ولم يجدوهُ على حدٍ واحدٍ ونمطٍ غيرِ مختلفِ ولا متزايدٍ في جزالة اللقظ.
وحُسن النظمِ والفصاحة، والبراعة الخارقة للعادة.
ولم يعنِ بقوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) اختلافَ قراءته واختلافاً
في تأويله وأحكامه الغامضة، فكيف يريدُ ذلك وهو تعالى قد أنزل القرآنَ
على سبعةِ أحرفٍ كلها شافٍ كاف، وقد تظاهرت الأخبارُ بذلك عن الرسول عليه السلام وأنّه أقرأهم قراءاتٍ مختلفة وصوَّبهم، فلم يقلْ له قائل منهم هذا اختلاف في التنزيل.
ولو كان الأمرُ على ما ادّعوه لم يذهب ذلك على الصحابة، ولم يجز
في مستقر العادة إضرابهم عن ذكر هذه الموافقة، وكذلك لا يجوزُ أن يكون
على اختلافه في الأحكام والتأويل، لأنّ ذلك لا يجعلُ القرآن نفسه مختلفاَ.
والله قال: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ، والاختلافُ في تأويله غيرُ الاختلافِ
في تنزيله ولا خلافَ بين أهل اللغة أن التناقضَ والكذبَ يُسمى مختلفاً
وخُلفاً من القول، ولذلك يقولون فيمن اعتقدوا فيه الكذب حديثُه مختلف.
وقد اختلفت روايتُه وقوله في هذا، وهذا خلفٌ من الكلام، والله تعالى إنما
نفى عن كلامه هذا الاختلافَ لأن ذلك يوجبُ أن يكون نفسُ كلامه
مختلفا، وليس الاختلافُ في تأويل كلامه اختلافاَ فيه، لأن اللهَ تعالى قد
نصبَ الأدلةَ القاطعةَ على مراده بالمحتمل، إما ببيانه في آيةٍ أخرى أو سنة
ثابتة أو إجماعِ من الأمة، أو دليل عقلِ وخبر جلَّ ثناؤه فيما احتملَ أموراَ
كثيرةَ من الأحكام الشرعية نحو قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، وقوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) ، وقوله: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) ، وأمثال ذلك.(2/773)
وليس يجبُ إذا اختلفَ العلماءُ في ذلك وخيَّروا فيه، إذا استوت عندهم
التأويلات، وخُيرت العامةُ في استفتاء من شاؤوا منهم أن يكونَ ذلك مصيّرا
لكتابه مختلفا، كما أنَّه لا يجبُ إذا خُير العلماءُ والعامة في الكفاراتِ الثلاثة
أن يصيرَ حكمُه مختلفا، فإذا كان ذلك كذلك ثبتَ أن التأويل في نفي
الاختلاف ما قلناه دونَ ما ظنوه.
وقد يمكنُ أيضا أن يكون تعالى عنى بقوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) عاريا من دليلِ قائمٍ على صحيحِ ما اختُلفَ فيه من فاسده، حتى
يصيرَ لِعُروِّه من ذلك مُشكلاَ مُلبسا لا سبيلَ إلى معرفة المراد بتأويله والقصد
به، ولم يُردْ نفيَ الاختلافِ الذي قامَ الدليلُ على صحّة صحيحه وبطلانِ
فاسده، فإذا كان ذلك كذلك زال ما تعلقوا به.
فأمَّا قوله تعالى: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) ، وقوله: (قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) .
فإننا قد أبنَّا الجواب عنه والمراد به فيما سلف بما يغني عن رده.
فأمَّا قوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) ، مع قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) ، والخطابُ له عند كافة أهل التأويل، والمرادُ به أمته، وهذا مما يسوغُ ويجوزُ في اللغة، ومثله قوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، الخطاب له والمقصودُ به غيره، على أنه قد يجوزُ أن يقولَ القائلُ لغيره في الأمر الذي يعلمَ أنه يحقه ويعرفه(2/774)
يقينا فإن كنتَ في شك مما قد أخبرتُك به وريبٍ مما قلتُه فسل فلانا، وسل
غيري، وإنما يوردُ ذلك على وجهِ التأكيد والتثبيت للعارفِ بما يقوله، لا على أنه في الحقيقة شاكٌّ مرتابٌ في خبره، وكذلك قد يهدد المرءُ من يعلمُ أنه لا يخالفه ولا يعصيه ويقول له: إن عصيتني عاقبتك، إذا علم أنّ ذلك لطف له في التمسك بطاعته والانزجار عن معصيته وإذا عَلِم أن سامعي توعُّده يصلحون ويرهبون سماع ذلك الوعيد، وإذا كان ذلك كذلك زالَ تعلُّقهم بالآية.
وأمَّا قوله تعالى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، فلا منافاةَ بينَه وبينَ قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) ، لأمور:
أحدها: أنه يمكنُ أن يكونَ المرادُ بقوله تبياناً لكل شيء، وهذا بيان
للناسِ على قول من وقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) .
وجعل قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، واوَ استئناف، أنه سبحانه ما
فرط فيه من شيءٍ فرضَ على المكلفين عِلْمَهُ والعمل به والمصير إلى موجبه.
وجعلهم في حرجٍ ومأثمٍ في الجهل به، أو رعاهم وندَبهم على سبيل القصد
إلى معرفته، وكذلك قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) و (بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، إنما أراد به
أنه لما ألزموه وكلفوه وأخذوا بمعرفته، ولم يرد تعالى أنه بيان لما لا نهايةَ له
من معلوماته على وجه التفصيل، ولا أنه بيان لجميع ما تُعبّد به من شرائع
من سلف من النبيين ومشتمل على شرح جميع سنن المتقدمين وأقاصيص
الأولين.
ولذلك قال: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، ولا أرادَ أنه بيان لتأويلِ ما لا يعلم تاويلَه إلا الله(2/775)
وحده، وبمعنى قوله: (كهيعَص) ، وغير ذلك من الحروف
المقطعة - في أوائل السور وغيرها من الكلمات التي لا يعلمُ معناها إلا الله
تعالى على قول من وقف عند قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) قالوا: لأن
القرآن خاص وعام، وكذلك قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، مخصوصٌ فيما ألزم الناس معرفته دون ما أسقطَ الله عنهم فرض العمل به من المتشابه وهو بمثابة قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
و (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) ، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، و (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) .
وكلُّ ذلك على الخصوص، وإن كان وارداً بلفظ العموم، وإذا ثبت هذا بطل ما تعلقوا به.
فأمَّا نحن وكثير من أماثل أهلِ العلم، فإتنا لا نعتقدُ أن للعموم صيغة
تثبتُ له، ونقولُ إنه يجب التوقيفُ والتثبتُ في قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، و (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهل أراد به الخصوص أو العموم، لأنه
عندنا كلام محتمل للأمرين جميعاً فلا مطالبة لهم علينا، والذي نختاره
ونذهبُ إليه في تأويل قوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أنه ما اشتبه ظاهره، واحتمل
تأويلات كثيرة مختلفة، واحتيجَ في معرفة المراد به إلى فحصٍ وتأمُّل، ورد
له إلى ظاهرٍ آخرَ ودليلِ عقلٍ وما يقومُ مقامَ ذلك، مما يكشفُ المرادَ به.
وإن ذلك مما يعلمُ اللهُ تأويله، ويعلمه أيضا الراسخون في العلم، وأن اللهَ
سبحانه لم ينزل من كتابه شيئا لا يعرفُ تأويلَه، ولا طريق للعرب الذين أنزل
عليهم، ولا لهم سبيل إلى العلم به، ولا يجوزُ أن يكلمهم بما هو سبيله مع
قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) ، وقوله: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، في نظائر هذه الآيات الدالة على(2/776)
أنه نزلَ بلسان العرب، وما تعرفه وتعقله في عادة خطابها، ولا نقولُ بالوقف
على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) بل الواو عندنا في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واو نسقٍ وعطف، وأن جميعَ ما رويَ عن بعض المفسرين وأهل اللغة أنه لا يعرفُ له تأويلاً، فإنّه معروفُ المعنى والتأويل عند غيره، ومما قد كشفَ اللهُ سبحانه
عن المراد بواضح أدلته، وبين براهينه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ توهُّمهم
أنّ الله سبحانه قد أنزلَ في كتابه ما لا يعرفُه أهلُ اللغة ولا طريقَ للخلقِ
جميعا إلى معرفة المراد به.
فإن قالوا: فلا معنى على هذا التأويل لقوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) ، لأنّ ما
قد أوضحَ الدليل على المراد به وعُرف به معناه فليس بمتشابه.
