) .
وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) .
ومثلَّه ابن النقيب وغيره بإبداع حكايات المخلوقين في القرآن، كقوله تعالى
- حكاية عن الملائكة: (أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماءَ) .
وعن المنافقين: (أنُؤْمِن كما آمَنَ السفهاء) ..
وقالت اليهود، وقالت النصارى.
قال: وكذلك ما أودع فيه من اللغات الأعجمية.(1/302)
الجناس
هو تَشَابهُ اللفظين في اللفظ، قال في كنز البراعة: وفائدته الميل إلى الإصغاء
إليه، فإن مناسبة الألفاظ تُجَدّد ميلاً وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا
حُمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوق إليه.
وأنواع الجناس كثيرة، منها التام: بأن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها
وهيئتها، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) .
قيل: ولم يقع منه في القرآن سواه.
واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعاً آخر، وهو: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) .
وأنكر بعضهم كَوْنَ الآية الأولى من الجناس، وقال: الساعة في الموضعين
بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، بل يكونان حقيقتين، وزمان القيامة وإن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة، فإطلاقُ الساعة على القيامة مجاز، وعلى الآخر حقيقة، وبذلك يخرج الكلام عن التجنيس، كما لو قلت: لقيت حماراً وركبت حماراً - تعني بليداً.
ومنها: المصحَّف، ويسمى جناسَ الخط، بأن تختلف الحروف في النقط.
كقوله: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) .
ومنها: المحرّف، بأن يقع الاختلافُ في الحركات.
، كقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) .
ولقد اجتمع التصحيف والتحريف في قوله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) .(1/303)
ومنها: الناقص، بأن يختلفا في عدد الحروف، سواء كان الحرف المزيد أولاً
أو وسطاً أو آخراً، كقوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) .
(كلِي مِن كل الثَّمَرَاتِ) .
ومنها: المذَيل بأن يزيد أحدهما أكثر من حرف في الآخر أو الأول، وسمى
بعضهم الثاني بالمتوَّج، كقوله: (وانْظُرْ إلى إلهكَ) .
(ولكنَّا كُنّا مُرْسِلين) .
(مَنْ آمَنَ باللهِ) .
(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) .
(مُذَبْذَبِين بَيْنَ ذَلك) .
ومنها: المضارع، وهو أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج، سواء كان في
الأول أو الوسط أو الآخر، كقوله تعالى: (وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأَون عنه) .
ومنها: اللاَّحق، بأن يختلفا بحرف غير مقارب فيه، كقوله تعالى: (ويلٌ
لكلِّ هُمَزةٍ لُمَزة) .
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) .
(ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) .
(وإذا جاءهم أمْرٌ من الأمْنِ) .
ومنها: المرْفُوّ، وهو ما تركب من كلمة وبعض أخرى، كقوله: (جُرُفٍ
هَارٍ فانْهَارَ) .
ومنها: اللفظي، بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية، كالضاد
والظاء، كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
ومنها: تجنيس القلب، بأن يختلفا في ترتيب الحروف، نحو: (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .
ومنها: تجنيس الاشتقاق، بأن يجتمعا في أصل الاشتقاق، ويسمى المقتضب.
نحو: (فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ) .
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) .
(وجَّهْتُ وَجْهيَ) .(1/304)
ومنها: تجنيس الإطلاق، بأن يجتمعا في المشابهة فقط، كقوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) .
(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) .
(لِيُرِيَه كيف يوَارِي) .
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) .
(اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى ... إلى قوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) .
تنبيه:
لكون الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ترِك عند قوة المعنى، كقوله
تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) .
قيل: ما الحكمة في أنه لم يقل وما أنت بمصدِّق، فإنه يؤدي معناه مع رعاية التجنيس؟
وأجيب بأن في مؤمن لنا من المعنى ما ليس في مصدق، لأن معنى قولك: فلان مثلاً مصدّق لي: قال لي صدقتَ.
وأما مؤمن فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن، ومقصودهم التصديق وزيادة، وهو طلب الأمن، فلذلك عبّر به.
وقد زلَّ بعض الأدباء فقال في قوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) .
لو قال: وتَدَعون لكان فيه مجانسة.
وأجاب الإمام فخر الدين: بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه
التكليفات، بل لأجل قوة المعاني، وجزالة الألفاظ.
وأجاب غيره بأن مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ.
ولو قيل: أتَدْعون وتَدَعون لوقع الالتباس على القاريء، فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفاً.
وهذا الجواب غير ناضج.
وأجاب ابن الزّمَلْكاني بأن التجنيس تحسين، وإنما يستعمل في مقام الوعد
والتوعد والإحسان لا في مقام التهويل.
وأجاب الخويّي بأن " يَدع " أخص من يذَر، لأنه بمعنى ترك الشيء مع(1/305)
اعتنائه بشهادة الاشتقاق، نحو الإيداع، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يُختار لها مَنْ هو مؤتمن عليها.
ومن ذلك الدَّعة بمعنى الراحة.
وأما تذر فمعناه الترك مطلقاً، والترك مع الإعراض والرفض الكليّ.
قال الراغب: يقال فلان يذَرُ الشيء: أي يقذفه لقلة الاعتداد به.
ومنه الوَذْرة قطعة من اللحم لقلة الاعتداد بها.
ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول، فأريد هنا تشنيع حالهم في الإعراض عن ربهم، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض. انتهى.
الجمع
هو أن يجمع بين شيئين أو أشياء - متعددة في حكم، كقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
جمع المال والبنون في الزينة.
وكذا قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) .
الجمع والتفريق
هو أن يجمع بين شيئين في معنى واحد ويفرق بين جهتي الإدخال.
وجعل منه الطيبي قوله تعالى: (اللَهُ يَتَوفى الأنْفسَ حِيْنَ مَوْتها) .
جمع النفسين في حكم التوفي، ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى الأنفس التي تُقْبَض والتي لم تُقْبَض، ويمسك الأولى، ويرسل الأخرى.
الجمع والتقسيم
وهو جمع متعددٍ تحت حكم، ثم تقسيمه، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) .(1/306)
الجمع والتفريق والتقسيم
كقوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
فالجمع في قوله: (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، لأنها متعددة
معنى، إذ النكرة في سياق النفي تعم.
والتفريق في قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) .
والتقسيم في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) .
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) .
جع المؤتلف والمختلف
هو أن يريد التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحها.
ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا يُنقص الآخر، فيأتي لأجل ذلك بمعان تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) .
سوَّى في الحكم والعلم، وزاد في فَضْل سليمان بالفهم.
حسن النسق
وهو أن يتكلم المتكلم بكلمات متواليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما
مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منها قامت بنفسها، واستقل معناها
بلفظها، ومنه قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
فإنها جمل معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي
تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف
عليه غاية مطلوبِ أهل السفينة، من الإطلاق من سِجنها، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك، من دَفْع أذاه بعد الخروج، ومنع إخلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقضاء المادتين الذي هو متأخر عنه قطعاً، ثم بقضاء الأمر الذي هو هلاك مَنْ قدّر هلاكه ونجاة من سبق نجاته، وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها، وخروجهم موقوف على ما تقدم، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف، وحصول الأمن(1/307)
من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين، لإفادة أن الغرق وإن علم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه.
عتاب المرء نفسه
ومنه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) .
وقوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) .
العكس
هو أن يُؤْتى بكلام يقدَّم فيه جزء ويؤخَّر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر
المقدم، كقوله تعالى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) .
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) .
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) .
(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) .
(لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) .
وقد سئل عن الحكمة في عكس هذا اللفظ، فأجاب ابن المنيِّر بأن فائدته
الإشارة إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب: الحقُّ أن كل واحد من فعل المؤمنة
والكافر منفيّ عنه الحل، أما فعل المؤمنة فيحرم لأنها مخاطبة، وأما فعل الكافر
فنفي عنه الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة، فليس الكفار مورد الخطاب، بل الأئمة، ومن قام مقامهم مخاطبون بمنع ذلك، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد، فاتضح أن المؤمنة نفي عنها الحل باعتبارٍ، والكافر نفي عنه الحل باعتبارٍ.
قال ابن أبي الإصبع: ومن غريب أسلوب هذا النوع: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) .(1/308)
فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى، لتقديم العمل في الأولى عن
الإيمان، وتأخيره في الثانية عن الإسلام.
ومنه نوع يسمى القلب والمقلوب المستوي، وما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن تُقرأ الكلمة من أولها إلى آخرها، كما تُقرأ من آخرها إلى أولها، كقوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) .
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) .
ولا ثالث لهما في القرآن.
العنوان
قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غَرَض، فيأتي لقصد تكميله
وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة.
ومنه نوع عظيم جداً، وهو عنوان العلوم، بأن يُذْكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها، فمن الأول قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) .
فيها عنوان قصة بلعام.
ومن الثاني قوله تعالى: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) .
فيها عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، فإذا نُصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكلماً بهم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
فيها عنوان علم الكلام، وعلم الجَدَل، وعلم الهيئة.
الفرائد
وهو مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأنه الإتيان بلفظة تتنزل منزلة الفريدة
من العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها - تدل على عظم فصاحة هذا الكلام وقوة عارضته، وجزالة منطقه، وأصالة عربيته، بحيث لو أسقطت من الكلام عزّتْ على الفصحاء.
ومنه: حَصْحَصَ الحقّ - في قوله: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) .(1/309)
والرفث في قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) .
ولفظة "فُزِّعَ" في قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) .
وخائنة في قوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) .
وألفاظ كقوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) .
وقوله: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) .
القسم
هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له، أوتعظيم، أو تنويه لقدره، أو ذمٌّ لغيره، أو جاريا مجرى الغزل والترقق، أو خارجاً مخرج الموعظة والزهد، كقوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) .
أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة.
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) .
أقسم سبحانه بحياة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيما لشأنه وتنويهاً بقدره.
وسيأتي في وجه الأقسام أشياء تتعلق بذلك.
اللف والنشر
هو أن يُذكر شيئان أو أشياء إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالاً.
بأن يؤتى بلفظة تشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من التقدم، ويفوّض إلى عقل السامع ردّ كل واحد إلى ما يليق به.
فالإجمالي كقوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى.
وإنما سوع الإجمال في اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة.
فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس.
وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران.(1/310)
قلت: وقد يكون الإجمال في اللف لا في النشر، بأن يُؤْتى بمتعدد، ثم بلفظٍ
يشتمل على صفة تصلح لهما، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) .
على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل.
وقد بيّنْتهُ في أسرار التنزيل.
والتفصيلي قسمان:
أحدهما: أن يكون على ترتيب اللفظ، كقوله تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار.
وقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) .
فاللوم راجع إلى البخل، ومحسوراً راجع إلى الإسراف، لأن معناه منقطعا لا شيء عندك.
وقوله: (ألم يَجِدْكَ يَتِما) ... الآيات.
فإن قوله: (فأمَّا اليتيمَ فلا تقْهَر) - راجع إلى قوله: (ألم يَجدْكَ يتما فآوَى) .
وقوله: (فأما السائل فلا تنهر) - راجع إلى: (ووجدَك ضالاَّ) ، فإن المراد السائل عن العلم، كما فسره مجاهد وغيره.
(وأما بنعمة ربك فحدِّث) راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى) .
رأيت هذا المثال في شرح الوسيط للنووي المسمى بالتنقيح.
والثاني: أن يكون على عكس ترتيبه، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ... الآيات.
وجعل منه جماعة قوله تعالى: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) .
قالوا: متى نَصْر الله: قَوْلُ الذين آمنوا، و (ألا إن نَصْرَ الله قريب) قول الرسول.
وذكر الزمخشري له قسماً آخر، كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) .
قال: هذا من باب اللف، وتقديره: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار.
إلا أنه فصَل بين منامكم(1/311)
وابتغاؤكم بالليل والنهار، لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء وقع مع إقامة اللف على الاتحاد.
المشاكلة
ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديرا، فالأول كقوله
تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) .
(ومكَروا ومكَرَ اللَهُ) .
فإطلاق النفس والمكر في جانب الباري تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه.
وكذا قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) ..
لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة.
(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
(الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) .
(فيَسْخَرونَ مِنهم سَخِر اللَهُ منهم) .
(إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) .
ومثال التقديري: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) .
فقوله: صبغة الله أي تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس.
والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة.
المزاوجة
أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء، أو ما جرى مجراهما، كقوله:
إذا ما نهى الناهي فلجّ بِيَ الْهَوَى ... أصاخَتْ إلى الواشي فلجّ بها الهجْر
ومنه في القرآن: (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) .(1/312)
المبالغة
أن يذكر المتكلم وصفاً يزيد فيه حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده، وهي
ضربان:
مبالغة في الوصف، بأن يخرج إلى حد الاستحالة.
ومنه: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) .
و (لا يدخلون الجنّةَ حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخِياطِ) .
ومبالغة في الصيغة، وصيغ المبالغة فَعْلان، كالرحمن.
وفَعِيل، كالرّحيم.
وفَعَّال، كالتوّاب والغَفّار والقَهّار.
وفَعول، كغَفور، وشَكور، ووَدود.
وفَعِل، كحذِر وأَشِر وفَرِح.
وفعَال بالتخفيف، كعجاب، وبالتشديد ككلبّار.
وفُعَل كلُبَد وكبَر.
وفُعْلى كالعُليا، والحسنى، والشورى، والسُّوأى
فائدة
الأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل، ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم.
وفسره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف، فكأن البناء تضاعف فيه الصفة.
وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن.
ورجحه ابن عسكر
بتقديم الرحمن عليه، وبأنه جيء به على صيغة الجمع، كعبيد، وهو أبلغ من صيغة التثنية.
وذهب قُطرب إلى أنهما سواء.
فائدة
ذكر البرهان الرشيدي أن صفات الله تعالى التي على صفة المبالغة كلها مجاز.
لأنها موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها، لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما
له، وصفاته تعالى متناهيةٌ في الكمال لا تمكن المبالغة فيها.
وأيضاً فالمبالغة تكون(1/313)
في صفاتٍ تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله منزهة عن ذلك.
واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي.
وقال الزركشي في البرهان: التحقيق أن صيغ المبالغة قسمان:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب تعدد المفعولات.
ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين، وعلى هذا القسم تنزل صفاته تعالى، ويرتفع الإشكال.
ولهذا قال بعضهم - في " حكيم ": معنى المبالغة
فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
وقال في الكشاف: المبالغة في التوّاب للدلالة على كثرة مَن يتوب عليه من
عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، نزّل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
، قد أورد بعض الفضلاء سؤالاً على قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وهو أن قديرًا من صيغ المبالغة، فيستلزم الزيادة على معنى قادر.
والزيادةُ على معنى قادر محال، إذ الإيجاد من وجد لا يمكن فيه التفاضل
باعتبار كل فرد.
وأجيب بأن المبالغة لما تعذَّر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى جموع
الأفراد التي دل السياق عليها، فهي بالنسبة إلى كثرة التعلق لا الوصف.
المطابقة
وتسمى الطباق: الجمع بين المتضادين في الجملة، وهو قسمان: حقيقي.
ومجازي.
والثاني: يسمى التكلافؤ، وكل منهما إما لفظي أو معنوي، وإما طباق
إيجاب أو سلب.
فمن أمثلة ذلك: (فليضحَكُوا قليلاً ولْيَبْكُوا كثيرا) .
(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) .(1/314)
(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) .
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) .
ومن أمثلة المجازي: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، أي ضالاَ فهديناه.
ومن أمثلة طباق السلب: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) .
(فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) .
ومن أمثلة المعنوي: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) .
معناه إن ربنا يعلم إنا لصادقون.
(جعل لكم الأرضَ فِرَاشاَ والسماء بِنَاءً) .
قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رافعاً للمبنيّ قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء.
ومنه نوع يسمى الطباق الخفيّ، كقوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) ، لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين الماء والنار.
قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن.
وقال ابن المعتز: مِنْ أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: (ولكم في القِصَاصِ
حَيَاة) .، لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة.
ومنه نوع يسمى ترصيع الكلام، وهو اقتران الشيء بما يجتمع معه في قَدْر
مشترك، كقوله: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) .
جاء بالجوع مع العري، وبابه أن يكون مع الظمأ، وبالضحَى مع الظمأ، وبابه أن يكون مع العري، لكن الجوع والعري اشتركا في الخلو، فالجوع خُلوّ البطن من الطعام.
والعري خلو الظاهر من اللباس.
والضحى والظمأ اشتركا في الاحتراق، فالظمأ احتراق الباطن من العطش.
والضَّحى احتراق الظاهر من حر الشمس.
ومنه نوع يسمى المقابلة، وهو أن يُذكر لفظان فأكثر ثم أضدادها على
الترتيب.(1/315)
قال ابن أبي الإصبع: والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين:
أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا في ضدين فقط.
والمقابلة لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة.
والثاني: أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وبغيرها.
قال السكاكي: ومن خواص المقابلة أنه إذا شرط في الأول أمرا شرط في
الثاني ضده، كقوله تعالى: (فأمّا مَنْ أعطى واتَّقَى وصدَّق بالحسنى) .
قابل بين الإعطاء والبخْل، والاتقاء والاستغناء، والتصديق والتكذيب، واليسرى والعسرى، ولا جعل التيسير في الأول مشتركاً
بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده - وهو التعسير - مشتركاً بين
أضدادها.
وقال بعضهم: المقابلة إما لواحد بواحد، وذلك قليل جدّا، كقوله تعالى:
(لا تأخذه سِنَة ولا نَوْم) .
أو اثنين باثنين كقوله تعالى: (فلْيَضحَكُوا قليلاً ولْيَبْكُوا كثيراً) .
أو ثلاثة بثلاثة كقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) .
(واشْكُروا لي ولا تَكْفرون) .
أو أربعة بأربعة كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) .
أو خمسة بخمسة كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) .
قابل بين بعوضة، فما فوقها.
وبين فأمَّا الذين آمَنُوا والذين كفروا.
وبين يضل ويهدي، وبين ينقضون وميثاقه، وبين يقطعون وأن يوصل.
أو ستة بستة، كقوله تعالى: (زيًنَ للناس حبَّ الشهواتِ من النساء والبنين) .
الآيات، ثم قال: (قل أونبّئكم بِخَيْر مِنْ ذلكم) .
قابل الجنّات، والأنهار، والخلد، والأزواج، والتطهير، والرضوان، بإزاء النساء، والبنين، والذهب، والفضة، والخيل المسوَّمة، والأنعام، والحرث.
وقسّم آخر المقابلة ثلاثة أنواع: نظيري، ونقيضي، وخلافي، مثال الأول(1/316)
مقابلة السنَة بالنوم في الآية الأولى، فإنهما جميعاً من باب الرقاد المقابَل باليقظة في آية، (وتَحْسَبهم أَيقاظاً وهم رقود) .
وهذا مثال الثاني، فإنهما نقيضان.
ومثال الثالث مقابلة الشر بالرشد في قوله: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) .
فإنهما خلافان لا نقيضان، فإن نقيض الشر الخير، والرشد الغي.
المواربة
براء مهملة وباء موحدة: أن يقول المتكلم قولاً يتضمن الإنكار عليه، فإذا
حصل الإنكار استحضر بحذْقه وجهاً من الوجوه يتخلص به، إما بتحريف
كلمة، أو تصحيفها، أو زيادة أو نقص.
قال ابن أبي الإصبع: ومنه قوله تعالى
حكاية عن أكبر أولاد يعقوب: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ، فإنه قُرِئ إن ابنك يسرِّق ولم يسرق، فأتى بالكلام
على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد في الراء وكسرها.
المراجعة
قال ابن أبي الإصبع: هي أن.
يحكي المتكلم مراجعةً في القول جرت بينه وبين محاور له بأوجز عبارة، وأعدل سَبك، وأعذب ألفاظ، ومنه قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) .
جمعت هذه القطعة - وهي بعض آية - ثلاث مراجعات فيها
معاني الكلام، من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، بالمنطوق والمفهوم.
قلت: أحسن من هذا أن يُقال جمعت الخبر والطلب، والإثبات والنفي، والتأكيد والحذف، والبشارة والنذارة، والوعد والوعيد.(1/317)
النزاهة
هي خلوص ألفاظ الهجاء من الفحْش حتى يكون - كما قال أبو عمرو بن
العلاء - وقد سئل عن أحسن الهجاء: هو الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها.
ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) .
ثم قال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) .
فإن ألفاظ ذم هؤلاء الخْبَر عنهم بهذا الخبر أتت منزهة عما يقع في الهجاء من
الفحش.
وسائر هجاء القرآن كذلك.
الإبداع
بالباء الموحَّدة: وهو أن يشتمل الكلام على عدة ضروب من البديع.
قال ابن أبي الإصبع: ولم أر في الكلام مثل قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
فإن فيها عشرين ضرباً، وهي سبع عشرة لفظة، وذلك للمناسبة التامة في (ابلعي) و (أقلعي) ، والاستعارة فيهما، والطباق بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: (يَا سَمَاءُ) ، فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في: وغيض الماء، فإنه عبر به عن معان كثيرة، لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فينقص الحاصل على وَجْه الأرض من الماء.
والإرداف في: (واستوت) ، والتمثيل في: (وقضي الأمر) .
والتعليل، فإنَّ (غِيضَ الْمَاءُ) عِلّة الاستواء.
وصحة التقسيم، فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، والماء النابع من الأرض، وغَيْض الماء الذي على ظهرها.
والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهَّم أن الغرق لعمومه شمل مَن لا يستحق الهلاك، فإنَ عَدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق.
وحسن النسق، وائتلاف اللفظ مع المعنى.
والإيجاز، فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة.
والتسهيم، لأن أول الآية يدل على آخرها.
والتهذيب، لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج(1/318)
الحروف، عليها رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب.
وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء منه.
والتمكين، لأن الفاصلة مستقرة في محلها، مطمئنة في مكانها، غير قلقة ولا
مستدعاة، والانسجام.
هذا ما ذكره ابن أبي الإصبع.
وفي بديعة الصفيّ منها مائة وخمسون، فتأملها.
*******
الوجه الثامن والعشرون من وجوه إعجازه (احتواؤه على الخبر والإنشاء)
وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما، وأنه ليس له قسم ثالث.
وادعى قوم انقسامه إلى خبر وطلب وإنشاء، قالوا: لأن الكلام إما أن
يحتمل التصديق والتكذيب أم لا: الأول الخبر، والثاني إن اقترن معناه بلفظه فهو الإنشاء، وإن لم يقترن بل تأخر عنه فهو الطلب.
والمحققون على دخول الطلب في الإنشاء، وأن معنى " اضْرِبْ " مثلاً - وهو
طلب الضرب - مقترن بلفظه.
وأما الضرب الذي يوجد بعد ذلك فهو متعلق الطلب لا نفسه.
وقد اختلف الناس في حد الخبر، فقيل: لا يحد لعسْره.
وقيل: لأنه ضروري، لأن الإنسان يفرق بين الإنشاء والخبر ضرورة، ورجَّحه الإمام في المحصول.
والأكثر على حدّه، فقال القاضي أبو بكر والمعتزلة: الخبر الذي يدخله
الصدق والكذب، فأورِد عليه خبر الله تعالى، فإنه لا يكون إلاَّ صادقاً.
، أجاب القاضي بأنه يصح دخوله لغة.
وقيل: الذي يدخله التصديق والتكذيب، وهو سالم من الإيراد المذكور.
وقال أبو الحسن البصري: كلام يفيد بنفسه نسبة، فأورِد عليه نحو: قمْ، فإنه يدخل في الحد، لأن القيام منسوب والطلب منسوب.(1/319)
وٍ قيل: الكلام المفيد بنفسه إضافةَ أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو
إثباتا.
وقيل: القول المقتضي بتصريحه نسبةَ معلوم إلى معلوم بالنفي أو الإثبات.
وقال بعض المتأخرين: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام، والخبر
خلافه.
وقال مَنْ جعل الأقسام ثلاثة: الكلام إن أفاد بالوضع طلباً فلا يخلو إما أن
يطلب ذكر الماهية، أو تحصيلها، أو الكفّ عنها، والأول الاستفهام.
والثاني الأمر.
والثالث النهي.
وإن لم يفِدْ طلباً بالوضع فإن لم يحتمل الصدق والكذب
سمِّيَ تنبيهاً وإنشاء، لأنك نبَّهْتَ به على مقصودك، وأَنشأته، أي ابتكرته، من غير أن يكون موجوداً في الخارج، سواء أفاد طلباً لازماً، كالتمنّي والترجّي والنداء والقسم، أم لا، كأنتِ طالق، وإن احتملهما من حيث هو فهو الخبر.
فصل
القصد بالخبر إفادة المخاطب.
وقد يرد بمعنى الأمر، نحو: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) .
(والمطَلَّقاث يَتَرَبّصْنَ) .
وبمعنى النهي، نحو: (لا يمَسّه إلا المطَهَّرون) .
وبمعنى الدعاء، نحو: (وإياك نَستَعِين) .
ومنه: (تَبتْ يَدَا أبي لهَب) ، فإنه دعاء عليه.
وكذا: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) .
(غلَّتْ أيديهم ولُعِنوا بما قَالوا) .
وجعل منه قوم: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) .
قالوا: هو دعاء عليهم بضيق صدورهم عن قتال أحَد.
ونازع ابن العريي في قولهم: إن الخبر يرد بمعنى الأمر أو النهي، فقال في قوله
تعالى: (فلا رَفَثَ ولا فسوق) ، - ليس نفياً لوجود الرفث، بل لنفي مشروعيته، فإن الرفث يوجد من بعض الناس، وأخبار الله لا يجوز أن(1/320)
تقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً لا إلى وجوده محسوساً، كقوله: (والمطَلَّقَات يترتصْنَ) ، ومعناه مشروعاً لا محسوساً.
فإنا نجد مطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود
الحسّي.
وكذا: (لا يمسهُ إلا المطهَّرون) ، أي لا يمسه أحد منهم شرعاً، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع.
قال: وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء، فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي وما وُجِد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة متباينان وضعاً. انتهى.
فرع
من أقسامه على الأصح التعجب.
قال ابن فارس: وهو تفضيل لشيء على أضرابه.
وقال ابن الصائغ: استعظام صفة، خرج بها المتعجَّب منه عن نظائره.
وقال الزمخشري: معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن
التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله.
وقال الرّماني: المطلوب في التعجب الإبهام، لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لم يُعرف سببه، فكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن.
قال: وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي سببه.
والصيغة الدالة عليه تسمى تعجباً مجازاً، قال: ومن أجل الإبهام لم تعمل
" نعم " إلا في الجنس من أجل التفخيم، ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر.
تم قد وضعوا للتعجب صيغاً من لفظه، وهي ما أفعل، وأفعل به، وصيغاً
من غير لفظه، نحو (كَبر) ، كقوله تعالى: (كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من أفواههم) .
(كبر مَقْتاً عند الله) .
(كيف تكفرونَ بالله) .(1/321)
قاعدة
قال المحققون: إذا ورد التعجب من الله صرِف إلى المخاطب، كقوله تعالى:
(فما أَصْبَرَهم على النار) ، أي هؤلاء يجب أن يتعجب منهم.
وإنما لا يوصف تعالى بالتعجب، لأنه استعظام يصحبه الجهل، وهو تعالى منزه
عن ذلك، ولهذا تُعَبِّر جماعة بالتعجيب بدله، أي أنه تعجيب من الله
للمخاطبين.
ونظير هذا مجيء الدعاء والترجي منه تعالى، إنما هو بالنظر إلى ما
تفهمه العرب، أي هؤلاء مما يجب أن يقال لهم: عندكم هذا.
ولهذا قال سيبويه في قوله تعالى: (لعله يتذكّر أو يَخْشَى) .
المعنى اذهبا على رجائكما وطمعكما.
وفي قوله: (وَيْلٌ للمطفّفين) .
(ويْلٌ يومئذٍ للمكذِّبين) .
لا نقول هذا دعاء، لأن الكلام بذلك قبيح، ولكن العرب إنما تكلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنونه، فكأنه قيل لهم: "ويل للمطففين "، أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلَكة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة.
فرع
من أقسام الخبر الوعد والوعيد، نحو: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) .
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) .
وفي كلام ابن قتيبة ما يوهم أنه إنشاء.
فرع
من أقسام الخبر النفي، بل هو شطر الكلام كله.
والفرق بينه وبين الجَحْد أن النافي إن كان صادقاَ سمّي كلامه نفياً، ولا يسمى جحداً.
وإن كان كاذباً سمي نفياً وجحداً أيضاً، فكل جحد نفي، وليس كل نفي جحداً.
ذكره أبو جعفر النحاس وابن الشجَري وغيرهما.(1/322)
مثال النفي: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) .
ومثال الجَحْد نفي فرعون وقومه آيات موسى، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) .
وأدوات النفي: لا، ولات، وليس، وما، وإنْ، ولم، ولمَّا، وستأتي في
حروف المعجم.
ونورد هنا فائدة زائدة، قال الخُوَيّي: أصل أدوات النفي لا، وما، لأن
النفي إما في الماضي وإما في المستقبل، والاستقبال أكثر من الماضي أبدًا، ولا
أخفّ من ما، فوضعوا الأخف للأكثر.
ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيًا واحدًا مستمرا، أو نفياً فيه أحكام
متعددة، وكذلك النفي في المستقبل، فصار النفي على أربعة أقسام.
واختاروا له أربع كلمات: ما، ولم، ولن، ولا، فأما إن ولمّا فليسا بأصلين، فما ولا في الماضي والمستقبل متقابلان.
ولم كأنه مأخوذ من لا وما، لأن لم نفي للاستقبال لفظا
والمضِيّ معنى، فأخذ اللام من لا التي هي لنفي المستقبل والميم من " ما "التي
هي لنفي الماضي، وجمع بينهما إشارة إلى أن في "لم " إشارة إلى المستقبل
والماضي، وقدم اللام على اليم إشارة إلى أن " لا " هي أصل النفي، ولهذا يُنفى بها في أثناء الكلام، فيقال لم يفعل زيد ولا عمرو.
أما لما فتركيب بعد تركيب، كأنه قال: لم وما لتوكيد معنى النفي في الماضي.
وتفيد الاستقبال أيضاً، ولهذا تفيد لما الاستمرار.
تنبيهات
الأول: زعم بعضهم أن شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصافِ النفي
عنه بذلك الشيء، وهو مردود بقوله: (وما ربّك بغافل عما يعملون) .
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) .
(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ، ونظائره.(1/323)
والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا.
وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه.
الثاني: نفي الذاتِ الموصوفة قد يكون نفيًا للصفة دون الذات، وقد يكون
نفياً للذات أيضاً.
من الأول: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) .
أي بل هم جسد يأكلونه.
ومن الثاني: (لا يسألونَ النَّاسَ إلحافاً) .
أي لا سؤال لهم أصلاً، فلا يحصل منهم إلحاف.
(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) .
أي لا شفيع لهم أصلاً.
(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) .
أي لا شافعين لهم تنفعهم شفاعتهم، بدليل: (فما لنا من شافعِين) .
ويسمى هذا النوع عند أهل البديع نفي الشيء بإيجابه.
وعبارة ابن رشيق في تفسيره: أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه، بأن ينفي ما هو من سببه، كوصفه، وهو المنفي في الباطن.
وعبارة غيره: أن تنفي الشيء مقيداً والمراد نفيه مطلقاً مبالغة في النفي
وتأكيداً له.
ومنه: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ، فإن الإله مع الله لا يكون إلا عن غير برهان.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، فإن قَتْلهم لا يكون إلا بغير حق.
(رفَع السماواتِ بغير عَمَدٍ ترونها) .
فإنها لا عمد لها أصلاً.
الثالث: قد ينفي الشيء أصلاً لعدم كمال وصفه، أو انتفاء ثمرته، كقوله في
صفة أهل النار: (لا يموت فيها ولا يحيىَ) .
فنفى عنه الموت، لأنه ليس بموت صريح، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة.
(وتَرَاهم ينْظُرون إليكَ وهم لا يُبْصرون) .
فإن المعزلة احتجّوا بها على نفي الرؤية، فإن النظر في قوله: (إلى رَبِّها نَاظِرة) ، لا يستلزم الإبصار.(1/324)
وردّ بأن المعنى أنها تنظر إليه بإقبالها عليه، وليست تبصر شيئا.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) .
فإنه وصفهم أولاً بالعلم على سبيل التوكيد القَسَمِي، تم نفاه آخراً عنهم لعدم جريهم على موجب العلم، قاله السكاكي.
الرابع: المجاز.
قالوا: يصح نفيه بخلاف الحقيقة.
وأشكل على ذلك: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) .
فإن المنفي فيه الحقيقة.
وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتَّب عليه، وهو وصوله إلى الكفار، فالوارد
عليه النفي هنا مجاز لا حقيقة، والتقدير: وما رميت خلقاً إذ رميت كسباً.
أو ما رميت انتهاء إذ رميت ابتداءً.
الخامس: نفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان، وقد يراد به
نفي الامتناع، وقد يراد به الوقوع بمشقَّة وكلفة.
من الأول: (فلا يستطيعون تَوْصِيَةً) .
(فلا يستطيعون ردَّها) .
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) .
ومن الثاني: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) .
على القراءتين، أي هل يفعل، أو هل تجيبنا إلى أن نسأل، فقد علموا أنَ الله قادر على الإنزال، وأن عيسى قادر على السؤال.
ومن الثالث: (إنك لن تَسْتَطِيع مَعِي صَبْرا) .
قاعدة
نفى العام يدل على نفي الخاص، وثبوتُه لا يدل على ثبوته، وثبوث الخاص
يدل على ثبوت العام، ونفيه لايدل على نفيه.
ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به، فلذلك كان نفي العام أحسنَ من نفي الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.
فالأول كقوله:(1/325)
(فلمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذهب اللَّهُ بِنورِهم) ، ولم يقل بضوئهم بعد قوله: أضاءت، لأن النور أعم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير.
ولذلك قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) .
ففي الضوء دلالةٌ على النور، فهو أخص منه، فعدمه يوجب عدم الضوء
بخلاف العكس.
والقصدُ إزالة النور منه أصلاً، ولذلك قال عَقِبَه: (وتركهم في ظلمات لا يُبْصِرون) .
ومنه: (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) ، ولم يقل ضلال، كما قالوا: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) .
لأنها أعم منه، فكان أبلغ في نفي الضلال.
وعبَّر عن هذا بأن نَفْيَ الواحد يلزم منه نفي الجنس ألبتَّة، وبأن نفي
الأدنى يلزم منه نفي الأعلى.
والثاني كقوله: (وجَنَّةٍ عَرْضها السماوات والأرضُ) .
- ولم يقل طولها، لأن العرض أخصّ، إذ كلّ ما له عَرْض فله طول ولا ينعكس.
ونظير هذه القاعدة أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل.
وقد أشكل على هذا آيتان: قوله تعالى: (وما رَبُّكَ بظلاَّمٍ للعَبِيد) .
وقوله: (وما كان ربك نَسِيًّا) . م
وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة:
أحدها: أن ظلاّماً، وإن كان لِلْكثرة، جيء به في مقابلة العبيد الذي هو
جَمْع كثرة، ويرشّحه أنه تعالى قال: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، فقابل صيغة فعَّال
بالجمع.
وقال في آية أخرى: (عَالِم الغَيْبِ) - فقابل صيغة فاعل الدال على
أصل الفعل بالواحد.
الثاني: أنه نفَى الظلم الكثير، فينتفي القليلُ ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نَفْعه فلأن يترك القليل أولى.
الثالث: أنه على النسبة، أي بذي ظلم.
حكاه ابنُ مالك عن المحققين.(1/326)
الرابع: أنه أتى بمعنى فاعل لا كثرة فيه.
الخامس: أن أقلَّ القليل لو ورد منه تعالى لكان كثيراً، كما يقال: زَلّة العالم كبيرة.
السادس: أنه أراد ليس بظالم، ليس بظالم، تأكيدا للنفي، فعبّر عن ذلك
بقوله: ليس بظلام.
السابع: أنه أراد جواباً لمن قال: ظلاَّم، والتكرار إذا ورد جواباً لكلامٍ
خاصّ لم يكن له مفهوم.
الثامن: أن صيغة المبالغة وغيرها من صفات الله سواء في الإثبات، فجرى
النفي على ذلك.
التاسع: أنه قصد التعريض بأن ثَمَّ ظلاّماً للعَبِيد مِنْ وُلاَة الْجَوْر.
ويجاب عن الثانية بهذه الأجوبة، وبعاشر - وهو مناسبة رؤوس الآيات.
فائدة
قال صاحب الياقوتة: قال ثعلب والمبرد: العرب إذا جاءت بين الكلامين
بجَحْدَيْن كان الكلام إخباراً، نحو: (وما جعَلْنَاهمْ جَسداً لا يأكلونَ الطَّعَامَ) .
المعنى إنا جعلناهم جسداً يأكلون الطعام.
وإذا كان الجحد في أول الكلام كان جَحْدا حقيقياً، نحو: ما زيد بخارج.
وإذا كان في أول الكلام جَحدان كان أحدهما زائداً، وعليه: (فِيمَا إنْ مكنّاكم فيه) ، في أحد الأقوال.
فصل
من أقسام الإنشاء الاستفهام، وهو طلب الْفَهم، وهو بمعنى الاستخبار.
وقيل الاستخبار ما سيق أولاً ولم يفهم حقَّ الفهم، فإذا سألت عنه ثانياً كان
استفهاماً، حكاه ابن فارس في فقه اللغة.(1/327)
وأدواته: الهمز ة، وهل، وما، ومَنْ، وأيّ، وكم، وكيف، وأين، وأنّى، ومتى، وأيّان، وستأتي في حروف المعجم.
قال ابن مالك في المصباح: وما عدا الهمزة نائب عنها، ولكونه طلب ارتسام
صورة ما في الخارج في الذهن لزم أن يكون حقيقة من شاكّ مصدق بإمكان
الإعلام، فإن غير الشاكّ إذا استفهم يلزم عليه تحصيلُ الحاصل، وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت عنه فائدة الاستفهام.
قال بعض الأئمة: وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام فإنما يقع في خطاب
الله تعالى على معنى أن المخاطَبَ عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل.
وقد تُستعمل صيغة الاستفهام في غيره مجازاً.
وألّف في ذلك العلامة شمس الدين بن الصائغ كتاباً سماه " روض الأفهام في أقسام الاستفهام ".
قال فيه: قد توسّعَتِ العرب فأخرجت الاستفهام عن حقيقته لمعان أو أشْرَبَتْة تلك المعاني.
ولا يختص التجوُّز في ذلك بالهمزة خلافاً للصفّار.
الأول: الإنكار، والمعنى فيه على النفي، وما بعده منفي، ولذلك تصحبه
" إلا "، كقوله: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) .
(وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) .
وعطف عليه المنفي كقوله: (فمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضلَّ اللَّهُ وما لهم مِنْ ناصِرين) ، أي لا يهدي.
ومنه: (أَنؤْمِن لك واتّبعك الأرْذَلون) .
(أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْن مِثلنا) .
أي لا نؤمن.
(أمْ لَهُ البناتُ ولكمُ البَنُون) .
(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) .
أي لا يكون هذا.
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، أي ما شهدوا ذلك.
وكثيراً ما يصحبه التكذيب، وهو في الماضي بمعنى لم يكن، وفي المستقبل
بمعنى لا يكون، نحو: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) .
أي لم يفعل ذلك.
(أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) .
أي لا يكون هذا الإلزام.(1/328)
الثاني: التوبيخ، وجعله بعضهم من قبيل الإنكار، إلا أن الأول إنكار
إبطال، وهذا الإنكار توبيخ.
والمعنى أن ما بعده واقع جدير بأن يُنفى، فالنفي
هنا قصديّ، والإثبات قصدي، عكس ما تقدم.
ويعبر عن ذلك بالتقريع أيضاً، نحو: (أفعصَيْتَ أمْرِي) .
(أتَعْبُدونَ ما تنْحِتُون) .
(أتَدْغونَ بَعْلاً وتَذَرُون أحسنَ الخالقين) .
وأكثر ما يقع التوبيخ في أمر ثابت وبِّخَ على فعله، كما يقع على ترك فعل
ينبغي أن يقع، كقوله: (أوَلمْ نعَمِّرْكم ما يَتَذكّر فيه مَنْ تَذَكَّر) .
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) .
الثالث: التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر
عنده.
قال ابن جني: ولا يستعمل ذلك بهل، كما يستعمل بغيرها من أدوات
الاستفهام.
وقال الكندي: ذهب كثير من العلماء في قوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ)
إلى أنَّ (هل) تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ، إلا أني رأيت أبا عليٍّ أنكر ذلك، وهو معذور، فإن ذلك من قبيل الإنكار.
ونقل أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بهل، إنما يستعمل في
الهمزة.
ثم نقل عن بعضهم أن (هل) تأتي تقريراً كما في قوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) .
والكلام مع التقرير موجب، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب، ويعطف على صريح الموجب.
فالأول: كقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) .
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) .
(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) .
والثاني: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) ، على ما قرره الجرجاني من جعلها مثل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) .(1/329)
وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار.
والإنكار تفْيٌ، وقد دخل على النفي، ونفي النفي إثبات.
ومن أمثلته: (ألَيْسَ الله بكافٍ عَبْدَه) .
(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) .
وجعل منه الزمخشري: (ألم تعلم أنَّ اللهَ على كل شيء قدير) .
الرابع: التعجب أو التعجيب، نحو: (كيف تَكْفرونَ باللَّهِ) .
(مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) .
وقد اجتمع هذا القِسْم وسابقاه في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) .
قال الزمخشري: الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم.
ويحتمل التعجبَ والاستفهام الحقيقي: (ما وَلاَّهم عن قِبْلَتِهمْ) .
الخامس: العتاب، كقوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) .
قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامهم وبين أن عوتبوا بهذه الآية إلا أربع سنين. أخرجه الحاكم.
ومن ألطف ما عاتب الله به خَيْرَ خلقه بقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، ولم يتأدّب الزمخشريُّ بأدب الله في هذه الآية على عادته في سوء أدبه.
السادس: التذكير.
وفيه نوع اختصار، كقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) .
(ألم أَقلْ لكم إني أعلم غَيْبَ السماواتِ والأرضِ) .
(هل علمْتم ما فعلْتم بيوسف وأخيه) .
السابع: الافتخار، نحو: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) .
الثامن: التفخيم، نحو: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) .(1/330)
التاسع: التهويل والتخويف، نحو: (الحاقّة ما الحاقة) .
(القارعةُ ما القارِعة) .
العاشر: عكسه، وهو التسهيل والتخفيف، نحو: (وماذَا عليهم لو آمَنُوا) .
الحادي عشر: التهديد والوعيد، نحو: (ألم نُهْلِكِ الأوّلين) .
الثاني عشر: التكثير، نحو: (فكأيِّن مِنْ قَرْيةٍ أهلكناها) .
الثالث عشر: التسوية، وهو الاستفهام الداخل على جملة يصح حلول الصدر محلها، نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) .
الرابع عشر: الأمر، نحو: (أأسْلَمْتُم) ، أي أسلموا.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، أي انتهوا.
(أتصبرون) ، أي اصْبِروا.
الخامس عشر: التنبيه، وهو من أقسام الأمر، نحو: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ، أي انظر.
(ألم تَرَ أن الله أنزل من السماء ماء فتُصْبِحُ الأرْضُ مخْضَرَّة) .
ذكره صاحب الكشاف عن سيبويه، ولذلك رفع الفعل في جوابه.
وجعل منه قوم: (فأين تذهبون) ، للتنبيه على الضلال، وكذا: (ومَنْ
يَرْغَبُ عن ملّة إبراهيم إلاَّ مَنْ سفِهَ نَفْسَه) .
السادس عشر: الترغيب، نحو: (مَنْ ذا الّذِي يُقْرِضُ اللَهَ قَرْضاً حَسَناً) .
(هل أدلكم على تجارةٍ تنْجِيكم) .
السابع عشر: النهي، نحو: (أتَخْشَوْنَهُم فاللَهُ أحقّ أن تَخْشوه) .
بدليل قوله ة (فلا تخْشَوا الناسَ واخْشَونِ) .
(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ، أي لا تغتر به.(1/331)
الثامن عشر: الدعاء، وهو كالنهي، إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى، نحو:
(أتهْلِكنَا بما فعل السّفَهَاءُ منّا) ، أي لا تهلكنا.
التاسع عشر: الاسترشاد، نحو: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) .
العشرون: التمني، نحو: (فهل لنا مِنْ شفَعاء) .
الحادي والعشرون: الاستبطاء، نحو: (متى نَصْرُ الله) .
الثاني والعشرون: العرض، نحو: (ألا تحِبّونَ أن يَغْفِرَ الله لكم) .
الثالث والعشرون: التحضيض، نحو: (ألا تقَاتلون قَوْماً نَكَثوا أيْمَانَهم) .
الرابع والعشرون: التجاهل، نحو: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) .
الخامس والعشرون: التعظيم، نحو: (مَنْ ذا الّذِي يَشْفَعُ عنده إلا بإذنه) .
السادس والعشرون: التحقير، نحو: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) .
(أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) .
ويحتمله وما قبله قراءة: (مَنْ فِرْعَوْن) .
السابع والعشرون: الاكتفاء، نحو: (أليْسَ في جهَنَّم مَثْوًى للمتَكبِّرِين) .
الثامن والعشرون: الاستبعاد، نحو: (أنَّى لهم الذِّكْرَى) .
التاسع والعشرون: الإيناس، نحو ة (وما تلْكَ ييَمِينكَ يا موسى) .(1/332)
الثلاثون: التهكم والاستهزاء، نحو: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) .
(أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) .
الحادي والثلاثون: التأكيد لما سبق من معنى أداة الاستفهام قبله، كقوله:
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) .
قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: أي مَنْ حقّ عليه كلمة العذاب فإنك لا تنْقِذه فَمنْ للشرط، والفاء جواب الشرط، والهمزة في أفأنت معادة مؤكَّدة لطول الكلام.
وهذا نوع من أنواعها.
قال الزمخشري: الهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد.
الثاني والثلاثون: الإخبار، نحو: (أفِي قلُوبهم مَرَضٌ أم ارْتَابُوا) .
(هل أتى على الإنسان) .
تنبيهات
الأول: هل يقال إن معنى الاستفهام في هذه الأشياء موجود وانضم إليه
معنى آخر، أو تجرّد عن الاستفهام بالكلية.
قال في عروس الأفراح: محل نظر.
والذي يظهر الأول.
قال: ويساعده قول التنوخي في الأقصى القريب: إن لعل تكون للاستفهام مع بقاء الترجّي.
قال: ومما يرجحه أن الاستبطاء في قولك: كم أدعوك؟ معناه أن الدعاء وصل إلى حد لا أعلم عدده، فأنا أطلب أن أعلم عدده، والعادة تقضي بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثُر فلم يعلمه، وفي طلب فَهْم عدده ما يُشعر بالاستبطاء.
وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر، فمن تعجَّب من شيء فهو بلسان الحال
سائل عن سببه، وكأنه يقول: أي شيء عرض لي في حال عدم رؤية الهدهد، وقد صرح في الكشاف ببقاء الاستفهام في هذه الآية.(1/333)
وأما التنبيه على الضلال فالاستفهام فيه حقيقي، لأن المعنى أين تذهب.
أخبرني إلى أي مكان تذهب، فإني لا أعرف ذلك.
وغاية الضلال لا يُشْعَر بها إلى أين تنتهي.
وأما التقرير فإن قلنا: المراد به الحكم بثبوته فهو خبر بأنّ المذكور عَقِب
الأداة واقع، أو طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم، فهو استفهام
يقرر المخاطَب، أي يطلب منه أن يكون مقرًّا به، وفي كلام أهل الفن ما
يقتضي الاحتمالين.
والثاني أظهر.
وفي الإيضاح تصريح به ولا بِدْعَ في صدور الاستفهام، ممن يعلم المستفهم منه، لأنه طلب الفهم، إما طلب فَهْم المستفهم أو وقوع فهم لمن لم يفهم كائنا من كان.
وبهذا تنحلُّ إشكالات كثيرة في مواقع الاستفهام ويظهر بالتأمل بقاء معنى الاستفهام مع كل أمر من الأمور المذكورة. انتهى ملخصاً.
الثاني: القاعدة أن المبهم يجب أن يَليَ الهمزة.
وأشكل عليها قوله تعالى: (أَفأَصفَاكمْ رَبُّكمْ بِالْبَنِين) .
فإن الذي يليها هنا الإصفاء بالبنين، وليس هو المنكر، وإنما المنكر قولهم: إنه اتخذ من الملائكة إناثا.
وأجيب بأن لفظ الإصفاء يشعر بزعم أن البنات لغيرهم، أو بأن المراد مجموع
الجملتين، وينحلُّ منهما كلام واحد.
والتقدير أجمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات.
وأشكل منه قوله تعالى: (أتأمرونَ الناسَ بالبِرّ وَتنْسَوْنَ أنفسكم) .
ووجْهُ الإشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر فقط، كما
تقتضيه القاعدة المذكورة، لأن أمر البر ليس مما ينكر، ولا نسيان النفس فقط، لأنه يصير ذكْر أمر الناس بالبر لا مدخل له، ولا مجموع الأمرين، لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر، ولا نسيان النفس بشرط الأمر، لأن النسيان منكر مطلقاً، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشدَّ منه حال عدم الأمر، لأن المعصية لا تزداد بشاعتها بانضمامها للطاعة، لأن جمهور العلماء على أن الأمر(1/334)
بالبِرّ واجب، وإن كان الإنسان ناسياً لنفسه وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف
معصية نسيان النفس، ولا يأتي الخير بالشر.
قال في عروس الأفراح: ويجاب بأن فعل المعصية مع النهي عنها أفحش.
لأ بها تجعل حال الإنسان كالتناقض، وتجعل القول كالمخالف للفعل، ولذلك
كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل.
قال: ولكن الجواب على أن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها مع جنسها، فيه دقَّة.
فصل
من أقسام الإنشَاء الأمْرُ
وهو طلب فعل غير كفّ، وصيغته افعَلْ وليِفْعل.
وهي حقيقة في الإيجاب، نحو: (أقيموا الصلاة) (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) .
وترد مجازاً لمعان أخر، منها:
الندب: نحو: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) .
والإباحة، نحو: (فكاتِبوهم) .
نصّ الشافعيّ على أن الأمر فيه للإباحة.
ومنه: (وإذا حلَلْتمْ فاصطَادوا) .
والدعاء من السافل للعالي، نحو: (رَبِّ اغْفِرْ لي) .
والتهديد، نحو: (اعْمَلُوا ما شِئْتم) ، إذ ليس المرادُ الأمر بكل عمل شاءوا.
والإهانة، نحو: (ذقْ إنكَ أنْتَ العزير الكريم) .
والتسخير، أي التذليل، نحو: (كونوا قِردةً) .
وعبَّر به عن نَقْلهم من حالة إلى حالة إذلالاً لهم، فهو أخص من الإهانة.
والتعجيز، نحو: (فأتُوا بسورة منْ مِثْله) .
إذ ليس المراد طلب ذلك منهم، بل إظهار عجزهم.(1/335)
والامتنان، نحو: (كلوا مِنْ ثَمَرِه إذا أثمر) . ا
والعجب، نحو: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ) .
والتسوية، نحو: (فاصْبِروا أو لا تصْبِروا) .
والإرشاد، نحو: (وأشْهدوا إذا تبايعْتم) .
والاحتقار، نحو، (ألقوا ما أنتم مُلْقُون) .
والإنذار، نحو: (قل تمتَّعوا) .
والإكرام، نحو: (ادخلُوها بسلام) .
والتكوين - وهو أعم من التسخير، نحو: (كن فيَكون) .
والإنعام، أي تذكير النعمة، نحو: (كلُوا ممّا رزقكم الله) .
والتكذيب، نحو: (قل فأتوا بالتّوْرَاةِ فاتْلُوهَا) .
(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا) .
والمشورة، نحو: (فانْطرْ ماذا تَرَى) .
والاعتبار، نحو: (انطروا إلى ثَمَره إذا أثمر) .
والتعجب، نحو: (أسْمِعْ بهم وأبْصِر) .
ذكره السكاكي في استعمال الإنشاء بمعنى الخبر.
فصل
ومن أقسامه النهي
وهو طلب الكف عن فِعْل.
وصيغته " لا تَفْعَل "، وهي حقيقة في التحريم.
وترد مجازاً لمعان، منها:
الكراهة: نحو: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) .(1/336)
والدعاء، نحو: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) .
والإرشاد، نحو: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) .
والتسوية، نحو: (فاصْبِروا او لا تَصْبِروا) .
والاحتقار والتقليل، نحو: (ولا تَمدَّنّ عينَيْكَ) .
أي فهو قليل حقير.
وبيان العاقبة، نحو: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) .
أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت.
واليَأس، نحو: (لا تَعتَذِروا اليومَ) .
والإهانة، نحو: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) .
فصل
ومن أقسامه التمني
وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة، ولا يشترط إمكان التمنَّى بخلاف
المترجَّى، لكن نُوزع في تسمية تَمَنِّي المحال طلباً، بأن ما لا يتوقَّع كيف يُطلب.
قال في عروس الأفراح: فالأحسن ما ذكره الإمام وأتباعه من أن التمني
والترجي والنداء والقسم ليس فيها طلب، بل هو تنبيه.
ولا بِدْع في تسميته إنشاء. انتهى.
وقد بالغ قوم فجعلوا التمنَي من أقسام الخبر، وأن معناه النفي، والزمخشري
ممن جزم بخلافه، تم استشكل دخول التكذيب في جوابه في قوله: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ...
إلى قوله: (وإنَّهم لكاذِبون) .
وأجاب بتضمّنه معنى العِدة فتعلق به التكذيب.(1/337)
وقال غيره: التمني لا يصح فيه الكذب، وإنما الكذب في التمنَّى الذي يترجح عند صاحبه وقوعه، فهو إذاً وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن، وهو خبر صحيح.
قال: وليس المعنى في قوله: (وإنهم لكاذبون) أن ما تمتوا ليس
بواقع، لأنه ورد في معرض الذم لهم، وليس في ذلك التمنى ذم، بل التكذيب.
ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون.
وحرف التمني الموضوع له (ليت) ، نحو: (يا ليتنا نُرَدُّ) .
(يا ليْتَ قَوْمي يعْلَمون) .
(يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)) .
وقد يتمنّى بهل حيث يُعْلَم فَقْدُهُ، نحو: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) .
أَو بـ لَو، نحو: (فلو أنَّ لنا كَرّة فنكون) .
ولذا نصِب الفعل في جوابها.
وقد يُتَمنّى بـ لعل في البعيد، فيعطي حكم ليت في نَصْبِ الجواب: نحو:
(لَعَلِّي أبلُغُ الأسبابَ أسبابَ السماوات فأطَّلِعَ.
ومن أقسامه الترجّي
نقل القَرافي في " الفُروق " الإجماع على أنه إنشاء، وفرّق بينه وبين التمني بأنه في الممكن، والتمني فيه وفي المستحيل، وبأن الترجي في القريب، والتمني في البعيد، وبأن الترجي في المتوقَّع والتمني في غيره، وبأن التمني في المعشوق للنفس، والترجي في غيره.
وسمعت شيخنا الكافيجي يقول: الفرق بين التمني وبين العَرْض هو الفرق
بينه وبين الترجي.(1/338)
وحرف الترجي: لعل، وعسى، وقد ترِد مجازا لتوقع محذور، ويسمى
الإشفاق، نحو: (لعل الساعةَ قَرِيب) .
فصل
ومن أقسامه النداء
وهو طلب إقبال المدعوّ على الداعي بحرفٍ نائب مناب أدعو، ويصحب في
الأكثر الأمر والنهي.
والغالب تقدمه، نحو: (يا أيُّها الناسُ اعبدوا ربَّكم) .
(يا عِبَادِ فاتّقون) .
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) .
(ويا قَوْم استَغْفروا ربّكم) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
وقد يتأخّر، نحو: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) .
وقد يصحب الجملة الخبرية فتعقبها جملة الأمر، نحو (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) . الحج: 73.
(يا قَوْم هذه ناقةُ اللهِ لكم آيةً فذَرُوها) .
وقد لا تعقبها، نحو: (يا عباَدِ لا خَوْفٌ عليكم) .
(يا أيها الناس أنْتُم الفُقَرَاء) . ف
(يا أبت هذا تأوِيلُ رُؤياي) .
وقد تصحبه الاستفهامية، نحو: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) .
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) .
(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ) .
وقد ترد صورة النداء لغيره مجازًا، كالإغراء والتحذير، وقد اجتمعا في
قوله: (ناقةَ اللهِ وسقْيَاها) . ا
والاختصاص، كقوله: (رحمةُ اللهِ وبركاتهُ عليكم أهْلَ البيت) .(1/339)
والتنبيه، كقوله: (أَلاَّ يسجدوا) .
والتعجب، نحو: (يا حسرة على العبادِ) .
والتحسّر، كقوله: (يا ليتني كنْتُ ترَابا) .
قاعدة
أصل النداء بـ يا أن يكون للبعيد حقيقة أو حكماً، وقد ينادى بها القريب
لنكتة، منها إظهار الحرص في وقوعه على إقبال المدعوّ، نحو: (يا موسى أَقْبِل ولا تَخَفْ) .
ومنها كون الخطاب المتلوّ معتنًى به، كقوله: (يا أيها الناسُ اعبُدوا ربَّكم) .
ومنها قصد تعظيم شأن المدعوّ، نحو: (يا ربِّ) .
وقد قال تعالى: (فإنّي قَرِيب) .
ومنها قصد انحطاطه، كقول فرعون: (وإني لأظنّك يا موسى مَسْحُورا) .
فائدة
قال الزمخشري وغيره: كرر في القرآن النداء ب " يا أيها " دون غيره، لأن فيه أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة.
منها ما في " يا " من التأكيد والتنبيه وما في " ها " من التنبيه، وما في التدرج
من الإبهام في " أي " إلى التوضيح، والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، " لأن " كل ما نادى الله عباده من أوامره ونواهيه، وعِظَاته وزوَاجره، ووعْدِه ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك مما أنطق الله به كتابه أمور عظام وخطوبٌ جسام، ومعان واجب عليهم أن يتيقَّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ.(1/340)
فصل
ومن أقسامه القَسَم
نقل القَرَافي الإجماع على أنه إنشاء، وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها
عند السامع.
ومن أقسامه الشرط.
*******
الوجه التاسع والعشرون من وجوه إعجازه (إقسامه تعالى في مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها)
وقد أفرده ابن القيم في مجلد سماه " التبيان ".
فإن قلت: ما معنى القسم منه تعالى، فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن
مصدِّق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد
أمراً، حتى جعلوا مثل: (والله يشهَد إنَّ المنافقين لكَاذِبون) .
- قَسماً، وإن كان فيه إخبار بشهادة، لأنه لما جاء توكيداً للخبر سمي قسماً.
قال أبو القاسم القشَيْري: وذلك لأن الحكم يفصَل باثنين، إما بالشهادة.
وإما بالقَسَم، فذكر تعالى في كتابه النوعين، حتى لا تبقى لهم حجة، فقال:
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) .
وقال: (قل إي ورَبّي إنه لَحَقُّ) .
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) .
صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين.
ولا يكون القسم إلا باسم معظّم.
وقد أقسم اللَّهُ تعالى بنفسه في القرآن في(1/341)
سبعة مواضع: الآية المذكورة، بقوله: (قلْ إي ورَبّي) .
(قل بلى ورَبي لتبْعَثنَّ) .
(فَوَرَبِّك لنحشرَنّهمْ والشياطِينَ) .
(فَوَرَبِّكَ لنسأَلَنَّهم أجمعين) .
(فلا ورَبِّك لا يؤْمِنون) .
(فلا اقسم بربِّ المشارِقِ والمغارب) .
والباقي كله قَسَم بمخلوقاته، كقوله: (والتين والزيتون) .
(والصافّات) .
(والليل) .
(والشمس) .
(والضَّحى) .
(فلا أقسم بالخنس) .
فإن قيل: كيف أقسم بما يَخْلُق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟
قلت: أجيب عنه بأجوبة:
أحدها: أنه على حذف مضاف، أي ورب التَين، ورب الشمس، وكذا
الباقي.
الثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقْسم بها، فنزل القرآن على ما
يعرفون.
الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو محبه، وهو فوقه، والله
تعالى ليس شيء فوقه.
فأقسم تارة بنفسه، وتارة بمصنوعاته، لأنها تدل على أنه بارئ صانع.
قال ابن أبي الإصبع - في أسرار الفواتح: القَسم بالمصنوعات يستلزم القسم
بالصانع، لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول من غير فاعل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن، قال: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يُقسم إلا بالله.
وقال العلماء: أقسم الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لَعَمْرُكَ) ، ليعرف الناس عظمتَه عند الله ومكانته لديه.
أخرج ابن مَرْدويه عن ابن عباس، قال: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً(1/342)
أكرم عليه من محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا سمعت الله أقسم بحياة مخلوق غيره، قال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) .
وقال أبو القاسم القشيري: القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة، أو لمنفعة، فالفضيلة كقوله: (وطور سِينِينَ، وهذا البَلَد الأمين) والمنفعة.
نحو: (والتين والزيتون) .
وقال غيره: أقسم تعالى بثلاثة أشياء: بذاته كالآيات السابقة، وبفِعْله نحو:
(والسماء وما بَنَاهَا، والأرْضِ وما طَحَاها، ونفس وما سوّاهَا) .
وبمفعوله نحو: (والنجْم إذا هوى) .
(والطور. وكتابٍ مسطور) .
والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة.
وإما مضمر، وهو قسمان: قَسَم دلّت عليه اللام نحو: (لتبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم) .
وقسم دل عليه المعنى، نحو: (وإنْ منكم إلاَ وَارِدها) .
تقديره: والله.
وقال أبو علي الفارسي: الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان:
أحدهما ما تكون كغيرها من الألفاظ التي ليست بقَسم، فلا تجاب بجوابه.
كقوله: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) . البقرة: 63.
(فيَحْلِفون له كما يَحْلِفون لكم) .
وهذا ونحوه يجوز أن يكون قسماً، وأن يكون حالاً لخلوّه من الجواب.
والثاني ما يتلقى بجواب القَسَم في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) .
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) .
وقال غيره: أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو.
فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل، كقوله: (وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم) .
(يحلِفُونَ بالله) .
ولا تجد الباء مع حذف الفعل.(1/343)
ومِن ثَمَّ كان خطأ مَنْ جعل قسماً باللَه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .
(ادع لنا ربكَ بما عهِد عِنْدَك) .
(بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) .
وقال ابن القيّم: اعلم أنه سبحانه يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه
المقدسة الموصوفة بصفاته أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامُه ببعض
المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته.
فالقَسَم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله: (فَوَرَبِّ السماء والأرض إنَّه لَحق) .
وإما على جملة طلبية، كقوله: (فوَرَبِّك لَنَسْألنَّهمْ أجمعين) .
مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق المقسم، فالقسم عليه يُراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما نحن فيه، وذلك كالأمور الغائبة الخفيّة، إذا أقسم على ثبوتها.
فأما الأمور المشهودة الظاهرة، كالشمس، والليل، والنهار، والسماء، والأرض - فهذه يقسم بها ولا يُقْسَم عليها.
وما أقسم عليه الرب فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسَماً
به، ولا ينعكس.
وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب، ويحذفه أخرى كما
يحذف جواب " لو " كثيراً للعلم.
ولما كان القسم يكثر في الكلام اختصر، فصار فعل القسم يحذف ويكتفى
بالباء، تم عوّض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة، والتاء في اسم الله، كقوله: (وتاللهِ لأَكيدَنَّ أصْنَامَكم) .
قال: ثم هو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق صرفتها، وتارة يقسم على التوحيد، وتارة يُقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد، وتارة على حال الإنسان.
فالأول كقوله: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) ...
إلى قوله: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) .(1/344)
والثاني كقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
والثالث كقوله: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) .
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) .
والرابع كقوله: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) .
(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) .
والخامس كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) .
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) .
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) .
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) .
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) .
قال: وأكثر ما يُحْذف الجواب إذا كان في نفس المقْسم به دلالة على القسم
عليه، فإن المقصود يحصل بذكره، فيكون حذْف المقسم عليه أبلغ وأوجز.
كقوله: (ص، والقرآن ذي الذِّكر) ، فإن في المقْسَم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر - ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقاً من عند الله غير مفْتَرًى كما يقوله الكافرون، ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحقّ، وهذا مطَّرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله: (ق، والقرآن المجيد) .
وقوله: (لا أقسم بيوم القيامة) ، فإنه يتضمن إثبات المعاد.
وقوله: (والفجر ... ) الآيات، فإنها أزمان تتضمن أفعالاً عظيمة من المناسك وشعائر الحج التي هي عبودية محضة لله، وذلٌّ وخضوعٌ لعظمته، وفي ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
قال: ومن لطائف القسم قوله: (والضحى. والليل إذا سجَى) .
أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له، وذلك متضمِّن لتصديقه له، فهو(1/345)
قسم على صحة نبوءته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوءة والمعَاد.
وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته.
وتأمّل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي هو يوافي بعد ظلام الليل للمقسَم - عليه، وهو نور الوَحْي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربُّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
*******
الوجه الثلاثون من وجوه إعجازه (اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة)
وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد يبْنَى من كليات العلومات المعقلية
والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به، لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين، لأمرين:
أحدهها: بسبب ما قاله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجَّة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من
الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأَقلّون، ولم يكن ملْغِزاً، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خَلْقه في أجلى صورة، ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتَفْهَم الخواص من أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء.
وقد أفرد جدل القرآن بالتصنيف نجم الدين الطوفي.
قال ابن أبي الإصبع: زعم الجاحظ أن المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في
القرآن، وهو مشحون به، وتعريفه أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجةٍ تقطع المعاندة فيه على طريقة أرباب الكلام.
ومنه نوع منطقي تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أنَّ من أول سورة الحج إلى قوله: (وأنَّ اللَهَ يبعث مَنْ في القبور)
- خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات:(1/346)
قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) ، لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظماً لها، وذلك مقطوع بصحته، لأنه خبر أخبر به مَنْ ثبت صِدقه عمن ثبتت قدرته، منقول إلينا بالتواتر، فهو حق، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق، فهو الولي.
وأخبر تعالى أنه يحي الموتى، لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر، وحصول
فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التي يعلمها الله مِنْ أجلهم.
وقد ثبت أنه قادر على كل شيء، ومن الأشياء إحياء الموتى، فهو يحي
الموتى.
وأخبر تعالى أنه على كل شيء قدير، لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين، ومن
يجادل في الله بغير علم - يذِقْه من عذاب السعير، ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شيء قدير، فهوعلى كل شيء قدير.
وأخبر أن الساعة آتيةٌ لا رَيْبَ فيها، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق
الإنسان من تراب إلى قوله: (لكيْلاَ يَعْلَمَ مِن بعد علم شيئاً) .
وضرب لذلك مثلاً بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتزّ وتَرْبو، وتنْبِت
من كل زَوْج بَهِيج.
ومن خَلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه
بالموت، ثم يعيده بالبعث، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها
بالمَحْل، تم أحياها بالخصب، وصدق خَبَره في ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على التوقع الغائب، حتى انقلب الخبر عيانا - صدق خبره في الإتيان بالساعة، ولا يأتي بالساعة إلا من يبعث مَنْ في القبور، لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة، فهي آتية لا ريب فيها، وهو سبحانه يَبْعَث مَنْ في القبور.
وقال غيره: استدل سبحانه على المعاد الجسماني بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء، قال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) .
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) .
(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) .(1/347)
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأولى، قال:
(أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر) .
ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات.
رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر.
وقد روى الحاكم وغيره أن أبي بن خلف جاء بعَظْمٍ ففَتَّه، فقال: أَفَيحِيي اللهُ
هذا بعد ما بليَ ورَمَّ، فأنزل الله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) .
فاستدل سبحانه بردِّ النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث.
ثم زاد في الحجاج بقوله: (الذي جعل لكم من الشّجَر الأخضر ناراً) .
وهذه في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره، والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليها.
خامسها: في قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) .
وتقريرها أن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلابَ الحق في نفسه، وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه، والحقُّ في نفسه واحد، فلما ثبت أن ها هنا حقيقة موجودة لا محالة، وكان لا سبيل لنا في حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفاً يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف، إذ كان
الاختلاف مركوزا في فِطَرِنا، وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه
الجِبِلّة، ونقلها إلى صورة غيرها - صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه
الحياة، فيها يرتفع الاختلاف والعناد، وهذه هي الحالة التي وعد الله بالمصير
إليها، فقال: (ونَزَعْنَا ما في صدورِهم مِنْ غِلّ إخوانا) .
فقد صار الخلاف الموجود، كما ترى، أوضح دليل على كَوْن البعث الذي ينكره المنكرون، كذا قرره ابن السيّد.
ومن ذلك الاستدلال على أنَّ صانع العالم واحد، بدلالة التمانع المشار إليها في قوله: (لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لفَسَدَتا) .
لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولكان(1/348)
العَجْز يلحقهما أو أحدهما، وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد
الآخر إماتته فإما أن تنفذ إرادتهما فيتناقض، لاستحالة تجزيء الفعل إن
فرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف، وإما ألا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عَجْزه، والإله لا يكون عاجزاً.
فصل
من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل السّبْر والتقسيم.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) .
فإن الكفار لما حَرَّموا ذكورَ الأنعام تارة وإناثها أخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السَّبْر والتقسيم، فقال: إن الخلق لله، خلق من كل زَوْج مما ذكر ذكرأ وانثى، فمِمَّ جاء تحريم ما ذكرتم، وما علته، لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة، أو اشتمال الرحم الشامل لهما، أو لا يدرى له علة، وهو التعبّدي، بأنْ أخذ ذلك عن الله، والأخذ عن الله إما
بوحْي، أو إرسال رسول، أو سماع كلامه ومشاهدة تلقّي ذلك عنه، وهو في معنى قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا) ..
فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن وَجْهٍ منها:
والأول: يلزم عليه أن تكون جميع المذكور حراماً.
والثاني: يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حراماً.
والثالث: يلزم عليه تحريم الصنفين معاً، فبطل ما فعلوه من تحريم بعضٍ في
حالة وبعضٍ في حالة، لأن العلة، على ما ذكر، تقتضي إطلاق التحريم، والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدَّعوه، وبواسطة رسول كذلك، لأنه لم يأت إليهم رسولٌ قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدَّعَى، وهو أن ما قالوه افتراء على الله وضلال.(1/349)
ومنها القول بالموجب، قال ابن أبي الإصبع: وحقيقته ردّ كلام الْخصم من
فحوى كلامه.
وقال غيره: هو قسمان:
أحدهما: أن تقع صفةٌ في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حُكم، فيثبتها
لغير ذلك الشيء، كقوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) .
فالأعزّ وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم، والأذل كناية عن فريق المؤمنين، وأثبت المنافقون لفريقهم إخراجَ المؤمنين من المدينة، فأثبت الله في الرد عليهم صفةَ العزة لغير فريقهم، وهو اللَّهُ ورسوله والمؤمنون، وكأنه قيل: صحيح ذلك ليخرجنَّ الأعز منها الأذل، لكن هم الأذل المخْرَج، والله ورسوله الأعز المُخْرِج.
والثاني: حَمْل لفظٍ واقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله، بذكد
متعلَّقه، ولم أر مَنْ أورد له مثالاً من القرآن.
وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) .
ومنها التسليم، وهو أن يفرض الْمُحال إما منفيًّا أو مشروطاً بحرف
الامتناع، ليكون المذكور ممتنعَ الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم يسلَّم وقوع ذلك تسليما جَدَلياً، ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه، كقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) .
المعنى ليس مع الله من إله، ولو سلِّم أن مع الله إلهاً لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، وعلوّ بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله.
والواقع خلاف ذلك، ففَرض إلهين فصاعداً محال، لا يلزم عليه من المحال.
ومنها الإسْجَال، وهو الإتيان بألفاظ تسجِّل على المخاطب وقوعَ ما خوطب
به، نحو قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) .(1/350)
(رَبّنا وأَدْخلهم جنَّاتِ عَدْن التي وعَدْتَهمْ) .
فإن في ذلك إسجالاً بالإيتاء والإدخال، حيث وصِفا بالوعد من الله الذي لا يخْلِف وَعْدَه.
ومنها الانتقال، وهو أن ينتقل المستدلّ إلى استدلال غير الذي كان آخذاً
فيه، لكَوْن الخصم لم يفهم وَجْهَ الدلالة من الأول، كما جاء في مناظرة الخليل الجبار لما قال له: (رَبِّي الذي يُحْيى ويميت) ، فقال الجبار:
أنا أحيي وأميت، ثم دعا بمَنْ وجب عليه القَتْل فأعتقه، ومن لا يجب عليه القتل فقتله، فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء والإماتة، أو علم بذلك وغالط بهذا الفعل، فانتقل عليه السلام إلى استدلال لا يجد له الجبار وجهاً يتخلص به منه، فقال: (إنّ اللَهَ يَأتي بالشَّمْسِ من الْمَشْرِق فأتِ بها من المغرب) .
فانقطع الجبار وبهِت، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن
من هو أسنّ منه يكذبه.
ومنها المناقضة، وهي تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة وقوعه.
كقوله تعالى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) .
ومنها مجاراة الخصم ليَعثُرَ، بأن يسلم بعض مقدماته حيث يراد تبكيته
وإلزامه، كقوله تعالى: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا) .
فقوله: (إن نحن إلا بَشر مثلكم) فيه اعتراف الرسل بكونهم مقصورين على البشرية، فكأنهم سلموا انتفاءَ الرسالة عنهم، وليس مراداً، بل هو من مجاراة الخصم ليعثر، فكأنهم قالوا: ما ادّعيتم مِن كوننا
بَشَراً حقّ لا ننكره، ولكن هذا لا ينافي أن يَمُنَّ الله علينا بالرسالة.
*******
الوجه الحادي والثلاثون من وجوه إعجازه (ضَرْب الأمثَالِ فيهِ ظاهرة ومضْمَرة)
وقد أفرده بالتصنيف الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله تعالى.
قال تعالى: (ولقد صَرَّفْنَا للناس في هذا القرآن مِنْ كلِّ مثَلٍ) .
وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) .(1/351)
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال.
قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام.
وقال غيره: وقد قال الشافعي: مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن
معرفةُ ما ضُرِب فيه من الأمثال الدوالّ على طاعته، البينة لاجتناب معصيته.
وقال الشيخ عز الدين: إنما ضَرَب الله الأمثال في القرآن تذكيراً ووعظاً، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه - فإنه يدل على الأحكام.
وقال غيره: ضَرْبُ الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير.
والوعظ، والحث والزجر، والاعتبار والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصوَر المعاني بصورة الأشخاص، لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس.
ومن ثمَّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليِّ، والغائب بالمشاهد.
وتأتي أمثال القرآن مشتملةً على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمرٍ أو إبطاله، قال تعالى: (وضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمثال) ، فامتَنَّ علينا بذلك، لما
تضمنت من الفوائد.
قال الزركشي في البرهان: ومن حكمته تعليم البيان، وهو من خصائص هذه
الشريعة.
وقال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء التوهّم من
المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به مثله، وإن كان صغيراً كان المتمثل به كذلك.(1/352)
وقال الأصبهاني: لضَرْب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثالَ والنظائر، شيء ليس بالخفيّ في إبراز خفيّات الدقائق، ورَفْع الأستار عن الحقائق، تريك به المتخيل في صورة المتحقّق، والمتوهّم في معرض المتيقّن، والغائب كأنه مشاهد، وفي ضَرْب الأمثال تبكيتٌ للخَصْمِ الشديد الخصومة، وقمع لسَوْرَةِ الجامح الأبيّ، فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه، ولذلك أكَثْرَ الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال، ومن سور الإنجيل سورةٌ تسمى سورة الأمثال.
وفشَتْ في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كلام الأنبياء والحكماء.
أمثال القرآن، قسمان:
ظاهر مصرّح به، وكامِن لا ذِكْر للمثَل فيه، فمن أمثلة الأول: (مَثَلُهم
كَمَثَلِ الذي استَوقَد ناراً) .
ضرب الله فيها للمنافقين مثلين، مثلاً بالنار، ومثلاً بالمطر.
أخرج ابن أبي حاتم وغيره، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم
المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز، كما سُلب صاحب النار ضوءه.
(وتركهم في ظلمات) يقول: في عذاب.
أو كصَيِّبٍ - وهو المطر - ضرب مثله في القرآن.
فيه ظلماتٌ - يقول ابتلاء، ورَعْد وبرق، وتخويف.
يكاد البرق يخطف أبصارهم، يقول: يكاد محكم القرآن يدل على
عورات المنافقين.
كلما أضاء لهم مشوا فيه، يقول: كلما أصاب المنافقون في
الإسلام عِزَا اطمأنّوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر.
كقوله: (ومِنَ الناس مَنْ يعبُدُ اللهَ على حَرْف) .
ومنها قوله تعالى: (أَنزل مِنَ السماءِ ماءً فسالَتْ أَوْدِية بِقَدَرِها) .(1/353)
أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس، قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأمَّا الزَّبد فيذهب جفَاء وهو
الشك، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهو اليقين، كما يجْعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار، كذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وأخرج عن عطاء، قال: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
وأخرج عن قتادة قال: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثَل واحد، يقول: كما اضمحل هذا الزَّبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترْجى بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمْرَعَتْ ونمت بركَته، وأخرجت نباتها، وكذلك الذهب والفضة حين أدخل النار، وذهب خبثه، كذلك يبقى الحق لأهله.
وكما اضمحل خبث هذا الذهب والفضة حين أدخل النار كذلك يضمحل الباطل عن أهله.
ومنها قوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) .
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق علي، عن ابن عباس، قال: هذا مثل ضربه
الله للمؤمن.
يقول: هو طيب وعملة طيب، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب.
والذي خبث ضرِب مثلاً للكافر، كالبلد السبخة المالحة، والكافر هو الخبيث وعمله خبيث.
ومنها قوله تعالى! (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) .
أخرج البخاري، عن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيمن تَرَوْن نزلت هذه الآية: (أيَودّ أحدكم) ، قالوا: الله ورسوله أعلم.
فغضب عمر فقال: قولوا نعم أو لا نعم.
فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء.
فقال: يا بن أخي، قل ولا تحقر نفسك.
قال ابن عباس: ضرِبَتْ مثَلا لعمل.(1/354)
قال عمر: أي عمل، قال ابن عباس: لعملِ رَجل غنيّ يعمل بطاعة الله.
ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
وأما الكامنة فقال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن
إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل، فقلت: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله: " خَيْرُ الأمور أوساطها "، قال: نعم.
في أربعة مواضع: قوله: (لا فَارِضٌ ولا بِكْر عَوانٌ بيْنَ ذلك) .
وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) .
وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) .
وقوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: "مَن جهل شيئاً عاداه "، قال: نعم، في
موضعين: (بل كذَّبوا بما لم يحِيطُوا بعلْمِه) .
(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: " احذَرْ شَرَّ من أحسنْتَ إليه "، قال: نعم:
(وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: " ليس الخبر كالعيان "، قال: في قوله: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) .
قلت: فهل تجد: " في الحركات البركات "، قال: في قوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) .
قلت: فهل تجد: " كما تَدِين تدَان "، قال: في قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " حين تَقْلِي تدري "، قال: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) .(1/355)
قلت: فهل تجد فيه: " لا يلدغ المؤمِن من جحْر مرّتين "، قال: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) .
قلت: فهل تجد فيه: "من أعان ظالما سلّط عليه "، قال: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " لا تلد الحية إلا الحيَّة"، قال: (ولا يَلِدوا إلا
فاجراً كَفّارا) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " للحيطان آذان "، قال: (وفيكم سمَّاعونَ لهم) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " الجاهل مرزوق والعالم محروم "، قال: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) .
قلت: فهل تجد فيه: " الحلال لا يأتيك إلا قوتاً، والحرام يأتيك جُزَافاً ".
قال: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) .
فائدة
عقد جعفر بن محمد شمس الخلافة في كتاب "الآداب " باباً في ألفاظ من
القرآن جارية مَجرى المثل، وهذا هو النوع البديعي المسمَّى بإرسال المثل، وأورد من ذلك قوله سبحانه: (ليس لها مِنْ دونِ اللهِ كاشفَةٌ) .
(لَنْ تنالوا البرَّ حتى تُنفقوا مما تحِبّون) .
(الآن حَصْحَصَ الحقُّ) .
(وضرب لنا مثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه) .
(ذلكَ بما قَدّمَتْ يَدَاك) .(1/356)
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) .
(أَلَيْسَ الصّبْحُ بقَرِيب) .
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) .
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) .
(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) .
(قلْ كلِّّ يَعْمَلُ على شاكِلَتِه) .
(وعسى أنْ تكرهُوا شيئاً وهو خَيْرٌ لكم) .
(كلّ نَفْسٍ بما كسبَتْ رَهِينَة) .
(ما على الرسول إلاّ البلاغ) .
(ما على المحسنين مِنْ سَبيل) .
(هل جزَاءُ الإحسانِ إلا الإحسان) .
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) .
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) .
(تحسَبُهم جميعاً وقلوبُهم شتّى) .
(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) .
(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) .
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) .
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) .
(لا يكلَفُ اللهُ نَفساً إلاَّ وُسعَها) .
(لا يستوي الخبيثُ والطّيِّب) .
(ظَهَرَ الفساد في البر والبحر) .
(ضَعُفَ الطالبُ والمطْلُوب)
(لمِثْل هذا فلْيَعْمَلِ العامِلُون) .
(وقلِيلٌ ما هُمْ) .
(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) .
في ألفاظ أخر.
*******
الوجه الثاني والثلاثون من وجوه إعجازه (ما فيه من الآيات الجامعة للرَّجاء والعدْل والتَخْويف)
فتارة يرجّي وتارة يخوّف قال السِّلَفي في المختار من الطيوريات: عن الشعبي، قال: لقي عُمر بن الخطاب رَكْباً في سفر فيهم ابن مسعود، فأمر رجلاً يُناديهم من أين القوم، قالوا: أقبلنا من الفَجّ العَمِيق نريد البيت العتيق.
فقال عمر: إن فيهم لعالماً،(1/357)
فأمر رجلاً أن يناديهم: أيّ القرآن أفضل، فأجاب عبد الله: (الله لا إلهَ إلا هو الحيّ القَيّوم) .
قال: نادهم أي القرآن أحكم، فقال ابن مسعود: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
قال: نادِهم أيّ القرآن أجمع، قال: (فمن يَعْمًلْ مِثْقال ذَرّة خيرا يرَه، ومَنْ يعمل مثقالَ ذَرّةٍ شرّاً يَرَه) .
قال: فنادهم أي القرآن أحزن، فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
قال: فنادهم أي القرآن أَرْجَى، فقال:
(قل يا عبادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقْنَطوا من رَحْمَةِ اللهِ) .
فقال: أفيكم ابن مسعود، فقالوا: نعم.
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره بنحوه.
وأخرج عبد الرزاق أيضاً عن ابن مسعود، قال: أعدل آية في القرآن: (إنَّ
اللَهَ يأمر بالعَدْل والإحسان) .
وأحكم آية: (فمن يعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خيراً يَره) .
وأخرج الحاكم أنه قال: إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن للخير والشر: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
وأخرج الطبراني عنه، قال: ما في القرآن آية أعظم فَرَجا من آيةٍ في سورة
الغرَف: (قلْ يا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم) .
وما في القرآن آية أكثر تفويضاً من آيةٍ في سورة النساء القصْرى: (ومَن يتوكَلْ عَلَى الله فهو حَسْبه) .
وأخرج أبو ذرّ الهروي في فضائل القرآن، من طريق يحيى بن يعمر، عن ابن
عمر، عن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ أعظم آية في القرآن: (الله لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ) .
وأعدل آية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
وأخوف آية: (فمن يَعمَلْ مثقالَ ذَرَّة خيراً يَرَه) .
وأرجى آية: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) .
وقد اختلف في أَرْجَى آيةٍ في القرآن، فقيل: هذه.(1/358)
وقال ابن عباس: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) .
قال: فرضي منه بقوله: بلى، فهذا لما يعترض في الصَّدْر مما يوسوس به
الشيطان.
وقال أبو نعيم في الحِلْية، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: إنكم يا معشر أهل العراق تقولون: أرجى آية في كتاب الله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) .
، لكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: (ولسوفَ يعْطِيك
رَبك فتَرْضَى) . وهي الشفاعة.
وأخرج الواحدي، عن علي بن الحسين، قال: أشد آية على أهل النار:
(فذوقوا فلَنْ نزِيدَكم إلاَّ عذَاباً) .
وأرجى آية في القرآن لأهل التوحيد: (إن اللَهَ لا يَغْفِر أن يُشرَكَ به) .
وأخرج مسلم في صحيحه، عن ابن المبارك، أيّما آية أرجى عندي لهذه الأمة
من قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) ، إلى قوله: (ألا تحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لكم) ، لأنه أَوصى بالإحسان إلى القاذف، وعاتب حبيبه على عدم الإحسان إليه، فقال: (ألا تحِبّون أن يغفر اللَّهُ لكم) ، أي كما تحبون أن يغفر الله لكم كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم.
ولما نزلت قال أبو بكر: إني لأحب أن يغفر الله لي، ثم ردَّ النفقة التي كان ينفق على مِسْطَح إليه، وكفَّر عن يمينه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، عن أبي عثمان النَّهْدي، قال: ما في
القرآن أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ) ، لأن عسى من الله لما يُرجى أن يتحقق وقوعُه.
وقال أبو جعفر النحاس: إن قوله تعالى: (فهل يهْلَكُ إلاَّ القَوْم الفاسِقون) . أرجى آية، إلا أن ابن عباس قال: أرجى آية في القرآن: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) ، ولم يقل على إحسانهم.(1/359)
وروى الهروي في مناقب الشافعي، عن ابن عبد الحكم، قال: سألت الشافعيّ أي آية أرجى، قال: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) .
وسألتُه عن أرجى حديث للمؤمن، قال: إذا كان يوم القيامة يدفع لكل مسلم رجلٌ من الكفار فِدَاؤه.
وحكى الكَرْمَاني في كتاب العجائب أن أرجى آية: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) .
وحكى النووي - في رؤوس المسائل - أن أرجى آية: (قل كلّ يعمَل على
شاكلته) .
(وهَلْ نجازِي إلاَّ الكَفُور) .
(وما أصابَكمْ مِنْ مُصيبةٍ فَبِمَا كسبَت أيديكم ويَعْفو عن كَثير) .
وفي مسند أحمد عن علي بن أبي طالب، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى، حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) .
وسأفسرها لك يا عليٌّ: ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثنّي العقوبة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عَفْوه.
وقال الشبْلي: أرجى آية: (قل للذين كَفَروا إنْ ينْتَهوا يُغْفَرْ لهم ما قَدْ
سلَف) ، لأنه إذا أذن للكافر بدخول الباب إذا أتى بالتوحيد
والشهادة أفتراه يخرج الداخل فيها والمقيم عليها.
وقيل: إن قوله تعالى: (غافر الذَّنْب وقَابل التَّوْب شديد العقاب ذي
الطَوْل) .
لتعقيب هذا الوعيد العظيم بوعد كريم، وهكذا رحمة الله عزّ وجَلّ تغلب غضبه.
وهذه كالآية الأخرى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .(1/360)
وحكى الثعلي عن أهل الإشارة أنه تعالى غافر الذنب فَضْلاً، وقابل التوب
وَعْداً، شديد العقاب عَدْلاً.
فإن قلت: ما بال الواو في قوله: (وقابل التَّوْب) ، قلت: فيها نكتة جليلة.
وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تُقبل توبته فيكتبها له
طاعة من الطاعات، وأن يجعلها ممحاة للذنوب كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.
وحكى الطبري عن أبي عيّاش أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه، فقال:
إني قتلتُ نفساً فهل لي من توبة، فقال: نعم، افعل ولا تيأس.
ثم قرأ هذه الآية إلى قوله: (غافر الذنب وقابل التَّوْب) .
وروي أنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل: له تتابع في هذا
الشراب.
فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد
الله إليك الذي لا إله إلا هو: بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل الكتاب من
الله العزيز العليم، غافر الذّنْبِ وقَابلِ التَّوْب) ... إلى قوله: (إليه المَصِير) .
وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر مَنْ
عنده بالدعاء له بالتوبة.
فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني.
قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذّرَني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع، وحسنتْ توبته.
فلما بلغ عمر أمْرُه قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسدّدوه، ووقِّفوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.
أخذ ذلك من الحديث الذي أمر - صلى الله عليه وسلم - برجمه فقالوا: أخزاه الله.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: هَلاَ قلتم اللهم اغفر له! لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم.
وقيل: أرجى آيةٍ آية الدَّيْن، ووجهه أنَّ اللهَ أرشد عبادَه إلى مصالحهم(1/361)
الدنيوية، حتى انتهت العنايةْ بمصالحهم إلى أمرهم بكتابة الدين الكثير والحقير، فمقتضى ذلك ترجّي عَفْوه عنهم، لظهور العناية العظيمة بهم.
