موقف متقدمى الباطنية من تفسير القرآن الكريم
علمت أن الغرض الأول الذى تقوم عليه دعوة الباطنية وتتركز فيه: هو العمل على هدم الشرائع عموماً، وشريعة الإسلام على الخصوص. فكان لزاماً عليهم وقد قاموا يحاربون الإسلام - أن يُعمِلوا معاول الهدم فى ركن الإسلام المكين، وهو القرآن الكريم، وقد عجموا معاولهم كلها فلم يجدوا مِعْوَلاً أصلب ولا أقوى على تنفيذ غرضهم من مِعْوَل التأويل والميل بالآيات القرآنية إلى غير ما أراد الله.
كتب عبيد الله بن الحسن القيروانى إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجنانى رسالة طويلة جاء فيها: ".. وإنى أوصيك بتشكيك الناس فى القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وتدعوهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة فى السماء، وإبطال الجن فى الأرض، وأوصيك أن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير، فإن ذلك عون لك على القول بقِدَم العالَم".
رأى هذا الزعيم الباطنى أن التشكيك فى القرآن خير معوان لهم على تركيز عقائدهم، ورأى رأيه أهل الباطن جميعاً فقالوا: "للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه باطنه دون ظاهره العلوم من اللُّغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللُّب إلى القشر، والمتمسك بظاهره معذَّب بالشقشقة فى الكتاب، وباطنه مُؤدِّ إلى ترك العمل بظاهره، وتمسكوا فى ذلك بقوله تعالى فى الآية [13] من سورة الحديد: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} .
فانظر إليهم كيف وضعوا هذه القاعدة لفهم نصوص القرآن الكريم، ثم اعجب ما شاء لك أن تعجب من استدلالهم بهذه الآية الكريمة على قاعدتهم التى قَعَّدوها؟ ولستُ أدرى ما صلة هذه الآية بتلك القاعدة والآية واردة فى شأن من شئون الآخرة ينساق إلى فهمه كل مَن يمر بالآية بدون كلفة ولا عناء.
* *
* من تأويلات الباطنية القدامى:
على هذه القاعدة السابقة جرى القوم فى شرحهم لكتاب الله تعالى، فكان من تأويلاتهم ما يأتى:
"الوضوء" عبارة عن موالاة الإمام، و "التيمم" هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذى هو الحُجَّة، و "الصلاة" عبارة عن الناطق الذى هو الرسول بدليل قوله تعالى فى(2/178)
الآية [45] من سورة العنكبوت: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} .. و "الغُسْل، تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى "الاحتلام". و "الزكاة" عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.. و "الكعبة" النبى. و "الباب" علىّ. و "الصفا" هو النبى. و "المروة" علىّ. و "الميقات" الإيناس. و "التلبية" إجابة الدعوة. و "الطواف بالبيت سبعاً" موالاة الأئمة السبعة. و "الجنة" راحة الأبدان من التكاليف. و "النار" مشقتها بمزاولة التكاليف.
وتأوَّلوا أنهار الجنة فقالوا: "أنهار من لبن" أى معادن العلم؛ اللبن العلم الباطن، يرتفع به أهلها، ويتغذون به تغذياً تدوم به حياتهم اللطيفة، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم، كما أن حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدى الأم. "وأنهار من خمر" هو العلم الظاهر. "وأنهار من عسل مصفى" هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة.
كذلك نجد الباطنية يرفضون المعجزات، ولا يعترفون بها للرسل، وينكرون نزول ملائكة من السماء بالوحى من الله، بل وزادوا على ذلك فأنكروا أن يكون فى السماء مَلَك وفى الأرض شيطان، وأنكروا آدم والدجَّال، ويأجوج ومأجوج، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام آيات من القرآن تُكذِّب دعواهم هذه، فتخلَّصوا منها بمبدائهم الذى ساروا عليه فى تفسيرهم وهو إنكار الظاهر والأخذ بالباطن، وأوَّلوا هذه الآيات بما يتفق ومذهبهم، فتأوَّلوا "الملائكة" على دعاتهم الذين يدعون إلى بدعتهم. وتأوَّلوا "الشياطين" على مخالفيهم. وتأوَّلوا كل ما جاء فى القرآن من معجزات الأنبياء عليهم السلام، فقالوا: "الطوفان" معناه الطوفان العلم ... أغرق به المتمسكون بالسُّنَّة، و "السفينة" حرزه الذى تحصن به مَن استجاب لدعوته. و "نار إبراهيم" عبارة عن غضب نمروذ عليه لا النار الحقيقية. و "ذبح إسحاق" معناه أخذ العهد عليه. و "عصا موسى" حُجَّته التى تلقفت ما كانوا يأفكون من الشُبه لا الخشب. "وانفلاق البحر" افتراق علم موسى فيهم عن أقسام. و "البحر" هو العلم. و "الغمام الذى أظلمهم" معناه الإمام الذى نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم. و "الجراد والقُمَّل والضفادع" هى سؤالات موْسى والتزاماته التى سُلِّطت عليهم. و "المن والسلوى" علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى. و "تسبيح الجبال" معناه تسبيح رجال شداد فى الدين راسخين فى اليقين. و "الجن الذين ملكهم سليمان بن داود" باطنية ذلك الزمان. و "الشياطين" هم الظاهرية الذين كُلِّفوا بالأعمال الشاقة. و "عيسى" له(2/179)
أب من حيث الظاهر، وإنما أراد بالأب المنفى: الإمام، إذ لم يكن له إمام، بل استفاد العلم من الله بغير واسطة، وزعموا - لعنهم الله - أن أباه يوسف النجار و "كلامه فى المهد" اطلاعه فى مهد القالب قبل التخلص منه على ما يَطِّلِع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب. و "إحياء الموتى من عيسى" معناه الإحياء بحياة العلم عن موت الجهل بالباطن. و "إبراؤه الأعمى: " عن عمى الضلالة. و "الأبرص" عن برص الكفر ببصيرة الحق المبين. و "إبليس وآدم" عبارة عن أبى بكر وعلىّ، إذ أُمِرَ أبو بكر بالسجود لعلىّ
والطاعة له فأبى واستكبر. و "الدجال" أبو بكر، وكان أعوراً إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن. و "يأجوج ومأجوج" هم أهل الظاهر".
بل بالغوا فقالوا: "إن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة، فساسوا العامة بالنواميس والحيل، طلباً للزعامة بدعوة النبوة والإمامة.
هذا.. وإن مما زعمته الباطنية: أن مَن عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولَّوا فى ذلك قوله تعالى فى الآية [99] من سورة الحِجْر: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} .. وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
كذلك استحل الباطنية نكاح البنات والأخوات وجميع المحارم، بحجة أن الأخ أحق بأُخته، والأب أولى بابنته ... وهكذا: ولست أدرى على أى وجه وتأوَّلوا آية النساء الى حرَّمت ذلك، ومنعته منعاً باتاً!!
ويقول القيروانى فى رسالته التى أرسلها إلى سليمان بن الحسن: ".. وينبغى أن تحيط علماً بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم فى أقوالهم، كعيسى ابن مريم، قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل فى السبت، وأبدل قِبْلة موسى بخلاف جهتها..
وبذلك قتلته اليهود لما اختلفت كلمته، ولا تكن كصاحب الأُمَّة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: {الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى فى دعواه التى لم يكن عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعوذة، ولما لم يجد المحق فى زمانه عنده برهاناً قال له: {لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29] ، وقال لقومه: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] لأنه كان صاحب الزمان فى وقته".
ثم قال فى آخر هذه الرسالة: ".. وما العجب من شئ كالعجب من رجل يدَّعى العقل، ثم يكون له أُخت أو بنت حسناء وليس له زوجة فى حُسْنها، فيُحَرِّمها على نفسه ويُنكحها من أجنبى، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأُخته، وبنته من الأجنبى؛ وما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرَّم عليهم الطيبات وخوَّفهم بغائب لا يُعقل، وهو الإله(2/180)
الذى يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور، والحساب، والجنَّة، والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلاً وجعلهم له فى حياته، ولذُرِّيته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك أموالهم بقوله: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] .
فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنَّة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنَصَب فى الصلاة والصيام والجهاد والحج"؟
ثم قال لسليمان بن الحسن فى هذه الرسالة: ".. وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفى هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذَّاتها محرَّمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئاً لكم ما نلتم منْ الراحة عن أمرهم".
ومن جملة تأويلاتهم الباطلة التى يتوصلون بها إلى هواهم النفسى، ومأربهم الشخصى، أنهم بعد أن يلقوا على المدعو ما يشككونه به، وتتطلع إلى معرفته من جهتهم نفسه، ويقولون له: لا نظهره إلا بتقديم خير عليه، فيطلبون مائة وتسعة عشر درهماً من السبيكة الخالصة. ويقولون: هذا تأويل قوله تعالى: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20] .. فالحاء والسين والنون والألف إذا جُمِع عددها بحساب الجُمَّل يكون مبالغه مائة وتسعة عشر".
ومن ذا الذى قال إن القرآن يخضع فى تفسيره وفهم معانيه إلى حساب الجُمَّل؟.. اللهم إن هذا لا يصدر إلا عن مُخرِّف أو زنديق يريد أن يضل الناس ويحتال على سلب أموالهم بدعوى يدعيها على كتاب الله!!
كذلك نجد الباطنية يحرصون على نفى وجود الإله الحق، والنبى المرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ليتوصلوا بذلك إلى رفع التكاليف، فنراهم يقولون للمبتدئ: "إن الله خلق الناس واختار منهم محمداً (صلى الله عليه وسلم) ، فيستحسن المبتدئ هذا الكلام، ثم يقول له: أتدرى مَن محمد؟ فيقول: نعم، محمد رسول الله، خرج من مكة، وادَّعى النبوة، وأظهر الرسالة، وعرض المعجزة. فيقول له: ليس هذا الذى تقول إلا كقول هؤلاء الحمير - يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام - إنما محمد أنت. فيستعيذ السامع ويقول: ليست أنا محمداً، فيقول له: الله تعالى وصفه فى هذا القرآن فقال: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(2/181)
[التوبة: 128] .. وهؤلاء الحمير يقولون: من مكة.. فيقول له الغر الغمر: على أى معنى تقول أنا محمد؟ فيقول: خلقك وصوَّرك خلقة محمد، فالرأس بمنزلة الميم، واليدان بمنزلة الحاء، والسُرَّة بمنزلة الميم، والرجلان بمنزلة الدال، وكذلك أنت علىّ أيضاً، عينك هى العين، والأنف هى اللام، والفم الياء".
وبهذا يوهمه أنه هو محمد الذى جاء ذكره فى القرآن، أما ما يدعى من وجود رسول اسمه محمد، فهذا ظاهره غير مراد.
ولأجل أن يوهمه أيضاً بأنه لا إله موجود على الحقيقة، وما جاء فى القرآن من ذلك فظواهر غير مرادة، نجده يقول للمبتدئ: إن المراد بإثبات الذات يرجع إلى نفسك، ويُؤوِّلون عليه قوله تعالى:.. {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هاذا البيت} [قريش: 3] ويقولون: الرب هو الروح والبيت هو البدن.
ولقد وصل الغلو ببعض الباطنية إلى ادعاء أُلوهية محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأنه هو الذى كلَّم موسى بقوله: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] .. وفى هذا يروى لنا البغدادى صاحب الفَرْق بين الفِرَق قصة رجل دخل فى دعوة الباطنية، ثم وفقه الله لتركها والرجوع لرشده.. يحكى هذا الرجل قصته للبغدادى فيقول: "إنهم لما وثقوا بإيمانه قالوا له: إن المسمين بالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وكل مَن ادَّعى النبوة: كانوا أصحاب نواميس ومخاريق، وأحبوا الزعامة على العامة، فخدعوهم بنيرنجات، واستعبدوهم بشرائعهم - قال الحاكى للبغدادى: ثم ناقض الذى كشف لى هذا السر بأن قال: ينبغى أن تعلم أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر هو الذى نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} .. ثم قال: فقلت: سخنت عينك! تدعونى إلى الكفر برب قديم خالق للعاَلم، ثم تدعونى مع ذلك إلى الإقرار بربوية إنسان مخلوق، وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهاً مرسلاً لموسى؟ فإن كان موسى عندك كاذباً، فالذى زعمتَ أنه أرسله أكذب، فقال: إنك لا تفلح أبداً، وندم على إفشاء أسراره إلىَّ وتُبْتُ من بدعتهم".
فانظر إليهم - لعنهم الله - كيف يصرفون القرآن عن أن يكون الله هو المتكلم به، ويدَّعون أنه كلام إلههم المزعوم محمد بن إسماعيل!!.. أليس هذا غلواً فى الإلحاد؟ وإغراقاً فى الكفر والعناد؟
وبين أيدينا كتاب أسرار الباطنية، وهو يكشف لنا عن نواياهم ويفضح أسرارهم وخباياهم. وهو لمحمد بن مالك اليمانى أحد علماء القرن الخامس الهجرى، ولا أريد(2/182)
أن أُطيل على القارئ بذكر ما فيه من مخازى القوم، ولكن أكتفى بذكر نبذة من الكتاب. ضمنها المصنِّف ما شهده بنفسه من ضلالهم وإضلالهم، وذلك حين اندس بينهم متظاهراً بدخوله فى زمرتهم، ليقف بنفسه على ما بلغه عنهم من أباطيل وأضاليل، وإنما اخترت هذه النبذة بالذات، لأنها تعطينا فكرة واضحة عن مقدار تلاعب الباطنية بكتاب الله تحت ستار التأويل. وعن مبلغ استهزائهم بعقول العامة الذين وقعوا فيما نصبوه لهم من الأحابيل!!
* *
* مقالة محمد بن مالك اليمانى فى الباطنية:
يقول محمد بن مالك اليمانى: "أول ما أشهد به وأشرحه، وأُبيِّنه للمسلمين وأُوضِّحه، أن له - يريد علىّ بن محمد الصليحى زعيم باطنية اليمن فى وقته - نواباً يسميهم الدعاة المأذونين، وآخرين يلقبهم المُكَلبين، تشبيهاً لهم بكلاب الصيد، لأنهم ينِصبون للناس الجبائل، ويكيدونهم بالغوائل، وينقبضون عن كل عاقل، ويُلبِّسون على كل جاهل، بكلمة حق يُراد بها الباطل، ويحضونه على شرائع الإسلام، من الصلاة والزكاة والصيام، كالذى ينثر الحب للطير ليقع فى شِرْكه، فيقيم أكثر من سنة يمعنون به، وينظرون صبره، ويتصفحون أمره. ويخدعونه بروايات عن النبى صلى الله عليه وسلم مُحرَّفة، وأقوال مزخرفة، ويتلون عليه القرآن على غير وجهه، ويُحرِّفون الكَلم عن مواضعه، فإذا رأوا منه الانهماك والركون والقبول والإعجاب بجميع ما يُعلِّمونه، والانقياد بما يأمرونه، قالوا حينئذ: اكشف عن السرائر ولا ترض لنفسه ولا تقنع بما قنع به العوام من الظواهر، وتدبر القرآن ورموزه، واعرف مُثله وممثوله، واعرف معانى الصلاة والطهارة، وما روى النبى صلى الله عليه وسلم بالرموز والإشارة، دون التصريح فى ذلك والعبارة، فإنما جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة، لممثولات محجوبة، فاعرص الصلاة وما فيها، وقف على باطنها ومعانيها، فإن العمل بغير علم لا ينفع به صاحبه. فيقول: عَمّ أسأل؟ فيقول: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] .. فالزكاة مفروضة فى كل عام مرة، وكذلك الصلاة، مَن صلاها مرة فى السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار، وأيضاً فالصلاة والزكاة لهما باطن لأن الصلاة صلاتان، والزكاة زكاتان، والصوم صومان، والحج حجان، وما خلق الله سبحانه من ظاهر إلا وله باطن، يدل على ذلك: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] ، و {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] .. ألا ترى أن البيضة لها ظاهر وباطن؟ فالظاهر ما تساوى به الناس، وعرفه الخاص والعام، وأما الباطن فقصر علم الناس به عن العلم به، فلا يعرفه إلا القليل، من ذلك قوله: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ(2/183)
إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ، وقوله:
{وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24] ، وقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] .. فالأقل من الأكثر الذين لا عقول لهم.
و"الصلاة" و "الزكاة" سبعة أحرف دليل على محمد وعلىّ صلى الله عليهما، لأنهما سبعة أحرف، فالَمعْنِىُ بالصلاة والزكاة ولاية محمد وعلىّ، فمن تولاهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة، فيوهمون على مَن لا يعرف لزوم الشريعة والقرآن وسنن النبى صلى الله عليه وسلم، فيقع هذا من ذلك المخدوع بموقع الاتفاق والموافقة، لأن مذهب الراحة والإباحة يريحهم مما تُلزمهم الشرائع من طاعة الله، ويبيح لهم ما حُظِرَ عليهم من محارم الله، فإذا قبل منهم ذلك المغرور هذا قالوا له: قرِّب قُرباناً ليكون لك سلما ونجوى، ونسأل لك مولانا يحط عنك الصلاة، ويضع عنك هذا الإصر، فيدفع اثنى عشر ديناراً، فيقول ذلك الداعى: يا مولانا؛ إن عبدك فلاناً قد عرف الصلاة ومعانيها، فاطرح عنه الصلاة وضع عنه هذا الإصر، وهذا نجواه إثنا عشر ديناراً، فيقول اشهدوا أنى قد وضعت عنه الصلاة ويقرأ له: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . فعند ذلك يقبل إليه أهل هذه الدعوة ويهنئونه ويقولون: الحمد لله الذى وضع عنك وزرك، الذى أنقض ظهرك. ثم يقول له ذلك الداعى - الملعون - بعد مدة: قد عرفت الصلاة وهى أول درجة، وأنا أرجو أن يُبلِّغك الله إلى أعلى الدرجات، فأسأل وابحث، فيقول: عمّ أسأل؟ فيقول له: سل عن الخمر والميسر، اللذين نهى الله تعالى عنهما: هما أبا بكر وعمر لمخالفتهما على علىّ، وأخذهما الخلافة دونه، فأما ما يُعمل من العنب والزبيب والحنطة وغير ذلك فليس بحرام، لأنه مما أنبتت الأرض، ويتلو عليه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] ... إلى آخر الآية، ويتلو عليه: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} [المائدة: 93] .. إلى آخر الآية، والصوم: الكتمان، فيتلو عليه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] يريد كتمان الأئمة فى وقت استتارهم خوفاً من الظالمين، ويتلو عليه: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمان صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] فلو كان عَنِىَ بالصيام ترك الطعام لقال: فلن أُطعم اليوم
شيئاً، فدل على أن الصيام الصموت، فحينئذ يزداد ذلك المخدوع طغياناً وكفراً، وينهمك إلى قول ذلك الداعى الملعون، لأنه أتاه بما يوافق هواه، والنفس أمَّارة بالسوء.. ثم يقول له: ادفع النجوى تكن لك سلماً ووسيلة حتى نسأل مولانا يضع عنك الصوم، فيدفع اثنى عشر ديناراً، فيمضى به إليه فيقول: يا مولانا؛ عبدك فلان قد عرف معنى الصوم على الحقيقة، فأبح له الأكل فى رمضان، فيقول له: قد وثَّقته وأمَّنته على سرائرنا؟ فيقول له: نعم، فيقول: قد وضعتُ عنه ذلك، ثم يقيم بعد ذلك مدة، فيأتيه ذلك الداعى الملعون فيقول له: قد عرفتَ ثلاث درجات، فاعرف الطهارة ما هى، ومعنى الجنابة ما هى فى التأويل، فيقول له: فسِّر لى ذلك، فيقول له: اعلم أن معنى الطهارة طهارة القلب، وأن المؤمن طاهر بذاته، والكافر نجس لا يطهره الماء ولا غيره، وأن الجنابة هى موالاة الأضداد، أضداد الأنبياء والأئمة، فأما المِنَى فليس بنجس، منه خلق الله الأنبياء، والأولياء، وأهل طاعته، وكيف يكون نجساً وهو مبدأ خلق الإنسان، وعليه يكون أساس البنيان؟ فلو كان التطهير منه من أمر الدين لكان الغُسْل من الغائط والبول أوجب، لأنهما نجسان، وإنما معنى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} [المائدة: 6] معناه: وإن كنتم جهلة بالعلم الباطن فتعلَّموا واعرفوا العلم الذى هو حياة الأرواح، كالماء الذى هو حياة الأبدان، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .. وقوله: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5-6] .. فلما سمَّاه الله بهذا دَلَّ على طهارته، ويوهمون ذلك المخدوع بهذه المقالة، ثم يأمره ذلك الداعى أن يدفع اثنى عشر ديناراً، ويقول: يا مولانا، عبدك فلان قد(2/184)
عرف معنى الطهارة حقيقة وهذا قربانه إليك، فيقول: اشهدوا أنى قد حللت له ترك الغُسل من الجنابة، ثم يقيم مدة فيقول له هذا الداعى الملعون: قد عرفتَ أربع درجات، وبقى عليك الخامسة، فاكشف عنها، فإنها منتهى أمرك وغاية سعادتك، ويتلو عليه: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فيقول له: ألهمنى إياها ودلنى عليها، فيتلو
عليه: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هاذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] .. ثم يقول له: أتحب أن تدخل الجنة فى الحياة الدنيا؟ فيقول: وكيف لى ذلك؟ فيتلو عليه: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} [الليل: 13] . ثم يتلو عليه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 32] .. والزينة ههنا: ما خفى على الناس من أسرار النساء التى لا يَطَّلع عَلِيها إلا المخلصوصون بذلك، وذلك قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] .. والزينة مستورة غير مشهورة، ثم يتلو عليه: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22-23] .. فمن لم ينل الجنة فى الدنيا لم ينلَها فى الآخرة، لأن الجنة مخصوص بها ذوو الألباب، وأهل العقول دون الجُهَّال، لأن المستحسن من الأشياء ما خفى، ولذلك سميت الجنَّة جَنّة لأنها مستجنة، وسميت الجِن جِنا لاختفائهم عن الناس، والمجنة المقبرة لأنها تستر مَن فيها، والترس المجن لأنه يُستتر به، فالجَنَّة ههنا: ما استتر عن هذا الحق المنكوس الذين لا علم لهم ولا عقول،(2/185)
فحينئذ يزداد هذا المخدوع انهماكاً، ويقول لذلك الداعى الملعون: تَلَطَّف فى حالى، وبَلِّغنى إلى ما شوَّقتنى إليه، فيقول: ادفع النجوى اثنى عشر ديناراً تكون لك قرباناً وسلماً، فيمضى به فيقول: يا مولانا؛ إن عبدك فلاناً قد صَحَّت سريرته، وصفت خبرته وهو يريد أن تُدخله الجنة، وتُبلغه حد الأحكام، وتزوِّجه الحور العين، فيقول له: قد وثَّقته وأمَّنته؟ فيقول: يا مولانا؛ قد وثَّقته وأمَّنته وخبرته فوجدته على الحق صابراً، ولأنعمك شاكراً، فيقول: عِلْمُنا صعب مستعصب لا يحمله إلا نبى مرسل، أو مَلك مُقرَّب، أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان، فإذا صح عند حاله فاذهب به إلى زوجتك فاجمع بينه وبينها، فيقول: سمعاً وطاعة لله ولمولانا، فيمضى به إلى بيته، فيبيت مع زوجته، حتى إذا كان الصباح قرع عليهما الباب وقال: قوما قبل أن يعلم نبأنا هذا الخلق المنكوس،
فيشكر ذلك المخدوع ويدعو له، فيقول له: ليس هذا من فضلى، هذا من فضل مولانا، فإذا خرج من عنده تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى منهم أحد إلا بات مع زوجته كما فعل ذلك الداعى الملعون، ثم يقول له: لا بد لك أن تشهد هذا المشهد الأعظم عند مولانا، فادفع قربانك، فيدفع اثنى عشر ديناراً ويصل به ويقول: يا مولانا؛ إن عبدك فلاناً يريد أن يشهد المشهد الأعظم، وهذا قربانه، حتى إذا جن الليل، ودارت الكؤوس، وحميت الرؤوس، وطابت النفوس، أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفأوا السراج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه فى يده، ثم يأمر المقتدى زوجته أن تفعل كفعل الداعى الملعون وجميع المستجيبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل له، فيقول له: ليس هذا من فضلى، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين فاشكروه ولا تكفروه على ما أطلق من وثاقكم، ووضع عنك أوزاركم، وحَطَّ عنكم آصاركم، ووضع عنكم أثقالكم، وأحلَّ لكم بعض الذى حرَّم عليكم جُهَّالكم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] .
قال محمد بن مالك - رحمه الله تعالى - هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله تعالى لهم بالمرصاد، والله تعالى علىّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعتُ عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد علىّ بجميع ما ذكرته، عالِم به، ومَن تَكلَّم عليهم بباطل فعليه لعنة الله، ولعنة اللاعنين، والملائكة، والناس أجمعين، وأخزى الله مَن كذب عليهم، وأعدّ لهم جهنم وساءت مصيراً، ومَن حكى عنهم بغير ما هم عليه فهو يخرج من حَوْل الله وقوته إلى حَوْل الشيطان وقوته.. "(2/186)
وبعد.. ألستَ ترى معى أن تأويلهم للقرآن تأويل فاسد لا يقوم على أساس ولا يستند إلى برهان، وإنما هى أوهام وأباطيل، غروراً بها ضعاف العقول ليسلخوهم من الدين، وليدخلوهم فى زمرة الملحدين وحزب الشياطين؟ أعتقد ذلك، وأظن أن سؤالاً يدور بخلد القارئ هو: كيف نجزم بنسبة هذه التأويلات كلها إلى الباطنية مع وجود التناقض والاختلاف بين بعض المعانى التى نُقِلتْ عنهم للفظ الواحد؟ أليس هذا دليلاً على عدم صحة كل ما يُنسب إليهم؟.. والحق أن السؤال وارد، ولكنه مدفوع بما ذكره الغزالى من أن سر هذا الاضطراب راجع إلى أنهم كانوا لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال، فلذلك تختلف كلمتهم، ويتفاوت نقل المذهب عنهم.
* * *(2/187)
البابية والبهائية
كلمة إجمالية عن نشأة البابية والبهائية
البابية: نسبة إلى الباب، وهو لقب ميرزا علىّ محمد، الذى ابتدع هذه النِحْلة، وإليه تُنسب هذه الطائفة، باعتباره المؤسس الأول لها.
والبهائية: نسبة إلى بهاء الله، وهو لقب ميرزا حسين على، الزعيم الثانى للبابية، وإليه تُنسب هذه الطائفة، باعتباره المؤسس الثانى لها.
وأصل نشأة هذه الطائفة: أن ميرزا علىّ محمد، الملقب بالباب، والمولود فى سنة 1235 هجرية، توفى عنه والده ميرزا محمد رضا قبل فطامه، فرُبى في حجر خاله ميرزا سيد علىّ، ونشأ معه فى مدينة شيراز بجنوب إيران، واشتغل معه بالتجارة، ولما بلغ سنه الخامسة والعشرين ادعى أنه الباب - والباب عند الشيعة معناه نائب المهدى المنتظر - وكان ادعاؤه هذا فى سنة 1260 هجرية، وما لبث أن وصلت هذه الدعوة إلى طائفة من الجاهلين فصدَّقوا بها، وتتابعوا عليها، وكان عدد مَن صدَّقه في أول الأمر ثمانية عشر رجلاً، فسماهم بكلمة "حى" لأن عدد حرفيها بحساب الجُمَّل ثمانية عشر، ثم أمر أتباعه هؤلاء بالانتشار في إيران وبلاد العراق، يبشرون به وبدعوته، وأوصاهم بكتمان اسمه حتى يُظهره هو بنفسه، ولما حج وفرغ من أعمال الحج أعلن دعوته فى المجتمع الكبير فاشتهر اسمه، ولما حج وفرغ من أعمال الحج أعلن دعوته في المجتمع الكبير فاشتهر اسمه، وذاعت دعوته، فثارت عليه طوائف المسلمين، وقاموا فى سبيل دعوته يحاربونها بكل الوسائل.
وقد عقد بعض الولاة بين العلماء وبين الباب مناظرات أظهرت ما فى دعوته من غواية وضلال، فكفَّره بعض العلماء، ورماه بعض آخر منهم بالجنون، فاعتقله الوالى فى سجن شيراز، ثم فى سجن أصفهان، ثم فى طهران، ثم فى أذربيجان. وفى عهد السلطان ناصر الدين شاه اشتدت الخصومة بين البابيين ومخالفيهم، وقامت بينهم حرب طاحنة كان من نتائجها أن أمر الصدر الأعظم بقتل الباب، فَعُلِّقَ في ميدان مدينة تبريز، وقُتِل رمياً بالرصاص، وذلك فى سنة 1265 هجرية.
وبعد قتله اختلف أتباعه على أنفسهم في شأن مَن ينوب عنه، وظهرت من بعض أتباعه دعاوى مختلفة، من قبيل النبوة، والوصاية، والولاية، وأمثالها، وظلوا على هذا الأمر إلى أن حاول بعضهم اغتيال ناصر الدين شاه سنة 1268 هجرية انتقاماً لزعيمهم الباب، ولما خاب سعيهم وفشلوا فى هذه المؤامرة، أخذت الحكومة تضطهد زعماء البابيين، وتسوقهم إلى التحقيق، فقُتل مَن قُتِل، ونُفِىَ مَن نُفى، وكان من بين زعمائهم فى هذا الوقت - وقت الاضطهاد - ميرزا حسين علىّ الملقب فيما بعد: "بهاء الله".
**
بهاء الله
ولد بهاء الله سنة 1233 هجرية، وكان ابنه ميرزا عباس من كبار وزراء الدولة فى(2/189)
وقته، فلما قام الباب واشتهر أمره صدَّقه بهاء الله، فاشتد به أزر البابيين وكثرت جماعتهم، ولما حدثت حادثة سنة 1268 هجرية، وهى محاولة اغتيال ناصر الدين شاه، قُبِض على بهاء الله وسُجِن نحو أربعة أشهر، ثم أُفرج عنه وأُبعد إلى العراق، فدخل بغداد سنة 1269 هجرية، ومكث بها اثنى عشر عاماً، يدعو الناس إلى نفسه، ويزعم أنه هو الموعود به الذى أخبر عنه الباب، وكان يشير إليه بلفظ "مَن يُظهره الله" وهناك تجمَّع حوله بعض أتباعه الذين لحقوا به من البابيين، وتسموا حينئذ بالبهائيين، ووقعت بينهم وبين شيعة العراق فتنة كادت تُفضي إلى قيام حرب أهلية بين الفريقين، فقررت الحكومة العثمانية فى ذلك الوقت إرسال بهاء الله إلى الآستانة، فأرسل إليها ومكث بها نحواً من أربعة أشهر، ثم نُفى إلى أدرنة ومكث بها نحواً من خمس سنوات، ثم نُفى منها إلى عكا من بلاد الشام سنة 1285 هجرية، وبقى بها إلى أن مات سنة 1309 هجرية، فتولى رئاسة الطائفة ابنه عباس (المولود سنة 1844م والمتوفى سنة 1921م) والملقب "عبد البهاء"، فأخذ يدعو إلى هذا المذهب، ويتصرف فيه كيف يشاء، فلم يرض هذا الصنيع أتباع البهاء فانشقوا عليه، والتف فريق منهم حول أخيه الميرزا علىّ، وألَّفوا كتباً في الطعن على عبد البهاء يتهمونه فيها بالمروق من دين البهاء.
* *
الصلة بين عقائد البابية وعقائد الباطنية القدامى
بالرغم من أن هذه الفرقة لم تظهر إلا قريباً، فإنَّا نجدها ليست بالفرقة المحدَثة فى عقائدها وتعاليمها، بل هى فى الحقيقة ونفس الأمر وليدة من ولائد الباطنية، تغذت من ديانات قديمة، وآراء فلسفية، ونزعات سياسية. ثم درجت تحذو حذو الباطنية الأُوَل، وتترسم خطاهم فى كل شىء، وتهذى فى كتاب الله، فتأوَّلته بمثل ما تأوَّلوه، لتصرف عنه قلوباً تعلقت به ونفوساً اطمأنت إليه.
والذى يقرأ تاريخ الباطنية الأُوَل، ويطلع على ما فى كتبهم من خرافات وأباطيل، ثم يقرأ تاريخ البابية والبهائية، ويطلع على ما فى كتبهم من خرافات وأباطيل، لا يسعه إلا أن يحكم بأن روح الباطنية حلَّت فى جسم ميرزا علىّ، وميرزا حسين علىّ، فخرجت للناس أخيراً باسم البابية والبهائية.(2/190)
تقوم دعوة قدماء الباطنية على إبطال الشريعة الإسلامية، وينفذون إلى عقول العامة بإظهارهم الحب والتشيع، بل والانتساب إلى آل البيت، ثم يصلون إلى أهوائهم ومآربهم بصرفهم القرآن إلى معان باطنية لا يقبلها العقل، ولا تمت إلى الدين بسبب، وعلى هذا الأساس قامت دعوة البابية والبهائية، وبمثل هذه الوسيلة وصلوا إلى أغراضهم وأهوائهم، وإليك ما يوضح ذلك:
أولا: فى الباطنية مَن يدَّعى النبوة لنفسه أو يدَّعيها لغيره، وميرزا علىّ الملقب بالباب يدَّعى أنه رسول للناس من قِبَلِ الله تعالى، وله كتاب اسمه "البيان" ادَّعى أنه مُنزَّل عليه من عند الله تعالى. وقد جاء فى رسالة بعث بها الباب إلى العلامة الألوسى صاحب التفسير المعروف، يدعوه فيها إلى الإيمان به: "إنني أنا عبد الله، قد بعثنى بالهدى من عنده" وسمى فى هذه الرسالة مذهبه "دين الله" فقال: "ومَن لم يدخل فى دين الله، مثله كمثل الذين لم يدخلوا فى الإسلام".
ولا نعلم ماذا أجاب به الآلوسى على هذه الرسالة، وإن كنا نعلم رأيه فى هذه الطائفة عندما تعرَّض لتفسير قوله تعالى فى الآية [40] من سورة الأحزاب: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولاكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين} ... وذلك حيث يقول: "وقد ظهر فى هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية، لهم فى هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم فى سلك ذوى العقول، وقد كاد يتمكن عرقهم من العراق لولا همة واليه النجيب الذى وقع على همته وديانته الاتفاق، حيث خذلهم - نصره الله - وشتت شملهم، وغضب عليهم - رضي الله تعالى عنه - وأفسد عملهم. فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيراً، ودفع عنه فى الدارين ضيماً وضيراً".
وكذلك ادَّعى زعيمهم الثانى الملقب ببهاء الله: أنه رسول من عند الله، جاء لتأسيس الإسلام على الأرض، وبين أيدينا كتاب بهاء الله، ويُطلق عليه اسم "الكتاب" قرأنا فيه فوجدناه يقول:
"لعمر الله إن البهاء ما نطق عن الهوى، قد أنطقه الذى أنطق الأشياء بذكره وثنائه، لا إله إلا هو الفرد الواحد المقتدر المختار".
"لعمرى ما أظهرتُ نفسى، بل الله أظهرنى كيف أراد، إنى كنت كأحد من العباد، وراقداً على المهاد، مرّت علىّ نسائم السبحان، وعلَّمنى علم ما كان. ليس هذا من عندى بل من لدن عزيز عليم. وأمرنى بالنداء بين الأرض والسماء، بذلك ورد علىّ ما(2/191)
ذرفت به دموع العارفين. ما قرأتُ ما عند الناس من العلم، وما دخلتُ المدارس؛ فاسأل المدينة التي كنتُ فيها لتوقن بأنى لست من الكاذبين".
"قل قد أتى المختار، فى ظل الأنوار، ليحيى الأكوان، من نفحات اسمه الرحمن، ويتحد العالم، ويجتمعوا على هذه المائدة التى نزلت من السماء".
ويرى الباب أن شريعته ناسخة للشريعة الإسلامية، فابتدع لأتباعه أحكاماً خالف بها ما جاءت به الشريعة الإسلامية، فجعل الصوم تسعة عشر يوماً من شروق الشمس إلى غروبها، وعيَّن لهذه الأيام وقت الاعتدال الربيعى، بحيث يكون عيد الفطر عندهم يوم "النيروز" على الدوام، وفى كتاب "البيان": " ... أيام معدودات، وقد جعلنا النيروز عيداً لكم بعد إكمالها".
كذلك يرى بهاء الله أن شريعته ناسخة للشريعة الإسلامية، ويقرر ذلك فى كتابه فيقول: "لو كان القديم هو المختار عندكم، لما تركتم ما شرع فى الإنجيل، بَيِّنوا يا قوم ... لعَمْرى ليس لكم اليوم من محيص، إن كان هذا جرمى فقد سبقنى فى ذلك محمد رسول الله، ومن قبله الروح، ومن قبله الكليم. وإن كان ذنبى إعلاء كلمة الله وإظهار أمره، فأنا أول المذنبين. لا أبدل هذا الدين بملكوت السموات والأرضين".
وقرر البهاء أن الدين قسمان. عملى وروحانى، فالقسم الروحانى وهو مظاهر الألوهية والنبوة، غير قابل للتبديل. والقسم العملى، وهو المتعلق بالصور والأشكال الخارجية، قابل للتغيير. وعلى هذا المبدأ جعل لأتباعه الصلاة تسع ركعات فى اليوم والليلة، وجعل قبلتهم فى الصلاة أين يكون هو!!.
وفى هذا يقول: "إذا أردتم الصلاة فوَلَّوا وجوهكم شطرى الأقدس"، وسوَّى بين الرجل والمرأة في الحقوق الشرعية والسياسية، وقرر عقوبات مالية للزنا والسرقة وغيرهما، ومنع التسرِّى، وحرَّم الزواج بأكثر من واحدة، وقيَّد لهم الطلاق وصعَّبه. وحُجَّته فى هذا كله: أن جميع الأديان أضحت لا تصلح لإصلاح العالَم، فلا بد من دين جديد يوافق هذا العصر.. عصر التقدم المادى العظيم. وهذا الدين الذى جاء به هو الذى يصلح فى نظره لمسايرة هذا العصر دون غيره.(2/192)
ثانياً: منع الحسن بن الصبَّاح وغيره من زعماء الباطنية، العوام من دراسة العلوم، والخواص من النظر فى الكتب المتقدمة، وفعل الباب مثل ذلك فحرَّم فى كتابه "البيان" التعليم وقراءة كتب غير كتبه، فكان من وراء ذلك أن حرق أتباعه القرآن الكريم، وما فى أيديهم من كتب العلم.. ولكن بهاء الله أدرك أن هذا التحجير قد يصرف بعض الناس عن دعوته، فنسخ ذلك التحجير، وذلك حيث يقول فى كتابه المسمى بـ "الأقدس": "قد عفا الله عنكم ما نَزَّل فى البيان من محو الكتب، وآذنا بكم بأن تقرأوا من العلوم ما ينفعكم".
ثالثاً: مِنَ الباطنية مَن يدَّعى حلول الإله فى بعض الأشخاص، كالقرامطة الذين يدَّعون حلول الإله فى إمامهم محمد بن إسماعيل. ونجد مثل هذه الدعوى متجلية فى بعض مقالات البابية، فهذا بهاء الله يقول فى "الكتاب": "لنا مع الله حالات نحن فيها هو، وهو نحن، ونحن نحن".
وهذا عباس الملقب بعبد البهاء يقول: "وقد أخبرنا بهاء الله بأن مجىء رب الجنود والأب الأزلى، ومخلِّص العالَم الذى لا بد منه فى آخر الزمان، كما أنذر جميع الأنبياء، عبارة عن تجليه فى الهيكل البشرى، كما تجلى فى هيكل عيسى الناصرى، إلا أن تجليه فى هذه المرة أتم وأكمل وأبهى، فعيسى وغيره من الأنبياء هيأوا الأفئدة والقلوب لاستعداد هذا التجلى الأعظم".
يريد بهذا: أن الله تجلَّى فيه بأعظم من تجليه فى أجسام الأنبياء على ما يزعم.
وهذا أبو الفضل الإيرانى أحد دعاتهم يقول: " ... فكل ما توصف به ذات الله ويُضاف ويُسند إلى الله من العزة، والعظمة، والقدرة، والعلم، والحكمة، والإرادة، والمشيئة ... . وغيرها من الأوصاف، إنما يرجع بالحقيقة إلى مظاهر أمره، ومطالع نوره، ومهابط وحيه، ومواقع ظهوره" ... . ومثل هذا كثير فى كلام زعمائهم ودعاتهم.
رابعاً: يدَّعى الباطنية رجوع الإمام المعصوم بعد استتاره، ويحصرون مدارك الحق فى أقواله. والبهائية يقولون هذا القول ويثبتونه فى كتبهم.
يقول بهاء الله في الكتاب: "يسند القائم ظهره إلى الحرم، ويمد يده المباركة، فتُرى بيضاء من غير سوء، ويقول: هذه يد الله، ويمين الله، وعين الله ... وبأمر الله أنا الذى لا يقع عليه اسم ولا صفة، ظاهرى إمامة، وباطنى غيب لا يُدرك".(2/193)
وقد عرفت أن البابية والبهائية يعبرون عن الإمام المعصوم بـ "مَن سيُظهره الله"، ويزعمون أنه هو الذى يعرف تأويل ما جاءت به الرسل عليهم السلام.
خامساً: من مبادىء قدماء الباطنية التفرس. وعلى هذا المبدأ منعوا التكلم بآرائهم في بيت فيه سراج - أى فقيه أو متعلم - والبهائية يسيرون على هذا المبدأ وإليك ما يثبت ذلك:
أرسل إلى أبى الفضائل الإيرانى بعض إخوانه كتاباً يرجوه فيه أن يرد على مقال كتبه جرجس صال الإنجليزى بإمضاء هاشم الشامى، والمقال يتضمن توجيه الاعتراضات على فصاحة القرآن الكريم، فاعتذر أبو الفضائل عن ذلك فى رسالة أرسل بها إلى صاحبه يقول فيها:
" ... إن هناك موانع جمة، أعظمها وأشدها مانع كبير لا يستسهل العاقل تذليل صعوباته، ولا يتسنم النبيه متن صهواته، حيث إن قلوب الذين اكتفوا من الإسلام باسمه، ومن القرآن برسمه، تعذت فى مدة مديدة، وأزمنة غير وجيزة بقشور المطالب، وألفت سفاسف المسائل حتى بعدت عن لباب الكتاب، وجهلت حقيقة معانى الخطاب، فلو كشفنا عن حقائق الإشارات، وأظهرنا المعانى المقصودة من ظواهر العبارات، فطلعت صور الحقائق المقصورة فى قصر الآيات، وتهللت وجوه المعانى المستورة فى خدور الاستعارات، لندفع تلك الردود والاعتراضات، ونظهر بطلان تلك الإيرادات والانتقادات، تثور أولاً أحقاد جهلائنا، ويرتفع نعيب سفهائنا، وينادون بالويل والثبور، ويثيرون الأحقاد الكامنة فى الصدور ... ".
ثم يقول لصاحبه فى آخر الرسالة: " ... لتعلم حق العلم أنى ما نسيت ولم أكره صفة من صفاتك، ولا خلة من خلالك، ولكن - والحق يقال - إنك نسيت وصية روح الله الواردة فى سفر مَتَّى: "لا تلقوا جواهركم تحت أرجل الخنازير" حيث تجاهر بجواهر الأسرار ومعالى المعانى، عند مَن لا يستحق أن تخاطبه وتلاطفه، وتجالسه وتؤانسه، فكيف أنه يكون مستودع الحكمة الإلهية، والأسرار الربانية، فتمسَّك بالحكمة، وكن على جانب عظيم من الفطنة".
ويقول فى رسالة أرسلها إلى الشيخ فرح الله زكى الكردى أحد أتباعهم فى مصر: ".. واعلم يا حبيبى أنه سيدخل عليكم كثيرون، ويتظاهرون بنوايا المتفحص الباحث، ويظهرون السلم والوفاق، وهم أهل النفاق وأصل الشقاق، ومقصودهم معرفة أهل الإيمان، واضطهاد أصحاب الإيقان كما تصرح وتنادى أى الفرقان، منها قوله تعالى: [الحديد: 13-15] {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ(2/194)
ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} ... إلى آخر الآيات، فتحكم الآية المباركة أنه لا بد من دخول أهل النفاق على أصحاب الوفاق، للاستطلاع والاستراق، فلا يغرنك تحببهم وترفقهم، ولا يخدعنك ملاينتهم وتملقهم، فإن التهور والتعجل يوجب الندم والافتضاح، والتروى يكفل النجاح والفلاح. ومن الحكم المأثورة: "العجلة من الشيطان، والتأنى من الرحمن".
من كل ما تقدم يظهر لنا بوضوح: أن البابية والبهائية ليسوا أصحاب نِحْلة جديدة فى تعاليمها ومعتقداتها، وإنما هم قوم من أهل الباطن يريدون الكيد للإسلام باسم الإصلاح الدينى، وسيظهر لك من تأويلاتهم للقرآن - علاوة على ما سبق - أنهم ينهجون نهج الباطنية الأُوَل، ويترسمون خطاهم فى تحريفهم لكتاب الله، والعبث بآياته!!
* *
موقف البابية والبهائية من تفسير القرآن الكريم
لم تحل عقائد البابية والبهائية بينهم وبين الاعتراف بالقرآن الكريم، ولم يمنعهم موقفهم الشاذ من الرجوع إليه ليأخذوا منه الشواهد على دعاواهم الباطلة، ومذاهبهم الفاسدة، تمويهاً على العامة، وتغريراً بعقول الأغمار الجهلة.
* *
أبو الفضائل الإيرانى يعيب تفاسير أهل السُّنَّة
ولم يكن فى وجوههم قطرة من الحياء تمنعهم من التنديد بتفاسير علماء أهل السُّنَّة وتحقيرها، فهذا داعيتهم أبو الفضائل الإيرانى، نجده فى رسالة أرسلها لصديق له، يعيب على تفاسير أهل السُّنَّة فيقول: " ... ولقد يدهش الإنسان ويتحير يا حبيبى من تعاليمهم الباطلة، وتفاسيرهم المضحكة، فإن أحباءنا الأمريكيين الذين تشرفوا بالوفود على الأرض المقدسة فى هذه الأيام الأخيرة، قابلناهم فى بيروت، وسافرنا معهم إلى الأرض الفيحاء مدينة حيفاً، أخبرونا بما يتحير منه الأريب، ويدهش منه اللبيب، كيف تقدمت كلمة الله فى تلك الأقطار البعيدة الشاسعة مع هذه التفاسير الباطلة الضائعة، من النفوس الجاهلة الخادعة؟ أليس ذلك من عظيم قدرة الله وشديد قوته؟ وسطوع آياته وظهور بَيِّناته"؟
يعيب أبو الفضائل تفسير أهل السُّنَّة، لأنه يرى فى زعمه أنه وأهل نِحلْته خير مَن يفهم القرآن، ويعلم ما فيه من أسرار ورموز، ويرى أنه ومن شاكله هم الراسخون فى العلم، الذين يقفون على عجائب القرآن التى لا يدل عليها إلا باطنه، أما ما يعنى به(2/195)
مفسرو أهل السُّنَّة من الظواهر فليس فى زعمه من المعانى التى يرمى إليها القرآن، وفى هذا يقول ما نصه:
" ... لو كان معانى آيات القرآن ما هو ظاهر يعرفه كل مَن يعرف اللُّغة العربية، ويتلذذ منه كل مَن له إلمام بالعلوم الأدبية، كيف يتم هذا القول - يريد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن القرآن: "إنه لا تنقضى عجائبه" - وكيف يصدق قول الله فى الآية [7] من سورة آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} .
* *
إنتاج البابية والبهائية فى التفسير، ومثل من تأويلاتهم الفاسدة
ولكن هل وصل إلى أيدينا شىء من كتب هذه الطائفة فى تفسير القرآن؟ لم نسمع ولم نقرأ أنهم ألَّفوا تفسيراً متناولاً للقرآن آية آية، وإنما قرأنا أن رئيسهم الأول فسَّر سورة البقرة، وسورة الكوثر، ولكن لم يصل إلى أيدينا شىء من ذلك، وكل ما وصل إلينا هو نبذ من تفسيره، وتفسير بعض أشياعه ودعاته، قرأناها فى كتبهم أنفسهم، وفى الكتب والمقالات التى كتبت عنهم، وهذه النبذ مع قِلَّتها تصور لنا مقدار تهجمهم على تحريف القرآن الكريم، والميل بنصوصه إلى ما يُرضى أهواءهم، ويُشبع أطماعهم. وإليك بعض التأويلات، لتقف بنفسك على مقدار هذيان القوم، وتلاعبهم بالقرآن وبالعقول!!
*من تأويلات الباب:
فسَّر الباب سورة يوسف، فمشى فيها على طريقة التأويل الذى لا يقره الشرع ولا يقبله العقل، ولا يمكن أن يفهمه إلا مَن يفهم لغة المبرسمين كما قيل.
وإليك بعض ما قاله الباب في تفسيره لسورة يوسف، لتقف على مقدار هذيانه، وتلاعبه بالنصوص القرآنية:
عند قوله تعالى فى الآية: [4] : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ... يقول ما نصه: "وقد قصد الرحمن من ذكر يوسف نفس الرسول، وثمرة البتول، حسين ابن عليّ بن أبى طالب مشهوداً.. إذا قال حسين لأبيه يوماً: إنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم بالإحاطة على الحق لله القديم سُجَّاداً ... وإن الله قد أراد بالشمس فاطمة، وبالقمر محمداً، وبالنجوم أئمة الحق فى أُمِّ الكتاب معروفاً، فهم الذين يبكون على يوسف بإذن الله سُجَّداً وقياماً".
وفى قوله تعالى فى الآية: [5] : {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ(2/196)
لَكَ كَيْداً إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} .. يقول ما نصه: "إذ قال علىّ: يا بُنَيَّ لا تُخبر مما أراك الله من أمرك إخوتك ترحماً على إلفهم، وصبراً لله تعالى، وهو الله كان عزيزاً حميداً. إن كنت تخبر من أمرك فى بعض مما قضى الله فيك، فيكيدوا لك كيداً، بأن يقتلوا أنفسهم فى محبة الله من دون نفسك الحق شهيداً، وإن الله لوجهك بدمك محمراً على الأرض بالحق على الحق صبيغاً، وإن الله قد شاء كما شاء أن يراك مخضباً شعرك من دمك ونفسك على الأرض على غير الحق لدى الحق قتيلاً. وجسمك على الأرض عرياً. وإن الله شاء كما شاء بأن يرى بناتك وحريمك فى أيدى الكافرين أسيراً.
وعند قوله تعالى فى الآية [8] : {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .. يقول ما نصه: ".. إذ قالوا حروف لا إله إلا الله. وأن يوسف أحب إلى أبينا منا بما قد سبق من علم الله حرفاً مستسراً بالسر مُقنَّعاً على السر محتجباً في سطر، غايباً في سر السر مرتفعاً عما فى الدنيا وأيدى العالَمين جميعاً. وإنَّا نحن عصبة فيما أراد الله فى شأن يوسف النبى محمد العربى حول السطر مسطوراً. وإن الله قد فضَّل أبانا بفضل نفسه وقدر الله سر المستسر من سر أمره بما فى أيدى العالمين بالكشف المبين على أهل النار من سر "الباء" ضلالاً ... إلخ.
**
*من تأويلات بهاء الله:
ويروى بهاء الله أن ما ورد فى القرآن عن الصراط، والزكاة، والصيام، والحج، والكعبة، والبلد الحرام، وما إلى ذلك، كله لا يراد به ظاهره وإنما يراد به الأئمة. وفى هذا يقول فى "الكتاب": "قال أبو جعفر الطوسى: قلت لأبى عبد الله: أنتم الصراط فى كتاب الله، وأنتم الزكاة، وأنتم الحج؟ قال: يا فلان؛ نحن الصراط فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ، ونحن الزكاة، ونحن الصيام، ونحن الحج، ونحن الشهر الحرام، ونحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قِبْلة الله، ونحن وجه الله".
وفى كتاب بهاء الله والعصر الجديد، ما يدل على أن البهائيين لا يعترفون بالبعث، ولا بالجنة والنار، حيث يفسِّرون يوم الجزاء ويوم القيامة بمجىء ميرزا حسين الملقب ببهاء الله، قال فى كتاب بهاء الله والعصر الجديد: "وطبقاً للتفاسير البهائية، يكون مجيء كل مظهر إلهى عبارة عن يوم الجزاء، إلا أن مجىء المظهر الأعظم بهاء الله: هو يوم الجزاء الأعظم للدورة الدنيوية التى نعيش فيها"، وقال: "ليس يوم القيامة أحد الأيام العادية، بل هو يوم يبتدئ بظهور المظهر، ويبقى ببقاء الدورة العالمية".
ويُفسِّر البهائية الجنة بالحياة الروحانية، والنار بالموت الروحانى، فقد جاء فى(2/197)
كتاب بهاء الله والعصر الجديد: "إن الجنة والنار فى الكتب المقدسة حقائق مرموزة" فالجنة ترمز إلى حياة الكمال، والنار ترمز إلى حياة النقص، ولما كانت الحياة الروحية في نظر البهاء هي الإيمان به، والموت الروحى هو تكذيب دعوته. فإنَّا نراه يقرر ذلك فيقول: " ... منهم مَن قال: هل الآيات نزلت؟ قل: إى ورب السموات. قال: أين الجنة والنار؟ قل: الأولى لقائى، والأخرى نفسك يا أيها المشرك المرتاب".
*من تأويلات عبد البهاء عباس:
كذلك نجد عبد البهاء، يتكلم عن النبوة والوحى بما يوافق كلام قدماء الباطنية الذين قلَّدوا الفلاسفة فيقول: "الأنبياء مرايا تنبئ عن الفيض الإلهى، والتجلى الروحانى، وانطبعت فيها أشعة ساطعة من شمس الحقيقة، وارتسمت فيها الصور العالية ممثلة لها تجليات أسماء الله الحُسنى. ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهم معادن الرحمة، ومهابط الوحى، ومشارق الأنوار، ومصادر الإرسال. وما أرسلناك إلا رحمة للعالَمين".
ونجد قُرَّة العيون - إحدى أتباع الباب - تدَّعى أنها الصُور الذي يُنفخ فيه يوم القيامة، وتقول: "إن الصُور الذى ينتظرون فى اليوم الأخير هو أنا".
وبين أيدينا رسائل أبى الفضائل، محمد بن رضا الجرفادقانى، المعروف بفضل الله الإيرانى، أحد دعاة البابية المتعصبين، وكتاب الحجج البهية له أيضاً، وفيهما تفسير لبعض الآيات القرآنية، بما يتفق ومذهبه الباطل.
فمن ذلك مثلاً أنه يُفسِّر الروح الأمين الذى ورد فى القرآن بأنه الحقيقة المقدسة، ثم يُعَرِّفها فيقول: "هى غيب فى ذاتها، مجردة بحقيقتها عن الجسم أو الجسمانيات، فلا تُوصف بأوصاف الماديات، ولا تُذكر بخصائصها، ولا يُطلق عليها الخروج والدخول، ولا تُوصف بالتحيز والحلول، وإنما هى حقيقة تنجلى فى مظاهر أمر الله تعالى، عرشها قلوب الأصفياء، ومرآة تجليها صدور الأولياء، وإنما مثل طلوعها وإشراقها فى النفوس القدسية كمثل انطباع الشمس فى المرايا، فلا يقال: إن الشمس حلَّت فى المرآة، ولا إنها دخلت فيها، بل ولا يقال: إنها عُرِضت عليها، بل يقال: إن الشمس تجلَّت في المرآة، وظهرت منها وأشرقت، وانطبعت بها" ... وهذا بعينه مذهب قدماء الباطنية والفلاسفة.
ومن ذلك أيضاً أنه فسَّر قوله تعالى فى الآيتين [142-143] من سورة الأعراف: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ... الآيتين،(2/198)
تفسيراً باطنياً فقال: "المراد بالليل - كما سمعته منى مراراً - هو عبارة عن أيام غيبة شمس الحقيقة، واليوم حسب ما نزل فى التوراة المقدِّس يُحسب كل يوم واحد بسنة واحدة، وكان موسى عليه السلام لما فارق أرض مصر، وفرَّ من فرعون وملئه إلى مدين، كان ابن ثلاثين، وأقام فى مدين عشر سنوات يشتغل فيها برعى أغنام شعيب النبى عليه السلام، وكان فى طى هذه المدة التى كانت كالليالى المظلمة، والدياجى الكالحة من ظلم الفراعنة، وأوهام الصابئة، مشتغلاً بتهذيب أخلاقه، وتطييب أعراقه، وتنقية فؤاده، والمناجاة مع ربه فى وحدته وانفراده، فلما طاب خلُقُه، وتم خَلْقه، بعثه الله نبياً لهداية بنى إسرائيل، وإنقاذهم من ذلك الوبيل. فالمراد بأربعين ليلة هو أربعون سنة. أقام موسى عليه السلام فى أثنائها فى مصر ومدين، ولا تنافى كلمة "واعدنا" هذا التفسير، حيث ظاهرها يقتضى تكلم الرب مع موسى قبل بعثته، فإن أمثال هذه الكلمة كثيراً ما أُطلقت على ما أُلقى فى الروع، وأُلهم فى القلب، حتى على الحيوانات، كما يدل عليه قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً} ، {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} ... ظاهر الآية المباركة يدل على أن موسى عليه السلام أخلف أخاه هارون حينما كان مع الشعب فى البرية، كما هو مذكور فى التواريخ، إلا أن التواريخ القديمة مظلمة جداً، حيث إن المؤرخين اعتمدوا فى هذه المسائل على ما جاء فى التوراة وسائر الكتب العتيقة، ولكنا أثبتنا فى كتاب الدرر البهية ضعف هذا المستند من حيث العلم، فيجوز أن يكون هارون مستخلفاً عن موسى عليهما السلام، لحفظ الشعب أيام غياب موسى فى مدين، وقد كان بنو إسرائيل يحافظون على التوحيد من لدن جدهم إبراهيم عليه السلام، فلما غاب موسى وضع بنو إسرائيل رسم عجل إبيس أحد معبودات المصريين تزلفاً إلى فرعون وقومه،
فكأنهم تجنسوا بالجنسية المصرية، واعتنقنوا الديانة الوثنية، فلما رجع موسى عليه السلام ورآهم على تلك الحال السيئة والعبادة الباطلة، أنكر ذلك على هارون، كما ذكره المؤرخون، إذ لا يعقل أن بنى إسرائيل على ما عُرفوا بصلابة الرأى يتركون ديانتهم الموروثة بسبب تأخير موسى عن الرجوع إليهم عشر ليال.
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} [الأعراف: 143] .. اعلم - حفظك الله - أن علماءنا - سامحهم الله - اختلفوا فى رؤية الله تعالى وعدم جواز رؤيته، فالشيعة والمعتزلة أنكروا جواز رؤيته، حيث تقتضى الجهة والمقابلة، وهى من مقتضيات الجسد والتحين والتحدد وأمثال ذلك، وهو منزَّه(2/199)
عن تلك الأوصاف، إذ لم يفهموا من لفظة "الله" سوى الذات، ولا شك أن الذات منزَّهة عن تلك الصفات. وأهل السُّنَّة والجماعة جوَّزوا رؤية الله تعالى اعتماداً على صريح الآيات، واستناداً على صريح الأحاديث والروايات، وكانوا على هذه العقيدة الصالحة إلى أواسط القرون الهجرية، فمزجوها بالعقائد الوهمية، حيث شاعت فى تلك القرون بينهم المسائل الكلامية، والمعارف الناقصة العقلية، فإنهم قالوا: إن رؤية الله تعالى جائزة وواقعة فى القيامة، إلا أنها ليست من قبيل الإحاطة بالنظر، فترى ذات الله تعالى من غير مواجهة ومقابلة، وكيفية وإحاطة، مما يرجع إلى الوهم الصريح، وإنكار الرؤية حقيقة، وأهل البهاء المستظلين بظلال الفرع الكريم المتشعب من الدوحة المباركة العليا، لما عرفوا - على حسب ما يعلمون من القلم الأعلى - أن ذات الله بسبب تجردها وتقديسها الذاتى لا تُدرك، ولا تُوصف، ولا تُسمى باسم، ولا تُشار بإشارة، ولا تتعين بإرجاع ضمير. والأسماء والأوصاف وكل ما يُسند ويُضاف إليها راجعة فى الحقيقة إلى مظاهرها ومطالعها، ولذلك سهل عليهم فهم معنى أمثال تلك الألفاظ التى نزلت فى الكتب المقدسة والصحف المطهّرة، من قبيل رؤية الله تعالى، ولقاء الله وظهور الله ومجىء الله وغيرها مما ليس بخاف على أهل التحقيق. ثم اعلم أيها الحبيب اللبيب أن أهل البيان كثيراً ما أطلقوا فى عباراتهم لفظ "جَلَّ" على أكابر الرجال استعارة، سواء أكانوا من صناديد الدولة والملك، أو من
قروم أهل العلم والفضل، كما أطلق أمير المؤمنين عليه السلام على مالك بن الحارث النخعى المعروف بالأشتر، لما اشتهر ذكر وفاته، وأخبر بمماته، ومقامه عليه السلام معلوم لديك فى الفصاحة والبراعة، ورسائله وخطبه مستغنية عن المدح والإطراء بالطلاوة والصناعة، وعبارته هذه مذكورة فى نهج البلاغة. وهذه استعارة فى غاية المناسبة واللَّطافة حيث إن أكابر الرجال هم بمنزلة الأوتاد، لاستقرار أرض المعارف والديانة، أو الأُمة والدولة، وكثيراً ما أطلقه داود عليه السلام فى مزاميره، وسائر الأنبياء من بنى إسرائيل فى كتبهم على الرب تعالى، كما جاء فى مزمور [42] : "أقول لله صخرتى لماذا نسيتنى"، وجاء فى مزمور [71] : "كن لى صخرة وملجأ أدخله دائماً. أمرت بخلاصى لأنك صخرتى وحصنى" ... إلى كثير من أمثالها، فإذا عرفت هذا، فاعلم أن موسى عليه السلام إنما طلب رؤيا الله تعالى بسبب اقتراح الشعب عليه أن يريهم الله، كما يدلك عليه قوله تعالى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} إلا أن الله تعالى أخبره بأن رؤيته موقوفة باستقرار جبال العلم والإيمان فى مكانهم من الإذعان واليقين، ولكنهم بسبب عدم بلوغهم إلى المقام الثابت الراسخ المكين من العلم والمعرفة واليقين فلا بد وأن تندك جبال وجودهم، ويتزعزع بنيان إذعانهم لمعبودهم حين لقائه فيتبدل إيمانهم بالكفر، ويقينهم بالشك، وإقبالهم بالإعراض، حيث لم تكمل بعد مراتب(2/200)
عرفانهم، ولم يبلغ إلى الدرجة العليا بنيان إيمانهم، فلم يبلغوا بعد إلى رتبة استحقاق الرؤية واللقاء، ولم يصعدوا إلى درجة الاستقرار والبقاء، فلا بد من ظهور الأنبياء، وقيام الأصفياء، لتربية أشجار الوجودات البشرية، وتكمل معارفهم بالإيمان على ممر الدهور وطى العصور. حتى يبلغوا إلى درجة التمكن والاستقرار، حينئذ يتجلى عليهم رب الأرض والسماء، ويتشرف البالغون منهم إلى درجة المشاهدة واللقاء. فخلاصة تفسير الآية الكريمة: أن موسى عليه السلام قال: ربِّ أرنى أنظر إليك، حيث إن الشعب طلبوا منه رؤية الله تعالى فأجابه الله تعالى: بأنك لن ترانى، لأن بنى إسرائيل لم يبلغوا بعد درجة كمال وجودهم، ولم يستعدوا للقاء معبودهم، فانظر إلى جبال الوجودات، ومقادير
استقرار الإيقان، فإن استقر جبل الوجود فى مقام إيمانه وإيقانه حين تجلَّى المعبود ولم يتزلزل ولم يتزعزع من مقامه حين الشهود، حينئذ استعد للقاء الله، واستحق للوقوف بين يدى الله، والتشرف برؤية الله. ثم تجلَّى الرب لأحد من تلك الأُمة ممن كان من رؤساء الشعب، ومن جبال الإيمان والإيقان، فاندك وجوده، وتضعضع إيمانه، واضطرب إيقانه فانصعق موسى من ذلك الامتحان، وعرف مقدار صعوبة مقام الافتتان، فندم على ما سأل الرؤية للطالبين ورجع فى الحين. وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} .
فانظر إليه كيف أوَّل الأربعين ليلة بأنها أربعين سنة، وهى التى يُبعث الأنبياء على رأسها، وكيف علَّل التعبير بلفظ "ليلة" بأن مدى الأربعين سنة كانت مظلمة كالليالي بظلم فرعون وملئه، وكيف تخلَّص من منافاة لفظ "واعدنا" للمعنى الذى يهذى به. وكيف اتهم التوراة وسائر الكتب العتيقة - بما فيها القرآن طبعاً كما سيأتى بعد - بأنها لا يُعَوَّل عليها فى الروايات التاريخية، وكيف رمى المعتزلة وأهل السُّنَّة بعدم إصابة المعنى الحقيقى للرؤية الواردة فى الآية، وكيف ادَّعى أنه ومَن على شاكلته من البهائيين هم الذين أصابوا المعنى الحقيقى للآية؛ وكيف صرف لفظ "الجبل" عن معناه المراد إلى معنى لا يُفهم من لفظ القرآن وسياق الآية!! ... ولستُ فى حاجة إلى أن أبين ما فى هذا التفسير من خطأ وضلال، فإن الحق بَيِّن واضح.
وفي كتاب الدرر البهية، صرَّح أبو الفضائل بأن قصص القرآن غير واقعة، وأنها فى الحقيقة رموز إلى معان خفية فقال: "لا يمكن للمؤرخ أن يستمد معارفه التاريخية من آيات القرآن"، وقال: "إن الأنبياء عليهم السلام تساهلوا مع الأُمم فى معارفهم(2/201)
التاريخية، وأقاصيصهم القومية، ومبادئهم العلمية، فتكلموا بما عندهم، وستروا الحقائق تحت أستار الإشارات، وسدلوا عليها ستائر بليغ الاستعارات".
ولا شك أن هذه دعوى كاذبة يُراد بها إدخال الشك فى قلوب المؤمنين، وإيهامهم بأن القرآن لا يُعتمَد على ظاهره، وإنما يُعتمد على باطنه الذى عندهم علمه دون مَن عداهم من الناس. وإلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، لم ولن يقوم دليل تاريخيى أو عقلى على عدم صحة قصة من قصص القرآن، وهو الذى {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . [فصلت: 42] .
كذلك نجد أبا الفضائل يعرض فى كتابه المسمى "الدرر البهية" لقوله تعالى فى الآية [39] من سورة يونس: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ، ولقوله تعالى فى الآية [53] من سورة الأعراف: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} ... فيقول:
"ليس المراد من تأويل آيات القرآن معانيها الظاهرية ومفاهيمها اللُّغوية، بل المراد المعانى الخفية التى أطلق عليها الألفاظ على سبيل الاستعارة والتشبيه والكناية" ... ثم قال بعد هذا: "قرر الله تنزيل تلك الآيات على ألسنة الأنبياء وبيان معانيها وكشف السر عن مقاصدها إلى روح الله حينما ينزل من السماء"، وقال: "إنما بُعثوا - عليهم السلام - لسوق الخلق إلى النقطة المقصودة، واكتفوا منهم بالإيمان الإجمالى حتى يبلغ الكتاب أجله، وينتهى سير الأفئدة إلى رتبة البلوغ فيظهر روح الله الموعود ويكشف لهم الحقائق المكنونة فى اليوم المشهود"، وقال: "وفى نفس الكتب السماوية تصريحات بأن تأويل آياتها إلى معانيها الأصلية المقصودة لا تظهر إلا فى اليوم الآخر، يعنى يوم القيامة، ومجىء مظهر أمر الله وإشراق آفاق الأرض ببهاء وجه الله". ثم قال: "ولذلك جاءت من لدن نزول التوراة إلى نزول البيان تافهة باردة عقيمة جامدة، بل مضلة مبعدة محرَّفة مفسدة".
ومعلوم أن لفظ التأويل في الآيتين عبارة عن وقوع المخبَر به ولكن يأبى هذا المنحرف المنحرف إلا أن يحمل التأويل على تأويل الآيات إلى المعانى الخفية، وعجيب بعد هذا أن يتهم الرسل بأنهم لا يعرفون تأويل الآيات، لأن وظيفتهم البلاغ فحسب، وأما كشف الستر عن المعانى الخفية فإلى روح الله حين نزوله. وروح الله فى نظره ونظر أشياعه: هو البهاء الذى يُعَبِّر عنه بالنقطة، ويدَّعى أن الرسل أُرسلوا لسوق الخلق إليه، ويدَّعى أيضاً أن ظهوره يكون يوم القيامة، ولا شك أن هذا تفسير بارد عقيم، وجامد مضل، ولكنه لا يريد أن يعترف بهذا، بل نجده يتعسف فيرمى كل التفاسير من(2/202)
لدن نزول التوراة إلى نزول البيان بأنها تافهة باردة، عقيمة جامدة، مضلة مبعدة، محرَّفة مفسدة، لأن أصحابها خاضوا فيما لا علم لهم به، والعلم فى نظره عند البهاء وحده.
كذلك نجد أبا الفضائل يُفسِّر قوله تعالى فى الآية [31] من سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} بما لا يقره شرع، أو يرضى به عقل فيقول: "إن لفظ المَلَك واحد الملائكة، والملائكة في اللُّغة العربية توافق لفظاَ ومعنى ما في اللُّغة العبرانية، حيث إنها مأخوذة من الأصل السامى، الذى اشتُقَّت منه اللُّغات: السريانية، والعبرانية، والعربية، والآشورية، والكلدانية، وهو يفيد معنى المالكية والاستيلاء على شىء، فكما أنه أطلق لفظ المَلَك والملائكة في الكلمات النبوية المحفوظة في الكتب السماوية على النفوس القدسية، والأئمة الهداة، لخلعهم ثياب البشرية وتخلقهم بالأخلاق الروحانية الملكوتية، فملكوا زمام الهداية وصاروا ملوك ممالك الولاية، كأنهم أُعطوا سلطة مطلقة فى سعادة الناس وشقاوتهم، وهدايتهم وضلالهم، وهذا هو معنى الولاية المطلقة التى جاءت فى الأخبار، ولذا سمى سيد الأبرار وأمير الأبرار، بقسيم الجنة والنار. كذلك أطلق هذا اللفظ فى الكلمات النبوية على رؤساء الأشرار، وأئمة الضلال، حيث إنهم قادة الفُجَّار يقودونهم إلى النار ولذا أطلق عليهم لفظ الملائكة، كما أنه أطلق عليهم لفظ الأئمة فى قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] . ثم استدل أبو الفضائل بعبارات من الكتب القديمة على جواز إطلاق الملائكة على أئمة الجور والضلال، ثم تكلم عن سر تخصيص العدد بتسعة عشر، فذكر أن الديانات أبواب لدخول جنة الله ورضوانه، كما أنها أبواب للدخول فى جهنم بسخط الله حين تغييرها مثلاً ... ثم استطرد من هذا إلى أن الباب كما يُطلق أيضاً على الديانات، يُطلق أيضاً على الأنبياء وكبار الأولياء، واستدل على هذا بعبارة نقلها عن الجامعة وردت فى شأن الأئمة وهى: "أنتم باب الموتى والمأخوذ عنه" قال: وإليه أشير فى الآية الكريمة: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13] ، بعد أن قرر هذا، ادَّعى "أن أبواب الجنة كانت عند ظهور النقطة الأولى تسعة عشر، وهى
ثمانية عشر حروف "الحى" والنقطة الفردانية، وبهم صعد المخلصون إلى الذروة العليا، ودخلوا الجنة ... . ثم عارض الدجال الرب سبحانه فعيَّن تسعة عشر إنساناً من رؤساء أصحابه ودهاة أحبابه، لإضلال أهل الإيمان، ومعارضة جمال الرحمن"، ثم قال: "فالمراد بملائكة النار فى الآية المباركة هو هذه الرجال من أصحاب الدجال وأئمة(2/203)
الضلال".. ثم ذكر بعد ذلك أن عدد أبواب النار صار فى هذا الدور الحميد، والكون المجيد ثلاثة فقط وهى أيضاً ملائكة الجحيم، وقادة أصحاب الشمال إلى العذاب الأليم".
واستدل على ذلك بقوله تعالى: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب} ... ثم قال: "وفى كل دور وزمان تجد لكلمات الله تعالى مصاديق يعرفها أهل الإيمان، وحملة القرآن، ومخازن الحكمة، ومطالع البيان".
وفى الحجج البهية يقرر أبو الفضائل: أن جميع الديانات السماوية. وغير السماوية واحدة من ناحية الاتفاق على العقائد الأصلية، وإن اختلفت فى الأحكام الفرعية، وذلك حيث يقول فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [13] من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} : "فانظروا - وفقكم الله - كيف اعتبر فى الآية الكريمة ديانات الصابئة والزردشتية والموسوية والنصرانية والإسلامية ديناً واحداً، كما اعتبر مؤسسها وشارعها إلهاً واحداً، على اختلافها فى الأحكام والحدود والآداب" وهذا منه كفر صريح، لأن الآية لا تدل على أكثر من اتحاد جميع الشرائع السماوية فى أُصول العقائد، أما الديانة الصابئية، والديانة الزردشتية، فلم يقل أحد إنها شرائع الله، حتى يُسوِّى بينها وبين سائر الشرائع السماوية.
كذلك نجد أبا الفضائل يقول بالرجعة، ويريد بها: رجوع الحقيقة المقدسة التى هى الوحى، على معنى أن الوحى بعد انقطاعه بموت محمد صلى الله عليه وسلم يرجع فينزل مرة ثانية على زعيمهم الباب ثم البهاء، ويُفسِّر القيامة: بأنها قيام مظهر الحقيقة المقدَّسة، والساعة: بساعة طلوعها وإشراقها بعد الغيبة ويقول: "وأما الرجعة والقيامة بالمعنى الذى تعتقد وتنتظره الأُمم فهى أمر غير معقول، إذ هو مخالف للنواميس الطبيعية، ومباين للسنن الإلهية".
ويقول: "إن جميع ما نزل فى الكتب المقدسة من بشارات يوم الله، ويوم القيامة، وظهور الرب، وورود الساعة وأشراطها ... لا بد أن تكون لتلك الألفاظ مقاصد معقولة، ومفاهيم ممكنة ومعان غير المعانى الظاهرية، ومدلولات غير المدلولات الأوَّلية".(2/204)
وكأنى بأبى الفضائل - وقد قال بنبوة الباب والبهاء - نظر فى كتاب البيان وكتاب بهاء الله، فلم يجدهما فى رصانة القرآن وفصاحته، فأراد أن ينزل بالقرآن عن مستواه فى البلاغة، ويسلب عنه إعجازه حتى يكون فى درجة البيان والكتاب فقال: "ولا يُعرف ولا يمتاز كلام الله عن كلام البشر بفصاحته، وبلاغته، ورصف كلماته، وتسجيع عباراته، وترصيع جمله، ولطيف استعاراته، كما يدَّعيه قوم".
كما أعتقد أنه - وقد ادَّعى نبوة الباب والبهاء - راح يفتش لهما عن معجزة تُصدِّق دعواهما النبوة، فلم يعثر ولا على جزء معجزة، فجرَّه ذلك أن ينكر معجزات الرسل، ويتأوَّل ما ورد فى القرآن منها بأنها من قبيل الاستعارات عن الأمور المعقولة، والحقائق الممكنة، مما يُجوِّزه العقل السليم، كما جَرَّه إلى القول بأنه لا صلة بين دعوى الرسالة، وبين القُدْرة على الإتيان بالخوارق فقال: "لا نسبة بين القُدْرة على إتيان المعجزات والعجائب، وبين ادعاء النبوة والرسالة، فإن الرسالة والنبوة ليست إلا بعث إنسان من قِبَلِ الله تعالى لهداية الخلق، فما هو ارتباط هذا المعنى بالقُدْرة على شق البحار، وجفاف الأنهار، وإنطاق الأحجار والأشجار مثلاً".
ولا يشك عاقل فى أن هذا الزنديق يريد من وراء هذا أن يفتح باب شر عظيم، ليدخل منه كل مَن يدَّعى النبوة والرسالة، كما دخل منه أنبياء البابية والبهائية من قبل.
وكما تأوَّل متعصبو الشيعة الشجر المباركة، والشجرة الملعونة، فحملوا الأُولى على آل البيت، والثانية على أعدائهم من بني أمية، كذلك تأوَّلهما أبو الفضائل، فقال فى شرحه لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة النور: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} ... . الآية: "أطلق لفظ "شجرة مباركة زيتونة" على مظهر أمر الله، ومطلع الشمس حقيقته وذاته. ومشرق أنوار أسمائه وصفاته، فإن من هذا السدرة المباركة وحدها تتألف وتضىء الأنوار الإلهية، وتشرق وتلمع أشعة العلم والقوة، والقُدْرة الملكوتية السماوية، وهذه استعارة فى غاية الرقة واللَّطافة، وتجوّز فى نهاية اللطافة والبراعة، لم يُوجد مثلها إلا فى الكلمات النبوية، ولم يُسمع شبيهها إلا من نغمات طيور القدس فى الحدائق القدسية". قال: "وكذلك فى الآية [60] من سورة بنى إسرائيل، أطلق لفظ الشجرة الملعونة: استعارة على أعداء الله، ومحاربى رسول الله، من السلالة الأُموية، والسلطة العضوضية(2/205)
السفيانية، حيث قال جَلَّ وعَلا: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشجرة الملعونة فِي القرآن} . [الإسراء: 60]
هذه نُبذ من تأويلات البابية للقرآن الكريم، تعطينا دليلاً قوياً، وبرهاناً صادقاً على أن المذهب البابى، أو البهائى، يقوم على أطلال الباطنية، ويحمل فى سريرته القصد إلى هدم شريعة الإسلام بمعول التأويل فى آيات القرآن، ودعوى النبوة والرسالة، بعد أن ختمها الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان لنا كلمة بعد ذلك فهى: إن البابية وأسلافهم من الباطنية، لم يكونوا أول من ابتدأ التأويل لنصوص الشريعة على هذه الصورة التى تأتى على بنيان الدين من قواعده، وإنما هو صنيع قلَّدوا فيه طائفة من فلاسفة اليهود الذين سبقوهم، فهذا هو "فيلون" الفيلسوف اليهودى المولود ما بين عشرين وثلاثين سنة قبل الميلاد، نجده ألَّف كتاباً فى تأويل التوراة، ذاهباً إلى أن كثيراً مما فيها رموز إلى أشياء غير ظاهرة، ويقول الكاتبون فى تاريخ الفلسفة: إن هذا التأويل الرمزى كان موجوداً ومعروفاً عند أدباء اليهود بالإسكندرية قبل زمن "فيلون"، ويذكرون أمثلة من تأويلهم: أنهم فسَّروا آدم بالعقل، والجنة برياسة النفس، وإبراهيم بالفضيلة الناتجة من العلم، وإسحاق عندهم هو الفضيلة الغريزية، ويعقوب الفضيلة الحاصلة من التمرين، إلى أمثال هذا من التأويل الذى لا يحوم عليه إلا الجاحدون المراءون، ولا يقبله منهم إلا قوم هم عن مواقع الحكمة ودلائل الحق غافلون".