قيل لهم: ليس الأمرُ على ما ظننتم لأن ما عُرفَ بالدليلِ إذا كان ظاهرُه
محتملاً لتأويلاتٍ مختلفة، فهو مشتبهٌ على من أهمل وصدفَ بنفسه عن
صحيح النظر، وعلى من نظر واجتهدَ إلى أن يعلم ويعرف المراد به، وتزول
الشبهةُ والريبُ عن قلبه،، وهو أيضا مشتبة على من ارتدَّ عن دينه، واعتقد الجهلَ وصحّة الشبهات بعد معرفته وصحيح نظره، لأنه إذا لم يكن طريقُ معرفة المراد بالمتشابه الضرورات ودرك الحواسِ وتركيبَ الطباعِ والعادات، ولا صيغة للكلام بظاهره، جازَ أن يُلحق الناسُ فيه ما وصفناه، وكلما كان الشيء المقصودُ بالآية ألطف وأغمض، كانت معرفتُه أصعب وأبعد، وكان الاشتباهُ فيه أكثر، وكلّما قرب كان أجلى وأظهر، ولو كان كلّ قولٍ إلى معرفةالمراد به سبيلا وطريقا غير متشابه، لم يجز على هذا أن، يكون في كلام البلغاء والشعراء أو الخطباء والعرب العاربة شيء متشابه، ولوجب أن تكون الخاصة والعامة في منزلة متساوية، وطبقةٍ واحدة، من معرفة اللغة، وإثبات المعاني، وغامض الإعراب، ومعرفة غريب الشعر والحديث،(2/777)
وكلام الفصحاء ونوادر اللغة، إذا لم يكن في ذلك شيءٌ مشتبه، وهذا جهلٌ ممن صارَ إليه وحملَ نفسه عليه.
وإذا كان الأمرُ على ما وصفناه وكان كل ما ذكرنا حالَه من غريب الكلام
ومُشكل الألفاظ متشابها على مَنْ لم يعرِفْه، وعلى من عرفه قبل تحققه، وعلى
من جهله وشك فيه بعد العلم به، وإن كان الدليل على المراد به قائماً
منصوبا معرَّضا لمن طلبه سقط ما قالوه، ووجب أن يكون ما هذه سبيله من
كلام الله سبحانه متشابها وإن كان الدليل على المراد به منصوباً لائحاً.
فإن قالوا: أفليس قد قال كثيرٌ من أهل التفسير إن الوقف واجمث على
قوله (إِلَّا اللَّهُ) وأنكروا ما قلتموه.
قيل لهم: أجل، فقد غلطَ ووهِمَ من قال ذلك لأنّهم لم يَرْووهُ عن الله
تعالى ولا عن رسوله، وإنما صاروا إلى ذلك بتأويلهم واجتهادهم وهم غير
معصومين من الزلل.
فإن قالوا: فقد يجوزُ عندكم أن تكون الواو في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واو استئناف لوصفِ المؤمنين بأنهم يؤمنون به، ويسلمونه من غير
معرفةِ بالمراد به، ويجوزُ أن تكونَ واو نسقِ واشتراكِ في الصفة.
قيل لهم: يجوزُ ذلك عندنا وعند سائر أهل اللغة وصحةِ الاستعمال.
غير أن الله تعالى ورسولَه عليه السلام قد دلاَّ بما قدمنا ذكره عن الآي على
أن اللهَ سبحانه أنزلَ القرآنَ بلسان العرب، وما تجدُ وتعتقدُ في خطابها.
فلذلك جعلنا الواو ها هنا واو نسقٍ واشتراك.
فإن قالوا: كيف يسوغ لكم جعلُ الواو واو نسق، وأنتم إذا فعلتم ذلك
قطعتم ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) عن أن يقولوا آمنا به، لأنه ليس في الكلام(2/778)
واو نسق توجبُ للراسخين فعلين، ولو كان التأويلُ على ما ذكرتم لكان من حقه أن يقول: وما يعلمُ تاويلَه إلا اللهُ والراسخونَ في العلم، ويقولون آمنا به حتى يوجبَ لهم الواو الأول نسَقَهم على الله سبحانه والواو الثاني قولَهم:
آمنا به كل من عند ربنا، وإذا لم يفعل ذلك بطل ما قلتموه.
يقال لهم: لا يجب ما طالبتم به لأن أهلَ اللغة قالوا: إنَ يقولون ها هنا
في معنى الحال واسم الحال، وبمثابة قوله لو قال والراسخون في العلم
قائلون آمنا به لأنهم يُحلون الفعلَ المضارعَ محل الاسم من وجوه:
أحدها: إنك تقولُ مررتُ برجلٍ يأكل، ويقومُ ويقول، فيحله محل
قولك مررتُ برجلٍ قائم، وقائل هذا - زعموا - أحدُ وجوه المضارعة بينَ
الاسم والفعل، ويوضّحُ ذلك ويُبينه أنهم يقولون: لا يأتيكَ إلا عبدُ الله زيد
يقول: أنا مسرور بزيارتك، يعنون لا يأتيك إلا عبدُ الله زيد قائلاً أنا مسرور
بزيارتك، فجعلوا يقول بمنزلة قولهم: قائل مسرور.
قال الحميدي يرثي رجلاً في قصيدةٍ أولها:
أصرمْتَ حَبْلكَ من أُمامة بعد أيام برامه ... الريحُ تبكي شَجْوه والبرقُ يلمعُ في غمامه
يعني بذلك البرقُ لامعاً في غمامةٍ تبكي شَجْوه أيضاً، لأنه لو لم يُرد أنّ
البرق يبكي شَجْوه، كما أن الريح تبكي شَجْوَه لكان هاذيا، ولكان قوله:
والبرقُ يلمعُ في غمامة كلاما متقطعاً أجنبيا مما قاله، ولم يكن لذكر لمعان
البرقِ معنى، لأنه لا تعلُّق بين لمعان البرق وبكاء الريح شَجْواً من بكائِه
وكأنه رجل، قال: والريحُ تبكي شَجْوه وزيد راكب أتانته، وأيُّ تعلُّق بينَ
بكاء الريح وركوب زيد، فدل ذلك على أنه أرادَ بقوله: والبرقُ يلمعُ في(2/779)
غمامةٍ أنه لامع في غمامةٍ تبكي أيضا شَجْوهُ ولم يحتج أن يقولَ الريحُ تبكي
شَجوهُ والبرقُ يلمعُ في غمامه، وإذا كان ذلك كذلك بطلت هذه الشبهة.
وصحَّ أن التأويلَ على ما وصفناه.
وقد اختلف الناسُ في معنى وصفِ الخطاب بأنه متشابة ومحكم، فأمَّا
معنى وصفِه بأنه محكم فإنه منصرف إلى معنين:
أحدهما أن يكون ظاهراً مبيّنا عن المراد بنفسه وظاهره، نحو قوله:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) ، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) ، (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) ، ونحو ذلك.
وقد يوصفُ أنّه محكم على معنى إحكامِ النظم والتأليف، وتضمنه
للمعنى الصحيح من غير اختلافٍ ولا تناقضٍ ولا غيره من معنىً يصح أن
يقصدَ بالخطاب إليه، وكذلك صارَ غريبُ حديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ومشكلُ كلامهم وكلامِ البلغاء من الشعراءِ والخطباء والمترسلينَ محكما، وإن كان غامضا يحتاجُ إلى تفسيير وتأويل.
فأمَّا معنى وصف الخطاب بأنّه متشابه، فقد اختلف فيه، فقال قائلون:
المتشابه هو المنسوخُ من الآية، وأن المحكم هو الناسخ، وقال آخرون:
المتشابه هو مثلُ قوله: (الم، الر، كهيعص، طسم، حم، عسق)
ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وما عدا ذلك فهو محكم
بأسره.
وقال قائلون: المحكمُ الذي يعرف المرادُ به من نفس ظاهره من غير
تأويلٍ ولا نظرٍ واجتهادٍ وردٍ له إلى غيره، والمتشابه: ما كان المرادُ به في
تأويله دون لفظه، والمحكمُ تأويلُه هو تنزيله من غير صرفٍ له عن ظاهره
وتطلب لمعناه، وقال آخرون: المتشابه ما اشتبهَ لفظهُ واختلف معناه.(2/780)
والذي نختاره في ذلك أن المتشابه هو كلُّ ما أشكلَ والتبسَ المرادُ به
واحتيجَ في معرفة معناهُ إلى طلب التأويل، وسواء كان مشتبهَ اللفظِ وإن
اختلفَ معناه، أو كان لفظا غيرَ مشبهٍ للفظ آخر، غير أنّ المرادَ به لا يعرفُ
ولا يوصَلُ إليه من نفس ظاهره وفحواه ولحنه، ولكن بالتأمل والاستخراج.
وإنما سُمي ما هذه سبيله متشابها لاشتباه معناه واختلاطه والتباسه بغيره عند
من لم يعرفه ولم يوف النظر حقّه.
وأصل المتشابه في الكلام أن يشبه اللفظُ اللفظَ في صيغته وصورته.
وإن اختلفَ معناهما، ومنه قوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ، أي: أشبه بعضُها بعضا في الكفر والإصرار والعتو، ومنه قولُه تعالى في ثمر الجنة: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) ، يعني في الصورة واللون والهيئة، وإن اختلفت الروائحُ والطعوم، ومنه قولهم: أشبهَ زيد عمراً في خلقته وحُسنِ هديه وطرائقه، وقولهم: اشتبهَ عليَّ الأمرُ إذا أُلبس بغيره، ومنه سُمِّيت الشُبهة المصوِّرة للباطل بصورة الحق شبهة، ومنه سُمِّي نصارُ الباطل، وأصحابُ الحيل والنارنجيان أصحاب الشبه، هذا أصلُ التشابه في اللغة، وقد يكون المشتبهُ من كتاب الله مشتبها بأن يتفقَ لفظُه وصورتُه ويختِلف معناه، وقد يكونُ بأن يغمض ويدق ويخفى معناه، فلا بُدَّ من تبيين الإمعان بالنظر، والبحث عنه، وليس فيه إلا ما قد عرف أهل العلم تأويله.
