تقديم الكتاب
الحمد لله الذى أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً..
والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، الذى أرسله ربه شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وبعد ...
فقد مَرَّ على الإنسانية حين من الدهر وهى تتخبط فى مَهْمَهٍ من الضلال متسع الأرجاء، وتسير فى غمرة من الأوهام، ومضطرب فسيح من فوضى الأخلاق وتنازع الأهواء، ثم أراد الله لهذه الإنسانية المعذَّبة أن ترقى بروح من أمره وتسعد بوحى السماء، فأرسل إليها على حين فترة من الرسل رسولاً صنعه الله على عينه، واختاره أميناً على وحيه، فطلع عليه بنوره وهَدْيه، كما يطلع البدر على المسافر البادى بعد أن افتقده فى الليلة الظلماء.
ذلك هو محمد بن عبد الله - عليه صلاة الله وسلامه - نبى الرحمة، ومبدد الظلمة، وكاشف الغمة.
أرسله الله إلى هذه الإنسانية الشقية المعذَّبة، ليزيل شقوتها، ويضع عنها إصرها والأغلال التى فى أعناقها، وأنزل عليه كتاباً - يهدى به الله مَن اتبع رضوانه سبل السلام، ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم - وجعل له منه معجزة باهرة، شاهدة على صدق دعوته. مؤيِّدة لحقيَّة رسالته، فكان القرآن هو الهداية والحُجَّة، هداية الخلق وحُجَّة الرسول.
لم يكد هذا القرآن الكريم يقرع آذان القوم حتى وصل إلى قلوبهم، وتملَّك عليهم حسهم ومشاعرهم، ولم يُعرِض عنه إلا نفر قليل، إذ كانت على القلوب منهم أقفالها، ثم لم يلبث أن دخل الناس فى دين الله أفواجاً، ورفع الإسلام رايته خفَّاقة فوق ربوع الكفر، وأقام المسلمون صرح الحق مشيداً على أنقاض الباطل.
سعد المسلمون بهذا الكتاب الكريم، الذى جعل الله فيه الهدى والنور، ومنه طب الإنسانية وشفاء ما فى الصدور، وأيقنوا بصدق الله حيث يصف القرآن فيقول: {إِنَّ هاذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .. [الإسراء: 9] وبصدق الرسول حيث يصف القرآن(1/5)
فيقول هو أيضاً: "فيهَ نبأ ما كان قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، مَن تركه من جبار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يَخْلُق على كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه، وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنَّا سمعنا قرآنا عجباً يهدى إلى الرشد، من قال به صدق، ومَن عمل به أُجِر، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه هُدِى إلى صراط مستقيم".
صدَّق المسلمون هذا، وأيقنوا أنه لا شرف إلا والقرآن سبيل إليه، ولا خير إلا وفى آياته دليل عليه، فراحوا يُثَوِّرون القرآن ليقفوا على ما فيه من مواعظ وعبر، وأخذوا يتدبرون فى آياته ليأخذوا من مضمامينها ما فيه سعادة الدنيا وخير والآخرة.
وكان القوم عرباً خلصاً، يفهمون القرآن، ويدركون معانيه ومراميه بمقتضى سليقتهم العربية، فهماً لا تعكره عُجمة، ولا يشوبه تكدير، ولا يشوهه شئ من قبح الابتداع، وتَحَكَّم العقيدة الزائفة الفاسدة.
وكان للقوم وقفات أمام بعض النصوص القرآنية التى دقَّت مراميها، وخفيت معانيها، ولكن لم تطل بهم هذه الوقفات، إذ كانوا يرجعون فى مثل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكشف لهم ما دقَّ عن أفهامهم، ويُجَلِّى لهم ما خفى عن إدراكهم، وهو الذى عليه البيان كما أن عليه البلاغ، والله تعالى يقول له وعنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .. [النحل: 44] .
ظل المسلمون على هذا يفهمون القرآن على حقيقته وصفائه، ويعملون به على بيِّنة من هَدْيه وضيائه، فكانوا من أجل ذلك أعزَّاء لا يقبلون الذل، أقوياء لا يعرفون الضعف، كرماء لا يرضون الضيم، حتى دانت لهم الشعوب وخضعت لهم الدول.
ثم خَلَف من بعدهم خَلْفٌ تفرَّقوا فى الدين شيعاً، وأحدثوا فيه بَدعاً وبِدعاً، وكانت فتن كقطع الليل المظلم، لا خلاص منها إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسُّنَّة رسوله، ولا نجاة من شرِّها إلا بالتمسك بالقرآن، وهو الحبل الذى طرفه بيد الله وطرفه بأيديهم.
وكان من بين المسلمين مَن أهمل هداية القرآن، وركب رأسه فى طريق الغواية، فَلم ينهج هذا المنهج الواضح القويم الذى سلكه سَلَفه الصالح فى فهم القرآن الكريم(1/6)
والأخذ به، فأخذ يتأوَّل القرآن على غير تأويله، وسلك فى شرح نصوصه طريقاً ملتوية، فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول، وكان الذى رمى به فى هذه الطريق الملتوية التى باعدت بينه وبين هداية القرآن، هو تسلط العقيدة على عقله وقلبه، وسمعه وبصره، فحاول أن يأخذ من القرآن شاهداً على صدق بدعته، وتحايل على نصوصه الصريحة لتكون دعامة يقيم عليها أصول عقيدته ونزعته، فحرَّف القرآن عن مواضعه، وفسّر ألفاظه على تحمل ما لا تدل عليه، فكان من وراء ذلك فتنة فى الأرض وفساد كبير!!
وكان بجوار هذا الفريق من المسلمين، فريق آخر منهم، برع فى علوم حدثت فى المِلَّة، ولم يكن للعرب بها عهد من قبل، فحاولوا أن يصلوا بينها وبين القرآن، وأن يربطوا بين ما عندهم من قواعد ونظريات وبين ما فى القرآن من أصول وأحكام وعقائد، وتم لهم ذلك على اختلاف بينهم فى الدوافع والحوافز على هذا العمل، منهم مَن قصد حذق هذه العلوم وترويجها على حساب القرآن، ومنهم مَن أراد خدمة الدين وتفهم القرآن على ضوء هذه العلوم، وأخيراً خرج هذا الفريق على الناس بتفاسير كثيرة، فيها خير وشر، وبينها تفاوت فى المنهج، واختلاف فى طريقة الشرح ووسيلة البيان.
وكان من وراء هؤلاء وهؤلاء فريق التحف الإسلام وتبطَّن الكفر، يحمل بين فكيه لساناً مسلماً، وبين جنبيه قلباً كافراً مظلماً، يحرص كل الحرص على أن يطفئ نور الإسلام ويهدم عز المسلمين، فلم يجد أعوان له على هذا الغرض السئ، من أن يتناول القرآن بالتحريف والتبديل، والتأويل الفاسد الذى لا يقوم على أساس من الدين، ولا يستند إلى أصل من اللغة، ولا يرتكز على دليل من العقل ... وأخيراً خرج هؤلاء أيضاً على الناس بتأويلات فيها سخف ظاهر وكفر صريح، خفى على عقول بعض الأغمار الجهلة، ولكن لم يجد إلى قلوب عقلاء المسلمين سبيلاً، ولم يلق من نفوسهم رواجاً ولا قبولاً، بل وكان منهم من أفرغ همه لدحض هذه التأويلات، وأعمل لسانه وقلمه لإبطال هذه الشبهات، فوقى الله بهم المسلمين من شَرٍّ، وحفظ بهم الإسلام من ضُرٍّ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
خلف لنا هؤلاء جميعاً - مسلمون وأشباه مسلمين، مبتدعون وغير مبتدعين، كتباً كثيرة فى تفسير القرآن الكريم، كل كتاب منا يحمل طابع صاحبه، ويتأثر بمذهب مؤلفه، ويتلون باللون العلمى الذى يروج فى العصر الذى أُلِّفَ فيه، ويغلب على غيره من النواحى العلمية لكاتبه، وعنى المسلمون بدراسة بعض هذه الكتب،(1/7)
وقّلّ اهتمامهم ببعض آخر منها، فأحببتُ أن أُقدِّم للمكتبة الإسلامية كتاباً يُعتبر باكورة إنتاجى فى التأليف عنوانه:
"التفسير والمفسِّرون"
وهو كتاب يبحث عن نشأة التفسير وتطوره، وعن مناهج المفسِّرين وطرائقهم فى شرح كتاب الله تعالى، وعن ألوان التفسير عند أشهر طوائف المسلمين ومَن ينتسبون إلى الإسلام، وعن ألوان التفسير فى هذا العصر الحديث ... وراعيت أن أُضَمِّن هذا الكتاب بعض البحوث التى تدور حول التفسير، من تطرق الوضع إليه، ودخول الإسرائيليات عليه، وما يجب أن يكون عليه المفسِّر عندما يحاول فهم القرآن أو كتابة التفسير، وما إلى ذلك من بحوث يطول ذكرها، ويجدها القارئ مفصَّلة مُسْهَبة فى هذا الكتاب.
ورجوتُ من وراء هذا العمل أن أُنبه المسلمين إلى هذا التراث التفسيرى، الذى اكتظت به المكتبة الإسلامية على سعتها وطول عهدها، وإلى دراسة هذه التفاسير على اختلاف مذاهبها وألوانها، وألا يقصروا حياتهم على دراسة كتب طائفة واحدة أو طائفتين، دون مَن عداهما مِن طوائف كان لها فى التفسير أثر يُذكر فيُشكر أو لا يُشكر.
ورجوت أيضاً أن يكون لعشاق التفسير مِن وراء هذا المجهود موسوعة تكشف لهم عن مناهج أشهر المفسِّرين وطرائقهم التى يسيرون عليها فى شرحهم لكتاب الله تعالى، ليكون مَن يريد أن يتصفح تفسيراً منها على بصيرة من الكتاب الذى يريد أن يقرأه، وعلى بيِّنةٍ من لونه ومنهجه، حتى لا يغتر بباطل أو ينخدع بسراب.
وفى اعتقادى أن فى هذا الموضوع جدة وطرافة، جدة: إذ لم أُسبق إليه إليه إلا بمحاولات بسيطة غير شاملة، وطرافة: إذ يعطى القارئ صوراً متنوعة عن لون من التفكير الإسلاميى فى عصوره المختلفة، ويكشف له عن أفكار وأفهام تفسيرية، فيها غرابة وطرافة، وحق وباطل، وإنصاف واعتساف، ومحاورة شيِّقة، وجدل عنيف.
وقد رتَّبتُ الكتاب على مقدمة، وثلاثة أبواب وخاتمة.
أما المقدمة، فقد جعلتها على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فى معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما.
المبحث الثانى: فى تفسير القرآن بغير لغته.
المبحث الثالث: فى اختلاف العلماء فى التفسير، هل هو من قبيل التصورات، أو من قبيل التصديقات؟(1/8)
وأما الباب الأول: فقد جعلته للكلام عن المرحلة الأولى من مراحل التفسير، أو بعبارة أخرى، عن التفسير فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد رتَّبتُ هذا الباب على أربعة فصول:
الفصل الأول: فى فهم النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة للقرآن الكريم، وأهم مصادر التفسير فى هذه المرحلة.
الفصل الثانى: فى الكلام عن المفسِّرين من الصحابة.
الفصل الثالث: فى قيمة التفسير المأثور عن الصحابة.
الفصل الرابع: فى مميزات التفسير فى هذه المرحلة.
وأما الباب الثانى: فقد جعلته للكلام عن المرحلة الثانية من مراحل التفسير، أو بعبارة أخرى عن التفسير فى عهد التابعين، وقد رتَّبتُ هذا الباب على أربعة فصول:
الفصل الأول: فى ابتداء هذه المرحلة، ومصادر التفسير فى عصر التابعين، ومدارس التفسير التى قامت فيه.
الفصل الثانى: فى قيمة التفسير المأثور عن التابعين.
الفصل الثالث: فى مميزات التفسير فى هذه المرحلة.
الفصل الرابع: فى الخلاف بين السَلَف فى التفسير.
وأما الباب الثالث: فقد جعلته للكلام عن المرحلة الثالثة من مراحل التفسير، أو بعبارة أخرى، عن التفسير فى عصور التدوين، وهى تبدأ من العصر العباسى، وتمتد إلى عصرنا الحاضر، وقد رتَّبتُ هذا الباب على ثمانية فصول:
الفصل الأول: فى التفسير بالمأثور وما يتعلق به من مباحث، كتطرق الوضع إليه، ودخول الإسرائيليات عليه.
الفصل الثانى: فى التفسير بالرأى وما يتعلق به من مباحث، كالعلوم التى يحتاج إليها المفسِّر، والمنهج الذى يجب عليه أن ينهجه فى تفسيره حتى يكون بمأمن من الخطأ.
الفصل الثالث: فى أهم كتب التفسير بالرأى الجائز.
الفصل الرابع: فى التفسير بالرأى المذموم، أو بعبارة أخرى، تفسير الفِرَق المبتدعة وهم: المعتزلة - الإمامية الإثنا عشرية - الباطنية القدامى، وهم الإمامية الإسماعيلية - الباطنية المحدَثون، وهم: البابية والبهائية - الزيدية - الخوارج.
الفصل الخامس: فى تفسير الصوفية.
الفصل السادس: فى تفسير الفلاسفة.
الفصل السابع: فى تفسير الفقهاء.
الفصل الثامن: فى التفسير العلمى.(1/9)
وأما الخاتمة.. فقد جعلتها عن التفسير وألوانه فى العصر الحديث، وقصرت الكلام على أهم ألوان التفسير فى هذا العصر وهى:
أولاً - اللون العلمى.
ثانياً - اللون المذهبى.
ثالثاً - اللون الإلحادى.
رابعاً: اللون الأدبى الاجتماعى.
والله أسأل أن يجعل عملى هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يسدد خطانا، ويحقق رجاءنا، إنه سميع مجيب، وهو حسبى ونعم الوكيل..
حدائق حلوان فى 18 المحرَّم سنة 1396 هـ (أول يوليه سنة 1976)
محمد حسين الذهبى.(1/10)
* * *
المقدمة
معنى التفسير والتأويل
معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما(1/11)
التفسير فى اللغة: التفسير هو الإيضاح والتبيين، ومنه قوله تعالى فى سورة الفرقان آية [33] : {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .. أى بياناً وتفصيلاً، وهو مأخوذ من الفسر وهو الإبانة والكشف، قال في القاموس: "الفسر: الإبانة وكشف المغطى كالتفسير، والفعل: كضرب ونصر".
وقال فى لسان العرب: "الفسر: البيان فسَّر الشيء يُفسِّره - بالكسر ويَفسُّره - بالضم فسراً. وفسَّره أبانه. والتفسير مثله ... ثم قال: الفسر كشف المغطى، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ... "
وقال أبو حيان فى البحر المحيط: " ... ويُطلق التفسير أيضاً على التعرية للانطلاق، قال ثعلب: تقول: فسرتُ الفرس: عرَّيته لينطلق فى حصره، وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا الذى يريده منه من الجرى".
ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يُستعمل لغة فى الكشف الحسِّى، وفى الكشف عن المعانى المعقولة، واستعماله فى الثانى أكثر من استعماله فى الأول.
التفسير فى الاصطلاح: يرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التى يُتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التى أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويُكتفى فى إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله، أو أنه المبيِّن لألفاظ القرآن ومفهوماتها.
ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو المَلَكات الناشئة من مزاولة القواعد، فيتكلَّف له التعريف، فيذكر فى ذلك علوماً أخرى يُحتاج إليها فى فهم القرآن، كاللغة، والصرف، والنحو، والقراءات ... وغير ذلك.
وإذا نحن تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلَّفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرَّفوه بتعاريف كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها، فهى وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، إلا أنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.(1/12)
فقد عرَّفه أبو حيان فى البحر المحيط بأنه: "علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التى تُحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك".
ثم خرَّج التعريف فقال: "فقولنا: "علم"، هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: "يُبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن"، هذا هو علم القراءات، وقولنا: "ومدلولاتها" أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذى يُحتاج إليه فى هذا العلم، وقولنا: "وأحكامها الإفرادية والتركيبة"، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: "ومعانيها التى تُحمل عليها حالة التركيب"، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضى بظاهره شيئاً ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يُحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا: "وتتمات لذلك"، هو معرفة النَسْخ وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما انبهم فى القرآن، ونحو ذلك".
وعرَّفه الزركشى بأنه: "علم يُفهم به كتاب الله المُنَزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه".
وعرَّفه بعضهم بأنه: "علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية".
والناظر لأول وهلة فى هذين التعريفين الأخيرين، يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان فى علم التفسير، والحق أنهما داخلان فيه، وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات، كقراءة: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [البقرة: 222]- بضم الميم وإسكان اللام، فإن معناها مغاير لقراءة مَن قرأ: "ومَلِكاً كبيراً" - بفتح الميم وكسر اللام. وكقراءة {حتى يَطْهُرْنَ} - بالتسكين، فإن معناها مغاير لقراءة مَن قرأ: "يطهَّرن" - بالتشديد، كما أن المعنى يختلف أيضاً باختلاف الرسم القرآنى فى المصحف، فمثلاً قوله تعالى: {أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} [الملك: 22]- بوصل "أمَّن"، يغاير فى المعنى: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 109]- بفصلها، فإن المفصولة تفيد معنى "بل" دون الموصولة.
وعرَّفه بعضهم بأنه: "علم نزول الآيات، وشئونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومُحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومُطلقها ومُقيدها، ومُجملها ومُفسِّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعِبَرها وأمثالها".(1/13)
وهذه التعاريف الأربعة تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البَشرية، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى، وبيان المراد.
التأويل فى اللغة: التأويل: مأخوذ من الأول وهو الرجوع، قال فى القاموس: "آل إليه أولاً ومآلا: رجع، وعنه: ارتد ... ثم قال: وأوَّل الكلام تأويلاً وتأوَّله: دبَّره وقدَّره وفسَّره، والتأويل: عبارة الرؤيا".
وقال فى لسان العرب: "الأول: الرجوع، آل الشئ يؤول أولاً ومآلاً رجع، وآول الشئ: رجعه، وأُلت عن الشئ: ارتددت، وفى الحديث: "مَن صام الدهر فلا صام ولا آل" أى: ولا رجع إلى خير ... ثم قال: وأوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّره. وأوَّله وتأوَّله: فسَّره ... الخ".
وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذاً من الأول بمعنى الرجوع، إنما هو باعتبار أحد معانيه اللغوية، فكأن المؤوِّل أرجع الكلام إلى ما يحتمله من المعانى.
وقيل: التأويل مأخوذ من الإيالة وهى السياسة، فكأن المؤوِّل يسوس الكلام ويضمه فى موضعه - قال الزمخشرى فى أساس البلاغة: "آل الرعية يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة، وائتالها، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم، أى سائس محتكم".
والناظر فى القرآن الكريم يجد أن لفظ التأويل قد ورد فى كثير من آياته على معان مختلفة، فمن ذلك قوله تعالى فى سورة آل عمران آية [7] : {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} .. فهو فى هذه الآية بمعن التفسير والتعيين. وقوله فى سورة النساء آية [59] : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .. فهو فى هذه الآية بمعنى العاقبة والمصير. وقوله فى سورة الأعراف آية [53] : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} .. وقوله فى سورة يونس آية [39] : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} .. فهو فى الآيتين بمعنى وقوع المخبر به. وقوله فى سورة يوسف آية [6] : {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} .. وقوله فيها أيضاً آية [37] : {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} .. وقوله فى آية [44] منها: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} .. وقوله فى آية [45] منها: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} .. وقوله فى آية [100] منها: {هاذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} .. فالمراد به فى كل هذه الآيات نفس مدلول الرؤيا. وقوله فى سورة الكهف آية: [78] : {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} ..(1/14)
وقوله أيضاً فى آية [82] : {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} .. فمراده بالتأويل هنا تأويل الأعمال التى أتى بها الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وبيان السبب الحامل عليها، وليس المراد منه تأويل الأقوال.
* *
التأويل فى الاصطلاح:
1- التأويل عند السَلَف: التأويل عند السلَفَ له معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أوافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين، وهذا هو ما عناه مجاهد من قوله: "إن العلماء يعلمون تأويله" يعنى القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبرى بقوله فى تفسيره: "القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا" وبقوله: "اختلف أهل التأويل فى هذه الآية" ... ونحو ذلك، فإن مراده التفسير.
ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً، كان تأويله نفس الشئ المخْبَر به، وبين هذا المعنى والذى قبله فرق ظاهر، فالذى قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير، والشرح، والإيضاح، ويكون وجود التأويل فى القلب، واللسان، وله الوجود الذهنى واللفظى والرسمى، وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة فى الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا فى نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التى نزل بها، وعلى هذا فيمكن إرجاع كل ما جاء فى القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثانى.
2 - التأويل عند المتأخرين من المتفقهة، والمتكلمة، والمحدِّثة والمتصوِّفة:
التأويل عند هؤلاء جميعاً: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذى يتكلمون عليه فى أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث - أو هذا النص - مُؤوَّل أو محمول على كذا. قال الآخر: هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل. وعلى هذا فالمتأوِّل مطالَب بأمرين:
الأمر الأول: أن يبيِّن احتمال اللفظ للمعنى الذى حمله عليه وادَّعى أنه المراد.
الأمر الثانى: أن يبيِّن الدليل الذى أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح، وإلا كان تأويلاً فاسداً، أو تلاعباً بالنصوص.
قال فى جمع الجوامع وشرحه: "التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حُمِل عليه لدليل فصحيح، أو لما يُظَن دليلاً فى الواقع ففاسد، أو لا شيء فلعب لا تأويل".(1/15)
وهذا أيضاً هو التأويل الذى يتنازعون فيه فى مسائل الصفات، فمنهم مَن ذم التأويل ومنعه، ومنهم مَن مدحه وأوجبه.
وستطلع عند الكلام على الفرق بين التفسير والتأويل على معان أخرى اشتُهِرت على ألسنة المتأخرين.
* *
الفرق بين التفسير والتأويل
* الفرق بين التفسير والتأويل والنسبة بينهما:
اختلف العلماء فى بيان الفرق بين التفسير والتأويل، وفى تحديد النسبة بينهما اختلافاً نتجت عنه أقوال كثيرة، وكأن التفرقة بين التفسير والتأويل أمر معضل استعصى حله على كثير من الناس إلا مَن سعى بين يديه شعاع مِن نور الهداية والتوفيق، ولهذا بالغ ابن حبيب النيسابورى فقال: "نبغ فى زماننا مفسِّرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه". وليس بعيداً أن يكون منشأ هذا الخلاف، هو ما ذهب إليه الأستاذ أمين الخولى حيث يقول: "وأحسب أن منشأ هذا كله، هو استعمال القرآن لكلمة التأويل، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب".
وهذه هى أقوال العلماء أبسطها بين يدى القارئ ليقف على مبلغ هذا الاختلاف، وليخلص هو برأى فى المسألة يوافق ذوقه العلمى ويرضيه.
1 - قال أبو عبيدة وطائفة معه: "التفسير والتأويل بمعنى واحد" فهما مترادفان. وهذا هو الشائع عند المتقدمين من علماء التفسير.
2 - قال الراغب الأصفهانى: "التفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يُستعمل التفسير فى الألفاظ، والتأويل فى المعانى، كتأويل الرؤيا. والتأويل يُستعمل أكثره فى الكتب الإلهية. والتفسير يستعمل فيها وفى غيرها. والتفسير أكثره يستعمل فى مفردات الألفاظ. والتأويل أكثره يستعمل فى الجمل، فالتفسير إما أن يُستعمل فى غريب الألفاظ كـ "البَحيرة والسائبة والوصيلة" أو فى تبين المراد وشرحه كقوله تعالى فى الآية [43] من سورة البقرة: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} .. وإما فى كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها نحو قوله تعالى فى الآية [37] من سورة التوبة: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} .. وقوله تعالى فى الآية [189] من سورة البقرة: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} .(1/16)
وأما التأويل: فإنه يُستعمل مرة عاماً، ومرة خاصاً، نحو "الكفر" المستعمل تارة فى الجحود المطلق، وتارة فى جحود البارى خاصة. و "الإيمان" المستعمل فى التصديق المطلق تارة، وفى تصديق دين الحق تارة، وإما فى لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو لفظ "وجد" المستعمل فى الجد والوجد والوجود".
3 - قال الماتوردى: "التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأى، وهو المنهى عنه، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله"، وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
4 - قال أبو طالب الثعلبى: "التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً، كتفسير "الصراط" بالطريق، و "الصَيِّب" بالمطر. والتأويل تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر. فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل، مثاله قوله تعالى فى الآية [14] من سورة الفجر: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} .. تفسيره أنه من الرصد، يقال: رصدته: رقبته، والمرصاد مفعال منه، وتأويله التحذير من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه. وقواطع الأدلة تقتضى بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ فى اللغة" وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
5 - قال البغوى ووافقه الكواشى: "التأويل هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسُّنَّة من طريق الاستنباط. والتفسير هو الكلام فى أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها" بتصرف. وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
6 - قال بعضهم: "التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية"، وعلى هذا فالنسبة بينهما التباين.