وبعد أن انتهينا من موقف الباطنية - قديمهم وحديثهم - من القرآن الكريم، نتكلم عن موقف الزيدية منه ... . فنقول وبالله التوفيق:
* *(2/206)
الزيدية وموقفهم من التفسير والقرآن الكريم
تمهيد
لم يقع بين الزيدية من الشيعة، وبين جمهور أهل السُّنَّة خلاف كبير مثل ما وقع من الخلاف بين الإمامية وجمهور أهل السُّنَّة، والذى يقرأ كتب الزيدية يجد أنهم أقرب فِرَق الشيعة إلى مذهب أهل السُّنَّة، وما كان بين الفريقين من خلاف فهو خلاف لا يكاد يُذكر.
يرى الزيدية: أن علياً أفضل من سائر الصحابة، وأولى بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إن كل فاطمى عالِم زاهد شجاع سخى خرج للإمامة صحَّت إمامته، ووجبت طاعته، سواء أكان من أولاد الحسن، أم من أولاد الحسين، ومع ذلك فهم لا يتبرأون من الشيخين، ولا يُكفرونهما، بل يُجوِّزون إمامتهما، لأنه تجوز عندهم إمامة المفضول مع وجود الفاضل، كما أنهم لم يقولوا بما قالت به الإمامية من التقية، والعصمة للأئمة، واختفائهم ثم رجوعهم فى آخر الزمان. وغير ذلك من خرافات الإمامية ومَن على شاكلتهم.
وكل الذى نلحظه على الزيدية، أنهم يشترطون الاجتهاد فى أئمتهم، ولهذا كثر فيهم الاجتهاد، وأنهم لا يثقون برواية الأحاديث إلا إذا كانت عن طريق أهل البيت. والذى يقرأ كتاب "المجموع" للزيدية يرى أن كل ما فيه من الأحاديث مروية عن زيد بن علىّ زين العابدين، عن آبائه من الأئمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه بعد ذلك حديث يُروى عن صحابى آخر من غير أهل البيت رضى الله عنهم.
كما نلاحظ على الزيدية أيضاً أنهم تأثروا إلى حد كبير بآراء المعتزلة ومعتقداتهم، ويرجع السر فى هذا إلى أن إمامهم زيد بن علىّ، تتلمذ على واصل بن عطاء، كما قلنا ذلك فيما سبق.
إذن فلا نطمع بعد ذلك أن نرى للزيدية أثراً مميزاً، وطابعاً خاصاً فى التفسير كما رأينا للإمامية، لأن التفسير إنما يتأثر بعقيدة مفسِّرة. ويتخذ له طابعاً خاصاً، واتجاهاً معيناً، حينما يكون لصاحبه طابع خاص واتجاه معين. وليست الزيدية - بصرف النظر عن ميولهم الاعتزالية - بمنأى بعيد عن تعاليم أهل السُّنَّة، وعقائدهم، حتى يكون لهم فى التفسير خلاف كبير.
* *
أهم كتب التفسير عند الزيدية
وإذا نحن ذهبنا نفتش عن تفاسير الزيدية فى المكتبات التى تحت أبصارنا وفى متناول أيدينا، فإنَّا لا نكان نظفر منها إلا بتفسير الشوكانى المسمى "فتح القدير" وهو تفسير متناول للقرآن كله، وجامع بين الرواية والدراية، وتفسير آخر فى شرح آيات الأحكام اسمه "الثمرات اليانعة" لشمس الدين يوسف بن أحمد - من علماء القرن التاسع الهجرى - هذا هو كل ما عثرنا عليه للزيدية من كتب فى التفسير.
ولكن هل هذا هو كل ما أنتجته هذه الطائفة؟ أو أن هناك كتباً أخرى أُلِّفت فى(2/207)
التفسير ثم دَرست؟ أو أُلِّفت وبقيت إلى اليوم غير أنه لم يُكتب لها الذيوع والانتشار، ولذا لم تصل إلى أيدينا؟
الحق أنى وجهت هذا السؤال إلى نفسى، فرجحت أن تكون هناك كتب كثيرة فى التفسير لهذه الطائفة، منها ما دَرس، ومنها ما بقى إلى اليوم مطموراً فى بعض المكاتب الخاصة، إذ ليس من المعقول أن لا يكون لطائفة إسلامية قامت من قديم الزمان، وبقيت محتفظة بتعاليمها ومقوِّماتها إلى اليوم إلا هذا الأثر الضئيل فى التفسير.
رجحت هذا الرأى، فذهبت أفتش وأبحث فى بعض الكتب التى لها عناية بهذا الشأن، عَلِّى أعثر على أسماء لبعض كتب فى التفسير لبعض من علماء الزيدية ... . وأخيراً وجدت فى الفهرست لابن النديم: أن مقاتل ابن سليمان - وعَدَّهُ من الزيدية - له من الكتب، كتاب التفسير الكبير، وكتاب نوادر التفسير.
ووجدت فى الفهرست أيضاً: أن أبا جعفر محمد بن منصور المرادى الزيدى، له كتابان فى التفسير، أحدهما، كتاب التفسير الكبير، والآخر: كتاب التفسير الصغير.
وقرأت مقدمة شرح الأزهار من كتب الزيدية فى الفقه، وهى مقدمة تشتمل على تراجم الرجال المذكورة فى شرح الأزهار لأحمد بن عبد الله الجندارى، فخرجت منها بما يأتى:
1- تفسير غريب القرآن للإمام زيد بن علىّ، جمعه بإسناده محمد ابن منصور بن يزيد الكوفى، أحد أئمة الزيدية، المتوفى سنة نيف وتسعين ومائتين.
2- تفسير إسماعيل بن عليّ البُستى الزيدى، المتوفى فى حدود العشرين وأربعمائة، قال: وهو فى مجلد واحد.
3- التهذيب، لمحسن بن محمد بن كرامة المعتزلى ثم الزيدى، المقتول سنة 494هـ (أربع وتسعين وأربعمائة) . قال: وهذا التفسير مشهور، ويمتاز من بين التفاسير بالترتيب الأنيق، فإنه يورد الآية كاملة، ثم يقول: القراءة ويذكرها، ثم يقول: الإعراب ويذكره، ثم يقول: النظم ويذكره، ثم يقول: المعنى ويذكره، ويذكر أقوالاً متعددة، وينسب كل قول إلى قائله من المفسِّرين، ثم يقول: النزول ويذكر سببه، ثم يقول: الأحكام ويستنبط أحكاماً كثيرة من الآية.(2/208)
4- تفسير عطية بن محمد النجوانى الزيدى، المتوفى سنة 665هـ (خمسة وستين وستمائة) . قال: وقد قيل إنه تفسير جليل، جمع فيه صاحبه علوم الزيدية.
5- التيسير فى التفسير، للحسن بن محمد النحوى الزيدى الصنعانى، المتوفى سنة 791هـ (إحدى وتسعين وسبعمائة) .
هذا هو كل ما قرأت عنه فى كتب الزيدية فى التفسير، لكن هل بقيت هذه الكتب إلى اليوم؟ أو دَرست بتقادم العهد عليها؟ سألت نفسى هذا السؤال، وحاولت أن أقف على جوابه، وأخيراً انتهزت فرصة وجود الوفد اليمنى فى مصر - وفيه الكثير من علماء الزيدية الظاهرين - فاتصلت بأحد أعضائه البارزين، وهو القاضى محمد بن عبد الله العامرى الزيدى، فسألته عن أهم مؤلفاته الزيدية فى التفسير، وعن الموجود منها إلى اليوم، فأخبرنى بأن للزيدية كتباً كثيرة فى تفسير القرآن الكريم، منها ما بقى، ومنها ما اندثر، وما بقى منها إلى اليوم لا يزال مخطوطاً، وموجوداً فى مكاتبهم، وذكر لى من تلك المخطوطات الموجودة عندهم ما يأتى:
1- تفسير ابن الأقضم.. أحد قدماء الزيدية.
2- شرح الخمسمائة آية "تفسير آيات الأحكام" لحسين بن أحمد النجرى، من علماء الزيدية فى القرن الثامن الهجرى.
3- الثمرات اليانعة "تفسير آيات الأحكام" للشيخ شمس الدين يوسف ابن أحمد بن محمد بن عثمان، من علماء الزيدية فى القرن التاسع الهجرى.
4- منتهى المرام، شرح آيات الأحكام، لمحمد بن الحسين بن القاسم، من علماء الزيدية فى القرن الحادى عشر الهجرى.
- تفسير القاضى ابن عبد الرحمن المجاهد، أحد علماء الزيدية فى القرن الثالث عشر الهجرى.
قال: وهناك كتب أخرى لا يحضرنى اسمها، ولا اسم مؤلفيها، فسألته عن السر الذى من أجله بقيت هذه الكتب مخطوطة إلى اليوم؟ وأى شىء يحول بينكم وبين طبعها، حتى تصبح متداولة بين أهل العلم، وعشاق التفسير؟ فأجابنى بأن السر فى هذا أمران: أحدهما: عدم تقدم فن الطباعة عندهم. وثانيهما: أن كل اعتمادهم فى التفسير على كتاب "الكشاف" للزمخشرى، نظراً للصلة التى بين الزيدية والمعتزلة، مما(2/209)
جعل أهل العلم ينصرفون عن كل ما عداه من كتب التفسير، ورجا ورجوت معه أن يهيىء الله لهذا التراث العلمى فى التفسير من الأسباب ما يجعله متداولاً بين أهل العلم ورجال التفسير.
وبعد ... فما دامت أيدينا لم تصل إلى شىء من كتب التفسير عند الزيدية سوى كتاب "فتح القدير" للشوكانى، و "الثمرات اليانعة" لشمس الدين يوسف بن أحمد، فإنى سأقتصر على هذين الكتابين فى دراستى وبحثى، وسأبدأ بتفسير الشوكانى، وإن كان لا يمثل لنا تفسير الزيدية تمثيلاً وافياً شافياً، وأُرجىء الكلام عن "الثمرات اليانعة" إلى أن أعرض للكلام عن تفاسير الفقهاء إن شاء الله:
* *(2/210)
فتح القدير للشوكاني
التعريف بمؤلف هذا التفسير
ومؤلف هذا التفسير هو العلامة محمد بن علي بن عبد الله الشوكانى، وُلِد فى سنة 1173هـ (ثلاث وسبعين ومائة بعد الألف من الهجرة النبوية) ، فى بلدة هجرة شوكان. ونشأ - رحمه الله تعالى - بصنعاء، وتربى فى حجر أبيه على العفاف والطهارة، وأخذ فى طلب العلم والسماع من العلماء الأعلام، وجَدَّ فى طلب العلم، واشتغل كثيراً بمطالعة كتب التاريخ ومجاميع الأدب، وسار على هذه الطريقة ما بين مطالعة وحفظ، وما بين سماع وتلق، إلى أن صار إماماً يُعَوَّل عليه، ورأساً يُرحل إليه "فريداً فى عصره، ونادرة لدهره، وقدوة لغيره، بحراً فى العلم لا يُجارَى، ومفسِّراً للقرآن لا يُبارَى، ومُحَدِّثاً لا يشق له غبار، ومجتهداً لا يثبت أحد معه فى مضمار".
ولقد خلَّف رحمه الله كتباً فى العلم نافعة وكثيرة، أهمها: كتاب "فتح القدير" فى التفسير، وهو الكتاب الذى نحن بصدد الكلام عنه، وكتاب "نيل الأوطار فى شرح منتقى الأخبار" فى الحديث، وكتاب "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والميعاد والنبوات". رد به على موسى ابن ميمون الأندلسي اليهودى، وغير هذا كثير من مؤلفاته.
تفقه رحمه الله على مذهب الزيدية، وبرع فيه، وألَّف وأفتى. ثم خلع ربقة التقليد، وتحلَّى بمنصب الاجتهاد، وألَّف رسالة سماها "القول المفيد فى أدلة الاجتهاد والتقليد"، تحامل عليه من أجلها جماعة من العلماء، وأرسل إليه أهل جهته سهام اللوم والمقت، وثارت من أجل ذلك فتنة فى صنعاء اليمن بين مَن هو مُقَلِّد ومن هو مجتهد.
وعقيدة الشوكانى عقيدة السَلَف، من حمل صفات الله تعالى الواردة فى القرآن والسُّنَّة على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف، وقد ألَّف فى ذلك رسالة "التحف بمذهب السَلَف".
هذا وقد توفى الشوكانى رحمه الله سنة 1250هـ (خمسون بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية) ، فرحمه الله وأرضاه.
* *
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه
يعتبر هذا التفسير أصلاً من أُصول التفسير، ومرجعاً مهماً من مراجعه، لأنه جمع(2/211)
بين التفسير بالدراية، والتفسير بالرواية، فأجاد فى باب الدراية، وتوسَّع فى باب الرواية، وقد ذكر مؤلفه فى مقدمته أنه شرع فيه فى شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثلاث وعشرين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية، وفرغ منه فى شهر رجب سنة تسع وعشرين بعد المائتين والألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل السلام وأزكى التحية. كما ذكر أنه اعتمد فى تفسيره هذا على أبي جعفر النحاس، وابن عطية الدمشقى، وابن عطية الأندلسى، والقرطبى، والزمخشرى، وغيرهم.
* *
طريقة الشوكانى فى تفسيره
وطريقة الشوكانى التى سلكها فى تفسيره يكفينا فى بيانها عبارته التى ذكرها فى مقدمة هذا التفسير مبيناً بها منهجه فيه.
قال رحمه الله: "ووطنت النفس على سلوك طريقة هى بالقبول عند الفحول حقيقة، وها أنا أوضح لك منارها، وأبين لك إيرادها وإصدارها، فأقول: إن غالب المفسِّرين تفرَّقوا فريقين، وسلكوا طريقين، الفريق الأول: اقتصروا فى تفاسيرهم على مجرد الرواية، وقنعوا برفع هذه الراية، والفريق الآخر: جردوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللُّغة العربية، وما تفيده العلوم الآلية، ولم يرفعوا إلى الرواية رأساً، وإن جاءوا به لم يصحوا لها أساساً، وكلا الفريقين قد أصاب، وأطال وأطاب، وإن رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب، وترك منها ما لا يتم بدونه كمال الانتصاب".
ثم قال بعد أن دلل على قوله هذا: "وبهذا يُعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين، وعدم الاقتصار على مسلك أحد الفريقين، وهذا هو المقصد الذى وطنت نفسى عليه، والمسلك الذى عزمت على سلوكه إن شاء الله، مع تعرضى للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما أمكن واتضح لى وجهه، وأخذى من بيان المعنى العربى والإعرابى والبيانى بأوفر نصيب، والحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة، أو التابعين، أو تابعيهم، أو الأئمة المعتمدين، وقد أذكر ما فى إسناده ضعف، إما لأن فى المقام ما يقويه، أو لموافقته للمعنى العربى. وقد أذكر الحديث معزواً إلى راويه من غير بيان حال الإسناد، لأنى أجده فى الأصول التى نقلت عنها كذلك، كما يقع فى تفسير ابن جرير والقرطبى وابن كثير والسيوطى، وغيرهم، ويبعد كل البُعد أن يعلموا فى الحديث ضعفاً ولا يبينوه، ولا ينبغى أن يُقال فيما أطلقوه: إنهم قد علموا ثبوته، فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد، بل هذا هو الذى يغلب به الظن، لأنهم لو كشفوا عنه فثبت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك، كما يقع منهم كثيراً التصريح بالصحة أو الحُسن، فمَن وجد الأصول التى يروون عنها، ويعزون ما فى تفاسيرهم إليها. فلينظر إلى أسانيدها موفقاً إن شاء الله.
"واعلم أن تفسير السيوطى المسمى بالدر المنثور، قد اشتمل على غالب ما فى تفاسير السَلَف من التفاسير المرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وتفاسير الصحابة ومَن بعدهم،(2/212)
وما فاته إلا القليل النادر. وقد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق بالتفسير، مع اختصار لما تكرر لفظاً واتحد معنى بقولى: ومثله ونحوه، وضممت إلى ذلك فوائد لم يشتمل عليها، وجدتها فى غيره من تفاسير علماء الرواية، أو من الفوائد التى لاحت لى، من تصحيح، أو تحسين، أو تضعيف، أو تعقيب، أو جمع، أو ترجيح ... فهذا التفسير وإن كبر حجمه فقد كثر علمه، وتوفر من التحقيق قسمه، وأصاب غرض الحق سهمه، واشتمل على ما فى كتب التفاسير من بدائع الفوائد، مع زوائد فرائد، وقواعد شرائد، ثم أرجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية، ثم انظر فى هذا التفسير بعد النظرين، فعند ذلك يسفر الصبح لذى عينين، ويتبين لك أن هذا الكتاب هو اللُّباب، وعجب العُجاب، وذخيرة الطُلاب، ونهاية مآرب أُولى الألباب ... وقد سميته "فتح القدير، الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير".
مما تقدم يتضح لك جلياً طريقة المؤلف التى سلكها فى تفسيره هذا، وقد رجعت إلى هذا التفسير وقرأت فيه كثيراً، فوجدته يذكر الآيات، ثم يفسِّرها تفسيراً معقولاً ومقبولاً، ثم يذكر بعد الفراغ من ذلك: الروايات التفسيرية الواردة عن السَلَف، وهو ينقل كثيراً عمن ذكر من أصحاب كتُب التفسير. ووجدته يذكر المناسبات بين الآيات، ويحتكم إلى اللُّغة كثيراً. وينقل عن أئمتها كالمبرد وأبى عبيدة والفرَّاء، كما أنه يتعرض أحياناً للقراءات السبع، ولا يفوته أن يعرض لمذاهب العلماء الفقهية فى كل مناسبة، ويذكر اختلافاتهم وأدلتهم، ويُدلى بدلوه بين الدلاء، فيرجح، ويستظهر، ويستنبط، ويعطى نفسه حرية واسعة فى الاستنباط، لأنه يرى نفسه مجتهداً لا يقل عن غيره من المجتهدين.
* *
نقله للروايات الموضوعة والضعيفة
غير أنى آخذ عليه - كرجل من أهل الحديث - أنه يذكر كثيراً من الروايات الموضوعة، أو الضعيفة، ويمر عليها بدون أن ينبه عليها.
فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} ... الآية، وقوله فى الآية [67] منها: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ... الآية، يذكر من الروايات ما هو موضوع على ألسن الشيعة، ولا ينبه على أنها موضوعة، مع أنه يقرر عدم صلاحية مثل هذه الروايات للاستدلال على إمامة علىّ، ففى الآية الأولى يقول: {.. وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة حالية من فاعل للفعلين اللَّذين قبله، والمراد بالركوع: الخشوع والخضوع، أى يقيمون الصلاة، ويؤتون(2/213)
الزكاة، وهم خاشعون لا يتكبرون. وقيل: هو حال من فاعل الزكاة، والمراد بالركوع هو المعنى المذكور، أى يضعون الزكاة فى مواضعها غير متكبرين على الفقراء، ولا مترفعين عليهم، وقيل: المراد بالركوع على المعنى الثانى: ركوع الصلاة، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة فى تلك الحال".
ثم نراه يذكر فى ضمن ما يذكر من الروايات عن ابن عباس أنه قال: تصدَّق علىّ بخاتم وهو راكع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل: "مَن أعطاك هذا الخاتم"؟ قال: ذلك الراكع، فأنزل الله فيه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} ... الآية، ثم يمر على هذه الرواية الموضوعة باتفاق أهل العلم ولا ينبه على ما فيها.
وفى الآية الثانية نجده يروى عن أبى سعيد الخدرى أنه قال: "نزلت هذه الآية: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "غدير خُم"، فى علىّ بن أبي طالب رضى الله عنه"، ويروى عن ابن مسعود أنه قال: "كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أُنزل إليك من ربك أن علياً مولى المؤمنين، وإن لم تفعل فما بلَّغتَ رسالته، والله يعصمك من الناس" - ثم يمر على هاتين الروايتين أيضاً بدون أن يتعقبهما بشىءٍ أصلاً.
* *
ذمه للتقليد والمقِّدين
كذلك نلاحظ على الشوكانى أنه لا يكاد يمر بآية من القرآن تنعى على المشركين تقليدهم آباءهم إلا ويطبقها على مقلِّدى أئمة المذاهب الفقهية، ويرميهم بأنهم تاركون لكتاب الله، مُعْرِضون عن سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم. ونحن وإن كنا لا نمنع من الاجتهاد مَن له قدرة عليه بتحصيله لأسبابه وإلمامه بشروطه إلا أنَّا لا ننكر أن فى الناس مَن ليس أهلاً للاجتهاد، وهؤلاء لا بد لهم من التقليد. ولستُ فى شك من أن الشوكانى مخطىء فى حملاته على المقلِّدة، كما أنه قاس إلى حد كبير حيث يطبق ما ورد من الآيات فى حق الكفرة على مقلِّدى الأئمة وأتباعهم، وإليك بعض ما قاله فى تفسيره.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [28] من سورة الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .. قال ما نصه: ".. وإن فى هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر، وأبلغ واعظ للمقلِّدة، الذين يتبعون آباءهم فى المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} ... والقائلون: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} ...(2/214)
والمقلِّد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذى أمر الله به، وأنه الحق لم يبق عليه، وهذه الخصلة هى التى بقى بها اليهودى على اليهودية، والنصرانى على النصرانية، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم فى اليهودية أو النصرانية أو البدعة. وأحسنوا الظن بهم، بأن ما هم عليه هو الحق الذى أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم، ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغى، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص. فيا مَن نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية، أنا لك النذير المبالغ فى التحذير من أن تقول هذه المقالة، وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشر بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأى بصحيح الرواية، ولم يبعث الله إلى هذه الأُمة إلا رسولاً واحداً أمرهم باتباعه، ونهى عن مخالفته فقال: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} . ولو كان محض رأى أئمة المذاهب وأتباعهم حُجَّة على العباد، لكان لهذه الأُمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأى، المكلِّفين للناس بما لم يُكلِّفهم الله به. وإن من أعجب الغفلة، وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلِّدة لآراء الرجال، مع وجود كتاب الله ووجود سُنَّة رسوله. ووجود مَن يأخذونهما عنه، ووجود آلة الفهم لديهم، وَمَلَكة العقل عندهم".
وفى سورة التوبة عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [31] : {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلاها وَاحِداً لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يقول ما نَصه: " ... وفى هذه الآية ما يزجر مَن كان له قلب أو أَلقى السمع وهو شهيد عن التقليد فى دين الله، وإيثار ما يقوله الأسلاف على ما فى الكتاب العزيز، والسُّنَّة المطهَّرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله، ويستَّن بسُنَّته من علماء هذه الأُمة، مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى الأخبار والرهبان أرباباً من دون الله. للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم، وحرَّموا ما حرَّموا. وحلَّلوا وهذا هو صنيع المقلِّدين من هذه الأمة، وهو أشبه به مِنْ شبَّه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء. فيا عباد الله، ويا أتباع محمد بن عبد الله؛ ما بالكم تركتم الكتاب والسُّنَّة جانباً، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم فى تعبد الله لهم بهما، وطلبه منهم للعمل بما دلا عليه وأفاداه؟ فعلتم بما جاءوا به من الآراء التى لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسُّنَّة تنادى بأبلغ(2/215)
نداء، وتُصوِّت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموهما آذاناً صُما، وقلوباً غُلْفاً، وأفهاماً مريضة، وعقولاً مهيضة، وأذهاناً كليلة، وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويتُ وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا - أرشدكم الله وإياى - كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأى، بأقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمِنٌ فى دينه كمخاطر
اللَّهم هادى الضال، مرشد التائه، موضح السبيل ... اهدنا إلى الحق، وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات [52-54] من سورة الأنبياء: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هاذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} نجده يذم المقلِّدة، وأَئمة المذاهب بما لا يليق أن يصدر من عالِم فى حق عالِم آخر ربما كان أفضل منه عند الله، وذلك حيث يقول: " ... وهكذا يجيب هؤلاء المقلِّدة من أهل هذه المِلَّة الإسلامية، فإن العالم بالكتاب والسُّنَّة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأى المدفوع بالدليل ... قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذى وجدنا آباءنا له مقلِّدين، وبرأيه آخذين. وجوابهم هو ما أجاب به الخليل ههنا: {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} . أى في خسران واضح لا يخفى على أحد، ولا يلتبس على ذى عقل، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التى لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوى هذا الخسران خسران. وهؤلاء المقلِّدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسُنَّة رسوله كتاباً قد دُوِّنت فيه اجتهادات عالِم من علماء الإسلام، زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها، إما لقصور منه، أو لتقصير فى البحث، فوجد ذلك الدليل مَن وجده، وأبرزه واضح المنار، كأنه عَلَم فى رأسه نار، وقال: هذا كتاب الله، أو هذه سُنَّة رسول الله، وأنشدهم:
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمِنٌ فى دينه كمخاطر
فقالوا كما قال الأول:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويتُ وإن ترشد غزية أرشد(2/216)
وقد أحسن مَن قال:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
* *
حياة الشهداء
هذا ... وإن الشوكانى ليقرر فى تفسيره هذا: أن الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون، حياة حقيقية لا مجازية، وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [169] من سورة آل عمران: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} : " ... وقد اختلف أهل العلم فى الشهداء المذكورين فى هذه الآية مَن هم؟. فقيل: شهداء أُحُد. وقيل: فى شهداء بدر. وقيل: فى شهداء بئر معونة ... على فرض أنها نزلت فى سبب خاص فالاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب.. ومعنى الآية عند الجمهور: أنهم أحياء حياة محققة. ثم اختلفوا: فمنهم مَن قال: إنها تُرد إليهم أرواحهم فى قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد: يُرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وذهب مَن عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية، والمعنى: أنهم فى حكم الله مستحقون للنعم فى الجنة، والصحيح الأول، ولا موجب للمصير إلى المجاز، وقد وردت السُّنَّة المطهَّرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم فى الجنة يُرزقون ويأكلون ويتمتعوْن".
* *
التوسل
ولكنه مع هذه الموافقة للجمهور، نراه يقف من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء موقف المعارضة، ويفيض فى الإنكار على مَن يفعل ذلك فى سورة يونس عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [49] : {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} ... يقول ما نصه: " ... وفى هذا أعظم واعظ، وأبلغ زاجر لمن صار دينه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به عند نزول النوازل التى لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك مَن صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين، الذى خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يُطلب من نبى من الأنبياء، أو مَلَك من الملائكة، أو صالح من الصالحين، ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب لرب الأرباب، القادر على كل شىء، الخالق الرازق، المعطى المانع، وحسبك بما فى هذه الآية موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم، وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} ، فكيف يملكه لغيره؟ وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه فضلاً عن أن يملكه لغيره؟ فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات(2/217)
الذين صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عَزَّ وجَلَّ. كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا يتنبهون لما حلَّ بهم من المخالفة لمعنى "لا إله إلا الله" ومدلول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} . [الاخلاص: 1] .
"وأعجب من هذا، اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أُولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله، ومقرِّبين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذى الجلال، وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه، ومُطهِّر شريعته من أوضار الشرك، وأدناس الكفر. ولقد توسل الشيطان - أخزاه الله - بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه، وينثلج به صدره، من كفر كثير من هذه الأُمة المباركة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
* *
موقفه من المتشابه
ثم إن المؤلف - كما قلنا فى ترجمته - سَلَفى العقيدة، فكل ما ورد فى القرآن من ألفاظ توهم التشبيه حملها على ظاهرها، وفوَّض الكيف إلى الله، ولهذا نراه مثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [255] من سورة البقرة: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} . يقول: "الكرسى: الظاهر أنه الجسم الذى وردت الآثار بصفته كما سيأتى بيان ذلك. وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة، وأخطأوا فى ذلك خطئاً بيِّناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً، وقال بعض السَلَف: إن الكرسى هنا عبارة عن العلم، ومنه قول الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسى بالأخبار حين تنوب
ورجَّح هذا القول ابن جرير. وقيل: كرسيه: قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسياً ... أى ما يعمده. وقيل: إن الكرسى هو العرش، وقيل: هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له. وقيل: هو عبارة عن الملك. والحق القول الأول. ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقى إلى مجرد خيالات وضلالات".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [54] من سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ... الآية، يقول ما نصه: "قد اختلف العلماء فى معنى هذا على أربعة عشر قولاً، وأحقها وأولاها(2/218)
بالصواب مذهب السَلَف الصالح: أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف، بل على الوجه الذى يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه".
* *
موقفه من آراء المعتزلة
وبالرغم من أن الزيدية تأثروا كثيراً بتعاليم المعتزلة، وأخذوا عنهم آراءهم وعقائدهم فى غالب مسائل الكلام، فإنَّا نجد صاحبنا لا يميل إلى القول بمبادئهم بل ونجده يرد عليهم، ويعارضهم معارضة شديدة فى كثير من المواقف.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} ... . الآية، يقول ما نصه: " ... وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم، لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤية الدنيا، وقد ذهبت المعتزلة ومَن تابعهم إلى إنكار الرؤية فى الدنيا والآخرة. وذهب مَن عداهم إلى جوازها فى الدنيا، ووقوعها فى الآخرة. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم فى الآخرة، وهى قطعية الدلالة، لا ينبغى لمنصف أن يتمسك فى مقابلها بتلك القواعد الكلامية التى جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها، دعوى مبنية على شفا جرف هار، وقواعد لا يغتر بها إلا مَن لم يحظ من العلم بنصيب نافع".
كذلك نراه يرد على الزمخشري فى دعواه: أن دخول الجنة مستحَق بسبب العمل الصالح، فيقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [43] من سورة الأعراف: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : " ... . قال الكشاف: "بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة". أقول: يا مسكين ... هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "سددوا وقاربوا واعملوا. إنه لن يدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته" والتصريح بسبب لا يستلزم نفى سبب آخر، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلاً، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة. وفى التنزيل: {ذلك الفضل مِنَ الله} ، [النساء: 70] وفيه: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: 175] .
كذلك نراه ينكر على المعتزلة القائلين: بأن العين لا تأثير لها فى المعين، وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [67] من سورة يوسف: {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} ... الآية: "وقد أنكر بعض المعتزلة كأبى هاشم والبلخى، أن للعين تأثيراً، وليس هذا بمستنكر من هذين(2/219)
وأتباعهما، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسُّنَّة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأى مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق، وأُصيب بها جماعة فى عصر النبوة. ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الازدراء على مَن يعمل بالدليل المخالف، لمجرد الاستبعاد العقلى، والتنطع فى العبارات، كالزمخشرى فى تفسيره، فإنه فى كثير من المواطن لا يقف عند دفع دليل الشرع بالاستبعاد، حتى يضم إلى ذلك الوقاحة فى العبارة، على وجه يوقع المقصرين فى الأقوال الباطلة، والمذاهب الزائفة. وبالجمة، فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة. وإجماع مَن يُعتد به من هذه الأمة سَلَفاً وخَلَفاً، وبما هو مُشاهَد فى الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنسانى، وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب".
ويقف الشوكانى من المعتزلة موقف المعارضة فى مسألة غفران الذنوب. فعندما تعرَّض لتفسير قوله تعالى فى الآية [53] من سورة الزمر: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} ... الآية، نجده يقول: " ... وأما ما يزعمه جماعة من المفسِّرين من تفسير هذه الآية بالتوبة، وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين. وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات، فهو جمع بين الضب والنون، وبين الملاح والحادى، وعلى نفسها براقش تجنى، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع، فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين، وقد قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ... فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقد قال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} ... قال الواحدى: المفسِّرون كلهم قالوا: إنّ هذه الآية فى قوم خافوا إن أسلموا أن لا يُغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك، وقتل النفس، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هب أنها فى هؤلاء فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص السبب، كما هو متفق عليه بين أهل العلم. ولو كانت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها، لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله".
* *
موقف الشوكانى من مسألة خلق القرآن
هذا.. ولم يرض الشوكانى موقف أهل السُّنَّة، ولا موقف المعتزلة من مسألة خلق القرآن، وإنما رضى أن يكون من العلماء الوقوف فى هذه المسألة، فلم يجزم فيها برأى،(2/220)
وراح ينحى باللائمة على مَن يقطع بأن القرآن قديم أو مخلوق، فعندما تعرَّض لتفسير قوله تعالى فى الآية [2] من سورة الأنبياء: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يقول ما نصه: " ... وقد استدل بوصف الذكّر بكونه مُحْدثاً على أن القرآن محدَث، لأن الذكر هنا هو القرآن، وأجيب بأنه لا نزاع فى حدوث المركب من الأصوات والحروف، لأنه متجدد فى النزول، فالمعنى: محدث تنزيله "وإنما النزاع فى الكلام النفسى. وهذه المسألة - أعنى قدم القرآن وحدوثه - قد ابتلى بها كثير من أهل العلم ... ولقد أصاب أئمة السُّنَّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه، وحفظ الله بهم أُمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم - رحمهم الله - جاوزوا ذلك إلى القول بِقدَمه، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفَّروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظى بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير مَن وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف، وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يُسمع من السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول فى هذه المسألة شىء من الكلام، ولا تُنقل عنهم كلمة فى ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه. هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله سبحانه".
هذا هو أهم ما فى تفسير الشوكانى من البحوث التى أعطى فيها لنفسه حرية واسعة. خوَّلت له أن يسخر من عقول العامة، وأن يهزأ من تعاليم المعتزلة، وأن يُندَّد ببعض مواقف أهل السُّنَّة. وأحسب أن الرجل قد دخله شىء من الغرور العلمى، فراح يوجه لومه لهؤلاء وهؤلاء، وليته وقف منهم جميعاً موقف الحاكم النزيه، والناقد العف ... وعلى الجملة، فالكتاب له قيمته ومكانته، وإن كان لا يعطينا الصورة الواضحة للتفسير عند الإمامية الزيدية، ونرجو أن نوفق إلى العثور على بعض ما لهم فى التفسير، وأحسب أنه كثير. والكتاب مطبوع فى خمس مجلدات، ومتداوَل بين أهل العلم.
* *(2/221)
الخوارج وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
كلمة إجمالية عن الخوارج
بعد مقتل عثمان رضى الله عنه، نشط أنصار علىّ رضي الله عنه فى الدعوة له، حتى أخذوا له البَيْعة من المسلمين، ليكون خليفة لهم ... ولكن لم تكد تتم له البَيْعة حتى قام ثلاثة من كبار الصحابة ينازعونه الأمر، لاعتقادهم أن الحق فى غير جانبه.. وهؤلاء الصحابة هم: معاوية ابن ابي سفيان، وطلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام.
وكان لعلىّ - رضى الله عنه - شيعة وأنصار، وكان لمعاوية رضي الله عنه شيعة وأنصار كذلك. وكانت حروب طاحنة بين الفريقين!!. كان الغلب فيها لعلىّ وحزبه، إلى ان جاءت موقعة صفين، فكاد الفشل يحيق بجيش معاوية، وأوشكت الهزيمة أن تُحدق به، لولا أن لجأ إلى حيلة رفع المصاحف على أسِّنَة الرماح، طلباً للهدنة، ورغبة في التحكيم بين الحزبين. وبعد أخذ ورد بين جيش علىّ فى قبول التحكيم وعدمه. رأى علىّ رضى الله اعنه قبول التحكيم، رغبة منه فى حقن الدماء. واختار معاوية: عمرو ابن العاص ليمثله، واختار أصحاب علىّ: أبا موسى الأشعرى.
وكان قبول علىّ - رضى الله عنه - لمبدأ التحكيم أول عامل من عوامل التصدع فى جيشه وحزبه، إذ أن بعض شيعته رأوا أن التحكيم خطأ، لأن الحق ظاهر فى جانب علىّ، ولا يعتوره شك فى نظرهم، وقبول التحكيم دليل الشك من علىّ فى أحقيته بالخلافة، وهم إنما قاموا معه فى حروبه لاعتقادهم بأن الحق فى جانبه، فكيف يشك هو فيه؟
لم يرض هؤلاء بفكرة التحيكم. فخرجوا على علىّ، ولم يقبلوا أن يرجعوا إليه إلا إذا أقرّ على نفسه بالكفر، لقبوله التحكيم، وإلا إذا نقض ما أبرم من الشروط بينه وبين معاوية، ولكن علياً رضى الله عنه لم يستجب لرغبتهم هذه، فأخذوا كلما خطب علىّ أو ضمَّه وإياهم مكان جامع رفعوا أصواتهم بقوله: "لا حكم إلا لله".
وكان التحكيم، وفيه خدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعرى، فلم يكن إلا تحكيماً فاشلاً، أمال قلوب كثير من الناس إلى ناحية الخوراج، وأخيراً وبعد يأس الخوارج من رجوع علىّ إليهم اجتمعوا فى منزل أحدهم، وخطب فيهم خطبة حثَّهم على التمسك بمبدئهم والدفاع عنه، وطلب منهم الخروج من الكوفة إلى قرية بالقرب منها يقال لها "حروراء"، فخرجوا إليها وأمَّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبى،(2/222)
ووقعت بينهم وبين علىّ حروب طاحنة هزمهم فيها، ولكن لم يقض عليه. وأخيراً دبروا له مكيدة قتله، فقتله عبد الرحمن بن ملجم.
وجاءت دولة الأُمويين، فكان الخوارج شوكة فى جنبها يهدودنها ويحاربونها، حتى كادوا يقضون عليها. ثم جاءت الدولة العباسية، فكان بينهم وبينها حروب كذلك، ولكن لم يكونوا فى قوتهم الأولى، لتفرق كلمتهم وتشتت وحدتهم، وضعف سلطانهم، وخور قواهم.
دبَّت فى وحدة الخوارج جرثومة التفرق، وأُصيبوا بداء التحزب، فبلغ عدد أحزابهم عشرين حزباً، كل حزب يفارق الآخر فى المبدأ والعقيدة ... ولكن يجمع الكل على مبدأين اثنين:
أحدهما: إكفار علىّ، وعثمان، والحَكَمين، وأصحاب الجمل، وكل مَن رضى بتحكيم الحَكَمين.
وثانيهما: وجوب الخروج على السلطان الجائر.
وهناك مبدأ ثالث يقول به أكثر الخوارج، وهو: الإكفار بارتكاب الكبائر.
هذا.. وقد وضع الخوارج مبدأ للخلافة فقالوا: "إن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر من المسلمين، وإذا اختير الخليفة فليس يصح أن يتنازل أو يُحَكِّم، وليس بضرورى أن يكون الخليفة قرشياً، بل يصح أن يكون من قريش ومن غيرهم، ولو كان عبداً حبشياً، وإذا تم الاختيار كان رئيس المسلمين ويجب أن يخضع خضوعاً تاماً لما أمر الله، وإلا وجب عزله، ولهذا أمَّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبى، ولم يكن قرشياً".
وعلى هذا حكموا بصحة خلافة أبى بكر وعمر، وبصحة خلافة عثمان فى سنيه الأولى، فلما غيَّر وبدَّل ولم يسر سيرة الشيخين - كما زعموا - وجب عزله، وأقروا بصحة خلافة علىّ أولاً، ثم خرجوا عليه بعد أن أخطأ فى التحكيم، وكفر به كما يزعمون!!
ولا يسعنا فى تلك العُجالة إلا أن نطوى الحديث عن التعرض لكل فرقة من فرق الخوارج، ولكن نكتفى بالكلام عن أشهرها، وهى ما يأتى:
أولا - الأزارقة: وهم أتباع نافع بن الأزرق، وهم يُكَفِّرُون من عداهم من المسلمين، ويُحَرِّمُون أكل ذبائحهم ومناكحتهم، ولا يُجيزون التوارث بينهم، ويعاملونهم معاملة الكفار من المشركين ... إما الإسلام، وإما السيف، ودارهم دار حرب، ويحل قتل نسائهم وأطفالهم، ولا يقولون برجم الزانى المحصن، ولا يقولون بحد مَن(2/223)
يقذف المحصنين من الرجال ... أما قاذف المحصنات فعليه الحد قطعاً. ولا يرون جواز التقية.
ثانياً - النجدات: وهم أتباع نجدة بن عامر، وهم يرون أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، بل عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن الحاجة تدعو إلى إمام أقاموه، وإلا فلا. كما أنهم يُكَفِّرون من يقول بإمامة نافع ابن الأزرق، ويُكَفِّرون مَن يُكَفِّر القاعدين عن الهجرة لنافع وحزبه ويقولون: إن الدين أمران:
أحدهما: معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول، والإقرار بما جاء به جملة، فهذا واجب معرفته على كل مُكلَّف.
وثانيهما: ما عدا ما تقدم، فالناس معذورون بجهالته إلى أن تقوم عليهم الحُجَّة.
فمَن استحل شيئاً حراماً باجتهاد فله عذره، وهم يعظمون جريمة الكذب، ويجعلونها أكبر جُرْماً من شرب الخمر والزنا.
ومن بدع "نجدة" أنه تولى أصحاب الحدود من موافقيه، وقال: لعل الله يعذبهم بذنوبهم فى غير نار جهنم، ثم يُدخلهم الجنة، وزعم أن النار يدخلها مَن خالفه فى دينه.
ثالثاً - الصفرية: وهم أتباع زياد بن الأصفر، وهم يقولون بأن أصحاب الذنوب مشركون، غير أنهم لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم كما ترى الأزارقة ذلك. ومن الصفرية مَن يخالف فى ذلك فيقول: كل ذنب له حد فى الشريعة لا يسمى مرتكبه مشركاً، ولا كافراً، بل يُدعى باسمه المشتق من جريمته يقال: سارق، وقاتل، وقاذف ... وكل ذنب ليس فيه حد معلوم فى الشريعة مثل الإعراض عن الصلاة فمرتكبه كافر ... ولا يُسمى مرتكب واحد من هذين النوعين جميعاً مؤمناً، ومنهم مَن يقول: إن صاحب الذنب لا يُحكم عليه بالكفر حتى يُرفع إلى الوالى فيحده ويحكم بكفره.
رابعاً - الإباضية: وهم أتباع عبد الله بن إباض، وهم أعدل فِرَق الخوارج، وأقربها إلى تعاليم أهل السُّنَّة، وهم يُجمعون على أن مخالفيهم من المسلمين ليسوا مشركين، ولا مؤمنين، ولكنهم كفار. ويُروى عنهم أنهم يريدون: كفر النعمة، وأجازوا شهادة مخالفيهم من المسلمين، ومناكحتهم، والتوارث معهم، وحرَّموا دماءهم فى السر دون العلانية. لأنهم محاربون لله ولرسوله، ولا يدينون دين الحق، ودارهم دار توحيد إلا معكسر السلطان، واستحلوا من غنائمهم: الخيل والسلاح، وكل ما فيه قوة حربية لهم. ولم يستحلوا غنائم الذهب والفضة، بل يردونها لأهلها.(2/224)
واختلفوا فى النفاق على ثلاثة أقوال:
فريق يرى أن النفاق براءة من الشرك والإيمان معاً، ويحتج بقوله تعالى فى الآية [143] من سورة النساء: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هاؤلاء وَلاَ إِلَى هاؤلاء} ..
وفريق يرى أن كل نفاق هو شرك، لأنه ينافى التوحيد.
وفريق ثالث يرى أن النفاق لا يُسمى به غير القوم الذين سمَّاهم الله تعالى منافقين.
وهناك مخالفة لبعض الإباضية فى بعض المسائل. لا نعرض لها هنا، مخافة التطويل.
هذه هى أهم فِرَق الخوراج، وهذه هى أهم ما لهم من تعاليم وعقائد، نضعها بين يدى القارئ قبل أن نتكلم عن موقفهم من التفسير، ليكون على علم بها، وليعلم بعد ذلك مقدار الصلة بينها وبين ما لهم من تفسير.
* *
مواقف الخوارج من تفسير القرآن الكريم
تعددت فِرَق الخوارج، وتعددت مذاهبهم وآراؤهم، فكان طبيعياً - وهم ينتسبون إلى الإسلام، ويعترفون بالقرآن - أن تبحث كل فرقة منهم عن أُسس من القرآن الكريم، تبنى عليها مبادئها وتعاليمها، وأن تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها، فما رأته فى جانبها - ولو ادعاءً - تمكست به، واعتمدت عليه. وما رأته فى غير صالحها حاولت التخلص منه بصرفه وتأويله، بحيث لا يبقى متعارضاً مع آرائها وتعاليمها.
* *
سلطان المذهب يغلب على الخوارج فى فهم القرآن
والذى يقرأ تاريخ الخوارج، ويقرأ ما لهم من أفكار تفسيرية، يرى أن المذهب قد سيطر على عقولهم، وتحكَّم فيها، فأصبحوا لا ينظرون إلى القرآن إلا على ضوئه، ولا يدركون شيئاً من معانيه إلا تحت تأثير سلطانه، لا يأخذون منه إلا بقدر ما ينصر مبادئهم ويدعو إليها.
فمثلاً نرى أن أكثر الخوارج يُجمعون على أن مرتكب الكبيرة كافر، ومخلَّد فى نار جهنم، ونقرأ فى الكتب التي تكلمت عن الخوارج فنجد ابن أبي الحديد - وهو ممن تعرض لهم فى كتابه "شرح نهج البلاغة" - يسوق لنا أدلتهم التى أخذوها من القرآن، وبنوا عليها رأيهم فى مرتكب الكبيرة، كما نجده يناقش هذه الأدلة، ويفندها دليلاً بعد دليل. ونرى أن نمسك عن مناقشة ابن أبى الحديد لهذه الأدلة، ويكفى أن نسوق للقارئ الكريم هذه الآيات التى استندوا إليها، ووجهة نظرهم فيها، فهى التى تعنينا في هذا البحث، وهى التى ترينا إلى أى حد تأثر الخوارج بسلطان العقيدة فى فهم نصوص القرآن.. فمن هذه الأدلة ما يأتى:(2/225)
قوله تعالى فى الآية [97] من سورة آل عمران: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} .. قالوا: فجعل تارك الحج كافراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [87] من سورة يوسف: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} .. قالوا: والفاسق - لفسقه وإصراره عليه - آيس من روح الله، فكان كافراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [44] من سورة المائدة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولائك هُمُ الكافرون} .. قالوا: وكل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله.
ومنها قوله تعالى فى الآيات [14-16] من سورة اللَّيل: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى} .. قالوا: وقد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار، فوجب أن يُسمى كافراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [106] من سورة آل عمران: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .. قالوا: والفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم، فوجب أن يكون ممن اسودت، ووجب أن يُسمى كافراً، لقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ..
ومنها قوله تعالى فى الآيات [38] وما بعدها إلى آخر سورة عبس: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولائك هُمُ الكفرة الفجرة} ... قالوا: والفاسق على وجهه غبرة، فوجب أن يكون من الكفرة الفَجَرة.
ومنها قوله تعالى فى الآية [17] من سورة سبأ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} .. قالوا: والفاسق لا بد أن يُجازى، فوجب أن يكون كفوراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [42] من سورة الحِجْر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} ، وقال فى الآية [100] من سورة النحل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} .. قالوا: فجعل الغاوى الذى يتبعه مشركاً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [20] من سورة السجدة: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .. قالوا: فجعل الفاسق مُكَذِّباً.
ومنها قوله تعالى في الآية [33] من سورة الأنعام: {ولاكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} .. قالوا: فأثبت الظالم جاحداً، وهذه صفة الكفار.(2/226)
ومنها قوله تعالى فى الآية [55] من سورة النور: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولائك هُمُ الفاسقون} .
ومنها قوله تعالى فى الآيات [102-105] من سورة المؤمنون: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولائك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولائك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} .. قالوا: فنص سبحانه على أن مَن تخف موازينه يكون مكذِّباً، والفاسق تخف موازينه فكان مكذِّباً، وكل مكذِّب كافر.
ومنها قوله تعالى فلا الآية [2] من سورة التغابن: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} . قالوا: وهذا يقتضى أن مَن لا يكون مؤمناً فهو كافر، والفاسق ليس بمؤمن، فوجب أن يكون كافراً.
هذه بعض الآيات التى تمسَّك بها الخوارج فى موقفهم من مرتكب الكبيرة الذى لم يتب، والتى حسبوا أنها حجج دامغة لمذهب مخالفيهم من المسلمين. ولا يسع الذى يعرف سياق هذه الآيات وسباقها، ويعرف الآيات والأحاديث الواردة فى شأن عصاة المؤمنين، ويتأمل قليلاً فى هذه التخريجات والاستنتاجات التى يقولون بها، لا يسعه بعد هذا كله: إلا أن يحكم بأن القوم متعصبون، ومندفعون بدافع العقيدة، وسلطان المذهب.
وهناك نصوص من القرآن استغلها أفراد من الخوراج، لتدعيم مبادئهم التى يشذون بها عمن عداهم من بعض فِرَق الخوارج، وهى فى مظهرها التفسيرى أكثر تعصباً، وأبلغ تعنتاً، فمن ذلك: أن نافع بن الأزرق كان لا يرى جواز التقية التى هى فى الأصل من مبادئ الشيعة، ويستدل على حُرْمتها بقوله تعالى فى الآية [77] من سورة النساء: {.. إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله} ..
ويرى نجدة بن عامر جواز التقية، ويستدل على ذلك بقوله تعالى فى الآية [28] من سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} .
وأظهر من هذا: أن نجدة بن عامر كان لا يُصَوِّب نافع بن الأزرق فيما يقول به من إكفار القَعَدة، واستحلال قتل أطفال مخالفيه، وعدم رد الأمانات إلى مخالفيه، وغير ذلك من آرائه التى شذَّ بها، فأرسل نجدة إلى نافع رسالة يقول له فيها: ".. وأكفرتَ الذين عذرهم الله تعالى فى كتابه من قعدة المسلمين وضعفتهم. قال الله عَزَّ وجَلَّ - وقوله الحق ووعده الصدق: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى(2/227)
الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} ، ثم سماهم - تعالى - أحسن الأسماء فقال: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} . ثم استحللتَ قتل الأطفال وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال الله جَلَّ ثناؤه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ، وقال سبحانه فى القَعَدة خيراً فقال: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً} ، فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة مَن هو دون المجاهدين أَوَ ما سمعت قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} .. فجعلهم من المؤمنين، ثم إنك لا تؤدى الأمانة إلى مَن خالفك، والله تعالى قد أمر أن تُؤدَى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله فى نفسك، واتق يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل. والسلام".
فرد عليه نافع بكتاب جاء فيه: ".. وعِبتَ ما دِنْتُ به من إكفار القَعَدة وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة من المخالفين، وسأفسر ذلك إن شاء الله..
أما هؤلاء القَعَدة.. فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقاً، وهؤلاء قد تفقهوا فى الدين وقرأوا القرآن والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفتَ ما قاله الله تعالى فيمن كان مثلهم إذ قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} [النساء: 97] ، فقال: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97] ، وقال سبحانه: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 81] ، وقال: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة: 90] .. فأخبر بتعذيرهم، وأنهم كذبوا الله ورسوله، ثم قال: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90] . فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما الأطفال.. فإن نوحاً نبى الله كان أعلم بالله منى ومنك، وقد قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26-27] .. فسمَّاهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولدوا، فكيف كان ذلك فى قوم نوح ولا نقوله فى قومنا.. والله تعالى يقول: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} .. وهؤلاء كمشركى العرب لا يُقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.(2/228)
وأما استحلال أمانات مَن خالفنا. فإن الله تعالى أحلَّ لنا أموالهم كما أحلَّ دماءهم لنا، فدماؤهم حلال طلق وأموالهم فئ للمسلمين".
ولا شك لدينا فى أن نافع بين الأزرق متعصب فى فهمه للآيات على النحو الذى جاء فى رسالته هذه، وهو تعصب بلغ به إلى درجة المغالطة، وإلا فهو جهل منه بمواقع كلام الله، ومدلول آياته.
* *
مدى فهم الخوارج لنصوص القرآن
هذا.. وإن الخوارج عندما ينظرون إلى القرآن لا يتعمقون فى التأويل ولا يغوصون وراء المعانى الدقيقة، ولا يكلِّفون أنفسهم عناء البحث عن أهداف القرآن وأسراره، بل يقفون عند حرفية ألفاظه، وينظرون إلى الآيات نظرة سطحية، وربما كانت الآية لا تنطبق على ما يقصدون إليه، ولا تتصل بالموضوع الذى يستدلون بها عليه، لأنهم فهموا ظاهراً معطلاً، وأخذوا بفهم غير مراد.
ولقد يعجب الإنسان ويدهش عندما يقرأ ما للقوم من سخافات فى فهمهم لبعض نصوص القرآن، أوقعهم فيها التنطع والتمسك بظواهر النصوص، ولكى لا أُتهم بالقسوة فى حكمى هذا، أضع بين يدى القارئ الكريم بعض ما جاء عن القوم، حتى لا يجد مفراً من الحكم عليهم بمثل ما حكمت به.
"رُوىَ أن عبيدة بن هلال اليشكرى اتُهِمَ بامرأة حدَّاد رأوه يدخل منزله بغير إذنه، فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم، فقالوا: إنَّا لا نقاره على الفاحشة، فقال: انصرفوا.. ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال: إنَّا لا نقار على الفاحشة، فقال: بهتونى يا أمير المؤمنين فما ترى؟ قال: إنى جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البرئ.. فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ... الآية [11] وما بعدها من سورة النور - فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه وقالوا: استغفر لنا.. ففعل".
"ويُروى أن واصل بن عطاء وقع هو وبعض أصحابه فى يد الخوراج فقال لأصحابه: اعتزلوا ودعونى وإياهم - وكانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا: شأنك.. فخرج إليهم فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم. قال: فعلِّمونا، فجعلوا يُعلِّمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلتُ أنا ومَن معى. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس(2/229)
ذلك لكم. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن".
ومن الخوارج مَن أدَّاه تمسكه بظاهر النصوص إلى أن قال: "لو أن رجلاً أكل من مال يتيم فلسين وجبت له النار، لقوله تعالى فى الآية [10] من سورة النساء: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ، ولو قتل اليتيم أو بقر بطنه لم تجب له النار، لأن الله لم ينص على ذلك".
وهذا هو ميمون العجردى زعيم الميمونية من الخوارج، يرى جواز نكاح بنات الأولاد وبنات أولاد الإخوة والأخوات ويستدل على ذلك فيقول: "إنما ذكر الله تعالى فى تحريم النساء بالنسب الأُمهات، والبنات، والأخوات، والعمَّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأُخت، ولم يذكر بنات البنات ولا بنات البنين، ولا بنات أولاد الإخوة، ولا بنات أولاد الأخوات".
ويُروى أن رجلاً من الإباضية أضاف جماعة من أهل مذهبه، وكانت له جارية على مذهبه قال لها: قَدِّمى شيئاً، فأبطأت، فحلف ليبيعها من الأعراب، فقيل له: تبيع جارية مؤمنة من قوم كفار، فقال: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} .. فى الآية [275] من سورة البقرة.
وأيضاً نرى أن الخوارج خرجوا على عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وقالوا: لِمَ خرجت من بيتها، والله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ؟.. فى الآية [33] من سورة الأحزاب.
وأيضاً فإن الأزارقة قالوا: مَن قذف امرأة محصنة فعليه الحد، ومن قذف رجلاً محصناً فلا حد عليه، وهذا لأن الله تعالى نص على حد قاذف المحصنات، ولم ينص على حد قاذف المحصنين.
وقالوا - أيضاً - بأن سارق القليل يجب عليه القطع، أخذاً بظاهر قوله تعالى فى الآية [38] من سورة المائدة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} .(2/230)
وغير هذا كثير نجده عندهم فى بطون الكتب، وهو لا يدع مجالاً للشك فى أن الخوارج قوم سطحيون فى فهمهم لآيات القرآن الكريم، وإدراك معانيه.
* *
موقف الخوارج من السُّنَّة وإجماع الأمة، وأثر ذلك فى تفسيرهم للقرآن
ولقد كان من أثر جمود الخوارج عند ظواهر النصوص القرآنية. أنهم لم يلتفتوا إلى ما جاء من الأحاديث النبوية ناسخاً لبعض آيات الكتاب. أو مخصصاً لبعض عموماته، أو زائداً على بعض أحكامه، ويظهر أن هذا المبدأ قد تملَّك قلوب الخوارج، وتسلَّط على عقولهم، فنتج عنه أن وضع بعضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وهو: "إنكم ستختلفون من بعدى، فما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله، وما خالفه فليس عنى" فقد قال عبد الرحمن المهدى: "الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: ما أتاكم عنى فاعرضوه على كتاب الله ... إلخ".
كما كان من أثر هذا الجمود عند ظواهر القرآن أيضاً، أنهم لم يلتفتوا إلى إجماع الأمة، ولم يقدِّروه عند فهمهم لنصوص القرآن مع أن الإجماع فى الحقيقة يستند إلى أصل من الكتاب أو السُّنَّة، وليس أمراًَ مبتدعاً فى الدين، أو خارجاً على قواعده وأُصوله.
وفي هذا كله نجد العلامة ابن قتيبة يحدثنا عن بعض أحكام احتج بها الخوارج، وهي مخالفة لإجماع الأُمة. ومناقضة لما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يبطلها القرآن.. فيقول:
"قالوا: حكم فى الرجم يدفعه الكتاب.. قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم، ورجمت الأئمة من بعده، والله تعالى يقول فى الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] ، والرجم إتلاف للنّفس لا يتبعض، فكيف يكون على الإماء نصفه؟.. وذهبوا إلى أن المحصنات: ذوات الأزواج.. قالوا: وفى هذا دليل على أن المحصنة حدها الجَلْد".
"قالوا: حكم فى الوصية يدفعه الكتاب.. قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث"، والله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 180] ، والوالدان وارثان على كل حال لا يحجبهما أحد عن الميراث. وهذه الرواية خلاف كتاب الله عَزَّ وجَلَّ".
"قالوا: حكم فى النكاح يدفعه الكتاب.. قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا(2/231)
تُنكح المرأة على عمَّتها، ولا على خالتها"، وأنه قال: "يُحَرِّم من الرضاع ما يُحَرِّم من النسب". والله عَزَّ وجَلَّ يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 180] ... إلى آخر الآية، ولم يذكر الجمع بين المرأة وعمَّتها وخالتها، ولم يُحَرِّم من الرضاع إلا الأُم المرضعة والأخت بالرضاع.. ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فدخلت المرأة على عمتَّها وخالتها، وكل رضاع سوى الأم والأُخت، فيما أحلَّه الله تعالى".
يحدثنا ابن قتيبة بهذا عنهم، ثم يتولى بنفسه الرد عليهم فى ذلك كله رداً مسهباً فيه إزالة كل شبهة، ودفع كل حُجَّة وردت على ألسن القوم، ولا نطيل بذكر ذلك. ومَن أراد الوقوف عليه، فليرجع إليه فى تأويل مختلف الحديث [ص 241 - 250] .
* *
الإنتاج التفسيرى للخوارج
لم يكن للخوارج من الإنتاج التفسيرى مثل ما كان للمعتزلة، أو الشيعة أو غيرهما من فرق المسلمين، التي خلَّفت لنا الكثير من كتب التفسير، وكل ما وصل إلينا من تفسير الخوراج الأُوَل لم يزد عن بعض أفهام لهم لبعض الآيات القرآنية تضمنها جدلهم، واشتملت عليها مناظراتهم، وذكرنا لك منها كل ما وصل إلى أيدينا، وجميع ما استخلصناه من بطون الكتب المختلفة.
ولكن هل هذا هو كل ما كان للخوارج من تفسير؟ وهل وقف إنتاجهم عند هذا المقدار الضئيل؟ أو كان لهم مع هذا كتب مستقلة فى التفسير، ولكن فقدتها المكتبة الإسلامية على طور الأيام ومر العصور؟
الحق أنى وجهت لنفسى هذا السؤال، وكدت أعجز عن الجواب عنه.. ولكن هيأ الله لى ظرفاً جمعنى مع رجل من الإباضية المعاصرين، يقيم فى القاهرة، فوجهت إليها هذا السؤال نفسه، فأفهمنى أن الإنتاج التفسيرى للخوارج كان قليلاً بالنسبة لإنتاج غيرهم من فِرَق الإسلام، ومع هذا فلم تحتفظ المكتبة الإسلامية من هذا النتاج القليل إلا ببعض منه. لبعض العلماء من الإباضية فى القديم والحديث.
فسألته: وهل تذكر شيئاً من هذه الكتب؟ فذكر لى من الكتب ما يأتى:
1- تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسى.. من أهل القرن الثالث الهجرى.
2- تفسير هود بن محكم الهوارى.. من أهل القرن الثالث الهجرى.
3- تفسير أبى يعقوب، يوسف بن إبراهيم الورجلانى.. من أهل القرن السادس الهجرى.(2/232)
4- داعي العمل ليوم الأمل.. للشيخ محمد بن يوسف إطفيش.. من أهل القرن الحاضر.
5- هميان الزاد إلى دار المعاد.. له أيضاً.
6- تيسير التفسير.. له أيضاً.
فقلت له: وهل يوجد شىء من هذه الكتب إلى اليوم؟
فقال لى: أما تفسير عبد الرحمن بن رستم، فغير موجود. وأما تفسير هود بن محكم، فموجود، ومتداول بين الإباضية فى بلاد المغرب.. وهو يقع فى أربع مجلدات، وقد أطلعنى منه على جزئين مخطوطين عنده، وهما الأول والرابع. أما الأول: فيبدأ بسورة الفاتحة، وينتهى بآخر سورة الأنعام. وأما الرابع: فيبدأ بسورة الزمر، وينتهى بآخر القرآن.
قال: وأما تفسير أبى يعقوب الورجلانى، فغير موجود، ويذكر المحققون من علمائنا أنه من أحسن التفاسير بحثاً، وتحقيقاً، وإعراباً.
وأما تفسير داعى العمل ليوم الأمل، فلم يتمه مؤلفه، لأنه عزم على أن يجعله في اثنين وثلاثين جزءاً، ثم عدل عن عزمه هذا، واشتغل بتفسير هميان الزاد إلى دار المعاد.
وقد أطلعنى مُحدِّثى على أربعة أجزاء من تفسير داعى العمل، فى مجلدين مخطوطين بخط المؤلف، أما أحد المجلدين: فإنه يحتوى على الجزء التاسع والعشرين، والجزء الثلاثين من أجزاء الكتاب، وهو يبدأ بسورة الرحمن، وينتهى بآخر سورة التحريم، وأما المجلد الثانى: فإنه يحتوى على الجزء الحادى والثلاثين، والجزء الثانى والثلاثين، وهو يبدأ بسورة تبارك، وينتهى بآخر القرآن. وقد وجدت بالمجلد الأخير بعض ورقات فيها تفسير أول سورة [ص] ، ويظهر - كما قال مُحدِّثى - أن المؤلف قد ابتدأ تفسيره هذا بسورة الرحمن إلى أن انتهى إلى آخر سورة الناس، ثم بدأ بسورة [ص] ووقف عندها ولم يتم.
وأما تفسير هميان الزاد، فموجود ومطبوع فى ثلاثة عشر مجلداً كباراً، ومنه نسخة فى دار الكتب المصرية، ونسخة أخرى عند مُحدِّثى.
وأما تيسير التفسير، فموجود ومطبوع فى سبع مجلدات متوسطة الحجم، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية، وأخرى عند مُحدِّثى أيضاً.
* *
أسباب قِلَّة إنتاج الخوارج فى التفسير
وأنت ترى أن هذه الكتب المذكورة، ما وُجِد منها وما لم يُوجد، كلها للإباضية وحدهم، ولعل السر فى ذلك: أن جميع فِرَق الخوارج ما عدا الإباضية بادت ولم يبق لها أثر.(2/233)
أما الإباضية فموجودون إلى يومنا هذا، ومذهبهم منتشر فى بلاد المغرب، وحضرموت، وعُمان، وزنجبار.
ولكن بقى بعد هذا سؤال يتردد فى نفسى، ولعله يتردد فى نفس القارئ أيضاً وهو: ما السر فى أن الخوارج قَلَّ إنتاجهم فى التفسير؟
والجواب عن هذا السؤال - كما أعتقد - ينحصر فى أُمور ثلاثة وهي ما يأتى:
أولاً: أن الخوارج كان أكثرهم من عرب البادية، ومن قبائل تميم على الأخص، وقليل منهم كان يسكن البصرة والكوفة مع احتفاظه ببداوته، فكانوا لغلبة البداوة عليهم أبعد الناس عن التطور الدينى، والعلمى، والاجتماعى، وكانوا يمثلون الإسلام الأول فى بساطته، وعلى فطرته، بدون أن تشوبه تعاليم الأُمم الأُخرى. أضف إلى ذلك: احتفاظهم بأهم خصائص أهل البدو من سذاجة التفكير، وضيق التصور، والبُعْد عن التأثر بحضارة الأمم المجاورة لهم.
ثانياً: أنهم شُغِلوا بالحروب من مبدأ نشأتهم. وكانت حروباً قاسية وطويلة، ومتتابعة.. أسلمتهم حروب علىّ إلى حروب الأمويين، وأسلمتهم حروب الأمويين إلى حروب العباسيين التى تركتهم في حالة تشبه الاحتضار، وتؤذن بالفناء، فكان من الطبيعى أن لا تدع الحرب لهم من الوقت ما يتسع للبحث والتصنيف.
ثالثاً: أن الخوارج - مع ما هم عليه من شذوذ - كانوا يخلصون لعقيدتهم، ويتمسكون بإيمانهم إلى حد كبير، ويرون أن الكذب جريمة من أكبر الجرائم، وبه - عند جمهورهم - يخرج الإنسان من عِداد المؤمنين - فلعل هذا دعاهم إلى عدم الخوض في تفسير القرآن، وجعلهم يتورعون عن البحث وراء معانيه، مخافة أن لا يصيبوا الحق فيكونوا قد كذبوا على الله.. وقد سُئِل بعضهم: لِمَ لَمْ تُفسِّر القرآن؟ فقال: "كلما رأيت قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44-46] أحجمت عن التفسير".
من أجل هذا كله لم يكن يُنتظر من الخوراج أن يُؤلِّفوا لنا فى التفسير كما ألفَ غيرهم، وليس التفسير وحده هو الذي حُرِم من تصنيف الخوارج وتأليفهم، بل كل العلوم فى ذلك سواء، وما وُجِد لهم من مؤلفات فى علم الكلام، أو الفقه، أو الأُصول، أو الحديث، أو التفسير، أو غير ذلك من العلوم فكله من عمل الإباضية وحدهم، لأن هذه الفِرْقة هى التى عاشت وانتشرت فى كثير من بلاد المسلمين، واستمرت إلى يومنا هذا، وتأثرت بتعاليم المعتزلة وغيرهم، وسايرت التطور العلمى والاجتماعى.
وبعد.. فهذا هو تراث الخوارج في التفسير، وهو تراث نادر عزيز، وما وُجِد منه أندر وأعز، وأرى أن أكتفى بالكلام عن "هميان الزاد إلى دار المعاد" وحده، وعذرى(2/234)
فى ذلك: أن ما وجدناه من تفسير هود بن محكم، لم يتيسر لنا الاطاع عليه الاطلاع الكافى الذى يعطينا فكرة واضحة عنه، وعن مؤلِّفه، وذلك راجع إلى رداءة خطه، وضياع بعض أوراقه، وتآكل بعضها.
وما وجدناه من تفسير "داعى العمل ليوم الأمل". لم يكن أكثر حظاً من تفسير هود بن محكم.
وأما "تيسير التفسير".. فهو فى الحقيقة خلاصة لما تضمنه "هميان الزاد" فلم يكن الكلام عنه بمعطينا فكرة جديدة عن التفسير عند الإباضية أو عند مُفسِّره على الأقل.
* * *(2/235)
هميان الزاد إلى دار المعاد
التعريف بمؤلف هذا التفسير
مؤلف هذا التفسير هو محمد بن يوسف بن عيسى بن صالح إطفيش الوهبى، الإباضى، وهو من وادى ميزاب بصحراء الجزائر من بلاد المغرب. نشأ بين قومه، وعُرِف عندهم بالزهد والورع.. واشتغل بالتدريس والتأليف وهو شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وانكبَّ على القراءة والتأليف، حتى قيل إنه لم ينم فى ليلة أكثر من أربع ساعات. وله من المؤلفات فى شتَّى العلوم ثروة عظيمة تربو على الثلاثمائة مؤلَّف ... فمن ذلك: نظم المغنى لابن هشام خمسة آلاف بيت.. وكان ذلك فى شبابه، وشرح كتاب التوحيد للشيخ عيسى بن تبغورين وهو من أهم مؤلفاته فى علم الكلام، وشرح كتاب العدل والإنصاف فى أُصول الفقه لأبى يعقوب يوسف ابن إبراهيم الورجلانى، وله فى الحديث: وفاء الضمانة بأداء الأمانة، وهو مطبوع فى ثلاثة مجلدات، وجامع الشمل فى حديث خاتم الرسل، وهو مطبوع فى مجلد واحد. وله فى الفقه شرح كتاب النيل. وهو مطبوع فى عشر مجلدات، وله مؤلفات أخرى فى النحو والصرف، والبلاغة، والفلك، والعروض، والوضع، والفرائض، وغيرها.
وأما التفسير فله فيه "داعى العمل ليوم الأمل"، لم يتم ... و "هميان الزاد إلى دار المعاد"، وهو ما نحن بصدده ... و "تيسير التفسير"، وهو مختصر من السابق. هذا، وقد توفى المؤلف سنة 1332 هـ (اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة) ، وله من العمر ست وتسعون سنة.
* *
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه
يعتبر هذا التفسير هو المرجع المهم للتفسير عند الإباضية من الخوارج، غير أنه لا يُصور لنا حالة التفسير عندهم فى عصورهم الأولى، وذلك لقرب عهد مؤلفه، وتأخره عن زمن كثير من التفسير الذين وافقوه على مذهبه، والذين خالفوه فيه.
ولقد جرت سُنَّة الله بين المؤلفين أن يأخذ اللاحق من السابق، وأن يستفيد المتأخر من المتقدم، وصاحبنا فى تفسيره هذا، استمد من كتب مَن سبقه من المفسِّرين على اختلاف نِحَلهم ومشاربهم وإن كان يدَّعى فى مقدمته أن لا يُقلِّد فيه أحداً إلا إذا(2/236)
حكى قولاً، أو قراءة، أو حديثاً، أو قصة، أو أثراً لسَلَف. وأما نفس تفاسير الآى، والرد على بعض المفسِّرين، والجواب، فمن عنده إلا ما نسبه لقائله. كما يَدَّعى أنه كان ينظر بفكره فى الآية أولاً، ثم تارة يوافق نظر جار الله الزمخشرى، والقاضى البيضاوى - وهو الغالب - وتارة يخالفهما، ويوافق وجهاً أحسن مما أثبتناه أو مثله.
ومهما يكن من شىء فلا يسعنا إلا أن نقول: إن الرجل - وقد قرأ الكثير من كتب التفسير - تأثر بما جاء فيها، واستفاد الكثير من معانيها مما يدعونا إلى القول بأن تفسيره يمثل التفسير المذهبى للخوارج الإباضية فى أواخر عصورهم فقط، وبعد أن خرجوا من عزلتهم التى مكثوا فيها مدة طويلة من الزمن.
نقرأ فى هذا التفسير فنجد أن صاحبه يذكر فى أول كل سورة عدد آياتها، والمكى منها والمدنى، ثم يذكر فضائل السورة، مستشهداً لذلك فى الغالب بالأحاديث الموضوعة فى فضائل السور، ثم يذكر فوائد السورة بما يشبه كلام المشعوذين الدجَّالين، ثم بعد ذلك كله يشرح الآيات شرحاً وافياً، فيُسهب فى المسائل النحوية، واللُّغوية، والبلاغية، ويفيض فى مسائل الفقه، والخلاف بين الفقهاء كما يتعرض لمسائل علم الكلام ويفيض فيها، مع تأثر كبير بمذهب المعتزلة، كما لا يفوته أن يعرض للأبحاث الأصولية والقراءات، وهو مكثر إلى حد كبير من ذكر الإسرائيليات التى [لا] (*) يؤيدها الشرع، ولا يصدقها العقل، كما يطيل فى ذكر تفاصيل الغزوات التى كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هو بعد ذلك لا يكاد يمر بآية يمكن أن يجعلها فى جانبه إلا مال بها إلى مذهبه، وجعلها دليلاً عليه، ولا بآية تصارحه بالمخالفة إلا تلَّمس لها كل ما فى طاقته من تأويل، ليتخلص من معارضتها.. وقد يكون تأويلاً متكلفاً، وفاسداً، لا ينجيه من معارضة الآية له، لكنه التعصب الأعمى ... يدفع الإنسان إلى أن ينسى عقله، ويطرح تفكيره الصائب، ليمشى مع الهوى بعقل فارغ وتفكير خاطىء!!.. وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير، لتقف على مسلك صاحبه فى فهمه لآيات القرآن الكريم:
حقيقة الإيمان
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [2-3] من سورة البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . نراه يقرر: "أن الإيمان يُطلق على مجموع الاعتقاد، والإقرار، والعمل"، ثم يقول: "فمَن أخلَّ بالاعتقاد وحده، أو به وبالعمل، فهو مشرك من حيث الإنكار، منافق أيضاً من حيث أنه أظهر ما ليس فى قلبه، ومَن أخلَّ بالإقرار وحده، أو بالإقرار والعمل، فهو مشرك عند جمهورنا وجمهور قومنا. وقال القليل: إنه إذا أخلَّ بالإقرار وحده، مسلم عند الله من أهل الجنة، وإن أخلَّ به وبالعمل ففاسق كافر كفر نعمة، وإن أخلَّ بالعمل فقط،
__________
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع(2/237)
فمنافق عندنا، فاسق ضال، كافر كفراً دون شرك غير مؤمن الإيمان التام".. ثم قال: "واختلف الخوارج.. وهم الذين خرجوا عن ضلالة علىّ، فقالت الإباضية الوهبية، وسائر الإباضية فيمن أخلَّ بواحد من الثلاثة: ما تقدم من إشراكه بترك الاعتقاد، أو بترك الإقرار، وينافق بترك العمل. ويثبتون الصغيرة. وقال الباقون كذلك وإنه لا صغيرة. ومذهب المحدثين أن انضمام العمل والإقرار إلى الاعتقاد على التكميل لا على أنه ركن. ونحن نقول: انضمامها إليه ركن، وهما جزء ماهيته".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [25] من سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ... الآية، نراه يحاول محاولة جدية فى تحقيق أن العمل جزء من الإيمان، ولا يتحقق الإيمان بدونه. فيقول: "ترى الإنسان يفيد كلامه مرة واحدة بقيد، فيحمل سائر كلامه المطلق على هذا التقييد، فكيف يسوغ لقومنا أن يلغوا تقييد الله - عَزَّ وجَلَّ - الإيمان بالعمل الصالح مع أنه لا يكاد يذكر الفعل من الإيمان إلا مقروناً بالعمل الصالح؟ بل الإيمان نفسه مفروض لعبادة مَن يجب الإيمان به وهو الله تعالى، إذ لا يخدم الإنسان مثلاً سلطاناً لا يعتقد بوجوده، وثبوت سُلْطته، فالعمل الصالح كالبناء النافع، المظلل المانع للحر، والبرد والمضرات، والإيمان أُس، ولا ينفع الأُس بلا بناء عليه، ولو بنى الإنسان أُلوفاً من الأُسس ولم يبن عليها لهلك باللصوص، والحر، والبرد، وغير ذلك، فإن ذكر الإيمان مفرداً قيد بالعمل الصالح. وإذا ذكر العمل الصالح، فما هو إلا فرع الإيمان، دليل على أن كلاً منهما غير الآخر، لأن الأصل فى العطف المغايرة بين المتعاطفين، ففى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان إيذان بأن البشارة بالجنَّات، وإنما يستحقها مَن جمع بين الأعمال الصالحات والإيمان".
* *
موقفه من أصحاب الكبائر
كذلك نجد المؤلف يحاول أن يأخذ من القرآن ما يدل على أن مرتكب الكبيرة مخلَّد فى النار وليس بخارج منها.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [81] من سورة البقرة: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .. يقول: {سَيِّئَةً} خصلة قبيحة، وهى الذنب الكبير، سواء أكان نفاقاً أو إشراكاً، ومن الذنوب الكبيرة: الإصرار، فإنه نفسه كبيرة، سواء أكان على الصغيرة أو الكبيرة، والدليل على أن السيئة: الكبيرة قوله: {فأولائك أَصْحَابُ النار} .. ويحتمل وجه آخر وهو أن السيئة: الذنب صغيراً أو كبيراً، ثم يختَص الكلام بالكبيرة بقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ(2/238)
خطيائته} . وإن قلت روى قومنا عن ابن عباس رضى الله عنهما أن السيئة هنا الشرك. وكذا قال الشيخ هود - رحمه الله - إنها الشرك. قلت: ما ذكرته أولى مما ذكراه، فإن لفظ السيئة عام، وحمله على العموم أولى، إذ ذلك تفسير منهما لا حديث، ولا سيما أنهما وقومنا يعترفون بأن الكبيرة تُدْخِل فاعلها النار، ولم يحصروا دخولها على الشرك، ومعترفون بأن لفظ الخلود يُطلق على المكث الكبير، سواء أكان أبدياً، أو غير أبدى، وادعاء أن الخلود فى الموحِّدين بمعنى المكث الطويل، وفى الشرك بمعنى المكث الدائم، استعمال للكلمة فى حقيقتها ومجازها، وهو ضعيف، وأيضاً ذكر إحاطة الخطيئات ولو ناسب الشرك كغيره، لكنه أنسب بغيره، لأن الشرك أقوى {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} .. ربطته ذنوبه وأوجبت له دخول النار، فصار لا خلاص له منها، كمن أحاط به العدو، أو الحرق، أو حائط السجن، وذلك بأن مات غير تائب".
* *
حملته على أهل السُّنَّة
ونرى المؤلف كلما سنحت له الفرصة للتنديد بجمهور أهل السُّنَّة القائلين بأن صاحب الكبيرة من المؤمنين يُعذَّب فى النار على قدر معصيته، ثم يدخل الجنة بعد ذلك، ندَّد بهم ولمزهم.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [4] من سورة البقرة: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} .. يقول: ".. وترى أقواماً ينتسبون إلى المِلَّة الحنيفية يضاهئون اليهود فى قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات".