والمرادُ بحجته ودليله وليس في أهل التأويل من قال: إني لا أعرف معنى
هذه الكلمة والآية منه، بل قد فسَّروا سائره وبيَّنوه وكشفوا عنه، وكلُّ ما
يُروى عن أحدٍ منهم من السلف، ومن بعدهم أنه لا يعرف معنى شيء منه.
فإنّه لا معتبر به، لأنه خبرُ واحد ويجبُ صرفُه إلى أنه قد عرفه وفسّره بعد أن
كان لا يعرفه، أو إلى أنّه هو وحدَه لا يعرفُ ذلك دون رسول الله وصحابته،(2/781)
والراسخون في العلم، وليس يحفظُ عن أحدٍ منهم أنه قال: لستُ أعرفُ
معنى هذه الكلمة ولا رسول الله، ولا أحد من علماء الأمة، وإذا كان ذلك
كذلك بطل شغبُهم وزال توهمهم.
فأمَّا قوله: (الم @، (الر، (حم) ، (عسق، (كهيعص) .
ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد اختلفَ الناسُ في
تأويلها، فقال بعضهم: إنها من المتشابه الذي لا يعْلمُ تأويلَه إلا اللهُ
سبحانه، وهذا باطل بما قدمناه من قبل، ومن قال إن معناه معروف عند أهل
العلم في ذلك أقاويل.
فقال بعضهم: هي أسماءُ السُور وبمثابة الأسماء الأعلام الموضوعة
للأشخاص.
وقال آخرون: إنها أقسام أقسم الله بها لأجلِ تضمنها لأجل ما
سنَصِفُه بعد ذكر الخلاف.
وقال آخرون: هي حروف مأخوذة من أسماء الله تعالى وصفاته، وكل حرفِ منها كناية عن اسمِ هو منه.
وقال بعضُ من تكلم في هذا الباب: هذه الحروفُ كناية عن حسابٍ
كحساب الجُمَّل، وأن كل حرفِ منها لقدرٍ من عددِ سنيَّ بقاءِ أمةِ محمدٍ
صلى الله عليه، وقال آخرون: معنى التكلم بها وجعلها في أوائل السور
أن قومَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يلغون في القرآن ولا يسمعون له ويصدون عن سماعه وفهمه قصدًا للطعن فيه والصَّدف عنه، فأرادَ الله أن يبدأهم بهذه الحروف المقطعة، ليفرغوا لذلك ويصغُوا إليه ويستكثروه ويطمَعوا في أن يقول بعضُهم لبعضٍ اسمعوا ما يقولُه ويهذي به، وإذا نصتوا له أقبلَ عليهم بالقرآن ووالى حكمَ الكلام وفصيحَ الخطاب بعدَ ما صرفَهم بالحروف المقطعة عن اللغو والإعراض.(2/782)
وقال آخرون: إنه لا معنى لهذه الحروف أكثر من ابتداء الكلام بها
وتقديمها أمامه، لأن ذلك من شأن العرب وعادتهم عند التكلم، لأنها تبدأ
بالحرف والحرفين، فيقول القائل منهم: ألا إني ذاهب، إلى قائلٍ لفلانٍ كذا
وكذا.
هذه جملةُ ما يُعلمُ أنه قيلَ في تأويلها، وليس يخرجُ عن أن يكونَ بعض
ما قيلَ في ذلك.
فأمَّا من قال: إنها أسماءُ أعلامِ السور التي هي في أولها، فليس ببعيدٍ
لأن صاد وقاف ونون قد صارت أسماءَ أعلامِ لهذه السُّور كزيد وعمرو، لأنه
قد عُلم من قول القائل: إني قرأتُ صاد أنه قرأ السورة إلى آخرها، التي هذه الحروف في أولها، ويجبُ على هذا أن يقالَ إن الله سبحانَه قد أحدثَ في
الشريعة أسماءً لهذه السُّور لم تكن من قبلُ أسماءً لشيءٍ في اللغة، وليس
هذا من تغييرِ الأسماء اللغوية في شيء، لأن تغييرَ الاسم عن وضعِ اللغة إنما
هو نقله إلى غير ما وُضع له، وهذه الحروف لم تكن في اللغة أسماءً
لأشياء، ثم صارت أسماءً في الشريعة لغيرها، فلم يكن لذلك تغيير اللغة.
وعلى أنّ في الناس من أجازَ تغيير الأسماء اللغوية، ووضعِها في الشريعة
لإفادة ما لم تكن مفيدةً في اللغة، ولا سؤالَ عليهم في ذلك.
فإن قيل: أوَ ليسَ قد وقعَ بعضُ هذه الحروف مشتركا نحو حمَ اللتين
هما في أوائل الحواميم السبعة، فكيف يجوز أن تكونَ أعلاما؟
قيل لهم: إذا اتفق ذلك ضُمَّ إليها شيء تصيرُ مع ذكره مميزة لما بقيَ
له، فيقال: قرأتُ حم السجدة، وحم المؤمن، وحم الأحقاف، وذلك بمثابة الأسماء المشتركة التي تكون أعلاما مميزةً مع ضمِّها إلى نعوت أصحابها
وصفاتهم وغير ذلك.(2/783)
فأمَّا من قال: معناها أنها أقسام أقسم الله سبحانه بها فإنه أيضاً غير
بعيد، ووجهُ القسم بها أمران:
أحدهما: تعظيمُ هذه الحروف وتفخيم شأنها، وإنّما عظّمها بالقسم
لأنها مبادىء كتُبه المنزلة بالألسنة المختلفة ومبادىء أسمائه الحسنى وصفاته
العُلى، وأصول كلام الأمم التي بها يتفاهمون ويتخاطبون ويوحدون الله
سبحانه، ويسبحونه، وموقعُ الانتفاع بها عظيم خطير، والجهلُ بها ضرر
عظيم، فكأنه أرادَ بهذا التأويلِ بـ حم عسق، أي وحروف المعجم لهوَ الكتابُ لا ريبَ فيه، وحروف المعجم لهوَ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدركَ حرج منه، والعربُ قد تكني عن جميع الشيء بكلمة منه وتذكرُ بعضه، فيقولُ القائل: قرأتُ البقرةَ والحمد، وأنشدتُ قفا نبك، يريدُ بذلك جميع السور والقصيدة، كما يقولُ القائل: تعلمتُ أب ت ث يريد جميعَ المعجم لا هذه الأربعة أحرف فقط.
قال الشاعر:
لما رأيتُ أمرَها في حُطّي ... وأزْمعَتُ في لُددي ولطُي
أخذتُ منها بفروقِ شمطِ
ولم يُرد حُطي فقط، وإنَما كنَّا بذكر حُطي عن أبي جاب التي منها حُطي.
لأنه قصدَ بذلك التمثيلَ لعودها إلى أول ما تكرهُه، كتبدي الصبي بتعلم أبي
جاد.
فأمَّا قول من قال: إنها مأخوذةٌ من أسماءِ الله وصفاتِه وكنايةً بكل حرفٍ
عن الاسم الذي هو فيه فليسَ بمستنكرٍ أيضاً،(2/784)
وقد روي عن عبد الله بن عباس: "أنه قال في كهيعص: إن الكافَ من كافٍ والهاءَ من هادٍ والياءَ من حكيمٍ والعينَ من عليمٍ والصادَ من صادق ".
والعربُ تستعملُ الترخيمَ في كلامها، ويكنى ببعض حروف الاسم
والفعل عن جميعها فيقولون: يا حارِ يريدون يا حارث، ويا صاحِ يريدون
يا صاحب، ويقولون عِمْ صباحاً أي: أنعم صباحا، وقال بعضُ القراء:
"ونادوا يا مالِ ليقضِ علينا ربك "، يعني: يا مالك، فرخم.
قالوا: والعربُ تقول أمسك فلانُ عن فلَ يعنونَ عن فلان، وأنشدوا قول الشاعر:
فواطبا مكةَ من ورقِ الحمى
يعني الحمام.
وقال آخر:
فقلت لها قفي فقالت قاف
أي وقفتُ وأومَأت بالقاف عن اسم الوقوف، وهذا في كلامِهم أكثرُ من
أن يُحصى، وإذا جازَ ذلك وساغَ في اللسان جاز أن يُكنى الله تعالى بكل
حرفِ من هذه الحروف عن اسمِ من أسمائه هو من جُملته على وجه الحذف
والاختصار، فكأنه قال: الكافي الهادي الحكيمُ العليمُ الصادقُ الذي أنزلَ
عليك الكتاب، وقد يجوزُ أن يكون أقسم بالأسماء والصفات التي هذه
الحروف منها، فكأنه قال: والعليم الحكيم وصاحب هذه الأسماء، لقد
" أنزل عليك الكتاب.(2/785)
فأمَّا قول من قال: إنها حروف وُضعت لحسابِ قدر بقاء الأمة فقد
يجوزُ ذلك إذا أطلعَ اللهُ نبيه عليه، أو بعض ملائكته بأن يُعرفه أن كلّ حرفٍ
منها لقدرٍ من السنين كما قيل: ألف واحد وياء اثنين، وكذلك في سائر
حروفِ الجمل.