7 - التفسير هو بيان المعانى التى تُستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعانى التى تُستفاد بطريق الإشارة. فالنسبة بينهما التباين، وهذا هو المشهور عند المتأخرين، وقد نبَّه إلي هذا الرأى الأخير العلامة الألوسى فى مقدمة تفسيره حيث قال بعد أن استعرض بعض أقوال العلماء فى هذا الموضوع: "وعندى أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العُرْف فكل الأقوال فيه - ما سمعتها وما لم تسمعها -(1/17)
مخالف للعُرْف اليوم إذ قد تعورف من غير نكير: أن التأويل إشارة قدسية، ومعارف سبحانية، تنكشف من سجف العبارات للسالكين، وتنهل من سُحُبِ الغيب على قلوب العارفين. والتفسير غير ذلك.
وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك فى مرية من رد هذه الأقوال، أو بوجه ما، فلا أراد ترضى إلا أن فى كل كشف إرجاعاً، وفى كل إرجاع كشفاً، فافهم".
هذه هى أهم الأقوال فى الفرق بين التفسير والتأويل. وهناك أقوال أخرى أعرضنا عنها مخافة التطويل.
والذى تميل إليه النفس من هذه الأقوال: هو أن التفسير ما كان راجعاً إلى الرواية، والتأويل ما كان راجعاً إلى الدراية، وذلك لأن التفسير معناه الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحى وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.
وأما التأويل.. فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل.
والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويُتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها فى لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعانى من كل ذلك. قال الزركشى: "وكان السبب فى اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل: التمييز بين المنقول والمستنبط، ليحيل على الاعتماد فى المنقول، وعلى النظر فى المستنبط".
* * *(1/18)
تفسير القرآن بغير لغته
تفسير القرآن بغير لغته، أو الترجمة التفسيرية للقرآن، بحث نرى من الواجب علينا أن نعرض له، لما له من تعلق وثيق بموضوع هذا الكتاب، وقبل الخوض فيه الحسن بنا أن نمهد له بعجالة موجوة تكشف عن معنى الترجمة وأقسامها، ثم نتكلم عما يدخل منها تحت التفسير وما لا يدخل، فنقول: الترجمة تُطلق فى اللغة على معنيين:
الأول: نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجَم، وذلك كوضع رديف مكان رديف من لغة واحدة.
الثانى: تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى.
قال فى تاج العروس: "والترجمان المفسِّر للسان، وقد ترجمه عنه إذا فسَّر كلامه بلسان آخر. قال الجوهرى: وقيل: نقله من لغة إلى لغة أخرى".
وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين: ترجمة حرفية، وترجمة معنوية أو تفسيرية.
أما الترجمة الحرفية: فهى نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، مع مراعاة الموافقة فى النظم والترتيب، والمحافظة على جميع معانى الأصل المترجَم.
وأما الترجمة التفسيرية: فهى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.
وليس من غرضنا فى هذا البحث أن نعرض لما يجوز من نوعى الترجمة بالنسبة للقرآن وما لا يجوز، ولا لمقالات العلماء المتقدمين والمتأخرين، ولكن غرضنا الذى نريد أن نكشف عنه ونوضحه هو: أى نوعى الترجمة داخل تحت التفسير؟ أهو الترجمة الحرفية؟ أم الترجمة التفسيرية؟ أم هما معاً؟ فنقول:
* الترجمة الحرفية للقرآن:
الترجمة الحرفية للقرآن: إما أن تكون ترجمة بالمثل، وإما أن تكون ترجمة بغير المثل، أما الترجمة الحرفية بالمثل: فمعناها أن يُترجَم نظم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفرداته، وأسلوبها محل أسلوبه، حتى تتحمل الترجمة ما تحمَّله نظم الأصل من المعانى المقيدة بكيفياتها(1/19)
البلاغية وأحكامها التشريعية، وهذا أمر غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز، وذلك لأن القرآن نزل لغرضين أساسيين:
أولهما: كونه آية دالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يُبلِّغه عن ربه، وذلك بكونه معجزاً للبَشر، لا يقدرون على الإتيان بمثله ولو اجتمع الإنس والجن على ذلك.
وثانيهما: هداية الناس لما فيه صلاحهم فى دنياهم وأخراهم.
أما الغرض الأول، وهو كونه آية على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فلا يمكن تأديته بالترجمة اتفاقاً، فإن القرآن - وإن كان الإعجاز فى جملته لعدة معان كالإخبار بالغيب، واستيفاء تشريع لا يعتريه خلل، وغير ذلك مما عُدَّ من وجوه إعجازه - إنما يدور الإعجاز السارى فى كل آية منه على ما فيه من خواص بلاغية جاءت لمقتضيات معيَّنة، وهذه لا يمكن نقلها إلى اللغات الأخرى اتفاقاً، فإن اللغات الراقية وإن كان لها بلاغة، ولكن لكل لغة خواصها لا يشاركها فيها غيرها من اللغات، وإذن فلو تُرجِم القرآن ترجمة حرفية - وهذا محال - لضاعت خواص القرآن البلاغية، ولنزل من مرتبته المعجزة إلى مرتبة تدخل تحت طوق البشر، ولفات هذا المقصد العظيم الذى نزل القرآن من أجله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الغرض الثانى، وهو كونه هداية للناس إلى ما فيه سعادتهم فى الدارين فذلك باستنباط الأحكام والإرشادات منه، وهذا يرجع بعضه إلى المعانى الأصلية التى يشترك فى تفاهمها وأدائها كل الناس، وتقوى عليها جميع اللغات، وهذا النوع من المعانى يمكن ترجمته واستفادة الأحكام منه، وبعض آخر من الأحكام والإرشادات يُستفاد من المعانى الثانوية، ونجد هذا كثيراً فى استنباط الأئمة المجتهدين، وهذه المعانى الثانوية لازمة للقرآن الكريم وبدونها لا يكون قرآناً. والترجمة الحرفية إن أمكن فيها المحافظة على المعانى الأوَّلية، فغير ممكن أن يحافظ فيها على المعانى الثانوية، ضرورة أنها لازمة للقرآن دون غيره من سائر اللغات.
ومما تقدم يُعلم: أن الترجمة الحرفية للقرآن، لا يمكن أن تقوم مقام الأصل فى تحصيل كل ما يُقصد منه، لما يترتب عليها من ضياع الغرض الأول برمته، وفوات شطر من الغرض الثانى.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل: فمعناها أن يُترجم نظم القرآن حذواً بحذو بقدر طاقة المترجِم وما تسعه لغته، وهذا أمر ممكن، وهو وإن جاز فى كلام البَشر، لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز، لأن فيه من فاعله إهداراً لنظم القرآن، وإخلالاً بمعناه، وانتهاكاً لحرمته، فضلاً عن كونه فعلاً لا تدعو إليه ضرورة.
* *(1/20)
*الترجمة الحرفية ليست تفسيراً للقرآن:
اتضح لنا مما سبق معنى الترجمة الحرفية بقسميها، وأقمنا الدليل بما يناسب المقام على عدم إمكان الترجمة الحرفية بالمثل، وعدم جواز الترجمة الحرفية بغير المثل، وإن كانت ممكنة، ولكن بقى بعد ذلك هذا السؤال: هل الترجمة الحرفية بقسميها - على فرض إمكانها فى الأول وجوازها فى الثانى - تمسى تفسيراً للقرآن بغير لغته؟ أو لا تدخل تحت مادة التفسير؟
وللجواب عن هذا نقول:
إن الترجمة الحرفية بالمثل، تقدَّم لنا أن معناها ترجمة نظم الأصل بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو، بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفردات الأصل وأسلوبها محل أسلوبه، حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعانى البلاغية، والأحكام التشريعية. وتقدَّم لنا أيضاً أن هذه الترجمة بالنسبة للقرأن غير ممكنة، وعلى فرض إمكانها فهى ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته، لأنها عبارة عن هيكل القرآن بذاته، إلا أن الصورة اختلفت باختلاف اللغتين: المترجَم منها والمترجَم إليها. وعلى هذا فأبناء اللغة المترجَم إليها يحتاجون إلى تفسيره وبيان ما فيه من أسرار وأحكام، كما يحتاج العربى الذى نزل بلغته إلى تفسيره والكشف عن أسراره وأحكامه، ضرورة أن هذه الترجمة لا شرح فيها ولا بيان، وإنما فيها إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه، ونقل معنى الأصل كما هو من لغة إلى لغة أخرى.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل، فقد تقدَّم لنا أن معناها ترجمة نظم القرآن حذواً بحذو، بقدر طاقة المترجِم وما تسعه لغته، وتقدَّم لنا أن هذا غير جائز بالنسبة للقرآن وعلى فرض جوازها فهى ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته، لأنها عبارة عن هيكل للقرآن منقوص غير تام، وهذه الترجمة لم يترتب عليها سوى إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه فى تأدية بعض معناه، وليس فى ذلك شيء من الكشف والبيان، لا شرح مدلول، ولا بيان مجمل، ولا تقييد مطلق، ولا استنباط أحكام، ولا توجيه معان، ولا غير ذلك من الأمور التى اشتمل عليها التفسير المتعارَف.
* *
*الترجمة التفسيرية للقرآن:
الترجمة التفسيرية أو المعنوية، تقدَّم لنا أنها عبارة عن شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه، وذلك بأن نفهم المعنى الذى يراد من الأصل، ثم نأتى به بتركيب من اللغة المترجَم إليها يؤديه على وفق الغرض الذى سيق له.(1/21)
وعُلِم مما تقدَّم مقدار الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية، ولإيضاح هذا الفرق نقول:
لو أراد إنسان أن يترجم قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} ترجمة حرفية لأتى بكلام يدل على النهى عن ربط اليد فى العنق، وعن مدها غاية المد، ومثل هذا التعبير فى اللغة المترجَم إليها ربما كان لا يؤدى المعنى الذى قصده القرآن، بل قد يستنكر صاحب تلك اللغة هذا الوضع الذى ينهى عنه القرآن، ويقول فى نفسه: إنه لا يوجد عاقل يفعل بنفسه هذا الفعل الذى نهى عنه القرآن، لأنه مثير للضحك على فاعله والسخرية منه، ولا يدور بخلد صاحب هذه اللغة، المعنى الذى أراده القرآن وقصده من وراء هذا التشبيه البليغ. أما إذا أراد أن يترجم هذه الجملة ترجمة تفسيرية، فإنه يأتى بالنهى عن التبذير والتقتير، مصورِّين بصورة شنيعة، ينفر منها الإنسان، حسبما يناسب أسلوب تلك اللغة المترجَم إليها، ويناسب إلف مَن يتكلم بها. ومن هذا يتبين أن الغرض الذى أراده الله من هذه الآية، يكون مفهوماً بكل سهولة ووضوح فى الترجمة التفسيرية، دون الترجمة الحرفية.
إذا عُلِم هذا، أصبح من السهل علينا وعلى كل إنسان أن يقول بجواز ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية بدون أن يتردد أدنى تردد، فإن ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية ليست سوى تفسير للقرآن الكريم بلغة غير لغته التى نزل بها.
وحيث اتفقت كلمة المسلمين، وانعقد إجماعهم على جواز تفسير القرآن لمن كان من أهل التفسير بما يدخل تحت طاقته البَشرية، بدون إحاطة بجميع مراد الله، فإنَّا لا نشك فى أن الترجمة التفسيرية للقرآن داخلة تحت هذا الإجماع أيضاً، لأن عبارة الترجمة التفسيرية محاذية لعبارة التفسير، لا لعبارة الأصل القرآنى، فإذا كان التفسير مشتملاً على بيان معنى الأصل وشرحه، بحل ألفاظه فيما يحتاج تفهمه إلى الحل، وبيان مراده كذلك، وتفصيل معناه فيما يحتاج للتفصيل، وتوجيه مسائله فيما يحتاج للتوجيه، وتقرير دلائله فيما يحتاج للتقرير، ونحو ذلك من كل ما له تعلق بتفهم القرآن وتدبره، كانت الترجمة التفسيرية أيضاً مشتملة على هذا كله، لأنها ترجمة للتفسير لا للقرآن.
وقصارى القول: إن فى كل من التفسير وترجمته بيان ناحية أو أكثر من نواحى القرآن التى لا يحيط بها إلا مَن أنزله بلسان عربى مبين، وليس فى واحد منهما إبدال لفظ مكان لفظ القرآن، ولا إحلال نظم محل نظم القرآن بل نظم القرآن باق معهما، دال على معانيه من جميع نواحيه.
* **(1/22)
الفرق بين التفسير والترجمة التفسيرية:
لو تأملنا أدنى تأمل، لوجدنا أنه يمكن أن يُفرَّق بين التفسير والترجمة التفسيرية من جهتين:
الجهة الأولى: اختلاف اللغتين. فلغة التفسير تكون بلغة الأصل، كما هو المتعارف المشهور. بخلاف الترجمة التفسيرية فإنها تكون بلغة أخرى.
الجهة الثانية: يمكن لقارئ التفسير ومتفهمه أن يلاحظ معه نظم الأصل ودلالته فإن وجده خطأ نبَّه عليه وأصلحه. ولو فرض أنه لم ينتبه لما فى التفسير من خطأ تنبَّه له قارئ آخر، أما قارئ الترجمة فإنه لا يتسنى له ذلك، لجهله بنظم القرآن ودلالته، بل كل ما يفهمه ويعتقده، أن هذه الترجمة التى يقرؤها ويتفهم معناها تفسير صحيح للقرآن، وأما رجوعه إلى الأصل ومقارنته بالترجمة فليس مما يدخل تحت طوقه ما دام لم يعرف لغة القرآن.
* *
* شروط الترجمة التفسيرية:
تفسير القرآن الكريم من العلوم التى فُرِض على الأمة تعلمها، والترجمة التفسيرية تفسير للقرآن بغير لغته، فكانت أيضاً من الأمور التى فُرِضت على الأمة، بل هى آكد لما يترتب عليها من المصالح المهمة، كتبليغ معانى القرآن وإيصال هدايته إلى المسلمين، وغير المسلمين ممن لا يتكلمون بالعربية ولا يفهمون لغة العرب، وأيضاً حماية العقيدة الإسلامية من كيد الملحدين، والدفاع عن القرآن بالكشف عن أضاليل المبشِّرين الذين عمدوا إلى ترجمة القرآن ترجمة حشوها بعقائد زائفة وتعاليم فاسدة، ليُظهروا القرآن لمن لم يعرف لغته فى صورة تنفر منه وتصد عنه، وكثيراً ما علت الأصوات بالشكوى من هذه التراجم الفاسدة، لهذا نرى أن نذكر الشروط التى يجب أن تتوفر وتُراعى، لتكون الترجمة التفسيرية ترجمة صحيحة مقبولة، وإليك هذه الشروط:
أولاً - أن تكون الترجمة على شريطة التفسير، لا يُعوَّلُ عليها إلا إذا كانت مستمَدة من الأحاديث النبوية، وعلوم اللغة العربية، والأصول المقررة فى الشريعة الإسلامية، فلا بد للمترجم من اعتماده فى استحضار معنى الأصل على تفسير عربى مستمَد من ذلك، أما إذا استقل برأيه فى استحضار معنى القرآن، أو اعتمد على تفسير ليس مستمَداً من تلك الأصول، فلا تجوز ترجمته ولا يُعتد بها، كما لا يُعتد بالتفسير إذا لم يكن مستمدَاً من تلك المناهل، معتمداً على هذه الأصول.
ثانياً - أن يكون المترجم بعيداً عن الميل إلى عقيدة زائفة تخالف ما جاء به القرآن، وهذا شرط فى المفسِّر أيضاً؛ فإنه لو مال واحد منهما إلى عقيدة فاسدة لتسلَّطت على(1/23)
تفكيره، فإذا بالمفسَّر وقد فُسِّر طبقاً لهواه، وإذا بالمتُرجَم وقد تُرْجِم وفقاً لميوله، وكلاهما يبعد بذلك عن القرآن وهداه.
ثالثاً - أن يكون المترجم عالماً باللغتين - المترجمَ منها والمترجَم إليها، خبيراً بأسرارهما، يعلم جهة الوضع والأسلوب والدلالة لكل منهما.
رابعاً - أن يكتب القرآن أولاً، ثم يؤتى بعده بتفسيره، ثم يتبع هذا بترجمته التفسيرية حتى لا يتوهم متوهم أن هذه الترجمة ترجمة حرفية للقرآن.
هذه هى الشروط التى يجب مراعاتها لمن يريد أن يُفسِّر القرآن بغير لغته، تفسيراً يسلم من كل نقد يُوجَّه، وعيب يُلتمسَ.
* * *(1/24)
هل تفسير القرآن من قبيل التصورات.. أو من قبيل التصديقات
اختلف العلماء فى علم التفسير: هل هو من قبيل التصورات أو من قبيل التصديقات؟ فذهب بعضهم إلى أنه من قبيل التصورات. لأن المقصود منه تصور معانى ألفاظ القرآن، وذلك كله تعاريف لفظية، وقد صرَّح بهذا الحكيم على المطوَّل حيث قال: "وما قالوا من أن لكل علم مسائل فإنما هو فى العلوم الحكمية، وأما العلوم الشرعية والأدبية فلا يتأتى فى جميعها ذلك، فإن علم اللغة ليس إلا ذكر الألفاظ ومفهوماتها، وكذلك التفسير والحديث".
وذهب السيد: إلى أن التفسير من قبيل التصديقات، لأنه يتضمن الحكم على الألفاظ بأنها مفيدة لهذه المعانى، وعلى هذا يكون التفسير عبارة عن مسائل جزئية، مثل قولنا: {يَاأَيُّهَا الناس} [خطاب لأهل مكة، و {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا} خطاب لأهل المدينة، والاسم، معناه: الدال على المسمى، والله، معناه: الذات الأقدس، والرحمن، معناه: الحسن ... وغير ذلك، ولا شك أن هذه قضايا جزئية.
* * *(1/25)
الباب الأول: المرحلة الأولى للتفسير.. أو التفسير فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فهم النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة للقرآن(1/27)
*تمهيد:
نزل القرآن الكريم على نبى أُمِّى، وقوم أُمِّيين، ليس لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت لهم فنون من القول يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، وكانت هذه الفنون لا تكاد تتجاوز ضروباً من الوصف، وأنواعاً من الحِكَم، وطائفة من الأخبار والأنساب، وقليلاً مما يجرى هذا المجرى، وكان كلامهم مشتملاً على الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية. والإيجاز والإطناب.
وجرباً على سُّنَّة الله تعالى فى إرسال الرسل، نزل القرآن بلغة العرب(1/28)
وعلى أساليبهم فى كلامه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .. [إبراهيم: 4] فألفاظ القرآن عربية، إلا ألفَاظاً قليلةً، اختلفت فيها أنظار العلماء، فمن قائل: إنها عُرِّبت وأُخِذت من لغات أخرى، ولكن العرب هضمتها وأجرت عليها قوانينها فصارت عربية بالاستعمال. ومن قائل: إنها عربية بحتة، غاية الأمر أنها مما تواردت عليه اللغات، وعلى كِلا القولين فهذه الألفاظ لا تُخرِج القرآن عن كونه عربياً.
استعمل القرآن فى أسلوبه الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية، والإيجاز والأطناب، وعلى نمط العرب فى كلامهم. غير أن القرآن يعلو على غيره من الكلام العربى، بمعانيه الرائعة التى افتنَّ بها فى غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، تحقيقاً لإعجازه، ولكونه من لدن حكيم عليم.
* * *
*فهم النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة للقرآن:
وكان طبيعياً أن يفهم النبى صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، إذ تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19] ، كما كان طبيعياً أن يفهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم القرآن فى جملته، أى بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فيما يشكل عليهم فهمه، وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لا بد فى معرفته من أمور أُخرى يُرجعَ إليها.
ولا أظن الحق مع ابن خلدون حيث يقول فى مقدمته: "إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه فى مفرداته وتراكيبه"، نعم لا أظن الحق معه فى ذلك، لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضى أن العرب كلهم كانوا يفهمونه فى مفرداته وتراكيبه، وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلَفة على اختلاف لغاتها، وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم، إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها، بل لا بد لمن يفتش عن المعانى ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة، تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه.
* * *
*تفاوت الصحابة فى فهم القرآن:
ولو أننا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا أنهم لم يكونوا فى درجة واحدة بالنسبة لفهم معانى القرآن، بل تفاوتت مراتبهم، وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم، وهذا يرجع إلى تفاوتهم فى القوة العقلية، وتفاوتهم فى معرفة ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، وأكثر من هذا، أنهم كانوا لا يتساوون فى معرفة المعانى التى وُضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفى معناه على بعض الصحابة، ولا ضَيْر فى هذا، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم، ولم يدَّع أحد أن كل فرد من أُمَّة يعرف جميع ألفاظ لغتها.
ومما يشهد لهذا الذى ذهبنا إليه، ما أخرجه أبو عبيدة فى الفضائل عن أنس: "أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} .. [عبس: 31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟. ثم رجعَ إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر". وما روى من أن عمر كان على المنبر فقرأ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} .. [النحل: 47] ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوُّف عندنا التنقص، ثم أنشده:
تَخَوَّفَ الرَّحُلُ منها تامِكاً قَرِداً ... كما تَخَوَّفَ عُودَ النبعةِ السَّفِنُ
وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: "كنت لا أدرى ما {فَاطِرِ السماوات} حتى أتانى أعرابيان يتخاصمان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، والآخر يقول: أنا ابتدأتها".
فإذا كان عمر بن الخطاب يخفى عليه معنى "الأَبّ" ومعنى "التَخَوُّف" ويسأل عنهما غيره، وابن عباس - وهو ترجمان القرآن - لا يظهر له معنى "فاطر" إلا بعد(1/29)
سماعها من غيره، فكيف شأن غيرهما من الصحابة؟ لا شك أن كثيراً منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى للآية، فيكفيهم - مثلاً - أن يعلموا من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أنه تعداد للنِعمَ التى أنعم الله بها عليهم، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معنى الآية تفصيلاً ما دام المراد واضحاً جلياً.
وماذا يقول ابن خلدون فيما رواه البخارى، من أن عدى بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} .. [البقرة: 187] وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أبيض وعقالاً أسود، فلما كان بعض الليل، نظر إليهما فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بشأنه، فعرَّض بقلة فهمه، وأفهمه المراد.
الحق أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا يتفاوتون فى القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه، وذلك راجع - كما تقدَّم - إلى اختلافهم فى أدوات الفهم، فقد كانوا يتفاوتون فى العلم بلغتهم، فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملِّماً بغريبها، ومنهم دون ذلك، ومنهم مَن كان يلازم النبى صلى الله عليه وسلم فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره، أضف إلى هذا وذاك أن الصحابة لم يكونوا فى درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية سواء، بل كانوا مختلفين فى ذلك اختلافاً عظيماً.
قال مسروق: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ - يعنى الغدير - فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم".
هذا.. وقد قال ابن قتيبة - وهو ممن تقدَّم على ابن خلدون بقرون -: "إن العرب لا تستوى فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل فى ذلك على بعض". ويظهر أن ابن خلدون قد شعر بذلك فصرَّح به فيما أورده بعد عبارته السابقة بقليل حيث قال: "وكان النبى صلى الله عليه وسلم يُبيِّن المجمل، ويُميِّز الناسخ من المنسوخ، ويُعرِّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه".. وهذا تصريح منه بأن العرب كان لا يكفيهم فى معرفة معانى القرآن معرفتهم بلغته، بل كانوا فى كثير من الأحيان بحاجة إلى توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/30)
* * *
مصادر التفسير فى هذا العصر
كان الصحابة فى هذا العصر يعتمدون فى تفسيرهم للقرآن الكريم على أربعة مصادر:
الأول: القرآن الكريم.
الثانى: النبى صلى الله عليه وسلم.
الثالث: الاجتهاد وقوة الاستنباط.
الرابع: أهل الكتاب اليهود والنصارى.
ونوضح كل مصدر من من هذه المصادر الأربعة فنقول:
*المصدر الأول - القرآن الكريم:
الناظر فى القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وما أُوجِزَ فى مكان قد يُبْسطَ فى مكان آخر، وما أُجْمِلَ فى موضع قد يُبيَّن فى موضع آخر، وما جاء مطلقاً فى ناحية قد يلحقه التقييد فى ناحية أخرى، وما كان عاماً فى آية قد يدخله التخصيص فى آية أُخرى.