* *
مغفرة الذنوب
ثم إن المؤلف حمل كل آيات العفو والمغفرة على مذهبه القائل: بأن الكبائر لا يغفرها الله إلا بالتوبة منها والرجوع عنها، ويحمل على الأشاعرة القائلين بأن الله يجوز أن يغفر لصاحب الكبيرة وإن لم يتب.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الاية [284] من سورة البقرة: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} يقول: "ولا دليل فى الآية على جواز المغفرة لصاحب الكبيرة الميت بلا توبة منها، كما زعم غيرها، لحديث، هلك المُصِّرون".(2/239)
وعند قوله تعالى فى الآية [129] من سورة آل عمران: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} .. يقول: "يغفر لمن يشاء الغفران له بأن يوفقه للتوبة، ويُعذِّب مَن يشاء تعذيبه بأن لا يوفقه، وليس من الحكمة أن يُعذِّب المطيع الموفى، وليس منها أن يرحم العاصى المُصِّر، وقد انتفى الله من أن يكون ظالماً، وعد من الظلم: النقص من حسنات المحسن، والزيادة فى سيئات المسىء، وليس من الجائز عليه ذلك، خلافاً للأشعرية فى قولهم: يجوز أن يدخل الجنة جميع المشركين، والنار جميع الأبرار. وقد أخطأوا فى ذلك ... ".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [53] من سورة الزمر: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} .. يقول: "بشرط التوبة منها، بدليل التقييد بها فى مواضع من القرآن والسُّنَّة، والمطلق يُحمل على المُقَيَّد. وقد ذُكِرَت فى القرآن مراراً شرطاً للغفران، فذكرها فيما ذكرت. ذكر لها فيما لم تذكر، وإنما تحذف لدليل، والقرآن فى حكم كلام واحد لا يتناقض حاشاه، وأيضاً يليق أن يذكر لهم أنه يغفر الكبائر بلا توبة مع أنه ناه عنها، لأن ذلك يؤدى بهم إلى الاجتراء عليها. وقد أخفى الصغائر لئلا يُجترأ عليها من حيث أنه غفرها. ويدل لذلك تعقيب الآية بقوله: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] لئلا يطمع طامع كالقاضى - يريد البيضاوى - فى حصول المغفرة بلا توبة. ويدل له أيضاً قراءة ابن مسعود وابن عباس: "يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء" أى لمن يشاؤه بالتوبة.. وأما قوله: {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} فاستئناف معلل لمغفرة الذنوب بالتوبة، أي يغفرها، ويقبل التوبة منها. لأن من شأنه الغفران العظيم والرحمة والعظيمة وملكه وغناه واسع لذلك. والمراد بالآية: التنبيه على أنه لا يجوز لمن عصى الله - أى عصيان كان - أن يظن أنه لا يغفر له، ولا يقبل توبته، وذلك مذهبنا معشر الإباضية، وزعم القاضى وغيره: أن الشرك يُغفر بلا توبة، ومشهور مذهب القوم: أن الموحِّد إذا مات غير تائب: يُرجى له، وأنه إن شاء عذَّبه بقدر ذنبه وأدخله الجنة. وإن شاء غفر له. ومذهبنا: أن مَن مات على كبيرة غير تائب: لا يُرجى له".
* *
رأيه فى الشفاعة
ويرى المؤلف: أن الشفاعة لا تقع لغير الموحدِّين، ولا لأصحاب الكبائر، ومن خلال رأيه هذا ينظر إلى آيات الشفاعة فلا يرى فيها إلا ما يتفق ومذهبه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [48] من سورة البقرة: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} .. يقول: ".. وإن قلت: فهل الشفاعة والفداء بالعدل واقعان ولكن لا يُقبلان؟ أم غير واقعين؟ قلت: غير واقعين، أما مَن تأهل للشفاعة من الملائكة والأنبياء والعلماء(2/240)
والصالحين، فلا يتعرضون بها لمن ظهرت شقاوته لهم. فإن تعرَّضوا بها لهم قبل أن تظهر لهم، قيل لهم: إنهم بَدَّلُوا وغيَّروا، وليسوا أهلاً لها، فيتركوا التعرض لها. وأما من لم يتأهل لها فمشغول بنفسه لا يدرى ما يُفعل به".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [123] من السورة نفسها: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ... يقول.. {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} لعدمها هناك، فالمراد أنه لا شفاعة تنفعها، فالشفاعة هنالك منفية من أصلها، وليس المراد أنه هناك شفاعة لا تُقبل. وإنما ساغ ذلك، لأن القضية السالبة تصدق بنفى الموضوع، كما تصدق بنفى المحمول، فكما تقول: ليس زيد قاعداً فى السوق، وتريد أنه فيها لكنه قائم، كذلك تقول: ليس زيد قاعداً فيها، وتريد أنه ليس فيها أصلاً، وذلك مخصوص بالمشرك، فإنه لا شفاعة له هنالك إلا شفاعة القيام لدخول النار، ولا نفع له فى دخول النار، وإنما الشفاعة للموحِّد التائب".
وعند قوله تعالى في الآية [159] من سورة الأنعام: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ... الآية، يقول: "فالآية نص - أو كالنص - فى أن لا شفاعة لأهل الكبائر. أى أنت برئ منهم على كل وجه، وقد علمت عن عمر وأبى هريرة أن الآية فى أهل البدع من هذه الأمة".
* *
رؤية الله تعالى
ويرى صاحبنا: أن رؤية الله تعالى غير جائزة ولا واقعة لأحد مطلقاً، ويُصرِّح بذلك فى تفسيره لآيات الرؤية، ويرد على أهل السُّنَّة الذين يقولون بجوازها فى الدنيا، ووقوعها للمؤمنين فى الآخرة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} ... الآية، نراه يذكر ما ورد من الروايات فى هذا الباب، ومن الروايات رواية تفيد: أن موسى سأل ربه أن ينظر إليه بالمجاهرة، يعقب عليها فيقول: "وهذه الرواية تقتضى أن موسى يجيز الرؤية، حتى سألها ومُنعَها ... وليس كذلك، بل إن صح سياق هذه الرواية فقد سألوه الرؤية قبل ذلك، فنهاهم عن ذلك وحرَّمه، أو سكت انتظاراً للوحى فى ذلك، فلما فرغ وخرج، عاودوه ذكر ذلك، فقال لهم: قد سألته على لسانكم كما تحبون، لأخبركم بالجواب الذى يقمعكم لا لجواز الرؤية، فتجلَّى للجبل بعض آياته فصار دكاً، فكفروا بطلب الرؤية، لاستلزامها(2/241)
اللون، والتركيب، والتحيز، والحدود، والحلول، وذلك كله يستلزم الحدوث، وذلك كله محال على الله، وإذا كان ذلك مستلزماً عقلاً لم يختلف دنيا وأخرى، فالرؤية محال دنيا وأخرى. ولا بالإيمان، والكفر، والنبوة، وعدمها".
وعند قوله تعالى فى الآية [153] من سورة النساء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} ... الآية، يقول: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم} إذ سألوا رؤية الله جَلَّ وعَلا الموجبة للتشبيه ... وقالت الأشعرية: الصاعقة إنما هى من أجل امتناعهم من الإيمان بما وجب إيمانه إلا بشرط الرؤية، لا من أجل طلب الرؤية. وهو خلاف ظاهر الآية، مع أن الرؤية توجب التحيز، والجهات، والتركيب، والحلول، واللون، وغير ذلك من صفات الخلق. ويدل لما قلته قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] . والأشعرية لما أُفحموا قالوا: بلا كيف. وحديث الرؤية - إن صح - فمعناه: يزدادون يقيناً بحضور ما وعد الله فى الآخرة، فلا يشكون فى وجود الله وكمال صدقه، وقدرته، كما لا يشكون فى البدر".
* *
أفعال العباد
وإذا كان المؤلف يتأثر بآراء المعتزلة أحياناً، فإنه يُصرِّح بمخالفتهم فى بعض المسائل، فمثلاً نراه يقرر: أن فعال العباد كلها بإرادة الله تعالى وأن العبد لا يخلق أفعال نفسه. ونراه يرد على المعتزلة ولا يرضى موقفهم من هذه المسألة، فمثلاً عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [107] من سورة الأنعام: {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ... الآية، يقول: "ولو شاء الله عدم إشراكهم بالله تعالى ما أشركوا به تعالى شيئاً، فالآية دليل على أن إشراكهم بإرادة الله ومشيئته، وفيه رد على المعتزلة فى قولهم: لم يرد معصية العاصى.. وزعموا أن المعنى: لو شاء الله لأكرههم على عدم الإشراك، ولزم عليهم أن يكون مغلوباً على أمره إذا عُصى ولم يرد المعصية، بل أراد الإيمان منهم ولم يقع - تعالى الله عن ذلك - والحق أن المعصية بإرادته ومشيئته، مع اختيار العاصى، لا جبر، للذم عليها والعقاب والنهى عنها".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [62] من سورة الزمر: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ... يقول: "من إيمان، وكفر، وخير، وشر، مما هو كائن دنيا وأُخرى".
* *(2/242)
موقفه من المتشابه
كذلك نجد المؤلف يقف من المتشابه موقف التأويل، ويعيب على مَن يقول بالظاهر، وإن فوَّض علمه وكيفيته لله.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [210] من سورة البقرة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} .. يقول: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} على حذف مضاف: أي أمر الله. بدليل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} ... والحاصل، أن مذهبنا ومذهب هؤلاء - يريد المعتزلة ومن وافقهم - تأويل الآية عن ظاهرها إلى ما يجوز وصف الله به".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [42] من سورة المائدة: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} .. نراه يذكر الحديث القائل: "إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين"، ثم يقول: "ويمين الرحمن عبارة عن المنزلة الرفيعة، والعرب تذكر اليمين فى الأمر الحسن، ودل لذلك قوله: "وكلتا يديه يمين"، والتأويل فى مثل ذلك هو الحق. وأما قول سَلَف الأشعرية فى مثل ذلك: إنَّا نؤمن به وننزهه عن صفة الخلق ونكل معناه إلى الله، ونقول: هو على معنى يليق به ... وكذا طوائف من المتكلمين، فجمود وتعام عن الحق".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [54] من سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ... الآية، يقول: "واستوى: بمعنى استولى بالملك، والغلبة والقوة، والتصرف في كيف شاء، و "العرش": جسم عظيم وذلك مذهبنا ومذهب المعتزلة، وأبى المعالى وغيره من حُذَّاق المتكلمين، وخص العرش بذكر الاستيلاء لعظمته".
* *
موقفه من تفسير الصوفية
ونجد المؤلف يبدى رأيه فى تفسير الصوفية بصراحة تامة، ويحمل على مَن يُفسِّر هذا التفسير، فيقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة البقرة: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : ".. قيل: ويحتمل أن يُراد الإنفاق من جميع ما رزقهم الله من أنواع الأموال، والعلم، وقوة البدن، والجاه، وفصاحة اللسان.. ينفعون بذلك عيال الله سبحانه وتعالى على الوجه الجائز، وقيل: المعنى: ومما خصصناهم به من أنوار معرفة الله - جَلَّ وعَلا - يفيضون.. وهذا القول والذى قبله أظنهما للصوفية أو لمن يتصوف،(2/243)
وليس تفسير الصوفية عندى مقبولاً إذا خالف الظاهر، وكان تكلفاً، أو خالف أُسلوب العربية ولا أعذر مُن يُفسِّر به ولا أقبل شهادته، وأتقرب إلى الله تعالى ببغضه والبراءة منه، فإنه ولو كان فى نفسه حقاً لكن جعله معنى للآية أو للحديث خطأ لأنه خروج عن الظاهر وأساليب العرب التي يتخاطبون بها وتكلف من التكلف الذى يبغضه الله، فإن القولين وإن ناسبهما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ علماً لا يقال به ككنز لا يُنفق منه" الذى رواه الطبرى فى الأوسط، لكن لا يصحان تفسيراً للآية، إذ لا يتبادر ذلك لا يجرى على أسلوب العرب والقول الأخير أبعد، وأنا أعد اعتقادى ذلك نوراً ومعرفة أفاضها الله الرحمن الرحيم علىّ. وقد أقبل القول الذى قبله لأنه قريب من أُسلوب العرب. قليل التكلف، والصحيح أن المراد: النفقة الواجبة وغير الواجبة من المال.
* *
موقفه من الشيعة
وصاحبنا لا يُسلِّم للشيعة استدلالهم على إمامة علىّ بقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} ... بل نراه يفند احتجاجهم بالآية فيقول: "وزعم الشيعة أن: {والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة} ... إلى: {رَاكِعُونَ} المراد به علىّ بن أبى طالب، وأن جملة {وَهُمْ رَاكِعُونَ} حال من واو {وَيُؤْتُونَ الزكاة} وهى مقارنة، وأنه أعطى الزكاة وهو فى الصلاة راكع، سأل سائل وهو فى ركوع الصلاة فأعطاه خاتمه فى حال ركوعه وأراد به الزكاة، وعبَّر عنه بالجمع تعظيماً، وهى دعوى بلا دليل عليها والأصل العموم، والأصل أن لا يُطلق لفظ الجمع على المفرد، ومن دعوى الشيعة أن المراد بالولى - فى الآية - المتولى للأمور المستحق للتصرف فيها، وأن هذه الآية دليل على إمامة علىّ ... وهذا أيضاً تكلف بلا دليل".
* *
رأيه فى التحيكم
ونرى المؤلف يتأثر فى تفسيره هذا بعقيدته فى مسألة التحيكم بين علىّ ومعاوية رضي الله عنهما، فيفر من الآيات التى تعارضه، ويمكن أن تكون مستنداً لمخالفيه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} ... الآية، نراه يقول: "ولا دليل فى الآية على جواز التحكيم، لأن مسألة الحال إنما هى ليتحقق بالحَكَمين ما قد يخفى من حال الزوجين، بخلاف ما إذا ظهر بطلان إحدى الفرقتين بأن الله قد حكم بقتالها، وأيضاً المراد هنا: الإصلاح مثلاً لا مجرد بيان الحق".(2/244)
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [9-10] من سورة الحجرات: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ... إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .. يقول: والإصلاح بالنصح والدعاء إلى حكم الله ... ثم يقول: وسمع علىّ رجلاً يقول فى ناحية المسجد: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفىء ما دامت أيديكم فى أيدينا، ولا نبدأكم بقتال. قلت: الحق أنه إذا حكم الله بحكم فى مسألة فلا حكم لأحد فيها سواه، فالحق مع الرجل، ولو كان علىّ أعلم عالِم. ثم قال: قيل: وفى الآية دليل على أن البغى لا يزيل اسم مؤمن، لأن الله سماهم مؤمنين مع كونهم باغين ... وسماهم إخوة مؤمنين، قلت: لا دليل، أما: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} فتسميتهم فيه مؤمنين: باعتبار ما يظهر لنا قبل ظهور البغى، أما: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} فتسميتهم فيه مؤمنين إخوة: باعتبار ما ظهر لنا قبل البغى، فقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فى معنى اهدوهم إلى الحال التى كانوا عليها قبل. أو المراد بالمؤمن: الموحد لا الموفى، بدليل: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". وأما لفظ: آمن وإيمان، فلا يختصان بالموفى".
* *
إشادته بالخوارج وحطه من قدر عثمان وعلىّ ومَن والاهما
ثم إنه لا تكاد تأتى لذكر الخوارج إلا رفع من شأنهم، ولا لذكر علىّ، أو عثمان، أو مَن يلوذ بهما إلا وغضَّ من شأنهم، ورماهم بكل نقيصة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [105-106] من سورة آل عمران: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات وأولائك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ... إلخ، نراه يعيب على مَن يقول من المفسِّرين: إن الذين تفرَّقوا واختلفوا هم مَن خرج علَى علىّ عند قبوله التحكيم، ويقول: إن أمر الحَكَمين لم يكن حين نزلت الآية، بل فى إمارة علىّ، و {تَفَرَّقُواْ واختلفوا} صيغتان ماضويتان، ولا دليل على صرفها للاستقبال، ولا على التعيين لمن ذكر، بل دلَّت الآية على خلوصهم من ذلك، وعلى أنهم المحقون الذين تَبْيَضُ وجوههم، فمَن خالفهم فهو داخل فى قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .. وهو يعم كل مَن كفر بعد إيمانه. واعلم أنه قد خرج على علىّ حين أذعن للحكومة صحابة كثيرون - رضى الله عنهم - وتابعون كثيرون، فترى المخالفين يذمون ويشتمون مَن خرج عنه، ويلعنونه، غير الصحابة الذين خرجوا عنه، والخروج واحد: إما حق فى حق الجميع، وإما باطل فى حق الجميع.. فإذا كان حقاً في جنب الكل، فكيف يشتمون مَن خرج عليه غير الصحابة، وإن كان باطلاً فى جنب الكل، فقد استحق الصحابة الشتم أيضاً ... عافاهم الله. ونرى المخالفين يروون أحاديث لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يصح(2/245)
الحديث ويزيدون فيه. وقد يصح ويؤولونه فينا وليس فينا".
ثم سرد المؤلف بعض الأحاديث التى حملت عليهم، وردها بعدم صحتها، أو بحملها على غلاة الخوارج كالصفرية، أو بحملها على مَن قبل التحكيم. ثم قال: "والدليل الأقوى على أن تلك الأحاديث ليست فينا ولا فيمن اقتدينا بهم، وأن الراضين بالتحكيم هم المبطلون، ما رواه أبو عمر، وعثمان بن خليفة: أن رجلاً من تلاميذ أبى موسى الأشعرى - عبد الله بن قيس - لقيه بعد ما وقع فيما وقع من أمر التحكيم، فقال له: قف يا عبد الله بن قيس أستفتك، فوقف.. وكان التلميذ قد حفظ عنه أنه حكى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون فى هذه الأمة حَكَمان ضالان مُضلان يضلان ويضل مَن اتبعهما" قال: فلا تتبعهما وإن كنت أحدهما. ثم قال له التلميذ: إن صدقت فعليك لعنة الله، وإن كذبت فعليك لعنة الله.
ومعنى ذلك: إن كانت الرواية التى رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ثم وقع فيها، فعليه لعنة الله، وإن كان كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليه، لعنة الله، لنقله الكذب عن رسول الله، لا محيص عن الأمرين جميعاً".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [39] من سورة التوبة {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} ... الآية، نراه يحاول الغض من شأن عثمان الذى بذل ماله فى غزوة تبوك دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونُصْرة لدين الله فيقول: " ... وعن عمران بن حصين أن نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذى يَدَّعى النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلاً من عظمائهم، وجهَّز معه أربعين ألفاً، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهَّز عيراً إلى الشام، فقال: يا رسول الله؛ هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أُوقية. قال صاحب المواهب: قال عمران بن حصين: فسمعته يقول: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" - والعُهْدة على القسطلانى وعمران - فإن صح ذلك فمعنى ذلك: الدعاء له بالخير، لا القطع بأنه من أهل الجنة. وعن عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان بن عفان بألف دينار فى كمه حين جهَّز جيش العُسرة، فنثرها فى حجره - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها فى حجره ويقول: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم"، فإن صح هذا فذلك أيضاً دعاء، وإنما قلت لك لأخبار سوء وردت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [103] وما بعدها من سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً} ... الآيات إلى قوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا(2/246)
كَفَرُواْ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} ... يقول: ... وزعم علىّ أنهم أهل حروراء، وهم المسلمون الذين خرجوا عنه، لعدم رضاهم بالتحكيم فيما كان لله فيه حكم. وسأله ابن الكواء فقال: منهم حروراء. وسُئل: أهم مشركون؟ فقال: لا، فقال: أمنافقون؟ فقال: لا، بل إخواننا بغوا علينا ... وذلك خطأ تشهد به عبارته، لأنه ليس الإنسان إلا مؤمناً أو مشركاً أو منافقاً، فإذا انتفى الشرك والنفاق عن أهل حروراء فهم مؤمنون. والمؤمن لا يُوصف بالبغى وهو مؤمن، ومَن بغى دخل فى حدود النفاق. وأيضاً الباغى مَن يرى التحكيم فيما كان لله فيه حكم، والسافك دماء مَن لم يتبعه على هذه الزلَّة. وأيضاً أهل حروراء لم يكفروا بآيات الله، ولا بلقائه، بل مؤمنون بآيات الله وبالبعث. والأخسرون أعمالاً قد وصفهم الله سبحانه وتعالى بكفر الآيات واللقاء، ولست أقول ذلك معجباً بنفسى، ولا متعجباً ممن عصى، بل حق ظهر لى فصرَّحتُ به".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة النور: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} ... الآية، يقول: "قال المخالفون عن الضحاك: إن الذين آمنوا هم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ. وإن استخلافهم: إمامتهم العظمى، وسيأتى ما يدل على بطلان دخول عثمان وعلىّ فى ذلك ... ثم قال: وفى أيام أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ. وبعدهم، كانت الفتوح العظيمة، وتمكين الدين لأهله، لكن لا دليل فى ذلك على إصابة عثمان وعلىّ. فإنهما وإن كانت خلافتهما برضا الصحابة، لكن ما ماتا إلا وقد بدَّلا وغيَّرا فسحقاً ... كما فى أحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنهما مفتونان".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى آخر الآية السابقة: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .. يقول: "أقول - والله أعلم بغيبه - إن أول مَن كفر بتلك النعمة وجحد حقها: عثمان بن عفان؛ جعله المسلمون على أنفسهم، وأموالهم، فخانهم فى كل ذلك. زاد فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووسَّعه، وابتاع من قوم وأبى آخرون فغصبهم، فصاحوا به فسيَّرهم للحبس، وقال: قد فعل بكم عمر هذا فلم تصيحوا به، فكلَّمه فيهم عبد الله ابن خالد بن أسيد فأطلقهم من السجن، وقد جمع فى ذلك: عصب المال، وقذف عمر رضى الله عنه. واستعمل أخاه لأُمه وهو الوليد بن عُقبة. ونزل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} [الأنفال: 25] بحضرة أبي بكر، وعمر - رضى الله عنهما - وعثمان، وعلىّ، فقال لعثمان: "بك تُفتح وبك تُشَب"، وقال لعلىّ: "أنت إمامها وزمامها(2/247)
وقائدها، تمشى فيها مشى البعير فى قيده" وقال: "لَضرس بعض الجلوس فى نار جهنم أعظم من جبل أُحُد". وقال: "يثور دخانها تحت قدمى رجل يزعم أنه منى وليس منى، ألا إن أوليائى المتقون" ... إلى آخر ما ذكره من النقائص فى حق علىّ وعثمان - رضى الله عنهما".
وعند تفسيره لقوله فى الآية [23] من سورة الشورى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} ... الآية، يقول: "فموَدَّة قرابته صلى الله عليه وسلم مَن لَم يُبدِّل منهم ولم يُغيِّر، مثل فاطمة، وحمزة، والعباس، وابنه - رضى الله عنهم - واجبة".. ثم ذكر روايات كثيرة فى الحث على حب آل البيت وموَدَّتهم.. وبعدما فرغ منها قال: "لكن المراد بآله: آله الذين لم يُبَدِّلوا، فخرج علىّ ونحوه ممن بَدَّل، فإنه قتل مَن قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل قاتلة الجنة". ولم يصح عندنا معشر الإباضية رواية: أنه لما نزلت قيل: مَنْ قرابتك الذين تجب علينا موَدَّتهم؟ فقال: "علىّ، وفاطمة، وابناهما".
* *
اعتداده بنفسه وحملته على جمهور المسلمين
هذا ... وإن المؤلف ليفخر كثيراً فى مواضع من تفسيره بنفسه وبأهل نِحْلته، ويرى أنه وحزبه أهل الإيمان الصادق، والدين القويم، والتفكير السليم، وأما مَن عداهم: فضالون مضلون، مبتدعون مخطئون.
فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [170] من سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ... الآية، يقول ما نصه: "واعلم أن الحق هو القرآن والسُّنَّة، وما لم يخالفهما من الآثار، فمَن قام بذلك. فهو الجماعة والسواد الأعظم، ولو كان واحداً، لأنه نائب النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين الذين اهتدوا، وكل مهتد. ومَن خالف ذلك، فهو مبتدع ضال، ولو كان جمهوراً. هذا ما يظهر لي بالاجتهاد، وكنت أقرره للتلاميذ عام تسع وسبعين ومائتين وألف.. فأصحابنا الإباضية الوهبية هم الجماعة والسواد الأعظم وأهل السُّنَّة ولو كانوا أقل الناس. لأنهم المصيبون فى أمر التوحيد، وعلم الكلام، والولاية، والبراءة، والأصول دون غيرهم".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [112] من سورة هود: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} ... الآية، يقول ما نصه: "واعلم يا أخى - رحمك الله - أنى(2/248)
استقريت هذه المذاهب المعتبرة كمذهبنا معشر الإباضية، ومذهب المالكية، ومذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، ومذهب الحنبلية، بالمنقول والمعقول، فلم أر مستقيماً منها فى علم التوحيد والصفات سوى مذهبنا، فإنه مستقيم خال عن التشبيه والتعطيل. حُججه لا تقاومها حُجَّة. ولا تثبت لها، والحمد لله وحده".
هذا هو مُفسِّرنا الإباضى، وهذا هو تفسيره الذى ملأه بالدفاع عن العقيدة الزائفة، والتعصب للمذهب الفاسد، وهو بعد - كما ترى - لا يسلم من مجاراة المعتزلة فى بعض عقائدهم، كما لم يسلم من الأحاديث الموضوعة التى جرت على ألسن وُضَّاع الخوارج، لينصروا بها مذهبهم، ويُرَوِّجوا له بين الناس.
* *(2/249)
تفسير الصوفية
أصل كلمة تصوف
وقع الاختلاف فى أصل هذه الكلمة "تصوف" فقيل: إنها مشتقة من الصوف، وذلك لأن الصوفية خالفوا الناس فى لبس فاخر الثياب فلبسوا الصوف تقشفاً وزهداً. وقيل: إنه من الصفاء، وذلك لصفاء قلب المريد، وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفه ربه. وقيل: إنه مأخوذ من الصُفَّة التى يُنسب إليها فقراء الصحابة المعروفون بأهل الصُفَّة. ويرى غيرهم أنه لقب غير مشتق. قال القشيرى رحمه الله: "ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية، ولا قياس، والظاهر أنه لقب. ومَن قال باشتقاقه من الصفاء أو من الصُفَّة فبعيد من جهة القياس اللُّغوى. قال: وكذلك من الصوف، لأنهم لم يُختصوا به".
* *
معنى التصوف
وأما معنى التصوف.. فقيل: "هو إرسال النفس مع الله على ما يريده".
وقيل: "هو مناجاة القلب ومحادثة الروح، وفى هذه المناجاة طُهرة لمن شاء أن يتطهر، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرِجس والدنس، وفى تلك المحادثة عروج إلى سماء النور والملائكة، وصعود إلى عالَم الفيض والإلهام، وما هذا الحديث والنجوى إلا ضرب من التأمل، والنظر، والتدبر فى ملكوت السموات والأرض. بَيْد أن الجسم والنفس متلازمان وتوأمان لا ينفصلان، ولا سبيل إلى تهذيب أحدهما بدون الآخر. فمَن شاء لنفسه صفاءً ورفعة فلا بد له أن يتبرأ عن الشهوات وملذات البدن.. فالتصوف إذن: فكر، وعمل، ودراسة، وسلوك".
* *
نشأة التصوف وتطوره
والتصوف بهذا المعنى موجود منذ الصدر الأول للإسلام، فكثير من الصحابة كانوا معرضين عن الدنيا ومتاعها، آخذين أنفسهم بالزهد والتقشف، مبالغين فى العبادة، فكان منهم مَن يقوم الليل ويصوم النهار، ومنهم مَن يشد الحجر على بطنه تربية لنفسه وتهذيباً لروحه، غير أنهم لم يُعرفوا فى زمنهم باسم الصوفية، وإنما اشتهر بهذا(2/250)
اللقب فيما بعد مَن عُرفوا بالزهد والتفانى فى طاعة الله تعالى، وكان هذا الاشتهار فى القرن الثانى الهجرى، وأول من سُمِّى بالصوفى: أبو هاشم الصوفى المتوفى سنة 150 هـ (خمسين ومائة من الهجرة) .
وفى هذا القرن وما بعده تولَّدت بعض الأبحاث الصوفية، وظهرت تعاليم القوم ونظرياتهم التى تواضعوا عليها، وأخذت هذه الأبحاث تنمو وتتزايد كلما تقادم العهد عليها. وبمقدار ما اقتبسه القوم من المحيط العلمى الذى يعيشون فيه تطورت هذه الأبحاث والنظريات.
ولقد استفاد المتصوفة من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء ما كان له الأثر الأكبر فى هذا التطور الصوفى، غير أنهم أخذوا من الفلسفة بحظ وافر، بل وكوَّنوا فلسفة خاصة بهم، حتى أصبحنا نرى بينهم رجالاً أشبه بالفلاسفة منهم بالمتصوفة، وأصبحنا نرى بعضهم يدين بمسائل فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة، مما أثار عليهم جمهور أهل السُّنَّة، وجعلهم يحاربون التصوف الفلسفى، ويؤيدون التصوف الذى يدور حول الزهد، والتقشف، وتربية النفس، وإصلاحها.. وما زال أهل السُّنَّة يحاربون التصوف الفلسفى حتى كادوا يقضون عليه فى نهاية القرن السابع الهجرى.
ومن ذلك الوقت دخل فى التصوف رجال من غير أهله، تظاهروا بالورع والطاعة، وتحلَّوا بالزهد الكاذب والتقشف المصطنع، فأصبحنا نرى بعض الجهلاء الأُميين يشرفون على الطريق، ويتولون تربية الأتباع والمريدين، ووقفت التعاليم الصوفية عند دائرة محدودة، هى دائرة الأوراد والأذكار، وإن تعدتها فلا أكثر من بعض الأبحاث الضيقة فى الفقه والتفسير والحديث.
* *
أقسام التصوف
مما تقدم يتضح لنا أن التصوف ينقسم إلى قسمين أساسيين:
تصوف نظرى: وهو التصوف الذى يقوم على البحث والدراسة.
وتصوف عملى: وهو التصوف الذى يقوم على التقشف والزهد والتفانى فى طاعة الله. وكل من القسمين كان له أثره فى تفسير القرآن الكريم، مما جعل التفسير الصوفى ينقسم أيضاً إلى قسمين: تفسير صوفى نظرى، وتفسير صوفى فيضى أو إشارى ... وسنتكلم على كل قسم منهما بما يفتح الله به ويوفق إليه:
* *
أولاً: التفسير الصوفى النظرى(2/251)
ابن عربى شيخ هذه الطريقة
ونستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيى الدين بن عربى شيخ هذه الطريقة فى التفسير، إذ أنه أظهر مَن خَبَّ فيها ووضع، وأكثر أصحابه معالجة للقرآن على طريقة التصوف النظرى، وإن كان له من التفسير الإشارى ما يجعله فى عداد المفسِّرين الإشاريين إن لم يكن شيخهم أيضاً.
* *
تأثر ابن عربى بالنظريات الفلسفية
نقرأ لابن عربى فى الكتب التى يُشَك فى نسبتها إليه، كالتفسير المشهور باسمه، وفى الكتب التى تُنسب إليه على الحقيقة كالفتوحات المكية، والفصوص، فنراه يطبق كثيراً من الآيات القرآنية على نظرياته الصوفية الفلسفية.
فمثلاً يُفسِّر بعض الآيات بما يتفق والنظريات الفلسفية الكونية، فعند قوله تعالى فى الآية [57] من سورة مريم فى شأن إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ... نجده يقول: "وأعلى الأمكنة المكان الذى تدور عليه رحى عالَم الأفلاك، وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس، وتحته سبعة أفلاك، وفوقه سبعة أفلاك، وهو الخامس عشر".
ثم ذكر الأفلاك التى تحته، والتى فوقه، ثم قال: "وأما علو المكانة فهو لنا - أعنى المحمدين - كما قال تعالى: {وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ} فى هذا العلو، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة".
وعند قوله تعالى فى الآية [87] وما بعدها من سورة البقرة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} ... . إلى قوله: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(2/252)
يقول: " ... والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعَّال، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها يقبضها بنفسه أو بالوسائط التى هى أعوانه ويسلمها إلى الله تعالى".
وعند قوله تعالى فى الآيتين [19-20] من سورة الرحمن: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} ... يقول: {مَرَجَ البحرين} بحر الهيولى الجسمانية الذى هو الملح الأُجاج، وبحر الروح المجرد الذى هو العذب الفُرات، {يَلْتَقِيَانِ} فى الوجود الإنسانى، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} هو النفس الحيوانية التى ليست فى صفاء الروح المجرَّدة ولطافتها، ولا فى كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها، {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته، فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه، ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً ... سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء".
* *
تأثره فى تفسيره بنظرية وحدة الوجود
كذلك نرى ابن عربى يتأثر فى تفسيره للقرآن بنظرية وحدة الوجود، التى هى أهم النظريات التى بنى عليها تصوفه، فنراه فى كثير من الأحيان يشرح الآيات على وفق هذه النظرية، حتى إنه ليخرج بالآية عن مدلولها الذى أراده الله تعالى.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة النساء: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ... الآية، نجده يقول: {اتقوا رَبَّكُمُ} اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم - وهو ربكم - وقاية لكم، فإن الأمر ذم وحمد، فكونوا وقايته فى الذم، واجعلوه وقايتكم فى الحمد تكونوا أدباء عالمين".
وفى تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [29-30] من سورة الفجر: {فادخلي فِي عِبَادِي * وادخلي جَنَّتِي} .. يقول: {وادخلي جَنَّتِي} التى هى سترى، وليست جنتى سواك، فأنت تسترنى بذاتك الإنسانية فلا أُعرف إلا بك، كما أنك لا تكون إلا بى، فمَن عرفك عرفنى، وأنا لا أُعرف فأنت لا تُعرف، فإذا دخلت جنته دخلت نفسك، فتعرف نفسك معرفة أُخرى، غير المعرفة التى عرفتها حين عرفتَ ربك بمعرفتك إياها، فتكون صاحب معرفتين: معرفة به من حيث أنت، ومعرفة به بك من(2/253)
حيث هو لا من حيث أنت، فأنت عبد رأيتَ رباً، وأنت رب لمن له فيه أنت عبد، وأنت رب وأنت عبد لمن له فى الخطاب عهد" ... إلخ.
وفى سورة آل عمران عند قوله تعالى فى الآية [191] : {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} ... يقول: "أى شيئاً غيرك، فإن غير الحق هو الباطل، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك، {سُبْحَانَكَ} ننزهك أن يُوجد غيرك، أى يُقارِن شىء فردانيتك يُثَنَّى وحدانيتك".
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآيتين [9-10] من سورة الشمس: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ... يقول: "تحقيق هذا الذكر أن النفس لا تزكو إلا بربها، فيه تشريف وتعظيم فى ذاتها، لأن الزكاة ربو، فمن كان الحق سمعه وبصره وجميع قواه، والصورة فى الشاهد صورة خلق، فقد زكت نفس مَن هذا نعته، وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، كالأسماء الإلهية لله. والخلق كله بهذا النعت فى نفس الأمر، ولولا أنه هكذا فى نفس الأمر ما صح بصورة الخلق ظهور ولا وجود، ولذلك خاب مَن دسَّاها، لأنه جهل ذلك فتخيل أنه دسَّها فى هذا النعت، وما علم أن هذا النعت لنفسه نعت ذاتى لا ينفك عنه ويستحيل زواله. لذلك وصفه بالخيبة حيث لم يعلم هذا، ولذلك قال: {قَدْ أَفْلَحَ} ففرض له البقاء، والبقاء ليس إلا لله، أو لما كان عند الله، وما ثَمَّ إلا الله، أو ما هو عنده، فخزائنه غير نافدة، فليس إلا صور تعقب صوراً".
وغير هذا كثير من قسر الآيات وإخضاعها لنظرية وحدة الوجود التى يدين بها ابن عربى.
* *
قياسه الغائب على الشاهد
كذلك نجد ابن عربى يفهم بعض النصوص القرآنية فهماً خيالياً منتزعاً من المشاهد المحسوس، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سروة الرحمن: {الرحمان * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ *والنجم والشجر يَسْجُدَانِ * والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 1-9] . يقول ما نصه: {الرحمان * عَلَّمَ القرآن} على أي قلب نزل، {خَلَقَ الإنسان} فعيَّن له الصنف المنزَّل عليه، {عَلَّمَهُ البيان} أى نزَّل له البيان، فأبان عن المراد الذى فى الغيب، {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} ميزان حركات الأفلاك، {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} لهذا الميزان، أى(2/254)
من أجل هذا الميزان، فمنه ذو ساق وهو الشجر، ومنه ما لا طاق له وهو النجم، فاختلفت السجدتان، {والسمآء رَفَعَهَا} وهى قبة الميزان، {وَوَضَعَ الميزان} ليزن به الثقلان، {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} بالإفراط والتفريط من أجل الخسران، {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} مثل اعتدال نشأة الإنسان، إذ الإنسان لسان الميزان، {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} أى لا تفرطوا بترجيح إحدى الكفتين إلا بالفضل. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط} [الانبياء: 47] .. فاعلم أنه، ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولا مقام إلا والوزن حاكم عليه علماً وعملاً، فللمعانى ميزان بيد العقل يُسمى المنطق، يحتوى على كفَّتين تُسمى المقدمتين، وللكلام ميزان يُسمى النحو يُوزن به الألفاظ لتحقيق المعانى التى تدل عليه ألفاظ ذلك اللِّسان، ولكل ذى لسان ميزان وهو المقدار المعلوم الذى قرنه الله بإنزال الأرزاق فقال: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 1] ، {ولاكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} .. وقد خلق جسد الإنسان على صورة الميزان، وجعل كفَّتيه: يمينه وشماله، وجعل لسانه: قائمة ذاته. فهو لأى جانب مال، وقرن الله السعادة باليمين، وقرن الشقاء بالشمال، وجعل الميزان الذى يوزن بالأعمال على شكل القَبَّان، ولها وُصِفَ بالثقل والخفة، ليجمع بين الميزان العددى وهو قوله تعالى:
{بِحُسْبَانٍ} ، وبين ما يوزن بالرطل، وذلك لا يكون إلا فى القَبَّان، فلذلك لم يعيّن الكفَّتين، بل قال: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 2] فى حق السعداء، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] فى حق الأشقياء، ولو كان ميزان الكفتين لقال: وأما مَن ثقلت كفَّة حسناته فهو كذا، وأما مَن ثقلت كفَّة سيئاته فهو كذا. وإنما جعل ميزان الثقل هو عَيْن ميزان الخفة كصورة القَبَّان، ولو كان ذا كفَّتين لوصف كفَّة السيئات بالثقل أيضاً إذا رجحت على الحسنات، وما وصفها قط إلا بالخفة فعرفنا أن الميزان على شكل القَبَّان.. ".
* *
إخضاعه قواعد النحو لنظراته الصوفية
وكذلك يخضع ابن عربى التفسير الصوفى النظرى إلى القواعد النحوية، أحياناً، ولكنه خضوع يكيفه الصوفى على حسب ما يرضى روحه ويوافق ذوقه، فنجد ابن عربى مثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [30] من سورة الحج: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} .. يقول: "وقوله: {عِندَ رَبِّهِ} العامل فى هذا الظرف فى طريقنا قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ} ، أي مَن يعظمها عند ربه، أى فى ذلك الموطن، فلتبحث فى المواطن التى تكون فيها عند ربك ما هى؟.. كالصلاة مثلاً، فإن المُصَلِّى يناجى ربه، فإذا عظَّم حُرمة الله فى هذا الموطن كان خيراً له.. والمؤمن إذا نام(2/255)
على طهارة فروحه عند ربه، فيُعَظِّم هناك حُرمة الله، فيكون الخير الذى له فى مثل هذا الموطن المبشرة التى تحصل له فى نومه أو يراها له غيره. والمواطن التى يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيُعَظِّم فيها حُرمات الله على الشهود".
* *
التفسير الصوفى النظرى فى الميزان
من هذه الأمثلة السابقة كلها نستطيع أن نقرر فى صراحة واطمئنان: أن التفسير الصوفى النظرى تفسير يخرج بالقرآن - فى الغالب - عن هدفه الذى يرمى إليه!!.. يقصد القرآن هدفاً معيناً بنصوصه وآياته، ويقصد الصوفى هدفاً معيناً بأبحاثه ونظرياته. وقد يكون بين الهدفين تنافر وتضاد، فيأبى الصوفى إلا أن يُحوِّل القرآن عن هدفه ومقصده، إلى ما يقصده هو ويرمى إليه، وغرضه بهذا كله: أن يروج لتصوفه على حساب القرآن، وأن يقيم نظرياته وأبحاثه على أساس من كتاب الله، وبهذا الصنيع يكون الصوفى قد خدم فلسفته التصوفية ولم يعمل للقرآن شيئاً، اللهم إلا هذا التأويل الذى كله شر على الدين وإلحاد فى آيات الله!!
رأينا ابن عربى يميل ببعض الآيات إلى مذهبه القائل بوحدة الوجود، ورأينا غيره كأبى يزيد البسطامى، والحلاج، وغيرهما، يسلك هذا المسلك نفسه أو قريباً منه. ووحدة الوجود - عندهم - معناها أنه ليس هناك إلا وجود واحد كل العالَم مظاهر ومجال له، فالله سبحانه هو الموجود الحق، وكل ما عداه ظواهر وأوهام، ولا توصف بالوجود إلا بضرب من التوسع والمجاز، وهذه النظرية سرت إلى بعض المتصوفة عن طريق الفلاسفة، وعن طريق الإسماعيلة الباطنية الذين خالطوهم وأخذوا عنهم مذهبهم القائل بحلول الإله فى أئمتهم، وصوَّروه - أعنى الصوفية - بصورة أخرى تتفق مع مذهب الباطنية فى الحقيقة، وإن اختلفت فى الاصطلاح والألفاظ!
هذا المذهب الذى خَوَّل لمثل الحلاج أن يقول: أنا الله، ولمثل ابن عربى أن يقول: إن عجل بنى إسرائيل أحد المظاهر التى اتخذها الله وحَلَّ فيها، والذى جرَّه فيما بعد إلى القول بوحدة الأديان لا فرق بين سماوى وغير سماوى، إذ الكل يعبدون الإله الواحد المتجلى فى صورهم وصور جميع المعبودات.
هذا المذهب الذى يُذهب بالدين من أساسه.. هل يكون سائغاً ومقبولاً أن نجعله أصلاً نبنى عليه أفهامنا لآيات القرآن الكريم؟.. وهل يليق بابن عربى وهو الأستاذ(2/256)
الأكبر، أن ينظر من خلاله إلى مثل قوله تعالى فى الآيتين [6-7] من سورة البقرة: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} .
فيقول شارحاً لهذا النص القرآنى: "يا محمد؛ إن الذين كفروا ستروا محبتهم فى، دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذى أرسلتك به، أو لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، فإنهم لا يعقلون غيرى، وأنت تنذرهم بخلقى وهم ما عقلوه ولا شاهدوه، وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعاً لغيرى، وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاماً فى العالَم إلا منى، وعلى أبصارهم عشاوة من بهائى عند مشاهدتى، فلا يبصرون سواى، ولهم عذاب عظيم عندى ... أردهم بعد هذا المشهد السنى إلى إنذارك وأحجبهم عنى، كما فعلتُ بك بعد قاب قوسين أو أدنى قُرْباً.. أنزلتك إلى مَن يُكّذِّبك، ويرد ما جئتَ به إليه منى فى وجهك، وتسمع فىَّ ما يضيق له صدرك، فأين ذلك الشرح الذى شاهدته فى إسرائك؟ فهكذا أمنائى على خلقى الذين أخفيتهم رضاى عنهم".
وهل يجدر بمثل هذا الصوفى الكبير أن يتأثر بمذهبه فى وحدة الوجود فيقول فى قوله تعالى فى الآية [23] من سورة الإسراء: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} : ".. فعلماء الرسوم يحملون لفظ "قضى" على الأمر، ونحن نحمله على الحكم كشفاً وهو الصحيح، فإنهم اعترفوا أنهم ما يعبدون هذه الأشياء إلا لتقربهم إلى الله زُلْفى، فأنزلهم منزلة النواب الظاهر بصورة مَن استنابهم، وما ثَمَّ صورة إلا الأُلوهية فنسبوها إليهم. ولهذا يقضى الحق حوائجهم إذا توسلوا بها إليه غيرة منه على المقام أن يُهتضم، وإن أخطأوا فى النسبة فما أخطأوا فى المقام، ولهذا قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ} .. أى أنتم قلتم عنها إنها آلهة، وإلا فسَمُّوهم، فلو سموهم لقالوا: هذا حجر، أو شجر، أو ما كان، فتتميز عندهم بالإسمية، إذا ما كل حجر عُبِد ولا اتُخِذ إلهاً، ولا كل شجر، ولا كل جسم منير، ولا كل حيوان، فلله الحُجَّة البالغة عليهم بقوله: {قُلْ سَمُّوهُمْ} ..
وأصرح من هذا أنه لما عرض لقوله تعالى فى الآية [163] من سورة البقرة: {وإلاهكم إلاه وَاحِدٌ} .. قال: "إن الله تعالى خاطب فى هذه الآية المسلمين، والذين عبدوا غير الله قُربة إلى الله، فما عبدوا إلا الله، فلما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} فأكدوا ذكر العِلَّة، فقال الله لنا: إن إلهكم والإله الذى يطلب(2/257)
المشرك القُربة إليه بعبادة هذا الذى أشرك به واحد، كأنكم ما اختلفتم فى أحديته.. فقال: {وإلاهكم} فجمعنا وإياهم إله واحد، فما أشركوا إلا بسببه فيما أعطاهم نظرهم. ومَن قصد من أجل أمر ما فذلك الأمر على الحقيقة هو المقصود لا مَن ظهر أنه قصد، كما يقال: مَن صحبك لأمر أو أحبك لأمر ولَّى بانقضائه، ولهذا ذكر الله أنهم يتبرأون منهم يوم القيامة. وما أُخِذوا إلا من كونهم فعلوا ذلك من نفوسهم، لا أنهم جهلوا قدر الله فى ذلك، ألا ترى الحق لما علم هذا منهم كيف قال: {وإلاهكم إلاه وَاحِدٌ} ؟ ونبههم فقال: {قُلْ سَمُّوهُمْ} فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء الله، ثم وصفهم بأنهم فى شركهم قد ضلُّوا ضلالاً بعيداً، أو مبيناً، لأنهم أوقعوا أنفسهم فى الحيرة، لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم، وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يُغنى عنهم من الله شيئاً، فهى شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم. ثم أخبرنا الله أنه قضى ألا نعبد إلا إياه بما نسبوه من الأُلوهية لهم أى جعلوهم كالنوَّاب لله والوزراء كأن الله استخلفهم، ومن عادة الخليفة أن يكون فى رتبة مَن استخلفه عند المستخْلَف عليه، فلهذا نسبوا الأُلوهية لهم ابتداءً من غير نظر فيمن جعل ذلك. وقول مَن قال: {أَجَعَلَ الآلهة إلاها وَاحِداً} ، إنما كان من أجل اعتقادهم فيما عبدوه أنهم آلهة دون الله المشهود له عندهم بالعظمة على الجميع، فأشبه هذا القول ما ثبت فى الشرع الصحيح من اختلاف الصور فى التجلِّى، ومعلوم عند مَن يشاهد ذلك أن الصورة ما هى هذه الصورة، وكل صورة لا بد أن يقول المشاهد له: إنها الله. لكن لما كان هذا من عند الله، وذلك الآخر من عندهم أنكر عليهم التحكم فى ذلك، كما ثبت فى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ..
هذا حقيقة، فوجه الله موجود فى كل جهة يتولَّى أحد إليها، ومع هذا لو تولَّى الإنسان فى صلاته إلى غير الكعبة مع علمه بجهة الكعبة لم تُقبل صلاته، لأنه ما شُرع له إلا استقبال هذا البيت الخاص بهذه العبادة الخاصة، فإذا تولَّى فى غير هذه العبادة التى لا تصح إلا بتعيين هذه الجهة الخاصة، فإن الله يقبل ذلك التولِّى، كما أنه لو اعتقد أن كل جهة يتولًَّى إليها ما فيها وجه الله لكان كافراً وجاهلاً، ومع هذا فلا يجوز له أن يتعدى بالأعمال حيث شرعها الله، ولهذا اختلفت الشرائع، فما كان محرَّماً فى شرع ما، حللَّه الله فى شرع آخر، ونسخ ذلك الحكم الأول فى ذلك المحكوم عليه بحكم آخر فى عَيْن ذلك المحكوم عليه، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] ، فما نسخ من شرع واتبعه مَن اتبعَه بعد نسخه فذلك المسمى هوى النفس الذى قال الله فيه لخليفته داود: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} يعنى الحق الذى أنزلته إليك، {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} وهو ما خالف شرعك، {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} وهو ما شرعه الله لك على الخصوص. فإذا علمت هذا وتقرر لديك،(2/258)
علمت أن الله إله واحد فى كل شرع عيناً، وكثير صورة وكوناً، فإن الأدلة العقلية تُكّثِّره باختلافها فيه، وكلها حق ومدلولها صدق، والتجلِّى فى الصورة كثرة أيضاً لاختلافها. والعين واحدة، فإذا كان الأمر هكذا فما تصنع؟ أو كيف يصح لى أن أُخَطِّئ قائلاً؟ ولهذا لا يصح الخطأ من أحد فيه، وإنما الخطأ فى إثبات الغير وهو القول بالشريك، فهذا القول بالعدم، لأن الشريك ليس ثَمَّ، وذلك لا يغفره الله، لأن الغفر الستر، ولا يُستر إلا مَن له وجود، والشريك عدم يُستر.. فهى كلمة تحقيق، {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ، لأنه لا يجده. فلو وجده لصح وكان للمغفرة عَيْن تتعلق بها، وما فى الوجود مَن يقبل الأضداد إلا العالَم من حيث ما هو واحد، وفى هذا الواحد ظهرت الأضداد، وما هى إلا أحكام عَيْن الممكنات فى عَيْن الوجود التى بظهورها عُلِمت الأسماء الإلهية المتضادة وأمثالها".
* *
رأينا فى التفسير الصوفى النظرى
ورأيى الذى أدين الله عليه: أن مثل هذا التفسير القائم على نظرية وحدة الوجود ما كان لنا أن نقبله مهما كان قائله.
كذلك ليس لنا أن نقبل التفسير الذى أُسس على نظريات الفلاسفة الذين بحثوا فى الطبيعة وما وراء الطبيعة، والذى جرى عليه ابن عربى وغيره من المتصوِّفة فى تفسيرهم لبعض الآيات القرآنية. لا نقبله على أنه تفسير موافق لمراد الله تعالى ومقصوده الذى جاء القرآن من أجله، وإن كنا نقبله - إن صح - على أنه مما تحتمله الآية ما دام لا يعارض القرآن ولا ينافيه. على أن كل ما جاء من ذلك لا يعدو أن يكون ظنياً، وقد يظهر خطؤه فى يوم من الأيام، فكيف نحمل عليه القرآن الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
أما التفسير الذى يُبنى على قياس الغائب على الشاهد كتفسير ابن عربى لحقيقة الميزان الذى تُوزن به الأعمال يوم القيامة، فهذا أيضاً ضرب من التخمين، والتخمين لا يجوز أن يدخل فى فهم الأشياء التى لا يُتوصل إلى حقيقتها إلا من طريق السمع عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وأما التفسير الذى يبُنى على قواعد نحوية أو بلاغية، فهذا إن ساعده السياق والسباق قُبِل، وإلا أعرضنا عنه، وأخذنا بما يصححه النظر ويقويه الدليل.
هذا هو رأينا فى التفسير الصوفى النظرى، وليس لدينا من المعاذير ما نستطيع أن نتلمسه للقوم حتى نصحح لهم مثل هذا التفسير الذى يقوم على نظريات فاسدة تذهب بالدين من أساسه. وإذا صح - وما أرانى أرتضى ذلك - أن نغض الطرف عما(2/259)
قالوه فى التفسير من بيان لحقائق الموجودات علويها وسفليها، وحقائق الملائكة، والروح، والعرش، والكرسى، وأمثال ذلك، فلا يصح أن نغض الطرف بحال عما قالوه من التفسير المبنى على وحدة الوجود. وإذا أمكننا - على كره - أن نتسامح فى بعض عبارات شديدة جرى بها لسان صوفى أخذه الوَجد، وارتفع به الحال، وغاب عن نفسه، وشاهد ما لا نشاهد، فقال فى لحظة نسى فيها نفسه فلم ير إلا الله: أنا الحق، أو أنا الله، فليس فى مقدورنا أن نتسامح فى مثل هذه التفاسير التى جرت بها ألسنة القوم وأقلامهم وهم فى حالة الهدوء النفسى، يُقَدِّرون ما يقولون، ويشعرون بكل ما ينطقون أو يكتبون.
هذا.. ولم نسمع بأن أحداً ألَّف فى التفسير الصوفى النظرى كتاباً خاصاً يتتبع القرآن آية آية، كما أُلِّفَ مثل ذلك بالنسبة للتفسير الإشارى، وكل ما وجدناه من ذلك هو نصوص متفرقة اشتمل عليها التفسير المنسوب إلى ابن عربى، وكتاب "الفتوحات المكية" له، وكتاب "الفصوص" له أيضاً، كما يوجد بعض من ذلك فى كثير من كتب التفسير المختلفة المشارب.
* * *(2/260)
ثانياً: التفسير الصوفى الفيضي او الإشارى
حقيقته
التفسير الفيضى أو الإشارى.. هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظاهر المرادة.
* *
الفرق بينه وبين التفسير الصوفى النظرى
وعلى هذا فالفرق بين التفسير الصوفى الإشارى والتفسير الصوفى النظرى من وجهين.
أولاً: أن التفسير الصوفى النظرى، ينبنى على مقدمات علمية تنقدح فى ذهن الصوفى أولاً، ثم يُنزل القرآن عليها بعد ذلك.
أما التفسير الإشارى.. فلا يرتكز على مقدمات علمية، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفى نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية، وتنهل على قلبه من سُحُب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.
ثانياً: أن التفسير الصوفى النظرى، يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعانى، وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تُحمل الآية عليه..، هذا بحسب طاقته طبعاً.
أما التفسير الإشارى.. فلا يرى الصوفى أنه كل ما يُراد من الآية، بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويُراد منها أولاً وقبل كل شىء، وذلك هو المعنى الظاهر الذى ينساق إليه الذهن قبل غيره.
* *
هل للتفسير الإشارى أصل شرعى؟
ربما يجول القارئ الكريم هذا السؤال وهو: هل للتفسير الإشارى أصل شرعى يقوم عليه. أو هو أمر جَدَّ بعد ظهور المتصوفة وذيوع طريقتهم؟ وللجواب عن هذا السؤال نقول:
لم يكن التفسير الإشارى بالأمر الجديد فى إبراز معانى القرآن الكريم، بل هو أمر معروف من لدن نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أشار إليه القرآن، ونبَّه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وعرفه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا به.
أما إشارة القرآن إليه، ففى قوله تعالى فى الآية [78] من سورة النساء: {فَمَالِ هاؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، وقوله فى الآية [82] منها أيضاً: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} ، وقوله فى الآية [24] من سورة محمد عليه السلام: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}(2/261)
فهذه الآيات كلها تشير إلى أن القرآن له ظهر وبطن. وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى حيث ينعى على الكفار أنهم لا يكادون يفقهون حديثاً، ويحضهم على التدبر فى آيات القرآن الكريم لا يريد بذلك أنهم لا يفهمون نفس الكلام، أو حضهم على فهم ظاهره، لأن القوم عرب، والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره ولا شكّ. وإنما أراد بذلك أنهم لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، وحضَّهم على أن يتدبروا فى آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده، وذلك هو الباطن الذى جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم.
وأما تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فذلك فى الحديث الذى أخرجه الفريابى من رواية الحسن مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع"، وفى الحديث الذى أخرجه الديلمى من رواية عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القرآن تحت العرش، له ظهر وبطن يُحاج العباد".
ففى هذين الحديثين تصريح بأن القرآن له ظهر وبطن. ولكن ما هو الظهر وما هو البطن؟ اختلف العلماء فى بيان ذلك:
فقيل: ظاهرها - أى الآية - لفظها. وباطنها: تأويلها.
وقال أبو عبيدة: إن القَصص التى قصَّها الله تعالى عن الأُمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأوَّلين، وحديث حَدَّث به عن قوم، وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم، فيحل بهم مثل ما حلَّ بهم.. ولكن هذا خاص بالقَصص، والحديث يعم كل آية من آيات القرآن.
وحكى ابن النقيب قولاً ثالثا: وهو أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التى أطلع الله عليها أهل الحقائق.
هذا هو أشهر ما قيل فى معنى الظهر والبطن.. وأما قوله فى الحديث الأول: "ولكل حرف حد"، فمعناه على ما قيل: لكل حرف حد، أى منتهى فيما أراد الله من معناه، أو لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. والأول أظهر، وقوله: "ولكل حد مطلع"، معناه على ما قيل أيضاً: لكل غامض من المعانى والأحكام مطلع يُتوصل به إلى معرفته ويوقف على المراد به. وقيل: كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه فى الآخرة عند المجازاة، والأول أظهر أيضاً.
وأما الصحابة فقد نُقِل عنهم من الأخبار ما يدل على أنهم عرفوا التفسير الإشارى وقالوا به، أما الروايات الدالة على أنهم يعرفون ذلك فمنها:(2/262)
ما أخرجه ابن أبى الحاتم من طريق الضحَّاك عن ابن عباس أنه قال: "إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضى عجائبه، ولا تُبلغ غايته، فمَن أوغل فيه برفق نجا، ومَن أخبر فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومُحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجَالِسُوا به العلماء، وجَانِبُوا به السفهاء".
وروى عن أبى الدرداء أنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوهاً".
وعن ابن مسعود أنه قال: "مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليَثَوِّر القرآن". وهذا الذى قالوه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر.
وأما الروايات الدالة على أنهم فسَّروا القرآن تفسيراً إشارياً، فما رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: "كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه فقال: لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَن حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعانى يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون فى قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] .. فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لى: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} وذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 3] .. فقال عمر: ما أعلم منها إلا مَا تقول".
فبعض الصحابة لهم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر، أما ابن عباس وعمر، فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر، هو المعنى الباطن الذى تدل عليه السورة بطريق الإشارة.
وأيضاً ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى فى الآية [3] من سورة المائدة: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} .. فرح الصحابة وبكى عمر رضى الله تعالى عنه وقال: ما بعد الكمال إلا النقص، مستشعراً نعيه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج ابن أبى شيبة: "أن عمر رضى الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك"؟ قال: أبكانى أنَّا كنا فى زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام: "صدقت".(2/263)
فعمر رضى الله عنه أدرك المعنى الإشارى: وهو نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه النبى على فهمه هذا.. وأما باقى الصحابة، فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها.
هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل مَن يعرف اللِّسان العربى.. وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر. غير أن المعانى الباطنية للقرآن لا تقف عند الحد الذى تصل إليه مداركنا القاصرة، بل هى أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور. ولقد فهم ابن مسعود أن فى فهم معانى القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً فقال: "مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليُثَوِّر القرآن" وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} . [يوسف: 111] .
* *
التفاوت فى إدراك المعانى الباطنة وإصابتها
غير أن هذه المعانى المتكاثرة التى يشتمل عليها باطن القرآن لم تكن فى متناول المفسِّرين جميعاً، كما أنهم لم يكونوا متساوين فى القدر الذى أدركوه منها، بل تفاوتوا فى ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت فى الأخذ بالأسباب، كما أنهم لم يكونوا جميعاً مصيبين فيما وصلوا إليه منها وأدركوه، بل أصابوا فى بعض منها وأخطأوا في بعض آخر، وما أخطأوا فيه: بعضه عن جهل، وبعضه عن تعمد خبيث ونية سيئة، فالإمامية مع قولهم بالظاهر على ما به، قالوا بالباطن أيضاً، ولكنهم تعمدوا أن يُفسِّروا الباطن على ما يتفق وعقيدتهم الفاسدة.. والباطنية لم يعترفوا بظاهر القرآن واعترفوا بالباطن فقط ولكنهم أيضاً تعمدوا أن يُفسِّروا الباطن على ما يتفق ونواياهم السيئة، وكلا الفريقين ضال مبتدع.
أما الصوفية.. أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة، فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه، كما اعترفوا بباطنه، ولكنهم حين فسَّروا المعانى الباطنة خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فبينما تجد لهم أفهاماً مقبولة سائغة، تجد لهم بجوارها أفهاماً لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع، ولهذا أرى أن أستعرض بعض ما للقوم من أفهام فى التفسير، ثم أحكم عليها حكماً مجرداً عن كل شئ إلا عن الحق والإنصاف، ثم بعد هذا أذكر شروط التفسير الإشارى، وهى الشروط التى إذا توافرت فيه جاز لنا قبوله والأخذ به، وإلا أسقطناه ورفضناه مهما كان لقائله من المكانة فى نفوسنا أو فى نفوس القوم.
* *
التفسير الإشارى فى الميزان
قلنا: إن القرآن له ظهر وبطن، وذكرنا لك أهم الأقوال فى معنى الظاهر والباطن،(2/264)
ومهما يكن من شىء فإن ظاهر القرآن - وهو المنزَّل بلسان عربى مبين - هو المفهوم العربى المجرَّد. وباطنه هو مراد الله تعالى وغرضه الذى يقصد إليه من وراء الألفاظ والتراكيب، هذا هو خير ما يقال فى معنى الظاهر والباطن.
وعلى ذلك نقول: إن كل ما كان من المعانى العربية التى لا ينبنى فهم القرآن إلا عليها داخل تحت الظاهر، فالمسائل البيانية، والمنازع البلاغية، لا معدل لها عن ظاهر القرآن، فإذا فهم الإنسان مثلاً الفرق بين "ضَيِّق" فى قوله تعالى فى الآية [125] من سورة الأنعام: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} .. وبين "ضائق" فى قوله تعالى فى الآية [12] من سورة هود: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} .. وعرف أن "ضيِّق" صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام فى حق مَن يُرد الله أن يضله، وأن "ضائق" اسم فاعل يدل على الحدوث والتجدد وأنه أمر عارض له صلى الله عليه وسلم. إذا فهم الإنسان مثل هذا فقد حصل له فهم ظاهر القرآن.
إذن فلا يُشترط فى فهم ظاهر القرآن زيادة على الجريان على اللِّسان العربى، وإذن كل معنى مستنبَط من القرآن غير جار على اللِّسان العربى فليس من تفسير القرآن فى شئ.. لا مما يُستفاد منه ولا مما يُستفاد به. ومَن ادَّعى فيه ذلك فهو مبطل فى دعواه.
أما المعنى الباطن، فلا يكفى فيه الجريان على اللِّسان العربى وحده. بل لا بد فيه مع ذلك من نور يقذفه الله تعالى فى قلب الإنسان يصير به نافذ البصر سليم التفكير، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمراً خارجاً عن مدلول اللَّفظ القرآنى، ولهذا اشترطوا لصحة المعنى الباطن شرطين أساسيين:
أولهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر فى لسان العرب بحيث يجرى على المقاصد العربية.
وثانيهما: أن يكون له شاهد نصاً أو ظاهراً فى محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
أما الشرط الأول.. فظاهر من قاعدة كون القرآن عربياً، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربياً بإطلاق، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن وليس فى ألفاظه ولا فى معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك فلا يصح أن يُنسب إليه أصلاً، إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه. ولا مرجح يدل على أحدهما، فإثبات أحدهما تَحَكُّمٌ وتَقَوُّلٌ على القرآن ظاهر، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم مَن قال فى كتاب الله بغير علم.(2/265)
وأما الشرط الثانى: فلأنه إن لم يكن له شاهد فى محل آخر أو كان وله معارض صار من جملة الدعاوى التى تُدَّعى على القرآن، والدعوى المجرَّدة عن الدليل غير مقبولة باتفاق العلماء.
إذا توافر هذان الشرطان فى معنى من المعانى الباطنة قُبِل، لأنه معنى باطن صحيح، وإلا رُفِض رفضاً باتاً، لأنه معنى باطن فاسد وتَقَوُّلٌ على الله بالهوى والتشهى.
إذا عرفنا هذا كله ثم ذهبنا نستعرض على ضوئه أقوال القوم فى معانى القرآن الباطنة، وجدنا الكثير منها يمكن أن يكون من قبيل الباطن الصحيح، وكثير منها أيضاً هو من قبيل الباطن الفاسد المرفوض، وكبرى المشاكل أن بعضها منسوب إلى رجال من أهل العلم لهم مكانة علمية ودينية فى نفوسنا، بل وبعضها منسوب إلى رجال من الصحابة، وهم أعرف الناس بكتاب الله وما يحويه من المعانى والأسرار.
فمن الأفهام الباطنة المنقولة عنهم ويمكن أن تكون من قبيل الباطن الصحيح المقبول: ما جاء فى قوله تعالى فى الآية [22] من سورة البقرة: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .. من قول سهل التسترى {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أى أضداداً، فأكبر الأضداد: النفس الأمَّارة بالسوء، المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله".
فهذا القول من سهل يشير إلى أن النفس الأمَّارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصَّل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أنداداً لا صنماً، ولا شيطاناً، ولا النفس، ولا كذا، ولا كذا.. وهذا مشكل من حيث الظاهر، لأن سياق الآية وما يحف بها من قرائن يدل على أن الأنداد مراد بها كل ما يعبد من دون الله، سواء أكان صنماً أم غير صنم، أما الأنفس فلم تكن معبودة لهم، ولم يُعرف أنهم اتخذوها أرباباً من دون الله، ومع هذا فيمكن أن يكون لهذا التفسير وجه صحيح، وبيان ذلك:
إن الناظر فى القرآن الكريم، قد يأخذ من معنى الآية معنى باب الاعتبار، فيُجرية فيما لم تنزل فيه الآية، لأنه يجامعه فى القصد أو يقاربه، وسهل التسترى - رحمه الله - حيث قال فى الآية ما قال، لم يرد أنه تفسير للآية، بل أتى بما هو ند فى الاعتبار الشرعى، وذلك لأن حقيقة الند: أنه المضاد لنده، الجارى على مناقضته، والنفس الأمَّارة هذا شأنها، لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها، لاهية أو صادَّة عن مراعاة حقوق خالقها، وهذا هو الذى يعنى به الند بالنسبة لنده، لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه، وعلى هذا فلا غبار على قول سهل فى الآية، بل وهناك ما يشهد له من الجهتين -(2/266)
جهة حمل الأنداد على الأنفس الأمَّارة - اعتباراً، وجهة كون الخطاب - وإن كان موجهاً للمشركين - فيه لأهل الإسلام نظر واعتبار.
أما ما يشهد له من الجهة الأولى: فقوله تعالى فى الآية [31] من سورة التوبة: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} .. وظاهر أنهم لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان، فما حرَّموا عليهم حرَّموه، وما أباحوا لهم حلَّلوه، وفاتهم أن المحلِّل والمحرِّم هو الله، فقال الله سبحانه: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} . وهذا بعينه هو شأن المتبع لهوى نفسه.
وأما ما يشهد له من الجهة الثانية، فهو أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لبعض مَن توسَّع فى الدنيا من أهل الإيمان: أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} ؟ وكان هو يعتبر نفسه بها، مع أن الآية نزلت فى حق الكفار لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوْا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} .. الآية، فعمر رضى الله عنه، له فى الآية، فعمر رضى الله عنه، له فى الآية نظر واعتبار، فأخذ من معناها معنى أجرى الآية فيه وإن لم تنزل فيه، حذراً منه وخوفاً أن يكون التوسع فى المباحات سبباً فى الحرمان من نعيم الآخرة ومتاعها، فإذا صح لعمر رضى الله عنه أن يُنزل الآية على المتوسعين فى المباحات من المؤمنين ولم تنزل فيهم، صحَّ لسهل أيضاً أن يُنزل الآية على النفس الأمَّارة وإن لم تنزل فيها كذلك.
ومن ذلك أيضاً ما جاء فى قوله تعالى فى الآية [35] من سورة البقرة: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} .. من قول سهل رحمه الله: "لم يرد الله معنى الأكل فى الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشئ هو غيره.. أى لا تهتم بشئ هو غيرى. قال: فآدم عليه السلام لم يعصم من الهمة والفعل فى الجنة، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. قال: وكذلك كل من ادَّعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله عَزَّ وجَلَّ مع ما جُبِلت عليه نفسه إلا أن يرحمه الله، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها.. قال: وآدم لم يُعْصَم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أُدْخِلَ الجنة، ألا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه، فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل والبيان ونور القلب، لسابق القدر من الله تعالى، كما قال عليه السلام، "الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل".
وبالنظر فى كلام سهل هذا نرى أنه ادَّعى فى الآية خلاف ما ذكره المفسِّرون من أن(2/267)
المراد النهى عن نفس الأكل، لا عن سكون الهمة لغير الله. وإن كان هذا منهياً عنه أيضاً، لكن يمكن أن يكون لهذا الكلام الذى قاله سهل وجه يجرى عليه، وذلك أن النهى فى الآية لا يصح حمله على نفس القُرْب مجرَّداً، إذ لا مناسبة فيه ظاهرة، ولأنه لم يقل به أحد، وإنما النهى عن معنى فى القرب وهو إما التناول والأكل. وإما غيره وهو شىء ينشأ الأكل عنه، وذلك مساكنة الهمة، فإنه الأصل فى تحصيل الأكل، ولا شك فى أن السكون لغير الله لجلب منفعة أو دفع مفسدة منهى عنه.
فهذا التفسير له وجه ظاهر فكأنه يقول: لم يقع النهى عن مجرد الأكل من حيث هو أكل، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله، إذ لو انتهى عما نهى الله عنه لكان ساكناً لله وحده، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر فى الشجرة غرَّه به الشيطان وهو الخلود فى الجنَّة، أضاف الله إليه لفظ العصيان فقال فى الآيتين [121-122] من سورة طه: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} ..
مثل هذا - وهو كثير فى كلام الصوفية - لا نعدم له وجهاً نحمله عليه حتى يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولاً.
ولكن هناك أقوال لهم فى التفسير الإشارى يقف أمامها العقل حائراً وعاجزاً عن تلمس محمل لها تُحمل عليه حتى تبدو صحيحة وتصبح مقبولة، فمن ذلك:
ما يروونه عن ابن عباس أنه فسَّر {آلم} فقال: "الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم ... وأن الله أقسم بنفسه وجبريل ومحمد عليهما السلام".
وهذا إن صح نقله فهو مشكل إلى حد بعيد، ذلك لأن الإشارة إلى الكلمة بحرف ليس معهوداً فى كلام العرب. اللَّهم إلا إن دل عليه الدليل اللفظى أو الحالى كقول الشاعر:
فقلت لها قفى فقالت قاف
أراد: قالت: وقفت.
وقول زهير:
بالخير خيرات وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شراً فشر، وأراد: إلا أن تشاء.
وقول الآخر:
نادوهموا ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعاً كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون. قالوا: ألا فاركبوا.(2/268)
وقوله عليه الصلاة والسلام: "كفى بالسيف شا" أراد: شافياً.
... ولكن أين الدليل على ما ذكر فى قوله: {آلم} ؟
على أنه لم يقم دليل من الخارج يدل على هذا التفسير، إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله، لأنه من المسائل التى تتوفر الدواعى على نقلها لو صح أنه مما يُفسر ويُقصد تفهيم معناه ... ولما لم يثبت شىء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات، فإن ثبت له دليل عليه صرنا إليه وإلا توقفنا.
ومثل هذا المروى عن ابن عباس - ولعله أشكل منه - ما قاله سهل التسترى فى تفسيره للبسملة حيث قال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .. الباء: بهاء الله عَزَّ وجَلَّ، والسين: سناء الله عَزَّ وجَلَّ، والميم: مجد الله عَزَّ وجَلَّ، والله: هو الاسم الأعظم الذى حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنى غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة، لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواماً ضرورة الإيمان، والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنى بين الألف واللام، والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق فى الفرع، والابتداء فى الأصل، رحمة لسابق علمه القديم".
وما فسَّر به {آلم} . فاتحة البقرة وهو قوله: {آلم} اسم الله عزَّ وجَلَّ، فيه معان وصفات يعرفها أهل الفهم به، غير أن لأهل الظاهر فيه معان كثيرة، فأما هذه الحروف إذا انفردت، فالألف: تأليف الله عَزَّ وجَلَّ. ألَّفَ الأشياء كما شاء، واللام: لطفه القديم، والميم: مجده العظيم"، وقال: "لكل كتاب أنزله الله تعالى سر، وسر القرآن فواتح السور، لأنها أسماء وصفات، مثل قوله: {آلمص} ، و {آلر} ، و {آلمر} ، و {كهيعص} ، و {حمعسق} ، و {طسم} ، فإذا جمعت هذه الحروف بعضها إلى بعض كانت اسم الله الأعظم، أى إذا أخذ من كل سورة حرف على الولاء، أى على ما أنزلت السورة وما بعدها على النسق: {آلم} ، و {حم} ، و {ن} معناه: الرحمن. وقال ابن عباس والضحَّاك: {آلم} : معناه أنا الله أعلم. وقال علىّ رضى الله عنه: هذه أسماء مقطعة، إذا أخذ من كل حرف حرفاً لا يشبه صاحبه فجُمِعن كان اسم من أسماء الرحمن، إذا عرفوه ودعوه به كان الاسم الأعظم الذى إذا دُعِىَ به أجاب".
وكما قاله أبو عبد الرحمن السلمى فى تفسير: {آلم} فاتحة البقرة وهو قوله: {آلم} .. قيل: إن الألف ألف الوحدانية، واللام: لام اللطف، والميم: ميم المُلْك، معناه: مَن وجدنى على الحقيقة بإسقاط العلائق والأغراض تلطَّفتُ له.. فأخرجته من(2/269)
رِقِّ العبودية إلى الملأ الأعلى، وهو الاتصال بمالك المُلْك، دون الاشتغال بشىء من الملك ... وقيل: {آلم} .. معنى الألف: أى أفرد سرك، واللام: ليت جوارحك لعبادتى، والميم: أقم معى بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفات الأُنس بى، والمشاهدة إياى، والقُرْب منى".
فهذا الذى قاله سهل التسترى والذى قاله أبو عبد الرحمن السلمى مشكل كالمروى عن ابن عباس، بل وأعظم منه إشكالاً حيث ادَّعوا أن هذه الحروف ترمز إلى أسرار غيبية ومعان مكنية، وإذا جُمعت هذه الحروف على طريقة مخصوصة كان كذا وكذا، بل ويدَّعون أحياناً أن هذه الحروف هى أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة، وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى فى خطابه العرب الأُميِّة التى لا تعرف شيئاً من ذلك، وهذه كلها دعاوى يدَّعونها على القرآن، ولا أحسب أنهم استندوا فيها إلى دليل برهانى أو إقناعى، وكل ما أقوله فيها: إنها دعاوى محالة على الكشف والاطلاع، ودعوى الكشف والاطلاع لا تصلح دليلاً شرعياً بحال من الأحوال.
ومن المواضع المشكلة أيضاً، ولكنها أخف إشكالاً مما مَرَّ.. ما جاء عنهم من نحو تفسير سهل التسترى لقوله تعالى فى الآية [96] من سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} ... الآية، بقوله: "أول بيت وُضِعَ للناس بيت الله عَزَّ وجَلَّ بمكةَ، هذا هو الظاهر، وباطنها: الرسول يؤمن به مَن أثبت الله فى قلبه التوحيد من الناس".
ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى فى الآية [36] من سورة النساء: {والجار ذِي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل} .. حيث يقول - بعد ذكره للتفسير بالظاهر: "وأما باطنها، فالجار ذى القُربَى: هو القلب، والجار الجُنُب: هو الطبيعة، والصاحب بالجَنب: هو العقل المقتدى بالشريعة، وابن السبيل: هو الجوارح المطيعة لله".
وتفسيره لقوله تعالى فى الآية [41] من سورة الروم: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} .. بقوله: "مَثَّلَ الله الجوارح بالبر، ومَثَّل القلب بالبحر، وهم أعم نفعاً وأكثر خطراً، هذا هو باطن الآية، ألا ترى أن القلب إنما سُمِّى قلباً لتقلبه وبُعْد غوره"؟
وتفسير ابن عطاء الله السكندرى لقوله تعالى فى الآية [33] من سورة يس: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} بقوله: "القلوب(2/270)
الميتة بالغفلة أحييناها بالتيقظ والاعتبار والموعظة، وأخرجنا منها حباً معرفة صافية تضىء أنوارها على الظاهر والباطن".
هذا وأمثاله من كلام الصوفية لو قلنا إنهم أرادوا به تفسير الآيات القرآنية وبيان معانيها التى تُحمل عليها لا غير، لكان هو بعينه مذهب الباطنية، وذلك لأن المعانى التى حملوا عليها الألفاظ فى الآيات السابقة لا تعرفها العرب مدلولات لهذه الألفاظ، لا بالوضع الحقيقى ولا بالوضع المجازى المناسب، وليس فى مساق الآيات ما يدل على هذه المعانى المذكورة، ومعلوم أن القرآن عربى ومُخاطَب به العرب الذين يفهمون ألفاظه وتراكيبه، فهذه الآيات المذكورة آنفاً لا يفهم منها العربى أكثر من المعانى المتبادرة إلى فهمه، والتى تنساق إلى ذهنه ابتداءً، فلا يفهم من البيت الحرام، ولا من الجار ذى القُربَى، والجار الجُنُب، والصاحب بالجَنب، وابن السبيل، ولا من البر والبحر، ولا من الأرض والحَبّ، إلا ما يفهمه العربى من هذه الألفاظ، وما وراء ذلك فليس عليه دليل.
وأيضاً لم يُنقل لنا عن السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثل هذا التفسير أو يقاربه، ولو كان عندهم معروفاً لَنُقِل، لأنهم أدرى بمعانى القرآن ظاهرها وباطنها باتفاق الأُمة، وغير معقول أن يأتى آخر هذه الأُمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم، ولا أدرى بلغة القرآن من قومه الذين نزل بلسانهم وعلى لغتهم.
ولكن إجلالنا لهؤلاء المفسِّرين ووثوقنا بهم من الناحية العلمية والدينية، واعترافهم فى تفاسيرهم - التى نقلنا عنها - بالمعانى الظاهرية للقرآن وإنكارهم على مَن يقول بباطن القرآن دون ظاهره ... كل هذا يجعلنا نُحسن الظن بالقوم، فنحمل أمثال هذه المعانى على أنها ليست من قبيل التفسير، وإنما هى ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإن النظير يُذكر بالنظير كما قال ابن الصلاح فى فتاواه.
* *
مقالة الشاطبى فى التفسير الإشارى
ولزيادة الإيضاح أذكر لك ما قاله الشاطبى فى هذا الموضوع:
قال رحمه الله: الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب، الظاهرة للبصائر، إذا صحَّت على كمال شروطها فهى على ضربين:
أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات، فإن الاعتبار الصحيح فى الجملة هو الذى يخرق نور البصيرة فيه حُجُب الأكوان من غير توقف، فإن توقف فهو غير صحيح أو غير كامل، حسبتما بيَّنه أهل التحقيق بالسلوك.(2/271)
والثانى: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات: جزئيها أو كليها، ويتبعه الاعتبار فى القرآن.
فإن كان الأول.. فذلك الاعتبار صحيح، وهو معتبر فى فهم باطن القرآن من غير أشكال، لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن، وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلَّفين، وبحسب التكاليف وأحوالها، لا بإطلاق، وإذا كانت كذلك فالمشى على طريقها مشى على الصراط المستقيم، ولأن الاعتبار القرآنى قلًَّما يجده إلا مَن كان من أهله عملاً به على تقليد أو اجتهاد، فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده، كما لم يخرجوا فى العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازى أحكامه، ويلزمه من ذلك أن يكون معتداً به لجريانه على مجاريه. والشاهد على ذلك ما نُقل من فهم السَلَف الصالح فيه، فإنه كله جار على ما تقضى به العربية، وما تدل عليه الأدلة الشرعية.