قلت: ويلحق بهذا ما أخرجه ابن المنذر، عن ابن مسعود، أنه ذكر عنده
بنو إسرائيل وما فضّلهم الله به، فقال: كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح وقد كتبت كفّارته على أسكفَّةِ بابه، وجعلت كفارة ذنوبكم قولاً
تقولونه، تستغفرون الله فيغفر لكم.
والذي نفسي به، لقد أعطانا الله آية لهي
أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) .
وما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن ابن عباس، قال: ثماني آيات
في سورة النساء هنَّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: أولهن:
(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) .
والثانية: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) .
والثالثة: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) .
والرابعة: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) .
والخامسة: (إنَّ الله لا يظلم مِثْقالَ ذَرّة) .
والسادسة: (ومنْ يَعْمَل سُوءاً أَؤ يَظْلِم نَفْسَه ثم يستَغْفر اللهَ) .
والسابعة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
والثامنة: (والذين آمَنُوا بالله ورسله ولم يفرِّقُوا بين أحدٍ منهم) .
وما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: سئل ابن عباس: أيّ آية
أرخص في كتاب الله، قال: قوله تعالى: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا) .
أشد آية: أخرج ابن راهويه في مسنده، أخبرنا أبو عامر العَقَدي، حدثنا
عبد الجليل بن عطية، عن محمد بن المنتشر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب: إني لأعرف أشد آية في كتاب الله، فأهوى عمر فضربه بالدِّرّة، فقال: مالك!(1/362)
فنَقّبْت عنها حتى علمتها، ما هي، قال: (مَنْ يعمل سوءاً يُجْزَ به) .
فما منّا أحد يعمل سوءاً إلا جوزي به.
فقال عمر: لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب، حتى أنزل الله بعد ذلك ورخّص: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن، قال: سألت أبا بَرْزَة الأسلمي عن أشدّ آية
في كتاب الله على أهل النار، قال: (فذوقوا فلَنْ نَزيدكم إلا عَذَاباً) .
وفي صحيح البخاري، عن سفيان، قال: ما في القرآن آية أشد على عباده
من: (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) .
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال: ما في القرآن أشد توبيخاً من هذه
الآية: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) .
وأخرج ابن المبارك، في كتاب الزهد، عن الضحاك بن مزاحم في قول الله:
(لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) .
قال: والله ما في القرآن آية أَخوف عندي منها.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، قال: ما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية كانت أشد عليه من قوله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) .
وأخرج ابن المنذر، عن ابن سيرين، قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من
هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(1/363)
وعن أبي حنيفة: أخوف آية في القرآن: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) .
وقال غيره: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
ولهذا قال بعضهم: لو سمعتُ هذه الكلمة من خفير الحارة لم أنم.
وفي النوادر لأبي زيد: قال مالك: أشدّ آية على أهل الأهواء قوله تعالى:
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) .
وتأوَلها على أهل الأهواء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية، قال: آيتان في كتاب الله ما أشدهما
على مَن يجادل في الله: (ما يجادِل في آيات الله إلا الذين كفروا) .
(وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شِقَاق بَعِيد) .
وقال بعضهم: إن الله تعالى أنزل على نبيه خمس آيات لو لم تكن إلا واحدة
لكان ينبغي لنا ألا نأكل ولا نشرب، أولها قوله تعالى: (أمْ حَسِب الذين
اجتَرَحُوا السيِّئات) .
والثانية قوله تعالى: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
والثالثة: (أفمَنْ كان مؤمناً كمَنْ كان فاسِقاً) .
والرابعة: (أفَحَسِبْتُم أنما خَلَقْناكم عَبَثا) .
والخامسة: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
وقال السعيدي: سورة الحجً من أعاجيب القرآن، فيها مكيّ ومدنيّ.
وحضري وسفري، وليلي ونهاري، وحربي وسلمي، وناسخ ومنسوخ.
فالمكيّ من رأس الثلاثين إلى آخرها، والمدني من رأس خمس عشرة إلى رأس الثلاثين، والليلي خمس آيات من أولها، والنهاري من رأس تسع آيات إلى رأس اثنتي عشرة آية.
والحضري إلى رأس العشرين.
قلت: والسفري أولها.
والناسخ: (اذِن للّذِين يقَاتلون بأنهم ظُلِمُوا) .
والمنسوخ: (الله يحكمُ بينكم) .(1/364)
نسختها آية السيف.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) .
نسختها: (سنُقْرِئك فلا تَنْسى) .
وقال الكرماني: ذكر المفسرون أن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهَادةُ
بينكم) .
مِنْ أشكل آية في القرآن حكماً ومعنى وإعراباً.
وقال غيره: قوله تعالى: (يا بَنِي آدمَ خُذُوا زِينتكم عند كلّ مَسجد) .
جعت أصولَ أحكام الشريعة كلها: الأمر والنهي، والإباحة والخبر.
وقال الكرماني في العجائب في قوله تعالى: (نحن نقصّ عليكَ أحسنَ
القصص) .
قيل هو قصة يوسف، وسماها أحسن القصص لاشتمالها
على ذكر حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحَبْس وإطلاق، وسجن وخلاص، وخصب وجَدْب، وفيها مما يعجز عن بيانها طوق الخَلْق.
وقال: ذكر أبو عبيدة عن رؤبة: ما في القرآن أغرب من قوله: (فاصْدَعْ بما
تُؤْمَر) .
وقال ابن خالويه في كتاب " ليس ": ليس في كلام العرب لفظ جمع لغات ما
النافية إلا حرف واحد في القرآن جمع اللغات الثلاث، وهي قوله تعالى: (ما
هنَّ امَّهاتِهم)
قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ بعضهم بالرفع، وقرأ ابن مسعود ما هن بأمهاتهم - بأبناء.
قال: وليس في القرآن لفظ على افعوعل إلا في قراءة ابن عباس: (ألا إنهم تثْنَوْني صدورهم) هود: هـ.
وقال بعضهم: أطول سورة في القرآن البقرة، وأقصرها الكوثر، وأطول آية
فيه آية الدَّين، وأقصر آية فيه: والضحى، والفجر.
وأطول كلمة فيه رسما فأَسْقَيْنَاكموه.(1/365)
وفي القرآن آيتان جمعت كلّ منهما حروف العجم: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) ..
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) .
وليس فيه حاء بعد حاء بلا حاجز إلا في موضعين:
(عقدة النكاح حتى) ، (لا أبرح حَتَّى) .
ولا كَافَانِ كذلك إلا: (ما سَلَكَكم) ، (مناسككم) .
ولا غينان كذلك إلا: (ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دينا) .
ولا آية فيها ثلاث وعشرون كافاً إلا آيةَ الدَّين.
ولا آيتان فيهما ثلاثة عشر وقفا إلا آية المواريث.
ولا ثلاث آيات فيها عشر واوات إلا: والعصر ... إلى آخرها.
ولا سورة إحدى وخمسون آية فيها اثنان وخمسون وقفاً إلا سورة الرحمن.
ذكر أكثر ذلك ابن خالويه.
وقال أبو عبد الله الخَبّازي المقرئ: أول ما وردت على السلطان محمود بن
ملكشاه سألني عن آية أولها غين. فقلت: ثلاث: (غافر الذنب) .
وآيتان بخلف: (غير المغضوب عليهم) و (غُلِبت الروم) .
ونقلت من خط شيخ الإسلام ابن حَجر في القرآن أربع شدات متواليات: في
قوله: (نَسِيّا. رَبّ السماوات)
(في بَحْرِ لُجِّي يَغْشَاه مَوْج) .
(قولاً مِنْ ربٍّ رَحيم)
(ولقد زينّا السماء) .
*******
الوجه الثالث والثلاثون من وجوه إعجازه (ورود آيات مُبهمة يحِيرُ العقل فيها)
وقد أفرده بالتأليف السهَيْليّ، ثم ابن عسكر، ثم القاضي بدر الدين ابن
جماعة، ولي فيه تأليف لطيف، وكان من السلف من يعتني به كثيراً: ومرجعه
للنقل المحض، وسأذكر ما يَسّر الله بعد أن تعلم أن للإبهام أسباباً:
أحدها: الاستغناء ببيانه في موضع آخر، كقوله: (صِرَاطَ الذين أنعمتَ
عليهم) ، فإنه مبيّن في قوله: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) .(1/366)
الثاني: أن يتعين لاشتهاره، كقوله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) .
ولم يقل حوّاء، لأنه ليس له غيرها.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) .
فالمراد نُمْرود لشهرة اسمه، لأنه المرسل إليه.
وقد ذكر الله في القرآن فرعون باسمه ولم يسم نُمْزود، لأن فرعون
أذكى منه، كما يؤخذ من أجوبته لموسى.
ونمرود كان بليداً، ولهذا قال: (أنا أحي وأمِيت) ، وفعل ما فعل من قتل شخص والعفو عن آخر، وذلك غاية البلادة.
الثالث: قَصْد الستر عليه، ليكون أبلغ في استعطافه، نحو: (ومِنَ الناسِ مَنْ
يعجِبك قوله في الحياة الدُّنيا) .
وهو الأخْنس بن شَرِيق، وقد أسلم بعد وحسن إسلامه.
الرابع، ألا يكون في تعيينه كبير فائدة، نحو: (أوْ كالّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيةٍ) .
(واسألْهم عن القرية) .
الخامس: التنبيه على العموم، وأنه غير خاصّ، بخلاف ما لو عيِّن، نحو:
(ومَنْ يَخْرج مِنْ بَيْتهِ مهَاجِرا إلى الله ورَسُولِه) .
قال عِكْرِمة: طلبته أربع عشرة سنة.
السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم، نحو: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) .
(والذي جاء بالضَدْق وصَدّقَ به) .
(إذ يقول لصاحبه) .
والمراد الصّدَيق في الكل.
السابع: تحقيره بالوصف الناقص، نحو: (إنّ شانِئكَ هو الأبْتَر) .
قال الزركشي في البرهان: لا أبحث عن مبْهم أخبر الله باستئثاره بعلمه.
كقوله: (وآخَرِين مِنْ دونهم لا تَعلمونهم اللَّهُ يَعْلَمُهم) .(1/367)
قال: والعجب ممّن تجرّأ وقال: إنهم قُريظة، أو من الجنّ.
قلت: ليس في الآية ما يدل على أن جنسهم لا يعلم، وإنما المنفي علم أعيانهم، ولا ينافيه العلم بكونهم من قريظة أو من الجن، وهو نظير قولهم في المنافقين:
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) .
فإن المنفيّ عِلْم أعيانهم، ثم القول في أولئك إنهم قريظة أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، والقول بأنهم من الجن أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن غريب عن أبيه، مرفوعاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا جرأة.
ذِكرُ ما أبهم من رجل أو امرأة أو ملَك أو جِنّي أو مثَنى أو مجموع عرف
أسماء كلهم، أو مَنْ، أو الذي إذا لم يرد به العموم:
قوله تعالى: (إنّي جاعلٌ في الأرْضِ خليفة) .
هو آدم وزوجه حوّاء بالمد، لأنها خلقت منه.
(وإذْ قَتَلْتم تفْساً) .
اسمه عاميل.
(وابْعَثْ فيهم رَسُولا مِنْهُم) ، هو النبي - صلى الله عليه وسلم -
(ووصى بها إبراهيم بَنِيه) ،: هم إسماعيل وإسحاق ومدين
وزمْران وسرح ونفش ونفشان وأميم وكَيْسان وسَوْرَح ولوطان ونافش.
" الأسباطُ " أولاد يعقوب اثنا عشر رجلاً: يوسف، وروبيل، وشمعون.
ولاوي، ويهوذا، وحابي، ونَفْتَالي - بفاء ومثناة، وكاد وأشير وايساجر وريالون وبنيامن.
(ومِنَ الناسِ مَنْ يُعْجِبكَ قوله) ،: هو الأخنس بن شَرِيق.
(ومِنَ الناس مَنْ يَشْرِي نفْسَه) ،: هو صهَيْب.
(إذ قالوا لنَبّي لهم) ، هو شمعون. وقيل يوشع.
(مِنْهمْ مَنْ كلّم الله) ،: قال مجاهد: موسى.(1/368)
(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم -
(الذي حَاجَّ إبراهيمَ في ربّه) ، نُمرود بن كنعان.
(أو كالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَة) ، عُزير. وقيل أرمياء: وقيل حَزْقيل.
(امرأة عِمْران) ،: حنّة بنت فاخوذ.
(وامرأَتي عاقِر) ،: هي أشياع أو أشيع بنت فاخوذ.
(مُنَادِياً يُنَادي للإيمان) ،: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(الطاغوت) ، قال ابن عباس: هو كعب بن الأشرف، أخرجه أحمد.
(وإن مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) ،: هو عبد الله بن أبيّ.
(ولا تَقولُوا لِمَنْ ألقَى إليكم السّلاَم) ،: هو عامر بن الأضبط الأشجعي.
وقيل مرداس.
والقائل ذلك نفر من المسلمين فيهم أبو قَتَادة والمحلم بن جَثّامَة.
وقيل إنَّ الذي باشر القول محلم.
وقيل: إنه الذي باشر قتله أيضاً.
وقيل قتله المِقْداد بن الأسود، وقيل أسامة بن زيد.
(ومَنْ يخرُجْ من بَيْتِهِ مُهَاجِرا) ،: هو ضَمْرة بن جنْدب.
وقيل ابن العِيص. وقيل رجل من خزاعة. وقيل أبو ضمرة بن العِيص.
وقيل اسمه سَبْرة. وقيل هو خالد بن حزام، وهو غريب جداً.
(وبعثنا منهم اثْنَي عشر نَقِيبا) ،: هم شموع بن زكور من سبط روبيل، وشوقط بن حورا من سبط شمعون، وكالب بن يوفنّا من سبط
يهوذا، وبعرك بن يوسف من سبط اشاجرة، ويوشع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف، وبلطا بن روفا من سبط بنيامن، وكرابيل بن سوط من سبط زبالون، وكدا بن سوسان من سبط منشا بن يوسف، وعماييل بن كسل من سبط دان، وسَتُور بن ميخاييل من سبط أشير، ويوحنا بن وقوس من سبط نفتالي، وإيل بن نوخا من سبط كاذلوا.
(قال رَجُلاَن) ،: هما يوشع وكالوب.(1/369)
(نبأ ابني آدَم) : هما قابيل وهابيل، وهو المقتول.
(الذي آتيْنَاه آياتِنا فانْسلخَ منها) ،: بلعم، ويقال بلعام ابن آير.
ويقال باعر، ويقال باعور.
وقيل هو أميَّة بن الصلت. وقيل صيفي بن الراهب.
وقيل فرعون، وهو أغْرَبُها.
(وإنّي جارٌ لكمْ) ،: عَنَى سراقة بن جُعْشم.
(فقاتلوا أئمةَ الكفْر) ، قال قتادة: هم أبو سفيان، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة.
(إذ يقولُ لصاحبه) ،: هو أبو بكر.
(وفيكم سمّاعون لهُمْ) ، قال مجاهد: هم عبد الله بن أبيّ بن سَلُول، ورفاعة بن التابوت، وأوس بن قَيْظيّ.
(ومنهم مَنْ يقولُ ائْذِنْ لي) ،: هو الجدّ بن قيس.
(ومنهم مَنْ يَلْمِزُكَ في الصدقات) ،: هو ذو الخُوَيصِرة.
(إن نَعفُ عن طائفة منكم) ،: هو مَخْشيّ بن حمير.
(ومنهم مَن عاهد الله) ،: هو ثعلبة بن حاطب.
(وآخرون اعترفوا بذُنوبهم) ، قال ابن عباس: هم سبعة:
أبو لبابة وأصحابه.
وقال قتادة: سبعة من الأنصار: أبو لُبَابة، وجد بن قيس.
وخذام، وأوس، وكردم، ومِرْداس.
(وآخرون مُرْجَوْن) ،: هم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهم الثلاثة الذين خُلِّفوا.
(الَّذِينَ اتخَذوا مَسْجِداً ضِرَاراً) ، قال ابن إسحاق: اثنا عشر من الأنصار: جِذَام بن خالد، وثعلبة بن حاطب، وهزال بن أمية.
ومعتّب بن قُشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه جمّع
وزيد، ونَبتل بن الحارث، وبَحزَج، وبجَاد بن عثمان، ووداعة بن عاتب.(1/370)
(لِمَنْ حارب اللهَ ورسوله) ،: هو أبو عامر الراهب.
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ،: هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ويَتْلوه شَاهِدٌ منه) أهود: 17،: هو جبريل. وقيل أبو بكر. وقيل
عليٌّ.
(ونادى نوح ابْنَه) : اسمه كنعان. وقيل يام.
(وامرأتة قائمة) ،: اسمها سارة.
(بنات لوط) ،: ريثا ورغوثا.
(لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) ،: هو بنيامين شقيقه.
(قال قائلٌ منهم) ،: هو روبيل، وقيل يهوذا، وقيل شمعون.
(فأرْسَلوا وَارِدَهم) ،: مالك بن دعر.
(وقال الذي اشْتَرَاه) ،: هو قطفير أو إطفير.
(لامرأته) هى راعيل، وقيل زليخا.
(ودخل معه السجْنَ فَتَيان) ، هما مجلث ونبو الساقي.
وقيل راشان ومرطش، وقيل شرهم وسرهم.
(لِلذي ظنَّ أنه ناج) ،: هو الساقي.
(عند ربك) : هو ريّان بن الوليد.
(بأخ لكم) ، هو بنيامن، وهو المتكرر في السورة.
(فقد سق أخٌ له) ،: عنوا يوسف.
(قال كَبِيرهم) ،: هو شمعون. وقيل روبيل.
(آوَى إليه أبَوَيْهِ) ، هما أبوه وخالته ليّا.
وقيل أمه واسمها راحيل.
(ومَنْ عِنْدَه عِلْم الكتاب) ،: هو عبد الله بن سلام.
وقيل جبريل.
(أسكنْت مِنْ ذريتي) ، هو إسماعيل.(1/371)
(ولِوَالِديّ) ، هو أبوه تارح. وقيل آزر. وقيل يازر.
واسم أمه مثاني. وقيل نوفا. وقيل ليوثا.
(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) .
قال سعيد بن خبير: هم خمسة:
الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأبو زمعة، والحارث بن قيس، والأسود ابن عبد يغوث.
(رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ) ،: هو أسيد بن أبي العيص.
(وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ، عثمان بن عفان.
(كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) ، هي ريطة بنت سعيد بن زيد مناة ابن تميم.
(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، عنوا به عبد الله بن الحَضْرمي، واسمه مِقْيَس.
وقيل عَبْدَين له: يسار، وجبر.
وقيل عنوا قَيْنا بمكة اسمه بلعام.
وقيل سلمان الفارسي.
(أصحاب الكهف) ،: تمليخا رئيسهم، والقائل: (رَبّكم أعلم
بما لبِثْتم) ، وتكسلمينا، وهو القائل: (كم لبثْتم) ومرطوش
وبواشق وأيونس واريسطانس وشلططْيَوش.
(فابْعَثوا أحَدَكم بوَرِقكمْ) ،: هو تمليخا.
(مَنْ أغفَلْنَا قَلْبَه) ، هو عيينة بن حصْن.
(واضْرِبْ لهم مثلاً رَجلين) ، هما تمليخا - وهو الخيِّر.
وفرطوس، وهما المذكوران في سورة الصافات.
(قال موسى لفَتَاه) .،: هو يوشع بن نون.
وقيل أخوه يثربي.
(فوجدا عَبْداً) ، واسمه بليا.
(لَقِيا غلاَماً) ،: واسمه جيسور بالجيم - وقيل بالحاء.
(فناداها مِنْ تحْتِها) ، قيل عيسى. وقيل جبريل.(1/372)
(ويقول الإنسان) ،: هو أبيّ بن خلف.
وقيل أمية بن خلف.
وقيل الوليد بن المغيرة.
(أفرأيْتَ الذي كَفَر بآياتِنا) ،: هو العاصي بن وائل.
(وقَتَلْتَ نفساً) ، هو القبطي، واسمه فاقون.
(السامريّ) ، اسمه: موسى بن ظفر.
(من أَثَرِ الرسول) ، هو جبريل.
(ومِنَ الناسَ من يجادل) ، هو النضر بن الحارث.
(هذَان خَصْمَان) ،: أخرج الشيخان، عن أبي ذر، قال:
نزلت هذهَ الآية في حَمزة، وعبيدة بن الحارث، وعلي بن أبي طالب، وعُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة.
(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) ،: قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أنيس.
(الذين جاءوا بالإفْكِ) ،: هم حسان بن ثابت، ومِسْطح بن أثاثة، وحَمْنة بنت جَحْش، وعبد الله بن أبيّ، وهو الذي تولى كِبْره.
(ويوم يعَضّ الظّالم) ،: هو عقبة بن أبي معَيط.
(لم أَتخِذْ فلاناً) .،: هو أمية بن خلَف، وقيل أبي بن خلف.
(وكان الكافر) ، قال الشعبي هو أبو جهل.
(امرأة تملِكهم) ، وهي بلقيس بنت شرحبيل.
(فلما جاء سلَيمانَ) ، اسم الجائي منذر.
(قال عِفْرِيت) ،: اسمه كَوْزَن.
(الذي عنده علم) .، وهو آصف بن برخيا كاتبه.
وقيل هو رجل يقال له ذو النور.
وقيل أسطور.
وقيل تمليخا.
وقيل بلخ.
وقيل هو ضبّة أبو القبيلة.
وقيل جبريل.
وقيل ملك آخر.
وقيل الخضر.
(تِسْعَة رَهْط) ، هم دعما، ودعيم، وهرمي وهريم وداب
وصواب ورياب، ومسطح، وقدَار بن سالف عاقر الناقة.(1/373)
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) ،: اسم الملتقط طابوث.
(امرأة فرعون) ،: آسية بنت مزاحم.
(أم موسى) ، بحانة بنت يصهر بن لاوي.
وقيل ياء وخاء.
وقيل أباذخت.
(وقالت لأخْتهِ) ،: اسمها مريم. وقيل كلثوم.
(هذا مِنْ شِيعَتِه) ، هو السامري.
(وهذا مِنْ عَدوّه) ، اسمه مايوان.
(وجاء رجل من أقصا المدينة) ، هو مؤمن آل فرعون، واسمه شمعان.
وقيل شمعون: وقيل جبر. وقيل حبيب. وقيل حزقيل.
(امرأتَيْن تَذودَان) ، هما ليّا وصفوريا، وهي التي نكحها.
وأبوهما شعيب.
وقيل يغرون بن أبي شعيب.
(قال لقمان لابنه) : اسمه باران بالموحدة.
وقيل داران. وقيل أنعم. وقيل مِشْكم.
(مَلَك الموْتِ) ، اشتهر على الألسنة أن اسمه عزراييل.
ورواه أبو الشيخ ابن حبان عن وهب.
(أفمَنْ كان مُؤمناً كمن كان فَاسِقاً) ، نزلت في علي بن أبي طالب، والوليد بن عقبة.
(ويستأذِن فريق) ، قال السدّي: هما رجلان من بني حارثة: أبو عَرابة بن أَوس، وأوس بن قَيْظي.
(قل لأزْوَاجك) ، قال عكرمة: كان تحته يومئذ تسع
نسوة: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسَوْدة، وأم سلمَة، وصفية، وميمونة،وزينب بنت جحش، وجُويرية.
وبناته: فاطمة، وزينب، ورقية، وأم كلثوم.(1/374)
(أهل البَيْت) ،: قال - صلى الله عليه وسلم -: هم علي، وفاطمة، والحسن، والحسين.
(للذي أنْعَم اللَهُ عليه وأنعَمْتَ عليه) ، هو زَيد بن حارثة.
(وحمَلَهَا الإنسانُ) ، قال ابن عباس: هو آدم.
(أرْسَلْنَا إليهمُ اثْنَيْن) ، هما شمعون ويوحنا، والثالث بولس.
وقيل: هم صادق وصدوق وشلوم.
(وجاء مِنْ أقصَا المدينةِ رجل) ، هو حبيب النجار.
(أولم يَرَ الإنسانُ) ، هو العاص بن وائل.
وقيل أبي بن خلف.
وقيل أمية بن خلف.
(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) ، هو إسماعيل، أو إسحاق، قولان شهيران (1) .
(نبَأ الخَصْمِ) ، هما ملكان، قيل جبريل وميكاييل.
(جَسَداً) ، هو شيطان يقال له أسِيد (2) .
وقيل ضَمْرة. وقيل حبقيق.
(مَسَّنِي الشيطان) ، قال نوف: الشيطان الذى مسه يقال له مسقط (3) .
(والذي جاء بالصِّدْق) ، هو محمد، (وصدق به) محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل أبو بكر.
(اللّذَيْن أضَلاّنا) ، إبليس، وقابيل.
(رَجلٌ مِنَ القَرْيَتَيْن) ،: عَنَوا الوليد بن المغيرة من مكة، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقيل عروة بن مسعود من الطائف.
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) ، الضارب له عبد الله بن الزبعرَى.
__________
(1) الراجح عند المحققين أنه إسماعيل عليه السلام وهو الذبيح. والله أعلم.
(2) فيه نظر فقد روى البخاري برقم:
6148 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُلَيْمَانُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ.
(2) قول منكر، ويحمل المس في الآية الكريمة على الوسوسة، والنصب على المجاهدة. والله أعلم بالصواب.(1/375)
(طعام الأَثِيم) ، قال ابن جبَيْر. هو أبو جهل.
(وشَهد شاهدٌ من بني إسرائيل) ، هو عبد الله بن سلاَم.
(أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ،: أصحّ الأقوال أنهم: نوح، وإبرا هيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -.
(ينَادِي المنَادِي) ، إسرافيل.
(ضَيْفِ إبراهيمَ المكرَمِين) ، قال عثمان بن محصن: كانوا
أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وروفاييل.
(وبَشَّروه بغلاَم عليم) ، قال الكِرمَاني: أجمع المفسرون على
أنه إسحاق، إلا مجاهد، فإنه قال: هو إسماعيل.
(شَدِيد القوَى) ،: جبريل.
(أفرأيْتَ الذي تَوَلّى) ، هو العاصي بن وائل.
وقيل الوليد بن المغيرة.
(يَوْمَ يدعُ الدَّاعِي) ، هو إسرافيل.
(قَوْلَ التي تجَادِلك) ، هي خَوْلة بنت ثعلبة (في زوجها) ، هو أوس بن الصامت.
(لِمَ تحَرم ما أحلَّ اللَّهُ لكَ) ، هي سريته مارية.
(إذ أسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أزْوَاجِهِ حديثاً) ، هي حفصة.
(نَبَّأتْ به) ، هي عائشة.
(تَتوبَا) ، و (تظاهرا) : هما عائشة وحفصة.
(وصالح المؤمِنين) هما أبو بكر وعمر، أخرجه الطبراني في الأوسط.
(امرأة نوح) ، والهة. (وامرأة لوط) والعة.
وقيل وائلة.(1/376)
(ولا تُطِعْ كلَّ حلافٍ) ، نزلت في الأسود بن عبد يغوث.
وقيل: الأخنس بن شَرِيق.
وقيل: الوليد بن المغيرة.
(سأل سائل) ، النضر بن الحارث.
(رَبِّ اغْفِرْ لي ولوالديّ) ، اسم أبيه لمك بن متُّوشلخ، وأمه
شمنحا بنت أنوش.
(سفِيهنَا على الله شَطَطا) ، إبليس.
(ذَرْنِي ومَنْ خَلَقتُ وحِيدا) ، هو الوليد بن المغيرة.
(فَلا صَدَّق ... ) ، الآيات. نزلت في أبي جهل.
(هل أتى على الإنسان) ، هو آدم.
(ويقول الكافر يا ليتني كنتُ ترَابا) ، هو إبليس.
(أنْ جاءَه الأعمَى) ، هو عبد الله ابن أمّ مَكتوم.
(أمَّا مَنِ استَغنَى) ، هو أميّةُ بن خلف. وقيل عُتبة بن ربيعة.
(لَقَول رَسول كَرِيم) ، هو جبريل.
وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(فأَمّا الإنسان إذا ما ابتَلاَه) .
نزلت في أمية ابن خلف.
(ووالدٍ) ، هو آدم.
(فقال لهم رسول الله) ، هو صالح.
(الأشقَى) ، هو أمية بن خلف.
(الأتقَى) ، هو أبو بكر الصديق.
(الذي يَنهَى عَبْداً) ، هو أبو جهل.
والعبد هو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(إنّ شَانِئَكَ) ، هو العاصي بن وائل.
وقيل أبو جهل. وقيل عقبة بن أبي معيط. وقيل أبو لهب.
وقيل كعب بن الأشرف.
(وامرأتُه حَمَّالة الحطَب) ، أم جميل العَوْرَاء بنت حَرْب بن أمية.(1/377)
ذكر المجموع من المبهمات الذين عرف أسماء بعضهم
(قال الّذين لا يَعْلَمونَ لولا يكَلمنا الله) البقرة: 118) ، سمِّي منهم
رافع بن حُرَيملة.
(سيَقولُ السفهاءُ) ، سمَي منهم رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن حريملة، والحجاج بن عمرو، والربيع بن أبي الحقيق.
(وإذا قيل لهم اتّبعوا) ، سمي منهم مالك بن عوف، ورافع.
(يسألونك عن الأهِلّة) ، سمي منهم معاذ بن جَبَل، وثعلبة بن غنم.
(يسألونك ماذا ينْفِقون) ، سمي منهم عمرو بن الجموح.
(يسألونك عن الخَمْر) ، سمي منهم عمر، ومعاذ، وحمزة.
(ويسألونكَ عن اليَتَامَى) ، سمي منهم عبد الله بن رَواحة.
(ويسألونك عن المحيض) ، سمي منهم ثابت بن الدحداح، وعباد بن بشر، وأسيد بن الخضَير.
(ألم تَرَ إلى الذين أوتوا نَصِيباً) ، سمي منهم النعمان بن عمرو، والحارث بن يزيد.
(الحَوارِيّون) ، سمي منهم فطرس، ويعقوبس.
ويحنّس، والورايلس، وفيلس، وابن تيما، ومنتا، وتَوْماس، ويعقوب بن خلفيا،وجداوسميس، وماديواس، ودرمايوطا، وسرجس، وهو الذي ألقي عليه شبهه.
(وقالت طائفة مِنْ أهْلِ الكتاب) ، هم اثنا عشر من اليهود.
سمي منهم عبد الله بن الصيّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عمرو.(1/378)
(كيفَ يَهْدِي الله قَوْماً كفَروا بعد إيمانهم) ، قال عكرمة: نزلت في اثني عشر رجلاً، منهم: أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن أسلم.
زاد ابن عسكر: وطعيمة بن أبيْرِق.
(يقولون هل لنا من الأمر مِنْ شيء) ، سمي من القائلين عبد الله بن أبيّ بن سلُول، ومعتّب بن قشَيْر.
(وقيل لهم تعالَوْا قَاتِلُوا) ،: القائل ذلك عبد الله، والد جابر بن عبد الله الأنصاري.
والمقول لهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه.
(الذين استَجَابوا للهِ) ،: هم سبعون، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وابن عوف، وابن مسعود
الأشجعي.
(الذين قالُوا إنَّ الله فَقير) ، قال ذلك فنحاص. وقيل حيي بن أخطب.
وقيل كعب بن الأشرف.
(وإنَّ مِنْ أهل الكتَاب لَمنْ يؤمِن باللهِ) ، نزلت في النجاشي.
وقيل في عبد الله بن سلام وأصحابه.
(وبَثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء) ، قال ابن إسحاق: أولاد آدم لصلبه أربع وعشرون بطناً، كلّ بطن ذكر وأنثى، وسمي من بَنِيه قابيل، وهابيل، وإيماد، وشبونة، وهند، وضرابيس، ومخور، وسند، وبارق، وشيث.
وعبد المغيث، وعبد الحارث، وودّ، وسواع، ويغوث، ويَعوق، ونَسْرا.
ومن بناته: أقليمة، وأشوف، وجزوزة، ويمن، وعز، ورا، وأمة المغيث.
(ألم تَرَ إلى الذين أوتُوا نَصيباً من الكتاب يَشتَرُون الضّلالة) .
قال عكرمة: نزلت في رفاعة بن يزيد بن التابوت، وكردم بن زيد.
وأسامة بن حبيب، ورافع بن أبي رافع، وحيي بن أخطب.
(ألم تَرَ إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) ، سمي منهم عبد الرحمن بن عَوف.(1/379)
(إلاَّ الذين يَصِلُون إلى قَوْم) ، قال ابن عباس: نزلت في
هلال بن غويم الأسلمي، وسُراقة بن مالك المدلجي، وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف.
(ستَجِدُون آخَرين) ، قال السدي: نزلت في جماعة منهم نُعَيْم بن مسعود الأشجعي.
(إن الّذِين توفّاهُم الملائكةُ ظالمِي أنْفُسهم) ، سمَّى منهم عِكْرمة: علي بن أمية بن خلف، والحارث بن زمعة، وأبا قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا العاص بن المنبه بن الحجاج، وأبا قيس بن الفاكِه.
(إلا المستَضْعَفين) ، سمي منهم ابن عباس، وأمه أمّ الفضل، وعيّاش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام.
(الذين يَخْتَانون أنْفُسهم) ، بنو أبيرق: بشر، وبشير، ومبشّر.
(لَهَمّتْ طائفة منهم أنْ يضِلّوك) ،: أسَيْد بن عُروة وأصحابه.
(ويستَفْتونَك في النساء) ، سمى من المستفتين خَوْلَة بنت حكيم.
(يَسألك أهْل الكتاب) ، سمي منهم ابنُ عسكر: كعب بن الأشرف، وفِنْحاصا.
(لكن الرَّاسخون في العلم) ، قال ابن عباس: هم عبد الله بن سلام.
(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) ، سمي منهم الحُطَم بن هند البكري.
(يسألُونَكَ ماذا أُحِلّ لهم) ، سمي منهم عدي بن حاتم، وزيد ابن مهلهل الطائيان، وعاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعدي بن ساعدة.(1/380)
(إذ هَمّ قومٌ أنْ يَبْسطوا) ،: سمي منهم كعب بن الأشرف، وحييِّ بن أخطب: (ولَتَجِدَنّ أقربَهم مَودّة) ، الآيات، نزلت في الوفد الذين جاءوا من عند النجاشي، وهم اثنا عشر. وقيل ثلاثون. وقيل سبعون.
وسمي منهم: إدريس، وإراهيم، والأشرف، وتميم، ودريد.
(وقالوا لولا أنزل عليه مَلَك) ،: سمي منهم زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث بن كلَدة، وأبيّ بن خلف، والعاصي بن وائل.
(ولا تَطردِ الذين يَدْعون رَبّهم) ، سمي منهم: صُهَيب، وعمّار، وخبّاب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وسلمان الفارسي.
(إذ قالوا ما أنزل اللَّهُ على بشَرٍ مِنْ شَيْء) ، سمي منهم فِنْحاص، ومالك بن الصيّف.
(قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) ، سمي منهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة.
(يسألونَكَ عن الساعة) ، سمي منهم حمل بن قشير، وشمويل بن زيد.
(يسألونك عن الأنفال) ، سمي منهم سعد بن أبي وقاص.
(وإنّ فَرِيقاً من المؤمنين لكارهون) ، سمي منهم أبو أيوب الأنصاري.
ومن الذين لم يكرهوا المقداد.
(إن تسْتَفْتِحوا) ، سمي منهم أبو جهل.
(وإذ يمكر بكَ الّذِين كَفَروا) ، هم أهل دار الندوة، سمي منهم عتْبة وعتيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وأبو جهل، وجُبير بن مطعم، وطعيمة بن عدي، والحارث بن عامر، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأمية بن خلف.(1/381)
(وإذ قالوا اللهم إنْ كان هذا هو الحقَّ مِنْ عِنْدِكَ) .
سمي منهم أبو جهل، والنضر بن الحارث.
(إذ يقول المنافِقون والذين في قلوبهم مَرَض غَرَّ هؤلاء دِيْنُهم) .
سمي منهم عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس بن الفاكه.
والحارث بن زمعة، والعاصي بن منبه.
(قل لِمَن في أيديكم من الأسْرَى) ، كانوا سبعين، منهم: العباس، وعَقِيل، ونَوْفل، والحارث، وسهل ابن بيضاء.
(وقالت اليهود عزَيْر ابن اللهِ) ، سمي منهم سلام بن مِشْكم ونعمان بن أوفى، ومحمد بن دحية، وشلأس بن قيس، ومالك بن الصيّف.
(الذين يلْمِزونَ المطَّوِّعين) ، سمي من المطوّعين عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي.
(والذين لا يَجِدون إلا جهْدَهم) ، أبو عقيل، ورفاعة بن سعد.
(ولا على الذين إذا ما أتوْكَ لِتَحْمِلهم) ، سمي منهم العِرباض بن سارية، وعبد الله بن مغَفّل المزني، وعمرو المزني، وعبد الله بن الأزرق الأنصاري، وأبو ليلى الأنصاري.
(فيه رجال يحِبّون أن يتَطَهَّروا) ، سمي منهم عُويم بن ساعدة.
(إلاّ مَنْ أكره وَقَلْبه مطمئنّ بالإيمان) ، نزلت في جماعة، منهم: عمّار بن ياسر، وعباس بن أبي ربيعة.
(بَعَثْنَا لكم عِبادا لنا) ، هم جالوت وأصحابه.(1/382)
(وإنْ كادوا ليَفْتِنونَك) ، قال ابن عباس: نزلت في رجال من قريش، منهم: أبو جهل، وأميّة بن خلف.
(وقالوا لن نؤمِنَ لك حتى تُفَجِّر لنا) ، سمى ابن عباس مِنْ قائلي ذلك: عبد الله بن أمية، وذريته.
وسمى من أولاد إبليس: ثور، والأعور، وزنبور، ومِسْوَط، وداسر.
(وقالوا إن نَتّبع الهدَى معك) ، سمي منهم الحارث بن عامر بن نوفل.
(أحسِبَ الناس أن يتْرَكوا) ، هم المؤذَوْن على الإسلام.
سمي منهم عمار بن ياسر.
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبِعوا سبيلَنا) ، سمي منهم الوليد بن المغيرة.
(ومِنَ الناس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الحدِيث) ، سمي منهم النضر ابن الحارث.
(فمنهم مَنْ قضى نَحْبَه) ، أنس بن النضر.
(قالوا الحق) ، أول من يقوله - جبريل، فيتبعونه.
(وانطلق الملأ منهم) ، سمي منهم عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث.
(وقالوا ما لَنَا لا نرى رِجَالا) ، سمي من القائلين أبو جهل.
ومن الرجال: عمار، وبلال.
(نَفَرا من الجِنّ) ، سمي رشهم زوبعة، وحَسْي، ومسي.
وشاصو، وماصو، والأزد، وانيان، والأحقم، وسرّق.
(إنّ الذين ينَادونَك مِنْ وَرَاء الحجرات) ، سمي منهم الأقرع بن حابس، والزّبرقان بن بدر، وعيينة بن حِصْن، وعمرو بن الأهتم.(1/383)
(ألم تَرَ إلى الّذِين تَولَّوا قَوْماً) ، نزلت في عبد الله بن نبْتَل من المنافقين.
(لا ينْهاكم اللَّهُ عن الّذين لم يقَاتِلُوكم) ، نزلت في قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر.
(إذا جاءكم المؤمنات) ، سمي منهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيْط، وآسية بنت بشر.
(يقولون لا تُنفِقوا) .
(يقولون لئن رَجَعْنَا) .
سمي منهم عبد الله بن أبَيّ.
(ويَحْمِل عَرْشَ رَبك) .
سمي من حملة العرش إسرافيل، ولونان وروفيل.
(أصحاب الأخدود) ، ذو نواس: زرعة بن أسعد الحميري وأصحابه.
(أصحاب الفيل) ، هم الحبشة، قائدهم أبرهة الأشرم، ودليلهم أبو رغَال.
(قل يا أيها الكافِرون) ، نزلت في الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف.
(النفّاثَات) ، بنات لَبِيد بن الأعصم.
وأما مبْهمات الأقوام والحيوانات والأمكنة والأزمنة، ونحو ذلكَ فقد
استوفيت الكلام عليها في تأليفنا المشار إليه.
تنبيه:
قال قيس عن الأعمش، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله، قال: قال علي: ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية.
قيل له: فما نزل فيك، قال: (ويَتْلوه شاهِدٌ منه) .
وأخرج الإمام أحمد، والبخاري في الأدب، عن سعد بن أبي وقاص، قال:(1/384)
نزلت فيّ أربعُ آيات: (يسألونك عن الأنفال) .
(ووَصيْنَا الإنسانَ بوالديْه حُسْنا) .
وآية تحريم الخمر، وآية الميراث.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن رفاعة القرظيّ، قال: نزلت: (ولقد وصَّلْنا لهم
القَوْلَ) ، في عشرةٍ، أنا أحدهم.
وأخرج الطبراني، عن أبي جمعة جنيد بن سبع، وقيل حبيب بن سباع، قال:
فينا نزلت: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) ، وكنا تسعة نفر، سبعة رجال وامرأتين.
*******
الوجه الرابع والثلاثون من وجوه إعجازه (احتواؤها على أسماء الأشياء والملائكة والكُنى والألقاب وأسماء القبائل والبلاد والجبال والكواكب)
أما أسماء الأنبياء فسيأتي ذكرهم إن شاء الله على حروف المعجم في أول كل
حرف ما يناسبه، وذلك خمس وعشرون، هم مشاهيرهم.
وأما الكنى فليس منها فيه غير أبي لهب، واسمه عبد العُزَّى، ولذلك لم يذكر
باسمه لأنه حرام شرعاً.
وقيل للإشارة إلى أنه جهنّمي.
والألقاب تأتي في حروف المعجم.
وأما أسماء القبائل: فيأجوج ومأجوج، وعاد، وثمود، وقريش، ومدين.
والروم.
وأسماء البلاد يأتي ذكرها مع أسماء الجبال.
وأما أسماء الكواكب: فالشمس والقمر، والطارق، والشعرى.
وفيه من أسماء الأماكن الأخروية:
الفرْدَوس، وهو أعلى مكان في الجنة.
وَِعليون: قيل هو أعلى مكان في الجنة.
وقيل اسم لما دون فيه أعمال صالحي الثَّقلين.(1/385)
والكَوْثر هو نهر في الجنَّة، كما في الأحاديث المتواترة.
وسَلْسَبِيل، وتَسْنيم: عينان في الجنة.
وسِجّين: اسم لمكان أرواح الكفار.
وصَعود: جبل في جهنم، كما أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً.
ومَوْبق، وغَيّ، وأثام، ووَيْل، والسَّعير، وسائل، وسحْق: أودية في جهنم، وستأتي كلها في الحروف.
قال بعضهم: سَمّى الله في القرآن عشرة أجناس من الطير: السلوى.
والبعوض، والذباب، والنحل، والعنكبوت، والجراد، والهدهد، والغراب، وأبابيل، والنمل، والطير، لقوله في سليمان: (عُلِّمْنا مَنْطِق الطير) .
وقد فهم من كلامها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول.
وروي أن سليمان عليه السلام سمعه، وكان بينه وبينها ثلاثة أميال، وذلك
أنها لا يسمعها البشر إلاَّ مَنْ خصَّه الله بذلك.
وروي أنه قال لها: لم قلت للنمل: (ادخلوا مساكِنَكم) ، أخِفْتِ عليها مني
ظلماً؟
قالت: لا، يا نبي الله، ولكن خشيت أن يُفْتنوا بما يرون من جمالك
وزينتك، فيشغلهم ذلك عن طاعة ربهم.
وقيل: إنها قالت: خفت عليهم من كثرة رؤية النعم، فيكفرون بنعمة اللَه
عليهم.
فتأمل إحساس البهائم وما لنا حسّ، ملأنا بطوننا من الحرام، فغلبت علينا
سَكْرة المنام، وتراكمت على قلوبنا سحائب المخالفة، فادعينا الدعاوى الباطلة، وعن قريب ينكشف السحاب، فتهب علينا نسائم الأسف والحزن، ونقول: يا حسرتنا على ما فَرَّطْنا.(1/386)
فبالله أيُّهَا الأخ، قُمْ على قدم الاعتذار، واكشف رأس الاستغفار، وناد
بلسان الاضطرار: (رَبَّنَا ظلَمْنَا أنفسنا وإنْ لم تغْفِرْ لنا وتَرْحَمْنَا لنكونَنَّ من
الخاسرين) .
قال بعضهم: بتّ ليلة ألوم نفسي، وأعدّد عليها، ثم نمت، فرأيت كأن
القيامة قد قامت، والناس جَمْع، فجئتُ إلى قوم عليهم ثياب حسنة، ورائحة طيبة، فأردتُ الجلوس معهم، فأخذ بيدي شخص فأزالني، وقال: أين أنت، وما أنت منهم، أين حالك من حالهم، أين نورك من نورهم، فلم أزَلْ اصرف من جمع إلى جمع حتى انتهيت إلى قوم عليهم أطمار رثَّة، ووجوههم مغبرة، فلما رَأوْني قالوا: تقدم إلينا، فأنت من أصحابنا، فعلمت ذُلّي ومقامي، فلزمت الحزن إلى يوم ألقاه.
اللهم إنك أنعمت على هذا العبد بإلزام الحزن قلبه، اخلع علينا بُرد حزن.
حتى أقوم على ساق سبق توبة تكابد الحزن إلى يوم ألقاك بجاه مَنْ أنزلت عليه
هذا الكتاب الشافع المشفّع، الماحل المصدق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
*******
الوجه الخامس والثلاثون من وجوة إعجازه (ألفاظه المشتركة)
وهذا الوجه من أعظم إعجازه، حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى
عشرين وجهاً، وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر.
وقد صنّف في هذا النوع وفي عكسه - وهو ما اختلف لفظه واتحد معناه -
كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم ابن الجَوْزِي، وابن أبي المعالي، وأبو الحسين محمد بن عبد الصمد المصري، وابن فارس، وآخرون.
قال مقاتل بن سليمان في صدر كتابه المصنف في هذا المعنى حديثاً مرفوعاً: لا
يكون الرجل فقيهاً كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة.(1/387)
قلت: هذا أخرجه ابن سعد وغيره عن أبي الدرداء موقوفاً، ولفظه: لا يفقه
الرجل كل الفقه.
وقد فسره بعضهم بأن المراد أن يرى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة فيحمله عليها إذا كانت غير متضادة، ولا يقتصر به على معنى واحد.
وأشار آخرون إلى أن المراد به استعمال الإشارات الباطنة، وعدم الاقتصار
على التفسير الظاهر.
وقد أخرجه ابن عساكر من طريق حماد بن زيد عن أيوب، عن أبي قِلاَبة.
عن أبي الدرداء، قال: إنك لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً.
قال حماد: فقلت لأيوب: أرأيت قوله حتى ترى للقرآن وجوها، أهو أن يرى وجوهاً فيها بالإقدام عليه، قال: نعم، هو هذا.
وأخرج ابن سعد من طريق عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب.
أنه أرسله إلى الخوارج، قال: اذهب إليهم وخاصمهم، ولا تخاصمهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة.
وفي وجه آخر قال له: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله في بيوتنا نزل.
قال: صدقت، ولكن القرآن حمَّال في وجوه: تقول ويقولون، ولكن حاجّهم بالسُّنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فاخرج إليهم فحاجهم بالسنن، فلم تبق بأيديهم حجة.
وقد مَنَّ الله علينا في جَلْبِ بعض ألفاظٍ في هذا المعنى، وكان هو السبب في
هذا المبنى، فاشْدد بكلتا يديك على هذا الكتاب المسمّى بإعجاز القرآن ومعترك الأقران، مع أني - علم الله - لست من فرْسان هذا الميْدان، ولا من يجول في هذا الشأن، لكني تطفَّلت على المتقدمين، رجاء أن يضمني جميل الاحتمال معهم، ويسعني من حسن التجاوز ما وسعهم، وأنا أرغب ممن وقع بيده هذا الكتاب أن يدعو للساعي له فيه، لأنه يجد فيه ما لا يجده في كثير من المطولين الصعاب، وكيف لا يذكره عند ربه وقد استخرجْته له منهم سهْلَ المرام، فخفَّ عليه(1/388)
حَمْله وثمنه، وقرَّبْت عليه الفهم باختصار الكلام، وأيْم الله لو أراد الاستغناء به عن النظر في غيره لكفاه، مع أني زِدت مع اللفظ المشترك تفسيرَ مفردات لا بد له منها، ليتم له معناه.
وأعقبت كل حَرْفٍ بحروف تشاكلها منها من الأسماء
والظروف، لأن معرفة ذلك من الهمات المطلوبة، لاختلاف مواقعها، ولهذا
يختلف الكلام والاستنباط بحسبها، كما في قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) .
فاستعْمِلَت "على" في جانب الحق و" في " في جانب الضلاَل، لأن جانب الحق كأنه مستَعْلٍ يصرِّف نظره كيف شاء، وصاحب الباطل كأنه في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجه.
وقوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) .
عطف الجمل الأولى بالفاء، والأخيرة بالواو لما انقطع نظام الرّتب، لأن التلطّف غير مرتب على الإتيان بالطعام، كما كان الإتيان به مرتبا على النظر فيه، والنظر فيه مرتباً على التوجه في طلبه، والتوجه في طلبه مرتباً على قطع الجدال في المسألة عن مدة اللبث وتسليم العلم له تعالى.
وقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .
عَدَل عن اللام، إلى " في " في الأربعة الأخيرة، إيذاناً بأنهم أكثر استحقاقاً للتّصدّق عليهم ممن سبق ذكره باللام، لأن " في " لِلْوعَاء، فنبَّه باستعمالها، على أنهم أحقّ بأن يجعلوا مظنّة لوضع الصدقات بهم، كما يُوضع الشيء في وعائه مستقرّاً فيه.
وقال الفارسي: إنما قال: " في الرقاب) ولم يقل للرقاب، ليدل على أن العبد لا يملك.
وعن ابن عباس قال: الحمد للهِ الذي قال: (عن صلاتهم ساهون) ، ولم يقل في صلاتهم.
فقد علمت من هذا أنه لا بد مِنْ ذكر معاني هذه الأدوات وتوجيهها.
وقد أفردها بالتصنيف خلائق من المتقدمين والمتأخرين،(1/389)
كالهروي، وابن أم قاسم، وابن هشام، وأنفعها هذا الكتاب البديع المثال، المنيع المقال، بنيت لك مصاعد ترتقي عليها إلى مقاصد، وتطَّلع فيه على فهم الكتاب المنزل، وفتحت لك من كنوزه كل باب مقفل.
فخُذْه كقرصة نِقْي منقى من كل خلط رديء، وكلْ إنْ كنت آكلاً، وإلا فلا تمنعه من الناقل إن لم تكن ناقلاً.
على أني ليس لي فيه مزيَّة، وإنما الفضل لمتقدمي علماء الأمة المحمدية، ملأ
اللَه قبورَهم نوراً، وزاد قلوبهم حبوراً، وأفاض من بركاتهم يوم نُلقَّى كتابنا
منشوراً، فنظرنا إليه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا خفيّة محرفة
عندنا إلا عَدَّها واستقصاها، وأسمعنا تعالى عظيم كلامه، وخاطبنا بعِتابه
ومَلاَمه.
وقال: عبدي، ادنُ مني، فدنوت منه بقَلْبٍ خافق وَجِل، فيقول:
عبدي طالماً أمرتُك فعصيتني، وأمهلتُك فا راعيتني، وخوّفتك عقابي فما خِفْتَني، وتسترتَ بالقبيح عن عبادي، وبه بارزتَني.
ألم أكن على قلبك وجوارحك رقيبا.
أقرأ كتابَك كفَى بنفسك الْيَوْمَ عليك حسيباً.
فهناك يخرس اللسان، وتطيش العقول والأذهان، ولا تطيق من الهيبة البيان.
بل تشهد جوارحُ الإنسان.
اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مَنْ ينقذني مِن والد علم ولا وَلَدِ علم في ذلك الموقف العظيم غير الاشتغال بخدمة كتابك، واستخراج زُبَده ودُرَره، واقتطاف ثمره وأزهاره.
فاجعله لنا شافعا مشفّعاً، وخصوصاً هذا الكتاب، فإني أودعت فيه فنون العلوم على تنوُّعها، ومررْتُ على رياض التفاسير على كثرة عددها، وختمته بأقوال كلية، فخلصت سبائكها، وفوائد مهمة
سبكت تِبْرَها، وأقوال محمدية على بعض آياتك رجاء بركتها، لأن بركة الكتاب خَتْمه.
فختمته بما صحَّ من التفسير عن نبيك البشير النذير، السراج المنير، راجياً
منك حُسْنَ الخاتمة على دينك المستقيم، فلا تُزغْ قلوبنا بعد إذْ هَدَيْتَنَا على
صراطك القويم، بجاه سيدنا ومولانا الفاتح الخاتم منقذنا من العذاب الأليم.
صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأمته أفضل صلاة وأزكى تسليم.
تم الجزء الأوَّل، ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوَّله حرف الهمزة.(1/390)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن
ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)
المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
(المتوفى 911 هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م
الجزء الثاني(2/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حَرَف الهمزة
(آدم) أبو البشَر، ذكر أنه أفعل مشتق من الأدمَة، لذا مُنع صرفه.
قال الجواليقي: أسماء الأنبياء كلها أعجمية، إلا أربعة: آدم، وصالح.
وشعيب، ومحمد.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي الضحى عن ابن عباس.
قال: إنما سمِّي آدم، لأنه خُلق من أدِيم الأرض.
وقال قوم: هو اسم سرياني أصله آدام، بوزن خاتام، عُرِّب بحذف الألف
الثانية.
وقال الثعلبي: التراب بالعبرانية آدام فسمي آدم به.
قال ابن أبي خيثمة: عاش تسعمائة وستين سنة.
وقال النووي في تهذيبه: اشتهر في كتب التاريخ أنه عاش ألف سنة.
(إدريس) : قيل إنه قَبْل نوح.
قال ابن إسحاق: إدريس أوَّلُ بني آدم.
أعطي النبوءة، وهو أخنوخ بن يَرْد بن مهائيل بن أنُوش بن قينان بن شيث بن آدم.
وقال وهب بن منبه: إدريس جدّ نوح الذي يقال له خنوخ، وهو اسم
سياني، وقيل عربي مشتق من الدراسة لكثرة درسه الصحف.
وفي المستدرك بسند رواه الحسن عن سمرة، قال: كان في اللهِ إدريس أبيض
طويلاَ ضخم البطن، عريض الصدر، قليل شعر الجسد، كثير شعر الرأس.
وكان إحدى عينيه أعظم من الأخرى، وفي صدره نكتة بياض من غير بَرَص.
فلما رأى الله من جَوْر أهل الأرض واعتدائهم رفعه إلى السماء السادسة، وهو حيث يقول: (ورَفَعنَاه مَكَاناً عَلِيًّا) .(2/3)
وذكر ابن قُتيبة أنه رُفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة، وفي صحيح ابن
حبان: كان نبِيّاً رَسولاً، وأنه أول من خطّ بالقلم.
وفي المستدرك عن ابن عباس.
قال: كان فما بين نوح وإدريس ألفٌ.
(إبراهيم)
قال الجواليقي: هو اسم قديم ليس بعربيّ، وقد تكلمت به العربُ
على وجوه، أشهرها إبراهيم، وقالوا إبراهام، وقرئ به في السبع، وإبراهم بحذف الياء، وإبْرَهَم، وهو اسم سرياني، معناه أبٌ رحيم، وقيل مشتقّ من البرهمة وهي شدّةُ النظر، حكاه الكرماني في عجائبه، وهو ابن آزر واسمه تارح - بمثناة وراء مفتوحة وآخره حاء مهملة - ابن ناحور - بنون ومهملة مضمومة - ابن شاروخ - بمعجمة وراء مضمومة وآخره خاء معجمة - ابن راكو بغين معجمة
- ابن فالَغ - بفاء ولام مفتوحة ومعجمة، ابن عابر - بمهملة وموحدة - ابن شالخ - بمعجمتين - ابن أرْفَخشَد بن سام بن نوح.
قال الواقدي: ولد إبراهيم على رأس ألفي سنة من خَلق آدم.
وفي المستدرك من طريق ابن المسيّب عن أبي هريرة، قال: اختتن إبراهيم بعد
عشرين ومائة سنة، ومات ابن مائتي سنة.
وحكى النووي وغيره قولا إنه عاش مائة وخمسة وسبعين.
(إسماعيل)
قال الجواليقي: ويقال بالنون آخره.
قال النووي وغيره: هو أكبر ولد إبراهيم.
(إسحاق)
وُلد - بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة، وعاش مائة وثمانين سنة.
وذكر أبو علي بن مسكويه في كتابه الفريد: إن معنى إسحاق بالعبرانية
الضحاك.
(أيوب)
قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل، ولم يصح في
نسبه شيء، إلا أن اسم أبيه أبيض.
وقال ابن جرير: هو أيوب بن موسى بن رَوح بن عيص بن إسحاق.
وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط، وأن أباه ممن
آمن بإبراهيم، وعلى هذا فكان قبل موسى.(2/4)
وقال ابن جرير: كان بعد شعيب.
وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان
ابْتلِي وهو ابن سبعين، وكانت مدة بلائه سبع سنين، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ثلاث سنين.
وحكى الطبراني أن مدةَ عمره كانت ثلاثاً وتسعين سنة.
(إلياس)
قال ابن إسحاق في المبتدأ: هو ابن ياسين بن فنحاص بن العَيْزَار
ابن هارون أخي موسى بن عمران.
وقال ابن عسكر: حكى القتبيّ أنه من سبط يوشع.
قال ابن وهب: إنه عُمِّر كما عُمر الخضر، وإنه يبقى إلى آخر الدنيا.
وعن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس.
وإلياس بهمزة قَطْع: اسم عبراني.
وقد زيد في آخره ياء ونون في قوله:
(سَلَام عَلَى إليَاسِين) ، كما قالوا في إدريس إدرايسين.
ومن قرأ آل ياسين فقيل المراد آل محمد.
(اليسع)
قال ابن جرير: هو ابن أخطوب بن العجوز.
قال: والعامة تقرؤه بلامٍ واحدة مخفضة.
وقرأ بعضهم: واللِّيسع بلامين وبالتشديد، فعلى هذا هو
أعجمي، وكذا على الأول.
وقيل عربي منقول من الفعل، من وسع يسع.
(إسرائيل)
لقب يعقوب، ومعناه عبد الله.
وقيل صَفْوة الله.
وقيل سريّ الله، لأنه أسَرى لما هاجر.
أخرج ابن جرير من طريق عمير عن ابن عباس أن إسرائيل كقولك
عبد الله.
وأخرج عَبْد بن حُميد في تفسيره عن أبي مِجْلَز، قال: كان يعقوب رجلاً
بطيشاً فلقي ملكاً فعالجه، فصرعه الملك، فضرب على فخذه، فلما رأى يعقوب ما صنع به بطش به، فقال: ما أنا بتاركك حتى تسَمَيَني باسم، فسمَاه إسرائيل (1) .
قال أبو مجلز: ألا ترى أنه من أسماء الملائكة.
وفي لغات أشهرها بياء بعد الهمزة ولام، وقرئ إسراييل بياء بلا همز.
قال: ولم يخاطَب اليهود في القرآن إلا بـ يا بَنِي إسرائيل دون يا بني يعقوب
__________
(1) لا يخفى ما فيه من بعد.(2/5)
لنُكتة، وهي أنهم خوطبوا بعبادةِ اللهِ، وذكروا بدين أسلافهم موعظةً لهم وتنبيهاً من غفلتهم، فسمّوا بالاسم الذي فيه تذكرة باللهِ، فإن إسرائيل اسم مضاف إلى الله في التأويل، ولما ذكر موهبته لإبراهيم وتبشيره به قال يعقوب - وكان أولى من إسرائيل، لأنها موهبة بمعقِّب آخر، فناسب ذكر اسم يشعر بالتعقيب.
(أحمد - صلى الله عليه وسلم -)
نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وله أسماء كثيرة حتى أنهاها إلى مائة وخمسة وعشرين.
قال الراغب: وخص لفظ أحمد فيما بُشِّر به عيسى، تنبيهاً على
أنه أحمد منه، ومن الذي قبْلَه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: خمسة سموا قبل أن يكونوا:
محمد، و (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
ويحيى: (إنّا نبَشِّرُكَ بِغلاَم اسمه يحيى) .
وعيسى: (مُصَدقاً بكلمةٍ من اللَه) .
وإسحاق ويعقوب: (فبَشّرْنَاهَا بإسحاقَ ومِنْ وَرَاءِ إسحاقَ يَعقوب) .
(أباريق)
حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية.
وقال الجواليقي: الإبريق فارسي معرب، ومعناه طريق الماء، أو صبّ الماء على هِينَة.
(أبّ) قال بعضهم: هو الحشِيش بلغة أهل الغرب، حكاه شَيْذَلة.
(ابلَعِي) أخرج ابن أبي حاتم، عن وهب بن مُنبِّه في قوله: (ابْلَعِي ماءَكِ) ، - قال بالحبشية أرْدِميه.
وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، قال: اشربيه - بلغة الهند.
(أخلَد) قال الواسطي في الإرشاد: " أخلَد إلى الأرض ": ركن بالعبرانية.
(الأرائك) حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان: أنها السِّدْر بالحبشية..
(آزَر) عُدَّ في المعرب على قول أنه ليس بعم لأبِ إبراهيم ولا الصنم.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يقرأ:(2/6)
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) .، - يعني بالرفع: أنها أعوج، وأنها أشد كلمة
قالها إبراهيم لأبيه.
وقال بعضهم هي بلغتهم يا مخطىء.
(أسباط)
حكى أبو الليث في تفسيره أنهم بلغتهم كالبساتين بلغة العرب.
(استَبْرَق)
أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه الدّيباج الغليظ بلغة العجم.
(أسفَار)
قال الواسطي في الإرشاد: هي الكتب بالسريانية.
وأخرج ابنُ أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية.
(إصْرِي)
قال أبو القاسم في لغات القرآن: معناه عَهْدي بالنبطية.
(أكواب)
حكى ابن الجَوزي أنها الأكواز بالنبطية.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنها بالنبطية الجِرَار ليس لها عُرى.
(إل) بكسر الهمزة - قال ابن جنى: ذكروا أنه اسم الله تعالى بالنبطية.
(أليم)
حكى ابن الجوزي أنه الموجع بالزنجية.
وقال ابن شَيْذلة: بالعبرانية.
(إناه)
نُضجه بلسان المغرب، ذكره شيذلة.
وقال أبو القاسم بلغة البربر.
وقال في قوله: حميم - إنه هو الذي انتهى حره بها.
وقال في قوله: (مِنْ عين آنِيَةٍ) ، أي حارّة بها.
(أوَّاه)
أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن عكرمة عن ابن عباس قال:
" الأوَّاه ": الموقن بلسان الحبشة.
وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن مجاهد وعكرمة.
وأخرج عن عمرو بن شرحبيل قال: الرحيم - بلسان الحبشة.
وقال الواسطي: الأوَّاه الدعاء بالعبرانية.
(أوَّاب)
أخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن شرحبيل قال: الأوَّاب المسبّح
بلسان الحبشة.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: (أوِّبِى معه) ، قال: سبحي بلسان الحبشة.(2/7)
(الأولى)
الآخرة، قال في قوله الجاهلية الأولى، أي الآخرة في الملة.
(الآخرة)
أي الأولى بالقبطية.
والقبط يسمون الآخرة الأولى، والأولى الآخرة، حكاه الزركشي في البرهان.
(آية)
له معنيان: أحدهما عبرة وبرهان، والثاني آية من القرآن، وهي كلام
متّصل إلى الفاصلة.
والفواصل هي رؤوس الآيات.
(أتى)
بقصر الهمزة، معناه جاء، ومضارعه يَأتِي، ومصدره إتيان، واسم
الفاعل منه آت، واسم المفعول مَأتِي.
ومنه قوله تعالى: (إنه كان وَعدهُ مَاتيًّا) .
(وآتى)
بمد الهمزة معناه أعطى، ومضارعة يُؤتي، ومصدره إيتاء، واسم
الفاعل مؤتي، ومنه: (والمؤتون الزّكاة) .
(أبَى)
أي امتنع.
(أثَر) الشيء: بقيّته وأمارته، وجمعه آثار.
والأثر أيضاً الحديث، وأثَارة من علم: بقيّته.
وأثاروا الأرض: حرثوها.
وآثر الرجل بالشيء يؤثره: أي فضّله.
(إثْم) ذَنب، ومنه آثِم وأثِيم: مذنب.
(أجر) ثواب.
وبمعنى الأجرَة، ومنه: (استَأجرْه) .
(وعلى أن تَأجرَني) .
(ويُجِرْكم مِنْ عذاب أليم) .
و (لن يجيرني من الله) .
(وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ) .
فذلك كلّه من الجوار بمعنى التأمين.
(آمن) إيماناً: أي صدق.
والإيمان في اللغة التصديق مطلقاً، وفي الشرع
التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والمؤمن في الشرع المصدّق بهذه الأمور.
والْمؤمِن اسم الله تعالى إذ هو المصدق لنفسه.
وقيل: إنه من الأمن، أي يُؤمِّن أولياءه من عذابه.
وأمِن - بكسر الميم وقصر الألف - أمناً، وأمِنْت ضدّ الخوف.
وأمن أيضاً من الأمانة، وأمَّنَ غيره من التأمين.(2/8)
(إمام)
له أربعة معان: القُدوَة، والكنَف، والطريق، وجمع آم، أي تابع.
وهو (اجعلنَا للمتّقين إمَاما) .
(الأجَل)
عبارة عن الوقت الذي تنقطع به الحياة، فإذا قيل: أجل الحياة
وأجل الموت، فالمراد به الوقت الذي يحلّ فيه الدَّين وتنقطع به الحياة، خلافاً للمعتزلة القائلين بأنّ المقتول لو لم يقتل لبقي، وهذا باطل للآية: (فإذا جاء أجلُهم لا يستَأخِرون ساعةً ولا يستقدمون) .
(أُمِّيّ)
لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك وُصِف العرب بالأميين.
(أُمّ)
له معنيان: الوالدة، والأصل. وأمُّ القرى: مكة.
(آل)
له معنيان: الأهل، ومنه: آل لوط. والأتباع والجنود، ومنه آل فِرْعون.
(أمْس)
اليوم الذي قبل يَوْمِك. والزّمان الماضي.
(إنَاه) وقتُه، وجمعه آناء، ومنه: آناء الليل.
(أمر)
له معنيان: أحدهما طَلب الفعل على الوجوب أو النّدب أو الإباحة.
وقد قدَّمنَا صيغ الأمر، كالتهديد، والتعجيز، والتعجب، والخبر.
والثاني بمعنى الشأن والصفة، وقد يراد به العذاب.
ومنه: (جاءَ أمْرنَا) .
(إيَاب)
رجوع، ومنه: (إنَّ إلينا إيَابَهم) .
(وإليه مآب) .
(إفْك)
أشدّ الكذب. والأفَّاك الكذاب.
وأفك عنه، أي صرف، ومنه: تؤفكون.
(أوى)
الرجل إلى الوضع بالقصر، وآواه غيره - بالمد.
ومنه الْمَأوَى.
(أفّ) كلمة شَرّ.
(آلاء الله) نععَمه.(2/9)
(أسف)
له معنيان: الحُزن والغَضب.
ومنه: (فلما آسَفُونا) .
(أسوة)
بكسر الهمزة وضَمّها: قدوة.
(أسِي) الرجل يَأسى أسًى، أي حزن.
ومنه: (فلا تأسَ علي القَوْم الكافرين) .
(فكَيْفَ آسَى) .
(أذان)
بابقصر: إعلام الشيء.
ومنه الأذان بالصلاة، والآذان بالمد: جمع أذن.
(إذن الله) يأتي بمعنى العلم، والأمر، والإرادة، والإباحة.
وأذِنتُ بالشيء علمت به - بكسر الذال.
وآذَنتُ به غيري - بالمد.
(أُكُل) بضم الهمزة: اسم للمأكول.
ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها.
والأَكل - بفتح الهمزة: المصدر.
(أيْكة) غَيْضَة.
(أثاثا) متاع البيت.
(أجَاج) مُرٌّ.
(آنيَة) له معنيان: جمع إناء، ومنه: (بآنِيَةٍ من فِضَّة) ، وشديد الحر، ومنه: (عَيْنٌ آنِية) .
ووَزْن الأول أفعلة، والثاني فاعلة، ومذكرُه آن، ومنه (حَمِيمٍ آن) .
(أأنذرتهم) أعلمتهم بما تحذّرهم منه، ولا يكون الْمُعْلِم مُنْذراً حتى يحذِّر
بإعلامه، فكلّ منذر مُعلم، وليس كل مُعلم منذراً.
(أنْدَاداً) أمثالاً ونُظَراء، واحدها ند
(أزَلَّ) : أي نحّى.
يقال: أزلَلته فزَلّ، ومنه: (فأزَلهما الشيْطَان) .
(أمَاني) جمع أمنية، وهي التلاوة.
ومنه: (ألقَى الشيطان في أمْنِيّته) أي في تلاوته.(2/10)
والأماني الأكاذيب أيضاً.
ومنه قول عثمان: ما تمنّيْت منذ أسلمت.
ومنه قول بعض العرب لابن دَأب وهو يحَدّث: أهذا شيء روَيتَه أم شيء تمنّيْته، أي افتعلته.
والأماني أيضاً: ما يتمناه الإنسان ويشتهيه.
(أيّدناه) قوّيناه.
(الأبُ) من له ولادة، والعرب تجعل العمّ أباً والخالة أمًّا.
ومنه: (ورفع أبَوَيْهِ عَلَى العرْش) .
(أسباب) وصلات، الواحد سبب ووصلة، وأصل السبب الحبْل يشدّ
بالشيء فيجذب به، ثم جعل لكل ما جرَّ شيئاً سبباً.
(أصْبَرهم) وصبَّرهم واحد.
ويقال: (ما أصبرهم على النار) ، أي ما أجرأهم عليها.
(ألْفَيْنَا) وجدنا.
(أهِلَّة) جمع هلال، يقال له هلال إلى أن يكمل نوره إلى سبع ليال، ثم
قمر، ثم بدر لاستدارته، وقيل لمبادرته الشمس بالطلوع إذا غرب.
(أفَضْتم) دفعتم بكثرة.
(أيام معلومات) أيام التشر يق.
والمعلومات: شوّال، وذو القعدة، وعشرين
من ذي الحجة، أي خذوا في أسباب الحج وتهيئوا له في هذه الأوقات من التلبية وغيرها.
(الأشهر الحرم) رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، واحد فَرْد
وثلاثة سرد.
(ألَدّ الخصَام) أي شديد الخصومة.
(أَفْرِغ) اصببْ، ومنه: (أفْرِغْ عَليْنَا صَبْراً) .
(أقسِطْ) أعدل.
(آتت أكُلَها ضِعفَيْن) ، أي ضعفي غيرها من الأرضين
أسلَمْتُ وَجهي) ، أخلصت.(2/11)
(أقلامهم)
قِدَاحهم، يعني سِهَامهم التي كانوا يجيلونها عند العزم على
الأمر، ويكتبون اسم الخصم على القلم، ويُلْقُونه في الماء، فإذا جرى القَلم على الماء عُلم أنه حق، وإذا رسب في الماء عُلِم أنه باطل.
كما أن القربان كان حاكم آدم عليه السلام، فمن احترق قربانه علم أنه حقّ، ومَنْ لم يحزق قربانه علم أنه باطل.
والسفينة كانت حاكم نوح، فمن وضع يده على السفينة ولم تتحرك علم أنه
حق، ومن وضع يده عليها وتحركت علم أنه باطل.
والسلسلة كانت حاكم داود عليه السلام، فمن مدّ يده إليها وأخذها فهو
حق، ومن لم يقدر على أخذها فهو باطل.
والنار كانت حاكم إبراهيم عليه السلام، فمن وضع يده على النار فلم تحرقه
فهو على الحق، ومن وضع يده عليها وأحرقته فهو على الباطل.
والصّاع كانت حاكِمَ يوسف عليه السلام، فمن وضع يده عليه وسكت فهو
حق، ومن وضع يده على الصاع وصاح وصوّت فهو باطل.
والحفرة التي كانت في صَوْمعة سليمان عليه السلام كانت حاكمه، فمن وضع رِجلَه فيها ولم تأخذه وخرجت علم أنه حق، ومن وضع رِجْله فيها وانضمّت عليه علم أنه باطل.
فإن قلت: كان أوْلَى بهذه الخواصّ نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما باله مُنعها؟
والجواب أنه أعطي البيِّنة على المدعي واليمين على المنكر لئلا يهتك سترَ مَنْ
كذب في دَعواه في الدنيا، فكيف يهتك ستر مَنْ يشهد الشهادة في القربى.
وفي الحديث: إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى كل نبي أن يحاسبَ مع أمّته، ويقول: يا محمد، ألا تحاسب مع أمّتك! فيناجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربّه، ويقول: إلهي لا تفضَحْني في أمتي، واجعل حسابهم في يدي حتى لا يطلع على مساويهم غيري.
فيقول: يا محمد، أنت تريد ألَّا يطلع على مساويهم غيرك، وأنا لا أريد أن يطلع(2/12)
على مساويهم أنت ولا غيرك، لأني أرفق بهم منك.
اللهم كما أنعمت علينا به وشرفتنا بشرفه، اقبَلْ من مُحْسننا وتجاوَز عن مُسيئنا، ولا تشف فينا الأعداء، إنكَ ذو الفضل العظيم.
(الأكْمَه) الذي يُولَد أعمى.
(أحَسَّ) علم ووجد.
(أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ) : أحقّهم به.
(الإيناس) الرؤية، والعلم بالشيء، والإحساس به، ومنه: (فإنْ آنسْتُم
منهم رُشْداً) .
و (آنسْتُ ناراً) .
(أذَاعوا به) أفشوه.
(أرْكَسَهم) نكسهم وردّهم في كُفْرِهم.
(آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) أي عامدين.
وأما في الدعاء فتخفف الميم وتمدّ وتقصر، وتفسيره: اللهم استجب.
ويقال (آمين) اسم من أسماء الله عزّ وجل.
(الأزلام) : القِدَاح التي كانوا يَضرِبونها على الميْسر، واحدها زَلَم وزُلَم.
(أجْل ذلك) أي من سببه، ويقال: من أجل ذلك، ومن جرَّاءِ ذلك بالمد
والقَصْر.
(أغرَيْنَا بَينَهم) هيَّجْنا.
ويقال أغرينا: ألصقنا بهم. وأصل ذلك - من
الغِراء.
والعداوة تباعد القلوب والنيات.
والبغضاء: البغض.
(الأوليان) واحدها الأولى: والجمع الأوَّلون.
والأنثى الأوَّلة، والجمع الأوَّلات.
(أكنَّة) أغطية، واحدها كنان.
(أساطير) أباطيل وتُرَّهَات، واحدها أسطورة وإسطَارة.
(أوْزَارها) آثامها، ومنه: (وهم يَحمِلُون أوْزَارَهُم @11 لأنعام: 31) .
وأصل الوِزر ما حمَل الإنسان، فسمّي السلاح أوزاراً، لأنه يحمل.(2/13)
وأما قوله: (ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى) ، أي لا تُؤخَذ نَفسٌ بذنبِ
غيرها.
(أفَل) غاب.
(أكابر) عظماء.
(الأعراف) سُورٌ بين الجنّة والنار، وسُمِّيَ بذلك لارتفاعه.
ومنه سمي عُرْف الديك، ويستعمل في الشرف والمجد، وأصله في البناء.
(أقَلّتْ) حملت، وإنما سُميت الكيزان قلالاً لأنها تُقَل بالأيدي فيُشرب
فيها.
(أنفال) غنائم.
والنَفْل: الزيادة على الفرض، ويقال لولد الناقة نافلة، لأنه زيادة على أمه.
وأما قوله تعالى: (ووهَبْنَا له إسحاق ويعقوب نافلةً) ، أي دعا بإسحاق، فاستُجيب له وزيد يعقوب، كأنه تفضّل من الله عز وجل، وإن كان كلٌّ بتفضله.
(أمْطرْنَا عليهم) ، - بالهمزة: معناه العذاب، وللرحمة مطرنا.
(أقاموا الصلاة) حافظوا عليها بشروطها، يقال: قام بالأمر، وأقاموا به:
إذا جاء به مُعْطٍ لحقوقه.
(أسلَفَت) قدّمت.
(أخْبَت) تواضع وخشع.
والخَبْت: ما اطمأن من الأرض.
(الأراذل) ،: الناقص القدر والقيمة.
(أوْجَس) أحسَّ في نفسه خوفاً.
(أسرى) من سُرى الليل، يقال سرى وأسرى - لُغتان.
(أدْلى دَلْوَه) : أرسلها ليملأها. ودلاّها: أخرجها.
(أشُدَّه) منتهى شبابه وقوته، واحدها شَدّ، مثل فَلْس وأفْلس.(2/14)
قال مجاهد: ثلاثاً وثلاثين سنة.
واستوى: قال أربعين سنة.
وأشدُّ اليتيم: قالوا ثمان عشرة سنة.
(أكبَرْنَهُ) أعظَمْنَهُ.
(أَصبُ إليهنَّ) ، أمِلْ إليهن، ويقال أصباني فصبوت، أي
حملني على الجهل، وعلى ما يفعل الصبي، ففعلت.
(أضْغاث أحلام) ،: أخلاط، مثل أضغاث الحشيش.
واحدها ضِغث، وإنما قالوا أضغاث أحلام بالجمع وكانت واحدةً، لأنه
كقولهم: فلان يركب الخيل وإن رَكِبَ فرساً واحداً.
(استَبَقَا الباب) ، من السابقة، معناه: سابق كلّ واحد منهما
صاحبه إلى الباب، فقصد هو الخروج والهروب منها، وقصدَت هي أن تردّه.
فإن قلت: لِمَ قال هنا الباب بالإفراد، وقد قال: وغلِّقَت الأبواب بالجمع؟
فالجواب أن المراد هنا الباب البَرَّاني الذي هو المخرج من الدار.
(آثرك اللهُ) ، أي فضَّلك.
ويقال على أثْرَة: أي فَضْل.
(أصنام) جمع صنم، وهو ما كان مصوّراً من حجر أو صُفر أو نحو ذلك.
والوثَن ما كان من غير صورة.
وقد سمى الله تعالى في كتابه أسماء الأصنام التي
كانت أسماء لأناس: ودّ، وسواع، ويَغوث، ويَعوق، ونسْر.
وهي أصنام قوم نوح.
واللاّت، والعُزَّى، ومَنَاة. وهي أصنام قريش.
وكذا الرّجز فيمن قرأه بضم الراء، ذكره الأخفش في كتاب الواحد والجمع على أنه اسم صَنَم.
(أصْفَاد) أغلال، واحدها صفَد.
(أسقَيْنَاكُموه) يقال لما كان مِنْ يدك إلى فمه سقيته، فإذا جعلت له
شربا وعرضته لأن يشرب أو لزَرْعه قلت أسقيته.
ويقال سقى وأسقى بمعنى واحد.
(أرْذَل العُمُر) الهرم الذي يُنقِص قوّته وعقله، ويصيِّرُه إلى الخرف ونحوه.(2/15)
(أكنَاناً)
جمع كِنّ، وهو ما سَتَر ووقى من حر البرد.
(أمَّرنا) بالتشديد: جعلناهم أمراء.
(أرْبَى) أي أزيد عددا.
ومن هذا سمي الرِّبا.
(أجلِبْ عليهم) جَمّع عليهم.
(أعثَرنا) أطلعنا.
(أسَاور) جمع أسورة -، وأسورة جمع سوَار، وهو الذي يُلبس في الذراع من
ذهب، فإن كان من فضة فهو قُلب، وجمعه قِلَبة، وإن كان من قَرْن أو عاج
فهو مَسَكة، وجمعها مِسَك.
(أهشّ بها على غَنَمِي) ، أضرب بها الأغصان ليسقط ورقُها على
غنمي فتأكله، وإنما سأله تعالى ليريه عظم ما يفعَلُه في العصا من قلبها حيَّة، فمعنى السؤال تقرير أنها عصا ليتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن
يقلبها.
وقيل: إنما سأله ليؤنِسَه ويبسطه بالكلام.
(أزْرِي) عِزّي وظَهْري.
ومنه: (فآزره) ، أي أعانه.
(أمثَلُهم طريقةً) أي أعدَلهم طريقة وقَوْلاً عند نفسه.
(أمْتاً) ارتفاعاً وهبوطاً.
(أتْرَفناهم) نعّمناهم، والترف التقلب في لين العيش.
(أحَاديث) أي عِبَراً يتمثّل بهم في الشر، ولا يقال جعلته حديثاً في الخير.
(الأيِّم) الذي لا زوج لها، ويقال للرجل والمرأة.
(أشْتاتاً) فِرَقاً، واحد هم شت.
(أصيل) ما بين العَصْرِ إلى الليل، وجمعه أُصُل، ثم أصائل جمع الجمع.
(أنَاسي) جمع إنسي، وهو واحد الإنسان، جمعه على لفظه، مثل كرسي
وكراسي، والإنس جمع الجنس يكون بطرح ياء النسب، مثل رومي وروم.
ويحوز أن يكون أنَاسي جمع إنسان، وتكون الياء بدلاً من النون، لأن
الأصل أناسين بالنون، مثل سراحين جمع سرحان، فلما ألغيت النون من آخره عوضت الياء.(2/16)
(أزْلَفْنَا)
أي جمعناهم في البحر حتى غرقوا، ومنه ليلة المزْدَلفة، أي ليلة
الاجتماع.
ويقال: أزلفنا: قربنا، أي قربناهم من البحر.
ومنه: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) .
(أعْجَمِين) جمع أعجم، وأعجمي أيضاً إذا كان في لسانه
عُجمة، وإن كان من العرب.
ورجل عجمي منسوب إلى العَجَم وإن كان فصيحا، ورجل أعرابيّ إذا كان بدوياً وإن لم يكن من العرب.
ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدوياً.
وقال الفراء: العجمي منسوب إلى نفسه من العجمة، كما قيل للأحمر أحمري، وكقوله: "والدّهْرُ بالإنسان دوّاري".
إنما هو دوّار، وقد نسب الله في كتابه إلى الأماكن:
(الأمِّي) قيل إنه نسبةٌ إلى أم القرَى: مكة.
وعبقري قيل إنه منسوب إلى عَبْقر: موضع للجن ينسب إليه كل نادر.
والسامريّ قيل منسوب إلي أرض يقال لها سامرون وقيل سامرة.
والعربي قيل منسوب إلى عَرَبة، وهي ناحية دار إسماعيل عليه السلام، وأنشد:
وعَرْبَة أرض ما يحل حرامها ... من الناس إلا اللّوْذَعيّ الحُلاحِل
يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(أوْزِعْنِي) ألْهمْنِي، يقال فلان مُوزعَ بكذا ومُولع ومغرى بمعنى واحد.
(أهْوَن عليه) أي هيّن، كما تقول فلان أوحد أي وحيد، وإني لأرجل
أي رجل.
وفيه قول آخر: أي وهو أهون عليه عندكم أيها المخاطبون، لأنَّ
الإعادة عندكم أسهل من الابتداء.
وأما قوله: الله أكبر - فالمعنى الله أكبر من كل شيء.
(أنْكر الأصوات) أقبحها، وإنما يُكْرَة رَفع الصوت في الخصومة والباطل.
ورفع الصوت محمود في مواطن، كالتلبية والأذان.
(أدْعيَاءَكم) .، جمع دَعِيّ، وهو الذي يُدعى ولد فلان وليس بولده.
وسببها أمر زيد بن حارثة، وذلك أنه كان فتى من كلب فسباه(2/17)
بعض العرب وباعه من خديجة، فوهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتبنّاه، فكان يقال له: زيد ابن محمد، حتى نزلت هذه الآية.
فسبحان من قاده بسلاسل العناية: واحد من كلب، وآخر من الحبشة، وآخر من الروم، وآخر من فارس، وأبو طالب واقف على الباب ينصره ويذبّ عنه، وحرم من الدخول، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا إله إلا أنت.
(أقْطَارها) جوانبها، وقُرِئ بالتاء، وهو بمعنى واحد.
الواحد فطْر وقُتْر.
(أشِحَّةً) عليكم: جمع شحيح، أي بخيل.
(أسَلْنَا) ، أذَبْنا، من قولك: سال الشيء وأسلته.
قال ابن عباس: كانت تسيل له باليمن عين من نحاس يصنع منها ما أحب.
والمعنى أن الله أذاب له النّحاس بغير نار، كما صنع بالحديد لداود، فطلب من الله أن يعمل منها صور رجال يقاتل بها أعداءه، ويستعين بهم في خدمته لأنهم أقوى.
فأجابه إلى ذلك، ونفخ فيهم الروح، فكان يستعين بهم في حوائجه، فهذا هو الملك العظيم (1) ، ومع هذا سماه رُخَاء ليتنبَّه العبد على أن جميع ما في الدنيا لا عِبْرَةَ به عنده.
(أثْل) شجر يشبه الطَّرْفَاء، إلا أنه أعظم منه.
(أسَرّوا) أظهروها، وقيل كتموها، يعني كتمها العظماء من
السفلة الذين أضلُّوهم، فهو من الأضداد.
(أذْقَان) جمع ذَقَن، وهو مجتمع اللّحْيَيْنِ.
(أجداث) قبورهم، واحدها جدَث، يعني أنهم ينسلون من قبورهم عند
النفخة الثانية.
(الأحزاب) الذين تحزَّبوا على أنبيائهم، وصاروا فرقاً.
(الخَيْر) : الخيل، سميت بذلك لما فيها من المنافع.
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.(2/18)
وفي الحديث: الخير معقود في نواصي الخيل.
وقيل المال.
وهذا يختلف بحسب الاختلاف في القصة.
فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيْل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة.
فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال: الأول وهو الذي قدمناه.
وأحببت بمعنى آثرت، أو بمعنى فِعْلٍ يتعدى بعَنْ، كأنه قال: آثرت حب الخير فشغلني عن ذكر ربي.
والآخر أن الخيل هنا يراد به المال، لأن الخيل وغيرها مال، فهو كقوله
تعالى: (إنْ ترَكَ خَيْراً) ،: أي مالا.
والثالث أن المفعول محذوف وحب الخير مصدر، والتقدير أحببت هذه الخيل
مثل حب الخير، فشغلني عن ذِكر ربي.
وأما الذين قالوا إنه كان يصلِّي فعُرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها، فالمعنى
أنه قال: أحببت حبَّ الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، فشغلني ذلك عن النظر إلى الخيْل.
(أكفِلْنيها) ضُمَّها إليّ، واجعلني كافلها، أي تلزم نفسي حياطتها، وأصله
اجعلها في كفالتي. وقيل اجعلها كِفْلي، أي نصيبي.
(أتْرَاب) أقران، واحدها ترْب، يعني أن أسنان الآدميات وأسنانَ
أزواجهنّ سواء، من سن ثلاثين سنة والطول ستين ذراعا.
وأما الحور العين فعلى حسب ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين.
(أشرقت الأرض) أضاءت.
(أمَتّنَا اثنَتَيْن وَأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْن) ، هذا كقوله: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) .
فالموتة الأولى عبارة عن كونهم عدماً، أو كونهم في الأرحام، أو في الأصلاب. والموتة الثانية الموتة المعروفة.
والحياة الأولى حياة الدنيا.
والحياة الثانية حياة البعث في القيامة.(2/19)
وقيل الحياة الأولى حياة الدنيا، والثانية الحياة في القبر.
والموتة الأولى الموتة المعروفة، والموتة الثانية بعد حياة القبر.
وهذا قول فاسد، لأنه لا بد من الحياة للبعث فتجيء الحياة ثلاث مراتب.
فإن قيل: كيف اتصال قولهم: أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين بما قبله.
فالجواب أنهم كانوا في الدنيا يكفرون بالبعث، فلما دخلوا النار مقَتوا
أنفسهم على ذلك، فأقرّوا به حينئذ ليرى الله إقرارهم بقولهم: " أمتّنا اثنتين
وأحْيَيْتَنا اثنتين "، إقراراً بالبعث على أكمل الوجوه، طمعا منهم أن يخرجوا عن المقْتِ الذي مقتهم الله، إذ كانوا يُدْعَون إلى الإيمان فيكفرون.
(أقْوات) أرزاق بقدر ما يحتاجون إليه.
وقيل يعني أقواتَ الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض.
والأول أظهر.
(أرْدَاكم) ، أهلككم.
(أكمامها) أوعيتها التي كانت فيها مستترة قبل تفطّرها، واحدها كِم.
وقوله: (والنخل ذات الأكمام) ، أي الطّلع قبل أن ينفَتِقَ.
(أكواب) : أباريق، لا عرى لها ولا خراطيم، واحدها كوب.
(أبْرموا) أحكموا.
(آنِفاً) أي الساعة، من قولك: استأنفْت الشيء: ابتدأته.
(أحقاف) : جمع حِقْف، وهو الكدْس من الرمل.
واختلف أين كانت!
فقيل بالشام.
وقيل: بين عمان وحضرموت.
والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن.
(أثخَنتموهم) : أكثرتم فيهم القَتل والأسر.