فأمَّا قول من قال: إنها ابتُدئَت في أوائل السور ليروعهم سماعُها
وتنصرفَ همَمُهم إلى الإصغاء إليها، فليس ببعيدٍ أيضا، لأنه يمكن أن يقصدَ
ذلك، ولكن لا بدّ لها من معنىً هو القسمُ بها أو بأسماء الله التي هي من
جملَتها أو توقيف على وضعها بحسابِ السنين، وإلا عُريَت من فائدة.
وليس يجوزُ أن يُلهيَهم عن لغوهم وصدفهم عن سماع القرآن بأصواتٍ وأمورٍ
لامعنى لها.
وإذا كان الأمرُ في تأويل هذه الأحرفِ على ما وصفناه زال وبطلَ
تعلُّقهم بها وقولهم إنّه لا يعرفُ معناها ولا وجهَ للخطاب بها وثبتَ بذلك أن
جميعَ ما أنزله اللهُ من مُحكمٍ ومتشابهٍ معلوم معروفُ المعنى.
وقوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) ، إنما أراد به الحشيش لأن (أَبًّا)
اسمُ الحشيش على ما ذكر، وليس من شيءٍ ذكره الله تعالى إلا ومعناه
معروف وإليه سبيل، وإن جهله أهلُ التفسيرِ ومن لا إغراقَ له في البحث
والتأمل.
فإن قالوا: فما الذي أرادَ بإنزال المتشابه، قيل لهم: أرادَ بذلك امتحانَ
عبادِه واختبارَهم وتفضيلَ الذين أوتوا العلمَ درجات، وأن ينفعَ بذلك من
يعلمُ قوةَ يقينه واستبصاره بمعرفة المتشابه وأن يُضِل به ويَضُرَّ من علمَ أنّه
يصدفُ عن تأويله ويُلحدُ فيه ويستبصرُ ويُعمي عند إنزاله بصيرتَه ويصيرُ(2/786)
طريقا وسبيلاً إلى تعلقه به، وإيثارِ الفتنة به وسوءِ التأويل فيه، كما وصفَهم
بذلك في ظاهر التنزيل، فلا سؤال علينا في ذلك ولا مطعن.
قالوا: ومما يدلُّ أيضا على وقوع الخلل والتخليط في القرآن ما نجدُه
فيها من الحشو للكلام الذي لا معنى له نحو ما فيه من قوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، والقولُ لا يكونُ إلا بالفم.
وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، والكتابة لا تكونُ
إلا باليد، وقوله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ، والطائر لا يطيرُ إلا
بجناحيه، وقوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، وقوله: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، والسقفُ
لا يخزُ إلا من فوقهم، وقوله: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) ، ولا معنى لذكر اليمين دون الشمال، وقوله: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، وأغبى الناس وأقلُهم ذهنا وبصيرة يعلمُ أن
ثلاثةً وسبعةً عشرة، فلا معنى لهذا الكلام.
فيقال لهم: لا تعلُّق لكم في شيء مما ذكرتُم لأمرين:
أحدهما: أنّ العرب قد تكررُ وتريدُ اللفظةَ التي معناها معنى ما قبلها
للتوكيد، وتستجيزُ ذلك وتستحسنه في عادتِها وصرف خطابها، ولذلك يقول القائلُ منهم: رأي عيني وسمع أذني، وكلمتُه من فمي، وسمعتُه من فيه، على وجه التأكيد للخبر، وكذلك قولهم: عجل عجل، وقُم قُم، فإذا ساغَ ذلك وجازَ تكرارُ الكلمةِ لتوكيد، كان تكرارُه بلفظين مختلفين أحسنُ
وأولى، والله سبحانه إنما خاطبَ العرب على عادتها، والمألوف من
خطابها، فسقط بذلك ما قُلتم.
والوجه الآخر: أن لكل شيءٍ مما أورَدتُموه معنىً زائداً صحيحا.(2/787)
فأمَّا قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فإنما المراد به أنهم قالوا ذلك بأنفسِهم وأفواهِهم بغير إشارةٍ ولا كتابِ ولا مراسلةٍ لأن القائلَ قد يقول: قلت لزيد كذا وهو يعني أمرتُ من يقولُ له، وراسلته به، وكتبتُ بذلك إليه، وأشرتُ إشارة ورمزتُ رمزا، قال الله تعالى: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) .
وقال الشاعر:
وقالت له العينان سمعاً وطاعةً ... واحْدَرتا كالدُّر لما ينظم
وقال آخر:
وتُخبرني العينان ما القلبُ كاتم ... فإذا قال له قلت له بفمي ولساني
زالت التأويلات.
وكذلك الجواب في قوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) لأنه أرادَ أنهم
تولوا خَطَّهُ بأيديهم لا بواسطة وأمر منهم، وعلى وجه ما يقولُ القائل: كتبَ
رسولُ الله إلى النجاشيّ، وكتبَ الخليفةُ إلى فلان، أي أمرَ بالكتاب إليه.
فأمَّا قولُه تعالى: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ، فإنه أرادَ جنسَ الطيران دونَ
السرعةِ في الأمرِ والقصدِ لأنّ القائلَ من العربِ قد يقولُ لمن يأمُرهُ طر
وأسرع في هذا الأمر، أي بادر، ويقول: طرتُ إلى فلان، أي أسرعت، فإذا قيلَ طارَ الشيءُ بجناحيه انصرفَ إلى جنسِ الطيران بالجناح الذي هو الأصل الذي يشته به السرعةُ في القصد والأمر.
فأمّا قوله: (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فإنما أوردَه تعالى على
مذهبهم في قولهم نفسيَ التي بينَ جنبى، ونفسُه لا تكونُ إلا بينَ جنبيه.
فأمَّا قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، فهو لأن السقفَ قد
يخرُ عليهم من تحتهم إذا كانوا في الغرف، وقد يقولُ القائل: خرَّ علي في(2/788)
بيتي سقف، وإن كان تحتَه، وقد يَخِرُّ عليهم السقف أيضًا وإن لم يكونوا
تحتَه ولا فوقَه، كما يقول القائل: خرَّ علينا في الدار سقف، وإن لم يكونوا
تحتَه ولا فوقَه، وإنما يقصد الإخبار عن سقوط السقف فقط في ملكه وداره.
أو قربه وجوارِه، فإذا قال: من فوقي أفادَ أنه كان تحتَه.
وأمَّا قوله تعالى: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) ، فإنما ذكرَ اليمينَ لأنه بها وقعَ
دون الشمال، وقد يقعُ الضربُ بالشمال كما يقعُ باليمين ولأن اليمينَ أكثرُ
قوةَ وأشد تمكُنا وبطشا من الشمال.
قال الشماخ:
إذا ما رايةٌ رُفِعَت ... لمجدٍ تلقاها عُرابةُ باليمين
أي أخذها بقوةِ وبطشٍ وتبسطٍ في الكرم.
وأمَّا قوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، ففيه وجوه:
أحدها: أن ذلك عادةُ العرب في كلامها وإكمالها للعدد الذي تُفصله
قال الشاعر:
تجمعن من شتى ثلاث وأربعٌ ... وواحد حتى كَمُلن ثمانيا(2/789)
وقال آخر:
ثلاثٌ واثنتانِ فهنَّ خمس ... وسادسةٌ تميلُ إلى ثمانِ
ولم يستهجن هذا أحد في تخاطب أهل اللسان وعادتهم، وكذلك حكمُ
قوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، وقوله تحالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) .
والوجه الآخر: أنه قال تلك عشرة كاملة، أخرجَ الواوَ هاهنا عن أن
تكون بمعنى التخيير وبمثابة قوله أو سبعة إذا رجعتم، كما قال: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) ، يعني أو ثلاث أو رباع، فكان يجوزُ أن يظن ظان أو السبعةَ في الحضر بدل من صيام الثلاثة في السفر، وأنه للتخيير وبمعنى أو.
فرفع سبحانَه جوازَ ذلك وقطعه بقوله تلكَ عشرةٌ كاملة.
ويُحتمل أيضاً أن يكون إنما أراد تلكَ عشرةَ كاملة، ليدلَّ بذلك أن
السبعةَ في الحضَرِ هي أيام أيضاً، لأنه لو قال فصيامُ ثلاثة أيامٍ في الحج
وسبعة إذا رجعتم، وقال: أردتُ سبعةَ أشهرٍ أو سبعَ سنينَ أو أسابيع لساغ
ذلك، فلما قال: تلكَ عشرةَ كاملةٌ دل بذكر العشرة والكمالِ على أن السبعة أيام، لا يحسنُ أن يقالَ ثلاثةُ أيامٍ وسبعُ سنين، أو سبعةُ أرطالٍ عشرة كاملة، وإنما دخلَ ذكرُ التكميل في جنس المعدود.
ويُحتمل أيضاً قولُه كاملة أنها كاملةُ الأجر والثواب، وإذا كان ذلك
كذلك سقطَ جميعُ ما يتعلقون به من هذا الجنس سقوطاً بيّناً.
قالوا: ومما يدلُّ أيضاً على وقوع الفسادِ والتخليطِ من القوم في القرآن.
ودخولِ الخللِ في الكتاب ما نجده فيه من الكلام المنقطعِ عن تمامِه ونظامِه
والمتصل بما ليس من معناهُ في شيء، نحو قوله في العنكبوت في قصة(2/790)
إبراهيم عليه السلام ووعظه لقومه في قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) .