إن كان الثانى.. فالتوقف عن اعتباره فى فهم باطن القرآن لازم، وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع، لأنه بخلاف الأول، فلا يصح القول باعتباره فى فهم القرآن، فنقول:
إن تلك الأنظار الباطنة فى القرآن فى الآيات المذكورة - يريد: {والجار ذِي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل} وما ذكره معها - مما تقدم لنا ذكره - إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهى راجعة إلى الاعتبار غير القرآنى وهو الوجودى ويصح تنزيله على معانى القرآن لأنه وجودى أيضاً. فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص، فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطلبه المربى، وهو أمر خاص، منفرد بنفسه، لا يختص بهذا الموضع. فلذلك يُوقف على محله، فكون القلب جاراً ذا قُربى، والجار الجُنُب هو النفس الطبيعى.. إلى سائر ما ذكر، يصح تنزيله اعتبارياً مطلقاً، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض فى هذا النمط صحيح وسهل جداً عند أربابه، غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ.(2/272)
وأيضاً فإن مَن ذُكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرِّح بأنه المعنى المقصود المخاطَب به الخلق، بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد، وإن جاء شىء من ذلك وصرَّح صاحبه أنه هو المراد، فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآنى والوجودى، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد فى السلوك، سائر على الطريق، لم يتحقق بمطلوبه. ولا اعتبار بقول مَن لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم".
فالشاطبى - رحمه الله - يقرر فى كلامه هذا: أن مثل هذا النوع الأخير من كلام الصوفية راجع إلى الاعتبار غير القرآنى، ومع ذلك فيمكن تنزيله على معانى القرآن، كما أنه يقرر: أن مَن قال هذا لم يُذكر عنه أنه قاله على أنه تفسير للآية وبيان للمقصود منها، وهذا من حسن ظنه بالقوم.
* *
مقالات بعض العلماء فى التفسير الإشارى
وإذا نحن رجعنا إلى أقوال العلماء التى قالوها فى تفسير الصوفية وجدناها جميعاً تقوم على حُسْن الظن بهم، وإليك بعضاً منها:
* مقالة ابن الصلاح:
قال ابن الصلاح فى فتاواه - وقد سُئِل عن كلام الصوفية فى القرآن: "وجدت عن الإمام أبى الحسن الواحدى المفسِّر رحمه الله تعالى أنه قال: صنَّف أبو عبد الرحمن السلمى "حقائق التفسير"، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئاً من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيراً، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإن النظير يُذكر بالنظير، ومن ذلك قتال النفس فى الآية المذكورة - يريد قوله تعالى فى الآية [123] من سورة التوبة: {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} .. فكأنه قال: أمرنا بقتال النفس ومَن يلينا من الكفار، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا فى مثل ذلك لما فيه من الإبهام والإلباس".
*
* مقالة سعد الدين التفتازانى:
وقد علَّق التفتازانى على قول النسفى فى كتابه "العقائد": "والنصوص على ظواهرها، فالعدول عنها إلى معان يدَّعيها أهل الباطن إلحاد" فقال رحمه الله: "وسُمُّوا الباطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفى الشريعة بالكلية".. ثم قال: "وأما ما يذهب إليه بعض(2/273)
المحققين من أن النصوص محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان".
*
* مقالة ابن عطاء الله السكندرى:
ونقل السيوطى عن ابن عطاء الله السكندرى أنه قال فى كتابه "لطائف المنن": "اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعانى الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلَّت عليه فى عُرف اللِّسان، وثَمَّ أفهام باطنة تُفهَم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه، وقد جاء فى الحديث: "لكل آية ظهر وبطن"، فلا يصدنك عن تلقى هذه المعانى منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله.. فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها مراداً بها موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم".
فهؤلاء العلماء حسَّنُوا ظنهم بالقوم، فحملوا أقوالهم الغريبة التى قالوها فى القرآن على أنها ذكر لنظير ما ورد به القرآن، أو على أنها إشارات خفية، ومعان إلهامية، تنهل على قلوب العارفين، وتزهوهم عن إرادة التفسير الحقيقى لكتاب الله بمثل هذه الشروح الغريبة التى نُقِلت عنهم، وهذا عمل حسن وصنع جميل من هؤلاء العلماء، وقد تابعناهم عليه حملاً لحال المؤمن على الصلاح.. ولكن لم يلبث أن تبدد حُسن ظننا بالقوم على أثر تلك المقالة التى قرأناها لابن عربى فى فتوحاته.. وفيها يُصرِّح بأن مقالات الصوفية فى كتاب الله ليست إلا تفسيراً حقيقياً لمعانى القرآن، وشرحاً لمراد الله من ألفاظه وآياته، ويذكر لنا أن تسميتها إشارة ليس إلا من قبيل التقية، والمداراة لعلماء الرسوم أهل الظاهر..، وفى هذه المقالة يحمل حملة شعواء على أهل الرسوم - على حد تعبيره - الذين ينكرون عليه وعلى غيره من الصوفية. وإليك ما قاله بالنص لتقف على رأيه الصريح الذى لا مواربة فيه ولا التواء.
*
* مقالة ابن عربى فى التفسير اللإشارى:
قال رحمه الله: "اعلم أن الله عَزَّ وجَلَّ لما خلق الخلق، خلق الإنسان أطواراً، فمنا العالم والجاهل، ومنا المنصف والمعاند، ومنا القاهر ومنا المقهور، ومنا الحاكم ومنا المحكوم، ومنا المتحكِم ومنا المتحكَم فيه، ومنا الرئيس والمرؤوس، ومنا الأمير والمأمور،(2/274)
ومنا الملك والسوقة، ومنا الحاسد والمحسود.. وما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهى الذى منحهم أسراره فى خلقه، وفهَّمهم معنى كتابه وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السلام. لما كان الأمر فى الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم - كما ذكرنا - عدل أصحابنا إلى الإشارات. فكلامهم - رضى الله عنهم - فى شرح كتابه العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إشارات، وإن كان ذلك حقيقة وتفسيراً لمعانيه النافعة، ورد ذلك كله إلى نفسهم مع تقريرهم إياه فى العموم، وفيما نزل فيه، كما يعلمه أهل اللِّسان الذين نزل الكتاب بلسانهم، فعمَّ به سبحانه عندهم الوجهين كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} .. يعنى الآيات المنزَّلة فى الآفاق وفى أنفسهم، فكل آية منزَّلة لها وجهان: وجه يرونه فى نفوسهم ووجه آخر يرونه فيما خرج عنهم، فيسمون ما يرونه فى نفوسهم إشارة ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك، ولا يقولون فى ذلك إنه تفسير، وقاية لشرهم وتشنيعهم فى ذلك بالكفر عليه، وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق، واقتدوا فى ذلك بسنن الهدى، فإن الله كان قادراً على تنصيص ما تأوَّله أهل الله فى كتابه، ومع ذلك فما فعل: بل أدرج فى تلك الكلمات الإلهية التى نزلت بلسان العامة علوم معانى الاختصاص التى فهمها عباده حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذى رزقهم.
ولو كان علماء الرسوم ينصفون، لاعتبروا فى نفوسهم إذا نظروا فى الآية بالعين الظاهرة التى يسلمونها فيما بينهم، فيرون أنهم يتفاضلون فى ذلك، ويعلو بعضهم على بعض فى الكلام فى معنى تلك الآية، ويقر القاصر بفضل غير القاصر فيها، وكلهم فى مجرى واحد. ومع هذا الفضل المشهود لهم فيما بينهم فى ذلك. ينكرون على أهل الله إذا جاءوا بشىء مما يغمض عن إدراكهم، وذلك لأنهم يعتقدون فيهم أنهم ليسوا بعلماء، وأن العلم لا يحصل إلا بالتعلم المعتاد فى العُرف، وصدقوا، فإن أصحابنا ما حصل لهم ذلك العلم إلا بالتعلم وهو الإعلام الرحمانى الربَّانى قال تعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فإنه القائل: {أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78] ، وقال تعالى: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3-4] .. فهو سبحانه مُعلِّم الإنسان، فلا شك أن أهل الله هم ورثة الرسل عليهم السلام، والله يقول فى حق الرسول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ، وقال فى حق عيسى: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48] ، وقال(2/275)
فى حق خضر صاحب موسى عليهما السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] .. فصدق علماء الرسوم عندنا فيما قالوا: إن العلم لا يكون إلا بالتعلم، وأخطأوا فى اعتقادهم أن الله لا يُعَلِّم مَن ليس بنبى ولا رسول، يقول الله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 269] وهى العلم، وجاء بـ "مَن" وهى نكرة. ولكن علَماء الرسوم لما آثروا الدنيا على الآخرة، وآثروا جانب الخلق على جانب الحق، وتعوَّدوا أخذ العلم من الكتب ومن أفواه الرجال الذين من جنسهم، ورأوا فى زعمهم أنهم من أهل الله بما علموا وامتازوا به عن العامة، حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله عباداً تولَّى الله تعليمهم فى سرائرهم بما أنزله فى كتبه وعلى ألسنة رسله وهو العلم الصحيح عن العالِم المعلِّم الذى لا يشك مؤمن فى كمال علمه ولا غير مؤمن، فإن الذين
قالوا: إن الله لا يعلم الجزئيات ما أرادوا نفى العلم عنه، وإنما قصدوا بذلك أنه تعالى لا يتجدد له علم بشىء، بل علمها مندرجة فى علمه بالكليات، فأثبتوا له العلم سبحانه مع كونهم غير مؤمنين، وقصدوا تنزيهه سبحانه فى ذلك وإن أخطأوا فى التعبير عن ذلك، فتولى الله بعنايته لبعض عباده تعليمهم بنفسه بإلهامه وإفهامه إياهم {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] ، فى إثر قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] ، فبيَّن لها الفجور من التقوى إلهاماً من الله لها لتجتنب الفجور وتعمل بالتقوى.
وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه، كان تنزيل الفهم على قلوب بعض المؤمنين به، فالأنبياء عليهم السلام ما قالت على الله ما لم يقل لها، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ولا من أفكارها، ولا تعلَّمت فيه، بل جاءت من عند الله، كما قال تعالى: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وقال فيه: إنه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] .. وإذا كان الأصل المتكلَّم فيه من عند الله، لا من فكر الإنسان ورويته - وعلماء الرسوم يعلمون ذلك - فينبغى أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم، فيكون شرحه أيضاً تنزيلاً من عند الله على قلوب أهل العلم كما كان الأصل. وكذا قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه فى هذا الباب: "ما هو إلا فهم يؤتيه الله من يشاء من عباده فى هذا القرآن". فجعل ذلك عطاء من الله، يعبر عن ذلك العطاء بالفهم عن الله، فأهل الله أولى به من غيرهم. فلما رأى أهل الله أن الله قد جعل الدولة فى الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم، وأعطاهم التحكم فى الخلق بما يفتون به، وألحقهم بالذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون - وهم فى إنكارهم على أهل الله يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً - سلَّم أهل الله لهم أحوالهم لأنهم علموا من أين تكلموا، وصانوا عنهم أنفسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات، فإذا كان فى غد يوم القيامة يكون الأمر فى الكل، كما قال القائل:(2/276)
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفَرَسٌ تحتك أم حمار
كما يتميز المحق من أهل الله، من المدَّعى فى الأهلية غداً يوم القيامة. قال بعضهم:
فإذا اشتبكت دموع فى خدود ... تبين مَن بكى ممن تباكى
أين عالم الرسوم من قول علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه حين أخبر عن نفسه أنه لو تكلم فى الفاتحة من القرآن لحمَّل منها سبعين وقراً؟ هل هذا إلا من الفهم الذى أعطاه الله فى القرآن؟ فاسم الفقيه أولى بهذه الطائفة من صاحب علم الرسم، فإن الله يقول فيهم: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .. فأقامهم مقام الرسول فى التفقه فى الدين والإنذَار، وهو الذى يدعو إلى الله على بصيرة كما يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيرة، لا على غلبة ظن كما يحكم عالم الرسوم، فشتَّان بين مَن هو فيما يُفتى به ويقوله على بصيرة منه فى دعائه إلى الله وهو على بيِّنة من ربه، وبين مَن يفتى فى دين الله بغلبة ظنه".
ثم إن من شأن عالم الرسوم فى الذب عن نفسه أنه يُجَهِّل مَن يقول: فهمَّنى ربى، ويرى أنه أفضل منه، وأنه صاحب العلم إذ يقول مَن هو من أهل الله: إن الله ألقى فى سِرِّى مراده بهذا الحكم فى هذه الآية، أو يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى واقعتى فأعلمنى بصحة هذا الخبر المروى عنه وبحكمه عنده. قال أبو يزيد البسطامى رضى الله عنه فى هذا المقام - يخاطب علماء الرسوم: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا عن الحى الذى لا يموت، يقول أمثالنا: حدَّثنى قلبى عن ربى، وأنتم تقولون: حدَّثنى فلان، وأين هو؟ قالوا: مات. عن فلان: وأين هو؟ قالوا: مات. وكان الشيخ أبو مدين - رحمه الله - إذا قيل له: قال فلان، عن فلان، عن فلان، يقول: "ما نريد نأكل قديداً، هاتوا ائتونى بلحم طرى - يرفع همم أصحابه - فأُولئك أكلوه لحماً طرياً، والواهب لم يمت، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد".
والفيض الإلهى والمبشرات ما سُدَّ بابها، وهى من أجزاء النبوة، والطريق واضحة، والباب مفتوح، والعمل مشروع. والله يهرول لتلقى مَن أتى إليه يسعى، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، وهو معهم أينما كانوا، فمَن كان معك بهذه المثابة من القُرْب - مع دعواك العلم بذلك والإيمان به - لم تترك الأخذ عنه والحديث معه، وتأخذ عن غيره ولا تأخذ عنه، فتكون حديث عهد بربك"؟
* *(2/277)
رأينا فى مقالة ابن عربى
ونحن لا ننكر على ابن عربى أن ثَمَّ أفهاماً يُلقيها الله فى قلوب أصفيائه وأحبابه، ويخصُهم بها دون غيرهم، على تفاوت بينهم فى ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت فى درجات السلوك ومراتب الوصول، كما لا نُنكر عليه أن تكون هذه الأفهام تفسيراً للقرآن وبياناً لمراد الله من كلامه، ولكن بشرط أن تكون هذه الأفهام يمكن أن تدخل تحت مدلول اللَّفظ العربى القرآنى، وأن يكون لها شاهد يؤيدها، أما أن تكون هذه الأفهام خارجة عن مدلول اللَّفظ القرآنى، وليس لها من الشرع ما يؤيدها فذلك ما لا يمكن أن نقبله على أنه تفسير للآية وبيان لمراد الله تعالى، لأن القرآن عربى قبل كل شىء كما قلنا، والله سبحانه وتعالى يقول فى شأنه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] . وحاشا لله أن يُلغز فى آياته، أو يُعمى على عباده طريق النظر فى كتابه، وهو يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} . [القمر: 17] .
هذا هو ما أدين الله عليه بالنسبة لكلام الصوفية، وعذرى فى ذلك أنى لم أسلك مسلك القوم، ولم أذق ذوقهم، ولم أعرف اصطلاحاتهم التى يصطلحون عليها، ولعلِّى إذا سلكت هذا الطريق، وانكشف لى من أستار الغيب ما انكشف لهم، أو على الأقل فهمت لغة القوم ووقفت على مصطلحاتهم. لعلِّى إذا حصل لى شئ من هذا تبدَّل رأيى وتغير حكمى، فسلَّمت لهم كل ما يقولون به، مهما كان بعيداً وغريباً. وقد سأل رجل بعض العلماء أن يقرأ عليه تائية ابن الفارض فقال له: "دع هذا، مَن جاع جوع القوم وسهر سهرهم رأى ما رأوا".
يقولون: إنهم يدركون بعض المعانى بعين اليقين، وما مَن شأنه أن يُدرَك بعين اليقين لا يمكن أن يُدرَك بعلم اليقين، إذن فلا بد لمن يريد أن يحكم على القوم حكماً صحيحاً أن يجتهد فى الوصول إلى ما وصلوا إليه بالعيان، دون أن يطلبه عن طريق البيان، فإنه طور وراء طور العقل، والشاعر يقول:
علم التصوف علم ليس يعرفه ... إلا أخو فطنة بالحق معروف
وليس يعرفه مَن ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
ويقول ابن خلدون: "وليس البرهان والدليل بنافع فى هذه الطريق رداً وقبولاً، إذ هى من قبيل الوجدانيات".
ويقول الألوسى فى مقدمة تفسيره (الجزء الأول ص 8) : "فالإنصاف كل الإنصاف(2/278)
التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز الدائرة المحمدية ما هم عليه، واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل - لكثرة العوائق - إليه:
وإذا لم تر الهلال فسلِّم ... لأناس رأوه بالأبصار
ويقول الألوسى أيضاً بعد أن نقل عن ابن عربى ما قاله فى تفسير الفاتحة فى فتوحاته: "فإذا وقع الجدار، وانهدم الصور، وامتزجت الأنهار، والتقى البحران، وعدم البرزخ، صار العذاب نعيماً، وجهنم جنَّة، ولا عذاب ولا عقاب، إلا نعيم وأمان، بمشاهدة العيان".. إلخ. يقول الألوسى بعد نقله لهذا الكلام الغريب: "وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه أهل الذوق ولا ينافى ما وردت به القواطع: ثم قال: وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه، وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى، فسلِّمه لهم بالمعنى الذى أرادوه، مما لا تعلمه أنت ولا أنا، لا بالمعنى الذى ينقدح فى عقلك، المشوب بالأوهام، فالأمر واللهِ وراء ذلك".
ومثل هذه الأقوال أشبه ما تكون بالإكراه لنا على قبول وجدانيات القوم وشطحاتهم مهما أوغلت فى البُعْد والغرابة، وتوريط لنا بتسليم كل ما يقولون تحت تأثير ما لهم فى نفوسنا من المكانة العلمية والدينية، ومهما يكن من شىء فأنا عند رأيى لا أتحول عنه، حتى إذا ما جعت جوع القوم، وسهرت سهرهم، ووجدت مواجيدهم، سلَّمتُ لهم بكل ما يقولون "ومن ذاق عرف".
والخلاصة.. أن مثل هذه التفاسير الغريبة للقرآن، مزَّلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم، وليتهم احتفظوا بها عند أنفسهم، ولم يذيعوها على الناس فيوقعوهم فى حيرة واختلاف، منهم مَن يأخذها على ظاهرها ويعتقد أن ذلك هو مراد الله من كلامه، وإذا عارضه ما يُنقل فى كتب التفسير على خلافه فربما كذَّب به أو أشكل عليه، ومنهم مَن يكذبها على الإطلاق، ويرى أنها تقوُّل على الله وبهتان، ليتهم فعلوا ذلك، إذن لأراحونا من هذه الحيرة، وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم، وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد فى آيات الله!!
* *
شروط قبول التفسير الإشارى
تبين لنا فيما سبق أن التفسير الإشارى منه ما هو مقبول، ومنه ما ليس بمقبول، فعلينا بعد ذلك أن نذكر الشروط التى يجب أن تتوفر فى التفسير الإشارى - وإن كنا تعرَّضنا لأهمها فيما سبق - حتى يكون تفسيراً مقبولاً.. وإليك هذه الشروط:
أولاً: أن لا يكون التفسير الإشارى منافياً للظاهر من النظم القرآنى الكريم.(2/279)
ثانياً: أن يكون له شاهد شرعى يؤيده.
ثالثاً: أن لا يكون له معارض شرعى أو عقلى.
وهذه الشروط الثلاثة قد أوضحناها فيما سبق، فلا حاجة بنا إلى إعادة توضيحها.
رابعاً: أن يدَّعى أن التفسير الإشارى هو المراد وحده دون الظاهر، بل لا بد أن نعترف بالمعنى الظاهر أولاً، إذ لا يطمع فى الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر "ومَن ادّعى فهم أسرار القرآن ولم يُحَكِّم التفسير الظاهر فهو كمن ادَّعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب".
إذا علمتَ هذا، علمتَ بصورة قاطعة أنه لا يمكن لعاقل أن يقبل ما نُقِل عن بعض المتصوفة من أنه فسَّر قوله تعالى فى الآية [255] من سورة البقرة: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فقال: معناه "من ذل" من الذل "ذى" إشارة إلى النفس "يشف" من الشفاء "ع" أمر من الوعى. وما نُقِل عن بعضهم من أنه فسَّر قوله تعالى فى الآية [69] من سورة العنكبوت: {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} .. فجعل "لمع" فعلاً ماضياً بمعنى أضاء، و "المحسنين" مفعوله.
هذا التفسير وأمثاله إلحاد فى آيات الله، والله تعالى يقول: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} [فصلت: 40] .. قال الألوسى فى تفسير هذه الآية: "أى ينحرفون فى تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام فى غير موضعه".
هذه هى الشروط التى إذا توفرت فى التفسير الإشارى كان مقبولاً، ومعنى كونه مقبولاً عدم رفضه لا وجوب الأخذ به، أما عدم رفضه فلأنه غير مناف للظاهر ولا بالغ مبلغ التعسف، وليس له ما ينافيه أو يعارضه من الأدلة الشرعية.
وأما عدم وجوب الأخذ به، فلأنه من قبيل الوجدانيات، والوجدانيات لا تقوم على دليل ولا تستند إلى برهان، وإنما هى أمر يجده الصوفى من نفسه، وسر بينه وبين ربه. فله أن يأخذ به ويعمل على مقتضاه، دون أن يُلزم به أحداً من الناس سواه.
* * *(2/280)
أهم كتب التفسير الإشارى
1- تفسير القرآن العظيم (للتسترى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله، التسترى، المولود بتُسْتَر سنة 200 هـ (مائتين) وقيل سنة 201 (إحدى ومائتين من الهجرة) .
كان - رحمه الله - من كبار العارفين، ولم يكن له فى الورع نظير. وكان صاحب كرامات، ولقى الشيخ ذا النون المصرى - رحمه الله - بمكة. وكان له اجتهاد وافر ورياضة عظيمة. أقام بالبصرة زمناً طويلاً، وتوفى بها سنة 283 هـ (ثلاث وثمانين ومائتين) ، قيل سنة 273 هـ (ثلاث وسبعين ومائتين) ، فرحمه الله رحمه واسعة.
* *
*(2/281)
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير مطبوع فى مجلد صغير الحجم، ولم يتعرَّض فيه مؤلفه لتفسير القرآن آية آية، بل تكلم عن آيات محدودة ومتفرقة من كل سورة. ويظهر لنا أن سهلاً - رضى الله عنه - لم يؤلف هذا الكتاب، وإنما هى أقوال قالها سهل فى آيات متفرقة من القرآن الكريم، ثم جمعها أبو بكر محمد بن أحمد البلدى، المذكور فى أول الكتاب، والذى يقول كثيراً: قال أبو بكر: سئل سهل عن معنى كذا. فقال كذا، ثم ضمنها هذا الكتاب ونسبها إليه.
نقرأ فى هذا الكتاب، فنجد مؤلفه يقدم له بمقدمة يوضح فيها معنى ظاهر القرآن وباطنه، ومعنى الحد والمطلع، فيقول: "ما من آية فى القرآن إلا ولها أربعة معان: ظاهر، وباطن، وحد، ومطلع. فالظاهر: التلاوة، والباطن: الفهم، والحد: حلالها وحرامها. والمطلع: إشراق القلب على المراد بها. فقهاً من الله عَزَّ وجَلَّ. فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه والمراد به خاص.. قال تعالى فى الآية [78] من سورة النساء: {فَمَالِ هاؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} : أي لا يفقهون خطاباً".
ويقول فى موضع آخر: قال سهل: إن الله تعالى ما استولى ولياُ من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا علَّمه القرآن، إما ظاهراً وإما باطناً. قيل له: إن الظاهر نعرفه فالباطن ما هو؟ قال: فهمه، وإن فهمه هو المراد".
فمن هاتين العبارتين، نأخذ أن سهلاً التسترى يرى: أن الظاهر هو المعنى اللُّغوى المجرَّد، وأن الباطن هو المعنى الذى يُفهم من اللَّفظ ويريده الله تعالى من كلامه.. كما نأخذ منه: أنه يرى أن المعانى الظاهرة أمر عام يقف عليها كل مَن يعرف اللِّسان العربى، أما المعانى الباطنة، فأمر خاص يعرفه أهل الله بتعليم الله إياهم وإرشادهم إليه.
كذلك نجد سهلاً - رضى الله عنه - لم يقتصر فى تفسيره على المعانى الإشارية وحدها، بل نجده يذكر أحياناً المعانى الظاهرة، ثم يعقبها بالمعانى الإشارية، وقد يقتصر أحياناً على المعنى الإشارى وحده، كما يقتصر أحياناً على المعنى الظاهرى، بدون أن يعرج على باطن الآية.
وحين يعرض سهل للمعانى الإشارية لا يكون واضحاً فى كل ما يقوله، بل تارة بالمعانى الغريبة التى نستبعد أن تكون مرادة لله تعالى، وذلك كالمعانى التى نقلناها عنه(2/282)
سابقاً فى معنى البسملة، و "آلم" فاتحة البقرة، وتارة يأتى بالمعانى الغريبة التى يمكن أن تكون من مدلول اللَّفظ أو مما يشير إليه اللَّفظ، وذلك هو الغالب فى تفسيره.
كذلك نجد المؤلف ينحو فى كتابه هذا منحى تزكية النفوس، وتطهير القلوب، والتحلى بالأخلاق والفضائل التى يدل عليها القرآن ولو بطريق الإشارة.. وكثيراً ما يسوق من حكايات الصالحين وأخبارهم ما يكون شاهداً لما يذكره، كما أنه يتعرض في بعض الأحيان لدفع إشكالات قد ترد على ظاهر اللَّفظ الكريم، وإليك نماذج من تفسيره.
فى سورة الأعراف عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [148] : {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} يقول ما نصه: "عجل كل إنسان مَا أقبل عَلَيه فأعرض به عن الله من أهل وولد، ولا يتخلص من ذلك إلا بعد إفناء جميع حظوظه من أسبابه، كما لم يتخلص عَبَدة العجل من عبادته إلا بعد قتل النفوس".
وفى سورة الشعراء عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [78-82] حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} .. يقول ما نصه: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أى الذى خلقنى لعبوديته يهدينى إلى قُرْبه، {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} قال: يطعمنى لذة الإيمان ويسقينى شراب التوكل والكفاية، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} قال: يعنى إذا تحركت بغيره لغيره عصمنى، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منَعها علىّ، {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} قال: الذى يميتنى ثم يحيينى بالذكر، {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} قال: أخرج كلامه على شروط الأَدب بين الخوف والرجاء، ولم يحكم عليه بالمغفرة".
وفى سورة الصافات عند قوله تعالى فى الآية [107] : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال ما نصه: "إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أحب ولده بطبع البشرية، تداركه من الله فضله وعصمته حتى أمره بذبحه، إذ لم يكن المراد منه تحصيل الذبح، وإنما كان المقصود تخليص السر من حب غيره بأبلغ الأسباب، فلما خلص السر له، ورجع عن عادة الطبع، فداه بذبح عظيم".
فهذه المعانى كلها مقبوله ويمكن إرجاعها بدون تكلف إلى اللَّفظ القرآنى بدون(2/283)
معارضة شرعية أو عقلية.. والكتاب - فى الغالب - يسير على هذه الطريقة، وهى لا شوب فيها.
* * *
2- حقائق التفسير (للسلمى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو عبد الرحمن، محمد بن الحسين بن موسى، الأزدى السلمى، المولود سنة 330 هـ (ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة) ، وقيل غير ذلك.
كان رحمه الله شيخ الصوفية وعالمهم بخراسان، له اليد الطولى فى التصوف، والعلم الغزير، والسير على سنن السَلَف، أخذ الطريق عن أبيه، فكان موفقاً فى جميع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوف. وكان على جانب عظيم من العلم بالحديث، حتى قيل: إنه حدَّث أكثر من أربعين سنة إملاءً وقراءة. وكتب الحديث بنيسابور، ومرو، والعراق، والحجاز، وصنّف سنناً لأهل خراسان، وأخذ عنه بعض الحفَّاظ: منهم الحاكم أبو عبد الله، وأبو القاسم القشيرى، وغيرهما، ولقد خلَّف - رحمه الله - من الكتب ما يزيد على المائة: منها ما هو فى علوم القوم، ومنها ما هو فى التاريخ، ومنها ما هو فى الحديث، ومنها ما هو فى التفسير.
ولكن السلمى مع وفرة جلالته، وعظيم منزلته بين مريديه، لم يسلم كغيره من الصوفية من الطعن عليه، قال الخطيب: قال محمد بن يوسف النيسابورى القطان: كان السلمى غير ثقة، يضع للصوفية، وكأن الخطيب لم يرض هذا الطعن فيه، فقال حكاية هذا القول: "قدر أبى عبد الرحمن عند أهل بلده جليل، وكان مع ذلك محموداً صاحب حديث".. قال ابن السبكى صاحب طبقات الشافعية: "قول الخطيب فيه هو الصحيح، وأبو عبد الرحمن ثقة، ولا عبرة بهذا الكلام فيه" هذا.. وقد كانت وفاته سنة 412 هـ (اثنتى عشرة وأربعمائة من الهجرة) ، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير فى مجلد واحد كبير الحجم، ومنه نسختان مخطوطتان بالمكتبة الأزهرية.
قرأت فى هذا التفسير، فوجدته يستوعب جميع سور القرآن، ولكنه لا يتعرض لكل الآيات بل يتكلم عن بعضها ويُغضى عن بعضها الآخر، وهو لا يتعرض فيه لظاهر القرآن، وإنما جرى فى جميع ما كتبه على نمط واحد، وهو التفسير الإشارى،(2/284)
وهو إذ يقتصر على ذلك لا يعنى أن التفسير الظاهر غير مراد، لأنه يُصرِّح فى مقدمة تفسيره: أنه أحب أن يجمع تفسير أهل الحقيقة فى كتاب مستقل كما فعل أهل الظاهر.
ثم إن أبا عبد الرحمن السلمى. لم يكن له مجهود فى هذا التفسير أكثر من أنه جمع مقالات أهل الحقيقة بعضها إلى بعض، ورتبها على حسب السور والآيات، وأخرجها للناس فى كتاب سماه "حقائق التفسير. "
وأهم مَن ينقل عنه السلمى فى حقائقه: جعفر بن محمد الصادق، وابن عطاء الله السكندرى، والجنيد، والفضيل بن عياض، وسهل بن عبد الله التسترى، وغيرهم كثير.
وإليك بعض ما قاله فى مقدمته لتعلم أن السلمى حين اقتصر على المعانى الإشارية لم يجحد المعانى الظاهرة للقرآن، ولتعلم أيضاً أن مجهوده فى هذا التفسير إنما هو الجمع والترتيب.
قال رحمه الله: ".. لما رأيت المتوسمين بالعلوم الظواهر سبقوا فى أنواع فرائد القرآن: من قراءات، وتفاسير، ومشكلات، وأحكام، وإعراب، ولغة، ومجمل، ومفسر، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بجمع فهم خطابه على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة، نُسبت إلى أبى العباس ابن عطاء، وآيات ذُكِر أنها عن جعفر بن محمد، على غير ترتيب، وكنت قد سمعت منهم فى ذلك حروفاً استحسنتها، أحببت أن أضم ذلك إلى مقالتهم، وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك، وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى، واستخرتُ الله فى جمع شىء من ذلك، واستعنتُ به فى ذلك وفى جميع أُمورى، وهو حسبى ونعم المعين".
* *
* طعن بعض العلماء على هذا التفسير:
غير أن الاقتصار على المعانى الإشارية، والإعراض عن المعانى الظاهرة فى هذا المؤلَّف، ترك للعلماء مجالاً للطعن على هذا التفسير وعلى صاحبه من أجله، فالجلال السيوطى رحمه الله يذكر أبا عبد الرحمن السلمى فى كتابه "طبقات المفسرين" ضمن من صَنَّف فى التفسير من المبتدعة ويقول: "وإنما أوزدته فى هذا القسم لأن تفسيره غير محمود". والحافظ الذهبى رحمه الله يقول عن السلمى: ".. وله كتاب يقال له حقائق التفسير، وليته لم يُصَنِّفه. فإنه تحريف وقرمطة، ودونك الكتاب فسترى العجب"، ويقول السبكى فى "طبقات الشافعية": "وكتاب حقائق التفسير،(2/285)
كثر الكلام فيه من قِبَل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات، ومحال للصوفية ينبو عنها اللَّفظ".
وقد مَرَّ بك آنفاً أن الإمام أبا الحسن الواحدى قال: "صَنَّف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر".
وهذا هو الإمام ابن تيمية يطعن على تفسير السلمى من ناحية أخرى فيقول: "وما يُنقل فى حقائق السلمى عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه فى غير ذلك".
* *
* رأينا فى هذه الطعون:
هذا.. وإنَّ عَدَّ السيوطى السلمى فى ضمن المفسِّرين من أهل البدع غلو منه وإجحاف.
وما قاله الذهبى من أن ما فى الحقائق تحريف وقرمطة - يريد أنه كتفسير القرامطة من الباطنية - فهذا غير صحيح، لأن الرجل يقر الظواهر على ظواهرها، والقرامطة بخلاف ذلك.
وأما ما قاله السبكى من أن السلمى قد اقتصر فى حقائقه على تأويلات للصوفية ينبو عنها اللَّفظ فهذه كلمة حق لا غبار عليها.
وأما قول الواحدى: إنه لو اعتقد أن ما فى الحقائق تفسير لكفر باعتقاده هذا، فنقول فيه: إن أبا عبد الرحمن لم يعتقد أن هذا تفسير، وإنما قال: إنه إشارات تخفى وتدق إلا على أربابها، كما صرَّح بذلك فى مقدمة حقائق التفسير.
وأما قول ابن تيمية: إن ما يُنقل فى حقائق السلمى من التفسير عن جعفر عامته كذب على جعفر، فهذه كلمة حق من ابن تيمية، إذ أن غالب ما جاء فيه عن جعفر الصادق كله من وضع الشيعة عليه، ولست أدرى كيف اغتر السلمى وهو العالم المحدِّث بمثل هذه الروايات المختلفة الموضوعة ...
* *
* نماذج من تفسير السلمى:
وإذ قد فرغنا من الحديث على حقائق التفسير، فاسمع بعض ما جاء فيه، لتحم أنت بدورك عليه ...
فى سورة النساء عند قول الله تعالى فى الآية [66] : {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} .. يقول: "قال محمد بن الفضل: {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} بمخالفة هواها، {أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ} أى أخرجوا(2/286)
حب الدنيا من قلوبكم {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} فى العدد، كثير فى المعانى، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقَة".
وفى سورة الرعد عند قوله تعالى فى الآية [3] : {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} .. يقول: "قال بعضهم: هو الذى بسط الأرض وجعل فيها أوتاداً من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ، وبهم النجاة، فمَن ضرب فى الأرض يقصدهم فاز ونجا، ومَن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر. سمعت علىّ بن سعيد يقول: سمعت أبا محمد الحريرى يقول: كان فى جوار الجنيد إنسان مصاب فى خربة؛ فلما مات الجنيد وحملنا جنازته حضر الجنازة، فلما رجعنا تقدم خطوات وعلا موضعاً من الأرض عالياً، فاستقبلنى بوجهه وقال: يا أبا محمد؛ إنى لراجع إلى تلك الخربة وقد فقدت ذلك السيد، ثم أنشد شعراً:
وما أسفى من فراق قوم ... هم المصابيح، والحصون
والمدن، والمزن، والرواسى ... والخير، والأمن، والسكون
لم تتغير لنا الليالى ... حتى توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون"
وفى سورة الحج عند قوله تعالى فى الآية [63] : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} .. يقول: قال بعضهم: أنزل مياه الرحمةَ من سحائب القُربة، وفتح إلى قلوب عباده عيوناً من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان، وأينعت التوحيد. أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيدها، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها، وأناخت بين يديه، وعكفت فأقبلت عليه، وانقطعت عن الأكوان أجمع، ذاك آواها الحق إليه، وفتح لها خزائن أنواره، وأطلق لها الخيرة فى بساتين الأُنس، ورياض الشوق والقدس".
وفى سورة الرحمن عند قوله تعالى فى الآية [11] : {فِيهَا فَاكِهَةٌ والنخل ذَاتُ الأكمام} .. يقول: "قال جعفر: جعل الحق تعالى فى قلوب أوليائه رياض أُنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة، أُصولها ثابتة فى أسرارهم، وفروعها قائمة بالحضرة فى المشهد، فهم يجنون ثمار الأُنس فى كل أوان، وهو قوله تعالى: {فِيهَا فَاكِهَةٌ والنخل ذَاتُ الأكمام} أى ذات الألوان، كل يجتنى منه لوناً علَى قدر سعته، وما كوشفت له من بوادى المعرفة وآثار الولاية".
وفى سورة الانفطار عند قوله تعالى فى الآيتين [13، 14] : {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ *(2/287)
وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} .. يقول: "قال جعفر: النعيم المعرفة والمشاهدة، والجحيم النفوس، فإن لها نيران تتقد".
وفى سورة النصر عند قوله تعالى فى أولها: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} .. يقول: "قال ابن عطاء الله: إذا شغلك به عما دونه فقد جاءكَ الفتح من الله تعالى، والفتح هو النجاة من السجن البشرى بلقاء الله تعالى".
* * *
3- عرائس البيان فى حقائق القرأن (لأبى محمد الشيرازى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد روزبهان بن أبى النصر، البقلى، الشيرازى الصوفى، المتوفى سنة 666 هـ (ستة وستون وستمائة من الهجرة النبوية) .
* *
* التعريف بهذا التفسير:
جرى مؤلف هذا التفسير على نمط واحد وهو التفسير الإشارى، ولم يتعرض للتفسير الظاهر بحال، وإن كان يعتقد أنه لا بد منه أولاً، يدل على ذلك قوله فى المقدمة: "ولما وجدتُ أن كلامه الأزلى لا نهاية له فى الظاهر والباطن، ولم يبلغ أحد إلى كماله وغاية معانيه، لأن تحت كل حرف من حروفه بحراً من بحار الأسرار، ونهراً من أنهار الأنوار، لأنه وصف القديم، وكمال لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته.. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] ، وقال: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] ، فتعرضتُ أن أغرف من هذه البحور الأزلية غرفات من حكم الأزليات، والإشارات والأبديات، التى تقصر عنها أفهام العلماء وعقول الحكماء، اقتداءً بالأولياء، وأُسوة بالخلفاء، وسُنَّة للأصفياء، وصنَّفتُ فى حقائق القرآن، ولطائف البيان، وإشارة الرحمن فى القرآن، بألفاظ لطيفة وعبارات شريفة، وربما ذكرت تفسير آية لم يفسِّرها المشايخ، ثم أردفتُ بعد قولى أقوال مشايخى مما عباراتها ألطف، وإشاراتها أظرف ببركاتهم، وتركتُ كثيراً منها ليكون كتابى أخف محملاً وأحسن تفصيلاً، واستخرتُ الله تعالى فى ذلك، واستعنتُ به، ليكون موافقاً لمراده، ومواطئاً لسُنَّة رسوله وأصحابه وأولياء أُمَّته، وهو حسبى وحسب كل ضعيف.. وسميته بـ "عرائس البيان فى حقائق القرآن" ... إلخ.(2/288)
فأنت ترى من هذه المقدمة أن صاحبنا يعترف بالمعانى الظاهرة للقرآن، ويقرر أن ما ذكره فى كتابه ما هو إلا سوانح سنحت له من حقائق القرآن، وإشارات تجلَّت له من جانب الرحمن، كما ترى فيها وصفة لكتابه والمسلك الذى سلكه فيه، غير أنى ألحظ فى قوله: "واستعنتُ به لمراده، ومواطئاً لسُنَّة رسوله" أنه يريد أن يقرر أن كل ما فى كتابه من المعانى ليس إلا تفسيراً لكتاب الله وبياناً لمراده منه، وهذا هو ما لا نقره عليه، ولا نُسلِّمه له، لأن هذه المعانى الغريبة التى يأتى بها فى تفسيره لا يمكن أن تكون داخلة تحت مدلول اللَّفظ القرآنى، ولا يعقل أن تكون مرادة لله تعالى من خطابه لأفراد الأُمة، وحسبه أن نقره على أنها ذكر لنظير ما ورد به القرآن.
وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير:
فى سورة التوبة عند قوله تعالى فى الآية [91] : {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} .. يقول: "وصف الله زُمرة أهل المراقبات، ومجالس المحاضرات، والهائمين فى المشاهدات. والمستغرقين فى بحار الأزليات، الذين أنحلوا جسومهم بالمجاهدات، وأمرضوا نفوسهم بالرياضات، وأذابوا قلوبهم بدوام الذكر، وجولانها فى الفكر، وخرجوا بعقائدهم الصافية، عن الدنيا الفانية بمشاهدته الباقية، بأن رفع عنهم بفضله حَرَج الامتحان، وأبقاهم فى مجلس الأُنس ورياض الإيقان، وقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} يعنى الذين أضعفهم حمل أوقار المحبة، {وَلاَ على المرضى} الذين أمرضهم مرارة الصبابات، {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} الذين يتجردون عن الأكوان بتجريد التوحيد وحقائق التفريد، {حَرَجٌ} : عتاب من جهة العبودية والمجاهدة، لأنهم مقتولون بسيف المحبة، مطروحون بباب الوصلة، ضعفهم من الشوق، ومرضهم من الحب، وفقرهم من حسن الرضا".
وفى سورة النحل عند قوله تعالى فى الآية [81] : {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} .. يقول: "يعنى ظلال أوليائه، ليستظل بها المريدون من شدة حر الهجران، ويأوون إليها من قهر الطغيان، وشياطين الإنس والجان، لأنهم ظلال الله فى أرضه، لقوله عليه السلام: "السلطان ظل الله فى أرضه، يأوى إليه كل مظلوم"، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} أكنان الجبال: قلوب أكابر المعرفة، وظلال أهل السعادة من أهل المحبة، يسكن فيها المنقطعون إلى الله، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} جعل للعارفين سرابيل روح الأُنس، لئلا يحترقوا(2/289)
بنيران القدس، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} سرابيل المعرفة وأسلحة المحبة، لتدفعوا بها محاربة النفوس والشياطين، ثم زاد نعته ومنَّته عليهم بقوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} .
وفى سورة النمل عند قوله تعالى فى الآيتين [20، 21] : {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .. يقول: "إن طير الحقيقة لسليمان طير قلبه فتفقده ساعة، وكان قلبه غائباً فى غيب الحق، مشغولاً بالمذكور عن الذكر، فتفقده وما وجده. فتعجب من شأنه.. أين قلبه إن لم يكن معه؟.. فظن أنه غائب عن الحق وكان فى الحق غائباً، وهذا شأن غيبة أهل الحضور من العارفين ساعات لا يعرفون أين هم، وهذا من كمال استغراقهم فى الله، فقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} : لأُعذبنه بالصبر على دوام المراقبة والرعاية، وألقينه فى بحر النكرة من المعرفة، ليفنى ثم يفنى عن الفناء، أو أذبحنه بسيق المحبة أو بسيف العشق، أو ليأتينى من الغيب بسواطع أنوار أسرار الأزل.. ".
هذا.. والكتاب مطبوع فى جزءين، يضمهما مجلد كبير، وتوجد منه نسخة بالمكتبة الأزهرية.
* * *
4- التأويلات النجمية (لنجم الدين داية، وعلاء الدولة السمنانى)
* التعريف بمؤلفى هذا التفسير:
ألَّف هذا التفسير نجم الدين داية، ومات قبل أن يتمه، فأكمله من بعده علاء الدولة السمنانى، وسنوضح ذلك فيما بعد عند الكلام عن هذا التفسير، إذن فقد اشترك نجم الدين داية وعلاء الدولة السمنانى فى هذا التفسير، وإذن لزم الكلام عن حياة كل من الشيخين.
* أما نجم الدين داية:
فهو الشيخ نجم الدين، أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن شاهادر الأسدى الرازى المعروف بـ "داية"، المتوفى سنة 654هـ (أربع وخمسون وستمائة من الهجرة) .
كان من خيار الصوفية "أخذ الطريق عن شيخه نجم الدين أبى الجناب المعروف بالبكرى، وكان مقيماً أول أمره بخوارزم، ثم خرج منها أيام حروب جنكيز خان إلى بلاد الروم، وهناك لقى صدر الدين القنوى وأخذ عنه، ويقال: إنه استشهد فى حروب(2/290)
جنكيز خان، كما يقال إنه مدفون بالشونزية ببغداد، قرب السرى السقطى والجنيد".
* وأما علاء الدولة السمنانى:
فهو أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السمنانى، البيانانكى، الملقب بعلاء الدولة، وركن الدين، والمولود سنة 659 هـ (تسع وخمسين وستمائة) . تفقه وطلب الحديث على كثير من شيوخ عصره، حتى برع فى العلم، قال الذهبى: "كان إماماً جامعاً. كثير التلاوة، وله وقع فى النفوس، وكان يحط على ابن عربى ويُكَفِّره، وكان مليح الشكل، حسن الخُلُق، غزير الفتوة، كثير البر، يحصل له من أملاكه نحو تسعين ألفاً فينفقها فى القرب. أخذ عن صدر الدين بن حمويه، وسراج الدين القزوينى، وإمام الدين بن علىّ مبارك البكرى. وذكر أن مصنفاته تزيد على ثلاثمائة".
وذكره الأسنوى فى طبقاته وقال: "كان عالماً مرشداً، له كرامات وتصانيف فى التفسير والتصوف وغيرهما"، ومن مصنفاته مدارج المعارج، وتكملة التأويلات النجمية. وذكر صاحب كشف الظنون أن له تفسيراً كبيراً فى ثلاثة عشر مجلداً، ولكن لم يبين لنا إن كان هذا التفسير على طريقة القوم أو طريقة المفسِّرين. وكان رحمه الله قد دخل بلاد التتار، ثم رجع وسكن تبريز وبغداد، ومات فى رجب سنة 736 هـ (ست وثلاثين وسبعمائة من الهجرة) .
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفيه فيه:
يقع هذا التفسير فى خمس مجلدات كبار، ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب، وهى التى رجعنا إليها. ينتهى المجلد الرابع عند قوله تعالى فى الآيتين [17، 18] من سورة الذاريات: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .. وهذا هو نهاية ما وصل إليه نجم الدين داية فى تفسيره، أما المجلد الخامس، فهو تكملة لهذا التفسير، كتبه علاء الدولة وجعله تتمة لكتاب نجم الدين داية، وقد قدَّم لهذه التكملة بمقدمة طويلة لا يفهمها إلا مَن يعرف لغة القوم واصطلاحاتهم، ولهذا يقول فيها: ".. ولا يؤمن أحد بالذى قلته إلا بعد السلوك، ومشاهدته من حيث العيان ما سمعه من هذا البيان.. "، ثم بعد أن فرغ من المقدمة، فسَّر الفاتحة على طريقة القوم، مع(2/291)
أن نجم الدين فسَّرها أول الكتاب. ثم بعد ذلك ابتدأ بسورة الطور، وانتهى عند آخر القرآن. ويُلاحَظ أنه لم يكمل تفسير سورة الذاريات، التى مات نجم الدين قبل أن يفرغ من تفسيرها.
والذى يقرأ فى هذا التفسير، ويقارن بين ما كتبه نجم الدين داية، وبين ما كتبه السمنانى، يلحظ أن هناك فرقاً بين التفسيرين، ذلك أن الجانب الذى كتبه نجم الدين يتعرض فيه أحياناً للتفسير الظاهر، ثم يعقبه بالتفسير الإشارى قائلاً: والإشارة فيه إلى كذا وكذا، وما يذكره من التفسير الإشارى سهل المأخذ، لأنه لا يقوم على قواعد من الفلسفة الصوفية. كما أنه يربط بين الآيات.
أما الجانب الذى كتبه السمنانى فلا يعرج فيه على المعانى الظاهرة، كما أنه ليس فيه السهولة التى فى الجانب الذى كتبه نجم الدين، بل هو تفسير معقد مغلق، والسر فى ذلك: أنه بناه على قواعد فلسفية صوفية، هذه القواعد ذكرها فى مقدمة التكملة، وهى يطول ذكرها، ويصعب فهمها، ويكفى أن أشير هنا إلى بعض منها.
فمثلاً نراه يقرر فى هذه المقدمة: أن كل آية لها سبعة أبطن، كل بطن يخالف الآخر، ثم يوضح لنا هذه البطون السبعة: فبطن مخصوص بالطبقة القالبية، وبطن مخصوص باللطيفة النفسية، وبطن مخصوص باللطيفة القلبية، وبطن مخصوص باللطيفة السرية، وبطن مخصوص باللطيفة الروحية، وبطن مخصوص باللطيفة الخفية، وبطن مخصوص باللطيفة الحقية، ولتوضيح ذلك فسَّر لنا قوله تعالى فى الاية [43] من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} ... الآية، على هذه البطون السبعة سبع تفسيرات، كل يخالف الآخر. ثم هو لم يقف عند هذا الحد، بل تعدَّاه إلى القول بأن لكل آية سبعين بطناً بل سبعمائة، ووضَّح ذلك بكلام يطول ذكره.
وعلى الجملة.. فهذا التفسير المعروف بالتأويلات النجمية يُعَد من أهم كتب التفسير الإشارى، وهو أقرب إلى الفهم من غيره لولا هذه التكملة. وإليك نماذج منه. بعضها لنجم الدين وبعضها لعلاء الدولة، لتعرف الفرق بين التفسيرين وتلمس اختلاف المشربين:
* من تأويلات نجم الدين:
فى سورة البقرة عند قوله تعالى فى الآية [249] : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} .. يقول: "والإشارى فيها: أن الله تعالى ابتلى الخلق بنهر الدنيا، وماء(2/292)
زينتها، وما زَيَّن للخلق فيها، لقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين} [آل عمران: 14] .. الآية، ليُظهر المحسن من المسىء، وليُميز الخبيث من الطيب، والمقبول من المردود، وكما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] .. ثم امتحنهم وقال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يعنى من أوليائه، ومحبى وطلابى، وله اختصاص بقربى، وقبولى، والتخلق بأخلاقى، ونيل الكرامة منى، كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا من الله، والمؤمنون منى"، {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} : يعنى: مَن قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه: من المأكول، والمشروب، والملبوس، والمسكن، وصحبة الخلق. على حد الاضطرار بمقدار القوام، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكان يقول: "اللَّهم ارزق آل محمد قوتاً" - أي ما يمسك رمقهم".
وفى سورة التوبة عند قوله تعالى فى الآية [123] : {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} .. يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ} أي صدَّقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما دلَّهم إلى الله بإذنه، {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} أى جاهدوا كفار النفس وصفاتها بمخالفة هواها صفاتها، وتبديلها وحملها على طاعة الله، والمجاهدة فى سبيله، فإنها تحجبك عن الله، {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أى عزيمة صادقة فى فنائها بترك شهواتها ولذَّاتها ومستحسناتها، ومنازعتها فى هواها، وحملها على المتابعة فى طلب الحق، {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} بجذبة الوصول، ليتقوا به عما سواه، كما يتقى المرء بترسه عن النشاب، والرمح والسيف".
وفى سورة يوسف عند قوله تعالى فى الآيتين [30، 31] : {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هاذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} .. يقول: "يشير بالنسوة إلى صفات البشرية النفسانية من البهيمية، والسبعية، والشيطانية فى مدينة الجسد، {امرأة العزيز} وهى الدنيا، {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} تطالب عبدها وهو القلب. كان عبداً فى البداية لحاجته إليها للتربية. قلما كمل القلب وصفا عن دنس البشرية استأهل المنظر الإلهى، فتجلى له الرب تبارك وتعالى فتنوّر القلب بنور جماله وجلاله، فاحتاج إليه كل شىء، وسجد له حتى الدنيا، {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} أى أحبته الدنيا غاية الحب، لما ترى عليه آثار جمال الحق.(2/293)
ولما لم يكن لنسوة صفات البشرية اطلاع على جمال يوسف القلب، كن يلمن الدنيا على محبته، فقلن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} .. {فَلَمَّا سَمِعَتْ} زليخا الدنيا {بِمَكْرِهِنَّ} فى ملامتها، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أى الصفات، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} أى هيأت طعمة مناسبة لكل صفة منها، {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} وهو سكين الذكر، {وَقَالَتِ} زليخا الدنيا ليوسف القلب، {اخرج عَلَيْهِنَّ} وهو إشارة إلى غلبة أحوال القلب على صفات البشرية، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} أى وقعن على جماله وكماله، {أَكْبَرْنَهُ} أكبرن جماله أن يكون جمال بَشَر، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هاذا بَشَراً} أى جمال بشر، {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ما هذا إلا جمال ملك كريم، وهو الله تعالى بقراءة من قرأ مَلِك - بكسر اللام".
وفى سورة النمل عند قوله تعالى فى الآيتين [17، 18] {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ * حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} .. يقول: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن} أى صفته الشيطانية، {والإنس} أى صفته النفسانية، {والطير} ، أى صفته المالكية، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} عن طبيعتهم بالشريعة. ليسخِّروا لسليمان القلب وينقادوا له، {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل} وهو هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها، {قَالَتْ نَمْلَةٌ} وهى النفس اللَّوامة، {ياأيها النمل} أى الصفات النفسانية، {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} محالكم المختلفة وهى الحواس الخمس، {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} ، {سُلَيْمَانُ} القلب، {وَجُنُودُهُ} المسخَّرة له، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لأنهم الحق، وأنتم الباطل، فإذا جاء الحق زهق الباطل، كما أن الشمس إذا طلعت تبطل الظلمة وتنفيها، وهى لا تشعر بحال الظلمة وما أصابها".
* *
* من تأويلات السمنانى:
فى سورة التحريم عند قوله تعالى فى الآية [11] : {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} .. يقول: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} يعنى القوى المؤمنة من قوى النفس اللوَّامة، {امرأت فِرْعَوْنَ} يعنى القوة الصالحة القابلة تحت القوة الفاسدة الفاعلة المستكبرة، ما ضرَّها كفر القوة الفاعلة الفاسدة إذا كانت صالحة هى بنفسها، {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} يعنى إذ قالت اللطيفة الصالحة القابلة فى مناجاتها مع(2/294)
ربها: ابن لى بيتاً فى أخص أطوار القلب، وقالت أيضاً فى مناجاتها: نجنى من هذه القوة الفاسدة والفاعلة وعملها. ونجنى من أنوائها وقواها الظالمة ... ".
وفى سورة الشمس عند قوله تعالى فى الآيات [11] وما بعدها: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} ... (إلى أخر السورة) .
يقول: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} يعنى إذ انبعثت اللطيفة، وأسرعت إلى الطاغية انبعث أشقى قوى النفس على إثر اللطيفة الصالحة، ليعقر ناقة شوقها، {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله} أى اللطيفة، {نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} أى احذروا عقر ناقة الشوق وشربها من عين الذكر، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} بتكذيبهم صالح اللطيفة النفسية، وعقروا ناقة الشوق، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} ، أى أهلكهم الله، {فَسَوَّاهَا} أى عمَّهم بذلك العذاب، {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} ولا يخاف القوى العاقرة فى عقر ناقة الشوق عاقبة الأمر، فأهلكهم بطغيانهم لرسوله وتكذيبهم إياه".
* * *
5- التفسير المنسوب لابن عربى
* مَن مؤلف هذا التفسير؟
هذا التفسير طبع مجرداً من مجلدين، وطبع على هامش عرائس البيان فى حقائق القرآن، لأبى محمد بن أبى النصر الشيرازى، الصوفى، الذى تكلمنا عنه فيما مضى. وكلتا النسختين يُنسب فيهما التفسير لابن عربى، وبعض الناس يُصَدِّق هذه النسبة، ويعتقد أن هذا التفسير من عمل ابن عربى نفسه، والبعض الآخر لا يصدق أن هذا التفسير من عمل ابن عربى، بل يرى أنه من عمل عبد الرزاق القاشانى، وإنما نُسب لابن عربى ترويجاً له بين الناس، وتشهيراً له بشهرة ابن عربى. وممن يرى هذا الرأى الأخير: المرحوم الشيخ محمد عبده فى مقدمة التفسير التى اقتبسها المرحوم الشيخ رشيد رضا من درسه، ورواها عنه بالمعنى، ووضعها فى مقدمة تفسير المنار. وذلك حيث يذكر وجوه التفسير يعد منها التفسير الإشارى، ثم يقول: "وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، ومن ذلك: التفسير الذى ينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطنى الشهير، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز".
ونحن مع الأستاذ الإمام فى أن هذا التفسير للقاشانى، لا "لابن عربى" وإن كنا لا نوافقه على دعواه أن القاشانى من الباطنية، كما سنوضحه بعد إن شاء الله تعالى.(2/295)
هذا.. وإنى حين أميل لهذا الرأى - أعنى كون التفسير للقاشانى - أؤيده بما يأتى:
أولاً: أن جميع النسخ الخطية منسوبة للقاشانى، والاعتماد على النسخ المخطوطة أقوى، لأنها الأصل الذى أُخذت عنه النسخ المطبوعة.
ثانياً: قال فى كشف الظنون: "تأويلات القرآن" المعروف بتأويلات القاشانى، هو تفسير بالتأويل على اصطلاح أهل التصوف إلى سورة (ص) للشيخ كمال الدين أبى الغنائم عبد الرزاق جمال الدين الكاشى السمرقندى، المتوفى سنة 730 هـ (ثلاثين وسبعمائة) ، أوله: الحمد لله الذى جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفاته ... " إلخ، وقد رجعنا إلى مقدمة التفسير المنسوب لابن عربى، فوجدنا أوله هذه العبارة المذكورة بنصها.
ثالثاً: فى تفسير سورة القصص من هذا الكتاب عند قوله تعالى فى الآية [32] : {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} يقول: " ... وقد سمعت شيخنا نور الدين عبد الصمد قدّس روحه العزيز فى شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه أنه ... إلخ". ونور الدين هذا هو نور الدين عبد الصمد ابن علىّ النطنزى الأصفهانى، والمتوفى فى أواخر القرن السابع، وكان شيخاً لعبد الرزاق القاشانى، المتوفى سنة 730هـ (ثلاثين وسبعمائة من الهجرة) . كما يُستفاد ذلك من كتاب نفحات الأنُس في مناقب الأولياء (ص 534 - 537) . وغير معقول أن يكون نور الدين عبد الصمد النطنزى المتوفى فى أواخر القرن السابع الهجرى شيخاً لابن عربى المتوفى سنة 638 هـ (ثمان وثلاثين وستمائة من الهجرى) .
لهذا كله نستطيع أن نؤكد أن هذا التفسير ليس لابن عربى، وإنما هو لعبد الرزاق القاشانى الصوفى.
* * *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير جمع مؤلفه فيه بين التفسير الصوفى النظرى، وبين التفسير الإشارى، ولم يتعرض فيه للكلام عن التفسير الظاهر بحال من الأحوال.
أما ما فيه من التفسير الصوفى النظرى: فغالبه يقوم على مذهب وحدة الوجود، ذلك المذهب الذى كان له أثره السئ فى تفسير القرآن الكريم.(2/296)
وأما ما فيه من تفسير إشارى، فكثير منه لا نفهم له معنى، ولا نجد له فى سياق الآية أو لفظها ما يدل عليه، ولو أن المؤلف - رحمه الله - كان واضحاً فى كلامه، كما كان التسترى واضحاً، أو جمع بين التفسير الظاهر والتفسير الباطن لهان الأمر، ولكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، مما جعل الكتاب مغلقاً، وموهماً لمن يقرؤه أن هذا مراد الله من كلامه، كما كان هذا هو السبب الذى من أجله قال الأستاذ الإمام فى القاشانى: إنه باطنى. وأنا مع اعترافى بأن الكتاب فى جملته أشبه ما يكون بتفسير الباطنية، من ناحية ما فيه من المعانى التى تقوم على نظرية وحدة الوجود، وما فيه من المعانى الإشارية البعيدة - مع اعترافى بهذا - أخالف كل مَن يقول: إن القاشانى من الباطنية، ذلك لأن تاريخ الرجل يشهد له بأنه كان من المتصوفة المشهود لهم بالزهد والورع، وأيضاً فإنَّا نعلم أن الباطنية ينكرون المعانى الظاهرية للقرآن، ويقولون: إن المراد هو الباطن وحده، أما صاحبنا، فلم يذهب هذا المذهب، بل نجده فى مقدمة تفسيره يعترف بأن الظاهر مراد ولا بد منه أولاً، كما نبَّه على أنه لا يحوم فى كتابه هذا حول ناحية التفسير الظاهر، ولعله فعل ذلك لأنه وجد من المفسِّرين مَن اعتنى بالظواهر دون الإشارات، فأراد هو أن يعتنى بالناحية الإشارية، دون الناحية الظاهرية للقرآن، فألَّف كتابه على النحو الذى نراه، وإليك بعض ما جاء فى هذه المقدمة، لتعلم أن الرجل ليس باطنياً، ولتعلم أيضاً منهجه الذى نهجه فى تفسيره، وطريقته التى سار عليها فى شرحه لكتاب الله. قال رحمه الله:
"وبعد.. فإنى طالما تعهدتُ تلاوة القرآن، وتدبرتُ معانيه بقوة الإيمان، وكنتُ مع المواظبة على الأوراد، حَرِج الصدر، قَلِق الفؤاد، لا ينشرح بها قلبى ولا يصرفنى عنها ربى، حتى استأنستُ بها فألفتها، وذقتُ حلاوة كأسها وشربتها، فإذا أنا بها نشيط النفس، فَلِج الصدر، مُتَسِع البال، منبسط القلب، فسيح السر، طيب الوقت والحال، مسرور الروح بذلك الفتوح، كأنه دائماً فى غبوق وصبوح، تنكشف لى تحت كل آية من المعانى ما يكل بوصفه لسانى لا القدرة تفى بضبطها وإحصائها، ولا القدرة تصبر عن نشرها وإفشائها، فتذكرت خبر من أتى ما ازدهانى، مما وراء المقاصد والأمانى، قول النبى الأُمِّى الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت وناطق: "ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" وفهمت منه أن الظهر: هو التفسير، والبطن: هو التأويل، والحد: ما يتناهى إليه المفهوم من معنى الكلام، والمطلع: ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام، وقد نُقل عن الإمام المحقق السابق جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: لقد تجلَّى الله لعياده فى كلامه، ولكن لا يبصرون، ورُوى عنه عليه السلام أنه خَرَّ مغشياً عليه وهو فى الصلاة فسئل(2/297)
عن ذلك فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها.. فرأيت أن أعلق بعض ما يسنح لى فى الأوقات من أسرار حقائق البطون وأنوار شوارق المطلعات، دون ما يتعلق بالظواهر والحدود، فإنه قد عُيِّن لها حد محدد، وقيل: مَن فسَّر برأيه فقد كفر، وأما التأويل فلا يبقى ولا يذر، فإنه يختلف بحسب أحوال المستمع وأوقاته، فى مراتب سلوكه وتفاوت درجاته، وكلما ترقى عن مقامه انفتح له باب فهم جديد، واطلع به على لطيف معنى عتيد، فشرعتُ فى تسويد هذه الأوراق بما عسى يسمح به الخاطر على سبيل الاتفاق، غير حائم بقيعة التفسير، ولا خائض فى لجة من المطلعات ما لا يسعه التقرير، مراعياً لنطق الكتاب وترتيبه، غير معيد لما تكرر منه أو تشابه فى أساليبه، وكل ما لا يقبل التأويل عندى، أو لا يحتاج إليه فما أوردته أصلاً، ولا أزعم أنى بلغت الحد فيما أوردته كاملاً، فإن وجوه الفهم لا تنحصر فيما فهمت، وعلم الله لا يتقيد بما علمت،
ومع ذلك فما وقف الفهم منى على ما ذكر فيه، بل ربما لاح لى فيما كتب من الوجوه ما تهت فى محاويه، وما يمكن تأويله من الأحكام الظاهر منها إرادة ظاهرها فما أوَّلته إلا قليلاً، ليعلم به أن للفهم إليه سبيلاً، ويُستدل بذلك على نظائرها إن جاوز مجاوز عن ظواهرها، إذ لم يكن فى تأويلها بُدّ من تعسف، وعنوان المروءة ترك التكلف، وعسى أن يتجه لغيرى وجوه أحسن منها طوع القياد، فإن ذلك سهل لمن تيسر له من أفراد العباد. ولله تعالى فى كل كلمة كلمات ينفد البحر دون نفادها، فكيف السبيل إلى حصرها وتعدادها ... ولكنها أنموذج لأهل الذوق والوجدان، يحتذون على حذوها عند تلاوة القرآن، فينكشف لهم ما استعدوا له من مكنونات علمه، ويتجلى عليهم ما استطاعوا له من خفيات غيبه، والله الهادى لأهل المجاهدة، إلى سبيل المكاشفة والمشاهدة، ولأهل الشوق إلى مشارب الذوق، إنه ولى التحقيق، وبيده التوفيق".
فمن هذه المقدمة يمكنك أن تحكم على القاشانى بأنه صوفى لا باطنى، كما أنك تجد فيها منهجه الذى سار عليه فى تفسيره، ولو تصفحتَ الكتاب لوجدتَ أنه سار على الطريقة التى رسمها لنفسه ولم يحد عنها، وإليك نماذج منه:
* نماذج من التفسير الإشارى:
فى سورة البقرة عند قوله تعالى فى الآية [126] : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} .. يقول ما نصه: "وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا الصدر الذى هو حرم القلب، بلداً آمناً من استيلاء صفات(2/298)
النفس، واغتيال العدو اللَّعين، وتخطف جن القوى البدنية أهله، وارزق أهله من ثمرات معارف الروح أو حكمه أو أنواره، {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} مَن وَحَّدَ الله منهم وعلم المعاد، {قَالَ وَمَن كَفَرَ} أى: ومن احتجب أيضاً من الذين سكنوا الصدر، ولا يجاوزون حده بالترقى إلى مقام العين، لاحتجاجهم بالعلم الذى وعاؤه الصدر، فأُمتعه قليلاً من المعانى العقلية، والمعلومات الكلية، النازلة إليهم من عالَم الروح على قدر ما تعيَّشوا به، ثم أضطره إلى عذاب نار الحرمان والحجاب، وبئس المصير مصيرهم لتعذبهم بنقصانهم، وتألمهم بحرمانهم".
وفى سورة الأنعام عند قوله تعالى فى الآيى [95] : {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} .. يقول ما نصه: "إن الله فالق حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف. ونور النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم، ويخرج حى القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها، واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه، ذلكم الله القادر على تقليب أحوالكم، وتقليبكم فى أطواركم، فأنَّى تُصرفون عنه إلى غيره".
* * *
* نماذج من التفسير المبنى على وحدة الوجود:
فى سورة آل عمران عند قوله تعالى فى الآية [191] : {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .. يقول: "ربنا ما خلقت هذا الخلق باطلاً، أي شيئاً غيرك، فإن غير الحق هو الباطل، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك. سبحانك: ننزهك أن يوجد غيرك، أى يقارن شىء فردانيتك أو يُثَنِّى وحدانيتك.. ".
وفى سورة الواقعة عند قوله تعالى فى الآية [57] : {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} .. يقول: "نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا وظهورنا فى صوركم".
وفى سورة الحديد عند قوله تعالى فى الآية [4] : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} .. يقول: "وهو معكم أينما كنتم بوجودكم به، وظهوره فى مظاهركم".
وفى سورة المجادلة عند قوله تعالى فى الآية [7] : {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} ... الآية، يقول: "لا بالعدد والمقارنة، بل بامتيازهم عنه بتعيناتهم. واحتجابهم عنه بماهياتهم ونياتهم، وافتراقهم منه بالإمكان اللازم لماهياتهم وهوياتهم، وتحققهم بوجوبه اللازم لذاته، واتصاله بهم بهويته المندرجة فى هوياتهم، وظهوره فى(2/299)
مظاهرهم، وتستره بماهياتهم ووجوداتهم المشخصة، وإقامتها بعين وجوده، وإيجابهم بوجوبه، فبهذه الاعتبارات هو رابع معهم، ولو اعتبرت الحقيقة لكان عينهم، ولهذا قيل: لولا الاعتبارات لارتفعت الحكمة".
وفى سورة المزمل عند قوله تعالى فى الآيتين [8، 9] : {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَّبُّ المشرق والمغرب} .. يقول: "واذكر اسم ربك الذى هو أنت - أى اعرف نفسك - واذكرها، ولا تنسها، فينسك الله، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها، {رَّبُّ المشرق والمغرب} أى الذى ظهر عليك نوره، فطلع من أفق وجودك بإيجادك، أو المغرب الذى اختفى بوجودك، وغرب نوره فيك واحتجب بك".
هذه بعض النماذج التى تكشف لك عن روح هذا التفسير، ولو أنك تصفحت هذا الكتاب لوجدته يقوم فى الغالب على مذهب صاحبه فى وحدة الوجود، ولعل هذا هو السر الذى من أجله نُسب الكتاب لابن عربى، فإن ابن عربى يقول بوحدى الوجود، ويبنى كثيراً من تفسيره لبعض الآيات على هذا المذهب، فلاتحاد المذاهب وتشابه التفسير وقع الالتباس، فنُسِب التفسير لابن عربى، أو قُصِدت النسبة ليروج الكتاب كما قلنا، وأمن مَن فعل ذلك من افتضاح أمره، اعتماداً على الاتحاد فى المذهب، والتشابه فى التفسير.
وإذ قد جرَّنا الحديث إلى ابن عربى، فأرى إتماماً للفائدة أن أذكر نُبذة عن حياة هذا الرجل، وعن مذهبه فى التفسير، وليقف القارئ بعد ذلك على مقدار التشابه بين ابن عربى والقاشانى فى فهم كتاب الله تعالى، والكشف عن معانيه.
* * *
ابن عربى ومذهبه فى تفسير القرآن الكريم
ترجمة ابن عربى
هو أبو بكر محيى الدين محمد بن علىّ بن أحمد بن عبد الله الحاتمى، الطائى، الأندلسى، المعروف بابن عربى - بدون أداة التعريف - كما اصطلح على ذلك أهل المشرق، فرقاً بينه وبين القاضى أبى بكر بن العربى صاحب أحكام القرآن. وكان بالمغرب يُعرف بابن العربى - بالألف واللام - كما كان يُعرف فى الأندلس بـ "ابن سراقة".
ولد بمرسية سنة 560 هـ (ستين وخمسمائة من الهجرة) ثم انتقل إلى إشبيلية سنة(2/300)
568 هـ (ثمانى وستين وخمسمائة) وبقى بها نحواً من ثلاثين عاماً، تلقى فيها العلم على كثير من الشيوخ حتى ظهر نجمه، وعلا ذكره، وفى سنة 598 هـ (ثمان وتسعين وخمسمائة) نزح إلى المشرق وطوَّف فى كثير من البلاد، فدخل الشام، ومصر، والموصل، وآسيا الصغرى، ومكة، وأخيراً ألقى عصاه واستقر به النوى فى دمشق، وتوفى بها فى سننة 638 هـ (ثمان وثلاثين وستمائة) ، ودُفِنَ بها، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
ابن عربى بين أعدائه ومريديه
كان ابن عربى شيخ المتصوفة فى وقته، وكان له أتباع ومريدون، يعجبون به إلى حد كبير، حتى لقبوه فيما بينهم بالشيخ الأكبر، والعارف بالله.. كما كان له أعداء ينقمون عليه، ويرمونه بالكفر والزندقة، وذلك لما كان يدين به من القول بوحدة الوجود، ولما كان يصدر عنه من المقالات الموهمة، التى تحمل فى ظاهرها كل معانى الكفر والزندقة، فمن المعجبين بابن عربى: قاضى القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازى الفيروزآبادى صاحب القاموس، وقد كتب كتاباً يدافع فيه عنه، رداً على رضى الدين به الخياط الذى كتب عن عقيدة ابن عربى ورماه بالكفر. وكمال الدين الزملكانى، من أكابر مشايخ الشام، والشيخ صلاح الدين الصفدى، والحافظ السيوطى، الذى ألَّف فى الدفاع عنه كتاباً سماه "تنبيه الغبى على تنزيه ابن عربى"، وسراج الدين البلقينى، وتقى الدين بن السبكى، وغيرهم.
ومن الناقمين عليه: ابن الخياط السابق ذكره، والحافظ الذهبى، وابن تيمية عدو الصوفية على الإطلاق، ولقد بلغ من عداوة بعض الناس لابن عربى أنهم حاولوا اغتياله بمصر، ولكن الله سلَّمه وأنجاه.
* *
مكانته العلمية
لم تقتصر براعة ابن عربى على التصوف، بل برع مع ذلك فى كثير من العلوم، فكان عارفاً بالآثار والسنن. أخذ الحديث عن جمع من علمائه، وكان شاعراً وأديباً، ولذلك كان يكتب الإنشاء لبعض ملوك الغرب. وقد بلغ مبلغ الاجتهاد والاستنباط، وتأسيس القواعد والمقاصد التى لا يحيط بها إلا مَن طالعها، ووقف على حقيقتها. ويقال إنه كان من أنصار مواطنه ابن حزم ومذهبه الظاهرى، ولكنه مع ذلك أبطل التقليد.
* *
مذهب ابن عربى فى وحدة الوجود
أما مذهبه فى وحدة الوجود فهو: أنه يرى أن الوجود حقيقة واحدة. ويعد التعدد(2/301)
والكثرة أمراً قضت به الحواس الظاهرة "وقد أداه قوله بوحدة الوجود إلى قوله بوحدة الأديان، لا فرق بين سماويها وغير سماويها، إذ الكل يعبدون الإله الواحد المتجلى فى صورهم، وصور جميع المعبودات، والغاية الحقيقية من عبادة العبد لربه: هو التحقق من وحدته الذاتية معه. وإنما الباطل من العبادة: أن يُقصر العبد ربه على مجلى واحد دون غيره، ويسميه إلهاً".
"وبالجملة، فمنزلة ابن عربى العلمية كبيرة، ولا أدل على ذلك من مؤلفاته الكثيرة التى تدل على سعة باعه، وتبحره فى العلوم الظاهرة والباطنة، وقد بلغ ما بقى منها إلى اليوم مائة وخمسون كتاباً، ويظهر أن هذا العدد ليس إلا نصف ما ألَّفه ابن عربى فى الواقع". وأهم هذه المؤلفات "الفتوحات المكية" الذى ذاع صيته. وكلف به كثير من الرجال، ثم "فصوص الحكم"، وله ديوان فى الأشعار الصوفية، وكتاب "الأخلاق"، وكتاب "مجموع الرسائل الإلهية"، وغير ذلك من مؤلفاته الكثيرة.
غير أن هذه المؤلفات يوجد فى تضاعيفها كثير من الكلمات المشكلة، التى سببت خوص الناس فى عقيدته، ورميهم إياه بالكفر والزندقة، ولكن أتباعه ومريديه ومَن أعجب به من العلماء لم يأخذوا هذه الألفاظ على ظواهرها بل قالوا: إن ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنما المراد أُمور اصطلح عليها متأخروا أهل الطريق غيرة عليها. حتى لا يدَّعيها الكذَّابون. وقد قال السيوطى فى كتابه "تنبيه الغبى على تنزيه ابن عربى": "والقول الفصل فى ابن عربى: اعتقاد ولايته، وتحريم النظر فى كتبه، فقد نُقِل عنه هو أنه قال: نحن قوم يحرم النظر فى كتبنا. قال السيوطى: وذلك لأن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها. وأرادوا بها معانى غير المعانى المتعارفة، فمَن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر. نص على ذلك الغزالى فى بعض كتبه وقال: إنه شبيه بالمتشابه من القرآن والسُّنَّة، مَن حمله على ظاهره كفر".
ومما استدلوا به على أن ابن عربى لا يريد الظاهر الموهم من كلامه: ما يروونه عنه من أنه أنشد بعض إخوانه هذا البيت وهو من نظمه:
يا من يرانى ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يرانى
فاعترض عليه السامع وقال: كيف تقول إنه لا يراك، وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرتجلاً:(2/302)
يامن يرانى مجرماً ... ولا أراه آخذاً
كم ذا أراه منعماً ... ولا يرانى لائذاً
قالوا: فهذا يدل على أن كلام الشيخ لا يُراد به ظاهره، وإنما له محامل تليق به.
ومن العلماء مَن يُنزِّه ابن عربى عن هذه العبارات الموهمة ويقول: إن ما جاء من ذلك فهو مدسوس عليه، ويروون فى ذلك أن الشعرانى الذى اختصر الفتوحات قال: "وقد توقفتُ حال الاختصار فى مواضع كثيرة منه، لم يظهر لى موافقتها لما عليه أهل السُّنَّة والجماعة. فحذفتها من هذا المختصر. وربما سهوت فتبعت ما فى الكتاب، كما وقع للبيضاوى مع الزمخشرى، ثم لم أزل كذلك أظن أن المواضع التى حُذفت ثابتة عن الشيخ محيى الدين، حتى قدم علينا الأخ العالِم الشريف شمس الدين السيد محمد بن السيد أبى الطيب المدنى المتوفى سنة 955 هـ (خمسة وخمسون وتسعمائة من الهجرة) ، فذاكرته فى ذلك، فأخرج إلىّ نسخة من الفتوحات التى قابلها على النسخة التى عليها خط للشيخ محيى الدين نفسه بقونية، فلم أر فيها شيئاً مما توقفت فيه وحذفته، فعلمت أن النسخ التى فى مصر الآن كلها كتبت من النسخة التى دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، كما وقع له ذلك فى كتاب الفصوص وغيره".
ومهما يكن من شىء، فابن عربى مُعقَّد فى أفكاره، موهم فى ألفاظه وتعابيره، مشكل فى أكثر ما يقول. ومع كل هذا فلا أتهمه فى عقيدته، لجهلى باصطلاحات القوم ورموزهم. وكلمه الإنصاف فيه - كما أعتقد - قول الحافظ الذهبى عنه: "وله توسع فى الكلام، وذكاء، وقوة خاطر، وحافظة وتدقيق فى التصوف، وتآليفه جمَّة فى العرفان، ولولا شطحه فى الكلام لم يكن به بأس".
* *
مذهب ابن عربى فى تفسير القرآن الكريم
يقوم مذهب ابن عربى فى التفسير غالباً على نظرية وحدة الوجود التى يدين بها، وعلى الفيوضات والوجدانيات التى تنهل عليه من سحائب الغيب الإلهى، وتنقذف فى قلبه من ناحية الإشراق الربانى.
أما من الناحية الأولى: ناحية التأثر بمذهب وحدة الوجود. فإنَّا نراه فى كثير من الأحيان يتعسف فى التأويل، ليجعل الآية تتمشى مع هذه النظرية. وهذا - فيما أعتقد - منهج كله شر فى التفسير، فهو يبدل فيما أراد الله من آياته، ويقسرها على(2/303)
أن تتضمن مذهبه، وتكون أسانيد له، وهذا ليس من شأن المفسِّر المنصف، الذى يبحث فى القرآن بحثاً مجرداً عن الهوى والعقيدة.
وأما من الناحية الثانية: ناحية الفيض الإلهى، فهو واسع الباع فيها، وقد مرَّت بك مقالته فى التفسير الإشارى، ورأيتَ كيف ادَّعى أن كل ما يجرى على لسان أهل الحقيقة من المعانى الإشارية فى القرآن هو فى الحقيقة تفسير وشرح لمراد الله، وإنما عبَّر عنها بالإشارة. تقيَّة من أهل الظاهر، ورأيتَ كيف ادَّعى أن أهل الله - وهم الصوفية - أحق الناس بشرح كتابه، لأنهم يتلقون علومهم عن الله، فهم يقولون فى القرآن على بصيرة، أما أهل الظاهر فيقولون بالظن والتخمين.