ولهذا كان لا بد لمن يعترض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر فى القرآن أولاً، فيجمع ما تكرر منه فى موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بما جاء مسهبَاً على معرفة ما جاء موجَزاً، وبما جاء مُبيَّناً على فهم ما جاء مُجمْلاً، وليحمل المُطْلَق على المقيَّد، والعام على الخاص، وبهذا يكون قد فسرَّ القرآن بالقرآن، وفهم مراد الله بما جاء عن الله، وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى، لأن صاحب الكلام أدرى بمعانى كلامه، وأعرف به من غيره.
وعلى هذا، فمن تفسير القرآن بالقرآن: أن يُشرح ما جاء موجَزاً فى القرآن بما جاء فى موضع آخر مُسْهَباً، وذلك كقصة آدم وإبليس، جاءت مختصرة فى بعض المواضع، وجاءت مُسْهَبة مطوَّلة فى موضع آخر، وكقصة موسى وفرعون، جاءت مُوجَزة فى بعض المواضع، وجاءت مُسْهبَة مُفصَّلة فى موضع آخر.
ومن تفسير القرآن بالقرآن: أن يُحمل المجمَل على المبيَّن لِيُفسَّر به، وأمثلة ذلك كثيرة فى القرآن، فمن ذلك تفسير قوله تعالى فى سورة غافر الآية [28] : {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} بأنه العذاب الأدنى المُعجَّل فى الدنيا، لقوله تعالى فى آخر هذه السورة آية [77] : {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .. ومنه تفسير قوله تعالى فى سورة النساء آية [27] : {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} بأهل الكتاب لقوله تعالى فى السورة نفسها آية [44] : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} .. ومنه قوله تعالى فى سورة البقرة آية [37] : {فتلقىءَادَمُ(1/31)
مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} فسَّرتها الآية [23] من سورة الأعراف: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} .. ومنه قوله تعالى فى سورة الأنعام آية [103] : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} فسَّرتها آية: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الآية [23] من سورة القيامة. ومنه قوله تعالى فى سورة المائدة آية [1] : {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} .. فسرتها آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} الآية [3] من السورة نفسها.
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل المُطْلق على المُقيَّد، والعام على الخاص، فمن الأول: ما نقله الغزالى عن أكثر الشافعية من حمل المُطْلَق على المُقيَّد فى صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثَّلَ له بأية الوضوء والتيمم، فإن الأيدى مُقيَّدة فى الوضوء بالغاية فى قوله تعالى فى سورة المائدة آية [6] : {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} .. ومطلقة فى التيمم فى قوله تعالى فى الآية نفسها: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} .. فقيدت فى التيمم بالمرافق أيضاً، ومن أمثلته أيضاً عند بعض العلماء: آية الظَهَار مع آية القتل، ففى كفَّارة الظَهَار يقول الله تعالى فى سورة المجادلة آية [3] : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .. وفى كفَّارة القتل، يقول فى سورة النساء آية [92] : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} .. فيحُمل المطلق فى الآية الأولى على المُقيَّد فى الآية الثانية، بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع عند هذا البعض من العلماء.
ومن الثانى: نفى الخُلَّة والشفاعة على جهة العموم فى قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون} .. وقد استثنى الله المتقين من نفى الخلة فى قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} .. واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} .. ومثل قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} .. فإن ما فيها من عموم خصُصِّ بمثل قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ..
ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف، كخلق آدم من تراب فى بعض الآيات، ومن طين فى غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التى مَرَّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه.
ومن تفسير القرآن بالقرآن: حمل بعض القراءات على غيرها، فبعض القراءات تختلف مع غيرها فى اللفظ وتتفق فى المعنى، فقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: "أو(1/32)
يكون لك بيت من ذهب" تفسِّر لفظ الزخرف فى القراءة المشهورة: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} .. وبعض القراءات تختلف مع غيرها فى اللفظ والمعنى، وإحدى القراءتين تُعيِّن المراد من القراءة الأخرى، فمثلاً قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} .. وفسَّرتها القراءة الأخرى: "فامضوا إلى ذكر الله"، لأنَ السعَى عبارة عن المشى السريع، وهو وإن كان ظاهر اللفظ إلا أن المراد منه مجرد الذهاب.
وبعض القراءات تختلف بالزيادة والنقصان، وتكون الزيادة فى إحدى القراءتين مفسِّرة للمجمل فى القراءة التى لا زيادة فيها، فمن ذلك: القراءة المنسوبة لابن عباس: "ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم فى مواسم الحج".. فسَّرت القراءة الأخرى التى لا زيادة فيها، وأزالت الشك من قلوب بعض الناس الذين كانوا يتحرَّجون من الصفق فى أسواق الحج.. والقراءة المنسوبة لسعد بن أبى وقاص: "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السُدُس".. فسَّرت القراءة الأخرى التى لا تعرض فيها لنوع الأخوة.
وهنا تختلف أنظار العلماء فى مثل هذه القراءات فقال بعض المتأخرين: إنها من أوجه القرآن، وقال غيرهم: إنها ليست قرآناً، بل هى من قبيل التفسير، وهذا هو الصواب: لأن الصحابة كانوا يفسِّرون القرآن ويرون جواز إثبات التفسير بجانب القرآن فظنها بعض الناس - لتطاول الزمن عليها - من أوجه القراءات التى صحَّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواها عنه أصحابه.
ومما يؤيد أن القراءات مرجع مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن، ما روى عن مجاهد أنه قال: "لو كنتُ قرأتُ قراءة ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس ما احتجتُ أن أسأله عن كثير مما سألته عنه".
هذا هو تفسير القرآن بالقرآن، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة فى تعرف بعض معانى القرآن، وليس هذا عملاً آلياً لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل، إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذى يدخل تحت مقدور كل إنسان، وإنما هو أمر يعرفه أهل العلم والنظر خاصة.
ومن أجل هذا نستطيع أن نوافق الأستاذ جولدزيهر على ما قاله فى كتابه "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" من أن: "المرحلة الأولى لتفسير القرآن والنواة التى بدأ(1/33)
بها، تتركز فى القرآن نفسه وفى نصوصه نفسها. وبعبارة أوضح: فى قراءته، ففى هذه الأشكال المختلفة، نستطيع أن نرى أول محاولة للتفسير".. نعم نستطيع أن نوافقه على أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز فى القرآن نفسه على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على خاصه، ومطلقه على مقيده.. إلخ، كما تتركز فى بعض قراءاته المتواترة. وما كان من قراءات غير متواترة فلا يُعوَّلُ عليها باعتبارها قرآناً، وإن عُوِّل على بعض منه باعتبارها تفسيراً للنص القرآنى، نعم.. نستطيع أن نوافقه على هذا إن أراده، ولكن لا نستطيع أن نوافقه على ما يرمى إليه من إلحاد فى آيات الله، وما يهدف إليه من اتهام المسلمين بالتساهل فى قبول القراءات، وذلك حيث يقول فى صحفة (1، 2) من الكتاب نفسه: "وقد تسامح المسلمون فى هذه القراءات واعترفوا بها جميعاً على قدم المساواة بالرغم مما قد يفرض من أن الله تعالى قد أوحى بكلامه كلمة كلمة وحرفاً حرفاً، وأن مثله من الكلام المحفوظ فى اللوح والذى تنزَّل به المَلَك على الرسول المختار يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" اهـ.
كما لا نستطيع أن نوافقه على ما نسبه إلى الصحابة، من أنهم هم الذين أحدثوا هذه القراءات جميعاً، ونفى كونها من كلام الله، وعلَّل ما ذهب إليه بعلل واهية لا تقوم إلا على أوهام تخيلها فظنها حقائق، وذلك حيث يقول فى صفحة (6) بعد أن ساق هذه الآية: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .. [الفتح: 8-9] قال: "قرأ بعضهم بدلاً من "وتعزروه" بالراء: "وتعززوه" بالزاى، من العزة والتشريف، وإنى أرى فى الانتقال من تلك القراءة إلى هذه القراءة - وإن كنت لا أجزم بذلك - أن شيئاً من التفكير فى تصور أن الله قد ينتظر مساعدة من الإنسان قد دعا إلى ذلك، حقاً إنه قد جاءت فى القرآن آيات بهذا المعنى - سورة الحج [40] ومحمد [7] والحشر [8] وغيرها - بَيْد أن اللفظ المستعمل فى هذه الآيات - وهو "نصر" - يقوم على أساس أخلاقى تهذيبى، وليس كالتعبير بلفظ "عزَّر" وهى الكلمة المتفقة مع اللفظ العبرى "عزار"، والتعبير بـ "عزَّر" تعبير حاد يقوم على أساس من المساعدة المادية" اهـ.
فهذا الكاتب دفعه إلى رأيه الذى رآه ولم يقطع به كما هى عادته، جهله بأساليب العرب وأفانينها فى البلاغة، فالعرب لا يفهمون من قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ} - بالراء - معنى النصرة المادية، بل أول ما تصل هذه الكلمة إلى أسماعهم يعلمون أن الله يريد منهم نصر دينه ونصر رسوله، وكثير من مثل هذه العبارات وارد فى القرآن، وما(1/34)
ذكره من التفرقة بين لفظ: "نصر" ولفظ: "عزَّر" من أن الأول يقوم على أساس أخلاقى تهذيبى، والثانى يقوم على أساس من المساعدة المادية، لا يقوم على أساس من الفقه اللغوى.
ويقول الكاتب فى صفحة (19، 20) من الكتاب نفسه: "وأحب أن أهتم هنا ببعض ما ذكرته من هذه القراءات، لما فيه من طابع خاص ذى مبادئ جوهرية، فبعض هذه الاختلافات ترجع أسبابها إلى الخوف من أن تُنسب إلى الله ورسوله عبارات قد يلاحظ فيها بعض أصحاب وجوه النظر الخاصة بما يمس الذات الإلهية العالية إلى الرسول، أو مما يرى أنه غير لائق بالمقام. وهنا تغيرت القراءات من هذه الناحية بسبب هذه الأفكار التنزيهية".. ثم ضرب لذلك أمثلة فقال: "ففى سورة آل عمران آية [18] : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} .. فقد فهم أن هناك ما يصطدم بشهادة الله نفسه على قدم المساواة مع الملائكة وأُولى العلم فقرأ بعضهم: "شهداء الله" وبهذا يكون الكلام ملتئماً مع الآية المتقدمة: "الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار، شهداء الله: أنه لا إله إلا هو والملائكة وأُولوا العلم" اهـ.
والمتأمل أدنى تأمل أن هذا الوهم الذى ادَّعى حصوله من القراءة الأولى لا يمكن أن يدور بخلد عاقل، ولم نر أحداً من العلماء خطر له هذا الإيهام، فشهادة الله مع الملائكة لا غبار عليها، ولا تفيد مساواته لمن ذُكِروا معه.
ويقول فى صفحة (21، 22) : وفى سورة العنكبوت آيتى [2-3] : {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} .. فقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ} قد يوحى إلى النفس أن الله قد علم ذلك أولاً عند الفتنة كأنه لم يكن يعلم بذلك فى الأزل، ويظهر أن مثل هذا الظن قد أدَّى إلى قراءة على والزهرى: "فَليُعْلِمَنَّ" من الإعلام، بمعنى: فليُعَرِّفَنَّ اللهُ الناس أخلاق هؤلاء وهؤلاء، أو بمعنى ليَسِمَنَّهم بعلامة يُعرفون بها، من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها. وزرقة العيون عند العرب علامة على القبح والغدر، وأحياناً على الحسد" اهـ.
وللرد على هذا نقول: إن الله تعالى لا يعلم الشيء موجوداً إلا بعد وجوده، فتعلق علمه بالحادث باعتبار أنه حدث حادث، وهذا لا ينافى كونه عالماً من الأزل بالشئ قبل وقوعه، فالكاتب ظن أن العلم المترتب على الفتنة هو العلم الأزلى، ونسى علم الانكشاف والظهور، فبنى على هذا أن مَن قرأ: "فليُعلِمن" من الإعلام، قرأ بها فراراً مما تفيده القراءة الأولى، وهذا قول باطل، ولا يخفى على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(1/35)
فتنة الله لمن يشاء من عباده، يراد منها أن يُظهر للناس فى الخارج ما اشتمل عليه علمه من الأزل، فكيف يُعقل أنهم عدلوا عن قراءة "فليَعلَمن" من العلم إلى قراءة "فليُعلِمن" من الإعلام لمجرد هذا الوهم الباطل؟.. اللَّهم إن الكاتب لا يريد إلا أن يوقع فى أذهان الناس أن القرآن كان عُرْضة للتبديل والتحريف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ساق الكاتب أمثلة كثيرة فى كتابه، كلها من هذا القبيل ولهذا الغرض بدون أن يُفرِّق بين قراءة متواترة وقراءة شاذة، ولو أنه علم ما اشترطه المسلمون لصحة القراءة وقبولها من تواترها عن صاحب الرسالة. أو صحة السند وموافقة العربية وموافقة الرسم العثمانى، لما صار إلى هذا الرأى الباطل، ولما نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم مثل هذا التحريف والتبديل فى كتاب ضمن الله حفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
* * *
*المصدر الثانى - النبى صلى الله عليه وسلم:
المصدر الثانى الذى كان يرجع إليه الصحابة فى تفسيرهم لكتاب الله تعالى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم إذا أشكلت عليه آية من كتاب الله، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تفسيرها، فيبين له ما خفى عليه، لأن وظيفته البيان، كما أخبر الله عنه بذلك فى كتابه حيث قال: " {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .. وكما نَبَّهَ على ذلك رَسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود بسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا وإنى أُوتيتُ الكتابَ ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرَّموه" ... الحديث.
والذى يرجع إلى كتب السُّنَّة يجد أنها قد أفردت للتفسير باباً من الأبواب التى اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيراً من التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك:
ما أخرجه أحمد والترمذى وغيرهما عن عدى بن حبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضَّالين هم النصارى".
وما رواه الترمذى وابن حبان فى صحيحه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الوسطى صلاة العصر".
وما رواه أحمد والشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: "لما نزلت هذه الآية: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] . شق ذلك على الناس فقالوا:(1/36)
يا رسول الله؛ وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذى تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم؟ إنما هو الشرك".
وما أخرجه مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] .. ألا وإن القوة الرمى".
وما أخرجه الترمذى عن علىّ قال: "سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال: "يوم النحر".
وما أخرجه الترمذى وابن جرير عن أُبَىّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] .. قال: "لا إله إلا الله".
وما أخرجه أحمد والشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن نوقش الحساب عُذَّب" قلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 8] ؟ قال: "ليس ذلك بالحساب.. ولكن ذلك العرض".
وما أخرجه أحمد ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر أعطانيه ربى فى الجنة".
وغير هذا كثير مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* *
*الوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التفسير:
غير أن القُصَّاص والوُضَّاع زادوا فى هذا النوع من التفسير كثيراً، ونسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه الحاكم عن أنس أنه قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {والقناطير المقنطرة} [آل عمران: 14] فقال: "القنطار ألف أوقية"، وما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبى هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القنطار اثنا عشر ألف أوقية".
فمثل هذا التناقض فى مقدار وزن القنطار، لا يمكن أن يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا رد العلماء كثيراً مما ورد من التفسير منسوباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُقِل عن الإمام أحمد أنه قال: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازى" ومراده من قوله هذا - كما نُقِل عن المحققين من أتباعه - أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة لا كما استظهره الأستاذ أحمد أمين حيث يقول: "وظاهر هذه الجملة أن(1/37)
الأحاديث التى وردت فى التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر - كما قال بعضهم - أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى التفسير. أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسه ببعضها".
وحيث يقول: "إن بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتاً، أعنى أنه أنكر صحة ورود ما يروونه من هذا الباب، فقد روى عن الإمام أحمد أنه قال: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازى".
نعم.. ليس الأمر كما استظهره صاحب "ضحى الإسلام" و "فجر الإسلام، لأنه مما لا شك فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم صحَّت عنه أحاديث فى التفسير، والإمام أحمد نفسه معترف بها، فكيف يُعقل أن الإمام أحمد يريد من عبارته السابقة نفى الصحة عن جميع الأحاديث المرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى التفسير؟ - وظنى أن الأستاذ أراد بالبعض المذكور، المحققين من أصحاب الإمام أحمد، غاية الأمر أنه حمل كلامهم على غير ما أردوا فوقع فى هذا الخطأ، والعجب أنه نقل عن "الإتقان" فى هامش فجر الإسلام (صفحة 245) ما استظهرناه من كلام المحققين من أتباع الإمام أحمد.
واعترف فى فجر الإسلام (صفحة 245) ، وضحى الإسلام (الجزء الثانى صفحة 138) : بأنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرات لبعض ما أُشكل من القرآن، وإن كان قد اضطرب فى كلامه فجعل ما ورد من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغاً حد الكثرة، حيث قال فى فجر الإسلام (صفحة 245) : "وهذا النوع كثير: وردت منه أبواب فى كتب الصحاح الستة، وزاد فيه القُصَّاص والوُضَّاع كثيراً"، ثم عاد فى ضحى الإسلام (جزء 2 صفحة 138) فجعل ما ورد عن الرسول من التفسير بالغاً حد القِلَّة حيث قال: "وما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى ذلك قليل، حتى روى عن عائشة أنها قالت: لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يفسِّر شيئاً من القرآن إلا آيات تُعَد، علَّمهنَّ إياه جبريل"، وفاته أن الحديث مطعون فيه، فذكره دليلاً عن مُدَّعاه ولم يُعقِّب عليه، مع أنه أحال على الطبرى فى نقل الحديث، والطبرى وضَّح عِلَّته، وتأوَّله على فرض الصحة كما سنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
* *
*هل تناول النبى صلى الله عليه وسلم القرآن كله بالبيان؟
قد يقول قائل: إن الله تعالى يقول فى سورة النحل [آية: 44] : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .. فهل بَيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه القرآن كله، أفراداً وتركيباً، وما يتبع ذلك من بيان الأحكام؟ أو أنه بيَّن لهم(1/38)
بعضه وسكت عن بعضه الآخر؟، ثم على أى وجه كان هذا البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه؟. وللجواب عن هذا نقول:
*المقدار الذى بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن لأصحابه:
اختلف العلماء فى المقدار الذى بيَّنه النبى صلى الله عليه وسلم من القرآن لأصحابه: فمنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه كل معانى القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية.
ومنهم مَن ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُبيِّن لأصحابه من معانى القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء: الخُوَيِّى والسيوطى، وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوردها ليتضح لنا الحق ويظهر الصواب.
* *
*أدلة مَن قال النبى صلى الله عليه وسلم بيَّن كل معانى القرآن:
أولا: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ..
والبيان فى الآية يتناول بيان معانى القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بيَّن الرسول ألفاظه كلها، فلا بد أن يكون قد بيَّن كل معانيه أيضاً، وإلا كان مقصِّراً فى البيان الذى كُلِّفَ به من الله.
ثانياً: ما روى عن أبى عبد الرحمن السلمى أنه قال: "حدَّثن الذين كانوا يُقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً"، ولهذا كانوا يبقون مدة طويلة فى حفظ السورة، وقد ذكر الإمام مالك فى الموطأ: أن ابن عمر أقام على حفظ "البقرة" ثمان سنوات، والذى حمل الصحابة على هذا، ما جاء فى كتاب الله تعالى من قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ} [ص: 29] .. وتدبر الكلام بدون فهم معانيَه لا يمكن، وقوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] .. وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام يُقصَد منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك من غيره.(1/39)
فهذه الآثار تدل على أن الصحابة تعلَّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم معانى القرآن كلها، كما تعلَّموا ألفاظه.
ثالثاً: قالوا إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً فى فن من العلم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب الله الذى فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة؟
رابعاً: ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر رضى الله عنه أنه قال: "من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض قبل أن يُفسِّرها"، وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يُفسِّر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يُفسِّر هذه الآية، لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه.
*
*أدلة مَن قال بأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يبيِّن لأصحابه إلا القليل من معانى القرآن:
استدل أصحاب هذا الرأى بما يأتى:
أولاً: ما أخرجه البزَّار عن عائشة قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفسِّر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد، علَّمه إياهنَ جبريل".
ثانياً: قالوا: إن بيان النبى صلى الله عليه وسلم لكل معانى القرآن متعذر، ولا يمكن ذلك إلا فى آى قلائل، والعلم بالمراد يُستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر الله نبيه بالتنصيص على المراد فى جميع آياته لأجل أن يتفكر عباده فى كتابه.
ثالثاً: قالوا: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه كل معانى القرآن لما كان لتخصيصه ابن عباس بالدعاء بقوله: "اللَّهم فقهه فى الدين وعلِّمه التأويل" فائدة، لأنه يلزم من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كل معانى القرآن استواؤهم فى معرفة تأويله، فكيف يخصص ابن عباس بهذا الدعاء؟.
* *
*مغالاة الفريقين:
ومَن يتأمل فيما تقدَّم من أدلة الفريقين يتضح له أنهما على طرفى نقيض. ورأيى أن كل فريق منهم مبالغ فى رأيه. وما استدل إليه كل فريق من الأدلة يمكن مناقشته بما يجعله لا ينهض حُجَّة على المدَّعى.
*مناقشة أدلة الفريق الأول:
فاستدلال ابن تيمية ومَن معه على رأيهم بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ(1/40)
إِلَيْهِمْ} استدلال غير صحيح، لأن الرسول - بمقتضى كونه مأموراً بالبيان - كان يبُيِّن لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن، لا كل معانيه، ما أشكل منها وما لم يشكل.
وأما استدلالهم بما روى عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعى، لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلَّموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من غيره من إخوانهم الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم، حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد.
وأما الدليل الثالث، فكل ما يدل عليه: هو أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه، شأن أى كتاب يقرؤه قوم، ولكن لا يلزم منه أن يكونوا قد رجعوا إلى النبى فى كل لفظ منه.
وأما الدليل الرابع، فلا يدل أيضاً، لأن وفاة النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يُبيِّن لهم آية الربا لا تدل على أنه كان يُبيِّن لهم كل معانى القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة، فكان لا بد من الرجوع فيها إلى النبى عليه السلام، شأن غيرها من مشكلات القرآن.
*
*مناقشة أدلة الفريق الثانى:
وأما استدلال أصحاب الرأى الثانى بحديث عائشة، فهو استدلال باطل، لأن الحديث منكر غريب، لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيرى، وهو مطعون فيه، قال البخارى: "لا يُتابَع فى حديثه"، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدى: "منكر الحديث"، وقال فيه ابن جرير الطبرى: "إنه ممن لا يُعرف فى أهل الآثار"، وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول - كما قال أبو حيان - على مغيبات القرآن، وتفسيره لمجمله، ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله. وفى معناه ما قاله ابن جرير وما قاله ابن عطية.
وأما الدليل الثانى، فلا يدل أيضاً على ندرة ما جاء عن النبى عليه الصلاة والسلام فى التفسير، إذ أن دعوة إمكان التفسير بالنسبة لآيات قلائل، وتعذره بالنسبة للكل غير مُسلَّمة، وأما ما قيل من أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالتنصيص على المراد فى جميع الآيات لأجل أن يتفكر الناس فى آيات القرآن فليس بشىء، إذ أن النبى عليه الصلاة والسلام مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، ولو فُرِض - أن القرآن أشكل كله على الصحابة ما كان للنبى عليه الصلاة والسلام أن يمتنع(1/41)
عن بيان كل آية منه، بمقتضى أمر الله له فى الآية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
وأما الدليل الثالث، فول سلَّمنا أنه يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يُفسِّر كل معانى القرآن. فلا نُسلِّم أنه يدل على أنه فسَّر النادر منه كما هو المدّعى.
* *
*اختيارنا فى المسألة:
والرأى الذى تميل إليه النفس - بعد أن اتضح لنا مغالاة كل فريق فى دعواه وعدم صلاحية الأدلة لإثبات المُدَّعى - هو أن نتوسط بين الرأيين فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن الكثير من معانى القرآن لأصحابه، كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يُبيِّن كل معانى القرآن، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعُذر أحد فى جهالته كما صرّح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير، قال: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
وبدهى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسِّر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسِّر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذى لا يُعرفه أحد بجهله، لأنه لا يخفى على أحد، ولم يفسِّر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وغير ذلك من كل ما يجرى مجرى الغيوب التى لم يُطلع الله عليها نبيه، وإنما فسَّر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المغيبات التى أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم، وفسَّر لهم أيضاً كثيراً مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه العلماء يرجع إلى اجتهادهم، كبيان المجمل، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل، وما إلى ذلك من كل ما خفى معناه والتبس المراد به.
هذا.. وإنَّ مما يؤيد أن النبى عليه الصلاة والسلام لم يُفسِّر كل معانى القرآن، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقع بينهم الاختلاف فى تأويل بعض الآيات، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع هذا الاختلاف، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.