(آسِن) ، متَغَيِّر الرائحة والطعم.
(أشراطها) : علاماتها، ويقال أشرط نفسه الأمر إذا جعل نفسَه علماً فيه.
ولهذا سمي أصحاب الشّرَط، للبسهم لباساً يكون علامةً لهم.
والشرط في البَيْع(2/20)
علامة بين المتبايعين، والذي كان قد جاء من أشراط الساعة مَبْعثُ مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قال: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين.
(أمْلَى لهم) : أي مَدَّ لهم في الأماني والآمال.
والفاعل هو الشيطان.
وقيل الله تعالى.
والأول أظهر، لتنَاسب الضميرين الفاعلين في سوَّل وأملَى.
(أضْغَانهم) أحقادهم، ويراد به هنا النفاق والبغْض في الإسلام وأهله.
(ألقَى السّمْع وهو شهيد) ، أى استمع كتابَ الله وهو شاهد
القَلْب والفهم، ليس بغافل ولا ساهٍ.
(ألقِيَا في جهنم) ، خطاب للملكين السائق والشهيد.
وقيل: إنه خطاب للواحد على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة، ثم أبدل منها ألفاً، على أن يكون معناه ألقِ ألْق، فثَنَّى مبالغة وتأكيداً، وعلى أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين كقَولهم: خليليّ وصاحبي.
وهذا كله تكلف بعيد.
ومما يدل على أن الخطاب للاثنين قوله: (فألْقِيَاهُ في العذابِ الشديد) .
(أدْبَار السّجود) جمع دُبُر.
والإدبار مصدر أدبر.
قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: الركعتين بعد المغرب.
وقال ابن عباس: هي النوافل بعد الفرائض، وقيل الوتْر.
(اللاّت والعزى) أصل اللات رجل كان يلتّ السويق للحاجّ.
والعُزَّى كانت صخرة بالطائف، مؤنثة الأعز.
وقيل، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد فقطع شجرة يقولون لها العُزَّى، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعْرها تَدْعو بالوَيْل والثبور، فضربها بالسيف حتى قتلها.
وهذه مخاطبة لمن كان يعبدها من العرب على جهة التوبيخ لهم.
(أكدَى) أي قطع العطاء، وأمسك، مأخوذ من كُدْيّة الركيّة، وهو أن(2/21)
يحفر الحافر فيبلغ إلى الكُدْية، وهي الصلابة من حجر أو غيره، فلا يعمل مِعْوَلُه شيئاً فييأس وينقطع عن الحفر.
(أقْنَى) ،: أكسبَ عبادَه المال، فهو من كَسْب المال وادخاره.
وقيل معنى أقنى أفقر، وهذا لا تقتضيه اللغة.
وقيل معناه أرضى. وقيل أقنع عبْدَه.
(أزِفت) ، أي قربت، سميت بذلك لقربهها، يقال: أزف شخص فلان أي
قرب.
وقوله: (وأنْذِرْهم يَوْمَ الآزِفَة) ، يعني القيامة.
(أعْجاز نخل) : أصول نخل منقَعر.
وأعجاز نخل منقلع.
وأعجاز نخل خاوية، أي بالية.
شبّه اللَّهُ عاداً لما هلكوا بذلك، لأنهم طوال عِظَام الأجسام، كان طول أحدهم مائة ذراع كالنخل (1) .
وقيل: كانت الريح تقلعهم حتى حفروا حفراً يمتنعون بها من الرّيح فهلكوا فيها، فشبههم بأعجاز النخل إذا كانت في حُفرها.
أَبَشَرًا) ،: هو صالح عليه السلام، وانتصب بفعل مضمر.
والمعنى أنهم أنكروا أن يتبعوا بشراً، وطلبوا أن يكون الرسول من الملائكة، ثم زادوا أن أنكروا أن يتبعوا واحدا وهم جماعة كثيرون.
(أشِر) ، أي بطر، متكبر، وربما كان للمدح من النشاط.
(الأنام) : الخَلْق كلهم، وقيل الحيوان كله.
(الأعلام) : الجبال، شبه السّفن بها، وإنما سمّاها منشآت لأن الناس
ينشئونها.
(أفنَان) : أغصان، واحدها فَنَن وهو الغصن.
أو جمع فن، وهو الصنف من الفواكه وغيرها.
(أول الحَشْر) ، في معناه أربعة أقوال:
__________
(1) كلام فيه نظر لما أخرجه البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ".(2/22)
أحدها: أنه حَشْر القيامة، أي خروجهم من حصونهم أول الحشر، والقيام
من القبور آخره.
وروي في هذا المعنى أنالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: امضوا، هذا أول الحشر وأنا على الأثر.
الثاني: أن المعنى لأول موضع الحشر، وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النَّضير - خرجوا إلى الشام، وقد جاء في الأثر أن حَشْرَ القيامة إلى الشام.
وروي في هذا المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبني النَّضِير: اخرجوا، قالوا: إلى أين، قال: إلى أرض الحشر.
الثالث: أن المراد بالحشر في الدنيا.
هو الجلاء والإخراج، فإخراجهم من
حصونهم أول الحشر، وإخراج أهل خَيْبَر آخره.
الرابع: أن معناه إخراجهم من ديارهم لأول الحشر لقتالهم، لأنه قال قاتلهم.
قال الزمخشري: اللام في قوله (لأوَّل) بمعنى عند، كقولك: جئت لوَقْتِ
كذا.
(أَوْجَفْتم) ، من الإيجاف، وهو السير السريع.
والمعنى أنَّ ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير لم يَمْشِ المسلمون إليه بخيْل ولا رِكاب، ولا تَعِبوا فيه ولا حصَّلوه بقتال، ولكن حصلوه بتسليط رسوله - صلى الله عليه وسلم - على بني النضير، فأعلم
الله في هذه الآية أن ما أخذ لبني النضير وما أخذ من فَدَك، فهو خاصّ بالنبي
- صلى الله عليه وسلم - يفعل فيه ما شاء، لأنه لم يوجف عليها ولا فوتلت كبير قتال، بخلاف الغنيمة التي تؤخذ بالقتال، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - لنفسه من أموال بني النضير قوتَ عياله، وقسَّم سائرها في المهاجرين، ولم يعطِ الأنصارَ شيئاً، غير أن أبا دجانَة وسهْل بن حُنَيْف شكواً فاقةً فأعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها.
هذا قول جماعة.
وقال عمر ين الخطاب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِق منها على أهله نفقةَ سنة، وما بقي جعله في السلاح والكرَاع عدة في سبيل الله.(2/23)
قال قوم من العلماء: وكذلك كل ما فتحه الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم
خاصة يأخذون منه حَاجتهم، ويصرفون باقيه في مصالح المسلمين.
(أفاء الله) ، من الفَيء.
ويعني أن الله جعل فيئاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(الذي) ، واحد الألى والذين جميعا.
واللاّتي واحدها التي.
(أرجائها) : نواحيها وجوانبها، واحدها رَجَا - مقصور.
يقال ذلك لِحَرْف البِئر وَلِحَرف القَبر وشبهها.
والضمير يعود على السماء، لأنها إذا وهت، وقفوا على أطرافها.
وقيل يعود على الأرض، لأن المعنى يقتضيه وإن لم يتقدم ذكرها.
وروي في ذلك: إن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفاً على جوانب الأرض.
والأول أظهر وأشهر.
(أوسطهم) : أعدلهم وأفضلهم.
ومنه: (أمّة وَسطاً) .
(أوعَى) ، يقال: أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعائه، فالمعنى جمع المالَ
وجعله في وعاء.
وهذه إشارة إلى قوم من أغنياء الكفار جمعوا المال من غير حِلّه.
ووضعوه في غير محله.
(أصَرّوا) : أقاموا على المعصية.
(أطواراً) ، أي طَوْراً بعد طَوْرٍ، يعني أن الإنسان كان نُطْفةً، ثم عَلَقة، ثم
مُضْغة إلى سائر أحواله.
وقيل: الأطوار الأنواع المختلفة، فالمعنى أن الناس على أنواع في ألوانهم
وألسنتهم وأخلاقهم وغير ذلك.
(أقْوَم قِيلا) : أصحّ قولاً، لهدأة الناس وسكون الأصوات.
والمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة الأجر فيه.
(أَنكلالا) : جمع نِكْل وهو القَيْد من الحديد.
وروي أنها قيودٌ سود من نار
لو وضع قَيْد منها على الأرض لأحرقها.(2/24)
(أسفر) : أضاء، ومنه الإسفار بصلاة الصبح.
(أمشاج) : أي أخلاط، واحدها مَشَج - بفتح اليم والشين.
وقيل مَشْج بوزن عدل.
وقال الزمخشري: ليس أمشاج بجمع، وإنما هو مفرد، كقولهم: بُرْمَة أعشار.
ولذلك وقعَ صفةً للمفرد.
واختلف في معنى الاختلاط هنا، فقيل اختلاط الدم
والبلغم والصفراء والسوداء.
وقيل اختلاط ماء الرجل والمرأة.
وروي أن عظام الإنسان وعَصَبه من ماء الرجل، وأن لحمه وشحمه من ماء المرأة.
وقيل معناه أطوار، وألوان: أي يكون نطفة ثم علقة.
.. الخ.
(أَسْرَهم) : خلقتهم. وقيل المفاصل والأوصال.
وقيل القوة.
(ألْفافاً) : ملتفّة من الشجر، وهو جمع لُف - بضم اللام. وقيل بالكسر. وقيل لا واحد له.
(أفواجا) : جماعات.
يعني بعد نَفْخَةِ القيامة من القبور.
(أحقاباً) : جمع حقبة أو حُقْب وهي المدّة الطويلة من الدهر غير محدودة.
ثم اختلف في مقدارها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ثلاثون سنة.
وقال ابن عباس: ثمانون سنة. وقيل ثلاثمائة.
وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقاباً كلما
انقضى حقب جاء آخر إلى غير نهاية.
وقيل: إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي، ثم نسخ بقوله: (فذوقوا فلَنْ نَزِيدَكم إلاَّ عذَابا) ، وهذا خطأ، لأن الأخبار لا تنسخ.
وقيل هي في عصاة المؤمنين الذين يخرجون من
النار، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله: (وكَذبوا بآياتنَا كِذَّابا) .
وقيل معناه أنهم يبقون أحياناً لا يذوقون لا بَرْدا ولا شراباً، ثم يبَدَّل لهم
نوع آخر من العذاب، وهذا أليق.
(أَغْطَش ليلها) : أي جعله مظلماً.
يقال غَطَش الليل إذا أظلم، وأغطشه الله.(2/25)
(أقْبَره) : جعله ذا قَبْرٍ، يقال قبرت الميِّتَ إذا دفنْته.
وأقبرته إذا أمرت أن يُدْفن.
(أنْشَرَه) : أي بعثه من قبره يوم القيامة.
(أذِنَتْ لربّها) ،: أي استمعت، وهو هنا عبارة عن طاعتها
لربها، وإنما انقادت إليه حين أراد انشقاقها، وكذلك طاعة الأرض لمَّا أراد
مَدَها وإلقاءَ ما فيها، وحق لها أن تَنْشق من أهوال يوم القيامة.
أقال عثراتنا.
(أَفْلح) ،: نجا، يعني ظَفِرَ مَن طهَّر نفسه بالعمل، وجانَبَ
الظفر مَن أهملها بالكفر والمعاصي.
(أهَانَن) : يعني لم يحسن إليَّ.
وقد أنكر الله على الإنسان قوله عند النعماء أكْرَمني، ويقول عند الضرر به (أهَانَنِ) ، على وجه التشكي من الله وقلّة التسليم لقضائه، فاعتبر هذا العبد الدنيا، وجعل بسط الرزق فيها كرامة، وتضييقه إهانة، وليس الأمر كذلك، فإن الله يبسط الرزق لأعدائه، ويضيِّقه لأوليائه، ولم يكن في زمان موسى أكرَم على الله منه، وقد قطع الشوك رجليه من الحَفَا، وكان يرى على بطنه أثر البقول.
وفرعون حينئذٍ يدَّعي الربوبية، وقد أمر الله نبيه بالإعراض عن زَهْرَة الدنيا، والنظر إليها في قوله: (ولا تَمدَّن عَيْنَيْكَ) .
وأخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع، قال: أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَيْفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أنْ أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب.
فقال: لا إلا بِرَهْن.
فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: والله إني لأمين مَنْ في السماء أمين من في الأرض، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية: (لا تَمدّنّ عينيك إلى ما متّعْنَا به أزواجاً منهم) .
فإن قلت: قد أثبت اللَّهُ تعالى في قوله: (ربي أكرمنِ) ؟
فالجواب من ثلاتة أوجه:(2/26)
أحدها: أنه لم ينكر عليه ذكره الإكرام، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه
من الفخر والخُيلاء، وقلّة الشكران، ومن اعتبار الدنيا دون الآخرة.
الثاني: أنه أنكر عليه قوله: رب أكْرَمَنِ إذ اعتقد أن إكرام الله باستحقاقه
الإكرام على وجه التفضّل والإنعام، كقول قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) .
الثالث: أن الإنكار إنما هو لقوله: رَبِّي أهَانَنِ، لا لقوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) ، فإن قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) اعتراف بنعمة الله، وقوله: (رَبِّي أَهَانَنِ) شكاية من فِعْل الله.
(أنْقَض ظَهْرَك) : النِّقْض البعير الذي قد أتعبه السفر
والعمل فنقض لحمه، فيقال له حينئذ نِقْص، وهو هنا عبارة عن ثقل الوِزْر
المذكور وشدته عليه.
قال الحارث المحاسبي: إنما وُصفت ذنوب الأنبياء بالثقل وهي مغفورة لهم لو
صَدَرَت منهم، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله، وهي عند الله خفيفة.
وهذا كما جاء في الأثر أن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى
ذنوبَه كالذبابة تطير فوق أنفه.
وعلى هذا قول من جوّز صغائر الذنوب على الأنبياء.
أو على أن ذنوبه كانت قبل النبوة.
والصحيح أن الوِزْر هي أثقال النبوة
وتكاليفها، فأعانه عليها.
(أثقالها) : جمع ثقْل، وإذا كان الميت في بطن الأرض فهو
ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها.
وقيل هي الكنوز، وهذا ضعيف، لأن إخراجها للكنوز وقت الدجّال.
والمراد إخراج الموتى الذين في جوفها عند النفخة الثانية في الصور.
(أَوْحَى لها) : أوحى إليها، إما بكلام أو إلهام. وقيل معناه أوحى إلى الملائكة من أجلها، وهذا بعيد.
وفي التفسير أوحى إليها أمرها.(2/27)
(أَلْهَاكم التكاثر) : أي شغلكم التكاثر في الدنيا للمباهاة
بكثرة الأموال والأولاد عن محاسبة أنفسكم، ستعلمون ما يحلُّ بكم.
وإنما كرر (كلا سوف تعلمون) ، للتأكيد والتهويل، وعطفه " بثمَّ " إشارة
إلى أن الثاني أعظم من الأول، وإنما حذف معمول (تعلمون) لقَصْدِ التهويل.
فيقدر السامع أعظم ما يَخْطر بباله.
(أبابيل) : جماعات متفرقة، شيئاً بعد شيء.
قال الزمخشري: واحدها إبَّالَة.
وقال جمهور الناس: هو جمع لا واحد له من لفظه.
وقصتهم أنَّ اللَهَ أرسل على أصحاب الفيل طيوراً سوداً وقيل خضراً، عند
كل طائر ثلاثة أحجار في مِنْقاره ورِجْلَيْه، فرمتهم الطيور بالحجارة، فكان
الحجر يقتل مَنْ وقع عليه.
وروي أنه كان يدخل في رأسه ويخرج من دبره، ووقع في سائرهم الجدْريّ
والأسقام وانصرفوا، فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل، وتقطع أبرهةُ أنمَلة أنملة.
وروي أن كلَّ حجر منها فوق العدسة ودون الحمّصة.
وقال ابن عباس: أدركت عند أم هانىء نحو قَفِيز من هذه الحجارة، وأنها كانت مخطّطة مجمرة.
وروي أنه كان على حجر اسم مَنْ يقَع عليه مكتوب.
(الأبْتر) : هو الذي لا عقب له، ونزلت هذه الآية في
العاصي بن وائل: وقيل في أبي جهل على وجه الردّ عليه، قال: إن محمداً أبْتَر، لا ولد له، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر، وإن كان له أولاد، لأنه مبتور من رحمة الله، أي مقطوع عنها، وأنه لا يُذْكَر - إذا ذكِرَ - إلا باللَّعْنة، بخلاف نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ ذكره خالد إلى آخر الدهر بالصلاة والسلام، مرفوع على المنابر والصوامع، مقرون بذكر الله.(2/28)
(الفَلَق) : قيل الصبح. ومنه: (فَالِق الإصباح)
الزمخشري: هو فَعَل بمعنى مفعول.
وقيل: إنه كلّ ما يفعله الله، كفلق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر والحَبّ والنَّوَى، وغير ذلك
وقيل: إنه جبٌّ في جهنم.
وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -.
(أهِلَّ) بضم الهمزة: ذكر عند ذَبْحه اسمٌ غي الله، وأصل الإهلال رفع
الصوت.
(اضْطرَّ) : ألجئ، وهو مشتقّ من الضرورة، ووزنه افتعل، وأبدل التاء طاء
واختلف في حدّ الاضطرار، والصحيح أنه ثلاثة أيام، والحكمة فيه أن الميتة
حرمت لسمّها وضرّها، والآدميّ إذا خلت معدته من الطعام نشأ منها سمٌّ قاتل، يغلب على سم الميتة، فلذا أبيح أكلها.
(أمَّة) : يرد لمعان: جماعة، ومنه: (وَجَد عليه أمة)
ورجل جامع للخير، ومنه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) ، ودين
وملّة، كقوله: (إنّا وجَدْنَا آباءنا على أمَّةٍ) وحين وزمان
كقوله تعالى: (إلى امَّةِ معدودة) .، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي نسيان.
(وأمَّةٌ قائمة) يقال فلان حسن الأمة، أي قائمة.
وأمة: رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث زيد بن عمرو بن نفَيل أمة وحده.
وأمة: أم، يقال هذه أمّة زيد، أي أمه.
(أحْصِرتم) : منعتم. والمشهور في اللغة أحصره المرض بالألف، وحصره
العدو.
وقيل بالعكس.
وقيل هما بمعنى واحد، فقال مالك: أحصرتم هنا بالمرض
على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدْي ولم يوجبه - على من حصره العدو(2/29)
وقال الشافعي وأشهب: يجب الهدْي على من حصره العدوّ، وحمَلَا الآية على
ذلك، واستدلّا بِنَحْرِ الْهَدْي بالحديْبية.
وقال أبو حنيفة: يجب الهدي على المحصَر بعدو وبمرض.
(اخْراكم) : آخركم، وفيه مدْحٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الآخر هو موقف الأبطال يرفع جريحهم، ويقوِّي منهزمهم.
(أجورهنَّ) : مهورهن وصداقهنّ، يعني إذا استَمْتَعْتم بالزوجة بالوَطْء
فيجب إعطاء الصداق كاملاً.
(أُبْسِلوا) : ارتهنوا وأسلموا للهلكة.
(استَهْوَته) ، أي ذهبت به الشياطين في مَهَامِه الأرض، وأخرجته عن
الطريق، فهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها.
وقال الفارسي: استهوى بمعنى أهوى، مثل استزل بمعنى زل.
(أُمْلي لهم) ، أي أطيل لهم المدة، وأتركهم ملاوة من الدهر مع إرادة
العقوبة، فظاهره إحسان وباطنه خذلان.
(أُذُن) ، يعني يقبل كلَّ ما قيل له ويصدقه.
ورُوي أن قائل هذه المقالة نَبْتَل بن الحارث، وكان من مردة المنافقين.
وقيل عتّاب بن قيس فردّ الله عليه قوله بأنه يسمع الخير والحق ويؤمن للمؤمنين.
(اجتُثَّت) ، معناه استؤْصلت واقتلعت، وحقيقة الاجتثاث أخْذ الجثَّة.
وهذا في مقابلة قوله: (أصلهَا ثابت) .
(أُخْفِيها) ،: أسترها وأظهرها أيضاً، فهو من الأضداد.
قال ابن عطية: هذا قولٌ مختلّ، وذلك أن المعروف في اللغة أن يقال أخفى بالألف من الإخفاء، وخفى بغير ألف بمعنى أظهر، فلو قال بمعنى الظهور لقال أخفيها بفتح الهمزة في المضارع.
وقد قرئ بذلك في الشاذ.(2/30)
وقال الزمخشري: قد جاء في بعض اللغة أخفى بمعنى خفى، أي ظهر، فلا
يكون هذا القول مخْتلاًّ على هذه اللغة.
والصحيح أن الله أبْهم وقت الساعة فلم يطلع عليه أحدًا حتى كاد أن يحفى وقوعها لإبهام وقتها، ولكنه لم يخفها إذ أخبر بوقوعها، فالإخفاء على معناه في اللغة، " وكاد " على معناها من مقاربة
الشيء دون وقوعه، وهذا هو اختيار المحقِّقين.
(اضْمم) (واسْلكْ) ، بمعنى الدخول.
(اغْضُضْ) : أنْقِص منه.
ومنه: (قل للمؤمنين يغضُّوا مِنْ أبصارهم) ، أي ينقصوا من نظرهم عما حرم الله عليهم، فقد أبيح لهم ما سوى ذلك.
(ارْكُضْ) برجلك: اضرب الأرض. والتقدير قلنا له ارْكض الأرْضَ.
فضَرب الأرض برجله، فنبعَتْ له عَيْنٌ باردة صافية، فشرب منها، فذهب كلُّ مرض كان في جسده.
وروي أنه ركض الأرض مَرّتين فنبع له عَيْنان، فشرب
من إحداهما واغتسل من الأخرى.
(أمُّ الكتاب) : أصل كلّ كتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي كتبَ اللَّهُ فيه
مقاديرَ الأشياء كلها.
(أولو العزم من الرسل) : نوح وإبراهيم وعيسى وموسى.
وقيل هم الثمانية عشرة المذكورون في سورة الأنعام بقوله: (فبِهدَاهمْ اقْتَدِهْ) ، وقيل كلّ مَنْ لقي مِنْ أمًته شدةً.
وقيل الرسل كلّهم أولو عزم.
(ازْدجر) : انتهر وشُتم، وقالوا له: (لئن لم تنْتَه يا نوحُ لتكوننّ من
الْمَرْجومين) .
(أُجِّلَتْ) : أخِّرت: وهو من الأجل، كالتوقيت من الوقت، وفيه توقيف
يراد به تعظيم لذلك اليوم، ثم بيّنه بقوله: (وما أدرَاكَ ما يَوْم الفَصْل)(2/31)
(إبليس) : إفعيل من أبْلَس أي يئس.
وقد كان اسمه أولاً عزرائيل.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان
اسم إبليس عزرائيل.
وقال السدّي: إبليس هو عزرائيل.
وقال ابن عسكر: قيل اسمه قِتْرَة.
وقيل أبو مرّة، وقيل أبو لُبَيْنى، حكاه السهيلي في " الرّوض الأنف ".
(استوقد) ، أي أوقد.
وقيل طلب الوقود على الأصل في استفعل.
(ارهبونِ) : خافوني.
وإنما حذفت الياء لأنها في رأس آية، ورؤوس
الآيات بَنَوا الوقوف عليها، والوقوف على الياء يُسْتَثْقَل، فاستغنوا عنها
بالكسرة.
(ادّارَأْتُم) ، أي اختلفتم، وهو من المدارأة أي المدَافعة.
وأصله تدارأتم، أي تدافعْتم، أي ألْقَى بعضُكم على بعض، فأدغمت التاء في
الدال لأنهما من مخرج واحد، فلما ادغمت سكنت، فاجتلبت لها ألف الوصل للابتداء، وكذلك (ادّارَكوا) .، فيها و (اثّاقَلْتم) .
(ابْتَلى) ، أي اختبر، أي اختبره بما تعبّدَه به من السنن.
وقد اختلف فيها اختلافاً كثيرا، فقيل خصال الفِطْرة.
وقيل مناسك الحج.
وقيل ثلاثون خصلة، عشرة ذكرت في (براءة) من قوله: (التّائِبون ... ) . التوبة: 112) ، وعشرة في الأحزاب من قوله: (إنّ المسلمين والمسلمات.
..) .
وعشرة في المعارج من قوله: (إلا الْمصَلِّين) .
(الإمام) الذي يؤمّ الناس إليه في الطريق ويتبعونه، ويقال للطريق إمام.
ومنه قوله: (وإنهما لَبِإمَام مُبين) ، أي بطريق واضح يمرون
عليها في أسفارهم - يعني الَقُرْيَتين المهلكتين: قريتي قوم لوط، وأصحاب
الأيْكة، فيرونهما، ويعتبر بهما مَنْ خاف وعيد الله تعالى.
والإمام الكتاب، ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ، والإمام كل ما ائتممتَ به واقتديت به.(2/32)
(اصطفى) : اختار.
(استجاب) : أجاب.
(اعتمر) ، أي زار البيت، ومنه سمِّيت العُمْرة، لأنها زِيارة للبيت.
ويقال: اعتمر، أي قصد
(استَيْسَر) ، أي تيسّر وسهل، وذلك شاة.
(انْفِصَام) : انقطاع.
(إعْصَار) : رِيح عاصف، تَرْفَع ترابا إلى اسماء كأنه عمود نار فيه سَمُوم
محْرقة.
(إلحافاً) : إلحاحاً في السؤال.
والمعنى أنهم إذا سألوا يتلطّفون ولا يلِحُّون.
وقيل: هو نفي للسؤال والإلحاف معاً.
(ائذَنُوا بحَرْبٍ) : اعلموا ذلك واسمعُوه وكونُوا على إذْن منه، ومن
قرأ: (فآذِنُوا) . البقرة: 379) ، أي فأعلِموا ذلك غيركم.
ولما نزلت قالت ثَقِيف: لا طاقة لنا بحَرْبِ اللهِ ورسوله.
(إنجيل) : إفعيل من النجل، وهو الأصل. والإنجيل أصل العلوم.
ويقال: هو من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته.
والإنجيل مستخرج به علوم وحكم.
(اسْتَكانُوا) : خضعوا.
قال بعض النحاة: استكان مشتق من السكون، ووَزْنه افتعلوا، أشْبعت فتحة الكاف فحدث عن شبعها ألف، وذلك كالإشباع، وقيل إنه من كان يكون فوزنه استفعلوا، وهذا تعريض بما صدر من بعض الناس يوم أحد.
(إسرافنا) : إفراطنا.
(انفَضّوا) ، أي تفرقوا، وأصل النفض الكسر.
(ادرءوا) : ادفعوا.
والمعنى رَدَّ عليهم.(2/33)
(إناثاً) ،: مَوَاتاً.
واختلف ما المراد بقوله، فقيل: هي الأصنام، لأن العرب كانت تسمّي الأصنام بأسماء مؤنثة، كاللَّات والعزى.
وقيل المراد الملائكة لقول الكفار إناث، وكانوا يعبدونهم، فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد.
وقيل المراد الأصنام، لأنها لا تعْقِل فيُخْبَر عنها كما يُخْبَر عن المؤنث.
(إمْلاق) : فَقْر، وإنما نهى عن قَتْل الأولاد لأجل الفاقة، لأن العرب كانوا يفعلون ذلك، فخرج مخرج الغالب، فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه.
(افْتِراء) الافتراء الكذب، وذلك أنهم كانوا قد قسموا أنعامهم وقالوا
هذه أنْعامٌ ... الخ ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذباً، ونصبه
على الحال أو مفعول من أجله أو مصدر مؤكد.
(ادَّارَكوا) ، تلاحقوا واجتمعوا.
والمراد بأولهم الرؤساء والقادة وآخرهم الأتباع والسفلة.
والمعنى أن أخْراهم طلبوا من الله أن يضَاعِف العذاب لأولاهم، لأنهم أضلوهم.
وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم.
إنما هو كقولك: قال لفلان كذا، أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به.
(افْتَحْ بيننا) ، أي احكم.
(استرْهَبوهم) ، أي خوّفوهم بما أظهروا لهم مِنْ أنواع السحر.
(إلهتك) - بكسر الهمزة في قراءة مَنْ قرأها - معناها عبادتك.
(انْسَلخَ منها) ، أي خرج، كما تخرج الحبة من القشر.
والانسلاخ من الثياب.
وقد اختلف في هذا المُنْسلِخ، فعند ابن مسعوْد هو رجل
من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مَدْين، فرشاه الملك على أن يترك دين موسى ويُتَابع الملك على دينه، ففعل، وأضل الناسَ بذلك.
وقال ابن عباس: هو بَلْعَام الذي دعا على موسى، فالآيات التي أعطيها على هذا القول هي(2/34)
اسم الله الأعظم.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هو أمية بن أبي الصَّلْت.
وكان قد أوتي علماً وحكمة، وكان قد أسلم قبل غَزْوَة بَدْر، ثم رجع عن ذلك، ومات كافراً، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم -: كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.
فالآيات على هذا ما كان عنده.
وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة.
وقيل ما كان عنده من صحف إبراهيم.
(إلاَّ ولَا ذِمّة) ، قد قدمنا أن " إل " على خمسة أوجه:
بمعنى الله، والعهد، والقرابة، والحلف، والجوار.
(اقْتَرَفْتموها) : اكتسبتموها.
ْ (إحْدى الحُسْنَيَيْن) : الصبر والظفر، أو الموت في سبيل الله.
وكلّ واحدة من الأمرين حَسن.
(إرصادا) يقال رصدت وأرصدت في الخير والشر جميعاً، وهو الترقّب
والانتظار.
ومعناه هنا أن بني عمرو بن عَوْف من الأنصار بَنَوْا مسجد قبَاء.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه ويصلي فيه، فحسدهم على ذلك قومهم بنو غَنْم بن عَوْف وبنو سالم بن عوف، فبنوا مسجداً آخر مجاوراً له، ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قبَاء، فذلك هو الضِّرار الذي قصدوا.
وسألوا من رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم -أن يأتيَه ويصلي لهم فيه، فنزلت عليه هذه الآية.
والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاسق، وكان من أهل المدينة، فلما قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاهر بالكفْر والنِّفاق، ثم خرج إلى مكة فحزَبَ الأحزاب من المشركين، فلما فتحت مكة خرج إلى
الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام ليستنصر بِقَيْصَر، فهلك هنالك.
وكان أهل مسجد الضرَار يقولون: إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا
المسجد.
والإشارة بقوله (مِنْ قَبْل) إلى ما فعل مع الأحزاب.
(إيْ ورَبّي) ، إيْ توكيد للإقسام.
المعنى نعم وربي.
(اقضوا إليَّ) ، أي أمْضوا ما في أنفسكم ولا تؤَخِّروه،(2/35)
كقوله: (فاقضِ ما أنت قاضٍ) ، أي أمض ما أنت مُمْض.
ومعناه أَن نوحاً عليه السلام قال لقومه: إن صَعُب عليكم دُعائي لكم إلى الله فامضوا في غاية ما تريدون، فإني لا أبالي بكم لتوكلي على الله وثِقَتي به سبحانه.
(اطمِسْ) ، أي امْحُه، من قولك: طُمِس الطريقُ إذا عفا
ودَرَس.
(إجرامي) ، مصدر أجْرَمْتُ إجراماً، أي أذنبت.
(اعْتَرَاك) : قصدك.
ومعناه ما نقول إلا أنَّ بعض آلهتنا أصابَتْك بجنون، لأنك سَبَبتَها ونهَيْتَنَا عن عِبَادتها.
(استعمركم) ، أي جعلكم تعمرونها، فهو من العمران للأرض.
وقيل هو من العمْر، أي استبقاكم.
(ارتقبوا) ، أي انتظروا.
ومعناه التهديد والتخويف.
(اسْتَعْصَم) ، أي طلب العصمة وامتنع مما أرادت منه من الفاحشة.
(استيئسوا) ، أي يئسوا.
(اصدع) ، أظهر، أخذ من الصديعِ وهو الصبح.
قال الشاعر:
كأنَّ بياضَ لَبَّتِهِ صَدِيع
(الْمُقْتَسِمين) : اختلف فيهم، فقيل هم أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض
كتابهم وكفروا ببعضه، فاقتسموه إلى قسمين.
وقيل: هم قُريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم، فوقف كلُّ واحد منهم على باب، يقول أحدهم هو شاعر، ويقول الآخر ساحر.
والكاف من قوله (كما) ، متعلقة بقوله: (أنا النَّذِير المبين) ، أي انذر قريشاً عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين.
وقيل يتعلّق بقوله: (ولقد آتينَاكَ) ، أي أنزلنا عليك كتابا كما أنْزَلنا على المقتسمين.
(استَفْزِز) ، أي اخدع بدعائك إلى أهل المعاصي، واستخف بهم.(2/36)
(ارْتَدّا على آثارهما) ، أي رجعا في طريقهما يَقُصّان أثَرَهمَا
الأول، لئلا يخرجا عن الطريق.
(إِمْرًا) : عجباً، ويقال داهية.
(انْتَبَذَتْ من أهلها) اعتزلتهم ناحية.
يقال: قعد نَبْذَةً وَنُبْذَةً: أي ناحية.
(إلْحَادٍ) ، أي ميل عن الحق.
(أسْمِعْ بهم) أي ما أسمعهم، وما أبصرهم يوم القيامة، على أنهم في الدنيا
في ضلال مبين.
(اخسئوا) : كلمة تستعمل في زجر الكلاب، ففيها إهانة وإبعاد.
وفي الحديث أنه قال - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد: اخْسَأْ فلن تَعدوَ قَدْركَ.
(إفْك) أشدّ الكذب، ونزلت الآيات الست من قوله تعالى: (إن الذين
جاءُوا بالإفْك عصْبةٌ منكم ... ) ، إلى قوله تعالى: (لهم مغفرة
ورِزْقٌ كَرِيمٌ) - في شأن عائشة وبراءتها مما رماها أهل الإفك، وذلك أن الله
برّأَ أربعة بأربعة: برّأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها، وبرأ موسى من قول
اليهود بالحجر الذي ذهب بثَوْبه.
وبرأ مريم بكلام وَلَدِها في حِجْرِها.
وبرأ عائشة من الإفك بنزول القرآن في شأنها.
ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية العظمى في الاعتناء بها، والكرامة لها.
والتشديد على من قذفها.
وقد خرّج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما.
واختصاره أن عائشةَ رضي الله عنها خرجت مع رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني الْمصْطَلق، فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس، فجاء رجلٌ يقال له صَفْوان بن المعطِّل، فرآها فنزل عن ناقته، وتَنَحَّى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش، فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما بال رجال رمَوْا أهلي! والله ما علمت على أهلي
إلا خيراً، ولقد رموا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً.(2/37)
وسأل جارية عائشة، فقالت: واللَه ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ عن الذهب الأحمر.
ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة، وهم: عبد اللَه
ابن أبىّ بن سلول رأس المنافقين، وحَمْنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة.
وحسان بن ثابت.
وقيل: إن حسان لم يكن معهم.
(الإرْبَة) ، الحاجة إلى الوطء.
وشرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطان:
أحدهما أن يكونوا تابعين، ومعناه أن يتبع لشيء يعْطَاه، كالوكيل والمتصرّف، ولذلك قال بعضهم: هو الذي يَتْبعك وهمّتُه بَطْنه.
والآخر ألا يكون لهم إرْبَة في النساء، كالخصِيّ، والمخنث، والشيخ الهرم.
والأحمق. فلا يجوز رؤْية النساء إلا باجتماع الشرطين.
واختلف هل يجوز أن يراها عَبْد زَوْجها وعَبْد الأجنبي أم لا، على قولين.
وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: منع رؤيتهم لسيدتهم، وهو قول الشافعي.
والجواز، وهو قول ابن عباس وعائشة.
والجوازُ بشرط أن يكون العَبْدُ وغداً وهو مذهب مالك، واحْتَج بهذه الآية.
(اطَّيَّرْنَا) ،: أصله تَطَيَّرْنَا، ومعناه تَشَاءَمْنَا، وكانوا قد
أصابهم القَحْط، فَنَسَبوا ما أصابهم إلى صالح، فلذلك جاوبهم بقوله: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) ، أي السبب الذي يحدث عنه خَيْرًا وشَرًّا هو عند
الله، وهو قضاؤه وقَدَره.
(اقْصِدْ في مَشْيِك) : أي اعتدل فيه، فلا تسرع فيه إسراعاً
يدل على الطَّيْش والخِفَّة التي تذهب ببهاء الوجه، ولا تبطئ لأنه يدل على النخوة والكبْر.
والْقَصْد: ما بين الإسراف والتقصير.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يمشي مُتَواضعاً لا متَبَخْتِرا ولا كسلاً، وكان بين ذلك قَوَاماً.
(امْتَازوا) أي انْفَرِدوا عن المؤمنين وكونوا على حدة، لتأخذكم الزَّبَانية.
(اصْلَوْها) : ذوقوا حَرَّها.
ويقال صليت النار إذا نالك حرُّها.(2/38)
(استَفْتِهم) سَلْهم.
والضمير المفعول لقريش وسائر الكفار، أي اسألهم على
وجه التقرير والتوبيخ عما زَعموا من أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للَه الإناث ولأنفسهم الذكور، وتلك قسمة ضِيْزَى.
(إلْيَاسِين) ، يعني إلياس وأهل دينه، جمعهم بغير إضافة
بالياء والنون على العدد، كأنّ كلَّ واحدٍ منهم اسمه إلياس.
وقال بعض العلماء:
يجوز أن يكون إلياس وإلياسين بمعنى واحد، كما يقال ميكايل وميكال.
وتقرأ على آل ياسين، أي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرج ابن أبي حاتم بسنَدٍ حسن عن ابن مسعود، قال: إلياس هو إدريس.
وقراءته: وإن إدريس لَمِنَ المرْسلين. سلاَمٌ على إدْرَاسين.
وفي قراءة أبيّ: وإن إلياس ... سلام على إلْيَسِين.
وقيل إنه لقب إدريس.
وقد أخطأ مَنْ قال إنه إلياس المذكور في أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(اشئمأزتْ) معناه نفرت، والمشمئزُّ النافر.
ومعنى الآية أن الكفار يكرهون توحيد الله، ويحبّون الإشراك به، ونزلت حين قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، فألقى الشيطان.
.. حسبما ذكر في الحج، فاستبشر الكفَّار من ذكر اللات والعزى (1) ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان استكبروا واشمازُّوا.
(اصْفَح) : أعرض.
وأصل الصفح أن تنحرف عن الشيء، فتولِيه صفحةَ
وجهك، وهذا الإعراض منسوخٌ بآية السيف كما قدمنا.
(الغوا) ، من اللّغَا، وهو الهجْر والكلام الذي لا نَفْع فيه.
ورُوي أن قائل هذه المقالة أبو جهل لعنه الله، وقال لهم: تشاكلوا عند قراءته بِرَفعِ الأصوات وإنشاد الشعر، وشِبْه ذلك حتى لا يسمعه أحد.
وقيل المعنى:
قَعُوا فيه وعِيبوه.
(اعتِلوه) ، أي سُوقوه بتَعْنيف إلى سَوَاءَ الجحيم، يعني وسطها.(2/39)
واختلف على مَنْ يعود الضمير، فقيل على أبي جهل.
وقيل على العموم، وهو الأظهر.
(انشزوا) ، معناه ارتفعوا عن مواضعكم حتى تُوَسِّعوا لغيركم
واختلف في هذا النشوز الأمور به، فقيل إذا دعوا إلى قتال أو صلاةٍ أو
فعلِ طاعةٍ.
وقيل: إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان يحب الانفراد أحياناً، وربما جلس قومٌ حتى يُؤمَروا بالقيام.
وقيل المراد القيام في المجلس للتوسع.
(استحوذ) ، أي غلب عليهم الشيطان وتملّك نفوسهم.
واستحوذ مما خرج على الأصل ولم يُعَلّ.
ومثله اسْتَرْوَح، واستَنوَق الجمل، واستَصْوَب رأيه.
(اسعوا) : امضوا إلى ذِكْر الله بالهيئة والجدّ، ولم يرد الغدو والإسراع.
للحديث: لا تَأتُوا الصلاة وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار.
وأمر في هذه الآية بالسعي إلى الجمعة، وذلك عند جلوس الإمام على المنبر
وأخذ المؤذنين في الأذان.
(وائتمروا) خطاب للرجال والنساء.
والمعنى أن يأمرَ كلُّ واحد صاحبَه بخير، من المسامحة، والرِّفق، والإحسان.
وقيل: معنى ائتمروا تشاوروا.
ومنه: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) .
(استَغشَوْا ثيابَهم) : جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه
ولئلا يراهم.
ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم.
فانظر نصْحَه صلى الله على نبينا وعليه وسلم، ذكر أولاً أنه دعاهم
بالليل والنهار، ثم ذكر أنه دعاهم جهاراً، ثم ذكر أنه جمع بين الجَهْر والإسرار، وهذه غايةُ الجد في النصيحة، وتبليغ الرسالة.(2/40)
(التَفّتِ السّاقُ) ، هذه عبارة عن شدَّةِ كَرْب الموت
وسكَرَاته، أي التفّت ساقه إلى ساقه الآخر عند السباق.
وقيل مجاز، كقولك:
كشفت الحَرْب عن ساقها، إذا اشتدّت.
وقيل معناه ماتت ساقه فلا تحمله.
وقيل التفت، أي لفَّها الكفَن إذا كُفِّن.
(انكدرت) ، أي تساقطت من مواضعها.
وقيل تغيرت.
والأول أرجح، لأنه موافق لقوله: (وإذا الكواكب انْتَثَرَتْ) .
(اتَّسق) القمر إذا تمَّ وامتلأ ليلة أربع عشرة.
ووزن اتسق افتعل، وهو مشتق من الوسق.
ويقال: اتسق استوى.
(إرَم) هي قبيلة عاد، سُمِّيت باسم أحد أجدادها، كما يقال هاشم لبني
هاشم.
وإعرابه بدل من عاد، أو عطف بيان.
وفائدته أنَّ المراد عاد الأولى، فإنّ عادا الثانية لا يسمَّون بهذا الاسم.
وقيل إرم اسمُ مَدِينتهم، فهو على حذف مضاف، تقديره بعاد عاد إرم.
ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعادِ إرم على
الإضافة من غير تنوين عاد، وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف
والتأنيث.
(اقتحم العَقَبة) ، الاقتحام: الدخول بشدة ومشقّة.
والعقبة عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة.
وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل، لأنها
تصعد ويشق صعُودها على النفوس.
وقيل هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها
إلاّ مَنْ عمل هذه الأعمال، ولا هنا تحضيض بمعنى هلا.
وقيل هي دعاء. وقيل: هي نافية.
واعترض على هذا القول بأن " لا " النافية إذا دخلت على الفعل
الماضي لزم تكرارها.
وأجاب الزمخشري: بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا
فَكَّ رقبة، ولا أطعم مسكيناً.
(انْبَعَثَ) يعني خرج إلى عَقْرِ الناقة بسرعة ونشاط.(2/41)
و (أشْقَاهَا) ، أُحَيْمر ثمود قُدَار بن سَالفٍ عاقر الناقة.
ويحتمل أن يكون أشقاها واقعاً على جماعة، لأن أفعل التي للتفضيل إذا أضفته يستوي فيه الواحد والجمع.
والأول أظهر.
(انْحَرْ) : اذبح.
ويقال انحر: ارفع يديك بالتكبير إلى نحرك.
والأول أظهر، لأن الله أمره بالصلاة على الإطلاق.
وبِنَحْرِ الهدْي والضحايا.
وقيل إنه عليه الصلاة والسلام كان يضحي قبل صلاة العيد، فأمره أنْ يُصَلًي ثم ينحر، فالمقصود على هذا تأخير نحر الأضاحي عن الصلاة.
وقيل: إن الكفار كانوا يصلون (مكَاء وتَصْديةً) ، وينحرون للأصنام، فقال الله لنبيه: صل لربك وحده، وانحر له، أي لوجهه لا لغيره، فهو على هذا أمر بالتوحيد والإخلاص.
(الهمْزة) تأتي على وجهين: أحدها الاستفهام، وحقيقته طلب الإفهام.
وهي أصل أدواتها، ومن ثَمَّ اختصت بأمور:
أحدها: جواز حذفها.
الثاني: تأتي لطلب التصوّر والتصديق، بخلاف هل، فإنها للتصديق خاصة.
وسائر الأدوات للتصور خاصة.
ثالثها: أنها تدخل على الإثبات، نحو: (أكان للناس عَجَبا) .
(آلذَكَرَيْنِ حَرّم) .
وعلى النفي نحو: (ألَمْ نَشْرَحْ) .
وتفيد حينئذ معنيين: أحدها التذكير والتنبيه، كالمثال المذكور، وكقوله: (ألم تَر إلى رَبِّك كَيْفَ مَدّ الظًلَّ) .
والثاني التعجب من الأمر العظيم، كقوله تعالى: (ألم تر إلى الَّذِين خَرَخوا مِنْ ديَارِهم وهم ألوفٌ حَذَر الموت) .
وفي كلا الحالتين هو تحذير، نحو: (ألم نهْلِك الأولين) .
رابعها: تقدمها على العاطف تنبيهاً على أصالتها في التصدير، نحو: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا) .(2/42)
(أفَأمِنَ أهْل القرَى) .
(أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ) .
وسائر أخوانها متأخّر عنه، كما هو قياس
جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو: وكيف تكفرون.
فأين تذهبون. فأنَّى تؤْفَكون. فهل يهلك.
فأيّ الفريقين. فما لكم في المنافقين.
خامسها: أنه لا يُستفهم بها حتى يهجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه.
بخلاف هل فإنه لما لا يترجَّح عنده نَفْيٌ ولا إثبات، حكاه أبو حيان عن
بعضهم.
سادسها: أنها تدخل على الشرط.
نحو: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) .
(ولئن متّمْ أو قُتِلتم) .
(أفَإن ماتَ أوْ قُتِل انقَلبْتم) ، بخلاف غيرها.
وتخرج عن الاستفهام الحقيقي فتأتي لمعانٍ قدمناها في الخبر والإنشاء.
فائدة
إذا دخلت على " رأيت " امتنع أن تكون من رؤية البصر أو القَلب، وصارت بمعنى أخبرني.
وقد تبدل هاء، وعلى ذلك قراءة قنْئل: (هأنتم) ، هؤلاء - بالقصر.
وقد تقَع في القسم، ومنه: (ولا نكتم شهادةً آلله) ، بالتنوين، آلله بالمد.
الثاني: من وجهي الهمزة أن تكون حرفاً ينَادَى به القريب، وجعل منه الفراء
قوله تعالى: (أمَنْ هو قَانِت آناء الليل) - على قراءة تخفيف الميم.
أي يا صاحب هذه الصفات.
قال ابن هشام: ويبعده أنه ليس في التنزيل نداءٌ بغير ياء، ويقربه سلامته من
دَعوى المجاز، إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته، ومن دَعوى كثرة الحذف، إذ التقدير عند مَنْ يجعلها للاستفهام: أمّنْ هو قانت خَيْرٌ أم هذا الكافر، أي المخاطب بقوله تعالى: (قل تَمَتّع بكفْركَ قليلاً) .
فحُذف شيئان: معادل الهمزة والخبر.(2/43)
(أحَد) قال أبو حاتم في كتاب الزينة: هو اسمٌ أكمل من واحد، ألا ترى
أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان فأكثر.
بخلاف قولك لا يقوم له أحد.
وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار واحد، فيجوز أن يكون من الدواب والطير والوحوش والإنسان، فيعمّ الناس وغيرهم، بخلاف ليس في الدار أحد، فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم.
قال: ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الأول وبمعنى الواحد، فيستعمل في
الإثبات وفي النفي، نحو: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، أي واحد، وأوَّل.
(فابْعَثوا أحدَكم بِوَرِقِكمْ) ، وبخلافهما فلا يستعمل إلا في النفي، تقول: ما جاءني من أحد.
ومنه: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) .
(أيحسب أنْ لم يَرَه أحد) .
(فما منكم من أحد) .
(ولا تُصَلّ على أحد منهم) .
وواحد يستعمل فيها مطلقاً.
وأحد يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال تعالى: (لستُنّ كأحدٍ مِنَ النساء)
، بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدةٍ.
وأحد يصلح للإفراد والجمع.
قلت: ولهذا وُصِف به في قوله تعالى: (فما مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ عنه حَاجِزين) .
بخلاف الواحد.
والأحد له جمع مِنْ لفظه، وهو الأحد والآحاد، وليس للواحد جمع من
لفظه، فلا يقال وحد، بل اثنان وثلاثة.
والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب.
بخلاف الواحد. انتهى ملخصا.
وقد تحصَّلَ من كلامه أن بينهما سبعة فروق.
وفي أسرار التنزيل للبارزي في سورة الإخلاص: فإن قلت المشهور في كلام(2/44)
العرب أن الأحد يستعمل بعد النفي والواحد بعد الإثبات، فكيف جاء أحد هنا بعد الإثبات؟.
قلت قد اختار أبو عبيد إنهما بمعنى واحد وحينئذٍ فلا يختص أحدهما بمكان
دون الآخر، وإن غلب استعمال أحد في النفي.
ويجوز أن يكون للعدول هنا عن الغالب رعاية للفواصل.
وقال الراغب في مفردات القرآن: أحد تستعمل على ضربين:
أحدهما في النفي فقط، والآخر في الإثبات.
فالأول لاستغراق جِنْسِ الناطقين، ويتناول القليل والكثير، ولذلك صح أن
يُقال ما من أحد فاضلين، كقوله: (فما مِنْكمْ من أحَدٍ عنه حَاجِزين) .
والثاني على ثلاثة أوجه:
الأول: المستعمل في العَدَد مع العشرات، كأحد عشر وأحد وعشرين.
والثاني: المستعمل مضافاً أو مضافاً إليه بمعنى الأول، نحو: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) .
والثالث: المستعمل وصفا مطلقاً، ويختص بوصف الله تعالى، نحو: " قل هو
الله أحد ".
وأصله وَحد، إلا أن وَحد يستعمل في غيره.
***
فوائد مهمة
(إذْ)
ترِد على أوجه:
أحدها أن تكون اسماً للزمان الماضي، وهو الغالب، ثم قال الجمهور: لا
تكون إلا ظرفاً، نحو: (فقد نصره الله إذْ أخرجهُ الّذِين كَفَرُوا) .
ومضافاً إليها الظرف: (بَعْدَ إذْ هدَيتَنا) .
(يومئذ تُحَدّثُ) .
(وأنتم حينئذ تَنْظُرون) .
وقال غيرهم: تكون مفعولاْ به، نحو: (واذكرُوا إذا أنتُم قَلِيل) .
وكذا المذكورة في أوائل القصص كلها مفعول به، بتقدير اذكر.
أو بدلاً منه نحو: (واذْكُرْ في الكتاب مَرْيَم إذِ انْتَبَذَتْ) ، فإنها بدل اشتمال(2/45)
من مريم على وجه البدل في: (يسألونكَ عن الشهر الحرام قِتَال فيه) .
(اذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ جعل فيكم أنبياءَ) .
أي اذكروا النعمةَ التي هي الجَعْل المذكور، فهي بدل كل من كل.
والجمهور يجعلونها فيَ الأول ظرفاً لمفعول محذوف، أي واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ كنتم قليلاً.
وفي الثاني ظرفاً لمضاف إلى مفعول محذوف، أي واذكر قصة
مريم.
ويؤيّد ذلك التصريح به في: (واذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ كنتم أعداءً) .
وذكر الزمخشري أنها تكون مبتدأ، وأخرج عليه قراءة بعضهم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا) .
قال التقدير " مَنه " إذ بعث، فإذْ محل رفع كإذا قولك: أخطَب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، أي لقد مَنّ الله على المؤمنين وقت بعْثه.
قال ابن هشام: ولا نعلم بذلك قائلاً.
وذكر كثير أنها تخرج عن المضي إلى الاستقبال، نحو: (يومئذ تحَدث أخبَارَها) .
والجمهور أنكروا ذلك وجعلوا الآية من باب: (ونفخَ في الصُّور) - يعني من
تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة الماضي الواقع.
واحتج المثبتون - ومنهم ابن مالك - بقوله: (فسوف يعلمون إذ الأغلالُ في أعناقهم) .
قال: يعلمون مستقبلٌ لفظاً ومَعْنًى، لدخول حرف التنفيس عليه، وقد عمل في إذ، فيلزم أن تكون بمنزلة إذا.
وذكر بعضهم أنها تَأتي للحال نحو: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) .
فائدة
أخرج ابن أبي حاتم من طريق السديّ عن أبي مالك، قال: كل ما كان في
القرآن (إنْ) - بكسر الألف - فلم يكن، وما كان إذ فقد كان.(2/46)
الوجه الثاني: أن تكون للتعليل، نحو: (ولن يَنفَعكم اليَوْمَ إذ ظَلَمْتُم أنكم
في العذاب مشتَرِكون) ، أي ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في
العذاب لأجل ظُلمكم في الدنيا.
وهل هي حرف بمنزلة لام العلة، أو ظرف بمعنى وقت، والتعليل مستفاد من
قوة الكلام لا من اللفظ، قولان، المنسوب إلى سيبويه الأول، وعلى الثاني في الآية إشكال، لأن إذ لا تُبْدَل من اليوم لاختلاف الزمانَيْنِ، ولا تكون ظرفاً لينفع، لأنه لا يعمل في ظرفين، ولا "مشتركون"، لأن معمول خبر أن
وأخواتها لا يتقدم عليها، ولأن معمول الصِّلَة لا يتقدم على الموصول، ولأن
اشتراكهم في الآخرة لا في زمن ظلمهم.
ومما حُمل على التعليل: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) .
(وإذ اعْتَزَلتُموهم وما يعْبدونَ إلاَّ الله فَأوُوا إلى الكهْفِ) .
وأنكر الجمهور هذا القِسْم، وقالوا: التقدير: بعد إذ ظلمْتُم.
وقال ابن جني: راجَعْتُ أبا عليٍّ مِرَاراً في قوله: (ولن ينفعكم اليوم ... ) الآية.
مستشكلا إبدال إذ من اليوم.
فآخِر ما تحصّل منه أنَّ الدنيا والآخرة متصلتان، وأنهما في حكم الله سواء، فكأن اليوم ماض.
الوجه الثالث: التوكيد، بأن تُحْمَل على الزيادة، قاله أبو عُبيدة، وتبعه ابن
قتيبة، وحملا عليه آيات منها: (إذ قال ربكَ للملائكة) .
الرابع: التحقيق كقد، وحملت عليه الآية المذكورة، وجعل منه السّهَيلي
قوله: (بعد إذ أنتم مُسلمون) .
قال ابن هشام: وليس القولان بشيء.
مسألة
تلزم إذ الإضافة إلى جملة إمَّا اسمية، نحو: (واذكروا إذ أنتُم قَليلٌ) .
أو فعلية فعلها ماض لفظا أو معنى،(2/47)
نحو: (وإذ قال رَبك للملائكة) .
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) .
أو معنًى لا لفظاً، نحو: (وإذ تَقُولُ للّذِي أنعم اللهُ عليه وأنعَمْتَ عليه) .
وقد اجتمعت الثلاثة في قوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) .
وقد تحذف الجملةُ للعلم بها ويعوض عنها التنوين.
وتكسر الذال لالتقاء الساكنين، نحو: (يومئذٍ يَفرَحُ المؤمنون) .
(وأنتم حينئذٍ تنظرون) .
وزَعم الأخفش أن " إذ " في ذلك معربة، لزوال افتقارها إلى الجملة، وأن
الكسرة إعراب، لأن اليوم والحين مضافٌ إليها.
ورُدَّ بأن بناءها لوضعها على حرفين، وبأنَ الافتقار باق في المعنى.
كالموصول تُحْذَف صلته.
(إذا) على وجهين:
أحدهما: أن تكون للمفاجأة، فتختصّ بالجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى
جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو: (فألقَاها فإذا هي حيَّةٌ تَسْعَى) .
(فلمَّا أنجَاهُم إذا هم يَبْغون) .
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) .
قال ابن الحاجب: ومعنى المفاجأة حضورُ الشيء معك في وصْفٍ من
أوصافك الفعلية، تقول: خرجت فإذا الأسد في الباب، ومعناه حضورُ الأسد معك في زَمن وصْفِك بالخروج، أو في مكان خروجك، وحضورُه معك في مكان خروجبن ألصقُ بك من حضوره في زمن خروجك، لأن المكان يخصك دون ذلك الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى.(2/48)
واختلف في إذا هذه، فقيل إنها حرف، وعليه الأخفش، ورجّحه ابن
مالك.
وقيل ظرف مكان، وعليه المبرد، ورجّحه ابن عصفور.
وقيل ظرف زمان، وعليه الزجاج، ورجّحه الزمخشري، وزعم أن عاملها فعل مقدَّر مشتقّ من لفظ المفاجأة.
قال: التقدير: ثم إذا دعاكم ... فاجأتم الخروج في ذلك الوقت.
قال ابن هشام: ولا يعرف ذلك لغيره، وإنما يعرف ناصبها عندهم الخبر
المذكور أو المقدَّر.
قال: ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرّحاً به.
الثاني: أن تكون لغير المفاجأة، والغالب أن تكون ظرفاً للمستقبل تضمّنت
معنى الشرط.
وتختصّ بالدخول على الجمل الفعلية، وتحتاج لجوابٍ، وتقَع في
الابتداء، عكس الفجائية، والفعل بعدها إما ظاهر، نحو: (إذا جاء نصْر اللهِ) .
وإما مقدَّر، نحو: (إذا السماء انشَقَّت) .
وجوابها إما فعل، نحو: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) .
أو جملة اسمية مقرونة بالفاء، نحو: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) .
(فإذانفِخَ في الصُّورِ فلا أنسابَ بَينَهم) .
أو فعلية طلبية كذلك، نحو: (فسبِّح بحمدِ ربك) .
أو اسمية مقرونة بإذا المفاجأة، نحو: (إذا دَعَاكم دَعْوةً من الأرض إذا أنتم
تَخرجون) .
(فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .
وقد يكون مقدَّراً لِدَلالة ما قبله عليه، أو لدلالة المقام، كما تقدم في أنواع
الحذف.
وقد تخرج إذا عن الظرفية، قال الأخفش - في قوله تعالى: (حتى إذا
جاءوهَا) .: إن إذا جرّ بـ حتى.
وقال ابن جني في قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) ، - فيمن نصب خافضة رافعة: إن إذا الأولى مبتدأ والثانية خبر. والمنصوبان حالان.
وكذا جملة ليس ومعمولاها.
والمعنى وقت وقوع الواقعة خافضة لقوم رافعة لآخرين، وهو وقت رَج الأرض.(2/49)
والجمهور أنكروا خروجها عن الظرفية، وقالوا - في الآية الأولى: إن حتى
حرف ابتداء دخل على الجملة بأسرها، ولا عمل له.
وفي الثانية إن إذا الثانية، بدل من الأولى والأولى ظرف، وجوابها محذوف لفَهْمِ المعنى، وحسَّنَه طول الكلام.
وتقديره بعد إذا الثانية، أي انقسمتم انقساماً، وكنتم أزواجاً ثلاثة.
وقد تخرج عن الاستقبال فترد للحال، نحو: (والليل إذا يغْشَى) .
فإنّ الغشيان مقارِنٌ لليل.
- (والنهار إذا تَجَلَّى) .
(والنجم إذا هوى) .
وللماضي، نحو: (وإذا رأوْا تجارة أو لَهْواً) .
فإن الآية نزلت بعد الرؤية والانفضاض.
وكذا قوله تعالى: (ولا على الّذِين إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم) .
(حتى إذا بَلَغَ مَطْلعَ الشّمْسِ) .
(حتى إذا ساوَى بين الصدَفَيْنِ) .
وقد تخرج عن الشرطية، نحو: (وإذا ما غَضِبوا هم يغْفِرُون) .
(والذين إذا أصابهم البَغْى هم يَنتَصِرون) ، فإذا في الآيتين ظرف للمبتدأ بعدها، ولو كانت شرطية والجملة الاسمية جواب قرنت بالفاء.
وقول بعضهم: إنه على تقديرها مردودٌ بأنها لا تحذف إلا ضرورة.
وقول آخر: إن الضمير توكيد مبتدأ، وإن ما بعده الجواب - تعسُّف.
وقول آخر إن جوابها محذوف مدلولٌ عليه بالجملة بعدها تكلفٌ من غير
ضرورة.
تنبيهات
الأول - المحققون على أن ناصب (إذا) شرْطها، والأكثرون أنه ما في
جوابها مِنْ فعلٍ أو شبهه.
الثاني - قد تستعمل إذا للاستمرار في الأحوال الماضية والحاضرة والمستقبلة.
كما يستعمل الفعل المضارع لذلك.
ومنه: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) .(2/50)
أي هذا شأنهم أبداً.
وكذا قوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) .
الثالث - ذكر ابن هشام في المغني إذا ولم يذكر إذا ما، وقد ذكرها الشيخ
بهاء الدين السبكي في عروس الأفراح في أدوات الشرط، فأمّا إذ مَا فلم تقع في القرآن.
ومذهب سيبويه أنها حرف.
وقال المبرد وغيره: إنها باقية على الظرفية
وأما " إذَا ما " فوقعت في القرآن في قوله: (وإذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون) .
(إذا ما أتَوكَ لتَحملهم) .
ولم أجِد مَنْ تعرّض لكونها باقيةً على الظرفية أو محولة إلى الحرفية.
ويحتمل أن يجري فيها القولان في إذ ما.
ويحتمل أن يُجزم ببقائها على الظرفية، لأنها أبعد عن
التركيب بخلاف " إذ ما "
الرابع: تختص " إذا " بدخولها على المتيقَّن، والمظنون، والكثير الوقوع.
بخلاف إن فإنها تستعمل في الشكوك والوهوم والنادر، ولهذا قال تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) .
ثم قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) .
فأتى بإذا في الوضوء لتكرُّره وكثرة أسبابه، وبإنْ في الجنابة لقلَّة
وقوعها بالنسبة إلى الحدث.
وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا) .
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) .
أتى في جانب الحسنة بـ إذا لأنَّ نِعَمَ الله على العباد كثيرة ومقطوع بها، وبـ إن في جانب السيئة لأنها نادرة الوقوع
ومشكوك فيها.
نعم أشكل علىِ هذه القاعدة آيتان الأولى: (ولئن مِتُّم) ، (أفإنْ متَّ) ، مع أن الموت محقّق الوقوع.
والأخرى قوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .
فأتى بـ إذا في الظرفين.(2/51)
فأجاب الزمخشري عن الأولى بأن الموت لما كان مجهول الوقت أُجرِيَ مجرى
غير المجزوم.
وأجاب السكاكي عن الثانية بأنه قصد التوبيخ والتقريع، فأتى بإذا ليكون
تخويفاً لهم، وإخبارا بأنهم لابد أن يمسَّهم شيء من العذاب، واستفيد التقليل من لفظ المس، وتنكير ضر.
أما قوله: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) .
فأجيب عنه بأن الضمير في (مَسَّهُ) للمعرض المتكبر لا لمطلق الإنسان، ويكون لفظ (إذا) للتنبيه على أن مثل هذا المعرض يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعاً.
وقال الحوفي: الذي أظنه أن (إذا) يجوز دخولُها على المتيقّن والمشكوك.
لأنها ظرف وشرط، فبالنظر إلى الشرط تدخل على المشكوك، وبالنظر إلى
الظرف تدخل على المتيقَّن، كسائر الظروف.
الخامس - خالفت (إذا) (إن) في إفادة العموم.
قال ابن عصفور: فإذا قلت إذا قام زيد قام عمرو أفادت أنه كلما قام زيد قام عمرو، وهذا هو الصحيح.
وفي أن المشروط بها إذا كان عدماً يقع الجزاء في الحال.
وفي " إن " لا يقع الجزاء حتى يتحقّق اليأس من وجوده.
وفي أن جزاءهَا متعقب لشرطها على الاتصال، ولا يتقدم ولا يتأخّر.
بخلاف إن، وفي أن مدخولها لا تجزمه لأنها لا تتمحّض شرطاً.
خاتمة
قيل: قد تَأتي (إذا) زائدة، وخرج عليه: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)
، أي انشقت السماء.(2/52)
(إذن)
قال سيبويه: معناها الجواب والجزاء، فقال الشَّلَوْبين: في كل
موضع.
وقال الفارسي في الأكثر.
والأكثر أن تكون جواباً لـ إن أو لو، ظاهرتين أو مقدرتين.
قال الفراء: وحيث جاءت بعدها اللام فقبْلَها (لو) مقدرة إن لم
تكن ظاهرة، نحو: (إذاً لَذَهَبَ كلُّ إلهٍ بما خلَق) .
وهي حرف يَنْصِب المضارع بشرط تصديرها واستقباله واتصالها أو انفصالها
بالقَسَم أو بلا النافية.
قال النحاة: وإذا وقعت بعد الواو والفاء جاز فيها الوجهان، نحو: (وإذاً لا
يلْبثون خِلاَفَك إلّا قليلاً) .
(فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) ، وقرئ شاذًّا بالنصب فيهما.
وقال ابن هشام: التحقيق أنه إن تقدمها شرط وجزاء وعطفت فإن قدرْتَ
العطف على الجزاء جزمَت وبطل عمل إذن لوقوعها حشواً، أو على الجملتين جميعاً جاز الرفع والنصب، وكذا إذا تقدمها مبتدأ خبره فعل مرفوع إن عطفت على الفعلية رفعت أو على الاسمية فالوجهان.
وقال غيره: إذن نوعان:
الأول: أن تدل على السببية والشرط، بحيث لا يُفهم الارتباط من غيرها.
نحو: أزورك، فتقول: إذن أكرمَك، وهي في هذا الوجه عاملة تدخل على الجمل الفعلية فتنصب المضارع المستقبل المتصل إذا صدّرت.
والثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبهةً على سبب حصل
في الحال، وهي حينئذ غير عاملة، لأن المؤكدات لا يُعْتَمد عليها، والعامل
يعتمد عليه، نحو: إن تَأتني إذأ أتيتك.
وواللَه إذن لأفعلنّ.
ألا ترى أنها لو سقطت لفهم الارتباط.
وتدخل على الاسمية فتقول: إذن أنا أكرمك.
ويجوز توسطها وتأخيرها.
ومن هذا قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا) .
فهي مؤكدة للجواب مرتبطة بما تقدم.(2/53)
تنبيهان
الأول: سمعت شيخنا العلامة الكافيجي يقول في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
- ليست إِذًا هذه الكلمة المعهودة، وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها، وعُوِّض عنها التنوين، كما في يومئذٍ.
وكنت أستحسن هذا جدًّا، وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك.
ثم رأيت الزركشي قال في البرهان - بعد ذكره لإذَنْ المعنيين السابقين:
وذكر لها بعضُ المتأخرين معنى ثالثاً، وهو أن تكون مركبة من (إذا) التي هي ظرف زمان ماض، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكن حذفت الجملة تخفيفا، وأبدل منها التنوين، كما في قولهم: حينئذ.
وليست هذه الناصبة للمضارع، لأن تلك تختص به، ولذا عملت فيه، ولا يعمل إلا فيما يختص، وهذه لا تختص به، بل تدخل على الماضي، كقوله: (وإذاً لآتيْنَاهم) . (إذاً لأمسكْتم خشيةَ الإنْفَاق) . (إذاً لأذَقناك) .
وعلى الاسم، نحو: (وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)
قال: وهذا المعنى لم يذكره النحاة، ولكنه قياس ما قالوه في إذ.
وفي التذكرة لأبي حيان: ذكر لي علم الدين القعنبي أن القاضي تقي الدين بن
رَزِين كان يذهب إلى أن إذن عوض من الجملة المحذوفة، وليس هذا قول
نحوي.
وقال الحوفي: وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال: أنا آتيك: إذاً
أكرمك - بالرفع - على معنى إذا أتيتني أكرمك، فحذفت أتيتني وعوضت
التنوين عن الجملة فسقطت الألف لالتقاء الساكنين.
قال: ولا يقدح في ذلك اتفاق النحاة على أن الفعل في مثل هذا المثال
منصوب بإذن، لأنهم يريدون بذلك ما إذا كانت حرفاً ناصباً له، ولا ينفي(2/54)
ذلك رفع الفعل بعدها إذا أريد بها إذا الزمانية معَوَّضاً من جلتها التنوين، كما أن منهم مَنْ يجزم ما بعد " من " إذا جعلها شرطية، ويرفعه إذا أريد بها
الموصولة.
فهؤلاء قد حاموا حول ما حام الشيخ إلا أنه ليس أحد منهم من المشهورين
بالنحو، وممن يعتمد قولُه فيه.
نعم ذهب بعض النحاة إلى أن أصل إذا الناصبة
اسم، والتقدير في إذن أكرمك - إذا جئتني أكرمك، فحذفت الجملة وعوّض عنها التنوين وأضمرت إن.
وذهب آخرون إلى أنها أحرف مركبة من إذ وإن.
حكى القولين ابن هشام في المغني.
التنبيه الثاني: الجمهور على أن إذا يوقف عليها بالألف المبدلة من النون.
وعليه إجماع القراء، وجوّز قوم منهم المبرد والمازني في غير القرآن الوقوف عليها بالنون كـ إن وأن.
وينبني على الخلاف في الوقف عليها كتابتها، فعلى الأول
تكتب بالألف كما رُسمت في المصاحف.
وعلى الثاني بالنون.
وأقول: الإجماع في القرآن على الوقوف عليها، وكتابتها بالألف - دليل على أنها اسم منوّن لا حرف آخره نون، خصوصاً أنها لم تقع فيه ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه الشيخ ومَنْ سبق النَقْل عنه.
(أفّ)
قد قدمنا أنها كلمةٌ تستعمل عند الضجر.
وقد حكى أبو البقاء في قوله تعالى: (فلا تَقل لهما أفّ)
- قولين أحدهما أنه اسم لفعل الأمر، أي كفَّا وَاتْركَا.
والثاني أنه اسم لفعل ماض، أي كرهت وتضجَّرت.
وحكى غيره ثالثاً: أنه اسم لفعل مضارع، أي أتضجَّر منكما.
وأما قوله في سورة الأنبياء: (أفٍّ لكمْ) .
فأحاله أبو البقاء على ما سبق في الإسراء، ومقتضاه تساويهما في المعنى.
وفَسَّر صاحب الصحاح أفّ بمعنى قذر.
وقال في الارتشاف: أتضجر.(2/55)
وفي البسيط معناه التضجّر. وقيل الضجر. وقيل تضجرت.
ثم حكى فيها تسعاً وثلاثين لغة.
قلت: قرئ منها في السبع أف بالكسر - بلا تنوين.
وأف - بالكسر والتنوين.
وأفَّ - بالفتح بلا تنوين.
وفي الشاذِّ أفٌّ - بالضم منوناً. وأفْ - بالتخفيف.
أخرج ابنُ أبي حاتم عن مجاهد في قوله: فلا تَقُل لهما أف.
قال: لا تقذرهما.
وأخرج عن أبي مالك قال: هو الرديء من الكلام.
(الْ)
على ثلاثة أوْخهٍ:
أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الذي وفروعه، وهي الداخلة على
أسماء الفاعلين والمفعولين، نحو: (إنّ المسلمينَ والمسلمات..) إلى آخر الآية.
(التّائِئون العابدون) .
وقيل هي حينئذ حَرْف تعريف.
وقيل موصول حَرْفي.
الثاني: أنْ تكون حرف تعريف، وهي نوعان: عَهْديّة وجنْسية، وكلٌّ منهما
ثلاثة أقسام، فالعَهْدِية إما أن يكون مصحوبُهَا معهوداً ذِكرِيًّا، نحو: (كما
أرْسَلْنَا إلى فرعون رسولاً فَعَصى فِرْعَون الرَّسولَ) .
(فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) .
وضابطُ هذه أن يسدَّ الضمير مسدها مع مصحوبها.
أو معهوداً ذِهنيّا، نحو: (إذ همَا في الغار) .
(إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) .
أو معهوداً حضوريا، نحو: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) .
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) .
قال ابن عصفور: وكذا كل واقعة بعد اسم الإشارة، أو أيْ في النداء، أو
إذا الفجائية، أو في اسم الزمن الحاضر، نحو: الآن.
والجنسية إما لاستغراق الأفراد، وهي التي تخلفها " كلّ " حقيقة، نحو:(2/56)
(وخُلِق الإنسان ضعيفاً) .
(عالمُ الغَيْبِ والشهادةِ) .
ومن دلائلها صحةُ الاستثناء من مدخولها، نحو: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
ووصفه بالجمع، نحو: (أوِ الطفلِ الذين لم يظَهروا) .
وإمّا لاستغراق خصائص الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) مجازاً، نحو: (ذلك الكتاب) ، أي الكتاب الكامل في الهداية، الجامع لصفات جميع الكتب المنزلة وخصائصها.
وإما لتعريف الماهية والحقيقة والجنس، وهي التي لا تخلفها (كل) لا حقيقة ولا مجازاً، نحو: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) .
(أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) .
قيل: والفرق بين المعرَّف بأل هذه وبين اسم الجنس النكرة هو الفرق بين
المقيَّد والمطلق، لأن المعرف بها يدل على الحقيقة لا باعتبار قيد.
الثالث: أن تكون زائدة، وهي نوعان: لازمة كالتي في الموصولات على
القول بأن تعريفها بالصلات، وكالتي في الأعلام المقارنة لنقلها، كاللات
والعزّى.
أو لغلبتها كالبيت للكعبة، والمدينة لطيْبَة، والنجم للثريّا.
وهذه في الأصل للعهد.
أخرح ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: (والنجم إذا هوى) .
- قال: الثريا.
وغير لازمة في الحال، وخرّج عليه قراءة بعضهم: (ليَخْرجنَّ الأعَزّ منها
الأذل) - بفتح الياء، أي ذليلاً، لأن الحال واجبة التنكير، إلا
أن ذلك غير فصيح، فالأحسن تخريجه على حذف مضاف، أي خروج الأذل"
كما قدَّره الزمخشري.
مسألة
اختلف في (أل) في اسم الله، فقال سيبويه، هي عوض من الهمزة المحذوفة
بناء على أن أصله إله، دخلت (أل) فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، ثم أدغمت.(2/57)
قال الفارسي: ويدل على ذلك قَطْعُ همزها ولزومها.
وقال آخرون: هي مزيدة للتعريف تفخيمًا وتعظيمًا، وأصله إِلاَه أو وِلَاه.
وقال قوم: هي زائدة لازمة لا للتعريف.
وقال بعضهم: أصله هاء الكناية، زيدت فيه لام الملك، فصار له، ثم زيدت
أل تعظيما، وفخَّموه توكيداً
وقال الخليل، وخلائق: هي من بنْيَة الكلمة، وهي أصلُ علَم لا اشتقاق له
ولا أصل.
خاتمة
أجاز الكوفيون وبعضُ البصريين وكثير من المتأخرين نيابة " ال " عن الضمير
المضاف، وخرجوا على ذلك: (فإن الجنّةَ هي الْمَأوَى) .
والمانعون يقدرون له.
وأجاز الزمخشري نيابتها عن الظاهر أيضاً.
وخرّج عليه: (وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها) .
قال: وأصل الأسماء المسميات.
***
(ألَا) - بالفتح والتخفيف - وردت في القرآن على أوجه:
أحدها: التنبيه، فتدل على تحقيق ما بعدها.
قال الزمخشري: ولذلك قلَّ وقوع الجمل بعدها إلا مصدّرةً بنحو ما يُتلقى به اسم القسم، وتدخل على الاسمية والفعلية، نحو: (ألاَ إنهم هم السفهاءُ) .
(أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) .
قال في المغني: ويقول المعربون فيها:
حرف استفتاح فيبيِّنون مكانها ويُهملون معناها.
وإفادتها التحقيق من جهة تركبها من الهمزة، ولا، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) .
الثاني والثالث: التحضيض والعرض، ومعناها طلب الشيء، لكن الأول
طلب بحثّ، والثاني طلب بلين، وتختص فيهما بالفعلية، نحو: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) .
(قومَ فرعونَ ألا يتّقُون) .(2/58)
(ألَا تَأكلون) .
(ألا تحِبُّون أنْ يغفر الله لكم)
***
(ألاَّ) - بالفتح والتشديد: حرف تحضيض، لم يقع في القرآن هذا المعنى
فما أعلم، إلا أنه يجوز عندي أن يخرج عليه: (ألاَّ يسجدوا للهِ) النمل:
(35) .
وأما قوله: (ألا تَعْلوا عليَّ) النمل: (31) ، فليست هذه، بل هي
كلمتان: (أن) الناصبة، و (لا) النا فية، أو (أن) المفسرة و (لا) الناهية.
***
(إلاَّ) - بالكسر والتشديد على أوجه:
أحدها - الاستثناء، متصلاً، نحو: (فَشِربوا منه إلا قليلاً منهم) ، (ما فعلوه إلا قليلٌ منهم) .
أو منقطعاً، نحو: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) .
(وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) .
الثاني: بمعنى (غير) ، فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه، ويعرب
الاسم الواقع بعدها بإعراب (غير) ، نحو: (لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفَسَدَتَا) .
فلا يجوز أن تكون هذه الآية للاستثناء، لأن (آلهة) جمع منكر في الإثبات، فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه، ولأنه
يصير المعنى حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وهو باطل باعتبار مفهومه.
الثالث: أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك، ذكره الأخفش والفراء
وأبو عبيدة، وخرّجوا عليه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ) .
(لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) .
أي ولا الذين ظلموا ولا مَنْ ظلم.
وتأولها الجمهور على الاستثناء المنقطع.
الرابع: بمعنى بل، ذكره بعضهم وخرَّج عليه: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) .
أي بل تذكرة.(2/59)
الخامس: بمعنى (بدل) ، ذكره ابن الصائغ، وخرج عليه: آلهة إلا الله، أي
بدل الله أو عِوَضه، وبه يخرج عن الإشكال المذكور في الاستثناء وفي الوصف
بإلا من جهة المفهوم.
وغلط ابن مالك فعدَّ من أقسامها، نحو: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) ، وليست منها، بل هي كلمتان: إن الشرطية، ولا النافية.
فائدة
قال الرماني في تفسيره: معنى (إلا) اللازم لها الاختصاص بالشيء دون
غيره، فإذا قلت: جاءني القوم إلا زيداً فقد اختصصت زيداً بأنه لم يجىء.
وإذا قلت: ما جاءني القوم إلا زيداً فقد اختصصته بالمجيء، وإذا قلت: ما جاءني زيد إلا راكبا فقد اختصصتَه بهذه الحال دون غيرها من الشي والعَدو ونحوه.
***
(الآن)
اسم للزمان الحاضر، وقد تستعمل في غيره مجازًا.
وقال قوم: هي حدّ للزمانين، أي ظرف للماضي، وظرف للمستقبل.
وقد يُتجوّزنها عما قرب من أحدهما.
وقال ابن مالك: لوقت حضر جميعه، كوقت فعل الإنشاء حالَ النطق به.
أبو بعضه، نحو: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) .
(فمَنْ يَسْتَمِع الآن يَجِد لَة شِهَابا رَصداً) .
قال: وظرفيته غالبة لازمة.
واختلف في (ال) التي فيه، فقيل للتعريف الحضوري، وقيل زائدة لازمة.
***
(إلى)
حرف جَرّ، وله معنيان:
أشهرهما انتهاء الغاية زماناً، نحو: (أتِمّوا الصيَام إلى الليل) .
أو مكاناً نحو: (إلى المسجدِ الأقصَا) .
أو غيرهما، نحو: (والأمرُ إليكِ) .
ولم يذكر لها الأكثرون غير هذا المعنى.(2/60)
وزاد ابن مالك وغيره تبعاً للكوفيين معانيَ أخر، منها المعيّة كمع، وذلك
إذا ضممتَ شيئاً إلى آخر في الْحكم به أو عليه أو التعلّق، نحو: (مَن أنصَارِي إلى الله) .
(وأيديكم إلى المرافق) .
(ولا تأْكلوا أموالَهم إلى أموالكم) .
قال الرضي: والتحقيق أنها للانتهاء، أي مضافة إلى المرافق وإلى أموالكم.
وقال غيره: ما ورد من ذلك يُؤَول على تضمين العامل وإبقاء (إلى) على
أصلها.
والمعنى في الآية الأولى من يُضيف نصرته إلى نصرة الله، أو من ينصرني
حال كوني ذاهباً إلى الله.
ومنها الظرفية كَـ فِي، نحو: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
أي فيه.
وقوله: (إلى أن تَزَكّى) ، أي في أن.
ومنها مرادفة اللام، وجعل منه: (والأمرُ إليكِ) ، أي لك.
وتقدم أنه من الانتهاء.
ومنها التبيين، قال ابن مالك: وهي المبيِّنَة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبًّا
أو بغضاً، من فعل تعجب، أو اسم تفضيل! نحو: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) .
ومنها التوكيد - وهي الزائدة نحو: (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ، - في قراءة بعضهم بفتح الواو: أي تهواهم، قاله الفراء.
وقال غيره: هو على تضمين تهوى معنى تميل.
حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري: أن " إلى "
تستعمل اسماً، فيقال: انصرفت مِن إليك، كما يقال غدوت مِنْ عليه.
وخرج عليه من القرآن قوله تعالى: (وَهُزِّي إليك) ، وبه يندفع إشكال(2/61)
أبي حيَّان فيه بأن القاعدة المشهورة أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير متصل بنفسه
أو بالحرف، وقد رفع المتصل وهو لمدلول واحد في غير باب ظن.
***
(اللهمَّ)
المشهور أن معناه يا الله، حذفت ياء النداء، وعوِّض منها الميم
المشددة في آخره.
وقيل: أصله يا الله أمنا بخير، فركب تركيب حَيَّهَلا.
وقال أبو رجاء العطاردي: الميم تجمع تسعين اسماً من أسمائه.
وقال ابن ظفَر: قيل إنها الاسم الأعظم، واستدل لذلك بأن الله دالٌّ على
الذات، والميم دالة على الصفات التسعة والتسعين، ولهذا قال الحسن البصري: اللهم تجمع الدعاء.
وقال النضْر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا اللهَ بجميع أسمائه.
***
(أم)
حرف عطف، وهي نوعان: متصلة، وهي قسمان:
الأول: أن يتقدم عليها همزة التسوية، نحو: (سواءٌ عليهم أأنذَرتَفم أم لم
تنْذِرْهم) .
(سواء علينا أجَزِعنَا أم صَبَرنَا) .
(سواءٌ عليهم أستَغْفَرْتَ لهم أمْ لم تَسْتَغْفِر لهم) .
والثاني: أن يتقدم عليها همزة يُطلب بها وبأم التعيين، نحو: (آلذَّكَرَين
حَرّم أم الأتْثيَيْن) .
وسمِّيت في القسمين متصلة، لأن ما قبلها وما بعدها لا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمى أيضاً معادلة، لمعادلتها الهمزة في إفادتها التسوية في القسم الأول والاستفهام في الثاني.
ويفترق القسمان من أربعة أوجه:
أحدها وثانيها أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحق جواباً، لأن المعنى
معها ليس على الاستفهام.
وأن الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب، لأنه خبر، وليست تلك كذلك، لأن الاستفهام معها على حقيقته.
والثالث والرابع أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين،(2/62)
ولا تكون الجملتان معها إلا في تأويل المفردَيْن، وتكون الجملتان فعليتين واسميتين ومختلفتين، نحو: (سواء عليكم أدَعَوْتُموهم أم أنتم صَامِتُون) .
وأم الأخر تقع بين المفردين، وهو الغالب فيها، نحو: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) .
وبين الجملتين ليسا في تأويلهما.
النوع الثاني: منقطعة، وهي ثلاثة أقسام:
مسبوقة بالخبر المحض، نحو: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) .
ومسبوقة بالهمزة لغير الاستفهام، نحو: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) ، إذ الهمزة في ذلك للإنكار، فهي بمنزلة النفي.
والمتصلة لا تقع بعده.
ومسبوقة باستفهام بغير الهمزة، نحو: (هل يَسْتَوِي الأعمى والبَصير أم هل
تَسْتَوِي الظّلمات والنَّور) .
ومعنى أم المنقطعة التي لا يفارقها الإضراب، ثم تارة تكون له مجردة، وتارة
تضمّن مع ذلك استفهاماً إنكارياً أو استفهاماً طلبياً، فمن الأول: (أم هل
تستوي الظلماتُ والنور أم جعلوا لله شرَكاء) ، لأنه لا يدخل الاستفهام على
استفهام.
ومن الثاني: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) ، تقديره: بل أَله البنات، إذ لو قدرت الإضراب المحضَ لزم المحال.
تنبيهان
الأول: قد ترد أم محتملة الاتصال والانفصال، كقوله تعالى: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) ، قال الزمخشري: يجوز في أم أن تكون معادلة بمعنى أيّ الأمرين كائن على
سبيل التقرير لحصول العلم بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة.(2/63)
الثاني: ذكر أبو زيد أنَ أمْ تقع زائدة، وخرج عليه قوله تعالى: (أفلا
تُبْصِرُون أَم أنَا خَيْرٌ) ، قال: التقدير: أفلا تبصرون أنا خير.
***
(أمَّا) - بالفتح والتشديد - حرف شرط وتفصيل وتوكيد، أما كونها
شرطاً فبدليل لزوم الفاء بعدها، نحو: (فأمَّا الذين آمنوا وعَمِلُوا الصالحات
فيوفِّيهم أجورَهم) .
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) .
وأما قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) ، - فعلى تقدير القول، أي فيُقال لهم أَكفرتم، فحذف القول استغناء عنه بالمقول، فتبعته الفاء في الحذف.
وكذا قوله: (وأما الّذِين كفروا أفَلَمْ تكنْ آياتي) .
وأما التفصيل فهو غالب أحوالها، كما تقدم، وكقوله: (أمَّا السفينةُ فكانت
لمسَاكينَ) .
(وأما الغلامُ فكان) .
(وأما الجِدَار فكان) .
وقد يُتْرَكُ تكريرها استغناءً بأحد القسمين عن الآخرين، وقد تقدم في
أنواع الحذف.
وأما التوكيد، فقال الزمخشري: فائدة أما في الكلام أنْ تُعطيه فضْلَ توكيد.
تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك، وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب، ولذلك قال سيبويه في تفسيرها: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب.
ويفصَل بين أمّا والفاء إما بمبتدأ كالآيات السابقة، أو خبر، نحو: أما في
الدار فزيد، أو جملة شرط، نحو: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ) ، الآيات.
أو اسم منصوب بالجواب، نحو: (فأمَّا اليَتِيمَ فلا تَقْهَر) .
أو اسم معمول لمحذوف يفسِّرُه ما بعد الفاء، نحو:
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) - في قراءة بعضهم بالنصب.(2/64)
تنبيه
ليس من أقسام أمّا - أمَّا التي في قوله تعالى: (أمَّاذَا كنْتُم تعملون) .
بل هي كلمتان: (أم) المنقطعة، و (ما) الاستفهامية.
***
(إمَّا) بالكسر والتشديد - تَرِد لمعان:
الإبهام، نحو: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) .
والتخيير، نحو: (إما أنْ تُعذِّبَ وإما أنْ تَتَخِذَ فيهم حُسْناً) .
(إما أنْ تُلْقِيَ وإما أنْ نكونَ أوّلَ من ألْقَى) .
(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) .
والتفصيل، نحو: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
تنبيهات
الأول: لا خلاف في أن إما الأولى في هذه الأمثلة ونحوها غير عاطفة.
واختلف في الثانية: فالأكثرون على أنها عاطفة، وأنكره جماعة منهم ابن مالك، لملازمتها غالباً الواو العاطفة.
وادعى ابن عصفور الإجماع على ذلك، قال: وإنما ذكروها في باب العطف لمصاحبتها لحرفه.
وذهب بعضهم إلى أنها عطفت الاسم
على الاسم، والواو عطفت إما على إما، وهو غريب.
الثاني: ستأتي هذه المعاني لـ أوْ، والفرق بينهما وبين (إما) إما لأنَّ (إما)
ينبني الكلامُ معها من أول الأمر على ما جيء بها لأجله، ولذلك وجب
تكرارها، وأو يُفتْتَح الكلام معها على الجزم ثم يطرأ الإبهام، أو غير ذلك.
ولهذا لم تتكرر.
الثالث: ليس من أقسام إمَّا التي في قوله تعالى: (فإمَّا تَرَين من البشر
أحداً) ، بل هي كلمتان: إن الشرطية، وإما الزائدة.
***
(إنْ) بالكسر والتخفيف - على أوجه:(2/65)
الأول: أن تكون شرطية، نحو: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) .
وإذا دخلت على لم فالجزم بلم لا بها، نحو: (وإن لم تَفْعَلُوا) .
وعلى لا فالجزم بها لا بلا، نحو: (وإلاّ تَغْفِر لي وترْحَمْني) .
(إلا تَنْصُروه) .
والفرقُ أن لم عاملٌ يلزم معموله، ولا يفصل بينهما بشيء، و (إنْ) يجوز
الفصل بينها وبين معمولها بعدوله، و (لا) لا تعمل الجزم إذا كانت نافية، فأضيف العملُ إلى (إن) .
الثاني: أن تكون نافية، وتدخل على الاسمية والفعلية، نحو: (إن الكافرون
إلا في غُرور) .
(إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) .