ثم هو لا يرى فرقاً بين القرآن نفسه، وبين تفسير أهل الله له، من ناحية أن كلا منهما حق ثابت، وصدق لا يعتريه شك، فإذا كان القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه من عند الله، فكذلك أقوال أهل الحقيقة فى التفسير، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأنها منزَّلة على قلوبهم من عند الله.
يقرر ابن عربى كل هذه المبادئ، ويُصرِّح بها فى فتوحاته، وأنا لا زلت واقفاً عند رأيى الذى قررته آنفاً، وهو: أن دعوى الفيض والإلهام لا يصح أن تكون أصلاً يُحكم به على كتاب الله تعالى.
هذا.. وإن ابن عربى لم نظفر له بكتاب فى التفسير، ولكن نجد صاحب كشف الظنون يقول: إنه "صنَّف تفسيراً كبيراً على طريقة أهل التصوف فى مجلدات. قيل إنه فى ستين سِفْراً، وهو إلى سورة الكهف، وله تفسير صغير فى ثمانية أسفار على طريقة المفسِّرين"، وإذا كنا لم نظفر بهذين الكتابين، فإنَّا قد ظفرنا بما فيه بعض الكفاية عنهما، وهو تفسيره لبعض الآيات التى وجدناها متفرقة فى غضون مؤلفاته، كالفصوص، والفتوحات. إليك بعضاً منها لتكون على بصيرة، ولتطمئن إلى حكمى على الرجل فى شرحه لكتاب الله تعالى:
نماذج من التفسير الصوفى النظرى له
فى سورة نوح عند قوله تعالى فى الآية [25] : {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} .. يقول: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} فهى التى خطت بهم فغرقوا فى بحار العلم بالله وهو الحيرة، {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} فى عين الماء، {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد".
وعند قوله تعالى فى الآيتين [27، 28] من سورة نوح أيضاً: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً * رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً(2/304)
وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} يقول ما نصه: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} أى تدعهم وتتركهم، {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} أي يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرَار الربوبية، فينظروا أنفسهم أرباباً، بعدما كانوا عبيداً، فهم العبيد الأرباب، {وَلاَ يلدوا} أي لا ينتجوا ولا يظهروا، {إِلاَّ فَاجِراً} أى مظهراً ما سُتِر، {كَفَّاراً} أى ساتراً ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما سُتِر فيهم، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قدر الفاجر فى فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد، {رَّبِّ اغفر لِي} أي استرنى واستر من أجلى، فيُجهَل مقامى وقدرى، كما جُهِل قَدركَ - {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]- {وَلِوَالِدَيَّ} كنت نتيجة عنهما، وهما العقل والطبيعة، {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ} أى قلبى، {مُؤْمِناً} أى مصدِّقاً بما يكون فيه من الإخبارات الإلهية، وهو ما حدَّثت به أنفسهم، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} من العقول، {والمؤمنات} من النفوس، {وَلاَ تَزِدِ الظالمين} من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحُجُب الظلمانية، {إِلاَّ تَبَاراً} أى هلاكاً، فلا يعرفون نفوسهم وشهودهم وجه الحق دونهم".
وفى سورة النساء عند قوله تعالى فى الاية [8] : {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} .. يقول "لأنه لا ينطق إلا عن الله، بل لا ينطق إلا بالله، بل لا ينطق إلا الله منه فإنه صورتُه".
* *
نماذج من التفسير الإشارى له
فى سورة الأعراف عند قوله تعالى فى الآيتين [57، 58] : {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} ..
نراه يذكر: أنه لما أدركته الفطرة التى لا بد منها لكل داخل فى الطريق، وتحكَّمت فيه، رأى الحق سبحانه، فتلا عليه هاتين الآيتين، قال: فعلمت أنى المراد بهذه الآية، وقلت: ينبه بما تلاه علينا على التوفيق الأول الذى هدانا الله به على يد عيسى وموسى ومحمد سلام الله عليهم جميعهم، فإن رجوعنا إلى هذا الطريق، كان بمبشرة على يد عيسى، وموسى، ومحمد عليهم السلام، {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وهى العناية بنا، {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} وهو ترادف التوفيق، {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} وهو أنا، {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} - وهو ما ظهر علينا من أنوار القبول،(2/305)
والعمل الصالح، والتعشق به. ثم مثَّل فقال: {كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يشير بذلك إلى خبر ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم فى البعث - أعنى حشر الأجسام - من أن الله يجعل السماء تُمطر مثل مَنِّى الرجال.. (الحديث) . قال: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} وليس سوى الموافقة والسمع والطاعة لطهارة المحل، {والذي خَبُثَ} وهو الذى غلبت عليه نفسه والطبع، وهو معتنى به فى نفس الأمر، {لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} مثل قوله: "إن لله عباداً يُقادرون إلى الجِنَّة بالسلاسل"، وقوله فى الآية [15] من سورة الرعد: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} فقلنا: طوعاً لا إلهنا".
وفى سورة الحج عند قوله تعالى فى الآيتين [32، 33] : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} .. نجده يُفسِّر: {شَعَائِرَ الله} فيقول: {شَعَائِرَ الله} أعلامه، وأعلامه الدلالة الموصلة إليه، ويُفسِّر قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} .. فيقول: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} وهو بيت الإيمان عند أهل الإشارات، وليس إلا قلب المؤمن الذى وسع عظمة الله وجلاله".
وفى سورة لقمان عند قوله تعالى فى الآية [16] : {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} ... . الآية، نجده يُفسِّر قوله تعالى: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} .. فيقول: "أى عند ذى قلب قاس لا شفقة له على خلق الله. قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ،
* *
نماذج من التفسير الظاهر لابن عربى
فى سورة الأنعام عند قوله تعالى فى الآية [153] : {وَأَنَّ هاذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .. يقول: {وَأَنَّ هاذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} فأضافه إليه، ولم يقل: صراط الله، ووصفه بالاستقامة.. ثم قال: {فاتبعوه} الضمير يعود على صراطه، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} يعنى شرائع من تقدَّمه ومناهجهم من حيث ما هى شرائع لهم، إلا إن وجد حكم فيها في شرعى فاتبعوه من حيث ما هو شرع لنا لا من حيث ما كان شرعاً لهم، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} يعنى تلك الشرائع، {عَن سَبِيلِهِ} أى عن طريقه الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل عن سبيله الله، لأن الكل سبيل الله، إذ كان الله غايتها، {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أى تتخذون تلك السبيل وقاية تحول بينكم وبين المشى على غيره".(2/306)
وهذا تفسير مقبول، لجريانه على مقتضى الظاهر من الآية، ولكن نجد صاحبنا أحياناً يشطح فى فهمه لظاهر الآيات شطحات لا نستطيع أن نسلمها له على ظاهرها، وإنما أقول "على ظاهرها" لأنه ربما كان يعنى من وراء هذا الظاهر معنى لا غبار عليه، أراده هو، وجهلته أنا، فمن ذلك أنه يقول: "اعلم - وفقك الله - أن الله أخبر عن نبيه ورسوله عليه السلام فى كتابه أنه قال: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} فما ثَمَّ إلا مَن هو مستقيم على الحقيقة على صراط الرب، لأنه ما ثَمَّ إلا مَن الحقُّ آخذ بناصيته، ولا يمكن إزالة ناصيته من يد سيده وهو على صراط مستقيم، ونكَّرَ لفظ "دابة" فعمَّ، فأين المعوج حتى نعدل عنه؟ فهذا جبر، وهذه استقامة، فالله يوفقنا فى إنزال كل حكمة فى موضعها".
هذه بعض النماذج من تفسير ابن عربى. ومنها تستطيع أن تحكم على فهمه لمعانى القرآن، كما تستطيع أن تقارن بينها وبين ما فى تأويلات القاشانى، المنسوبة لابن عربى، لتقف على مقدار التشابه بين التفسيرين، وتأثر كل منهما بعقيدته فى وحده الوجود.
وبعد.. فهذا هو تفسير الصوفية، وهؤلاء هم أهم مفسريه، وهذه هى أهم الكتب المؤلَّفة فيه، ولعلى أكون قد أوفيتُ البحث حقه، وألممتُ بالموضوع من جميع نواحيه.
* * *(2/307)
تفسير الفلاسفة
كيف وُجِدت الصلة بين التفسير والفلسفة؟
فى إبَّان شوكة المِلَّة الإسلامية تُرجِمَت كتب الفلسفة من اللُّغات المختلفة إلى اللُغة العربية، ويرجع الفضل الأكبر فى هذا العمل إلى العباسيين وحدهم، إذ أنهم نظموا الترجمة الإسلامية وشجعوها.
بدأ المنصور هذه الحركة المباركة، وتعهدها أبناؤه وأحفاده من بعده، وبلغ بها المأمون - خاصة - القمة، وأضحت بغداد كعبة علمية يحج إليها الطُلاب من كل مكان.
ولكى يحقق العباسيون غايتهم استخدموا طائفة من الفُرس والهنود والصابئة والمسيحيين، الذين كانوا على اتصال وثيق بالدراسات القديمة، فنقلوا إلى اللُّغة العربية كتب فلاسفة اليونان، والهند، والفُرس، وغيرهم، ثم أُذيعت هذه الكتب بين المسلمين، فقرأوها قراءة النَهِم المتعطش لهذا النوع من العلم الذى لم يكن لهم به عهد من قبل.
قرأ بعض المسلمين هذه الكتب الفلسفية، فلم يرقهم أكثر ما فيها من نظريات وأبحاث، لأنهم وجدوها تتعارض مع الدين، ولا تتفق معه بحال من الأحوال، فكرَّسوا حياتهم للرد عليها، وتنفير الناس منها، وكان على رأس هؤلاء: الغزالى، والفخر الرازى، الذى تعرَّض فى تفسيره لنظريات الفلاسفة التى تبدو فى نظره متعارضة مع الدين، ومع القرآن على الأخص، فردَّها وأبطلها بمقدار ما أسعفته الحُجَّة، وانقاد له الدليل.
وقرأ بعض المسلمين هذه الكتب فأعجبوا بها إلى حد كبير، رغم ما فيها من نظريات تبدو متعارضة مع نصوص الشرع القويم، وتعاليمه التى لا يلحقها الشك، ولا تحوم حولها الشبهة.. نعم أعجبوا بها رغم هذا، لأنهم وجدوا أن فى مقدورهم أن يوافقوا بين الحكمة والعقيدة، أو بين الفلسفة والدين، وان يبينوا للناس أن الوحى لا يناقض العقل فى شىء، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفوس، وثبتت أمام الخصوم.. رأوا أن هذا فى مقدورهم، فبذلوا كل ما يستطيعون من حلول ليصلوا الفلسفة بالدين، ويؤاخوا بينهما، حتى يصبح الدين فلسفة، والفلسفة ديناً، وفعلاً وصل فلاسفة المسلمين إلى هذا التوفيق، ولكنه توفيق إن أرضى بعض المسلمين فقد أغضب الكثير منهم، ذلك لأنهم لم يصلوا فى توفيقهم إلا إلى حلول وسطى، صوَّروا فيها التعاليم الدينية تصويراً يبعد كثيراً عن الصور الثابتة المأثورة، ومثل هذه(2/308)
الحلول لا تصلح للتوفيق بين جانبين متقابلين وطرفين متنافرين، ولذلك لم يجد الغزالى ومَن لَفَّ لفه صعوبة فى الرد على هؤلاء الفلاسفة الموفقين، وإبطال محاولاتهم، التى ظنوا أنهم أرضوا بها رجال الدين الواقفين عند حدوده وتعاليمه.
**
كيف كان التوفيق بين الدين والفلسفة
ثم إن الفلاسفة الموفقين بين الدين والفلسفة، كانت لهم طريقتان يسيرون عليهما فى توفيقهم.
أما الطريقة الأولى: فهى طريقة التأويل للنصوص الدينية والحقائق الشرعية، بما يتفق مع الآراء الفلسفية، ومعنى هذا إخضاع تلك النصوص والحقائق إلى هذه الآراء حتى تسايرهم وتتمشى معها.
وأما الطريقة الثانية: فهى شرح النصوص الدينية والحقائق الشرعية بالآراء والنظريات الفلسفية، ومعنى هذا أن تطغى الفلسفة على الدين وتتحكم فى نصوصه، وهذه الطريقة أخطر من الأولى، وأكثر شراً منها على الدين.
* *
الأثر الفلسفى فى تفسير القرآن الكريم
مما تقدم يتضح لك أن علماء المسلمين لم يكونوا جميعاً على مبدأ واحد بالنسبة للآراء الفلسفية، بل وُجِد منهم مَن وقف منها موقف الرفض وعدم القبول، كما وُجِد منهم مَن وقف موقف الدفاع عنها والقبول لها، وكان من هؤلاء وهؤلاء أثر ظاهر فى تفسير القرآن الكريم.
أما الفريق المعاند للفلسفة.. فإنه لما فسِّر القرآن اصطدام بهذه النظريات الفلسفية، فرأى من واجبه كمفسِّر أن يعرض لهذه النظريات ويمزجها بالتفسير. إما على طريق الدفاع عنها وبيان أنها لا تتعارض مع نصوص القرآن، وذلك بالنسبة للنظريات الصحيحة عنده والمسلَّمة لديه، وإما على طريق الرد عليها، وبيان أنها لا يمكن أن تساير نصوص القرآن، وذلك بالنسبة للنظريات التى لا يُسلِّمها ولا يقول بها.
وهو فى الحالة الأولى يشرح القرآن على ما يوافق هذه النظريات التى لا يراها متعارضة مع الدين، وفى الحالة الثانية لا يمشى على ضوء النظريات الفلسفية فى تفسيره، بل يُفسِّر النصوص على ضوء الدين والعقل وحدهما، دون أن يكون للرأى الفلسفى دخل فى شرح النص القرآنى وبيان معناه، وممن فعل هذا فى تفسيره الإمام فخر الدين الرازى، ودونك التفسير فسترى فيه ما ذكرته.
وأما الفريق المسالم للفلسفة، المصدِّق بكل ما فيها من نظريات وآراء، فإنه لما فسَّر بالقرآن سلك طريقاً كله شر وضلال، إذ أنه وضع الآراء الفلسفية أمام عينيه، ثم نظر من(2/309)
خلالها إلى القرآن. فشرح نصوصه على حسب ما تمليه عليه نزعته الفلسفية المجرَّدة من كل شىء إلا من التعصب الفلسفى..
وأخيراً وجدنا أنفسنا أمام شروح لبعض آيات القرآن، هى فى الحقيقة شروح لبعض النظريات الفلسفية، قُصِدَ بها تدعيم الفلسفة وخدمتها على حساب القرآن الكريم، الذى هو أصل الدين ومنبع تعاليمه.
* *
من تفسير الفارابى
فمن هذه الروح التى طغت عليها الفلسفة، ما تجده للفارابى المتوفى سنة 339 هـ (تسع وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة) فى كتابه "فصوص الحكم"، من تفسيره لبعض الآيات والحقائق التى جاء بها القرآن. تفسيراً فلسفياً بحتاً، فمن ذلك أنه يُفسِّر الأوَّلية والآخرية الواردة فى قوله تعالى فى الآية [3] من سورة الحديد: {هُوَ الأول والآخر} تفسيراً أفلوطونياً مبنياً على القول بِقدَم العالَم فيقول: إنه " الأول من جهة أنه منه ويصدر عنه كل موجود لغيره، وهو أول من جهة أنه بالوجود لغاية قُربه منه، أول من جهة أنَّ كان زمانى يُنسب إليه بكون، فقد وُجِدَ زمان لم يوجد معه ذلك الشىء، ووُجِدَ إذ وُجِدَ معه لا فيه. هو أول، لأنه إذا اعتبر كل شىء كان فيه أولا أثره، وثانياً قبوله لا بالزمان. هو الآخر، لأن الأشياء إذا لوحظت ونُسِبَتْ إليه أسبابها ومباديها وقف عنده المنسوب، فهو آخر لأنه الغاية الحقيقية فى كل طلب، فالغاية مثل السعادة فى قولك: لِمَ شربت الماء؟ فتقول: لتغيير المزاج، فيقال: ولِمَ أردت أن يتغير المزاج؟ فتقول: للصحة، فيقال: لِمَ طلبت الصحة؟ فتقول: للسعادة والخير، ثم لا يورد عليه سؤال يجب أن يُجاب عنه، لأن السعادة والخير تُطلب لذاته لا لغيره.. فهو المعشوق الأولى، فلذلك هو آخر كل غاية، أول فى الفكرة آخر فى الحصول، هو آخر من جهة أن كل زمان يتأخر عنه، ولا يوجد زمان متأخر عن الحق.. ".
ويشرح الظاهر والباطن الوارد فى قوله تعالى فى الآية [3] من سورة الحديد أيضاً {.. والظاهر والباطن} .. فيقول: "لا وجود أكمل من وجوده، فلا خفاء فيه من نقص الوجود، فهو فى ذاته ظاهر، ولشدة ظهوره باطن، وبه يظهر كل ظاهر كالشمس تُظهر كل خفى وتستبطن لا عن خفاء".
كما يشرح هذه الجملة مرة أخرى فيقول: "هو باطن لأنه شديد الظهور، غلب ظهوره على الإدراك فخفى، وهو ظاهر من حيث أن الآثار تُنسب إلى صفاته، وتجب عن ذاته فتصدق بها".(2/310)
ويُفسِّر الوحى بقوله: "والوحى لوح من مراد المَلَك للروح الإنسانية بلا واسطة، وذلك هو الكلام الحقيقى، فإن الكلام إنما يُراد به تصوير ما يتضمنه باطن المخاطِب فى باطن المخاطَب ليصير مثله، فإذا عجز المخاطِب عن مس باطن المخاطَب بباطنه مس الخاتم الشمع فيجعله مثل نفسه، اتخذ فيما بين الباطنين سفيراً من الظاهرين، فتكلم بالصوت أو كتب أو أشار. وإذا كان المخاطَب لا حجاب بينه وبين الروح اطلع عليه اطلاع الشمس على الماء الصافى فانتقش منه، لكن المنتقش فى الروح من شأنه أن يسيح إلى الحسن الباطن إذا كان قوياً، فينطبع فى القوة المذكورة فيُشاهَد، فيكون الموحى إليه يتصل بالمَلَك باطنه، ويتلقى وحيه الكلى بباطنه".
كما يشرح الملائكة بأنها "صورة علمية، جواهرها علوم إبداعية قائمة بذواتها، لتحظ الأمر الأعلى فينطبع فى هويتها ما تلحظ، وهى مطلقة، لكن الروح القدسية تخاطبها فى اليقظة، والروح البَشرية تعاشرها فى النوم".
* *
من تفسير إخوان الصفا
ومن الشروح الفلسفية للقرآن أيضاً ما نجده فى رسائل إخوان الصفا، الذين لا زلنا نجهل الكثير عن تاريخ نشأتهم وتكوينهم، والذين كانوا يمتون فى أغلب الظن بصلة إلى الباطنية الإسماعيلية.
فمن ذلك أنهم يشرحون الجنَّة والنار، بما يُفهم منه أن الجنَّة هى عالَم الأفلاك، وأن النار هى عالَم ما تحت فلك القمر، وهو عالَم الدنيا، ففى حديثهم عن تجرد النفس واشتياقها إلى عالَم الأفلاك، يقررون أنه لا يمكن الصعود إلى ما هناك بهذا الجسد الثقيل الكثيف، ويقولون: "إن النفس إذا فارقت هذه الجنَّة، ولم يعقها شىء من سوء أفعالها، أو فساد آرائها، وتراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها، فهى هناك فى عالَم الفلك فى أقل من طرفة عين بلا زمان، لأن كونها حيث همتها أو محبوبها كما تكون نفس العاشق حيث معشوقه، فإذا كان عشقها هو الكون مع هذا الجسد، ومعشوقها هو الملذات المحسوسة المموهة الجرمانية، وشهواتها هذه الزينات الجسمانية، فهى لا تبرح من ههنا ولا تشتاق الصعود إلى عالَم الأفلاك، ولا تُفتح لها أبواب السماء ولا تدل الجنَّة مع زمرة الملائكة، بل تبقى تحت فلك القمر، سائحة فى قعر هذه الأجسام المستحيلة المتضادة، تارة من الكون إلى الفساد، وتارة من الفساد إلى الكون: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} فى الآية [56] من سورة النساء، {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} - الآية [23] من سورة النبأ - ما دامت السموات والأرض، لا يذوقون فيها برد عالَم الأرواح الذى هو الروح والريحان، ولا يجدون لذة(2/311)
شراب الجنان المذكور فى القرآن: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} - الآية [50] من سورة الأعراف - الظالمين لأنفسهم.. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجنَّة فى السماء، والنار فى الأرض".
ومن ذلك أنهم يُفسِّرون الملائكة بأنها كواكب الأفلاك فيقولون: "إن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سمواته.. خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله فى أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله فى أرضه".
كذلك يرى إخوان الصفا "أن نفس المؤمن بعد مفارقة جسدها تصعد إلى ملكوت السماء وتدخل فى زمرة الملائكة، وتحيا بروح القدس، وتسبح فى فضاء الأفلاك. فى فسحة السموات، فرحة، مسرورة، منعمة، متلذذة، مكرَّمة، مغتبطة"، ويقولون إن ذلك هو معنى قول الله عَزَّ وجَلَّ فى الآية العاشرة من سورة فاطر: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} .
كذلك يشرح إخوان الصفا الشياطين شرحاً فلسفياً بحتاً لا يتفق مع ما جاء به الدين فيقولون: "إن الله أشار إلى النفوس ووساوسها بقوله - فى الآية [112] من سورة الأنعام: {شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} فشياطين الجن هى النفوس المفارقة الشريرة التى قد استجنت عن إدراك الحواس. وشياطين الإنس هى النفوس المتجسدة المستأنسة بالأجساد".
ثم يقولون: "أمثال هذه النفوس التى ذكرناها - يعنون النفوس الخبيثة - هى شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل".
كما يفهمون أن تسمية الله الشهداء فى قوله فى الآية [69] من سورة النساء: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولائك رَفِيقاً} بهذا الاسم إنما هو لشهادتهم تلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولى، ويعنون بها جنَّة الدنيا ونعيمها.
ثم إن إخوان الصفا يعتقدون أن القرآن ما هو إلا رموز للحقائق البعيدة عن أذهان(2/312)
العامة، ويقولون: إن النبى صلى الله عليه وسلم يُخبر خواص أُمته بما جاء به واعتقده بالتصريح فى السر والعلن، غير مرموز ولا مكتوم، ثم يشير إليها، ويرمز عنها عند العوام بالألفاظ المشتركة، والمعانى المحتملة للتأويل بما يعقلها الجمهور، وتقبلها نفوسهم وغير خاف أن هذا هو عين مذهب الباطنية القائل بأن ظواهر القرآن غير مرادة.
هذه بعض شروح الفلاسفة من المسلمين لآيات القرآن الكريم، وهى كما ترى شروح تقوم على نظريات فلسفية بحتة، لا يمكن أن يتحملها النص القرآنى بحال من الأحوال.
هذا.. ولم نسمع أن فيلسوفاً من هؤلاء الفلاسفة الذين تحكَّمت الفلسفة فى عقولهم، ألَّف لنا تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم، وكل ما وجدناه لهم فى ذلك لا يعدو بعض أفهام قرآنية متفرَّقة فى كتبهم التى ألَّفوها فى الفلسفة. وأكثر مَن وجدنا له أثراً فى التفسير من هؤلاء الفلاسفة هو الرئيس أبو علىّ ابن سينا، إذ قد عُثِر له على تفسير قوله تعالى فى الآية [35] من سورة النور: {الله نُورُ السماوات} ... الآية وعلى تفسير سورة الإخلاص، والمعوذتين وبعض آيات أخرى، ولهذا سأعتبر ابن سينا الشخصية الأولى التى كان لها أكبر أثر فى التفسير الفلسفى، فأذكر نُبْذة عن حياته، ثم أعرض لمسلكه فى التفسير فأقول:
ترجمة ابن سينا
هو الرئيس أبو علىّ الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علىّ بن سينا. كان أبوه من أهل بلخ، ثم انتقل إلى بخارى، وفى قرية من قراها وُلِد له أبو علىّ ابن سينا سنة 370 هـ (سبعين وثلاثمائة من الهجرة) . ثم انتقل مع أهله إلى بخارى، ثم طوّف أبو علىّ بعد ذلك فى البلاد، واشتغل بالعلوم، وحصَّل كثيراً من الفنون. حفظ القرآن وله من العمر عشر سنين، وأتقن الأدب، وحفظ أشياء من أُصول الدين، والحساب والجبر، ثم تعلَّم المنطق على أبى عبد الله الناتلى، وفاقه، ثم اشتغل بالعلوم الطبيعية والإلهية، ثم رغب فى علم الطب فقرأ الكتب المؤلَّفة فيه، حتى أصبح بارعاً لا يعدله أحد فيه. كل هذا ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، ثم لم تأت عليه سن الثامنة عشرة إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم التى عاناها، مما يدل على ذكائه الخارق وذهنه الثاقب. أما تصانيفه فكثيرة، تقارب المائة مصنَّف، ومن أهمها: كتاب الشفاء فى الحكمة،(2/313)
والنجاة، والإشارات، والقانون، وغير ذلك من كتبه القيمة، التى انتفع الناس بها كثيراً.
ولقد جمع أبو علىّ ابن سينا إلى شهرته العلمية شهرة أخرى سياسية، إذ أنه كان يتقلد مع والده الأعمال للسلطان، ولما اضطربت أُمور الدولة أُخرج أبو علىّ من بخارى، وطوَّف ببلاد كثيرة حتى وصل إلى همدان، وهناك تقلَّد الوزارة لشمس الدولة. ثم ثار الجند عليه، وأغاروا على داره، ونهبوها، وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أُطلق فتوارى، ثم أعاده شمس الدولة وزيراً بعد ذلك، ولما مات شمس الدولة توجَّه إلى أصبهان، ثم أدركه مرض شديد مات على أثره، وكانت وفاته بهمدان سنة 428 هـ (ثمان وعشرين وأربعمائة من الهجرة) ، ودفن بها، فرحمه الله.
* *
مسلك ابن سينا فى التفسير
ابن سينا كمسلم يدين بالقرآن، وفيلسوف محب للفلسفة حريص على سلامة ما فيها من آراء، كان حريصاً كل الحرص على أن يوفق بين الدين والفلسفة، حتى يُرضى ناحيته الدينية والفلسفية. وكان طبيعياً - والقرآن هو الدعامة الأولى من دعائم الإسلام - أن يوفق ابن سينا بين نصوص القرآن والنظريات الفلسفية التى تبدو معارضة لها، وفعلاً قام بهذه العملية التى كانت - فيما أعتقد - شراً على الدين، وإبطالاً لحقائق القرآن الصريحة الثابتة.
نظر ابن سينا إلى القرآن، ونظر إلى الفلسفة، فحكَّم النظريات الفلسفية فى النصوص القرآنية، فشرحها شرحاً فلسفياً بحتاً، وكانت طريقته التى يسلكها فى شرحه غالباً هى شرح الحقائق الدينية بالآراء الفلسفية، وذلك لأنه كان يعتقد أن القرآن ما هو إلا رموز رمز بها النبى صلى الله عليه وسلم لحقائق تدق على أفهام العامة، عجزت أفهامهم عن إدراكها، فرمز إليها النبى بما يمكنهم أن يدركوه، وأخفى عنهم ما يعجز عن إدراكه عامة الناس إلا الخواص منهم، وهو يقول: "إن المشترط على النبى أن يكون كلامه رمزاً، وألفاظه إيماءً، وكما يذكر أفلاطون فى كتاب النواميس: إنَّ مَن لم يقف على معانى رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهى، وكذلك أجِلَّة فلاسفة يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون فى كتبهم الرموز والإشارات، التى حشوا فيها أسرارهم، كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون.. وما كان يمكن النبى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يوقف على العلم أعرابياً جافياً، ولا سيما البَشر كلهم، إذ كان مبعوثاً إليهم كلهم".
وعلى هذا الأساس نظر ابن سينا إلى نصوص القرآن كرموز لا يعرف حقيقتها إلا(2/314)
الخواص أمثاله، ففسَّرها تفسيراً حكَّم فيه ما لديه من نظريات فلسفية، فكان فى عمله هذا فاشلاً، وبعيداً عن حقيقة الدين، وروح القرآن الكريم.
وإليك بعض ما قاله ابن سينا فى بعض نصوص القرآن الكريم، لتقف على مقدار تهافته، وبُعْده عن حقائق القرآن الثابتة:
عرض ابن سينا لشرح قوله تعالى فى الآية [17] من سورة الحاقة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .. ففسَّر العرش بأنه الفلك التاسع الذى هو فلك الأفلاك، وفسَّر الملائكة الثمانية التى تحمل العرش بأنها الأفلاك الثمانية التى تحت الفلك التاسع. وإليك عبارته بنصها:
قال: "وأما ما بلَّغ النبى صلى الله عليه وسلم عن ربه عَزَّ وجَلَّ من قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} "فنقول: إن الكلام المستفيض فى استواء الله تعالى على العرش من أوضاعه: أن العرش نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية، وتدَّعى المشبهة من المتشرعين أن الله تعالى على العرش لا على سبيل حلول. هذا، وأما فى كلام الفلسفى فإنهم جعلوا نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع الذى هو فلك الأفلاك، ويذكرون أن الله تعالى هناك، وعليه لا على حلول، كما بيَّن أرسطو فى آخر كتاب سماع الكيان. والحكماء المتشرعون أجمعوا على أن المعنَّى بالعرش هو هذا الجُرْم. هذا.. وقد قالوا: إن الفلك يتحرك بالنفس، لأن الحركات إما ذاتية وإما غير ذاتية. والذاتية إما طبيعية، وإما نفسية، ثم بيَّنوا أن نفسها هو الناطق الكامل الفعَّال، ثم بيَّنوا أن الأفلاك لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر، وقد ذاع فى الشرعيان أن الملائكة أحياء قطعاً، لا يموتون كالإنسان الذى يموت، فإذا قيل إن الأفلاك أحياء ناطقة لا تموت، والحى الناطق الغير الميت يسمى مَلَكاً، فالأفلاك تُسمى ملائكة. فإذا تقدم هذه المقدمات وضح أن العرش محمول على ثمانية، ووضح تفسير المفسِّرين أنها ثمانية أفلاك. والحمل يقال على وجهين: حمل بَشرى، وهو أولى باسم الحمل كالحجر المحمول على ظهر الإنسان، وحمل طبيعى كقولنا: الماء محمول على الأرض، والنار على الهواء. والمعنى هنا الحمل الطبيعى لا الأول. وقوله: يومئذ، والساعة، والقيامة، فالمراد بها ما ذكره الشارع: أن مَن مات قامت قيامته. ولما كان تحقيق النفس الإنسانية عند المفارقة آكد جعل الوعد والوعيد، وأشباههما إلى ذلك الوقت".
كذلك نجد ابن سينا يُفسِّر الجنَّة والنار والصراط تفسيراً فلسفياً بعيداً عن المأثور الثابت الصحيح، فيقسم العوالم إلى ثلاثة أقسام: عالَم حِسِّى، وعالَم خيالى وهمى، وعالَم عقلى، والعالَم العقلى عنده هو الجنَّة، والعالَم الخيالى هو النار، والعالَم الحِسِّى(2/315)
هو عالَم القبور. أما الصراط فيقول فى شرحه: "اعلم أن العقل يحتاج فى تصور أكثر الكليات إلى استقراء الجزئيات، فلا محالة أنها تحتاج إلى الحس الظاهر، فتعلم أنه يأخذ من الحس الظاهر إلى الخيال إلى الوهم، وهذا هو من الجحيم طريق وصراط دقيق صعب حتى يبلغ ذاته العقل، فهو إذن يرى كيف الحد صراطاً وطريقاً فى عالَم الجحيم، فإن جاوزه بلغ عالَم العقل، فإن وقف فيه وتخيل الوهم عقلاً، وما يشير إليه حقاً، فقد وقف على الجحيم، وسكن فى جهنم، وهلك وخسر خسراناً مبيناً".
كذلك يُفسِّر ابن سينا قوله تعالى فى الآية [30] من سورة المدثر: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} تفسيراً فلسفياً بعيداً عن هدف القرآن، فيقرر أن النفس الحيوانية هى الباقية الدائمة فى جهنم، وهى منقسمة إلى قسمين: إدراكية، وعملية. والعملية: شوقية، وغضبية، والعلمية: هى تصورات الخيال المحسوسات بالحواس الظاهرة، وتلك المحسوسات ستة عشر، والقوة الوهمية الحاكمة على تلك الصور حكماً غير واجب واحدة - ذاتيان، وستة عشر، وواحدة تسعة عشر.. ثم يقول: "وأما قوله: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} [المدثر: 31] ؛ فمن العادة فى الشريعة تسمية القوى اللطيفة الغير المحسوسة ملائكة".
كما يُفسِّر أبواب الجنَّة الثمانية، وأبواب النار السبعة تفسيراً فلسفياً صرفاً، فيقول: "وأما ما بلَّغ النبى محمد عن ربه عَزَّ وجَلَّ أن للنار سبعة أبواب، وللجنة ثمانية أبواب، فإذ قد عُلِم أن الأشياء المدركَة إما مُدركة للجزئيات كالحواس الظاهرة وهى خمسة، وإدراكها الصور مع المواد، أو مُدركَة متصورة بغير مواد كخزانة الحواس المسماة بالخيال، وقوة حاكمة عليها حكماً غير واجب وهو الوهم، وقوة حاكمة واجباً وهو العقل، فذلك ثمانية. فإذا اجتمعت الثمانية جملة أدت إلى السعادة السرمدية، والدخول فى الجنَّة وإن حصل سبعة منها لا تتسم إلا بالثامن أدت إلى الشقاوة السرمدية. والمستعمل فى اللُّغات أن الشىء المؤدى إلى الشىء يسمى باباً، فالسبعة المؤدية إلى النار سميت أبواباً لها، والثمانية المؤدية إلى الجنة سميت أبواباً لها".
ويُفسِّر ابن سينا قوله تعالى فى الآية [35] من سورة النور: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ(2/316)
تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} ..
فيقول: "النور اسم مشترك لمعنيين: ذاتى ومستعار، والذاتى هو كمال المشف من حيث هو مشف كما ذكرها أرسطاطاليس، والمستعار على وجهين: إما الخير، وإما السبب الموصل إلى الخير، والمعنّى ههنا هو القسم المستعار بكلى فى قسميه ... أعنى أن الله تعالى خير بذاته وهو سبب لكل خير، كذلك الحكم فى الذاتى وغير الذاتى. وقوله: {السماوات والأرض} عبارة عن الكل. وقوله: {كَمِشْكَاةٍ} فهو عبارة عن العقل الهيولانى والنفس الناطقة، لأن المشكاة متقاربة الجدران جيدة التهئ للاستضاءة، لأن كل ما يقارب الجدران كان الانعكاس فيه أشد، والضوء أكثر. وكما أن العقل بالفعل مشبه بالنور، كذلك قابله مشبه يقابله وهو المشف، وأفضل المشفات الهواء، وأفضل الأهوية هو المشكاة، فالمرموز بالمشكاة هو العقل الهيولانى الذى نسبته إلى العقل المستفاد كنسبة المشكاة إلى النور، والمصباح هو عبارة عن العقل المستفاد بالفعل، لأن النور كما هو كمال للمشف كما حدّ به الفلاسفة ومُخرِج له من القوة إلى الفعل، ونسبة العقل المستفاد إلى العقل الهيولانى كنسبة المصباح إلى المشكاة. وقوله: {فِي زُجَاجَةٍ} لما كان بين العقل الهيولانى والمستفاد مرتبة أخرى وموضع آخر نسبته كنسبة الذى بين المشف والمصباح، فهو الذى لا يصل فى العيان المصباح إلى المشف إلا بتوسط وهو المسرجة، ويخرج من المسارج الزجاجة لأنها من المشفات القوابل للضوء. ثم قال بعد ذلك: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ليجعلها الزجاج الصافى المشف، لا الزجاج الذى لا يستشف، فليس شىء من المتلونات يستشف، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} يعنى به القوة الفكرية التى هى موضوعة ومادة للأفعال العقلية، كما أن الدهن موضوع ومادة للسراج.. " وهكذا استمر ابن سينا فى شرح هذه الآية فارجع إليه إن شئت، وسترى أن شرحه هذا مزيج من فكرتى أفلاطون وأرسطو حيث جمع فيه بين ما يُعرف لأفلاطون من التعبير بـ "الخير" و "الكل"، وما يُعرف لأرسطو من أقسام العقل.
ويقول فى تفسير قوله تعالى فى الآية [4] من سورة الفلق: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} : "قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} إشارة إلى القوة النباتية: فإن النباتية موكلة بتدبير البدن ونشوه ونموه، والبدن عقد حصلت من عقد بين العناصر الأربعة المختلفة المتنازعة إلى الانفكاك، لكنها من شدة انفعال بعضها عن بعض صارت بدناً حيوانياً. والنفاثات فيها هى القوى النباتية، فإن النفث سبب لأن يصير(2/317)
جوهر الشىء زائداً فى المقدار من جميع جهاته أى الطول والعرض والعمق. وهذه القوى هى التى تؤثر فى زيادة الجسم المغتذى والنامى من جميع الجهات المذكورة" ... إلخ.
ويُفسِّر قوله تعالى فى الآية [5] من سورة الفلق أيضاً: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .. فيقول: "عنى به النزاع الحاصل بين البدن وقواه كلها، وبين النفس".
وفى سورة الناس يُفسِّر قوله تعالى فى الآية [4] : {مِن شَرِّ الوسواس الخناس} .. فيقول: "هذه القوة التى توقع الوسوسة هى القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية، ثم إن حركتها تكون بالعكس، فإن النفس وجهها إلى المبادىء المفارقة، فالقوة المتخيلة إذا جذبتها إلى الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس - أى تتحرك - بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس، فلهذا سمى خَنَّاساً".
ويُفسِّر قوله تعالى فى الآية [6] من سورة الناس أيضاً: {مِنَ الجنة والناس} .. فيقول: "الجن هو الاستتار، والإنس هو الاستئناس، فالأُمور المستترة هى الحواس الباطنة، والمستأنسة هى الحواس الظاهرة".
* *
رأينا فى تفسير الفلاسفة
هذا هو بعض ما قاله ابن سينا فى شرحه لبعض نصوص القرآن الكريم، وهو كما ترى عَيْن ما يذهب إليه الباطنية فى تأويلاتهم للآيات القرآنية، ولا أحسب أن مسلماً مهما كان محباً للفلسفة والفلاسفة يقر ابن سينا وأمثاله على دعوى أن الحقائق القرآنية رموز وإشارات لحقائق أُخرى، دقَّت عن أفهام العامة، وخفيت على عقولهم القاصرة، فرمز إليها النبى بآيات القرآن الكريم.
هذا.. ولعل القارىء الكريم يلحظ معى أن الإمامية الإثنا عشرية والباطنية الإسماعيلية، ومتطرفى الصوفية، ورجال الفلسفة الإسلامية، كلهم يسيرون على نمط واحد هدَّام لمقاصد القرآن ومراميه، ذلك هو ما يُعبِّرون عنه بالرمز، أو الإشارة، أو الباطن. ويظهر لنا أنها عدوى سرت إلى المسلمين من قدماء الفلاسفة، ثم تلقتها هذه الفِرَق بصدر رحب، وتقبلتها بقبول حسن، لأنهم رأوا فيها عوناً كبيراً على ترويج بدعهم، ونشر ضلالاتهم بين المسلمين!!
* * *(2/318)
تفسير الفقهاء
كلمة إجمالية عن تطور التفسير الفقهى
1- التفسير الفقهى من عهد النبوة إلى مبدأ قيام المذاهب الفقهية:
نزل القرآن الكريم مشتملاً على آيات تتضمن الأحكام الفقهية التى تتعلق بمصالح العباد فى دنياهم وأُخراهم، وكان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون ما تحمله هذه الآيات من الأحكام الفقهية بمقتضى سليقتهم العربية، وما أشكل عليهم من ذلك رجعوا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّت للصحابة من بعده حوادث تتطلب من المسلمين أن يحكموا عليها حكماً شرعياً صحيحاً، فكان أول شىء يفزعون إليه لاستنباط هذه الأحكام الشرعية هو القرآن الكريم، ينظرون فى آياته، ويعرضونها على عقولهم وقلوبهم، فإن أمكن لهم أن يُنزلوها على الحوادث التى جدَّت فبها ونعمت، وإلا لجأوا إلى سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا فيها حكماً اجتهدوا وأعملوا رأيهم على ضوء القواعد الكلية للكتاب والسُّنَّة، ثم خرجوا بحكم فيما يحتاجون إلى الحكم عليه.
غير أن الصحابة فى نظرهم لآيات الأحكام كانوا يتفقون أحياناً على الحكم المستنبَط، وأحياناً يختلفون فى فهم الآية، فتختلف أحكامهم فى المسألة التى يبحثون عن حكمها، كالخلاف الذى وقع بين عمر بن الخطاب وعلىّ ابن أبى طالب فى عِدَّة الحامل المتوفى عنها زوجها، فعمر رضى الله عنه حكم بأن عِدَّتها وضع الحمل، وعلىّ حكم بأن عِدَّتها أبعد الأجلين: وضع الحمل، ومضى أربعة أشهر وعشرة أيام. وسبب هذا الخلاف تعارض نصَّين عامين فى القرآن، فإن الله سبحانه جعل عِدَّة المطلَّقة الحامل وضع الحمل، وجعل عِدَّة الوفاة أربعة أشهر وعشراً من غير تفصيل. فذهب علىّ رضى الله عنه إلى العمل بالآيتين معاً، وأن كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى، وذهب عمر رضى الله عنه إلى أن آية الطلاق مخصصة لآية الوفاة، وقد تأيّد رأى عمر رضى الله عنه بما ورد أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية مات عنها زوجها، فوضعت الحمل بعد خمسة وعشرين يوماً من موته، فأحلَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأزواج.
وكالخلاف الذى وقع بين ابن عباس وزيد بن ثابت فى تقسيم ميراث مَن مات عن زوج وأبوين، فابن عباس رضى الله عنه أفتى بأن للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأب(2/319)
الباقى تعصيباً، وتمسكاً بظاهر قوله تعالى فى الآية [11] من سورة النساء: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث} ، وزيد بن ثابت رضى الله عنه ومعه بقية الصحابة أفتوا بأن للزوجة ثلث الباقى بعد فرض الزوج، نظراً لأن الأب والأُم ذكر وأُنثى ورثا بجهة واحدة، فللذكر مثل حظ الأُنثيين.
مثل هذا الخلاف كان يقع مع الصحابة رضى الله عنهم حسبما يفهمه كل منهم فى النص القرآنى، وما يحيط به من أدلة خارجية، ومع هذا الاختلاف فقد كان كل واحد من المختلفين يطلب الحق وحده، فإن ظهر له أنه من جانب مَن خالفه رجع إلى رأيه وأخذ به.
* *
التفسير الفقهى فى مبدأ قيام المذاهب الفقهية
ظل الأمر على هذا إلى عهد ظهور أئمة المذاهب - الأربعة وغيرها - وفيه جدَّت حوادث كثيرة للمسلمين لم يسبق لمن تقدمهم حكم عليها، لأنها لم تكن على عهدهم، فأخذ كل إمام ينظر إلى هذه الحوادث تحت ضوء القرآن والسُّنَّة، وغيرهما من مصادر التشريع، ثم يحكم عليها بالحكم الذى ينقدح فى ذهنه، ويعتقد أنه هو الحق الذى يقوم على الأدلة والبراهين، وكانوا يتفقون فيما يحكمون به أحياناً، وأحياناً يختلفون حسبما يتجه لكل منهم من الأدلة. غير أنهم مع كثرة اختلافهم فى الأحكام لم تظهر منهم بادرة للتعصب للمذهب، بل كانوا جميعاً ينشدون الحق ويطلبون الحكم الصحيح، وليس بعزيز على الواحد منهم أن يرجع إلى رأى مخالفه إن ظهر له أن الحق فى جانبه، فهذا هو الشافعى رضى الله عنه كان يقول. إذا صح الحديث فهو رأيى، وكان يقول: الناس عيال فى الفقه على أبى حنيفة، وكان يقول لأحمد بن حنبل وهو تلميذة فى الفقه: إذا صح الحديث عندك فأعلمنى به، وكان يقول: إذا ذُكِر الحديث فمالك النجم الثاقب ... إلى غير ذلك مما يدل على انتشار روح التقدير والحب بين أُولئك الفقهاء، وهذه هى سُنَّة أسلافهم من الصحابة والتابعين.
* *
التفسير الفقهى بعد ظهور التقليد والتعصب المذهبى
ثم خَلَفَ من بعد هؤلاء الأئمة خَلْفٌ سرت فيهم روح التقليد لهؤلاء الأئمة.. التقليد الذى يقوم على التعصب المذهبى، ولا يعرف التسامح، ولا يطلب الحق لذاته ولا ينشده تحت ضوء البحث الحر، والنقد البرئ.
ولقد بلغ الأمر ببعض هؤلاء المقلِّدة إلى أن نظروا إلى أقوال أئمتهم كما ينظرون إلى نص الشارع، فوقفوا جهدهم العلمى على نُصْرة مذهب إمامهم وترويجه، وبذلوا كل(2/320)
ما فى وسعهم لإبطال مذهب المخالف وتفنيده، وكان من أثر ذلك أن نظر هذا البعض إلى آيات الأحكام فأوَّلها حسبما يشهد لمذهبه إن أمكنه التأويل، وإلا فلا أقل من أن يؤوّلها تأويلاً يجعلها به لا تصلح أن تكون فى جانب مخالفيه، وأحياناً يلجأ إلى القول بالنسخ أو التخصيص، وذلك إن سُدَّت عليه كل مسالك التأويل، فهذا عبد الله الكرخى المتوفى سنة 340 هـ، وهو أحد المتعصبين لمذهب أبى حنيفة يقول: "كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوَل أو منسوخ".
ومع هذا الغلو فى التعصب المذهبى، فإننا لم نعدم من المقلِّدين مَن وقف موقف الإنصاف من الأئمة، فنظر فى أقوالهم نظرة الباحث الحر الذى يساير الدليل حتى يصل به إلى الحق أيا كان قائله.
وكان لهؤلاء وهؤلاء - أعنى المعصبين وغير المتعصبين - أثر ظاهر فى التفسير الفقهى، فالمتعصبون ينظرون إلى الآيات من خلال مذهبهم فيُنزلونها عليه، وغير المتعصبين ينظرون إليها نظرة خالية من الهوى المذهبى، فيُنزلونها على حسب ما يظهر لهم، وينقدح فى ذهنهم.
* * *
تنوع التفسير الفقهى تبعاً لتنوع الفرق الإسلامية
وإذا نحن تتبعنا التفسير الفقهى فى جميع مراحله، وجدناه يسير بعيداً عن الأهواء والأغراض من مبدأ نزول القرآن إلى وقت قيام المذاهب المختلفة، ثم بعد ذلك يسير تبعاً للمذاهب، ويتنوع بتنوعها، فلأهل السُّنَّة تفسير فقهى متنوع بدأ نظيفاً من التعصب، ثم لم يلبث أن تلوث به كما أسلفنا، وللظاهرية تفسير فقهى يقوم على الوقوف عند ظواهر القرآن دون أن يحيد عنها، وللخوارج تفسير فقهى يخصهم، وللشيعة تفسير فقهى يخالفون به مَن عداهم.. وكل فريق من هؤلاء يجتهد فى تأويل النصوص القرآنية حتى تشهد له أو لا تعارضه على الأقل.. مما أدى ببعضهم إلى التعسف فى التأويل، والخروج بالألفاظ القرآنية عن معانيها ومدلولاتها.
* *
الإنتاج التفسيرى للفقهاء
هذا وإنَّا إذا ذهبنا لنبحث عن مؤلفات فى التفسير الفقهى، فإنَّا لا نكاد نعثر على شىء من ذلك قبل عصر التدوين. اللَّهم إلا متفرقات تؤثر عن فقهاء الصحابة والتابعين، يرويها عنهم أصحاب الكتب المختلفة، أما بعد عصر التدوين فقد ألَّف كثير من العلماء على اختلاف مذاهبهم فى التفسير الفقهى ...
* فمن الحنفية:
ألَّف أبو بكر الرازى المعروف بالجصَّاص والمتوفى سنة 370 هـ (سبعين وثلاثمائة من الهجرة) : "أحكام القرآن"، وهو مطبوع فى ثلاث مجلدات كبار، ومتداول بين أهل العلم.
وألَّف أحمد بن سعيد المدعو بـ "ملاجيون" من علماء القرن الحادى عشر الهجرى: "التفسيرات الأحمدية فى بيان الآيات الشرعية"، وهو مطبوع بالهند فى مجلد كبير، ومنه نسخة فى مكتبة الأزهر، وأُخرى فى مكتبة الجامعة المصرية "جامعة القاهرة".
* ومن الشافعية:
ألَّف أبو الحسن الطبرى المعروف بالكيا الهراسى المتوفى سنة 504 هـ. (أربع وخمسمائة من الهجرى) : كتابه "أحكام القرآن"، وهو مخطوط فى مجلد كبير، وموجود فى دار الكتب المصرية، وفى المكتبة الأزهرية.
وألَّف شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن محمد الحلبى، المعروف بالسمين، والمتوفى سنة 756 هـ (ست وخمسين وسبعمائة من الهجرى) : كتابه "القول الوجيز فى أحكام الكتاب العزيز" ويوجد منه فى مكتبة الأزهر الجزء الأول، وهو ينتهى عند قوله تعالى فى الآية [194] من سورة البقرة: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} ... الآية، وهو مخطوط بخط المؤلف.
وألَّف علىّ بن عبد الله محمود الشنفكى من علماء القرن التاسع الهجرى: كتابه "أحكام الكتاب المبين"، وتوجد منه نسخة فى المكتبة الأزهرية، مخطوطة بخط المؤلف، فى مجلد متوسط الحجم.
وألَّف جلال الدين السيوطى، المتوفى سنة 911 هـ (إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرى) : كتابه "الإكليل فى استنباط التنزيل"، وهو موجود فى المكتبة الأزهرية، ومخطوط فى مجلد متوسط الحجم.
* ومن المالكية:
ألَّف أبو بكر بن العربى المتوفى سنة 543 هـ (ثلاث وأربعين وخمسمائة من الهجرى) : كتابه "أحكام القرآن"، وهو مطبوع فى مجلدين كبيرين، ومتداول بين أهل العلم.(2/321)
وألَّف أبو عبد الله القرطبى المتوفى سنة 671 هـ (إحدى وسبعين وستمائة من الهجرة) : كتابه "الجامع لأحكام القرآن" وهو مخطوط بدار الكتب المصرية، وقد قامت بطبعه دار الكتب فتم منه إلى الآن أربعة عشر جزءاً ينتهى الجزء الرابع عشر آخر سورة "فاطر" وما بقى منه على أُهبة الطبع.(2/322)
* ومن الزيدية:
ألَّف حسين بن أحمد النجرى، من أهل القرن الثامن الهجرى: كتابه "شرح الخمسمائة آية" ولم يصل إلى أيدينا هذا التفسير.
وألَّف شمس الدين بن يوسف بن أحمد من علماء القرن التاسع الهجرى: "الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة" ومنه نسخة فى دار الكتب المصرية، مخطوطة فى ثلاث مجلدات، ويوجد بالمكتبة الأزهرية الجزء الثانى منه فى مجلد واحد مخطوط.
وألَّف محمد بن الحسين بن القاسم من علماء القرن الحادى عشر الهجرى: كتابه "منتهى المرام، شرح آيات الأحكام" ولم نقف على هذا التفسير.
* ومن الإمامية الإثنا عشرية:
ألَّف مقداد السيورى، من أهل القرن الثامن الهجرى: كتابه "كنز الفرقان فى فقه القرآن" ومنه نسخة بدار الكتب المصرية، مطبوعة فى مجلد صغير على هامش تفسير الحسن العسكرى.
وهناك كتب أُخرى فى تفسير آيات الأحكام ذكرها صاحب كشف الظنون، لا نطيل بذكرها، كما لا نطيل بالكلام عن كل ما وصل إلينا من الكتب، ويكفى أن نعرض لأهمها وهو ما يأتى:
1- أحكام القرآن - للجصَّاص (الحنفى)
* ترجمة المؤلف:
هو أبو بكر، أحمد بن علىّ الرازى، المشهور بالجصَّاص. وُلِد رحمه الله تعالى ببغداد سنة 305 هـ (خمس وثلاثمائة من الهجرة) .
كان إمام الحنفية فى وقته، وإليه انتهت رياسة الأصحاب. أخذ عن أبى سهل الزجَّاج، وعن أبى الحسن الكرخى، وعن غيرهما من فقهاء عصره. واستقر التدريس له ببغداد، وانتهت الرحلة إليه، وكان على طريق الكرخى فى الزهد، وبه انتفع، وعليه تخرَّج، وبلغ من زهده أنه خُوطِبَ فى أن يلى القضاء فامتنع، وأُعيد عليه الخطاب فلم يقبل. أما مصنفاته فكثيرة. أهمها كتاب "أحكام القرآن" وهو ما نحن بصدده الآن، وشرح مختصر الكرخى، وشرح مختصر الطحاوى، وشرح الجامع الكبير للإمام محمد ابن الحسن الشيبانى، وكتاب أُصول الفقه، وآخر فى أدب القضاء، وعلى الجملة فقد كان الجصَّاص من خيرة العلماء الأعلام، وإليه يرجع كثير من الفضل فى تدعيم مذهب الحنفية على البراهين والأدلة.(2/323)
هذا وقد ذكره المنصور بالله فى طبقات المعتزلة، وسيأتيك فى تفسيره ما يؤيد هذا القول.
أما وفاته فكانت سنة 370 هـ (سبعين وثلاثمائة من الهجرى) ، فرحمه الله ورضى عنه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يُعَد هذا التفسير من أهم كتب التفسير الفقهى خصوصاً عند الحنفية، لأنه يقوم على تركيز مذهبهم والترويج له، والدفاع عنه. وهو يعرض لسور القرآن كلها ولكنه لا يتكلم إلا عن الآيات التى لها تعلق بالأحكام فقط، وهو - وإن كان يسير على ترتيب سور القرآن - مبوب كتبويب الفقه، وكل باب من أبوابه معنون بعنوان تندرج فيه المسائل التى يتعرَّض لها المؤلف فى هذا الباب.
* *
* استطراده لمسائل فقهية بعيدة عن فقه القرآن:
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - لا يقتصر فى تفسيره على ذكر الأحكام التى يمكن أن تُستنبط من الآيات - بل نراه يستطرد إلى كثير من مسائل الفقه والخلافيات بين الأئمة، مع ذكره للأدلة بتوسع كبير، مما جعل كتابه أشبه ما يكون بكتب الفقه المقارن، وكثيراً ما يكون هذا الاستطراد إلى مسائل فقهية لا صلة لها بالآية إلا عن بُعْد.
فمثلاً نجده عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [25] من سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} يستطرد لمذهب الحنفية فى أن من قال لعبيده: مَن بشَّرنى بولادة فلانة فهو حر، فبشَّره جماعة واحداً بعد واحد أن الأول يُعتق دون غيره.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [26] من سورة يوسف: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} ... الآية، نجده يستطرد لخلاف الفقهاء فى مُدَّعى الُّقُطة إذا ذكر علامتها، وخلافهم فى اللقيط إذا ادَّعاه رجلان ووصف أحدهما علامة فى جسده، وخلافهم فى متاع البيت إذا ادَّعاه الزوج لنفسه وادَّعته الزوجة لنفسها، وخلافهم فى مصراع الباب إذا ادَّعاه رب الدار والمستأجر.. وغير ذلك من مسائل الخلاف التى لا تتصل بالآية إلا عن بُعْدٍ.
* *
* تعصبه لمذهب الحنفية:
ثم إن المؤلف - رحمه الله وعفا عنه- متعصب لمذهب الحنفية إلى حد كبير، مما جعله فى هذا الكتاب يتعسف فى تأويل بعض الآيات حتى يجعلها فى جانبه،(2/324)
أو يجعلها غير صالحة للاستشهاد بها من جانب مخالفيه، والذى يقرأ الكتاب يلمس روح التعصب فيه فى كثير من المواقف.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [187] من سورة البقرة: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} .. نجده يحاول بتعسف ظاهر أن يجعل الآية دالة على أن من دخل فى صوم التطوع لزم إتمامه.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [232] من سورة البقرة: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ... الآية، نجده يحاول أن يستدل بالآية من عدة وجوه على أن للمرأة أن تعقد على نفسها بغير الولى وبدون إذنه.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [2] من سورة النساء: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ... الآية، وقوله فى الآية [6] منها: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ... الآية، نجده يحاول أن يأخذ من مجموع الآيتين دليلاً لمذهب أبى حنيفة القائل بوجوب دفع المال لليتيم إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، وإن لم يؤنس منه الرشد.
* *
* حملة الجصَّاص على مخالفيه:
ثم إن الجصَّاص مع تعصبه لمذهبه وتعسفه فى التأويل، ليس عف اللسان مع الإمام الشافعى رضى الله عنه ولا مع غيره من الأئمة، وكثيراً ما نراه يرمى الشافعى وغيره من مخالفى الحنفية بعبارات شديدة، لا تليق من مثل الجصَّاص فى مثل الشافعى وغيره من الأئمة رحمهم الله.
فمثلاً عندما عرض لآية المحرَّمات من النساء فى سورة النساء نجده يعرض للخلاف الذى بين الحنفية والشافعية فى حكم من زنى بامرأة، هل يحل له التزوج ببنتها أو لا؟ ثم ذكر مناظرة طويلة جرت بين الشافعى وغيره فى هذه المسألة، ويناقش الشافعى فيما يرد به على مناظره، ويرميه بعبارات شنيعة لاذعة كقوله: "فقد بان أن ما قاله الشافعى وما سلَّمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته فى حكم ما سُئِل عنه".
وقوله: "ما ظننت أن أحداً ممن ينتدب لمناظرة خصم يبلغ به الإفلاس من الحجاج أن يلجأ إلى مثل هذا، مع سخافة عقل السائل وغباوته".(2/325)
وقوله حين لم يرقه أحد أجوبة الشافعى على سؤال مناظره: "ولو كُلِّم بذلك المبتدئون من أحداث أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذا الحجاج، وضعف السائل والمسئول فيه".
ومثلاً عند ذكره لمذهب الشافعى فى الترتيب بين أعضاء الوضوء نجده يقول: "وهذا القول مما خرج به الشافعى عن إجماع السَلَف والفقهاء" كأن الشافعى فى نظر الجصَّاص ممن لا يُعتد برأيه، حتى ينعقد الإجماع بدونه.
* * *
* تأثر الجصَّاص بمذهب المعتزلة:
كذلك نجد الجصَّاص يميل إلى عقيدة المعتزلة، ويتأثر بها فى تفسيره، فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [102] من سورة البقرة: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ... الآية، نجده يذكر حقيقة السحر ويقول إنه: "متى أُطلق فهو اسم لكل أمر هو باطل لا حقيقة له ولا ثبات"، كما ينكر حديث البخارى فى سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقر أنه من وضع الملاحدة.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [103] من سورة الأنعام: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ... الآية، نجده يقول: "معناه لا تراه الأبصار. وهذا تمدح بنفى رؤية الأبصار كقوله تعالى - فى الآية [255] من سورة البقرة: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} - وما تمدّح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال.. فلما تمدَّح بنفى رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال، إذ كان فيه إثبات صفة نقص، ولا يجوز أن يكون مخصوصاً بقوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ؛ لأن النظر محتمل لمعان: منها انتظار الثواب، كما روى عن جماعة من السَلَف، فلما كان ذلك محتملاً للتأويل لم يجز الاعتراض به على ما لا يساغ للتأويل فيه. والأخبار المروية فى الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحَّت، وهو علم الضرورة الذى لا تشوبه شبهة، ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة فى اللُّغة".
* *
* حملة الجصَّاص على معاوية رضى الله عنه:
كما أننا نلاحظ على الجصَّاص أنه تبدو منه البغضاء لمعاوية رضى الله عنه، ويتأثر بذلك فى تفسيره. فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات [39 - 41] من سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} ... إلى قوله: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} .. يقول: ".. وهذه صفة الخلفاء الراشدين، الذين مكنهم الله فى الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم. وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم، لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مُكِّنوا فى الأرض قاموا بفروض الله عليهم، وقد مُكِّنوا فى الأرض فوجب أن يكونوا أئمة قائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه، ولا يدخل معاوية فى هؤلاء، لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أُخرجوا(2/326)
من ديارهم، وليس معاوية من المهاجرين، بل هو من الطُلَقاء".
ومثلاً فى سورة النور عند قوله تعالى فى الآية [55] : {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} ... الآية، يقول: "وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعةَ أيضاً، لأن الله استخلفهم فى الأرض وَمَكَّن لهم كما جاء الوعد، ولا يدخل فيهم معاوية، لأنه لم يكن مؤمناً فى ذلك الوقت".
وفى سورة الحجرات عند قوله تعالى فى الآية [9] : {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} ... الآية، نجده يجعل علياً رضى الله عنه هو المحق فى قَتَاله، أما معاوية ومَن معه فهم الفئة الباغية. كذلك كل مَن خرج على علىّ".
وما كان أولى بصاحبنا أن يترك هذا التحامل على معاوية الصحابى، ويفوِّض أمره إلى الله، ولا يلوى مثل هذه الآيات إلى ميوله وهواه.
هذا.. والكتاب مطبوع فى ثلاثة مجلدات كبار، ومتداول بين أهل العلم.
* * *
2- أحكام القرآن - لكيا الهراسى (الشافعى)
* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو عماد الدين، أبو الحسن علىّ بن محمد بن علىّ الطبرى، المعروف بالكيا الهراسى، الفقيه الشافعى، المولود سنة 450 هـ (خمسين وأربعمائة من الهجرة) .
أصله من خراسان، ثم رحل عنها إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين الجوينى مدة حتى برع، ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم خرج إلى العراق، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفى سنة 504 هـ (أربع(2/327)
وخمسمائة من الهجرة) . وكان رحمه الله فصيح العبارة، حلو الكلام، محدِّثاً، يستعمل الأحاديث فى مناظراته ومجالسه، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه - أهمية هذا التفسير، ومبلغ تعصب صاحبه لمذهب الشافعى:
يعتبر هذا التفسير من أهم المؤلفات فى التفسير الفقهى عند الشافعية، وذلك لأن مؤلفه شافعى لا يقل فى تعصبه لمذهبه عن الجصَّاص بالنسبة لمذهب الحنفية، مما جعله يُفسِّر آيات الأحكام على وفق قواعد مذهبه الشافعى، ويحاول أن يجعلها غير صالحة لأن تكون فى جانب مخالفيه.
وليس أدل على روح التعصب عند المؤلف من مقدمة تفسيره التى يقرر فيها: "إن مذهب الشافعى رضى الله عنه أسَدُّ المذاهب وأقومها، وأرشدها وأحكمها، وإن نظر الشافعى فى أكثر آرائه ومعظم أبحاثه يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين، والسبب فى ذلك أنه - يعنى الشافعى - بنى مذهبه على كتاب الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله تعالى فتح له من أبوابه، ويسَّر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عَدَاه".
يقرر صاحبنا هذا، وأنا لا أنكره عليه، ولا أغض من مقام الشافعى رحمه الله، ولكننى أقول: إن تقديم الكتاب بمثل هذا الكلام ناطق بأن الرجل متعصب لمذهبه، وشاهد عليه بأنه سوف يسلك فى تفسيره مسلك الدفاع عن قواعد الشافعى، وفروع مذهبه، وإن أدَّاه ذلك إلى التعسف فى التأويل.
وإذا لم يكفك هذا دليلاً على تعصب الرجل فدونك الكتاب، لتقف بعد القراءة فيه على مبلغ تعصب صاحبه وتعسفه.
* *
*تأدبه مع الأئمة وحملته على الجصَّاص:
غير أن الهراسى - والحق يقال - كان عَفّ اللسان والقلم مع أئمة المذاهب الأخرى، ومع كل مَن يتعرض للرد عليه من المخالفين، فلم يخض فيهم كما خاض الجصَّاص فى الشافعى وغيره، وكل ما لاحظناه عليه من ذلك هو أنه وقف من الجصَّاص موقفاً كان فيه شديد المراس، قوى الجدال، قاسى العبارة، إذ أنه عرض لأهم مواضع الخلاف التى ذكرها الجصَّاص فى تفسيره وعاب فيها مذهب الشافعى، ففنَّد كل شُبهة أوردها، ودفع كل ما وجهه إلى مذهب الشافعى، بحجج قوية يسلم له الكثير منها، كما أنه(2/328)
اقتص للشافعى من الجصَّاص، فرماه بالعبارات الساخرة، والألفاظ المقذعة "والجزاء من جنس العمل".
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [23] من سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ... . الآية، نجده يرد على الجصَّاص ما استدل به لمذهبه القائل بأن الزنا بامرأة يُحَرِّم على الزانى أُصول المرأة وفروعها، ويُفنِّد ما رد به الجصَّاص على الشافعى فى هذه المسألة، ثم يقول فى شأن الجصَّاص: "إنه لم يفهم معنى كلام الشافعى رضى الله عنه، ولم يميز بين محل ومحل، ولكل مقام مقال، ولتفهم معانى كتاب الله رجال، وليس هو منهم".
كما يقول: "وقد ذكر الشافعى مناظرة بينه وبين مسترشد طلب الحق فى هذه المسألة، فأوردها الرازى متعجباً منها، ومنبهاً على ضعف كلام الشافعى فيها، ولا شىء أدل على جهل الرازى وقِلَّة معرفته بمعانى الكلام من سياقه لهذه المناظرة، واعتراضاته عليها".
ويقول بعد قليل: "ولم يعلم هذا الجاهل معنى كلام الشافعى رضى الله عنه فاعترض علي بما قاله، وعجب الناس من ذلك، فقال: فى هذه المناظرة أعجوبة لمن تأمل. فكان كما قال القائل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم"
كما يقول فى موضع آخر: "وكيف يتصدى للتصنيف فى الدين من هذا مبلغ علمه، ومقدار فهمه، فيرسل الكلام من غير أن يتحقق ما يقول.. ثم يعترض للطعن فيمن لو عُمِّرَ عمر نوح ما اهتدى إلى مبادىء نظره فى الحقائق، فنسأل الله تعالى التوفيق، ونعوذ به من عمى البصيرة واتباع الهوى".
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - ليبين لنا فى مقدمة تفسيره الحامل له على تأليفه، ومنهجه الذى سلكه، وتقديره لكتابه فيقول: "ولما رأيت الأمر كذلك - يريد رجحان مذهب الشافعى على غيره - أردتُ أن أُصَنِّف كتاباً فى أحكام القرآن، أشرح ما ابتدعه الشافعى رضى الله عنه من أخذ الدلائل فى غوامض المسائل، وضممتُ إليه ما نسجته على منواله، واحتذيتُ فيه على مثاله، على قدر طاقتى وجهدى، ومبلغ وسعى وجَدِّى.. ولا يعرف قدر هذا الكتاب، وما فيه من العجب العجاب، ولباب الألباب، إلا مَن وفر حظه من علوم المعقول والمنقول، وتبحَّر فى الفروع والأُصول، ثم انكب على مطالعة هذه الفصول، بمسكة صحيحة، وقريحة همة غير قريحة".(2/329)
ثم إن المؤلف يتعرض لآيات الأحكام فقط، مع استيفاء ما فى جميع السور. والكتاب مخطوط فى مجلد كبير، وموجود فى دار الكتب المصرية، وفى المكتبة الأزهرية.
* * *
3- أحكام القرآن - لابن العربى (المالكى)
* ترجمة المؤلف:
هو القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافرى، الأندلسى، الإشبيلى، الإمام، العلامة، المتبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحُفَّاظها.. كان أبوه من فقهاء إشبيلية ورؤسائها.
وُلِد أبو بكر سنة 468 هـ (ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة) ، وتأدب ببلده، وقرأت القراءات، ثم رحل إلى مصر، والشام، وبغداد، ومكة. وكان يأخذ عن علماء كل بلد يرحل إليه حتى أتقن الفقه، والأُصول، وقيد الحديث، واتسع فى الرواية، وأتقن مسائل الخلاف والكلام، وتبحَّر فى التفسير، وبرع فى الأدب والشعر.. وأخيراً عاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير، لم يأت به أحد قبله، ممن كانت له رحلة إلى المشرق.
وعلى الجملة.. فقد كان - رحمه الله - من أهل التفنن فى العلوم، والاستبحار فيها، والجمع لها، متقدماً فى المعارف كلها، متكلماً فى أنواعها، نافذاً فى جمعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن فى تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حُسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحُسن العهد، وثبات الود. سكن بلده وشُووِرَ فيه، وسُمِع، ودَرَّس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، ورُحِل إليه للسماع. قال القاضى عياض - وهو ممن أخذوا عنه -: "استقضى ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته، وشدة نفوذ أحكامه، وكانت له فى الظالمين سَورة مرهوبة، وتؤثر عنه فى قضائه أحكام غريبة، ثم صُرِف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه".
هذا.. وقد ألّف رحمه الله - تصانيف كثيرة مفيدة، منها "أحكام القرآن"، وهو ما نحن بصدده الآن، وكتاب المسالك فى شرح موطأ مالك، وكتاب القبس على شرح موطأ مالك بن أنس، وعارضة الأحوذى على كتاب الترمذى، والقواصم والعواصم، والمحصول فى أُصول الفقه، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وتخليص التلخيص، وكتاب القانون فى تفسير القرآن العزيز، وكتاب أنوار الفجر فى تفسير القرآن. قيل: إنه ألّفه فى عشرين سنة، ويقع فى ثمانين ألف ورقة، وذكر بعضهم أنه رأى هذا التفسير وعَدَّ(2/330)
أسفاره فوجد عدتها ثمانين مجلداً، وبالجملة فقد خلَّف - رحمه الله - كتباً كثيرة، انتفع الناس بها بعد وفاته، كما نفع هو بعلمه مَن جلس إليه فى حياته. هذا ... وقد كانت وفاته - رحمه الله - سنة 543 هـ[ثلاث وأربعين وخمسمائة من الهجرة) منصرفه من مراكش، وحُمِل ميتاً إلى مدينة فاس ودُفِن بها. فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يتعرض هذا الكتاب لسور القرآن كلها، ولكنه لا يتعرض إلا لما فيها من آيات الأحكام فقط، وطريقته فى ذلك أن يذكر السورة ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الأحكام، ثم يأخذ فى شرحها آية آية.. قائلاً: الآية الأولى وفيها خمس مسائل (مثلاً) ، الآية الثانية وفيها سبع مسائل (مثلاً) ... . وهكذا، حتى يفرغ من آيات الأحكام الموجودة فى السورة.
* *
* تفسير ابن العربى بين انصافه واعتسافه:
هذا ... وإن الكتاب يعتبر مرجعاً مهماً للتفسير الفقهى عند المالكية، وذلك لأن مؤلفه مالكى تأثر بمذهبه، فظهرت عليه فى تفسيره روح التعصب له، والدفاع عنه، غير أنه لم يشتط فى تعصبه إلى الدرجة التى يتغاضى فيها عن كل زَلَّة علمية تصدر من مجتهد مالكى، ولم يبلغ به التعسف إلى الحد الذى يجعله يفند كلام مخالفه إذا كان وجيهاً ومقبولاً، والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحياناً، ما يلمس منه روح التعصب المذهبى التى تستولى على صاحبها فتجعله أحياناً كثيرة يرمى مخالفه وإن كان إماماً له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة، تارة بالتصريح، وتارة بالتلويح. ويظهر لنا أن الرجل كان يستعمل عقله الحر، مع تسلط روح التعصب عليه، فأحياناً يتغلب العقل على التعصب، فيصدر حكمه عادلاً لا تكدره شائبة التعصب، وأحياناً - وهو الغالب - تتغلب العصبية المذهبية على العقل، فيصدر حكمه مشوباً بالتعسف، بعيداً عن الإنصاف.
* *
* طرف من إنصافه: وإذا أردتَ أن أضع يدك على شىء من إنصاف الرجل واستعماله لعقله، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [187] من سورة البقرة: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ... الآية، حيث يقول: "المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} : الاعتكاف فى اللُّغة هو اللبث، وهو غير مقدَّر عند الشافعى، وأقله لحظة، ولا حد لأكثره. وقال مالك وأبو حنيفة: هو(2/331)
مقدَّر بيوم وليلة، لأن الصوم عندهما من شرطه. قال علماؤنا: لأن الله تعالى خاطب الصائمين. وهذا لا يلزم فى الوجهين: أما اشتراط الصوم فيه بخطابه تعالى لمن صام فلا يلزم بظاهره ولا باطنه، لأنها حال واقعة لا مشترطة، وأما تقديره بيوم وليلة لأن الصوم من شرطه فضعيف، فإن العبادة لا تكون مقدَّرة بشرطها، ألا ترى أن الطهارة شرط فى الصلاة، وتنقضى الصلاة، وتبقى الطهارة.. "؟.
فأنت ترى أن المؤلف - رحمه الله - لم يرقه هذا الاستدلال الذى أظهر بطلانه، وهذا دليل على أنه يستعمل عقله الحر أحياناً، فلا يسكت على الزَلَّة العلمية فيما يعتقد، وإن كان فيها ترويج لمذهبه.
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} ... الآية، حيث يقول: "المسألة السابعة والعشرون فى قوله تعالى: {بِرُءُوسِكُمْ} ، ثم يذكر أن العلماء اختلفوا فى مسح الرأس على أحد عشر قولاً، ثم يأخذ فى بيانها واحداً واحداً، ثم يقول: "ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسُّنَّة"، ثم يذكر لنا مطلع كل قول، ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: "وليس يخفى على أحد عند اطلاعه على هذه الأقوال والأنحاء والمطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات فى مقصود الشريعة، ولا جاوز طرفيها إلى الإفراط، فإن للشريعة طرفين، أحدهما طرف التخفيف فى التكليف، والآخر طرف الاحتياط فى العبادات، فمَن احتاط استوفى الكل، ومَن خفف أخذ بالبعض.. ".
فأنت ترى أنه يُصَوِّب كل ما قيل فى مسح الرأس.
وانظر إليه فى الآية السابقة حيث يقول: "المسألة السادسة والأربعون: نزع علماؤنا بهذه الآية إلى أن إزالة النجاسة غير واجبة، لأنه قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} ، تقديره - كما سبق - "وأنتم محدثون"، {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} ، فلم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، ولو كان واجباً لكان أول مبدوء به.. وهى رواية أشهب عن مالك. وقال ابن وهب: لا تجزئ الصلاة بها لا ذاكراً ولا ناسياً.. والصحيح رواية ابن وهب، ولا حُجَّة فى ظاهر القرآن، لأن الله سبحانه وتعالى إنما بيَّن فى آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، وللصلاة شروط: من استبقال الكعبة، وستر العورة، وإزالة النجاسة ... وبيان كل شرط منها فى موضعه".
فأنت ترى أنه لا يميل إلى رواية أشهب عن مالك، ولا يرى فى ظاهر الآية ما يشهد له.
* *
* طرف من تعصبه لمذهبه:
وإن أردتَ أن أضع يدك على شىء من تعصب ابن العربى، فانظر إليه عندما تعرَّض(2/332)
لقوله تعالى فى الآية [86] من سورة النساء: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} ... . الآية، حيث يقول: "المسألة السابعة: إذا كان الرد فرضاً بلا خلاف، فقد استدل علماؤنا على أن هذه الآية دليل على وجوب الثواب فى الهبة للعين، وكما يلزمه أن يرد مثل التحية يلزمه أن يرد مثل الهبة، وقال الشافعى: ليس فى هبة الأجنبى ثواب.. وهذا فاسد، لأن المرء ما أَعطى إلا ليعطى، وهذا هو الأصل فيها، وإنَّا لا نعمل عملاً لمولانا إلا ليعطينا، فكيف بعضنا لبعض"؟
* *
* حملته على مخالفى مذهبه:
وإن أردتَ أن تقف على مبلغ قسوته على أئمة المذاهب الأخرى وأتباعهم، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [229] من سورة البقرة: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} ... . الآية، حيث يقول: "المسألة الرابعة عشرة: هذا يدل على أن الخُلْع طلاق، خلافاً لقول الشافعى فى القديم إنه فسخ. وفائدة الخلاف أنه إن كان فسخاً لم يُعَد طلقة. قال الشافعى: لأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين وذكر الخُلْع بعده، وذكر الثالث بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .
وهذا غير صحيح، لأنه لو كان كل مذكور فى معرض هذه الآيات لا يُعَد طلاقاً لوقوع الزيادة على الثلاث لما كان قوله تعالى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} طلاقاً، لأنه يزيد به على الثلاث، ولا يفهم هذا إلا غبى أو متغاب ... . إلخ".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [43] من سورة النساء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} ... الآية، حيث يقول: "المسألة الثامنة والعشرون: قوله تعالى: "ماءً".. قال أبو حنيفة: هذا نفى فى نكرة وهو يعم لغة، فيكون مفيداً جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لانطلاق اسم الماء عليه.. قلنا: استنوق الجمل إلى أن يستدل أصحاب أبى حنيفة باللُّغات، ويقولون على ألسنة العرب وهم ينبذونها فى أكثر المسائل بالعراء. واعلموا أن النفى فى النكرة يعم كما قلتم، ولكن فى الجنس، فهو عام فى كل ما كان من سماء، أو بئر، أو عين، أو نهر، أو بحر عذب أو ملح، فأما غير الجنس فهو المتغير فلا يدخل فيه، كما لم يدخل فيه ماء الباقلاء ... ".
ونجده فى موضع من كتابه يرمى أبا حنيفة بأنه كثيراً ما يترك الظواهر والنصوص(2/333)
للأقيسة، ويقول عنه فى موضع آخر إنه: "سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيَّض الله لمالك، لما صدر عنه إلا إبريز الدين وإكسير المِلَّة، كما صدر عن مالك".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} ... . الآية، حيث يقول فى تعريض ساخر: "المسألة الحادية عشرة، قوله عَزَّ وجَلَّ: {فاغسلوا} ، وظن الشافعى - وهو عند أصحابه معد بن عدنان فى الفصاحة بله أبى حنيفة وسواه - أن الغسل صب الماء على المغسول من غير عرك، وقد بيَّنا فساد ذلك فى مسائل الخلاف. وفى سورة النساء، وحققنا أن الغسل مس اليد مع إمرار الماء، أو ما فى معنى اليد".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة النساء: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} .. حيث يقول: "المسألة الثانية عشرة، قوله تعالى: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} اختلف الناس فى تأويله على ثلاثة أقوال: الأول: أن لا يكثر عيالكم، قاله الشافعى. الثانى: أن لا تضلوا، قاله مجاهد. الثالث: أن لا تميلوا، قاله ابن عباس والناس.. قلنا: أعجب أصحاب الشافعى بكلامه هذا، وقالوا هو حُجَّة، لمنزلة الشافعى فى اللُّغة، وشهرته فى العربية، والاعتراف له بالفصاحة، حتى قال الجوينى: هو أفصح مَن نطق بالضاد، مع غوصه على المعانى ومعرفته بالأصول.. واعتقدوا أن معنى الآية: فانكحوا واحدة إن خفتم أن يكثر عيالكم، فذلك أقرب إلى أن تنتفى عنكم كثرة العيال.. قال ابن العربى: "كل ما قاله الشافعى، أو قيل عنه، أو وُصف به، فهو كله جزء من مالك ونغبة من بحره، ومالك أوعى سمعاً، وأثقب فهماً، وأفصح لساناً، وأبرع بياناً، وأبدع وصفاً، ويدلك على ذلك مقابلة قول بقول فى كل مسألة وفصل".