بقى بعد هذا أن نجيب عن الشق الثانى من السؤال، وهو: على أى وجه كان بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن؟ فنقول:
إنَّ الناظر فى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة يجد فيهما ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان لكتاب الله، أو بعبارة أخرى، ما يدل على أن مركز السُّنَّة النبوية من القرآن، مركز المبيِّن من المبيَّن.(1/42)
فمن القرآن، قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
ومن السُّنَّة، ما رواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا وإنى أوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فَحرِّموه، إلا لا يحل لكم الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومَن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه".
فقوله: "أوتيتُ الكتاب ومثله معه" معناه أنه أوتى الكتاب وحياً يُتلَى، وأُوتى من البيان مثله، أى أُذِنَ له أن يبُيِّن ما فى الكتاب. فيعم ويخص، ويزيد عليه ويُشرِّع ما فى الكتاب، فيكون فى وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أنه أُوتى من الوحى الباطن عن المتلو، مثل ما أعطى من الظاهر المتلو، كما قال تعالى فى سورة النجم آيتى [3، 4] : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} ..
وأما قوله: "يوشك رجل شبعان.. " إلخ، فالمقصود منه التحذير من مخالفة السُّنَّة التى سنَّها الرسول وليس لها ذكر فى القرآن، كما هو مذهب الخوارج والروافض الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التى ضمنت بيان الكتاب فتحيَّروا وضلُّوا، وروى الأوزاعى عن حسان بن عطية قال: "كان الوحى ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسُّنَّة التى تفسِّر ذلك"، وروى الاوزاعى عن مكحول قال: "القرآن أحوج إلى السُّنَّة من السُّنَّة إلى القرآن".
* *
*أوجه بيان السُّنَّة للكتاب:
وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السُّنَّة بالكتاب، ارتباط المبيِّن فلنبُيِّن بعد ذلك أوجه هذا البيان فنقول:
الوجه الأول: بيان المجمل فى القرآن، وتوضيح المشكل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، فمن الأول: بيانه عليه الصلاة والسلام لمواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وكيفيتها، وبيانه لمقادير الزكاة، وأوقاتها، وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. ولذا قال: "خذوا عنى مناسككم"، وقال: "صلُّوا كما رأيتمونى أُصلِّى".
وقد روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: "إنك أحمق، أتجد(1/43)
الظُهر فى كتاب الله أربعاً لا يُجهَر فيها بالقراءة؟ ثم عدَّد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا فى كتاب الله تعالى مُفسَّراً؟ إن كتاب الله تعالى أبهم هذا، وإن السُّنَّة تُفسِّر هذا".
ومن الثانى: تفسيره - صلى الله عليه وسلم - للخيط الأبيض والخيط الأسود فى قوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187] بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن الثالث: تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - الظلم فى قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] بالشرك، فإن بعض الصحابة فهم أَن الظلم مراد منه العموم، حتى قال: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليس بذلك، إنما هو الشرك".
ومن الرابع: تقييده اليد فى قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] باليمين.
الوجه الثانى: بيان معنى لفظ أو متعلقه، كبيان: {المغضوب عَلَيْهِم} باليهود، و {الضآلين} بالنصارى. وكبيان قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] بأنها مُطهَّرة من الحيض والبزاق والنخامة، وكبيان قوله تعالى: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 58-59] بأنهم دخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة فى شعيرة.
الوجه الثالث: بيان أحكام زائدة على ما جاء فى القرآن الكريم، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وصدقة الفطر، ورجم الزانى المحصن، وميراث الجدة، والحكم بشاهد ويمين، وغير هذا كثير يوجد فى كتب الفروع.
الوجه الرابع: بيان النسخ: كأن يُبيِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آية كذا نُسِخَت بكذا، أو أن حكم كذا نُسِخ بكذا، فقوله عليه الصلاة والسلام: " لا وصية لوارث" بيان منه أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها. وحديث: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية [15] من سورة النساء: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} .. وغير هذا كثير.
الوجه الخامس: بيان التأكيد، وذلك بأن تأتى السُّنَّة موافقة لما جاء به(1/44)
الكتاب، ويكون القصد من ذلك تأكيد الحكم وتقويته. وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" فإنه يوافق قوله تعالى: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] .. وقوله عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الله فى النساء فإنهن عوان فى أيديكم، أخذتموهم بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، " فإنه موافق لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} [النساء: 19] .
* * *
*المصدر الثالث من مصادر التفسير فى عصر الصحابة - الاجتهاد وقوة الاستنباط:
كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، إذا لم يجدوا التفسير فى كتاب الله، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا فى ذلك إلى اجتهادهم وإعمال رأيهم، وهذا بالنسبة لما يحتاج إلى نظر واجتهاد، أما ما يمكن فهمه بمجرد معرفة اللغة العربية فكانوا لا يحتاجون فى فهمه إلى إعمال النظر، ضرورة أنهم من خُلَّصِ العرب، يعرفون كلام العرب ومناحيهم فى القول، ويعرفون الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد من ذلك فى الشعر الجاهلى الذى هو ديوان العرب، كما يقول عمر رضى الله عنه.
*أدوات الاجتهاد فى التفسير عند الصحابة:
وكثير من الصحابة كان يُفسِّر بعض آى القرآن بهذا الطريق، أعنى طريق الرأى والاجتهاد، مستعيناً على ذلك بما يأتى:
أولاً: معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.
ثانياً: معرفة عادات العرب.
ثالثاً: معرفة أحوال اليهود والنصارى فى جزيرة العرب وقت نزول القرآن.
رابعاً: قوة الفهم وسعة الإدراك.
فمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، تعين على فهم الآيات التى لا يتوقف فهمها على غير لغة العرب. ومعرفة عادات العرب تعين على فهم كثير من الآيات التى لها صلة بعاداتهم، فمثلاً قوله تعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] .. وقوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] . لا يمكن فهم المراد منه، إلا لمن عرف عادات العرب فى الجاهلية وقت نزول القرآن.
ومعرفة أحوال اليهود والنصارى فى جزيرة العرب وقت نزول القرآن، تعين على فهم الآيات التى فيها الإشارة إلى أعمالهم والرد عليهم.
ومعرفة أسباب النزول، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، تعين على فهم كثير من الآيات القرآنية، ولهذا قال الواحدى: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها". وقال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى القرآن" وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية. فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
وأما قوة الفهم وسعة الإدراك، فهذا فضل الله يؤتيه مَن يشاء من عباده. وكثير من آيات القرآن يدق معناه، ويخفى المراد منه، ولا يظهر إلا لمن أوتى حظاً من الفهم ونور البصيرة، ولقد كان ابن عباس صاحب النصيب الأكبر والحظ الأوفر من ذلك، وهذا ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك حيث قال: "اللَّهم فََقِّهه فى الدين وعَلِّمه التأويل".
وقد روى البخارى فى صحيحه بسنده إلى أبى جحيفة رضى الله عنه أنه قال: "قلت لعلىّ رضى الله عنه: هل عندكم شئ من الوحى إلا ما فى كتاب الله؟ قال: لا، والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يُعطيه الله رجلاً فى القرآن، وما فى هذه الصحيفة، قلت: وما فى هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألاَّ يُقتل مسلم بكافر".
هذه هى أدوات الفهم والاستنباط التى استعان بها الصحابة على فهم(1/45)
كثير من آيات القرآن، وهذا هو مبلغ أثرها فى الكشف عن غوامضه وأسراره.
* *
*تفاوت الصحابة فى فهم معانى القرآن:
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا متفاوتين فى معرفتهم بهذه الأدوات، فلم يكونوا جميعاً فى مرتبة واحدة، السبب الذى من أجله اختلفوا فى فهم بعض معانى القرآن، وإن كان اختلافاً يسيراً بالنسبة لاختلاف التابعين ومَن يليهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف: ما روى من أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: مَن يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، فقال عمر: يا قدامة إنى جَالِدُك، قال: واللهِ لو شربت كما يقول ما كان لك أن تجلدنى، قال عمر: ولِمَ؟ قال: لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} [المائدة: 93] فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقو وأحسنوا، شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأُحُداً، والخندق، والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال(1/46)
ابن عباس: إن هذه الآيات أُنزلت عذراً للماضين وحُجَّة على الباقين، لأن الله يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} [المائدة: 90] .. قال عمر: صدقت..
وما روى من أن الصحابة فرحوا حينما نزل قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] لظنهم أنها مجرد إخبار وبُشرى بكمال الدين، ولكن عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلا النقص، مستشعراً نعى النبى صلى الله عليه وسلم، وقد كان مصيباً فى ذلك، إذ لم يعش النبى صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً كما روى".
وما رواه البخارى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه وقال: لِمَ يُدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلنى معهم فما رأيت أنه دعانى فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون فى قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] ؟ فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً، فقال لى: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 3] .. فقال عمر: لا أعلم منها إلا مَا تقول".
* * *
*المصدر الرابع من مصادر التفسير فى هذا العصر - أهل الكتاب من اليهود والنصارى:
المصدر الرابع للتفسير فى عهد الصحابة هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وذلك أن القرآن الكريم يتفق مع التوراة فى بعض المسائل، وبالأخص فى قصص الأنبياء، وما يتعلق بالأمم الغابرة، وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت فى الإنجيل كقصة ميلاد عيسى ابن مريم، ومعجزاته عليه السلام.
غير أن القرآن الكريم اتخذ منهجاً يخالف منهج التوراة والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزئيات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.
ولما كانت العقول دائماً تميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة - رضى الله عنهم أجمعين - يرجعون فى استيفاء هذه القصص التى لم يتعرض لها(1/47)
القرآن من جميع نواحيها إلى مَن دخل فى دينهم مِن أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.
وهذا بالضرورة كان بالنسبة إلى ما ليس عندهم فيه شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لو ثبت شئ فى ذلك عن رسول الله ما كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه.
* *
* أهمية هذا المصدر بالنسبة للمصادر السابقة:
غير أن رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية فى التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدراً ضيِّقاً محدوداً، وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعياً أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع فى فهم معانيه لشئ مما جاء ذكره فى هذه الكتب التى لعبت فيها أيدى المحرِّفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن. أما ما اتضح لهم كذبه مما يعارض القرآن ويتنافى مع العقيدة فكانوا يرفضونه ولا يصدِّقونه، ووراء هذا وذاك ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى، وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون فيه، فلا يحكمون عليه بصدق ولا بكذب، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا ... " الآية.
وسنوفق بمشيئة الله تعالى بين هذا الحديث وحديث: "بلِّغوا عنى ولو آية، وحدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج ... " ونذكر مدى تأثير اليهودية والنصرانية على التفسير فى أدواره المختلفة من لدن عصر الصحابة إلى عصر التدوين، وذلك عند الكلام عن التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
* * *(1/48)
المفسرون من الصحابة
اشتهر بالتفسير من الصحابة عدد قليل، قالوا فى القرآن بما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة أو بالواسطة، وبما شاهدوه من أسباب النزول، وبما فتح الله به عليهم من طريق الرأى والاجتهاد.
* أشهر المفسِّرين من الصحابة:
وقد عَدَّ السيوطى رحمه الله فى "الإتقان" مَن اشتهر بالتفسير من الصحابة وسمَّاهم، وهم: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأُبَىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، رضى الله عنهم أجمعين.
وهناك مَن تكلم فى التفسير من الصحابة غير هؤلاء: كأنس بن مالك، وأبى هريرة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وعائشة، وغير أن ما نُقِل عنهم فى التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول فى القرآن ما كان للعشرة المذكورين أولاً، كما أن العشرة الذين اشتهروا بالتفسير، تفاوتوا قِلَّة وكثرة، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يَرد عنهم فى التفسير إلا النزر اليسير، ويرجع السبب فى ذلك إلى تقدم وفاتهم، واشتغالهم بمهام الخلافة والفتوحات، أضف إلى ذلك وجودهم فى وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله، واقفون على أسراره، عارفون بمعانيه وأحكامه، مكتملة فيهم خصائص العروبة، مما جعل الحاجة إلى الرجوع إليهم فى التفسير غير كبيرة.
أما علىّ بن أبي طالب رضى الله عنه، فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه فى التفسير، والسبب فى ذلك راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة، دامت إلى نهاية خلافة عثمان رضى الله عنه، وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى مَن يُفسِّر لهم ما خفى عنهم من معانى القرآن، وذلك ناشئ من اتساع رقعة الإسلام، ودخول كثير من الأعاجم فى دين الله، مما كاد يذهب بخصائص اللغة العربية.
وكذلك كثرت الرواية فى التفسير عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبَىّ بن كعب، لحاجة الناس إليهم، ولصفات عامة مكَّنت لهم ولعلىّ بن أبى طالب أيضاً فى التفسير، هذه الصفات هى: قوتهم فى اللغة العربية، وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها، وعدم تحرجهم من الاجتهاد وتقرير ما وصلوا إليه باجتهادهم، ومخالطتهم للنبى صلى الله عليه وسلم مخالطة مكَّنتهم من معرفة الحوادث التى نزلت فيها آيات القرآن، نستثنى(1/49)
من ذلك ابن عباس، فإنه لم يلازم النبى عليه الصلاة والسلام فى شبابه. لوفاة النبى عليه الصلاة والسلام وهو فى سن الثالثة عشرة أو قريب منها، لكنه استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة، يأخذ عنهم ويروى لهم.
أما باقى العشرة وهم: زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله ابن الزبير، فهم وإن اشتهروا بالتفسير إلا أنهم قلَّت عنهم الرواية ولم يصلوا فى التفسير إلى ما وصل إليه هؤلاء الأربعة المكثرون.
لهذا نرى الإمساك عن الكلام فى شأن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وزيد ابن ثابت، وأبى موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، ونتكلم عن علىّ، وابن عباس، وابن مسعود، وأُبَىّ بن كعب، نظراً لكثرة الرواية عنهم فى التفسير، كثرة غذَّت مدارس الأمصار على اختلافهم وكثرتها.
ولو أنَّا رتبنا هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما روى عنهم لكان أولهم عبد الله بن عباس، ثم عبد الله بن مسعود، ثم علىّ بن أبي طالب، ثم أُبَىّ بن كعب وسنتكلم عن كل واحد من هؤلاء الأربعة، بما يتناسب مع مشربه فى التفسير ومنحاه الذى نحاه فيه.
1- عبد الله بن عباس
*ترجمته:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشى الهاشمى، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه لُبابه الكبرى بنت الحارث بن حَزَن الهلالية. ولُِدَ والنبى عليه الصلاة والسلام وأهل بيته بالشِعْب بمكة. فأُتِىَ به النبى عليه الصلاة والسلام فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ولازم النبى عليه الصلاة والسلام فى صغره، لقرابته منه، ولأن خالته ميمونة كانت من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وله من العمر ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاته سنة ثمان وستين على الأرجح، وله من العمر سبعون سنة. مات بالطائف ودُفن بها، وتولى وضعه فى قبره محمد ابن الحنفية، وقال بعد أن سوَّى عليه التراب: مات واللهِ اليوم حَبْرُ هذه الأُمَّة.
* *
*مبلغه من العلم:
كان ابن عباس يُلقَّب بالحَبْر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعنى كتاب الله، ولذا انتهت إليه الرياسة فى الفتوى والتفسير، وكان عمر رضى الله عنه يُجلسه فى مجلسه مع كبار الصحابة ويُدنيه منه، وكان يقول(1/50)
له: إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم خُلُقاً، وأفقههم فى كتاب الله. وقال فى شأنه: ذاكم فتى الكهول، إنَّ له لساناً سئولاً، وقلباً عقولاً. وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة عن شئ يقول لا أتكلم حتى يتكلموا. وكان عمر رضى الله عنه يعتد برأى ابن عباس مع حداثة سنه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن الأثير فى كتابه "أُسد الغابة" عن عبيد الله بن عتبة قال: "إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس: إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل، فأنت لها ولأمثالها، فكان يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه" قال عبيد الله: وعمر هو عمر فى حذقه واجتهاده لله وللمسلمين، وما رواه البخارى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه وقال: لِمَ يُدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلنى معهم، فما رأيت أنه دعانى يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون فى قوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} ؟ فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً، فقال لى: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .. فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول".
وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وقال فيه ابن مسعود رضى الله عنه: "نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس". وقال فيه عطاء: "ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشِعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع". وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، وتأويل، وما رأيتُ أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبى بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه فى رأى منه، ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازى، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً". وقيل لطاووس: لزمتَ هذا الغلام - يعنى ابن عباس - وتركتَ الأكابر من أصحاب رسول الله، قال: إنى رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تدارءوا فى أمرٍ صاروا إلى قول ابن عباس". وروى الأعمش عن أبى وائل قال: "استخلف علىّ عبد الله بن عباس على الموسم فقرأ فى خطبته سورة البقرة - وفى رواية: سورة النور - ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" وكان علىّ بن أبى طالب يُثنى على تفسير ابن عباس ويقول: "كأنما ينظر إلى الغيب من سِتر رقيق".
وبالجملة.. فقد كانت حياة ابن عباس حياة علمية، يتعلم ويعُلِّم، ولم يشتغل(1/51)
بالإمارة إلا قليلاً لَّما استعمله علىّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربى بأكمل معانيه. علماً، وفصاحة، وسعة اطلاع فى نواح علمية مختلفة، ولا سيما فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يُقال فيه ما قاله ابن عمر رضى الله عنهما: "ابن عباس أعلم أُمَّة محمد بما نزل على محمد".
* *
*أسباب نبوغه:
ونستطيع أن نُرجِع هذه الشهرة العلمية، وهذا النبوغ الواسع الفيَّاض، إلى أسباب نجملها فيما يلي:
أولاً: دعاء النبى صلى الله عليه وسلم له بقوله: "اللَّهم علِّمه الكتاب والحكمة"، وفى رواية أخرى: "اللَّهم فقِّهه فى الدين، وعلِّمه التأويل"، والذى يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحاً فيما صح عن ابن عباس رضى الله عنه.
ثانياً: نشأته فى بيت النبوة، وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عهد التمييز، فكان يسمع منه الشئ الكثير، ويشهد كثيراً من الحوادث والظروف التى نزلت فيها آيات القرآن.
ثالثاً: ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، يأخذ عنهم ويروى لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع، وأسباب النزول، وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدَّث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال: "وجدتُ عامة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأنصار، فإن كنتُ لآتى الرجلَ فأجده نائماً، لو شئتُ أن يُوقَظ لى لأُوقظ، فأجلس على بابه تسفى على وجهى الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم أنصرف".
رابعاً: حفظه للغة العربية، ومعرفته لغريبها، وآدابها، وخصائصها، وأساليبها، وكثيراً ما كان يستشهد للمعنى الذى يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربى.
خامساً: بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته فى بيان ما يعتقد أنه الحق، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد، ما دام يثق بأن الحق فى جانبه، وكثيراً ما انتقد عليه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن، ولكن لم ترق إليه همة نقده، بل ما لبث أن رجع إلى قوله، واعترف بمبلغ علمه، فقد روى أن رجلاً أتى ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] .. فقال: اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرنى، فذهب(1/52)
فسأله فقال: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال: قد كنتُ أقول: ما يعجبنى جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمتُ أنه أوتِىَ علماً.
هذه هى أهم الأسباب التى ترجع إليها شهرة ابن عباس فى التفسير، يضاف إلى ذلك كونه من أهل بيت النبوة، منبع الهداية، ومصدر النور، وما وهبه الله من قريحة وقَّادة، وعقل راجح، ورأى صائب، وإيمان راسخ، ودين متين.
* *
*قيمة ابن عباس فى تفسير القرآن:
تتبين قيمة ابن عباس فى التفسير، من قول تلميذه مجاهد: "إنه إذا فسَّرَ الشئ رأيتَ عليه النور"، ومن قول علىّ رضى الله عنه يُثنى عليه فى تفسيره: "كأنما ينظر إلى الغيب من سِتر رقيق"، ومن قول ابن عمر: "ابن عباس أعلم أُمَّة محمد بما نزل على محمد"، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه فى فهم ما أشكل عليهم من كتاب الله، فكثيراً ما توجَّه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم، ويكشف لهم عما عَزَّ عليهم فهمه من كتاب الله تعالى. ففى قصة موسى مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم، أى الأجلين قضى موسى؟ هل كان ثمان سنين؟ أو أنه أتم عشراً؟ ولما لم يقف على رأى يمم شطر ابن عباس، الذى هو بحق ترجمان القرآن، ليسأله عما أشكل عليه، وفى هذا يروى الطبرى فى تفسيره، عن سعيد بن جبير قال: "قال يهودى بالكوفة - وأنا أتجهز للحج - إنى أراك رجلاً تتبع العلم، فأخبرنى أى الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حَبْر العرب - يعنى ابن عباس - فسائله عن ذلك، فلما قدمتُ مكة سألتُ ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودى، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنَّ النبى إذا وعد لم يُخلف، وقال سعيد: فقدمتُ العراق فلقيتُ اليهودى فأخبرته فقال: صدق وما أُنزِلَ على موسى، هذا واللهِ العالِم.
وهذا عمر رضى الله عنه يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله، فلما لم يجد عندهم جواباً مرضياً رجع إلى ابن عباس فسأله عنها، وكان يثق بتفسيره، وفى هذا يروى الطبرى: "أن عمر سأل الناس عن هذه الآية - يعنى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266] ... الآية، فما وجد أحداً يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين؛ إنى أجد فى نفسى منها شيئاً، فتلفت إليه فقال: تحوَل ههنا، لِمَ تُحقِّر نفسك؟ قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله عزَّ وجل فقال: أيودَ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه(1/53)
بخير حين فنى عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله، فحرقه أحوج ما كان إليه".
وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} وجوابه بالجواب المشهور عنه، يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفى المعانى التى يشير إليها القرآن، ولا يدركها إلا مَن نفحه الله بنفحة مِن روحه، وكثيراً ما ظهر ابن عباس فى المسائل المعقدة فى التفسير بمظهر الرجل المُلْهَم الذى ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علىّ رضى الله عنه، الأمر الذى جعل الصحابة يُقدِّرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقدير صداه فى عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غذَّت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجاباً وتقديراً، إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر. وقد صرَّح الزركشي بأن قول ابن عباس مُقدَّمٌ على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم فى التفسير.
*رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب:
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون فى فهم معانى القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة فى ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التى نزل فيها القرآن. وكان رضى الله عنه يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل فى كثير من المواضع التى أُجمْلِت فى القرآن وفُصِّلت فى التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق: إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان فى دائرة محدودة ضيِّقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به.
*اتهام الأستاذ جولدزيهر والأستاذ أحمد أمين لابن عباس وغيره من الصحابة بالتوسع فى الأخذ عن أهل الكتاب:
وإنَّا لنجد فى كتاب "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" مبلغ اتهام مؤلفه "جولدزيهر" لابن عباس بتوسعه فى الأخذ عن أهل الكتاب، مخالفاً ما ورد من النهى عن ذلك فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم" ونرى أن نذكر عبارة المؤلف بنصها، ليتضح مبلغ اتهامه لابن عباس، ثم نرد عليه بعد ذلك.(1/54)
قال: "وكثيراً ما يُذكر أنه فيما يتعلق بتفسير القرآن، كان - أى ابن عباس - يرجع إلى رجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدى، الذى أثنى الناس عليه بأنه كان يقرأ الكتب، وعن ميمونة ابنته أنها قال: كان أبى يقرأ القرآن فى كل سبعة أيام، ويختم التوراة فى ستة، يقرؤها نظراً، فإذا كان يوم ختمها، حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يُقال تنزل عند ختمها الرحمة، وهذا الخبر المبالغ فيه من ابنته يمكن أن يبين لنا مكان الأب فى الاستفادة من التوراة.
"ومن بين المراجع العلمية المفضِّلة عند ابن عباس، نجد أيضاً كعب الأحبار اليهودى، وعبد الله بن سلام، وأهل الكتاب على العموم، ممن حذر الناس منهم، كما أن ابن عباس نفسه فى أقواله حذَّر من الرجوع إليهم، ولقد كان إسلام هؤلاء عند الناس فوق التهمة والكذب، ورفُِعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم.. ولم تكن التعاليم الكثيرة التى أمكَن أن يستقيها ابن عباس، والتى اعتبرها من تلك الأمور التى يُرجع فيها إلى أهل هذا الدين الآخر، مقصورة على المسائل الإنجيلية والإسرائيلية، فقد كان يسأل كعباً عن التفسير الصحيح لأُم القرآن للمرجان مثلاً، وقد رأى الناس فى هؤلاء اليهود أن عندهم أحسن الفهم - على العموم - فى القرآن وفى كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما فيهما من المعانى الدينية، ورجعوا إليهم سائلين عن هذه المسائل بالرغم من التحذير الشديد - من كل جهة - من سؤالهم" اهـ.