(إن أرَدنا إلا الحُسْنَى) .
(إن يَدْعُون مِنْ دونِه إلا إنَاثا) .
قيل: ولا تقع (إن) إلا وبعدها إلا كما تقدم، أو لمَّا المشددة، نحو: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) - في قراءة التشديد.
ورد بقوله: (إن عندكُمْ مِنْ سُلطَانٍ بهذا) .
(وإنْ أدرِي لعله فتنَةٌ لكم) .
ومما حمل على النافية قوله: (إنْ كُنَّا فاعِلين) .
(قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) .
وعلى هذا فالوقف هنا.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) .
وقيل هي زائدة، ويؤيد الأول قوله: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ، وعدل عن ما لئلا يتكرر فيثقل اللفظ.
قلت: وكونها للنفي هو الوارد عن ابن عباس كما تقدم.
وقد اجتمعت الشرطية والنافية في قوله: (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) .(2/66)
وإذا دخلت النافية على الاسمية تعمل عند الجمهور، وأجاز الكسائي
والمبرد إعمالها عمل ليس، وخرج عليه قراءة سعيد بن جبير: (إنَّ الذين تَدْعون مِن دون الله عبادٌ أمثالكم) .
فائدة
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كل شيء في القرآن إن فهو إنكار.
الثالث: أن تكون مخففة من الثقيلة، فتدخل على الجملتين، ثم الأكثر إذا
دخلت على الاسمية إهالها، نحو: (وإن كلُّ ذلك لَمَّا مَتَاعُ الحياةِ الدنيا) .
(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) .
(إن هذَان لَسَاحِرَان) - في قراءة حفص وابن كثير.
وقد تعمل، نحو: (وإن كلاًّ لما لَيوَفِّيَنَّهُم) - في قراءة الحرميين.
وإذا دخلت على الفعل فالأكثر كونه ماضياً ناسخاً، نحو: (وإن كانت
لكبيرة) .
(وإن كادُوا لَيَفتِنونَك) .
(وإن وَجَدْنَا أكثَرهم لَفَاسقين) .
ودونه أن يكون مضارعاً ناسخا، نحو: (وإن يكادُ الذين كفروا) .
(وإن نَظنّك لَمِنَ الكاذبين) .
وحيث وجدت إن وبعدها اللام المفتوحة فهي
المخفّفة من الثقيلة.
الرابع: أن تكون زائدة، وخرج عليه: (فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) .
الخامس: أن تكون للتعليل كـ إذ، قاله الكوفيون وخرجوا عليه: (واتّقُوا
اللهَ إن كنتم مؤمنين) .
(لتَدْخُلنّ المسجدَ الحرام إن شاءَ الله آمِنين) .
(وأنتم الأعلَون إن كنتم مُؤمنين) .
ونحو ذلك مما الفعل فيه محَقق الوقوع.(2/67)
وأجاب الجمهور عن هذه المشيئة بأنه تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخْبَرُوا
عن المستقبل، وبأن أصل ذلك الشرطُ، ثم صار يُذكر للتبرك.
أو بأن المعنى لتدخلن المسجد جميعاً إن شاء الله ولا يموت منكم أحد قبل الدخول.
وعن سائر الآيات بأنه شرط جيء به للتهييج والإلهاب، كما تقول لابنك:
إن كنت ابني فأطِعْني.
السادس: أن تكون بمعنى قد، ذكره قُطرب، وخرج عليه: (فَذَكر إن
نَفَعَتِ الذِّكرى) ، أي قد نفعت.
ولا يصح معنى الشرط فيه، لأنه مأمور بالتذكير على كل حال.
وقال غيره: هي للشرط، ومعناه ذَمّهم واستبعاد لنَفْع التذكير فيهم.
وقيل التقدير: وإن لم تنفع، على حد قوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) .
فائدة
قال بعضهم: وقع في القرآن إنْ بصيغة الشرط، وهو غير مراد في ستة
مواضع: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) .
(واشكروا نعمةَ الله إن كنتم إيَّاه تعبُدُون) .
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) .
(إن ارتَبْتُم فعدتُهن) .
(أن تَقصروا من الصلاة إن خِفْتُم)
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) .
***
(أنْ) بالفتح والتخفيف - على أوجه:
الأول: أن تكون حرفا مصدريّا ناصباً للمضارع، وتقع في موضعين:
الابتداء، فتكون في محل رفع، نحو: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) 1.
(وأن تعفُوا أقْرَبُ للتقوَى) .(2/68)
وبعد فعل دالٍّ على معنى غير اليقين، فتكون في محل رفع، نحو:
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) .
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) .
ونصب، نحو: (نَخْشَى أن تُصِيبَنَا دائرةٌ) .
(وما كان هذا القرآن أن يُفْتَرَى) .
(فأرَدتُ أن أعِيبها) .
وخفض، نحو: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا) .
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) .
وأن هذه موصول حرفي، وتوصل بالفعل المتصل: مضارعاً كما مر.
وماضياً، نحو: (لولا أن مَنَّ اللهُ علينا) .
(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) .
وقد يرفع المضارع بعدها إهمالاً لها، حملاً على (ما) أختها، كقراءة ابن
محيصن: (لِمَنْ أرادَ أن يَتِم الرضاعةُ) (1) .
الثاني: أن تكون مخففة من الثقيلة، فتقع بعد فعل اليقين، أو ما نزِّل منزلته.
نحو: (أفلا يَرَوْنَ ألا يرجعُ إليهم قَوْلاً) .
(علم أن سيكون) .
(وحسبوا ألا تكون فتنة) - في قراءة الرفع.
الثالث: أن تكون مفسرة بمنزلة أي، نحو: (فأوحينا إليه أن اصنَعِ الفلْكَ
بأعيننا) ، (ونودوا أن تلكم الجنة) .
وشرطها أن تسبق بجملة، فلذلك غَلِطَ مَنْ جعل منها: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وأن يتأخر عنها جملة، وأن يكون في الجملة السابقة معنى القول.
ومنه: (وانطلق الملأ منهم أن امْشوا واصبِروا) .
إذ ليس المراد بالانطلاق المشي، بل انطلاق ألَسنتهم بهذا الكلام.
كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف، بل الاستمرار على المشي.
وزعم الزمخشري أن التي في قوله: (أنِ اتخِذِي من الجبال بُيوتاً) - مفسرة.
__________
(1) - بفتح الياء من يتم ورفع الرضاعة وهي قراءة ابن محيصن. انظر إتحاف فضلاء البشر.(2/69)
ورُدَّ بأن قوله: (وأوْحَى ربّك إلى النَّحْل) ، والوحْيُ هنا إلهام باتفاق، وليس
في الإلهام معنى القول، وإنما هي مصدرية، أي باتخاذ الجبال.
وألا يكون في الجملة السابقة أحرف القول، وذكر الزمخشري في قوله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) - أنه يجوز أن
تكون مفسرة بالقول على تأويله بالأمر، أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن
اعبدوا الله.
قال ابن هشام: وهو حسن.
وعلى هذا فيقال في الضابط: ألَّا يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره.
قلت: وهذا من الغرائب كونهم يشترطون أن يكون فيها معنى القول، فإذا
جاء لفظه أوّلوه بما فيه مع صريحه، وهو نظير ما تقدم من جعلهم (ال) في
الآن زائدة مع قولهم بتضمنه معناها وألا يدخل عليها حرف جر.
الرابع: أن تكون زائدة، والأكثر أن تقع بعد لما التوقيفية، نحو: (ولما أنْ
جاءَتْ رسلُنا لوطاً) .
وزعم الأخفش أنها قد تنصب المضارع وهي زائدة، وخرج عليه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) ، قال: فهي زائدة، بدليل: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) .
الخامس: أن تكون شرطية كالمكسورة، قاله الكوفيون، وخرج عليه: (أنْ
تضِلَّ إحداهما) .
(أن صَدّوكم عن المسجدِ الحرام) .
(صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) .
قال ابن هشام:
ويرجِّحه عندي تواردهما على محل واحد والأصل التوافق.
وقد قُرِئ بالوجهين في الآيات المذكورة، ودخول الفاء بعدها في قوله: (فتذكر) .
السادس: أن تكون نافية، قاله بعضهم في قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) : أي لا يؤتى.(2/70)
والصحيح أنها مصدرية، أي ولا تؤمنوا أن يؤتى، أي بإيتاء أحد.
السابع: أن تكون للتعليل كـ إذ، قاله بعضهم في قوله: (بل عَجِبوا أنْ
جاءَهم منْذِرٌ منهم) .
(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا) .
والصواب أنها مصدرية وقبلها لام التعليل مقدرة.
الثامن: أن تكون بمعنى لئلا، قاله بعضهم في قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، أي لئلا تضِلوا.
والصواب أنها مصدرية، والتقدير كراهة أن تضلوا.
***
(إنَّ) بالكسر والتشديد - على أوجه:
أحدها: التأكيد والتحقيق، وهو الغالب، نحو: (إن اللهَ غَفورٌ رحيم) .
(إنا إليكم لَمرْسلون) .
قال عبد القاهر: والتأكيد بها أقوى من التأكيد باللام.
قال: وأكثر مواقعها بحسب الجواب لسؤال ظاهر أو مقدر إذا
كان للسائل فيه ظن.
الثاني: التعليل، أثبته ابن جني وأهل البيان، ومثّلوه بنحو: (واستَغْفِروا اللهَ
إن اللَهَ غفورٌ رحيم) .
(وَصَلِّ عليهم إن صَلاتَك سكَنٌ لهم) .
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) .
وهو نوع من التأكيد.
الثالث: معنى نعم، أثبته الأكثرون، وخرَّج عليه قوم: (إن هذان
لساحِرَان) .
***
(أنَّ) بالفتح والتشديد - على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف تأكيد.
والأصحّ أنها فرع المكسورة، وأنها موصول حرفِيّ تؤوَّل مع اسمها وخبرها بالمصدر، فإن كان الخبر مشتقاً فالمصدر المؤول به من لفظه، نحو: (لِتَعْلَموا أنَّ اللهَ على كل شيء قَدِير) .، أي قدرته.
وإن كان جامداً قدِّر بالكوْن.(2/71)
وقد استشكل كونها للتأكيد بأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك لم يُفد
توكيداً.
وأجيب بأن التأكيد للمصدر المنحل، وبهذا لم يفرق بينها وبين إن
المكسورة، لأن التأكيد في المكسورة للإسناد، وهذه لأحد الطرفين.
الثاني: أن تكون لغة في لعل، وخرج عليها: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) - في قراءة الفتح، أي لعلها.
***
(أنَّى)
اسم مشترك بين الاستفهام والشرط، فأما الاستفهام فترِد فيه بمعنى
كيف، نحو: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) .
(فأنَّى يؤفَكون) .
ومن أين، نحو: (أنّى لكِ هذا) ، أي مِنْ أين.
(قُلْتم أفى هذا) ، أي من أين جاءنا.
قال في عروس الأفراح: والفرق بين أيْن ومِنْ أين أن أين سؤال عن المكان
الذي حلّ فيه الشيء.
ومن أين سؤال عن المكان الذي برز منه الشيء، وجعل
من هذا المعنى ما قُرِئ شاذاً: (أنَّى صبَبْنَا الماءَ صَبّاً) .
وبمعنى متى، وقد ذكرت المعاني الثلاثة في قوله تعالى: (فأتوا حَرْثَكم أنَّى
شِئْتم) ، فأخرج ابن جرير الأول من طريق ابن عباس.
وأخرج الثاني عن الربيع بن أنس واختاره، وأخرج الثالث عن الضحاك، وأخرج قولاً رابعاً عن ابن عمر وغيره: أنها بمعنى حيث شئتم.
واختار أبو حيان وغيره أنها في الآية شرطية، وحذِف جوابها لدلالة ما قبلها
عليه، لأنها لو كانت استفهامية لاكتفت بما بعدها كما هو شأن الاستفهامية أن يكتفى بما بعدها وأن يكون كلاماً يحسنُ السكوت عليه أو اسماً أو فعلاً.
***
(أو)
حرف عطف ترد لمعان:
الشك من المتكلم، نحو: (قالوا لَبِثْنَا يوماً أو بَعْضَ يوم) .(2/72)
والإبهام على السامع، نحو: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) .
والتخيير بين المعطوفين بأن يمتنع الجمع بينهما.
والإباحة بألا يمتنع الجمع.
ومثل الثاني بقوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) الآية.
ومثل الأول بقوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) .
وقوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) .
واستشكل بأن الجمع في الآيتين غير ممتنع.
وأجاب ابن هشام بأنه ممتنع بالنسبة إلى وقوع كلِّ كفارة أو فِدْية، بل تقع
واحدة منهن كفّارة أو فدية.
والثاني قربة مستقلة خارجة عن ذلك.
قلت: وأوضَح من هذا التمثيل قوله: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) .
على قول مَنْ جعل الخيرة في ذلك إلى الإمام، فإنه يمتنع
عليه الجمع بين هذه الأمور، بل يفعل منها واحداً يؤدي اجتهاده إليه.
والتفصيل بعد الإجمال، نحو: (وقالوا كونوا هوداً أو نَصَارى تَهْتَدوا) .
(قالوا ساحر أو مَجْنون) ، أي قال بعضهم كذا، وقال بعضهم كذا.
والإضراب كَـ بَلْ، وخرِّج عليه قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) .
(فكان قَابَ قَوْسَيْن أو أدنى) .
وقراءة بعضهم: (أوْ كلَّما عاهَدوا عَهْداً) - بسكون الواو.
ومطلق الجمع كالواو، نحو: (لعلَّه يتذكّر أو يخشَى) .
(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) .(2/73)
والتقريب، ذكره الحريري وأبو البقاء، وجعل منه: (وما أمْرُ الساعةِ إلا
كلَمْح البصر أو هو أقْرَبُ) .
ورُدّ بأن التقريب مستفاد من غيرها.
ومعنى إلا في الاستثناء، ومعنى إلى، وهاتان ينصب المضارع بعدهما بـ أن
مضمرة، وخرج عليه: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) .
فقيل: إنه منصوب لا مجزوم بالعطف على "تَمَسُّوهُنَّ"، لئلا يصير المعنى: لا جناح عليكم فما يتعلق بمهور النساء إن طلقتموهنَّ في مدة انتفاء أحدِ هذين الأمرين، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس لزم مهر المثل، وإذا انتفى السيس دون الفرض لزم نص@ السقَى.
فكيف يصح رَفْعُ الجناح عند انتفاء أحد الأمرين، ولأن المطلقات المفروض لهنَّ قد ذكر ثانياً بقوله: (وإنْ طلقتموهنَّ) .
وترك ذِكْر الممسوسات بما تقدم من المفهوم.
ولو كان (تفرضوا) مجزوماً لكانت الممسوسات والمفروض
لهن مستوياتٍ في الذكر.
وإذا قدرت (أو) بمعنى إلا خرجت المفروض لهن
عن مشاركة الممسوسات في الذكر، وكذا إذا قدرت بمعنى (إلى) وتكون غاية
لنفي الجنَاح لا لنفي المسيس.
وأجاب ابن الحاجب عن الأول بمنع كون المعنى مدَة انتفاء أحدهما، بل مدة
لم يكن واحد منهما، وذلك ينفيهما جميعا، لأنه نكرة في سياق النفي الصريح.
وأجاب بعضهم عن الثاني بأن ذكر المفروض لهن إنما كان لتعيّن النصف لهن
لا لبيان أن لهن شيئاً في الجملة.
ومما خرج على هذا المعنى قراءة أُبَيّ: (تقاتلونهم أو يسْلِمون) .
تنبيهات
الأول: لم يذكر المتقدمون لـ (أوْ) هذه المعاني، بل قالوا: هي لأحد الشيئين أو الأشياء.(2/74)
قال ابن هشام: وهو التحقيق، والمعاني المذكورة مستفادة من القرائن.
الثاني: قال أبو البقاء: أو في النهي نقيضة أو في الإباحة، فيجب اجتنابُ
الأمرين، كقوله: (ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كَفُورا) ، فلا يجوز
فعل أحدهما، فلو جمع بينهما كان فاعلاً للمنهي عنه مرّتين، لأن كل واحد منهما كان منهيّاً عنه لا أحدهما.
وقال غيره: (أو) في هذا بمعنى الواو تفيد الْجَمع.
وقال الخطيب: الأوْلى أنها على بابها، وإنما جاء التعميم فيها من النهي الذي
فيه معنى النفي، والنكرة في سياق النفي تعمُّ، لأن المعنى قبل النهي: تطيع آثماً أو كفورا، أي واحدًا منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتاً، فالمعنى لا تطع واحداً منهما، فالتعميم فيها من جهة النفي، وهي على بابها.
الثالث: لكَوْن مبناها على عدم التشريك عاد الضمير إلى مفردها بالإفراد.
بخلاف الواو.
وأما قوله: (إنْ يكنْ غنيّاً أو فقيراً فاللَهُ أوْلى بهما) .
فقيل إنها بمعنى الواو.
وقيل المعنى إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين.
فائدة
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن فيه (أو)
فهو مخيّر، فإذا كان ممن لم يخير فهو الأول فالأول.
وأخرج البيهقي في سننه عن ابن جريج.
قال: كل شيء في القرآن فيه (أو) فالتخيير إلا قوله: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) .، ليس بمخيَّر فيهما.
قال الشافعي بهذا أقول.
(أوْلَى) في قوله: (أوْلَى لكَ فأولى) .
وفي قوله: (فأوْلى لهم) ، قال في الصحاح: قولهم: أوْلى لك، كلمة تهدد ووَعيد، قال الشاعر:
" فأوْلَى ثم أوْلى ثم أولى "(2/75)
قال الأصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به.
قال الجوهري: ولم يقل أحد فيها أحسن مما قاله الأصمعي.
وقال قوم: هو اسم فعل مبني، ومعناه أولى لك شر بعد شر، ولك تبيين.
وقيل: هو عَلَم للوعيد غير معروف، ولذا لم ينون، وإن محله رفع على
الابتداء ولك الخبر، ووزنه على هذا فَعْلى للإلحاق.
وقيل افعل.
وقيل معناه الويل لك، وإنه مقلوب منه.
والأصل أويل، فأخّر حرف العلة.
ومنه قول الخنساء:
همَمْت بنفسي بعض الهموم ... فأولى لِنَفْسِيَ أوْلى لها
وقيل معناه الذم لكَ أوْلى مِنْ تَرْكه، فحذف المبتدأ لكثرة دوَرانه في
الكلام.
وقيل المعنى أنتَ أولى وأجدر بهذا العذاب، كأنه يقول: قد وليت الهلاك.
أو قد دانيت الهلاك.
وأصله من الْولْيِ وهو القرب، ومنه قوله تعالى: (قاتِلُوا
الذين يَلونَكمْ من الكفار) ، أي يقربون منكم.
وقال النحاس: العرب تقول أوْلى لك، أي كدتَ تهلك، وكأنّ تقديره أولى
لك الهلكة.
***
(إيْ) بالكسر والسكون - حرف جواب بمعنى نعم، فتكون لتصديق
المخبر ولإعلام المستخبر، ولوَعْدِ الطالب.
قال النحاة: ولا تقع إلا قبل القسم.
قال ابن الحاجب: وإلا بعد الاستفهام، نحو: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي) .
***
(أيّ) بالفتح والتشديد - على أوجه:
الأول: أن تكون شرطية، نحو: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ) .
(أيّا ما تدْعُوا فَلَه الأسماءُ الْخسنَى) .
الثاني: استفهامية، نحو: (أيّكمْ زَادَتْه هذه إيماناً) .(2/76)
وإنما يُسأل بها عما يميز أحدَ المتشاركين في أمر يعمهما، نحو: (أيُّ الفريقين خَيْرٌ مَقَاماً) ، أنحن أم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: موصولة، نحو: (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) .
وهي في الأوجه الثلاثة معربة.
وتبنى في الوجه الثالث على الضم إذا حذف
عائدها وأضيفت كالآية المذكورة.
وأعربها الأخفش في هذه الحالة أيضاً، وخرَّج عليه قراءة بعضهم بالنصب.
وأول قراءة الضم على الحكاية، وأوّلها غيره
على التعليق للفعل.
وأوّلها الزمخشري على أنها خبر مبتدأ محذوف.
وتقدير الكلام لننزعنّ بعض كل شيعة، فكأنه قيل مَنْ هذا البعض؟ ، فقيل: هو الذي بالمكر أشدّ، فحذف المبتدآن ثم المكتَنِفَان لـ أي.
وزعم ابن الطراوة على أنها في الآية مقطوعة عن الإضافة مبنية، وأيهم أشدّ
مبتدأ وخبر.
ورُد برسم الضمير متصلاً بأي، وبالإجماع على إعرابها إذا لم تضَفْ.
الرابع: أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل، نحو: يا أيها الناس.
يا أيها النبي.
***
(إيَّا) زعم الزَّجاج أنه اسم ظاهر.
والجمهور أنه ضمير.
ثم اختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: أنه كله ضمير هو وما اتصل به.
والثاني: أنه وحده ضمير، وما بعده اسم مضاف له يفسّره ما يراد به من
تكلُّم أو غيبة أو خطاب، نحو: (فإيّايَ فارْهَبون) .
(بل إياه تدْعون) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) .
والثالث: أنه وَحْده ضمير وما بعده حروف تفسر المراد.
والرابع: أنه عماد وما بعده هو الضمير.
وقد غلط من زعم أنه مشتق.(2/77)
وفيه سبع لغات - وقرئ بها: تشديد الياء، وتخفيفها مع الهمزة، وإبدالها هاء مفتوحة ومكسورة.
هذه ثمانية يسقط منها فتح الهاء مع التشديد.
***
(أيَّان)
اسم استفهام، وإنما يُستفهم به مع الزمان المستقبل، كما جزم به ابن
مالك وأبو حيان، ولم يذكرا فيه خلافاً.
وذكر صاحب إيضاح المعاني مجيئها للماضي.
وقال السكاكي: لا تستعمل إلا في مواضع التفخيم وغيره.
وقال بالأول من النحاة علي بن عيسى الرّبَعي، وتبعه صاحب البسيط، فقال: إنها تستعمل في الاستفهام عن الشيء المعظّم أمره.
وفي الكشاف: قيل إنها مشتقة من أيّ، فَعْلان منه، لأن معناه أي وقت.
وأي فعل، من أويت إليه، لأن البعض أوى إلى الكل ومتساند له، وهو بعيد.
وقيل أصله أي آن.
وقيل أي أوان، حذفت الهمزة من أوان والياء الثانية من
أي، وقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء الساكنة فيها.
وقرئ بكسر همزتها.
***
(أيْنَ)
اسم استفهام عن المكان، نحو: (فأين تَذْهَبون) .
ويَرد شرطاً عامًّا في الأمكنة.
وأيمنا أعَمُّ منها، نحو: (أيْنمَا يوَجِّهْه لا يَأت بخير) .(2/78)
(حرف الباء - المفردة)
(بَطَائِنها) ، أي ظواهرها بالقبطية، قاله الزركشي وابن شَيْذَلة.
(بلاء) على ثلاثة معان: نِعْمة، واختبار، ومكروه، ومنه: ابْتَلَى ونبلُوكم.
(بارئكم) خالقكم.
وإنما خص هنا اسم البارىء لأن فيه توبيخاً للذين
عبدوا العِجْل، كأنه يقول: كيف عبدتم غير الذي برأكم.
وروي أن من لم يعبد العجل قَتل مَنْ عبده حتى بلغ القتل سبعين ألفاً، فعفا الله عنهم.
(باءُوا) انصرفوا بذلك.
ولا يقال (باء) إلا بشّرٍ.
ويقال باء بكذا إذا أقرَّ به.
والضمير في هذه الآية راجع إلى بني إسرائيل، فتارة دعاهم بالملاطفة.
وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخفيف، وتارة بإقامة الحجة
وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذِكر العقوبات التي عاقبهم بها.
فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: (إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) .
(وإذْ فَرَقْنَا بكم البَحْرَ) .
(بعثناكم من بعد موتكم) ، (وظَلّلْنَا عليكمُ الغَمام وأنْزَلْنَا عليكم المنّ والسَّلْوَى) .
(وعفونا عنكم) . (فتاب عليكم) .
(ويغفر لكم) .
(آتيْنَا مُوسى الكتابَ والفُرْقَان لعلكم تَهْتدون) .
(فانفجرت منه اثنتا عشرة عَيْنا) .
وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء، قولهم: (سمِعْنَا وَعَصيْنا) .
(ثم اتخذْتُم العِجْل) .
وقولهم: (أرِنَا اللهَ جَهْرة) ، (فبَدّلَ الذين ظلمُوا) ، (لن نصبر على
طعام واحد) . (ويحرِّفونه) ، وتوَلّيتُم من بعْد ذلك)(2/79)
(وَقَسَتْ قلوبُكم) .
(وكفْرهم بآيات الله) .
(وقتلهم الأنبياء بغير حق) .
وذكر من عقوبتهم عشرة أشياء: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) .
(يعطوا الجزية) ، (واقتلوا أنفسكم) ، (كونوا قِرَدةً) .
(فأرْسلْنَا عليهم رِجْزاً من السماء) .
(وأخذتهم الصاعقة) .
(حَرَّمْنَا عليهم طَيِّبَاتٍ أحلَّتْ لهم) .
وهذا كله جزاءٌ لآبائهم المتقدمين.
وخوطب به المعاصرون لمولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد وُبِّخ المعاصرون له توبيخا آخر، وهي عشرة: كتمانهم أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - مع معرفتهم به و (يحرِّفُون الكلِمَ) ، ويقولون هذا من عند الله، (وتَقْتلون أنفسكم) و (يخرِجون فريقاً مِنْ دِيَارهم) .
وحرصهم على الحياة وعَدَاوتهم لجبريل.
وإثباتهم للسحر.
وقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، (يَدُ اللهِ مغلولة) .
(بديع) : مخترع، وخالق.
(بثَّ فيها) : أي فرَّق.
(باغ) : طالب.
وقوله: (غير باغ ولا عَادٍ) ، أي لا يبغي الميتة، أي لا يطلبها وهو يَجِدُ غيرها، ولا عادٍ في تجاوزه على الشبع، ولهذا
لم يُجزِ الشافعي الشبع من الميتة.
وقال مالك: بل يشبع ويتزوّد، فإن استغنى عنها
طرحها، ولم يرخّص - في رواية عنه - للعاصي بسفره أن يأكل الميتة.
والمشهور عنه الترخيص له.
(باشِرُوهُنَّ) : المشهور أنه كناية عن الجماع، سمّي بذلك لمسّ البشرة
البشرةَ، والبشرة: ظاهر الجلدة.
والأدمة: باطنها، وفيها تحريمٌ للمباشرة حين الاعتكاف.
(بَسْطة) : أي سعة، من قولك: بسطت الشيء إذا كان مجموعاً ففتحته(2/80)
ووسّعته، ووصف في آية البقرة، طالوت بزيادته على قومه زيادة علمه
بالحروب وقيل بالعلم، وكان أطول رجل يصل إلى منكبيه.
قال وهب بن مُنَبه: أوحى اللَّهُ إلى نبيهم إذا دخل عليك رجلٌ فنَشّ الدهن
الذي في القَرَن فهو ملكهم.
وقال السدّي: أرسل الله إلى نبيهم شمويل وقيل شمعون، وقال له: إذا دخل
عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم، فكان ذلك طالوت.
وقوله في الأعراف: (وزادَكمْ في الخلق بَصْطَة) ، فمعناه طول
قوم عاد كما قدمنا أنَّ طول أحدهم مائة ذراع.
وكان الظبي يبيض ويفرخ في عين أحدهم.
(بَكَّة) هي مكة، والباء بدل من الميم.
وقيل: مكة الحرم كله، وبَكة المسجد
وما حوله، وسمِّيَتْ بذلك لاجتماع الناس فيها من كل أفق.
وقيل: تَمَككْت العظم: أي اجتذبت ما فيه من المخ.
وتمكلك الفَصيل ما في ضَرْع الناقة، فكأنها تجذب لنفسها ما في البلاد من الأقوات ببركة دعاء إبراهيم.
وقيل: إنها تمكُّ الذنوب أي تذهبها.
وقيل لقلة مائها، لأنها في بطن واد، تمكك الماء من جبالها عند نزول المطر، وتنجذب إليها السيول.
وقيل الأصل الباء، ومأخذه من البكّ، لأنها تَبكّ أعناق الجبابرة، أي تكسرهم فيذلّون لها ويخضعون حُفاة عراة.
وقيل من التباكّ وهو الازدحام، لازدحام الناس فيها في
الطواف.
(بيِّنات) يعني أن في مكة آياتٍ كثيرة، منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم
وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البِنَاء ارتفع الحجر في الهواء حتى أكمل البناء وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين، وذلك الأثر باق في الحجر إلى اليوم.
ومنها أن الطير لا تعلوه.
ومنها هلاك الفيل وردُّ الجبابرة عنه، ونَبْع زمزم(2/81)
لهَاجر أمّ إسماعيل بهمز جبريل بعقبه.
وحفر عبد المطلب لها بعد دثور مائها.
وأن ماءها ينفع لما شرِب له، إلى غير ذلك.
وكان أول مَنْ بنى المسجد الحرام آدم عليه السلام، فجعل طوله خمسة
وعشرين ذراعاً وعَرْضه عشرين، وحج إليه من الهند على قدميه سبعين حجة.
وقيل إنه دفن فيه.
ورُد بأن طوله ستون ذراعاً.
فقيل: ما فضل منه فهو خارج عن البيت.
وقيل: إنه دوّر بالبيت.
وهذا فيه ضعف، ثم بناه إبراهيم عليه السلام ثم العمالقة مِنْ بعده، ثم قريش حين كان - صلى الله عليه وسلم - ينقل الحجر على عاتقه:
وهو الذي وضع الحجر الأسود بتحكيم قريش عنده، ثم بناه الحجاج بعد أن
هَدَم بعضه عبد الله بن الزبير.
(بيَّت) ، أي قدم رأيه بالليل، ومنه قوله: (فجاءها بَأسنا بَيَاتا) ، وكذلك بيّتهم العدوّ.
(بَهيمة) : كلّ ما كان من الحيوان غير ما يعقل.
ويقال: البهيمة ما استبهم من الجواب، أي استغلق.
(بَحِيرة) : إذا نتجت الناقة خمسة أبطن فإن كان الخامس ذَكرا نَحَروه.
فأكله الرِّجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بَحَروا أذنها، أي شقّوها.
وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها.
فإذا ماتت حلّت للنساء.
ولما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم كتعظيم
الكعبة والْهَدْي، أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئاً لعباده من هذه البدائع التي كانت عندهم، وإنما جعلوا الكفَّار ذلك.
(بَغْتَة) ، أي فجأة، وفيه تنبيه على الاستعداد لها والتفكر في أمرها.
(بازغاً) : طالعاً.
والضمير في الآية يعود على القمر الذي رآه إبراهيم قبل
البلوغ والتكليف، وذلك أنْ أمَّه ولدَتْه في غَارٍ خَوْفاً من نمرود، إذ كان يقتل الأطفال، لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صعبي.(2/82)
ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه
على وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم، وهذا أرجح، لقوله بعد ذلك: (إني بريءٌ مما تشْرِكون) .
ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار، لأن ذلك يقتضي محاجَّة وردًّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون
الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم.
ويرْشِدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحد منها إلهاً لقيام الدليل
على حدوثها، وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغرونها وأفولها وانتقالها هو
الواحد المنفرد.
فإن قلت: لم احتجَّ بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال؟
قلت: الأفول أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب.
(بَيْنكم) :، وَصْلكم.
ومن قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الطرْف، واستعمله استعمال الأسماء، أو يكون البين بمعنى الفرْقَة، أو بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد.
ومن قرأه بالنصب فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف تقديره تقطّع الاتصال بينكم.
(بَصَائر) ، جمع تصِيرة، وهي نور القلب، والبَصر نور العين، وهذا الكلام على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (وما أنا عليكم بحَفِيظ) .
(بَوَّأكمْ) : أنزلكم، والضمير لقوم صالح، وكانت
أرضهم بين الحجاز والشام، وقد دخلها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال لهم: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا وأنتم باكون مخافةَ أن يصيبكم مثل الذي أصابهم.
(بأساً) : شدة.
ويقال أيضاً: بؤس، أي فقر وسوء حال.(2/83)
(بنَان) : أصابع، واحدتها بنانة.
(براءة) : خروج من الشيء ومفارقته.
والمراد التبرّي من المشركين.
(بوَّأْنا) ، أي أنزلنا.
والمراد أن الله أنزل بني إسرائيل
منزلاً حسناً، وهو مصر والشام.
ويقال جعلناهم مبَوّأ، وهو المنزل الملزوم.
(بادي الرأي) : أي أول الرأي من غير نظر ولا تدبر.
وبادي منصوب على الظرفية، أصله وقت حدوث أول رأيهم.
والعامل فيه اتبعوك على أصح الأقوال.
والمعنى اتبعك الأراذِل، وإنما وصفوهم بذلك
لفقرهم جهْلاً منهم، واعتقادا أن الشرف بالمال والجاه، وليس الأمر كما
اعتقدوا، بل المؤمنون كانوا أشرفَ منهم على حال فَقْرِهم وخمولهم في الدنيَا، وهذه عادة الله في أتباع الرسل، لا يتبعهم إلا الضعفاء، لأَن المال يُورِث التجبّر على الله ووسله.
وقيل: إنهم كانوا حاكَة ونجّامين.
واختار ابن عطية أنهم أرادوا أنهم أرذالٌ في أفعالهم، لقول نوح: وما علمي
بما كانوا يعملون.
ويحتمل أن يكون بادي الرأي بغير همز، أي ظاهر الرأي.
أي ظهر لهؤلاء صلاح رأيهم فتهكَّفوا بهم.
(بَعْلاً) : ربًّا، بلغة اليمن.
وأما قوله في الصافّات: (أتدْعونَ بَعْلاً) ، فهو اسم صنم كان لقوم إلياس.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: ودّ، وسوَاع، ويغوث، ويعوق.
ونَسْرا، وبعلاً، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعْبد، حتى إذا هلك أولئك وتفسخ العلم عبدت.
(بَعِير) قال مقاتل: هو كل ما يحمل عليه بالعبرانية.
وأخرج البزار عن مجاهد في قوله: (كَيْل بَعير) ، أي كيْل حمار على وجه الجعل.(2/84)
(بِقَيَّة الله) ، أي ما أبقاه الله لكم من الحلال فلا نحرمه
عليكم، فيه مقنع ورضا عن الحرام.
(بَعِدَت) ، أي هلكت.
والضمير يعود على قوم صالح.
(بَخْس) : نقصان، وإنما نهاهم عن البخس لأنهم كانوا ينقصون في الكيل
والوَزْنِ، فبعث الله شعيباً لينهاهم عن ذلك.
(بثِّي) : أي شدّة حُزْني، وإنما ردّ يعقوب شَكواه إلى الله لتفنيدهم، أي
إنما أشكوا إلى الله لا لكم ولا لغيركم.
والحزن: أشدُّ الهمِّ.
فالمعنى أنه لا يصبر عليه صاحبه حتى يشكوه.
(بَصِيرة) : إشارة إلى شريعة الإسلام، أي أدعو الناس إلى عبادة الله وأنا
على بصيرة من أمري وحجَّةٍ واضحة.
(بشير) المراد به في قصة يوسف يهوذا، لأنه الذي جاء بقميص الدم.
فقال لإخوته: إني ذهبت إليه بقميص التَّرْحَة، فدَعوني أذهب إليه بالفرحة.
وهو من البشارة والإعلام بالخير قبل وروده.
وقد تكون للشر إذا ذكر معها كقوله: (فبَشِّرْهم بعذابٍ أليم) - تهكماً بهم.
ويجوز في الفعل التشديد والتخفيف.
ومنه الْمبشِّر والبشير، واستبشر بالشيء إذا فرح به.
(بعثناهم) : أحييناهم من قبورهم.
ويقال: بعث الرسل إلى قومهم ساروا إليهم.
(الباقيات الصالحات) : هي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
هذا قول الجمهور.
وقد روي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل الصلوات الخمس، وقيل الأعمال الصالحة على الإطلاق.
(بارزة) : ظاهرة لزوال الجبال عنها، فليس فيها ظلٌّ(2/85)
ولا فَيء، وقد وصفها - صلى الله عليه وسلم - في الحديث كقرصة النَّقْي ليس فيها عَلَم لأحد، ويقال للأرض الظاهرة البَرَاز.
(بَغِيًّا) البَغِي: المرأة المجاهرة بالزِّنى، ووَزْن بَغي فَعول.
ومنه: (ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتكم عَلَى البِغَاء) .
وكان لعبد الله بن أبيّ بن سَلول جاريتان، فكان يأمرهما بالزنى لتكتسبا ويولد لهما، ويضربهما على ذلك، فشكتا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فِعْله.
(بَهيج) : حسن، أي يبهج مَنْ يَرَاة ويسرّه.
والبهجة السرور أيضاً.
(بيت عَتِيق) : المراد بالبيت، المسجد الحرام، وسُمِّي عتيقاً
لأنه أقدم ما في الأرض ولم يملك.
وقيل إن الله يعتق من دخله من النار إذا توفَّاهم على توحيده وما عليه نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل العتيق: الكريم، كقولهم فَرَس عتيق.
(بادٍ) : أي قادم عليه.
والمعنى أن الناس سواء في المسجد الحرام، فيجوز
للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها ملك.
(بَرْزَخ) ، أي حاجز.
والمراد به مكان المؤمنين في المدة التي بين الموت والقيامة، وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا.
وأما قوله في الفرقان: (وجل بينهما بَرْزَخا) ، أي فاصلاً يفصل ما بينهما
من الأرض بحيث لا يختلطان.
وقيل هذا البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر.
(بَغَى عليهم) : تكبّر وطَغى.
والضمير لقارون، وذلك أنه كفَر بموسى للمال الذي أعطاه الله، فدعا عليه فخسف الله به وبداره الأرض لئلا تقول بنو إسرائيل إنما دعا عليه ليرث ماله، لأنه كان ابن عمِّ موسى، وقيل عمه.
(بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ، شبّه الجواري بالبَيْض بياضا وملاسة(2/86)
وصفاءَ لون، وهي أحسن منه، وإنما وقع التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي، وهو المكنون، أي المصون تحت القشر الأول.
(بَطْشة) أخذه بشدة، والمراد بها في آية الدخان، يوم بَدْر.
وقال ابن عباس: هي يوم القيامة.
(بَدْر) : قرية قرب المدينة.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كانت بدر لرجل من جهينة يسمى بدراً
فسمِّيَتْ به.
قال الواقدي: فذكر ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأَنْكرا ذلك.
وقالا: فلأي شيء سُمِّيت الصفراء ورابغ.
هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع.
وأخرج الضحاك قال: بَدْر ماء بين مكة والمدينة.
(البيت العمور) ،: بيت في السماء الرابعة حيال الكعبة يدخله
كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه، وبهذا عُمْرانه.
وقيل البيت المعمور الكعبة، وعمرانها بالحجاج والطائفين، فلا يخلو منهما
أبداً إن لم تكن من البشر كانت من الملائكة.
والأولُ قول عليٍّ وابن عباس.
(بَرَقَ البصر) ، بفتح الراء، معناه لمع وصار له بريق.
وقرئ بكسر الراء، ومعناه تحيَّر من الفزع.
وقيل معناه شخص، فيتقارب معنى الفتح
والكسر.
وهذا إخبارٌ عن يوم القيامة.
وقيل عن حالة الموت، وهذا خطأ، لأن القمر
لا يخْسَف عند موت أحد، ولا يجمع بينه وبين الشمس.
(بَاسِرة) : متكرهة، أي تظهر عليها الكراهة، والبسور
أشدُّ من العبوس.
(برْداً) ، أي نوماً.
وليس بصحيح، وإنما هو البرد، يعني أنهم(2/87)
لا يذوقون فيها برودة تخفف عنهم حرَّ النار.
وقيل: لا يذوقون ماءً باردًا.
(البلد الأَمين) ، هو مكة باتفاق.
والأمين من الأمانة، أو من الأمْن لقوله: (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) .
وقوله: (أو لَمْ نمَكن لهم حَرَماً آمِناً) ، أي لا يغَارُ عليه.
(بريّة) ، خلق، مأخوذ مِنْ برأ الله الخَلْق، فترك همزها.
ومنهم مَنْ يجعلها من البَرَى، وهو التراب لخلق آدم عليه السلام من التراب.
وتخفيف الهمز أكثر استعمالاً عند العرب.
(بَصِيرة) من البصر، يقال أبصرته وبصرت به.
والبصائر: البراهين، جمع بَصِيرة وقوله: (بل الإنسان عَلَى نفْسِه بَصيرة) . أي من الإنسان على نفسه عَيْن بصيرة، أي جوارِحه يشهدن عليه بجميع عمله.
وقيل معناه الإنسان بصير على نَفسه.
والهاء دخلت للمبالغة كما دخلت في عَلاَّمة ونَسَّابة.
ونحو ذلك (مُبْلسون) ، جمع مُبْلس، وهو البائس، وقيل الساكت الذي انقطعت حجته، وقيل الحزين النادم. ومنه يبلس، ومنه اشتقَّ إبليس.
(بات) معروف، ومصدره بَيَات
(بُكمٌ) : خرْس، والضمير راجع للمنافقين، وليس المراد به فَقْد الحواس.
وإنما هذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم.
(برهانكم) : حجَّتكم، وإنما طلب منهم الحجة على وجه التعجيز والرد
عليهم.
يقال: بَرْهَن على الشيء إذا بيَّنَه بحجةٍ.
(فبُهتَ الذي كفر) : أي انقطع وقامت عليه الحجة.
والضمير يعود على نمرود.(2/88)
فإن قيل: انتقل إبراهيم عن الدليل الأول من الإحياء والإماتة إلى الثاني،والانتقال علامة الانقطاع.
فالجواب أنه لم ينقطع، ولكنه لما ذكر الدليل الأول وهو الإحياء كان له
حقيقة، وهو فعل الله، ومجاز وهو فعل غيره، فتعلق نمرود بالمجاز غلطاً منه أو مغالطة، فحينئذٍ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني، لأنه لا مجاز له، ولا يمكن الكافر عدول عنه.
(بُروج) : حصون، واحدها بُرْج.
وبروج السماء من الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجاً تقطعها الشمس في سنةٍ.
وقيل هي النجوم العظام، لأنها تتبرَّج أي تَظْهر.
(بُورًا) : هَلْكى.
(بكيًّا) ، جمع باك، ووزنه فعول، فأدغمت الواو في الياء
وكسرت الكاف فصارت بكياً.
(بُدْن) : جمع بَدَنة، وهي ما جعل في الأضحى للنّذْر والنّحر وأشباه
ذلك، فإذا كانت للنحر على كل حال فهي جزور.
(بُسَّتِ الْجِبَالُ) ، أي فتِّتَتْ.
وقيل سيِّرَتْ حتى صارت كالدقيق والسويق المبسوس، أي المبلول.
(بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ، لاصق بعضه ببعض لا يغادِر منه شيء منه شيئا، ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظة.
(بِرّ) ، ومنه، (ولكن البِرّ مَنْ آمن بالله) .
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
(بطانَة) : دخلاً، وبطانة الرجل أهل سِرّه ممن يسكن إليه ويثق بموَدّته.
ومعنى الآية، نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم.(2/89)
وقيل لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلاً من النصارى لا أحد أحسن خطًّا
منه، أفلا يكتب عنك، فقال: إذاً أتّخِذُ بطانةً من دون المؤمنين.
(بِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا) : معناه مبادرة لكبرهم، يعني أن الوصي
يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر.
وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية بـ بداراً، أو على المفعول من أجله
تقديره مخافة أن يكبروا.
(بضاعة) : قطعة من المال يُتَّجَر فيها.
(بِضْعَ سنين) : من الثلاثة إلى العشرة. وقيل إلى التسعة.
وقيل إلى السبعة.
ورُوي أن يوسف عليه السلام سُجن خمس سنين أولاً، ثم سُجن بعد قوله
ذلك سبع سنين.
(بِيَع) : جمعِ بيعة النصارى، وهي كنائسهم.
قال الجواليقي في كتاب المعرب: البِيعة والكنيسة جعلهما بعض العلماء
فارسيين معربين.
والمعنى لولا دفاعُ الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم.
ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهَدَموا مواضع عبادتهم.
(بِدْعاً) من الرّسل.
البديع من الأشياء: ما لم يُرَ مثله، أي ما كنتُ أولَ
رسول ولا جئتُ بأمر لم يجئ به أحد قبلي، بل جئتُ بما جاء به قبلي ناس
كثيرون، فلأي شيء تنكرون عليَّ.
***
(الباء حرف جر) ، له معان:
أولاً: الإلصاق، ولم يذكر له سيبويه غيره.
وقيل: إنه لا يفارقها، قال في شرح اللب: وهو تعلُق أحد المعنيين بالآخر.
ثم قد يكون حقيقة نحو:
(وامسحوا برءوسكم) ، أي ألصقوا المسح برءوسكم.(2/90)
(فامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم منه) ، وقد يكون مَجَازاً، نحو:
(وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) ، أي بمكان يقربون منه.
الثاني: التعدية كالهمزة، نحو: (ذهب الله بِنُورِهم) .
(ولو شاء الله لذهب بِسَمْعهم) ، أي أذهبه، كما قال: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) .
وذهب المبرد والسهيلي أن بين تعدية الباء والهمزة فَرْقاً، وأنك إذا قلت
ذهبت بزيد كنت مصاحباً له في الذهاب، وردّ في الآية.
الثالث: الاستعانة، وهي الداخلة على آلة الفعل، كباء البَسْمَلة.
الرابع: السببيّة، وهي التي تدخل على سبب الفعل، نحو: (فكلاَّ أخَذْنَا
بذَنْبِه) .
(ظلمْتُم أنْفُسَكم باتّخَاذِكم العِجْلَ) .
ويعبّر عنها أيضاً بالتعليل.
الخامس: المصاحبة، كمع، نحو: (اهْبِطْ بسلام) .
(جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) ، (فسبِّح بِحَمْدِ ربك) .
السادس: الظرفية، كَـ فِي زَمَاناً ومكاناً، نحو: (نجيناهم بِسَحَر) .
(نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) .
السابع: الاستعلاء كـ عَلى، نحو: (إنْ تَاْمَنْه بِقِنْطَارٍ) ، أي عليه.
الثامن: المجاوزة كعن، نحو: (فَاسْألْ بِهِ خَبِيراً) ، أي عنه، بدليل: يسألون عن أنبائكم.
ثم قيل: تختصّ بالسؤال، وقيل لا، نحو: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) ، أي وعن أيمانهم.
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) ، أي عنه.
التاسع: التبعيض كمِنْ، نحو (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) ، أي منها.(2/91)
العاشر: الغاية كـ إلى، نحو: (وقد أحسن بي) ، أي إليَّ.
الحادي عشر: المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، نحو: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .
وإنما لم نقدِّرها بالسببية كما قالت المعتزلة.
لأن المعطي بِعوض قد يُعطي مجاناً.
وأما المسبّب فلا يوجد بدون السبب.
الثاني عشر: التوكيد، وهي الزائدة، فتزاد في الفاعل وجوباً، نحو: (أسْمِعْ
بهم وأَبصر) ..
وجوازاً غالباً، نحو: (وكفَى باللهِ شَهيدا) ، فإنَّ الاسم الكريم فاعل.
و (شهيداً) نصب على الحال أو التمييز، والباء زائدة، ودخلت لتأكيد الاتصال، لأن الاسم في قوله: (كفى باللَه)
- متصل بالفعل اتصالَ الفاعل.
قال ابن الشَّجَري: وفعل ذلك إيذانا بأنّ الكفاية من الله ليست كالكفاية من
غيره في عظْم المنزلة، فضوعف لفظها لتضاعف معناها.
وقال الزجاج: دخلت لتضمّن كفي معنى اكتفى.
قال ابن هشام: وهو من الحُسْنِ بمكان.
وقيل: الفاعل مقدّر.
والتقدير كفى الاكتفاء بالله، فخذف المصدر وبقي
معموله دالاًّ عليه، ولا تزَاد في فاعل كفى بمعنى وقى، نحو: (فسيكفيكهم
الله) .
(وكفى الله المؤمنين القتال) .
وفي المفعول، نحو: (ولا تلْقوا بأيديكم إلى التّهْلُكة) .
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) .
(فَلْيَمْددْ بسببِ إلى السماء) .
(ومَنْ يرد فيه بإلْحَادٍ) .
وفي المبتدأ، نحو: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، أي أيكم.
وقيل: هي ظرفية، أي في أي طائفة منكم.
وفي اسم ليس في قراءة بعضهم: (وليس البِرَّ بأن تأتوا) ، - بنصب البر.(2/92)
وفي الخبر النفي، نحو: (وما الله بغافِل) آ.
قيل: والموجَب، وخرّج عليه: " جزاء سيئة بمثلها ".
وفي التوكيد، وجعل منه: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) .
فائدة
اختلف في الباء من قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ، فقيل للإلصاق.
وقيل للتبعيض. وقيل زائدة.
وقيل للاستعانة، وإن في الكلام حذفاً وقلباً، فإن مسح يتعدَّى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء، فالأصل امسحوا رءوسكم بالماء.
***
(بل) : حرف إضراب إذا تلاها جملة.
ثم تارة يكون معنى الإضراب الإبطال لما قبلها، نحو: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) .
أي هم عباد مكْرَمون.
(أم يقولون به جِنَّة بل جاءهم بالحق) .
وتارة يكون معناها الانتقال من غرض إلى آخر، نحو: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا) .
فما قبل (بل) فيه على حاله.
وكذا قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) .
وذكر ابن مالك في شرح كافيته أنها لا تقع في القرآن إلا على هذا الوجه.
ووهّمه ابن هشام.
وسبق ابن مالك إلى ذكر ذلك صاحب البسيط، ووافقه ابن الحاجب، فقال في شرح المفصل: إبطال الأول وإثبات الثاني إن كانت في
الإثبات من باب الغلط، فلا يقع مثله في القرآن.
أما إذا تلاها مفرد فهي حرف عطف ولم يقع في القرآن كذلك.
***
(بلى) : حرف أصلي الألف.
وقيل: الأصل بل، والألف زائدة.
وقيل هي للتأنيث بدليل إمالتها.(2/93)
ولها موضعان: أحدهما أن تكون ردّاً لِنَفْي يقع قبلها، نحو: (ما كنّا نَعْمَلُ
مِنْ سوءٍ بلى) ، أي عملتم السوء.
(لا يبعَثُ اللَّهُ مَنْ يموت بلى) ، أي يبعثهم.
(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) .
(قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) .
ثم قال: (بلى) ، أى عليهم سبيل.
(وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الجنّةَ إلا مَنْ كان هوداً أو نصارى) ، ثم قال: (بلى) ، أي يدخلها غيرهم.
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) .
ثم قال: (بلى) ، أي تمسّهم ويخلدون فيها.
الثاني: أن تقع جواباً لاستفهام دخل على نَفْي فتفيد إبطاله.
سواء كان الاستفهام حقيقة، نحو: أليس زيد بقائم، فتقول: بلى.
أو توبيخاً، نحو: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى) .
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى.
أو تقريريّاً، نحو (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) .
قال ابن عباس وغيره: لو قالوا: نعم ...
كفَروا، ووجهه أن (نعم) تصديق للخبر بنفي
أو إيجاب، فكأنهم قالوا: لست ربنا، بخلاف بلى، فإنها لإبطال النفي، فالتقدير أنتَ ربّنا.
ونازع في ذلك السهيلي وغيره بأن الاستفهام التقريري خبر موجَب، ولذلك
منع سيبويه مَنْ جعل أم متصلة في قوله: (أفلا تبصرون أم أنا خير)) ، لأنها لا تقع بعد الإيجاب.
وإذا ثبت أنه إيجاب فنَعَمْ بعد الإيجاب تصديق له.
قال ابن هشام: ويُشْكل عليه أن (بلى) لا يُجاب بها عن الإيجاب اتفاقاً.
***
(بئس) : لإنشاء الذم لا يتصرف.
وقرئ بالهمز وتركه.
وقرئ على وزن فيعل وعلى وزن فيعيل، وكلها من معنى البؤس.
***
(بين) : قال الراغب: موضوع للخَلَل بين الشيئين ووسطهما.(2/94)
قال تعالى: (وجعلنا بينهما زَرْعا) ، وذلك أن أخوين من بني إسرائيل
أحدهما مؤمن والآخر كافر وَرِثا مالاً فاشترى الكافر بماله جنتَيْن، وأنفق المؤْمِنُ ماله في طاعة الله حتى افتقر، فعيَّره الكافر بفقره فأهلك الله مالَ الكافر.
وتارة تستعمل " بين " ظرفاً، وتارة اسماً، فمن الظرف: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
(فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) .
(فاحْكمْ بيننا بالحقِّ) .
ولا تستعمل إلا فيما له مسافة نحو: بين البلدان، أو له عدد مَّا اثنانِ
فصاعدًا، نحو: بين الرجلَيْن، وبين القوم.
ولا تضَاف إلى ما يقتضي معنى الوحدة إلا إذا كرّر، نحو: (ومِنْ بيْنِنَا
وَبَينِكَ) .
وقرئَ قوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالنصب على الظرف، وبالرفع على أنه مصدر.(2/95)
(حرف التّاء المثناة)
(تَلَقَّى آدَمُ) ، أي أخذ، وقبل، على قراءة الجماعة.
وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذه من اللقاء.
(تَوَّاب) : من أسماء الله.
والتوَّاب من العبْد: كثير التوبة.
(تاب) ، إذا رجع.
وتاب الله على العبد: ألهمه التوبة، أو قبل توبتَه.
(تَجْزي) : تقضي وتغْنِي.
ومنه: (لا تجْزِي نَفْسٌ عن نَفْسٍ شيئاً) .
يقال جزاه فلان دَيْنَه إذا قضاه.
وتجازى فلان ديْن فلان: أي تقاضاه.
والمتجازي: المتقا ضي.
(تَتْلون) : تقرؤون.
(تنسون) : تتركون.
(تَلبِسون) ،: تخلطون.
(تَعْثَوا) : تفسدوا.
(تعقلون) العاقل الذي يحبس نفسَه ويردها عن هواها.
ومن هذا قولهم: اعتقل لسان فلان، إذا حبس ومنع من الكلام.
(تَسْفِكون) تصبّون.
(تَظَاهَرون) : تتعاونون.
(تقتلون أنفسَكم) في هذا وفيما بعدها جاء مضارعاً مبالغة، لأنه أريد
استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لولا أن الله عَصَمه.
وضمير هذه الآية لقرَيظة، لأنهم كانوا حلفاء الأوس، والنَضير حلفاء الخزرج، وكان كلّ فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، وينفيه من موضعه إذا ظفر به.(2/96)
(تَهْوَى أنفسكم) ، أي تميل.
ومنه: (أفرأيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هَوَاه) ، أي ما تميل إليه نفسه.
(تشابهت قلوبُهم) ، الضمير للذين لا يعلمون والذين من
قبلهم، وتشابُة قلوبهم في الكفر، وفي طلب ما لا يصح أن يُطْلب.
وهو قولهم يكلِّمنا الله.
(تصريفِ الريَاحِ) ،: تحويلها من حال إلى حال جنوباً
وشمالاً ودَبُّوراً وصَباً وما بينها بصفات مختلفة، فمنها ملقِحَةٌ للشجر، وعقيم
وصر، وللنصر وللهلاك، كأنه تعالى يقول: خلقت الخفاش من الريح، وحفظت ملك سليمان فوق الريح، وأهلكت قوم عادٍ بالريح، ولقحت الشجر بالريح، ونحتّ ورَقها بالريح.
ونظيره: أخرجت ناقة صالح من الحجر، وأدخلت ولدها في الحجر.
وأهلكت قوم لوط بالحجر.
ونظيره: خلقت إبليس من النار، وحفظت إبراهيم في النار، وعذّبت الكفار
في النار.
ونظيره: خلقت آدَم من التراب، وحفظت أصحاب الكهف في التراب.
وأهلكت قوم عاد بالتُّراب، كلُّ ذلك إشارة لكم أنه ملك قادر وصابر قاهر.
(تَهْلُكة) : هلاك.
قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد.
وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العَيْلة.
وقيل: لا تقْنَطوا من الغربة.
وقيل: لا تقتحموا الهالك.
(تَرَبُّص أربعةِ أشهر) .، أي تمكث.
والآية في الإيلاء، إلا أنَّ مالكاً جعل مدة إيلاء العبْد شهرين، خلافاً للشافعي.
ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافاً للشافعي في قصره الإيلاء على الحلف بالله، ووجهُه أنها اليمين الشرعية.
ولا يكون مُوليآ عند مالك والشافعي(2/97)
إلا إذا حلف على مدة أكثر من أربعة أشهر.
وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا.
فإذا انقضت الأربعة الأشهر وقع الطلاق دون توقيف.
ولفظ الآية يحتمل القولين.
(تَختَانونَ أنفسَكم) ، أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان.
(تَعْضُلُوهُنَّ) : تمنعوهن من التزويج.
وأصله من عضلت المرأة إذا نشب ولدُها في بطنها وعند خروجه.
(تَيَمَّموا) ، أي تقصدوا الرديء للنفقة.
(تَسْأموا) : تملَّوا من الكتابة إذا ترددت وكثرَت، سواء كان الحق صغيراً
أوكبيرا.
(تَرْتَابوا) : تشكّوا.
(توراة) معناه الضياء والنور.
(تأويل) : مصير ومَرْجع وعاقبة.
يقال فلان تأوَّل الآية، أي نظر إلى ما يؤول معناها إليه.
وقد قدمنا الأخبار عن انفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن وذَمَّه لمن
طلب عِلْمَ ذلك من الناس، وإنما يقولون آمنا به على وجه التسليم والانقياد
والاعتراف بالعجز عن معرفته.
(تَخْلق من الطِّين) ، أي تقدِّر، يقال لمن قدر شيئاً
فأصلحه قد خلقه، فأما الخَلْق الذي هو الإحداث فهو لله وحده.
قيل إن عيسى لم يخلق غير الخفاش.
(تَقْوى) : مصدر مشتقّ من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه الخوف.
والتزام طاعةِ الله، وتَرْك معاصيه، فهو جِمَاع كل خير.
(تَهنُوا) : تضعفوا، وفيه تقوية للمؤمنين.(2/98)
(تَفرَّقوا) ، من الفرقة، وهي القطيعة، فنهى المؤمنين عن التدابُر والتقاطع.
إذ كان الأوس والخَزرَج يقتتلان لما رأى اليهود إيقاعَ الشر بينهم.
(تَمنَّوْن الموت) ، من التمنِّي.
وخُوطب به قوم فاتتهم غزوة بَدْرٍ فتمنَّوْا حضورَ قتال الكفار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستدركوا ما فاتهم من
الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد، وهو سبب الموت.
فإن قلت: قد صح النهي عن تمَنِّي لقاء العدو.
فالجواب: إنما نهي عن تمني لقائهم مع العدد القليل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "وسَلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا للقائهم، وتمنَّوا الشهادة في سبيل الله لنصرَةِ دينه".
(تَحُسُّونَهُمْ) ، تقتلونهم قتلاً ذَرِيعاً، يعني في أول الأمر.
(تنَازَعْتم) ، يعني وقع التنازع بين الرّماة، فَثبت بعضُهم كما أمِروا، ولم
يثبت بعضهم، فعفا الله عنهم بفضله ورحمته.
(تَعُولوا) ،: تميلوا.
وفي الآية إشارة إلى الاقتصار على الواحدة.
والمعنى أن ذلك أقرب إلى أن تَعولوا.
وقيل: يكثر عيالكم، وهذا غير معروف في اللغة.
(تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ، تجاوزوا الحدَّ، وترتفعوا عن الحق.
وهذا الخطاب للنصارى، لأنهم غلوا في عيسى حتى قالوا ابن الله.
(تَسْتَقْسِموا) : تستفعلوا، وهو طلب ما قسم له، وذلك أنهم
كانوا يكتبون على الأزلام - وهي السِّهَام - على أحدها: افْعَلْ، وعلى الآخر: لا تَفْعَلْ، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يفعل أمراً جعلها في خريطة، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج الذي فيه " افعل " فعل، وإن خرج الذي فيه " لا تفعل " تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب.
ومن هذا المعنى أخذ(2/99)
الفأل في المصحف والقرعة وزَجْر الطير، ونحوها مما لا يجوز فعله.
وقد شدَّدَ ابن العربي في النظر في شيء منها حتى جعلها من الكفر والعياذ بالله، مستدلاًّ بالآية: (ذلكم فِسْقٌ) .
وإنما حرّمه الله وجعله فِسْقاً لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها لما يُرام به من الاطلاع على الغيوب.
(تَنْقِمون منَّا) : أي تُنكرون منّا إلا إيماننَا بالله، وبجميع
كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يُعاب.
ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذين
يؤمن بهم، فتلا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... إلى آخر الآية.
فلما ذكر عيسى قالوا لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به.
(تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) : أي تنصرف بإثمي إذا قتلتني، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قُرْبانك.
أو بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي.
وإنما تحمَّل القاتل الإثمين لأنه ظالم، فذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: المستبان ما قالاَ فهو على البادي.
وقيل بإثمي، أي تحمل عنّي سائر ذنوبي، لأن الظالم تجعل عليه
في يوم القيامة ذنوب المظلوم.
(تُصغي) : تميل.
ومنه: (فقد صَغَت قلوبُكما) .
(تَلقَف) ، وتلقَم وتلهم بمعنى تبتلع.
ويقال: تلقّفه والتَقَفَهُ، إذا أخذه أخذاً سريعا.
وروي أن الثعبان أكَلَ ما صوَّروا من كذبهم، ملء الوادي، من حبالهم وعصيِّهم، ومدَّ موسى يده إليه فصار عصاً كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحْرِ، وليس في قُدْرة البشر، فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام.
(تجلّى) ، أي ظهر وبان، أما تجلّي الرب للجَبَل فإنما كان ذلك لأجل
موسى، لأنه سأل رُؤيته، فقال له: لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلّى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد، فإن استقر وأطاق الصبْر لرؤيتي ولهَيْبَتي أمكنَ أنْ ترى(2/100)
أَنتَ، وإن لم يُطقْ فأحرى ألاَّ ترى أنتَ، فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالاً
لموسى.
وقال قوم: المعنى سأتجلَّى لك على الجبل، وهو ضعيف، يبطله قوله:
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) .
وروِيَ أن طائرين ذكراً وأنثى كانا في الجبل، فلما سمعا طلبَ موسى الرؤية
قال لها الذَّكَر: نَفِرُّ من هذا الجبل، لأنَّا لا نقدر على رؤية الحق.
فقالت له: نقرُّ فيه لنفوز بحظ الرؤية، فيكون لنا فَخْر على سائر الطيور.
فقال لها الذكر: إذاً فيكون ذلك لك.
فلما تجلى الحقُّ للجبل تفتَّتَ حتى صار غبارا، وساخ في الأرض، وأفضَى إلى البحر، ولهذا كان رأي الأنثى فاسداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
شاوِروهنّ وخالفوهن.
(تَأَذَّنَ رَبُّكَ) : أعلم.
وتَفَعّل يأتي بمعنى أفعل، كقولهم أوعدني وتوعّدني.
(تَغَشَّاها) : علاها بالنكاح.
فسبحانَ مَنْ خاطب العرب بلغاتهم، إذ كانوا يتصرّفون بالتسمية لمسمى واحد، كالجماع، فتارة كنى عنه سبحانه بالسر والقُرْب
والنكاح.
وكانوا يوسعون في التسمية لاختلاف أحواله بأسماء، كتسمية طِفْلِ بني آدم
ولدا، ومن الخيل فَلُوًّا وفهْراً، ومن الإبل حواراً وفَصِيلاً، ومن البقر عِجْلاً، ومن الغنم سَخْلة، ومن الأرْنَب خِرْنقا، ومن الغزال خَشْفاً، ومن الكلب جَروا، إلى غير ذلك.
ويداً تلوّثَتْ بلحم غَمِرة، وبطين لثِقَة، وبطيب عَبِقة، وبوسخ وَضِرَة، إلى
غير ذلك.
وكطعنته بالرمح، وضربته بالسيف، ورميته بالسهم، ووكَزْتُه بالعصا وباليد، وَركَلْته بالرِّجل، إلى غير ذلك.
ويدل علي اتِّساع اللغة وكثرة فنونها أنهم قد جعلوا بألفاظها شبهاً بمعنى،(2/101)
فقالوا: خَلاَ، ولِمَا كثرَت حلاوته احْلَوْلَى، وللخشن إذا زادت خشونته
اخشَوْشَن.
ولثوبٍ خلقٍ إذا زاد رثاثةً اخلَوْلَق.
ولحائط مَيْل - بإسكان وسطه ليكون ميله ثابتاً، وحرّكوه فيما يتحرك كشجرة مَيل، وكالنّزَوَان وكالرَمَلان والْغَلَيان ليشبه لفظه معناه.
وبدائع اللغة كثيرةٌ، وحكمها وإعجازها في القرآن، ولا يحيط بجميعها إلا
نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(تَصْدِية) : تصْفيق بإحدى يديه على الأخرى، فيخرج
بينهما صوتٌ، وكانوا يفعلونها عند البيت إذا صلَّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم.
(تَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) : تجْبنوا وتذهب دولتكم، وهو استعارة.
(تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) : تظفر بهم، والضمير عائد على بني قرَيظة، لأنهم نقضوا العهد.
(تَفْتِنِّي) ، أي تؤثمني.
وقائل هذه المقالة الجَدُّ بن قَيْس، وكان من المنافقين لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غَزوة تَبوك، فقال: ائذن لي في
القعود ولا تفْتِنِّي برؤية بني الأصفر، فإني لا أصبر على النساء.
(تزهَق أنفسهم) ، أي تهلك، وهذا إخبار بأنهم يموتون على
الكفر.
(تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) ، أي تميل عن الحقّ.
وهذا الضمير راجع إلى من اتّبعه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة العُسْرة لما رأوا من الضّيق والمشقّة، فتاب الله عليهم عما كانوا يفعلون فيه.
(تَفِيض مِنَ الدمْعِ) ، أي تبكي وتسيل أعينهم بالدموع
حين قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: لا أجد ما أحملكم عليه في غزوة تبوك.
وفي هذا مدح لبني مُقرن.(2/102)
وقيل سبعة نَفَر مِنْ بطون شتى، ويكفيك وصفهم بالإحسان ونصْحهم لله
ولرسوله.
(تَبْلو) : تختبر ما قدمت من الأعمال.
وقرئ تتلو - بتاءين، بمعنى تتبع، أو تقرؤه في المصاحف.
(تَغْنَ بالأمْس) : تعمر.
والغاني: النازل التي يعمرها الناس بالنزول.
(تَرْهقهم) : تغشَاهم.
والضمير للذين كسبوا السيئات فلا يعصمهم أحد من عذاب الله.
ومنه قولهم: غلام مُرَاهِق، أي غشي الاحتلام.
(تَبْدِيل) : تغيير الشيء عن حاله، والإبدال جعل الشيء
بمكان شيء.
وقد استدل ابن عمر بهذه الآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن
يبدِّله.
(تَخْرُصون) ،: تحدسون وتحزرون.
(تلْفِتَنا) ، أي تصرفنا وتردَّنا عن دين آبائنا.
(تَزْدَري أعْيُنكم) ، أي تحتقر.
والمراد من قولك زريت على الرجل عبته.
والضمير في (لكم) عائد على ضعفاء المؤمنين.
(تَتْبِيب) : تخسير، أي كلما دعوتكم إلى هذا ازددتم
تكذيباً، فزادت خسارتكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن خبير في قوله: (ولِيُتبِّروا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) .
قال: تبره بالنبطية.
(تَرْكَنوا) ، أي تركنوا إليهم وتسكنوا إلى كلامهم.
ومنه قوله: (لقد كِدْتَ ترْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً) .
وفي الحديث: يُجَاءُ بالظَّلَمَةِ ومَنْ بَرَى لهم قلماً أو أَلَانَ لهم دواة فيلقون في توابيت مِنْ نارٍ فيلقى بهم في النار.
وانظر كيف عطف عدمَ نصرتهم بـ ثمَّ لبُعْد النصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون(2/103)
على عدم نصرتنا لدين الله وشَرَهنا لموالاة الظلمة، وجمعنا لجِيَفهم كالكلب الشره لها، ولم تعلموا أنه كالنفظ في جوف خشبة الجسم، فإذا هبَّتْ عواصفُ المنون التهب وفات التدارك، اللهم إنا عاجزون عن إصلاح أنفسنا، فمُنَّ علينا بهداية تجبر بها حالنا المظلمة، لأنك لا تحب الظالمين، ورحمتك قريب من المحسنين.
(تَعْبُرون) ، أي تعرفون تأويل الرؤيا، يقال عبرت الرؤيا - بتخفيف الباء.
وأنكر بعضهم التشديد، وهو مسموع من العرب.
(تأويل الأحاديث) : تفسير الرؤيا
(تركْتُ مِلّةَ قَوْم) ، أي رغبت عنها.
والتركُ على ضربين:
أحدهما - مفارقة ما يكون الإنسان عليه.
والآخر - ترك الشيء رغبة عنه من غير دخولٍ كان فيه.
ويحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلاً لما قبله من قوله: (علمني ربي) .
أو يكون استئنافاً.
(تَبْتَئِس) : تحزن، وهو من البؤس.
(تَفَتأ) : أي لا تفتأ، والمعنى لا تزال.
وحذف حرف النفي، لأنه تلبَّس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتاً لكان مؤكداً باللام والنون.
(تثرِيب) ، أي تعيير وتوبيخ.
والمراد عفو جميل.
وقوله (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه، وهو يتعلق بالتثريب، أو بالمقدَّر في (عليكم) من معنى الاستقرار.
وقيل: إنه يتعلق بـ يغفر، وذلك بعيد، لأنه تحكم على الله.
وإنما يغفر دعاء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: (لا تَثرِيبَ عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقَّه.
(تَحَسَّسُوا) - بالمهملة والمعجمة: طلبُ الشيء بالحواس السمع والبصر، أي
تعرفوا يوسف وأخيه، وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختياراً منه.
لأن يوسف وأخاه كانا أحبَّ إليه.
(تَيْئَسوا) : تقنطوا.
(تَغِيض الأرحام وما تَزْدَاد) ، أي تنقص، وتزداد من(2/104)
الزيادة، فقيل: إن الإشارة إلى دم الحيض، فإنه يقل ويكثر.
وقيل للولد، فالغيض السقط أو الولادة لأقل من تسعة أشهر.
والزيادة البقاء أكثر من تسعة أشهر.
ويحتمل أن تكون " ما " في قوله ما تحمل وما تغيض وما تزداد
موصولة أو مصدرية.
(تَهْوِي إليهم) : تقصدهم بجد وإسراع، ولهذه الدعوة
حبّب الله حَبَّ البيت إلى الناس، على أنه قال: (من الناس) بالتبعيض.
قال بعضهم: لو قال أفئدة الناس لحجَّته فارس والروم.
(تَسْرَحون) ، أي حين ترُدُّونها بالغداة إلى الرعي.
(وتريحون) ، حين تردُّونها بالعَشِيِّ إلى المنازل، وإنما قدم
تريحون لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر، لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها
حافلة.
(تَمِيد) ، تتحرك، وهو في موضع مفعول من أجله.
والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض.
وروي أن الله لما خلق الأرض جعلت تَفور، فقالت الملائكة: لا يستقر على ظهرها أحد، فأصبحت وقد أُرسيت بالجبال.
(تَخَوُّفٍ) ، فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ معناه على تنقّص، أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئاً بعد شيء
حتى يهلكوا من غير أن يُهلكلهم جملة واحدة، ولهذا أشار بقوله: (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، لأن الأخذ هكذا أخفّ من غيره.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذَيل: التخوف التنقص في لغتنا.
الوجه الثاني: أنه من الخوف، أي يهلك قوماً قَبْلَهم فيتخَوَّفوا همْ ذلك
فيأخذهم بعد أن توقَّعوا العذاب وخافوه، وذلك خلاف قوله: وهم لا
يشعرون.(2/105)
(تَقْفُ) ، المعنى: لا تقل ما لم تعم من ذمِّ الناس، وشبه ذلك.
واللفظ مشتقّ من قفوته إذا تبعته.
(تَبْذِيراً) : تفريقاً.
ومنه قولهم: بذرت الأرض، أي فرّقت البذر فيها.
أي الحب.
والتبذير في النفقة الإسراف فيها، وتفريقها في غير ما أحل الله.
والإخوة في قوله: (إخوان الشياطين) ، للمشاركة والاجتماع في
الفعل، كقولك: هذا الثوب أخو هذا، أي يشبهه.
ومنه قوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) .
أي من التي تشبهها وتواخيها.
(تَخْرِقَ الْأَرْضَ) : تقطعها وتبلغ آخرها.
وقيل معناه: لا تقدر أن تشقَّ في جميعها بالمشي.
والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيَلاء.
أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خَرْق الأرض ولا على مطاولة الجبال، فكيف تتكبَّر وتختال في مشيك، وإنما الواجب عليك التواضع
(تَبِيعاً) ، أي طالباً مطالبا.
(تَزَاوَرُ) : أي تميل وتَمُور، ولهذا قيل للكذب لأنه أميل
عن الحق.
(تقْرضهم) : تخلِّفُهم وتجاوزهم، وهو من القرض بمعنى القطع، ومعنى هذا
أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرِّها، فقيل: إن ذلك كرامة من الله لهم، وخَرْقُ عادة.
وقيل: كان باب الكهف شمالياً يستقبل
بنات نَعْش، فلذلك لا تصيبهم الشمس.
والأول أظهر، لقوله: ذلك مِنْ آياتِ الله.
والإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة، وإن كان لكون
بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى أمرهم بالجملة.
(تحسبهم) ، أي يظنهم من يراهم أيقاظاً.
(تَعْدُ عَيْنَاكَ) ، أي تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا.(2/106)
قال الزمخشري: عَدَّاه إذا جاوزه، فهذا الفعل يتعدى بنفسه، وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمّن معنى نَبَت عينه عن الرجل إذا احتقره.
(تَذْروه الرِّياح) ، أي تفرقه.
ومعنى المثل تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضْرته.
(تَخِذْت) : بمعنى اتخذت، أي أخذت طعاما تأكله.
(تَنْفَد) ،: تفنى.
وفي الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى.
والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، فمعنى الآية: لو كتِبَ عِلْم اللَهِ بمداد البحر لنفِدَ البحر ولم يَنْفَد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر مثله، وذلك أن البحر متَنَاه وعلم الله غير متَناه.
(تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ،: أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي.
والإشارة إلى الكفر، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -.
(تَجْهر) : تعلن.
ومنه: (ولا تَجْهَرْ بصلاتك) .
وأما قوله تعالى: (وإن تَجْهَرْ بالقول) ، فطابق الشرط جوابه، كأنه
يقول: إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك، لأنه يعلم السر وأخفى.
(تذكرة) ، نصب على الاستثناء المنقطع.
وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من موضع (لتشقى) ، إذ هو في موضع مفعول من أجله، ومنع ذلك الزمخشري، لاختلاف الجِنْسَين.
ويصح أن ينصب بفعلٍ مضمر تقديره أنزلناه تذكرة.
(تنزيلاً) نصب على المصدرية، والعامل فيه مضمر.
وأما أنزلنا في لفظ السورة بلفظ المتكلم في قوله: ما أنزلنا، ثم رجع إلى الغيبة في قوله (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) ... الآية، فذلك هو الالتفات.
(تَسْعى) : تعمل.
ومنه: (لسعْيها راضية) .
(تَزِز وَازِرةٌ وِزْرَ أخرى) .(2/107)
(تَعلو) من العلو، وهو الكبر والتجبُّر.
(تَرْدَى) ، تهلك، وهذا الفعل منصوب في جواب (لا يصدنك) .
(تَنِيَا) : أي تضعفا أو تقصرا.
والوني هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها.
(تَظْمَأ) : تعطش.
(تضْحَى) : تبرز للشمس.
(تَشْقَى) : تتعب.
وخص آدم بهذا الخطاب، لأنه كان المخاطب به أولاً، والمقصود بالكلام.
وقيل: إن الشقاء في معيشة الدنيا مختصٌ بالرجال.
(تَبْهَتُهُمْ) ، أي تفجؤهم.
وهذا الخطاب لمن استعجل القيامة أو نزولَ العذاب.
وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(تَقَطَّعوا أمْرَهم) : أي اختلفوا فيه، وهو استعارة من
جَعْل الشيء قطعاً.
والضمير لجميع الناس، أو المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم -.
والمعنى إنما بعثت الأنبياء المذكورين بما أمرت به من الدين، لأن جميع الرسل متفقين في العقائد فلم تقطعتم.
(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، يعني الزيت، وقرئ تنبت بفتح التاء.
فالمجرور على هذا في موضع الحال، كقولك جاء زيد بسلاحه.
وقرئ بضم التاء وكسر الباء، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها أن أنبت بمعنى نبت.
والثاني حذف المفعول، تقديره تنبت ثمرتها بالدهن.
والثالث زيادة الباء.
(تَتْرَا) ، وزنه فَعْلى، ومعناه التواتر والتتابع، وهو
موضوع موضعَ الحال، أي متواترين واحداً بعد واحد، فمن قرأه بالتنوين فألفه للإلحاق.
ومن قرأه بغير تنوين فألفه للتأنيث ولم ينصرف وتأنيثه لأن الرسل جماعة.(2/108)
والتاء الأولى فيها بدل من واو، وهي فاء الكلمة.
ويجوز في قول الفراء أن تقول في الرفع تترا، وفي الخفض تترا، وفي النصب تترا، الألف بدل من التنوين.
(تَجْأرُونَ) : ترفعون أصواتكم بالدعاء.
ويحتمل أن يكلون
هذا القول حقيقة أو يكون بلسان الحال.
(تَنْكِصُونَ) ، أي ترجعون إلى وراء، وذلك عبارة عن
إعراضهم عن الآيات وهي القرآن.
(تَهْجُرُونَ) : مَنْ قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجْرَ
بضم الهاء، وهو الفحشاء من الكلام.
ومَنْ قرأ بفتح التاء وضم الجيم فهو من
الهجر بفتح الهاء، أي تهجرون الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين.
أو من قولك:
هجر المريض إذا هَذَى، أو يقولون اللغو من القول.
(تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) ، أي يأخذه بعضكم من بعض.
وخاطب بهذا الكلام معَاتبا لمن خاض في الإفْك، وإن كانوا لم يُصدقوه، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلِّية، فعاتبهم على ثلاثة أشياء، وهي تلقِّيه بالألسنة، أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول.
والثاني قولهم ذلك.
والثالث أنهم حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم.
وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن الحديث كان باللسان دون
القلب، إذ كانوا لم يعلموا ذلك حقيقة بقلوبهم.
وقرئ تلْقونه من الإلقاء، وهو استمرار اللسان بالكذب.
(تَبَارَك) ، تفاعل، من البركة، وهي الزيادة والنّمَاء والكثرة والاتساع، أي
البركة تُكتَسبُ وتُنالُ بذكره.
ويقال تبارك تقدَّس، أي تطهَّر.
ويقال تبارك تعاظم، وهو فِعْلٌ مختص بالله تعالى لم ينْطق له بمضارع.
(تشقَّق السماء) : تتفطَّر.
(تَغَيّظا) ، التغيظ: الصوت الذي يُهَمْهم به المتغايظ، والتغيظ لا يُسمع، وإنما يُسمع أصوات تدل عليه، ففي لفظه تجوُّزٌ.(2/109)
(تَبَسَّمَ) التبسم: أول الضحك الذي لا صوتَ له، وتبسّمه كان لأحد
أمرين: إما سروره لما أعطاه الله، أو لثناء الله عليه وعلى جنوده، فإن قولها:
(وهم لا يشعرون) وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضَرّة الحيوان.
(تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) : معطوف على ضمير المفعول في
قوله " يراك ".
والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد.
وقيل معناه: يرى صلاتك مع المصلين.
وفي ذلك إشارة إلى الصلاة في الجماعة.
وقيل: يرى تقلُّب بصرك في المصلين خَلْفك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى من وراء ظهره.
(تحتَك) : أي تحت رجليك.
وأما قوله: (فنادَاهَا مَنْ تحتها) - بفتح الميم وكسرها - فقد اختلف على القراءتين هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل.
قيل: إنه كان تحتها كالقابلة لها.
وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها.
قال أبو القاسم في لغات القرآن: فناداها من تحتها، أي بطنها
بالنبطية ونقل الكرماني في العجائب مثله عن مؤرّج.
(تقَاسَموا باللهِ) : أي حلفوا به.
وقيل: إنه فعل ماض، وذلك ضعيف.
والصحيح أنه فعل مضارع، والضمير يعود على قوم صالح، أي
قال بعضهم لبعض وتعاقدوا عليه لنقتلنِّه وأهله بالليل.
وهذا الفعل الذي حلفوا عليه.
(تَأْجُرَنِي) : تكون أجيراً لي.
وهذا الخطاب كان من شُعيب لموسى عليهما السلام حين زوَّجه بنته صَفورا على أن يخدمه ثمانية أعوام.
قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح، منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حدّ أوّل الأمَد، وجعل المهر إجارة.
وهذا لا ينهض، لأن التعيين يحتمل أن يكون عند عَقْد النكاح بعد هذه
المراودة.
وقد قال الزمخشري: إن كلامه معه لم يكن عَقْدَ نكاح، وإنما كان
مواعدة.
وأما ذِكْز أوّل الأمد فالظاهر أنه كان من حين العقد.(2/110)
وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وقرره شَرْعُنَا حسبما ورد في الحديث
الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: قد زوجتكما بما معك من القرآن أي على أن تعلِّمَهَا ما معك من القرآن.
وقد أجاز النكاحَ بالإجارة الشافعيّ وابن حنبل وابن حبيب للآية والحديث.
ومنعه مالك، وقال: هذه قضية عينية.
(تذُودَان) : أي تمنعان الناس عن غنمهما.
وقيل: تذودان غنَمهماَ عن الماء حتى يسقِيَ الناس.
وهذا أظهر، لقولهما: (لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) ، أي كانت عادتهما لا يسقيان غَنَمهما إلا بعد الناس، لقوة الناس، أو لضعفهما، أو لكراهتهما التزاحم مع الناس.
(تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ، أي جلس في ظل سَمُرة لشدة ما نزل
به من الجوع والتعب الذي لحقه في سَقْي الغنم، وأكثَرُ ما يستعمل الذَّوْد في الغنم والإبل، وربما استعْمِل في غيرهما.
ويقال: سنَذودكم عن الجهل علينا، أي سنَكفَّكم ونمنعكم.
وفي حديث الحوض: إني على الحوض أنتظر مَنْ يرد عليّ
منكم فيجيء ناس ويُذادون عنه، فأقول: يارب، أمَّتي، أمَّتي، فيقال: أما
شعرت ما عملوا بعدك! إنهم ارتدّوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا
همل النعم.
وروى الترمذي عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، قال: قال لي رسول اللَه
- صلى الله عليه وسلم -: أعيذك باللهِ يا كعب بن عُجْرة من أمراء يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يَرِدُ عليَّ الحوض.
ومن غشي أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم ولم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فهو
مني وأنا منه، ويرد عليَّ الحوض.
يا كعب بن عُجرة، الصلاة برهان، والصبر جُنّة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
يا كعب بن عُجرة، لا يربو لهم نبت من سُحْت إلا كانت النار أولى به.(2/111)
(تَصْطَلون) : معناه تستدفئون بالنار من البرد، ووزنه تفتعلون، وهو مشتق
من صَلِيَ بالنار، والطاء فيه بدل من تاء.
(تَنُوء بالعُصْبة) : معناه تثقل.
يقال: ناء به الجبل إذا أثقله.
وقيل: معنى تنوء تنهض بتحمّل وتكلف.
والوجه على هذا أن يقال إن العصْبة تنوء بالمفاتح، لكنه قَلْب، كما جاء قَلْبُ الكلام عن العرب كثيراً، ولا يحتاج إلى قَلْب على القول الأول.
(تَفْرح) الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطُّغيان.
ولذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ، أي الأشِرين.
وأما الفرح بمعنى السرور فيما يجوز فليس بمكروه.
(تَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، هو من الخلقة، يريد نَحْتَ الأصنام.
فسماه خِلْقَه على وَجْه التجاوز.
وقيل: هو من اختلاق الكذب.
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) : أي ترتفع.
والمعنى يتركون مَضَاجِعهم بالليل من كثْرة صلاتهم للنوافل.
ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فتد أخذ حظّه من هذا إن شاء الله.
(تطَئوهَا) ، هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمون قد
وطئوها حينئذ، وهي مكة واليمن والشام والعراق ومصر، فأورث الله المسلمين جميعَ ذلك وما وراءها إلى أقصى المغرب.
ويحتمل عندي أن يريد به أرض قرَيظة، لأنه قال أورثكم بالفعل الماضي، وهي التي كانوا قد أخذوها.
وأما غيرهما من الأرضين فإنما أخذوها بعد ذلك، فلو أرادها لقال يورِثكم، وإنما كررها بالعطف ليصفها بقوله: لم تطئوها، أي لم تدخلوها قبل ذلك.
(وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) : وهو إظهار الزينة، فنهى الله نساءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعلن مثْلَ ما كان نساء الجاهلية يفعلن من(2/112)
الانكشاف والتعرض للنظر، وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام.
وقيل الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح.
وقيل ما بين موسى وعيسى.
(تَنَاوُشُ) - بالواو، والتناول أخوان، إلاَّ أنَّ التناوش تناوُل
سهل لكان قريب.
وقرئ بهمز الواو.
ويحتمل أن يكون المعنى واحداً، أو يكون المهموز بمعنى الطلب.
ومعنى الآية استِبْعاد وصولهم إلى مرادهم، والمكان البعيد عبارة عن تَعذّر
مقصودهم، فإنهم يطلبون ما لا يكون، أو يريدون أن يتناولوا ما لا يكون.
وهو رجوعهم إلى الدنيا، أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ.
(تَسَوَّروا) : نزلوا من ارتفاع، ولا يكون التسوُّر إلا من
فوق.
وجاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام، تنبيهاً للمخاطب، ودلالة على أنها
من الأخبار العجيبة التي ينبغي أن يُلْقى البال لها.
وجاء بضمير الجمع لأن التسوِّر للمحراب اثنان فقط، ونفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، وأقلّ الجمع اثنان.
ويحتمل أنه جاء مع كل واحد من الخصمين جماعة ٌ، فيقع على جميعهم.
والمحراب: الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد.
وروي أنهما جبريل وميكاييل، بعثهما الله ليضرب بهما المثل لداود، وهي نازلة وقع هو في مثلها، فأفتى بفُتْيَا هي واقعة عليه في نازلته.
ولما فهم المراد أناب واستغفر.
(تَوَارَتْ بالحِجَاب) : الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذِكْرها.
ولكنها تفهم من سياق الكلام، وذكْرُ العشيّ يقتضيها.
والمعنى حتى غابت الشمس.
وقيل الضمير للخيل.
والمعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها.
والأوّل أظهر وأشهر.
(تَرَكْنَا عليهِ في الآخِرين) ، يعني أبقينا له ثناء جميلاً في الناس إلى يوم القيامة.
(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ) : تنقَبضُ.
والضمير راجع للقرآن المتقدِّم الذكر لفصاحته وعدم اختلافه.(2/113)
(تلِين جلودهم) ، أي تميل وتطمئن إلى ذكر الله.
فإن قيل: كيف يتعدَّى تلين بإلى؟
فالجواب أنه تضمَّن معنى فِعْلٍ يتعدى بإلى، كأنه قال: تسكن قلوبهم إلى
ذكر الله.
فإن قيل: لِمَ ذَكَر الْجلود أولاً وحدها، ثم ذكر " قلوبهم " بعد ذلك معها؟
فالجواب أنه لما قال أولاً (تقشعر) ذكر الجلود وحدها، لأن القَشْعريرة من
وصف الجلود لا من وصف غيرها.
ولما قال ثانياً، (تلين) ، ذكر الجلود والقلوب.
لأن اللين توصف به القلوب والجلود.
أما لين القلوب فهو ضد قسوتها، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها، فاقشعرتْ أولاً من الخوف، ثم لانت بالرجاء.
(تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) : أي تصرّفهم فيها للتجارة.
وفي هذا تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، كأَنه قال له: لا يحزنك يا محمد تصرّفهم وأمْنهم وخروجهم من
بلد إلى بلد، فإن الله محيط بهم قادر عليهم.
(تَخْتَصمون) : يعتي الاختصام في الدماء.
وقيل في الحقوق.
والأظهر أنه اختصام النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار في تكذيبهم له، فيكون مِنْ تمام ما قبله.
ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من التظالم
وغيرها.
ولما نزلت قال بعض الصحابة: أوَ تعاد علينا الخصومة يوم القيامة.
قال: نعم، حتى يُقَادَ للشاة الْجَلحَاء من الشاة القَرْنَاء.
(تلاق) : اللقاء، ومنه: (لينذرَ يوم التّلاَق) .
والمراد به يوم القيامة.
وسمِّي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه.
وقيل: لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض.
وقيل: لأنه يلتقي الخَلْق مع ربهم.