ويجبُ أن يتصل بذلك:
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) .
فقطعوا تمامَ القصةِ وبتَروها ووصلوا بقوله (إليه ترجعون) قصة محمّد - صلى الله عليه وسلم - وما يخرج عن قصةِ إبراهيمَ، وهو قوله: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) .
ثم أتبعوا ذلك بقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ، وهذا تمامُ قولِ إبراهيم لهم: (فابتغوا عندَ الله الرزق واعبُدوه واشكُروا له إليه ترجعون) ، وهذا - زعموا - تخليط ظاهر وبتر للكلامِ وقطعٌ له عن صلته وخلطِه بما ليس منه بسبيل.
فيقال لهم: ليس الأمرُ في هذا على ما توهمتم، وذلك أن الله سبحانه
هو الذي رتبه كذلك، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما بيناه من قبلُ وما سنوضحُه فيما بعد، فأما ظنكم أن هذا بترُ للكلام وإفساد له فإنّه جهل وذهاب عن معرفة فضل الفصاحة والقدرة على التصرفِ في الكلام، لأنّ أهل اللغة يعُدّون هذا الباب من ضروبِ الفصاحة والبلاغةِ والقدرةِ على(2/791)
التبسط في الكلام، والخروج عنه إلى نعت ما يعرض فيه ووصفه، ثم العود إليه على وجه غير مستهجن ولا مستثقل، ويصفون من صنع ذلك في خطبته وشعره بالاقتدار على الكلام.
ويسمون هذا النمط في الشعر الاستطراد، ومعنى ذلك أن يكون في وصف شيء ونعته فيعرض عن ذكره إلى ذكر غيره الذي عرض ذكره فيما كان فيه، أو لم يعرض ثم يعود إلى صفة ما كان فيه واستيفاء ما قصد عن الإخبار عن معانيه بالكلام السهل والرجوع المسلسل المتناسب، ويسمونه الالتفات، وهو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وغير ذلك من الالتفات، وهو الخروج من معنى يكون فيه إلى معنى آخر، وليس يقدر على مثل ذلك كل فصيح لَسنٍ حتى يكون ذلك مع فصاحته قادرا منبسطا في الكلام، لأن إتمام القصة وحكايتها إذا طالت ربما تعذر نظمه على وجه الفصاحة والبراعة على أهل البلاغة واللسن، وربما احتاجوا في ذلك إلى تكلف شديد مختلف فيه كلامهم، حتى يكون من الجزل الرصين، ومنه اللين الخفيف وكيف بالخروج عن قصة إلى غيرها ثم العود إليها، لأن ذلك أشد وأصعب عند كل متكلم بلغة، ومتعاطٍ لنظم حكايات السير والقصص وضروب الأمثال، ومحاولة البلاغة في الكلام، وهذا النمط من الخروج عن كلام إلى غيره وما ليس من معناه ولا مما قصد بافتتاح الكلام ثم العود إلى ما ابتدأ بالكلام فيه وقُصِدَ إليه كثير معروف، ومن الاستطراد قول حسان بن ثابت - رحمه الله -(2/792)
إن كنتِ كاذبة التي حديثني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل عنهم ... ونجا برأس طميرة ولجام
وقد عُلم أن حسان لم يقصد بابتداء الكلام والتحذير من الكذب في الحديث إلى ذكر هرب الحارث بن هشام وفشله وتعييره به، وإنما قصد شيئا غير ذلك، وإن كان قد أدخله في كلامه، وخرج به عما ابتدأ الكلام لأجله.
وقال أبو تمام الطائي:
صُبَّ الفِراقُ علينا صُبَّ من كثبٍ ... عليه إسحاقُ بعدَ الروعِ منتقماً
وقد عرف أيضا كل سامع لهذا الشعر أن الشاعر لم يقصد بابتداء الكلام الإخبار عن انتقام إسحاق ممن انتقم منه بعد ترويعه، وإنما قصد الإخبار عن صفة الفراق وشدته فقط، ثم خرج إلى الدعاء عليه بانتقام إسحاق، فخرج من معنى إلى غيره.
وقال البحتري في صفة فرس كريم سهل الأخلاق:
سهلٌ مواردُه ولو أورَدته ... يوما خلائقَ حمدَويه الأحولِ
وقد علم أن البحتري لم يقصد في هذا الكلام وصفه خلائق حمدويه وشجيته، وإنما قصد غير ذلك، ثم عاد إلى ذكره.
وقال سريُّ الرفا:
نزعَ الوشاةُ لهم بسهمِ قطيعةِ ... يَرمي بسهمِ البينَ مَن يرمي به(2/793)
ليتَ الزمانُ أصابَ حُب قلوبهم ... بفتى بن عبدِ الله أو بحرابِهِ
بسلاحِ معتقل السلاحِ وإنما ... يعتل بينَ طِعَانِهِ وضِرَابِهِ
وقد عُلم أيضا أن الشاعرَ لم يقصد بما شرعَ فيه إلى وصفِ سلاح ابن
عبد الله واعتلاله، وما لأجله يعتل من الضربِ والطعن، وإنما قصدَ إلى ذم
الوُشاةِ وما حاولوه من الأمور الموجبة للضرر والقطعية، وإن كان قد خرجَ
بينَ ذلك إلى الدعاء عليهم بقتالِ ابنِ عبدِ الله وحرابِه وبعثِ السلاح، وما لم
يبتدىء بالكلام لأجله، فأما الالتفاتُ في الكلام الذي هو خروج من معنى
كان فيه إلى معنى آخر ما على أن يعودَ إليه بعد ذكرِ ما يعرضُ ونعته، أو بأن
يُضربَ عنه جملة، فإنّه كثير في كتابِ الله وفي كلام العرب وشعرِ الفصحاء.
وأظهرُ من أن يُحتاجَ معه إلى إغراق، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ، فعدلَ عن خطابِ الحاضرِ إلى ما هو كناية
عن الغائب، وسواء كتى عن الحاضر الذي ابتدأ بخطابِه أو غيرِ الحاضرِ فقد
خرج، وقال الله تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) ، ثم قال: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) ، وذلك كثير.
وقال جرير في هذا المعنى:
متى كان الخيامُ بذي طُلوعِ ... سقيتِ الغيثَ أيتُها الخيامُ
أننسى يومَ تصقُلُ عارِضَيْها ب ... قرعِ بَشامةٍ سُقِيَ البَشام
ولو لم يخرج من معنىَ إلى غيره لكان من حقه أن يقول: متى كان
الخيام بذي طلوع أيتها الخيام، لأن هذا هو تمامُ ما ابتدأ به من الكلام فقط.
فأمَّا الدعاءُ للخيامِ بسقي الغيث، ووصفُ عارضي صاحبَتِه وفَرْعها، فليس(2/794)
مما ابتدىء الكلامُ لأجله، وشرعَ فيه بسبيل، غيرَ أنه اقتدار في البلاغة
وحسن الفصاحة.
وقال أيضا الطائي:
وأنجدتُمُ من بعد اتهامِ داركم ... فيا دمعُ أنجدي على ساكني نجد
فخرج عن الإخبار بانتقالهم من نجد إلى تهامة، إلى التحزن واستدعاء
الدمع، وقال أهلُ اللغة ومن جنسِ البلاغة والتمكن من الخروج عن الشيء
إلى غيره ثم العودُ إليه اعتراضُ الكلام في كلامٍ لم يتم معناه ثم العود إليه.
وأنشدوا قول النابغةَ الجعدي:
ألا زعَمَت بنو سعدٍ بأنّي.., ألا كَذَبوا كبيرُ السّن أنِّي
فاعترضَ في كلامه وخبر أخباراً عنهم بأنهم كَذبوا فخرجَ عن الإخبار
عن قولهم قبلَ تمامِه إلى الإخبار بكذبهم عليه، ثم عادَ إلى تمامِ الإخبارِ
عنهم، وإلا فقد كان يكفيه أن يقول: زعمتَ بنو سعدٍ بأني كبيرُ السن أني.
وقال كثّيرُ عزة:
لو أن الباخلينَ وأنتَ منهم ... رأوكَ تعلَّموا منكَ المطالا(2/795)
فأعرضَ في ذكرِ الإخبارِ بأن الباخلين لو رأوه لتعلموا منه المطال إخبارُه
بأنه من جملةِ الباخلين، ولو لم يعرِض ذلك لكان من حقِه أن يقول: لو أن
الباخلينَ رأوكَ لتعلموا منكَ المطالا.
وقال آخر:
ظلموا بيومٍ دع أخاكَ بمثله ... على مُشرعٍ يَروي ولما يُصرِد
ولو لم يعرِض في الكلام طلبَ تركِ أخيه لمثله لقال: ظلَموا بيومٍ دع لى
مُشرعَ تروي ولما يصرد، وهذا أكثر من أن يتتبع.
قال أبو حية البحتري:
ألا حيِّ من أجلِ الحبيب الغوانيا ... لبسن البِلى مما لبسنَ اللياليا
ثم رجع بعد قوله لبسنَ بما لبسن اللياليا، أي تتميمُ ما شرع فيه.
وأكد من هذا أجمع وأبينُ قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) .