هذه هى عبارة الأستاذ "جولدزيهر" فى كتابه، ومنها يتضح لنا مبلغ تجنيه على الصحابة وعلى ابن عباس على الأخص.
وقد تابعه الأستاذ أحمد أمين على هذا الرأى، حيث يقول فى "فجر الإسلام": "وقد دخل بعض هؤلاء اليهود فى الإسلام، فتسرَّب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار، ودخلت فى تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس عن أخذ قولهم. روُى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تُكذبِّوهم" ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يُصدِّقونهم وينقلون عنهم".
فالأستاذ "جولدزيهر"، والأستاذ أحمد أمين، يريان أن الصحابة - وبخاصة ابن عباس - لم يأبهوا لنهى الرسول صلى الله عليه وسلم، فصدِّقوا أهل الكتاب وأخذوا عنهم الكثير فى التفسير، وأن اللون اليهودى قد صبغ مدارس التفسير القديمة، وبالأخص مدرسة ابن عباس، بسبب اتصالهم بمن دخل فى الإسلام من أهل الكتاب.
* *(1/55)
*رد هذا الاتهام:
والحق أن هذا غلو فى الرأى، وبُعْدٌ عن الصواب، فابن عباس - كما قلت آنفاً - وغيره من الصحابة، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، ولكن لم يكن سؤالهم عن شئ يمس العقيدة. أو يتصل بأُصول الدين أو فروعه، وإنما كانوا يسألون أهل الكتاب عن بعض القصص والأخبار الماضية، ولم يكونوا يقبلون كل ما يُروى لهم على أنه صواب لا يتطرق إليه شك، بل كانوا يُحكِّمون دينهم وعقلهم، فما اتفق مع الدين والعقل صدَّقوه، وما خالف ذلك نبذوه، وما سكت عنه القرآن واحتمل الصدق والكذب توقَّفوا فيه. وبهذا المسلك يكون الصحابة - رضوان الله عليهم - قد جمعوا بين قوله عليه الصلاة والسلام: "حدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرَجَ"، وقوله: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم" فإن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار، لما فيها من العظة والاعتبار، بدليل قوله بعد ذلك: "فإن فيهم أعاجيب". والثانى محمول على ما إذا كان الُمخْبَر به من قِبَلهم محتملاً، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه، لأنه ربما كان صدقاً فى نفس الأمر فيكون فى التكذيب به حَرَج، وربما كان كذباً فى نفس الأمر فيكون فى التصديق به حَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، كما أفاده ابن حجر ونبَّه عليه الشافعى رضى الله عنه - وسيأتى مزيد للكلام عن هذين الحديثين عند الكلام عن الإسرائيليات فى التفسير.
ثم كيف يستبيح ابن عباس رضى الله عنه لنفسه أن يُحدِّث عن بنى إسرائيل بمثل هذا التوسع الذى يجعله مخالفاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان ابن عباس نفسه من أشد الناس نكيراً على ذلك، فقد روى البخارى فى صحيحه عنه أنه قال: "يا معشر المسلمين؛ تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذى أُنزِلَ على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، تقرأونه لم يشب، وقد حدَّثكم الله أن أهل الكتاب بدَّلوا ما كتب الله، وغيَّروا بأيديهم الكتاب فقالوا: {هاذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79] .. أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلَم عنِ مسَاءَلتهم، وَلاَ واللهِ مَا رأين رجلاً منهم قط يسألكم عن الذى أُنزِلَ عليكم".
* *
*رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم:
كان ابن عباس رضى الله عنه يرجع فى فهم معانى الألفاظ الغريبة التى وردت فى القرآن إلى الشعر الجاهلى، وكان غيره من الصحابة يسلك هذا الطريق فى فهم غريب القرآن، ويحض على الرجوع إلى الشعر العربى القديم، ليُستعان به على فهم معانى(1/56)
الألفاظ القرآنية الغريبة، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى فى الآية [47] من سورة النحل: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} فيقوم له شيخ من هذيل فيقول له: هذه لغتنا، التخوُّف: التنقص، فيقول له عمر: هل تعرف العرب ذلك فى أشعارها؟ فيقول له: نعم، ويروى قول الشاعر:
تَخَوَّفَ الرَّحل منها تامِكاً قَرِداً ... كما تَخَوَّفَ عُودَ النبعةِ السَّفِنُ
فيقول عمر رضى الله عنه لأصحابه: "عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعانى كلامكم".
غير أن ابن عباس، امتاز بهذه الناحية واشتهر بها أكثر من غيره، فكثيراً ما كان يُسئل عن القرآن فينشد فيه الشعر، وقد رُوى عنه الشئ الكثير من ذلك، وأوعب ما رُوى عنه مسائل نافع بن الأزرق وأجوبته عنها، وقد بلغت مائتى مسألة، أخرج بعضها ابن الأنبارى فى كتاب "الوقف والابتداء"، وأخرج الطبرانى بعضها الآخر فى معجمه الكبير، وقد ذكر السيوطى فى "الإتقان" بسنده مبدأ هذا الحوار الذى كان بين نافع وابن عباس، وسرد مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس عنها، فقال: "بيَّنا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: بنا إلى هذا الذى يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنَّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإنَّ الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين، فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرنى عن قول الله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} [المعارج: 37] ؟ قال: العزون: حلق الرفاق، قال: هل تَعرف العرب ذلك؟. قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا؟
قال: أخبرنى عن قوله: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} [المائدة: 35] ؟ قال: الوسيلة: الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليكِ وسيلة ... إن يأخذوكِ تكحلى وتخضبى
إلى آخر المسائل وأجوبتها، وهى تدل على قوة ابن عباس فى معرفته بلغة العرب، وإلمامه بغريبها، إلى حد لم يصل إليه غيره، مما جعله - بحق - إمام التفسير(1/57)
فى عهد الصحابة، ومرجع المفسِّرين فى الأعصر التالية للعصر الذى وُجِد فيه، وزعيم هذه الناحية من التفسير على الخصوص، حتى لقد قيل فى شأنه: "إنه هو الذى أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن".
هذا وقد بيَّن لنا ابن عباس رضى الله عنه، مبلغ الحاجة إلى هذه الناحية فى التفسير، وحضَّ عليها مَن أراد أن يتعرف غريب القرآن، فقد روى أبو بكر الأنبارى عنه أنه قال: "الشعر ديوان العرب، فإذا خفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه".
وروى ابن الأنبارى عنه أيضاً أنه قال: "إذا سألتمونى عن غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر، فإن الشعر ديوان العرب".
فابن عباس رضى الله عنه كان يرى رأى عمر فى ضرورة الرجوع إلى الشعر الجاهلى، للاستعانة به على فهم غريب القرآن، بل وكان أكثر الصحابة إلماماً بهذه الناحية وتطبيقاً لها.
وقد استمرت هذه الطريقة إلى عهد التابعين ومَن يليهم، إلى أن حدثت خصومة بين متورعى الفقهاء وأهل اللغة، فأنكروا عليهم هذه الطريقة، وقالوا: إن فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن، وقالوا: كيف يجوز أن يُحتج بالشعر على القرآن، وهو مذموم فى القرآن والحديث.
والحق أن هذه الخصومة التى جَدَّت فى الأجيال المتأخرة لم تقم على أساس، فالأمر ليس كما يزعمه أصحاب هذا الرأى، من جعل الشعر أصلاً للقرآن، بل هو فى الواقع، بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3] ، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] .. ولهذا لم يتحرج المفسرِّون إلى يومنا هذا من الرجوع إلى الشَعِّر الجاهلى للاستشهاد به على المعنى الذى يذهبون إليه فى فهم كلام الله تعالى.
* *
*الرواية عن ابن عباس ومبلغها من الصحة:
روُِى عن ابن عباس رضى الله عنه فى التفسير ما لا يُحصَى كثرة، وتعددت الروايات عنه، واختلفت طرقها، فلا تكاد تجد آية من كتاب الله تعالى إلا ولابن عباس رضى الله عنه فيها قول أو أقوال، الأمر الذى جعل نُقَّاد الأثر ورواة الحديث يقفون إزاء هذه الروايات التى جاوزت الحد وقفة المرتاب، فتتبعوا سلسلة الرواة فعدَّلوا العُدول،(1/58)
وجرَّحوا الضُعفاء، وكشفوا للناس عن مقدار هذه الروايات قوة وضعفاً. وأرى أن أسوق هنا أشهر الروايات عن ابن عباس، ثم أُبيِّن مبلغها من الصحة أو الضعف، لنعلم إلى أى حد وصل الوضع والاختلاق على ابن عباس رضى الله عنه. وهذه هى أشهر الطرق:
أولها: طريق معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، وهذه هى أجود الطرق عنه، وفيها قال الإمام أحمد رضى الله عنه: "إن بمصر صحيفة فى التفسير رواها علىّ بن أبى طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً". وقال الحافظ ابن حجر: "وهذه النسخة كانت عند أبى صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علىّ ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهى عند البخارى عن أبى صالح، وقد اعتمد عليها فى صحيحه فيما يُعلِّقه عن ابن عباس".
وكثيراً ما اعتمد على هذه الطريق ابن جرير الطبرى، وابن أبى حاتم، وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبى صالح. ومسلم صاحب الصحيح وأصحاب السنن جميعاً يحتجون بعلىّ بن أبى طلحة.
* *
*طعن بعض النُقَّاد على هذه الطريق:
ولقد حاول بعض النُقَّاد أن يُقلل من قدر هذه الطريق فقال: "إن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد ابن جبير" وعلى هذا فهى طريق منقطعة لا يُركَن إليها، ولا يُعوَّل عليها.
وقد استغل هذا القول الأستاذ "جولدزيهر" فى كتابه "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" فقال: "صرَّح النقدة المسلمون بأن ذلك الرجل - علىّ بن أبى طلحة - لم يسمع التفسير الذى تضمنه كتابه مباشرة من ابن عباس، وهكذا فإنه حتى فى صحة القسم الخاص بالتفسير الأكثر تصديقاً، يحكم النقدة المسلمون بهذا الحكم فيما يتعلق بصحة نسبته لابن عباس على أنه هو المصدر الأول له" اهـ.
* *
*تفنيد هذا الطعن:
ويظهر لنا أن الأستاذ "جولدزيهر"، جهل أو تجاهل ما رَدَّ به النقاد المعتبرون على هذا الظن الذى لا قيمة له، فقد فنَّد ابن حجر هذا النقد بقوله: "بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير فى ذلك".
وقال صاحب إيثار الحق: "وقال الذهبى فى الميزان: وقد روى - يعنى علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس تفسيراً كثيراً ممتعاً، والصحيح عندهم أن روايته عن مجاهد عن(1/59)
ابن عباس، وإن كان يرسلها عن ابن عباس فمجاهد ثقة يُقبل". وجملة القول: فهذه أصح الطرق فى التفسير عن ابن عباس، وكفى بتوثيق البخارى لها واعتماده عليها شاهداً على صحتها.
ثانيها: طريق قيس بن مسلم الكوفى، عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين، وكثيراً ما يُخَرِّج منها الفريابى والحاكم فى مستدركه.
ثالثها: طريق ابن إسحاق صاحب السير، عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهى طريق جيدة وإسنادها حسن وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبى حاتم كثيراً، وأخرج الطبرانى منها فى معجمه الكبير.
رابعها: طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير، تارة عن أبى مالك، وتارة عن أبى صالح عن ابن عباس. وإسماعيل السدى مُختلَف فيه، وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة، وهو تابعى شيعى. وقال السيوطى: "روى عن السدى الأئمة مثل الثورى وشعبة، لكن التفسير الذى جمعه رواه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أن أمثل التفاسير تفسير السدى" وابن جرير يُورد فى تفسيره كثيراً من تفسير السدى عن أبى مالك عن أبى صالح عن ابن عباس، ولم يُخَرِّج منه ابن أبى حاتم شيئاً، لأنه التزم أن يُخَرِّج أصح ما ورد.
خامسها: طريق عبد الملك بن جريج، عن ابن عباس، وهى تحتاج إلى دقة فى البحث، ليُعرف الصحيح منها والسقيم، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وإنما روى ما ذُكِرَ فى كل آية من الصحيح والسقيم، فلم يتميز فى روايته الصحيح من غيره، وقد روى عن ابن جرير هذا جماعة كثيرة، منهم بكر من سهل الدمياطى، عن عبد الغنى بن سعيد، عن موسى بن محمد، عن ابن جريج عن ابن عباس، ورواية بكر بن سهل أطول الروايات عن ابن جريج وفيها نظر. ومنهم محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن ابن عباس، روى ثلاثة أجزاء كبار. ومنهم الحجاج بن محمد عن ابن جريج، روى جزءاً وهو صحيح متفق عليه.
سادسها: طريق الضحاك بن مزاحم الهلالى عن ابن عباس، وهى غير مرضية، لأنه وإن وَثَّقه نفر فطريقه إلى ابن عباس منقطعة، لأنه روى عنه ولم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة، عن أبى روق، عن الضحَّاك، فضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة كثيراً ابن جرير وابن أبى حاتم. وإن كان من رواية جويبر عن(1/60)
الضحاك فأشد ضعفاً، لأن جويبر شديد الضعف متروك، ولم يُخَرِّج ابن جرير ولا ابن أبى حاتم من هذه الطريق شيئاً، إنما خرَّجها ابن مردويه، وأبو الشيخ بن حبان.
سابعها: طريق عطية العوفى، عن ابن عباس، وهى غير مرضية، لأن عطية ضعيف ليس بواهٍ، وربما حَسَّن له الترمذى. وهذه الطريق قد أخرج منها ابن جرير، وابن أبى حاتم كثيراً.
ثامنها: طريق مقاتل بن سليمان الأزدى الخراسانى، وهو المفسِّر الذى يُنسب إلى الشافعى أنه قال فيه: "إن الناس عيال عليه فى التفسير" ومع ذلك فقد ضَعَّفوه، وقالوا: إنه يروى عن مجاهد وعن الضحاك ولم يسمع منهما. وقد كذَّبه غير واحد، ولم يُوثِّقه أحد، واشتُهِر عنه التجسيم والتشبيه، وتكلم عنه السيوطى. فقال: "إن الكلبى يُفَضَّل عليه، لما فى مقاتل من المذاهب الردية" وقد سُئل وكيع عن تفسير مقاتل فقال: "لا تنظروا فيه، فقال السائل: ما أصنع به؟ قال: ادفنه" - يعنى التفسير - وقال أحمد بن حنبل: لا يعجبنى أن أروى عن مقاتل بن سليمان شيئاً. وبالجملة فإن مَن استحسن تفسير مقاتل كان يُضَعِّفه ويقول: "ما أحسن تفسيره لو كان ثقة".
تاسعها: طريق محمد بن السائب الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وهذه أو هى الطرق. والكلبى مشهور بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشيع كما قال عدى فى الكامل، ومع ذلك فإن وُجِدَ مَن قال: رضوه فى التفسير، فقد وُجِد مَن قال: أجمعوا على ترك حديثه، وليس بثقة، ولا يُكتب حديثه، واتهمه جماعة بالوضع. وممن يروى عن الكلبى، محمد بن مروان السدى الصغير، وقد قالوا فيه: إنه يضع الحديث، وذاهب الحديث متروك، ولهذا قال السيوطى فى الإتقان: "فإن انضم إلى ذلك - أى طريق الكلبى - رواية محمد بن مروان السدى الصغير، فهى سلسلة الكذب"، وقال السيوطى أيضاً فى كتابه الدر المنثور (جـ 6 ص 423) : "الكلبى: اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه فى مرضه: كل شىء حدثتكم عن أبى صالح كذب.. ومع ضعف الكلبى فقد روى عنه تفسيره مثله أو أشد ضعفاً، وهو محمد بن مروان السدى الصغير" وكثيراً ما يخرج من هذه الطريق الثعلبى والواحدى.(1/61)
هذه هى أشهر الطرق عن ابن عباس، صحيحها وسقيمها، وقد عرفتَ قيمة كل طريق منها، ومَن اعتمد عليها فيما جُمِع من التفسير عن ابن عباس رضى الله عنه.
* *
*التفسير المنسوب إلى ابن عباس وقيمته:
هذا.. وقد نُسب إلى ابن عباس رضى الله عنه جزء كبير فى التفسير، وطُبع فى مصر مراراً باسم "تنوير المقياس من تفسير ابن عباس" جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادى الشافعى، صاحب القاموس المحيط، وقد اطلعتُ على هذا التفسير، فوجدتُ جامعه يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية عن ابن عباس بهذا السند: "أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروى، قال: أخبرنا أبى، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمود بن محمد الرازى، قال: أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروى، قال: أخبرنا على بن إسحاق السمرقندى، عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس".
وعند تفسير أول سورة البقرة، وجدته يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله ابن المبارك، قال: حدثنا علىّ بن إسحاق السمرقندى عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس.
وفى مبدأ كل سورة يقول: وبإسناده عن ابن عباس.
... وهكذا يظهر لنا جلياً، أن جميع ما روى عن ابن عباس فى هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدى الصغير، عن محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، وقد عرفنا مبلغ رواية السدى الصغير عن الكلبى فيما تقدم. وحسبنا فى التعقيب على هذا ما روى من طريق ابن عبد الحكم قال: "سمعت الشافعى يقول: لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث" وهذا الخبر - إن صح عن الشافعى - يدلنا على مقدار ما كان عليه الوضَّاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفسير المنسوبة إلى ابن عباس، وليس أدل على ذلك، من أنك تلمس التناقض ظاهراً بين أقوال فى التفسير نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه. وسيأتى - عند الكلام عن الوضع فى التفسير - أن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية فى الغالب، وإنما الشئ الذى لا قيمة له فيه، هو نسبته إلى ابن عباس.
* *
*أسباب الوضع على ابن عباس:
ويبدو أن السر فى كثرة الوضع على ابن عباس، هو أنه كان من بيت النبوة والوضع عليه يُكسب الموضوع ثقة وقوة أكثر مما لو وُضِع على غيره، أضف إلى ذلك أن(1/62)
ابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، وكان من الناس مَن يتزلف إليهم، ويتقرَّب منهم بما يرويه لهم عن جدهم ... وسنعرض إلى أسباب الوضع فى التفسير، وإلى القيمة العلمية للتفسير الموضوع بصرف النظر عن وضعه، عند الكلام على منشأ الضعف فى رواية التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
* * *
2- عبد الله بن مسعود
* ترجمته:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل، يصل نسبه إلى مُضَر، ويُكنَّى بأبى عبد الرحمن الهذلى، وأُمه أُم عبد بنت عبدود، من هذيل، وكان يُنسب إليها أحياناً فيقال ابن أم عبد. كان رحمه الله خفيف اللحم، قصيراً، شديد الأُدْمة، أسلم قديماً. روى الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله - يعنى ابن مسعود -: "لقد رأيتنى سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا" وهو أول مَن جهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُوذى فى الله من أجل ذلك، ولما أسلم عبد الله ابن مسعود أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فكان يخدمه فى أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه إذا قام، ويخلعه ويحمله فى ذراعه إذا جلس، ويمشى أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففى البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال: "قدمت أنا وأخى من اليمن فمكثنا حيناً لا نرى ابن مسعود وأُمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نرى من كثرة دخوله ودخول أُمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومه له". وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وصلى إلى القِبْلتين، وشهد بدراً، وأُحُداً، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذى أجهز على أبى جهل يوم بدر، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وشهد له بالفضل وعلو المنزلة، يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد فى مسنده عن علىّ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لو كنتُ مؤمِّراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمِّرْتُ ابن أُم عبد". وقد ولى بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم المدينة فى آخر عمره، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفُن بالبقيع ليلاً، تنفيذاً لوصيته بذلك، وكان عمره يوم وفاته، بضعاً وستين سنة.
* *
*مبلغه من العلم:
كان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتابة الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع منه القرآن، وقد أخبر هو بنفسه عن ذلك فقال: "قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علىّ سورة النساء"، قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: "إنى أحب أن(1/63)
أسمعه من غيرى"، فقرأتُ عليه حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هاؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] فاضت عيناه - صلى الله عليه وسلم". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سَرَّه أن يقرأ القرآن رطباً كما أُنزِل، فليقرأه على قراءة ابن أُم عبد". وكان ابن مسعود يعرف ذلك من نفسه ويعتنى به، حتى إنه كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف فى عهد عثمان، وكان يرى أنه أولى منه بذلك، وقد قال فى هذا: "يا معشر المسلمين، أُعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمتُ وإنه لفى صلب رجل كافر"؟ - يريد زيد بن ثابت -. وعن مسروق أنه قال: "انتهى علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ستة: عمر، وعلىّ، وعبد الله بن مسعود، وأُبَىّ بن كعب، وأبى الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى رجلين: علىّ، وعبد الله"، وقيل لحذيفة: أَخْبِرنا برجل قريب السمت والدل والهَدْى من رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ عنه، فقال: "لا نعلم أحداً أقرب سمتاً ولا هَدْياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أُم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن ابن أُم عبد أقربهم إلى الله وسيلة". ولما سيَّره عمر رضى الله عنه إلى الكوفة كتب إلى أهلها: "إنى قد بعثتُ عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلِّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى".
وقد أقام رضى الله عنه بالكوفة يأخذ عنه أهلها الحديث والتفسير والفقه، وهو معلمهم وقاضيهم، ومؤسس طريقتهم فى الاعتداد بالرأى حيث لا يوجد النص، ولما قدم علىُّ الكوفة، حضر عنده قوم وذكروا له بعض قول عبد الله وقالوا: يا أمير المؤمنين؛ ما رأينا رجلاً أحسن خُلُقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود، قال علىّ: "أنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم"؟ قالوا: نعم، قال: "اللَّهم اشهد أنى أقول مثل ما قالوا وأفضل".
ومن هذا كله يتبين لنا مكانة ابن مسعود رضى الله عنه فى العلم، ومنزلته بين إخوانه من الصحابة، فالكل يشهد له ويُقدِّمه على غيره، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء من عباده.
* *
* قيمة ابن مسعود فى التفسير:
روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"، ومن هذا الأثر يتضح لنا مقدار(1/64)
حرص ابن مسعود على تفهم كتاب الله تعالى والوقوف على معانيه، وعن مسروق قال: "قال عبد الله - يعنى ابن مسعود -: والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته"، وهذا الأثر يدل على إحاطة ابن مسعود بمعانى كتاب الله، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى ولو لقى عنتاً ومشقة، وقال مسروق: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدِّثنا فيها ويفسِّرها عامة النهار، وروى أبو نعيم فى الحلية عن أبى البحترى قال: قالوا لعلىِّ: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: علم القرآن والسُّنَّة ثم انتهى، وكفى بذلك علماً، وقال عقبة بن عامر: ما أدرى أحداً أعلم منه بما نزل على محمد ابن عبد الله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل. وصح عن ابن مسعود أنه قال: أخذت من فَىِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقال أبو وائل: لما حرق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: لقد علم أصحاب محمد أنى أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، ولو أنى أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله منى تبلغه الإبل لأتيته، قال أبو وائل: فقمت إلى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه ... وغير هذا كثير من الآثار التى تشهد لمنزلة ابن مسعود العالية فى التفسير، وإذا كان ابن مسعود يعلم هذا من نفسه ويتحدث به، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكروا عليه ذلك، بل وتحدَّثوا بمكانته فى العلم، ومقدار فهمه لكتاب الله، وعلَّل ذلك أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه، بأنه كان يسمع حين لا يتيسر لهم السماع، ويدخل حين لا يُؤذن لهم بالدخول، الأمر الذى جعله أوفر حظاً فى الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعظم نصيباً من الاغتراف من منهل النبوة الفيَّاض، ولئن صح عن أبى الدرداء أنه قال بعد موت ابن مسعود: ما ترك بعده مثله، لهى شهادة منه على
مقدار علمه، وسمو مكانته بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالجملة فابن مسعود كما قيل: أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، وأعرفهم بمحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، وقصصه وأمثاله، وأسباب نزوله، قرأ القرآن فأحلّ حلاله وحرَّم حرامه، فقيه فى الدين، عالِم بالسُّنَّة، بصير بكتاب الله. * *
*الرواية عن ابن مسعود ومبلغها من الصحة:
ابن مسعود أكثر مَن رُوِى عنه فى التفسير من الصحابة بعد ابن عباس رضى الله عنه، قال السيوطى فى الإتقان: وأما ابن مسعود فقد رُوِى عنه أكثر مما رُوِى عن علىّ، وقد حمل علم ابن مسعود فى التفسير أهل الكوفة نظراً لوجوده بينهم،(1/65)
يجلس إليهم فيأخذون عنه ويروون له، فمن رواته مسروق بن الأجدع الهمدانى، وعلقمة بن قيس النخعى، والأسود بن يزيد، وغيرهم من علماء الكوفة الذين تتلمذوا له ورووا عنه. وسيأتى الكلام على هؤلاء جميعاً - إن شاء الله تعالى - عند الكلام عن التفسير فى عصر التابعين، وقد وردت أسانيد كثيرة تنتهى إلى ابن مسعود، نجدها مبثوثة فى كتب التفسير بالمأثور وكتب الحديث، ومن هذه الروايات ما يمكن الاعتماد عليه والثقة به، ومنها ما يعتريه الضعف فى رجاله، أو الانقطاع فى إسناده، وقد تتبع العلماء النُقَّاد هذه الروايات، كما تتَّبعوا غيرها بالنقد تجريحاً وتعديلاً وهذه هى أشهر الطرق عن ابن مسعود:
أولاً: طريق الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود. وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها، وقد اعتمد عليها البخارى فى صحيحه.