والفاعل بينذر ضمير
يعود على من يشاء، أو على الروح، أو على الله.
(تَنَاد) ، بالتشديد - من نَدّ البعير إذا مضى على وجهه.
وبالتخفيف من التنادي، وهو يوم يَتَنَادَى فيه أهل الجنة وأهل النار: أن قد
وجَدْنا ما وعدنا ربّنَا حقّا.
وأن أفيضوا علينا من الماء.(2/114)
ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسماهم.
وينادي المنادي الناس.
ومنه قوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) .
(تَغَابن) : نقْص في المعاملة والمبايعة والْمقَاسمة.
وأما يوم التغابن فهو يَوْم يغْبن أهل الجنة أهل النار، لأنهم غبنوهم في منازلهم التي كانوا ينزلون فيها لو كانوا سعداء، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن، وليس على المتعارف في صيغة تفاعل من كونها بين اثنين، كقولك تضارب وتقابل، إنما هي فعل واحد، كقولك: تواضع، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: يعني نزول السعداء منازل الأشقياء، ونزول الأشقياء منازل السعداء والتغابن على هذا بين اثنين.
قال: وفيه تهكُّم بالأشقياء، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن
السعداء.
(لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) : تصْرِفنا عنها.
(تضَعَ الْحَرْبُ أوزارَها) : الأوْزَار في اللغة الآثام، لأن
الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين.
واختلف في الغاية المرادة هنا، فقيل حتى يسلم الجميع، وحينئذ تضع الحرب أوزارها.
وقيل: حتى تقتلوهم وتغلبوهم.
وقيل: حتى ينزل عيسى ابن مريم.
قال ابن عطية: ظاهر اللفظِ أنها استعارة يُرَاد بها التزام الأمر أبداً، كما تقول: إنما أفعل ذلك إلى يوم القيامة.
(تَعْساً) ، أي هلاكاً وعثارا، وانتصابه على المصدريّة، والعامل
فيه فِعلٌ مضمر، وعلى هذا الفعل عطف قوله: وأضلّ أعمالهم.
ويقال التعس أن يخرّ على وجهه.
والنكس أن يخر على رأسه.
(تَزَيَّلُوا) ، أي تَمَيزوا عن الكفار.
والضمير للمؤمنين المستورين الإيمان، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذّبْنَا الكفار.
(تَفِيء) : ترجع إلى الحق، وأمَرَ الله في هذه الآية بقتال
الفئة الباغية، وذلك إذا تبين أنها باغية، فأما الفتن التي تقَع بين المسلمين فاختلف العلماء فيها على قولين:(2/115)
أحدهما: أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال.
هذا مذهب سعد بن أيي وقاص وأبي ذَرٍّ وجماعة من الصحابة، وحجّتهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: قِتَال المسلم كفْر.
وأمره عليه السلام بكسر السيوف في الفتن.
والقول الثاني: أن النهوضَ فيها واجب، لتكفَّ الفئة الباغية.
وهذا مذهب عليٍّ وطلحة وعائشة وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء.
وحجتهم هذه الآية، فإذا فرّعنا على القول الأول فإن دخل داخل على من
اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فعليه دَفْعُه عن نفسه، وإن أدّى ذلك
إلى قتله، لقوله عليه الصلاة والسلام: مَنْ قتل دون نفسه وماله فهو شهيد.
وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفِتَن، فقيل
مع السواد الأعظم.
وقيل مع العلماء.
وقيل مع مَنْ يرى أن الحقّ معه.
وحكم القتال في الفتن أَلا يُجهز على جريح، ولا يُطْلَب هارب، ولا يقتل أسير، ولا يقسم فَيء.
(تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : اللَّمْز العيْب، سواء كان بقولِ أو
إشارة أو غير ذلك.
(تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) : أي لا يَدعُ أَحدٌ أحدًا بلقبٍ.
وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة.
ولم يقصد النقص والاستخفاف.
(تَجَسَّسُوا) ، قد قدمنا أنه بالحاء المهملة والمعجمة.
وقيل بالمعجمة في الشر، وبالهملة في الخير.
وقيل بالمعجمة هو للمكان وبالمهملة الدخول والاستعلام.
(تَمُورُ السَّمَاءُ) : تجيء وتذهب.
وقيل: تدور، وقيل تشقق.
وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسي معرّب.
(تسير الجبال) : أي تسير مما يسير السحاب.(2/116)
ومنه: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) .
ومرورها يكون في أول أحوال القيامة تم ينسفها اللَّهُ خلالَ ذلك فتكون كالعِهْنِ، ثم تصير هباءً منبثّا.
(تَأثيم) : أي لَغْو الكلام الساقط.
والتأثيم الذنب، فهو بخلاف خَمر الدنيا.
(تَمَارَوا) : تشككوا.
والضمير عائد على قوم لوط.
(تجرِي بأعيننا) ، قد قدّمنا أنه عبارة عن حفظ الله ورَعْيه
للسفينة.
(تَرَكْناها آية) : الضمير لقصة قَوْم نوح، أو الفعلة للسفينة.
وروي في هذا المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه
الأمة.
(تَنْزع الناسَ) : أي تقلع الريح قومَ عاد من مواضِعِهم.
(تَطْغوا في الميزان) : تجاوزوا القدر والعدل، وإنما كرر
الميزان اهتماماً بأمره.
وقيل: أراد العمل.
(تحرثون) : أي إصلاح الأرض بالحرث وإلقاء البذر فيها.
(تَخْلُقُونَهُ) هذا توقيف يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق.
(تعلمون) : معناه ننشئكم في خِلْقَةٍ لا تعلمونها على وجهٍ
لا تصل عقولكم إلى فهمه، فمعنى الآية أن الله قادر على أن يُهلكهم وعلى أن يبعثهم، ففيها تهديد واحتجاج على البعث، ولذا ختمها بقوله: (فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) .
وحض على التذكر، والاستدلال بالنَّشْأَةِ الأولى على النشأة الآخرة، وفي هذا دليل على صحة القياس.(2/117)
(تزْرَعُونه) ، المراد بالزراعة هنا إنبات مما يُزرع، وتمام
خلقته، لأن ذلك مما انفرد الله به ولا يَدّعيه غيره، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقولنّ أَحَدكم زرعت، ولكن يقول حرثت.
وقد يقال لهذا زَارع".
ومنه قوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) .
(تَفَكَّهون) ، أي تطرحون الفاكهة، وهي المسرّة، يقال:
رجل فكه، إذا كان مسروراً منْبَسط النّفس.
ويقال تفكه إذا زالت عنه الفاكهة
فصار حزيناً، لأن صيغة تفعل تأتي لزوال الشيء، كقولهم: تحرّج وتأثّم إذا
جانب الحرج والإثْم، فالمعنى صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حُطَاماً.
وقد عبّر بعضهم عن تفكهون بأن معناه تفجعون.
وقيل: تندمون.
وقيل تعجبون.
وهذه معان متقاربة.
والأصل ما ذكرناه.
(تَذْكرة) ، أي تذكِّرُ بنار جهَنمّ.
(تجعلون رِزْقَكم) : قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أن
الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنَوْءِ كذا وكذا، فالمعنى تجعلون شكرَ
رزقكم التكذيبَ، فحذف شكراً لدلالة المعنى عليه.
وقرأ علي بن أبي طالب:
وتجعلون شكركم أنكم تكذبون.
وكذا قرأ ابن عباس، إلا أنه قرأ تكذبون - بضم التاء والتشديد، كقراءة الجماعة.
وقراءة علي بن أبي طالب بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب، أي يكذبون في قولهم: نزل المطر بِنَوْءَ كذا.
ومن هذا المعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وكافر بي مؤمن بالكوكب، فأما مَن قال مُطِرنا بفضل اللَه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما مَنْ قال مُطِرْنا بِنَوْء كذا وكذا
فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب.
والنهيّ عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكواكب تأثيرا في المطر، وأما
مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بَأْسَ به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نشأت تجرية ثم تشاءمت فتلك عَيْن غدَيْقَة.(2/118)
وقال عمر للعباس - وهما في الاستسقاء: كم بقي من نَوْء الثريا، فقال
العباس: العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد.
سقوطها سبعاً.
قال ابن المسيَّب: فما مضت سبع حتى مطروا.
وقيل: إن معنى الآية تجعلون سببَ رزقكم تكذيبكم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يقولون إن آمنّا حرمنا اللهُ الرزق، كقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا، فأنكر الله عليهم ذلك.
وإعراب " أنكم " على هذا القول مفعول
بتجعلون على حَذْفِ مضاف، تقديره تجعلون رزقكم حاصلاً من أجل أنكم
تكذبون.
وأما على القول الآخر فإعراب أنكم تكذّبون مفعولاً لا غير.
(تشتكي إلى الله) : ضمير المؤنث يعود على خَوْلة بنت
حَكِيم على أحد الأقوال لمَا ظاهر منها أَوس بن الصامت الأنصاري، وكان
الظِّهَارُ في الجاهلية يوجب تحريماً مؤبَّدا، فلما فعل جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أوْساً أكل شبابي، ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي ظاهَرَ منّي.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أراكِ إلاَّ قد حَرُمْتِ عليه.
فقالت: يا رسول الله، لا تفعَلْ فإني وحيدة ليس لي أهْلٌ سواه.
فراجعها - صلى الله عليه وسلم - بمثْلِ مَقَالته، فرجعت إلى الله.
وقالت: اللهم إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفَقْري.
وقيل: إنها قالت اللهم إن لي منه صبيةً صغاراً إن ضَمَمْتهم إليّ جاعوا، وإن
ضممتهم إليه ضاعوا.
فأنزل الله كفّارة الظهار.
وهكذا عادته سبحانه في كل ملهوف يرجع إليه يفرج عنه.
(تَحَاوُرَكما) ، أي مراجعتكما.
وضمير التثنية يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخَولة.
قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان مَنْ وسِعَ سمعه الأصوات! لقد كنْتُ
حاضرةً، وكان بعض كلام خَولة يخفى عليَّ، وسمع الله كلامها، ونزل القرآن(2/119)
في ذلك، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب زوجها، وقال له: أَتعتق رَقبةً، فقال: واللَه ما أملكها.
فقال: أتصوم شهرين متتابعين، فقال: والله ما أقدر.
فقال: أتطْعِمُ ستين مسكيناً، فقال: لا أجِد إلا أنْ يُعينني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعونة وصلاةٍ - يريد الدعاء، فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعاً، ودعا له، فكفّر بالإطعام، وأمسك زوجه.
(تَفَسَّحوا) : توسعوا، ونزلت الآية بسبب ازْدِحَام الناس في
مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحرصهم على القرْبِ منه.
وقيل نزلت في مقاعد الحرب والقتال.
وقيل: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً من مَجلسه ليُجلِسَ أشياخاً من أهل بدر في مواضعهم، فنزلت الآية.
تم اختلف: هل هي مقصورة على مجلسه - صلى الله عليه وسلم - أوْ هي عامَّةٌ في جميع المجالس.
فقال قوم: إنها مخصوصة، ويدل على ذلك قراءة " المجلس " بالإفراد.
وذهب الجمهور إلى أنها عامة، ويدلّ على ذلك قراءة " المجالس " بالجمع.
وهذا هو الأصحّ، ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس.
والتَّفَسّح المأمور به هو التوسع دون القيام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يَقوم أحدٌ من مجلسه، ثم يجلس الرجلُ فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا.
وقد اختلف في هذا النَّهْي عن القيام من المجلس لأحَدٍ، هل هو على التحريم
أو الكراهة.
(تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ، أي عتْقها، وجعل الله الكفّارةَ في الظهار
ثلاثة أنواع مرتبةً، لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجزَ عن الأول، ولا ينتقل إلى
الثالث حتى يعجز عن الثاني.
والرقبة ترجمة عن الإنسان، ولا يشترط فيها
الإيمان، بخلاف القَتْل واليمين.
(تَبَؤءُوا الدَّارَ) : لزموها واتخذوها مسكناً.
والدار: المدينة، والضمير يعود على الأنصار، لأنها كانت بلدهم.(2/120)
فإن قيل: كيف تُبَوَّأُ الدارُ والإيمان، وإنما تتَبوَّأ الدارُ، أي تسكن ولا يُتَبَؤأ
الإيمان؟
فالجواب من وجهين - الأول: أن معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، فهو
كقوله: عَلَفْتهَا تبناَ وماءً بَارِداً، تقديره علفتها تِبنا وسقيْتها ماء باردا.
الثاني أن المعنى أنهما جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك.
فإن قيل: قوله: (من قبلهم) - يقتضي أن الأنصار سبقهوا
المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سَبْقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه، لأنها، كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل، لأن أكثر المهاجرين أَسلَموا قبل الأنصار.
فالجواب مِنْ وجهين:
أحدهما أنه أراد بقوله: (مِنْ قبلهم) : مِنْ قبل هجرتهم.
والآخر أند أراد تَبؤءوا الدار مع الإيمان معاً، أي جمعوا بين الحالتين قبل
المهاجرين، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بنزول الدار، فيكون الإيمانُ على هذا مفعولاً معه.
وهذا الوجه أحسنُ، لأنه جواب عن السؤال.
وعن السؤال الأول بأنه إذا @حان الإيمان مفعولاَ به لم يلزم السؤال الأول، إذ لا يلْزَم إلا إن كان الإيمان معطوفا على الدار.
(تعاسَرتم) ، أي تضايقْتُم.
والمعنى إن تشطّطت الأم علىِ الأب في أجرة الرضاع، وطلبَتْ منه كثيراً فللأبِ أنْ يستَرضع لولده امرأةً أخرى بما هو أَرْفَق به إلاَّ ألاَّ يقبل الطفل غير ثَدْيِ أمِّه فتُجْبَر حينئذ على رضاعه بأجْرَة مثلها، ومثل الزوج، فلا تضيع الزوجة ولا يكلّف هو ما لا يطيق.
وفي هذه الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف الناس، وهو مذهب(2/121)
مالك، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر الكفاية.
ومَنْ عجز عَنْ نفقة امْرَأتِه فمذهب مالك دون الشافعي أنها تطلّق عليه خلافاً لأبي حنيفة، وإن عجز عن الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب.
(تَفاوُت) : أي مِنْ قلَّةِ تناسُب وخروج عن الإتقان.
والمعنى أن خلقة السماوات في غاية الإتقان، بحيث ليس فيها ما يَعيبها من
الزيادة والنقصان والاختلاف.
وقيل: أراد خِلْقَة جميع المخلوقات.
ولا شك أن جميع المخلوقات متقنةٌ، ولكن تخصيص الآية بخلقة السماوات والأرض لورودها
بعد قوله: (خلق سبْعَ سَموات طِبَاقا) ، فكأن قوله: " ما ترى
في خَلْق الرحمن من تفَاوت " بَيَان وتكميل لما قبله.
والخطاب في قوله: ما ترى، وارجع البصر، وما بعده للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب ليعتبر.
(تكاد تَمَيَّز من الغَيْظ) ،: أي تكاد جهنم تنفصل بعضها من
بعض لشدة غَيظها على الكفَّار، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها، ويحتمل أن يريد غَيظَ الزبانية.
والأول أظهر، لأن حال الزبانية يُذْكر بعد هذا.
وغيظُ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراكٍ يخلقه الله لها، أو يكون عبارة عن شدتها.
(تَعِيهَا أذنٌ وَاعِيَةٌ) : الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير
" لنجعلها "وهذا يقَوِّي أن يكون للفعلَةِ.
والأذُن الواعية: هي التي تحفظ ما تسمَعُ وتفهمه.
يقال: وعيت العلم إذا حصلته، ولذلك عبَّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله.
ورُوِي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليّ بن أبي طالب: إني دعوتُ الله أن يجعلها أذنك يا عليّ.
قال عليٌّ: فما نسيت بعد ذلك شيئاً سمعْته.
قال الزمخشري: إنما قال: أذن واعية - بالتوحيد والتنكير للدلالة على قِلَّةِ الوُعاة، ولتوبيخ الناس بقلة مَنْ يَعِي منهم، وللدلالة على أنَّ الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله فهي المعْتَبرة عند الله دون غيرها.(2/122)
(تَرْجون للَهِ وَقاراً) فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أنَّ الوقَار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى ما لكم لا تَرْجون أن
يوقَركم الله في دار ثوابه.
قال ذلك الزمخشري.
وقوله: " لله " على هذا بيان للموقر، ولو تأخر لكان صفةً لوقارا.
والثاني: أن الوقار بمعنى التُّؤَدة والتثبيت.
والمعنى ما لكم لا ترجون للهِ تعالى متثبتين حتى تتمكّنوا من النظر بوقارا.
وقوله " لله " على هذا مفعول دخلت عليه اللام، كقولك: ضربت لزيد، فإعراب " وقارا " على هذا مصدر في موضع الحال.
الثالث: أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة.
والسلطان، فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمةَ الله وسلطانه، وللَه على هذا صفة للوقار في المعنى.
الرابع: أن الرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنى الاستقرار، من قولك وقَر في
المكان إذا استقرّ فيه.
والمعنى ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في
الجنة أو في النار.
(تحرَّوا رشَدا) : أي قصدوا الرشد.
واختار ابن عطيَّة أن يكون هذا ابتداءً لكلام الله، لا من كلام الجنّ.
(تَبَتَّلْ) : أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه.
وقيل التبتل رفْض الدنيا.
وقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - فكان قليلَ الأمل كثير العمل لم يشقق نهراً، ولا شيّد قصراً، ولا غرس نَخْلاً، ولم يضرب قطّ بيده إلا في سبيل الله وقام لله حتى توَرَّمتْ قدماه، فمن شاهد أحواله، وسمع أخلاقه وأفعاله وآدابه وبدائع تدبيره لصالح الخَلْق، ومحاسن إشارته في تفضيل ظاهر الشَّرْع المعجز للعلماء عن درك أوائل دقائقها طولَ أعمارهم لم يَبْقَ عنده رَيْبٌ في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة،(2/123)
وأنه لا يتصور إلا بتأييد سماوي، إذ لا صمح لملبس، لأن شمائله - صلى الله عليه وسلم - شواهد قاطعة بصدقه، فسبحان من أعطى وأثنى بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، صلَّى الله عليه وسلَّم أفضل صلاة وأزكى تسليم.
(ترجفْ الأرضُ والجِبَالُ) : أي تَهْتَزّ وتتزلزل، وذلك يوم
القيامة المتقدم الذكر.
(تَتقُون إن كَفرتم) : أي كيف تتقون يوم القيامة وأهواله
إن كفرتم.
وقيل: هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم.
وقيل: هو ظرف: أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة! ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوفاً تقديره اذكروا.
(تصدَّى) : أي تعرَض له.
(تَلَهَّى) : تشتغل عنه بغيره، من قولك: لَهِيتُ عن الشيء إذا
تركته.
ورُوِي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأدَّبَ بما أدَّبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير، ولا تعرَّضَ لِغَنيٍّ، وكذلك اتبعه الفضَلاء من أصحابه.
وانظر كيف كان الفقراء في مجلس سفيان كالأمراء، وكان الأغنياء يتمنَّون أن يكونوا فقَراء.
ونحن عكسنا في القضية، وصرنا إلى أسوأ حال، لمخالفتنا الشريعة المحمدية.
(تذكرة) : فيها وجهان: أحدها - أن هذا الكلام المتقدم
تذكرة، أي موعظة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس، فلا
ينبغي أن يُؤْثر فيه أحد على أحد.
وهذا أرجح، لأنه يناسبه.
(تَرْهَقها) : تغشاها.
والضمير يعود على وجوه الكفَّار.
(تَنَفَّسَ) ، أي استطار واتسع ضوؤه.
والضمير يعود على الصبح، وهو استعارة.
(تَسنيم) : اسم عَلَم - لعَيْنٍ في الجنة يشرب به المقَرَّبون(2/124)
صرفا، ويخرج منه الرحيق الذي يَشْرب منه الأبرار، فدلّ ذلك على أن درجات المقربين فوق درجات الأبرار، فالمقربون هم السابقون، والأبرار أصحاب اليمين.
ويقال: تسنيم عينٌ تجري مِنْ فوقهم تَتَسَنّمفمْ في منازلهم، تنزل عليهم من
عال.
يقال تسنّم الفحل الناقة إذا علاها.
(تَخَلت) : تفعلت، من الخلوة.
(تَرَائب) ، عظام الصدر، واحدها تَريبة.
وقيل هي الأطراف كاليدين والرجلين.
وقيل: هي عصارة القَلب.
ومنه يكون الولد.
وقيل: هي الأضلاع التي أسفل الصّلب.
والأول هو الصحيح المعروف في اللغة، ولذلك قال ابن عباس: هي موضع القِلاَدَةِ ما بين ثديي المرأة.
، يعني صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها.
وقيل: أراد صلب الرجل وترائب المرأة.
(تَزَكى) : تتطهر من الذنوب بالعمل الصالح.
(تردّى) : تميل وتسقط في القبر أو في جهنم، أو تردّى
بأكفانه من الرداء.
وقيل هذا الكلام في أبي سفيان بن حرب، وهذا ضعيف، لقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) .
وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك.
والصحيح أنه لم يخل بذلك الإطلاق.
(تَلَظَّى) : تلتهب - وأصله تتَلظى، فأسقصْ إحدى التاءين
استثقالا لهما في صدر الكلمة.
ومثله: فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى.
(تنزل الملائكة) ، أي إلى الأرض.
وقيل إلى سماء الدنيا، وهو تعظيم لليلة القدر.
وقي رحمة للمؤمنين القائمين فيها.
(تَقْهر) : أي على ماله وحقه لأجك ضعفه، أو لا تقهره
بالمنع من مصالحه.
ووجوه القهر كثيرة، والنهي يَعمُّ جميعها.(2/125)
(تَنهَر) : من الانتهار والزجر، فالنهى عنه أمر بالقول
الحسن والدعاء للسائل، كما قال: فقُلْ لهم قولاً ميسورا.
(تَبَتْ) : أي خسرت.
(تُغْمضوا) : من قولك أغْمَض فلان عن بعض حقّه إذا لم يستوفه.
وأغمض بصره.
ومعنى الآية: لستم بآخذين الخبيث من الأموال ممن
لكم قبَله حقَّّ إلاَّ عَلَى إغماض أو مسامحة، فلا تؤدوا في حق الله ما لا ترضون مثله من كرمائكم.
ويقال تغمضوا فيه، أي ترخصوا فيه.
ومنه قول الناس للبائع: أغْمض وغَمّض، أي لا تستنقص، وكن كأنك لم تبصر.
(تبْدُوا ما في أنفسكم أو تُخْفُوه) : الإبداء الظهور، والإخفاء ضده.
ومقتضى الآية المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب سواء
أبدوه أو أخفوه، ثم المعاقبة على ذلك لمن شاء الله، أو الغفران لمن شاء الله.
وفي ذلك إشكال لمعارضته للحديث: إن الله تجاوز لأمي ما حدَّثت به أَنْفُسها.
ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه لما نزلَتْ شقّ ذلك على الصحابة.
وقالوا: هلكنا إنْ حُوسِبْنَا بخواطر أنْفُسنا.
فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا سمِعْنا وأطَعْنَا".
فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: (لا يُكلِّف الله نَفْسا إلا وُسْعَها) ، فكشف عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية.
وقيل: هي في معنى كتْم الشهادة وإبدائها، وذلك مُحَاسَب به.
وقيل يحاسب الله الخَلْق على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين ويعذِّبُ الكافرين والمنافقين.
والصحيح التأويل الأول لوروده في الصحيح.
وقد ورد أيضاً عن ابن عباس وغيره.
فإن قيل: الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ.
فالجواب أنَّ لفظ الآية خبَرٌ ومعناها حكم.
(تُولج اللَّيْلَ) : تدخل هذا في هذا، فما زاد في واحد
نقص من الآخر مثله.(2/126)
(تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، أي الكافر من المؤمن
والمؤمن من الكافر.
وقيل: يعني الحيوان.
قال ابن مسعود: هي النّطْفة تخرج من الرجل ميّتةً وهو حَيّ، ويخرج الرجل منها حيّاً وهي ميتة.
وقال عكرمة: البيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة.
وعلى كل فالحياة والموت على هذا استعارة.
(تؤَاخِذنا) من المؤاخذة بالذنب، وقد كان يحقّ أن
يؤاخذ الله بالنسيان، وهو الذهول الغالب على الإنسان والخطأ غير العمد، لولا أن الله رفعه فلم يبقَ إلا مَحْضُ التلفّظ بالآية على وجه العبادة.
وأما الاعتقاد فهو عدم المؤاخذة، للحديث: رفع عن أمتِي الخَطَأ والنسيان.
(تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ، في هذا الدعاء دليل على جواز
تكليف ما لا يُطاق، لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقَع.
ثم إنَّ الشرع رفع وقوعه.
وتحقيق ذلك أن ما لا يطاق أربعة أنواع: عقلي محض، كتكليف الإيمان لمن
علم الله أنه لا يؤْمِن، فهذا جائز ووقع باتفاق.
والثاني عادِيّ كالطَّيَران في الهواء.
والئالث عقلي وعاديّ كالجمع بين الضدّين، فهذان وقع الخلاف في جواز
التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه.
والرابع تكليف ما يشقّ ويصعب، فهذا جائز اتفاقاً.
وقد كلّفه الله مَنْ تقدم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمة المحمدية لحُرْمَةِ نبيِّها عنده.
(تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي تهىّء لهم المصافّ لقتال
أعداء الله، وذلك يوم السبت في غَزْوَة أحد.
وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف، لأنه لا يقال غدوة فما بعد الزوال إلاَّ عَلَى وجْهِ المجاز.
وقيل ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس،(2/127)
وذلك ضعيف، لأنه لم يبَوّأ حينئذٍ مقاعد للقتال إلا أن يراد أنه يبَوِّئهم بالتدبير حين المشاورة.
(تُصْعِدون ولا تَلْوون على أحد) : الإصعاد: الابتداء في السفر.
والانحدار: الرجوع.
ولا تلوون مبالغة في صفة الانهزام.
وقرئ شاذاً: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد - بضم الحاء.
(تبسَلَ نَفْسٌ) : معناه تحبس. وقيل تفضح. وقيل تهلك.
وهو في موضع مفعول من أجله، أي كرهه كراهة أن تُبْسَل نَفْسٌ بما كسبت.
(تشِمت بي الأعْدَاءَ) : تسرهم، والشماتة: السرور بمكاره الأعداء.
(تُرْهِبون) : تخوفون به الأعداء.
(تفيضون) : تدفعون فيه بكثرة.
(تحْصِنون) : تخزنون وتَجْنُون.
(تُفَنِّدُون) : أي تلومونني، أو تردون عليَّ قولي.
معناه تقولون ذهب عقلُك، لأن الفند هو الخَرَف.
يقال أفند الرجل إذا خرف، وتغيَّرَ عقلُه، ولم يحصل كلامه.
ثم قيل: فند الرجل إذا جهل. والأصل ذلك.
(تسِيمون) : ترعون أنعامكم.
وقد قدمنا أن تريحون تردّونها بالعشيّ إلى المنازل.
(تُخَافِتْ بها) : تخْفِها.
وسبب الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جهر في القراءة في الصلاة فسمعه المشركون فَسَبُّوا القرآن ومَنْ أنزله، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالتوسط بين الجهر والإسرار، ليسمع أصحابه الذين يصلّون معه، ولا يسمع المشركون.
وقيل المعنى: لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها، واجعل منها سرّاً
وجَهْراً، حسبما أحكمته السنَّة.
وقيل الصلاة هنا الدعاء،(2/128)
(تمَارِ) ، من المِرَاء، وهو الجدال والمخالفة والاحتجاج.
ومعنى الآية: لا تمار أصل الكتاب في عدّة أصحاب أهل الكهف إلا مراءً
ظاهرا، أي غير متعمقٍ فيه، من غير مبالغة ولا تَعْنيف في الردّ عليهم.
(تستَفْت) : تَسْأل، أي لا تسأل أحداً من أهل الكتاب
عن أصحاب الكهف، لأنَّ اللهَ قد أوْحَى إليك في شآنهم ما يغنيك عن السؤال.
(تصْنَع عَلَى عَيني) ، أي ترَبى ويحسن إليك بِمرْأى مِنّي
وحفظ، والعامل في لتصنع محذوف.
(تعذَبهم) : أي تمتهنهم، والضمير لبني إسرائيل، لأن فرعون كان
يستعبدهم ويُذلّهم.
(تخبتَ له قلوبهم) ، أي تخضع وتطمئن.
والمخبت: الخاضع المطمئن إلى ما دعي إليه.
والخبْت: المطمئن من الأرض.
(تُسْحَرُونَ) : أي تخدعون عن الحق، والخادع لهم الشيطان، وذلك شبيهٌ لهم بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل، ورتبت هذه
التوبيخات الثلاثة بالتدريج، فقال أولاً: (أفلا تذكَّرُون) .
، قال ثانياً: (أفلا تَتَقون) . وذلك أبلغ، لأن فيه زيادة تخويف.
ثم قال ثالثاً: (فأنّى تُسحرون) . وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره.
(تلْهيهم تجَارةٌ ولا بَيْع) ، أي تشغلهم، ونزلت الآية في
أهل الأسواق الذين إذا سَمِعُوا الندَاء بالصلاة تركوا كل شغل وبادرا إليها.
والبيع: من التجارة، ولكن خصَّه بالذكر تجريداً، كقوله: (فيها فاكهة ونخل
ورمّان) أو أراد بالتجارة الشراء.
(تَتَقَلَّبُ) ، أي تضطرب من شدة الهول والخوف.
وقيل تَفهْقَه القلوب وتبيض الأبصار بعد العمى، لأن الحقائق تنكشف حينئذ.
والأول أصح، كقوله (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) .(2/129)
(تُصَعِّرْ خَدَّكَ للناس) ، أي تُعْرِض بوجهك عنهم.
والصعَر ما يأخذ البعير في رأسه فيقلب رأسه في جانب، فيشبّهُ الرجل الذي يتكبَّرُ على الناس به.
(تكنّ صدُورهم) ، أي تخفي صدورهم.
(تحيّتُهم يَوْمَ يلقَوْنَه سلام) ، قيل يوم سلام.
قيل: يوم القيامة.
وقيل: في الجنة، وهو الأرجح، لقوله: وتحيتهم فيها سلام.
ويحتمل أن يُرِيد تسليم بعضهم على بعض، أو قول الملائكة لهم سلام عليكم.
(تُرْجِي مَنْ تَشَاء منهنَّ وتُؤْوِي إليكَ من تشاء) - أي تؤخر وتبعد، وتضم وتقرب.
واختلف ما المراد بهذا الإرجاء والإيواء، فقيل:
إن ذلك في القسمة بينهنّ، أي تُكثر لمن شئْتَ وتقلِّلُ لمن شئت.
وقيل: إنه في الطلاق، أي تمسك مَنْ شئت وتطلق من شئت.
وقيل معناه تتزوج من شئت.
والمعنى على كل قول توسعة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإباحة له أن يفعل ما يشاء.
وقد اتفق الباقون على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل في قسمته بين نسائه أخذا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له.
والضمير في قوله (منهن) يعود على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أو على كل ما أحِلّ له على حسب الخلاف المتقدم.
(تُشْطِطْ) ، أى تجاوز في الحكم.
يقال أشطّ الحاكم إذا جار.
وقرئ في الشاذ: ولا تشطَط - بفتح الطاء، أي لا تبعد عن الحق.
يقال شَطّ إذا بَعُد.
(تُمَارُوته) ، أي تجادلونه.
والضمير عائد على قريش لمّا كذبته - صلى الله عليه وسلم - في قوله: أُسرِي بي.
والذي رأى جبريلُ على هيئته التي قد خلقه الله
عليها، قد سد الأفق.
وقيل الذي رأى ملكوت السماوات والأرض.(2/130)
والأول أرجح لقوله: (ولقد رآه تزْلَةً أخْرَى) .
وقيل الذي رأى هو اللَه تعالى.
وقد أنكرت ذلك عائشة.
وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك، فقال:
نورا أنَّى أراه.
(تخْسِروا الميزان) ، تنقصون الوزن.
وقرئ بفتح التاء بمعنى لا تخسروا الثوَابَ الموزون يوم القيامة.
(تمْنون) ، من المنيّ، وهو الماء الدافق الذي يكون منه
الولد، رائحته كرائحة الطلع، أحد درجات التمر، لشبهها بخلقة الإنسان
فأشبهت الرائحة الأصل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: أكرموا عماتكم النخلة، وهذا
يتضمّن إقامةَ برهان على الوحدانية وعلى البعث، ويتضمن وعيداً وتعديد نعم.
(تورون) ، أي تقدحونها من الزناد.
والزناد قد يكون من حجرين، ومن حجر وحديدة، ومن شجر، وهو الرّخّ والعَفَار.
ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر قال الله لهم: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) ، أي الشجرة التي يَزْند النار منها.
وقيل: أراد بالشجرة نفس النار، كأنه يقول نوعها أو جنسها، فاستعار الشجرة لذلك.
(تدْهِنُ) ، من المداهنة وهو النّفاق.
والإدهان الإبقاء، وترك المناصحة والصدق، ومنه قوله: (أفَبِهَذَا الحديثِ أنْتُم مُدْهِنُون) . معناه متهاونون.
وأصله لين الجانب والموافقة بالظاهر لا بالباطن.
وروي أنَّ الكفار قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو عبدت آلهتنا لعبَدْنا إلهك، فنزلت الآية.
(ترَاث) ،: ما يورث عن الميِّت من المال.
والتاء فيه بدل من واو.
(تِلْقَاءَ أصحابِ النّار) : تجاه أصحاب النار، ونحو أهل
النار، وكذلك تلقاء مَدْيَن.
وقوله: من تلقاء نفسي، أي من عِنْد نفسي.(2/131)
(تِبْيان) ، تِفْعال من البيان.
(تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) .
منها خروج يده بيضاء، والعصا، والسنون، ونقص الثمرات والطوفان، والجراد، والقمَّل والضفادع. والدم.
وحلّ العقدة من لسانه، وفرق البحر، ورفع الطور فوقهم، وانفجار الماء من
الحجر عند قوم.
وروي أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال " ألا تشركو بالله شيئا، ولا تَسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفْسَ التي حرم الله، ولا تسعو ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا يوم الزّحْف، وعليكم خاصة اليهود أْلا تعتدوا في السبت ".
(التِّين والزيتون) : جَبَلاَن بالشام ينْبِتَانِ التِّين والزيتون
يقال لهما طور تينا وطور زيتا بالسريانية، وهما اللذان كان فيهما مولد عيسى - صلى الله عليه وسلم -
أو مسكنه، فكأنه قال: ومنابت التين والزيتون، وهذا أظهر الأقوال، لأن الله ذكر بعد هذا الطّور الذي كلم عليه موسى - صلى الله عليه وسلم -، والبلد الذي بعث منه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، فتكون
الآية نظير ما في التوراة، أن اللهَ جاء من طور سينا وطلع من ساعير، وهو موضع عيسى - صلى الله عليه وسلم - وظههر من جبال فَارَان وهي مكة، وأقسم الله: بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين.
وقيل: إنه التين الذي يؤْكل والزيتون الذي يعْصر، أقسم الله بهما لفضيلتهما
على سائر الفواكه.
وروِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل مع أصحابه تيناً، فقال: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت هذه: لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوه فإنه " يقطع البوَاسير، وينفع من النقرس.(2/132)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم السّوَاك الزيتون من الشجرة المباركة، هي سِواكي وسواك الأنبياء من قبلي ".
(التاء حرْف جرّ) معناه حرف القسم يختص بالتعجّب، وباسم الله تعالى.
قال في الكشاف في قوله تعالى: (تاللهِ لأكِيدَنَّ أصْنَامَكم) :
الباء أصل أحرف القسم، والواو بدل منها، والتاء بدل من الواو، وفيها زيادة معنى التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد علىَ يديه وتأتِّيه مع عتو نمرود وقَهْره.
(تبارك) قد قدمنا أنه فعل لا يستعمل إلا بلفظ الماضي، ولا يستعمل
إلا للَه تعالى، أي لا يتصرف.
ومن ثم قيل إنه اسم فعل.(2/133)
(حَرف الثّاء المثلثة)
(ثَقِفْتموهم) : ظفرتم بهم.
(ثقلَتْ في السماوات والأرْضِ) : أي خفي عِلْمها على
أهل السماوات والأرض، وإذا خَفِيَ الشيء ثقل.
وقيل ثقلت على أهل السماوات والأرض لهيْبَتها عندهم وخوفهم منها.
وقيل ثقلت عليهم لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض.
(ثمود) : قبيلة من العرب الأقدمين، هذا على أنه غير منصرف.
وأما من صرفه فهو على وَزْن فعول من الثمد، وهو الماء القليل.
(ثَبطهم) : حبسهم، أي كسر عزمهم، وجعل في قلوبهم الكسل.
(الثَّرى) : التراب النَّدِيّ، والمراد به في الآية الأرض.
(ثَانيَ عِطْفهِ) ، أي عادلاً جانبه.
والعِطْف: الجانب، يعني مُعْرِضاً متكبِّراً.
واختلف على من يعود الضمير، فقيل على الأخْنَس بن شَرِيق.
وقيل في النّضر بن الحارث، بدليل: (له في الدنيا خِزْي) .
فالخِزْي أسْرُه ثم قتله.
(ثاوِيًا) : مقيما.
(ثلاث عَوْرَات) ، جمع عَوْرة من الانكشاف، كقوله تعالى:
(إنّ بيوتَنَا عَوْرَة) .
ومن رفع ثلاث فهو خبر مبتدأ مضمر، تقديره: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، أي تنكشفون فيها.
ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات.(2/134)
ومعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات، وهي
قبل الصبح، وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الآخرة، لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متَجَردين للنوم في غالب الأمر، وهذه الآية محكمة.
وقال ابن عباس: ترك الناس العمل بها، وحملها بعضهم على النّدْب.
(ثاقِب) : مضيء كثيراً.
(ثَجَّاجاً) : سيالا، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحبُّ العمل إلى اللَه العجّ والثّجّ، فالعَجّ التلبية ورفع الصوت بها وبذكر الله تعالى.
والثجّ: إسالة الدماء من النَّحر والذبح.
(ثُبَاتٍ) : جمع ثبَة، أي جماعات في تفرقة، أي حلقة حلقة
كل جماعة منها ثبَة، ووزنها فَعلة بفتح العين ولامها محذوفة.
وقيل إن الثبة ما فَوْق العشرة.
(ثُعْبان) : حية عظيمة الجسم.
(ثَمَر) ، جمع ثمار، ويقال الثّمر - بضم الثاء: المال.
والثَّمر - بفتح الثاء: جمع ثمرة من ثمار المأكول.
(ثُبورا) ،: أي هَلاَكاَ.
ومعنى دعائهم ثبوراً لأنهم يقولون يا ثبوراه، كقول القائل يا حسرتى، يا أسفي، فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبوراً وادْعوا ثبورا كثيراً.
(ثلّة من الأوّلين) : أي جماعة من هذه الأمة وجماعة من آخرها.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الفرقتان من أمَّتِي ".
وفي ذلك ردٌّ على من قال: إنهما من غير هذه الأمة.
وتأمل كيف جعل أصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين، بخلاف
السابقين، فإنهم قليل في الآخرين، وذلك لأن السابقين في أول هذه الأمة أكثر(2/135)
منهم في آخرها لفضيلة السلف الصالح.
وأما أصحاب اليمين فكثير في أولها وآخرها
(ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) : يقال ثوّبه وأثابه.
وأصله إيصال النفع إلى المكلف على طريق الجزاء.
قال تعالى: (مَثُوبةً عند اللهِ مَنْ لَعَنَهُ الله) .
وأما المثيب فهو مَنْ فعل الثواب.
وأما المُثَاب فهو من فُعِل الثواب به.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع معمول ينظرون
فتوصل مع ما قبلها، أو تكون توقيفا فيوقف قبلها - ويكون معمول ينظرون
محدوفاً.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) : فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه حقيقة في
التطهبر للثيات من النجاسة.
واختلف على هذا هل يحمل على الوجوب، فتكون
إزالة النجاسة واجبةً، أو على الندب فتكون سعة، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب، فالثياب على هذا مجاز.
الثالث أن معناه لا تلبس من مكسب خبيث.
(ثُمَّ) حرف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم والترتيب والمهلة، وفي
كل خلاف:
أما التشريك فزعم الكوفيّون والأخفش أنه قد يتخلّف بأن تقع زائدة، فلا
تكون عاطفة ألبتة، وخرجوا على ذلك قراءة: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) .
وأجيب بأن الجواب فيها مقدّر.
وأما الترتيب والمهلة فخالف قوم في اقتضائها إياهما تمسُّكاً بقوله: (خلقكم
من نفس واحدة ثم جعل منها زَوْجَها) (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ) .
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) .
والاهتداء سابِق على ذلك.(2/136)
(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) .
وأجيب على الكلِّ بأن ثم فيه لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم.
قال ابن هشام: وغير هذا الجواب أنْفَع منه، لأنه يصحح الترتيب فقط لا المهلة، إذ لا تراخي بين إخبارهن.
والجواب المصحح لهما ما قيل في الأولى إن العطف على مقدَّر، أي من نفس
واحدة أنشأها، ثم جعل منها زوجها.
وفي الثانية إن سواه عطف على الجملة الأولى لا الثانية.
وفي الثالثة إن المراد ثم دام على الهداية.
فائدة
أجرى الكوفيون ثُم مجرى الفاء والواو في جواز نصب المضارع المقرون بها
بعد فعل الشرط.
وخرِّج عليه قراءة الحسن: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) بنصب يدركه.
(ثَمَّ) - بالفتح: اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو: (وأزلَفنَا ثَم
الآخرين) .
وهو ظرف لا يتصرف) ، فلذلك غلط، من أعربه
مفعولاً لرأيت في قوله: (وإذا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ) .
وقرئ: (فإلينا مَرْجِعْهم ثَمّ اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون) ، بدليل:
(هنالك الولاية للهِ الحق) .
وقال الطبري في قوله: (أثُمّ إذا ما وقع آمَنْتُم) : معناه هنالك، وليست العاطفة.
وهذا وَهْم اشتبه عليه المضمومة بالمفتوحة.
وفي التوشيح لخطاب: ثم ظرف فيه معنى الإشارة إلى حيث إلا أنه هو في المعنى.(2/137)
(حَرف الجِيم)
(جَنَفا) : مَيْلاً وعدولاً عن الحق، يقال جَنِفَ عليَّ، أي
مال علي.
(جار) في قوله: (والجار ذِي القرْبَى) ، هو القريب
النسب.
والجار الْجنب هو الأجنبي.
وقيل ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب: البعيد المسكن منك.
وحدُّ الجوار عند بعضهم أربعون ذراعاً من كل ناحية.
وقيل أربعون باباً.
والصاحب بالْجَنْب: الرفيق في السفر.
وابن السبيل: الضعيف.
(جَوَارِح) : كواسب، وسميت الكلاب جوارح لأنها تكسب
لأهلها.
ولا خلاف في جواز الصْيد بالكلاب.
واختلف فيما سواها.
ومذهب الجمهور الجواز للأحاديث الواردة.
ومنعَ بعضهم ذلك، لقوله: (مكلِّبين) ، فإنه مشتق من الكلب.
ونزلت الآية بسبب عدي بن حاتم، فإنه
كان له كلاب يصطاد بها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل من الصيد.
(جَبَّارين) : أقوياء، عظام الأجسام بقيّة من العمالقة.
والجبار: من أسماء الله، معناه القهَّار.
والجبَّار المسلَّط، كقوله: (وما أنْتَ عليهم بِجَبّارٍ) ، أي بمسلط.
والجبار: المتكبر، كقوله: (ولم يَجْعَلْني جَبَّاراً شَقِيّا) .
والجبار: القتّال، كقوله: (وإذا بطشْتم بَطشتم جبّارين) ، أي قتالين.
والجبار: الظالم.
(جَرَحْتم) : كسبتم، ومنه: (اجتَرَحوا السِّيئات) .(2/138)
(جَنَّ) : أظلم وغَطَى، يقال: جنّه وأجنّه، ومنه سمي
الجنون، أي لتغطية عقله.
(جَعل الليل سكَنا) ، أي يسكن فيه عن الحركات.
(جعل) لها أربعة معان: صيّر، وألفى، وخلق، وأنشأ يفعل كذا.
(جَنَاح) الطائر: معروف.
وجناح الإنسان إبطيه، كقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ) .
ولا جناح: لا إثم، فمعناه إباحة.
وجنَح للشيء: مال إليه.
(جَاثمين) : باركين على الركَب بعضهم على بعض.
والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير.
(جَوَابَ قَوْمِه) : أي قوم صالح لم يكن لهم جواب إلا قولهم: (أخرجوهم
مِنْ قَرْيَتِكم) .
(جَنَحوا للسَّلم) : أي مالوا للصلح.
والآية منسوخة بآية السيف في براءة، لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز.
(جَهَّزَهمْ) ، أي أصلح لهم ما احتاجوا إليه من زادٍ وغيره.
والمراد به هنا الطعام الذي باع منهم يوسف.
(جَاسوا خِلاَلَ الدِّيَار) ، أي عاثوا وقتلوا، وكذلك
حاسوا وهاسوا وداسوا.
زوي أنهم قتلوا علماءهم، وأحرقوا التوراة، وأخربوا
المساجد، وسبَوْا منهم سبعين ألفاً.
واختلف على من يعود الضمير، فقيل: لجالوت وجنوده.
وقيل بُخْت نصّر ملك بابل.
(جاء وَعْدُ أولاهما) ، يعني إفسادهم في المرة الأولى.
(جَنِيًّا) : الذي طاب وصلح لأن يجتنى.
ويقال جنيّ طَرِي.
(جانٌّ) ، يعني من الحيات، لأنهم على أصناف شتّى.(2/139)
(جَلاَبيب) : ملاحف، واحدها جلباب، وكان نساء
العرب يكشفن وجوههن، كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال إليهن، فأمرهن الله بإدناء الجلباب، وهو ثوبٌ أكبر من الخمار، وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا ينظر منها إلا عين واحدة تبصر بها.
وقيل: أن تَلْوِيه حتى لا يظهر إلا عيناها.
وقيل: أن تُغَطِّي نصف وجهها.
(جَوَاب) : جمع جابِية، وهي البركة التي يجتمع فيها الماء.
(الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) : سفن في البحر كالجبال.
الواحدة جارية، ومنه قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) ، يعني سفينة نوح.
(جَاثِية) : باركة على الركب، وهي جلسة المخاصم والمجادل.
ومنه قول علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي
الله.
(جَدَلاً) : أي يقصد الإنسان أن يغلب مَنْ يُنَاظره سواء
عليه بحق أوْ بباطل، فإن ابن الزبعْرَى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم
يدخل في قوله تعالى: (حَصَب جهنم) ، ولكنهم أرادوا
المخالطة فوصفهم بأنهم ما ضربوا لرسول الله هذا المثل إلاَّ عَلَى وجه الجدل.
وهذا كقوله: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) .
(ويَعْلَمَ الذين يُجَادِلُون في آياتِنَا ما لهم مِنْ مَحِيص) .
(جَنَى الجنَّتَيْنِ) : قد قدمنا أن الجني ما يُجتنى من الثمار.
ورُوي أن الإنسان يجتني الفاكهة في الجنة على أي حال كان من قيام وقعود
واضطجاع، لأنها تتدلى له إذا رآها، فتقول له كُلْني يا ولي الله، هذا هو النعيم المقيم.
وكيف لا - ونبينا فيها نديم، والثواب عظيم، والبقاء فيها قديم، والعطاء فيها جسيم، والحزن فيها عديم، والمضيف فيها كريم، نعيمها مؤبد، ومقامها مخلّد، وبقاؤها سَرْمَد، وفرشها منضود، ومرافقها ممهد، وحورها منهد، وقصورها(2/140)
مشيد، وظلها ممدود، وفيها جنة الفردوس نُزُولاً لمن لم يجعل لمولاه شريكا ولا مثيلاً وأخلص له في دنياه قولاً وعملاً وفعلا، ولم يزل على عصيانه خائفاً
وَجلا، ولم يطلب الأعواض على أعماله فاتخذه موئلاًْ
(جَدُّ رَبِّنا) ، أي عظمته.
وقيل غناه، من قولك: فلان مجدود إذا استغنى.
ويقال: جَدّ فلان في الناس أي عظم في عيونهم، وجَلَّ في
صدورهم.
ومنه قول أنيس: كان الرجل إذا قرأ البقرِة وآل عمران جَدّ فينا.
أي عَظتم.
(جَابوا الصخْرَ بالْوَاد) ، أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتاً.
والوادي: ما بيْنَ الْجَبَلَيْن، وإنْ لم يكن فيه ماء.
وقيل أراد وادي القرى.
والضمير يعود على ثمود المتقدم الذكر.
وقد فَسَّرتها الآيهّ: (وتَنْحِتون من الجبال بيوتا) .
(جَمًّا) : شديداً كثيرا، وهو ذمُّ الحرص على المال، وشدة
الرغبة فيه.
(جُنُباً) : الذي أصابته الجنابة، يقال جَنُبَ الرجل وأجنب.
واجتنب وتجنبه.
والجنب: الغريب.
وجنّب: بعد.
(جَهَنّم) : اسم لأحَدِ طبقاتها.
وقيل: إنه عَلَم على سائر النار.
، قيل: إنها عجمية. وقيل فارسية. وقيل عبرانية
(جُرُفٍ) : ما تجرف السيول من الأودية.
(جُهدَهم) : وسعهم وطاقتهم، والضمير يعود على الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به، ونزلت في أبي عقيل تصدق بصِاعٍ مِنْ
تمر، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا.
(جُودِيّ) : جبل بالموصل.
وروي أن الله أوْحَى إلى الجبال
أني فرْس هذه السفينة، فتطاولت لها الجبال كلها إلا هذا الجبل (1) .
__________
(1) هذه الرواية فيها نظر فشأن جميع المخلوقات المبادرة إلى طاعة الخالق المقتدر - عز وجل - إلا عاصي الجن والإنس. والله أعلم.(2/141)
فإنه لم يَرَ تفْسه أهْلاً لذلك، فاستَوَتْ عليه واستقرَّتْ، وهكذا شأنه لا يرتفع شيء في الدنيا إلا وضعه، مصداقه الحديث: مَنْ تواضَعَ لله رَفعه الله.
(جُب) : ركية لم تطْوَ، فإذا طوِيت فهي في بئر.
(جُفَاء) : يجفاهُ السَّيْل، أي يرمي به إلى جنباته.
ويقال: جفأتِ القِدْر بزبدها إذا ألْقَتْه عنها.
(جُرز) - بالضم والفتح والكسر: الأرض الغَليظة اليابسة
التي لا نَبْتَ بها.
ويقال الجرز التي تَجْرُز ما فيها من النبات وتبطله، يقال جَرزَت
الأرض إذا ذهب نباتها، فكأنها قد أكلته، كما يقال رجل جروز إذا كان يأتي
على كلِّ مأكول لا يُبْقي منه شيئاً، وسيف جراز يقطَع كل شيء يقَع عليه
فيهلكه، وكذلك السنة الجروز.
وأما قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) ، فمعناه العطشانة.
(جذَاذا) ، أي فُتَاتا.
ويجوز فيه الضم والفتح والكسر.
وهو من الجذّ بمعنى القطع.
ويقال جذَّ الله دَابِرَهم، أي استَأصلهم.
(جُدَد) : جمع جدَّة، وهي الخطط والطرائق في الجبال.
(جُزْءاً) : أي نَصِيباً.
وقيل إناثاً.
وقيل بنات.
ويقال اأجزأت المرأة إذا ولدت أنثى.
وجاء التفسير: أن مشْرِكي العرب قالوا إن الملائكة بنات.
وقالوا إنهم إناث، فردَّ الله عليهم بقوله: (أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) .
(أَشَهدُوا خَلْقَهم) ، يعني أنهم لم يشهدوا
خَلْق الملائكة، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم.
(جِبِلًّا) - بالضم والفتح والكسر: خلقا.
(جُنَّة) .، ترْس وما أشبهه مما يُتَسَتَّر به،(2/142)
واستعمل في آية المجادلة وغيرها استعارة، لأنه كانوا يظهرون الإيمان لتعْصَم
دماؤهم وأموالهم.
(جُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) : أي في إذهاب ضوئهما.
وقيل يجمعان حيث يُطلعهما الله من المغرب.
وقيل يجمعان يوم القيامة ثم يُلقى بهما في النار.
(جِبْت) : فيه أقوال والصحيح أنه كلُّ ما عُبِد من دون الله
ويقال الجِبْت السِّحْر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الجبت اسم
الشيطان بالحبشية.
وأخرجه أيضاً عبد الرحمن عن عكرمة، وأخرج ابن جرير عن
سعيد بن جبير، قال: الجبت الساحر، بلسان الحبشية.
(جِزْية) : خراج مجعول على كل رأس.
وسميت جزية أهل الكتاب، لأنها قضاء منهم لما عليهم.
ومنه قوله: (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) ، أي لا تقضي ولا تغْنِي.
ويلتحق بأهْل الكتاب المجوس لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سنّوا بهم سنَّةَ أهل الكتاب ".
واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين.
ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين، وقَدْرُها عند مالك أربعة
دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورِق.
فإن قلت: قد اتفَق العلماء على قبول الجزية مع بقائهم على كفْرِهم، فما الفَرْق بينها وبين أخْذِ مال على البقاء على المعصية كالزنى وشبهه.
فالجواب: أن بقاء أهل الكفر على دينهم متحقّق ممّن أسلم منهم أو منْ
ذرِّيتهم، بخلاف البقاء على المعصية.
وقد جعل القرافي لهذه القاعدة فَرْقاً في فروقه، فليتأمل هناك.
(جِدَاراً) : حائطاً، وجمعه جُدُر.
(جَذْوَة) - بضم الجيم وفتحها وكسرها: قطعة غليظة من
الحطب فيها نار ولا لهب لها.(2/143)
(جِفَان) : قصاع كبار، واحدها جفنة وقَصْعَة، وقد قدمنا
أنها كانت كالحياض في كبرها، لأنه كان يطبخ كل يوم ألْف جزور، وأربعة
آلاف رأْس بقر، وثمانية ألاف رأس غنم، وكانت له قدورٌ راسيات يطبخ فيها الجزور من غير تفريق أعضائها.
(جِمَالَتٌ صُفْرٌ) : فيها قولان: أحدهما أنه جمع جمال، شبّه به الشرر.
وصفر على ظاهره، لأن لون النار يضرب إلى الصفرة.
وقيل: صفر هنا بمعنى سود يقال جمل أصفر، أي أسود.
وهذا ألْيَق بوصف جهنم.
الثاني أن الجِمَالات قِطَع النحاس الكبار، فكأنه مشتقّ من الجملة.
وقرئ جُمالات - بضم الجيم هي قلوس السّفن، وهي حبالها العظام.
(جيدِها) : عنقها.
والضمير يعود على أم جميل بنت حَرْب ابن أميَّة، وهي أخت أبي سفيان وعمَّة معاوية.
وفي المراد به ثلاثة أقوال:
الأول: أنه إخبار عن حملها الحطب في الدنيا، وفي ذلك تحقير لها وإظهار
لخساسة حالها.
والآخر أن حالها في جهنم يكون كذلك، أي يكون في عنقها حبل.
الثالث: أنها كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنّهَا على عداوة محمد.
فأخبر عن قلادتها بحبل المسدِ على جهة التفاؤل أو الذم لها بتبرّجها.
(جِنَّة) : جن، كقوله: (من الجِنَّة والناس) .
وهذا بيان لجنس الوسواس، وأنه يكون من الجن ومن الإنس.
وجنة جنون، كقوله عز وجل: (ما بِصَاحبكم مِنْ جِنَّة) .
(جعل) قال الراغب: فعل عام في الأفعال كلها، وهو أعمّ من فَعَل وصنع
وسائر أخواتها، وتتصرف على خمسة أوجه:
تجرتي مجرى صار وطفق، ولا تتعدى، نحو جعل زيدٌ يقول كذا.(2/144)
والثاني - مجرى أوْجد فتتعدّى لمفعول واحد، تحو: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) .
والثالث في إيجاد شيء من شيء وتكوينه منه، نحو: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) . (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) .
والرابع في تصيير شيء على حالة دون حالة، نحو: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) .
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) .
الخامس الحكم بالشيء على الشيء حقّا كان، نحو: (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، أو باطلا، نحو: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) .
(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) .(2/145)
(حَرف الحاء المهملة)
(حمد) هو الثّنَاء، سواء كان عن نعمة أو ابتداء، والشّر إنما يكون
جزاء، فالحمد من هذا الوجه أعمّ.
والشكر باللسان والقلب والجوارح، ولا يكون الحمد إلا باللسان، فالشكر من هذا الوجه أعم.
وحميد اسم الله تعالى محمود.
والحمد بمعنى الشكر لا يصح على الله سبحانه، لأنه ليس بِمنْعَم عليه.
وإنما هو المنعم على الخلق، فلا يصحّ منه الْحَمد الذي هو بمعنى الشكر.
والحمد الذي هو بمعنى الثناء على ضربين: قديم ومحدث، فالقديم ثناؤه على أنبيائه والمؤمنين من عبيده، وذلك كلامه وهو قديم.
والحمد الْمحْدَث هو كلام الْخَلْقِ وشكرهم له سبحانه.
(حَظّ) : نصيب.
(حَنِيفاً) : موحّداً. وقيل حاجّا. وقيل مُخْتتناً، وجمعه حُنَفَاء.
والحَنيف اليوم المسلم.
وقيل: إنما سمي إبراهيم حنيفاً لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وقومه من الآلهة إلى عبادة الله، أي عدل عن ذلك ومال.
وأصل الحنَف مَيْلٌ من إبهامي القدمين كل واحدة منهما على صاحبتها.
(حجُّ البيْتِ) : أي قصده، وسمِّي السفر إلى البيت
حَجّاً دون ما سواه.
والحج - بالفتح والكسر لغتان.
ويقال الحَج: القصد. والحِج الاسم.
وقوله تعالى: (إلى الناس يَوْمَ الحجّ الأكبر) : هو يوم النَّحْرِ.
ويقال يوم عَرَفَة، وكانوا يسمون العمرة الحج الأصغر.
واختلف هل وجوب حج البيت على الفور أو على التراخي.(2/146)
وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على مِلَّةِ إبراهيم.
قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجّوا البيْتَ الذي بنَاه إبراهيم، ودعَا الناسَ إليه.
(حَصُوراً) : على ثلاثة أوجه: الذي لا يَقْرَب النساء.
والذي لا يولد له.
والذِي لا يخرج مع الندامى، وأتى وصف السيد يحيى بذلك.
فإنه كان يمسك نفسه، لا أنه خلق كذلك، لأنه نقص في الخلقة.
والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كاملون.
(حَوَاريّون) : هم صَفْوَة الأنبياء عليهم السلام الذين خلصوا وأخلصوا في
التصديق بهم ونصرتهم.
وقيل: إنما سموا حواريين بالنبطية لتَبْيِيضهم الثياب، ثم
صار هذا الاسم مستعملا فيمن أشبههم من المصدقين.
وقيل: كانوا صيّادين.
وقيل: كانوا ملوكا.
ونداء الحواريين لعيسى باسمه دليل على أنهم لم يكونوا
يعظّمونه كتعظيم المسلمين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا لا ينَادونه باسمه، وإنما يقولون، يا رسول الله، يا نبي الله.
وقولهم: ابن مريم - دليلٌ على أنهم كانوا
يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح مِنْ نِسْبَتِه إلى أمٍّ دون وَالد، بخلاف ما اعتقده
النصارى.
(حَبْل) : عَهْد، والمراد بحبْل الله القرآن.
وقيل الجماعة، مستعار من الحبل الذي يشدّ عليه اليد.
(حَسْرة) : ندامة واغْتِمام على ما فات، ولم يمكن
ارتجاعه.
(حَسْبنا الله) : أي كافينا، وهي كلمةٌ يدفع بها ما يخاف ويُكره، وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألْقِيَ في النار.
(حبطَتْ) : بطلت.
(حَرِيق) : نار تلتهب.
(حَلائل) : جمع حليلة، وهي الزَّوْجة.
وإنما قيل لها حليلة، لأنه يحلّ معها وتحلّ معه.
ويقال حليلة بمعنى محلّة، لأنه يحل لها وتحل له، وإنما(2/147)
خص الابن من الصلبِ ليخرجَ عنه زوجةُ الابن الذي يتبنّاه الرجل وهو أجنبي
عنه، كتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش أمرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يُقَال له زيد ابن محمد.
(حَسِيبا) : فيه أربعة أقوال: - كافيا، وعالماً، ومقتدرا.
ومحسباً.
(حَصرَت صدُورُهم) : معناه ضاقت عن القتال وكرهته.
ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى السليمين وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهَم وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم، ثم نسخ أيضا ذلك بالقتل.
(حاقَ بهم) : أحاط بهم.
(حَميم) : على أوجه: ماء حارّ، وقد قدمناه.
والحميم: القريب في النسبة، كقوله عن رجل: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) .
أي قريب قريبا.
والحميم أيضاً الخاص، يقال: دُعينا في الحامّة لا في العامة.
والحميم أيضاً: الغريق.
(حَشرناهم) : جمعناهم، قال الزمخشري: إنما جاء
حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله، " نُسَيَر"، للدلالة على أن حشرناهم قبل
تسيير الجبال ليعاينوا تلك الأهوال.
(حَيْرَان) : أي ضالّ عن الطريق، وهو نصب على الحال
من المفعول في استهوته.
(حَمولَةً) ، وهي الإبل التي تطيق الْحَملَ.
قال المفسرون: الْحَمولة الإبل والخيل والبغال والحمير، وكلما حُمِلَ عليه.
(حَوَايا) : جمع حويّة، على وزن فعيلة، فوزنُ حوايا على
هذا فعائل، كصحيفة وصحائف.
وقيل وزنها حاوية على وزن فاعلة، فحوايا(2/148)
على هذا فواعل كضاربة وضوارب.
وهو معطوف على ما في قوله: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) ، فهو من المستثنى من التحريم.
وقيل عطف على الظهور.
فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا، وهي المباعير، وقيل المصارين
والحشْوة ونحوهما مما يتحوَّى في البطن.
وقيل عطف على الشحوم، فهو من المحرم.
(حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، أي نهى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: حرم: وجب بالحبشية.
والخطاب لجميع الْخلْق.
أمر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو جميعهم إلى سماع تلاوة ما حرّم الله علهيم، وذكر في آيات الأنعام المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع، ولم تنسخ قط في ملَّة.
وقال ابن عباس: هي الكَلمات العشر التي أنزل الله على موسى.
(حَرْث) : الأرض مصدر، ثم استعمل بمعنى - الأرض
والزَّرع والجنات.
(حثيثا) : - سريعاً.
والجملة في موضع الحال من الليل، أي يطلب النهار فيدركه.
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، من قرأ
(عليَّ) بالتشديد على أنها ياء المتكلم، فالمعنى ظاهر.
وهو أن موسى قال: حقيق عليه ألاَّ يقول على الله إلا الحق.
وموضع (أَنْ لَا أَقُولَ) على هذا رفع، على أنه خبر
حقيق. وحقيق مبتدأ أو بالعكس.
ومَنْ قرأ (عَلَى) بالتخفيف فموضع (أَنْ لَا أَقُولَ)
خفض بحرف الجرِّ، وحقيق صفة لرسول.
وفي المعنى على هذا وجهان: أحدهما
أن على بمعنى الباء، فمعنى الكلام رسول حقيق بألا أقول على الله إلاَّ الحق.
والثاني أن معنى حقيق حريص، ولذلك تعدَّى بعلى.(2/149)
(حَفِيٌّ عنها) : أي مهتبل بها معْتَنِ بشأنها.
والمعنى يسألونك كأنّكَ حَفِيّ بعلمها.
وقيل المعنى: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ بهم لقرابتك منهم، فعنها على هذين
القولين يتعلق بـ يسألونك.
وقيل المعنى يسألونك كأنك حفيّ بالسؤال عنها.
والحفى السؤال باستقصاء.
(حملت حَمْلاً خَفِيفاً) ، أي خفّ عليها ولم تَلْقَ ما
يلقى بعض الْحَبَالى من حملهنَّ من الأذى والكرب.
وقيل الحمل الخفيف المنيّ في فَرْجها.
والضمير عائد على حوّاء حين تَغَشَّاهَا آدم.
(حرض) ، وحثّ وحضّ بمعنى واحد، وهو الحث على
الشيء.
(حَنِيذ) : مشويّ في حر الأرض بالرضف، وهي الحجارة
المحماة.
وفعيل هنا بمعنى مفعول.
(حَصْحَص الحق) ، أي تبيَّن وظهر.
(حَرَضا) : وهو الذي قد أدى به الحزن أو العشق إلى
سقم وفناء.
(حَمأ مَسْنون) ، الحمأ: الطين الأسود.
والمسْنون: المتغِّير الْمنْتِن.
وقيل: إنه من أسنَ الماء إذا تغيَّر.
والتصريف يردُّ هذا القول.
وموضع حمأ صفة لصلصال، من صَلْصَال كائن من حمأ.
(حفَدة) : خدم.
وقيل: أخْتَان.
وقيل أصْهار.
ابن عباس: هم أولادُ البنين.
وقيل البنات، لأنَّ لفظ البنين المذكّر لا يدل عليهن.
(حاصباً) : يعني حجارة أو ريحاً شديدة تَرْمي بالحصباء.
وهي الحصا الصغار.(2/150)
(حَفَفْناهما بنَخْل) : أطبقناها من جوانبهما.
والحفاف: الجانب، وجمعه أحفّة.
والضمير راجع للجنتين المذكورتين.
(حَمِئة) ، وحَامِية وحَمِيَة: حارَّة.
وقرئ بالهمز على وزن فعلة، أي ذات حمأة.
وقرئ بالياء على وزن فاعلة، وقد اختلف في ذلك معاوية وابن
عباس فبعثا إلى كَعْبِ الأحبار ليخبرهما بالأمر، فقال: أمَّا العربية فأنتما أعْلَمُ بها منِّي، ولكن أجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين، فوافق ذلك قراءة ابن عباس.
ويحتمل أن تكون بمعنى حمية، ولكن سهلت همزته فيتفق معنى
القراءتين.
وقد قيل يمكن أن يكون فيها حمأة وتكون حارة لحرارة الشمس.
فتكون جامعةً للوَصْفَيْن، ويجتمع معنى القراءتين.
(حنانا) : رحمة.
وقال ابن عباس: لا أدري ما الحَنان.
(حَصِيدا خامدين) : معناه - والله أعلم - أنهم حصِدوا
بالسَّيْفِ والموْت كما يحْصَد الزرع، فلم تَبْقَ بقية منهم.
وشُبِّهوا في هلاكهم بالزرع المحصود.
ومعنى خامدين مَوْتَى، وهو تشبيه بخمود النار.
وقوله: (منها قائم وحصيد) ، قد امَّحَى أثَره.
(حَدَب) : مرتفع.
(حَصَبُ جهنَّم) ، كل شيء ألقَيْتَه في نارٍ فقد حصبْتها به.
وقرأ علي بن أبي طالب: حطب.
وقرئت بالضاد المعجمة وهي ما هيجت به
النار وأوقدته.
والمرادُ بكلٍّ أن ما عبِدَ من دون الله يُحرق بالنار توبيخاً لمن
عبدها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: حَصَب جهنم - قال: حطب
جهنم - بالزنجية.
(حَسِيسَها) : صوتها.
(حمل) : الْحَمْل - بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على رَأس شجرة.
والحِمْل - بالكسر: ما كان على ظهر أو رأس.(2/151)
(حَذِرُونَ) : الحذر المتيقظ.
(حَاذِرُونَ) : مؤدون، أي ذوو أداة، أي ذوو سلاح، والسلاح آلات الحرب.
(حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) : بساتين ذات حسن، واحدتها حديقة.
والحديقة: كل بستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة.
(حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي وجبت عليهم الحجة، فوجب العذاب.
ومثله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي وجبت.
والحق له أربعة معانٍ:
الصدق، والعدل في الحكم، والشيء الثابت، والأمر الواجب.
والحق اسم الله تعالى، أي واجب الوجود. ومنه الحديث: "السحرُ حقٌّ".
يعني أنه موجود لا أنه صواب والعين حق، يعني يصيب الشيء، وليس معناه أنه حسن، وقد يعبر به عن كلامه سبحانه حيث يقول: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ) .
ومنه (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) ، يعني بالقول، وهو قوله تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
فسمى القول حقا - يعني صدقا.
وقد يعبر به عن الإسلام، نحو قوله (يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) : يعني الإسلام.
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) ، أي وجبت.
وقد يعبر عنه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) .
(حيوان) .
كل ذي روح، ويراد به أيضا الحياة، كقوله تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) ، أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها.
ولفظ الحيوان: مصدر كالحياة.
(حناجر)
جمع حنجرة وحنجور، وهي الحلق، وبلوغ القلوب إليها في آية الأحزاب مجاز وعبارة عن شدة الخوف.
وقيل هي حقيقة، لأن الرِّئَة تنتفخ من شدهة الخوف فتَرْبو يرتفع الحلق بارتفاعها إلى الحنجرة.(2/152)
(حَرور) : ريح حارة تهب بالليل.
وقد تكون بالنهار.
وآية فاطر تمثيل للثواب والعقاب.
وقيل: الظل الجنة، والحَرور النار
(حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) ، أي محدقين به، دائرين حوله
ومنه حفَّ به الناسَ، أي صاروا في جوانبه.
(حَرْثَ الْآخِرَةِ) :
عبارة عن العمل لها وكذلك: (حَرْثَ الدُّنْيَا) ، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحارثَ يعمل وينتظر المنفعةَ مما عمل.
(حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) .:
الأنفَة والغضب.
وذلك أنهم منعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من العمرة، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله، وقولهم لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
(حَبَّ الْحَصِيدِ) : هو القمح والشعير ونحو ذلك مما يحصد.
وهو مما أضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
(حَبْلِ الْوَرِيدِ) :
هو عِرْق كبير في العنق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وهذا مثل في فرط القرب.
والمراد به قرب علم الله واطلاعه على عبده.
وإضافة الحبل إلى الوريد كقولك مسجد الجامع، أو يُراد بالحبل العاتق.
(حَقُّ الْيَقِينِ) :
معناه الثابت من اليقين، وقيل: إنَّ " الحقّ " و " اليقين " بمعنى واحد، فهو من إضافة الشيء إلى نفسه.
واختار ابن عطية أن يكون كقولك في أمر تؤكده: هذا يقين اليقين، أو صواب الصواب، بمعنى أنه نهاية الصواب.
(حَادَّ اللَّهَ) .
شاقّه، أي عاداه، وخالفه.
(حاجة) : فقْر ومِحنة.
والحاجة أيضا: الحسد، ومنه: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) .
ويحتمل أن يكون بمعنى الاحتياج، على أصلها.(2/153)
(حَسير) : كَلِيل أدركه التَّعب.
ومعنى هذا أنك إذا نظرت
إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها شقاقاً أو خَلَلاً رجع بصرُك ولم تر شيئاً من
ذلك، فكأنه ناس لاَهٍ لم يحصل له ما طلب من رؤية الشقاق والخلل.
وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التَّأمل.
(حَرْد) : فيه أربعة أقوال: المنع، والقصد، والغضب.
وقيل: إن الحرد اسم علم للجنة، ويقال: حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر.
(حاقة) : يعني القيامة، وسميت بذلك لأنها تحقّ.
أي يصح وجودها ولا رَيْبَ في وقوعها، أو لأنها حقّت لكل أحد جزاء عمله، أو لأنها تبْدِي حقائق الأمور.
(حافرة) : رجوع إلى أول الأمر.
ويقال رجع فلان في حافرته.
وقول الكفار: (أئنّا لَمَرْدودونَ في الحافرة) .
إنكار منهم لذلك، ولذلك اتفق القرّاء على قراءته بهمزتين، إلا أنَّ منهم مَنْ
سهّل الثانية.
ومنهم من حقّقها.
واختلفوا في: (أإذا كنّا عظاماً نَخِرة) ، فمنهم من قرأه بهمزة واحدة، لأنه ليس موضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيدا للإنكار المتقدم.
والمعنى أئنا لمردودون إلى الحياة بعد الموت.
وقيل: إن الحافرة الأرض، بمعنى المحفورة.
فالمعنى أئنّا لمردودون إلى وجه الأرض بعد الدَّفْنِ في القبور، وقيل: إن الحافرة
النار.
(حمّالة الحَطَب) ، في وصف أم جميل بحمّالة الحطب أربعة
أقوال:
أحدها: أنها كانت تحمل حَطباً وشَوْكا فتلْقِيه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - لتؤذيه.
الثاني: أن ذلك عبارة عن مشيها بالنميمة، يقال: فلان يحمل الحطب بين
الناس في أي يوقد بينهم نار العداوة بالنمائم.(2/154)
الثالث: أنه عبارة عن سعيها بالمضَرة على المسلمين، يقال فلان يحطب على
فلان إذا قصد الإضرارَ به.
الرابع: أنه عبارة عن ذنوبها وسوء أعمالها.
(حدود الله) : ما حَدّها لهم من امتثالِ أوامره واجتناب
نواهيه، لأنَّ الحدَّ هو النهاية التي إذا بلغها الحدود له امتنع.
(حُوبا) - بالضم - الاسم.
والحَوْب - بالفتح: المصدر.
ومعناه أثم إثماً عظيما.
قال ابن عباس: هو الإثم بلغة الحبشة.
(حُرُم) : محرمين، واحدهم حرام، ومنه: (وحرّمَ عليكم صَيد الْبَرِّ ما دمْتم حرماً) .
كل (حكم، حكمة) يقال حكم وحكمة، وذل وذِلّة، ونِحَل ونِحْلَة، وخبز
وخبزة، وقل وقلة، وعُذْر وعُذرة، وبغض وبغضة، ووقر ووقرة.
(حُسبانا) : حسابا، ويقال جمع حساب، مثل شهاب وشُهْبان.
فأما في الأنعام، فالمراد بها أن الله تعالى جعل الشّمْسَ والقمرَ يُعْلَمُ بهما
حساب الأزمان والليل والنهار.
وأما آية الكهف، فالمراد أن يرسل
عليها عذاب حسبان، وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك كالصِّرّ والبرد
ونحو ذلك.
(حُبُك) : طرائق تكون في السماء من آثار الغَيْم، واحدتها
حَبِيكة وحِبَاك.
والحبك أيضاً الطرائق التي تراها في الماء القائم إذا ضربته الريح.
وكذلك حُبُك الرمل الطرائق التي تراها فيه إذا هبت عليه الريح.
ويقال شَعْره حبك إذا كان متَكسِّرا جعودته طرائق.
(حُطاما) : متَفَتِّتاً يابسا، وشبه الله الدنيا بالزرع الذي ينبته
الزارع في سرعة تغيره بعد حُسنه، وتحطمه بعد ظهوره.
(حُور) .: جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين في شدة
سواد سوادها.(2/155)
(حُسُوماً) : ابن عباس: معناه متتابعة كاملة لم يتخللها غير
ذلك.
وقيل: معناه شُؤْماً ونحساً.
وقيل: هو جمع حاسم، من الحسم، وهو القطع، أي قطعتهم بالإهلاك.
وحسوم على القولين مصدر في موضع الحال، وعلى الثالث حال أو مفعول من أجله.
(حُطَمَة) : هي جهنَّم، وسميت بذلك لأنها تحطِّمُ ما يلقى
فيها وتلتهمه، وقد عظمها بقوله: (وما أدراكَ ما الحُطَمة) .
فإذا كان العظيم يعظم شيئاً هل يدرك حقيقته غَيْرُه، عصمنا الله منها بجاه نَبِيهِ - صلى الله عليه وسلم -.
والحطَمة: السنَة الشديدة أيضاً.
(حين) : غاية ووقت وزمان غير محدود.
وقد يجيء محدوداً.
وأما الحين المذكور في الإنسان فهو الحال الذي أتى عليه حين كان طينا قبل أن ينفخ فيه الروح، وضعّف لوجهين:
أحدهما: قوله: (إنّا خَلَقْنَا الإنسانَ مِنْ نُطفةٍ) وهو هنا
جنس باتفاق، إذ لا يصح هذا في آدم.
والآخر أنَّ مقصد الآية تحقيرِ الإنسان.
(حِطّة) : مصدر حط عنا ذنوبنا حطة.
والرفع على تقدير إرادتنا حطة، ومسألتنا حطة.
ويقال الرفع على أنهم أمِروا بهذا اللفظ بعينه
فبدَّلوا حنطة.
وروي حبّة في شعرة.
وقيل معناه: قولوا صواباً بلغتهم.
وقيل معناه بالعبرانية لا إله إلا الله.
(حلّ) : حلال، و (حرم) : حرام.
وقرئت: (وحِرْمٌ على قرية) ، أي واجب.
والمعنى واحد.
وقوله: (وأنتَ حِلّ بهذا البلد) ، أي حلال.
ويقال حل حال: أي ساكن، أي لا أقسم به بعد
خروجك منه، لأن السورة نزلَتْ والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة.(2/156)
وقيل: إنَّ المعنى تسْتَحل حُرْمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها
قَتْلُ صيْد ولا بشر، ولا قطْع شجر.
وعلى هذا قيل لا أقسم نفي، أي لا أقسم
بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذَاية.
وقيل معنى حل حلال يجوز لك في هذا ما شئْتَ من قتل كافر وغير ذلك
مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، لم يحل لأحد قبلي، ولا يحِلَّ لأحد بعدي، وإنما أحِلَّ لي ساعةً من نهار - يعني يوم فتح مكة ".
وفي ذلك اليوم أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خَطَل، وهو مُتَعَلقٌ بأستار الكعبة، ولا يحل قتْل من تعلق بها.
وهذه خصوصية له عليه السلام، لأنه كان يؤذي الله ورسوله.
فإن قيل: السورة مكية وفتح مكة كان ثمانية من الهجرة؟
فالجواب: أن هذا وَعْد بفتح مكة، كما تقول لمن تعده بالكرامة: أنت مكرم، تعني فيما يستقبل.
وقيل: إن السورة على هذا مدنيّة، نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف.
(حِنْث) : شرك، ومنه: (وكانوا يُصِرون على الحِنْث العظيم) .
وقيل: الحنث في اليمين: أي اليمين الغَمُوس.
وقيل الإثم.
(حكمة) : اسم للعقل، وإنما سُمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل.
ومنه حَكمة الدابة، لأنها ترد من غَرْبها وإفسادها.
(حِوَلا) ، أي تحوّلاً وانتقالاً.
(حِجْراً مَحْجوراً) : أي حراماً محرماً عليكم.
والحِجْر: ديار ثمود، ومنه: (ولقد كذّب أصحابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِين) .
والحجر: العقل، كقوله: (هَلْ في ذلك قَسَم لِذِي حِجْر) .
والحجر: حجر الكعبة، وهو ما حولها في أحد جهاتها.
والحجر الفرس الأنثى.
وحِجر القميص وحَجره لغتان مشهورتان.
والفتح أفصح.(2/157)
(حاشا) : اسم بمعنى التنزيه في قوله: (حاشَاِ لله ما عَلِمْنَا عليه مِنْ سوء) .
(حاشا لله ما هذا بَشَرا) .
لا فعلٌ ولا حرفٌ، بدليل قراءة بعضهم حاشاً بالتنوين، كما يقال براءة من الله.
وقراءة ابن مسعود: حاشَ اللهِ، بالإضافة، كمعاذ الله، وسبحان الله، ودخولها على اللام في قراءة السبعة، والجار لا يدخل على الجار.
وإنما ترك التنوين في قراءتهم لبنائها، لشبهها بحاش الحرفية لفظاً.
وزعم قوم أنها اسم فعل معناه: أتبرأ وتبرأت لبنائها.
ورد بإعرابها في بعض اللغات.
وزعم المبرد وابن جني أنها فعل، وأن المعنى في الآية جانبَ يوسفُ المعصية
لأجل الله.
وهذا التأويل لا يتأتى في الآية الأخرى.
وقال الفارسي: حاشا فعل من الحشَى، وهو الناحية، أي صار في ناحيةٍ، أي بَعد مما رُمِي به وتنحَّى عنه فلم يَغْشه ولم يلابسه، ولم يقع في القرآن حاشا
الاستثنائية.
(حتى) : حرف لانتهاء الغاية، كإلى، لكن يفترقان في أمور، فتنفرد حتى
بأنها لا تجر إلا الظاهر، وإلا الآخر المسبوق بذي أجزاء أو الملاقي له، نحو:
(سَلامٌ هي حتى مَطْلَعِ الفَجْرِ) .
وأنها لإفادة تقضِّي الفعل قبلها شيئاً فشيئاً.
وأنها لا يقابَل بها ابتداء الغاية.
وأنها يقَع بعدها المضارع المنصوب بأن المقدرة ويكونان في تأويل مصدر
مخفوض مرادفة إلى، نحو: (لن نبرح عليه عاكفين حتى يَرْجعَ إلينا موسى)
، أي إلى رجوعه.
ومرادفة) كي التعليلية، نحو: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) .
(لا تُنْفِقُوا على مَنْ عند رسول اللهِ حتى ينفضُّوا) .
وتحتملهما: (فقاتِلُوا التي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ الله) .(2/158)
ومرادفة إلا في الاستثناء، وجعل منه ابن مالك
وغيره: (وما يعلمان مِنْ أحَدٍ حتى يقُولاَ) .
مسألة
متى دلَّ دليلٌ على دخول الغاية التي بعد إلى وحتى في حكم ما قبلها أو عدم
دخوله فواضح أنه يعمل به، فالأول نحو قوله: (وأيدِيكم إلى الْمَرَافق) .
(وأرجلكم إلى الكعبين) .
دلت السنة على دخول المرافق والكعبين في الغسل.
الثاني نحو: (ثمّ أتِمّوا الصيامَ إلى الليل) .
دل النهيُ عن الوصال على عدم دخول الليل في الصيام.
(فَنِظرَة إلى ميسرة) ، فإن الغايةَ لو دخلت هنا لوجب الإنظار حال اليسار أيضاً، وذلك يؤدي إلى عدم المطالبة وتَفْويت حق الدائن.
وإن لم يدل دليل على واحد منهما ففيه أربعة أقوال:
أحدها - وهو الأصح - تدخل مع حتى دون إلى حَمْلا على الغالب في
البابين، لأن الأكثر مع القرينة عدم الدخول مع إلى والدخول مع حتى، فوجب الحمل عليه عند التردد.
والثاني: تدخل فيهما.
والثالث: لا تدخل فيهما، واستدل القولان في استوائهما بقوله: (فمَتَّعْنَاهم
إلى حين) .
وقرأ ابن مسعود حتى حين.
تنبيه:
حتى تَرِد ابتدائية، أي حرفاً يبتدأ بعده الجمل، أي تستأنف، فيدخل على
الاسمية والفعلية المضارعة والماضية، نحو: (حتى يقولُ الرسولُ) بالرفع.(2/159)
(حتى عفَوْا وقالوا) .
(حتى إذا فشلْتم وتنازَعتم) ، وادعى ابن مالك أنها في الآيات جارّة لإذا، ولأن مضمرة، كما في الآيتين الأوليين.
والأكثر على خلافه.
وترد عاطفة، ولا أعلمه في القرآن، لأن العطف بها قليل جداً.
ومِنْ ثَمّ أنكره الكوفيون ألبتة.
(حيث) : ظرف مكان.
قال الأخفش: وترِد للزمان مبنيةً على الضم تشبيهاً
بالغايات، فإنَّ الإضافة إلى الجملة كلا إضافة، ولهذا قال الزجاج - في قوله
تعالى: (من حيث لا تَرَوْنَهم) : ما بعد حيث صلة لها.
وليست بمضافة إليه، يعني أنها غير مضافة للجملة بعدها، فصارت كالصلة لها، أي كالزيادة، وليست جزءاً منها.
وفهم الفارسي أنه أراد أنها موصولة.
ورد عليه.
ومن العرب من يعربها، ومنهم مَنْ يبنيها على الكَسْرِ لالتقاء الساكنين، وعلى الفتح للتخفيف، وتحتملهما قراءة مَنْ قرأ: (مِنْ حيثِ لا يعلمون) بالكسر.
(الله يَعْلَم حيْثَ يجعَل رِسالاته) - بالفتح.
والمشهور أنها لا تتصرف.
وجوَّز قوم في الآية الأخيرة كونها مفعولاً على السعة، قالوا: ولا تكون
ظرفاً، لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان، ولأنه يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة لا شئاً في المكان، وعلى هذا فالناصب لها يُعلم محذوفاً مدلولاً بأعلم لا به، لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به إلا إنْ أوَّلْتَه بعالم.
وقال أبو حيان: الظاهر إقرارها على الظرفية المجازية وتضمين أعلم معنى ما
يتعدّى إلى الظرف، فالتّقْدِير: الله أنفذ عِلْماً حيث يجعل، أي هو نافذ العلم في هذا الموضع.(2/160)
(حَرف الخاء المعجَمة)
(خلق) : له معنيان: من الخلقة، ومنه الخالق اسم الله، والخلاق.
وخلق الرجل: كذب.
ومنه: (وتخلقون إفكا) .
واختلاق كذب.
(ختم الله على قلوبهم) : أي طبع عليها، وهذا تعليل لعدم
إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز، وقيل حقيقة، وإن القلب كالكف يقبض مع زيادة الضلال أصبعاً أصبعاً حتى يختم عليه.
والأول أظهر.
(خالدون) : باقون بقاءً لا آخر له.
وبه سميت الجنة دار الخلد.
وكذلك النار.
وتعلق المعتزلة بقوله تعالى: (خالدا فيها) : أن العصاة من
المؤمنين مخلدون في النار.
وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار.
(خاشعين) : متواضعين.
وقوله تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن) ، أي خفتت، ويراد به السكون.
ومنه: (وترى الأرضَ خاشعة) .
(خير) : ضد الشر، وله أربعة معان: العمل الصالح، والمال، ومنه: (إنْ
ترك خَيْرًا الوصيّة) ، والخيرة، والتفضيل بين شيئين.
(لا خَلاق) ،: لا نَصِيب.
(الخيْط الأبيض) : بَيَاض النهار، (والخيط الأسود) سواد الليل.
(خاوِية) : خالية حيْث وردت.
(خَبَالاً) : فسادا.(2/161)
(خائبين) : فاتهم الظَّفَر.
(خطأ) : ضد الصواب.
وهو عَدَم الإصابة، وهو فيمن قتل مؤمناً خطأ
بمعنى السهو، كقوله تعالى: (ليس عليكم جنَاح فيما أخطأتُمْ به) .
وقد يعَبَّر به عن الباطل، كقوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا إنْ نسينا أو
أخَطأنَا) ، ففرَّق بين الخطأ والنّسيان.
وأما المخطىء فهو المبطل.
والخاطىء نقيض العامد.
وقيل المخطىء: ما كان في الدِّين خاصة، والخاطىء ما كان في غيره.
وقيل: هما سواء، يقال: خطأ وأخطأ بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة.
(خَلِيل) : صديق، وهو فعيل من الخُلّة، وهي الصداقة والمودّة.
(خَصِيم) : جيِّد للخصومة.
(خائنة) : مصدر بمعنى الخيانة، والهاء للمبالغة، كما قالوا:
رجل علامة.
(خَسِروا أنفسهم) : غبنوها وأهلكوها.
(خَوّلنَاكم) : ملكناكم من الأموال والأولاد.
(خلفْتُموني مِنْ بعْدِي) ، أي قمتم مقامي.
والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العِجْل مع السامريّ في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل، كهارون عليه السلام حيث لم يكفّر الذين عبدوا العجل.
(خالفين) : متخلّفين عن القوم الذاهبين إلى الجهاد.
وأما قوله تعالى: (رَضُوا بأنْ يكونوا مع الخَوَالف) ، أي مع النساء
والصبيان.
(خَرَقوا له بنين وبناتٍ بغَيْر علم) ، أي اختلقوا
وزَوَّروا، والبنين: قولُ النصارى في المسيح، واليهود في عزير.
والبنات قولُ(2/162)
العرب في الملائكة.
وإنما قرأه ابن عباس بالتشديد مبالغة في قولهم ذلك مرةً بعد
أخرى.
(خلائفَ الأرض) : يخلفُ بعضهم بعضاً في سكناها.
واحدهم خليفة.
(خاطئين) : قال أبو عبيدة: خطأ وأخطأ بمعنى.
وقيل أخطأ في كل شيء إذا سلك سبيلا خطأ عامداً وغيْر عامد.
(خَطْبُكُنَّ) : أمركن، والضمير للنسوة اللاتي جمعهنّ الملكُ
وامرأة العزيز معهنّ، فسألهن عن قصة يوسف، وأسند المراودة إلى جميعهن، لأنه لم يكن عنده علم بأنَّ امرأة العزيز هي التي راوَدَتْه وحْدَها.
(خَلَصوا نَجِيًّا) : أي انفردوا عن غيرهم يُنَاجي بعضُهم
بعضا.
والنّجِيُّ يكون بمعنى المنادي مصدراً.
(خَرّوا له سجّداً) : كان السجودُ عندهم تحيةً وكرامة لا عبادةً.