ثم أضربَ عن ذلك، وخرجَ منه إلى غيره، فقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) ، فعدل عما بدأ بذكره إلى غيره اقتداراً على الكلام والبلاغة وإذا كان هذا أجمع وأمثاله ما قد بيَّنَّاه في الفصاحةِ والبلاغةِ والقدرة على التبسُّط في الكلام.
وكان ما خاطب الله سبحانه به ورسوله عليه السلام مما تعلَّقوا به
أقربَ من كثيرٍ مما ذكرنا وأشبه وأشدَّ تلاوة، إلا أنه خرجَ من قصة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحكايةِ كلامِ قومه إلى قصة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هو مُخاطب له، وإلى تفنيد قومه من قريش على تكذيبهم وردّهم، تثبيتا للنبي عليه السلام وحثا له على الصبرِ وقوةِ العزم، وكل هذا مناسب، لأنه قصّ على رسول الله قصةَ رسولٍ قبلَه وخطابُه لأمّته، ثم خرجَ من ذلك إلى أن ذكر قريشا في تكذيبهم لرسوله وتشبيه ذلك بتكذيبِ الأمم قبلَهم وصبرِ أولي العزمِ من الرسل على رَدّهم ومكارِههم،(2/796)
ثم خرجَ من ذلك إلى تنبيههم على آثار قدرته وشواهدِ ربوبيته، وحذرهم عقابه، ثم عادَ بأحسنِ الرجوع والنظمِ إلى إخبار رسوله بخوافي قوم إبراهيم، وكل هذا اقتدارٌ على النظم لا خفاءَ به، ومما يتعذرُ على أكثر أهل العلم والخطابة والنثرِ ولا يسهلُ ولا يتأتى إلا للقليل منهم، فمن توهم إفسادَ الكلام به وإخراجه عن طريقة البلاغة وعادة أهل اللغة، فقد ظنَّ عجزا وتقصيرا.
وكذلك الجوابُ عن كل ما خرج اللهُ تعالى في قصة من حكايتها وذكرِها.
إلى شيءِ غيرها، ثم عاد إلى تمامِها واستيعابها، ولا تعلُّق لهم بهذا ونحوه -
قالوا: وما يدلُّ أيضا على فساد كثيرِ من المودع بينَ الدفتين وتغييره
وخروجه عن سنن الحكمة وجودنا فيه ما لا فائدةَ ولا غرضَ في ذكره ولا
معنىَ له معقولٌ يجري إلى إفادته نحو قوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، وما لهذا الكلام والمثل معنىَ
يعرف، ونحو قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) .
وقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) ، ولا فائدةَ تعرفُ في الإخبار عن تزاورِ الشمس عن
كهفهم ذاتَ اليمين وانقراضِها ذاتَ الشمال، وأمثال هذا ما يطولُ تتبعه.
وقسَمُه بالتين والزيتون، وبمواقع النجوم وبالنفس وما سواها وبالفجر.
وغير ذلك مما لا معنى للقسم به.
فيقال لهم: ليس شيء مما تتعلقون به وتظنون أنه لا فائدة فيه إلا وفيه
من الفوائد وضروبِ الحكمة ما يُبطلُ تؤهمكم.
فأمَّا قوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، فإن اللهَ سبحانه ضربَ بذلك مثلا للكافر الذي لا يرجعُ ويَرْعوي
وينزجرُ إن وُعظ ودُعي إلى طاعة الله، وذكر بآلائه ونعمه، وإن تُركَ ولم(2/797)
يُوعظ فهو في ذلك كالكلب الذي يلهثُ عند التعب، والإعياء والعطش.
ويلهثُ في حال الراحة والصحةِ والشبع والريّ، وكل ما سواهُ من الحيوان
إنما يلهثُ عند الإعياء والمرض والعطش، فمثلُ الكافرِ في عدم انتفاعه
بالعظة وتركِها كالكلب الذي يلهثُ كيف تصرَّفت به الحال.
وأما قوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) ، فإنّ المقصدَ به تعريفُ الله سبحانه إيّانا حُسنَ
اختياره لهم أصلحَ المواضع، وأنَّه تعالى بوأهم كهفا في مغناةٍ من الجبل
مستقبلاً بناتَ نعش، وأنها إذا طَلعت تزاورُ عنهم يميناً وتستدبُرهم في
كهفهم طالعةً وجاريةٍ وغاربة، ولا تصلُ إليهم وتدخُل كهفَهم فتؤذيهم بحرِّها
وسمومها، وتشحبُ ألوانهم وتُبلي ثيابَهم، وأنّهم مع ذلك كانوا في فَجوة
من الكهف وهو المتَسعُ منه، ينالُهم فيه نسيمُ الريح وبردُها وينفي عنهم غُمةَ
الغارِ وكربه، فهذا هو الفائدةُ في ذكر طلوع الشمس وتزوارها، والفجوة من الغار وما في ذلك من حسنِ الصنيع واللطف والاختيار.
وأما قوله تعالى: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ، فإنه أرادَ به تخويفَ
الكافرينَ وعظَتَهم، والتنبيهَ لهم على انقراضهم وتعطيل مساكنهم ولحوقهم
بالأمم قبلهم فيتعظون ويعتبرون بالنظر إلى آثار من كان قبلهم وخلوِّ مساكنهم وانهدام قصورهم فيتعظون عند رؤيتهم لبيوت من سلف قبلهم خاويةً قد سقطت على عروشها، وبئرٍ كانت يشرب أهلها قد غارَ معينها، وعطل غشاؤُها، والعربُ أبداً تبكي الآثار َ وتندبُ الديارَ وتصفُ الذَمَنَ والأطلال
وتقول: يا دارُ أينَ ساكنوك وبانوك وعامروك، قال اللهُ سبحانه: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) ، وقال: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) ، وقال: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) .(2/798)
وكل هذا وعظ وتحذير من الله سبحانه عذابَه ونزول
نِقَمه ومذكِّرة العمل للدارِ الباقية، وقال الأسودُ بن يعفر:
جَرت الرياحُ على محل ديارِهم ... فكأنهم كانوا على ميعادِ
فأرى النعيمَ وكل ما يُلها به ... يوما يصيرُ إلى بِلىً ونفاد
وما ذكَرهُ الله تعالى أبلغُ في الموعظة وأوجزُ وأبدعُ نظماً وأجدرُ أن يلوذ
به سامعه ويعملَ لمعاده.
فأمَّا قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) ... إلى قوله (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) .
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ) . (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) .
وكل شيء أقسمَ بذكره فإنما المرادُ به - والله أعلم - القسم بخالقه
تعالى ومقدره والنافع به والمحكم لعجيب صُنْعه وتدبيره، فحذفَ ذكرَ
الخالق لذلك اقتصاراً واختصاراً، وقد يمكنُ القسمُ بنفسِ الشيءِ العظيم
النفع به ولذلك أقسم بالتين والزيتون، لأن الانتفاع بهما وبما يعتصرُ من
زيت الزيتون كثير، وقد قيل إن التين والزيتون جبلان:
أحدُهما: الجوديّ الذي نزل عليه نوح، والآخرُ جبلُ طور سيناء، وقيل
غيرُ ذلك من المواضع الشريفة، وقيل هما مسجدُ بيت المقدس ومسجدُ مكة.
وقوله: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) " يعني مكة، وقد يجوزُ القسمُ بالمواضع الشريفة على وجه التعظيم، كما يجوزُ القسمُ بالله تعالى، وليسَ يُقسم بالشيء إلا على وجه التعظيم إما لكونه خالقا إلها أو لكونه رسولاً له أو لعظم الانتفاع به أو لغير ذلك مما يوجبُ تعظيمه، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قالوه وبالله التوفيق.(2/799)
(باب) الكلامُ في معنى التكرارِ وفوائِده ونقضِ ما يتعلقونَ به فيه
قالوا: ومما يدلُّ على فسادِ نظمِ القرآن ووقوعِ التخليطِ فيه كثرةُ ما فيه
من تكرارِ القصةِ بعينها مرةً بعد مرة وتكرارِ مثلها، وما هو بمعناها وتكرار
اللفظ والكلمة بعينها مراتٍ كثيرةً متتابعة، والإطالةُ بذلك، وذلك - زعموا - في وحشوٌ للكلام بما لا معنى له واستعمال له على وجهٍ قبيحٍ ضعيفٍ
مستغيث في اللغة، قالوا: وإن لم يكن الأمرُ على ما وصفناه فخبرونا ما
الفائدةُ بتكرار القصة الواحدة والقصص المتماثلة؟.