ثانياً: طريق مجاهد، عن أبى معمر، عن ابن مسعود، وهذه أيضاً طريق صحيحة لا يعتريها الضعف. وقد اعتمد عليها البخارى فى صحيحه أيضاً.
ثالثاً: طريق الأعمش، عن أبى وائل، عن ابن مسعود. وهذه أيضاً طريق صحيحة يُخَرِّج البخارى منها، وكفى بتخريج البخارى شاهداً على صحته وصحة ما سبق.
رابعاً: طريق السدى الكبير، عن مرة الهمدانى، عن ابن مسعود. وهذه الطريق يُخَرِّج منها الحاكم فى مستدركه، ويصحح ما يُخَرِّجه. وابن جرير يُخَرِّج منها فى تفسيره كثيراً، وقد علمت فيما مضى قيمة السدى الكبير فى باب الرواية.
خامساً: طريق أبى روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود، وابن جرير يُخَرِّج منها فى تفسيره أيضاً. وهذه الطريق غير مرضية، لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود فهى طريق منقطعة.
* * *
3- علىّ بن أبى طالب
* ترجمته:
هو أبو الحسن، علىّ بن أبى طالب بن عبد المطلب، القرشى الهاشمى، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره على ابنته فاطمة، وذُرِّيته صلى الله عليه وسلم منها. أُمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. وهو أول هاشمى وُلِد من هاشميين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأول خليفة من بنى هاشم، وهو أول مَن أسلم من الأحداث وصدَّق برسول الله صلى الله عليه وسلم. هاجر إلى المدينة. وموقفه من الهجرة مشهور، قيل: ونزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [البقرة: 207] .. وقد شهد علىّ المشاهد كلها إلا تبوك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَفه على أهله، وله فى الجميع بلاء عظيم ومواقف مشهورة، وقد أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء فى مواطن كثيرة، وقال يوم خيبر: "لأعطيَّن الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله"، ثم أعطاها لعلىّ رضى الله(1/66)
عنه، وآخاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَّما آخى بين أصحابه وقال له: "أنت أخى فى الدنيا والآخرة" وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة، اجتمع فيه من الفضائل ما لم يحظ به غيره، فمن ورع فى الدين، إلى زهد فى الدنيا، إلى قرابة وصهر برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى علم جم وفضل غزير، وقد توفى رحمه الله فى رمضان سنة أربعين من الهجرة، مقتولاً بيد عبد الرحمن بن ملجم الخارجى، وعمره ثلاث وستون سنة، وقيل غير ذلك.
* *
* مبلغه من العلم:
كان رضى الله عنه بحراً فى العلم، وكان قوى الحُجَّة، سليم الاستنباط، أُوتِىَ الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان ذا عقل قضائى ناضج، وبصيرة نافذة إلى بواطن الأُمور، وكثيراً ما كان يرجع إليه الصحابة فى فهم ما خفى واستجلاء ما أشكل، وقد ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن، ودعا له بقوله: "اللهم ثبِّت لسانه واهد قلبه"، فكان مُوفَّقاً ومُسدَّداً، فيصلاً فى المعضلات، حتى ضُرِب به المثل فقيل: "قضية ولا أبا حسن لها"، ولا عجب، فقد تربى فى بيت النبوة، وتغذَّى بلبان معارفها، وعَمَّته مشكاة أنوارها. روى علقمة عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علىّ بن أبى طالب. وقيل لعطاء: أكان فى أصحاب محمد أعلم من علىّ؟ قال: لا، والله لا أعلمه، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إذا ثبت لنا الشء عن علىّ لم نعدل عنه إلى غيره".
والذى يرجع إلى أقضية علىّ رضى الله عنه وخطبه ووصاياه، يرى أنه قد وُهِبَ عقلاً ناضجاً، وبصيرة نافذة، وحظاً وافراً من العلم وقوة البيان.
* *
* مكانته من التفسير:
جمع علىّ رضى الله عنه إلى مهارته فى القضاء والفتوى، علمه بكتاب الله، وفهمه لأسراره وخفى معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل، وقد رُوِى عن ابن عباس أنه قال: "ما أخذت من تفسير القرآن فعن علىّ بن أبى طالب".
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: "واللهِ ما نزلت آية إلا وقد علمتُ فيم نزلت، وأين نزلت، وإن ربى وهبَ لى قلباً عقولاً، ولساناً سئولاً".
وعن أبى الطفيل قال: "شهدتُ علياً يخطب وهو يقول: سلونى، فوالله لا تسألونى عن شئ إلا أخبرتكم، وسلونى عن كتاب الله، فواللهِ ما من آية إلا وأنا(1/67)
أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم فى سهل، أم فى جبل".
وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن ابن مسعود قال: "إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف، إلا وله ظهر وبطن، وإن علىّ بن أبى طالب عنده منه الظاهر والباطن"
وغير هذا كثير من الآثار التى تشهد له بأنه كان صدر المفسرين والمؤيَّد فيهم.
* *
*الرواية عن علىّ ومبلغها من الصحة:
كثرت الرواية فى التفسير عن علىّ رضى الله عنه، كثرة جاوزت الحد، الأمر الذى لفت أنظار العلماء النُقَّاد، وجعلهم يتتبعون الرواية عنه بالبحث والتحقيق، ليميزوا ما صح من غيره.
وما صح عن علىّ فى التفسير قليل بالنسبة لما وُضِع عليه، ويرجع ذلك إلى غُلاة الشيعة، الذين أسرفوا فى حبه فاختلقوا عليه ما هو برئ منه، إما ترويجاً لمذهبهم وتدعيماً له، وإما لظنهم الفاسد أن الإغراق فى نسبة الأقوال العلمية إليه يُعلى من قدره، ويرفع من شأنه العلمى. وأظن أن ما نُسب إلى علىّ من قوله: "لو شئتُ أن أُوْقِرَ سبعين بعيراً من تفسير أم القرآن لفعلت" لا أصل له، اللَّهم إلا فى أوهام الشيعة، الذين يغالون فى حبه، ويتجاوزون الحد فى مدحه. ثم هناك ناحية أخرى أغرت الوُضَّاع بالكذب عليه، تلك الناحية هى نسبته إلى بيت النبوة، ولا شك أن هذه الناحية، تُكسب الموضوع قبولاً، وتعطيه رواجاً وذيوعاً على ألسن الناس، والحق أن كثرة الوضع على علىّ رضى الله عنه أفسدت الكثير من علمه، ومن أجل ذلك لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما يروونه عنه إلا على ما كان من طريق الأثبات من أهل بيته، أو من أصحاب ابن مسعود، كعبيدة السلمانى وشُريح، وغيرهما. وهذه أهم الطرق عن علىّ فى التفسير:
أولاً: طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلمانى، عن علىّ. طريق صحيحة، يُخَرِّج منها البخارى وغيره.
ثانياً: طريق ابن أبى الحسين، عن أبى الطفيل، عن علىّ. وهذه طريق صحيحة، يُخرِّج منها ابن عيينة فى تفسيره.
ثالثاً: طريق الزهرى، عن علىّ زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علىّ. وهذه طريق صحيحة جداً. حتى عدَّها بعضهم أصح الأسانيد مطلقاً، ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار الطريقتين السابقتين نظراً لما ألصقه الضعفاء، والكذَّابون بزين العابدين من الروايات الباطلة.
* * *(1/68)
4- أُبَىّ بن كعب
* ترجمته:
هو أبو المنذر، أو أبو الطفيل، أُبَىّ بن كعب بن قيس، الأنصارى الخزرجى، شهد العقبة وبدراً، وهو أول مَن كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، وقد أثنى عليه عمر رضى الله عنه فقال: "أُبَىّ سيد المسلمين" وقد أُخْتُلِفُ فى وفاته على أقوال كثيرة، والأكثر على أنه مات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
* *
*مبلغه من العلم:
كان أُبَىّ بن كعب سيد القُرَّاء، وأحد كُتَّاب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: "واقرؤهم أُبَىّ بن كعب"، وليس أدل على جودة حفظه لكتاب الله تعالى من قراءة النبى صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الترمذى بسنده إلى أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: "إن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأُبَىّ بن كعب: إن الله أمرنى أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} قال: آلله سمانى لك؟ قال: نعم، فجعل أُبَىّ يبكى".
وفى رواية أنه قيل لأَبَىّ: وفرحتَ بذلك؟ قال: وما يمنعنى وهو يقول: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . وروى الشعبى عن مسروق قال: "كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: عمر، وعلىّ، وعبد الله، وأُبَىّ، وزيد، وأبو موسى".
* *
* مكانته فى التفسير:
كان أُبَىّ بن كعب من أعلم الصحابة بكتاب الله تعالى، ولعل من أهم عوامل معرفته بمعانى كتاب الله، هو أنه كان حَبْراً من أحبار اليهود، العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها، وكونه من كُتَّاب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومُقَدَّم القرآن ومُؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يُعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن يشكل معناها عليه دون أن يسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهاذ كله عُدّ أُبَىّ بن كعب من المكثرين فى التفسير، الذين يُعتدَّ بما صح عنهم، ويُعوَّل على تفسيرهم.
* *
* الرواية عنه فى التفسير ومبلغها من الصحة:
كثرت الرواية عن أُبَىّ بن كعب فى التفسير وتعدَّدت طرقها، وتتبع العلماء هذه الطرق بالنقد، فعدَّلوا وجرَّحوا، لأنه كغيره من الصحابة لم يسلم من الوضع عليه - وهذه هى أشهر الطرق عنه:(1/69)
أولاً: طريق أبى جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أُبَىّ رضى الله عنه. وهذه طريق صحيحة، وقد ورد عن أُبَىّ، نسخة كبيرة فى التفسير، يرويها أبو جعفر الرازى بهذا الإسناد إلى أُبَىّ، وقد خَرَّج ابن جرير وأبى حاتم منها كثيراً، وأخرج الحاكم منها أيضاً فى مستدركه، والإمام أحمد من مسنده.
ثانياً: طريق وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أُبَىّ بن كعب، عن أبيه، وهذه يُخَرِّج منها الإمام أحمد فى مسنده، وهى على شرط الحسن، لأن عبد الله بن محمد بن عقيل وإن كان صدوقاً تكلم فيه من جهة حفظه، قال الترمذى فى سننه: "عبد الله بن محمد بن عقيل، هو صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدى، يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل قال محمد - يعنى البخارى -: وهو مقارب الحديث، ونص الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد على أن حديثه حسن".
* * *(1/70)
قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
أطلق الحاكم فى المستدرك: أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى، له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول فى المستدرك: "ليعلم طالب الحديث، أن تفسير الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل - عند الشيخين - حديث مسند" ولكن قيَّد ابن الصلاح، والنووى، وغيرهما، هذا الإطلاق، بما يرجع إلى أسباب النزول، وما لا مجال للرأى فيه، قال ابن الصلاح فى مقدمته ص (24) : "ما قيل من أن تفسير الصحابى حديث مسند، فإنما ذلك فى تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابى، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا مدخل للرأى فيه، كقول جابر رضى الله عنه: كانت اليهود تقول: مَن أتى امرأته من دُبُرها فى قُبُلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] ... الآية، فأما سائر تفاسير الصحابة التى لا تشتمل على إضافة شئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمعدودة فى الموقوفات".
ولكنّا نجد الحاكم نفسه قد صرَّح فى "معرفة علوم الحديث" بما ذهب إليه ابن الصلاح وغيره حيث قال: ومن الموقوفات ما حدثناه أحمد بن كامل بسنده عن أبى هريرة فى قوله: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} [المدثر: 29] .. قال: تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحماً على عظم، قال: فهذا وأشباهه يُعدَ فى تفسير الصحابة من الموقوفات، فأما ما نقول: إن تفسير الصحابة مسند، فإنما نقوله فى غير هذا النوع.. " ثم أورد حديث جابر فى قصة اليهود وقال: "وفهذا وأشباهه مسند ليس بموقوف، فإن الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت فى كذا فإنه حديث مسند".
فالحاكم قيَّد فى "معرفة علوم الحديث" ما أطلق فى "المستدرك"، فاعتمد الناس ما قيَّد، وتركوا ما أطلق، وعلَّل السيوطى فى "التدريب" إطلاق الحاكم بأنه كان حريصاً على جمع الصحيح فى "المستدرك" حتى أورد فيه ما ليس من شرط المرفوع، ثم اعترض بعد ذلك على الحاكم، حيث عَدَّ الحديث المذكور عن أبى هريرة من الموقوف،(1/71)
وليس كذلك؛ لأنه يتعلق بذكر الآخرة، وهذا لا مدخل للرأى فيه، فهو من قبيل المرفوع.
وبعد هذا كله نخلص بهذه النتائج.
أولا: تفسير الصحابى له حكم المرفوع، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأى فيه مجال، أما ما يكون للرأى فيه مجال، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: ما حُكِمَ عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقاً، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.
ثالثاً: ما حُكِمَ عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار العلماء:
فذهب فريق: إلى أن الموقوف على الصحابى من التفسير لا يجب الأخذ به لأنه لَمَّا لم يرفعه، عُلِم أنه اجتهد فيه، والمجتهد يُخطئ ويُصيب، والصحابة فى اجتهادهم كسائر المجتهدين.
وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه، لظن سماعهم له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم إن فسَّروا برأيهم فرأيهم أصوب، لأنهم أدرى الناس بكتاب الله، إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحابة والتخلق بأخلاق النبوة، ولِمَا شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختُصوا بها، ولِمَا لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس وغيرهم.
قال الزركشى فى "البرهان": "اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد. والأول: إما أن يرد عن النبى صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة، أو رؤوس التابعين، فالأول يُبحث فيه عن صحة السند، والثانى يُنظر فى تفسير الصحابى، فإن فسَّره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك فى اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه".
وقال الحافظ ابن كثير فى مقدمة تفسيره: " ... وحينئذ إذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السُّنَّة، رجعنا فى ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لِمَا شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختُصوا بها، ولِمَا لهم من الفهم التامَ، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم".
وهذا الرأى الأخير هو الذى تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب لِمَا ذُكر.
* * *(1/72)
مميزات التفسير فى هذه المرحلة
يمتاز التفسير فى هذه المرحلة بالمميزات الآتية:
أولاً: لم يُفَسَّر القرآن جميعه، وإنما فُسِّر بعض منه، وهو ما غمض فهمه وهذا الغموض كان يزداد كلما بَعُد الناس عن عصر النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة، فكان التفسير يتزايد تبعاً لتزايد هذا الغموض، إلى أن تم تفسير آيات القرآن جميعها.
ثانياً: قِلَّة الاختلاف بينهم فى فهم معانيه، وسنعرض لهذا الموضوع بتوسع فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: كانوا كثيراً ما يكتفون بالمعنى الإجمالى، ولا يُلزمون أنفسهم بتفهم معانيه تفصيلاً، فيكفى أن يفهموا من مثل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 31] .. أنه تعداد لِنعمَ الله تعالى على عباده.
رابعاً: الاقتصار على توضيح المعنى اللُّغوى الذى فهموه بأخصر لفظ، مثل قولهم: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] .. أى غير متعرض لمعصية، فإن زادوا على ذلك فمما عرفوه من أسباب النزول.
خامساً: ندرة الاستنباط العلمى للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية وعوم وجود الانتصار للمذاهب الدينية بما جاء فى كتاب الله، نظراً لاتحادهم فى العقيدة، ولأن الاختلاف المذهبى لم يقم إلا بعد عصر الصحابة رضى الله عنهم.
سادساً: لم يُدَّون شيء من التفسير فى هذا العصر، لأن التدوين لم يكن إلا فى القرن الثانى. نعم أثبت بعض الصحابة بعض التفسير فى مصاحفهم فظنها بعض المتأخرين من وجوه القرآن التى نزل بها من عند الله تعالى.
سابعاً: اتخذ التفسير فى هذه المرحلة شكل الحديث، بل كان جزءاً منه وفرعاً من فروعه، ولم يتخذ التفسير له شكلاً منظماً، بل كانت هذه التفسيرات تُروى منثورة لآيات متفرقة، كما كان الشأن فى رواية الحديث، فحديث صلاة بجانب حديث جهاد، بجانب حديث ميراث، بجانب حديث فى تفسير آية ... وهكذا.
وليس المعترض أن يعترض علينا بتفسير ابن عباس، فإنه لا تصح نسبته إليه، بل جمعه الفيروزآبادى ونسبة إليه، معتمداً فى ذلك على رواية واهية، هي رواية محمد بن مروان السدى، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس وهذه هي سلسلة الكذب كما قيل.
* * *(1/73)
الباب الثانى: المرحلة الثانية للتفسير أو التفسير فى عصر التابعين(1/75)
ابتداء هذه المرحلة
تنتهى المرحلة الأولى للتفسير بانصرام عهد الصحابة، وتبدأ المرحلة الثانية للتفسير من عصر التابعين الذين تتلمذوا للصحابة فتلقوا غالب معلوماتهم عنه.
وكما اشتهر بعض أعلام الصحابة بالتفسير والرجوع إليهم فى استجلاء بعض ما خفى من كتاب الله، اشتهر أيضاً بالتفسير أعلام من التابعين، تكلَّموا فى التفسير، ووضَّحوا لمعاصريهم خفى معانيه.
* *
مصادر التفسير فى هذا العصر
وقد اعتمد هؤلاء المفسِّرون فى فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء فى الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء فى كتبهم، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر فى كتاب الله تعالى.
وقد روت لنا كتب التفسير كثيراً من أقوال هؤلاء التابعين فى التفسير، قالوها بطريق الرأى والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شئ فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة.
وقد قلنا فيما سبق: إن ما نُقِل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة من التفسير لم يتناول جميع آيات القرآن، وإنما فسَّروا ما غمض فهمه على معاصريهم، ثم تزايد هذا الغموض - على تدرج - كلما بَعُد الناس عن عصر النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا فى التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء مَن بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعاً، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم فى القول، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التى حدثت فى عصر نزول القرآن ... وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث.
* *
مدارس التفسير التى قامت فيه
* مدارس التفسير فى عصر التابعين:
فتح الله على المسلمين كثيراً من بلاد العالَم فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعاً فى بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامى ثم استقر بهم النوى، موزَّعين على جميع البلاد التى دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلِّمون، ومنهم غير ذلك.(1/76)
وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التى رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت فى هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون.
واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث، هى أشهر مدارس التفسير فى الأمصار فى هذا العهد.
قال ابن تيمية: "وأما التفسير فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزَّوا به عن غيرهم، وعلماء أهل المدينة فى التفسير، مثل زيد بن أسلم، الذى أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب".
وأرى أن أتكلم عن كل مدرسة من هذه المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسِّرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: مدرسة التفسير بمكة
* قيامها على ابن عباس:
قامت مدرسة التفسير بمكة على عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، فكان يجلس لأصحابه من التابعين، يُفسِّر لهم كتاب الله تعالى، ويوضح لهم ما أشكل من معانيه، وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه منه.
* *
* أشهر رجالها:
وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاووس بن كيسان اليمانى، وعطاء بن أبى رباح.
وهؤلاء كلهم كانوا من الموالى، وهم يختلفون فى الرواية عن ابن عباس قِلَّة وكثرة، كما اختلف العلاء فى مقدار الثقة بهم والركون إليهم.
ونسوق الحديث عن كل واحد منهم، ليتضح لنا مكانته فى التفسير، ومقدار الاعتماد عليه فيه:(1/77)
1- سعيد بن جبير
* ترجمته:
هو أبو محمد - أو أبو عبد الله - سعيد بن جبير بن هشام الأسدى الوالبى، مولاهم. كان حبشى الأصل، أسود اللون، أبيض الخصال. سمع جماعة من أئمة الصحابة. وروى عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما.
* مكانته فى التفسير:
كان رحمه الله من كبار التابعين ومتقدميهم فى التفسير والحديث والفقه، أخذ القراءة عن ابن عباس عرضاً، وسمع منه التفسير، وأكثر روايته عنه وقد جمع سعيد القراءات الثابتة عن الصحابة وكان يقرأ بها، يدلنا على ذلك ما جاء عن إسماعيل بن عبد الملك أنه قال: "كان سعيد بن جبير يؤمنا فى شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبداً"، ولا شك أن جمعه لهذه القراءات كان يعطيه القدرة على التوسع فى معرفة معانى القرآن وأسراره، ولكن يظهر لنا أنه كان يتورع من القول فى التفسير برأيه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن خلكان: من أن رجلاً سأل سعيداً أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال: لأن يسقط شقِّى أحب إلىَّ من ذلك. ولقد جمع سعيد علم أصحابه من التابعين، وأَلمَّ بما عندهم من النواحى التى برزوا فيها، فقد قال خصيف: "كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب. وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوووس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير".
لهذا كله نجد أستاذه ابن عباس يثق بعلمه، ويحيل عليه مَن يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شئ: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ - يعنى سعيد بن جبير - ويروى عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. ويرى بعض العلماء أنه مُقدَّم على مجاهد وطاووس فى العلم، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين بالتفسير.
هذا وقد وَثَّقَ علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير، فقال أبو القاسم الطبرى: هو ثقة، حُجَّة، إمام على المسلمين. وذكره ابن حبان فى الثقات وقال: كان عبداً فاضلاً ورعاً. وهو مُجْمَع عليه من أصحاب الكتب الستة.
وقد قُتل فى شعبان سنة 95 هـ (خمس وتسعين من الهجرة) ، وهو ابن تسع(1/78)
وأربعين سنة، قال أبو الشيخ: قتله الحجاج صبراً. وله مناظرة قبل قتله مع الحجاج، تدل على قوة يقينه، وثبات إيمانه، وثقته بالله، فرضى الله عنه وأرضاه.
* * *
2- مجاهد بن جبر
* ترجمته:
هو مجاهد بن جبر، المكى، المقرئ، المفسِّر، أبو الحجاج المخزومى، مولى السائب بن أبى السائب. كان أحد الأعلام الأثبات. ولد سنة 21 هـ (إحدى وعشرين من الهجرة) فى خلافة عمر بن الخطاب. وكانت وفاته بمكة وهو ساجد، سنة 104 هـ (أربع ومائة) على الأشهر، وعمره ثلاث وثمانون سنة.
* *
* مكانته فى التفسير:
كان مجاهد - رحمه الله - أقل أصحاب ابن عباس رواية عنه فى التفسير، وكان أوثقهم، لهذا اعتمد على تفسيره الشافعى والبخارى وغيرهما، ونجد البخارى رضى الله عنه فى كتاب التفسير من الجامع الصحيح، ينقل لنا كثيراً من التفسير عن مجاهد، وهذه أكبر شهادة من البخارى على ثقته وعدالته، واعتراف منه بمبلغ فهمه لكتاب الله تعالى، وقد روى الفضل ابن ميمون أنه سمع مجاهداً يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وروى عنه أيضاً أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أساله فيم نزلت، وكيف كانت؟ ولا تعارض بين هاتين الروايتين، لأن الإخبار بالقليل لا ينافى الإخبار بالكثير، ولعله عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة لتمام الضبط، ودقة التجويد، وحُسْن الأداء، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات طلباً لتفسيره، ومعرفة ما دق من أسراره، وخفى من معانيه. كما تُشعر بذلك ألفاظ الرواية. وعن ابن أبى مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله. وروى عبد السلام بن حرب عن مصعب قال: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد، وبالحج عطاء. وقال قتادة: أعلم مَن بقى بالتفسير مجاهد. وقال ابن سعد: كان ثقة، فقيهاً، عالماً، كثير الحديث. وقال ابن حبان: كان فقيهاً، ورعاً، عابداً، متقناً. وأخرج ابن جرير فى تفسيره عن أبى بكر الحنفى قال: سمعت سفيان الثورى يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وكان رحمه الله جيد الحفظ، وقد حدَّث بهذا عن نفسه(1/79)
فقال: قال لى ابن عمر: وددتُ أن نافعاً يحفظ حفظك. وقال الذهبى فى الميزان، فى آخر ترجمة مجاهد: أجمعت الأُمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به. وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة.