(خَبَتْ زِدْنَاهمْ سَعِيرا) : أي سكن لهبُ النار.
ومعناها كلما أكلَتْ لحومَهم فسكن لهيبها بُدِّلوا أجساداً أخر، ثم صارت ملتهبةً أكثر مما كانت.
وهذه الآية كالتي في النساء: (كلما نَضِجَتْ جلودهُم بَدَّلْنَاهم جُلوداً
غيرها) .
(خَرْجاً) : جِبَاية.
ويقال فيه خراج. وقُرِىء بهما.
فعرضوا على ذي القرنين أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها السد، فقال: ما مكنِّي فيه رَبَي خير.
وقيل: إن المخرج أخَصّ من الخراج.
يقال: أدِّ خرج رَأسِك، وخراج مدينتك.
وأما قولُه تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) - فمعناه أم تسألهم أجراً على ما جئت به فأجْرُ ربك وثوابه خير، لأنه يرزقك ويغنيك عنهم.
وهذا كقوله: أم تسألهم أجْرًا، فيثقل عليهم اتَبَاعُك.(2/163)
(الخبيثات للخَبِيثين) : معناه أن الخبيثات من النساء للخبيثين
من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ففي ذلك ردٌّ على أهل الإفْكِ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطيب الطيبين وزوجته أطيب الطيبات.
وقيل: إن الخبيثات مِنَ الأعمال للخبيثين من الناس، والطيبات من الأعمال
للطيبين من الناس.
وفيه أيضاً ردّ على أهل الإفك، لأن عائشةَ لا يليق بها إلا
الطيبات من الأعمال، بخلاف ما قاله أهل الإفك.
وقيل الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والإشارة بذلك إلى أهل
الإفك، أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم.
(خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) : أي اختلاقهم وكذبهم.
وفرِئت خلق للأولين، أي عادتهم.
(خَبْء) : مستتر.
وقيل معناه في الآية: الغيب.
وقيل يخرج النبات من الأرض.
واللفظ يَعمّ كل خفي.
وبه فسره ابن عباس.
(خَتّار) : غدّار.
والْخَتر أكبر الغدر، وأكبر الغَدْر جحدان نعم الله.
(خاتم النبيين) : من أسماء نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقرئ بكسر التاء، بمعنى أنه ختمهم فهو خاتم.
وبالفتح بمعنى أنهم ختِموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم.
فإن قلت: كيف كان خاتمهم، وهذا عيسى ينزل في آخر الزمان؟
فالجواب أنه عليه السلام ينزل مجدداً لهذه الشريعة المحمدية، كالمهدي الذي
يكون قبله، وكما جرت الحكمة في أنه لا ينصر الرجلَ ولا يذبّ عنه إلا مَنْ
كان من قرابته، يبعث الله المهدي من ذريته عليه السلام، كما قال: اسمه
كاسمي، ونسبه كنسبي، ويمكث في الأرض خمس سنين أو سبعا على اختلاف
الروايات، ثم يأتي بعده عيسى عليه السلام ليجدِّدَ شريعته، ويلتقي مع المهديّ(2/164)
بالشام فيموت المهدي، ويجدد عيسى عليه السلام هذه الشريعة المحمدية، لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يتزوّج أمَّه مريم في الجنة، فيكون عيسى ربيباً لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك يقال لعيسى: تقدم للصلاة، فيقول: إمامُكم منكم، يشير إلى أنه لم ياتِ بشريعةٍ أخرى.
وقيل: إنه عليه السلام طلب مِنَ اللهِ أنْ يكون من هذه الأمة المحمدية
لما علم مِنْ فَضْلِها، فأعطاه الله ذلك، وبعثه في آخرهم.
فهنيئاً لكم يا أمَّةَ محمد بما خَوّلكم الله مِنَ الفَضْلِ، وخَصكم بهذا النبي الكريم، عليه أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليم.
(خَرَّ مِنَ السماء) : معناه سقط، لأنه تمثيل للشِّرْكِ بمَنْ أهلك
نَفسه أشد الهلاك.
(الْخَلْف) : الرديء من الناس.
ويقال) عقب الخير خلَف - بفتح اللام، وفي عقب الشر خَلْف - بالسكون، وهو المعني هُنَا.
واختلف مَن المعنيّ بذلك، فقيل: النصارى، لأنهم خلفوا اليهود.
وقيل: كل من كَفَر وعَصَى بعد بني إسرائيل.
(خَمْط) : الْخَمْط: شَجَرُ الأرَاك.
وقيل: كلُّ شجرة ذات شوك.
(خَطِف الْخَطْفَة) ، أي خطفوه بسرعة واستلاب.
والمعنى لا تسمع الشياطينُ أخبارَ السماء إلاَّ الشيطان الذي خَطِف الْخَطفة.
(خَوَّلَه) : أعطاه.
(خيرات) : يريد خيّرات - بالتشديد، جمع خيرة.
وقال الزمخشري وغيره:
أصله خيرات - بالتشديد، ثم خُفف، كميت.
قالت أم سلمة: أخبرني يا رسول اللَه عَنْ قوله تعالى: (خيرات حسان) .
قال: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه.
(خافضة رَافِعة) : تقديره هي خافضة رافعة، فينبغي أن(2/165)
يوقف على ما قبله لبيان المعنى.
والمراد بالخفض والرفع أنها ترفع أقواماً إلى
الجنة، وتخفض أقواماً إلى النار.
وقيل ذلك عبارة عن هَوْلها، لأن السماءَ تنشق، والأرض تزلزل وتمتد.
والجبال تنسف - فكأنها تخفض بعضَ هذه الأجرام وترفع بعضها.
(خَصاصة) : حاجة وفقر.
وأصل الخصاصة الخلل والفُرج، ومنه خَصَاص الأصابع، وهي الفرج التي بينها.
وفي هذه الآية مَدْحٌ للأنصار، لأنهم كانوا يؤثرون غيْرَهم بالمال على أنفسهم، ولو كانوا في غاية الاحتياج.
وروي أن سبب نزولها أن رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما قَسّم هذه القُرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودِيَاركم.
وشارَكْتُموهم في هذه الغنيمة.
وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا.
فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة.
وروي أن سببها أن رجلاً من الأنصار أضاف رجلاً من المهاجرين، فذهب
الأنصاري بالضيف إلى منزله، فقالت له زوجه: والله ما عندنا إلا قوت
الصبيان.
فقال لها: نوِّمِي صبيانك، وأطفئِي السِّرَاج، وقَدمي ما عندك للضيف.
ونوهمه نحن أنّا نَأكل، ولا نأكل، ففعلا ذلك.
فلما غَدَا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: " عَجِب الله مِنْ فِعلكما البارحة "، وتلا عليه الآية.
(خَسَفَ الْقَمَر) : بالخاء والكاف بمعنى ذهاب ضوئه ويقال
خسف هو، وخسفه الله.
وقيل: الكسوف ذَهَاب بَعْضِ الضوء، والخسوف ذهاب جميعه.
(خَاسِئا) : هو النقر عن الشيء الذي طلبه.
(خاب مَنْ دَسَّاها) ، أي حقرها بالكُفْرِ والمعاصي.
وأصله دسس بمعنى أخفَى، فكأنه أخفى نفسه لما حقرها، وأبدل من السين
الأخيرة حرف علة، كقولهم: قصّيت أظفاري، وأصله قصصت.(2/166)
(خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : آثاره.
(خُلّة) . - بضم الخاء: موَدة، ومنه الخليل، وجمعه أخلاَّء.
والخلَّة الحاجة.
وأما قوله: (ولا خلّة) ، فالمراد بها الدار الآخرة، لأن كل
أحد يومئذ مشغولٌ بنفسه.
(خُوَار) .: صوت البقر، وكان السامِريُّ
قد قبض قبْضة من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل، فصار
له خُوار.
وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل، فيصيح فيه فيُسْمَع له
خوار.
(خُمُرِهنَّ) : جمع خمار، وهي الْمِقْنَعة، سميت بذلك لأن
الرأس يخمَّر بها، أي يغطى، وكل شيء غطيته فقد خَمَّرته.
والخمَر: ما واراك من شَجر.
(خلطاء) : شركاء.
(خشب مُسَنَّدة) ، جمع خشبة، وشبَّه المنافقين بالخشب
المسنَّدَة في قلّة إفهامهم، فكان لهم منظر بلا مخبر، ولما كانت الخشب المسندة لا منفعة فيها كانوا كأنها هم، بخلاف الخشب السقف بها أو المغروسة في جدار فلها منفعةٌ حينئذ.
وقيل: كانوا يستندون في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشبههم بالخشب المسنَّدة.
(الْخُنَّس) : يعني الدراري السبعة، وهي الشمس، والقمر، وزُحَل، وعطارد، ومريخ، والمشتري، والزهرة، وذلك أن هذه
الكواكب تخنس في جَرْيها، أي تتقهقر، فيكون النَّجْم في البرج فيكر راجعاً، وهي في جوار الفلك.
(خُطبة) - بالضم: حمد وتصلية ودعاء.
وبالكسر: تزويج.
وفي قوله تعالى: (لا جناح عليكم فما عرَّضتم به مِنْ خِطبةِ النِّساءَ) البقرة:: غير المعتدة.(2/167)
وأما المعتدّةُ فيجوز لها التعريض، كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وكقوله:
إن الله يفعل معكم خيراً، وشبه ذلك.
(خِلاَف) : مخالفة.
ومنه: (فَرِحَ الْمخَلَّفُون بمقْعَدِهم خِلاَفَ رسولِ الله) .
(وإذاً لا يلبثون خلاَفك إلا قليلاً) ، أي بعدك: وأما قوله تعالى: (أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خِلاَف) فمعناه أن تقطع يَده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى.
وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرُّسْغ، وَقطع الرجل من المفصل، وذلك في الحرابة وفي السرقة.
(خِزْي) : هَوَان وهَلاَك أيضاً.
(أخْدَان) : جمع خِدْن، وهو الخليل.
(خطب) : خبر. والخطب أيضاً: الأمر العَظِيم.
(خُفْيَة) ، من الإخفاء.
وقرئ - خيفة، من الخوف.
(خَوْفاً وطمعاً) ، جمعَ اللَّهُ الخوفَ والطمَعَ، ليكون العبد
خائفاً راجياً، كما قال تعالى: (يَرْجونَ رَحْمَتَه ويخافونَ عذابَه) ، فإنَّ موجِبَ الْخَوْفِ معرفة عقاب اللهِ وشدة سطْوَته، وموجب الرجاء
معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) .
ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عقابه خافه، ولذلك جاء في
الحديث: " لو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعْتَدلا "، إلا أنه يستحَبّ أن يكون طول عمر العبد يغلب عليه الخوف، ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرّجاء عند حضور الموت، للحديث: " لا يموتَنّ أحدًا إلا وهو يُحْسِن الظن باللهِ ".
واعلم أن الخوف على ثلاث درجات:(2/168)
الأولى: أن يكون ضعيفاً يخطر على القلب ولا يؤثّر في الباطن ولا في
الظاهر، فوجود هذا كالعدم.
والثاني: أن يكون قوياً فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة.
والثالث: أنْ يشتدَّ حتى يبْلغ إلى القنوط واليأس، وهذا لا يجوز.
وخيْرُ الأمورِ أوساطها.
والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخَوْف العامَّةِ من الذنوب.
وخَوْف الخاصَّةِ من الخاتمة.
وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها.
والرجاء على ثلاث درجات:
الأولى: رجاءُ رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعته، وترك معصيته، فهذا.
هو الرجاء المحمود.
والثاني: الرجاء مع التفريط والعصيان، فهذا غرور.
والثالثة: أن يَقْوَى الرجاء حتى يبلغ إلى الأمْنَ، فهذا حرام.
والناس في الرجاء على ثلاث مقامات:
فمقام العامة رجاء ثواب الله.
ومقام الخاصة رجاء رضوان الله.
ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبًّا فيه، وشَوْقاً إليه.
(خِلاَلَ الدِّيَارِ) : أزِقَّتها.
وخلال: مخالفة أيضاً، كقوله تعالى: (لا بَيْع فيه ولا خِلاَل)
وخلال السحاب وخللها:
الذي يخرج منه المطر.
(خِلْفة) : أي يخلف هذا هذا.
وقيل: هو من الاختلاف، لأن هذا أبيض وهذا أسود.
والخلفة: اسم للهيئة كالرِّكبة والجِلْسة، فالأصل
جعلهما (ذَوِي خلفة) .
(لمن أراد أن يَذّكر) ، أي يعتبر في الصنوعات.
وقيل: يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل فيستدركه(2/169)
بالنهار، أو فاته بالنهار فيستدركه بالليل، وهو قَوْلُ عُمَرَ بن الخطاب وابن
عباس.
(خِتَامه مِسْك) : أي آخر خاتمته وعاقبته إذا شُرب، أي
يوجد في آخره كشم السك ورائحته -، يقال للعطار إذا اشترى منه الطيب اجعل خاتمه مسكا.
وقيل: إنه يمزج الشراب بالمسك، وهذا خارج عن الاشتقاق.
وقيل: إنه من الختم على الشيء بمعنى جعل الطابع عليه.
والمعنى أنه ختم على فَمِ الإناء الذي هو فيه بالمسك كما يُخْتم على أفواه آنية
الدنيا بالطِّين إذا قُصد حِفْظُها وصيانتها.
وقرئ خاتمه، بألف بعد الخاء، وبفتح التاء وكسرها.(2/170)
(حَرف الدال المهمَلة)
(داود) هو ابن إيْشا - بكسر الهمزة وسكون التحتية وبالشين المعجمة -
ابن عَرْبد - بوزن جعفر بمهملة وموحدة ابن باعر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن نحشون بن عمي بن يارب - بتحتية وآخره موحَّدة ابن رام بن
حضرون - بمهملة ثم معجمة - ابن فارص - بفاء وآخره مهملة ابن يهوذا بن يعقوب.
وفي الترمذي أنه كان أعْبَدَ البَشَر، ولهذا لا قال: يا رب، كن لسليمان كما
كنت لي.
فقال له: قل لسليمان يكون لي كما كنتَ لي أكن له كما كنت لك.
وكان يقول: يا رب، كيف تغفر لمن عصاك وقد تجرَّأ عليك، فلما وقع له من " الخصمان " ما أخْبَر اللَّهُ به قال: إلهي اغفر لمن عصاك لعلي أن ألحق بهم.
قال كعب: كان أحْمرَ اللَّوْن، سبْط الرأس، أبيض الجسم، طويل اللحية.
فيها جعودة، حسن الخلق والصوت، وجمع الله له النبوءة والملك، وكان يأمر أن تسْرَجَ فَرَسه فيوحَى له قراءة الزبور فيقرأه قبل أن يركب.
وقد قدمنا أن الله هيّأ لهذه الأمة المحمدية مثل ذلك في قراءة هذا القرآن
العظيم.
قال النوويّ: قال أهل التاريخ: عاش مائة سنةٍ، مدة ملْكه منها أربعون سنة.
وكان له اثنا عشر ابنا.
(دابَّة) : كل ما يَدِبّ على الأرض من حيوان وغيره.
وأما قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ، فهي تقويةٌ لقلوب(2/171)
المؤمنين إذا خافوا الجوع والفَقْرَ في الهجرة إلى بلاد الإسلام، أي كما يرزق اللَه الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلادكم.
(دَأْب آل فرعون) : أي عادتهم.
وفي تشبيه الآية تهديد، أي دأب هؤلاء كدأب آل فرعون.
(دَرَجات عند الله) ، أي منازل بعضها فَوْقَ بعض.
والمعنى تفاوت ما بين منازِلِ أهْل الرضْوان وأهل السخط، أو التفاوت بين
درجات أهل الرضوان، فإنَّ بعضَهم فوق بعض، فكذلك درجات أهل السخط.
وكما أنَّ أهل الجنة على درجات فكذلك أهل النار على دركات بعضها أسفل من بعض.
ومنه: (إنَّ المنَافِقين في الدَّرْكِ الأسفَلِ من النار) ، وفي
الآية دليلٌ على أنهم أسفل من الكفار.
قال ابن عباس: الدرك الأسفل توابيت
من حديد مبْهَمة عليهم - يعني - أنها لا أبواب لها.
(دَابرَ القَوْم) ، أي آخرهم، وذلك عبارة عن استئصالهم
بالكلية.
(دارست) بالألف، أي دارست العلماء وتعلمت منهم ودَرَست، بفتح السين وإسكان التاء بمعنى قدمت هذه الآية ودثرت.
ومعناه قرأت بلغة اليهود، ومنه بيت المدارس، أي القراءة.
(دَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) ، أي أزلّهما إلى الأكل من الشجرة، وغَرَّهما بحلفه لهما وقَسَمه أنه من الناصحين، لأنهما ظنا أنه لا يحلف كاذباً، فلما
أكلا منها بدت لهما سَوْءَاتهما، أي زال عنهما اللباس، وظهرت عَوْراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا لأحدهما من الآخر.
وقيل: كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النَظر.
(دكًّا) : مدكوكا من الأرض، فهو مصدر بمعنى
مفعول، كقولك: ضرب الأمير.
والدَّكُّ والدق: أخوان، وهو التفتّت.
وقرىء دَكَّاء - بالمد والهمز، أي أرْضاً دَكاء ملساء.
وناقة دكاء، وهي المفترشة السنام في
ظهرها، أو المجبوبة السنام.(2/172)
(دَار السلام) : يعني الجنة، وسميت بذلك لأنها سالمةٌ من
الفناء والتعب.
وقيل السلام هو اسم الله، وأضافها إليه لأنها ملكه وخلقه.
ودوائر السلام التي تأتي مرةً بخير ومرة بشر.
يعني ما أحاط الإنسان منه.
وقوله: (عليهم دائرة السَّوْءِ) ، أي يدور عليهم من الدهر ما يَسوؤهم.
ويحتمل أن يكون خيراً أو دعاء.
(دَعْوَاهم فيها) : أي يكون دعاؤهم في الجنة سبحانك.
والدعاء الادّعاء أيضاً.
(أدْنى) له معنيان: أقرب فهو من الدنو، وأقَلّ فهو مِنَ الدنىء الحقير.
(دَأَبا) ، قد قدّمنا أن معناه عادة وجدّ.
ومعناه أيضاً الملاَزمة.
ومنه سبع سنين دَأَبا - بسكون الهمزة وفتحها، مصدر دأب على العمل
إذا داوم عليه.
(دَاخِرون) ، صاغرون أذِلاَّء، وجمِعَ بالواو لأن الدّخور من
أوصاف العقلاء.
(دَخَلا بينكم) ، أي دغلاً وخيانة، وهذه الآية فيمَنْ بايَع
النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به، ثم رجع.
وفي قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) - استعارةٌ في الرجوع مِنَ الخيْرِ إلى الشر، وإنما أفرد القدم ونكَّرَها لاستعظام الزّلل في قدم واحدة فكيف في أقدام كثيرة؟!
(دَرَكا) : إلحاقاً، أي لا تخاف أنْ يُدْرِكَك فرعون وقومه، ولا تخشى الغَرق في البحر.
(داحِضَة) : باطلة زائلة، وكذلك: (ليدْحِضوا به الحقَّ) ، أي ليزيلوا به الحقّ، ويذهبوا به.
ويقال: مكان دحْض، أي مزل مزلق، ولا يثبت فيه قَدَمٌ ولا حافر.
(دهر) : مرور السنين والأيام.(2/173)
(ديَّارا) : من الأسماء المستعملة في النفي، يقال: ما في الدار
ديَّار، أي ما بها أحد.
وزْنه فَيْعال، وكان أصله دَيوار، ثم قلبت الواو ياء
وأدغمت في الياء، وليس وزنه فعَّال، لأنه لو كان كذلك لقيل دوار، لأنه
مشتقّ من الدوَرَان.
وروي أن نوحاً عليه السلام لم يَدْع على قومه بهذا الدعاء إلا بعد أن يئس
من إيمانهم، وبعد أن أخرج الله كل مؤمِن من أصلابهم.
(أَدْبر) في قوله: (والليل إذا أدبر) .
وقرئ دَبر بغير ألف.
والمعنى واحد - يقال دبر الليل والنهار، أي جاء في دبره، وأدبر.
(دَحَاها) : بسطها، وبهذا استدلَّ مَنْ قال: إنَّ الأرض
بسيطة غير كروية، ولكن يفهم من هذه الآية أنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السماء.
وفي آية فصلت السماء قبْلها، والجمع بينهما أن الله خلقها قبل السماء، ثم دحاها بعد ذلك.
فإن قلت: لِمَ قال: أخرج - بغير حرف العطف؟
فالجواب: أن هذه الجملة في موضع الحال، أو تفسير لما قبلها، قاله
الزمخشري.
(دَسَّاها) : أي أخْفَاها بالفجور والمعاصي.
والأصل دسّسها فقُلِبَتْ إحدى
السينين ياء، كما قيل تظنّيت.
(دمْدمَ عليهم ربُّهم) : عبارة عن إنزال العذاب بقوم صالح.
وفيه تهويل عليهم وعلينا، إذ لا يؤَاخَذ أحَدٌ إلاَّ بسبب ذنبه، بل يؤخذ
به البريء والفاعل، كما قالت عائشة: أنهلك يا رسول الله وفينا الصالحون، قال: نعم، إذا كثر الخبث.
قوله: (فسَوَّاها) : قال ابن عطية: معناه فسوَّى القبيلة في الهلاك.(2/174)
وقال الزمخشري والضمير للدمدمة، أي سواها بينهم.
اللهم لا تسو هذه الأمة بإنزال
العذاب عليها بحرمة نبيها وشفيعها - صلى الله عليه وسلم -.
(دَعا) ورد على أوجه: العبادة: (ولا تَدْع مِنْ دون اللَهِ ما لا يَنْفَعكَ ولا
يَضرّك) .
والاستعانة: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) .
والسؤال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .
والقول: (دَعْواهم فيها سبحانَك اللهم) .
والنداء: (يوم يدعوكم) .
والتسمية: (لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ بينكم) .
(دلوك الشمس) : هو زَوَالها إلى أن تغيب، والإشارة بهذا لصلاة الظُّهْرِ
والعَصْر.
(دريّ) - بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، ولهذه
القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدُّرِّ، لبياضه وصفائه، أو يكون مسهّلاً من الهمز.
وقرئ بالهمز وكسر الدال وبالضم والهمز، وهو مشتق من
الدَّرْء بمعنى الدّفع.
وشبه الزّجاجة في إنارتها بكوكب دري، لأنها تضيء
بالصباح الذي فيها.
وحكى أبو القاسم شَيْذلة أنَّ معنى الدّري المضيء بالحبشية.
(دحُوراً) : أي طَرْداً وإهانة وإبعاداً، لأن الدَّحْر الدفع بعُنْف.
وإعرابه مفعول من أجله، أو مصدر من (يقذفون) على المعنى، أو
مصدر في موضع الحال، تقديره مدحورين.
(دُخَان) ، روي أنه كان العرش علي الماء، فأخرج الله من
الماء دخانا، فَارْتفَع فَوْقَ الماء، فأيبس الماء، فصار أرضاً، واشْتَدَّ يَبس الأرضِ، فصار حجرا، ثم خلق الله السماء فجعلها سبعة أجزاء، جزءاً منها ماء، وجزءاً قطرا، وجزءا حديداً، وجزءاً فضة، وجزءاً ذهباً، وجزءا لؤلؤاً، وجزءاً ياقوتاً أحمر، فخلق سماء الدنيا من الماء، ومن القِطر الثانية، والثالثة من الحديد، والرابعة من الفضة، والخامسة من الذهب، والسادسة من اللؤلؤ، والسابعة من الياقوت، ثم فتقها فجعل بين كل واحد منها مسيرة خمسمائة عام (1) .
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.(2/175)
نكتة:
خلق من دخان واحد سَبْعَ سموات لا تشْبِة إحداها الأخْرَى.
وأعجب من هذا أنه أنزل من السماء ماءً فأحْيَا به الأرْضَ بعد موتها
فأخرج من قطرة المطر أنواع النَّبَات، بعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها
أخضر، وبعضها أسود، وبعضها حُلْو، وبعضها مرّ، قال تعالى: (ونفَضِّل
بَعْضَها على بَعْضٍ في الأكل) .
وأعجب مِنْ هذا نطفة وقعَتْ في رَحِم امرأةٍ فصيَّرها عَلَقة، وصيّر العَلقة
مضْغَةً، وخلق المضْغة عِظاماً، وخلَق من نطفة ذَكَراً، ومن أخرَى أنثى، ومن
نطفة مؤمناً، ومن أخرى كافراً، ومن نطفة صالحاً، ومن أخرى طالحاً، ومن
نطفة موفّقاً، ومن أخرى منافقاً، ومن نطفة موحِّداً، ومن أخرى معانداً، ومن نطفة سعيداً، ومن أخرى شقِياً، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) .
وأما قوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) .
ففيه قولان: أحدهما قول عليٍّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله
عنهما، إنَّ الدّخَان يكون قبل يَوْم القيامة يصيب المؤمِنَ منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين، وهو من أشراط الساعة.
وروى حذَيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ أَوَّلَ الآيات الدخان ".
والثاني قول ابن مسعود: إنَّ الدخان عبارة عما أصاب قريشاً حين دعا عليهم رسول الله بالجَدْبِ، فكان الرجل يرى دخاناً بينه وبين السماء من شدة الجوع.
قال ابن مسعود: خَمْسٌ قد مَضَيْنَ: الدخان، واللِّزام، والبَطْشَة، والقمر.
والرّوم.
وقيل: إنه يقال للجدب دخان ليبس الأرض وارتفاع الغبَار.
فشبه ذلك بالدخان.
وربما وضَعَتِ العَرب الدخان في موضع الشرِّ إذا علَا، فتقول
كان بيننا أمرٌ ارتفع له دخان.
(دُسر) : مسامير، واحدها دسار.
وقيل: مقادم السفينة.
وقيل أضلاعها، والأول أشهر.
والدسار: أيضاً الشرط التي تشد بها السفينة.
(دُولة) - بالضم والفتح: ما يدول الإنسان، أي يدور عليه.(2/176)
ويحتمل أن يكون من المداولة، أي كي لا يتداول ذلك المالَ الأغنيا بينهم.
وهو الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى، ويبْقَى الفقراء بلا شيء، وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسّم أمْوَال بني النَّضِير على المهاجرين، فإنهم كانوا حينئذ فقراء.
ولم يُعط الأنصارَ منها شيئاً، لأنه كانوا أغنياء، فقال بعض
الأنصار: لنا سَهْمنا مِنْ هذا الفَيْء، فأنزل الله الآية.
ويقال الدُّولة في المال بالضم.
والدَّولة في الحرب بالفتح.
ومنه الحديث: إنهم يدَالون كما تنصرون.
ويقال الدولة - بالضم: اسم الشَّيْءِ الذي يتَداول بعينه.
والدَّولة بالفتح: الفعل.
(دِين) : له خمسة معان: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر.
قال تعالى: (إنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإسلام) .
(مالك يوم الدين) .
(ما كان ليَأخذَ أخاه في دِين الملك) ، أي في حكم الملك.
(وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)
(يومئذ يُوَفّيهم الله دِينَهم الحقَ) ، أي الحساب.
والدّين بمعنى الدينونة والمذهب، يقال دين فلان.
قال عليه السلام: " كما تَدِين تُدَان ".
(دُكَّت الأرْض) : أي دقّت جِبَالها حتى استوت مع وجه
الأرض.
(دِفْء) ، ما استدفىء به من جلود الأنعام وأصوافها من
الثياب.
(دِهَان) : جمع دهن.
وأما قوله تعالى: (فكانَتْ وَرْدَةً كالدهان) ، - فإنما شبّه السماءَ يوم القيامة به لأنها تذوب من شدة الهول.
وقد شبّه لمعانها بلمعان الدُّهن.
وقيل: إن الدّهن هو الجلد الأحمر.
(دينار) ، حكى الجواليقي وغيره أنه فارسي.
(دِهَاقا) : أي ملأى.
وقيل صافية، والأول أشهر.(2/177)
(دونَ) : ترد ظرفاً نقيض فَوْق فلا تنصرف على المشهور.
وقيل: تنصرف، وبالوجهين قرئ: ومنا دون ذلك بالرفع والنصب.
وتَرِد اسماً بمعنى غير، نحو: (اتخَذوا مِنْ دونِه آلهةً) ، أي غيره.
وقال الزمخشري: معناه أدْنى مكان من الشيء، وتستعمل للتفاوت في الحال، نحو: زيد دون عمر، أي في الشرف والعلم.
واتّسع فيه فاستعمل في تجاوز حدٍّ إلى حد.
نحو: (أولياء من دون المؤمنين) ، أي لا تجاوزوا ولاية
المؤمنين إلى ولاية الكافرين.(2/178)
(حَرف الذال المعجمة)
(ذو الكفْل) : قيل: هو ابن أيّوب.
وفي المستدرك عن وهب - أنَّ الله بعث بعد أيوب ابنه، واسمه بشر بن أيوب نبيئاً، وسماه ذا الكفْل وأمَرَهُ بالدعاء إلى توحيده، وكان مقما بالشام عُمْره حتى مات وعُمْزه خمس وسبعون سنة.
وفي العجائب للكرماني: قيل: هو إلياس.
وقيل يوشع بن نون.
وقيل هو نبي اللَه ذو الكفل.
وقيل كان رجلاً صالحاً تكفل بأمور فوفَّى بها.
وقيل: هو زكرياء في قوله: (وكَفَّلَهَا زكريّا) .
وقال ابن عسكر: هو نبىء تكفّلَ الله له في عمله بضِعْفِ عمل غيْرِه من الأنبياء.
وقيل: لم يكن نبياً، وأن اليسع استخلفه فتكفّل له أن يصوم النهار ويقوم الليل.
وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة.
وقيل هو اليسع، وإن له اسمين.
(ذو القرنين) : اسمه إسكندر.
وقيل: عبد الله بن الضحاك بن سعد.
وقيل هو المنذر بن ماء السماء.
وقيل: الصعب بن قرين بن الهمال، حكاه ابن عسكر.
ولُقَبَ ذا القَرْنَيْن، لأنه بلغ قَرْنَي الأرض المشرق والمغرب.
وقيل: لأنه ملك فارس والروم.
وقيل: كان على رأسه قَرْنان، أي ذؤَابتان.
وقيل: كان له قرنَان من ذهب.
وقيل: لأنه ضرِب على قرنه فمات، ثم بعثه الله فضربوه على
قرنه الآخر.
وقيل: لأنه كان كريم الطرفين.
وقيل: لأنه انقرض في وقْته قَرْنَان
من الناس، وهو حيّ.
وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر والباطن.
وقيل: لأنه دخل النور والظلمة.(2/179)
(ذَلول) : أي ذللت للحرث، والمراد بها بقرة بني إسرائيل
- يعني أنها غير مذَللة للعمل.
(ذَكّيْتُم) : قطعتم أوداجَه، ونَهَرْتم دمَه، وذكرتم اسم الله
عليه.
وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء، ومن ذلك ذكاء السن، أي تمام السن.
أي النهاية في الشباب.
والذكاء في الفهم أن يكون فهماً تامّاً سريع القبول.
وذكّيت النار: أتممت إشعالها.
وقوله: (إلاَّ ما ذَكَّيْتم) ، أي أدركتم ذَبْحَه على التمام.
قيل: إنه العِرْق المنقطع، وذلك إذا أريد بالمنخنقة ونحوها ما مات من
الاختناق، والوقذ والتردّي والنطح وأكل السبع.
والمعنى حرمت عليكم هذه: الأشياء لكن ما ذَكَّيْتم من غَيْرِها فهو حلال.
وهذا القول ضعيف، لأنها إذا ماتت بهذه الأسباب فهي مَيْتة، فقد دخلت
في عموم الميتة، فلا فائدة لذِكْرِها بعدها.
وقيل: إنه استثناء متّصل، وذلك إن أريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك
الأسباب، وأدركت ذكاته.
والمعنى على هذا: إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال.
ثم اختلف أهل هذا القول: هل يشترط أن تكون لم ينفذ مقاتلها أم لا.
وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب فذكاته جائزة باتفاق.
(ذات الصّدور) : حاجاتها وما يخطر لها
(ذَرَأكم) : خلقكم.
ومنه: (ولقد ذَرَأنا لجهنَّمَ) .
(ذَنوب) - بفتح المعجمة: نصيب.
ومنه: (ذَنوباً مثل ذَنوب أصحابهم) .
ويريد به هنا نصيبا من العذاب.
وأصل الذَّنوب الدَّلْو، والمراد بالضمير كفّار قريش وأصحابهم ممّنْ تقدم ذِكْرهم.
(ذَرْغها سبعون ذِرَاعاً) ، أي طولها، ومبلغ كيلها.
واختلف في مبلغ هذا الذراع، فقيل: إنه الذراع المعروف.
وقيل: بذراع الملك.(2/180)
وقيل: سبعون باعاً كل باع كما بَيْنَ مكّةَ والمدينة.
وللَه دَر الحسن البَصْري في قوله: الله
أعلم بأي ذراع هي، فإن السبعين من الأعداد التي تَقْصِد بها العَرب التكثير.
ويحتَمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحدٍ مِنْ أهل النار، أو تكون بين
جميعهم.
وروي أن هذه السلسلة تدخل في فَمِ الكافر، وتخرج من دبره.
فاسلكوه على هذا من المقلوب في المعنى، كقولهم: أدخلت القلنسوة في رَأسي.
وروي أنها تُلْوَى عليه حتى تلمّه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه، وهو السلوك فيها.
وإنما قدّم قوله: في سلسلة - على: " اسلكوه " لإرادة الحصْرِ، أي
لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، وكذلك قدّم الجحيم على صَلّوه لإرادة الحَصْرِ أيضاً.
(ذُلُلًا) : جمع ذلول، وهو السهل اللين الذي ليس بصعب.
ومنه: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) - يعني الطرق في الطيران.
وأضافها إلى الرَّبِّ لأنها ملكه وخَلْقه.
ويحتمل أن يكون قوله: ذللاً - حالاً من السّبل.
قال مجاهد: لم يتوعّر قط على النحل طريق.
أو حالاً من النحل، أي منقادة لما أمرها الله به.
(ذرّية) : فعلية من الذَّر، لأن الله تعالى أخرج الْخَلْقَ مِنْ صلْبِ آدم
كالذّر.
وقيل: أصل ذرية ذرّورة على وزن فُعْلُولة، فلما كثر التصريف أبدلت
الراء الأخيرة ياء فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية، وهم أولاد الرجل وأولاد الأولاد وإنْ بَعَدوا.
وقيل: ذرية فعلية أو فعيلَة من ذرأ الله الخلق فأبدلت الهمزة ياء، كما أبدلت في نبيٍّ.
وذكر في العقد لابن عبد ربه أن الحجاج عتب على يَحْيى بن يعمر فقال له:
أنت الذي تقول إنَّ الحسَيْن ابن رسول الله، فقال: نعم.
قال: والله لئن لم تَأتني بالمخرج لأضْربَنّ عنقك.
فقال: قال تعالى: (وتلك حجَّتنَا آتيْنَاها إبراهيمَ على قَوْمِه ... ) . 83،، إلى قوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) .
فقال له: فمن أَبْعَدُ؟ عيسى عليه السلام من إبراهيم أم الحسين من محمد - صلى الله عليه وسلم -(2/181)
فقال الحجاج: واللَه ما كأني قَرَأتها.
ثم وَلّاه قضاء بلدِه، فلم يزل بها قاضياً حتى مات.
وتأمّلْ هذا، فإنَّ النزاع إنما هو في تسمية ابن البنْتِ ابناً، وغاية ما في هذه
الآية أنه جعل عيسى من الذرية، لأن عيسى ليس له أَب فهو ابن بنت نوح.
ولا شك أن الابن أخص من الذرية.
والنص في القضية قوله عليه السلام: إن ابني هذا سيِّد ... الحديث.
وقوله تعالى: (وحلَائل أبنائِكم) ، فإن اللخميّ وغيره حكى الإجماع في مذهب مالك وغيره على دخول ابن البنت فيها.
(ذِلَّة) : صغار ومسكنة.
(ذِكْرى لهم) : فيها وجهان:
أحدهما: أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار، ولكن عليهم تذكير لهم ووعظ، وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر، تقديره يذكروا ذكرى.
أو رفع على المبتدأ تقديره عليهم ذكرى.
والضمير في لعلهم عائد على الكفَّار، أي تذكرونهم رجاء أن يتّقوا، أو عائد على المؤمنين، أي يذكرونهم ليكون تذكيرهم ووعظهم تَقْوى الله.
والثاني: أن المعنى ليس نهي المؤمنين عن القعود مع الكافرين بسبب أنَّ عليهم
من حسابهم شيئاً، وإنما هو ذكرى للمؤمنين.
وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضْمر، تقديره: ولكن نهيه ذكرى.
أو مفعول من أجله، تقديره إنما نهوا ذِكرى.
والضمير في لعلهم على هذا للمؤمنين لا غير.
(ذكر) : وَرَدَ على أوْجه: ذكر اللِّسان: (فاذْكروا اللهَ كذِكْرِكُمْ) .
وذكر القلب: (ذكَروا اللَهَ فاستَغْفَروا لذنوبهم) .
والحفظ: (واذْكُروا ما فيه) .
والطاعة والجزاء: (فاذْكروني أذْكركم) .
والصلوات الخمس: (فإذا أمِنْتم فاذْكرُوا الله) .
والعظمة: (فلما نسوا ما ذكّروا به) .
والبيان: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) .(2/182)
والحديث: (اذكرْني عند ربِّك) ، أي حدثه بحالي.
والقرآن: (ومَنْ أعرض عن ذِكْري) .
(ما يَأتيهم من ذِكْر من ربهم) .
والتّوْراة: (فاسْألوا أهل الذكر) .
والخبر: (سأتْلُو عليكم منه ذِكْرا) .
والشرف: (وإنّه لذِكْرٌ لك ولقومك) .
والعيب: (أهذا الذي يذكر آلهتكم) .
واللوح المحفوظ: (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) .
والثناء: (وذكروا الله كثيرا) .
والوحي: (فالتاليات ذِكرا) .
والرسول: (ذكْراً. رسولاً) .
والصلاة: (ولَذِكر اللَه أكبر) .
وصلاة الجمعة: (فاسْعَوا إلى ذِكْر الله) .
وصلاة العصر: (عن ذِكْرِ رَبي) .
(ذِمَّة) : عهد.
وقيل: الذمة التذمّم ممن لا عَهْدَ له، وهو أن يلزمَ الإنسان ذماً أي حقائق واجبة عليه، مجري مَجْرَى المعاهدة من غير معاهدة ولا تحالف.
(ذبحٌ عظيم) : اسم لما يذْبح، وأراد به الكَبْشَ الذي
ذبحه ولَد آدم، وفدّى الله إسماعيل من الذبح، ولذلك وصفه بعظيم، لأنه تَقَبّلَه اللَه منه وربّاه في الجنة.
وفي القصص: إن الذبيح قال لإبراهيم: اشدد برباطي لئلا
أضطرب، واصرِفْ بصرك عئي لئلا ترحمني.
فلما أمَرَّ الشفْرة على حَلْقه ولم تقطع، لأن المراد الوصل لا القطع، كأنه يقول: يا إبراهيم امتثل، ويا سكّين لا تقطع، لأن لي في أمره سرا وتدبيرا.
وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية
تركناه لطوله وعدم صحته.
فإن قلت: كيف قال: (ونادَيْنَاه أنْ يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيَا) ولم يذبح؟
فالجواب: أنه فعل ما قَدر عليه، ونِيَّتُه امتثال الأمر ولو لم يفْدِه الله.
لذبحه، وامتناع الذّبح إنما كان من عند الله.
والمدْحُ إنما يكون على النية، ونيّة المؤمن خيْر من عمله.(2/183)
(ذَرْ) حيثما ورد في القرآن بمعنى اترك، وهي منسوخةٌ بآية السيف.
وقيل: تهديد، فلا متاركة ولا نسخ فيها.
(ذَكِّرْ به) ، الضمير عائد على الدين، أو على القرآن.
(ذُو) : بمعنى صاحب، وضِعَ للتوصل إلى وصف الذوات بأسماء
الأجناس، كما أن الذي وُضعت وصلة إلى وصف المعارف بالجمل.
ولا يستعمل إلا مضافاً، ولا يضَاف إلى ضمير ولا مشتق.
وجوَّزَه بعضهم، وخرج عليه
قراءة ابن مسعود: (وفَوْق كلِّ ذِي عَالم عليم) .
وأجاب الأكثرون عنها بأن العالم هذا مصدر كالباطل، أو بأن ذي زائدة.
قال السهيلي: والوصف بذو أبْلَغ من الوصف بصاحب.
والإضافة لأنها أشْرَف، فإن ذو يضاف للتابع وصاحب يضاف - إلى المتبوع، تقول أبو هريرة صاحب النبي، ولا تقول النبي صاحب أبي هريرة.
وأما ذو فإنك تقول: ذو المال وذو الفرس، فتجد الاسم الأول متبوعاً غير تابع، وبُنِي على هذا الفرق أنه قال
تعالى في سورة الأنبياء: (وذا النُّون) .
فأضافه إلى النون، وهو الحوت.
وقال في سورة ن: (ولا تَكنْ كصَاحِب الحوت) .
قال: والمعنى واحد، ولكن بين اللفظين تَفَاوُت كبير في حُسْنِ الإشارة إلى
الحالين، فإنه لما ذكره في معرض الثناء عليه أتى بذي، فإن الإضافة بها أشرف، وبالنون، لأنه لفظ أشرف من لفظ الحوت، لوجوده في أوائل السور، وليس في لفظ الحوت ما يشرفه لذلك، فأتى به وبصاحبٍ حين ذكره في معرض النهي عن اتباعه(2/184)
(حَرف الراء المهملة)
(رَبّ) له أربعة معان: الإله. والسيّد.
والمالك للشيء. والمصْلِح للأمر.
وكلها تصلح في رَبّ العالمين، إلا أن الأرْجحَ معنى الإله، لاختصاصه باللهِ تعالى، كما أن الأرجح في العالمين أن يُراد به كل موجودٍ سوَى الله تعالى، فيعمّ جميع المخلوقات.
(رحمن) ، ذو الرحمة، ولا يوصف به غَيْر الله.
(رحيم) : عظيم الرحمة.
(رسول) : قد ذكرنا أن الرسالة والإرسالَ بمعنى واحد.
والرسول: المتحمِّل للرسالة إلى الأمة، فكلّ رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فالرسول الذي يأتيه جبريل بالوحي من عند الله لإنذار الخَلْق.
وأما من أوحي إليه في النام فليس برسول.
وقد اجتمع أنواع الوحي في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، وكلها اجتمعت
في نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(رَيْب) : شك.
ومنه: (ارْتَا بُوا) .
ومريب، (ورَيْبَ المنُون) : حوادث الدهر.
فإن قلت: هَلّا قدم قوله تعالى: (لا رَيب فيه) ، كقوله تعالى (لا فيها غَوْل) ؟
فالجواب أنه إنما قصد نفي الرَّيب عنه، ولو قدم (فيه) لكان إشارةً إلى
أن ثَمَّ كتاباً آخر فيه رَيْب، كما أن (لا فيها غَوْل) إشارة إلى أن خَمْر الدنيا(2/185)
فيها غول.
وهذا المعنى يبعد قَصْده، فلم يقدم الخبر، وإنما نفى الشك عنه أنه من
عند الله في اعتقاد أهل الحق، وفي نفس الأمر.
وأما اعتقاد أهل الباطل فلا عبرة
وقد قيل: إنَّ خبر لا في قوله: (فيه) ، فيوقف عليه.
وقيل خبرها محذوف فيوقف على لا رَيْب.
والأول أرجح لتعيّنه في قوله: لا رَيْب فيه في مواضع أخر.
(رَغَدا) : كثيرا واسعاً بلا غنى.
(رَفَث) ،: نكاح.
ويقال أيضاً للإفصاح بما يجب أن يكنى عنه مِنْ ذكر النكاح.
ويقال أيضاً: للفحش من الكلام.
(رَؤوف) : شديد الرحمة.
(رَاسِخون في العلم) : هم الذين رسخ إيمانهم، وثبت، كما يرسخ النخل في
منابته.
(رَاعِنَا) : أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس، قال: راعنا - سبّ بلسان اليهود، وكان المسلمون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: راعنَا، وذلك من المراعاة، أي راقبنا وانظرنا، فكان اليهود يقولونها ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء.
فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة لاشتراك معناها بين ما قصده
المسلمون وما قصده اليهود، فالنَّهى سَدٌّ للذريعة.
وأمروا أن يقولوا: (انْطرْنَا) ، لخلوِّه عن ذلك الاحتمال الملزوم، وهو من النظر، أو الانتظار.
وقيل: إنما نهي المسلمون عنها لما فيه من الجفاء وقلة التوقير.
(رَمْزا) : إشارة باليد أو بالرّأس أو غيرهما، فهو استثناء منقطع.
قال ابن الجوزي في فنون الأفنان: من المعرّب.
وقال الواسطي: هو تحريك الشفتين بالعبرانية.(2/186)
(رَبَّانِيِّين) : جمع ربانيّ، وهو العالم.
وقيل الذي يربّ الناس بصغار العلم قبل كبره.
قال الجواليقي: قال أبو عبيدة: العرب لا تعرف الربانيين، وإنما يعرفها
الفقهاء وأهل العلم.
قال: وأحسب الكلمة ليست بعربية، وإنما هي عبرانية أو سريانية.
وجزم أبو القاسم بأنها سريانية.
قال محمد ابن الحنفية حين مات ابن عباس: اليوم مات ربانيّ هذه الأمة.
وقال أبو العباس ثعلب: إنما قيل للفقهاء
ربّانيّون، لأنهم يربّون العلم، أي يقومون به.
(رَابِطوا) : أقيموا في الثّغُورِ مُرَابطين، واربطوا
خَيْلَكم مستعدين للجهاد.
وقيل: هو مرابطة العبْد فيما بينه وبين الله تعالى، أي معاهدته على فعل
الطاعات وترك المعصية.
والأول أظهر وأشهر، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رِبَاط
يَوْمٍ في سبيل الله خَيْرٌ من صيام شهرٍ وقيامه ".
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في انتظار الصلاة: فذلكم الرِّباط - فهو تشبيه بالرباط في سبيل الله لِعظَم أجْره.
والمرابط عند الفقهاء: هو الذي يسكن الثغور ليرَابط فيها، وهي غَيْر موطنه.
وأما سكناها دائماً للمعاش فليسوا بمرابطين، ولكنهم حماة.
حكاه ابن عطية.
وقال غيره: إذا سكن بأهْلِه بقَصْد إعفافه وقيامها بشؤونه فيعد منهم.
وفضل الله أوْسع.
(ربُّكم) : أي مرَبّيكم بالنعم.
قال الطيبي بعد كلام نَقَله: الفرق بين قوله اعبدوا الله - وبين قوله: اعبدوا ربكم - أن في الثاني إيجاب العبادة بواسطة
النعمة التي بها قوامهم، وفي: اعبدوا إيجاب عبادته لمراعاته عز وجل من غير
واسطة، فحيث ذكر الناس بقوله: (يا أيها الناس) ذكر الربوبية، كقوله:
يا أيها الناس اتَّقوا ربكم.
وحيث ذكر الإيمان، بقوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله.
(رَقِيباً) ، أي حافظا، وهو من أسماء الله.
وإذا تحقَّقَ العَبْد بهذا الاسم العظيم وأمثاله استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شَرِيف، أصله علم(2/187)
وحال، ثم يثمر حالين، أما العِلْم: فهو معرفة العبد بأن الله مطَّلع عليه، ناظِرٌ إليه، يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، وكلّ ما يخطر على باله.
وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه.
ولا يكفي العلم دون هذه الحال.
فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين الحياء من الله -
وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي، والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند الْمقَرّبين المشاهدة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الإحسان أن تَعْبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، إشارة إلى الثمرة الثانية وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد
ملكاً عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة.
وقوله: فإنْ لم تَكنْ تَرَاه فإنّه يَرَاك، إشارة إلى الثمرة الأولى.
ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقربين فاعلم أنه يراك، فإنه من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعْلَى رأى أن كثيراً من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر.
واعْلَم أَنَ المراقبةَ لا تستَقِيم حتى تتقدَّم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها
المحاسبة والمعاقبة.
فأما المشارطة: ففي اشتراطِ العَبْد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي.
وأما المرابطة: فهي معاهدة العبد لربِّه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أَوَّلِ الأمر تكون المراقبة إلى الرب.
وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإنْ وجد نفسه قد وفّى بما عاهد عليه الله حَمِد الله، وإنْ وجد نفسه قد حلّ عَقْد المشارطة، ونقض عقد المرابطة - عاقب النفس عقاباً
بأن يزجرها عن العَوْدَة إلى مثل ذلك.
ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على
المراقبة، تم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون العبد مع ربه.(2/188)
(رَبائبكم) : بنات نسائِكم من غيركم، الواحدة رَبِيبة.
وسميت بذلك لأنّه يربّيها، فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة.
(رَجْفة) : حركة الأرض، بمعنى الزلزلة الشديدة حيث
وقعت، وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صَيْحةً بين السماء والأرض، فمات منها قَوْم صالح.
(رَحُبت) : أي ضاقت على كثرة اتساعها.
(روع) : فَزع.
(رَعْدا) : اسم ملك، وصَوْته المسموع تسبيح.
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله يُنْشيءُ السحابَ، فينطق أحْسنَ النطق، ويضحك أحسن الضحك، فمنطقه الرّعد، وضحكه التبسم ".
وقد جاء في الأثر أن صوته زجر للسحاب، فعلى هذا يكون تسبيحه غير
ذلك.
وقال أهل اللغة: الرَّعْد: صوت السحاب.
والبرق: نور وضِيَاء يصحبان السحاب.
(رَابيا) : عالياً على الماء، ومنه الربْوَة.
(رَدَّوا أَيْدِيَهم في أفواههم) : فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الضمائر لقوم الرُّسل.
والمعنى أنهم ردُّوا أيديهم في أفواه أنفسهم
غَيْظاً على الرسل، كقوله تعالى: (عَضّوا عليكم الأناملَ مِنَ الغَيْظِ) ، واستهزاء وضحكاً، كمن غلبه الضحك، فوضع يده على فيه.
الثاني: أن الضمائر لهم - والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم، إشارةً
على الأنبياء بالسكوت./ @م
والثالث: أنهم ردُّوا أيديهم في أفواه الأنبياء، تَسْكيتا لهم ودفْعاً لقولهم.
(رَجِلِك) : جمع رَاجِل، وهو الذي يمشي على رجليه.
لتقدم الخيل.
وقيل: هو مجاز واستعارة، فهو بمعنى افعل جهدك.(2/189)
وقيل: إن له من الشيطان خَيْلاً ورجلاً.
وقيل: المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر.
(رَقِيم) : لوح كتب فيه خبر أهل الكهف، ونصبه على باب
الكهف.
وقيل: كتاب فيه شرعهم ودينهم.
وقيل: هي القرية التي كانت بإزاء الكهف.
وقيل: الجبل الذي فيه الكهف.
وقيل: اسم كلبهم.
قال الأصمعي: كنت لا أدري ما الرَّقيم حتى مررت بولد أعرابي، وهو يقول: يا أبت تعلق الرقِيم بالأديم، فطردته فتبارك الجبل، أي ارتفع.
وقال ابن عباس: لا أدري ما الرَّقيم.
(رَتْق) : مصدر وصف به، ومعناه الملتصق بعضه ببعض
الذي لا صَدعْ فيه ولا قبح.
(ربَتْ) : ارتفعَتْ.
(رحمةً للعالمين) : المراد به نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وانتصاب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول.
والمعنى على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الرحمة.
ويحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال من ضمير الفاعل، تقديره أرسلناكَ
راحماً للعالمين.
أو يكون مفعولاً من أجله.
والمعنى على كلِّ وَجْهٍ: أن الله رحم العالمين بإرسال هذا النبي الرحيم إليهم.
لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيراتِ الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلَّمهم بعد الجهالة، وهداهم بعد الضلالة.
فإن قلت: رحمة للعالمين عموم، والكفار لم يرحموا به؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما - أنهم كانوا معرَّضين للرحمة به لو آمنوا، فهم الذين تركوا الرحمة
بعد تعريضها.
والآخر - أنهم رُحموا به لكونهم لم يعاقَبوا بمثل ما عُوقب به الكفّار
المتقدمون، من الطوفان والصيحة وغير ذلك.(2/190)
(رَبْوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ ومَعِين) - بضم الراء وفتحها
وكسرها: الأرض المرتفعة.
والقرار المستوي من الأرض، فمعناه أنها بسيطة
يتمكَّن فيها الحرث والغراسة.
وقيل: القرار هنا الثمار والحبوب.
والعين: الماء الجاري، فقيل: إنه مشتقّ من العين، فالميم زائدة ووزْنه مفعول.
واختلف في موضع هذه الرّبْوة، فقيل، بيت القدس، وقيل: بغُوطة دمشق.
وقيل: فلسطين.
(رَءُوفٌ رَحِيمٌ) : من أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، مُشْتَقَّان من أسماء الله، وقد اشتق له من اسمه نحو السبعين اسماً، وهذه خصوصية له - صلى الله عليه وسلم -، كالكريم، والخير، والحق
البين، والشا هد، والشهيد، والعظيم، والجبّار، والفاتح، والشكور، وغير ذلك مما يطول ذكرها.
(رَكوبُهم) - بفتح الراء: هو الركوب.
(رَسّ) : معدن، وكل ركيّة لم تُطْوَ فهي رَسّ.
وفي العجائب للكرماني: أنه أعجمي، ومعناه البئر.
(رَدِفَ لكم) : أي تبعكم، واللام زائدة، أو ضُمّن معنى
قَرب، فتعدى باللام.
ومعنى الآية: أنهم استَعْجَلوا العذاب بقولهم: متى هذا الوَعْد، فقيل لهم:
عسى أن يكون قَرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون، وهو قتلهم يوم بَدْر.
(رَمِيم) : بالية متفتّتة.
(راغ إلى آلِهَتِهم) : أي مال إليها، فقال لهم: ألا تَأْكلون! على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام.
فإن قلت: ما وَجْهُ دخولِ الفاء في آية الصافّات وحذفها من الذاريات؟
فالجواب: إنما أدخلها في الصافّات لأنها لم تتكرر، فقالها للأصنام على جهة
التوقيف على الأكل والنطق والمخاطبة للأصنام، والقصدُ الاستهزاء بعابديها، إذ(2/191)
كانوا يتركون في بيوت الأصنام طعاماً، ويعتقدون أنها تصيب منه سيئا، ونحو
هذا من المعتقدات الباطلة، ثم كان خدَمة البيت يأكلونه.
وحذَفَها في الذاريات لتكررها قبله.
ويحتمل أن تكون حثًا على الأكل، أو تكون الهمزة للإنكار
دخلت على لا النافية.
(روَاكدَ على ظَهْرِه) ، أي سواكِنَ.
ومعناه لو أراد الله أن يسكن الرياح، أو تهديد بإسكانه.
(رَهْوًا) ، أي ساكناً على هيئته بالسريانية.
وقيل: يابساً.
وروي أن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق، كما ضربه
فانْفَلق، فقال الله له: اتركه كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا.
وقيل: معنى (رَهْوًا) سهلاً. وقيل: منفرجاً.
وروي أن الله أوحى إلى البحر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، فبات
يضطرب من خَوْفِ الله وفرحاً بخطابه، وأنتَ يا عبد الله خاطبك بكلامه.
وأكرمك بأمْرِه ولا تمتثل! بئس العبد، ولنعم الرب!
(رَقٍّ مَنْشور) : الصحائف التي تخرج إلى بني آدم يوم القيامة.
والرّقّ في اللغة: الصحيفة.
وخصّصت في العُرْف بما كان من جِلْد.
والنشور: خلاف الْمَطْوِي.
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) : مشرقي الصيف والشتاء
ومغربيها.
وقيل مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما.
(رَوْح ورَيْحان) : الروح الاستراحة، وقيل الرحمة.
وروي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: فروحٌ - بضم الراء، ومعناه الرحمة.
وقيل: الخلود، أي بقاء الروح.
وأما الريحان فقيل: إنه الرزق.
وقيل: الاستراحة. وقيل: الطيب.
وقيل، الريحان المعروف في الدنيا يلقاه المؤمن في الجنة.
وهو قوله: (رَوْح وريحان) ضَرْب من ضروب التجنيس.(2/192)
(رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) ، أي بيّنْه وتمهّل في قراءته بالمدِّ
وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك معين على التفكر في معاني القرآن.
بخلاف الهذّ الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقطع في قراءته حرفاً حرفاً ولا يمر بآية رحمة إلاَّ وقف وسأل، ولا بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ.
وقام بآية من القرآن ليلة: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا) .
وكان يصعق لبعض الآيات.
وقد أفرد الناس في آداب تلاوته تواليف كالنّووي والغزالي وغيرهما.
وسنذكر منها الإشارة إلى بعضها: أخرج من حديث عبيدة المالكي مرفوعاً
وموقوفاً: يا أهل القرآن لا تتوسَّدُوا القرآن، واتلُوه حقَّ تلاوته آناء الليل والنهار، وأَفْشُوه وتدبَروا ما فيه لعلكم تفلحون.
وقد كان للسلف في قَدْر القراءة
عاداتٌ، فأكثر ما ورد في قراءة القرآن مَنْ كان يختم في اليوم والليلة ثمان مرات، أربعاً في الليل، وأربعا في النهار.
ويليه مَنْ كان يختم في اليوم والليلة أربعاً، ويليه
ثلاثاً، ويليه ختمتين، ويليه ختمة.
ويلي ذلك من كان يختم في ليلتين، ويليه من
كان يختم في كل ثلاث، وهو حَسَن.
وكره جماعة الختم في أقل من ذلك، لما روى أبو داود والتِّرمذي - وصحّحه، من حديث عبد اللَه بن عمر - مرفوعاً: لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث.
ويليه من ختم في أرْبع، ثم في خمس، ثم في ست، ثم في سبْع، وهذا أوسطُ
الأمور وأحسنها، وهو فعل الأكثرين من الصحابة وغيرهم.
ويلي ذلك مَنْ ختم في ثمان، ثم في عشرة، ثم في شهر، ثم في شهرين.
أخرج ابن أبي داوود، عن مكحول، قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقرأون القرآن في سبع.
وبعضهم في شَهْرٍ. وبعضهم في شهرين.
وبعضهم في أكثر من ذلك.
وقال أبو الليث - في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرَّتيْن إن لم
يقدر على الزيادة.(2/193)
وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، قال: من قرأ القرآن في كل سنة
مرَّتْين فقد أدَّى حقَّه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين.
وقال غيره: يُكْرَه تأخير خَتْمِه أكثر من أربعين يوماً بلا عذْر.
وقال النووي في الأذكار: المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص.
فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقْتَصِرْ على قَدْرٍ يحصل له
كمالُ فَهْم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولاً بنشر العلم، أو فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ولا فوات كماله.
وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين
فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حَدّ الملل أو الهذْرَمة في القراءة.
ونِسْيَانُه من أَعْظَمِ الذنوب، كما صحَّ: عرِضت عليَّ ذنوبُ أمتي فلم أرَ ذَنْبًا
أعظم من سورة القرآن أو آية أوتيها رجلٌ فنسيها.
ويستحب الوضوء لقراءته.
وإذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن
القراءة حتى يستتم خروجها.
وكذلك إن كان يكتبه.
ويطيِّب فمه ما أمكنه، ويجلس مستقبلاً متخشّعاً خائفاً وَجِلاً، مطرقاً رأسه حياء ممنْ هو يخاطبه.
ويتعوَّذ باللهِ من الشيطان الرجيم.
وليحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة.
ولا يحتاج إلى نيّة إلا إذا نذرها خارج الصلاة، فلا بد من نية الفرض أو النذْر.
وقال في شرح المهذب: واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، قالوا:
وقراءة جُزْءٍ بترتيل أَفضل من قراءة جزءين في قَدْرِ ذلك الزمان بلا ترتيل.
وفي النشر: اختلف هل الأفضل الترتيل، وقلة القراءة، أو السرعة مع
كثرتها، وأحسنَ بعض أئمتنا فقال: إن ثوابَ قراءة الترتيل أجلّ قدراً، وثواب الكثرة أكثر عدداً، لأن بكل حرف عشر حسنات.
ويستحبّ البكاء عند تلاوته، والتباكي لمن لا يقدر عليه، والحزن والخشوع، قال تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) .(2/194)
ويستحب تحسينُ الصّوْت بالقراءة، للحديث: زَيِّنوا أصواتكم بالقرآن.
وأما القراءة بالألحان المطربة بحيث ألا يفرط في المدّ وفي إشباع الحركات
حتى يتولَّد من الفتحة ألف، ومن الضمة واو، ومن الكسرة ياء، ويدغم في غير موضع الإدغام - فلا بأس.
وإن انتهى إلى هذا الحدّ فحرامٌ يفسقُ به القارئ.
ويَأْثَم به المستمع، لأنه عدل به عن نهجه القويم.
ولا بَأْسَ باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بإدارتها، وهي أن يقرأ بعضُ الجماعة قطعةً ثم البعض قطعةً بعدها.
وتستحَبّ قراءته بالتفخيم، لحديث الحاكم: نزلَ القرآن بالتفخيم.
قال الحليمي: ومعناه أن يقرأه على قراءة الرجال، ولا يُخْضِع الصوت فيه
ككلام النساء.
قال: ولا يدخل في هذا كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض
القراء.
وقد يجوز أن يكون نزل القرآن بالتفخيم، فيرخص مع ذلك في إمالة ما
تحسن إمالته.
ووردت أحاديثُ باستحباب رَفْعِ الصوت بالقراءة، وأحاديث تقْتَضِي
الإسرار وخَفْض الصوت.
وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار
ببعضها، لأن الْمسِرَّ قد يملّ فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكلّ فيستريح
با لإسرار.
والقراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه، لأنه أبْعَد من الرياء.
وأجمع للفكر، والنظر فيه عبادة مطلوبة.
قال النَّوَوِي: ولو قيل: إنه يختلف باختلاف الأشخاص فيُختار القراءة فيه
لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة فيه ومن الحفظ.
ويختار القراءة من الحفظ لمن يكمل بذلك خشوعه، ويزيد على خشوعه وتدبّره لو قرأ من المصحف - لكان هذا قولاً حسناً.
وإذا أرْتج على القارئ فلم يَدْرِ ما بعد الموضع الذي انتهى إليه، وسأل عنه(2/195)
غيره، فينبغي أن يتأدب بما جاء عن ابن مسعود والنخعي وبشير بن أبي مسعود، قالوا: إذا سأل أحَدُكم أخاه عن آية فليقرأْ ما قبلها ثم يسكت، ولا يقول: كيف كذا وكذا، فإنه يلبّس عليه.
وقال مجاهد: إذا شك القارئ في حَرْفٍ، هل هو بالتاء أو - بالياء فليقرأه
بالياء، فإن القرآن مذكّر.
وإن شكَّ في حرف هل هو مهموز أو غير مهموز
فليترك الهمز.
وإن شك في حَرْفٍ هل يكون موصولاً أو مقطوعاً فليقرأه
بالوصل.
وإن شك في حَرْفٍ هل هو ممدود أو مقصور فليقرأه بالقصر.
وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور فليقرأه بالفتح، لأن الأول غير لَحْن في بعض المواضع، والثاني لحن في بعض المواضع.
ويكره قطعُ القراءة لمكالة أحد.
قال الحليميّ: لأن كلام الله لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره.
وأيّدَه البيهقي بما في الصحيح: كان ابن عمر إذا قرأ
القرآن لم يتكلم حتى يفرغَ منه.
ويكره أيضاً: الضحك، والعبَث، والنظرُ إلى ما يُلْهي.
ولا تجوز قراءته بالعجميّة مطلقاً، سواء أحسن العربية أم لا، في الصلاة أو
خارجها.
وعن أبي حنيفة أنه يجوز مطلقا، لكن في شرح البرذدويّ أنَّ أبا حنيفة
رجع عن ذلك.
ووجه الْمَنْعِ أنه يُذهب إعجازه المقصودَ منه.
وعن القفّال من أصحابنا: أن القراءة بالفارسية لا تتَصَوَّر.
قيل له: فإذَنْ لا يقدر أحَذ أنْ يفسّر القرآن.
قال: ليس كذلك، لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مرادِ الله، ويعجز عن البعض.
أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مرَاد الله.
لأنّ الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها، وذلك غَيْر ممكن، بخلاف التفسير.
والأوْلى أن يقرأ على ترتيب المصحف، لأنه لحكمة فلا يتركها.
فلو فَرَّق السور أو عكسها جاز، وترك الأفضل.(2/196)
وقال في شرح المهذب: وأما قراءة السّوَر مِنْ آخرها إلى أولها فمتَّفَقٌ على
منْعِه، لأنه يذهب ببعض نَوْعِ الإعجاز، ويزيل حكمةَ الترتيب.
وأخرج الطبراني بسند جيّد عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن
منكوساً.
قال: ذلك منكوس القَلْب.
وأما خَلْط سورة بسورة فعن الحليميّ: تَرْكه من الآداب، لما أخرجه أبو
عبيد عن سعيد بن المسيَّب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ ببلال وهو يقرأ القرآن من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: ما هذا، قال: أخْلِط الطيب بالطيب.
فقال: اقرأ القراءة على وجهها، أو نحوها.
مرْسل صحيح.
وأخرج عن ابن مسعود، قال: إذا ابتدأت في سورة فأردتَ أن تتحوّل منها
إلى غيرها فتحوَّل إلى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
فإذا ابتدأت فيها فلا تتحول منها حتى تختمها.
ونقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة.
قال البيهقي: وأحسن ما يحتجُّ به أن يُقال: إنَّ هذا التأليف لكتاب اللَه
مأخوذٌ من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذَه عن جبريل، فالأولى بالقارئ انْ يقرأه على التأليف المنقول.
وقد قال ابن سيرين: تأليف الله خَيْرٌ من تأليفكم.
قال الحليمي: ويستحبُّ استيفاءُ كلِّ حرف أثبته قارئ ليكون قد أتى على
جميع ما هو قرآن.
قال ابن الصلاح والنووي: إذا ابتدئ بقراءة أحد من القُرّاء
فينبغي ألاَّ يزال على تلك القراءة ما دام الكام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه فَلَه أن يقرأ بقراءة آخر.
والأولى دوامه على هذا في هذا المجلس.
وقال غيرهما بالمنع مطلقا.
قال ابن الجزري: والصواب أن يقال: إن كانت
إحدى القراءتين مرتبة على الأخرى منع ذلك مَنْع تحريم، كمن يقرأ فتلَقَّى آدم من ربه كلمات.
برفعهما أو بنصبهما، أخذ رفع آدم من قراءة ابن كثير، ورفْع
كلمات من قراءته، ونحو ذلك مما لا يجوز في العربية واللغة.
وما لم يكن كذلك(2/197)
فرق فيه بين مقام الرواية وغيرها، فإن كان على سبيل الرواية حرم أيضاً، لأنه كذِبٌ في الرواية وتخليط.
وإن كان على سبيل التلاوة جاز.
وأفضل القراءة ما كان في الصلاة ثم الليل ثم نصفه الأخير، وما بين المغرب
والعشاء محبوبة لفراغ القَلْبِ من أشغال الدنيا.
وأفْضَل النهار بعد الصبح.
ولا تُكْرَهُ في شيء من الأَوْقَات.
وأفضلُ الذكر القرآن إلا فيما شرع فيه من الأذكار، كأذكار الليل والنهار.
وعند الأكل والشرب، ودخول المنزل والمسجد، وغير ذلك.
وأما ما رواه ابن أبي داود عن مُعَان بن رفاعة، عن مشايخه أنهم كرهوا
القراءة بعد العصر، وقالوا: هو دراسة يهود، فَغَيْرُ مقبول، ولا أصل له.
ويُخْتار من الأيام يوم عرفة ثم الجمعة ثم الإثنين والخميس، ومن الأعشار
العشر الأخير من رمضان، والأول من ذي الحجة.
ومن الشهور رمضان.
ويُختار لابتدائه يوم الجمعة وليلتها.
ولختمه يوم الخميس أو ليلته.
والأفضل الختم أول النهار أَوْ أَوَّل الليل، لما رواه الدارمي بسند حسن عن سعد بن أبي وقَّاص، قال: إذا وافق ختْم القرآن أول الليل صلّت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن وافق ختمه آخر الليل صلَّت عليه الملائكة حتى يُمْسِي.
قال في الإحياء: ويكون الختم أول النهار في ركعتي الفجر، وأول الليل في
ركعتي سنّة المغرب للوقت المبارك.
ويستحبّ الختم في الشتاء أول الليل.
وفي الصيف أول النهار.
ويستحبّ صَوْم يوم الختم وإحضار أهله وولِده وأصدقائه ودعائه لهم لأنه
مستجاب، كما صح.
وأخرج عن مجاهد، قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، ويقولون عنده تنزل الرحمة.
ويستحب التكبير من الضحى إلى آخر القرآن.
قال الحليميّ: ونكتته التشبيه للقراءة بصوم رمضان إذا أكمل عدّته يكبّر، فكذا هنا يكبّر إذا أكمل عدّة السور.(2/198)
قال: وصفته أن يَقِفَ بعد كلّ سورة وقفةً ويقول: الله أكبر، وكذا قال
سليم الرازي من أصحابنا في تفسيره: يكبِّر بين كل سورتين، ولا يصل آخر
السورة بالتكبير، بل يفصل بينهما بسكتة.
قال: ومَنْ لا يُكَبِّر من القراء خجتهم
أن في ذلك ذريعةً إلى الزيادة في القرآن، بأن يدَاوِمَ عليه فَيتَوَهّم أنه منه.
وإذا فرغ من الختمة يشرع في أخرى لحديث الترمذي وغيره: أحبُّ الأعمال
إلى الله الحالُّ المرتحل، الذي يقرأ من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل.
ومنع الإمام أحمد تكرير سورة الإخلاص عند الختم، لكن عمل الناس على
خلافه.
قال بعضهم: الحكمة فيه ما ورد أنها تعدل ثلث القرآن، فيحصل بذلك
ختمة.
فإن قيل: فكان ينبغي أن يقرأ أَربعاً، لتحصل ختْمتان.
قلنا: المقصود أن يكَون على يقين من حصول ختمة، إمّا التي قرأها، وإمّا
التي حصل ثوابها بتكرير السورة.
قلت: وحاصِل ذلك يرجع إلى جبر ما لعلَّه حصل في القراءة من خلَل.
وكما قاس الحليمي التكبير عند الختم على التكبير عند إكمال رمضان، فينبغي أن يقَاس تكريره سورة الإخلاص على إتْبَاع رمضان بستّ من شوال.
ويكره اتخاذ القرآن معيشة يتكسَّب بها، للحديث: مَنْ قرأ القرآن فليسأل
اللَه، فإنه سيأتي قومٌ يقرأون القرآن يسألون الناس به.
وروى البخاري في تاريخه الكبير بسنَدٍ صالح حديث: من قرأ القرآن عند
ظالم ليرفع منه لعِنَ بكل حَرْفٍ عشر لعنات.
ويكره أن يقول نسيت آية كذا، بل أنسيتها، للحديث الصحيح في النهي عن ذلك.
والأئمة الثلاثة عَلَى وصولِ ثَوَاب القراءة للميِّت.
ومذهبنا خلافه، للآية: (وأنْ لَيْس للإنسانِ إلاَّ مَا سَعَى) .(2/199)
وقد طوَّلنا الكلام هنا فلنرجع إلى المقصود لأن هذا الكتاب لا يسع ذلك.
وقد أودعنا أكثره في كتابنا الإتقان في علوم القرآن.
(رَاق) : صاحب رقْية، يعني قال أهل المريض مَنْ يرقيه
حتى يشفيه الله.
وقيل إن الملائكة تقول: من يرقى بروحه حتى يصعد بها إلى
السماء، فالأولى من الرقية وهو أشهر، والثاني مِن الرقي إلى العلو.
(تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) .
قيل الراجفة النفخة الأولى في الصّور.
والرادفة النّفْخة الثانية، لأنها تتبعها، ولذلك سماها رادفة، من
قولك: ردفت الشيء إذا تبعته.
وفي الحديث: أن بينهما أربعين يوماً.
وقيل الراجفة الموت، والرادفة القيامة.
وقيل الراجفة الأرض، من قولك ترجف الأرض والجبال.
والرادفة السماء، لأنها تنشقُّ يومئذ.
والعامل في يوم ترجف محذوف وهو الجواب المقدر، تقديره لتبعثنّ يَوْمَ
ترجف الراجفة، وإنْ جَعَلْنا يوم ترجف الجواب فالعامل في يوم معنى قوله:
(قلوبٌ يومئذ واجفة) ، ويكون تتبعها الرادفة في موضع الحال.
ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها.
(رَانَ على قلوبهم) ، أي غلب على قلوبهم كسْبُ
الذنوب، كما ترين الخمر على عَقْل السكران.
والضمير راجعٌ على من يكسب السيئات، يطمس اللَّهُ بصائرهم حتى لا يعرفون الرشد من الغيّ، لأن المعاصي بريد الكفر.
وفي الحديث: إنَّ العَبْدَ إذا أذنب ذنبا صارت نكتة سوداء في قلبه، فإذا زاد ذنباً آخر زاد السوَاد، فلا يزال كذلك حتى يتغطّى، وهو الرّين.
(رَحِيق) ، خالصٌ من الشراب.
وقيل العتيق منه.
(رحمة) وردت على أوجه:
الإسلام: (يختَصّ برحمته مَنْ يشاء) .
والإيمان: (وآتانِي رحمةً من عنده) .
والجنة: (ففي رَحْمَةِ الله هم فيها خالدون) .
والمطر: (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) .(2/200)
والنعمة: (ولولا فَضْل الله عليكم ورحمته) .
والرزق: (خزائن رحمة رَبّي) .
والنصر والفتح: (إنْ أرَادَ بكمْ سوءاً أو أراد بكم رحمة) .
والعافية: (أو أرَادَني برحْمَة) .
والمودّة: (رأفة ورحمة) .
والمغفرة: (كَتَب على نفسه الرحمةَ) .
والعصمة: (لا عاصمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِ إلّا مَنْ رَحِم) .
(روح) : ورد على أوجه:
الأمر: (وروح منه) .
والوحي: (ينزل الملائكة بالرّوح) .
والقرآن: (أوْحَيْنَا إليكَ روحاً من أمرنا) .
والرحمة: (وأيّدهم بروح منه) .
والحياة: (فَروح ورَيْحان) .
وجبريل: (فأرْسَلْنَا زوحنا) .
(نزل به الرّوح الأمين) .
وملك عظيم: (يوم يقوم الرُّوحُ) .
وجنْس من الملائكة: (تنزَّل الملائكة والروح فيها) .
وروح البدن: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
) ، أي من علم ربي لا نَعْلَمه نحن ولا أنتم، لأنه من الأمور التي
استأئر الله بها، ولم يطلِعْ عليها خلْقَه، وكانت اليهود قد قالت لقريش: سَلوه عن الروح فإن لم يجبكم فيه بشيء فهو نبيٌّ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمها.
وقال ابن بريدة: لقد مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرف الروح، ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح حتى أنهوه إلى خمسمائة قول، وليس فيها ما يعوَّل عليه.
(رُكْبَان) : جمع راكب، أي صلُّوا كيف ما كنتم ركوباً
أو غيره، وذلك في صلاة المسايفة، ولا ينقص فيها عن ركعتين في السفر وأربع في الحضَر.
(رُحَماء بَيْنهم) : وصفٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه من
أصحابه.
واختار ابن عطية أن يكون الوصف بالشدّةِ والرحمة مختصًّا بالصحابة(2/201)
والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أخصه بالوصف بذلك، لأن الله تعالى قال فيه: (بالمؤمنين رءوف رحيم) .
وقال له: (جاهِدِ الكفَّارَ والمنافقين واغلُظْ عليهم) ، فهذا هو الوصف على الكفار والرحمة بالمؤمنين.
وهذه الآية كقوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) .
(ركام) : بعضهم على بعض.
(رُفَاتا) : هو الذي بلي، حتى صار غُباراً.
ومعنى الآية إنكارهم للبَعْثِ، واستبعادهم أن يخلقهم الله خلقاً جديداً بعد
فنائهم.
(رَجْماً بالغَيْب) ، أي ظنًّا، وهو مستعارٌ من الرّجْم بمعنى
الرمي.
ومعنى الآية أن اليهود وغيرهم ممن تكلّم في أصحاب الكهف اختلفوا في
عددهم كما أخبر الله تعالى في كتابه، وأنهم ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وهم من أهل الكتاب.
وقال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة وثامنهم
كلبهم، لأنه قال في الثلاثة والخمسة رجماً بالغيب، ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم.
قال الزمخشري: وفائدتها التوكيد والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت
مستقر، وهذه الواو هي التي آذنَتْ بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدّقوا وأخبروا بحق، بخلاف الذين قالوا ثلاثة رابعهم كلبهم، والذين قالوا خمسة سادسهم كلبهم.
وقال ابن عطية: دخلت الواو في آخر إخْبَارٍ عن عددهم، لتَدل أن هذا
نهايةُ ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام.
(روم) : اسم عجمي لهذا الجيل من الناس، قاله الجواليقي: وسمِّيَتْ باسم
جدهم، وهو روم بن عيْصو بن إسحاق بن إبراهيم.(2/202)
(رُخَاءً) : يعني ليّنة طيبة.
وقيل مطيعة له، وحيث أصاب: أي قصد وأراد.
فإن قلت: قد وصفها في الأنبياء، أنها عاصفة، أي شديدة بالجمع؟
فالجواب: أنها كانت في نفسها ليّنة طيّبة، وكانت تسْرع في جريها
كالعاصف، فجمعت الوصفين.
وقيل: كانت رخاءً في ذهابه وعاصفة في رجوعه
إلى وطنه، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع.
وقيل: كانت تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته.
ومعنى الأرض التي باركنا فيها أرض الشام، وكانت مسكنه وموضع ملكه.
فخص في الآية الرجوع إليها لِيَدلَّ على الانتقال منها، فمن يقدر على وصف
هذا الملك التي كانت الريح مركبه والإنس والجن جنوده، والطير معِينة
ومحدّثه، والوحش مسخرة، والملائكة رسوله، وكان له ميدان لبنة من ذهب
ولبنة من فضة، وكان عسكره مائة فرسخ، وكان منزله شهراً، وكانت الجن
نسجت له بساطاً من ذهب وفضة فيها اثنا عشر ألف محراب، في كل محراب
كرسيّ من ذهب وفضة، على كل كرسيّ عالم من علماء بني إسرائيل، ومع ذلك لم يشغله هذا الملك عن عبادة مولاه، ولذا قال له: (هذا عطاؤنا فامْننْ أو أمْسِك بغير حساب) .
(رُجَّتِ الْأَرْضُ) : زلزلت وحرِّكَتْ تحريكاً شديداً، وذلك
يوم القيامة.
(رُجْعَى) : أي مرجعا، وهذا تهديد لأبي جهل وأمثاله.
(رِبا) : هو في اللغة الزيادة، ومنه: (يُرْبي الصدقاتِ) .
واستعمل في الشرع في بيوعات ممنوعة أكثرها راجعةٌ إلى
الزيادة، فإن غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم أتَقْضِي أم تربي، فكان الغريم يزيد في عدد المال ويَجْبر الطالب عليه.
ثم إن الرِّبا على نوعين: ربا النَّسِيئة وربا التفاضل، وكلاهما يكون في الذهب والفضة، وفي الطعام.(2/203)
فأما النسيئة فَتحْرم في بَيْعِ الذهب بالذهب، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي
بيع الذهب بالفضة، وهو الصرف.
وفي بيع الطعام بالطعام مطلقا.
وأمَّا التفاضل فإنما يحرم في بيع الجنس الواحد بجنْسه من النقدين ومن
الطعام.
ومذهب إمامنا أنه يحرم في كل طعام.
ومذهب مالك أنه يحرم التفاضل في
المقْتَات المدَّخر من الطعام.
ومذهب أبي حنيفة أنه محرم في المكيل والموزون من
الطعام وغيره.
(رِبِّيّون) : جماعات كثيرة.
وقيل علماء مثل ربّانيين.
وذكر أبو حاتم أحمد بن حمدان اللغوي في كتاب الزّينة أنها سريانية.
(رِيشا) : واحده رياثس، وهو ما ظهر من اللباس، مستعار من ريش الطير.
والرياش أيضاً: الخصب والمعاش.
(رِجْز) : عذاب، كقوله: (فلما كشَفْنَا عنهم الرجْزَ) ، أي العذاب، وكانوا مهما نزل بهم أمر من الأمور المذكورة عاهدوا
موسَى على أن يؤْمنوا به إن كشفَه الله عنهم، فلما كشفه عنهم نَقَضوا العهد، وتمادوا على كفْرهم.
ورجز الشيطان لطخه وما يدعو إليه من الكفر، وسميت
الأصنام رجْزاً في قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، لأنها سبب الرجز، أي سبب العذاب.
وقرئ بضم الراء وكسرها.
ويبْدَل الزَّاي سيناً ومعناهما واحد، كقوله تعالى: (فَزَادَتْهمْ رِجْساً إلى رِجسهم) ، أي كفْركم إلى كفرهم، فيتجدَّد عليهم العذاب بسبب كفرهم.
وأما قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ) ، فهو تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غَزْوَة
بَدْر قبل وصولهم إليها - وقيل بعد وصولهم - فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأوْدِية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر به وتوضأ سائرهم، وكانوا قبله ليس عندهم ماءٌ للطّهور ولا للوضوء.
وكان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم(2/204)
وَسْوَسةً بسبب عدمهم للماء، فقالوا: " نحن أولياء اللهِ وفينا رسوله "، فكيف نَبْقَى بلا ماءٍ، فأنزل الله المطر وأزال عنهم وسوسة الشيطان.
(رِفد) : يرَادُ به العطاء، والعَوْن، ومنه قوله: (بئس الرِّفدُ الْمَرْفُود) ، أي العطيّة المعْطاة.
ويُقَال: بئس عون المعان رضوا به.
قد قدمنا أن الرضا من الله هو إرادة تنعيم المؤمنين وثوابهم وإيصال النفع لهم، وسخطه إرادة العقاب لأعدائه وإضرارهم.
(رِئْياً) : بهمزة ساكنة قبل الياء.
ما رأيت عليه من شارة وهَيْئة، وبغير همز بمعناه أيضا.
ويجوز أن يكون من الرئي، أي منظرهم مرئيّ
من النعمة.
وقرئ: زيًّا - بالزاي - يعني هيئة ومنظراً.
(رِكْزا) : صوت خَفِيّ.
والمعنى أنهم لم يبق منهم أثر.
وفي ذلك تهديد لقريش.
(رِيع) : المرتفع من الأرض.
وقيل: الطريق، وجمعه أرْياع وريعي.
(رِعَاء) : جمع راع.
(رِدْءا) ، بغير همز وبهمز على التسهيل من المهموز، بمعنى مُعِيناً، أو يكون من أرديت، أي زدت.
(رِزْقَكم أنكم تكَذِّبُون) : قد قدمنا أنها توبيخ للقائلين
مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا، فجعلوا شكر الرزق التكذيب.
(ركاب) : إبل، ومنه قوله تعالى: (فما أوْجفْتُم عليهِ مِنْ خَيْل ولا
رِكاب) .
(رُحْم) : جمع رحم، وهو فرج المرأة، ويستعمل أيضاً في
القرابة.
(رُوَيْد) : اسم لا يتكلم به إلا مصغَّراً مأموراً به، تصغير رود، وهو المهل.(2/205)
(رُبَّ) : حرف في معناها ثمانية أقوال:
أحدها: أنها للتقليل دائماً، وعليه الأكثرون.
الثاني: للتكثير دائماً، كقوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) ، فإنهم يكثر منهم تَمنّيِ ذلك.
وقال الأولون: هم مشغولون بغمرات الأهوال فلا يفيقون بحيث يتمنّوْنَ ذلك إلا قليلا.
الثالث: أنها لهما على السواء.
الرابع: للتعليل غالبا والتكثير نادراً، وهو اختياري.
الخامس: عكسه.
السادس: لم توضع لواحد منهما، بل هي حرف إثبات لا يدل على تقليل
ولا تكثير، وإنما يفعل ذلك من خارج.
السابع: للتكثير في موضع المباهاة والافتخار.
وللتقليل فيما عداه.
الثامن: لمبْهَمِ العدد تكون تقليلاً وتكثيراً، وتدخل عليهما فتكفّهما عن عمل الجرّ.
وتدخل على الجمل، والغالب حينئذ دخولها على الفعلية - الماضي فعلها
لفظاً ومعنى، ومن دخولها على المستقبل الآية السابقة.
وقيل: إنه على حدّ (ونُفِخَ في الصّورِ) .(2/206)
(حرف الزاي المعجمة)
(زكرياء) : كان مِنْ ذرّيَّةِ سليمان بن داود عليهما السلام، وقتل بعد قَتْلِ
ولده يحيى، وذلك أنه هرب من اليهود، فقفوا أثره، فلما دَنوْا منه رأى شجرةَ فقال لها: اكتميني، فانشقت الشجرة، فدخل فيها، ثم التأمت عليه فجاءوا فلم يجدوه، فقال لهم إبليس: هو في هذه الشجرة فأتَوْا بِمِنْشَارٍ وشقّوها على نصفين، فلما بلغ النشار إلى أمِّ رَأْسِه صاح وتأوّه، فتزلزل الملكوت فنزل عليه جبريل، وقال: يا زكرياء، إنَّ الله تعالى يقول لك: لئن قلْتَ آه مرةً أخرى لأمْحونّك من ديوان الأنبياء، فعضَّ زكرياء على شفتيه حتى شقّوه بنصفين (1) .
فليتأمل العاقِل هذا التهديد والوعيد الهائل مع أنبيائه وأصفيائه، فكيف بنا
الذين عميت بصائرنا، وأظلمت سرائرنا، وليعلم أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل.
قال أبو يزيد البسطامي: كنت أمشي في البادية فرأيت أربعين شابًّا من
أصحاب الطريقة ماتوا عطاشاً جياعاً.
فقلت: إلهي، كم تقتل الأحباب، وكم تريق دم الأصحاب، فسمِعْت قائلاً يقول: يا أبا يزيد، اقتل النفس، وأعط ديتها.
فقلت: ما دية هؤلاء، فسمعت هاتفاً يقول: دية مقتول الخلق الدنيا، ودية مَقْتول الحقّ رؤية الجبَّار.
وروي أنَ يحيى بن معاذ الرازي ناجى ربه في ليلة.
فقال: إلهي، إن طلبتك أتعبتني، وإن هربت منك أحرقتني، وإن أحببتك قتلتني، فلا منك فرار، ولا عنك قرار.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.(2/207)
وكان لزكرياء - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بُشَر بولده اثنان وسبعون سنة.
وقيل: تسع وتسعون سنة.
وقيل: مائة وعشرون.
وزكياء اسم أعجمي، وفيه خمس لغات: أشهرها المد.
والثانية القَصْر، وقرئ بهما في السبع.
وزكريا - بتشديد الياء وتخفيفها.
وزكَر - كقلَم.
(زَكى، وَزَكاة) : طهارة ونماء أيضاً.
وإنما قيل لما يجب في الأموال صدقة، لأنها تطهّر الأموال مما يكون فيها من الإثم والحرام إذا لم يؤدَّ حقّ الله منها، وتنميها وتزيد فيها بالبركة، وتقيها من الآفات.
وتأتي بمعنى الثناء.
ومنه قوله: (وحَنَاناً مِنْ لَدنّا وزَكاةً) ، كما يزكى الشاهد.
وزكا هو - مخففاً: أي صار زكياً.
(زَيْغ) : ميل حيثما وقع.
ومنه: (وأمَّا الذين في قلوبهم زَيْغ) ، ونزلت في نصارى نَجْران، فإنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه، قال: نعم.
قال: فَحَسْبنَا إذاً، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه.
وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي.
ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مُبْتَدع أو جاهل يَتْبَعُ المتشابه من القرآن.
(زَبور) : فعول بمعنى مفعول، من زبرت الكتاب، أي كتبته.
والزبور الذي أعطيه داود عليه السلام، وهو من الكتب المنَزَّلة على الأنبياء، وعددها مائة وأربعة.
وقيل وأربعة عشر.
(زَحْفاً) : حال من الذين كفروا، أو من الفاعل في لقيتم.
ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص.
وأصل الزحف الاندفاع.
(زَيَّلْنَا بينهم) : فَرَّقْنا.
(زَفِير) : إخراج النفس من الصدر، وهو أول نهيق الحمار.(2/208)
(زَعِيم) : بمعنى كفيل وضامن وحميل وصبير، وهذا من
كلام المنادي الذي جعل لهم حِمْل بعير لمن ردَّ الصَّاعَ.
(زَهَق الباطل) : ذهابه.
ومن هذا زهوق النفس، وهو بطلانها.
والمعنى أن الإيمان يُبْطِل الكُفْو.
(زللا) : هو الذي لا يثبت القدم عليه، يعني أنه لا تثبت
أشجاره ونباته.
(زاكية) : ليس له ذنب لعدم بلوغه.
وقيل: إنه بلغ، ولكنه لم ير له ذنباً.
وقرئ (زكيَّة) .