يقال لهم: ليس الأمر في ذلك على ما قدرتم، وللتكرار فوائدُ نحن
ذاكروها - إن شاء الله - فمنها أنّ الله سبحانه لما خاطب العرب بلسانها على وجهِ ما تستعملها في خطابها، وكانت تستجيزُ الإطالةَ والتكرارَ تارةً إذا ظنوا أن ذلك أبلغُ في مُرادِها وأنجع، وتقتصرُ على الاختصارِ أخرى في مواطنِ الاختصار، خاطبَهم اللهُ سبحانه على ما جرت عليه عادتُهم، والعربُ تقول: عجِّل عجِّلْ وقُم قُم، فتقول: والله لا أفعلُه، ثم والله لا أفعلُه، إذا أرادت التوكيد وحسمَ الطمعِ في فعله، وتقولُ تارة: واللهِ أفعلهُ بإسقاط لا فتختصرُ مرةً وتطولُه أخرى، ويقولُ قائلهم: آمُركَ بالوفاء وأنهاكَ عن الغدر، وآمُركَ بطاعةِ الله وأنهاكَ عن معصيته، والأمرُ بالوفاءِ نهي عن الغدر، والأمرُ بطاعةِ الله نهيٌ عن معصيته.(2/800)
وقال الشاعر:
كم نعمة كانت لنا كَمْ كَمْ وكَم
وقال آخر:
هلا سألتَ جموعَ كِندةَ ... حينَ قوم ولَّوا أينَ أينا
وقال عوفُ بنُ الجزع:
وكادت فزارةُ تُصلِّي بنا ... وأولى فزارةُ أولى فزارا
وذلك كثير لو تُتُبع، فعلى هذا الوجهِ من الكلامِ جاء قولُ الله تعالى:
(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) .
و (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) .
وقولُه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) ، وقولُه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) .
على أنّه يحتمل أن يكونَ معنى قوله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) إنَّ عسرا كان معه يُسرا، ثم إنَّ مع العسر يسرا عسرا آخر غير الأول.
ويحتملُ قولُه تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا حضَرتُم وعاينتُم
الملائكة، (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) .
إذا حُشرتم وحوسِبتم، ورأيتم أهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ فيكون ذلك في وقتين، ومتعلقا بشيئين.
ووجة آخرُ في حُسنِ التكرارِ من اللهِ عز وجلَّ، وهو أنّ في ذلكَ مرة بعد
مرةٍ من التثبيتِ لرسوله عليه السلام والمؤمنين، والمواعظةِ والتخويفِ لهم
والرغبةِ في طاعةِ اللهِ والانزجارِ عن معصيتهِ عند تكرارِ الكلام، وإعادةِ
القَصصِ وضَربِ الأمثالِ ما ليسَ في المرةِ الواحدةِ ولا شبهةَ على أحدٍ في
تعاظُمِ النفعِ بتكريرِ الزجرِ والوعظِ وعظيمِ موقعهِ من النفسِ وتوفيقِه للقلبِ
والتثبيتِ على طاعةِ الله، والإذْكارِ لجنتهِ ونارِه، قال اللهُ سبحانه:(2/801)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) .
فأخبر أن إنزاله أجزاءً ونُجوما وتكرارَهُ عليه في الأوقاتِ
المتراخيةِ تثبيتا له وللمؤمنينَ لأنهم إذا سمِعوا ما أخبرَ اللهُ سبحانه من إهلاكه
العاصينَ وتنجيَته المؤمنين كانوا أقربَ إلى طاعته وأشد انزجاراً عن معصيته.
ووجهٌ آخرُ في حُسنِ ذلك، وهو أن اللهَ سبحانه أنزلَ المتكررَ في أوقاتٍ
متغايرة، وأسبابٍ مختلفةٍ فَحَسُنَ منه تكرارُ القصةِ للزجرِ والموعظة، كما
يَحْسُنُ ذلكَ من الخطيبِ إذا خَطَبَ وتكلم في المحافلِ ويوم المجتمع.
ودَعى إلى حقنِ الدماءِ ونُصرةِ الجار، أو التطولِ والإفضال، فقد يجوزُ
ويحسنُ أن يكونَ في هذه المواقف إذا تغايرت واختلفت أسبابُه وخطبُه
وقيامُه في الناسِ ببعضِ ما كان ذكَرهُ في غير ذلك الموقف، وإنما يُستثقلُ
ويستغث التكرارُ إذا كانَ في موقفٍ واحد، وسببٍ واحد، واللهُ سبحانه إنما
كرر بعضَ القصَصِ والوعدِ والوعيدِ في أوقاتٍ متغايرةٍ ولأسبابٍ مختلفةٍ
فحسُنَ ذلك منه تعالى وساغَ على عادةِ أهلِ اللسان.
ووجهٌ آخرٌ أيضا يوجبُ حُسْنَ ذلكَ من القديمِ تعالى، وهو أنّ النبي
عليه السلام كان يحتاج إلى إنفاذِ الرسلِ والدعاةِ إلى النواحي والبلدانِ
ليدعوا إلى الحقِ وإلى طاعةِ الله وليقرأوا عليهم القرآنَ فأنزلَ الله سيرةَ نبيٍ
بعد نبيٍ وقصةً بعد قصةٍ، والقصةُ واحدة بألفاظٍ مختلفةٍ لِتقرَأ كل قصةٍ على
أهلِ ناحية، ولُتقرأ القصةُ الواحدةُ بالألفاظِ المختلفةِ على أهل الأطراف
والنواحي المختلفة، وربما علم أن سماعَ أهلِ النواحي المتغايرةِ القصةَ
الواحدةَ يكونُ لُطفاً لهم في الانزجارِ والانقيادِ إلى الإيمانِ فكررها وأنزلها
بألفاظ مختلفة على قدر ما أراده تعالى وعَلمهَ من اللطف، ثم على سماعِه
لتلكَ القصةِ بالألفاظِ المختلفة، وربما كان لطفُ أهل الناحيتينِ والمصيرينِ(2/802)
في استماعِ قصتينِ من قصصِ الرسلِ والإخبارِ بنوعينِ من العقاب، وإن
كانت سيرة النبِيينِ مع قومهما سواء، وإذا كان ذلك كذلك ساغَ وحَسنُ منه تعالى تكرارُ القصصِ والقصةِ الواحدةِ على سبيلِ ما وصفناه.
ومن الفوائدِ في تكرارِ القصةِ والقصصِ المتماثلةِ بالألفاظِ المختلفةِ على
الوزنِ الواحد، أنه تعالى إنما كرر ذلك لأن لا تقولَ قريشٌ أو بعضُها للنبيِ
- صلى الله عليه وسلم - كيف تتحدانا أن نأتي بمثلِ هذا الكلامِ الذي حُكيت به قصةُ نوح وموسى وإبراهيم، وليسَ له لفظٌ يُحكى به ويورده من البحر والوزنِ الذي أوردته إلا اللفظُ الذي بدأت به وسعيت إليه، فإن أوردناه بعينه، قلت: هذا نفسُ ما تلوتهُ عليكم وتحديتكمُ بمثله، وإن طالبتنا بمحاولةِ لفظٍ غيره، فليسَ للقصةِ والمعنى الذي عبرت عنه بهذا الوزنِ من الكلامِ لفظٌ غيرُ الذي أوردته وسَبقتَ إليه فكأنك إذاً تطالبنا بالمحالِ وهذهِ شبهةٌ كما ترى، فأرادَ الله تعالى حسمَ أطماعِ العربِ في التعلُّقِ بذلك فكرر القصة الواحدة، والقصَصَ المتماثلة والمعنى الواحدَ بألفاظٍ مختلفةٍ من بحرٍ واحدٍ وعلى وزنٍ واحدٍ هو وزنُ القرآنِ الخارجِ عن جميعِ النظومِ والأوزانِ لِيُعْلِمَهُم اقتدارَه وعظمَ البلاغةِ في كلامِه ويعرفَهم عجزَهُم عن ذلك ويقطعَ به شعثَهم وشُبههم، وهذا من جيِّدِ ما يُعتمدُ عليه في فوائدِ التكرارِ.
فإن قالوا: فما الفائدةُ في تكرارِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) ؟
قيل لهم: قد ذُكرَ في ذلك وجوه.
فمنها أنه أرادَ يا أيها الكافرون لا أعبدُ الآنَ ما تعبدون، ولا أنتم الآنَ
عابدونَ ما أعبدُ ولا أنا عابدٌ ما عبدتُم في المستقبل، ولا أنتم عابدونَ ما
أعبدُ في المستقبلِ وإنما أنزلت السورةُ في قومٍ المعلومُ عند الله من حالِهم(2/803)
أنّهم لا يؤمنونَ ولا يَعبدون اللهَ أبدا وإذا كان ذلك كذلك خرجَ الكلامُ على
هذا التأويل ِ عن أن يكونَ تكراراً.
ويُحتمل أيضًا أن يكونَ أراد لا أعبدُ ما تعبدونَ مع عبادتي الله بل أُفردهُ
بالعبادةِ وحدَه، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ مع عبادتكم الأصنامَ ولا أنا عابد ما عبدتُم مفردا لعبادِته ولا قارنا بينها وبين عبادة اللهِ تعالى وهذا أيضاً يخرجُ
الكلامَ عن التكرار.
ويُحتمل أيضا أن يكونوا قالوا له: اُعبدْ بعضَ آلهتنا حتى نعبدَ إلهكَ
فقال: لا أعبدُ ما تعبدونَ ولا أُسَلِّمُه، ولا أنتم عابدونَ ما أعبد، يريدُ إن لم
تؤمنوا حتى أَعبُدَ أنا بعضَ آلهتكم، وهذا أيضًا يخرجُ الكلامُ من التكرار.
ويحتملُ أيضًا أن يكونوا قالوا له: اُعبدْ آلهتنا يوما واحدا أو شهرا واحدا
حتى نعبد إلهكَ يوما أو شهرا أو حولا، فأنزل الله تعالى: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) .
على شريطةِ أن تؤمنوا به في وقتِ وتشركوا به في وقتِ آخر، وهذا أيضا يُزيلُ معنى التكرار.