كل هذه شهادات من العلماء النُقَّاد تشهد بعلو مكانته فى التفسير.
ولكن مع هذا كله، كان بعض العلماء لا يأخذ بتفسيره، فقد روى الذهبى فى ميزانه: أن أبا بكر بن عياش قال: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يَتَّقون تفسير مجاهد؟ - كما هى رواية ابن سعد - قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
هذا هو كل ما أُخِذ على تفسيره ولكن لم نر أحداً طعن عليه فى صدقه وعدالته. وجملة القوَل فإن مجاهداً ثقة بلا مدافعة، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه تخطى حدود ما يجوز له من ذلك، لا سيما وهو تلميذ حَبْر الأُمة ابن عباس. الذى شدَد النكير على مَن يأخذ عن أهل الكتاب ويُصَدِّقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهى الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* *
* مجاهد والتفسير العقلى:
وكان مجاهد - رضى الله عنه - يعطى عقله حرية واسعة فى فهم بعض نصوص القرآن التى يبدو ظاهرها بعيداً، فإذا ما مَرَّ بنص قرآنى من هذا القبيل، وجدناه ينزله بكل صراحة ووضوح على التشبيه والتمثيل، وتلك الخطة كانت فيما بعد مبدءاً معترفاً به ومقرراً لدى المعتزلة فى تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص.
وإذا نحن رجعنا إلى تفسير ابن جرير وقرأنا بعض ما جاء فيه عن مجاهد نجده يطبق هذا المبدأ عملياً فى مواضع كثيرة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [65] من سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} نجده يقولَ - كما يروى عنه ابن جرير -: "مُسِخَت قلوبهم ولم يُمسَخوا قردة، وإنما هو مَثَلٌ ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً". ولكن نجد ابن جرير لا يرتضى هذا التفسير من مجاهد فيقول معقباً عليه: وهذا القول الذى قاله مجاهد قول لظاهر ما دلَّ عليه كتاب الله مخالف.. ثم يمضى فى تفنيد هذا القول بأدلة واضحة قوية.
وكذلك نجد ابن جرير ينقل عن مجاهد أنه فسَّر قوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. بقوله: "تنتظر الثواب(1/80)
من ربها، لا يراه من خلَقه شئ" وهذا التفسير عن مجاهد كان فيما بعد متكئاً قوياً للمعتزلة فيما ذهبوا إليه فى مسألة رؤية الله تعالى.
ولعل مثل هذا المسلك من مجاهد، هو الذى جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول فى القرآن برأيهم يتقون تفسيره، ويلومونه على قوله فى القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة فى الرأى، فقد روى عن ابن مجاهد أنه قال: قال رجل لأبى: أنت الذى تفسِّر القرآن برأيك؟ فبكى أبى ثم قال: إنى إذن لجرئ، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم.
ومهما يكن من شئ، فمجاهد رضى الله عنه إمام فى التفسير غير مدافع، وليس فى إعطائه لنفسه مثل هذه الحرية ما يغض من قيمته. أو يقلل من مكانته.
* * *
3- عِكرمة
*ترجمته:
هو أبو عبد الله عِكرمة البربرى المدنى مولى ابن عباس (أصله من البربر بالمغرب) روى عن مولاه، وعلىّ بن أبى طالب، وأبى هريرة، وغيرهم.
* *
* اختلاف العلماء فى توثيقه:
وقد اختلف العلماء فى توثيقه، فكان منهم مَن لا يثق به ولا يروى له، وكان منهم من يُوثَقِّه ويروى له.
* *
*مطاعن مَن لا يُوَثِّقونه:
وإنَّا لنجد العلماء الذين لم يثقوا بعكرمة، يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون: إنه كان يَدَّعى معرفة كل شئ من القرآن، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن عباس، وبعده هذا كله، يتهمونه بأنه كان يرى رأى الخوارج، ويزعم أن مولاه كان كذلك، وقد نقل ابن حجر فى "تهذيب التهذيب" كل هذه التهم ونسبها لقائليها، فمن ذلك: ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألنى عن القرآن، وسل مَن يزعم أنه لا يخفى عليه منه شئ - يعنى عِكرمة. وحكى إبراهيم بن ميسرة أن طاووساً قال: لو أن مولى ابن عباس اتقى الله وكف من حديثه لشُدَّت إليه المطايا، وروى أبو خلف الجزار عن يحيى البكَّاء قال: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق الله.. ويحك يا نافع، ولا تكذب علىّ كما كذب(1/81)
عِكرمة على ابن عباس. ورُوى أن سعيد بن المسيب قال مثل ذلك لمولاه، وروى ابن سعد: أن علىّ بن عبد الله كان يُوِثْقُه على باب الكنيف ويقول: إن هذا يكذب على أبى.
ثم بعد ذلك كله يُصوِّرون للناس مبلغ كراهة معاصريه له فيقولون: إنه مات هو وكثير عزة فى يوم واحد، فلم يشهد جنازته أحد، أما كثير فقد شيَّعه خلق كثير..
* *
* تفنيد هذه المطاعن ودفاع عِكرمة عن نفسه:
هذا الذى تقدَّم هو بعض الروايات التى رواها مَن لا يثق بعدالة عِكرمة، وكلها تهم باطلة لا تقوم على أساس، فعِكرمة مولى ابن عباس، كان يلازمه ويخالطه، فلا يضيره كثرة الرواية عنه لأن هذا أمر طبيعى، ولا يمكن أن يُعَد افتراءً على العلم وافتياتاً على الرواية، لأن كثرة الرواية ليست من المطاعن التى تُوجَّه إلى الراوى وتُذْهِب بعدالته، فهذا أبو هريرة قال الناس عنه فى عصره، أكثرَ أبو هريرة، فبيَّن لهم سبب إكثاره من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يلازم النبى على ملء بطنه، ولا شئ يشغله كما شغل غيره من الصحابة بالصفق فى الأسواق، فهل ذهبت عدالة أبى هريرة وفقدنا الثقة به لكثرة روايته؟ اللَّهم لا.
ثم إن هذا الاتهام لم يخف على عِكرمة، بل كان يبلغه عن متهميه فيود لو أنه ووُجِهَ به ليُفَنِّده، فقد روى حَماد بن زيد عن أيوب أنه قال: قال عِكرمة: رأيت هؤلاء الذين يكذبوننى، يكذبوننى من خلفى، أفلا يُكذبوننى فى وجهى؟ فإذا كذبَّونى فى وجهى فقد والله كَذَّبونى.. ثم نراه يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروى عن مولاه، فعن عثمان بن حكيم قال: كنت جالساً مع أبى أُمامة سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة فقال: يا أبا أمامة، أُذكِّركَ الله، هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدَّثكم عكرمة عنى فصدِّقوه فإنه لم يكذب علىَّ؟ فقال أبو أمامة: نعم.
هذا هو رد عِكرمة على متهميه بالكذب وتفنيده لما نُسب إليه من الافتراء على مولاه.
وأما ما رواه ابن سعد: من أن علىّ بن عبد الله بن عباس كان يُوْثِقه على باب الكنيف ويقول: إن هذا يكذب على أبى، فإنه مردود بما رواه ابن حجر فى تهذيب التهذيب: من أن ابن عباس مات وعِكرمة على الرق، فباعه ولده علىّ بن عبد الله بن عباس، من خالد بن يزيد بن معاوية، بأربعة آلاف دينار، فأتى عِكرمة مولاه علياً فقال له: ما خير لك، بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف؟ فاستقاله فأقاله فأعتقه".
ثم نجد بعد هذا أن ما روى عن ابن عمر لا يصح، لأنه من رواية يحيى البكَّاء، ويحيى البكَّاء متروك الحديث، ومن المحال أن يُجرَّح العَدْل بكلام المجروح.(1/82)
وأما ما قيل من أنه توفى هو وكثير الشاعر فى يوم واحد فلم يشهد أحد جنازته، بخلاف كثير فقد شيَّعه الكثير من الناس، فلسنا نعلم نصيب هذا القول من الصحة، ولعل ذلك على فرض صحته - كما يقول ابن حجر - كان بسبب تطلب الأمير له وتغيبه عنه حتى مات. وليس صحيحاً ما قيل من أن هذا يرجع إلى تحقير المولى إزاء تشريف الحر.
ويحقق ابن حجر بعد هذا: أن ما نُقل من أنهم شهدوا جنازة كثير وتركوا عكرمة، لم يثبت، لأن ناقله لم يُسَم.
وأما ما رُمى به من الميل للخوراج، فافتراء عليه، ولا يكاد يتفق مع سلوكه فى حياته، قال ابن حجر: "فأما البدعة، فإن ثبتت عليه فلا تضر حديثه، لأنه لم يكن داعية، مع أنها لم تثبت عليه".
* *
* شهادات الموَثِّقين له:
ولو أننا تتبعنا أقوال المنصفين، الذين عرفوا حقيقة هذا التابعى الجليل، لوجدناه رجلاً ثبتاً، لا يُتهم فى عدالته، وكل ما قيل فى شأنه من التهم لا يُراد به إلا أن يفقد الناس ثقتهم به وركونهم إليه. وإليك ما قاله بعض علماء الجرح والتعديل لتقف على عدالة الرجل وصدق روايته..
قال المرزوى: قلت لأحمد: يُحتج بحديث عِكرمة؟ فقال. نعم يُحتج به. وقال ابن معين: إذا رأيت إنساناً فى عِكرمة، وفى حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام. وقال العجلى فيه: مكى تابعى ثقة، برئ مما يرميه به الناس من الحرورية. وقال البخارى: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكِرمة. وقد وَثَّقه النسائى وأخرج له فى كتابه السنن، كما أخرج له البخارى، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم، وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأياً فيه، ثم عدله بعد ما جَرَّحه. وقال المروزى: أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عِكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل الحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى ابن معين، وأبو ثور، ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عِكرمة عندنا إمام الدنيا - تَعَجَّبَ من سؤالى إياه!
وبعد ... فهل هناك من يُقَدَّم على البخارى ومسلم وجميع مَن ذكرت من علماء الرواية فى باب التعديل والتجريح؟، وإذا كان هؤلاء هم أعلم الناس بالرجال، فهل تقبل تجريح من عداهم ونترك توثيقهم؟(1/83)
الحق أن عِكرمة تابعى موثوق بعدالته ودينه، وكل ما رُمِىَ به كذب واختلاق!!
* *
* مبلغه من العلم ومكانته فى التفسير:
هذا وإن عِكرمة رضى الله عنه، كان على مبلغ عظيم من العلم، وعلى مكانة عالية من التفسير خاصة، وقد شهد له العلماء بذلك، فقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن. وقال: عمرو بن دينار: دفع إلىّ جابر ابن زيد مسائل أسأل عنها عِكرمة وجعل يقول: هذا عِكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وكان الشعبى يقول: ما بقى أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال حبيب بن أبى ثابت: اجتمع عندى خمسة: طاووس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعِكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عِكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسَّرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أُنزلت آية كذا فى كذا، وأُنزلت آية كذا فى كذا. وقال يحيى بن أيوب المصرى: سألنى ابن جريج: هل كتبتم عن عِكرمة؟ فقلت: لا، قال: فاتكم ثلثا العلم.
هذا بعض ما قيل فى عكرمة، مما يشهد لمكانته فى العلم عامة، وفى التفسير خاصة، ولا عجب، فإن ملازمته لمولاه ابن عباس، ومبالغه مولاه فى تعليمه إلى درجة أنه ان يضع فى رجله الكبل، ويعلمه القرآن والسنن، جعلته ينهل من معينه الفيَّاض، ويأخذ عنه علمه الغزير، بل نجد أكثر من هذا فيما يرويه ابن حجر فى تهذيب التهذيب، من أن عكرمة بيَّن لابن عباس بعض ما أشكل عليه من القرآن، قال: روى داود بن أبى هند عن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف: 164] ..، قال ابن عباس: لم أدر أنجا القوم أم هلكوا؟ قال: فمَا زلت أُبيِّن له حتى عرف أنهم نجوا فكسانى حُلَّة"، وهذا الخبر يدل على مبلغ ثقة ابن عباس بمولاه وتلميذه، وعلى مقدار إعجابه بعلمه، وتقديره لفهمه.
وجملة القول: فإن عكرمة أمين فى روايته، مُقدَّم فى علمه، مبرز فى فهمه لكتاب الله ... وكيف لا يكون كذلك وهو وارث علم ابن عباس؟
توفى رحمه الله سنة 104 هـ (أربع ومائة من الهجرة) ، فرضى الله عنه وأرضاه.
* * *(1/84)
4- طاووس بن كيسان اليمانى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان، اليمانى الحميرى الجندى مولى بحير بن ريسان، وقيل مولى همدان. وروى عن العبادلة الأربعة وغيرهم، ورُوِى عنه أنه قال: جالست خمسين من الصحابة. وكان رحمه الله عالماً متقناً، خبيراً بمعانى كتاب الله تعالى، ويرجع ذلك إلى مجالسته لكثير من الصحابة يأخذ عنهم ويروى لهم، ولكن نجده يجلس إلى ابن عباس أكثر من جلوسه لغيره من الصحابة، ويأخذ عنه فى التفسير أكثر مما يأخذ عن غيره منهم، ولهذا عددناه من تلاميذ ابن عباس، وذكرناه فى رجال مدرسته بمكة.
ولقد كان طاووس على جانب عظيم من الورع والأمانة، حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عباس فقال فيه: إنى لأظن طاووساً من أهل الجنة، وقال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً مثل طاووس. وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة. وقال ابن معين: إنه ثقة. وقال ابن حيان: كان من عُبَّاد أهل اليمن ومن سادات التابعين، وكان مستجاب الدعوة، وحج أربعين حجة. وقال الذهبى: كان طاووس شيخ أهل اليمن، وكان كثير الحج فاتفق موته بمكة سنة 106 (ست ومائة من الهجرة) .
* * *
5- عطاء بن أبى رباح
* ترجمته:
هو أبو محمد عطاء بن أبى رباح، المكى القرشى مولاهم، ولد سنة سبع وعشرين (27هـ) ، وتوفى سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة (114هـ) على أرجح الأقوال. كان - رحمه الله - أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمى بعد ذلك.
روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وغيرهم. وحدًَّث عن نفسه: أنه أدرك مائتين من الصحابة، وكان ثقة، فقيها، عالماً، كثير الحديث. وانتهت إليه فتوى أهل مكة، وكان ابن عباس يقول لأهل مكة إذا جلسوا إليه: تجتمعون إلىَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟. وقال فيه أبو حنيفة: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفى. وقال الأوزاعى: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. وقال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحداً يريد بهذا العلم وجه الله إلا ثلاثة: عطاء، ومجاهد، وطاووس. وقال ابن حبان: كان من سادات التابعين فقهاً، وعلماً، وورعاً، وفضلاً. وهو عند أصحاب الكتب الستة.
* *
*(1/85)
مكانته فى التفسير:
كل ما تقدم من أقوال العلماء فى عطاء يشهد لمكانته العلمية على وجه العموم ويدل على مبلغ ثقته وصدقه، وليس أدل على ذلك من شهادة أستاذه ابن عباس له بذلك، ونجد شهرة عطاء على غيره من أصحاب ابن عباس، تتجلى فى معرفته بمناسك الحج، ولهذا قال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير. وكان عكرِمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام. وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عباس نجد أن عطاء بن أبى رباح لم يُكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره، ونجد مجاهداً وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب الله، ولكن هذا لا يقلل من قيمته بين علماء التفسير، ولعل إقلاله فى التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأى، فقد قال عبد العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدرى، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إنى أستحى من الله يُدَانَ فى الأرض برأيى.
* * *
ثانياً: مدرسة التفسير بالمدينة
*قيامها على أُبَىّ بن كعب:
كان بالمدينة كثير من الصحابة، أقاموا بها ولم يتحوَّلوا عنها كما تحوَّل كثير منهم إلى غيرها من بلاد المسلمين، فجلسوا لأتباعهم يعلمونهم كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقامت بالمدينة مدرسة للتفسير، تتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسِّرين من الصحابة. ونستطيع أن نقول: إن قيام هذه المدرسة كان على أُبَى بن كعب، الذي يُعتبر بحق أشهر مَن تتلمذ له مفسِّرو التابعين بالمدينة، وذلك لشهرته أكثر من غيره فى التفسير، وكثرة ما نُقل لنا عنه فى ذلك.
* *
* أشهر رجالها:
وقد وُجِد بالمدينة فى هذا الوقت كثير من التابعين المعروفين بالتفسير، اشتهر من بينهم ثلاثة، هم: زيد بن أسلم، وأبو العالية، ومحمد بن كعب القرظى. وهؤلاء منهم مَن أخذ عن أُبَىّ مباشرة، ومنهم مَن أخذ عنه بالواسطة.
وأرى أن أسوق نبذة عن تاريخ كل واحد من هؤلاء الثلاثة، بما يتناسب مع جانبه العلمى فى التفسير فأقول:
1- أبو العالية
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحى مولاهم، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين. روى عن علىّ، وابن مسعود، وابن عباس. وابن عمر، وأُبَىّ(1/86)
بن كعب، وغيرهم، وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير. قال فيه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وقال اللالكائى: مجمع على ثقته. وقال فيه العجلى: تابعى ثقة. من كبار التابعين. وقد أجمع عليه أصحاب الكتب الستة. وكان يحفظ القرآن ويتقنه، وروى قتادة عنه أنه قال: قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنين. وروى معمر عن هشام عن حفصة عنه أنه قال: قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرات. وقال فيه ابن أبى داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبى العالية.
وتُروى عن أُبَىّ بن كعب نسخة كبيرة فى التفسير، يرويها أبو جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أُبَىّ. وقلنا فيما تقدم: إن هذا الإسناد صحيح، وقلنا أيضاً: إن ابن جرير وابن أبى حاتم أخرجا من هذه النسخة كثيراً، كما أخرج منها الحاكم فى مستدركه، والإمام أحمد فى مسنده. وكانت وفاته سنة 90 هـ (تسعين من الهجرة) على أرجح الأقوال فى ذلك.
* * *
2- محمد بن كعب القرظى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو حمزة - أو أبو عبد الله - محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظى المدنى، من حلفاء الأوس. روى عن علىّ، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم. وروى عن أُبَىّ بن كعب بالواسطة. وقد اشتهر بالثقة، والعدالة، والورع، وكثرة الحديث، وتأويل القرآن. قال ابن سعد: كان ثقة، عالماً، كثير الحديث، ورعاً. وقال العجلى: مدنى وتابعى، ثقة، رجل صالح. عالم بالقرآن. وهو عند أصحاب الكتب الستة. وقال ابن عون: ما رأيت أحداً أعلم بتأويل القرآن من القرظى. وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علماً وفقهاً، وكان يقص فى المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف فمات هو وجماعة معه تحت الهدم، سنة 118 هـ (ثمانى عشرة ومائة من الهجرة) ، وقيل غير ذلك، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
* * *
3- زيد بن أسلم
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو أسامة - أو أبو عبد الله - زيد بن أسلم، العدوى المدنى الفقيه المفسِّر، مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. كان من كبار التابعين الذين عُرفوا بالقول فى التفسير والثقة فيما يروونه، قال فيه الإمام أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائى: ثقة.(1/87)
ويكفينا شهادة هؤلاء الأربعة الأعلام دليلاً قوياً على ثقته وعدالته، كما أنه عند أصحاب الكتب الستة.
ولقد كان زيد بن أسلم معروفاً بين معاصريه بغزارة العلم، فكان منهم مَن يجلس إليه، ويأخذ عنه، ويرى أنه ينفعه أكثر من غيره، يدلنا على هذا ما رواه البخارى فى تاريخه أن علىّ بن الحسين كان يجلس إلى زيد بن أسلم ويتخطى مجلس قومه، فقال له نافع بن جبير بن مطعم: تتخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب؟ فقال علىّ: إنما يجلس الرجل إلى مَن ينفعه فى دينه.
وقد عُرف زيد بأنه كان يُفسِّر القرآن برأيه ولا يتحرج من ذلك، فقد روى حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر أنه قال فيه: لا أعلم به بأساً، إلا أنه يُفسِّر برأيه القرآن ويُكثر منه، وهذه شهادة من عبيد الله بن عمر أن زيداً ثقة لا يؤخذ عليه شئ إلا أنه كان يُكثر من القول بالرأى، وهذا لا يُعَد مغمزاً من عبيد الله فى ثقته وعدالته، كما لا نستطيع أن نُعِد هذا طعناً منه فى علمه، فلعل عبيد الله كان ممن يتورعون عن القول فى القرآن برأيهم كغيره من الصحابة والتابعين، وكان زيد يرى جواز تفسير القرآن بالرأى فلا يتحرج منه كما لا يتحرج من ذلك كثير من الصحابة والتابعين، ولا نجد فى العلماء مَن نسب زيد بن أسلم إلى مذهب من المذاهب المبتدعة حتى نقول إنه كان يُفسِّر القرآن برأيه مطابقاً لمذهبه البدعى، ولو كان شئ من ذلك لما سكت عبيد الله عن بيانه، ولما حكم عليه حكمه هذا، الذى يدل على ثقته وعدالته، وإن دَلَّ على اختلافهما فى جواز التفسير بالرأى.
وأشهر مَن أخذ التفسير عن زيد بن أسلم من علماء المدينة: ابنه عبد الرحمن بن زيد، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة.
وكانت وفاته سنة 136 هـ (ست وثلاثين ومائة من الهجرة) وقيل غير ذلك.
ثالثاً: مدرسة التفسير بالعراق
* قيامها على ابن مسعود:
قامت مدرسة التفسير بالعراق على عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، وكان هناك غيره من الصحابة أخذ عنهم أهل العراق التفسير، غير أن عبد الله ابن مسعود كان يعتبر الأستاذ الأول لهذه المدرسة، نظراً لشهرته فى التفسير وكثرة المروى عنه فى ذلك، ولأن عمر رضى الله عنه لما وَلَّى عمار بن ياسر على الكوفة، سيَّر معه عبد الله بن مسعود مُعلِّماً ووزيراً، فكونه مُعلِّم أهل الكوفة بأمر أمير المؤمنين عمر، جعل الكوفيين يجلسون إليه، ويأخذون عنه أكثر مما يأخذون عن غيره من الصحابة.(1/88)
ويمتاز أهل العراق بأنهم أهل الرأى. وهذه ظاهرة نجدها بكثرة فى مسائل الخلاف، ويقول العلماء: إن ابن مسعود هو الذى وضع الأساس لهذه الطريقة فى الاستدلال، ثم توارثها عنه علماء العراق، ومن الطبيعى أن تؤثر هذه الطريقة فى مدرسة التفسير، فيكثر تفسير بالرأى والاجتهاد، لأن استنباط مسائل الخلاف الشرعية، نتيجة من نتائج إعمال الرأى فى فهم نصوص القرآن والسُّنَّة.
* *
* أشهر رجالها:
وقد عُرِف بالتفسير من أهل العراق كثير من التابعين، اشتهر من بينهم علقمة بن قيس، ومسروق، والأسود بن يزيد، ومُرَّة الهمدانى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة بن دعامة السدوسى، ونتكلم عن كل واحد من هؤلاء على الترتيب:
1- علقمة بن قيس
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو علقمة بن قيس، بن عبد الله، بن مالك، النخعى الكوفى، ولد فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر، وعثمان، وعلىّ، وابن مسعود، وغيرهم. وهو من أشهر رواة عبد الله بن مسعود، وأعرفهم به، وأعلمهم بعلمه. قال عثمان بن سعيد: قلت لابن معين: علقمة أحب إليك أم عبيدة؟ فلم يخير، قال عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله. وقال أبو المثنى: إذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سَمْناً وهَدْياً. وقال داود بن أبى هند: قلت لشعبة: أخبرنى عن أصحاب عبد الله، قال: كان علقمة أنظر القوم به. وروى عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ما أقرأ شيئاً ولا أعلمه إلا علقمة يقرؤه ويعلمه. وقال إبراهيم النخعى: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلمونهم السُّنَّة ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة، والأسود ... وذكر الباقين. وكان رحمه الله ثقة مأموناً، على جانب عظيم من الورع والصلاح. قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل الخير. وهو عند أصحاب الكتب الستة. وقال مرة الهمدانى: كان علقمة من الربانيين، قال أبو نعيم: مات سنة 61 هـ (إحدى وستين، أو اثنتين وستين من الهجرة) ، وعمره تسعون سنة.