ثم تكلم بعد ذلك عن معنى لفظ "عال" فى اللُّغة. ثم قال: "والفعل فى كثرة العيال رباعى لا مدخل له فى الآية، فقد ذهبت الفصاحة، ولم تنفع الضاد المنطوق بها على الاختصاص".
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [25] من سورة النساء: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} ... . الآية، حيث يقول: "المسألة الخامسة: قال أبو بكر الرازى إمام الحنفية فى كتاب أحكام القرآن: ليس نكاح الأَمَة ضرورة، لأن الضرورة ما يُخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو، وليس فى مسألتنا(2/334)
شىء من ذلك. قلنا: هذا كلام جاهل بمنهاج الشرع، أو متهكم لا يبالى بموارد القول. نحن لم نقل إنه حكم نيط بالضرورة، إنما قلنا: إنه حكم علق بالرخصة المقرونة بالحاجة، ولكل واحد منهما حكم يختص به. وحالة يعتبر فيها. ومَن لم يُفرِّق بين الضرورة والحاجة التى تكون معها الرُخصة، فلا يُعنى بالكلام معه، فإنه معاند أو جاهل، وتقرير ذلك إتعاب للنفس عند مَن لا ينتفع به".
فأنت ترى من هذه الأمثلة كلها. أن الرجل ليس عَفّ اللسان مع الأئمة، ولا مع أتباعهم، وهذه ظاهرة من ظواهر التعصب المذهبى، الذى يقود صاحبه إلى ما لا يليق به، ويدفعه إلى الخروج عن حد اللطافة والكياسة.
* *
* احتكامه إلى اللُّغة:
ثم إن المؤلف - رحمه الله - كثيراً ما يحتكم إلى اللُّغة فى استنباط المعانى من الآيات، وفى الكتاب من ذلك أمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها بسهولة.
* *
* كراهته للإسرائيليات:
كما أنه شديد النفرة من الخوض فى الإسرائيليات، ولذلك عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [67] من سورة البقرة: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} ... الآية، نجده يقول: "المسألة الثانية: فى الحديث عن بنى إسرائيل: كثر استرسال العلماء فى الحديث عنهم فى كل طريق، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن قال: "حَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج" ومعنى هذا الخبر: الحديث عنهم بما يُخبرون به عن أنفسهم وقصصهم، لا بما يُخبرون به عن غيرهم، لأن أخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة، وللثبوت إلى منتهى الخبر، وما يُخبرون به عن أنفسهم، فيكون من باب إقرار المرء على نفسه أو قومه، فهو أعلم بذلك، وإذا أخبروا عن شرع لم يلزمه قبوله، ففى رواية مالك عن عمر رضى الله عنه أنه قال: رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمسك مصحفاً قد تشرَّمت حواشيه، قال: ما هذا؟ قلت: جزء من التوارة، فغضب وقال: "واللهِ لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعى".
* *
* نفرته من الأحاديث الضعيفة:
كذلك نجد ابن العربى شديد النفرة من الأحاديث الضعيفة، وهو يُحذِّر منها فى(2/335)
تفسيره هذا، فيقول لأصحابه بعد أن بيَّن ضعف الحديث القائل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: "مَن توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين"، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى، ووضوء أبى إبراهيم"، يقول لهم بعد ما بيَّن ضعف هذا الحديث: "وقد ألقيتُ إليكم وصيتى فى كل ورقة ومجلس، أن لا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده ... ".
هذا والكتاب مطبوع فى مجلدين كبيرين، ومتداول بين أهل العلم.
* * *
4- الجامع لأحكام القرآن - لأبى عبد الله القرطبى (المالكى)
* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير: هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر ابن فرْح - بإسكان الراء والحاء المهملة - الأنصارى، الخزرجى، الأندلسى، القرطبى المفسِّر.
كان - رحمه الله - من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين، الزاهدين فى الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أُمور الآخرة، وبلغ من زهده أن أطرح التكلف، وصار يمشى بثوب واحد وعلى رأسه طاقية، وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله وعبادته تارة، وبالتصنيف تارة أخرى، حتى أخرج للناس كتباً انتفعوا بها. ومن مصنفاته: كتابه فى التفسير المسمى بـ "الجامع لأحكام القرآن"، وهو ما نحن بصدده، وشرح أسماء الله الحُسنى، وكتاب التذكار فى أفضل الأذكار، وكتاب التذكرة بأمور الآخرة، وكتاب شرح التقصى، وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذلك السؤال بالكتب والشفاعة. قال ابن فرحون: لم أقف على تأليف أحسن منه فى بابه وله كتب غير ذلك كثيرة ومفيدة.
سمع من الشيخ أبى العباس بن عمر القرطبى، مؤلف "المفهم فى شرح صحيح مسلم" بعضَ هذا الشرح، وحدَّث عن أبى علىّ الحسن بن محمد البكرى، وغيرهما. وكان مستقراً بمنية ابن خصيب، وتُوفى ودُفن بها فى شوَّال سنة 671 هـ (إحدى وسبعين وستمائة من الهجرة) ، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
وصف العلامة ابن فرحون هذا التفسير فقال: "هو من أجَلِّ التفاسير وأعظمها(2/336)
نفعاً، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ"، وذكر المؤلف رحمه الله فى مقدمة هذا التفسير السبب الذى حمله على تأليفه، والطريق الذى رسمه لنفسه ليسير عليه فيه، وشروطه التى اشترطها على نفسه فى كتابه فقال: "وبعد.. فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع الذى استقل بالسُّنَّة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمرى، وأستفرغ فه منتى، بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمن نكتاً من التفسير، واللُّغات، والإِعراب، والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعاً بين معانيها، ومبيناً ما أشكل منها بأقاويل السَلَف ومَن تبعهم من الخَلَف.. وشرطى فى هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يُضاف الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يُضاف القول إلى قائله، وكثيراً ما يجئ الحديث فى كتاب الفقه والتفسير مبهماً، لا يعرف من أخرجه إلا مَن اطلع على كتب الحديث، فيبقى مَن لا خبرة له بذلك حائراً لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم. فلا يُقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى مَن خرَّجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام، ونحن نشير إلى جُمَل من ذلك فى هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. وأضرب عن كثير من قصص المفسِّرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تُفسِّر عن معناها، وتُرشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكماً أو حكمين فما زاد مسائل أُبيِّن فيها ما تحتوى عليه من أسباب النزول، والتفسير، والغريب، والحكم. فإن لم تتضمن حكماً ذكرتُ ما فيها من التفسير والتأويل ... وهكذا إلى آخر الكتاب، وسميته بـ "الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السُّنَّة وأحكام الفرقان ... ".
والذى يقرأ فى هذا التفسير يجد أن القرطبى - رحمه الله - قد وفَّى بما شرط على نفسه فى هذا التفسير، فهو يعرض لذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، ويبين الغريب من ألفاظ القرآن، ويحتكم كثيراً إلى اللُّغة، ويُكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ويرد على المعتزلة، والقدرية، والروافض، والفلاسفة، وغلاة المتصوفة، ولم(2/337)
يسقط القصص بالمرة، كما تفيده عبارة ابن فرحون، بل أضرب عن كثير منها، كما ذكر فى مقدمة تفسيره، ولهذا نلاحظ عليه أنه يروى أحياناً ما جاء من غرائب القصص الإسرائيلى.
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - ينقل عن السَلَف كثيراً مما أُثِر عنهم فى التفسير والأحكام، مع نسبة كل قول إلى قائله وفاءً بشرطه، كما ينقل عمن تقدمه فى التفسير، خصوصاً مَن أَلَّف منهم فى كتب الأحكام، مع تعقيبه على ما ينقل منها. وممن ينقل عنهم كثيراً: ابن جرير الطبرى، وابن عطية، وابن العربى، والكيا الهراسى، وأبو بكر الجصَّاص.
وأما من ناحية الأحكام، فإنَّا نلاحظ عليه أنه يفيض فى ذكر مسائل الخلاف ما تعلق منها بالآيات عن قُرْب، وما تعلق بها عن بُعْد، مع بيان أدلة كل قول.
* *
* إنصاف القرطبى وعدم تعصبه:
وخير ما فى الرجل أنه لا يتعصب لمذهبه المالكى، بل يمشى مع الدليل حتى يصل إلى ما يرى أنه الصواب أياً كان قائله.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [43] من سورة البقرة: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين} .. نجده عند المسألة السادسة عشرة من مسائل هذه الآية يعرض لإمامة الصغير، ويذكر أقوال مَن يجيزها ومَن يمنعها، ويذكر أن من المانعين لها جملة: مالكاً، والثورى، وأصحاب الرأى، ولكنَّا نجده يخالف إمامه لما ظهر له من الدليل على جوازها، وذلك حين يقول: "قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئاً، ثبت فى صحيح البخارى عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الناس فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله.. أوحى إليه كذا.. أوحى إليه كذا، فكنت أحفظ هذا الكلام، فكأنما يقر فى صدرى، وكانت العرب تلوم بإسلامها فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبى صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبى قومى بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللهِ من عند نبى الله حقاً.. قال: "صلوا صلاة كذا فى حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً"، فنظروا فلم يكن أحد أكثر منى قرآناً، لما كنت أتلقى من الركبان. فقدَّمونى بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت على بُردة إذا سجدتُ تقلَّصت عنى، فقالت امرأة من الحى: ألا تغطون عنا إست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لى قميصاً، فما فرحتُ بشىء فرحى بذلك القميص".(2/338)
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [173] من سورة البقرة: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} .. نراه يعقد المسألة الثانية والثلاثين من مسائل هذه الآية فى اختلاف العلماء فيمن اقترن بضرورته معصية، فيذكر أن مالكاً حظر ذلك عليه. وكذا الشافعى فى أحد قوليه، وننقل عن ابن العربى أنه قال: "عجباً ممن أبيح له ذلك مع التمادى على المعصية، وما أطن أحداً يقوله، فإن قاله فهو مخطىء قطعاً"، ثم يعقب القرطبى على هذا كله فيقول: "قلت: الصحيح خلاف هذا. فإن إتلاف المرء نفسه فى سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال الله تعالى فى الآية [29] من سورة النساء: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} وهذا عام ولعله يتوب فى ثانى الحال. فمتحو التوبة عنه ما كان".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [185] من سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ... . الآية، نجده يعقد المسألة السابعة عشرة من المسائل التى تتعلق بهذه الآية فى اختلاف العلماء فى حكم صلاة عيد الفطر فى اليوم الثانى، فيذكر عن ابن عبد البر أنه لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تُصَلَّى صلاة العيد فى غير يوم العيد، ويذكر عنه أيضاً أنه قال: "لو قُضِيَت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا فى سائر السنن أنها لا تُقضى، فهذه مثلها"، ثم يُعَقِّب القرطبى على هذا فيقول: "قلت: والقول بالخروج - يعنى لصلاة العيد فى اليوم الثانى - إن شاء الله أصح، للسُّنَّة الثابتة فى ذلك، ولا يمتنع أن يستثنى الشارع من السُنَن ما شاء، فيأمر بقضائه بعد خروج وقته، وقد روى الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لم يُصَلِّ ركعتى الفجر فليُصَلِّهما بعد ما تطلع الشمس" قلت: وقد قال علماؤنا: مَن ضاق عليه الوقت، وصَلَّى الصبح، وترك ركعتى الفجر، فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء، وقيل: لا يصلهما حينئذ، ثم إذا قلنا يصليهما.. فهل ما يفعله قضاء؟ أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتى الفجر؟ قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجارى على أصل المذهب، وذِكْر القضاء تجوُّز. قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر فى اليوم الثانى على هذا الأصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة فى السنة، مع ما ثبت من السُّنَّة. ثم روى عن النسائى بسنده: "أن قوماً رأوا الهلال فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار، وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. وفى رواية: ويخرجوا لمُصَلاهم من الغد".
ومثلاً نجده عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [187] من سورة البقرة: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ... . الآية، نجده فى المسألة الثانية عشرة من مسائل هذه(2/339)
الآية يذكر خلاف العلماء فى حكم مَن أكل فى نهار رمضان ناسياً.. فيذكر عن مالك أنه يفطر وعليه القضاء، ولكنه لا يرضى ذلك الحكم فيقول: "وعند غير مالك ليس بمفطر كل مَن أكل ناسياً لصومه. قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور إن مَن أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه، وإن صومه تام، لحديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل الصائم ناسياً، أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، ولا قضاء عليه.. ".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [236] من سورة البقرة: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين} ، نجده يذكر فى المسألة السادسة من مسائل هذه الآية اختلاف العلماء فى حكم المتعة، فيذكر مَن يقول بوجوبها، ويذكر مَن يقول بندبها، ويعد فى ضمن القائلين بالندب مالكاً رحمه الله، ثم يقول: "تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر، وتمسك أهل القول الثانى بقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المحسنين} ، و {عَلَى المتقين} ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى، لأن عمومات الأمر بالامتناع فى قوله: {مَتِّعُوهُنَّ} ، وإضافة الإمتاع إليهم بـ "لام التمليك" فى قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} أظهر فى الوجوب منه فى الندب. وقوله: {عَلَى المتقين} تأكيد لإيجابها، لأن كل واحد يجب عليه أن يتقى الله فى الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى فى القرآن فى الآية [2] من سورة البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} .
* *
* موقفه من حملات ابن العربى على مخالفيه:
كذلك نجد القرطبى - رحمه الله - كثيراً ما يدفعه الإنصاف إلى أن يقف موقف الدفاع عمن يهاجمهم ابن العربى من المخالفين، مع توجيه اللَّوم إليه أحياناً، على ما يصدر منه من عبارات قاسية فى حق علماء المسلمين، الذاهبين إلى ما لم يذهب إليه.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة النساء: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} .. نراه يروى عن الشافعى أنه فسَّرها على معنى: الا تكثر عيالكم، ثم يقول: "قال الثعلبى: وما قال هذا غيره وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله، وزعم ابن العربى: أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال عال: مال، الثانى: زاد، الثالث: جار.(2/340)
الرابع: افتقر. الخامس: أثقل.. حكاه ابن دريد. قالت الخنساء: "ويكفى العشيرة ما عالها". السادس: عال: قام بمؤنة العيال، ومنه قوله عليه السلام: "وابدأ بمن تعول". السابع: عال: غلب، ومنه: عيل صبره أى غلب، ويقال: أعال الرجل: كثر عياله. وأما "عال" بمعنى كثر عياله فلا يصح، قلت: أما قول الثعلبى: "ما قاله غيره" فقد أسنده الدارقطنى فى سُنَنه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد.. فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعى إليه. وأما ما ذكره ابن العربى من الحصر وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الأمر: اشتد وتفاقم.. حكاه الجوهرى. وقال الهروى فى غريبه: "وقال أبو بكر: يقال: عال الرجل فى الأرض يعيل فيها: إذا ضرب فيها. وقال الأحمر: يقال: عالنى الشىء يعيلنى عَيْلاً ومعيلاً: إذا أعجزك، وأما "عال": كثر عياله، فذكره الكسائى وأبو عمرو الدورى وابن الأعرابى. قال الكسائى أبو الحسن علىّ ابن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أى كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعى أعلم بلغة العرب منا.. ولعله لغة. قال الثعلبى المفسِّر: قال أستاذنا أبو القاسم ابن حبيب: سألت أبا عمرو الدورى عن هذا - وكان إماماً فى اللُّغة غير مدافع - فقال: هى لغة حِمْيَر وأنشد:
وإن الموت يأخذ كل حى ... بلا شك وإن أمشى وعالا
يعنى: وإن كثر ماشيته وعياله. وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيتُ أن آخذ على لاحن لحناً. وقرأ طلحة بن مصرف: "ألا تعيلوا"، وهي حُجَّة الشافعى رضى الله عنه. وقدح الزجَّاج وغيره فى تأويل "عال" من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السرارى وفى ذلك تكثير العيال. فكيف يكون أقرب إلى ألا تكثر العيال؟ وهذا القدح غير صحيح، لأن السرارى إنما هى مال يُتصرف فيه بالبيع، وإنما القادح: الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وحكى ابن الأعرابى: أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [67] من سورة النحل: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} ... نراه يعيب على ابن العربى تشنيعه على مَن يقول من الحنفية وغيرهم بحل النبيذ، وجعله إياهم مثل أغبياء الكفار فيقول: "وهذا تشنيع شنيع، حتى يلحق فيه العلماء الأخيار فى قصور الفهم بالكفار".
وعلى الجملة.. فإن القرطبى رحمه الله فى تفسيره هذا حُرٌ فى بحثه، نزيهٌ فى نقده، عفٌ فى مناقشته وجدله، مُلِمٌ بالتفسير من جميع نواحيه، بارع فى كل فن استطرد إليه وتكلَّم فيه.(2/341)
أما الكتاب فقد كان الناس محرومين منه إلى زمن قريب، ثم أراد الله له الذيوع بين أُولى العلم فقامت دار الكتب المصرية بطبعه، فتم منه إلى الآن أربعة عشر جزءاً تنتهى بآخر سورة فاطر، وعسى أن يُعَجِّل الله بإتمام ما بقى منه، حتى يتم به النفع، إنه سميع مجيب.
* * *
5- كنز العرفان فى فقه القرآن لمقداد السيورى (من الإمامية الإثنا عشرية)
* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير، هو مقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن محمد السيورى أحد علماء الإمامية الإثنا عشرية، والمعروف بينهم بالعلم والفضل، والتحقيق والتدقيق، وله مؤلفات كثيرة، منها: تفسيره هذا، ومنها التنقيح الرائع فى شرح مختصر الشرائع، وشرح مبادئ الأصول ... وغير ذلك، وكان فى أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجرى.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يتعرَّض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما فى كل سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصَّاص وابن العربى مثلاً، بل طريقته فى تفسيره: أنه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه، ويدرج فى كل باب منها الآيات التى تدخل تحت موضوع واحد، فمثلاً يقول: باب الطهارة، ثم يذكر ما ورد فى الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كل آية منها على حدة، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإمامية الإثنا عشرية فى فروعهم، مع تعرضه للمذاهب الأخرى، ورده على مَن يخالف ما يذهب إليه الإمامية الإثنا عشرية.
هذا.. وإن طريقته التى يسلكها فى تدعيم مذهبه وترويجه، وإبطال مذهب مخالفيه، لا تخرج عن أمرين اثنين:
أولهما: الدليل العقلى.
ثانيهما: دعوى أن ما ذكره هو ما ذهب إليه أهل البيت.
أما الدليل العقلى، فيندر أن يسلم له كمستند يستند إليه فى صحة ما يشذ به..(2/342)
وأما دعوى أن ما ذكره هو ما ذهب إليه أهل البيت، فتلك دعوى كثيراً ما تكون كاذبة، يلجأ إليها الشيعة عندما يعوزهم الدليل، وتخونهم الحُجَّة، وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير لتقف على مقدار شذوذ صاحبه:
فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [43] من سورة النساء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} .. يقول: {فَتَيَمَّمُواْ} : أي فتعمدوا واقصدوا، {صَعِيداً طَيِّباً} : أى شيئاً من وجه الأرض - كقوله: {صَعِيداً زَلَقاً} - {طَيِّباً} : أى طاهراً، ولذلك قال أصحابنا: لو ضرب المتيمم يده على حجر صلب ومسح: أجزأه، وبه قالت الحنفية. وقالت الشافعية: لا بد أن يعلق باليد شىء، لقوله: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} [المائدة: 6] وفيه نظر، لجواز كون "من" هنا ابتدائية. والوجه: المراد بعضه، وهو الجبهة عند أكثر أصحابنا، إما لكون الباء للتبعيض، أو للنصوص عن أهل البيت عليهم السلام. فمسح الجبهة إلى طرف أنفه الأعلى، وكذا المراد باليدين: ظهر اليد من الزند إلى أطراف الأصابع".
ويقول عندما تعرَّض لآية التيمم فى سورة المائدة: "وتجب ضربة واحدة للوضوء واثنتان للغسل"، ثم يرد على الحنفية والشافعية القائلين بأن التيمم ضربتان: واحدة للوجه وأخرى لليدين، وأن المراد بالوجه كله، وباليدين إلى المرفقين.. يرد عليهم فيقول: "وروايات أهل البيت تدفع ذلك".
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [230] من سورة البقرة: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .. يقول: "مدلول الآية أنه إذا طلَّقها الزوج عقيب الطلقتين تنكح زوجاً غير ذلك المُطلِّق، وهذا الحكم عند أصحابنا مخصوص بما عدا طلاق العِدَّة، فإن ذلك يحرم فى التاسعة أبداً - وطلاق العِدَّة هو أن يُطلِّق المدخول بها على الشرائط ثم يراجعها فى العِدَّة، ثم يُطلِّقها مرة ثانية ويفعل كما فعل أولاً، ثم يُطلِّقها ثالثة، فإذا فعل ذلك ثلاثة أدوار حرمت عليه عندهم أبداً".
وهكذا يسير المؤلف بهذا الشذوذ فى كثير من الأحكام، وبهذا التعسف والتخبط فى فهم نصوص القرآن، والذى يقرأ الكتاب يرى الكثير من ذلك، ويعجب من محاولاته الفاشلة فى استنباط ما يشذ به من الآيات التى تجبهه، ولا يمكن أن تتمشى مع مذهبه بحال من الأحوال. هذا.. وإن الكتاب مطبوع على هامش تفسير الحسن العسكرى، وموجود بدار الكتب.
* * *(2/343)
6- الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة ليوسف الثلائى (الزيدى)
* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو شمس الدين يوسف بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن عثمان الثلائى، الزيدى الفقيه، أحد أصحاب الإمام المهدى، وأحد أساطين العلم وجبال التحقيق عند أصحابه. ارتحل الناس إليه من الأقطار إلى "ثلا"، وكان إذا قرأ امتلأ الجامع بالطلبة، وباقيهم بكتبهم فى الطاقات من خارج المسجد.
أخذ عن الفقيه حسن النحوى، وله تصانيف، منها: الزهور والرياض، و "الثمرات اليانعة"، وهو أجَلّ مصنف عند الزيدية، وهو ما نحن بصدده الآن، توفى رحمه الله بـ "ثلا" فى شهر جمادى الآخرة سنة 832 هـ (اثنتين وثلاثين وثمانمائة من الهجرة) .
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير فى ثلاثة أجزاء كبار، ومنه نسخة خطية كاملة بدار الكتب المصرية، ويوجد بالمكتبة الأزهرية الجزء الثانى فقط، وهو مخطوط فى مجلد كبير، يبدأ من قوله تعالى فى الآية [4] من سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} ... . الآية، وينتهى عند قوله تعالى فى الآية [36] من سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} .
قرأت فى هذا التفسير فوجدت المؤلف يقتصر على آيات الأحكام، متمشياً مع ترتيب المصحف فى سورة وآياته. يذكر الآية أولاً، ثم يذكر ما ورد فى سبب نزولها إن كان لها سبب، ثم يقول: ولهذه الآية ثمرات هى أحكام شرعية: الأولى: كذا، والثانية: كذا ... إلى أن ينتهى من كل ما يتعلق بالآية من الأحكام.
* *
* اعتماد المؤلف على الروايات التى لا تصح:
ويُلاحَظ على هذا التفسير أن مؤلفه لا يتحرى الصحة فيما ينقله من الأحاديث. وما يذكره من ذلك يمر عليه مراً سابرياً بدون أن يعقب عليه بكلمة واحدة تُشعر بضعف الحديث أو وضعه، فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. نراه يذكر الروايات الواردة فى سبب نزول هذه الآية، ويذكر ضمن ما يذكر: أنها نزلت فى علىّ بن أبى طالب لمَّا تصدَّق بخاتمه فى الصلاة وهو راكع.. وقد علمنا أن هذه رواية موضوعة لا أساس لها من الصحة، ولكن(2/344)
المؤلف يذكرها، ثم يأخذ فى تفريع الأحكام على هذه القصة المكذوبة، كأنها عنده من الثابت الصحيح.
* *
* تقديره لكشاف الزمخشرى:
كذلك يُلاحَظ على المؤلف فى تفسيره هذا أنه كثير النقل عن الكشاف للزمخشرى، مما يدل على أنه معجب به وبتفسيره إلى حد كبير، ولعل ذلك ناشىء عما بين الرجلين من صلة التمذهب بمذهب الاعتزال.
* *
* مسلكه فى أحكام القرآن:
أما مسلك المؤلف فى أحكام القرآن، فإنه يسرد أقوال السَلَف والخَلَف فى المسألة، فيعرض لما ورد عن الصحابة والتابعين، ويعرض لمذهب الشافعية، والحنفية، والمالكية، والظاهرية، والإمامية ... . وغيرهم من فقهاء المذاهب، ذاكراً لكل مذهب دليله ومستنده فى الغالب. كما يذكر بعناية خاصة مذهب الزيدية واختلاف علمائهم فى المسألة التى يعرض لها، مع الإفاضة فى بيان أدلتهم التى استندوا إليها، والرد على مَن يخالفهم فيما يذهبون إليه.. كل هذا بدون أن نلحظ على الرجل شيئاً من القدح فى مخالفيه، كما يفعل غيره ممن سبق الكلام عنهم. وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير لتقف على مقدار دفاع المؤلف عن مذهبه، وعمله على تأييده بالبراهين والأدلة:
** رأيه فى نكاح الكتابيات:
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ... . إلى قوله: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ... . الآية، نراه يعرض لأقوال العلماء فى حكم نكاح الكتابيات فيقول: "ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسِّرين، ورواية عن زيد بن علىّ، والصادق، والباقر، واختاره الإمام يحيى بن حمزة وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وإن عثمان قد نكح نائلة بنت الفرافصة وهى نصرانية، فلما توفى عثمان خطبها معاوية، فقالت: وما يعجبك منى؟ قال: ثنياتك، فقلعتهما وأمرت بهما إليه، ونكح طلحة نصرانية، ونكح حذيفة يهودية. وقال القاسم، والهادى، والناصر، ومحمد بن عبد الله، وعامة القاسمية، وهو مروى عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها، واحتجوا بقوله تعالى فى سورة البقرة: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] .. قالوا هذا فى المشركات لا فى الكتابيات. قلنا: اسم المشرك ينطلق على أهل الكتاب، بدليل قوله تعالى - بعد ذكر اليهود والنصارى فى قوله: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} ... .(2/345)
إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . وعن ابن عمر: لا أعلم شركاً أعظم من قول النصارى إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثَّر الله المسلمات، وإنما رُخِّص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدل أنهما غيران حيث قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] .. قلنا: هذا كقوله تعالى: {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 180] .. قالوا: الآية مُصرِّحة بالجواز فى قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] .. قلنا: قوله تعالى فى سورة الممتحنة: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10] ، وقوله تعالى فى سورة النور: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ}
[النور: 26] ، وقوله تعالى فى سورة النساء: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 25] .. فشرط الإيمان فى هذا يقتضى التحريم، فتتأول هذه الآية بأنه أراد المحصنات من أهل الكتاب الذين قد أسلموا، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهم باسم ما كانوا عليه. وقد ورد مثل هذا فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولائك يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121] ، وقوله تعالى {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} [آل عمران: 199]- قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز، وإنَّا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} [البقرة: 221] عام ونخصه بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] .. أو نقول: أراد بالمشركات الوثنيات، وبالمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله تعالى: {والمحصنات} ناسخاً لتحريم الكتابيات بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} .. قلنا: نقل ما ذكرتم بما روى أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية فسأل النبى صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال: "إنها لا تحصن ماءك". ويُروى أنه نهاه عن ذلك. وبأنَّا نتتأوّل قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} ، فنجمع ونقول: وتخصيص المشركات بالمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى.. قالوا: روى جابر بن عبد الله عن النبى عليه السلام أنه قال: "أُحِلَّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأُحِلَّ لنا نساؤهم، وحُرِّم عليهم أن يتزوجوا نساءنا"، قال فى الشفاء: قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم وآله فى المجوس: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" ... . الخبر، فأفاد جواز(2/346)
ذبائحهم، ونكاح نسائهم، قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنَّا نُقَوِّى أدلتنا بالقياس، فنقول: كافرة فاشبهت
الحربية، أو لمَّا حرمت الموارثة حرمت المناكحة، أو لما حرَّم نكاح الكافر للمسلمة حرَّم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة".
* *
** رأيه فى المسح على الخُفَّين:
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} ... . الآية، نراه يعرض لمسألة المسح على الخُفَّين فيقول: "إن المسح على الخُفَّين والجوربين لا يجوز، وهو مروى عن علىّ عليه السلام، وابن عباس، وعمَّار بن ياسر، وأبى هريرة، وعائشة. وقال عامة الفقهاء: إنه يجوز المسح عليهما. حجتنا هذه الآية، وهى قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} فأمرت بتطهير الرجلين، والماسح على الخُفَّين لا يكون مُطهِّراً لهما، وكذلك الأخبار التى دلت على الغسل للقدمين. فأما ما رُوِىَ أنه صلى الله عليه وآله مسح على الخفين وأمر به، فهذه الأخبار كانت بمكة وبعد هجرته صلى الله عليه وآله، ثم نزلت سورة المائدة بعد ذلك فكانت ناسخة، ويدل على هذا ما رواه زيد بن علىّ عن آبائه عليهم السلام عن علىّ عليه السلام قال: لما كان فى ولاية عمر جاء سعد بن أبى وقاص فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما لقيتُ من عمَّار، قال: وما ذاك؟ قال: خرجتُ وأنا أريدك ومعى الناس، فأمرتُ منادياً فنادى بالصلاة، ثم دعوتُ بطهور فتطَّهرت ومسحت على خُفِّى، وتقدَّمت أُصلى، فاعتزلنى عمَّار، فلا هو اقتدى بى ولا هو تركنى، فجعل ينادى من خلفى: ياسعد؛ أصلاة من غير وضوء؟ فقال عمر: يا عمّار؛ أخرج مما جئتَ به، فقال: نعم.. كان المسح قبل المائدة، قال عمر: يا أبا الحسن؛ ما تقول؟ قال: أقول إن المسح كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى بيت عائشة، والمائدة نزلت فى بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة فقالت: كان المسح قبل المائدة، فقل لعمر: والله لأن يُقطع قدماى بعقبهما أحبُّ إلىّ من أن أمسح عليهما، فقال عمر: لا تأخذ بقول امرأة، ثم قال: أنشد الله امرءاً شهد المسح من رسول الله لما قام، فقام ثمانية عشر رجلاً كلهم رأى رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح وعليه جُبَّة شامية ضيقة الكمين، فأخرج يده من تحتها ثم مسح على خُفَّيه، فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: سلهم؛ أقبل المائدة أم بعدها؟ فسألهم، فقالوا: ما ندرى، فقال علىّ عليه السلام: أنشد الله امرءاً مسلماً علم أن المسح قبل المائدة لما قام، فقام اثنان وعشرون رجلاً،
فتفرَّق القوم وهؤلاء يقولون: لا نترك ما رأينا.(2/347)
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: والله ما مسح رسول الله بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحبُّ إلىّ من أن أمسح على الخُفَّين. وعن علىّ عليه السلام، سبق الكتاب الخُفَّين - قيل معناه: قطع - وعن أبى هريرة: ما أُبالى على خُفَّى مسحتُ أو على ظهر حمار. فثبت للنسخ بما ذكر. وأما قول جرير: رأيت رسول الله يمسح، وكان إسلامه بعد المائدة فروايته لا تُقبل مع إنكار أمير المؤمنين، لأنه لحق بمعاوية فكان ذلك قدحاً. هذا كلام أهل المذهب والمسألة إجماعية من أهل البيت عليهم السلام".
وهكذا نجد المؤلف - رحمه الله - يناقش مخالفيه من أصحاب المذاهب الأخرى مناقشة حادة، وإن دلَّت على شىء فهو قوة ذهن الرجل، وسعة اطلاعه. هذا.. ولا يكاد القارئ لهذا التفسير يجد فيه خلافاً كثيراَ للمذاهب الفقهية الأخرى، كما هو الشأن فى كتب التفسير الفقهى للإمامية الإثنا عشرية، وهذا راجع إلى تقارب وجهات النظر بين الزيدية وأهل السُّنَّة فى أصول الفقه وفروعه.
* * *(2/348)
التفسير العلمى
معنى التفسير العلمى
نريد بالتفسير العلمى: التفسير الذى يُحَكِّم الاصطلاحات العلمية فى عبارات القرآن، ويجتهد فى استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها.
* *
التوسع فى هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به
وقد وقع هذا النوع من التفسير، واتسع القول فى احتواء القرآن كل العلوم ما كان منها وما يكون، فالقرآن فى نظر أصحاب هذه الطريقة يشمل - إلى جانب العلوم الدينية الاعتقادية والعملية - سائر علوم الدنيا على اختلاف أنواعها، وتعدد ألوانها.
* *
الإمام الغزالى والتفسير العلمى
ويظهر لنا - على حسب ما قرأنا - أن الإمام الغزالى كان - إلى عهده - أكثر من استوفى بيان هذا القول فى تفسير القرآن، وأهم مَن أيده وعمل على ترويجه فى الأوساط العلمية الإسلامية، على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن.
وبين أيدينا كتاب "الإحياء" للغزالى نتصفحه فنجده يعقد الباب الرابع من أبواب آداب تلاوة القرآن، فى فهم القرآن وتفسيره بالرأى من غير نقل. وفيه ينقل عن بعض العلماء "أن القرآن يحوى سبعة وسبعين ألف علم ومائتى علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع"، ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليتدبر القرآن"، ثم يقول بعد ذلك كله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها"، ثم يزيد على ذلك فيقول: "بل كل ما أشكل فهمه على النُظَّار، واختلف فيه الخلائق فى النظريات، والمعقولات، فى القرآن إليه رمز ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بدركها".
ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذى ألَّفه بعد الإحياء كما يظهر لنا من مقدمته، فنجده يزيد هذا الذى قرره فى الإحياء بياناً وتفصيلاً، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفى أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين:(2/349)
الأول: علم الصدف والقشر، وجعل من مشتملاته: علم اللُّغة. وعلم النحو: وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف. وعلم التفسير الظاهر.
والثانى: علم اللُّباب. وجعل من مشتملاته: علم قصص الأوَّلين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم، وطريق السلوك.
ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن، فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالَم، وهيئة بدن الحيوان، وتشريح أعضائه، وعلم السحر، وعلم الطلسمات ... وغير ذلك، ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أُخرى، يُعلم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التى لا يُتمارى فيها أن فى الإمكان والقوة أصنافاً من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان فى قوة الآدمى الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد فى هذه الأعصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أُخر ليس فى قوة البشر أصلاً إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقرَّبين، فإن الإمكان فى حق الآدمى محدود، والإمكان فى حق المَلَك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله سبحانه هو الذى لا يتناهى العلم فى حقه".
ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم ما عددنا وما لم نعددها، ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مِدَاداً لكلماته لنَفِدَ البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال - مثلاً - الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بُحسْبان، وقد قال الله تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] ، وقال: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] ، وقال: {وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 8-9] ، وقال: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} [الحج: 61، لقمان: 29] وقال: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [يس: 38] .. ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما، وولوج الليل فى النهار، وكيفية تكور أحدهما(2/350)
على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله: {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم * الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6-8] إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهراً وباطناً، وعددها وأنواعها، وحكمتها ومنافعها، وقد أشار فى القرآن فى مواضع إليها، وهى من علوم الأوَّلين والآخرين، وفى القرآن مجامع علم الأوَّلين والآخرين. وكذلك لا يعرف معنى قوله: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29، وسورة ص: 72] ما لم يعلم التسوية، والنفخ، والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها، ولو ذهبت أُفَصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها.. فتفكر فى
القرآن، والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأوَّلين والآخرين".
* *
الجلال السيوطى والتفسير العلمى
كذلك نجد العلامة جلال الدين السيوطى ينحو منحى الغزالى فى القول بالتفسير العلمى، ويقرر ذلك بوضوح وتوسع فى كتابه "الإتقان" فى النوع الخامس والستين منه، كما يقرر ذلك أيضاً بمثل هذا الوضوح والتوسع فى كتابه "الإكليل فى استنباط التنزيل" ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم.
فمن الآيات: قوله تعالى فى الآية [38] من سورة الأنعام: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} ، وقوله فى الآية [89] من سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
ومن الأحاديث: ما أخرجه الترمذى وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله.. فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما يعدكم، وحكم ما بينكم".
وما أخرجه أبو الشيخ عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو أغفل شيئاً لأغفل الذّرَّة والخردلة والبعوضة".
ومن الآثار: ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: "مَن أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأوَّلين والآخرين".
وما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "أَنْزلَ فى القرآن كل علم، وبَيَّنَ لنا فيه كل شىء، لكن علمنا يقصر عما بَيَّنَ لنا فى القرآن".(2/351)
ثم نجده بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة من قوله تعالى فى الآية [11] من سورة المنافقون: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ} ، فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقَّبها بـ "التغابن" ليُظهر التغابن فى فقده".
* *
أبو الفضل المرسى والتفسير العلمى
ثم ذكر عن أبى الفضل المرسى أنه قال فى تفسيره: "جمع القرآن علوم الأوَّلين والآخرين، بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس حتى قال: لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوَّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته، وآياته، وسوره، وأحزابه، وأنصافه، وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات ... إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أُودع فيه، فسُمُّوا القُرَّاء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبنى من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة، وغيرها، وأوسعوا الكلام فى الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال. واللازم، والمتعدى، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسِّرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظاً يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفى منه، وخاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين والمعانى، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأُصوليون بما فيه من الأدلة القطعية، والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله، ووجوده، وبقائه، وقِدَمه، وقُدرته، وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأُصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معانى خطابه، فرأت منها ما يقتضى العموم، ومنها ما يقتضى(2/352)
الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللُّغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا فى التخصيص، والإضمار، والنص، والظاهر، والمُجمَل، والمُحْكَم، والمتشابه، والأمر، والنهى، والنسخ ... إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال، والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أُصوله، وفرَّعوا فروعه، وبسطوا القول فى ذلك بسطاً حسناً، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضاً.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة، والأُمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودوَّنوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا، وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ.
وتنبَّه آخرون لما فيه من الحِكَم، والأمثال، والمواعظ التى تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد، والوعيد، والتحذير، والتبشير، وذكر الموت، والمعاد، والنشر، والحشر، والحساب، والعقاب، والجنَّة، والنار، فصولاً من المواعظ، وأُصولاً من الزواجر، فسُمُّوا بذلك الخطباء والوُعَّاظ.
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير، مثل ما ورد فى قصة يوسف فى البقرات السمان، وفى منامى صاحبى السجن، وفى رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسَمُّوه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب، فإن عَزَّ عليهم إخراجها منه فمن السُّنَّة التى هى شارحة للكتاب، فإن عَزَّ فمن الحِكَم والأمثال، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام فى مخاطباتهم وعُرف عاداتهم، الذى أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بالمعروف} [لقمان: 17] .. وأخذ قوم مما فى آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك، علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النِصْف، والثُّلُث، والرُّبُع، والسُّدُس، والثُّمُن، حساب الفرائض، ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحِكَم الباهرة، فى الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومنازله، والبروج، وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت.
ونظر الكُتَّاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللَّفظ، وبديع النظم، وحُسن السياق، والمبادىء، والمقاطع، والمخالص، والتلوين فى الخطاب، والإطناب، والإيجاز، وغير ذلك واستنبطوا منه المعانى، والبيان، والبديع.
ونظر فيه أرباب الإشارات، وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معانٍ ودقائق، جعلوا لها أعلاماً اصطلحوا عليها، مثل: الفناء، والبقاء، والحضور. والخوف، والهيبة، والأُنس، والوحشة، والقبض، والبسط، وما أشبه ذلك.
هذه الفنون أخذتها المِلَّة الإسلامية منه، وقد أحتوى على علوم أُخَر من علوم(2/353)
الأوائل مثل: الطّب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك من العلوم.
أما الطب: فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك فى آية واحدة وهى قوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، [الفرقان: 67] وعرفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله فى قوله تعالى: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] .. ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب، وشفاء الصدور.
وأما الهيئة: ففى تضاعيف سوره من الآيات التى ذكر فيها ملكوت السموات والأرض، وما بث فى العالم العلوى والسفلى من المخلوقات.
وأما الهندسة: ففى قوله تعالى: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب} [المرسلات: 30-31] .. فإن فيه قاعدة هندسية، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له.
وأما الجدل: فقد حوت آياته من البراهين، والمقدمات، والنتائج، والقول بالموجب، والمعارضة، وغير ذلك شيئاً كثيراً، ومناظرة إبراهيم نمرود، ومحاجته قومه أصل فى ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام التواريخ لأُمم سالفة. وإن فيها بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقى، مضروب بعضها فى بعض.
وأما النجامة: ففى قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] ، فقد فسَّره بذلك ابن عباس.
وفيه أُصول الصنائع وأسماء الآلات التى تدعو الضرورة إليه، كالخياطة فى قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} [الأعراف: 22، طه: 121] ، والحدادة: {آتُونِي زُبَرَ الحديد} [الكهف: 96] والبناء فى آيات، والنجارة: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] ، والغزل: {نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92] ، والنسج: {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} [العنكبوت: 41] ، والفلاحة: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63 وما بعدها] ... الآيات، والصيد فى آيات، والغوص: {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37] ، {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً} [النحل: 14] ، والصياغة: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] ، والزجاجة: {المصباح فِي(2/354)
زُجَاجَةٍ} ، {مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} [النمل: 44] ، والفخارة: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 38] ، والملاحة: {أَمَّا السفينة} [الكهف: 79] ... . الآية، والكتابة {عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 4] وفى آيات أُخَر. والخَبْز: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} [يوسف: 36] ، والطبخ: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] ، والقصارة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ، {قَالَ الحواريون} [آل عمران: 52، المائدة: 112، الصف: 14] وهم القصَّارون، والجزارة: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، والبيع والشراء فى آيات، والصبغ: {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} ، [فاطر: 27] والحجارة: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} [الشعراء: 149] ، والكيالة والوزن فى آيات كثيرة، والرمى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] .
وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع فى الكائنات ما يحقق معنى قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .. قال السيوطى: انتهى كلام المرسى ملخصاً مع زيادات.
ثم بعد روايته لهذه المقالة الطويلة، نجده يذكر عن أبى بكر بن العربى أنه قال فى كتابه "قانون التأويل": "علوم القرآن خمسين علماً، وأربعمائة علم، وسبعة آلاف علم، وسبعون ألف علم، على عدد كلم القرآن مضروبة فى أربعة، إذ لكل كلمة ظهر وبطن، وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار التركيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يُحصى، وما لا يعمله إلا الله".
وأخيراً عقَّب السيوطى على هذه النقول وغيرها فقال: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شىء، أما أنواع فليس منها باب ولا مسألة هى أصلاً إلا وفى القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض، وما فى الأفق الأعلى وما تحت الثرى و.. و ... إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات".
ومن هذا يتبين لك كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين فى تفسير القرآن الكريم، وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها، ما جَدَّ وما يَجِدّ إلى يوم القيامة.
ولو أنَّا تتبعنا سلسلة البحوث التفسيرية للقرآن الكريم، لوجدنا أن هذه النزعة - نزعة التفسير العلمى - تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا، ولوجدنا أنها كانت فى أول الأمر عبارة عن محاولات، يُقصد منها التوفيق بين القرآن،(2/355)
وما جَدَّ من العلوم، ثم وُجِدت الفكرة مركَّزة وصريحة على لسان الغزالى، وابن العربى، والمرسى، والسيوطى، ولوجدنا أيضاً أن هذه الفكرة قد طُبِّقت علمياً، وظهرت فى مثل محاولات الفخر الرازى، ضمن تفسيره للقرآن.
ثم وُجِدت بعد ذلك كتب مستقلة فى استخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم، وراجت هذه الفكرة فى العصر المتأخر رواجاً كبيراً بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما أُلِّفت بعض التفاسير التى تسير على ضوء هذه الفكرة. ونرى أن نؤجل البحث عن التفسير العلمى فى هذه المرحلة الأخيرة إلى خاتم الرسالة، حيث نعرض لألوان التفسير فى العصر الحديث إن شاء الله تعالى.
* * *
إنكار التفسير العلمى
إذا كانت فكرة التفسير العلمى قد راجت عند بعض المتقدمين، وازدادت رواجاً عند بعض المتأخرين، فإنها لم تلق رواجاً عند بعض العلماء الأقدمين، كما أنها لم تلق رواجاً عند بعض المتأخرينم منهم أيضاً.
* *
إنكار الشاطبى للتفسير العلمى
ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن زعيم المعارضة لهذه الفكرة فى العصور المتقدمة هو الفقيه الأصولى: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى، الأندلسى، المتوفى سننة 790 هـ (تسعين وسبعمائة من الهجرة) ، وذلك أنَّا نجده فى كتابه "الموافقات" يعقد بحثاً خاصاً لمقاصد الشارع، وينوِّع هذه المقاصد إلى أنواع تولى شرحها وبيانها، والذى يهمنا هنا النوع الثانى منها وهو "بيان قصد الشارع فى وضع الشريعة للأفهام" وفى المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر أن "هذه الشريعة المباركة أُمِّية، لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعبتار المصالح".. ثم دلَّل على ذلك بأُمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقَّب بفصل ذكر فيه: "إن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبيَّنت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه"، ثم ذكر من العلوم الصحيحة التى كان للعرب اعتناء بها: علم النجوم وما يختص به من الاهتداء فى البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى. ثم قال: "وهو معنى مقرر فى أثناء القرآن(2/356)
فى مواضع كثيرة كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 97] ، وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، وقوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم * لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39-40] ، وقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] ، وقوله: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ... الآية، وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] ، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] ...
وما أشبه ذلك من الآيات.
وذكر علم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، وعرض لما ورد فى ذلك من القرآن مثل قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال * وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} [الرعد: 12-13] ... الاية، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 68-69] ، وقوله: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] ... وغير ذلك من الآيات.
وذكر علم التاريخ وأخبار الأُمم الماضية، وفى القرآن من ذلك ما هو كثير ... قال تعالى: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ... الاية، وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هاذا} [هود: 49] .
وذكر علم الطب، وبيَّن أنه كان فى العرب منه شىء مبنى على تجارب الأُميين، لا على قواعد الأقدمين. قال: "وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن على وجه جامع، شاف، قليل يطلع منه على كثير، فقال تعالى: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} [الأعراف: 31] .
وذكر التفنن فى علم فنون البلاغة، والخوض فى وجوه الفصاحة، والتصرف فى أساليب الكلام.. قال: "وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] ..
وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58] .(2/357)
وذكر من العلوم التى عنى بها العرب وأكثرها باطل أو جميعها: علم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطَيْرة، قال: "فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه كالكهانة، والزجر، وخط الرمل. وأقرت الفأل لا من جهة تَطلُّب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تَخرُّص على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبى صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحى والإلهام، وبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة".
ثم بعد هذا البيان الذى أوضح فيه الشاطبى أن الشريعة فى تصحيح ما صححت وإبطال ما أبطلت قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهاباً وإيضاحاً، ويتوجه باللَّوم إلى مَن أضافوا للقرآن كل علوم الأوَّلين والآخرين، مفنداً هذا الزعم، الذى اعتقد أن قائليه قد تجاوزوا به الحد فى دعواهم على القرآن. وذلك حيث يقول فى المسألة الرابعة من مسائل النوع الثانى من المقاصد - أعنى مقاصد وضع الشريعة للإفهام - "ما تقرر من أُمِّية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها - وهم العرب - ينبنى عليه قواعد: منها: أن كثيراً من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه لك علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات، والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح".
ثم يصحح الشاطبى رأيه هذا ويحتج له بما عُرِف عن السَلَف من نظرهم فى القرآن فيقول: " ... إن السَلَف الصالح - من الصحابة والتابعين ومن يليهم - كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أُودع فيه، ولم تبلغنا أنه تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدَّعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلى ذلك، ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا. نعم تضمن علوماً من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودها مما يتعجب منه أُولوا الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا".
ثم أخذ الشاطبى بعد هذا فى ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمى من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ(2/358)
شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ... ونحو ذلك، وبفواتح السور - وهى مما لم يُعهد عند العرب - وبما نُقِل عن الناس فيها، وربما حكى من ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره أشياء"
ثم أخذ الشاطبى رحمه الله يفند هذه الأدلة فقال:
"فأما الآيات: فالمراد بها عند المفسِّرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب فى قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} : اللَّوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضى تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور.. فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهداً، كعدد الجُمَّل الذى تَعرَّفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هى من المتشابهات التى لا يعلم تأويلها إلى الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ولم يدعه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما يُنقل عن علىّ أو غيره فى هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار فى الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أُودع من الأحكام الشرعية، فمَن طلبه بغير ما هو أداة له ضَلَّ عن فهمه، وتَقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق".
هذه هى الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبى فى هذا الموضوع، وذلك هو رأيه فى التفسير العلمى الذى شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين، وأحسب أنى - وقد وضعت بين يدى القارىء مقالة كل فريق وما يستند إليه من أدلة - قد أنرتُ له الطريق، وأوضحتُ له السبيل، ليختار لنفسه ما يحلو، بعد أن يحكم على أحدهما بأنه خير مقالة وأحسن دليلاً.
* *
اختيارنا فى هذا الموضوع
أما أنا فاعتقادى أن الحق مع الشاطبى رحمه الله، لأن الأدلة التى ساقها لتصحيح مُدَّعاه أدلة قوية، لا يعتريها الضعف، ولا يتطرق إليها الخلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة لا تثبت أمامها حججهم، ولا يبقى معها مُدَّعاهم.
وهناك أُمور أُخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفه، فمن ذلك ما يأتى:
أولا - الناحية اللُّغوية:
وذلك أن الألفاظ اللُّغوية لم تقف عند معنى واحد من لدن استعمالها إلى اليوم،(2/359)
بل تدرجت حياة الألفاظ وتدرجت دلالاتها، فكان لكثير من الألفاظ دلالات مختلفة، ونحن وإن كنا لا نعرف شيئاً عن تحديد هذا التدرج وتاريخ ظهور المعانى المختلفة للكلمة الواحدة، نستطيع أن نقطع بأن بعض المعانى للكلمة الواحدة حادث باصطلاح أرباب العلوم والفنون، فهناك معان لُغوية، وهناك معان شرعية، وهناك معان عُرْفية، وهذه المعانى كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به وقت نزول القرآن، نظراً لحدوثه وطروه على اللَّفظ، فهل يعقل بعد ذلك أن نتوسع هذا التوسع العجيب فى فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدَّت باصطلاح حادث، ولم تُعرف للعرب الذين نزل القرآن عليهم؟ وهل يعقل أن الله تعالى إنما أراد بهذه الألفاظ القرآنية هذه المعانى التى حدثت بعد نزول القرآن بأجيال، فى الوقت الذى نزلت فيه هذه الألفاظ من عند الله، وتُليت أول ما تُليت على مَن كان حول النبى صلى الله عليه وسلم؟. أعتقد أن هذا أمر لا يعقله إلا مَن سفه نفسه، وأنكر عقله.
*
ثانياً - الناحية البلاغية:
عُرِّفت البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعلوم أن القرآن فى أعلى درجات البلاغة، فإذا نحن ذهبنا مذهب أرباب التفسير العلمى وقلنا بأن القرآن متضمن لكل العلوم، وألفاظه متحملة لهذه المعانى المستحدّثة، لأوقعنا أنفسنا فى ورطة لا خلاص لنا منها إلا بما يخدش بلاغة القرآن، أو يذهب بفطانة العرب، وذلك لأن مَن خوطبوا بالقرآن فى وقت نزوله أن كانوا يجهلون هذه المعانى وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب وهذا سلب لأهم خصائص القرآن الكريم. وإن كانوا يعرفون هذه المعانى فلِمَ لَمْ تظهر نهضة العرب العلمية من لدن نزول القرآن الذى حوى علوم الأوَّلين والآخرين؟ ولِمَ لَمْ تقم نهضتهم على هذه الآيات الشارحة لمختلف العلوم وسائر الفنون؟.. وهذا أيضاً سلب لأهم خصائص العرب ومميزاتهم.
*
ثالثاً: الناحية الاعتقادية:
القرآن الكريم باق ما تعاقب الملوان، ونظامه نافع لكل عصر وزمان، فهو يتحدث إلى عقول الناس جميعاً من لدن نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يساير حياتهم فى كل ما يمرون به من مراحل الزمن، وهذا كله بحكم كونه كتاب الشريعة العامة الشاملة، وقانون الدين الذى جعله الله خاتم شرائع السموات إلى أهل الأرض.
هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده ويدين به، حتى يسلم له دينه، ولا يرتاب(2/360)
فيه، فإذا نحن ذهبنا مذهب مَن يُحمِّل القرآن كل شىء، وجعلناه مصدراً لجوامع الطب، وضوابط الفلك، ونظريات الهندسة، وقوانين الكيمياء، وما إلى ذلك من العلوم المختلفة، لكُنا بذلك قد أوقعنا الشك فى عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم، وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء، فرُبَّ نظرية علمية قال بها عالِمٌ اليوم، ثم رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير، لأنه ظهر له خطؤها. وأمام سمعنا وبصرنا من المثل ما يشهد بأن كثيراً من جوامع العلم لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد ذلك، وكم بين نظريات العلم قديمة وحديثة من تناف وتضاد، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملاً لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينها من التنافى والتضاد؟ وإذا كان هذا معقولاً، فهل يعقل أن يُصدِّق مسلم بالقرآن بعد هذا، ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟؟
الحق أن القرآن لا يعنى بهذا اللَّون من حياة الناس، ولا يتعهده بالشرح ولا يتولاه بالبيان، حتى يكون مصدرهم الذى يرجعون إليه فى تعرف حياتهم العلمية الدنيوية.
ويبدو لنا أن أنصار هذه الفكرة - فكرة التفسير العلمى - لم يقولوا بها، ولم يعملوا على تأييدها إلا بعد أن نظروا إليها كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم. وبيان صلاحيته للحياة، وتمشيه معها على اختلاف أحوالها وتطور أزمانها. ولكن "ما هكذا يا سعد تورد الإبل" فإن إعجاز القرآن غنى عن أن يُسلك فى بيانه هذا المسلك المتكلف، الذى قد يُذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان أرباب هذا المسلك فى التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، ودعوة الله لهم بالنظر فى كتاب الكون وآياته التى بثًَّها فى الآفاق وفى أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا فى دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأوَّلين والآخرين، فهم مخطئون ولا شك، وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض وفى أنفسهم، لا يُراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة فى النفس وجلال فى القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف، الذى(2/361)
يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى، فى إصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضاً، أن من الخير لهم ولكتابهم أن لا ينحوا بالقرآن هذا المنحى فى تفسيرهم، رغبة منهم فى إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشبى مع التطور الزمنى، وحسبهم أن لا يكون فى القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جَدَّ ويَجِدّ من نظريات وقوانين علمية، تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة.
* * *(2/362)
الخاتمة.. كلمة عامة عن التفسير وألوانه فى العصر الحديث
التفسير بين ماضيه وحاضره
لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد فى تفسير كتاب الله، والكشف عن معانيه ومراميه، إذ أنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذى جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ، وتلون بألوان مختلفة مرَّت بك كلها. أو مرَّ بك على التحقيق ما وصلنا إليه فى دراستنا وقراءتنا الواسعة المستفيضة.
والذى يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها، لا يدخله شك فى أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفاه هؤلاء المفسِّرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق، فالناحية اللُّغوية، والناحية البلاغية، والناحية الأدبية، والناحية النحوية، والناحية الفقهية، والناحية المذهبية، والناحية الكونية الفلسفية. كل هذه النواحى وغيرها تناولها المفسِّرون الأُوَل بتوسع ظاهر ملموس، لم يترك لمن جاء بعدهم - إلى ما قبل عصرنا بقيل - من عمل جديد، أو أثر مبتكر يقومون به فى تفاسيرهم التى ألَّفوها، اللَّهم إلا عملاً ضئيلاً لا يعدو أن يكون جمعاً لأقوال لمتقدمين، أو شرحاً لغامضها، أو نقداً وتفنيداً لما يعتوره الضعف منها، أو ترجيحاً لرأى على رأى، مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود، خالية من التجديد والابتكار.
* *
مميزات التفسير فى العصر الحديث
ولقد ظل الأمر على هذا، وبقى التفسير واقفاً عند هذه المرحلة - مرحلة الركود والجمود - لا يتعداها، ولا يحاول التخلص منها. حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى أن يتحرروا من قيد هذا الركود، ويتخلصوا من نطاق هذا الجمود، فنظروا فى كتاب الله نظرة - وإن كان لها اعتماد كبير على ما دوَّنه الأوائل فى التفسير - أثَّرت فى الاتجاه التفسيرى للقرآن تأثيراً لا يسعنا إنكاره، ذلك هو العمل على التخلص من كل هذه الاستطرادات العلمية، التى حُشِرت فى التفسير حشراً ومُزِجت به على غير ضرورة لازمة، والعمل على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلى الذى كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وإلباس التفسير ثواباً أدبياً اجتماعياً،(2/363)
يُظهر روعة القرآن، ويكشف عن مراميه الدقيقة وأهدافه السامية، والتوفيق بجد بالغ وجهد ظاهر بين القرآن وما جَدَّ من نظريات علمية صحيحة، على تفاوت بين الموفقين فى الغلو والاعتدال، وكان ذلك من أجل أن يعرف المسلمون وغير المسلمين أن القرآن هو الكتاب الخالد، الذى يتمشى مع الزمن فى جميع أطواره ومراحله ... وهناك غير هذه الآثار آثار أخرى ظهرت فى الاتجاه التفسيرى فى هذا العصر الحديث، نشأت عن عوامل مختلفة، أهمها: التوسع العلمى، والتأثر بالمذهب والعقيدة، والإلحاد الذى قام على حرية الرأى الفاسد.
* *
ألوان التفسير فى العصر الحديث
وعلى ضوء ما تقدّم، نستطيع أن نُجمل ألوان التفسير فى العصر الحديث فى الألوان الأربعة الآتية وهى أهمها:
أولاً: اللّون العلمى. ثانياً: اللَّون المذهبى.
ثالثاً: اللَّون الإلحادى. رابعاً: اللَّون الأدبى الاجتماعى.
وسأتكلم عن هذه الألوان الأربعة للتفسير فى العصر الحديث، على حسب ترتيبها، وبمقدار ما استفدت من قراءتى فى كتب التفسير وما يتصل به من مؤلفات جَدَّت فى هذا العصر، والله ولى التوفيق.
اللَّون العلمى للتفسير فى عصرنا الحاضر(2/364)
الجواهر فى تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوى جوهرى)
* الدوافع التى حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير:
خُلِق الفيلسوف الإسلامى المرحوم الشيخ طنطاوى جوهرى - كما يقول هو عن نفسه -: "مغرماً بالعجائب الكونية معجباً بالبدائع الطبيعية، مشوقاً إلى ما فى السماء من جمال، وما فى الأرض من بهاء وكمال"، ثم كان منه - كما يقول - أنه لما تأمل الأُمة الإسلامية وتعاليمها الدينية، ألفى أكثر العقلاء وبعض أجِلَّة العلماء عن تلك المعانى معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم مَن فَكَّر فى خلق العوالِم وما أُودع فيها من الغرائب، فدفعه ذلك إلى أن ألَّف كتباً كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعل آيات الوحى مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق، وكان من أهْم هذه الكتب كتاب "نظام العالَم والأمم" و "جواهر العلوم" و "التاج المرصع" و "جمال العالَم" و "النظام والإسلام" و "الأُمة وحياتها" ولكنه وجد أن هذه الكتب - رغم كثرتها، وانتشارها، وترجمتها إلى اللُّغات الأجنبية - لم تشف غليله، فتوجَّه إلى ذى العِزَّة والجلال، أن يُوفقه إلى أن يُفسِّر القرآن تفسيراً ينطوى على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فاستجاب الله دعاءه، وتم له ما أراد.
* *
* متى وكيف شرع المؤلف فى كتابة هذا التفسير؟
ابتدأ المؤلف هذا التفسير أيام أن كان مدرساً بمدرسة دار العلوم، فكان يلقى تفسير بعض آيات على طلبتها. وبعضها كان يكتب فى مجلة الملاجىء العباسية، ثم وإلى سيره فى التفسير حتى أخرج لنا هذه الموسوعة الكبيرة.
* *
*غرض المؤلف من تفسيره:
ولقد أمل المؤلف - رحمه الله - من وراء هذا التفسير - كما يقول - "أن يشرح الله به قلوباً، ويهدى به أُمماً، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهموا العلوم الكونية"، وقال: "وإنى لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأُمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون، وليُقرَأنّ فى مشارق الأرض ومغاربها مقروناً بالقبول، وليولعن بالعجائب السماوية والبدائع الأرضية الشبان الموحِّدون، وليرفعن الله مدنيتهم إلى العلا، وليكونن داعياً حثيثاً إلى درس العوالم العلوية والسفلية،(2/370)
وليقومن من هذه الأمة مَن يفوقون الفرنجة فى الزراعة، والطب، والمعادن، والحساب، والهندسة، والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات".
* *
* مسلك المؤلف فى تفسيره:
ولقد وضع المؤلف فى تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام، والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق، مما يَشوِّق المسلمين والمسلمات - كما يقول - إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البيِّنات فى الحيوان والنبات، والأرض والسموات.
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - ليقرر فى تفسيره أن فى القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، فى حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية، كما يقرر " أن الإسلام جاء لأُمم كثيرة، وأن سور القرآن متممات لأُمور أظهرها العلم الحديث".
وكثيراً ما نجد المؤلف - رحمه الله - فى تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا فى آيات القرآن التى ترشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيها، ويندد بمن يُغفل هذه الآيات على كثرتها، وينعى على مَن أغفلها من السابقين الأوَّلين، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأُمور العقيدة.
نجد المؤلف يكرر هذه النغمة فى كثير من مواضع الكتاب فيقول فى موضع منه: "يا أمة الإسلام؛ آيات معدودات فى الفرائض اجتذبت فرعاً من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها.. هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعرى.. لماذا لا نعمل فى آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا فى آيات الميراث؟ ولكنى أقول: الحمد لله ... الحمد لله، إنك تقرأ فى هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد فى معرفة الله وهى فرض عَيْن على كل قادر ... إن هذه العلوم التى أدخلناها فى تفسير القرآن، هى التى أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء فى الإسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدى مَن يشاء إلى صراط مستقيم".
ويقول فى موضع آخر: "إن نظام التعليم الإسلامى لا بد من ارتقائه، فعلوم البلاغة ليست هى نهاية علوم القرآن، بل هى علوم لفظه، وما نكتبه اليوم علوم معناه، وانطباقها على العلوم التى أظهرها الله فى الأرض، ولعل هذا الزمان سيظهر فيه آثار من(2/371)
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] ، فإن البيان المذكور فى سورة القيامة فُسِّر بمعنى أننا نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل، وبمعنى أنِه إذا أشكل شىء من معانيه فنحن نبينه لك، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب ولا جَرَم أن ما يتجدد اليوم من العلوم مما ذُكِر فى هذا التفسير وما لم يُذكر، من البيان الذى أكد الله أنه يُظهره لأُمة الإسلام، فالحمد لله الذى وفق فى هذا التفسير لبعض العرفان تصديقاً لما ذكر الله من أن عليه البيان".
ويقول فى موضع آخر: "لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الأُلوف من الكتب الإسلامية فى علم الفقه ... وعلم الفقه ليس له فى القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف فى علم الفقه، وقَلَّ جداً فى علوم الكائنات التى لا تخلو منها سورة؟ بل هى تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز فى عقل أو شرع أن يبرع المسلمون فى علم آياته قليلة. ويجهلوا علماً آياته كثيرة جداً؟ إن آباءنا برعوا فى الفقه، فلنبرع نحن الآن فى علم الكائنات.. لنقم به لترقى الأُمة".
* *
* لم يلق تفسير الجواهر قبولاً لدى كثير من المثقفين:
هذه المقالات - وغيرها كثير فى تفسير الجواهر - نجد أغلبها قد صدر من المؤلف فى مقام الرد على مَن كان يوجه إليه اللَّوم والاعتراض على ما كان منه من تحميل القرآن الكريم علوماً ونظريات مستحدَثة لا عهد للعرب بها، ولا صلة للقرآن بشىء منها.
ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف - رحمه الله - لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذى سلكه فى تفسيره، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلق قبولاً لدى كثير من المثقفين.
* *
* مصادرة المملكة السعودية لتفسير الجواهر:
ولعل هذا المنزع فى تفسير القرآن الكريم هو السر الذى من أجله صادرت المملكة العربية السعودية هذا الكتاب، ولم تسمح بدخوله إلى بلادها، كما يجد القارئ ذلك فى نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبد العزيز آل سعود، ملك نجد والحجاز (ص 238 من الجزء الخامس والعشرين) .
* *
* طريقة المؤلف فى هذا التفسير:
هذا وإنى - بعد أن قرأت الكثير من هذا التفسير - أستطيع أن أعطيك صورة(2/372)
واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التى سلكها فيه، وذلك أن المؤلف رحمه الله يفسر الآيات القرآنية تفسيراً لفظياً مختصراً، لا يكاد يخرج عما فى كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذى يسميه لفظياً، ويدخل فى أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو "لطائف" أو "جواهر".. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب فى العصر الحديث، أتى بها المؤلف، ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبَّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة.
ثم إننا نجد المؤلف - رحمه الله - يضع لنا فى تفسيره هذا كثيراً من صور النباتات، والحيوانات، ومناظر الطبيعة، وتجارب العلوم، بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحاً يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهَد المحسوس.
كذلك نجد المؤلف - رحمه الله - يستشهد أحياناً على ما يقول بما جاء فى الإنجيل، واعتماده فيما ينقل على إنجيل "برنابا" لأنه - كما يرى - أصح الأناجيل، بل هو الإنجيل الوحيد الذى لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل.
وكثيراً ما نرى المؤلف - رحمه الله - يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون فى جمهوريته، أو بما جاء عن إخوان الصفا فى رسائلهم، وهو حين ينقهلا يُبدى لنا رضاه عنها، وتصديقه بها، مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنه يستخرج كثيراً من علوم القرآن بواسطة حساب الجُمَّل الذى لا نُصدَّق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة، وإنما هى عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين، فتسلَّطت على عقول الكثير منهم.
هذا.. وإنَّا لنجد المؤلف - رحمه الله - يُفسِّر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة، وعلوم جديدة، لم يكن للعرب عهد بها من قبل، ولست أرى هذا المسلك فى التفسير إلا ضرباً من التكلف، إن لم يذهب بغرض القرآن، فلا أقل من أن يُذهب بجلاله وجماله.
وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير:
* نماذج من هذا التفسير:
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [61] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} ...(2/373)
الآية، نجده يقول: "الفوائد الطيبة فى هذه الآية" ثم يأخذ فى بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا فى الطب، ثم يقول: "أَوَ ليست هذه المناهج هى التى نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} رمزاً لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى ... وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقى والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية فى المدن بأكل التوابل، واللحم، والإكثار من ألوان الطعام، مع الذلة، وجور الحكام، والجبن، وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم فى حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسِّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [67] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} ... . الآيات إلى آخر القصة، نجده يعقد بحثاً فى عجائب القرآن وغرائبه، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر - فيما يذكر - علم تحضير الأرواح فيقول: ".. وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولاً، ثم بسائر أوروبا ثانياً".. ثم ذكر نُبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيراً: "ولما كانت السورة التى نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الطاعون، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة فى السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح فى مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل فى إحياء الموتى فى هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} . [الأنعام: 90] . ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة آل عمران: {آلم} نجده يعقد بحثاً طويلاً عنوانه: "الأسرار الكيميائية، فى الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية، فى أوائل السور القرآنية" وفيه يقول: "انظر رعاك الله - تأمل - يقول الله: {ألم} ، {طس} ، {حم} .. وهكذا يقول لنا: أيها الناس؛ إن الحروف الهجائية، إليها تحلل(2/374)
الكلمات اللُّغوية، فما من لغة فى الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللُّغة العربية أم اللُّغات الأعجمية، شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها
إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون فى سائر العلوم والفنون.
ولا جرَمَ أن العلوم قسمان: لُغوية وغير لُغوية، فالعلوم اللُّغوية مقدمة فى التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التى هى آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهى أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التى لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".
ومثلاً نراه يعرض لقوله تعالى فى الآية [24] من سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ..
وقوله فى الآيات [20 - 22] من سورة فُصِّلت: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولاكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .
وقوله فى الآية [65] من سورة يس: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
ثم يقول: "أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدى فى أيامنا حاضرة، هو نفس الذى صرَّح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما فى المواطن بل هو القائل للإنسان: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] ، والقائل: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] ، أفلا يكون ذكر الأيدى والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين؟ وأن هناك ما هو أفضل منها؟ ... وهى التى يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدى فيها أسرار، وفى الأرجل أسرار، وفى النفوس أسرار: فالأيدى لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أوَ ليس فى الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التى ظهرت فى هذا العصر تظهر فى القرآن بنصها وفصها".(2/375)
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [5، 6] من سورة طه: {الرحمان عَلَى العرش استوى * لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} .. نجده يقول: ".. قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل فى ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى "الآثار العلوية" وهو من علوم الطبيعة قديماً وحديثاً، وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى} يشير لعلمين لم يُعرفا إلا فى زماننا، وهما علم طبقات الأرض، المتقدم مراراً فى هذا التفسير، وعلم الآثار، المتقدم بعضه فى سورة يونس.. فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثرى} ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التى تظهر الآن تحت الثرى".
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [30] من سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً} ... . الآية، يقول: "ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين، من أن السموات والأرض - أي الشمس والكواكب وما هى فيه من العوالم - كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا فى هذه العصور، ألا ترى أن كثيراً من المفسِّرين قالوا: إن الكفار فى ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم. فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا به فى نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يُؤوِّلون تأويلات شتَّى لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله، وها نحن أُولاء نجد هذه العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدى الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضى فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} .. وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس فى هذه الحياة الدنيا"..
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [15] من سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} .. نجده يقول: "والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللَّهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللَّهب مختلطات، ولقد ظهر فى الكشف الحديث أن الضوء مركّب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائماً، وإنما خُلِق الجن من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال فى حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل فى مقال علماء الأرواح الذين(2/376)
استحضروها إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة".
وعند قوله تعالى فى الآية [35] من السورة نفسها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} .. يقول: "إنه عبَّر هنا بـ {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} وفيما تقدم بقوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، والشواظ والمارج كلاهما اللَّهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقاً من مارج ولم يقل من شواظ؟ فاعلم أن المارج فيه معنى الاضطراب كما تقدم.
وقد أنبت ذلك هناك، وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم فى علم الأرواح، وأيضاً اختلاط الألوان الآن معروف فى التحليل فهو من هذا القبيل.. وهذه الفكرة لم تُعرف قط إلا فى زماننا هذا، فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط، والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة وأنها مضطربة، لم يكن إلا فى زماننا، وهذا من أعاجيب القرآن التى لا تُدرك إلا بقراءة العلوم، وليس يعقلها الناس بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرىء القيس، أو لأبى العلاء، أو المتنبى أن يتناولوا هذه المعانى فى أقوالهم؟ كلا.. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنَّى لهم علم الروح حتى يخصصوها بلفظ مارج؟ وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ".
ومثلاً فى سورة الزلزلة نجده يُفسِّرها تفسيراً لفظياً مختصراً، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضاً ما وقع من حوادث الزلزال فى إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم والبترول من الأرض، وما كثر فى هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض، مثل ما كُشِف فى مصر من آثار قدمائها، ثم يقول - بعد ما يفيض فى هذا وغيره: "ألست ترى أن هذه السورة - وإن كانت واردة لأحوال الآخرة - تشير من طرف خفى إلى ما ذكرنا فى الدنيا؟ فالأرض الآن كأنها فى حالة زلزلة، وقد أخرجت أثقالها، كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون، وها هم أُولاء يُلهمون الاختراع، وها هم أُولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة فى عمل يناسبها، وكل إنسان فى عمله الخاص به وينتفع به".
ومثلاً نجده بعد أن يفرغ من تفسير سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، يذكر لنا بحثاً مستفيضاً عنوانه: "تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما" وفيه نجده يتأثر بنزعته التفسيرية العلمية إلى درجة جعلته يُحَمِّل نصوص الشارع من(2/377)
المعانى الرمزية ما يُستبعد أن يكون مراداً لها. وذلك أنه يقرر أولاً أن هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة، ولا بفتح مكة ونصر جيشها، لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور فى أول عمرها، وسيطول إن شاء الله، وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات.
ثم قال: "وإذا كان الأمر كما وصفنا ونحن أبناء العرب، وورثة النبى الذى جاء منا - صلى الله عليه وسلم، ولغتنا فى مصر، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا، هى لغة القرآن فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها، خوفاً من أهل زمانهم، ولكنَّا الآن يجب علينا إبرازه وإظهاره، لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظها من الحياة، وقسطها من الإصلاح".
ثم أخذ يُبيِّن لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وطيره، وأوصاف مَن سيرد عليه من المسلمين، بما جاء فى الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم قال - بعد هذا كله: "اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم أُمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة، وصورة مفرحة، وبهجة وجمال. ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة. جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال، والحكمة، والعلم، ورقى الأُمة بهيئة تسر الجمهور".
ثم يقول: "الجاهل يسمع الدُّر والياقوت، وشراباً أحلى من العسل، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللَّذت التى تقر بها عينه.. والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم، لأنى أرى فى خلال القول عجائب. فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء! وأى دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبَّر به"؟.. ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولِمَ؟ ... ولِمَ؟.. الحق أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يريد أمرين: أمراً واضحاً جلياً يفرح به جميع الناس، وأمراً يختص بالقُوَّاد والعظماء.
إن النبوة بأمر الله، والله جعل فى أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح فى أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء فى أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبى صلى الله عليه وسلم يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذى هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شئ هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأى شىء عدد(2/378)
نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذى نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الإذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذى فى ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين ... "، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التى هى لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلى، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: ".. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكافرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس فى هذه العلوم الحقيقية أفواجاً. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل فى العالَم الإنسانى، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر فى زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه".. إلخ.
هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.
والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت فى كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازى، فقيل عنه: "فيه كل شىء إلا التفسير" بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شىء، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيراً ما يسبح فى ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف فى نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم، ثم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمناً لكل ما جاء ويجىء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى فى كتابه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.
* *
* إنكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللَّون من التفسير:
لم يقف العلماء فى هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللَّون من التفسير،(2/379)
بل نراهم مختلفين فى قبوله والقول به، كما كان الشأن بين مَن سبقهم من العلماء الأقدمين..
وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدَثين مَن انحاز إلى هذه الفكرة فى التفسير وتأثر بها فى مؤلفاته، فإنَّا نجد بجوار هؤلاء أيضاً كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللَّون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.
نجد هذه المعارضة فى كثير من المحاورات والاعتراضات التى وُجِّهَت إلى صاحب الجواهر، وذكرها لنا فى تفسيره.
كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على مَن يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت. فقد تناول هذا الموضوع بالبحث فى العدد (407) ، (408) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة. - إبريل سنة 1941 - وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللَّون من التفسير بحجج قوية واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولى يتناول هذا الموضوع فى كتابه "التفسير: معالم حياته. منهجه اليوم"، وفيه يرد على أنصار هذا المذهب فى التفسير بحجج قوية واضحة، استفدنا منها كثيراً فى تأييد ما اخترنا من المذهبين.
وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا. نجده فى مقدمة تفسيره ينعى على مَن تأثروا فى تفسيرهم بنزعاتهم العلمية، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعانى، والبيان، والإسرائيليات ... وغير ذلك، ويعد هذا صارفاً يصرف الناس عن القرآن وهَدْيه، ثم ينعى على الفخر الرازى ما أورده فى تفسيره من العلوم الحادثة فى المِلَّة، ويعد هذا صارفاً يصرف الإنسان عن القرآن وهَدْيه، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على مَن قلَّد الفخر الرازى فى مسلكه من المعاصرين، وأظنه أراد صاحب الجواهر، وذلك حيث يقول: ".. وقد زاد الفخر الرازى صارفاً آخر عن القرآن، هو ما يورده فى تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل هذا من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولاً طويلة - بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض -، من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن".
وأخيراً.. فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى - رحمه الله رحمة واسعة - نجده فى تفريظه لكتاب "الإسلام والطب الحديث" لا يرضى عن هذا المسلك فى التفسير، رغم أنه مدح الكتاب وأشاد بمجهود مؤلفه،(2/380)
وذلك حيث يقول: "لست أريد من هذا - يعنى ثناءه على الكتاب ومؤلفه - أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلاً بالأسلوب التعليمى المعروف، وإنما أريد أن أقول إنه أتى بأُصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به، ليبلغ درجة الكمال جسداً وروحاً، وترك الباب مفتوحاً لأهل الذِكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة، ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أُوتوا منها فى الزمان الذى هم عائشون فيه".
وفى موضع آخر يقول: "يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم كى نُفسِّرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها".
ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمى فى العصر الحديث إن كان قد لقى قبولاً ورواجاً عند بعض العلماء، فإنه لم يلق مثل هذا القبول والرواج عند كثير منهم، وقد علمتَ فيما سبق أى الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول.
اللون المذهبى للتفسير فى عصرنا الحاضر
لم يبق من الفِرَق المنسوبة إلى الإسلام فى هذا العصر الحديث مَن له كيان، أو شىء من الكيان - حسبما نعلم - إلا أهل السُّنَّة، والإمامية الإثنا عشرية، والإمامية الإسماعيلية، والزيدية، والإباضية من الخوارج، والبهائية من الباطنية ... هذه هى الفرق التى لا تزال فى اعتبارنا قائمة إلى يومنا هذا، محتفظة بتعاليمها وعقائدها التى تسير عليها من أول عهدها ومبدأ ظهورها.
وإذا كنا قد وقفنا لكل فِرْقة من هذه الفِرَق فى عصورها السابقة على عمل ظاهر فى تفسير كتاب الله، وشرحه على حسب ما تمليه عقيدة المفسِّر، وما يوحى به إليه، فإنَّا لا نعدم هذا اللَّون المذهبى لتفسير القرآن الكريم فى هذا العصر الحديث، ولكن بمقدار ما بقى من هذه المذاهب قائماً إلى هذا العصر الذى نتكلم عنه، ونتحدث عن ألوان التفسير فيه.