قال أبو عمرو: الصواب زكية في الحال، وزَاكية في غد، والاختيار زكِيت.
مثل ميت ومائت، ومريض ومارض، وقوله: (ما زَكَى منكم من أحد) .
أي لم يكن زاكياً.
(زَهْرةَ الحياة الدّنيا) : بالفتح والزاي والهاء: نَوْرُ النبات.
وبضم الزاي وفتح الهاء: النجم.
وبنو زهرة بتسكين الهاء.
وشبَّه نعم الدنيا بالزهرة، لأن الزَّهْرَ له منظر حسن - ثم يضمحلّ.
وفي نَصْب زهرة خمسة أوجه: أن ينتصب بفعل مضمر على الذّم، أو يضمَّن
متّعنا معنى أعطينا، ويكون زهرة مفعول ثان له، أو يكون بدلاً من موضع الجار والمجرور، أو يكون بدلاً من أزواج على تقدير ذوي زهرة، أو ينتصب على الحال.
(زَجْرة واحدة) : قدمنا أن الزجرة معناها الصيحة بشدة
وانتهار.
وأما قوله: (فالزَّاجِرَات زَجْراً) - فمعناها الملائكة
تزجر السحب وغيرها.
وقيل الزاجرون بالواعظ من بني آدم.
وقيل: هي آيات القرآن المتضمنة الزجر عن المعاصي.
والمراد هنا النَّفْخ في الصّور للقيام من القبور.
(زَوَّجْنَاهم) : قرنَّاهم بالحور، وليس في الجنة تزويج(2/209)
كتزويج الدنيا، وإنما هو القارنة بين الرجل والمرأة، والصاحب والصاحبة.
وقد يأتي بمعنى الصنف والنوع، كقوله تعالى: (ثمانية أزواج) .
(أزواجاً من نبات شتّى) .
(من كل زَوْجٍ كَرِيم) .
(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) ، يعني أصناف المخلوقات، ثم فسرها بقوله: مما تنْبِت الأرْض ومن أنفسهم ومما لا يعملون.
(من) في المواضع الثلاثة للبيان.
(زنيم) : معلّق بالقوم وليس منهم.
وقيل: هو ولد الزِّنى.
وقيل: هو الذي في عنقه زَنَمة الشاة التي تعلَّق في حلقها.
وقيل: معناه مريب قبيح الأفعال، وقيل: ظلوم.
واختلف من الموصوف بهذه الصفة الذميمة، فقيل: لم يقصد بها شخص
معيّن، بل كل من اتصَف بها.
وقيل: المقصود بها الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه
بأنه (ذو مال وبنين) ، وكان كذلك.
وقيل أبو جهل. وقيل الأخنس بن شريق.
ويؤيد هذا أنه كانت له زَنَمة في عنقه.
قال ابن عباس: عرفناه بزنمته، وكان أيضاً من ثقيف.
ويعَدّ في بني زهرة فيصح وصفه بِزَنيم على القولين.
وقيل: الأسود بن عبد يغوث.
(زَنْجَبيل) : معروف.
والعرب تذكره في أشعارها، وتستطيب برائحته.
وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسيّ.
(زَرَابي) : بسط فاخرة.
وقيل: الطنافس، واحدها زَرْبِيَّة.
(زَبانِية) : واحدهم زبْنِيّ، مأخوذ من الزّبْن، وهو الدَّفْع.
كأنهم يدفعون أهل النار إليها.
ونزلت الآيَة بسبب قول أبي جهل: أيتوعد محمد، فوالله ما بالوادي أعظم زَبْناً مني.
فنزلت الآية، تهديداً وتعجيزاً له.
والمعنى فلْيَدعُ أَهْلَ نادِيه لنصْرَته إن قدروا على ذلك، ثم أوْعد بأن يدعو له
زبانية جهنم، وهم من الملائكة الموكَّلون بالعذاب.(2/210)
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً.
(زلزلوا) ، بالتخويف والشدة.
والآية خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم، والأمر بالصبر على الشدائد، أي لا تدخلون الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من قَبْلكم من الأمم.
(زحْزح عن النار) : أي أبعد عنها.
(زُخْرفَ القَوْل) : أي ما يُزَيِّنه من القول والباطل.
والزخرف أيضاً الذهب.
ومنه قوله تعالى: (أوْ يكون لك بَيْتٌ مِنْ زخْزفٍ) .
(وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا) .
وأما قوله تعالى (أخَذَتِ الأرْض زخْزفَها وازَّينَتْ) - فهو تمثيل
للعروس إذا زيِّنَتْ بالثّياب والحلي، تزف إلى زَوْجها فلا يصلحها، كذلك
الدنيا إذا ظن أهلها أنهم متمكنون من الانتفاع بها أتتْها بعض الجوائح، كالريح والصِّر، وغير ذلك
(زلَفاً من الليل) : المراد به المغرب والعشاء.
وزلف الليل ساعاته، واحدها زلْفة.
(زبرَ الحديد) : واحدتها زُبْرة.
(زلْفَى) : قرْبى، فهو مصدر من يُقرِّبونا، أي يقول الكفار ما
نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقَرِّبونَا إلى الله ويشفعوا لنا عنده.
ويعني بذلك الكفَّار الذين عَبَدوا الملائكة أو الأصنام أو عيسى أو عُزيراً، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة.
(زمرا) ، في الموضعين جمع زمرة، وهي الجماعة من
الناس، قال - صلى الله عليه وسلم -: أول زمْرة يدخلون الجنةَ على صورة القمر ليلة البدر.
والزمرة الثانية على صورة أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل.(2/211)
(زِينةَ الله) : هي ما شرعه لعباده من الملابس والمآكل، وكان بعض العرب إذا حَجّوا يجردون من الثياب ويطوفون عُرَاة، ويحرمون
الشحم واللبن، فنزل ذلك ردًّا عليهم وإنكاراً لتحريمها.
(زلْزَالها) : مصدر، وإنما أضِيفَ إلى الأرض تهويلاً، كأنه
يقول: الزلزال الذي يليق بها على عظمة جِرْمها.
(زَعم الذين كفروا) : كناية عن كَرْبهم.
(زَيْد) : هو ابن حارثة الذى تبنّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم
يذكر في القرآن أحَدٌ من الصحابة غيره تعظيما له.(2/212)
(حرف الطاء المهملة)
(طاغوت) : من الجن والإنس شياطينهم، ويكون واحداً
وجمعا، وجَمَعه في آية البقرة، وأفرده في غيرها، لأنه اسم جنْس لما عُبِدَ مِنْ
دون الله.
(طالوت) : هو الذي بعثه الله لقتال جالوت، وكان ملكاً وأعطى بِنْته
لداود.
(طَلّ) : مَطَر ضعيف خفيف، والمعنى أنه يكفى هذه الجنة
لكرم أرضها.
(طيِّبَاتِ ما كسبتم) : الجيد غير الرديء، ويُراد به الحلال.
وهو المراد في كل موضع.
وزاد، كقوله: (كُلوا من طيِّبات ما رَزَقْنَاكم) .
(كلوا من الطيبات) .
لكن اختلف في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفِقُوا مِنْ طَيِّبَات ما كسبتم) ، فقيل إنها في الزكاة، فيكون واجباً.
وقيل: في التطوع، فيكون مندوبا لا واجبا، لأنه كما يجوز التطوع في القليل يجوز في الرديء.
(طَوْعاً) : انقياداً بسهولة حيث ما وقع.
(طبعَ اللَّهُ على قلوبهم) ، أي ختم عليها.
(طَوْلاً) : هو السعة في المال.
وأباح الله في هذه الآية تزوُّجَ الفتيات، وهن الإماء، للرجال إذا لم يجدوا طولاً للمحصنات.(2/213)
وذهب مالك وأكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز للحُرِّ نكاح أمَةٍ إلا بشرطين: أحدهما عدم الطول، وهو عدم الوجود بما يتزوَّج به امرأة.
والآخر خوف الزنى وهو العنت، لقوله تعالى بعد ذلك: (ذلك لمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ منكم) .
وأجاز بعضهم نكاحهنَّ دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يُعْتبر.
واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمَة التي تتزوج، لقوله: (من فتياتكم
المؤمنات) ، إلا أهل العراق فلم يشترطوه.
وإعراب (طولاً) مفعول بالاستطاعة.
وأن ينكح بدلاً منه، فهو في موضع نصب، بتقدير إلا أن ينكحن.
ويحتمل أن يكون طولاً نصب على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة، لأنها بمعنى يتقارب.
وأن ينكحن على هذا مفعول بلاستطاعة أو بالمصدر.
(طَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) : الضمير يعود على قابيل، وذلك أنه كان صاحب زَرْع، فقرّب أرْذَلَ زَرْعِه، وكان هابيل صاحب غنم
فقرّب أحسن كَبْش عنده.
وقد قدمنا أن النار كانت حاكم آدم، فقام هابيل يصلّي، فنزلت النار وأخذت كبشه، وتركت زرع قابيل، فحسده على قَبول
فرْبانه، فقتله، وإنما حسده على نكاح أخته، لأن الله أوحى إلى آدم أن زوّج ذميما من قابيل واقلما من هابيل، فأخبرهما آدم بوحْيِ الله فَرَضِيَ هابيل وأبى قابيل.
وقال: إن أختي أحسن، وكانت وُلدت معه.
فقال آدم: يا بني، لا تخالف أمر الله.
فقال: لَمْ يَأمرك الله، ولكن أنت تحبُّ هابيل وتزَوِّجه أحسن بناتك.
فقال آدم: اذهبا وتحاكما إلى الله، فوقع منهما ما أخبر
الله به بقوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) .
كأنه تعالى يقول: أحرقت قربان سائر الأمم، ولم أجوز أنْ أحرق قربانَ حبيبي، فأمرتهم بإطعام الفقير، فإذا لم أجوز إحراق
القربان فكيف أحرق من قرأ القرآن، فلما فقد هابيل سأل عنه جميع أولاده.
فقالوا لا ندري أين هو، فاغْتَمَّ غَمّاً شديداً على فَقْده، وبات مهموما.(2/214)
فرأى في منامه هابيل وهو يناديه من بعيد: يا أبت، الغَوْث! الغَوْث! فانتبه من نومه مَذْعورا، وبكى حتى غُشِي عليه، فنزل جبريل ورفع رأسه.
فلما أفاق قال: يا جبريل، أين ولدي هابيل، فقال: الله يعظِّم أجْرَكَ فيه، قتَله قابيل.
فقال آدم: أنا بريء منه.
فقال له جبريل: والله بريء منه.
ثم قال آدم: يا جبريل، أرِنيه، فأراه له تحت التراب وإذا هو ملطّخ بالدم، فصاح يَا حَسْرتاه! يا ويلتاه! يا ابناه! وبكى حتى بكَتِ الملائكةُ لبكائه، وقالوا: إلهنا، بكى آدم ثلاثمائة سنة ولم يسترح إلاَّ مدة يسيرة، ثم اشتغل بالبكاء، فقال تعالى: الدنيا دار البكاء والعَنَاء، ودار البَلاَء والفناء.
(فَطَوَّعت) : فعَّلت من الطوع، يقال.
: طاع له كذا، أي أتاه طَوْعا.
ولساني لا يطوع بكذا، أي لا يَنْقَاد.
(طفِقَا) : أي جعلا، تقول: طفق يفعل كذا، وجعل
يفعل كذا، قال بعضهم: معناه قصد بالرومية، حكاه شَيْذَلة، وضمير التثنية على آدم وحواء.
(طائِفٌ من الشيطان) : معناه لَمَّة منه، كما جاء: إن
للشيطان لمَّة، وللملك لَمَّة.
ومَنْ قرأ طَيْف - بياء ساكنة - فهو مصدر، أو
تخفيف من طيّف المشدد، كميِّت وميْت.
ومن قرأ طائف - بالألف - فهو اسم
فاعل.
(طَرَفَي النهار) : أوله وآخره، فالأول الصبح، والطرف
الثاني الظهر والعصر.
(طائره في عُنقِهِ) : أي عمله.
والمعنى أنه لازم له ما قدّر له وعليه من خير أو شر، يعني أن كل ما يَلْقَى الإنسان قد سبق به القضاء، وإنما عَبَّر عن ذلك بالطائر، لأن العرب كانت عادتها التيمّن والتشاؤم بالطير، وإنما عَبَّر بالعنق، لأنه لا ينفك عنه.
ويقال لكل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه،(2/215)
وهذا لك في عنقي.
ومثله: (ألا إنَّمَا طائِرهم عند الله) .
أي حظّهم ونصيبهم الذي قُدِّرَ لهم.
ومقصود الآية الرد عليهم فما نسبوا إلى موسى من الشؤم.
(طه) : من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل معناه: يا رجل.
وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: طه - قال: هو كقولك يا محمد، بلسان الحبَشة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عباس، قال: طه - بالنبطية.
وأخرج عن عكرمة قال: طه: يا رجل، بلسان
الحبشة.
(طغَى) : ترفَّعَ وعلا حتى جاوز الحدَّ أو كاد.
ومنه قوله تعالى: (لما طغَى الماءُ حَمَلْنَاكم في الجارية) ، أي كثر، فيحتمل
أنه طغى على أهل الأرض أو على خزَّانه، يعني وقت طوفان نوح عليه السلام.
(بطريقتكم المُثْلَى) : أي سيرتكم الحسنة، وهذا من كلام
فرعون يخاطب قومه أن هذا يذهب بدينكم، وما أنتم عليه.
والمثْلَى تأنيث الأمثل.
(طَهورا) : أي نظيفا يطهر به من توضأ واغتسل من جنابته.
والطهور: مبالغة في طاهر، ولهذا المعنى يقول الفقهاء: ماء طهور، أي
مطهِّر، وكل مطهِّر طاهر، وليس كل طاهر طهورا.
(طَوْد) : الجبل، وروِيَ أنه صار في البحر اثنا عشر
طريقأ لكل سبْط من بني إسرائيل طريق.
(طَلْعُها هَضِيم) : أى منضم قبل أن ينشقّ ويخرج من
الكم.
والهضيم: اللين الرطب، فالمعنى أن طَلْعَها يتمُّ ويرطب.
وقيل: هو الرخص أول ما يخرج.
وقيل: الذي ليس فيه ندى.
فإن قيل: لم ذكر النخل بعد ذكر الجنّات، والجنات تحتوي على النخل؟
فالجواب: أن ذلك تحديدٌ، كقوله تعالى: (فاكِهَةٌ وَتخْلٌ ورُمّان) .(2/216)
ويحتمل أنه أراد الجنّات التي ليس فيها نخل، ثم عطف عليها
النخل.
(طَلْغ نَضِيد رِزْقاً لِلعباد) : النَّضِيد هو المنضد، كحب
الرمان، فما دام بعضْة ببعض فهو نضِيد، فإذا تفرق فليس بنضيد.
(طَمَسْنَا أعْينَهم) : الضمير راجع لقَوْم لوط لما راودوه عن
ضَيْفه لِظَنِّهمِ أنهم من بني آدم، وأرادوا منهم الفاحشة، فطمس جبريل على
أعينهم، فاستوَتْ مع وجوههم.
وقيل: إن هذا الطمس عبارةٌ عن عدم رُؤيتهم
لهم، وإنهم دخلوا منزل لوط فلم يَرَوْا فيه أحدًا.
والمطموس الذي لا يكون بين جفنيه شق طرف خفيّ، ويحتمل أن يريد به
العين، أو يكون مصدراً.
وفيه قولان: أحدهما أنه عبارة عن الذل، لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة.
والآخر أنهم يحشرون عُمْيا، فلا ينظرون بأبصارهم، وإنما ينظرون بقلوبهم.
واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري.
(طَلْح) : شجر عِظَام كثيرات الشوك، قاله ابن عطية.
وحُكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس، وقرأ علي بن أبي طالب: وطَلْع
منضود - بالعين، فقيل له إنها بالحاء، فقال: ما للطلح والجنّة.
فقيل له: أنصْلِحها في المصحف، فقال، المصحف اليوم لا يغيَّر.
وقال الزمخشري: والطلح هو شَجَر الموز.
(طاغية) : طغيان، مصدر كالعاقبة والواهية وأشباههما من
المصادر.
(طَرَائق قِدَداً) ، الطرائق: المذاهب والسير وشبهها.
والقدد: المختلفة، وهو جمع قِدّة، وهذا بيانٌ للقسمة المذكورة قَبْل، وهو على حذف مضاف، أي كُنَّا ذوي طرائق، أو كُنَّا في طرائق.
(الطامَّة الكبرى) : هي القيامة.
وقيل: النفخة الثانية، واشتقاقها من قولك، طمّ الأمر إذا علا وغلب.(2/217)
(طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) : الطبق في اللغة له معنيان:
أحدهما ما طابق غيره، يقال هذا طبق لهذا إذا طابقه.
والآخر جَمْع طبقة، فعلى الأول يكون المعنى لتركبنَّ حالاً بعد حال، كل واحدة منهما مطابقة للأخرى.
وعلى الثاني يكون المعنى لتركَبنّ أحوالا بعد أحوال، هي طبقاتٌ بعضُها فوق بعض.
ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال، وفي قراءة: تركبنّ:
فأَما من قرأه بضم الباء فهو خطابٌ لجنس الإنسان، وفي تفسير الأحوال على
هذا ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها شدائد الموت، ثم البعث، ثم الحساب، ثم الجزاء.
والآخر: أنها كون الإنسان نطفة ثم علَقة إلى أن يخرج إلى الدنيا إلى أن يَهْرم
ثم يموت.
والثالث: لتركبنّ سنَنَ مَنْ كان قبْلكم.
وأما من قرأ تركبَنَّ - بفتح الباء - فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا.
وقيل: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم اختلف القائلون على هذا، فقيل لتركبنّ
مكابدة الكفَّار حالاً بعد حال.
وقيل: لتركبن فَتْحَ البلاد شيئاً بعد شيء.
والآخر لتركبنَّ السماوات في الإسراء سماءً بعد سماء.
وقوله: (عن طَبَق) في موضع الصِّفَة لطبق، أو في موضع حال من الضمير
في تركبن، قاله الزمخشري.
(طارق) : هو في اللغة ما يطرق، أي يجيء ليلاً.
وقد فسره الله في الآية بأنه النجم الثاقب.
وهو يطلع ليلاً.
ومعنى الثّاقب المضيء أو المرتفع.
فقيل: أراد جِنْسَ النجوم.
وقيل: الثريا، لأنه الذي تطلق عليه العرب النجم.
وقيل، زحل، لأنه أرفع النجوم، إذ هو في السماء السابعة.
(طَحَاها) : مدّها أو بسطها.
(بطَغْوَاها) : هو مصدر بمعنى الطغْيَان، قلِبَتْ فيه الياء
واواً على لغة من يقول: طغيت.
والباء الخافضة كقولك: كتبت بالقلم، أو سببية.(2/218)
والمعنى بسبب طغيانها.
وقال ابن عباس: معناه كذبت ثمود بعذابها.
ويؤيده قوله: (فأمّا ثمود فأُهْلِكوا بالطاغية) .
(طغْيَانهم) ،: غيّهم وكفْرهم.
(طور) : جبل بالسريانية، قاله مجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه بالنبطية.
وذلك أن موسى لما جاء بالتوراة أبوا أن يقبلوها، فرفع الجبل
فوقهم كأنه ظلَّة.
وقيل لهم: إن لم تأخذوها وضع عليكم..
(طُوفَان) : سَيْلٌ عظيم، والطوفان: الموت الذَّريع.
وطوفان الليل: شدة سَوَادِه.
والطوفان المبعوث على بني إسرائيل كان مطراً
شديدا دائماً مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون وامتنعوا من
الزراعة.
(طوبَى) : مصدر من طاب، كبشرى، ومعناها أصبت
شيئاً طيباً.
وقيل شجرة في الجنة.
وإعرابها مبتدأ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: طوبى اسم الجنة
بالحبشية.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن خبير، قال: بالهندية.
طوبى في معناه قولان: أحدهما أنه اسم الوادي، وإعرابه على هذا بَدَل.
ويجوز تنوينه على أنه مكان، وترْك صرْفه على أنه بقْعة.
والثاني أن معناه مرتين، فإعرابه على هذا مصدر، أي قدس الوادي مرة بعد
أخرى، أو نودي موسى مرة بعد مرة.
وفي العجائب للكرماني: هو معرّب (ليلاً) ، وقيل: هو رجل بالعبرانية.
(طِبْتم) : أي من الذنوب والمعاصي، لأنها مَخَابث في
الناس، فإذا أراد الله أن يدخلهم الجنة غفر لهم، فطابوا لدخولها.
ومن هذا قول العرب: طاب لي هذا، أي فارقته المكاره، وطاب له العَيْش.
(طائفين) : من الطواف بالبيت جمع طائف.(2/219)
(حرف الظاء - المعجمة)
(ظهر أمْر الله) : بدا.
وأظهره غيره: أبْدَاه.
(ظلْتَ عليه عَاكِفا) : أصله ظَلِلت فحذِفت إحدى اللامين.
والأصل في معنى ظلّ أقام بالنهار، ثم استعمل في الدؤوب على الشيء ليلاً
ونهارا.
وهذا الخطاب من موسى للسامريِّ على وجه التهديد.
(ظَلّتْ أعناقهم لها خَاضِعين) : الأعناق: جمع عُنق، وهي
الجارحة المعروفة، وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء، لأنه أضاف الأعناق إلى
العقلاء، أو لأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء.
وقيل: الأعناق الرؤساء من الناس، شُبِّهوا بالأعناق، كما يقال لهم رؤوس
وصدور.
وقيل: هم الجماعات من الناس، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل.
(ظَهير) : معين.
(ظَنِين) : والضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن من قرأ بالضاد.
فمعناه بخيل، أي لا يبخل بأداء ما أُلْقِيَ عليه من الغَيْب، وهو الوحي.
ومن قرأ بالظاء، فمعناه مُتَّهم، أي لا يتهم على الوَحْيِ، بل هو أَمين عليه.
ورجّح بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوه - صلى الله عليه وسلم - إلى البخل بالوحي، بل اتهموه، فنفى عنه ذلك.
(يَظْهَروه) : ظهرت على الغيب: أي ارتفعت عليه.
ومنه: (فما اسْطَاعوا أنْ يَظْهَروه) .
وأصله استطاعوا، حذفت التاء تخفيفاً، وضمير (يظهروه) للسدّ.
المعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون على
الصعود على السد، لارتفاعه، ولا ينقبونه لقوته.(2/220)
(ظن) : له ثلاثة معان: التحقيق.
وغلبة أحد الاعتقادين، والتهمة.
ومنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) .
قيل معنى الإثم هنا الكذب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الظن أكذَبُ الحديث، لأنه قد لا يكون مطابقاً للأمر.
وقيل: إنما يكون إثماً إذا تكلم به.
وأما إذا لم يتكلم فهو في فسحة، لأنه لا يقدر على دفع الخواطر، واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سدّ الذرائع في الشرع، لأنه أمر باجتناب أكثر الإثم احترازاً من الوقوع في البعض الذي هو إثْمٌ.
(ظَمَأ) : عطش.
(ظلم) : يقع في القرآن على ثلاثة معان: الكفر، والمعاصي، وظلم الناس، أي التعدّي عليهم.
والجور والسفَه والظلم والتعدي بمعنى واحد، ولا يوصف سبحانه
بها، لأنه لا رَاحِمَ فوقه ولا زاجر، فأفعالُه تعالى لا يقارنها نهي، وإنما يتصوَّر
ذلك في حقوقنا المقارنة النهي لأفعالنا النهي عنها.
(ظِلاَل) : جمع ظلة، وهو ما عَلاَك من فوق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا
إشكال، وإن كان للهِ فهو من المتشابه.
والغمام: السحاب.
وقوله تعالى: (فأخذهم عذَابُ يوم الظّلَّة) - فهي سحابة
من نار أحرقت قَوْم شعيب، فأهلك اللَّهُ مَدْين بالصَّيْحَة، وأهلك الأيكة بالظلة.
فإن قلت: لم كرّر الآية في الشعراء مع كل قصة؟
فالجواب أن ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشد تنبيهاً للقلوب، وأيضاً فإن كل
قصة منها كلام قائم مستقل بنفسه، فخُتمت بما ختمت به صاحبتها.
فإن قلت: الظلل إنما تكون من فوق، فلم قال: (ومِنْ تحتهم ظُلل) ؟
فالجواب إنما سماها ظلة لمن تحتهم، لأن جهنم طبقات.(2/221)
وقيل إنما سماه ظلة لأنه يتلهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم.
(ظلمات بعضها فوق بعض) : هذا تمثيلٌ للكفَّار في حيرتهم
وضلالهم، فالظلمات أعمال الكفار والبحر اللجِّيّ صدره، والموج جَهْله.
والسحاب الغطاء الذي على قَلْبهِ.
وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة.
وفي وصف هذه الظلمة بهذه الأوصاف مبالغة، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة.
وأما قوله تعالى - حكاية عن يونس عليه السلام: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) - فهي ظلمة المشيمة، وظلمة
الرَّحم، وظلمة البطن، وظلمة الليل، وظلمة البحر، ففي هذه الآية توحيد، ثم تنزيه، ثم اعتراف.
وفيها ثلاث ظلمات، وثلاثة مفاتيح ظلمة، وثلاث هبات، وثلاثة علوم، وثلاثة أذكار.
وقد وعد سبحانه بنجاة مَنْ قالها.
وروى أنَس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يونس عليه السلام حين نادى في الظلمات ارتفع نداؤه إلى العرش، فقالت الملائكة: هذا صَوْت ضعيف، مِنْ مَوْضِع غرْبة فأغِثْه.
فقال الله تعالى: قد أجبتكم فيه.
قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) .
وروي أن قارون سمعه، فقال: يا رب، ما هذا
الصوت الغريب، فأخبر بذلك، فبكى رحمة عليه لرحمِه منه، فخفف الله عنه
العذاب (1) .
تنبيه:
اجعل أيها العبد دارَ دنيَاكَ كبطن حوت يونس له، فلا تنس فيها ذكر
مولاك، لعله ينْقذك من بحْرِ هواك، لأن يونس كان في ثلاثة غموم، فدعا مرة أَنجَاه الله منها، فكيف لا ينجيك أيها المحمدي إن دعوت به مرارا من غم
القيامة، وغم العقاب والحساب.
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ما من عبدٍ دعا بهذا في مرضه
إلا غفر الله له.
وإذا تأملت قوله: لا إله إلا أنت - تفهم منه قرْبَ مولانا منه
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.(2/222)
مع بعْدِ مكانه في قعر البحور.
وقول نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء: لا
إله إلا الله، فخاطبه بالغيبة مع قُرْبه منه كان ذلك دليلاً على أنه لا يقرب أحد منه إلا بتقريبه له، وهو معكم أين ما كنتم.
(ظِلاَلهم بالغُدو والآصَال) : معطوف على معنى السجود.
والمعنى أن الظلال تسجد غدوةً وعشيّة، وسجودها انقيادها لمشيئة الله.
وقيل: سجودها فيها بالمشي.
(ظلالِ على الأرائك) : جمع ظُلّة مثل قلَّة وقِلاَل.
وقرئ بالضم.
والأرَائك جمع أريكة، وهي السرير.
(ظلّ ممدود) : أي دائم، لا تنسخه الشمس.
قال - صلى الله عليه وسلم -: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.
واقرأوا إن شئتم: (وظلّ ممدود) .
فإن قلت: قد قلتم: إن الجنة لا شَمْسَ فيها، فما معنى هذا الظل؟
فالجواب أنه على تقدير أن تكون هناك، وإنما ظلهم كما بين طلوع الشمس، فهي نورانية شعشعانية لا حَرَّ فيها ولا قر.
(ظل مِنْ يحْموم) : يعني أسود، وهو الدخان في قول الجمهور.
وقيل: سرادق النار الحيط بأهله، فإنه يرتفع من كل جهة حتى
يظلهم.
وقيل: هو جَبَل في جهنم.
(ظلّ ذي ثلاثِ شُعَب) ، يعني دخان جهنم يتشعّب على
ثلاث، فيقال للمكذبين حين يطلبون الظلَّ الذي يرَوْنَ المؤمنين مستظلين به في
ظلّ العرش: انطلقوا، فلا يغنيهم شيئاً، كما قال تعالى: (لا ظَلِيل ولا يغْنِي مِنَ اللَّهَب) .
فَنَفَى عنهم أن يظلهم كما يُظلّ العرش المؤمنين، ونفى أيضاً أن يمنع عنهم.
(ظِهْريًّا) : أي ما يطرح وراء الظهور، ولا يُعْبَا به،(2/223)
وهو منسوب إلى الظهر بتغيير النسب، وهذا من قول شعيب عليه السلام، لقومه حين قالوا له: (وَلوْلاَ رَهْطُك لَرَجَمْنَاك) - بالحجارة، أو بالسب.
فقال لهم: (يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ، على وجه التوبيخ لهم.
فإن قلت: إنما وقع كلامهم فيه وفي رهطه، وأنهم هم الأعزَّةُ دونه، فكيف
طابَقً جوابه كلامهم؟
فالجواب أن تهاونهم به - وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تهاونُهم بالله.
(ظن) أصلها الاعتقاد الراجح، كقوله: (إنْ ظَنَّا أنْ يقيمَا حدودَ الله) .
وقد تستعمل في اليقين، كقوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) .
أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين.
وهذا مشكل بكثير من الآيات لم يستعمل فيها بمعنى اليقين، كالآية الأولى.
وقال الزركشي في البرهان: الفرق بينهما في القرآن ضابطان:
أحدهما أنه حيث وجد الظن محموداً مثاباً عليه فهو اليقين.
وحيث وجد مذموماً متوعداً عليه بالعقاب فهو الشكّ.
والثاني أن كل ظن يتصل بعده أن الخفيفة فهو شك نحو: (بل ظنَنْتُم أنْ لَنْ
يَنقَلِبَ الرسولُ والمؤمنون) .
وكل ظن يتصل به أن المشددة فهو يقين، كقوله: (إنّي ظنَنْتُ أنّي مُلاَق حِسَابِيَه) .
وظَنّ أنّه الفِرَاق) .
وقرئ: وأيقن أنه الفراق.
والمعنى في ذلك أن المشددة للتأكيد، فدخلت على اليقين.
والخفيفة بخلافها فدخلَتْ في الشك، ولهذا دخلت الأولى في العلم، نحو: (فاعْلَم أنه لا إله إلا الله) .
(وعلم أنَّ فيكم ضَعْفاً) .(2/224)
والثانية في الحسبان، نحو: (وَحَسِبوا ألا تكون فتنة) - ذكر ذلك الراغب
في تفسيره.
وأوْرد على هذا الضابط: (وظَنوا أنْ لا مَلْجَأ من الله) .
وأجيب بأنها اتصلت بالاسم.
وفي - الأمثلة السابقة اتصلت بالفعل، ذكره في
البرهان، قال: فتمسَّك بهذا الضابط، فهو من أسرار القرآن.
وقال ابن الأنباري: قال ثعلب: العَرَبُ تجعل الظن علماً وشكا وكذبا، فإن
قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإن اعتدلت
براهين اليقين وبراهين الشكّ فالظن شك، وإن زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله: (إنْ هم إلاَّ يَطنون) ، أى يكذبون.(2/225)
(حرف الكاف)
(كافر) : له معنيان: من الكفر، وهو الجحود بوجود الله المضاد لمعرفته.
وقد يحكم بكفْرِ الشخص مع كَوْنِه عالماً بالله من طريق الشرع، وهو إذا قال: إن الخمر حلال، والظُّهر غير واجب.
وقيل الكافر هو المكذّب، مثل قوله
تعالى: (فكفَروا وتَوَلَّوْا) .
وبمعنى الزرع، وهو قوله تعالى:
(أعجب الكفارَ نباته) ، أي الزرَّاع.
وتكفير الذنوب: غفرانها.
(كافَّة) : الهاء للمبالغة، ومنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) . - بفتح السين المهملة.
والمراد به ها هنا عقد الذمة بالجِزْية، فالأمر على هذا لأهل الكتاب.
وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة.
وقيل: هو الإسلام.
وكذلك هو بكسر السين، فيكون الخطاب لأهل
الكتاب على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام.
وقيل: إنها نزلت في قَوْم من اليهود أسلَموا، وأرادوا أن يعظِّمُوا السَّبْتَ كما
كانوا، فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه.
ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه والدخول في جميع شرائعه من الأمر والنهي.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) .
أي تكفّهم وتردعهم، لأنه كما بعث إلى الإنس والجن.
(كفَلها زَكرِيَّا) : أي ضمها وحصّنها.
ومنه أكْفِلْنِيها.(2/226)
والضمير يعود على مريم، وزكريا كان زوج خالتها.
وقيل: زوج أختها.
وقرئ كفَّلها - بتشديد الفاء ونصب زكرياء، أي جعله الله كافلها.
(كَرّة) : أي رجعة.
ومنه: (لو أنَّ لنا كرّةً) .
وقوله: (ثم ردَدْتا لكم الكَرّة عليهم) ، أي الدولة والغلبة على الذين
بعثوا عليكم.
ويعني رجوع الملك إلى بني إسرائيل، واستنقاذ أسراهم، وقتل
بخت نصّر.
وقيل قتل داود جالوت.
(كاظِمين الغَيْظَ) : حابسين الغَيْظَ.
(كبِر) - بكسر الباء - يكبَر - بالفتح - في المضارع.
وكَبر الأمْر - بالضم - في الماضي والمضارع.
وكُبَر بضم الكاف وفتح الباء جمع كبْرى.
وكباراً - بالضم والتشديد: كبير، مبالغة.
والكِبْر: التكبّر.
وكُبْر الشيء - بكسر الكاف وضمها: معظمه.
والكبرياء: الملك والعظمة.
والمتكبِّر: اسم الله تعالى، وبمعنى العظمة.
وكان لامرأة زكرياء ثمان وتسعون سنة، فاستبعد ذلك في العادة مع علمه
بقدرة الله تعالى على ذلك، واستبعده، لأنه نادر في العادة وقيل: سأله وهو
شاب، وأجيب وهو شيخ، فاستبعده لذلك (1) .
(كذلك الله) : أي مثل هذه الفعلة العجيبة يفعل ما يشاء، فالكاف لتشبيه أفعاله العجيبة بهذه الفعلة، والإشارة إلى هبة الولد لزكرياء.
واسم الله مرفوع بالابتداء، و (كذلك) خبره، فيجب وصله معه.
وقيل: إن الخبر يفعل ما يشاء.
ويحمل (كذلك) على وجهين:
أحدها - أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل، والآخر أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف، تقديره الأمر كذلك، أو أنْتُما كذلك.
وعلى هذا يوقف على كذلك.
والأول أرجح، لاتصال الكلام، وارتباط قوله: (يفعل ما يشاء) مع ما قبله، ولأن له نظائرَ كثيرة في القرآن، منها قوله: (وكذَلِك أخْذ رَبِّكَ) .
__________
(1) استبعاد مثل ذلك شك في قدره الله تعالى - وهو كفر لا يليق بالأنبياء - والذي عليه المحققون أنه قال ذلك تعجبا من باهر قدرة العلي القدير. والله أعلم.(2/227)
(كلاَلَة) : هي انقطاع عمودي النسب، وهي خلوّ الميت
عن ولد أو والد.
ويحتمل أن يُطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة، أو
على الوراثة، أو على القرابة، أو على المال، فإن كانت للميت فإعرابها خبر كان، ويورَث في موضع الصفة.
أو يورث خبر كان وكَلاَلة حال من الضمير في يورث.
أو تكون كان تامة، ويورث في موضع الصفة، وكلالة حال من الضمير.
وإن كانتْ للورثة فهي خبر كان على حذْفِ مضاف، تقديره ذا كلالة، أو
حال على حَذْف مضاف أيضاً.
وإن كانت للوراثة فهي مصدر في موضع الحال.
وإن كانت للقرابة فهي مفعول من أجله، تقديره يورث من أجل القربى.
وإن كانت للمال فهي مفعول ثان لـ يورث.
وكل وجه من هذه الوجوه على أن تكون كان تامة ويورث في موضع
الصفة، أو تكون ناقصة ويورث خبرها.
(كَظِيم) : قيل: إنه فعيل بمعنى فاعل، أي شديد الحزن على أولاده.
أو كاظم لحزنه لا يظهره لأحد، ولا يَشكو إلا لله.
وقيل بمعنى مفعول، كقوله: (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) .
أي مملوء القلْبِ بالحزن أو بالغيظ على أولاده.
(كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) : يريدون بعير أخيه، إذ كان يوسف لا يعطي إلاَّ كَيْلَ بعير من الطعام لإنسان، فأعطاهم عشرة أبعرة
ومنعهم الحادي عشر لغيْبَة صاحبه، حتى يأتي.
وإن كانت الإشارة بذلك إلى
الأحمال فالمعنى أنها قليلةٌ لا تكفيهم حتى يضاف إليها كيل بعير.
وإن كانت الإشارة إلى كيل بعير فالمعنى أنه يسيرٌ على يوسف، أي قليل عنده، أو سهل عليه، فلا يمنعهم منه.
(كَلٌّ على مَوْلاَه) : أي ثقيل، يعني أنه عِيال على وليِّه أو سيده، وهو مثال للأصْنَام.(2/228)
(كَأس) : إناء بما فيه من الشراب.
(كَهْف) : غار واسع، دخله
الفِتْية الذين قصّ الله علينا خبرهم، ولنذكر من قصتهم ما لا غنَى عنه، إذْ أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نَقَلُوا:
وذلك أنهم كانوا قوماً مؤمنين، وكان ملكُ بلادهم كافراً يقتل كل مؤمن.
ففرّوا بدينهم ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه، ويختفوا من الملك وقومه، فأمر الملك باتباعهم، فانتهى المتَّبعون لهم إلى الْغَار، فوجدوهم، وعرَّفُوا الملك بذلك، فوقف عليه بجنوده، وأمر بالدخول عليهم، فهاب الرجال ذلك وقالوا له: دَعْهُم يموتوا عطشاً وجوعاً، وكان قد ألقى الله عليهم قبل ذلك نَوْماً ثقيلاً، فبقوا كذلك مدة طويلة.
ثم أيقظهم الله، وظنوا أنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، فبعثوا
أحدهم يشتري لهم طعاماً بدراهم كانت لهم، فعجب منها البيَّاع، وقال: هذه الدراهم من عَهْدِ فلان الملك في قديم الزمان، فمن أين جاءتْك، وشاع الكلام بذلك في الناس، فقال الرجل: إنما خرجتُ أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهْف.
فقال الناس: هم الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم، فَمَشوْا إليهم
فوجدوهم مَوْتى.
وأمَّا مَوْضِع كهفهم فقيل: إنه بمقربة فلسطين.
وقال قوم: إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة.
وفيه موتى ومعهم كلب.
وقد ذكر ابن عطية ذلك، وقال: إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد.
وقريب منهم بناء يقال له: الرَّقيم - قد بقي بعض خدْرانه.
وروي أن الملك الذي كانوا في زمانه اسمه دِقْيَنوس، وفي تلك الجهة آثار
مدينةٍ يقال لها مدينة دِقْيَنُوس. والله أعلم.
ومما يبعد ذلك ما روي أن معاوية مر عليهم، وأراد الدخول إليهم، فقال له
ابن عباس: لا تستطيع ذلك، قد قال الله لمن هو خير منك:(2/229)
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) .
فبعث ناساً إليهم، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقتهم.
ولم يدخل معاوية الأندلس قط.
وأيضاً فإن الموتى الذين في غار لوشة يراهم الناس، ولا يدرك أحداً الرعب
الذي ذكر الله في كتابه.
(كَبُرَتْ كَلِمَةً) : انتصب على التمييز، وقيل على الحال، يعني بالكلمة قولهم: (اتخذ اللهُ وَلَداً) . وعلى ذلك يعود الضمير في كبرت.
وأما قوله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عند الله) ، فانتصب على التمييز.
و" أن تقولوا " فاعل كبر.
وقيل الفاعل محذوف تقديره: كبر فِعْلُكم مَقْتاً، وأن
تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر مبتدأ مضمر، وكان بعضُ الناس
يستحي أن يعظَ الناس لأجل هذه الآية، ويقول: أخاف من مَقْت الله.
والمقت: هو البغض لريبة أو نحوها.
(كلْبُهم باسِطٌ ذِرَاعَيْه) : قيل إنه كان كلب الراعي، فمروا عليه فصحبهم وتبِعهم فطردوه فأبى إلاَّ صحْبَتَهم، فبِصحْبتهم خلَّدَ الله
ذكره في كتابه، لأن لصحبة الصالحين آثاراً، ألاَ تَرى ذَوْدَ البَقْلَ أخْضر، ومَنْ ناسب شيئاً انجذب إليه، وظهر وصفه عليه.
وأعمل اسم الفاعل، وهو بمعنى المضي، لأنه حكاية حال.
(كمِثْلِهِ شَيْء) ، أي كهو، والعرب تُقيم المثل مقام
النفس، فتقول: مِثْلِي لا يقول كذا وكذا، أي لا أقول كذا وكذا.
ومثلي لا يقال له كذا.
وفيه تَنْزِيهٌ للهِ تعالى عن مشابهة المخلوقين.
وقال بعضهم: إن الكاف زائدة.
قال الطبري وغيره: ليست بزائدة، ولكن وضع (مثله) موضع
هو.
والمعنى ليس كهو شيء.
قال الزمخشري: هذا كما تقول: مثلك لا يبخل.
والمراد أنتَ لا تبخل، فنفى البخل عن مثله.
والمراد نفيه عن ذاته.(2/230)
(كَنْزٌ لَهُمَا) : قيل مال عظيم.
وقيل: كان عِلْما في صحف مدفونة.
والأول أظهر.
وضمير التثنية يعود على الغلاَمَيْن.
وذكر الجواليقي وغيره أن لفظ الكنز فارسي.
(كفر عنهم سَيئَاتِهم) : أي غفرها لهم.
قال ابن الجوزي: معناه امْحُ عنّا - بالنبطية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله: كفَّر
عنهم سيئاتهم - قال - بالعبرانية: محا عنهم.
(كما تَأكلُ الأنعام) : عبارة عن كثرة أكلهم، أو عن غفلتهم
عن النظر كالبهائم.
(كأيّن مِنْ قَرْيةٍ هي أشدُّ قوةً مِنْ قَرْيتِك) : يعني مكة
وخروجه - صلى الله عليه وسلم - منها وقْتَ الهجرة.
ونَسب الإخراج إلى القرية والمراد أهلها، لأنهم آذوه حتى خرج.
(كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) .
أو: (كمن هو خالدٌ في النار) : تقديره: أمثل أهل الجنة المذكورة
قَبْلُ كمن هو خالدٌ في النار، فحذف هذا التقدير المراد به النفي، وإنما حذفه
لدلالة التقدير المتقدم عليه.
(كيف إذا تَوَفَّتْهم الملائكة يضربون) : ضمير الفاعل
للملائكة.
وقيل: إنه الكفَّار، أي يضربون وجوه أنفسهم، وذلك ضعيف، أي
كيف يكون فعل هؤلاء، والعربُ تكتفي بكيف عن ذِكْرِ الفعل معها لكثرة
دورانها في الكلام.
(كفَّ أيْدِي الناسِ عنكم) : أي كفَّ أهْلَ مكة عن قِتَالكم
في الْحُدَيْبِية.
وقيل: كفَّ اليهود وغيرهم عن الإضرار بنسائكم وذرّيتكم حين
خرجتم إلى الحديبية.
(كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم) :
رُوِيَ أنَّ جماعة ً من(2/231)
فِتْيَان فريش خرجوا إلى الْحديبية ليصيبوا من عَسْكرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليهم - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين، فهزموهم وأسَروا منهم قوماً، وساقوهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، فأطلقهم، فكفُّ أيدِي الكفَّار هو أن هزِموا وأُسِروا.
وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهم من الأسْرِ وسلامَتهم من القتل.
وقوله: (مِنْ بعد أنْ أظفركم عليهم) يعني من بعدما أخذتموهم أسارى.
(كلمة التَّقْوى) : هي لا إله إلا الله عند الجمهور، للحديث.
وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقيل: لا إله إلا الله والله أكبر.
وهذه كلّها متَقَارِبة.
وقيل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ التي أبى الكفار أن تكتب، بل
قالوا: اكتب اسمك.
(كانوا أحَق بها وأهْلَها) ، أي المسلمون المذكورون.
وقيل: أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم.
وقيل: أحق بها من اليهود والنصارى.
(كَفى باللهِ شَهيدا) : أي شاهدا بأن محمداً رسول الله، أو شاهدا بإظهار دينه.
(كزَرْعٍ أخْرَج شَطْأه) : هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث
بدأ ضعيفا ثم قوي وظهر.
وقيل: الزرع مثل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه بُعِث وحده.
فكان الزرع حبةً واحدة، ثم كثر المسلمون.
(كَثِيبا) : أي كدْس الرَّمل، يعني أن الجبال فتِّتَت من
زلزلتها حتى صارت كالرمل المذري.
(كصاحب الحوتِ) : قد قدمنا أنه يونس عليه السلام.
وسببها أنه - صلى الله عليه وسلم - همّ أن يدعو على الكفار، فنهاه الله أن يكون مثله في الضجر والاستعجال، لأنه ذهب مغاضباً لَمّا خالفه قَوْمه، فدعا عليهم، وأجيب وأَعلمهم بالعذاب، فلما رأى قومه مخايل الهلاك تابوا وآمنوا، فتاب الله عليهم(2/232)
وصرفه عنهم، وإنما أبقَ من قومه لخوفه من القتل، وسمي أبّاقاً في قوله تعالى:
(إذْ أبقَ إلى الفُلْكِ الْمَشْحُون) .
وقيل: إنه لما وعد قومه بالعذاب ولم يُصبهم بسبب إيمانهم أخَذَتْه غضْبَةٌ كما ذكر الله عنه.
والأول أصح.
فانظر قدرك، يا محمديّ، عند ربك، واشكره إذ هداك للإيمان بهذا النبي
الكريم.
وفي الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال: يا ربّ، أمرتني أن أعاملَ أمتي بخلاف سائر الأمم، فعامِلْهُم أنت كذلك.
فأوحى الله إليه: هم أمتُك، وهم عبيدي، وقد أعطيتك الشفاعة فيهم، فكيف تضِيع أمةٌ أنتَ شفيعها وأنا رحيمها، فالحمد للَه الذي جعلنا من هذه الأمة، وخصنا بهذا النبي الكريم.
(كوَاعِبَ أتْرَابا) : الكاعِب الجارية التي خرج ثديها، وهي
أحبّ إلى الرجل لصغرها.
(كافُورا) : أي في طيب رائحته، كما تمدح طعاما فتقول:
هذا مسك.
وذكر الجواليقي وغيره أنه فارسي.
(كَالُوهم) : بمعنى كالوا لهم.
يقال: كلتك وكِلْتُ لك، ووزنتك ووزنت لك، بمعنى واحد.
وحذف المفعول الثاني وهو المكيل والموزون.
وهم ضمير المفعول للناس، فالمعنى إذا كالوا للناس، أو وزنوا لهم
طعاماً أو غيره مما يكال أو يوزن بخسوهم حقوقهم.
وقيل إنَّ "هم" في قوله: كالوهم ووزنوهم تأكيد للضمير الفاعل.
وقد رُوي عن حمزة أنه كان يقفُ على
كالوا ووزنوا، ثم يبتدىء ب "هم" ليبين هذا المعنى، وهو ضعيف من وجهين:
أحدهما أنه لم يثبت في المصحف ألف بعد الواو في كالوا ووزنوا، فدل ذلك
على أنَّ همْ ضمير المفعول.
والآخر أن المعنى على هذا أنَّ المطففين إذا تولوا الكيل أو الوزن نقصوا.
وليس ذلك بمقصود، لأن الكلام واقع في الفعل لا في المباشر، ألا ترى أن
اكتالوا على الناس معناه قبضوا منهم، وكالوهم ووزنوهم معناه دفعوا لهم، فقابل القبض بالدّفْعِ، وأما على هذا الوجه الضعيف فهو خروج عن المقصود.(2/233)
قال ابن عطية: ظاهر الآية أن الكيل والوزن على البائع، وليس ذلك بالجليّ.
قال: وصدر الآية في المشترين، فهم الذين يستوفون، أي يشاحّون ويطلبون
الزيادة.
وقوله: إذا كالوهم أو وزنوهم في البائعين فهم الذين يخسرون المشتري.
(كمِشْكَاةٍ فيها مِصْبَاح) : المشكاة هي الكُوَّة غير النافذة
تكون في الحائط، ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل: المشكاة الذي يكون المصباح على رأسه، والأول أصح وأشهر.
والمعنى صفة نور الله في وضوحه
كصفَةِ مِشْكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإضاءة، وإنما شبهه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غايةُ ما يدركه الناس من الأنوار، فضرب المثل لهم بما يوصل إلى إدراكه.
وقيل الضمير في نوره عائد على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل على القرآن. وقيل على المؤمنين.
وهذه الأقوال كلها ضعيفة، لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير.
فإن قيل: كيف يصحّ أنْ يقال: (الله نور السماوات والأرض) ، فأخبر أنه هو النور، ثم أضاف النور إليه في قوله: (مَثَل نوره) ، والمضاف غير المضاف إليه؟
فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدّمناه، أي الله ذو نور السماوات
والأرض، أو كما تقول زيد كريم، ثم تقول: يعيش الناس بكرمه.
(كادح) : الكدح في اللغة هو الجِدّ والاجتهاد والسرعة.
فالمعنى أنك في غاية الاجتهاد في السيبر إلى ربك، لأن الزمان يطير وأنت في كل لحظة تقطع خطا من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرع إلى الموت ثم تلاَقِي رَبَّك.
فانظر فيما تصرف عمْرَك، فإن أنفقته فيما فيه رضاه رضي عنك، وإن
كان في غيره غضب عليك، ولا يقوم لغضبه شيء.
وقيل: المعنى أنك ذو جد فيما تعمل من خير أو شر، ثم تلْقى ربك فيجازيك به.
والأول أظهر، لأن (كادح) تعدّى بإلى لما تضمَّن من معنى السير.
ولو كان بمعنى العمل لقال لربك.
(كنود) : كَفور للنعمة.
والتقدير إن الإنسان لنعمة ربه(2/234)
لكفور.
والإنسان جنس.
وقيل الكنود العاصي.
وقال بعض الصوفية: الكنود الذي يعبد الله على عِوض.
(كَيْدهم) : مكرهم وحيلتهم، والضمير لأصحاب الفيل
القاصدين هَدْم الكعبة، فرَدّ اللَّهُ عليهم كَيْدَهم.
(في تضليل) : أي في إبطال وتخسير.
(كعَصْفٍ مأكول) : العصف: ورق الزرع وتبْنه.
والمراد أنهم صاروا رَمما، وفي تشبيههم به ثلاثة أوجه:
الأول: أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثَتْه، وجُمع للتلف
والخسارة، ولكن الله كنى عن هذا على حسب أدب القرآن.
الثاني: أنه أراد ورق الزرع إذا أكلته الدوابّ.
الثالث: أنه أراد كعَصْفٍ مأكول زَرْعُه وبقي هو لا شيء.
(كَوْثر) أي الكوثر: بناء مبالغة من الكثرة.
وفي تفسيره سبعة أقوال:
الأول: أنه حَوْض النبي - صلى الله عليه وسلم -
الثاني: أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس.
وتممَه سعيد بن جبير بأن قال: إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه.
فالمعنى أنه من العموم.
الثالث: أن الكوثر القرآن.
الرابع: أنه كثرة الأصحاب والأتباع.
الخامس: أنه التوحيد.
السادس -: أنه الشفاعة.
السابع: أنه نور وضعه اللَّهُ في قلبه.
ْوالصحيح أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها، ولكن المراد بالكوثر الذي ترِدُه
أمَّته.
آنيَته على عدد نجوم السماء، طوله ما بين عمان إلى صنعاء، هكذا فسره
- صلى الله عليه وسلم -، قال أبو سعيد القرشي: لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -:(2/235)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الإسراء: 57، - قال - صلى الله عليه وسلم -: " اتَّخَذْتَ إبراهيم خليلاً، وموسى كليما، فماذا خَصَصْتَني؟
فأنزل الله تعالى: (ألَمْ نَشْرَح لك صَدْرك) .
فلم يكتف بذلك وحقّ له ألا يكتفي، لأن السكون إلى الحال سبب قطع المزيد، فأنزل الله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) .
فقال له جبريل: إن الله تعالى يقْرِئك السلام ويقول لك: إن
كنتُ اتخذت إبراهيم خليلاً، وموسى كليما - فقد اتخذتك حبيباً.
وعزتي وجلالي لأفضلنَّ حبيبي على خليلي وكليمي، فسكن.
وهذا من أجلّ الرضا، لأن هذه هي الدلالة، والرضا للحبيب والانبساط
للخليل، ألا ترى إلى قول إبراهيم: وجاءته البشْرى وهو على الانبساط.
فإن قلت: قد وردت تحديدات من الشارع في عرض هذا الكوثر وطوله
يفهم منها التضادّ؟
فالجواب أنها ليست بمختلفة، وإنما تحدث به - صلى الله عليه وسلم - مرات عديدة، وذَكَر فيها تلك الألفاظ المختلفة بحسب اختلاف الطوائف من العرب، فخاطب كل أحد بما كان يعرف من المسافة.
والمعنى المقصود أنه حوض كبير متَّسِع الجوانب والزوايا.
قال السّهيلي في الرَّوْضِ الأنف: عن عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعطاني نَهْرا يقال له الكوْثر، لا يشَاء أحَد من أمَّتي يسمع خَرِيرَه إلاَّ سمع ".
قلت: يا رسول الله، وكيف، قال: أدخلي إصبعيك في
أذُنَيْكِ وشدّي.
قالت: قد فعلت يا رسول الله.
قال: هذا الذي تسمعين هو من خرير الكوثر.
تنبيه:
قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن لحَوْضِي أربعة أركان، فالركن الأول في يَدِ أبي بكر، والثاني في يد عمر، والثالث في يد عثمان، والرابع في يد عليٍّ، فمن أبغض أحدا(2/236)
منهم حرمه الباقون.
وأوَّل من يرده فقراء المهاجرين الدَّنسُو الثياب، الشعث
الرؤوس، الذين لا يتزوجون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السُّدُود، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبَرّهُ ".
فانظر يا مسكين هل بيننا من هذه الأوصاف شيء، نعم، قد اتّصفنا
بأضدادها، فأنَّى لنا باللحوق بهم غير الصلاة والسلام على نبينا والرضا عن
أصحابه الكرام.
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، أي فرِض، وإن
كان على الأعيان فنسخه: (وما كان المؤمنون لِيَنْفِزوا كافّة) .
فصار القتال فَرْضَ كفايةٍ، وإن كان على الكفاية فلا نسخ.
و (كرْه) : مصدر كره، للمبالغة، أو اسم مفعول كالخبر بمعنى المخبور.
وأما قوله تعالى: (كُتب عليكم القِصَاص) ، فليس بمعنى
فرض، بل شرع، لأن وليّ المقتول مُخَيّر بين القصاص والدية والعفو.
وقيل بمعنى فرض، أى فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول ألاَّ يتعدّاه إلى فعل غيره، كفعل الجاهلية، وعلى الحكام التمكين من القصاص.
(كتِب عليكم الصيامُ) : المقصود بهذه الآية وبقوله تعالى:
(أيّاما معدودات) - تسهيل الصيام على المسلمين، وكأنه اعتذار عن كَتْبه
عليهم، وملاطفة جميلة.
والذي كتب على من قبلنا الصيام مطلقاً.
وقيل: كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه.
(كَفَّار أثيم) : أي من يجمع بين الكفْرِ والإثْمِ، وهذا
يدلّ على أن الآية في الكفار.
(كريم) : من الكرم، وهو الحَسَب والجلالة والفضل.
وكريم: اسم اللَه تعالى، أي محسن.
وأما قول بلقيس: (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) ، - فلأنه من سليمان، أو لأن فيه اسمَ الله، أو لأنه مختوم، كما جاء في الحديث: كرم الكتاب خَتمه.(2/237)
فإن قُلْتَ: إنما كانت تعرف سليمان لا الخالق، ولذا كانت تسجد للشمس؟
فالجواب إنما عظَّمت الكتاب لوجوهٍ، منها أنه لم يلْقِه لها بشر ولم يأمرها فيه
إلا بملاطفة، ولذا بدأ سليمان بذكْره على اسم الله غيرةً منه أنْ يقع منها في اسم الجلالة نقص أو خلل.
(كفْرَان لسَعْيِه وإنّا له كاتِئون) : أي - لا إبطال لثواب
عمله، لأنَّا نكتب عمله في صحيفته.
(كالِحون) : الكلوح: انطباق الشفَتَيْن عن الأسنان.
وكثيراً ما يجري ذلك للكلاب، وقد يجري للكلاب إذا شويت رؤوسها.
وفي الحديث: إن شفَةَ الكافر ترتفع بالنار حتى تبلغ وسط رأسه.
وفي ذلك عذاب وتشويه.
وفي الحديث: ضرس الكافر أو نَابُه في النار مثل أُحُد، وغلظ جلده
مسيرة ثلاث.
(كبْكبوا فيها) : أصله كُبُّوا فيها على رؤُوسهم في جهنم
مرةً بعد مرة، وكررت حروفُه دلالة على تكرير معناه.
والضمير للأصنام.
(كنَّا لَفِي ضَلاَل مُبين) : هذا قول المشركين المكبوبين.
(كذَّبَتْ قَوْمُ نوح الْمرْسلين) : أسند الفعل إلى القوم، وفيه علامة التأنيث لأن القوم في معنى الجماعة والأمة.
فإن قلت: كيف قال المرسلين بالجمع، وإنما كذبوا نوحاً؟
فالجواب من وجهين:
أحدها أنه أراد الجنس، كقولك: فلان يركب الخيْل، وإن لم يركب إلا فَرَساً واحدا.
والآخر أن مَنْ كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذّب جميع الأنبياء، لأن قولهم واحد، ودعوتهم سواء، وكذلك الجواب في: كذبت عاد المرسلين، وغيره.
(كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي أهلكوا.
وقيل: لُعِنوا.
وقيل كُبِت الرجل إذا بقي خَزْيَان، ونزلت الآية في المنافقين واليهود.(2/238)
(كَرَّتيْن) ، أي انظر نظراً بعد نظر للتثبت والتحقق.
وقال الزمخشري: معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصةً، كقولهم لبَّيْك، فإن معناه إجابات كثيرة.
(كان مِقْداره خمسين ألف سنة) .
اختلف في هذا اليوم على قولين:
أحدهما: أنه يوم القيامة.
والآخر: أنه في الدنيا.
والصحيح أنه يَوْم القيامة، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مانع الزكاة: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضّة لا يؤَدّي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نارٍ، يكوَى بها جبينه وجَنْبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين العباد.
ثم اختلف هل مقداره خسون ألف سنة حقيقة، وهذا هو الأظهر.
أو هل وصف بذلك لشدة أهواله، كما يقال: طويل، إذا كانت فيه مصائب وهموم.
وإن قلنا: إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم لو عرج
فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة.
وقيل الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا
والملائكة تنزل وتعرج في هذه المدة.
وهذا كله على أن يكون قوله: (في يوم)
صفة للعذاب، فيتعيّن أن يكون اليوم يوم القيامة.
والمعنى على هذا مستقيم.
(كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) .
شبَّه السماء بالمهل، وهو درْدِيّ الزيت، في سوادها، وانكدار أنوارها يوم القيامة، أو هو ما أذيب من الفضة وشبهها، شبه السماء به في تلوّنه، وشبّه الجبال بالعهن وهو الصُّوف المصبوغ ألواناً، فيكون التشبيه في الانتفاش وفي اختلاف الألوان، لأن الجبال منها سود ومنها بيض.
(كبَّاراً) - بتشديد الموحدة أبلَغ من الكبار بالتخفيف.
والكبَار المخفف أبلغ من الكبير.(2/239)
(كَثِيباً مَهيلا) : معناه أن الجبال تصير إذا نُسفت يوم
القيامة مثل الكثيب، وهو كُدْسُ الرمل.
والمهيل: الليّن الرِّخْو نشرته الرياح، ووزنه مفعول.
(كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) .
اللام للعهد، والرسول إلى فرعون موسى.
(الكبَر) ،: جمع كبْرى.
وقال ابن عطية: جمع كبيرة.
والأول هو الصحيح، والمراد بها إما جهنم، أو الآيات والنذَارَة.
(كوِّرت) : ذهب ضَوْؤُها.
وقيل كوِّرَت كما تكور العِمَامة.
وأخرج ابن أبي جرير عن سعيد بن جبير، قال: كوِّرت: غورت
بالفارسية.
(كشِطَت) : أي قُشرت كما يقشر جلد الشاة حين
تُسلخ، وكَشْط السماء، هو طيُّها كطيِّ السجل، قاله ابن عطية.
وقيل معناه كشفت.
وهذا أليق بالكشط.
(كنّس) : من قولك كَنس الوحش إذا دخل كناسه وهو
موضعه.
والمراد بها الدراري السبعة، لأنها تَكْنِس في جريها أو في أبراجها وتَخْفَى
بضوء الشمس.
وقيل: يعني بقر الوحش، فالخنّس على هذا من خَنس الأنف.
والكنس من سكناها في كناسها.
(كفُواً) : مثلاً.
(كَهْلاً) : هو الذي انتهى شبابه.
والمعنى أن عيسى عليه السلام يكلِّمُ الناسَ في الْمَهد وكَهلاً.
(أكبَّ) الرجل على وجهه فهو مكب، وكبّه غيره بغير ألف.
(كِسَفاً) : بفتح السين - جمع كِسْفة، وهي القطعة.
وقرئ بالإسكان، ومنه قوله: (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) .(2/240)
(كِفْلٌ منها) : أي نصيب، ومنه كِفْلَيْن من رحمته، أي
نصيبين.
ومنه الحديث: يُؤْتون أجْرَهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه
وآمن بي ... الحديث.
وقد نظم بعض المتأخرين الذين يؤْتون أجْرَهم مرَّتين:
ثلاث وعشر في المثبت فضّلوا ... أمَنْ يرفع الأخبار قد جاء مطلقا
فأزْواج خَيْرِ المرسلين ومؤْمن ... من أهل الكتاب اليوم بالحقّ صَدَّقا
كذا العبد إن يَنْصَحْ مَوَاليه دائما ... ويلزم باب الله بالدّين والتَّقَى
وذو أمَة تأديبها كان محُسناً ... فصار لها زَوْجاً وقد كان اعْتَقا
ومجتهد في الحق صادفَ رَأْيه ... ومَنْ حاول القرآن بالجهد والشّقا
ومَنْ غسلُة ثنْتَين حَالَ وضوئه ... وعامٍ يسد الصفَّ مهما تَفَرَّقا
ومَنْ يشكر النعماء إن كان ذا غِنًى ... ومن خصّ في الأرحام فيما تصدّقا
ومَنْ سنَ خيراً والجبان إذا رمى ... بنفس على الكفَّار واقتحم اللّقا
كذلك من صلَّى بفرض تيَمّم ... وبعد وجود الماء عاد وحقّقا
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري، قال: كفْلَيْن ضعفيْن -
بالحبشية.
(كَيْدهُنَّ) : قد قدمنا أن الكيد من الخَلْق احتيال، ومن
اللَه مشيئته أمرا ينزل بالعبد من حيث لا يشعر.
وأما قوله تعالى: (كذلك كِدْنَا ليوسف) ، فمعناه فعلنا له ذلك، لأنه كان في شرعه أو عادته أن يضرب السارق، ويضاعف عليه الغُرْم، ولكن حكم في هذه القضية بحكم آل يعقوب.
(كتمَ شهادةً عِنده مِنَ الله) : يعني الشهادة بأنّ الأنبياء على الحنفية.
و (مِنَ الله) يتعلق بـ (كتم) أو بعنده، كأنّ المعنى شهادة تخلصت له
من الله.
(أكِنّةً أنْ يَفْقَهُوه) : جمع كِنَان، وهو الغطاء.
(وأن يفقهوه) مفعول من أجله، تقريره كراهة أن يفقهوه، وهذه كلها استعارات في إضلالهم.(2/241)
وأكناناً في قوله تعالى: (وجعلَ لَكمْ مِنَ الجِبَال أكنانا) .
جمع كِنّ، وهو ما يقي من الحر والبرد والريح وغير ذلك.
ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال.
(كِبْرَه) - بفتح الكاف وكسرها لغتان: أي معظمه.
وأما قوله تعالى: (إلاَّ كبْرٌ ما همْ بِبَالِغيه) ، أي تكبّر.
وقوله: (وتَكونَ لكما الكبْرِياء في الأرض) ، أي الملك.
والخطاب لموسى وأخيه عليهما السلام، وإنما سمي الْملْك كبرياء، لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا.
(كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ
) .
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرَاد غيره.
وقيل ذلك كقول القائل لابنه: إن كنت ابني فبرّني مع أنه لا يشكّ أنه ابنه، ولأن من شأن الشك أن يزول بسؤال أهل العلم، فأمره بسؤالهم.
قال ابن عباس: لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسأل.
وقال الزمخشري: ذلك على وجه الفرض والتقدير، أي - إن فرضت أنْ تقع في شكٍّ فاسأل.
والمنزول عليه القرآن والشرع بجملته، وهذا أظهر.
وقيل: يعني ما تقدم من أنَّ بني إسرائيل ما اختلفوا إلاَّ من بعد ما جاءهم الحق.
والذين يقرأون الكتاب هم عبد الله بن سلام، ومن أسلم من الأحبار، وهذا بعيد، لأن الآية مكية.
وإنما أسلم هؤلاء بالمدينة فحَمْل الآية على الإطلاق أولى.
(كِفَاتاً) : من كفِت، إذا ضمّ وجمع.
والمعنى أن الأرض تكفِت الأحياء، لأن الكفات اسم لما يضم ويجمع، فكأنه قال جامعة أحياء وأمواتا.
ويجوز أن يكون المعنى تكفتهم أحياءً وأمواتاً، فيكون نصبهما على الحال من
الضمير، وإنما نكّر أحياءً وأمواتاً للتفخيم، ودلالة على كثرتهم، وكانوا يسمون بَقِيع الغَرْقَد كَفْتَة، لأنها مقبرة تضم الموتى.(2/242)
(كِذَّابا) : بالتشديد، مصدر بمعنى تكذيب.
وبالتخفيف بمعنى الكذب أو المكاذبة، وهي تكذيب بعضهم لبعض.
(الكاف) : حرف جَرّ له معان، أشهرها التشبيه، نحو: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) .
والتعليل: (كما أرْسلْنَا فيكم) .
قال الأخفش: أي لأجل إرْسالنا فيكم رَسولاً منكم.
(واذكرُوه كما هَدَاكم) ، أي لأجل هدايته إياكم.
(وَيْكَأنّه لا يفْلح الكافرون) ، أي أعجب لعدم فَلاَحهم.
(اجعَلْ لنا إلهاً كما لهم آلهة) .
والتأكيد، وهي الزائدة، وحمل عليه الأكثرون: (لَيْسَ كَمِثْلِه شَيء) .
أي ليس مثله شيء، ولو كانت غير زائدة لزم إثبات المثل، وهو محال.
والقصد بهذا الكلام نَفْيُه.
قال ابن جني: وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل، لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا.
وقال الراغب: إنما جمع بين الكاف والمثل لتأكيد النفي، تنبيهاً على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف، فنفى بـ ليس الأمرين جميعاً.
وقال ابن فورَك: ليست زائدة.
والمعنى ليس مثله مثل شيء، وإذا نَفيْتَ التماثل عن المثل فلا مثل لله في الحقيقة.
وقال الشيخ زين الدين بن عبد السلام: مثل يُطلق ويراد بها الذات.
كقولك: مثلك لا يفعل، أي أنت لا تفعله.
كما قال:
ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فَرْداً بلا مشْبِه
وقد قال تعالى: (فإنْ آمنوا بمثْلِ ما آمَنْتم به فقد اهْتَدوا) .
أي بالذي آمنتم به إياه، لأَن إيمانهم لا مثل له، فالتقدير في الآية ليس
كذاته شيء.
وقال الراغب: المِثْل ها هنا بمعنى الصفة، ومعناه: ليس كصفته صفةٌ، تنبيهاً
على أنه وإن كان وُصِف بكثير مما وصف به البشر فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر، وله المثَل الأعْلَى.(2/243)
تنبيه:
ترد الكاف اسماً بمعنى مثل، فتكون في محلّ إعراب، ويعود عليها الضمير.
قال الزمخشري: في قوله: (كهَيْئَةِ الطير فأنفخ فيه) - إن
الضمير في فيه للكاف في كهيئة، أي أنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير
فيصير كسائر الطيور.
مسألة
الكاف في (ذلك) ونحوه حرف خطاب لا محل له من الإعراب.
وفي إيّاك قيل حرف، وقيل اسم مضاف إليه.
وفي: (أرَأيْتك) قيل حرف، وقيل اسم، في محل رفع، وقيل نصب.
والأول أرجح.
(كاد) : فعل ناقص أتى منه الماضي والمضارع فقط، له اسم مرفوع وخبر
مضارع مجرد من أن، ومعناها قارب.
فنفيها نفي للمقاربة، وإثباتها إثبات للمقاربة.
واشتهر على ألسنة كثير أن نفيها إثبات وإثباتها نفي، فقولك: كاد
زيد يفعل - معناه لم يفعل، بدليل: (وإنْ كادوا لَيَفْتِنُونَك) .
وما كاد يفعل، معناه فعل، بدليل: (وما كادوا يفعلون) .
أخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: كل شيء في
القرآن وإن كادوا وكَاد ويكاد فإنه لا يكون أبداً.
وقيل: إنها تفيد الدلالة على وقوع الفعل بعسر.
وقيل: نفي الماضي إثبات، بدليل: (وما كادوا يفعلون) ، ونفي المضارع نفي بدليل: (لم يَكَدْ يرَاها) ، مع أنه لم ير شيئاً.
والصحيح الأول، وأنها كغيرها، نفيها نفي وإثباتها إثبات، فمعنى كاد يفعل قارب الفعل ولم يفعل.
وما كاد يفعل ما قارب الفعل، فضلاً عن أن يفعل، فنفي الفعل لازم من نفي المقاربة عقلا.
وأما آية: (فذبحوها وما كادُوا يَفْعلون) ، فهو إخبار عن(2/244)
حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولاً بعَداء من ذبحها، وإثبات الفعل إنما فهم من دليل آخر، وهو قوله: فذبحوها.
وأما قوله تعالى: (لقد كِدْتَ تَرْكَن) - مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يركن لا قليلاً ولا كثيراً فإنه مفهوم من جهة
أن " لَوْلا " الامتناعية تقتضي ذلك.
فائدة
ترد كاد بمعنى أراد.
ومنه: (كذَلِكَ كِدْنا ليوسف) .
و (أكَاد أخْفيها) .
وعكسه، كقوله تعالى: (جِدَاراً يريد أنْ يَنْقَضَّ) ، أي يكاد.
(كان) : فعل ناقص متصرِّف، يرفع الاسم وينصب الخبر، معناه فى
الأصل المضيّ والانقطاع، نحو: (كانوا أشدً منكم قوةً وأكثر أموالاً وأوْلادا) .
وتأتي بمعنى الدَّوام والاستمرار، نحو: (وكان الله غفوراً رحيما) .
(وكنَّا بكل شيء عالمين) ، أي لم نزل كذلك.
وعلى هذا المعنى تتخرج جميع الصفات الذاتية المقترنة بكان.
قال أبو بكر الرازي: كان في القرآن على خمسة أوجه:
بمعنى الأزل والأبَد، كقوله: (وكان الله عَلِيما حكيما) .
وبمعنى المضيّ المنقطع، وهو الأصل في معناها، نحو: (وكان في المدينة تسْعة
رَهْطٍ) .
وبمعنى الحال، نحو: (كنْتم خَيْرَ أمَّة أخْرِجَتْ للناس) .
(إنَ الصلاةَ كانَتْ على المؤمنين كتاباً مَوْقوتاً) .
وبمعنى الاستقبال، نحو: (يخافون يَوْما كان شَرُّه مُسْتَطيراً) .(2/245)
وبمعنى صار، نحو: (وكان من الكافرين) .
قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدِّيِّ، قال: قال عمر بن الخطاب: لو شاء اللَه لقال: أنتم، فكنَّا كلنا، ولكن قال: كنتم في خاصة أصحاب محمد.
وترد (كان) بمعنى ينبغي، نحو: (ما كان لكم أنْ تُنْبِتُوا شجرها) ، (ما يكون لنا أن نتكلَّم بهذا) .
وبمعنى حضر أو وجد، نحو: (وإن كان ذو عسْرَةٍ فَنظِرَةٌ إلى ميسرة) .
(إلاَّ أنْ تكونَ تجارةً حاضرةً) .
(وإنْ تَك حَسَنَةً) .
وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وجعل منه: (وما عِلْمي بما كانُوا يَعْمَلون) .
(كَأنَّ) - بالتشديد: حرف للتشبيه المؤكد، لأن الأكثر على أنه مركّب
من كاف التشبيه، وأن المؤكدة.
والأصل في كأن زَيْدا أسدٌ - إن زيداً كأسد.
قدم حرف التشبيه اهتماماً به، ففُتحت همزة أن لدخول الجار.
قال حازم: وإنما تستعمل حيث يقوى التشبيه حتى يكاد الرَّائي يشك في أن
المشبَّه هو المشبّه به، ولذلك قالت بلقيس: (كأنه هو) .
قيل: وترد للظن والشك فيما إذا كان خبرها غير جامد.
وقد تخفَّف، نحو: (كأن لم يَدْعنا إلى ضرٍّ مَسَّه) .
(كأين) : اسم مركب من كاف التشبيه وأيّ المنونة للتكثير في العدد، نحو:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) .
وفيه لغات، منها كائن بوزن بائعِ، وقرأها ابن كثير حيث وقعت.
وكأيِّن بوزن كعيّن، وقرئ بها.
وكأيّن من نبي قَاتَل.
وهي مبنيَّة لازمة الصدر، ملازمة لإبهام، مفتقرة إلى تمييز، وتمييزها مجرور
بمن غالباً - وقال ابن عصفور: لازماً.
(كذا) : لم ترد في القرآن إلا للإشارة، نحو: (أهكذا عَرْشك) .(2/246)
(كل) : اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر المضاف هو إليه، نحو: (كلُّ
نَفْس ذائقة الموت) .
والمعرّف المجموع، نحو: (وكلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدا) .
(كلّ الطَّعَام كان حِلاًّ لبني إسرائيل) .
وأجزاء المفرد المعَرّف، نحو: (يَطْبَع اللَّهُ على كلّ قَلْبِ متَكبِّرِ جَبّار) ، بإضافة قلب إلى متكبر، أي على كل أجزائه.
وقراءة التنوين لعموم أفراد القلوب.
وترد باعتبار ما قبلها وما بعدها على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون نعتاً لنكرة أو معرفة، فتدل على كماله، وتجب إضافتها
إلى اسم ظاهر تمَاثِله لفظاً ومعنى، نحو: (ولا تَبْسطْها كلَّ الْبَسْط) ، أي بسطا كل البسط، أي تاماً.
(فلا تَمِيلوا كلَّ الميْلِ) .
ثانيها: أن تكون توكيداً لمعرفةٍ، ففائدتها العموم، وتجب إضافتها إلى ضمير
راجع للمؤكد، نحو: (فسجَدَ الملاَئكة كلّهم أجمعون) .
وأجاز الفَرّاء والزمخشري قطعها حينئذ عن الإضافة لفظاً، وخرّج عليه
قراءة بعضهم: (إنّا كلاًّ فيها) .
ثالثها: ألا تكون تابعة، بل تالية للعوامل، فتقع مضافةً إلى الظاهر، وغير
مضافة، نحو: (كل نفْس بما كسبَتْ رَهِينَة) .
(وكُلاًّ ضَرَبْنَا لَه الأمثال) .
وحيث أضيفت إلى منكَّر وجب في ضميرها مراعاة معناها، نحو: (وكلّ
شَيْءٍ فَعَلوه) .
(وكلَّ إنسان ألْزَمْنَاه) .
(كلُّ نَفْس ذَائِقَة الموْتِ) .
(كلُّ نَفْس بما كسبت رَهينة) .
(وعلى كلِّ ضَامِر يَأتيْن) .
أو إلى معرفة جاز مراعاة لفظها في الإفراد والتذكير، ومراعاة معناها، وقد(2/247)
اجتمعا في قوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) .
أو قطعت فكذلك، نحو: (كلّ يَعْمَل على شَاكلَتهِ) .
(فكلًا أخَذْنا بذَنْبِه) .
(وكلٌّ كانوا ظَالِمين) .
وحيث وقعت في حَيًز النفْي بأن تقدمت عليها أداته أو الفعل المنفي فالمنفي
يوجَّه إلى الشمول خاصة، ويفيد بمفهومه إثبات الفعل لبعض الأفراد.
وإن وقع النفي في حيزها فهو موجّه إلى كل فرد، هكذا ذكره البيانيون.
وقد أشكل على هذه القاعدة: (واللَه لا يحِب كلَّ مخْتَال فَخور) ، إذ يقتضي إثبات الحب لمن فيه أحد الوصفين.
وأجيب بأن دلالة المفهوم إنما يعوّل عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود إذ دل الدليل على تحريم الاختيال والفخر مطلقا.
مسألة
تتصل (ما) بكلّ، نحو: (كلَّمَا رزِقوا مِنْهَا من ثَمَرَةٍ رِزْقا) .
وهي مصدرية، لكنها نابت بصلتها عن ظرف زمان، كما ينوب عنه
المصدر الصريح.
والمعنى: كلّ وقت، ولهذا تسمَّى (ما) هذه المصدرية
الظرفية، أي النائبة عن المصدر، لا أنها ظرف في نفسها، و (كل) من
(كلما) - منصوب على الظرفية بإضافته إلى شيء هو قائم مقامه، وناصبه الفعل الذي هو جوابٌ في المعنى.
وقد ذكر الفقهاء والأصوليون أن كلما للتكرار.
قال أبو حيان: وإنما ذلك من عموم ما، لأن الظرفية مرادٌ بها العموم.
و (كل) أكدته.
(كلاَ وكِلْتَا) : اسمان مفردان لفظاً مثنيان معنى مضَافَان أبدًا لفظاً ومعنى
إلى كلمة واحدة معرّفة دالة على اثنين.
قال الراغب: وهما في التثنية ككلّ في الجمع.(2/248)
قال تعالى: (كلتا الجنَّتين آتتْ أكلها) ، (أحدهما أو كلاَهما) .
(كَلّا) : مركب عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية، شددت لامُها
لتقوية المعنى، ولدفع توهّم بقاء معنى الكلمتين.
وقال غيره: بسيطة، فقال سيبويه والأكثرون: حرف معناه الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم أبداً يجيزون الوقْفَ عليها والابتداء بما
بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعتَ (كَلاَّ) في سورة فاحكم بأنها
مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد.
وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتوّ كان بها.
قال ابن هشام: وفيه نظر، لأنه لا يظهر معنى للزجر في نحو: (ما شاء
رَكّبَك. كَلّا) ، (يوم يَقوم الناس لربّ العالمين، كَلَا) .
(ثم إنَّ علينا بَيَانَه كلا) .
وقولهم: انْتَهِ عن تَرْكِ الإيمان بالتصوير في أيّ صورة ما شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن تَعسّف، إذ لم يتقدم في الأوليين حكاية نَفْي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين كلا، وذكر العجلة.
وأيضاً فإن أول ما نزل خمس آيات من أول
سورة العَلَق، ثم نزل: (إنَّ الإنسان ليَطْغَى) ، فجاءت في افتتاح
الكلام.
ورأى آخرون أن معنى الرّدعْ والزجر ليس مستمرًّا فيها، فزادوا معنى ثانياً
يصح عليه أن يوقف دونها، ويبتدأ بها.
ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى.
قال الكسائي: تكون بمعنى حقا.
وقال أبو حاتم: بمعنى ألاَ الاستفتاحية.
وقال النَّضْر ابن شُميل: حرف جواب بمنزلة أي ونعم، وحملوا عليه: (كَلاَّ والقمر. واللَّيل إذا أدْبر) .
وقال الفراء وابن سعدان: بمعنى سوف، حكاه أبو حيان في تذكرته.
قال مكي: وإذا كانت بمعنى حقاً فهي اسم.
وقرِئ: (كَلاًّ سيَكفرونَ بعبادتهم) ، بالتنوين.
ووجِّه بأنه مصدر كَلَّ إذا(2/249)
أعيا، أي كَلوا في دعواهم، وانقطعوا، أو من الكل وهو الثقل، أي حملوا كلاًّ.
وجَوّز الزمخشري كونه حرف الردع ونوّن كما في (سلاسلا) .
وردَّة أبو حيان بأن ذلك إنما صح في (سلاسلا) ، لأنه اسم أصلُه التنوين.
فرجع به إلى أصله للتناسب.
قال ابن هشام: وليس هذا التوجيه منحصراً عند الزمخشري في ذلك، بل
جَوّزَ كون التنوين بدلاً من حرف الإطلاق المزيد في رأس الآية، ثم إنه وُصل
بنية الوقف.
(كم) : اسم مبنيّ لازم الصدر مبْهم مفتقر إلى التمييز.
وترِد استفهامية ولم تقع في القرآن.
وخبرية بمعنى كثير، وإنما تَقَع غالباً في
مقام الافتخار والمباهاة، نحو: (وكم مِنْ مَلَكٍ في السماوات) .
(وكم مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها) .
(وكم قَصَمْنَا مِنْ قرية) .
وعن الكسائي أنَّ أصلها كما، فحذفت الألف مثل بِمَ ولِمَ، حكاه الزجاج.
ورُد بأنه لو كان كذلك لكانت مفتوحة الميم.
(كَيْ) : حرف له معنيان:
أحدهما: التعليل، نحو: (كَيْ لَا يكونَ دُولَة بين الأغنياءِ منكم) .
والثاتي: معنى أنْ المصدرية، نحو: (لكيلا تأسَوْا) ، لحلول
أن محلها، ولأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل.
(كيف) : اسم يرِد على وجهين:
الشرط، وخرج عليه: (يُنْفِق كيف يشاء) .(2/250)
(يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) .
(فيبسطه في السماء كيف يشاء) .
وجوائها في ذلك كلِّه محذوف، لدلالة ما قبلها.
والاستفهام، وهو الغالب، ويستفهم بها عن حال الشيء لا عَنْ ذاته.
قال الراغب: وإنما يُسْألُ بها عما يصح أن يُقال فيه شبيه وغير شبيه، ولهذا لا يصح أنْ يقال إن الله كيف.
وكلما أخبر الله بلفظ "كيف" عن نفسه فهو استخبار على طريق التنبيه
للمخاطب، أو التوبيخ، نحو: (كيف تكفرون) .
(كيف يَهْدِي الله قَوْماً كفَرُوا بَعْدَ إيمانهم) .(2/251)
(حرف اللام)
(لعنهم) : طردهم وأبْعَدَهم.
وأما قوله تعالى: (ويَلْعَنُهم اللاَّعِنُون) ، فيراد به الملائكة والمؤمنون.
وقيل المخلوقات إلا الثَّقَلَيْن.
وقيل البهائم لما يصيبهم من الجَدْب بسبب ذنوب بني آدم.
(لمستم، ولامستم) : بمعنى النكاح.
(لَغْو اليمين) : ساقطه، وهو: والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير
قَصْد، هكذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: أن يحلف على الشيء يظنه على ما
حلف عليه، ثم يظهر خلافه.
وقال ابن عباس: اللغو: الحلف حين الغَضَب.
وقيل: اللغو اليمين على المعصية.
والمؤاخذة العقاب.
أو وجوب الكفارة.
واللَّغو أيضاً: الشيء المسقط الْمقى، تقول: ألقيت الشيء، أي طرحته وأسقطته.
وأما قوله عز وجل: (وإذا مَرّوا باللّغْوِ مَروا كِرَاما) .
فمعناه الإعراض عن قبيح الكلام، والاستحياء من الدخول مع أهله، تنزيهاً
لأنفسهم عن ذلك.
(لَبَسْنَا عَلَيْهم) : أي خلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم
وعلى ضُعفائهم، فإنهم إذا رأوا الملَك في صورة إنسان قالوا: هذا إنسان، وليس بملك.
(لقضِيَ الأمْر ثم لا يُنْظَرون) ، قال ابن عباس: المعنى لو أنزلنا مَلَكاً فكفروا بعد ذلك لعُجِّل لهم العذاب، ففي الكلام على هذا حذف.(2/252)
وقضي الأمر على هذا تعجيل أخْذِهم.
وقيل المعنى: لو أنزلنا مَلَكا لماتوا من
هَوْل رؤيته، فقضاء الأمر على هذا: موتهم.
(ليَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القيامة لا رَيْبَ فيه) : مقطوع مما
قبله، وهو جواب لقسم محذوف.
وقيل: هو تفسير للرحمة المذكورة، تقديره إن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا
في القسم أو في غير الواجب.
وقيل (إلى) هنا بمعنى في، يعني في يوم القيامة.
وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها.
(لواقِحَ) : بمعنى ملاقح جمع ملْقَحة، أي تلقح الشجر
والسحاب، كأنها تنتجه.
ويقال لواقح حوامل، جمع لاقح، لأنها تحمل السحاب
وتقلبه وتصرفه، ثم تحلّه فينزل.
ومما يوضِّح هذا قوله تعالى: (يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا) ، أي حملت.
(لَوْمَا تَأتينا بالملائكة) : لوما: عرض وتحضيض، والضمير لكفّار قريش.
وذلك أنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالملائكة، فأخبر الحق بأنهم لو رأوا أعظم آية لقالوا: إنها تحيّل أو سحر.
(لها سَبْعَة أبواب) : يعني جهنم.
روي أنها سبع طبقات في كل طبقةٍ بابٌ، فأعلاها للمذنبين من المسلمين.
والثانية لليهود. والثالثة للنصارى. والرابعة للصابئين.
والخامسة للمجوس. والسادسة للمشركين. والسابعة للمنافقين.
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) : هذا قسم.
والعمْر: الحياة.
وفيه كرامةٌ له - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أقسم بحياته ولم يقسم بحياة غَيْره.
وقيل: هو من قول الملائكة لِـ لُوط، وارتفاعه بالابتداء، وخبره محذوف.
تقديره: لعمرك قسمي، واللام للتوطئة.
وسكرتُهم: ضلالهم وجهلهم.
(لَنَسألَنَّهمْ أجمعين) : هذا السؤال المثبت على وجه الحساب،(2/253)
والسؤال المنفي في قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ، على وجه الاستفهام المحْض، لأن الله يعلم الأعمال، فلا يحتاج إلى السؤال
عنها.
(لا يلبثون خِلَافَك إلا قَلِيلاً) ، أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك من مكة إلاَّ قليلاً.
فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً من مكة لم يبقوا
بعد ذلك إلا قليلاً، وقتلوا بعد ذلك يوم بدر.
(لَيَسْتَفِزّونك) : الضمير لقريش، كانوا قد هَمّوا أن
يخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وذلك قبل الهجرة، فالأرض هنا يراد بها مكة، لأنها بلده.
(لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) : أي ضعف
عذابهما، لو ركنْتَ إليهم، ولم يركن إليهم - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوءة، فكيف بعدها؟!
(لنذهبنَّ بالذي أوْحَيْنَا إليك) : أي إن شئنا ذهبنا
بالقرآن فمحَوناه من الصّدور والمصاحف، وهذه الآية متصلة المعنى بقوله:
(وما أُوتِيتم مِنَ العِلْمِ إلا قليلاً) ، أي في قدرتنا أنْ نذهب
بالذي أُوحي إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم.
(لنْ نؤمِنَ لكَ حتى تفَجِّرَ لنا من الأرْضِ ينْبُوعا) .
الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش، طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنواعاً من خوارق العادات، وضروباً من المعجزات، وهي التي ذكرها الله في كتابه، وهذه منها.
واليَنبوع: العين، قالوا له: إن مكة قليلة الماء ففجِّرْ لنا فيها عيناً من ماء.
وقيل: إن الذي قال عبدُ الله بن أبي أمية بن المغيرة، وكان ابن عمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم بعد ذلك.
(لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) :(2/254)
معناها لو كان أهل الأرض ملائكةً لكان الرسول إليهم مَلكاً ولكنهم بشر، فالرسول إليهم بشر من جنسهم.
(لو أنْتم تَمْلِكون خَزَائِنَ رحمةِ رَبِّي إذاً لأمسكْتمْ خشْيَةَ الإنفاق) ، أي لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن العطاء خشية الفقر.
فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق، وهو الفقر.
ومفعول (أمسكتم) محذوف.
وقال الزمخشري: لا مفعول له، لأن معناه بخلتم.
من قولهم للبخيل: ممْسك.
ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح، وخوف الفقر، بخلاف وصف الله تعالى
بالجود والغنى.
(لَفِيفاً) : جميعاً مختلطين.
(لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) : يعني دروعا، تكون واحداً، وتكون جمعا، وأول من صنعها داود عليه السلام.
وسببها أنه عليه السلام كان يتجسس عن أخباره وسيرته من الناس، فلقي يوما ملكاً، فقال له: ما تقول في داود، فقال: نعْمَ الرجل لو كان يأكل من كَدّ يده، فطلب من الله صنعة يتقوّت منها، فألاَن له الحديد، وعلمه جبريل صنعة الدروع.