وقد قيل أيضا إنَّ قريشا أرادت النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبادةِ آلهتِها ليعبُدوا ما يعبدُ وأنّهم كرروا هذا القولَ وأبدوا وأعادوا به، فكررَ اللهُ سبحانه جوابَه، وأبدى وأعاده لكي يقطعَ بذلكَ أطماعَهم فيما أرادوه منه.
قالوا وهو تأويلُ قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، أي: تلينُ لهم فيلينون في أذاهُم، وهذا أيضا فائدة أخرى في جنسِ التكرارِ في هذهِ
السورةِ وترِدادِ الكلامِ فبطلَ تعلُّقُهم بهذا وإعظامُهم الأمر فيه.
وإن قالوا فما معنى تكرار: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) .
وقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، وقوله في سورةِ الرحمن:(2/804)
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، قيل لهم: فليسَ في هذا شيءٌ من التكرارِ
المستكرهِ بل هو الفصاحةُ وما عليه عادةُ أهل الخطاب.
فأما قولُه تعالى في المرسلاتِ: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فهو: أنه ذكر
فيها، تعالى أمراً بعد أمرٍ من خلقِهم وأهلِ الكفر والطغيانِ من عبادِه خلَفِهم
بسلَفِهم ثم قال عقيبَ كل شيءِ يذكره من ذلك فويل يومئذِ للمكذبين بهذا
الشيء الأول، الذي ذكرتُه، ثم ويل يومئذٍ للمكذبين بالشيء الثاني الذي
ذكرتُه، فالويلُ الثاني غيرُ الويلِ الأولِ وربما كان لغيرِ من له الويلُ الأولُ كأن
المكذبَ بالويلِ الأول مما ذكره غيرُ المكذب الثاني، لأنّه تعالى قال:
(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) .
بإهلاكنا الأولين وإلحاقنا بهم الآخرين، ثم قال: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) .
ثم كذلكَ أخبرَ بالويلِ لمكذّبِ كلِ شيءٍ غعده ووصفَه من نعمه ونقمِه ووجوبِ أفضالهِ وحكْمِه، فخرجَ ذلك عن أن يكونَ تكرارا لأن القائلَ قد يقولُ لغيره، ألم نُنعِم عليكَ بإيوائكِ وأنت طريد، أتكذبُ بهذا، ألم أُهْلك عدوكَ وأَنْصُر وليكَ ومَنْ نَصرك، أتكذّبُ بهذا، ويقولُ: ويل لمن كفر نعمتي وويل لمن جحدَ حقّي، وويل لمن ظلمني وويل لمن كذبَ على، في أمثالِ ذلكَ مما لا يعدُّه أحد من أهلِ اللسان عيًّا ولا لَكْنًا وإطالةً وتكراراَ.
وأمَّا: قولُه تعالى في سورةِ القمر: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فهو جارٍ أيضاً على
هذه السبيل، لأنه تعالى عدَّد فيها نعماَ وأفْضالاً وعقاباً وانتقاماً وأموراً متغايرة، ثم قال عقيبَ كل شيءِ من ذلك: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يعني مُتعِظٍ ومنزجرٍ بهذا، لأنه قالَ تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) .(2/805)
ثم قال: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) .
وتيسير القرآن غير الآية والسفينة والغرق، ثم قال في آخرها: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) .
يعني أشياعَ أهلِ الكفرِ والخلافِ على النبيِ - صلى الله عليه وسلم -
وذلك غيرُ القصصِ الأولةِ فكأنّه قال: فهل من مدَّكرٍ منكم بما كان
من إهلاكي لمن كان قبلكم وأشياعكم.
فأما قولُه في مواضعَ من هذهِ السورة: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، فإنّه تعالى إنما قال ذلك لأنه أودعً في القرآنِ أقاصيصَ الأولينَ
وسيرَ المتقدمين، وما كان من تفضله على المؤمنين وإهلاكه للكافرينَ
بضروبِ الهلاكِ والانتقامِ، وقالَ عقيبَ كل قصةٍ من تلكَ القصص، ولقد
يسرنا لكم قراءةَ القرآن وحفظَ القصصِ المتغايرةِ التي أودعناها فهل من
مدكر، ومتعظٍ بتيسيرنا لذلكَ وسماعِه وحفظِه له.
وقد يقولُ القائل: لقد يسرتُ سبيلَ هذا البابِ من العلمِ فاسلُكه
واعرفه، ثم يقولُ في غيره أيضاً: ولقد سهَّلتُ لك هذا البابَ الآخرَ من
العلم فاضبطه وحصِّله ثم كذلك شأنُ ما نبَّه عليه وسهَّل السبيلَ إليه، وكذلك لما أودعَ اللهُ سبحانه كل شيءٍ من القرآن وموعظةً وقصةً غير الأخرى جازَ أن يقول: ولقد يسَّرنا القرآنَ الذي فيه ذكرُ هذه القصة فهل من مدّكر بها، ثم يقول: ولقد يسَّرنا أيضا القرآنَ الذي فيه ذكرُ القصة الثانية والثالثة وما بعدَها فهل من مدكر بذلك، وإذا كان هذا كذا لم يكن ذلكَ من المعنى والتكرار بسبيل.
وكذلك حكمُ قوله تعالى في الئمل: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)(2/806)
ثم قال: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) .
يقولُ اللهُ تعالى مع ذكر كل نعمةٍ من نعمه وأنه من آثارِ قدرته وشواهدِ ربوبيته: هل مع اللهِ إله يفعلُ ذلك أو يقدر، على وجه التنبيه لهم والإذكار بنعمِه والدعاء إلى الاستدلال على وحدانيته، وليس هذا ونحوه من العيِّ والتكرار في شيء.
فأمَّا تكرارُه في سورة الرحمن: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) .
فإنه أيضا ليس بتكرار، لأنه عدَّد لهم ضروباً من الإنعام مختلفة، ثم قال للإنس والجن عقيبَ ذكرِ نعمه، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، أي بأيِّ هذا تكذبان أم بهذا أم بهذا، فيدلُهم بذلك على كثرةِ نعمِه عليهم، وأنه لا ينبغي أن يكفروا ويجْحَدوا شيئا من ذلك.
وقد تقول العربُ لمن تنهاهُ عن البغيِ والفساد في الأرض، أتقتلُ فلاناً
وأنتَ تعلمُ براءَة ساحته، وتقتلُ فلانا وأنتَ تعرفُ نسكَهُ ودينه، وتقتلُ فلانا
وأنت تعلَمُ إجابةَ دعوته، وحُسنَ قبوله في الناس، ولا يزالُ يعددُ عليه
أوصافَ من ينهاهُ عن قتله، ويعتقدُ انزجاره بذكرِ صفاته، ويكررُ ذكرَ القتلِ
وليسَ ذلك بعيٍّ ولا تكرارٍ من القولِ بل هو نفسُ تعبيرِ البراعة، وحُسنِ
اللَّسَن، فسقط ما تعلقوا به.
فإن قالوا: فإن اللهَ تعالى قد كرر في هذه السورة قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، عند ذكر ما ليسَ من النعم والإفضال في شيء، فقال: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) .
وقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) .(2/807)
يقال لهم: إن ذِكرَه للمؤمنين وإعلامَه إيَّاهُم ما أعده لأهلِ الكفرِ من
عذاب السعيرِ ووصفه لجهنم وشواظها وشرِّها نعمة له على المؤمنينَ الذين
عَلمَ أنهم ينتفعون بهذا الوعظ والتحذير، وأنّهم ينهونَ بذلك عنه ويعرفونَ
مرادَهُ ويخافون سطوتَهُ وعقابَهُ ويرجونَ رحمتَهُ وثوابَه، لأن ذلك لطفاَ وداعٍ
إلى الطاعةِ وحُسنِ الانقياد لله المفضي لهم إلى الخلودِ في العيش السليمِ
والنعيمِ الدائم المقيمِ فذكرُ الوعيدِ للمؤمنين ووصفُ جهنَّم وحرَّها وشدةِ
نكالها من أعظمِ النعمِ على المؤمنين من الجن والإنس، وإذا كان ذلك
كذلك صحَّ ما قلناه واضمَحلَّ ما تعلقوا به.
فأمَّا قولُه تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) .
فليس بتكرار، لأنه قيل إنَّ السرَّ ما أسرَّوه في أنفسهم، والنجوى ما أبدوهُ وتناجَوا به بينَهم، ولو كان السرّ هو النّجوى لجازَ أن يذكرُه مكررا بلفظينِ معناهما واحد، كما يقول القائل: آمركَ ببرِ والديكَ وأنهاكَ عن عقوقهم، وآمركَ بالوفاء وأنهاك عن الغدر، ومعنى اللفظين واحد، ولا تعلُّق لهم في هذا أيضًا.
وهذه جمل تكشفُ عن نقضِ ما ذكرناه من مطاعنهم في كتاب الله عز وجل من جهةِ اللغة، وننبِّهُ على طريقِ الجواب عما أضربنا عن ذكره إن شاء الله تعالى.
تم الكتاب بحمد الله تعالى ومنته.
وفرَغ منه كاتِبُه حامدًا الله تعالى ومصلِّيا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآلهِ وصحابته وحسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيل.(2/808)