نعم.. بقى اللَّون المذهبى لتفسير القرآن الكريم قائماً فى هذا العصر الحديث، بمقدار ما بقى قائماً من المذاهب الإسلامية.
فأهل السُّنَّة فسَّروا القرآن، وألَّفوا الكتب فيه بما يتفق وعقيدتهم، كما نرى ذلك واضحاً فيما خلَّفته لنا مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من كتب فى التفسير.
والإمامية الإثنا عشرية فسَّروا القرآن وألَّفوا الكتب فيه بما يتمشى مع مذهبهم، ويتفق مع أهوائهم ومشاربهم، ومن أحدث كتبهم التى اطلعنا عليها فى التفسير:(2/381)
كتاب "بيان السعادة فى مقامات العبادة" للشيخ سلطان محمد الخراسانى، من أهل القرن الرابع عشر الهجرى، وقد سبق لنا الكلام عنه مفصَّلاً، وكتاب "آلاء الرحمن فى تفسير القرآن" للشيخ محمد جواد النجفى، المتوفى سنة 1352 هـ، وقد سبق الكلام عنه بإيجاز عند الكلام على أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية.
والإباضية من الخوراج فسَّروا القرآن وألَّفوا فيه الكتب بما يناسب عقيدتهم، ويساير مذهبهم، كما نجد ذلك فى كتاب "هميان الزاد إلى دار المعاد" للشيخ محمد بن يوسف إطفيش، المتوفى سنة 1322هـ، وقد مَرَّ الكلام عنه أيضاً.
والبهائية من الباطنية نظروا إلى القرآن من خلال عقيدتهم، فأوَّلوا وحرَّفوا، كما نجد ذلك جلياً فى رسائل أبى الفضائل الجرفادقانى، أحد رجال البهائية فى هذا العصر.
أما الزيدية ... فهى وإن كانت لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، إلا أنَّا لم نقف لها على شىء فى التفسير فى هذا العصر الحديث.
وأما المعتزلة ... فنحن وإن كنا لا نسمع عن قيامها فى هذا العصر كفِرقَة لها كيان، ووحدة، ومقوِّمات، إلا إنَّا نرى أثراً كبيراً لتعاليمها فى تفسير القرآن فى العصر الحديث، كما يظهر ذلك جلياً فى تفاسير الإمامية الإثنا عشرية، والإباضية، ومقالات بعض المحدثين من المفسِّرين.
كل هذه الفِرَق الموجودة فى هذا العصر، أضفت على التفسير لوناً مذهبياً، يقوم على تأييد العقيدة، وخدمتها على حساب القرآن الكريم، ولا أريد أن أطيل بذكر نماذج من هذا اللَّون التفسيرى، إذ قد سبق لنا الكلام عن هذه الكتب التى ذكرتها، وذكرت لك منها ما يعطيك صورة واضحة عن اللَّون المذهبى فى هذا العصر.
* * *(2/382)
اللَّون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر
منى الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد، وطرق الهدم، وكان من أهم الأبواب التى طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة: تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما فى القرآن من هداية، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سوَّلته لهم نفوسهم من نِحَلٍ خاسرة وأهواء!!
منى الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومنى بمثل هذا فى أحدث عصوره، فظهر فى هذا العصر أشخاص يتأوَّلون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضى حاجات فى نفوسهم، فأدخلوا فى تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، تقبَّلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة، ورفضها بكل إباء مَن حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم.
* *
* الباعث على هذا اللَّون من التفسير:
اندفع هؤلاء النفر من المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائغة فى القرآن بعوامل مختلفة، فمنهم مَن حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله سبب لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسِّرين ويرميهم جميعاً بالسفه والغفلة ثم طلع على الناس بجديده فى تفسير كتاب الله ... جديد لا تقره لغة القرآن، ولا يقوم على أصل من الدين.
ومنهم مَن تلقَّى من العلم حظاً يسيراً، ونصيباً قليلاً، لا يرقى به إلى مصاف العلماء، ولكنه اغتر بما لديه، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين فى العلم، ونسى أنه قَلَّ فى علم اللُّغة نصيبه، وخف فى علم الشريعة وزنه، فراح ينظر فى كتاب الله نظرة حُرَّة لا تتقيد بأى أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذى بأفهام فاسدة، تتنافى مع ما قرره أئمة اللُّغة وأئمة الدين، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حُجَّة، ولا تتكئ على دليل.
ومنهم من لم يرسم لنفسه نِحْلَة دينية، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلَّطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نِحَلٍ مختلفة، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل فى قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء، فأخذ يُؤوِّله بما يتفق معها، تأويلاً لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.
هؤلاء جميعاً خاضوا فى القرآن على عماية، فلم يراعوا فى فهمه قوانين البلاغة، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السُّنَّة الصحيحة، وحسبوا أنهم أرضوا ضمائرهم، وأنصفوا البحث الحر، والرأى الطليق.
ولولا أن الله قيَّض لهذا الدين رجالاً يدرسونه ببصائر تنفذ إلى لُبابه، ويدفعهم الإيمان والإخلاص إلى أن يبعدوا عنه هذه الخبائث، التى يُراد أن تُلصق به أو تنزل فى(2/383)
رحابه.. لولا هذا لأصاب المسلمين من هؤلاء المضللين شر مستطير، ولنتج عن أفكارهم وأهوائهم فتنة فى الأرض وفساد كبير.
وأنا إذ أعرض لهذا اللَّون من التفسير، لا أريد أن أذكر أحداً من أصحابه باسمه ولقبه، إذ ربما كان هذا سبباً للفتنة، وباعثاً على العداوة، وكثير منهم أحياء يُرزقون، ويكفى أن أضع يد القارئ على المراجع التى أنقل عنها تفسير هؤلاء القوم، وآراءهم فى القرآن الكريم، وهى مراجع ميسورة لكل من يريد أن يرجع إليها ويطلع عليها.
وجدنا من أصحاب هذا اللًَّون من ألوان التفسير، رجلاً يكتب بحثاً طويلاً تحت عنوان: "القرآن والمفسِّرون" وفيه يعرض لنواحى التقصير فى تفسير كافة المفسِّرين لكتاب الله تعالى، ويحمل عليهم حملة شديدة نكراء، ويوجه إليهم جميعاً نقده الساخر، ولومه اللاذع، بدون أن يستثنى منهم مفسِّراً واحداً على كثرتهم، وكثرة المعتدلين منهم.
رأيناه يتهم المُفسِّرين جميعاً بأنهم تأثروا فى تفاسيرهم بعقائدهم، فأمالوا آيات القرآن نحو آرائهم، فى تعسف ظاهر، وتكلف غير مقبول. ورأيناه يرميهم جميعاً بأنهم كثيراً ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلاً، فضلاً عن طمعهم فى تصحيح هذه الأسانيد المكذوبة، ونراه يذكر لهذا الاتهام الأخير مثلاً من أقوالهم فى تفسير قصة أيوب عليه السلام، ثم يأخذ فى تفنيد ما ذهبوا إليه، وإبطال ما قالوا به، بأدلة كثيرة ذكرها، وبعد هذا كله تناول هو قوله تعالى فى الآيات [41-44] من سورة (ص) : {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * اركض بِرِجْلِكَ هاذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
تناول الكاتب هذه الآيات، فشرحها شرحاً يخالف ما ذهب إليه المفسِّرون جميعاً، مدَّعياً أن ما ذهب إليه هو الذى يساير كل ما ورد من آيات القصص فى القرآن، ومؤكداً أنه هو الذى يتفق مع بلاغة القرآن، وقدسية الأنبياء، فقال: "يجب أن ننظر فى الآية نظرة أُخرى - يعنى خلاف ما عليه المفسِّرون - تساير بها نظائرها من آيات القصص، ونحن إذا التفتنا إلى ما فى هذه الآية من أن أيوب عليه السلام قد عَزَى النُصْب والعذاب للشيطان فقال: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} كان ذلك مانعاً كل المنع من أن يُراد بالنُصْب والعذاب داء أصاب أيوب، وكان من نتائجه ما ذكره المفسِّرون.. إذ الشيطان لا يملك للإنسان إلا أن ينزغه، ويوسوس إليه، فيلويه عن الخير إلى الشر، وعن العزم فى سبيل الغاية إلى التردد والهزيمة، وإنه ما من نبى ولا رسول إلا وقد نزل به هذا المصاب.. مصاب إعراض الناس واستهوائهم بالدعوة والداعين، وصد(2/384)
الشيطان لهم عن سبيل الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52] ... الآية، وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة، ولا كان حزنهم الذى كان يبلغ أحياناً حد الإهلاك للنفس إلا لبطء فى سير الدعوة إلى الله تعالى، انظر قوله تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] ، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهاذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] ..
ولما كانت الشكوى تُشعر بوهن فى العزيمة، وضعف فى الثقة، وعدم القوة فى السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له: {ارْكُض بِرِجْلِكَ} فالمراد بالركض هنا، عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بقوة وبغير تردد ولا توان إلى الغاية، فهى كناية من أعذب الكنايات وأروعها، وهى من وادى - شَمِّر عن ساعد الجد. شمِّر عن ساقيك - غير أنها أوفر منها صياغة وترفعاً. إذ من المعروف المشاهَد أن السائر إلى جهة بغير تردد، بل بقوة وعزيمة، ترى لرجليه ضرباً، وتسمع لقدميه على الأرض وقعاً. ولما كان تردد المرء فى غايته، ووهن عزيمته إليها. وضعف ثقته بها، صدأ يغشى الأرواح، ومرضاً يتعب النفوس ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلاً للروح من صدئها، وشفاءً للنفس من مرضها، ونفعاً لغلة الصدور، لذلك قال الله لرسوله أيوب: {هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ، والآية كما ترى ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله: {ارْكُض} المكنى به عن توثيق العزم، والأخذ بالحزم، كما هو مقتضى النظم الكريم، الجارى لقواعد اللُّغة، التى تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين، كما يقتضيه تفسير المفسرين، إذ ليس فى النظم ما يدل عليهما بأى وجه من وجوه الدلالة. ولما كان أيوب عليه السلام باعتباره رسولاً لا بد أن يأتمر فى إخلاص الأنبياء بأمر ربه، بيَّن الله ثمرة جهاده وصبره، ومضاء عزمه، فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} أى هدينا له أهله فآمنوا به واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فليس المراد بالهبة ها هبة الخلق والإيجاد، بل هبة الهداية والإرشاد، بدليل تعبيره بالأهل دون التعبير بالذُرِّية والولد، كما فى قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [مريم: 53] ، إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدى الله بهم، لا أن يُولَد لهم. ولم يتحدث القرآن عن هبة يحيى لزكريا، وإسحاق لإبراهيم إلا لأن هبة الإيجاد فيهما قد تضمنت أمرين عظيمين؛ الأول: أنه قد وُلِد لإبراهيم ولزكريا عن كبر وشيخوخة ويأس وقنوط.
والثانى: أن الموهوب لكل منهما رسول لا ولد عادى.
فموضع المنة فى هذا: كونهما رسولين لا كونهما ولدين".
"ثم بيَّن الله بعد ذلك سيرة أيوب التى أمره أن يسير بها فى قومه، وهى اللين فى القول، والرفق فى الدعوة، والعظة بالحسنى، وتلك هى الخطة التى رسمها الله لجميع(2/385)
أنبيائه، انظر كيف يقول لموسى وهارون: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 43-44] ، ويقول لرسوله الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ، {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 215] .. وبيَّن الله ذلك فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] ، أى لا ترفع فى وجوه قومك رمحاً ولا عصاً، ولا تُغلظ لهم القول، ولا تخاشنهم فى الطلب، بل لوِّح فى وجوههم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلظة والجفوة، فإنك بخفض الجناح والجدال بالتى هى أحسن تبلغ منهم ما لا تبلغه بالسيف، والعصا، والخشونة، والغلظة.. فانظر إلى ما فى الآية من كناية ما أجملها وأعلاها. وما أخصبها وأرواها، وانظر كم تعطيك على هذا الوجه من فنون البلاغة، وكم تمنحك من جزالة فى الأسلوب، ثم هم - يريد المفسِّرين - بعد ذلك يمسخونها ويشوهونها، فيجعلونها منقطعة عما قبلها، وما بعدها، فتقلق فى مرقدها، وتنبو فى مضجعها، إذ يجعلونها متوقفة فى فهمها على معونة أجنبية من الكلام الذى هى فيه، وذل من أدعى الدواعى لانحطاط الكلام عن المستوى العالى لكلام البَشر، فضلاً عن مستوى الإعجاز الذى يجب أن يكون عليه القرآن الكريم".
"هذا ما رأيت أن تؤول به تلك الآيات، استناداً إلى ما جرى عليه قصص القرآن، وتحامياً لما يترتب على ما فسَّر به المفسِّرون تلك الآيات من خدش قدس أيوب عليه السلام، باعتباره نبياً رسولاً، ومن منافاة ذلك لحكمته السامية، وتفادياً من أن يُحدِّثنا القرآن عن أمر عادى، وهو أن شخصاً مرض ثم دعا ربه فشفاه من مرضه.. ذلك الحديث الذى لا يتحدث به عظيم من الناس فضلاً عن الله تعالى، ولا يُحَدِّث به عن رجل عادى فضلاً عن أيوب الرسول الكريم".
هذا هو التفسير الصحيح فى نظر صاحبه، وأحسب أن القارئ الكريم سوف لا يتردد فى الحكم عليه بأنه تفسير منابذ لبلاغة القرآن، ومخالف لظاهره الذى عُرِف منذ عهد الصحابة والتابعين، وأى شىء يقف فى سبيل المعنى الظاهر حتى نعدل عنه إلى مجاز أو كناية فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول؟ اللَّهم لا شىء إلا دعوى التجديد، والثورة على القديم، والعمل على هدم آراء العلماء الذين عرف الناس مبلغ خدماتهم للعلم، ودفاعهم عن الدين.
ولا أُطيل بذكر ما أُفَنِّد به هذا الرأى الشاذ وما يحمله من دعاوى غير صحيحة على المفسِّرين جميعاً، فقد سبقنى إلى هذا أحد أساتذتى الأجلاء، ولست ببالغ مبلغه من العلم، ولا بآت بأكثر مما أتى به فى الرد على صاحب هذا الرأى.
* *(2/386)
ووجدنا من أصحاب هذا اللَّون رجلاً آخر دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلحاد ويجارى من يتهمون الشريعة الإسلامية بالقسوة فى أحكامها وحدودها. فراح يتأوَّل آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه، فحمل الأمر فيها على الإباحة.. وجعل الأمر فى ذلك مُفوَّضاً إلى رأى ولى الأمر وحده، وهو وإن كان قد استعمل الأسلوب اللَّولبى فيما أبداه، وطرح الموضوع الذى عالجه فى صورة سؤال ألقاه شخص خالى الذهن ليتعرف وجه الحق فى المسألة، هو وإن كان قد فعل ذلك مفضوح أمره فصدر المقال يكشف لنا عن نية صاحبه، ويفيدنا بكل صراحة أن الكاتب يريد أن يتأوَّل آيات الحدود بحمل الأوامر الواردة فيها على الإباحة، وإليك ما جاء فى هذه المقالة لتقف على حقيقة الأمر، ولتعرف نية الكاتب وما يهدف إليه فى مقاله..
قال هذا الكاتب تحت عنوان "التشريع المصرى وصلته بالفقه الإسلامى": "قرأت فى السياسة الأسبوعية الغرَّاء مقالاً بهذا العنوان، حوى أفكاراً أثارت فى نفسى من الرأى ما كنت أريد أن أُرجئه إلى حين، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لفتح باب الاجتهاد، حتى إذا ظهر المجتهد فى هذا العصر برأى جديد، كتلك الآراء التى كان يذهب إليها الأئمة المجتهدون فى عصور الاجتهاد، قابلها الناس بمثل ما كانت تُقابَل به تلك الآراء من الهدوء والسكون، وإن بدا عليها ما بدا من الغرابة والشذوذ، لأن الناس فى تلك العصور كانوا يألفون الاجتهاد وكانوا يألفون شذوذه وخطأه، إلفهم لصوابه وتوفيقه، أما فى هذا العصر، فإن الناس قد بَعُد بهم العهد بالاجتهاد، حتى صار كل جديد يظهر فيه شاذاً فى نظرهم، وإن كان فى الواقع صواباً وما أسرعهم فى ذلك إلى التشنيع والطعن فى الدين، والمحاربة فى الرزق، فلا يجد من يرى شيئاً من ذلك إلا أن يكتمه أو يُظهره بين أخصائه، ممن يأمن شرهم ولا يخاف كيدهم، وتضيع بهذا على الأمة آراء نافعة فى دينها ودنياها، ولكنى سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين، وسأجتهد ما أمكننى فى أن لا أدع لأحد مجالاً فى ذلك التشنيع الذى يقف عقبة فى سبيل كل جديد".
ثم أشاد بما كتبه صاحب المقال المشار إليه ثم قال: "ولكن يبقى بعد هذا فى تلك الحدود ذلك الأمر الذى سنثيره فيها، ليُبحث فى هدوء وسكون. فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد.. وسيكون هذا بإعادة النظر فى النصوص التى وردت فيها تلك الحدود، لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة، وسأقتصر فى ذلك - الآن - على ذكر ما ورد فى تلك الحدود من(2/387)
النصوص القرآنية، وذلك قوله تعالى فى حد السرقة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 38-39] ، وقوله تعالى فى حد الزنا: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] .. فهْل لنا أن نجتهد فى الأمر الوارد فى حد السرقة وهو قوله تعالى: {فاقطعوا} ، والأمر الوارد فى حد الزنا وهو قوله تعالى: {فاجلدوا} فنجعل كلاً منهما للإباحة لا للوجوب، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر فى قوله تعالى: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31] ، فلا يكون قطع يد السارق حداً مفروضاً، لا يجوز العدول عنه فى جميع حالات السرقة، بل يكون القطع فى السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه فى بعض الحالات إلى عقوبات أُخرى رادعة، ويكون شأنه فى ذلك شأن كل المباحات التى تخضع لتصرفات ولى الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان. وهكذا فى حد الزنا سواء أكان رجماً أم جَلْداً، مع مراعاة أن الرجم فى الزنا لا يقول به فقهاء الخوارج، لعدم النص عليه فى القرآن الكريم، وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى، مع أنَّا فى هذه الحالة لا نكون قد أبطلنا نصاً
ولا ألغينا حداً، وإنما وسَّعنا الأمر توسيعاً يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان، وبما عُرِف عنها من إيثار التيسير على التعسير. والتخفيف على التشديد".
فأنت ترى من هذا المقال مقدار ما وصل إليه الكاتب من الجرأة على كتاب الله، إذ أوَّل آية السرقة وآية الزنا تأويلاً غير مقبول بأى حال من الأحوال، ومَن ينظر إلى آية السرقة وآية الزنا لا يفهم منهما إلا أن الأمر فيهما للوجوب، فليس لأحد أن يعدل عنه مطلقاً، وذلك الأمر فى قوله تعالى: {فاقطعوا} ، وقوله: {فاجلدوا} وارد فى الوجوب القاطع، فإن بناء الأمر بالقطع فى آية السرقة على قوله: {والسارق والسارقة} ، وبناء الأمر بالجلد فى آية الزنا على قوله: {الزانية والزاني} يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب، وهذا لأن تعليق الحكم على شخص، موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضى للحكم هو ذلك الوصف الذى قام بالشخص، وإذا كان ذلك الوصف جناية مثل السرقة والزنا ووضع الشارع لهما حكماً فى صيغة الأمر ولم يذكر حكماً غيره، لا يصح أن يُقال: إن هذا الأمر محتمل للإباحة كما احتملها الأمر فى قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ... الآية.(2/388)
ثم إن قوله تعالى فى آية السرقة: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله} ، وقوله فى آية الزنا، {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} ، وقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} يؤكد أن الأمر فى الآيتين للوجوب لا للإباحة.
ثم إن هناك من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية ما يؤكد كون الأمر للوجوب فى الآيتين.
فهل يجوز للكاتب بعد هذا كله أن يتهجم على آيات الحود بمعول ذلك التأويل الذى تنكره اللُّغة. ولا تقره السُّنَّة ولا يتفق وحكمة التشريع؟ اللَّهم إن هذا التأويل لا يجوز، ولهذا فإنه لم يصادف غفلة من عقول العلماء وأقلامهم، فقام كثير منهم بالرد على صاحبه، وتفنيد ما ذهب إليه، ولقد تنبه القائمون على أمر الأزهر حينئذ إلى خطر هذا الرأى وما يجره على الدين من بلاء. فجوزى صاحب المقال على ما كان منه جزاءً إن كان بسيطاً فى حد ذاته، فهو يدل على أن أفكار الكاتب لم تلق قبولاً ولم تجد رواجاً فى محيط العلماء.
* *
ووجدنا غير هذا وذاك مَن تأثر ببعض الآراء الفلسفية فراح ينكر بعض الحقائق الدينية الثابتة، ويتأوَّل ما ورد منها فى القرآن بما يتمشى مع مذاهب الفلاسفة، فأنكر حقيقة الشيطان، وتأوَّل ما جاء من لفظ الشيطان فى قوله تعالى فى الاية [117] من سورة النساء: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} ، فقال ما نصه: "والمعنى أن هؤلاء لم يجيبوا حين أشركوا بالله داعى العقل أو داعى الفِطْرة، وإنما أجابوا نزعات الشر المنبثة فى العالَم على مقتضى سُنَّة الله من الابتلاء بعوامل الخير وعوامل الشر، فهم بذلك يتبعون قوة خفية أُطلق عليها كلمة "شيطان" جرياً على عادة العرب المألوفة، إذا كانوا يتصورون قوى الشر شياطين تتحدث وتناجى وتغرى وتدفع إلى ما تريد"..
ثم قال: "هذا هو الشيطان الذى يُلَبِّى المشرك بإشراكه أمره. ويتخذه ولياً بأمره وينهاه".
وفى موضع آخر نجد صاحب هذا الرأى يعود إليه فيؤكده، ولست أدرى ماذا يفعل فى سياق الآية. وفى القرائن التى احتفت بها، والصفات التى انتظمتها مما يؤكد أن المراد هو إبليس، ذلك الكائن الخارجيى المستقل المستتر عن أعين الناس، كما(2/389)
لا أدرى كيف يفعل بالأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والتى تقرر أن الشيطان حقيقة لها وجود خارجى.
* *
وأنكر بعضهم وجود عالَم الجن، وتأوَّل ما جاء من ذلك صريحاً فى آيات القرآن الكريم، ففسَّر قوله تعالى فى أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} ... . الآية، بأن الجن قبيلة من العرب.
وهذا تأويل ينافى صريح القرآن فى مواضع كثيرة، فضلاً عن أنه لا يقوم على دليل يصححه.
* *
ووجدنا غير هؤلاء جميعاً رجلاُ نُكِس على رأسه، فطوَّعت له نفسه أن يخوض فى تفسير كتاب الله على ما به من غواية وعماية، وأخيراً طلع على الناس بكتاب مختصر فى تفسير القرآن الكريم، تفسيراً جمع فيه الكثير من وساوسه وأوهامه، ثم سوَّل له الغرور أن يسميه "الهداية والعرفان فى تفسير القرآن بالقرآن".
أحدث هذا التفسير ضجة كبرى فى المحيط العلمى، وقام رجال الأزهر وقعدوا من أجله، ثم أُلِّفت لجنة من بعض العلماء لتنظر فى هذا الكتاب، ثم لتحكم عليه بما ترى فيه، ثم رفعت اللّجنة تقريرها لشيخ الأزهر إذ ذاك، وفيه تفنيد لآراء الرجل وحكم عليه بأنه "أفَّاك خرَّاص، اشتهى أن يُعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد فى الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه، ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث فى شأنه وترديد سيرته".
ثم صودر الكتاب واختفى عن أعين الناس {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} .
قرأت ما جاء فى تقرير اللَّجنة الأزهرية، ولكننى أردت أن أطلع على الكتاب نفسه، فعملت كل ما أستطيع حتى استصدرت تصريحاً من دار الكتب المصرية بالاطلاع على هذا الكتاب الذى مُنِع من التداول بين الناس.
* *
* حملته على جميع المفسِّرين:
جاءنى الكتاب وقرأت فيه، فوجدت مؤلِّفه قد قدَّم له بمقدمة عاب فيها المفسِّرين وكتب التفسير جميعاً فقال: "وقد بلغ الدس والحشو فى التفاسير أنك لا تجد أصلاً من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة، لهدمه وتبديله، والمفسِّرون قد وضعوا هذا فى كتبهم من حيث لا يشعرون".
* *
* طريقته فى التفسير:
ثم قال بعد ذلك: "فهذا كله - يعنى الدس والحشو فى التفاسير - دعانى إلى(2/390)
تفسيرى، وأن تكون طريقتى فيه كشف الآية وألفاظها بما ورد فى موضوعها من الآيات والسور فيكون من ذلك العلم بكل مواضع القرآن، ويكون القرآن هو الذى ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله فى الكون ونظامه فى الاجتماع، وقد اخترت أن تكون على عدد الآيات فى المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذى اختاره الله، وليمكن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات ليكون على علم تام وهداية واعظة".
ولعل القارئ الكريم يلحظ كما ألحظ أن المؤلف يرمى من وراء قوله: " ... ويكون القرآن هو الذى يُفسِّر نفسه كما أخبر الله. ولا يحتاج إلى شىء من الخارج غير الواقع الذى ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله فى الكون ونظامه فى الاجتماع". أنه يريد أن يَهدر صلة السُّنَّة بالقرآن الكريم، وينفى أن منزلتها منه منزلة المبيِّن من المبيَّن. والله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
ويظهر لنا أن المؤلف قد ركب رأسه فراح يهدم سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترف بما لها من مكانة فى تفسير القرآن الكريم، فقال مقالته السابقة، كما أنه راح يهدم ما للسُّنَّة من المكانة فى التشريع الإسلامى فقال فى قوله تعالى فى الآية [63] من سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : "يفيدك أن المخالفة المحذورة هى التى تكون للإعراض عن أمره، وأما التى تكون للرأى والمصلحة فلا مانع منها بل هى من حكمة الشورى".. فأنت ترى أنه يجيز مخالفة أمر الرسول للمصلحة، وهذا عناد ومكابرة ومخالفة صريحة لقوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ولغير هذا من الآيات التى وردت فى وجوب طاعته - عليه السلام - وهى كثيرة. ثم أى مصلحة تخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هذا.. ولا أريد أن أطيل بذكر ما جاء فى هذا الكتاب من أباطيل وأضاليل ويكفى أن أذكر طرفاً مما حواه من ذلك ليتبين القارئ أن الرجل "جامد على المحسوسات، جاحد لكثير مما أخبر به القرآن، منكر لأحكام قررها القرآن والسُّنَّة وأجمع عليها الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم".
* إنكاره لمعجزات الأنبياء عليهم السلام:
وقف هذا الرجل من معجزات الأنبياء عليهم السلام موقفاً شاذاً غريباً. يقوم على إنكارها وجحدها والذهاب بها - عن طريق التأويل الفاسد - إلى أن تكون من قبيل الممكن الذى يدخل تحت مقدور كل إنسان، رسول أو غير رسول، وهو يُصرِّح بهذا(2/391)
فى كثير من المواضع، فيقول فى بعض المواضع: "وبعد هذا تعلم أن الله ينادى الناس بأنهم لا ينبغى أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه فى دعوته غير ما فى سيرته ورسالته".
وفى موضع آخر يقول: "واعلم أن آيات الله فى نصر أنبيائه لا تناقض سُنَّته فى خلقه وكونه".
وفى موضع ثالث يقول: "وقد كانت كل آياتهم حججاً وبراهين من سيرتهم ورسالتهم. فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها، فتكون هناك علاقة بين الدعوة ودليلها فتدبر".
وفي موضع رابع يقول: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم، وصلاح رسالتهم، وأنهم لا يأتون بغير المعقول، ولا بما يبدِّل سُنَّته ونظامه فى كونه".
على هذا الأساس تناول الرجل آيات المعجزات فخرج بها عن مدلولها الحقيقى الذى أراده الله تعالى.
*
* موقفه من معجزات عيسى عليه السلام:
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [49] من سورة آل عمران فى شأن عيسى عليه السلام: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .. نجده يقول ما نصه: {كَهَيْئَةِ الطير} يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره، {الأكمه} من ليس عنده النظر، {الأبرص} المتلون بما يُشوِّه الفطرة، فهل عيسى يُبرئ هذا بمعنى أنه يُكمل التكوين الجسمانى بالأعمال الطيبة؟ أم بمعنى أنه يكل التكوين الروحى والفكرى بالهداية الدينية؟ {فِي بُيُوتِكُمْ} يعلمهم التدبير المنزلى".
وإذا كان المؤلف قد تردد فى معنى إبراء الأكمه والأبرص هنا بين تكميل التكوين الجسمانى بالأعمال الطيبة، وبين تكميل التكوين الروحى بالهداية الدينية، فإنه ليس تردد الشاك فى أى الأمرين كان. وإنما هو تردد يبدو منه فى صراحة ووضوح ميله إلى أن المراد هو التكوين الروحى لا غير، وإنك لتجده يُصَرِّح فى موضع آخر بأن المراد هو تكميل التكوين الروحى بالهداية الدينية، وذلك عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية(2/392)
[110] من سورة المائدة: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي} : "من هذا تعرف أن عيسى نبى أرسله الله إلى بنى إسرائيل ليشفى نفوسهم، ويحيى موت قلوبهم، فآيته فى دعوته وسيرته وهدايته. عاش ومات كغيره من الأنبياء فى بِشريته، فلم يكن خارقاً فى سُنَّته، ولا ممتازاً بما يدعو إلى أُلوهيته وعبادته".
كذلك تجده ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد تكلَّم فى المهد وذلك حيث يُؤوِّل قوله تعالى فى الآية [46] من سورة آل عمرران: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} ما نصه: "فى المهد: فى دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا، علامة على الجرأة وقوة الاستعداد فى الصغر. وكهلاً: علامة على أنه لا يفل عزمه بالشيخوخة والكبر - ويصح أن يكون المعنى: يكلم الناس الصغير منهم والكبير، علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه".
وتأوَّل أيضاً قوله فى الآية [29] من سورة مريم: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} فقال: "أى كان ذاك النهار ولداً صغيراً فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم فهذا ابن حرام".
ولما رأى أن قوله تعالى قبل ذلك فى الآية [27] : {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} لا يتفق مع تأويله السابق تأوَّله أيضاً فقال: "تحمله على ما يحمل عليه المسافر، ومنه تفهم أنه كان فى سياحة طويلة".
*
* موقفه من معجزات موسى عليه السلام:
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [160] من سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} .. قال: "ويصح أن يكون الحجر اسم مكان، واضرب بعصاك الحجر، معناه: اطرقه واذهب إليه، والغرض أن الله هداه إلى محل الماء وعيونه".
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [63] من سورة الشعراء: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} قال ما نصه: {البحر} الماء الواسع، {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} اطرقه واذهب إليه، {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} هذا بيان لحالة البحر، يُصوِّره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة، راجع [160 فى الأعراف] ، ثم راجع [طه فى 77، 78] ولتعرف كيف(2/393)
اهتدى إلى طريق يبس مرَّ منه، واقرأ استعمال الضرب فى السير فى قصة أيوب فى (سورة ص) .
وفى سورة الأعراف عند قوله تعالى فى الآيتين [107، 108] : {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} يقول: "مثال من قوة حُجَّته وظهور برهانه".
وعند قوله تعالى فى الآيات [118-122] من نفس السورة: {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ... إلى قوله: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} .. يقول: "يُصوِّر لنا كيف كشفت حُجَّته تزييف حُجَّتهم حتى سلَّموا له وآمنوا به".
*
* موقفه من معجزة إبراهيم عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [69] من سورة الأنبياء: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} ... . إلخ، نجده ينكر أن يكون إبراهيم عليه السلام قد أُلقى فى النار وخرج منها سالماً، وذلك حيث يُؤوِّل الآية بما يخالف الظاهر فيقول: "معناه: نجَّاه من الوقوع فيها - راجع [64 فى المائدة] و [26 فى النحل] ، وترى فى الآية وباقى القصة أن الله نجَّاه بالهجرة وخيَّب تدبيرهم".
*
* موقفه من معجزات داود عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [79] من سورة الأنبياء: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ} .. يقول: {يُسَبِّحْنَ} يُعبِّر عما تُظهره الجبال من المعادن التى كان يُسخِّرها داود فى صناعتها الحربية، {والطير} يُطلق على ذى الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيَّارات الهوائية".
*
* موقفه من معجزات سليمان عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [81] من سورة الأنبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} نجده يقول: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} الآن تجرى بأمر الدول الأوروبية وإشارتها، فى التلغرافات والتليفونات الهوائية ... اقرأ سبأ".
وفى سورة النمل عند قوله تعالى فى الآية [16] : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} .. يقول: {مَنطِقَ الطير} كل من يربى الطير ويؤلِّفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه فى الرسائل وغيرها".
وفى قوله تعالى فى الآية [18] من السورة نفسها: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل(2/394)
قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} نجده يقول: {نَمْلَةٌ} قبيلة، {النمل} قبائل الوادى".
وفى قوله بعد ذلك فى الآية [20] من السورة أيضاً: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} .. نجده يقول: {الهدهد} اسم طائر فهل يكون من ذوى الجناحين؟ ويكون كلامه كناية عما يحمل من رسائل؟ أم من الخيّالة؟ السوارى؟ أو الطيَّارين الآخرين؟.. راجع الأنبياء".
وفى قوله بعد ذلك فى الآيات من [38-42] من السورة نفسها: {قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هاذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} .. فى هذه الآيات نراه يقول: {بِعَرْشِهَا} بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول فى البلاد، فطلب الخريطة التى فيها مملكة سبأ ليهاجمها، ويريها أنه جاد غير هازل، {عِفْرِيتٌ مِّن الجن} أحد القوَّاد، ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذى {عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} من الكتابة والرسم والتخطيط، {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الغَرض أنه يأتى به حالاً وقد أتى به، ويحتمل أنه رسمه فى الحال أو كان عنده مرسوماً، ولو كان عهد الفوتوغرافيا قديماً لصح أن يكون ذلك الرسم بها، وترى أن سليمان يشكر الله على ما فى المملكة من العلماء العاملين فى كل فن، ونأخذ من القصة أن الله يُعَظِّم شأن العلم ويدعونا إلى التمسك بالأسباب الكونية لتشييد الملك وإقامة الدولة، {وَأُوتِينَا العلم} يؤيد لك أن المسألة علمية، {مُسْلِمِينَ} منقادين لله، يعنى أنهم جمعوا بين العلم والتربية على الخُلُق العظيم، وهذا أحسن حافظ لنظام الملك وعزة الدولة".
*
* موقفه من معجزة الإسراء:
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} .. نجده يقول: {أسرى} الإسراء يُستعمل فى هجرة الأنبياء.. انظر [77 فى طه] و [138 فى الأعراف] و [52 فى الشعراء] و [23 فى الدخان] و [81 فى هود](2/395)
و [65 فى الحج] ، ثم تدبر آخر النحل وعلاقته بالإسراء: {المسجد الحرام} الذى له حُرْمة يُحترم بها عند جميع الناس [217 و 218 فى البقرة] و [25 فى الحج] ، {المسجد الأقصى} الأبعد، مسجد المدينة وقد بارك الله حوله، فكان للنبى صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة، وكان بالإسراء الفتح والنصر فكان ذلك من آيات الله.. انظر [20 يس] و [108 التوبة] ثم ارجع إلى الإسراء فاقرأ إلى [60، 93] ".
* *
* إنكاره للملائكة والجن والشياطين:
كذلك نجد صاحب هذا الكتاب يُؤوِّل الملائكة، والجن، والشياطين، بما لا يتفق والحقائق الشرعية الثابتة.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [34] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .. نجده يقول: {الْمَلاَئِكَةِ} رسل النظام وعالم السنن، وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مُسخَّر له.. راجع [29 فى البقرة] ، ثم انظر [الملك فى 15] ، {إِبْلِيسَ} اسم لكل مستكبر على الحق. ويتبعه لفظ الشيطان والجان، وهو النوع المستعصى على الإنسان تسخيره".
وعند قوله تعالى فى الآية [71] من سورة الأنعام: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ} ... الآية، نجده يقول: {الشياطين} تُطلق على الحيَّات والثعابين، تستهوى مَن يتبعها ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها.. راجع [275 فى البقرة] ".
وعند قوله تعالى فى الآيتين [26، 27] من سورة الحِجْر: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} .. يقول: "يمثل لك بوصف الإنسان، النوع الهادئ صاحب الطبع الطينى الذى تشكله كما تريد، {والجآن} النوع المتشرد صاحب الطبع النارى، إذا قاربته يؤذيك ويغويك، ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله، والنوعان موجودان فى كل أمة، فتدبر السياق من أول السورة، وراجع القصة فى البقرة".
وعند قوله تعالى فى الآية [17] من سورة النمل: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس} .. يقول: {الجن} يُطلق على العالَم الخفى والظاهر القوى، وجن كل شىء أوله ومقدمته، وجن الجيش قُوَّاده ورؤساؤه، {والإنس} طائعوه ومرءوسوه.. اقرأ الجن".(2/396)
وعند قوله تعالى فى الآية [158] من سورة الصافات: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} .. يقول: "الجِنَّة أو الجن: سادتهم وكبراؤهم".
وعند قوله تعالى فى الآيتين [37، 38] من سورة (ص) : {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} .. نجده يقول: {الشياطين} يطلقون على الصُنَّاع الماهرين والأشقياء المجرمين، {مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} مسلوكين فى القيود، ومنها تفهم أن سليمان كان يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم".
* *
* إنكاره لأحكام من الدين لم ينازع فيها أحد من المجتهدين:
ولقد سوَّلت للمؤلف نفسه أن يتأول بعض آيات الأحكام على غير ما أراد الله، وعلى مقتضى هواه الذى لا يخضع لقواعد اللُّغة ولا لأصول الشريعة!!
* حد السرقة:
فمثلاً عند قوله فى الآية [38] من سورة المائدة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} ... الآية، يقول: "واعلم أن لفظ السارق والسارقة يعطى معنى التعود. أى أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى: أن مَن سرق مرة أو مرتين ولا يستمر فى السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يُعاقَب بقطع يده، لأن قطعها فيه تعجيز له، ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من علاجه".
* حد الزنا:
وعند قوله تعالى فى الآية [2] من سورة النور: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ... الآية، نجده يقول: {الزانية والزاني} يُطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخُلُقهما، فهما بذلك يستحقان الجَلْد".
* تعدد الزوجات:
فى الآية [3] من سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} ... . الآية، نجده يقول: {مِّنَ النسآء} نساء اليتامى الذين فيهم الكلام - هكذا بالأصل - لأن الزواج منهن يمنع الحرج فى أموالهن، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التى يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضرراً على المجتمع من تركه، لتعلم أن التعدد لم(2/397)
يُشرع إلا فى هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} : "فإن خفتم ألا تعدلو".
فهو يريد أن يبيح تعدد الزوجات إلا إذا كُنَّ يتامى فى حجره، وأمن من نفسه عدم الجور، ولم يقل أحد بالشرط الأول مطلقاً، ومَن يطلع على سبب النزول يعلم خطأ مَن يشترط هذا الشرط فى التعدد.
* التسرِّى:
وعند قوله تعالى فى نفس الآية السابقة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .. نجده يقول: انظر آية [25 إلى 28 من النساء] .
وفى الآية [25] وهى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .. يقول: "فيه عناية بالخادمات، وتسهيل لمن يريدون الزواج. ولا يستطيعون النفقات على ذوات البيوتات، انظر [33 فى النور] و [60 فى الكهف] ثم [30، 36، 42، 63 فى يوسف] ، {الْعَنَتَ} : الحَرَج: انظر [220 فى البقرة] و [7 فى الحجرات] و [128 فى التوبة] و [118 فى آل عمران] . وفى هذه الآية رد على الذين يتخذون مِلْك اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات، بحجة أنهن مشتريات بالمال، أو أسيرات بالحرب، فليس فى الإسلام عرض امرأة يُباح بغير الزواج، مملوكة كانت أو مالكة، فتدبر ذلك فى الآيات".
وفى قوله تعالى فى الآيتين [5، 6] من سورة المؤمنون: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ... الآية، يقول: "اقرأ المعارج، والنور، وأوائل البقرة".
ثم قال فى المعارج عند قوله تعالى فى الآيتين [29، 30] : {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ما نصه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الخدم، فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكون فى الإنسان فروج - أى عيوب ونقائص - يسيئه أن يراها الناس فيه، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه".
فأنت ترى من هذا أنه يُحَرِّم التسرِّى، ويُفَسِّر الفروج بالعيوب، وهذا بُعْدٌ عن قوانين اللُّغة، ومبادئ الشريعة.
* الربا:
كذلك نجد المؤلف يميل إلى أن الربا المحرَّم شرعاً هو الفاحش فقط، ولهذا نراه عندما(2/398)
يعرض لآيات الربا فى سورة البقرة يُفسِّر "الربا" فيقول: "الربا هو الزيادة من الربح فى رأس المال، وهو معروف ومقيَّد بالآية [130 فى آل عمران] ، فانظرها أولاً" يريد قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} .. ثم يقول بعد ذلك: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ} [البقرة: 278] ، {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] ، {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] كل ذلك يفيدك أن الكلام فى المعاملة الحاضرة، ويبشر مَن يتوب بأنه لا يُحاسَب على ما كسبه من قبل، {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] .. انظر [38 فى الأنفال] " يريد قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} .
ثم قال بعد ذلك عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [130] من سورة آل عمران: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : {الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} أى الربا الفاحش وبمعنى آخر: الربح الزائد عن حده فى رأس المال. وتُقدِّره كل أُمّة بعُرفها. راجع فى جزائه أواخر البقرة، وقصة اليهود فى أواخر النساء، ثم ارجع إلى [5 فى النساء و 43] ".
* زكاة الزروع:
كذلك نجد المؤلف يذهب فى زكاة الزروع مذهباً لم يقل به أحد من المجتهدين فضلاً عن أنه يصادم ما جاء من السُّنَّة الصحيحة فى بيان المقدار الواجب فى زكاة الزروع، وذلك حيث يُفسِّر قوله تعالى فى الآية [141] من سورة الأنعام: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .. فيقول: {وَآتُواْ حَقَّهُ} يفيد أن فى كل هذا الخارج من الأرض حقاً لا بد من إعطائه، {يَوْمَ حَصَادِهِ} زمن تحصيله، وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق، أمر الحاكم العام بأَخذه، والعمل على جبايته لبيت المال، وقد ترك التقدير للأُمة بحسب الحال".
(أقول: وليس للأُمة دخل فى تقدير مقررات الزكاة بعد أن قدَّرها الرسول عليه الصلاة والسلام، وقررها على الأُمة) .
* مصارف الزكاة:
كذلك تخبط المؤلف فى شرحه لبعض مصارف الزكاة، وذلك حيث فسَّر قوله تعالى فى الآية [60] من سورة التوبة: { ... . وَفِي الرقاب} ، فقال: "فى خلاصها من الاستعباد. وفى هذا الزمان تَجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب، فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم، وفي الزكاة حق لهذا التعاون".(2/399)
* الطلاق:
كذلك نجد المؤلف يذهب إلى أن الطلاق لا يقع إلا إذا كان سببه أمراً يخل بنظام العِشْرة، وآتياً من قِبَل المرأة، وذلك حيث يقول فى قوله تعالى فى الآية [1] من سورة الطلاق: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ما نصه: {بُيُوتِهِنَّ} بيوت الزوجية.. راجع [البقرة من 226-242] ، و [الأحزاب: 40] ، و [التحريم 5] ، و [النور 5-10] لتعرف أن الطلاق وإن كان فى يد الرجل لا يقع إلا بسبب يخل بنظام العِشْرة الزوجية".
هذا بعض ما جاء فى هذا الكتاب الذى هذى به صاحبه، وفيه غير هذا كثير مما يدل على أن الرجل قد ركب متن الغواية، ومشى يخبط خبط الأعشى فى مهمة متسع من الضلالة!!
وحسبى أن أكون قد أطلعت القارئ على بعض ما جاء فى هذا الكتاب، ولست فى حاجة إلى أن أطيل بذكر ما يُبطل هذه الأوهام ويفندها، فإنى لست فى مقام الرد والتفنيد، وإنما أنا فى مقام بيان لون من ألوان التفسير فى هذا العصر، وإذا كان القارئ الكريم يود أن يقف على إبطال هذه المزاعم التى حشا بها المؤلف كتابه، فليرجع إلى قرار اللجنة الأزهرية، التى أُلِّفت للرد على هذا الكتاب، وليرجع إلى ما كتبه شيخنا العلامة الشيخ محمد الخضر حسين فى الجزء الثالث من رسائل الإصلاح، ولا شك أنه سيجد فيما كتب هنا وهناك ما يكفى لأن يذهب بتلك التأويلات أدراج الرياح، وما ينادى بأن صاحب هذه التأويلات قد انحرف عن الهدى، فهو إلى مكان سحيق..
* * *(2/400)
اللَّون الأدبى الاجتماعى للتفسير فى عصرنا الحاضر
يمتاز التفسير فى هذا العصر بأنه يتلون باللَّون الأدبى الاجتماعى، ونعنى بذلك: أن التفسير لم يعد يظهر عليه فى هذا العصر ذلك الطابع الجاف. الذى يصرف الناس عن هداية القرآن الكريم، وإنما ظهر عليه طابع آخر، وتلوَّن بلون يكاد يكون جديداً وطارئاً على التفسير، ذلك هو معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولاً وقبل كل شىء على إظهار مواضع الدقة فى التعبير القرآنى، ثم بعد ذلك تُصاغ المعانى التى يهدف القرآن إليها فى أسلوب شَيِّق أخَّاذ، ثم يطبق النص القرآنى على ما فى الكون من سنن الاجتماع، ونُظُم العمران.
* مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأثرها فى التفسير:
وإذا كان هذا اللًَّون الأدبى الاجتماعى يعتبر فى نظرنا عملاً جديداً فى التفسير، وابتكاراً يرجع فضله إلى مُفسِّرى هذا العصر الحديث، فإنَّا نستطيع أن نقول بحق: إن الفضل فى هذا اللَّون التفسيرى يرجع إلى مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للتفسير. هذه المدرسة التى قام زعيمها - ورجالها من بعده - بمجهود كبير فى تفسير كتاب الله تعالى، وهداية الناس إلى ما فيه من خير الدنيا وخير الآخرة.
نعم.. قامت هذه المدرسة بمجهود كبير فى تفسير كتاب الله تعالى. مجهود نحمد لها الكثير منه، ولا نوافقها على بعض منه قليل.
* محاسن هذه المدرسة:
فالذى نحمده لهذه المدرسة: أنها نظرت للقرآن نظرة بعيدة عن التأثر بمذهب من المذاهب، فلم يكن منها ما كان من كثير من المفسِّرين من التأثر بالمذهب إلى الدرجة التى تجعل القرآن تابعاً لمذهبه، فيؤوِّل القرآن بما يتفق معه، وإن كان تأويلاً متكلفاً وبعيداً.
كما أنها وقفت من الروايات الإسرائيلية موقف الناقد البصير، فلم تُشَوِّه التفسير بما شُوِّهَ به فى كثير من كتب المتقدمين، من الروايات الخرافية المكذوبة، التى أحاطت بجمال القرآن وجلاله، فأساءت إليه وجرَّأت الطاعنين عليه!!
كذلك لم تغتر هذه المدرسة بما اغتر به كثير من المفسِّرين من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التى كان لها أثر سىء فى تفسير القرآن الكريم!!
ولقد كان من أثر عدم اغترار هذه المدرسة بالروايات الإسرائيلية، والأحاديث(2/401)
الموضوعة. أنها لم تخض فى تعيين ما أبهمه القرآن، ولم تجرؤ على الخوض فى الكلام عن الأُمور الغيبية، التى لا تُعرف إلا من جهة النصوص الشرعية الصحيحة، بل قررت مبدأ الإيمان بما جاء من ذلك مجملاً، ومنعت من الخوض فى التفصيلات والجزئيات، وهذا مبدأ سليم، يقف حاجزاً منيعاً دون تسرب شىء من خرافات الغيب المظنون إلى المعقول والعقائد.
كذلك نجد هذه المدرسة أبعدت التفسير عن التأثر باصطلاحات العلوم والفنون، التى زُجَّ بها فى التفسير بدون أن يكون فى حاجة إليها، ولم تتناول من ذلك إلا بمقدار الحاجة، وعلى حسب الضرورة فقط.
ثم إن هذه المدرسة، نهجت بالتفسير منهجاً أدبياً اجتماعياً، فكشفت عن بلاغة القرآن وإعجازه، وأوضحت معانيه ومراميه، وأظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم ونظم الاجتماع، وعالجت مشاكل الأمة الإسلامية خاصة، ومشاكل الأُمم عامة، بما أرشد إليه القرآن، من هداية وتعاليم، جمعت بين خيرى الدنيا والآخرة، ووفَّقت بين القرآن وما أثبته العلم من نظريات صحيحة، وجلت للناس أن القرآن كتاب الله الخالد، الذى يستطيع أن يساير التطور الزمنى والبَشرى، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ودفعت ما ورد من شُبَه على القرآن، وفنَّدت ما أُثير حوله من شكوك وأوهام، بحجج قوية قذفت بها على الباطل فدمغته فإذا هو زاهق.. كل هذا بأسلوب شيق جذاب يستهوى القارئ، ويستولى على قلبه، ويُحَبب إليه النظر فى كتاب الله، ويُرَغبه فى الوقوف على معانيه وأسراره.
هذا ما نحمده لهذه المدرسة، ولا نستطيع أن نغمطها عليه، أو نقلل من فضلها فيه؟
* *
* عيوب هذه المدرسة:
أما ما نأخذه على هذه المدرسة، فهو أنها أعطت لعقلها حرية واسعة، فتأوَّلت بعض الحقائق الشرعية التى جاء بها القرآن الكريم، وعدلت بها عن الحقيقة إلى المجاز أو التمثيل، وليس هناك ما يدعو لذلك إلا مجرد الاستبعاد والاستغراب. استبعاد بالنسبة لقُدرة البَشر القاصرة، واستغراب لا يكون إلا ممن جهل قدرة الله وصلاحيتها لكل ممكن.
كما أنها بسبب هذه الحرية العقلية الواسعة جارت المعتزلة فى بعض تعاليمها وعقائدها، وحمَّلت بعض ألفاظ القرآن من المعانى ما لم يكن معهوداً عند العرب فى زمن نزول القرآن وطعنت فى بعض الأحاديث: تارة بالضعف، وتارة بالوضع، مع أنها(2/402)
أحاديث صحيحة رواها البخارى ومسلم، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى بإجماع أهل العلم، كما أنها لم تأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة، فى كل ما هو من قبيل العقائد، أو من قبيل السمعيات، مع أن أحاديث الآحاد فى هذا الباب كثيرة لا يُستهان بها.
وما يُقال من أن خبر الواحد لا تثبت به عقيدة إجماعاً. فيه نظر من وجوه:
الأول: أن دعوى الإجماع باطلة، فإن للعلماء أربعة أقوال فى إفادة خبر الواحد العلم:
1- يفيد الظن مطلقاً.
2- يفيد العلم بقرينة.
3- يفيد العلم من غير قرينة باطراد.
4- يفيد العلم من غير قرينة لا باطراد.
الثانى: إذا جرينا على أن خبر الواحد يفيد العلم، أمكن أن تثبت به عقيدة، وإذا جرينا على أنه يفيد الظن، أمكن أن تثبت به العقيدة إذا احتفت به قرائن - على المختار - لإفادته العلم حينئذ، ومن هنا جزم ابن الصلاح وغيره بأن أحاديث الصحيحين التى لم تُنقد عليهما تفيد العلم، فإن الأمة قد تلقتهما بالقبول، وهى معصومة من الخطأ، وظن المعصوم لا يخطىء.
الثالث: أنه ليس المراد من العقيدة كل ما يعتقَد، وإلا لتناول ذلك الفروع الفقهية، فإنه لا يسوغ العمل بها إلا بعد اعتقاد صحة الحكم فيها، وإنما المراد بالعقائد أُصولها، وهو ما كان الإخلال بها موجباً للكفر، كالإيمان بالله وباليوم الآخر. وأما الأحاديث الواردة فى الحوادث الماضية، أو المستقبلة، أو المتعلقة بتفاصيل اليوم الآخر وما فيه، فلا يُشترط فيها التواتر، لأن هذه الأمور ليست من قبيل العقائد التى يترتب على عدم تصديقها الكفر والعياذ بالله تعالى، ولكن يُكتَفى فيها بأن تكون من طريق صحيح.
* *
* أهم رجال هذه المدرسة:
هذا.. وإن أهم رجال هذه المدرسة، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده زعيمها وعميدها، ثم المرحوم السيد محمد رشيد رضا، والمرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى. وهما خير مَن أنجبت هذه المدرسة، وخير من ترسَّم خُطا الأستاذ الإمام، وسار على منهجه وطريقته فى التفسير.(2/403)
ولست أرى القارئ بحاجة إلى أن أترجم لحياة هؤلاء الرجال الثلاثة، فالعهد بهم قريب، وليس يُخشى على مَن لم صلة بالحركة العلمية فى هذا العصر شىء من معالم حياتهم، ويكفى أن أتكلم عن إنتاج كل واحد منهم فى التفسير وعن منهجه الذى سلكه فيه، وسيقف القارئ - إن شاء الله تعالى - على ما قلته عن هذه المدرسة، وما ذكرته لها من أثر محمود فى التفسير، وما ذكرته عنها من أثر يُؤخذ عليها ولا يُحمد لها.
* * *(2/404)
1- الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
* إنتاجه فى التفسير:
إذا نحن ذهبنا نستقصى ما أنتجه لنا الأستاذ الإمام من عمل فى التفسير، فإنَّا نجد له تفسيره المشهور لجزء "عم" ذلك التفسير الذى ألَّفه بمشورة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية، ليكون مرجعاً لأساتذة مدارس الجمعية فى تفهيم التلاميذ معانى ما يحفظون من سور هذا الجزء، وعاملاً للإصلاح فى أعمالهم وأخلاقهم، ولقد أتم الأستاذ الإمام تفسير هذا الجزء فى سنة 1321 هـ (إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة) ، ببلاد المغرب، وبذل جهده كما يقول: "فى أن تكون العبارة سهلة التناول، خالية من الخلاف وكثرة الوجوه فى الإعراب، بحيث لا يحتاج فى فهمها إلا أن يعرف القارئ كيف يقرأ، أو السامع كيف يسمع، مع حسن النية وسلامة الوجدان".
كذلك نجد له تفسيراً مطوَّلاً لسورة "العصر" كان قد ألقاه على هيئة محاضرات، أو دروس على علماء مدينة الجزائر ووجهائها فى سنة 1321 هـ (سنة 1902م) - ويقول الأستاذ الإمام: إنه قرأ تفسير هذه السورة فى سبعة أيام، وكل درس لا يقل عن ساعتين، أو ساعة ونصف.
كذلك نجد له بعض بحوث تفسيرية، عالج فيها بعض مشكلات القرآن، ودفع بها بعض ما أُثير حول القرآن من شكوك وإشكالات، كشرحه لقوله تعالى فى الآية [78] من سورة النساء: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَالِ هاؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، وقوله فى الآية [79] من السورة نفسها: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً} وجمعه بينهما. وتوفيقه بين ما يُظَن فيهما من تناف وتضاد، وهو نسبة أفعال العباد تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى العبد.
وكشرحه لقوله تعالى فى الآية [52-55] من سورة الحج: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} .. إلى قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، وإبطاله لقصة الغرانيق، وتفنيده لما بُنِىَ عليها من(2/405)
تفسير يذهب بعصمة النبى صلى الله عليه وسلم، ويرفع الأمان عن الوحى الذى تكفَّل الله بحفظه.
وكتفسيره لقوله تعالى فى الآية [37] من سورة الأحزاب: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} ، ورده لما أُلصق بها من أحاديث باطلة، تُصوِّر النبى صلى الله عليه وسلم بصورة الرجل الشهوانى، وإبطاله لكل ما أُثير حول هذه القصة - قصة زيد وزينب - من مطاعن رُمِىَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً.
وكذلك نجد من آثار الأستاذ الإمام فى التفسير، تلك الدورس التى ألقاها فى الأزهر الشريف على تلاميذه ومريديه، وكان ذلك بمشورة تلميذه السيد محمد رشيد رضا، وإقناعه به، كما يقول هو فى مقدمة تفسيره.
وقد ابتدأ الأستاذ الإمام بأول القرآن فى غُرَّة المحرَّم سنة 1317 وانتهى عند تفسير قوله تعالى فى الآية [126] من سورة النساء: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} .. وذلك فى منتصف المحرَّم سنة 1323 هـ، إذ توفى - رحمه الله - لثمان خلون من جُمادى الأولى من السنة نفسها.
وإذا كان الأستاذ الإمام قد ألقى هذه الدروس فى التفسير على طُلابه ولم يدون شيئاً، فإنّا لا نرى حَرَجاً من جعلها أثراً من آثاره فى التفسير.
وذلك لأن تلميذه السيد محمد رشيد رضا كان يكتب فى أثناء إلقاء هذه الدروس مذكرات يودعها ما يراه أهم أقوال الأستاذ الإمام، ثم يحفظ ما كتب ليمده بما يذكره من أقواله وقت الفراغ، ثم قام بعد ذلك بنشر ما كتب فى مجلته "المنار" وكان - كما يقول هو فى مقدمة تفسيره - يُطلع الأستاذ الإمام على ما أعده للطبع، كلما تيسر ذلك بعد جمع حروفه فى المطبعة وقبل طبعه، فكان ربما يُنَقِّح فيه بزيادة قليلة، أو حذف كلمة أو كلمات. قال: "ولا أذكر أنه انتقد شيئاً مما لم يره قبل الطبع، بل كان راضياً بالمكتوب، معجباً به".
هذا هو كل ما وصلت إليه من إنتاج الأستاذ الإمام فى التفسير، وهو وإن كان إنتاجاً يُعَد قليلاً بالنسبة لهذه الشخصية البارزة، إلا أنه - والحق يقال - كان له أثر بالغ فى تطور التفسير واتجاهاته، كما سيظهر لك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
* *(2/406)
* منهجه فى التفسير:
كان الأستاذ الإمام هو الذى قام وحده من بين رجال الأزهر بالدعوة إلى التجديد، والتحرر من قيود التقليد، فاستعمل عقله الحر فى كتاباته وبحوثه، ولم يجر على ما جمد عليه غيره من أفكار المتقدمين، وأقوال السابقين، فكان له من وراء ذلك آراء وأفكار خالف بها مَن سبقه، فأغضبت عليه الكثير من أهل العلم، وجمعت حوله قلوب مريديه والمعجبين به.
هذه الحرية العقلية، وهذه الثورة على القديم، كان لهما أثر بالغ فى المنهج الذى نهجه الشيخ لنفسه. وسار عليه فى تفسيره.
وذلك أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه مبدءاً يسير عليه فى تفسير القرآن الكريم، ويخالف به جماعة المفسِّرين المتقدمين. وهو فهم كتاب الله من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، وذلك لأنه كان يرى أن هذا هو المقصد الأعلى للقرآن، وما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو وسيلة لتحصيله.
يقرر الأستاذ الإمام هذا المبدأ فى التفسير، ثم يتوجه باللَّوم إلى المفسِّرين الذين غفلوا عن الغرض الأول للقرآن. وهو ما فيه من هداية وإرشاد، وراحوا يتوسعون فى نواح أخرى من ضروب المعانى، ووجوه النحو، وخلافات الفقه، وغير ذلك من المقاصد التى يرى الأستاذ الإمام أن الإكثار فى مقصد منها "يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهى، ويذهب بهم فى مذاهب تنسيهم معناه الحقيقى".
لهذا نرى الأستاذ الإمام يقسم التفسير إلى قسمين:
أحدهما: جاف مبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ، وإعراب الجمل، وبيان ما ترمى إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية. قال: وهذا لا ينبغى أن يُسمى تفسيراً. وإنما هو ضرب من التمرين فى الفنون، كالنحو، والمعانى، وغيرهما.
وثانيهما: ذهاب المفسِّر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع فى العقائد والأحكام، على الوجه الذى يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة فى الكلام، ليتحقق فيه معنى قوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157] ونحوهما من الأوصاف.. قال الأستاذ الإمام: "وهذا هو الغرض الأول الذى أرمى إليه فى قراءة التفسير".(2/407)
هذا.. وإن الأستاذ الإمام لا يريد من كلامه السابق أن يُهمل الناحية البلاغية أو النحوية مثلاً فى تفسير القرآن، ولكنه يريد أن يأخذ المفسِّر من ذلك بمقدار الضرورة، فيبين المفسر - مثلاً - من وجوه البلاغة، وضروب الإعراب بقدر ما يحتمله المعنى، وعلى الوجه الذى يليق بفصاحة القرآن وبلاغته. وذلك بدون أن يتجاوز مقدار الحاجة.
ثم إنَّا نجد الأستاذ الإمام - وقد وضع لنفسه هذه الخطة فى التفسير - يشترط شروطاً لا بد من توفرها عند مَن يريد أن يُفسِّر القرآن تفسيراً يحقق الغرض منه، وقد ذكرناها بجملتها عند كلامنا عن العلوم التى يحتاج إليها المفسِّر.
* *
* القرآن لا يتبع العقيدة وإنما تؤخذ العقيدة من القرآن:
ويرى الأستاذ الإمام: أن القرآن الكريم هو الميزان الذى تُوزن به العقائد لتعرف قيمتها، ويقرر أنه يجب على مَن ينظر فى القرآن أن ينظر إليه كأصل تؤخذ منه العقيدة، ويُستنبط منه الرأى، وينعى على ما كان من أكثر المفسِّرين، من تسلط العقيدة عليهم، ونظرتهم للقرآن من خلالها، حتى تأوَّلوا القرآن بما يشهد لعقائدهم، وتتمشى معها، وفى هذا يقول: "إذا وزنا ما فى أدمغتنا من الاعتقاد بكتاب الله تعالى، من غير أن نُدخلها أولاً فيه، يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين. وأما إذا أدخلنا ما فى أدمغتنا فى القرآن، وحشرناها فيه أولاً، فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يُدرى ما هو الموزون به.
"أريد أن يكون القرآن أصلاً تُحمل عليه المذاهب والآراء فى الدين، لا أن تكون المذاهب أصلاً والقرآن هو الذى يُحمل عليها. ويُرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون، وتاه فيه الضالون".
* *
* كيف كان يقرأ الأستاذ الإمام التفسير ويكتبه:
تناول الأستاذ الإمام تفسير القرآن الكريم بالتأليف والتدريس، أما ناحية التأليف، فمحدودة ضيقة، كما ظهر لك فيما سبق، وأما ناحية التدريس فكانت أوسع إلى حد ما من ناحية التأليف، فقد ألقى - رحمه الله - دروساً في التفسير بالجامع الأزهر الشريف، مدة ست سنوات، قرأ فيها ما يقرب من خمسة أجزاء من أجزاء القرآن، كما ألمعنا إليه فيما تقدم.
كذلك ألقى دروساً فى التفسير بمدينة الجزائر من بلاد المغرب، كما ألقى دروساً فى التفسير أيضاً فى مساجد بيروت.. فى المسجد الكبير، وفى مسجد "الباشورة".
وكان من عادة الأستاذ الإمام فى دروسه: أنه يراعى حال مَن يستمعون إليه، فإذا(2/408)
حضره جماعة من البلداء الخاملى الفكر شرح لهم المعنى بكلمات قليلة، وإذا كان هناك مَن يتنبه لما يقول ويُلقى له بالاً، يفتح الله عليه بكلام كثير. بهذا يُحدِّث الأستاذ الإمام عن نفسه.
ويحدثنا تلميذه السيد محمد رشيد رضا عن طريقة الأستاذ الإمام فى دروس التفسير فيقول: "كانت طريقته فى قراءة الدرس على مقربة مما ارتآه فى كتابة التفسير، وهو أن يتوسع فيه فيما أغفله أو قصَّر فيه المفسِّرون، ويختصر فيما برزوا فيه من مباحث الألفاظ، والإعراب، ونكت البلاغة، وفى الروايات التى تدل عليها، ولا تتوقف على فهمها الآيات".
وكان الأستاذ الإمام يعتمد فى دروسه وكتابته فى التفسير على عقله الحر وكان - كما يقول عنه بعض الكاتبين - "لا يلتزم فى التفسير كتاباً، وإنما يقرأ فى المصحف، ويلقى ما يفيض الله على قلبه".
وكان من دأبه أنه لا يرجع إلى كتاب من كتب التفسير قبل إلقاء دروسه حتى لا يتأثر بفهم غيره، وكل ما كان منه أنه إذا عرض له وجه غريب من الإعراب، أو كلمة غريبة فى اللُّغة رجع إلى بعض كتب التفسير، ليرى ما كُتِب فى ذلك، وقد حدَّث عن نفسه بذلك فقال: "إننى لا أطالع عندما أقرأ، لكننى ربما أتصفح كتاب تفسير إذا كان هناك وجه غريب فى الإعراب، أو كلمة غريبة فى اللُّغة".
غير أننا نجد تلميذه السيد محمد رشيد رضا يذكر أن الأستاذ الإمام كان "يتوكأ فى ذلك - يعنى فى دروسه فى التفسير - على عبارة تفسير الجلالين الذى هو أوجز التفاسير، فكان يقرأ عبارته فيقرها، أو ينتقد منها ما يراه منتقداً ثم يتكلم فى الآية أو الآيات المنزَّلة فى معنى واحد بما فتح الله عليه، مما فيه هداية وعبرة".
وسواء أقلنا إن الأستاذ الإمام كان يرجع إلى كتب التفسير أم لا يرجع إليها، فإنه كان يُحَكّم عقله فيما يلقى وفيما يكتب، غير ملتفت إلى ما سُبِق به من أقوال فى التفسير، ولا بواقف عند اعتبارات المؤلفين وأفهامهم وقوف مَن يخضع لها، ويُسَلِّم بها، على ما فيها من غث وسمين.
نعم.. لم يجمد الأستاذ الإمام على ما فى كتب قدماء المفسِّرين، ولم يلغ عقله أمام عقولهم، بل على العكس من ذلك وجدناه يُنَدِّد بمن يكتفى فى التفسير بالنظر(2/409)
فى أقوال المتقدمين فيقول: "التفسير عند قومنا اليوم ومن قبل اليوم بقرون، هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء فى كتب التفسير، على ما فى كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ، وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم فى العلم بمعانى الكتاب، ثم يبثونه فى الناس ويحملونهم عليه، ولكنهم لم يطلبوا ذلك، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها، ويمارون فيها من يباريهم فى طلبها، ولا يخرجون لإظهار البراعة فى تحصيلها عن حد الإكثار من القول، واختراع الوجوه من التأويل والإغراب فى الإبعاد عن مقاصد التنزيل.
"إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه، وإنما يسألنا عن كتابه الذى أنزله لإرشادنا وهدايتنا، وعن سُنَّة نبينا الذى بيَّن لنا ما نُزِّل إلينا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ..
"يسألنا هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبرتم ما بُلِّغْتُم؟ هل عقلتم ما عنه نُهيتم وما به أُمرتم؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن، واهتديتم بهدَى النبى، واتبعتم سُنَّته؟ عجباً لنا ننتظر هذا السؤال ونحن فى هذا الإعراض عن القرآن وهَديه، فيا للغفلة والغرور".
كما وجدناه يُعَرِّف لنا الفهم الصحيح للقرآن فيقول: " ... وأعنى بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها، وتملكه مواعظه فتشغله عما بين يديه مما سواه. لا أُريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذاً جافاً، لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقة الشعور ولطف الوجدان، اللَّذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر".
ومما يُذكر فى هذا المقام أنه "لما أبدى الأستاذ الإمام رأياً طريفاً فى تفسير بعض الآيات، قال له أحد المجاورين: إن ما قلته لا يوافق عليه الجمل - يعنى بالجمل أحد المؤلفين ممن كتبوا الحواشى على تفسير الجلالين - فقال الأستاذ على الفور: إننى أقرر ما يدل عليه المعنى الجليل، والكلام البليغ، ولا يعنينى أوافق عليه الجمل أو الحمار".
كل هذا يدلنا على أن الأستاذ الإمام كان حراً فى تفكيره وفهمه للقرآن، صريحاً فى نقده ونُصحه للتفسير والمفسِّرين، جريئاً فى ثورته على القديم، ودعوته إلى التحرر مما أحاط بالعقول من القيود، وما أوغلت فيه من الركود والجمود.
هذا.. وإن الأستاذ الإمام لم يكن كغيره من المفسِّرين الذين كَلفوا بالإسرائيليات(2/410)
فجعلوا منها شروحاً لمبهمات القرآن، بل وجدناه على العكس من ذلك نفوراً منها، وشروداً من الخوض فيها، لاعتقاده أن الله تعالى لم يكلفنا بالبحث عن الجزئيات والتفصيلات لما جاء به مبهماً فى كتابه، ولو أراد منا ذلك لدلنا عليه فى كتابه أو على لسان نبيه، وهو يُصَرِّح بأن هذا هو "مذهبه فى جميع مبهمات القرآن يقف عند النص القطعى لا يتعداه، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه".
وإذا نحن تتبعنا أقواله فى مبهمات القرآن وجدناه محافظاً على هذا المبدأ، لا يعدل عنه ولا يحيد، إلا فى مواضع قليلة نادرة.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [10، 11] من سورة الانفطار: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} .. نجده يقول: "ومن الغيب الذى يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به فى كتابه: أن علينا حَفَظَة يكتبون أعمالنا حسنات وسيئات، ولكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء، ومن أى شىء خُلِقوا، وما هو عملهم فى حفظهم وكتابتهم، هل عندهم أوراق وأقلام ومداد كالمعهود عندنا ... وهو يبعد فهمه؟ أو هناك ألواح تُرسم فيها الأعمال؟ وهل الحروف والصور التى تُرسم هى على نحو ما نعهد؟ أو إنما هى أرواح تتجلى لها الأعمال فتبقى فيه بقاء المِداد فى القِرطاس إلى أن يبعث الله الناس؟ كل ذلك لا نُكَلَّف العلم به، وإنما نُكَلَّف الإيمان بصدق الخبر وتفويض الأمر فى معناه إلى الله، والذى يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل فى عملنا، هو: أن أعمالنا تُحفظ وتُحصى، لا يضيع منها نقير ولا قطمير".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [4] وما بعدها من سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} ... . إلى آخر القصة يقول: "أما تعيين أصحاب الأُخدود، وأنَّى كانوا؟ ومَن هم أُولئك المؤمنون؟ وأين كان منزلهم من الأرض؟ فقد كثرت فيه الروايات، والأشهر أن المؤمنين كانوا نصارى نجران، عندما كان دينهم دين التوحيد، ليس فيه حدث ولا بدعة، وأن الكافرين كانوا أُمراء اليمن، أو اليهود الذين لا يبعدون عن هؤلاء فى حقيقة الوثنية، غير أن المؤمن لا يحتاج فى الاعتبار وإشعار الموعظة قلبه إلى أن يعرف القوم، والجهة، وخاصة الدين الذى كان عليه أولئك أو هؤلاء، حتى يطير وراء القصص المشحونة بالمبالغات، والأساطير المحشوة بالخرافات، وإنما الذى عليه: هو أن يعرف من القصة ما ذكرناه أولاً، ولو علم الله خيراً فى أكثر من ذلك لتفضَّل علينا به".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [6، 7] من سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد} .. نجده يقول: "وقد يروى المفسِّرون هنا حكايات(2/411)
فى تصوير إرم ذات العماد، كان يجب أن يُنزَّه عنها كتاب الله، فإذا وقع إليكَ شىء من كتبهم، ونظرتَ فى هذا الموضع منها، فتخط ببصرك ما تجده فى وصف إرم، وإياك أن تنظر فيه".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [6-9] من سورة القارعة: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} .. نجده يقول: " وتقدير الله الأعمال وما تستحقه من الجزاء فى ذلك اليوم، إنما يكون على حسب ما يعلم، لا طريقة ما نعلم، فعلينا أن نفوِّض الأمر فيه إليه سبحانه على الإيمان به، ومن عجيب ما قال بعض المفسِّرين: "إنه ميزان بلسان وكفَّتين كأطباق السموات والأرض، ولا يعلم ماهيته إلا الله" فماذا بقى من ماهيته بعد لسانه وكفَّتيه حتى يُفوَّض العلم فيه إلى الله؟ والكلام فيه جرأة على غيب الله بغير نص صريح متواتر عن المعصوم، ولم يرد فى الكتاب إلا كلمة "ميزان"، وقد عرفت ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد، وما عدا ذلك فعلمه إلى الله سبحانه. وقد قالوا: إن منكر الميزان بالمعنى المعروف لا يكفر، إذا كان القائل به يحدد له لساناً وكفَّتين، مع أن البَشر اخترعوا من الموازين ما هو أتقن من ذلك وأضبط وأوفى ببيان الموزون. أفيأبى الحكيم الخبير إلا استعمال ذلك الميزان الخشن الناقص الذى هدى العلم عقول البَشر إلى ما هو أدق منه؟ أيأبى عالِمُ الغيب والشهادة أن يستعمل فى وزن المعانى والمعقولات إلا ذلك الميزان الذى اخترعه بعض البَشر قبل أن يبلغ بهم العلم ما بلغ بأهل العصر الحاضر وما سيبلغ بأهل العصور المقبلة؟ على أن جميع ما اخترع البَشر وما يخترعون مهما دقَّ ولَطُف، إنما هو معيار الأثقال الجسمانية، والأوزان المحسوسة، وهلا يكون الأليق بالمقام الإلهى أن يكون ميزان المعانى المعقولة لديه أسمى وأعلى من أن يكون على نمط ما يستعمله البَشر، مهما ارتقت المعارف وسمت بهم العلوم؟ وهل يليق بمن يخاف مقام ربه أن يجرؤ على القول بوجوب الاعتقاد بأن الميزان الذى يزن الله به الأعمال يوم القيامة هو الميزان الذى تستعمله القبائل التى لم تزل فى مهد الإنسانية الأُولى؟.. ميزان ضعفاء العقول قصار الأنظار، الذين لا يعرفون قيمة للإيمان بالغيب، ولا لحياء العقل من الله، وإطراقه عن أن ينظر إلى ما تشامخ من غيوب الله تعالى علمه، وتعاظمت قدرته.
"عليك أيها المؤمن المطمئن إلى ما يخبر الله به أن توقن أن الله يزن الأعمال، ويميز لكل عمل مقداره. ولا تسل كيف يزن، ولا كيف يُقَدِّر، فهو أعلم بغيبه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
* *(2/412)
* معالجته للمسائل الاجتماعية:
ثم إنّا نجد الأستاذ الإمام لا يكاد يمر بآية من القرآن، يمكنه أن يأخذ منها علاجاً للأمراض الاجتماعية، إلا أفاض فى ذلك بما يُصَوِّر للقارئ خطر العِلَّة الاجتماعية التى يتكلم عنها، ويُرشده إلى وسيلة علاجها والتخلص منها، كل هذا يأخذه الأستاذ الإمام من القرآن الكريم، ثم يُلقى به على أسماع المسلمين وغير المسلمين، رجاء أن يعودوا إلى الصواب، ويثوبوا إلى الرشاد.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة العصر من التفسير المطوَّل لها: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} .. نجده يقول: "والصبر مَلَكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضا بما يكره فى سبيل الحق. وهو خُلُق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خُلُق، وما أُتِىَ الناس من شىء مثل ما أُتوا من فقد الصبر أو ضعفه. كل أُمة ضعف الصبر فى نفوس أفرادها. ضعف فيها كل شىء، وذهبت منها كل قوة، ولنضرب لذلك مثلاً: نقص العلم عند أمة من الأمم كالمسلمين اليوم، إذا دققت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإن مَن عرف باباً من أبواب العلم، لا يجد فى نفسه صبراً على التوسع فيه، والتعب فى تحقيق مسائله، وينام على فراش من التقليد هَيِّن لَيِّن، لا يكلفه مشقة، ولا يجشمه تعبأ، ويسلى نفسه عن كسله بتعظيم مَن سبقه، ولو كان عنده احترام حقيقى لسَلَفه، لاتخذهم أُسوة له فى عمله، فحذا حذوهم، وسلك مسلكهم، وكلَّف نفسه بعض ما حملوا أنفسهم عليه، واعتقد كما كانوا يعتقدون أنهم ليسوا بمعصومين.
"ثم هو إذا تعلَّم لا يجد صبراً على مشقة دعوة الناس إلى علم ما يعلم، وحملهم على عرفان ما يعرف، ولا جلداً على تحصيل الوسائل لنشر ما عنده، بل متى لاقى أول معارضة قبع فى بيته وترك الخلق للخالق كما يقولون.
"يجلس الطالب لدرسه سنة أو سنتين، ثم تعرضه مشقة التحصيل، فيترك الدرس أو يتساهل فى فهمه إلى حرفة أخرى يظنها أربح له، فينقطع عن الطلب، ويذهب فى الجهل كل مذهب، وكل هذا من ضعف الصبر.
"يبخل البخيل بماله، ويجهد نفسه فى جمعه وكنزه، وتعرض له وجوه البر فيعرض عنها، ولا يُنفق درهماً فى شىء منها، فيؤذى بذلك وطنه ومِلَّته، ويترك الشر والفقر يأكل قومه وأُمته، ولو نظرنا إلى ما قبض يده لوجدناه ضعف الصبر، ولو صبر على محاربة خيال الفقر اللائح فى ذهنه يهدده بالنزول به، لما أُصيب بذلك المرض القاتل له ولأهله.
"يُسرف المسرف فى الشهوات، ويتهتك المتهتك فى المنكرات، حتى ينفد المال،(2/413)
وتسوء الحال، ويستبدل الذل بالعز، والفقر بالغنى، ولا سبب لذلك إلا ضياع صبره فى مقاومة الهوى، وضبط نفسه عن مواقع الردى، ولو صبر فى مجاهدة تلك النزعات لما كان قد خسر ماله، وأفسد حاله.. وهكذا لو أردت أن أعد جميع الرذائل، وأبحث عن عللها الأولى، لوجدتموها تنتهى إلى ضعف الصبر أو فقده. ولو سردتَ جميع الفضائل وطلبتَ ينبوعها الذى تستمد منه حياتها لما وجدتَ لها ينبوعاً سوى الصبر، أفلا يكون جديراً بعد هذا بأن يُخَص بالذكر".