قال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح.
وقال الزمخشري: اللبوس: اللباس.
وقرئ: لتحْصِنَكم - بالتاء والياء والنون، فالنون لله تعالى، والتاء للصنعة.
والياء لداود.
واللبوس واللباس: الشدة.
(لَهْوَ الحديث) : باطله، وهو الغناء.
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " شراء المغَنّيَات وبيعهن حرام ".
وقيل نزلت هذه الآية في قرَشي اشترى جارية مغنّية تغني بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فالشرا على هذا حقيقة.
وقيل: نزلت في النَّضْر بن الحارث، وكان قد تعلم أخبارَ فارس، فذكر لَهْوَ الحديث، وشراء لهو الحديث استحبابه، وقوله، وسماعه، فالشراء على هذا مجاز.
وقيل لهو الحديث الباطل.
وقيل: الشرك.
ومعنى اللفظ يعمّ ذلك كله.
وظاهر الآية أنه(2/255)
لفظ إلى كبر واستخفاف بالدين، لقوله: (ليضِلَّ عن سبيل الله ... ) الآية.
وأن المراد شخص معيّن لوصفه بعد ذلك بجملة أوْصاف.
(ليلةٍ مبَاركة) ، يعني ليلة القَدْرِ من رمضان.
وكيفية إنزال هذا القرآن العظيم فيها أنه أنزل إلى السماء جملة واحدة، ثم نزل به جبريل مفَرَّقاً في عشرين سنة، أَو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد البعثة، قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
وأخرج الحاكم وابن أبي شيبة من طريق حسان بن حُريث عن سعيد بن
جبَيْر، عن ابن عباس، قال: فصِلَ القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم.
أسانيدها كلها صحيحة.
وأخرج الطبراني من وجْهٍ آخر عن ابن عباس، قال: أنْزِل القرآن في ليْلة
القَدْرِ في شهر رمضان إلى السماء الدنيا جملةً واحدة، ثم أنزل نجوماً.
إسناده لا بَأْسَ به.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدّي عن محمد
ابن أبي المجالد، عن مِقْسم، عن ابن عباس - أنه سأله ابن عطية الأسود، فقال: وقع في قلبي الشك! قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزِل فيه القرآن) وقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) .
وهذا نزّل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة
والمحرّم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القَدْر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم، رَسَلاً في الشهور والأيام.
قال أبو شامة: قوله: رسلا، أي رِفقاً، وعلى مواقع النجوم، أي على مثل
مساقطها، يريد أنزل مفَرَّقاً يَتْلو بعضه بعضاً على تؤدة ورفق.
وقيل: يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وذلك باطل، للآية:
(إنا أنزلناه ... ) .
وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .(2/256)
قيل: السرّ في إنزاله جملة إلى السماء الدنيا تفخيم أمره وأمر مَنْ نزل عليه.
وذلك بإعْلام سكان السماوات السبع أنَّ هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لِأشْرف الأمم.
وقد قربناه إليهم لننزله إليهم.
ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصولَه إليهم منجما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باينَ بينه وبينها، فجعل له الأمْرَيْن: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرَّقاً، تشريفاً للمنزل عليه.
ذكر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال الحكيم التِّرْمذي: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمةُ بفتح الباب جاءت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدِّ الدنيا، وؤضعت النبوة في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وجاء جبريل بالرسالة ثم الْوَحْي، كأنه أراد تعالى أن يسلّم هذه الرحمة التي كانت حظَّ هذه الأمة مِنَ اللهِ إلى الأمة.
وقال السخاوي في جمال القراء: في نزوله إلى السماء جملة تكريمُ بني آدم.
وتعظيمُ شأنهم عند الملائكة، وتعريفُهم عناية الله بهم ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة أن تشيِّعَ سورةَ الأنعام، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمَرَ جبريل بإملائه على السّفَرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له.
قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبين موسى ا@ في إنزاله كتابه جملة، والتفضيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في إنزاله عليه منجّماً ليحفظه.
قال أبو شامة: فإن قلت فقوله تعالى: (إنَّا أنْزَلْنَاه في ليلة القَدْر) .
من جملة القرآن الذي أنزل جملة أم لا، فإن لم يكن منه فما نُزل جملة، وإن
كان منه فما وَجْهُ صحة هذه العبارة؟
قلت له وجهان:
أحدهما: أن يكون معنى الكلام إنا حكمْنَا لإنزاله في ليلة القَدْر، وقضينا به
وقدّرناه في الأزَل.(2/257)
والثاني: أن لفظه لفظُ الماضي ومعناه الاستقبال، أي نزل جملة في ليلة القدر.
قال أبو شامة: الظاهر أن نزولَه جملة إلى السماء الدنيا بعد ظهورِ نبوءته - صلى الله عليه وسلم -.
قال: ويحتمل أن يكون قبلها.
قلت: الظاهر هو الثاني، وسياقُ الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه.
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد أخرج أحمد والبيهقي في الشّعَب عن
واثلة بن الأسْقَع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلت التوراة لستّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خَلَتْ منه، والزبور لثمان عشرة منه. والقرآن لأربع وعشرين خلت منه.
وفي رواية: وصحف إبراهيم لأول ليْلة، قال: وهذا الحديث
مطابق لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنْزِلَ فيه القرآن) .
ولقوله: (إنا أنْزَلنَاهُ في ليلة القَدْرِ) فيُحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة
كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض: (اقرأ باسم ربك) .
قلت: لكن يُشْكِلُ على هذا ما اشتهر من أنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث في شهر ربيع.
ويُجَاب عن هذا بما ذكروه أنه نُبيء أولاً بالرؤيا في شهر مولده، ثم كانت
مدتها ستة أشهر، ثم أوحي إليه في اليقظة.
ذكره البيهقي وغيره.
نعم، يشكل على الحديث السابق ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل القرآن عن أبي قِلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان.
الثالث: قال أبو شامة: فإن قيل: ما السرُّ في نزوله منَجَّماً، وهلاّ نزل كسائر الكتب جملة؟
قلنا: هذا سؤالْ قد تولى الله جوابَه، فقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) .
يعْنُون كما أنزل على مَنْ قبْله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: (كَذَلِكَ) - أي أنزلناه كذلك مفرّقا - (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) ، أي لنقوِّيَ به قلبك، فإن الوحْي إذا كان يتجدد في كل(2/258)
حادثة كان أقوى للقلب، وأشدَّ عناية بالمرسل إليه.
ويستلزم ذلك كثرة نزول
الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل.
وقيل معنى (لنثبِّتَ به فؤادَكَ) ، أي لنحفظه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أمِّياً لا يقرأ ولا يكتب، ففرِّق عليه ليثبت عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتباً قارئاً، فيمكنه حفْظُ الجميع.
قال ابن فُورك: قيل أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب
- وهو موسى - وأنزل الله القرآن مفرَّقاً، لأنه نزل غير مكتوب على نبي أميّ.
وقال غيره: إنما لم ينزّل جملة واحدة، لأنَّ منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتَّى
ذلك إلا فيما نزل مفرقاً.
ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قِيل أو فعل فُعِل.
وقد تقدّمَ ذلك في قول ابن عباس، ونزّله جبريل بجواب
كلام العباد وأعمالهم، وفَسّر به قوله: (ولا يأتونك بِمَثَل إلاَّ جئْنَاك بالحقّ
وأحسنَ تفسيراً) .
أخرجه عنه ابن أبي حاتم.
فالحاصل أن الآية تضمّنت حكمتين لإنزاله مفرقاً.
تذنيب
ما تقدم في كلام هؤلاء من أنَّ سائر الكتب أنزلت جملة ً هو مشهور في
كلام العلماء وعلى ألسنتهم، حتى كاد يكون إجماعا.
وقد رأيتُ بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال: إنه لا دليل عليه، بل الصواب أنها نزلت مفرقات كالقرآن.
وأقول: الصواب الأول، والدليل على ذلك آيةُ الفرقان السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قالت(2/259)
اليهود: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا القرآن جملة، كما أنزلت التوراة على
موسى. فنز لت.
وأخرجه من وجهٍ آخر عنه - بلفظ: قال المشركون.
وأخرج نحوه عن قَتَادة والسدّي.
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير ثُبوت قَوْلِ
الكفار.
قلت: سكوتُه تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعُدُوله إلى بيان حكمته دليلٌ
على صحته، ولو كانت الكتبُ كلها مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنةُ الله في الكتب أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بمثل ذلك عن قولهم: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) ، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) .
وقولهم: (أبعثَ اللهُ بَشراً رسولاً) .
وقال: (وما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك إلاَّ رجالاً نُوحي إليهم) .
وقولهم: كيف يكون رسولا ولا له همٌّ إلا النساء، فقال: (ولقد
أرْسلنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وجعَلْنَا لهم أزواجاً وذُريّة ... ) . الآية.
إلى غير ذلك.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قولُه تعالى - في إنزال التوراة على موسى يوم
الصعقة: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) .
(وألْقَى الألْوَاحَ) .
(ولما سكتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أخذ الألْوَاح، وفي نسختها هُدًى ورحمةٌ) .
(وإذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فوقَهُمْ كأنه ظلَّةٌ وظنوا أنه واقعٌ بهم خذُوا ما آتينَاكم بقوَّة) .
فهذه الآيات كلها دالّة على إتيانه التوراة جملة.(2/260)
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عباس، قال: أعطي
موسى التوراة في سبعة ألواح من زَبرْجد، فيها تِبْيان لكل شيء وموعظة، فلما جاء بها ورأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة العِجْل رمى بالتوراة من يده فتحطمت، فرفع الله منها ستةَ أسباع وأبقى سبعاً.
وأخرج من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده - رفعه، قال: الألواحُ التي أنزلت على موسى كانت من سِدْر الجنة، كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج، قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة
فكبُر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل، فأخذوه عن ذلك.
فهذه آثار صحيحة في إنزال التوراة جملة، يؤخذ من الأثر الأخير منها
حكمةٌ أخرى لإنزال القرآن مفرّقاً، فإنه أدْعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.
ويوضّح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة، قالت: إنما نزل أول ما نزل
منه سورةٌ من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.
ولو نزل أول شيء: " لا تشربوا الْخَمْرَ " - لقالوا: لا ندع
الخمر أبدا.
ولو نزل: " لا تَزْنوا " لقالوا لا نَدَع الزنى أبداً.
ثم رأيتُ هذه الحكمة مصرحا بها في الناسخ والمنسوخ لمكيّ.
وأخرج البيهقي في الشّعَب، من طريق أبي خَلَدة عن عمر، قال: تعلَّمُوا
القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - خمساً خمساً.
ومعناه - إن صح - إلقاؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القَدْر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي لا إنزاله خاصة بهذا القدر.
ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار، قال، قال أبو
العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً.(2/261)
تنبيه:
اتفق أهل السنّةِ والجماعة على أن كلام الله تعالى منزّل.
واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال إظهار القراءة، ومنهم من قال إن الله تعالى ألْهم كلامَه جبريل، وهو في السماء، وهو عال من المكان.
وعلَّمه قراءته، ثم إن جبريل أدَّاه في الأرض، وهو يهبط في المكان.
وفي التنزيل طريقان:
أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقل من صورة البشرية إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل.
والثاني: أن الملك انخلع إلى البشريّة حتى يأخذ الرسول منه.
والأول أصعب الحالين.
وقال الطيبي: لعلّ نزول القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقَّفه الملَك من الله تَلَقُّفاً رُوحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويُلقيه عليه.
وقال القطب الرازي في حواشي الكشّاف: التنزيل لغة بمعنى الإيواء، وبمعنى
تحريك الشيء من عُلْو إلى سفل، وكلاَهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائمٌ بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ.
ومَنْ قال القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ.
وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً عن أول المعنيين اللغويين.
ويمكن أن يراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا يناسب المعنى الثاني.
والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقّفاً روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ، وينزل بها فيلقيها عليهم.
وقال غيره: في المنزَّل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقوال:(2/262)
أحدها: أنه اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح الحفوظ
ونزل به.
وذكر بعضهم أن أحْرفَ القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منها بقدر
جَبَل قاف، وأن تحت كلّ حرف منها معان لا يحيط بها إلا الله تعالى.
والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - علم تلك المعاني، وعبَّر عنها بلغة العرب، وتمسَّك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ) .
والثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى، وأنه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب
وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك.
وقال البيهقي - في معنى قوله تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلةِ القَدْرِ) .
يريد - والله أعلم: إنا أسمعنا الملك وألهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، فيكون
الملك منتقِلاً به من علو إلى سفل.
قال أبو شامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو
إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قِدَمَ القرآن، وأنه صفة قائمة بذات اللَه تعالى.
قلت: ويؤيد أن جبريل تلقَّفه سماعاً من الله تعالى ما أخرجه الطبراني من
حديث النَّواس بن سمعان مرفوعاً: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة
شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهلُ السماء صُعقوا وخَرُّوا سجّدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به إلى
الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا، قال: الحق.
فينتهي به حيث أمر.
وأخرج ابن أبي مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: إذا تكلم الله بالوحي(2/263)
سمع أهل السماوات صلصلةً كصلصلة السلسلة على الصَّفْوان، فيفزعون، ويرون أنه مِنْ أمر الساعة
وأصل الحديث في الصحيح.
وفي تفسير علي بن سهل النيسابوري: قال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة ً في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بَيْب يقال له بيت العزة، فحفظه جبريل، وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله، فمرّ بهم جبريل، وقد أفاقوا، فقال: ماذا قال ربكم، قالوا: الحق - يعني القرآن - وهو معنى قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) - فأتى به جبريل إلى بيت العِزّة فأمْلاه على السفَرة الكرام - يعني الملائكة، وهو معنى قوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) .
وقال الْجُوَيني: كلام الله المنَزل قسمان:
قسم قال الله لجبريل: قلْ للنبي الذي أنت مرْسل إليه: إن الله يقول افعل
كذا وكذا، ومُرْ بكذا وكذا.
ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما قاله ربه.
ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به:
قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جنْدَك للقتال، فإن قال
الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند يتفرّق، وحث على المقاتلة - لا ينسب إلى كذب، وتقصير في أداء الرسالة.
وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة
الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغَيِّر منه كلمة ولا حرفاً.
قلت: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنّة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.(2/264)
ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أدَّاه بالمعنى، ولم تجز القراءة
بالمعنى، لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبَحْ له إيحاؤه بالمعنى.
والسرّ في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه، والإعجاز به، فلا يقدر أحد
أن يأتي بلفظٍ يقوم مقامه، وإنَّ تحتَ كل حرف منه معاني لا يحيط بها كثرة.
فلا يقدر أحد أن يأتي ببدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزّل إليهم على قسمين: قسم يَرْوونه بلفظه الْموحَى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كلّه مما يرْوَى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤْمن التبديل والتحريف، فتأَمل.
وقد رأيت عن السلف ما يعضّد كلام الجويني، فأخرج ابن أبي حاتم، من
طريق عقيل، عن الزّهري - أنه سئل عن الوحي فقال: الوحي ما يوحِي الله إلى نبي من أنبيائه، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله.
ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكن يحدِّث به الناس حديثاً، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه.
فصل
وقد ذكر العلماء للوحي كيفيّات:
إحداها: أن يأتِيَه الملَك في مثل صلصلة الجرس، كما صح في مسند أحمد عن
عبد الله بن عمرو: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تحسّ بالوحي، فقال: أسمع صلاصل.
ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقْبض.
قال الخطابي: والمراد أنه صوت متداول يسمعه ولا يتبيّنه أولّ ما يسمعه حتى
يفهمه بعد.
وقيل: هو صوت خَفْق أجنحة الملَك.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه للوحي، فلا يُبقي فيه مكاناً لغيره.
وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه.(2/265)
وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد.
الثانية: أن ينفُثَ في روعه الكلام نَفْثاً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن روحَ القُدس نَفث في روعي ".
أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها.
بأن يأتي في أحد الكيفيتين وينفث في رُوعه.
الثالثة: أن يأتيه في صفة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح: وأحياناً يتمثَّلُ لي
الملك رجلا فيكلمني فأعِي ما يقول - زاد أبو عَوَانة في صحيحه: وهو أهونُه
عليَّ.
الرابعة: أن يأتيه الملَك في النوم.
وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر، كما رَوَى مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذ أغْفَى إغفاءةً ثم رفع رأسه
متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: أنزل عليَّ آنفا سورة الكوثر ... الخ.
وقال الإمام الرافعي في أماليه: ففهموا من الحديث أنها نزلت في تلك
الإغفاءة.
وقالوا: مِنَ الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن روْيا الأنبياء وحي.
قال: وهذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل في اليقظة، وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزّلة في اليقظة، أو عُرِض عليه الكوْثَر الذي وردت فيه السورة، فقرأها عليهم، وفسرها لهم.
قال: وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه.
وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تَعْتَريه عند نزول الوحي.
ويقال لها بُرَحاء الوحي.
قلت: الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه، وهو الذي كنتُ أميل إليه قبل
الوقوف عليه.
والتأويل الأخير أصح من الأول، لأن قوله إنما يدفع في كونها
نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة، وليست الإغفاءة إغفاءةَ نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا.(2/266)
الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة - كما في ليلة الإسراء، أو في النوم.
كما في حديث معاذ: أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى ... الحديث.
وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم، يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة لما تقدم، وبعض سورة الضحى، و (ألم نشرح) ، فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن حاتم، قال، قال - صلى الله عليه وسلم -: " سألتُ ربي مسألة، ووددت أني لم أكن سألته، قلت: أي ربي، اتخذتَ إبراهيم خليلاً، وكلمتَ موسى تكليما.
فقال: يا محمد، ألم أجدك يتما فآويتك، وضالاً فهديتك، وعائلا فأغنيتك.
وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وِزْرك، ورفعت لك ذكرك، ولا أُذكر إلاَّ ذُكرتَ معي ".
فوائد:
الأولى: أخرج الإمام أحمد في تاريخه، من طريق داود بن أبي هند، عن
الشعبي، قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوءة، وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوءته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه.
فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوءته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه
عشرين سنة.
قال ابن عسكر: والحكمة في توكيل إسرافيل به أنه الملك الموكل بالصُّور
الذي فيه هلاك الخلق وقيام الساعة، ونبوءته عليه الصلاة والسلام مؤذنة بقرْب الساعة وانقطاع الوحي، كما وُكل بذي القرنين رونيافل الذي يطوي الأرض، وبخالد بن سنان مالك خازن النار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سابط، قال: في أمّ الكتاب كل شيء هو كائن
إلى يوم القيامة، فوكل ثلاثة بحفظه من الملائكة، فوكل جبريل بالوحي.
والكتب إلى الأنبياء، وبالنصر عند الحروب، وبالمهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً.
ووكل ميكائيل بالقَطْر والنبات، ووكل ملك الموت بقَبْض الأنفس، فإذا
كان يوم القيامة وعارضوا بين حفظه وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء.(2/267)
وأخرج أيضاً عن عطاء بن السائب، قال: أول من يحاسب جبريل، لأنه كان أمينَ الله إلى رسله.
الثانية: أخرخ البيهقيّ والحاكم عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن بالتفخيم كهيئة: (غذْرا أو نُذْراً) .
و (الصَّدَفَيْنِ) ، (ألاَ لَه الْخَلْقُ والأمْر) ، وأشباه هذا.
قلت: أخرجه ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء، فبيَّن أن المرفوع
منه: أنزل القرآن بالتفخيم فقط، وأن الباقي مدرجٌ من كلام عمّار بن عبد الملك أحد رواة الحديث.
الثالثة: أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثَّوْري، قال: لم ينزل وحْيٌ إلا
بالعربية، ثم تَرْجم كلّ نبي لقومه.
الرابعة: أخرج ابن أبي سعد عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يغطّ في رأسه، ويتربَّدُ وجهه، ويجد برداً في ثناياه، ويعرق حتى يتحدّر منه مثل الْجُمان.
الخامسة: قال البغوي في شرح السنّة: يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضَة
الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأها عليه، وكان يقْرئ الناس بها حتى مات.
وكذلك عليه اعتمد أبو بكر وعمر في جمعه، وولاَّه عثمان كتب المصاحف.
(لَحْن القَوْل) ، أي مقصده وطريقته.
وقيل اللَّحْن هو الخفيّ المعنى، كالكناية والتعريض.
والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - سيعرفهم من دلائل كلامهم، وإن لم يعرّفْه الله بهم على التعيين.
فانظر هذا اللطف العظيم في ستر الله عليهم، وعلى أقاربهم من المسلمين.(2/268)
وروي أن الله لم يذكر له واحداً منهم باسمه، وهذا كما صح عن قوم مُوسى
أنهم خرجوا للاستسقاء فلم يسقوا، فقال موسى: يا ربّ، لِمَ لم تجِبهم، فقال: يا موسى، إن فيهم نَمّاماً.
فقال: يا رب، مَنْ هو، فقال: أنهى عن النَّمِيمة وأكون
نماماً! ولكن ليتوبوا بأجمعهم، فتابوا، وسقاهم الله.
(لَذَّة للشاربين) : أي لذيذة، لا كلذَّةِ الدنيا.
(اللَّمَم) .
فيه أربعة أقوال:
الأول: أنه صغائر الذنوب، فالاستثناء على هذا في الآية منقطع.
الثاني: أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفَلْتَة والسقْطَة دون دوام عليها.
الثالث: أنه ما ألَمّوا به في الجاهلية من الشركِ والمعاصي.
الرابع: أنه الهمّ بالذنب، وحديث النفس به دون أن يفعل.
(ليس للإنْسان إلاَّ ما سعَى) : السعي هنا بمعنى العمل.
وظاهرُها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله: لا يصوم
أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام.
واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعِتْق يجوز أن يفعلها الإنسان
عن غيره، ويصل نَفْعُها إلى مَنْ فُعِلَتْ عنه.
واختلفوا في الأعمال البدنيّة، كالصلاة، والصيام.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: (ألْحَقْنَا بهم ذريتَهمْ) .
والصحيح أنها مُحْكَمة، لأنها خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وفي تأويلها ثلاثة أقوال:
الأول - أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا، فلا يلزم في شريعتنا.
الثاني: للإنسان ما عمل بحق، وله ما عمل له غيره بهبة العاملِ له، فجاءت
الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها.(2/269)
الثالث: أنها في الذنوب.
وقد اتّفق على أنه لا يحمل أحد ذَنْبَ أحد، ويدل
على هذا قوله قبلها: (ألاَّ تَزِز وَازِرةٌ وِزْرَ أخرى) ، كأنه يقول:
لا يؤخَذ أحد بذنب غيره، ولا يؤخذ إلا بذنب نفسه.
(لظَى) : اسم علم مشتقّ من اللظى بمعنى اللهب.
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر) : معنى اللَّوَّاحة مغَيِّرة.
يقال لاَحَهُ السّفَر: غَيَّره.
والبشَر جمع بَشَرة، وهي الجِلْدة.
فالمعنى أنها تحْرِق الجلود.
وقيل تسَوِّدها.
وقيل لوّاحة مِنْ لاح يعني ظهر، والبشر الناس، أي تلوح للناس.
قال الحسن: تلوح لهم من مَسِيرة خمسمائة عام لا يخافون الآخرة، أي هذه العلة والسبب في إعراض مَنْ تقدَّم ذكرهم.
(لَوَّامَة) : هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب، أو التقصير
في الطاعة، فإن النفوس على ثلاثة أنواع، فخيرها النَّفْس المطمئنة، وشَرُّها
النَّفْس الأمَّارة بالسوء، وبينهما النفس اللوَّامَة.
وقيل اللوّامة المذمومة الفاجرة، وهذا بعيد، لأن الله لا يقْسم إلا بما يعظم من المخلوقات.
ويستقيم إن كان لا أقسم نفياً للقسم.
قال بعضهم: ليس من نفس بَرَّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها يوم
القيامة، إن كانت عملت خيرا: هَلاَّ ازدادت منه، وإن كانت عملت سوءاً: لم عملته.
(لَيَال عَشْرٍ) : هي عشر ذي الحجة عند الجمهور.
وقيل: العشر الأول من المحرم.
وفيها يوم عاشوراء.
وقيل العشر الأخر من رمضان.
وقيل العشر الأول منه.
(لَمًّا) : الجمع، واللّفّ، فالتقدير أكْلاً ذا لَمّ، وهو أن
يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعْطون من الميراث
أنْثَى ولا صغيراً، بل ينفرد به الرجال.(2/270)
(لا يُنَازِعُنَّكَ في الأمْرِ) ، ضمير المنازعة للكفار، والمعنى أنهم
لا ينبغي لهم منازعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحق قد ظهر بحيث لا ينازع أحد فيه.
فجاء الفعل بلفظ النهي، والمراد غير النهي.
وقيل المعنى: لا تنازعهم فيُنَازِعُوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ويحتمل أن يكون نَهيْاً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ.
والمراد بالأمر الدين والشريعة، أي في الدين والذبائح.
(لُدًّا) : جمع ألدّ، وهو الشديد الخصومة والمجادلة.
والمرادُ بذلك قُرَيش. وقيل معناه فُجَّاراً.
(لوط) : قال ابن إسحاق: هو لوط بن هاران بن آزر. وفي المستدرك عن
ابن عباس قال: لوط ابن أخي إبراهيم.
(لُقْمان) :: قيل إنه كان نبياً. والأكثر على خلافه.
أخرج ابنُ أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: كان لقمان عبداً
حبشياً اختار الحكمة على النبوءة، فأعطاها الله له، فكان ينطق بها.
لم يكن لقمان نبيئاً، ولكن عبدا أحسن اليقين، أحبَّ الله فأحبه فمنّ عليه
بالحكمة.
وروي أنه ابنُ أخت أيوب، أو ابن خالته.
وروي أنه كان قاضيا لبني إسرائيل.
واختلف في صنعته، فقيل: كان نجارا.
وقيل خياطاً. وقيل راعي غنم.
وكان ابنه كافراً، فما زال يوصيه حتى أسلم.
(لُجيٍّ) : منسوب إلى اللجّ، وهو معظم الماء.
وذهب بعضهم إلى أنَّ أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء المثَّل به، فالظلمات أعمال الكافر، والبحرُ اللجيّ صَدْره، والموجُ جهله، والسحابُ الغطاء الذي على قلبه.
وذهب بعضهم إلى أنه تمثيلٌ بالجملة من غير مقابَلة.
وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغةٌ، كما أن في وصف النور، المكرر قبلها مبالغة.(2/271)
(لُغُوب) : الإعياء والتعب.
ورُوِي أن اليهود أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أخبرنا عما خلق الله في الأيام السبعة:
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " خلق الله السماوات والأرض يوم الأحد، والجبال يوم الإثنين، والدوابَّ يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والجنةَ والنار يوم الخميس، وآدم وحواء يوم الجمعة "، فقالوا: أصَبْتَ لو أتممت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما إتْمَامُها، "
فقالوا: لما فرغ الله مِنْ خَلْق السماوات والأرض استَلْقَى على قَفَاه، ووضع
إحدى رجليه على الأخرى واسَتراح، وكان ذلك يوم السبت الذي اتخذناه عِيدا واستراحة.
فاغْتمّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَمّاً شديداً، فأنزل الله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) .
وإنما يَلْغُب مَنْ يعمل بالآلات والجوارح، وإني أخلق الشيء إذا أردتُ وجودَه، أقول له كنْ فيكون.
فظنَّ اليهود أن السبتَ لهم يوم الراحة، فصار يوم المحنة، وظنوا أنه يوم
فَرَح، فصار يوم ترَح، فقال عليه السلام: السبت لليهود، والجمعة لكم، فلا تخالفوا فيها أمر الله تعالى كما خالف اليهود والنصارى، فصار المخالفون منهم قِرَدة.
نكتة:
إن اليهود لما خالفوا في يومهم مسخَهُم الله تعالى وغَيَّر شخصهم، والمؤمنون
إذ أطاعوا الله وأدّوا صلاة الجمعة غيّرت صورة ذنوبهم حسنات، كما قال تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
إن اليهود لم يُمسخوا لصيْد السَّمكة، بل لتركهم تعظيم أمْر الله وارتكابهم لنَهْيه، ألاَ ترى أن آدم وحوّاء أكَلا من شجرة الخُلْد فبدَتْ لها سوءاتها.
والنَحْل أكل من ورق أشجار الجنّة فصار في بطنه عسلاً، لأن آدم أكل بغير إذن، والنحل أكل بإذن.(2/272)
وأعجب من هذا أن الدودة التي أكلت جسم أيوب عليه السلام فصار لحمه
في بطنها إبْريسماً (1) ، يا عجباً، إن آدميّاً يأكلُ سمكة فيغضب عليه الربُّ فيجعله قرداً، ودودة تأكل النبي فيرضى عنها الربّ، فيجعل رَوْثها إبْرَيْسماً، لأن هذه أكلَتْ بأمره، وذلك أكل بغير أمره.
دودة أطاعت الرب فاستحقت الخِلْعَة.
والمؤمن المخلص إذا أطاع أمر الله فكيف لا يستحق الرحمة والقُربَة والكرامة.
(لبَداً) : كثيراً، من التلبيد، كأنه بعضه على بعض.
(لمَزَة) : هو الذي يَعِيب الناس باللّسان.
واختلف هل الهمَزة واللّمَزة سواء، واشتقاقه من الهمْزِ واللمز، وصيغة فُعلَة للمبالغة.
ونزلت السورة في الأخنس بن شَرِيق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس.
وقيل في أميّة بن خلف.
وقيل في الوليد بن المغيرة.
ولفظها مع ذلك على العموم في كل مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفات.
(لِيوَاطِئُوا عِدَّةَ ما حرّمَ اللَهُ) ، أى ليوافقوا عددَ الأشهر
الحرم، وهي أربعة.
يقول: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة لم يبالوا أن يحلّوا الحرام ويحرموا الحلال.
(لِوَاذًا) ، يعني الذين ينصرفون عن حَفْر الخندق.
واللّوَاذ: الروغان والمخالفة.
وقيل الانصراف في خِفْية.
وفي هذا وعيد وتهديد لمن خالف أمر الله ورسوله.
(لِسَانَ صِدْق) : ثناء حسناً.
(لِيْنَة) : نخلة، وجمعها لِيْن، وهي ألْوَانُ النَّخْل ما لم تكن
العَجْوَة والبَرْنيّ.
قال الكلبي: لا أعْلَمها إلا بلسان يهود.
وسبب الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل على حصون بني النضير قَطَع المسلمون بعض نخلهم، وأحرقوا بعضها، فقال بَنُو النَّضِير: ما هذا الإفساد يا محمد، وأنت تنهى عن الفساد، فنزلت الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع وإحراق، فإن الله أذن للمسلمين في ذلك.
__________
(1) ما روي من أكل الدود لجسد نبي الله أيوب - عليه السلام - أثناء مرضه من الإسرائيليات المنكرة.(2/273)
(لِيُخْزِي الْفَاسِقين) : بني النَّضِير.
واستدل بعض الفقهاء
بهذه الآية على أن كل مجتهد له مصيب، فإن الله قد صوّب فعل من قطع
النخل، ومن تركها.
واختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم، فأجازه الجمهور.
لهذه الآية، ولإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريق نخل بني النضير، وكرهه قَوْمٌ لوصية أبي بكر الصديق الجيشَ الذي وجّهَهم إلى الشام ألاَّ يَقْطَعوا شجَراً مُثْمِرا.
(لله خمسَهُ وللرّسُولِ ولِذي القرْبَى ... ) ، الآية.
اختلف في قسم الخمس وهو خمس المغانم، فقال قوم: يصرف على ستة أسهم: سَهْم للَه في عمارة الكعبة، وسهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مصالح المسلمين.
وقيل للوالي بعده.
وسهم لِذَوِي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة.
وسهم لليتامى.
وسهم للمساكين.
وسهم لابن لسبيل.
وقال الشافعي: على خمسة أسهم، ولا يجعل لله سهماً مختصاً، وإنما بدأ عنده
باللَه، لأن الكل ملكه.
وقال أبو حنيفة: على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل خاصة.
وقال مالك: الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته، ويصرف الباقي في
المصالح.
(ليَميزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطيّب) : الخبيث: الكفَّار، والطيب: المؤمنون.
وقيل: الخبيث ما أنْفَقَه الكفَّار، والطيّب: ما أنفقه المؤمنون.
واللام في (ليميز) - على هذا يتعلق ب (يغْلبون) وعلى الأول
ب (يحْشَرون) .
ومعنى يميز: يَفْرق بين الخبيث والطيب.
(لله الأسماءُ الحسْنَى) ، لا لغيره، ولا نهاية لعددها،(2/274)
وإنما أخبر الشارع بالتسعة والتسعين في قوله: إن للهِ تسعة وتسعين اسماً مَنْ
أحصاها دخل الجنة.
وسبب نزول الآية أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله مرة
والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية، مبيّنةً أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمّى واحد.
والحسنى: مصدر وصف بها، وتأنيث أحسن.
وحسْن أسماءَ الله أنها صفات مَدْحٍ وتعظيم وتحميد، فمنها ما هو للتعلّق، ومنها ما هو للتخلق، فينبغي الاعتناء بتبين معانيها، وبأخذ كل واحد منها حظاً ونصيباً.
(لِلَّذينَ أحْسَنوا الحسْنى وزِيادة) : الحسنى الجنة، والنظر
إلى وجه الله.
وقيل الحسنى جزاء الحسنة بعَشْرة أمثالها، والزيادة التضعيف فَوْق
ذلك إلى سبعمائة.
والأول أصح، لوروده في الحديث، وكثرة القائلين به.
(لولا نزلت سؤرة) ، بالهمز، من أسأرت أي أفضلت من
السؤر، وهو ما بقي من الشراب في الإناء، كأنها قطعةٌ من القرآن.
ومَنْ لم يهمزها جعلها من المعنى المتقدم، وسهَّل همزتها.
ومنهم من شبهها بسورة البناء، أي القطعة منه، أي منزلة بعد منزلة.
وقيل من سور المدينة لإحاطتها بآياتها
واجتماعها كاجتماع البيوت في السور.
ومنه السِّوَار لإحاطته بالساعد.
وقيل: لارتفاعها، لأنها كلام الله.
والسورة المنزلة الرفيعة، وكان المؤمنون يقولون هذا الكلام على وجه
الحِرصِ على نزول القرآن والرغبة فيه، لأنهم كانوا يفرحون ويستوحشون من إبطائه.
تنبيه:
قال الجَعْبَري: حَدّ السورة قرآن يشتمل على آي ذي فاتحة وذي خاتمة.
وأقلها ثلاث آيات.(2/275)
وقال غيره: السورة الطائفة المترجمة توقيفاً، أي المسمّاةُ باسم خاصّ بتوقيف
من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ثبتت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية
الإطالة لبيًنْتُ ذلك.
ومما يدل لذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: كان المشركون
يقولون: سورة البقرة، وسورة العنكبوت - يستهزئون بها، فنزل: (إنا كفَيْناكَ المستَهْزِئين) .
وقد كره بعضهم أن يُقال سورة كذا لما رواه الطبراني والبَيْهقي مرفوعاً، عن
أنس: لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذلك القرآن كله.
وإسناده ضعيف، بل ادَّعَى ابن الجَوْزي أنه موضوع.
وقال البيهقي: إنما يُعرف موقوفاً عن ابن عمر، ثم أخرجه عنه بسند
صحيح.
وقد صح إطلاق سورة البقرة وغيرها عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة
البقرة.
ومن ثَمَّ لم يكرهه الجمهور.
وقد يكون للسورة اسمٌ واحد وهو كثير، وقد يكون لها اسمان فأكثر، من
ذلك: الفاتحة، وقد وقفت لها على نيِّفٍ وعشرين اسماً، وذلك يدل على شرفها، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى.
قال بعضهم: وكما سمِّيت السورة الواحدة بأسماء سمِّيَت سورة باسم واحد.
كالسور المسماة بـ الم والر، على القول بأن فواتح السور أسماء لها.
قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسماء، هل هو توقيفيّ(2/276)
أو بما يظهر من المناسبات، فإن كان الثاني فلن يعدم الفَطِن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة يقتضي اشتقاقها اسماً لها، وهو تعبيد.
قال: وينبغي النظر في اختصاص كل سورة بما سُمِّيَتْ به.
ولا شكَّ أنَّ العرب ترَاعِي وكثير من المسميات أخْذَ أسمائها من نادر أو
مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه أو يكون معها أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرأي للمسمى.
ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة
بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جَرَتْ سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة قصة البقرة المذكورة فيها، وعجيب الحكمة فيها.
وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردَّد فيها شيء كثير من أحكام النساء.
وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها، وإن كان قد ورد
لفظ الأنعام في غيرها، إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: (ومِنَ الأنْعَام
حَمُولَةً وفَرْشاً ... ) ، إلى قوله: (أمْ كنْتم شهَداءَ إذْ وَصّاكم اللة بهذا) .
لم يردْ في غيرها، كما ورد ذِكْر النساء في سور، إلا أن ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة النساء، وكذا سورة
المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها، فسميت بما يخصها.
فإن قيل: في سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى.
فلم خصَّتْ باسم هود وَحْدَه، مع أن قصة نوح فيها أوعب وأطول؟
قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء بأوْعَب
مما ورد في غيرها، ولم يتكرر في واحدة من هذه السور اسم هود كتكرّره في
سورته، فإنه تكرر فيها في أربعة مواضع، والتكرار من أقْوَى الأسباب التي
ذكرنا.
فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فيها في ستّةِ مواضع.
قيل: لما أفْرِدت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة بِرَأسِها فلم يقع فيها غير
ذلك، كانت أوْلى بأن تسمَّى باسمه من سورة تضمّنَتْ قصتَه وقصة غيره.(2/277)
قلت: فلك أن تسأل وتقول: قد سميت سورة جَرَتْ فيها قصص أنبياء
بأسمائهم، كسورة نوح، وسورة هود، وسورة إبراهيم، وسورة يونس، وسورة آل عمران، وسورة طس سليمان، وسورة يوسف، وسورة محمد صلى الله على جميع الأنبياء، وسورة مريم، وسورة لقمان، وسورة المؤمن.
وسورة أقوام: كسورة بني إسرائيل، وسورة أصحابِ الكَهْف، وسورة الحِجْر، وسورة سبأ، وسورة الملائكة، وسورة الجِن، وسورة المنافقين، وسورة المطَفّفين.
ومع هذا لم يفْرَدْ لموسى سورة تسمّى به، مع كثرة ذكره في القرآن، حتى قال بعضهم: كاد القرآن أن يكون كله موسى، وكان أولى سورة تسمى به سورة طه أو القصص أو الأعراف لبسط قصته في الثلاثة مما لم تبْسط في غيرها.
وكذلك قصة آدم ذكرَتْ في عِّدةِ سوَر، ولم تسمّ به سورة كأنه اكتفي
بسورة الإنسان.
وكذلك قصة الذَّبيح من بدائع القصص، ولم تسَمّ به سورة الصافات.
وقصة داوود ذكرت في (ص) ولم تسم به، فانظر في حكمة ذلك.
على أني رأيت بعد ذلك في جمال القراء للسخَاوي أن سورة طه تسمى سورة
الكلِيم، وسماها الهُذَلي في كماله سورة موسى.
وأن سورة ص تسمى سورة داود.
ورأيت في كلام الجعبري أن سورة الصافّات تسمى سورة الذبيح، وذلك يحتاج إلى مستند من الرأي.
(ليس على الأعْمى حَرَج) : اختلف والمعنى الذي رفع الله
به الحرج عن الأعرج والأعمى والمريض هذه الآية، فقيل: هو في هذه الآية
الغزو، أي لا حَرَجَ عليهم في تأخرهم عنه، وحكمهم عام في كل جهاد إلى يوم القيامة إلا أن يحزب حازب في حصرةٍ ما، فواجب عليهم بحسب الوسْع.
فإن قلت: أما رَفْع الحرج عن هؤلاء في هذه الآية فمفهوم تعقيبه به في عَتْب
المتخلّفين من القبائل، وأما ذكرهم في سورة النور، فلم أفهم له معنى؟
فالجواب: إنما ذكرهم في سورة النور لأنهم كانوا إذا نهضوا إلى الغَزْو(2/278)
وخلّفوا أهلَ هذه الأعذار في بيوتهم، فكانوا يتجنّبون أكل مال الغائب، فنزلت في ذلك.
وقيل: إن الناس كانوا يتجنبّون الأكل معهم تقذَّرا، فنزلت الآية.
وهذا ضعيف، لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم.
والصواب أن يقال: إن الحرج مرفوع عن هؤلاء الثلاثة في كل ما يمنعهم منه
أعذارهم من الجهاد وغيره، ألا ترى أنه أباح الأكل للإنسان في هذه البيوت
المذكورة في الآية، من الآباء والأبناء والأخوات وغيرهم.
فإن قلت: إذا رفع الحرج عن هؤلاء فما معنى الآية: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) .
فالجواب: أنه اختلف في الخفيف والثقيل، من هو، على أقوال: فقيل الخفيف الغنيّ، والثقيل الفقير.
وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ.
وقيل الخفيف النشيط، والثقيل الكسلان.
وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفّة.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (ليس على الضّعَفَاء ولا عَلَى المرْضَى) .
وعلى كلِّ تقديرٍ فجائز لأصحاب الأعذار الغَزْو، وأجرهم فيه مضاعف، لأن الأعرج قد يكون أجرأ الناس بالصبر وألاَّ يفر.
وقد غزا ابن أمِّ مكتوم، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية، وقد خرّج النسائي في بعض هذا المعنى.
وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله.
(للفقراء) : هذا بدل من قوله (لذي القربى واليتامي
والمساكين وابن السبيل) ، ليبين أن المراد بذلك (المهاجرين) ، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، لأنهم هاجروا من
مكة وتركوا فيها ديارهم وأمْوالهم.
(لقد زَيّنّا السماء الدّنيا بِمَصابِيح) .
السماء الدنيا -: هي القريبة منا.
والمصابيح يراد بها النجوم، فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا
إشكال.
وإن كانت في غيرها من السماوات فقد زينت السماء الدنيا، لأنها ظاهرة
فيها لنا.(2/279)
ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في
غيرها، على أن القَوْلَ بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يَرِدْ في الشريعة.
(لَطيف) : اسم الله تعالى.
قيل معناه رفيق، وقيل: خبير بِخَفِيَّات الأمور.
(لؤلؤ) : كبار الجَوهَر.
(لِمَنْ خافَ مقامَ رَبه جنَّتَان) : مقام ربه: القيام بين يديه
للحساب.
ومنه: (يوم يقُوم النَّاس لرَبِّ العَالَمين) .
وقيل قيام الله عليه بأعماله.
ومنه: (أفَمَنْ هو قائم على كلِّ نَفْس بما كَسبَتْ) .
وقيل لمن خاف مقام ربه، وأبهم المقام، كقولك: خفت جانب فلان.
واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراد، أو لصنْفِ الخائفين، وذلك
مبني على قوله: لمن خاف، هل يراد به واحد أو جماعة.
وقال الزمخشري: إنما قال جنتان، لأنّه خطاب الثَّقَلين، فكأنه قال جنة
للإنسان وجنة للجن.
(لب) : عقل، من قولهم: لب في المكان إذا أقام به.
ومنه: لأولي الألباب.
(ليس له اليوم هاهنا حَمِيم.
ولا طعام إلاَّ من غِسْلين) ، أي ليس له صديق.
وقيل ليس له شراب ولا طعام إلاَّ من غِسْلين، فإنّ
الحميم الماء الحار، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس.
وقيل شجر يأكله أهل النار.
وقال اللغوِيّون: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت، وهو فعلين من
الغسل.
فإن قلت: قد قال في الغاشية: (ليس لهم طَعَام إلا مِن ضَرِيع) ، وهو مناقض لما هنا؟
فالجواب: أن الضريع لقوم والغسلين لقوم، أو يكون أحدهما في حال والآخر
في حال.(2/280)
(لقَوْل رَسولٍ كَرِيم) : هذا جواب قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) .
والضمير للقرآن.
والرسول الكريم قيل جبريل.
وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأقْسَمَ تعالى بجميع الأشياء، لأنها تنقسم
إلى ما يبْصَر وإلى ما لا يبصر، كالدنيا والآخرة، والإنس والجنّ، والأجسام
والأرواح، وغير ذلك.
(لأخَذْنَا مِنْه باليَمِين) : أي بالقوة.
ومعناه لو تقوّلَ علينا محمد ما لم نَقلْه، أو نسب إلينا قولاً لأخذناه بقوّتنا.
وقيل هي عبارة عن الهوان، كما يقال لمن يسجن: أُخِذ بيده وبيمينه.
وقَال الزمخشري: معناه لو تقوّل علينا لقتلناه، ثم صوّرَ صورة القَتْلِ ليكون
أهول.
وعبَّر عن ذلك بقوله: لقطعنا منه الوَتين، وهو العِرْق الذي في عنقِ
الإنسان.
والسيَّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جيده أخذه بيده اليمين
ليكون ذلك أشدّ عليه لنظره إلى السيف.
(لِلشَّوَى) : هي أطراف الجسد، وقيل جِلْد الرأس.
والمعنى أن النار تنزعها ثم تعاد.
(لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) : هذا تهديد
للكفّار بإهلاكهم وإبدال مَنْ هوَ خير منهم.
(لا تَرْجون للهِ وَقارا) : فيه أربعة تأويلات:
أحد ها: أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى ما لكم لا تَرْجون أن يوقركم الله في دَارِ ثَوَابِه.
قال ذلك الزمخشري.
وقوله: "لله" على هذا بيان للموقر، ولو تأخّر لكان صفة لوقار.
الثاني: أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبّت، والمعنى ما لكم لا ترجون لله تعالى
متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم.
وقوله " للَه " على هذا مفعول دخلت عليه اللام، كقولك: ضربت لزيد.
وإعراب وقاركم على هذا مصدر في موضع الحال.(2/281)
الثالث: أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة والسلطان.
فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه.
(ولله) على هذا صفة للوقار في المعنى.
الرابع: أن الرجاء بمعنى الخَوْف، والوقار بمعنى الاستقرار، من قولك: وَقَر
في المكان إذا استقرّ فيه، والمعنى ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار، إما في الجنة وإما في النار.
(لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) : هذا إخبار عما حدث عندْ مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من مَنعِْ الجنّ من استراق السمعْ في السماء ورَجْمهم بالنجوم.
واللمس: المسّ.
واستعِير هنا للطلب.
والحَرَس: اسم مفرد في معنى الحرّاس كالخدم في معنى الخدام.
ولذلك وصف بشديد، وهو مفرد.
ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس أو النجوم الحارسة.
وكرر الشهب لاختلاف اللفظ.
(لِنَفْتِنَهم فيه) : يحتمل أن يكون الضمير للمسلمين، أو
للقاسطين المذكورين قبل، أو لجميع الجنّ، أو الجن الذين
استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لجميع الخَلْق.
ومعنى الفتنة الاختبار، هل يشكرون أم لا، هذا إن كانت الطريقة المذكورة، بمعنى الإيمان، وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الاستضلال والاستدراج.
(لِبَدًا) : جماعة واحدها لِبْدَة.
والمعنى يكاد الكفار من الناس يجتمعون على الرد عليه وإبطال أمره، أو يكاد الجنّ الذين استمعوا هذا القرآن يجتمعون عليه لاستماعه والتبرك به.
ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفْرَش بعضها على بعضها.
(لِيَسْتَيْقِنَ الذين أوتوا الكتاب) : أي يعلم أهل التوراة
والإنجيل أن ما أخبر به نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن عدد ملائكة النار حق، لأنه(2/282)
موافق لما في كتبهم.
ولما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: أيعجز عشرةٌ
منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به، فنزلت الآية.
ومعناها أنهم ملائكة لا طاقةَ لكم بهم.
ورُوِي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار، فجعل الله هذا العدد لفِتْنَةِ الكفَّار ولئلا يشكّ المؤمنون والذين أوتوا الكتاب.
فإن قلت: كيف نفى عنهم الشكّ بعد أن وصفهم باليقين، والمعنى واحد
فهو تكرار؟
فالجواب: أنه لما وصفهم باليقين نفَى عنهم أن يشكّوا فيما يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال.
وقال الزمخشري: ذلك مبالغة وتأكيد.
(ليَقولَ الَّذِين في قلوبهم مَرَض) : المرض عبارة عن الشكّ، وأكثر ما يُطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين، كقوله: (في قلوبهم مَرَضٌ) .
فإن قلت: هذه السورة مكيّة، ولم يكن حينئذ منافقون بالمدينة؟
فالجواب من وجههين:
أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدّثوا، ففيه إخبار بالغيب.
والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك، وقولهم: (ماذا أرادَ اللَهُ بهذا مَثَلاً) ، فهو استبعاد لأن يكون هذا من عند الله.
(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) .
فيه توقيف يراد به تعظيم ذلك اليوم، ثم بينه بقوله: (وما أدْرَاك ما يَوْم الفَصْلِ) .
(اللام) : على أربعة أقسام: جارّة، وناصبة، وجازمة، ومهملة غير عاملة.
فالجارةُ مكسورة مع الظاهر، وأما قراءة بعضهم: الحمد لله، فالضمة عارضة
للاتباع، مفتوحة مع المضمر إلا الياء.
ولها معان:
الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو: (الحمد لله) .(2/283)
(الملك لله) .
(للهِ الأمر) . الروم: 4.
(ويل لِلمطفِّفين) .
(لهم في الدنيا خِزْيٌ) .
(وللكافرين النارُ) ، أي عذابها.
والاختصاص، نحو: إن لَه أباً، كان له إخوةٌ.
والملك، نحو: (لَه ما في السماوات وما في الأرض) .
والتعليل، نحو: (إنه لِحبِّ الخَيْرِ لَشَدِيد) ، أي وإنه من
أجل حبِّ المال لَبَخِيل.
(وإذْ أخذَ اللَّهُ مِيثاقَ النبيين لِمَا آتيْتكم من كتابِ وحِكْمَة ... ) .
في قراءة حمزة، أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب والحكمة، ثم لمجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدِّقاً لما معكم لتؤمِننّ به، ولتنصرنه، فما
مصدرية واللام تعليلية.
وقوله: (لإيْلاَفِ قريش) .
وتعلقها بـ (يعبدوا) .
وقيل بما قبله، أي فجعلهم كعَصْف مأكول، لإيلاف قريش.
ورجَح بأنههما في مصحف عثمان سورة واحدة.
وموافقة إلى، نحو: (بأن ربَّك أوحى لها) .
(كلّ يَجْرِي لأجَلٍ مسَمًّى) .
وعلى، نحو: (ويَخرّون لِلأذْقَان) .
(دَعَانَا لِجنبِهِ) .
(وَتَلّهُ لِلْجَبين) .
(وإن أسَاتم فَلها) .
(لهم اللعنة) ، أي عليهم، كما قال الشافعي.
وفي، نحو: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
(لاَ يُجَلِّيهَا لوَقْتِها إلاَّ هو) .
(يا لَيْتَنِي قدّمْت لِحَياتي) ، أي في حياتي.
وقيل هي فيها للتعليل، أي لأجل حياتي في الآخرة.
و (عند) في قراءة الجَحْدَري: (بل كذّبوا بالحقّ لما جاءهم) .
وبعد، نحو: (أقِم الصلاةَ لدلوكِ الشمس) .
وعن، نحو: (قال الذين كفروا للذِين آمَنوا لو كَان خيراً ما سبَقونا إليه) .(2/284)
أي عنهم وفي حقّهم، لأنهم خاطبوا به المؤمنين.
وإلا لقيل ما سبقْتمونا.
والتبليغ، وهي الجارّة لاسم السامع لقول أو ما في معناه، كالإذْن.
والصيرورة، وتسمى لام العاقبة، نحو: (فالْتَقَطَه آل فِرْعَوْن ليكون لهم
عَدواً وحَزناً) ، فهذا عاقبة التقاطهم لا علّته، إذ هي التبني.
ومنع قوم ذلك، وقالوا: هي للتعليل مجازاً، لأن كونه عدوا لما كان ناشئاً عن الالتقاط وإن لم يكن غَرَضاً لهم، فنزّل منزلة الغرض على تقدير المجاز.
وقال أبو حيان: الذي عندي أنها للتعليل حقيقة، وأنهم التقطوه ليكون لهم عدواً، وذلك على حذف مضاف تقديره لمخافة أن يكون، كقوله: (يتيِّن الله لكم أنْ تَضِلوا) ، أي كراهة أن تضلوا.
والتأكيد، وهي الزائدة أو القوية للعامل الضعيف لفرعية أو تأخير، نحو:
(رَدِفَ لَكم) .
(يريد الله ليبيِّن لكم) .
(وأمِرْنا لِنسْلِمَ) .
(فَعّال لِمَا يريد) .
(إن كنْتم للرؤيا تَعْبرون) .
(وكنّا لِحكْمِهم شاهِدين) .
والتبيين للفاعل أو المفعول، نحو: (فَتعْساً لهم) .
(هيهات لِما توعدون) .
(هَيْت لك) .
والناصبة هي لام التعليل، وادعى الكوفيون النصب بها.
وقال غيرهم بأن مقدرة في محل جر باللام.
والجازمة هي لام الطلب، وحركتها الكسر.
وسُلَيم يفتحونها، وإسكانها بعد الواو والفاء أكثر من تحريكها، نحو، (فلْيَستَجِيبوا لي وليؤمِنوا بي) .
وقد تسكن بعد ثمّ، نحو: (ثمّ ليقْضوا تفَثَهم) .
وسواء كان الطلب أمراً، نحو: (لِينْفِقْ ذو سَعَةٍ) .
أو دعاء، نحو: (ليَقْضِ علينا ربّك) .(2/285)
وكذا لو خرجت إلى الخبر، نحو: (فَلْيَمْددْ له الرَّحْمن مَدًّا) .
(ولْنَحْمِل خطاياكم) .
أو التهديد، نحو: (فمَنْ شاء فليؤمِنْ ومَنْ شاء فَلْيَكْفر) .
وجزمها فعلَ الغائب كثير، نحو: (فَلْتَقُمْ طائفةٌ منهم معكَ وليَأخذوا
أسلحتَهم) .
(فليكونوا من وَرَائكم ولتأت طائفةٌ) .
فلْيُصَلوا معك) .
وفعل المخاطب قليل، ومنه: (فبذلك فلْتَفْرَحوا) - في قراءة التاء.
وفعل التكلم أقل، ومنه: (ولنَحْمِلْ خطاياكم) .
***
وغير العاملة أربع:
لام الابتداء، وفائدنها أمران: توكيد مضمون الجملة، ولهذا زَحْلقوها في
باب إن من صدر الجملة كراهة توالي مؤكَدين.
وتخليص المضارع للحال.
وتدخل في المبتدأ، نحو: (لأنْتمْ أشدُّ رَهْبَةً في صدورهم من الله) .
وفي خبر إن، نحو: (إنّ رَبي لسميع الدعاءَ) .
(إنّ ربك ليَحْكم بينهم) .
(وإنّكَ لعَلَى خلق عظيم) .
واسمها المؤخر، نحو: (إنّ علينا لَلْهدَى وإن لنا للآخِرَة) .
واللام الزائدة في خبر أن المفتوحة، كقراءة سعيد بن جبير: (إلاَّ أنهم
ليَأكلونَ الطعامَ) .
والمفعول، كقوله تعالى: (يَدْعو لمن ضرَّه أقْرَبُ مِنْ نَفْعِه) .
ولام الجواب للقسم أو "لو" أو لولا، نحو: (تَاللَهِ لَقَدْ آثركَ الله عَلَيْنَا) .
(تَاللهِ لأكِيدَنّ أصنامَكم) .
(لو تَزَيَّلوا لعذَّبْنَا)
(ولولا دفْع اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرْض) .(2/286)
واللام الموطّئة، وتسمى المؤذِنة، وهي الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن
الجواب بعدها مبنيّ على قَسم مقدَّر، نحو: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) .
وخرّج عليه قراءة قوله تعالى: (لَمَا آتيْتُكمْ مِنْ كتابٍ وحِكمة) .
(لا) : على أوجه: أحدها أن تكون نافية، وهي أنواع:
أحدها: أن تعمل عمل إنَّ، وذلك إذا أريد بها الجنس على سبيل
التنصيص، وتسمى حينئذ تبرئة، وإنما يظهر نصبها إذا كان اسمها مضافاً أو
شبهه، وإلا فيركّب معها، نحو، لا إله إلّا الله.
(لا ريب فيه) .
فإن تكرّرَتْ جاز التركيب والرفع، نحو: (فلا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جدَال) .
(لا بيْعٌ فيه ولا خُلّة ولا شَفَاعة) .
(لا لغْو فيها ولا تاثيم) .
ثانيها: أن تعمل عمل ليس، نحو: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبْرَ إلّا في
كتابٍ مُبِين) .
ثالثها ورابعها: أن تكون عاطفة أو جوابية.
ولم يقَعَا في القرآن.
خامسها: أن تكون على غير ذلك، فإن كان ما بعدها جملة اسمية صدرها
معرفةٌ أو نكرة ولم تعمل فيها، أو فعلاً ماضياً لفظا أو تقديرا وجب تكرارها، نحو: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) .
(لا فيها غَوْل ولا هُمْ عنها يُنزَفون) .
(فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى) .
أو مضارعا لم يجب، نحو: (لا يُحِبّ الله الجَهْرَ بالسّوءَ مِنَ القَوْلِ إلَّا منْ
ظلم) .
(قُلْ لا أسالُكم عليه أجراً) .(2/287)
وتعترض (لا) هذه بين الناصب والمنصوب، نحو: (لئلا يكون للناس) .
والجازم والمجزوم، نحو: (إلّا تَفْعَلوه) .
والوجه الثاني: أن تكون لطلب التّرْك، فتختص بالمضارع، وتقتضي جَزْمه
واستقباله، سواء كان نهياً، نحو: (لا تتّخذوا عَدوي) .
(لا يَتّخِذِ المؤمنون الكافرين) .
(ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بينكم) .
أو دعاء، نحو: (لا تؤاخِذنا) .
الثالث: التأكيد، وهي الزائدة، نحو: (ما مَنعكَ ألاَّ تسجد) .
(ما منعكَ إذ رأيتَهم ضَلُّوا ألَّا تَتّبِعَنِ) .
(لئلاّ يعْلم أهْل الكتاب) ، أي ليعلموا.
قال ابن جني: لا هنا مؤكّدة قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى.
واختلف في قوله: (لا أقسِم بيَوْم القيامة) ، فقيل زائدة، فائدتها مع التوكيد التمهيد لنفي الجواب، والتقدير: لا أقسم بيوم القيامة لا
تتركون سدى.
ومثله: (فَلاَ وَربّكَ لا يؤمنون حتى يحَكَموك) ، ويؤيده قراءة "لأقسم".
وقيل: لا نافية لا تقدم عنهم من إنكار البعث، فقيل لهم:
ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم.
قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن كله
كالسورة الواحدة، ولذا يذْكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى نحو:
: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) .
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) .
وقيل: منفيّها أقسم على أنه إخبار لا إنشاء.
واختاره الزمخشري، قال:
والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له، بدليل: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) .
فكأنه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام، أي أنه يستحق إعظاماً فوق ذلك.
واختلف في قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، فقيل نافية. وقيل ناهية. وقيل زائدة.(2/288)
وفي قوله: (وحَرَامٌ على قَرْيةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون) ، فقيل: زائدة.
وقيل نافية والمعنى ممتنع عدم رجوعهم إلى الآخرة.
تنبيه:
تَرِد (لا) اسماً بمعنى غير، فيظهر إعرابُها فيما بعدها، نحو: (غَيْرِ
المغضوب عليهم ولا الضالّين) ، (لا مقطوعة ولا ممنوعةٍ) ، (لاَ فَارِضٌ ولا بِكرٌ) .
فائدة
قد تحذف ألفُها، وخرَّج عليه ابنُ جني: (واتقُوا فِتْنَةً لَتُصِيبَنّ الذين ظَلَمُوا
منكم خَاصة) .
(لات) : اختلف فيها، فقال قوم: فعل ماض بمعنى نقص.
وقيل أصلها ليس، تركت الياء فقُلبت ألفاً لانفتاح ما قبلها، وأبدلت السين تاء.
وقيل هي كلمتان: لا النافية زيدت عليها التاء لتأنيث الكلمة، وحركت لالتقاء الساكنين، وعليه الجمهور.
وقيل هي لا النافية والتاء زائدة في أول الحين.
واستدل له أبو عبيدة بأنه وجدها في مصحف عثمان مختلطة بحين في الخط.
واختُلف في عملها، فقال الأخفش: لا تعمل شيئاً، فإن تلاها مرفوع فمبتدأ
وخبر، أو منصوب فبِفِعْل محذوف، فقوله تعالى: (ولاتَ حينُ) - بالرفع، أي كائن لهم.
وبالنصب أى لا أرى حيْنَ مناص.
وقيل تعمل عمل إن.
وقال الجمهور: تعمل عمل ليس، وعلى كل قول لا يُذكر بعدها إلا أحد
المعمولين، ولا تعمل إلا في لفظ الحين.
قيل: أو ما رَادَفَهُ.
قال الفراء: وقد تستعمل حرف جر لأسماء الزمان خاصة.
وخرّج عليه - قراءة: ولات حينٍ - بالجر.(2/289)
(لا جَرَم) : وردت في القرآن في خمسة مواضع:
الأول في هود، وثلاثة في النحل، والخامس في غافر، متلوّة بأنّ واسمها ولم يجئ بعدها فعلٌ.
واختلف فيها، فقيل: لا نافية لما تقدّم، و" جَرَم " فعل معناه حق، وأن مع ما في حَيّزها فاعله.
وقيل: زائدة، و " جرم " معناه كسب، أي كسب لهم عملهم الندامة، وما في حيّزها في موضع نصب.
وقيل: هما كلمتان، رُكِّبتَا وصار معناها حقاً.
وقيل معناها لا بد، وما بعدها في موضع نصب بها بإسقاط حرف الجرّ.
(لكنَّ) - مشدّدة النون: حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر.
ومعناه الاستدراك، وفُسِّرَ بأن ينسب لما بعدها حكماً مخالفا لحكم ما قبلها، ولذلك لا بد أن يتقدمها كلامٌ مخالف لما بعدها أو مناقض له، نحو: (وما كفر سُلَيْمان ولكنَّ الشياطينَ كفَروا) .
وقد ترد للتوكيد مجرداً عن الاستدراك، قاله صاحب البسيط، وفسر
الاستدراك برفع ما توهّم ثبوته، نحو: ما زيد شُجاع، لكنه كريم، لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان، فَنفي أحدهما يوهم نَفْي الآخر.
ومثَّل للتوكيد بنحو: لو جاءني أكرمته، لكنه لم يجئ، فأكدت ما أفادته (لو) من الامتناع.
واختار ابن عصفور أنها لهما معاً، وهو المختار، كما أن كأنَّ للتشبيه المؤكد، ولهذا قال بعضهم: إنها مركبة من لكن أن فطُرِحَت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين.
(لكنْ) - مخففة: ضربان:
أحدهما: مخفَّفة من الثقيلة، وهي حرف ابتداء لا تعمل، بل لمجرد إفادة
الاستدراك، وليست عاطفة لاقترانها بالعاطف في قوله: (ولكنْ كانُوا هُم
الظالمين) .(2/290)
والثاني: عاطفة إذا تلاها مُفرد، وهي أيضاً للاستدراك، نحو: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) النساء: 1166.
(لكنِ الرسولُ) .
(لكنِ الذين اتَقوْا ربَّهم) .
ويأتي لدي، ولدن، عند حرف العين في (عند) .
(لَعلَّ) حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر.
وله معان، أشهرها التوقع، وهي
الترجي في المحبوب، نحو: (لعَلَّكم تفْلحون) .
والإشفاق في المكروه، نحو: (لعلّ الساعةَ قَرِيب) .
وذكر التَّنوخي أنها تفيد توكيد ذلك.
الثاني: التعليل، وخرّج عليه: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) .
الثالث: الاستفهام، وخرّج عليه: (لا تدْرِي لعلَّ اللهَ يحْدِث بَعْدَ ذلك
أمْراً) .
(وما يُدْرِيكَ لعلهُ يزَّكى) ؛ ولذا علق (يدري) .
قال في البرهان: وحكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من
(لعلَّ) فإنها للتعليل، إلا قوله تعالى: (لعلكم تَخْلُدون) .
قال: وكونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، ووقع في صحيح البخاري في قوله: (لعلكم تَخْلُدون) - أن لعل للتشبيه.
وذكر غيره أنها للرجاء المحض، وهو بالنسبة إليهم.
قلت: أخرج ابن أبي حاتم من طريق السديّ عن أبي مالك، قال: (لعلكم)
في القرآن بمعنى (كي) ، غير آية في الشعراء: (لعلكم تخْلُدون) ، بمعنى كأنكم تَخْلُدون.
وأخرج عن قتادة قال: كان في بعض القراءة: "وتَتخِذونَ مصانعَ كأنكم
خالدون".(2/291)
(لم) : حرف جزم لنفي المضارع وقلْبه ماضياً، نحو: (لم يَلِدْ ولم يُولَدْ) .
والنصب بها لغة - حكاه اللحياني.
وخرَّج عليه قراءة: ألم نشرحَ.
(لمَّا) : على أوجه: أحدها: أن تكون حرف جزم، فتختصّ بالمضارع
وتنفيه وتقلبه ماضياً، كـ لم، لكن يفترقان من أوجه:
أحدها: أنها لا تقترن بأداة شرط، ونفيها مستمر إلى الحال أو قريب منه.
ومتوقع ثبوته.
قال ابن مالك في: (لما يَذُوقُوا عَذَاب) : المعنى لم يذوقوه، وذَوْقه لهم متوقع.
وقال الزمخشري في: (ولَمَّا يَدْخُل الإيمانُ في قلوبكم) ، - ما في (لَمَّا) بمعنى التوقع، دالٌّ على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ، وأن نفيها
آكد من نفي لم، فهي لنفي قد فُعل، ولم لنفي فَعَل، ولهذا قال الزمخشري في
الفائق تبعاً لابن جني: إنها مركبة من (لم) و (ما) ، وإنهم لما زادوا في
الإثبات (قد) زادوا في النفي (ما) ، وإن منفيّ لما جائز الحذف اختياراً.
بخلاف لم، وهي أحسنُ ما يخرج عليه: (وإنْ كُلاًّ لمَا ليُوَفيَنَّهُم ربك أعمالهم) ، أي لما يُهملوا أو يتركوا، قاله ابن الحاجب.
قال ابن هشام: ولا أعرف وجهاً في الآية أشبه من هذا، وإن كانت النفوسُ
تستبعده، لأن مثله لم يقع في التنزيل.
قال: والحق لا يُستبعد، لكن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم، أي أنهم إلى الآن لم يوفوها وسيوفّوها.
الثاني: أن تدخل على الماضي، فتقتضي جملتين، وُجدت الثانية عن وجود
الأولى، نحو: (فلما نَجّاكُمْ إلى البر أعْرَضْتُم) .
ويقال فيها حرف وجود لوجود.
وذهب جماعة إلى أنها حينئذ ظرف بمعنى حين.
وقال ابن مالك: بمعنى إذْ، لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة.(2/292)
وجواب هذه يكون ماضياً كما تقدم، وجلة اسمية بالفاء أو بإذا الفجائية، نحو: (فلما نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ فمنهم مُقْتَصِد) .
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) .
وجوّز ابن عصفور كونه مضارعاً، نحو: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا) .
وأوّله غَيْره بـ (جادَلَنَا) .
الثالث: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الاسمية والماضية، نحو: (إنْ
كُلّ نَفْسٍ لمَا عَلَيْهَا حافِظٌ) - بالتشديد، أي (إلَّا) .
(وإنْ كلّ ذلك لما متَاع الحياة الدنيا) .
(لن) : حرف نصب ونفْي واستقبال.
والنفي بها أبلغُ من النفي بلا، فهي ْلتأكيد النفي، كما ذكره الزمخشري وابن الخباز، حتى قال بعضهم: إن منعه مكابرة، فهي لنفي (إني أفعل) ، و (لا) لنفي (أفعل) ، كما في (لم) ، و (لا) .
قال بعضهم: العرب تنفي المظنون بِلن والمشكوك بلا.
ذكره ابن الزَّملكانيّ في التبيان، وادّعى الزمخشري أيضاً أنها لتأبيد النفي، كقوله تعالى: (لن يخْلُفوا ذُبَابا) ، (ولن تَفْعَلوا) .
قال ابن مالك: وحمله على ذلك اعتقاده في (لن تَرَاني) أنَّ الله لا يُرى.
وردّه غيره بأنها لو كانت للتأبيد لم يقيّد منفيها باليوم في: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، ولم يصح التوقيت في: (لن أبْرحَ الأرض حتى يأذن لي أبي) .
(لن نَبْرَح عليه عَاكِفين حتى يرجعَ إلينا موسى) .
ولكان ذكر الأبد في: (لن يتمنَوْه أبداً) - تكرار.
والأصل عدمه.
واستفادة التأبيد في: (لن يخْلُفوا ذُبَابا) .
ونحوه، من خارج.
ووافقه على إفادة التأبيد ابن عطية.
وقال في قوله: (لن تراني) : لو أبقينا على
هذا النفي لتضمن أن موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة، لكن ثبت في الحديث المتواتر أن أهل الجنة يرونه.(2/293)
وعكس ابن الزملكاني مقالة الزمخشري، فقال إن (لن) لنفي ما قرب وعدم
امتداد النفي، و (لا) يمتد معها النفي.
قال: وسِرّ ذلك أن الألفاظ مشاكلةٌْ للمعاني، ولأن آخرها الألف فاللام يمكن امتداد الصوت بها بخلاف النون، فطابق كلّ لفظ معناه.
قال: ولذلك أتى بلن حيث لم يرد به النفي مطلقاً، بل في
الدنيا حيث قال: (لن تراني) ، وبلا في قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) حيث أراد
نفي الإدراك على الإطلاق.
وهو مغَاير للرؤية.
وتَرِد للدعاء، وخرج عليه: (ربِّ بما أنعمْتَ عليَّ فَلَنْ أكونَ ظَهيراً
للمجْرِمين) .
(لو) : حرف شرط في المضي تصْرِف المضارعَ إليه، بعكس (إن)
الشرطية.
واختلف في إفادتها الامتناع، وكيفية إفادتها إياه على أقوال:
أحدها: أنها لا تفيده بوجه، ولا تدل على امتناع الشرط ولا امتناع
الجواب، بل هي لمجرد رَبْطِ الجواب بالشرط دالة على التعليق في الماضي، كما دلت إن على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت.
قال ابن هشام: وهذا القول كإنكار الضروريات: إذ فَهْم الامتناع منها
كالبديهي، فإن كل من سمع " لو فعل " فَهمَ عدم وقوع الفعل من غير تردد، ولهذا جاز استدراكه، فتقول: لو جاء زيد لأكرمته لكنه لم يجئ.
الثاني: وهو لسيبويه، قال: إنها حرف لِمَا سيقع لوقوع غيره، أي تقتضي
فعلاً ماضياً كان يتوع ثبوته لثبوت غيره، والمتوقع غير واقع، فكأنه قال:
حرف يقتضي فعلاً امتنع لامتناع ما كان يثبت لثبوته.
الثالث: وهو المشهور على ألسنة النحاة ومشى عليه المعربون - أنها حرف
امتناع لامتناع، أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فقولك: " لو جئت لأكرمتك " دالٌّ على امتناع الإكرام لامتناع المجيء.(2/294)
واعترض بعدم امتناع الجواب في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) .
(ولو أسمعهم لتَولَّوْا وهم معْرِضون) ، فإن عدم النفاد عند فَقْد ما ذكر، والتولِّي عند عدم الإسماع أولى.
الرابع: وهو لابن مالك - أنها حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه
من غير تعرّض لنفي التالي، قال: فقيام زيد في قولك: لو قام زيد لقام عمرو
محكوم بانتفائه، وبكونه مستلزماً ثبوته لثبوت قيام عَمْرو.
وهل لعمرو قيام آخر غير اللازم عن قيام زيد أو ليس له، لا تعرّض لذلك.
قال ابن هشام: وهذه أجود العبارات.
فوائد
الأولى: أخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحّاك عن ابن عباس، قال: كل
شيء في القرآن (لو) فإنه لا يكون أبداً.
الثانية: تختص (لو) المذكورة بالفعل.
وأما نحو: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) ، فعلى تقديره.
قال الزمخشري: وإذا أوقعت أن بعدها وجب كَوْن خبرها فعلاً، ليكون عوضاً عن الفعل المحذوف.
وردّه ابن الحاجب بآية: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) .
وقال: إنما ذلك إذا كان مشتقاً لا جامداً.
ورده ابن مالك بقوله:
لو أنَّ حيّاً مدرك الفلاح ... أدركه ملاعِب الرّماح
قال ابن هشام: وقد وجدث آيةً في التنزيل وقع فيها الخبر اسماً مشتقاً ولم
ينتبه لها الزمخشري، كما لم ينتبه لآية لقمان، ولا ابن الحاجب، وإلا لما منع ذلك، ولا ابن مالك وإلّا لما استدل بالشعر، وهي قوله تعالى: (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ) .(2/295)
ووجدث آيةً الخبر فيها ظرف، وهي: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ) .
وردّ ذلك الزركشي في البرهان وابن الدماميني - بأنّ (لو) في الآية الأولى
للتمني، والكلام في الامتناعية.
وأعجب من ذلك أن مقالة الزمخشري سبقه إليها السِّيرافيّ.
وهذا الاستدراك وما استدرك به منقول قديما في شرح الإيضاح لابن
الخباز، لكن في غير مظنته، فقال في باب " إنَّ وأخواتها ": قال السِّيرافي تقول: لو أن زيدا قام لأكرمته.
ولا يجوز لو أن زيداً حاضر لأكرمته، لأنك لم تلفظ بفعل يسد مسدَّ ذلك الفعل.
هذا كلامه.
وقد قال الله تعالى: (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ) .
فأوقع خبرها صفة، ولهم أن يفرقوا بأن هذه للتمني فأجريت مجرى ليت، كما تقول ليتهم بادون.
انتهى كلامه.
وجواب لو إما مضارع منفي، أو ماض مثبت أو منفي بما.
والغالب على المثبت دخول اللام عليه، نحو: (لو نشاء لجعلناه حُطَاماً) .
ومِنْ تجرده: (لو نَشاء جعلناه أجَاجاً) .
والغالب على المنفي تجرّده، نحو: (ولو شاء رَبُّكَ ما فَعَلوه) .
الثالثة: قال الزمخشري: الفرق بين قولك: لو جاءني زيد أكرمته.
ولو زيد جاءني لكسوته، ولو أن زيداً جاءني لكسوته - أن القصد في الأول مجرد ربط الفعلين وتعليق أحدهما بصاحبه لا غير، مِنْ غَيْرِ تعرض لمعنى زائد على التعلق الساذج.
وفي الثاني انضم إلى التعلق أحد معنَيين، إما نَفي الشك والشبهة، وأن المذكور مكسو لا محالة.
وإما بيان أنه هو المختص بذلك دون غيره.
ويخرّج عليه آية: (قل لو أنتم تملِكون) .
وفي الثالث مع ما في الثاني زيادة التأكيد الذي تعطيه (أن) ، وإشعار بأن زيدا كان حقه أن يجيء وأنه بتركه المجيء قد أغفل حظّه.
ويخرج عليه: (ولو أنهم صَبَروا) .
ونحوه، فتأمل ذلك.
وخرج عليه ما وقع في القرآن من أحد الثلاثة.(2/296)
تنبيه:
ترد (لو) شرطية في المستقبل، وهي التي يصلح موضعها إنْ، نحو: (ولو
كَرِهَ المشركون) .
(ولو أعجبكَ حُسنُهُنَّ) .
ومصدرية، وهي التي يصلح موضعها أنَّ المفتوحة، وأكثر وقوعها بعد
(ودَّ) ونحوه، نحو: (وَدّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم) ، (يود أحَدهم لو يعَمَّرُ ألْفَ سنة) .
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) .
أي يود التعمير والافتداء.
وللتمني، وهي التي يصلح موضعها ليْت، نحو: (فلو أنَّ لنا كَرَّه فنكونَ) .
ولهذا نصب الفعل في جوابها.
والتعليل، وخرج عليه: (ولَوْ عَلَى أنفسكم) .
(لولا) على أوجه:
أحدها: أن تكون حرف امتناع لوجود، فتدخل على الجملة الاسمية ويكون
جوابها فعلاً مقروناً باللام إن كان مثبتأ، نحو: (فلولا أنّه كان من المسَبِّحِين.
للبث) .
ومجرداً منها إنْ كان منفياً، نحو: (لولا فَضْل اللَهِ عليكم ورَحْمَته ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً) .
وإن وليها ضمير فحقّه أن يكون ضمير رَفْع، نحو: (لولا أنْتُم لكنّا مؤمنين) .
الثاني: أن تكون بمعنى هلاّ، فهي للتحضيض والعَرْض في المضارع أو ما في
تأويله، نحو: (لولا تستغفِرونَ اللهَ لعلّكم ترْحَفون) .
(لولا أخَّرْتَني إلى أجَلٍ قَرِيب) .
وللتوبيخ والتنديم في الماضي، نحو: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) ، (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) .(2/297)
(ولولا إذ سمِعْتُموه قلْتُم) .
(فلولا إذ جاءهم بَأْسنَا تَضَرَّعوا) .
(فلولا إذا بلغَت الحلْقوم) .
(فلولا إنْ كُنْتُم غَيْرَ مَدِينين) .
الثالث: أن تكون للاستفهام، ذكره الهروي، وجعل منه: (لولا
أخَّرْتَني) ، (لولا أُنْزِلَ عليه مَلَك) .
والظاهر أنها فيهما بمعنى هلاّ.
الرابع: أن تكون للنفي، ذكره الهروي أيضاً، وجعل منه: (فلولا كانت
قريةٌ آمنَتْ فنفَعها إيمانُها) ، أي فما آمنت قرية، أي أهلها عند
مجيء العذاب فنفَعَها إيمانها.
والجمهور لم يُثبتوا ذلك، وقالوا: المراد في الآية
التوبيخ على ترك الإيمان قبل مجيء العذاب.
ويؤيِّده قراءة أبيّ: فَهَلاَّ.
والاستثناء حينئذ منقطع.
فائدة
نقِل عن الخليل أن جميع ما في القرآن من (لولا) فهي بمعنى هلا، إلا:
(فلولا أَنه كانَ مِنَ المسَبِّحين) .
وفيه نظر لما تقدّم من الآيات.
وكذا قوله: (لولا أنْ رأى برْهَانَ رَبّه) ، (لولا) فيه امتناعية جوابها محذوف، أي لهَمَّ بها، أو لواقعها.
وقوله: (لولا أنْ مَنَّ اللَّهُ علينا لخسفَ بنا) .
وقوله: (لولا أنْ رَبطْنَا على قَلْبِها) ، أي لأبْدَتْ به، في آيات أخرى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى الْخَطْمِي، حدثنا هارون بن أبي حاتم، حدثنا
عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، قال: كل ما في القرآن (فلولا) فهو: (فهلاَّ) ، إلا حَرْفَين: في يونس: (فلولا كانَتْ قريةٌ آمنَتْ فنفَعَها إيمانها) ، يقول: فما كانت قرية.
وقوله: (فلولا أنَّه كان من المسبِّحين) .(2/298)
وبهذا يتضح مراد الخليل، وهو أن مراده (لولا) المقرونة بالفاء.
(لَوْمَا) : بمنزلة لولا.
قال تعالى: (لَوْمَا تَأتينا بالملائكة) .
المالقي: لم ترد إلاَّ للتحضيض.
(ليت) : حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، معناه التمني.
وقال التنوخي: إنها تفيد تأكيده.
(ليس) : فعل جامد، ومن ثَمَّ ادَّعى قوم حرفيته، ومعناه نفي مضمون
الجملة في الحال، وينفي غيره بالقرينة.
وقيل: هي لنفي الحال وغيره.
وقَوَّاة ابن الحاجب بقوله تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) ، فإنه
نفي للمستقبل.
قال ابن مالك: وترد للنفي العامّ المستغرق المراد به الجنس، كلا التبرئة.
وهو مما يُغفل عنه، وخرَّج عليه: (ليس لهم طعامٌ إلاَّ مِنْ ضَرِيع) .(2/299)
(حرف الميم)
نبينا ومولانا (محمد - صلى الله عليه وسلم -) : سمَّاه الله في القرآن بأسماء كثيرة، وقد قدمنا أن تعالى اشتق له من اسمه سبحانه نحو السبعين، واختلف هل تُحْصَى أسماؤه.
والصحيح: لا تحصى أسماء الله وأسماء رسوله، لأن كمالاتهما لا حَصْرَ لها.
ومِنْ أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم - القرآن الْمعْجِز للخلْق عن الإتيان بمثله، فعلومه منه أجمع، ورثت أمته من علومه ما هو أوفر وأسطع، فأجورهم وأنوارهم مِنْ بركته - صلى الله عليه وسلم -
لامعة، وقد ستر الله عليهم ما لم يقبل من عملها، ولم تُعَاجل عصاتُها، فهم خير أمة وأقل عملاً، وصفوتهم كالملائكة، وهم ثلثا أهل الجنة، ويدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب، ومع كل واحد منهم سبعون ألفا وثلاثة حثَيَاتٍ تفضّلاً منه وامتناناً، وهذه لا يدْرَى ما عددها، وهم أوَّلُ مَنْ يقضى لهم، ويدخل الجنة، نسأل الله بجاهه أن يهب لنا الحياة بسنته والوفاة على مِلَّته.
واعلم أن كل كمال في الخلق ظاهرًا أو باطناً فقد جمعه - صلى الله عليه وسلم - بأكمل مزيد مع ما تفرَّد به، ورؤيته - صلى الله عليه وسلم - بمنام تعريف منه تعالى بمثال له شكلٌ ولَوْنٌ وصورةٌ، والروح منزَّه عن ذلك.
وكل من تراه في المنام إنما هو مثال محسوس لا رُوحه
وجسده، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من رآني في المنام فقد رآني، أي كأنه.
وفي رواية في الصحيح: فكأنما رآني.
فالرؤيا واسطة بينه وبين أمَّته تعريفاً منه تعالى.
قيل للأرواح قوة التشكل كالملائكة والجن بما لا يخفى، نحو: (فتمَثَّلَ لها بَشَرًا
سَوِيّا) .
وكتمثّل جبريل عليه السلام بصورة دِحْية الكلبي، وهذا
للخاصة ولغيرهم تعريف بمثال، ولا يجب العمل بمنام لعدم ضبط الرائي، ومتى(2/300)
صدقت الرؤيا فحقّ، وحقيقة تعبيرها هو نظر في المناسبات، كتمثيل السلطان في المنام بالشمس والسبع، والوزير بالقمر لنوع مناسبة، فافهم.
فإن قلت: أين تكون روح جبريل حين يَلْقَى نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، هل في الجسد الذي يشبه دِحْيَة، أو في الجسد الذي خُلق عليه، وله ستمائة جناح، فإن كانت في الجسد الأعظم فمن الذي أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمن جهة روحه أو من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبّه بجسد دِحْية فهل يموت الجسد الذي
له ستمائة جناح كموت الأجساد التي فارقتها الأرواح، أم يبقى خالياً من الروح المنتقل منه إلى الجسد المشبه بجسد دِحْية الكلبي؟
قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته، فيبقى.
لأن موت الأجسام بمفارقة الأرواح ليس واجباً عَقْلاً كذلك الجسد، حتى لا
ينقص من معارفه وطاعاته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح المؤمنين إلى أجْوَافِ الطير الخضر، إذ ليس موتُ الأجساد بمفارقة الأرواح واجباً في العقل، وإنما هو بعَادة مُطَّرِدة أجراها اللهُ تعالى في أرواح بني آدم، وانتقالُ أرواح الشهداء إلى أَجواف الطير الْخُضْر مشتبه بما يقوله أهل التناسخ.
والأرواح كلّها تنتقل يوم القيامة إلى هذه الأجساد، لكنها تعظم حتى
يصير ضِرْسُ الكافر مثل أحُد، وغِلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، ومقعده كما بين مكة إلى المدينة، وأجساد المؤمنين على هيئة جسد آدم ستون ذراعاً في السماء، فما الديار الديار، ولا الخيام الخيام.
(موسى عليه السلام) : هو ابن عِمْران بن يصْهر بن فاهث بن لاوى بن
يعقوب عليه السلام، لا خلاف في نسبه، وهو اسم سُرْياني.
وأخرج أبو الشيخ، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: إنما سمي موسى لأنه ألْقِي بين شجر وماء، فالماء بالقبطية مُو، والشجر سا.
وفي الصحيح أنه وصف بأنه آدم طوال، كأنه مِنْ رجال شنوءة.
قال الثعلبى: عاش مائة وعشرين سنة.(2/301)
(الْمَغضُوبِ عليهم) : هم اليهود.
(ولا الضالين) : النصارى.
بهذا فسّره - صلى الله عليه وسلم -.
وسيأتي ذِكْرُ ذلك.
وتكرار (لا) في قوله: (ولا الضالين) - دليل على تغاير الطائفتين.
وإن الغضبَ صفة اليهود في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: (وَبَاؤوا بغَضب مِنَ اللهِ) .
والضلال صفة النصارى، لاختلاف أقوالهم الفاسدة
في عيسى ابن مريم عليهما السلام، ولقول الله فيهم: (قد ضَلَّوا من قَبْلُ وأضَلوا كثيراً وضَلّوا عن سَواء السبيل) .
(مرض) : يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه
من الخوف وغيره، وأن يكون مجازاً للشكّ أو الحسد.
ويقال أصل المرض الفتور، فالمرض في القَلْبِ فُتُورٌ عن الحق.
وفي الأبدان فتورُ الأعضاء.
وفي العيون فُتور عن النَّظَر.
(مَنّ) : شِبْه العَسَل.
وقيل خُبْز النَّقِيّ.
والسلوى طائر.
وقيل: إنه كان يسقط في السحر على شجَرِهم فيَجْتَنونه
ويَأْكلونه.
وقيل: المن التَّرَنْجَبِين.
والمنّ أيضاً ذِكْرُ الإنعام والعطية.
ومنه: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) .
والمنّ أيضاً: القطع.
ومنه: (لهم أجْر غَيْرُ مَمْنُون) .
(مَسْكنَة) : الفاقة، وقيل الجزية.
وقيل: المسكنة فَقْرُ النَّفْسِ، لا يوجد يهودي مُوسِر ولا فقير غنيّ النفس أبداً، وإن تعمل لإزالة ذلك عنه
(مَجُوس) : هم الذين يعبدون النارَ، ويقولون: إن الخير من النور والشرّ
من الظلمة، تعالى الله عن قولهم.
وذكر الجواليقي أنه أعجمي.
(مَتَ - صلى الله عليه وسلم -: أي ما يتمتَّع به إلى حين الموت.(2/302)
(مَثُوبَة) : من الثواب، وهو جواب (لو أنهم) ، وإنما جاء
جوابها بجملة اسمية، وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره.
وقيل الجواب محذوف.
(مَثَابة) : اسم مكان، من قولك: ثاب، إذا رجع، لأنَّ
الناس يرجعون إليه عاماً بعد عام.
ويقال: ثاب جسم فلان إذا رجع بعد نحولِه.
(مَنَاسِكَنَا) : أي شعائرنا، واحدها مَنْسِك، ومَنْسَك.
وأصل المنسك من الذّبح، ويقال: نسكت، أي ذبحت.
والنسيكة الذَّبيحة الْمتَقَرَّبُ بها إلى الله تعالى، ثم اتسعوا فيه حتى جعلوه لموضع العبادة والطاعة.
ومنه قيل للعابد: ناسك.
(مَشْعَر) : مَعْلم لتعبّد من متعبداته، وجمعه مشاعر.
والْمَشْعَر الحرام: هو مزْدلفة، ويسمى أيضاً جمع، والوقوف بها سنّة.
(مَيْسر) .: قمار، وكان ميسر العرب بالقِدَاح في لحم الْجَزُور، ثم يدخل في ذلك النَّرْد، والشِّطْرَنْج، وغيرهما.
وروي أن السائل عنه حمزة بن عبد الطلب.
(مَحِلَّه) : مَنْحره، يعني الوضع الذي يحلّ فيه نَحره.
(مَحِيض) ، وحيض واحد.
والسائل عن ذلك عبّاد بن بشر وأسَيْد بن حضَير، قَالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألاَ نجامِع نساءَنا في الْمَحِيض
خلافاً لليهود، فأخبر الله رسوله بأنه أذًى يجْتَنَب، وعليهم اجتنابه، وقد فسر ذلك في الحديث بقوله: لتشدّ عليها إزارها وشأنك بأعلاها.
(مَنْ ذَا الذِي يقْرِضُ اللهَ) : استفهام يرادُ به الطَّلَب
والحضّ على الإنفاق.
وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام، لأن المنفق ينتظر
الثواب كما ينتظِر المسلف ردَّ ما أسلف.
وروي أن الآية نزلت في أبي الدَّحْدَاح
حين تصدق بحائط لم يكن له غيره.(2/303)