ثم يبين بعد ذلك وسائل الدعوة إلى الخير فيقول: " ... يجب على العلماء ومَن يتشبه بهم، أن يتعلموا من وسائل القيام بالواجب ما تدعو إليه الحال، على حسب الأزمان واختلاف أحوال الأُمم، وأول ما يجب عليهم فى ذلك أن يتعلموا التاريخ الصحيح، وعلم تكوين الأُمم، وارتفاعها وانحطاطها، وعلم الأخلاق وأحوال النفس، وعلم الحس والوجدان، ونحو ذلك مما لا بد منه فى معرفة مداخل الباطل إلى القلوب، ومعرفة طرق التوفيق بين العقل والحق، وسُبُل التقريب بين اللَّذة والمنفعة الدنيوية والأُخروية، ووسائل استمالة النفوس عن جانب الشر إلى جانب الخير، فإن لم يحصلوا على ذلك كله فوزر العامة عليهم. ولا تنفعهم دعوى العجز، فإنهم ينفقون من أزمانهم في القيل والقال، والبحث فى الألفاظ والأقوال، ما كان يكفيهم أن يكونوا بحار علم، وأعلام هُدى ورُشد، فليطلبوا العلم من سُبُله التى قام عليها السَلَف الصالح، والله كفيل أن يمدهم بمعونته، أما وقد انقطعوا إلى ما يعجزهم عن القيام بأمره، فلن يقبل الله لهم عذراً، بل فليتربصوا حتى يأتى أمر الله.
"لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واشتغال الناس بالحق عن الباطل، وبالطيب عن الخبيث أن يضرب الإنسان فى الأرض ويمسحها بالطول والعرض، وأن يتعلم اللُّغات الأجنبية، ليقف على ما فيها مما ينفعه فيستعمله، وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه، لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك بما يستطيعون، ولهم فى سَلَف الأُمة من القرون الأولى إلى نهاية القرن الرابع من الهجرة أحسن أُسوة، وأفضل قدوة، وكل ما يُهوِّنون به على أنفسهم مما يخالف ذلك فإنما هى وساوس شيطان. يشغلهم بها عن النظر فى معانى القرآن، ويحرمهم من التعرض لرحمة الرحمن".
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [13] من سورة الانفطار: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} .. نراه يوضح معنى البِّر وما يكون به الإنسان من الأبرار، ثم يقول: "فلا يُعَد(2/414)
الشخص بَرا ولا باراً حتى يكون للناس من كسبه ومن نفسه نصيب فلا يغترَّن أُولئك الكسالى الخاملون، الذين يظنون أنهم يدركون مقام الأبرار بركعات من الخشية خاليات، وبتسبيحات وتكبيرات وتحميدات ملفوظات غير معقولات، وصيحات غير لائقات بأهل المروءة من المؤمنين والمؤمنات، ثم بصوم أيام معدودات، لا يجتنب فيها إيذاء كثير من المخلوقات، مع عدم مبالاة الواحد منهم بشأن الدين قام أم أسقط، ارتفع أو انحط. ومع حرصه وطمعه لما فى أيدى الناس، واعتقاده الاستحقاق لما عندهم، لا لشىء سوى أنهم عاملون فى كسب المال وهو غير عامل، وهم يجرون على سُنَّة الحق وهو مستمسك بسُنَّة الباطل، وهم يتجملون بحلية العمل وهو منها عاطل، فهؤلاء ليسوا من الأبرار، بل يجدر بهم أن يكونوا من الفُجَّار".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في أول سورة العاديات: {والعاديات ضَبْحاً * فالموريات قَدْحاً * فالمغيرات صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} [العاديات: 1-5] .. نجده يقول: "وكان فى هذه الآيات القارعات، وفى تخصيص الخيل بالذكر فى قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 3] ، وفيما ورد فى الأحاديث التى لا تكاد تُحصر ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون فى مقدمة فرسان الأرض مهارة فى ركوب الخيل، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس فى عقائلها، وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقاناً، أفليس من أعجب العجب عندهم أن ترى أُمماً هذا كتابها قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يُشار إلى راكبيها بينهم بالهزء والسخرية، وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أُخرى؟ أليس أغرب ما يُستغرب أن أُناساً يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم، يكون طُلاب العلوم الدينية منهم أشد الناس رهبة من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولية، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليهم بالبنان عندما كنت أكلمه فى منافع بعض العلوم وفوائدها فى علم الدين أن قال: "إذا كان كل ما يفيد فى الدين نُعَلِّمه لطلبة العلم، كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل"! يقول ذلك ليفحمنى وتقوم له الحُجَّة علىّ، كأن تعليم ركوب الخيل مما لا يليق ولا ينبغى لطلبة العلم، وهم يقولون إن العلماء ورثة الأنبياء، فهل هذه الأعمال وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب؟ أنصف ثم احكم".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة الماعون: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} .. نجده يقرر: أن قوله: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} ، كناية(2/415)
عن الذى لا يجود بشىء من ماله على الفقير المحتاج إلى القوت الذى لا يستطيع له كسباً".
ثم يقول: "وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين، ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه. وفيه حث للمصدِّقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم وهى طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت فى الكتاب بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى فى الآيتين [17، 18] من سورة الفجر: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} ، ونعمت الطريقة هى لإغاثة الفقراء، وسد شىء من حاجات المساكين".
ومن أجل هذه الروح التى تسيطر على الأستاذ الإمام فى تفسيره، نجد الشيخ المراغى رحمه الله يقول: "وكانت دروسه يجد علماء الاجتماع فيها تطبيق القرآن على معارفهم".
* *
* تفسيره للقرآن على ضوء العلم الحديث:
كذلك نجد الأستاذ الإمام - رحمه الله - يتناول بعض آيات القرآن فيشرحها شرحاً يقوم على أساس من نظريات العلم الحديث، وغرضه بذلك: أن يوفق بين معانى القرآن التى قد تبدو مستبعَدة فى نظر بعض الناس، وبين ما عندهم من معلومات توشك أن تكون مُسَلَّمة عندهم، أم هى مُسلَّمة بالفعل، وهو - وإن كان يرمى من وراء ذلك إلى غرض نبيل - يخرج أحياناً بمثل هذا الشرح والبيان عن مألوف العرب، وما عُهِد لديهم وقت نزول القرآن.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة الإنشقاق: {إِذَا السمآء انشقت} .. نجده يقول: "انشقاق السماء، مثل انفطارها الذى مَرَّ تفسيره فى سورة {إِذَا السمآء انفطرت} ، وهو فساد تركيبها، واختلال نظامها، عندما يريد الله خراب هذا العالَم الذى نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التى قد ينجر إليه سير العالَم، كأن يمر كوكب فى سيره بالقُرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأى غمام، يظهر فى مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام، واختل نظمها حال ظهوره".
هذا التفسير من الأستاذ الإمام عمل جليل يُشكر عليه، إذ غرضه من ذلك تقريب معانى القرآن وما يُخبر به من عقول الناس، بما هو معهود عندهم ومُسَلَّم لديهم.(2/416)
ولكن هل لا بد فى فساد الكون من أن يترتب على مثل هذه الظاهرة الكونية؟ وهل يعجز الله عن إفساده وإخلاله بأمر آخر غير ذلك؟ أليس الأولى بنا أن نؤمن بما جاء به القرآن، ولا نخوض فيما وراء ذلك من تفصيلات كما هو مذهب الشيخ؟ أحسب أن الشيخ يضرب ذلك مثلاً، ولا يريده على أنه أمر لا بد منه.
ومثلاً عندما يعرض لتفسير سورة الفيل، بعد أن ذكر ما قيل فى إرسال الطير على أبرهة، وما جاءت به بعض الروايات من أن الذى أصابهم هو داء الجدرى والحصبة يقول: "وقد بيَّنت لنا هذه السورة الكريمة، أن ذلك الجدرى أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، بواسطة فِرَق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح، فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذى يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس، الذى تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات فإذا اتصل بجسده دخل فى مسامه، فأثار فيه تلك القروح التى تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وإن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يُعَد من أعظم جنود الله فى إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وإن هذا الحيوان الصغير الذى يسمونه الآن بالميكروب لا يخرج عنها، وهو فِرَق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها، ولا يتوقف ظهور أثر قُدرة الله تعالى فى قهر الطاغين على أن يكون الطير فى ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها فلله جند من كل شىء.
وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه الواحد"
وهنا أيضاً نجد الأستاذ الإمام قد خالف طريقته فى مبهمات القرآن فراح يخوض فى التفصيلات والجزئيات، ثم جوَّز أن تكون الطير هى ما يُسمى اليوم بالميكروبات، كما جوَّز أن تكون الحجارة هى جراثيم بعض الأمراض، وهذا ما لا نُقره عليه، لأن هذه الجراثيم التى اكتشفها الطب الحديث لم يكن للعرب علم بها وقت نزول القرآن، والعربى إذا سمع لفظ الحجارة فى هذه السورة لا ينصرف ذهنه إلى تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب، وخاطبهم بما يعهدون ويألفون.
وإذا كان الأستاذ الإمام قد أعطى لعقله الحرية الكاملة فى تفسيره للقرآن الكريم، فإنَّا نجده يُغرِق فى هذه الحرية ويتوسع فيها، إلى درجة وصلت به إلى ما يشبه التطرف فى أفكاره، والغلو فى آرائه.
* *
* موقف من حقيقة الملائكة وإبليس: فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [34] وما بعدها من سورة البقرة:(2/417)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ} ... إلى آخر القصة، نجده يقول: "وذهب بعض المفسِّرين مذهباً آخر فى فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد فى الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخِلْقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو فى النبات لم يكن إلا بروح خاص، نفخه الله فى البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال فى الحيوان والإنسان، فكل أمر كلى قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية فى إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهى سُمِّى فى لسان الشرع مَلَكاً، ومَن لم يبال فى التسمية بالتوقيف يسم هذه المعانى القوى الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالَم الإمكان إلا ما هو طبيعة، أو قوة يظهر أثرها فى الطبيعة. والأمر الثابت الذى لا نزاع فيه، هو أن فى باطن الخِلْقة أمراً هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن العاقل أن ينكره، إن أنكر غير المؤمن بالوحى تسميته مَلَكاً، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحى تسميته قوة طبيعية أو ناموساً طبيعياً، لأن هذه الأسماء لم ترد فى الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات، وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجوداً لا يدرك كنهه، والذى لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكلٌ يقر بوجود شىء غير ما يرى ويحس، ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ وماذا على هذا الذى يزعم أنه لا يؤمن بالغيب - وقد اعترف بما غيب عنه - لو قال: أُصدِّق بغيب أعرف أثره، وإن كنت لا أُقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحى، ويحظى بما يحظى به المؤمنون؟
"يشعر كل مَن فَكَّر فى نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن فى نفسه تنازعاً كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى. فهذا يُورد وذاك يدفع، واحد يقول افعل، وآخر يقول لا تفعل، وآخر يقول لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشىء الذى أُودع فى أنفسنا ونسميه قوة وفكراً، وهى فى الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تُكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله ملَكَاً، أو يسمى أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس، فكيف يُحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع".
ثم قال الأستاذ الإمام بعد ذلك: "فإذا صح الجرى على هذا التفسير، فلا(2/418)
يُستبعد أن تكون الإشارة فى الآية أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التى بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه ولا يتعدى ما حُدِّد له من الأثر الذى خُصَّ به.؟ خلق بعد ذلك الإنسان، وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف بجميع هذه القوى وتسخيرها فى عمارة الأرض، وعبَّر عن تسخير هذه القُوَى بالسجود الذى يُفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذى لا حد له، والتصرف الذى لم يُعط لغيره، خليفة الله فى أرضه، لأنه أكمل الموجودات فى الأرض، واستثنى من هذه القُوَى قوة واحدة، عبَّر عنها بإبليس، وهى القوى التى لزَّها الله بهذا العالَم لزا، وهى التى تميل بالمستعد للكمال، أو بالكامل إلى النقص، وتعارض مد الوجود لترده إلى العدم، أو تقطع سبيل البقاء، وتعود بالموجود إلى الفناء، أو التى تعارض فى اتباع الحق، وتصد عن عمل الخير، وتنازع الإنسان فى صرف قواه إلى المنافع والمصالح التى تتم بها خلافته، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودى التى خُلِق مستعداً للوصول إليها. تلك القوة التى ضللت آثارها قوماً فزعموا أن فى العالَم إلهاً يسمى إله الشر، وما هى بإله، ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو".
قال: "ولو أن أنفسنا مالت إلى قبول هذا التأويل، لم تجد فى الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب، وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق".
ثم يعود فى موضع آخر إلى تقرير التمثيل فى القصة فيقول: "وتقرير التمثيل فى القصة على هذا المذهب هكذا: أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة فى الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقُوَى هذا العالَم وأوراحه، التى بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها، فيكون به كمال الوجود فى هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يُفْسِد فى الأرض لأنه يعمل باختياره، ويُعطَى استعداداً فى العلم والعمل لا حد لهما، هو تصوير لما فى استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته فى الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شىء فى هذه الأرض، وانتفاعه به فى استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة، وسؤالهم عنها، وتنصلهم فى الجواب تصوير لكون الشعور الذى يُصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقُوَى له، ينتفع فى ترقية(2/419)
الكون بمعرفة سنن الله تعالى فى ذلك. وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر، وإبطال داعية خواطر السوء، التى هى مثار التنازع والتخاصم والتعدى والإفساد فى الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البَشرى".
والذى ينظر فى هذا التأويل الذى جوَّزه الشيخ، وفى سياق الآية وألفاظها وما فيها من محاورة ومقاولة، لا يسعه إلا أن يرده، وإن حاول قائله أن يروج له بجعله الأوامر التى وردت فى الآية من قبيل الأمر التكوينى، لا الأمر التكليفى.
* *
* موقفه من السحر:
ولقد كان من أثر إعطاء الأستاذ لنفسه الحرية الواسعة فى فهم القرآن الكريم، أنَّا نجده يخالف رأى جمهور أهل السُّنَّة، ويذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة، من أن السحر لا حقيقة له، ولذلك عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [4] من سورة الفلق: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} .. نجده بعد أن يُفسِّر معنى النفث والعُقَد، يُفَسِّر المراد بالنفَّاثات فى الآية فيقول: "المراد بهم هنا هم النمامون، المقطِّعون لروابط الأُلفة، المُحرقون لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما فى الآية، لأن الله جَلَّ شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السحرة المشعوذين، الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجه - مثلاً - فيما يُوهمون به العامة، عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحَلُّوها، ليكون ذلك حلاً للعقد التى بين الزوجين. والنميمة تشبه أن تكون ضرباً من السحر، لأنها تحوِّل ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة، بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تُضَلِّل وجدان الصديقين، كما يضلل الليل مَن يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق".
* * *
إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة:
ثم راح الشيخ - رحمه الله - يرد ما جاء من الروايات فى سحر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "وقد رووا هنا أحاديث فى أن النبى صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بين الأعصم، وأثَّرَ سحره فيه، حتى كان يُخيل له أنه يفعل الشىء وهو لا يفعله، أو يأتى شيئاً وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك، وأُخْرِجت مواد السحر من بئر، وعُوفِىَ - صلى الله عليه وسلم - مما كان نزل به من ذلك، ونزلت هذه السورة، ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أن يفعل شيئاً وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض فى الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان فى بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يُصَدِّق قول المشركين فيه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الفرقان: 8] ، وليس المسحور عندهم إلا مَن خولطَ فى عَقله، وخُيِّل له أن(2/420)
شيئاً يقع وهو لا يقع، فيُخيَّل إليه أنه يُوحَى إليه، ولا يُوحَى إليه، وقد قال كثير من المقلِّدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بِدَع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر، فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح فى نظر المقلِّد بدعة - ونعوذ بالله - يحتج بالقرآن على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه - صلى الله عليه وسلم -، وعَدَّةُ من افتراء المشركين عليه، ويُؤوِّل فى هذه ولا يُؤوِّل فى تلك، مع أن الذى قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه الصلاة والسلام، وملابسة الشيطان تُعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذى نُسب إلى لبيد، فإنه خولط فى عقله وإدراكه فى زعمهم.
"والذى يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذى يجب الاعتقاد بما يُثبته، وعدم الاعتقاد بما يُنفيه، وقد جاء بنفى السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعاً. وأما الحديث - فعلى فرض صحته - هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها الظن والمظنون، عل أن الحديث الذى يصل إلينا من طريق الآحاد، إنما يحصل الظن عند مَن صح عنده، أما مَن قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حُجَّة، وعلى أى حال، فلنا - بل علينا - أن نُفوِّض الأمر فى الحديث. ولا نُحَكِّمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى فى عقله - كما زعموا - جاز عليه أن يظن أنه بَلَّغ شيئاً وهو لم يُبَلِّغه، أو أن شيئاً نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.. " إلخ.
وهذا الحديث الذى يرده الأستاذ الإمام رواه البخارى وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة، فإن السحر الذى أُصيب به عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التى تعرض للبدن بدون أن تؤثر على شئ من العقل، وقد قالوا إن ما فعله لبيد بن الأعصم بالنبى صلى الله عليه وسلم من السحر لا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع العقد عن النساء، وهو الذى يسمونه "رباطاً" فكان يخيل إليه أن عنده قدرة على إتيان إحدى نسائه، فإذا ما هَمَّ بحاجته عجز عن ذلك. أما السحر(2/421)
الذى نُفِىَ عنه - صلى الله عليه وسلم - فمراد به الجنون، وهو مخل ولا شك بمقام النبوة، وقد قالوا: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] . ثم إن الحديث رواية البخارى وغيره من كتب الصحيح، ولكن الأستاذ الإمام ومَن على طريقته لا يُفَرِّقون بين رواية البخارى وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخارى، كما أنه - لو صح فى نظرهم - فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا فى نظرنا هدم للجانب الأكبر من السُّنَّة التى هى بالنسبة للكتاب فى منزلة المبيِّن من المبيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتحق بالمبيّن، وليس هذا الحديث وحده هو الذى يُضَعِّفه الشيخ، أو يتخلص منه بأنه رواية آحاد، بل هناك كثرة من الأحاديث نالها هذا الحكم القاسى، فمن ذلك أيضاً حديث الشيخين: "كل بنى آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أُمه إلا مريم وابنها".. فإنه قال فيه: "إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة".
فهو لا يثق بصحة الحديث رغم رواية الشيخين له، ثم يتخلص من إرادة الحقيقة - على فرض الصحة، بجعل الحديث من باب التمثيل، وهو ركون إلى مذهب المعتزلة. الذين يرون أن الشيطان لا تَسَلُّط له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء فقط.
وبعد.. فهذا هو إنتاج الأستاذ الإمام فى التفسير، وهذا هو مسلكه ومنهجه فيه، ولعلِّى أكون قد أرضيت الحقيقة، ولم أتجن على الشيخ، أو أتهمه بما هو منه برئ.
* * *
2- السيد محمد رشيد رضا
* كيف اتصل الشيخ رشيد بالأستاذ الإمام:
نشأ السيد محمد رشيد رضا فى طرابلس الشام، وفيها تلقى العلم عن شيوخها وعلمائها، وجلس يفيدهم بعلمه، ويرشدهم بنصحه ووعظه، وفى هذه الأثناء وقع فى يده نسخة من جريدة "العروة الوثقى"، التى كان يقوم بإخراجها والكتابة فيها رجل الإصلاح جمال الدين الأفغانى، وتلميذه الشيخ محمد عبده، فقرأ الشيخ رشيد ما فى الجريدة، فأعجب بالرجلين إعجاباً شديداً، ورغب فى الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغانى فلم يسعده الحظ، ثم تعلق أمله بالاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده، فأسعده الحظ فى هذه المرة، واتصل بالشيخ فى رجب سنة 1315 هـ وكان أول اقتراح عرضه عليه، أن يكتب تفسيراً للقرآن على نهج ما كان يكتب فى جريدة "العروة الوثقى"، وبعد أخذ ورد بين الشيخين اقتنع الأستاذ الإمام بأن يقرأ دروساً فى التفسير(2/422)
بالجامع الأزهر، ولم يلبث إلا قليلاً حتى قام بإلقاء دروسه فى التفسير على طُلابه ومريديه.
وكان الشيخ رشيد - رحمه الله - ألزم الناس لهذه الدروس، وأحرصهم على تلقيها وضبطها، فكان يكتب بعض ما يسمع، ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك، ثم قام بنشر ما كتب على الناس فى مجلته "المنار"، ولكنه لم يفعل إلا بعد مراجعة أستاذه لما كتب، وتناوله له بالتنقيح والتهذيب.
لهذا كله نستطيع أن نقول إن الشيخ رشيد هو الوارث الأول لعلم الأستاذ الإمام، إذ أنه أخذ عنه فوعى ما أخذ، وألَّف فى حياته وبعد وفاته، فكان لا يحيد عن منهجه أو ينحرف عن أفكاره. وليس غريباً ما يرويه الشيخ رشيد من أن الأستاذ الإمام - رحمه الله - كان يقول: "صاحب المنار ترجمان أفكارى". كما أنه ليس غريباً ما يُحَدِّث به أحد تلاميذ الشيخ رشيد، من أن الأستاذ الإمام وصف الشيخ رشيد بأنه "متحد معه فى العقيدة، والفكر، والرأى، والخُلُق. والعمل".
* *
* إنتاج الشيخ رشيد فى التفسير:
وإذا نحن تتبعنا ما كتبه الشيخ رشيد من تفسير للقرآن الكريم لوجدنا أنه أكثر رجال مدرسة الأستاذ الإمام إنتاجاً فى التفسير، وذلك أنه كتب تفسيره المسمى بتفسير القرآن الحكيم، والمشهور بتفسير المنار.. ابتدأ بأول القرآن وانتهى عند قوله تعالى فى الآية [101] من سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} .. ثم عالجته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن كله.
هذا القدر من التفسير مطبوع فى اثنى عشر مجلداً كباراً، ينتهى المجلد الثانى عشر عند قوله تعالى فى الآية [53] من سورة يوسف: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ... الآية.
وقد أكمل الأستاذ بهجت البيطار تفسير سورة يوسف، وطبع تفسير هذه السورة بتمامها فى كتاب مستقل يحمل اسم الشيخ رشيد رحمه الله.
هذا.. وقد فسَّر الشيخ من القصار: سورة الكوثر، والكافرون، والإخلاص،(2/423)
والمعوذتين، ولا نعرف له إنتاجاً فى التفسير أكثر من هذا، وهو إنتاج لا بأس به، وفيه تتجلى روح الأستاذ الإمام ممزوجة بروح تلميذه، فالمصادر هى المصادر، والهدف هو الهدف، والمنهج هو المنهج، والأفكار هى الأفكار، ولا فرق بين الرجلين إلا فيما هو قليل نادر.
* *
* مصادره فى التفسير:
أما مصادره فى التفسير فإنه كان يستعين ببعض آيات القرآن على فهم بعض آخر منه، خصوصاً إذا تكررت الآيات فى موضوع واحد، وكان يستعين أيضاً بما صح عنده من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جرى عليه سَلَف الأُمة من الصحابة والتابعين، وبأساليب لغة العرب وسنن الله فى خلقه، ومستعيناً بعد ذلك كله بعقله المتحرر من التقليد للمفسِّرين، إلا فيما يقتنع به من أقوالهم، وأقوال شيخه على الأخص، ويُحدِّثنا بعض تلاميذه: "أنه كان لا يراجع ما يكتب فى التفسير إلا بعد أن يكتب فهمه فى الآية، حذراً من تأثر أقوال المفسَّرين على نفسه، وإذا آتاه الله فهماً فى القرآن لم يُسبق إليه، أو لم يطلع عليه إلا بعد كتابته من عنده فإنه يتحدث إلى إخوانه شاكراً، وقد يقصه على أهل بيته مغتبطاً مسروراً".
* *
* هدفه من التفسير:
وأما هدفه فى التفسير فهو عَيْن ما يهدف إليه الأستاذ الإمام، فإذا كان الأستاذ الإمام يُصَرِّح بأن هدفه من التفسير هو "فهم الكاتب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة". فإن صاحبنا يُصَرِّح بمثل ذلك فى كثير من مواضع كتابه، فيقول بعد أن يوجه اللَّوم إلى مَن حشروا فى التفسير من قواعد العلوم، ومسائل الفنون، وموضوعات الحديث، وخرافات الإسرائيليات، ما يصرف الناس عن هداية القرآن، يقول: "إن حاجة الناس صارت شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذى يتفق مع الآيات الكريمة، المنزَّلة فى وصفه. وما أُنزِل لأجله، من الإنذار، والتبشير والهداية، والإصلاح".
يريد أنه سيعمل تفسيره على هذا النمط ليسد حاجة الناس، ويقول فى موضع آخر: "إن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن، وطرق الاهتداء به فى هذا الزمان".
* *(2/424)
* منهجه فى التفسير:
وأما منهجه فيه فهو عَيْن ما نهجه الأستاذ الإمام، فلا تقيد بأقوال المفسِّرين، ولا تحكم للعقيدة فى نص القرآن، ولا خوض فى إسرائيليات، ولا تعيين لمبهمات، ولا تعلق بأحاديث موضوعة، ولا حشد لمباحث الفنون، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم، بل شرح للآيات بأسلوب رائع، وكشف عن المعانى بعبارة سهلة مقبولة، وتوضيح لمشكلات القرآن، ودفاع عنه يرد ما أُثير حوله من شبهات، وبيان لهدايته، ودلالة إلى عظيم إرشاده، وتوقيف على حكم تشريعه، ومعالجة لأمراض المجتمع بناجع دوائه، وبيان لسنن الله فى خليقته.
ولكنَّا نجد الشيخ رشيد - رحمه الله - يحيد عن هذا المنهج بعض الشىء، وذلك بعد وفاة شيخه، واستقلاله بالعمل، ويُحدِّثنا هو بذلك فيقول:
"وإننى لما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه - رحمه الله تعالى - بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السُّنَّة الصحيحة، سواء أكان تفسيراً لها، أو فى حكمها، وفى تحقيق بعض المفردات، أو الجمل اللُّغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفى الإكثار من شواهد الآيات فى السور المختلفة، وفى بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم فى هذا العصر، أو يقوى حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحل بعض المشكلات التى أعيا حلها. بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس".
ويبدو لنا أن هذا التوسع الذى كان من الشيخ رشيد - خصوصاً فى المسائل الاجتماعية -، لم يدفعه إليه إلا كونه رجلاً "صحفياً" اتصل عن طريق مجلته بالناس على اختلاف منازعهم ومشاربهم، وفيهم المتدين، والملحد. والكافر، فأراد أن يتمشى بكتابته مع الجميع، فيثبت المتدين على دينه، ويرد الملحد عن إلحاده، ويكشف عن محاسن الإسلام، لعل الكافر أن يثوب إلى رشده ويرجع عن كفره.
* *
* آراؤه فى التفسير:
أما آراؤه فى التفسير فهى كآراء شيخه، تقوم على حرية واسعة فى الرأى واعتداد عظيم بالفهم، وثقة قوية بما عنده من العلم، وعدم تقيد ببعض المُسَلَّمات عند العلماء، ولهذا نجد له أفكاراً غريبة فى تفسير القرآن استقل ببعض منها، وقلَّد شيخه فى بعضها الآخر.
* *(2/425)
* رأيه فى أصحاب الكبائر: فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [275] من سورة البقرة فى شأن المرابين: {وَمَنْ عَادَ فأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .. نجده يخالف أهل السُّنَّة، ويؤكد أن صاحب الكبيرة التى فى درجه أكل الربا وقتل العمد إذا مات ولم يتب منها يخلد فى النار، ولا يخرج منها أبداً فيقول: "أى: ومَن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرَّم بعد تحريمه، فأُولئك البُعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم، الذى لا ينهاهم إلا عما يضرهم فى أفرادهم أو جمعهم، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه، فيكونون فيها خالدين.
"وقد أوَّل الخلود المفسِّرون، لتتفق الآية مع المقرر فى العقائد والفقه من كون المعاصى لا توجب الخلود فى النار، فقال أكثرهم: إن المراد: ومَن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقاداً، ورده بعضهم بأن الكلام فى أكل الربا، وما ذُكِر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم قبل التحريم، فهو ليس بمعنى استباحة المحرَّم، فإذا كان الوعيد قاصراً على الاعتقاد بحلِّه لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل.
"والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء. يجب إرجاع كل قول فى الدين إليه، ولا يجوز تأويل شىء ليوافق كلام الناس، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود فى آية قتل العمد، وليس هناك شبهة فى اللَّفظ على إرادة الاستحلال. ومن العجيب أن يجعل الرازى الآية هنا حُجَّة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة فى النار، انتصاراً لأصحابه الأشاعرة، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم الخلود بطول المكث، أما عنه فنقول: ما كل ما يسمى إيماناً يعصم صاحبه من الخلود فى النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالى بالدين الذى نشأ فيه المرء أو نُسِبَ إليه، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه. وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة فى العقل بالبرهان، مؤثرة فى النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح فى الأعمال، بحيث يكون صاحبها خاضعاً لسلطانها فى كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإسنان من غلبه جهالة أو نسيان. وليس الربا من المعاصى التى تُنسى، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها فى غمرة النسيان كالغيبة والنظرة، فهذا هو الإيمان الذى يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود فى سخط الله، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمداً، إيثاراً لحب المال واللَّذة، عن دين الله وما فيه من الحكم والمصالح. وأما الإيمان الأول: فهو صورى فقط، فلا قيمة له(2/426)
عند الله تعالى، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، كما ورد فى الحديث، والشواهد على هذا الذى قررناه فى كتاب الله تعالى كثيرة جداً، وهو مذهب السَلَف الصالح، وإن جهله كثير ممن يَدَّعون اتباع السُّنَّة حتى جَرَّأوا الناس على هدم الدين، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن لم يُعمل به، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات، مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حُرِّم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إننى لا أنكر أننى آكل الربا ولكننى مسلم أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد، وبأنه
يرضى أن يكون محارباً لله ولرسوله، وظالماً لنفسه وللناس، كما سيأتى فى آية أخرى، فهل يعترف بالملزوم؟ أو ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ نعوذ بالله من الخذلان".
* *
* تقليده لشيخه فى قصة آدم:
كذلك نجد صاحب المنار يُقلِّد شيخه فى موقفه من قصة آدم وإبليس وما يتعلق بها فيقول:
"وهذا التفصيل مبنى على كون الأمر بالسجود للتكليف، وأنه وقع حوار بين الرب سبحانه وبين إبليس. وأما على القول بأن الأمر للتكوين، وأن القصة بيان لغرائز البَشر والملائكة والشياطين، فالمعنى: أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأُمورها بالسنن التى عليها مدار نظامها كما قال: {فالمدبرات أَمْراً} [النازعات: 5] مُسَخَّرة لآدم وذُرِّيته، إذ خلق الله هذا النوع مستعداً للانتفاع بها كلها، بعلمه بسنن الله تعالى فيها، وبعلمه بمقتضى هذه السن كخواص الماء، والهواء، والكهرباء، والنور، والأرض: معادنها، ونباتها، وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها، ومستعداً لاصطفاء الله بعض أفراده، واختصاصهم بوحيه ورسالته، وإقامة مَن اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه، وقد أُشير إلى ذلك فى الآية [31] من سورة البقرة بقوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} ، إلا أنه جعل الشيطان عاتياً متمرداً على الإنسان، بل عدواً له، من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سُنته فى صلاح الخلق، وبين روح الجن الذى يغلب على شرارهم - وهم الشياطين - التمرد والعصيان. وقد أعطى الإنسان إرادة واختياراً من ربه فى ترجيح ما به يصعد إلى أُفق الملائكة، وما به يهبط إلى أُفق الشياطين".
* *(2/427)
* تذرعه بالمجاز والتشبيه:
كذلك نجد صاحب المنار يصرف بعض ألفاظ القرآن عن ظواهرها، ويعدل بها إلى ناحية المجاز أو التشبيه، وذلك فيما يبدو مستبعداً ومستغرباً لو أُجرى على حقيقته، وهذا المسلك الذى جرى عليه الشيخ رشيد هو مسلك شيخه، ومسلك الزمخشرى وغيره من المعتزلة، الذين اتخذوا التشبيه والتمثيل سبيلاً للفرار من الحقائق التى يُصَرِّح بها القرآن، ولا تعجز عنها قدرة الله، وإن بعدت عن منال البَشر.
فمثلاً نجد صاحب المنار عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [47] من سورة النساء: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} ... الآية، نراه يستظهر أن المعنى المراد هنا هو: "آمِنُوا بما نَزَّلنا مصدِّقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التى توجهتم إليها فى كيد الإسلام، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء، بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذى جاء به الآنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شىء من المكانة والمعرفة والقوة، فهذا ما نفسِّرها به، على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين".. ثم سرد بعض أقوال المفسِّرين فى هذه الآية، ثم بيَّن أن ما اختاره هو رأى شيخه الذى مال إليه فى دروسه.
* *
* رأيه فى السحر:
ثم إن صاحب المنار لا يرى السحر إلا ضرباً من التمويه والخداع، وليس له حقيقة كما يقول أهل السُّنَّة، وهو يوافق بهذا القول قول شيخه وقول المعتزلة من قبله، ولهذا نراه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [7] من سورة الأنعام: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ... نجده يقول: "والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يرى ما لا حقيقة له فى صورة الحقائق".
هذا.. ولم يستطع الشيخ رشيد أن يرد حديث البخارى فى سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل شيخه، ولكنه تأوَّل الحديث على أنه كان من قبيل العقد عن النساء، وبيَّن أن عذر مَن طعن فى الحديث هو أن هشاماً - راوى الحديث عن أبيه عن عائشة - مطعون فيه من كثير من أئمة الجرح والتعديل.
* *(2/428)
* رأيه فى الشياطين:
وهو يرى أن شياطين الجن لا تسلط لها على الإنسان إلا بالإغواء فقط، ويقول: "كل ما يدَّعيه بعض الدجَّالين من تسلط الشيطان، أو ملوك الجان على بعض الناس، وقدرتهم على نفعهم وضرهم، فهو كذب وحيل من شياطين الإنس وحدهم".
* *
* رأيه فى الجن:
كما يرى أن الجن لا تُرى للإنسان على أى حال من الأحوال، ويرجح أن مَن ادَّعى رؤية الجن فذلك وهم منه وتخيل، ولا حقيقة له فى الخارج، أو لعله رأى حيواناً غريباً كبعض القردة فظنه أحد أفراد الجن. يقول هذا ثم يعرض فى "الهامش" لذكر حديث أبى هريرة فيمن كان يسرق تمر الصدقة، وإخبار النبى له بأنه شيطان - وهو فى البخارى - ولغيره من الأحاديث التى تدل على أن الإنسان يرى الجنى ويبصره، ثم يقول بعد أن يفرغ من سرده للروايات: "والصواب أنه ليس فى هذه الروايات كلها حديث صحيح".
بل ونجده يزيد على ذلك فيجوِّز أن تكون ميكروبات الأمراض نوعاً من الجن. وذلك حيث يقول عندما تعرَّض لتفسير قوله تعالى فى الآية [275] من سورة البقرة: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} ... الآية: " ... والمتكلمون يقولون: إن الجن أجسام حية خفية لا تُرى، وقد قلنا فى المنار غير مرة: إنه يصح أن يُقال إن الأجسام الحية الخفية التى عُرفت فى هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى بالميكروبات، يصح أن تكون نوعاً من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض".
* * *
* رأيه فى معجزات النبى صلى الله عليه وسلم:
ولقد نجد صاحب المنار يذهب فى معجزات النبى صلى الله عليه وسلم مذهباً بعيداً، فيقرر أنه لا معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم وينكر بعض معجزاته الكونية، ويتأوَّل ما يشهد لها من آيات، ويجحد صحة ما يقوم بإثباتها من الأحاديث، وما يُسَلِّمه من بعض الآيات الكونية فهو فى نظره إكرام للنبى من ربه، وليس من قبيل المعجزة، أو الحُجَّة على صدق دعوته.
يذهب إلى هذا ويستدل له بمثل قوله تعالى فى الآية [59] من سورة(2/429)
الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} ... الآية، وبمثل قوله عليه السلام من رواية أبى هريرة عند الشيخين وغيرهما: "ما من نبى من الأنبياء إلا أُعطى ما مثله آمن عليه البَشر، وإنما كان الذى أُوتيته وحياً أوحاه الله إلىَّ، فأرجو أن أكون اكثرهم تابعاً يوم القيامة".
ولكن صاحب المنار يستشعر معارضة بعض نصوص القرآن والحديث لما ساقه من أدلة على مُدَّعاه فيقول: "وقد يعارضه - يعنى الحديث السابق - آية انشقاق القمر مع ما ورد فى أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشاً سألوا النبى صلى الله عليه وسلم آية على نبوته فانشق القمر فكان فِرقتين، ولكن فى الأحاديث الواردة فى انشقاقه عللاً فى متنها وأسانيدها، وإشكالات علمية، وعقلية، وتاريخية، فصَّلناها فى المجلد الثلاثين من المنار، وبيَّنا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح فى حصر معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم فى القرآن وكون الآيات المقترحة تقتضى إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال، هو الحق الذى لا ينهض لمعارضته شىء".
وإذا كان الشيخ رشيد قد تخلَّص هنا من معارضة الحديث بالطعن فيه، فإنه قد تخلَّص فى موضع آخر من معارضة الآية، حيث فسَّر انشقاق القمر بظهور الحُجَّة"!!
* *
* رأيه فى مسائل من الفقه:
كذلك نجد صاحب المنار يعطى نفسه حرية واسعة فى استنباط الأحكام من القرآن الكريم، مما جعله يخالف جمهور الفقهاء، ويسفههم فيما ذهبوا إليه، وإذا أردتَ مثالاً لذلك فارجع إلى ما كتبه على قوله تعالى فى الآية [180] من سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} ، فستجد أنه لم يعبأ بما عليه جمهور العلماء من أهل السُّنَّة من أن حكم هذه الآية منسوخ، بصرف النظر عن كون الناسخ آية المواريث أو حديث: "لا وصية لوارث" الذى جنح الشافعى فى الأُم إلى أن متنه متواتر، فراح - رحمه الله - يؤكد بكل ما يملك من حُجَّة: أن حكم الوصية للوالدين والأقربين باق لم يُنسخ، كما راح يُفَنِّد كل دليل تمسَّك به الجمهور. ولا أُطيل بذكر ما قاله فى هذا الموضوع، ويكفى أن أقول لك: إنه أنهى البحث فى هذه المسألة بقوله: "وصفوة القول: أن الآية(2/430)
غير منسوخة بآية المواريث، لأنها لا تعارضها، بل تؤيدها، ولا دليل على أنها بعدها، ولا بالحديث، لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب، فهى محكمة، وحكمها باق، ولك أن تجعله خاصاً بمن لا يرث من الوالدين أو الأقربين كما روى عن بعض الصحابة، وأن تجعله على إطلاقه، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فينبذ ما كتبه الله عليه بغير عذر، ولا سيما بعد ما أكده بقوله: {حَقّاً عَلَى المتقين} .
وإن أردت مثالاً آخر فارجع إلى ما ذهب إليه فى آية التيمم من سورة النساء، فسترى أنه يقرر: أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه ولا عِلَّة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافراً، ويخالف بذلك جماعة الفقهاء، ويحمل عليهم حملة شديدة فيما ذهبوا إليه من أن المسافر لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، كما ينكر على مَن استشكل الآية من المفسِّرين، ويقول فيما يقول: "سيقول أدعياء العلم من المقلِّدين: نعم، إن الآية واضحة المعنى، كاملة البلاغة على الوجه الذى قررتم، ولكنها تقتضى عليه أن التيمم فى السفر جائز ولو مع وجود الماء. وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أُولئك الفقهاء المحققين؟ وكيف يعقل أن يخلفوها من غير معارض لظاهر ما أرجعوها إليه؟. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء - وإن كان المقلِّد لا يحتاج لأنه لا علم له -: وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلاً مشكلاً؟ وأى الأمرين أولى بالترجيح؟ الطعن ببلاغة القرآن وبيانه.. لحمله على كلام الفقهاء؟ أو تجويز الخطأ على الفقهاء، لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التى فيها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر فى رمضان، فهل يُستنكر مع هذا أن يُرَخَّص للمسافر فى ترك الغُسل والوضوء، وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين".
إلى أن قال: "ألا إن من أعجب العجب، غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرُخصة الصريحة فى عبارة القرآن، التى هى أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر فى رفع الحَرَج والعُسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام ... ".
ثم قال: "وإذا ثبت أن التيمم رُخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد، بطلت كل تلك التشديدات التى توسَّعوا فى بنائها على اشتراط فقد الماء، ومنها ما قالوا من وجوب طلبه فى السفر، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث".
* *(2/431)
* حملته على بعض المفسِّرين:
هذا.. ولا يفوتنا أن نقول: إن صاحب المنار كان كثير التوسع فيما يتعقب به أحياناً قدماء المفسِّرين، خصوصاً الفخر الرازى منهم، مع قسوة منه عليهم فى الكثير الغالب.
* *
* حملته على البدع والخرافات:
كما أنه كان كثير الاستطراد إلى تتبع بدع المسلمين والكشف عن عوارها والإرشاد إلى علاجها، مع تشدد وتعسف منه فى كثير من الأحيان.
* *
شرحه لمبهمات القرآن بما جاء فى التوراة والإنجيل:
كذلك لا يفوتنا أن نُنَبِّه على أن صاحب المنار كان مع شدة لومه على المفسِّرين الذين يزجون بالإسرائيليات فى تفاسيرهم، ويتخذون منها شروحاً لكتاب الله، يخوض هو أيضاً فيما هو من هذا القبيل ويتخذ منه شروحاً لكتاب الله، وذلك أنه كثيراً ما ينقل عن الكتاب المقدَّس أخباراً وآثاراً يُفسِّر بها بعض مبهمات القرآن، أو يرد بها على أقوال بعض المفسِّرين، وكان الأجدر بهذا المفسِّر الذى يشدد النكير على عشاق الإسرائيليات، أن يكف هو أيضاً عن النقل عن كتب أهل الكتاب، خصوصاً وهو يعترف أنه قد تطرَّق إليها التحريف والتبديل.
* *
* دفاعه عن الإسلام:
وأخيراً فلا يفوتنا أن الرجل قد دافع عن الإسلام والقرآن، وكشف عما أحاط بما من شكوك ومشاكل، وقد استعمل فى ذلك لسانه وقلمه، وضمَّنه مجلته وتفسيره، وتلك مزية للرجل يُحمد عليها. ولا ننسى ما له من أفكار جريئة ومتطرفة.
* * *(2/432)
3- الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى
* الأستاذ المراغى فى مدرسة الشيخ محمد عبده:
لم نعرف من رجال هذه المدرسة رجلاً تأثر بروح الأستاذ الإمام، ونهج على طريقته من التجديد واطراح التقليد، والعمل على تنقية الإسلام من الشوائب التى أُلصقت به، وتنبيه الغافلين عن هَدْيه وإرشاده، مثل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى عليه رحمة الله ورضوانه.
تربَّى هذا الرجل فى مدرسة الأستاذ الإمام، وتخرَّج منها وهو يحمل بين جنبيه قلباً مليئاً بالرغبة فى الإصلاح، والثورة على كل ما يقف فى سبيل الإسلام والمسلمين.
هذا القلب الفتى، العامر بما فيه من حب للخير ورغبة فى الإصلاح، دفع بالرجل إلى ميدان الحياة الاجتماعية، وترقَّى به فى مراتب المناصب الدينية، وأخيراً وقف به عند الغاية، فإذا بالرجل شيخاً للأزهر، وإذا بروح الإصلاح والتجديد تتدفق من فوق منبره، وعلى قلوب طُلابه وغير طُلابه، ثم تنساب جارفة إلى نواح من الحياة المختلفة، فتعمل فيها عمل السحر، والحياة والنور.
لم يلازم الشيخ المراغى أستاذه الإمام ملازمة طويلة كما لازمه الشيخ رشيد، ولم يجلس إليه كثيراً مثلما جلس، ولكنه كان على رغم ذلك أعمق أثراً وأكثر تحقيقاً لما تهدف إليه هذه المدرسة من ضروب الإصلاح وصنوف التجديد، والسر فى ذلك - كما يظهر لنا - هو تقلب الشيخ فى مختلف المناصب الدينية الكبيرة، ثم ما كان فيه من جاذبية وقدرة على استجلاب قلوب سامعيه واستمالتها إليه، مما أجلس بين يديه الملك، والأمير، والوزير، والشيخ الكبير، والطالب الصغير، ورجل الشارع.
جلس هؤلاء جميعاً يستمعون إليه ويأخذون عنه، فكان الميدان فسيحاً أمام الشيخ، يلقى فيه بآرائه وأفكاره، فتجد الدعوى قبولاً من مستمعيه، ورواجاً عند مريديه.. ثم لا تلبث أن تنتشر فتعم كل شىء.
وإذا كان كتاب الله هو الدستور الذى شرعه الله تعالى للأُمة الإسلامية، وجعل فيه خيرها وسعادتها فى الدنيا والآخرة، فِلمَ لا يكون هو الباب الذى يصل منه الشيخ إلى ما يرجوه من خير، وما يهدف إليه من إصلاح.
* *
* إنتاجه فى التفسير:
طرق الشيخ هذا الباب، فعقد دروساً دينية فى تفسير القرآن الكريم، استمع إليها الكثير من الناس على اختلاف طبقاتهم، من الملك إلى رجل الشارع كما قلت، وأُذيعت هذه الدروس أيضاً فى كثير من ممالك الأرض، ودول الإسلام، وأخيراً طُبعت هذه الدروس، ووُزِعَّت على الناس ليعم نفعها، ويزداد أثرها.(2/433)
لم تكن هذه الدروس على شىء من الكثرة، ولم يكن مقدار ما تناولته من آيات القرآن بالمقدار الكبير، الذى كنا نرغب ونطمع فى أن تُزَوَّد به المكتبة الإسلامية.
نعم.. لم تتناول هذه الدروس من آيات القرآن إلا مقداراً قليلاً، وإذا نحن ذهبنا نستقصيه فإنَّا لا نجده أكثر من شرحه لقوله تعالى فى الآية [177] من سورة البقرة: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب} ... إلى قوله: {أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [133-138] من سورة آل عمران: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ... إلى قوله: {هاذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيتين [13، 14] من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} ... إلى قوله: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [151-153] من سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ... إلى قوله: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [183-186] من سورة البقرة: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} ... . إلى قوله: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [24-29] من سورة الأنفال: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ... إلى قوله: {والله ذُو الفضل العظيم} .
وشرحه لسورة الحجرات، وشرحه لسورة الحديد، وشرحه لسورة لقمان.(2/434)
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [160-165] من سورة الأنعام: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ... . إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات {199-206] من سورة الأعراف: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف} ... إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [30-34] من سورة فصلت: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} ... إلى قوله: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
وشرحه لأوائل سورة الأعراف إلى قوله فى الآية [9] : {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولائك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [112-123] من سورة هود: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} ... . إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيتين [58، 59] من سورة النساء: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} ... إلى قوله: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآية [17] من سورة الرعد: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ... . إلى قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [83-88] من سورة القصص: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} ... إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [1-10] من سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} ... . إلى قوله: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [63-77] من سورة الفرقان أيضاً: {وَعِبَادُ الرحمان الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} ... إلى قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} .(2/435)
وشرحه لسورة العصر.
وشرحه لسورة الملك.
هذا هو كل ما للأستاذ المراغى - رحمه الله - من إنتاج فى التفسير، وهو على قلَّته عمل كبير وعظيم، بالنظر لما يهدف إليه من إصلاح، وما يحمل فى طيَّاته من توجيه حسن فى التفسير.
وحسب الشيخ أن يكون قد لفت قلوب كثيرة من المسلمين إلى القرآن، بعد أن أعرضوا عن هَدْيه، وضَلُّوا عن إرشاده، وتلك حسنة نرجو له برها وذخرها عن الله.
* *
* منهجه فى التفسير:
يتتبع الإنسان إنتاج الأستاذ الأكبر فى التفسير، ويستقصى ما عرض له من آيات القرآن الكريم، فيلحظ أن الشيخ - رحمه الله تعالى - كان يختار لدروسه من آيات القرآن ما تتجلى فيه دلائل قدرة الله وآيات عظمته، وما تظهر فيه وسائل هداية البَشر، ومواضع العظة والعبرة، كما يلحظ أيضاً أنه وجَّه جانباً كبيراً من عنايته إلى الآيات التى يجمعها وقضايا العلم الحديث صلة القُربى، ليظهر للناس أن القرآن لا يقف فى سبيل العلم، ولا يصادم ما صح من قواعده ونظرياته، وذلك بما يهديه الله إليه من الدقة فى التوفيق بين قضايا القرآن، وقضايا العلم الحديث.. دقة لا يبلغ شأوها، ولا يدرك خطرها إلا مَن شغل نفسه، وكدَّ فهمه فى هذا السبيل.
* *
*مصادره فى التفسير:
وأعتقد أن الشيخ - رحمه الله - كان يستند فى تحضير دروسه على كتاب الله تعالى بجمع ما كان من الآيات فى موضوع واحد. لعل ما أُجمل فى موضع فُسِّر فى موضع آخر، وما أُبهم فى آية بُيِّنَ فى آية أخرى، وكان يستند أيضاً إلى ما صح من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين، ثم على أساليب اللُّغة وسنن الله فى الكون، ثم على ما كتبه قدماء المفسِّرين، ولكنه لم يلغ عقله فى هذا كله، بل كان يضع هذه المصادر كلها أمام نظره، ويعرض ما فيها على قلبه وعقله، فما أعجبه منها أقرَّه، وما لم يطمئن إليه نبذه وأعرض عنه.
لم نسمع عن الأستاذ المراغى - رحمه الله - أنه فسَّر القرآن بدون أن ينظر أولاً فيما كتبه المفسِّرون، ولم يبلغنا عنه أنه ادَّعى لنفسه أنه أتى بما لم يأت به الأوائل فى التفسير، بل على العكس من ذلك وجدناه يعترف بالفضل للأقدمين، ولا ينسى ما(2/436)
كان لهم من مجهود طيب وأثر محمود، وذلك حيث يقول عن تفسيره: "ما هو إلا ثمرات من غرس أسلافنا الأقدمين، وزهرات من رياضهم".
لم يتحامل الشيخ - رحمه الله - على المفسِّرين كما تحامل غيره، ولم يرم فى وجوههم بالعبارات القاذعة اللاذعة، بل كان عفا فى نقده، نزيهاً فى عبارته، وهذا أدب ما أجمله بالعلماء، وبخاصة مع أسلافنا ومتقدميهم.
* *
* موقفه من مُبهمات القرآن:
هذا ... وإن الأستاذ المراغى - رحمه الله - قد نهج فى تفسيره منهج شيخه، فوجدناه لا يخوض فى مُبهمات القرآن بالتفصيل، ولا يدخل فى جزئيات سكت عنها القرآن، وأعرض عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزج بها فى تفسيره، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه، حتى يجعل منها شروحاً لما أجمله القرآن وسكت عن تفصيله، فلهذا نراه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [133] من سورة آل عمران: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ... نجده يقول بعد أن ينتهى من تفسير الآية ما نصه: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنَّة مخلوقة الآن، لأن الفعل الماضى يُفْهم هذا. غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} ، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث فى هذا لا فائدة له، ولا طائل تحته".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [183] من سورة البقرة: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} ... . الآية، وجدناه يقول: " ... ونحن لا نعلم ما هو الذى فرضه الله على الأُمم السابقة من قبل، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شىء مُعيَّن من دليل يطمئن إليه القلب. والتشبيه لا يدل على المماثلة فى كل شىء، فنحن نؤمن بأن صوماً فُرِضَ على الأُمم السابقة، لا نعلم مقداره ولا كيفيته. ولا يزال الصوم معروفاً عند الأُمم الأخرى على أوضاع مختلفة".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [12] من سورة لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَنِ اشكر للَّهِ} ... . الآية، وجدناه يقول ما نصه: "اختلف الناس فى لقمان هذا هو مَن هو؟ ومن أى الأُمم هو؟ فقيل: إنه من بنى إسرائيل، وقيل: إنه كان عبداً حبشياً. وقيل: إنه أسود من سودان مصر. وقيل: إنه يونانى. ومن الناس مَن(2/437)
جعله نجاراً، ومنهم مَن جعله راعى غنم، ومنهم مَن قال إنه نبى، ومنهم مَن قال إنه حكيم. وكل هذه أقوال ليس لها سند يعول عليه، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأُمم، ولا يضع من قدره أنه كان زنجياً مملوكاً".
* *
* عنايته بإظهار أسرار التشريع:
كذلك نجد الأستاذ الأكبر يهتم فى تفسيره اهتماماً كبيراً بإظهار سر التشريع الإسلامى، وحكمة التكليف الإلهى، ليُظهر محاسن الإسلام، ويكشف عن هدايته للناس.
فمثلاً عندما تعرَّض لآيات الصوم فى سورة البقرة، نجده يفيض فى سر الصوم وحكمته فيقول: "الصيام أحد الأركان الخمسة التى بُنِى عليها الإسلام، وهو رياضة بدنية، وتهذيب خُلُقى، وتطهير روحى، وذلك أن الاسترسال فى الشهوات، والانغماس فى اللَّذات حجاب بين الروح وبين الكمالات القدسية والفيض الإلهى، يعوقها عن تلقى الإلهام وعن لذَّة الاتصال، ولذلك يلجأ أرباب المقامات والعارفون إلى الصوم، كلما أحسوا بُعْداً عن الذات الإلهية، وانزعج خاطرهم شوقاً إلى القرب منها.
"وفى الصبر على الحرمان من اللَّذات التى تنازع إليها النفس، وتقتضيها الطبيعة، تربية للإرادة، وتقوية على المضى فى العزم، وعدم نقض العقد والعهد إذا وسوس الشيطان وزيَّن للنفس الخروج عن العهود، لما فيها من المشقات، وفى تقوية الإرادة على هذا النحو إعداد لتلقى التكاليف الإلهية بالقبول والطمأنينة، وتثبيت لمَلَكة المراقبة والخوف من الله، وتقوية لخُلُق الحياة، وفى هذا كل الخير، وبه تتحقق تقوى الله، وتستعد النفس للسخاء، والبذل والتضحية، إذ دعا الداعى، وحان وقت الفصل بين شجعان الرجال وجبنائهم، وبين كرامهم وأنذالهم.
"وليس يخفى أن كل شىء فى هذه الحياة ممكن. الفقر بعد الغنى، والمرض بعد الصحة، والذلة بعد العز، والنزوح عن الأوطان بعد الطمأنينة فيها، وتغلب الأعداء بعد الغلب عليهم وقهرهم ... وما إلى ذلك ما هو بسبيل أن يعرض للإنسان. وعروض هذه الأشياء على نفس مدللة، وجسم مترف، ينام بقدر، ويأكل بقدر، ويمرح فى اللَّذات بين الأهل والعشيرة، قد يصدمه صدمة لا يقوى على احتمالها، أو يسوق إليه الجزع ويورثه اليأس.
لذلك كله اقتضت حكمة الحكيم العليم، أن يجعل من العبادات ما يروض(2/438)
الأجسام ويهذب الأخلاق، ويطهر الأرواح ويزكيها.. وكان من هذه العبادات الصوم.
"وكما عَنِى الإسلام بتزكية الأرواح وتهذيب الأخلاق، فقد عَنِى بتربية الأجسام، وحرَّم كل ما هو ضار بها، وأباح الطيبات وكل ما هو نافع ومفيد، ذلك أن الإسلام يريد رجلاً عاملاً فى الحياة، مهذب الأخلاق، طاهر الأعراق، قوياً لا يهاب الموت، يدفع عن الدين ويدافع عن الوطن، ويذود عن العشيرة، ويريد رجلاً رحيماً حسن المعاشرة، سلس القياد لأهله، وعشريته، وبنى وطنه، يريد رجلاً لا تلهيه الدنيا عن الاتصال بالخالق وأداء حقوقه ... " إلخ.
* *
* معالجته للمشاكل الاجتماعية:
كذلك نجد الشيخ المراغى - رحمه الله - يعرض لمشاكل المجتمع وأسباب الانحطاط فى دول الإسلام، فيعالج كل ذلك بما يفيضه الله على قلبه وعقله ولسانه، من هداية القرآن وإرشاده.
ولقد كان الأستاذ - رحمه الله - بصيراً بمواطن الداء، وأسباب الشفاء، فكان يهدف فى دروسه إلى علاجها واستئصالها، وكان كثيراً ما يوجه الخطاب إلى أرباب الحل والعقد فى الدولة - وهم غالبية المستمعين له - ويُلفت أنظارهم إلى ما فى أعناقهم من أمانات، وما عليهم من تبعات، ثم يأخذ بيدهم إلى حيث يكون صلاحهم، وصلاح مَن تحت إمرتهم ورعايتهم ... يدفعه فى هذا كله إخلاصه لربه، ولوطنه، ولأُمته.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [13] من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} ... . الآية، نجده يقول: " ... والحكمة فى هذه الشرائع الإلهية: أن الإنسان إذا تُرك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية، ضلَّ وكره الحياة، وكان أشقى من أنواع الحيوان، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه، فقد دلَّت التجارب على أن العقل غير المؤيَد بالشرع الإلهى يذهب مذاهب شتَّى، منها الصواب ومنها الضلال، وهو فيما عدا المحسَّات والماديات ضلاله أكثر من صوابه. وهذه آراء العلماء فى الفلسفة والأخلاق، يشبه بعضها هذيان المحموم، وبعضها لا يُدرَك له محصل على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين. وهذه مذاهب الاجتماع قديمها وحديثها، لم تسعد الأُمم بها، فلا بد من هداية تصدر عن المعصوم يحملها من عند الله العلى الحكيم. وقد دلَّت التجارب أيضاً على أن الأُمم التى عملت بالهدى كله أو بعضه سعدت بمقدار ذلك الهدى الذى عملت به.
"وأما أنه لولا الدين لما احتمل الإنسان هذه الحياة، فإنها على قصرها مملوءة(2/439)
بالمصائب والويلات، فمن فقر مدقع، إلى مرض مزمن، ومن فقد الأهل والعشيرة، إلى فقد العزة والجاه، ومن شرف رفيع، إلى ذلة ومهانة.. واحتمال هذا كله إذا لم يكن أمام الإنسان أمل ينتظره، وحياة دائمة فيها سعادة دائمة ليس فى طاقة الإنسان، فالاعتقاد بالآخرة يرفه العيش، ويجعل المؤمن فى سعادة نفسية، ويقويه على احتمال الصعاب، وعلى الصبر على معاشرة الناس، فلا بد من نظام يُعتقد فيه العصمة من الخطأ، ويُهدر معه حكم العقل إذا حصل تعارض بينهما، فإن دائرة العقل محدودة، وهى قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل.
"وإذا قيل: إن التدين مُقيِّد للحرية، ومانع من التمتع باللَّذات، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء؟ فالجواب: أن الإسلام أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، ولم يحظر من اللَّذات إلا ما يضر الإنسان، وليست السعادة فى حرية البهائم، بل فى حرية يسبح بها فيما فيه خيره وسعادته، ويحظر عليه فيها ما فيه ضرره وشقاؤه، وقوام آداب الأُمم وفضائلها، التى قامت عليها صروح المدنية الحقة مستند إلى الدين، وبعض العلماء يحاول تحويلها عن أساس الدين، وبناءها على أساس العقل والعلم، غير أنه لا شبهة فى أن الأُمم التى تروم هذا التحول تقع فى اضطراب وفوضى لا تعلم عاقبتهما، وليس من الميسور أن تُبنى للعامة قواعد الفضيلة على أساس علم الأخلاق، أو أية قاعدة علمية أخرى، ولكن من الميسور دئماً أن تُبنى قواعد الفضيلة على أساس العصمة للدين، فالذى يحاول العلماء: وهم وخيال".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [185] من سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} .. نجده بعد أن يشرح الآية، ويذكر ما فى القرآن من هداية يقول: "هذا هو القرآن الذى سعد به المسلمون بحياة روحية هى المثال الأعلى للنفس الإنسانية، وبحياة جثمانية طاهرة بريئة، وبحياة علمية لا يزال ما بقى من نورها يستمتع به الناس، وهو موضع للعجب، ومثار للإكبار والإجلال.
"سعدوا به حقبة، ثم انحرفوا عنه فعاقبهم الله بما هم فيه من ذل وهوان، حتى أصبحوا يخافون تخطف الناس لهم، وصاروا فى حاجة إلى غيرهم فى كل مرافق الحياة، ووصل بهم الجهل إلى حد أن ظنوا أن كل ما عند غيرهم خير يُجلب، وكل ما عندهم شر يُنبذ، وأنه لا حياة لهم إلا بالقدوة.. القدوة حتى فيما علم غيرهم شره وفساده، وحاولوا نبذه وطرحه، وقد أصبح المسلمون مُثلاً سيئة للإسلام، يحتج بهم عليه والدين منهم برىء.
"الدين يطلب رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن(2/440)
ينتظر، رجالاً باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنَّة، رجالاً خلقاء بأن يكونوا خلفاء عن الله فى الأرض، يعلمون سرها، ويُسخِّرونه للخير ودفع الأذى، يدفعون عوادى الزمان بمناكبهم كأنهم بنيان مرصوص، يعرفون للكرامة قدرها، وللعزة موضعها، ويميزون بين الأعداء والأصدقاء، ويعلمون أن متاع الحياة الدنيا قليل، وأن الآخرة خير وأبقى".
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [25] من سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ... . الآية.
وجدناه يقول بعد ما شرح الآية: "ذكر الله - سبحانه - الكتاب والميزان والحديد وقرنها بعضها ببعض، فالكتاب: إشارة إلى الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف. والميزان: إشارة إلى سلوك الناس على وفق هذه الأحكام. والحديد: إشارة إلى ما يحملهم على اتباع هذه الأحكام إذا تمردوا، والله سبحانه - وهو العليم الحكيم - لا يضع للخلق من القوانين إلا ما فيه مصلحتهم، وخيار الخلق تكفيهم تلاوة الكتاب وعلمه لاتباع ما فيه، وغيرهم لا بد له من وازع، وهو سلطان الحاكم المشار إليه بالحديد، ولذلك وُجِدت التعاذير فى الإسلام، ووُجِدت الحدود. أما ترك الناس أحراراً من غير وازع. فهو ضار بالمجتمع الإنسانى، وموجب للتراخى فى إقامة العدل واتباع القانون، جُرِّب هذا فى العصور المختلفة، وقامت الشواهد الناطقة فى العصر الحديث عليه. وعُلِم أن الأُمم التى لم تحط أخلاقها بوازع، انحدرت إلى الدرك الأسفل وأضلتها الشهوات وقد كانت دُرَّة "عُمَر" سلكاً قوياً للنظام الإسلامى فلما رُفِعَت ضعف ذلك الرباط".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة لقمان: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} ... . الآية، نجده يقول: ".. من الناس فريق مؤمن بالقرآن إجمالاً وبرسالة محمد، ويعظمها ويجلهما فإذا قلت له: لِمَ لا تقطع يد السارق؟ وتحد القاذف؟ ولِمَ لا تُحَكِّم القرآن فى الحياة ونحن مؤمنون به؟ هزَّ كتفيه وابتسم، أو زاد: إنها رجعية لا يحتملها تمدين العصر الحديث!!.. أليس هذا استهزاءً بالآيات. واشتراءً للباطل؟ وضلالاً عن سبيل الله؟
"هناك مُقلِّدين للمذاهب فى العقائد والأحكام، إذا عُرِضت عليهم الآيات الدالة على فساد مذاهبهم، وَلَّوا عنها وإن كانوا لا يسخرون بها، بل يسخرون بمن يعرضها، أليس هذا شراء للباطل وبيعاً للحق بغير علم؟(2/441)
"هناك مذاهب ابتُدعت فى الدين للضلال والإضلال بسبب السياسة، وفسر مبتدعوها الآيات فى التأويل ليردوها إلى مذاهبهم المبتدعة وجاء أتباعهم فقلدوهم.
"أما المبتدعون فأمرهم واضح.. اشتروا الضلالة بالهُدى.
"وأما الأتباع فكان عليهم أن ينظروا فى الآيات ويتدبروها عملاً بقوله سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ، فهم أيضاً اشتروا الضلالة بالهُدى ولهم بعض العذر".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة الحجرات: {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} ... . الآية، نجده يقول: ".. وللتثبت فى الأخبار فضيلة ليست كثيرة عند الناس، وأكثر الناس يقعون فى تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون، ولبعض مهرة الكاذبين حيل تخفى على أشد الناس تثبتاً من الأخبار.
"وكثيراً ما يقع عدم التثبت من العظماء الذين يملكون النفع والضرر يجيئهم ذلك من ناحية استبعاد أن يكذب بطانتهم عليهم وهو مدخل للخطر عظيم.
"والذين هم فى أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية هم الذين بيدهم مقاليد الأُمور؟ وبيدهم الضر والنفع. أما الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً فحاجتهم إليها أقل من حاجة هؤلاء.
"والآية - على العموم - أدب عظيم لا بد منه لتكميل النفس، وإعدادها لتعرف الحق والبُعْد عن مواطن الباطل".
* *
* توفيقه بين القرآن والعلم الحديث:
هذا.. وإن الأستاذ المراغى - رحمه الله - كان مع اعتقاده أن القرآن قد أتى بأُصول عامة، لكل ما يهم الإنسان معرفته والعلم به، يكره أن يسلك المفسِّر للقرآن مسلك مَن يجر الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كى يُفسِّرها تفسيراً علمياً يتفق مع نظريات العلم الحديث.
نعم.. كره الشيخ هذا المسلك فى التفسير، وجهر بخطأ أصحابه المولعين به، وكرر هذا فى مواضع كثيرة، فكان مما قاله فى بعض المواضع من دروسه فى التفسير: "وُجِد الخلاف بين المسلمين فى العقائد والأحكام الفقهية. ووُجِد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليُرجع إليهم، وتأويله لبعض النظريات العلمية التى لم يقر قرارها، وذلك خطر عظيم على الكتاب، فإن للفلاسفة أوهاماً لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى، والنظريات التى لم تستقر لا يصح أن يُرَد إليها كتاب الله".
ولكن الأستاذ المراغى مع هذا كله كان يرى أن يكون مفسِّر كتاب الله على شئ من(2/442)
العلم ببعض نظريات العلم الحديث، ليستطيع أن يأخذ منها دليلاً على قدرة الله، ويستلهم منها مكان العبرة والعظة.
كان الشيخ يرى هذا، ويعتقد أنه هو المسلك السليم لفهم القرآن الكريم، فجهر به فى أحد دروسه فى التفسير فقال: "ليس من غرض مفسِّر كتاب الله أن يشرح عالَم السموات، ومادته وأبعاده، وأقداره، وأوزانه، لكنه يجب أن يلم بطرف يسير منه، ليدل به على القدرة الإلهية ويشير إليه للعظة والاعتبار".
ثم وجدنا الأستاذ المراغى بعد هذا يشرح قوله تعالى فى الآية [10] من سورة لقمان: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} شرحاً يقوم على هذا المبدأ الذى ارتضاه فقال: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} السموات مجموع ما نراه فى الفضاء فوقنا من سيّارات، ونجوم وسدائم وهى مرتبة بعضها فوق بعض تطوف دائرة فى الفضاء، كل شىء منها فى مكانه المقدّر له بالناموس الإلهى ونظام الجاذبية، ولا يمكن أن يكون لها عَمَد، والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدَّر لها.. فإذا قيل: إن نظام الجاذبية وهو الناموس الإلهى قائم مقام العَمَد ويُطلق عليه اسم العَمَد جاز أن نقول: إن لها عَمَداً غير منظورة، وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شىء مادى تعتمد عليه، وجب أن نقول: إنه لا عَمَد لها، وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها، والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة فى الفضاء".
ثم قال: "قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءاً من السموات وانفصلت عنها، وقرر الكتاب الكريم أن الله {استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ، وهذا الذى قرره الكتاب الكريم هو الذى دل عليه العلَم وقد قال العلماء: إن حادثاً كونياً جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها، وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطواراً تكسرت وصارت قطعاً، كل قطعة منها صارت سيَّاراً من السيَّارات، وهذه السيَّارات طافت حول الشمس وبقيت فى قبضة جذبتها، والأرض واحدة من هذه السيَّارات فهى بنت الشمس، والشمس هى المركز لكل هذه السيَّارات.. فليست الأرض هى مركز العالَم كما ظنه الأقدمون، بل الشمس هى مركز هذه المجموعة، والشمس وتوابعها قوى صغيرة فى العالَم السماوى، وأين هى من الشِعْرَى اليمانية التى قال الله سبحانه فيها: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49] ، فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوى قوة الشمس (26) مرة، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء، فلو فُرض أن الشِّعْرَى اليمانية حلَّت محل الشمس يوماً من الأيام، لانتهت الحياة فجأة، بغليان الأنهار، والمحيطات والقارات الجليدية التى حول القطبين،(2/443)
وضوء الشِّعْرَى اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثمان دقائق، فانظر إلى هذا البُعْد السحيق.
"وليست الشِّعْرَى اليمانية أكبر نجم فى السماء، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشِّعْرَى أكثر من عشرة آلاف مرة.
"وعظمة السماء ليست فى الشمس وتوابعها، كلا ... إن عظمتها فى مدنها النجومية، فى أقدارها، وأوزانها، وأضوائها، وأبعادها، على اختلاف أنواعها.
"وهناك نجم يسمى "الميرة" أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليوناً من المرات، وهناك السدائم، وهى قريبة من الخلق أول الأمر، ثم يقف علم الإنسان، والله تعالى وحده يعلم خلقه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} . [الكهف: 51] .
{وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 1] : أى خلق الجبال فى الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب، ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار: إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس، وعكوفها على الدوران حولها على بُعْدٍ منها، وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت مواد ملتهبة كالشمس، وتكوَّنت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحرارة أحاطت بما فى جوفها من المواد المنصهرة، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعدت، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار، فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التى غلَّفت الأرض، وهناك جبال جدَّت عن اشتداد الضغط فى الرواسب التى فى قاع البحر، وجبال نارية جدَّت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها فى الطبقات. حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها.
"والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها، وتوزعها، وتغير اتجاهها، وتكسر حدتها، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات، والتى يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان، وتحفظها من أن تمور.
"فالجبال أولاً حبست النار فى جوف الأرض، وصيَّرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة، والجبال توزع ضغوط الطبقات، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح، فهى حافظة للأرض من الميدان الذى يجىء بأسباب من داخل الأرض، والذى يجىء بسبب العواصف والرياح" ... وهكذا مشى الشيخ إلى آخر الآية.
* *
* حرية الرأى فى تفسيره:
ثم إن الشيخ المراغى - رحمه الله - كان كغيره من رجال هذه المدرسة لا يتقيد بأقوال الأئمة، ولا يقف عند مذهب مخصوص، ولا يقول برأى معين إلا إذا اقتنع به، وإلا فلا عليه أن يتركه إلى ما هو صواب فى نظره.(2/444)
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [184] من سورة البقرة: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .. نجده يقول بعد أن يذكر خلاف علماء الفقه فى السفر المبيح للفطر: "وقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة أميال. ورُوى عن ابن أبى شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر فى الميل الواحد، وإذا نظرنا إلى أن نص القرآن مطلق، وأن كل ما رواه فى التخصيص أخبار أحاد، وأنهم لم يتفقوا فى التخصيص، جاز لنا أن نقول: إن السفر مطلقاً مبيح للفطر، وهذا رأى أبى داود وغيره من الأئمة".
ومثلاً عندما تعرّض لقوله تعالى فى الآية [27] من سورة لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} ... الآية، نجده بعد أن يبين أن عدد السبعة فى الآية مراد به الكثرة يقول: "وعلى هذا يمكن أن يقال فى أبواب النار، أما الأبواب الثمانية للجنة، فقد أريد بالزيادة فيها على النار أن يدل على أن مسالكها أكثر من مسالك النار، لراحة أهلها، وزيادة العناية بهم.
"وكذلك يقال فى السموات السبع، والأرضين السبع، والعرب تذكر السبعة للكثرة، وتذكر السبعين للكثرة كذلك، ومنه: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [التوبة: 80] ، ومن المعلوم أن الله لا يغفر لهم فى السبعين، ولا فى السبعة الآلاف، ونظيره: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32] يُراد فى سلسلة طويلة هائلة، ولا يُراد التقدير بهذا العدد".
والواقع أن هناك فرقاً بين ما ورد من نحو قوله: {استغفر لَهُمْ} ... إلخ، وقوله: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} ، وبين ما ورد فى عدة أبواب الجنَّة والنار، وعدة السموات والأرض، فإن الأول ذُكِر فى مقام التهويل، فلا يُراد التحديد وإنما يُراد الكثرة، بخلاف الثانى فإنه ليس كذلك.
ومثلاً نجد الأستاذ المراغى فى دروسه الأخيرة عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [5] من سورة الملك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} ... الآية، يشرح كون النجوم رجوماً للشياطين بما معناه: "أن ما فى السماء من النجوم دلائل قاطعة على تمام قدرة الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى زيَّن السماء الدنيا بهذه الكواكب، وجعلها على هيئات مخصوصة ونظام مُحكم، لتكون(2/445)
حُججاً دامغة، وأدلة قوية على مَن يجحدون قدرة الله وينكرون وجوده". سمعناه يقول ما هذا معناه، ثم يستدل على ما ذهب إليه بأنهم يقولون: "ألقمته حجراً" يعنى أقمت عليه الحُجَّة فلم يحر جواباً، ثم يستشعر الشيخ بعد ذلك أن فى القرآن آيات كثيرة تصادم هذا الفهم، كقوله تعالى فى الآيات [6-10] من سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} ، وكقوله فى الآيتين [8-9] من سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} .. يستشعر الشيخ مصادمة هذه الآيات لرأيه فيقول ما معناه: "وهناك آيات أخرى فى هذا المقام، تبدو مخالفة لهذا المعنى، ولكن يمكن حملها عليه، وليس فى الوقت متسع لذلك، وسنعرض لها فى موضع غير هذا".
ولست أدرى كيف كان يستطيع الشيخ - رحمه الله - أن يحمل كل الآيات الواردة فى هذا الموضوع على المعنى الذى قاله حملاً صحيحاً، وهى كما ترى صريحة فى أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع، ثم مُنِعوا من ذلك عند رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فمَن حاول منهم استراق السمع - كما كانوا يفعلون من قبل - رُمِى بشهاب من السماء فحال بينه وبين ما يريد.
وخاتمة المطاف فى هذه الدروس التى ألقاها الأستاذ الأكبر فى التفسير: أنه كان منها - كما قيل - أمران عظيمان لهما خطرهما فى الحياة الدينية: كانت عاملاً قوياً فى توجيه المسلمين ونشئهم الطيب الطاهر إلى الجانب الدينى، ولفت أنظارهم إلى ما فى كتاب الله من تشريع حكيم، وأدب جم كريم، وإشاد قَيِّم مفيد، فحببَتْ إليهم الدين، وزيَّنته فى قلوبهم، وهرعوا إليه يتعرفون حكمه وأحكامه، ويتلمسون بها حياة طيبة ونهضة قوية، أساسها الدين والخُلُق الكريم.
وكانت هذه الدروس أيضاً: منار هدى وإرشاد، يلقى أشعته الوضَّاءة على عقول المشتغلين بتفسير القرآن، فيضىء لهم الطريق الذى ينبغى أن يسلكوه فى فهم كتاب الله، واستخلاص آدابه وأحكامه، خالصة مما جاورها من إسرائيليات وتأويلات أبعدت أهل الدين عن الدين، وشغلتهم فى تفسير القرآن لما لا يَمُت إلى روحه ومعناه،(2/446)
وكذلك صوَّرت الدين لغير أهله الذين يتحسسون له عيباً صورة لا تتفق وما له من جلال وجمال.
هذا.. وإنَّا لنرجو للشيخ المراغى عند ربه ما كان يرجوه هو لنفسه من وراء مجهوده فى التفسير وهو:
أن يضعه الله سبحانه فى كفَّة الحسنات من ميزان أعماله، وأن يجعله ضياءً ونوراً يسعى بين يديه: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} . [الحديد: 12] .
* * *(2/447)
رجاء واعتذار
وبعد ... فهذا ما يسَّره الله لى وأعاننى عليه، ولَعلِّى أكون وقد طوَّفتُ بالقارئ الكريم فى نواح شتَّى من مناهج التفسير، وأخذتُ بيده إلى حيث أطلعته على ألوان مختلفة منه، من مبدأ نزول القرآن إلى عصرنا هذا، وكشفتُ له عن طرائق القوم فى فهمهم لنصوص كتاب الله، وأريته كيف حاول كل ذى نِحْلة أن يقيم نِحْلته على أساس من القرآن. وكيف تحايل على فهم آياته، وتصرَّف فى تأويل عباراته، كل مَن حاول أن يجعل القرآن شاهداً له، ودليلاً على ما يهدف إليه، من حق تبلج، أو باطل تلجلج ... لَعلِّى بعد هذا كله أكون قد أرضيتُ عُشَّاق التفسير خاصة، وأهل العلم عامة، وحققتُ رغبة طالماً ترددت فى صدورهم، وقضيتُ حاجة كثيراً ما تطلعت لها نفوسهم، واشرأبت إليها أعناقهم.
ولَعلِّى بعد ذلك أن لا أكون قد أسأمت القارئ الكريم، من طول دعتنى إليه ضرورة البحث، ودفعتنى إليه رغبة الأستيفاء والاستقصاء.
واعتقادى - رغم هذا الطول - أن فى هذا البحث تركيزاً كبيراً، واختصاراً كثيراً، إذ أن كل موضوع من موضوعات هذا الكتاب يصلح لأن يكون كتاباً وحده، وكتاباً موسعاً مُسهباً.
وأرجو أن يهىء الله لى رُشداً من أمرى، ومتسعاً من وقتى، لأجعل من هذا الكتاب كتباً متعددة، فيها إسهاب أوسع من هذا الإسهاب، واستيفاء أشمل من هذا الاستيفاء.
وحسبى بهذا العمل الذى يُعتبر باكورة عملى فى التأليف أن أكون قدَّمت إلى المكتبة الإسلامية بحثاً فيه جدة وطرافة، وفيه متعة علمية، ولذَّة روحية، تستهوى القارئ، وتستحوذ على مشاعره وحسه.
حسبى هذا، وحسبى أن أكون قد أرضيتُ رغبتى العلمية، التى لم آل فى إرضائها جهداً، ولم أدخر فى إشباعها وسعاً، فإن رَضِىَ الناس بعد ذلك، فذلك من فضل الله، وإن كانت الأخرى، فذلك هو جَهْدُ المُقِل، وطاقة الناشىء، الذى لا يزال يرقب من وراء الغيب أملاً فسيحاً، وكمالاً صريحاً.
هذا.. ولا يفوتنى أن أعتذر إلى القارئ الكريم عما قد يكون فى هذا الكتاب من أخطاء هينة لا تخفى على فطانته، ولا تدق عن إدراكه، فإنْ مرَّ بها فرجائى إليه أن يتلمس لها عذراً، وأن يصححها مشكوراً، وتلك شيمة الكرام أهل الخُلُق الطاهر والأدب الحميد، وأن لا يكون ممن قال فيهم الشاعر:(2/448)
فإن رأوا زلَّة طاروا بها فرحاً ... عنى وما وجدوا من صالح دفنوا
والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل عملى هذا خالصاً لوجهه، وأن ينفع به أُناساً أخلصوا قلوبهم لله، وأن ينفعنى به فى دنياى وآخرتى، وأن يحقق لى به ما تصبو إليه نفسى، وتسمو إليه همتى ... والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(2/449)