* * *
2- مسروق
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك بن أُمية الهمدانى الكوفى العابد. سأله عمر يوماً عن اسمه فقال له: اسمى مسروق بن الأجدع، فقال عمر: الأجدع شيطان،(1/89)
أنت مسروق بن عبد الرحمن، روى عن الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وأُبَىّ بن كعب، وغيرهم، وكان أعلم أصحاب ابن مسعود، يمتاز بورعه وعلمه وعدالته، وكان شريح القاضى يستشيره فى معضلات المسائل. وقال مالك بن مغول: سمعت أبا السفر غير مرة قال: ما ولدت همدانية مثل مسروق. وقال الشعبى: ما رأيت أطلب للعلم منه. وقال علىّ بن المدينى: ما أقَّدِمُ على مسروق من أصحاب عبد الله أحداً. وهذه الشهادة من ابن المدينى، يبدوَ أنها قائمة على ما امتاز به مسروق من غزارة العلم الذى استفاده من جلوسه لكثير من الصحابة ولابن مسعود على الأخص، الأمر الذى جعله يجمع بين علم هؤلاء جميعاً، ولقد حدَّث مسروق - رضى الله عنه - أنه جالس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدهم كالإخاذ، فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم.
ثم إن هذا التتلمذ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولابن مسعود الذى اشتهر بتفسير القرآن، جعل من مسروق إماماً فى التفسير، وعالماً خبيراً بمعانى كتاب الله تعالى. وقد حدَّث مسروق بما يدل على أنه استفاد الكثير من التفسير عن أستاذه ابن مسعود فقال: كان عبد الله - يعنى ابن مسعود - يقرأ علينا السورة ثم يُحدِّثنا فيها ويُفسِّرها عامة النهار.
أما ثقته وعدالته، فأمر اعترف به علماء الجرح والتعديل، فقال ابن معين: ثقة، لا يُسئل عن مثله. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وذكره ابن حبان فى الثقات، وقد أخرج له الستة. هذا وقد روى شعبة عن أبى إسحاق أنه قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً. وكانت وفاته سنة 63 هـ (ثلاث وستين من الهجرة) على الأشهر.
* * *
3- الأسود بن يزيد
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو عبد الرحمن، الأسود بن يزيد بن قيس، النخعى، كان من كبار التابعين، ومن رواة عبد الله بن مسعود. روى عن أبى بكر، وعمر، وعلىّ، وحذيفة، وبلال، وغيرهم. وكان رحمه الله ثقة، صالحاً، على جانب عظيم من الفهم لكتاب الله تعالى. قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال فيه يحيى بن معين: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة وله أحاديث صالحة. وهو عند أصحاب الكتب الستة، وقال الحكم: كان الأسود يصوم الدهر، وذهبت إحدى عينيه من الصوم. وذكره إبراهيم النخعى فيمن(1/90)
كان يُفتى من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حبان فى الثقات: كان فقيهاً زاهداً. توفى بالكوفى سنة 74 هـ (أربع وسبعين، أو خمس وسبعين من الهجرة) على الخلاف فى ذلك.
* * *
4- مُرَّة الهمدانى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو إسماعيل، مُرَّة بن شراحيل الهمدانى، الكوفى، العابد المعروف بمُرَّة الطيب، ومُرَّة الخير. لُقَّبَ بذلك لعبادته، وشدة ورعه، وكثرة صلاحه. روى عن أبى بكر، وعمر، وعلىّ، وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه الشعبى، وغيره من أصحابه. وثَقَّهُ ابن معين، والعجلى. وهو عند أصحاب الكتب الستة. قال فيه الحارث الغنوى: سجد مرة الهمدانى حتى أكل التراب وجهه، وكان يصلى كل يوم ستمائة ركعة، وتوفى سنة 76 هـ (ست وسبعين من الهجرة) .
* * *
5- عامرالشعبى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو عمرو، عامر بن شراحيل الشعبى، الحميرى، الكوفى، التابعى الجليل، قاضى الكوفة. روى عن عمر، وعلىّ، وابن مسعود، ولم يسمع منهم. وروى عن أبى هريرة، وعائشة، وابن عباس، وأبى موسى الأشعرى، وغيرهم. قال الشعبى: أدركت خمسمائة من الصحابة. وقال العجلى: سمع من ثمانية وأربعين من الصحابة.
وقال عبد الملك بن عمير: مر ابن عمر على الشعبى وهو يُحَدِّثْ بالمغازى فقال: لقد شهدت القوم، فلهو أحفظ وأعلم بها. وقال مكحول: ما رأيت أفقه منه. وقال ابن عيينة: كان الناس تقول بعد الصحابة: ابن عباس فى زمانه، والشعبى فى زمانه، والثورى فى زمانه. وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبى يقول: ما كتبتُ سوداء فى بيضاء، ولا حدَّثنى رجل بحديث إلا حفظته، ولا حدَّثنى رجل بحديث فأحببت أن يعيده علىّ. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وغير واحد: الشعبى ثقة. وقال ابن حبان فى الثقات: كان فقيهاً شاعراً. وهو عند أصحاب الكتب الستة. وقال أبو جعفر الطبرى فى طبقات الفقهاء: كان ذا أدب وفقه وعلم. وحكى ابن أبى خيثمة فى تاريخه عن أبى حصين قال: ما رأيت أعلم من الشعبى، فقال أبو بكر بن عياش: ولا شريح؟ فقال: تريدنى أكذب؟ ما رأيت أعلم من الشعبى. وقال أبو إسحاق الحبال: كان واحد زمانه(1/91)
فى فنون العلم. وعن سليمان بن أبى مجلز قال: ما رأيت أحداً أفقه من الشعبى، لا سعيد بن المسيب، ولا طاووس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا ابن سيرين. وعن أبى بكر الهذلى قال: قال لى ابن سيرين: الزم الشعبى، فلقد رأيته يُستفتَى والصحابة متوافرون. وقال ابن سيرين: قدمت الكوفة وللشعبى حلقة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير. وقال عاصم: ما رأيت أحداً أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة والحجاز من الشعبى.
كل هذه الشهادات من العلماء، تدل على مبلغ علم الشعبى وعظيم حظه منه على اختلاف فنونه، فمن حديث، إلى تفسير، إلى فقه، إلى شعر، إلى قوة حفظ، وكثرة أخذ عن الصحابة وعلماء الأمصار المختلفة. وإذا كان الشعبى يُفتِى مع وجود الصحابة ووفرتهم، ويجلس له كثير من أهل العلم يأخذون عنه، فتلك لعمرى أكبر دلالة على عظيم مكانته العلمية، وعلو منزلته بين أتباعه ومعاصريه.
وإذا كان الشعبى قد رُزِق حظاً وافراً من العلم، ونال إعجاب معاصريه، فإنه مع ذلك لم يكن جريئاً على كتاب الله حتى يقول فيه برأيه، بل كان يتحرج من ذلك، ويتوقف عن إجابة سائليه إذا لم يكن عنده شئ عن السَلَف، فقد قال ابن عطية: "كان جُلَّة من السلَفَ، كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، يعظمون تفسير القرآن. ويتوقفون عنه. تورعاً واحتياطاً لأنفسهم، مع إدراكهم وتقدمهم".
وأخرج الطبرى عن الشعبى أنه قال: "واللهِ ما من آية إلا سألت عنها ولكنها الرواية عن الله".
وأخرج عنه أيضاً أنه قال: "ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأى" ومع هذا التوقف فإنَّا نرى الشعبى رجلاً نقَّاداًَ لرجال التفسير فى عصره. وكثيراً ما كان يُصرِّح بالطعن على مَن لا يعجبه مسلكه فى التفسير من معاصريه فقد ذكر أبو حيان: "أن الشعبى كان لا يعجبه تفسير السدى، ويطعن عليه وعلى أبى صالح، لأنه كان يراهما مقصرين فى النظر".
وروى ابن جرير: أن الشعبى كان يمر بأبى صالح باذان فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول: تُفسِّر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن. وروى ابن جرير أيضاً عن صالح بن مسلم قال: مَرَّ الشعبى على السدى وهو يفسِّر فقال: لأن يُضرب على إستك بالطبل خير لك من مجلسك هذا.(1/92)
هذا وإن الخلاف فى مولد الشعبى وفى وفاته كثير، وأشهر الأقوال فى ذلك أنه ولد فى سنة 20 هـ (عشرين) ، وتوفى سنة 109 هـ (تسع ومائة من الهجرة) .
* * *
6- الحسن البصرى
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو سعيد، الحسن بن أبى الحسن يسار البصرى مولى الأنصار، وأُمه خيرة مولاة أُم سلمة. قال ابن سعد: ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ونشأ بوادى القرى، وكان فصيحاً ورعاً وزاهداً، لا يُسبق فى وعظه، ولا يُدانَى فى مبلغ تأثيره على قلوب سامعيه. روى عن علىّ، وابن عمر، وأنس، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.
هذا.. وإن الحسن البصرى ليجمع إلى صلاحه وورعه وبراعته فى الوعظ، غزارة العلم بكتاب الله تعالى، وسُّنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأحكام الحلال والحرام، وقد شهد له بالعلم خلق كثير، فقال أنس بن مالك: سلوا الحسن، فإنه حفظ ونسينا. وقال سليمان التيمى: الحسن شيخ أهل البصرة. وقال مطر الوراق: كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان فى الآخرة، فهو يخبر عما رأى وعاين. وروى أبو عوانة عن قتادة أنه قال: ما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن عليه. وقال بكر المزنى: مَن سرَّه أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه فى زمانه، فلينظر إلى الحسن، فما أدركنا الذى هو أعلم منه. وقال الحجاج بن أرطأة: سألت عطاء بن أبى رباح فقال لى: عليك بذلك - يعنى الحسن - ذلك إمام ضخم يُقتدَى به. وكان إذا ذُكِر عند أبى جعفر الباقر قال: ذلك الذى يشبه كلامه كلام الأنبياء. وقال ابن سعد: كان الحسن جامعاً، عالماً، رفيعاً، فقيهاً، ثقة، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثير العلم فصيحا، جميلاً وسيماً. وقال حماد بن سلمة عن حميد: قرأت القرآن على الحسن ففسَّره على الإثبات - يعنى إثبات القَدَر - وكان يقول: من كذَّب بالقَدَر فقد كفر. وحديثه عند أصحاب الكتب الستة. توفى رحمه الله تعالى سن 110 هـ (عشر ومائة من الهجرة) وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
* * *
7- قتادة
* ترجمته ومكانته فى التفسير:
هو أبو الخطاب، قتادة بن دعامه السدوسى الأكمه، عربى الأصل. كان يسكن البصرة. روى عن أنس، وأبى الطفيل، وابن سيرين، وعكرمة، وعطاء بن أبى رباح، وغيرهم. وكان قوى الحافظة، واسع الاطلاع فى الشعر العربى، بصيراً بأيام العرب،(1/93)
عليماً بأنسابهم، متضلعاً فى اللغة العربية، ومن هنا جاءت شهرته فى التفسير. ولقد يشهد لقوة حفظه ما رواه سلام بن مسكين قال: حدثنى عمرو بن عبد الله، قال: قدم قتادة على سعيد بن المسيب فجعل يسأله أياماً وأكثر، فقال له سعيد: أكل ما سألتنى عنه تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلتَ فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلتَ فيه كذا، وقال فيه الحسن كذا، حتى رد عليه حديثاً كثيراً، قال: فقال سعيد: ما كنتُ أظن أن الله خلق مثلك. وقد شهد له ابن سيرين بقوة الحافظة أيضاً، فقال: قتادة هو أحفظ الناس.
وكان قتادة على مبلغ عظيم من العلم فوق ما اشتُهِر به من معرفته لتفسير كتاب الله. حتى قدَّمه بعضهم على كثير من أقرانه، وجعل بعضهم من النادر تقدم غيره عليه. وقال فيه سعيد بن المسيب: ما أتانى عراقى أحسن من قتادة. وقال معمر للزهرى: قتادة أعلم عندك أم مكحول؟ قال: بل قتادة. وقال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل وذُكِر قتادة، فأطنب فى ذكره، فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير، ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلَّما تجد مَن تقدَّمه، أما المثل فلعل. وقال معمر: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] فلم يجبنى، فقلت: سمعت قتادة يقول: مطيقين، فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال: حسبك قتادة، ولولا كلامه فى القَدَر - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذُكِرَ القَدَر فأمسكوا" - ما عدلت به أحداً من أهل دهره".
وهذا يدل على أن أبا عمرو كان يثق بعلم قتادة وبتفسيره للقرآن، لولا ما يَنسب إليه من الخوض فى القضاء والقَدَر، وكثيراً ما تحرَّج بعض الرواة من الرواية عنه لذلك، ونجد أصحاب الصحاح يُخَرِّجون له، ويحتجون بروايته، ويكفينا هذا فى تعديله وتوثيقه: قال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس: الزهرى، ثم قتادة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً حُجَّة فى الحديث، وكان يقول بشئ من القَدَر. وقال ابن حبان فى الثقات: كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حُفَّاظ أهل زمانه.
وكانت وفاته سنة 117 هـ (سبع عشرة ومائة من الهجرة) ، وعمره إذ ذاك ست وخمسون سنة على المشهور.
* *
وبعد ... فهؤلاء هم مشاهير المفسِّرين من التابعين، وغالب أقوالهم فى التفسير تلقوها عن الصحابة، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم، ولا شك أنهم كانوا على مبلغ عظيم من العلم ودقة الفهم، لقرب(1/94)
عهدهم من عهد النبوة، واتصال ما بين العهدين بعهد الصحابة، ولعدم فساد سليقتهم العربية، الفساد الذى شاع فيما بعد، حتى بلغ إلى درجة الهجنة والمزيج اللُّغوى.
ثم حمل أتباع التابعين هذا التراث العلمى الذى خَلَّفَهُ التابعون، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من الغموض وما جَدَّ من اختلاف فى الرأى، وعن هؤلاء أخذ مَن جاء بعدهم ... وهكذا. تناقل الخَلَفُ عِلم السَلَف، وحمل علماء كل جيل علم مَن سبقهم وزادوا عليه، سُّنَّة الله فى تدرج العلوم، تبدأ ضيقة الدائرة، محدودة المسائل، ثم لا تلبث أن تتسع وتتضخم إلى أن تبلغ النهاية وتصل إلى الكمال.
* * *(1/95)
قيمة التفسير المأثور عن التابعين
اختلف العلماء فى الرجوع إلى تفسير التابعين والأخذ بأقوالهم إذا لم يُؤثَر فى ذلك شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
فنُقِل عن الإمام أحمد رضى الله عنه روايتان فى ذلك: رواية بالقبول، ورواية بعدم القبول، وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يُؤخذ بتفسير التابعى، واختاره ابن عقيل، وحكى عن شعبة. واستدل أصحاب هذا الرأى على ما ذهبوا إليه: بأن التابعين ليس لهم سماع من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن الحمل عليه كما قيل فى تفسير الصحابى: إنه محمول على سماعه من النبى صلى الله عليه وسلم. وبأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التى نزل عليها القرآن، فيجوز عليهم الخطأ فى فهم المراد وظن ما ليس بدليل دليلاً، ومع ذلك فعدالة التابعين غير منصوص عليها كما نُصَّ على عدالة الصحابة. نُقِل عن أبى حنيفة أنه قال: "ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال".
وقد ذهب أكثر المفسِّرين: إلى أنه يؤخذ بقول التابعى فى التفسير، لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلاُ يقول: عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أُوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقتادة يقول: ما فى القرآن آية إلا وقد سمعتُ فيها شيئاً. ولذا حكى أكثر المفسِّرين أقوال التابعين فى كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.
والذى تميل إليه النفس: هو أن قول التابعى فى التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأى فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه، بأن كان يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأى فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.
قال ابن تيمية: قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حُجَّة، فكيف تكون حُجَّة فى التفسير؟ بمعنى أنها لا تكون حُجَّة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشئ فلا يُرتاب فى كونه حُجَّة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حُجَّة على بعض ولا على مَن بعدهم، ويُرجع فى ذلك إلى لغة القرآن، أو السُّنَّة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة فى ذلك.
* * *(1/96)
مميزات التفسير فى هذه المرحلة
يمتاز التفسير فى هذه المرحلة بالمميزات الآتية:
أولاً: دخل فى التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات، وذلك كثرة مَن دخل من أهل الكتاب فى الإسلام، وكان لا يزال عالقاً بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية، كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات. وكثير من القصص. وكانت النفوس ميَّالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون فزجوا فى التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحرٍّ ونقد. وأكثر من رُوى عنه فى ذلك من مسلمى أهل الكتاب: عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات فى التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على مَن جاء بعدهم.
وسنأتى بعرض لهذه الناحية عرضاً موسعاً عند الكلام عن أسباب الضعف فى رواية التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
ثانياً: ظل التفسير محتفظاً بطابع التلقى والرواية، إلا أنه لم يكن تلقياً ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل كان تلقياً ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص، فأهل كل مصر يعنون - بوجه خاص - بالتلقى والرواية عن إمام مصرهم، فالمكيون عن ابن عباس، والمدنيون عن أُبَىّ، والعراقيون عن ابن مسعود ... وهكذا.
ثالثاً: ظهرت فى هذا العصر نواة الخلاف المذهبى، فظهرت بعض تفسيرات تحمل فى طيَّاتها هذه المذاهب، فنجد مثلاً قتادة بن دعامة السدوسى يُنسب إلى الخوض فى القضاء والقَدَر ويتُهم بأنه قدرى، ولا شك أن هذا أثَّرَ على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه. ونجد الحسن البصرى قد فسَّر القرآن على إثبات القَدَر، ويُكَفِّر مَن يُكذِّب به كما ذكرنا ذلك فى ترجمته.
رابعاً: كثرة الخلاف بين التابعين فى التفسير عما كان بين الصحابة رضوان الله عليهم، وإن كان اختلافاً قليلاً بالنسبة لما وقع بعد ذلك من متأخرى المفسِّرين.
* * *(1/97)
الخلاف بين السَلَف فى التفسير
قلنا إن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا يفسِّرون القرآن بمقتضى لغتهم العربية، وما يعلمونه من الأسباب التى نزل عليها القرآن، وبما أحاط بنزوله من ظروف وملابسات، وكانوا يرجعون فى فهم ما أشكل عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقلنا إن المفسِّرين من التابعين كانوا يجلسون لبعض الصحابة يتلقون عنهم ويروون لهم، فأخذوا عنهم كثيراً من التفسير، وقالوا فيه أيضاً برأيهم واجتهادهم وكانت لغتهم العربية لم تصل إلى درجة الضعف التى وصلت إليها فيما بعد.
قلنا هذا فيما سبق. ونزيد عليه أن ما دُوِّن من العلوم الأدبية، والعلوم العقلية، والعلوم الكونية، ومذاهب الخلاف الفقهية والكلامية، لم يكن قد ظهر شئ منها فى عصر الصحابة والتابعين، وإن كان قد وُجِدت النواة التى نمت فيما بعد وتفرَّعت عنها كل هذه الفروع المختلفة. كان هذا هو الشأن على عهد الصحابة والتابعين، فكان طبيعياً أن تضيق دائرة الخلاف فى التفسير فى هاتين المرحلتين من مراحله، ولا تتسع هذا الاتساع العظيم الذى وصلت إليه فيما بعد.
كان الخلاف بين الصحابة فى التفسير قليلاً جداً، وكذا بين التابعين وإن كان أكثر منه بين الصحابة، وكان اختلافهم فى الأحكام أكثر من اختلافهم فى التفسير.
وإذا نحن تتبعنا ما نُقل لنا من أقوال السَلَف فى التفسير، وجمعنا ما هو مبثوث فى كتب التفسير بالمأثور لخرجنا بادى الرأى بكثير من الأقوال المختلفة فى المسألة الواحدة، فقول لصحابى يخالف قول صحابى آخر، وقول لتابعى يخالف قول تابعى آخر، بل كثيراً ما نجد قولين مختلفين فى المسألة الواحدة، وكلاهما منسوب لقائل واحد، فهل معنى هذا أن الخلاف فى التفسير قد اتسعت دائرته على عهد الصحابة والتابعين، وهل معنى هذا أن الصحابى أو التابعى يناقض نفسه فى المسألة الواحدة؟.. لا، فدائرة الخلاف لم تتسع، ولم يناقض الصحابى أو التابعى نفسه. وذلك لأن غالب ما صح عنهم من الخلاف فى التفسير يرجع إلى اختلاف عبارة مثلاً، أو اختلاف تنوع، لا إلى اختلاف تباين وتضاد كما ظنه بعض الناس فحكاه على أنه أقوال متباينة لا يرجع بعضها إلى بعض.
ونستطيع بعد البحث والنظر فى هذه الأقوال التى اختلفت ولم تتباين، أن نُرجع هذا الخلاف إلى عدة أُمور، نذكرها ليتبين لنا أنه لا تنافى ولا تباين بين هذه الأقوال التى تبدو متعارضة عن السَلَف، وهى ما يأتى:(1/98)
أولاً: أن يُعبِّر كل واحد من المفسِّرين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها على مسمى واحد، فلا يكون دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر منها، بل الأمر كما قال الله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمان أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] ..
وإذا نحن نظرنا إلى كل اسم من أسمائه لوجدناه يدل على ذات الله تعالى وعلى صفة من صفاته تضمنها هذا الاسم فـ "العليم" يدل على الذات والعلم، و "القدير" يدل على الذات والقدرة.. وهكذا.
ثم إن كل اسم من هذه الأسماء يدل على الصفة التى فى الاسم الآخر بطريق اللزوم، وكذلك الشأن فى أسماء النبى صلى الله عليه وسلم مثل: محمد وأحمد وحامد، وأسماء القرآن مثل: القرآن والفرقان، والهدى، والشفاء، وأمثال ذلك.
فإن كان مقصود السائل تعيين المسمى عبَّر عنه بأى اسم كان إذا كان يعرف مسماه. فمثلاً قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} [طه: 124] .. وإذا قيل: ما ذكره؟ يقال: ذِكْره قرآنه، أو كتابه، أو كلامه، أو هُدَاه، ونحو ذلك. وهذا على القول المشهور من أن المصدر مضاف للفاعل، كما يدل عليه سياق الآية وسباقها.
وإن كان مقصود السائل معرفة ما فى الاسم من الصفة المختصة به فلا بد فى ذلك من قدر زائد على تعيين المسمى، مثل أن يسأل عن القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وقد علم أنه الله ولكن يريد أن يعرف معنى كونه قدوساً. وسلاماً، ومؤمناً، ومهيمناً، ونحو ذلك.
والسَلَف كثيراً ما يُعبِّرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس فى الاسم الآخر، كمن يقول: القدوس: هو الله، أو الرحمن، أو الغفور، ومراده أن المسمى واحد، لا أن هذه الصفة هى هذه. ومعلوم أن هذا اختلاف لا يمكن أن يقال إنه اختلاف تباين وتضاد كما ظنه بعض الناس.
ومثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم، فقال بعضهم: هو اتباع القرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث علىّ عند الترمذى: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتى الصراط سوران، وفى السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط، قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعى على رأس الصراط كتاب الله، والداعى فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مؤمن".
ومنه مَن قال: هو اتباع السُّنَّة والجماعة، ومنه مَن قال: هو طريق(1/99)
العبودية، ومنه مَن قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك فهذه كلها أقوال لا منافاة بينها ولا تباين، بل كلها متفقة فى الحقيقة، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، وهو طاعة الله ورسوله، وهو طريق العبودية لله، فالذات واحدة، وكلُّ أشار إليها ووصفها بصفة من صفاتها.
ثانياً: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه.
مثال ذلك ما نقل فى قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} [فاطر: 32] فبعضهم فَسَّر السابق بمن يصلَى فى أول الوقَت، والمقتصد بمن يصَلَى فى أثنائه، والظالم بمن يصلى بعد فواته. وبعضهم فسَّر السابق بمن يؤدى الزكاة المفروضة مع الصدقة، والمقتصد بمن يؤديها وحدها، والظالم بمانع الزكاة، فكل من المفسِّرين ذكر فرداً من أفراد العام على سبيل التمثيل لا الحصر، لتعريف المستمع أن الآية تتناول المذكور، ولتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يكون أسهل من التعريف بالحد المطابق. والعقل السليم يتفطن للنوع بذكر مثاله. وهذا الاختلاف فى ذكر المثال لا يؤدى إلى التباين والتناقض بين الأقوال، إذ من المعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المُضيِّع للواجبات والمنتهك للحُرُمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرَّمات. والسابق يتناول مَن تقرَّب بالحسنات مع الواجبات.
ومن هذا القبيل أن يقول أحدهم: نزلت هذه الآية فى كذا، ويقول الآخر: نزلت فى كذا، كل يذكر غير ما يذكره صاحبه، لأن كلاً منهم يذكر بعض ما يتناوله اللفظ، وهذا لا تنافى فيه ما دام اللفظ يتناول قول كل منهما.
أما إذا قال أحدهم: سبب نزول هذه الآية كذا، وقال الآخر: سبب نزول هذه الآية كذا، وكل ذكر غير ما ذكره الآخر، فيمكن أن يقال: إن الآية نزلت عقب تلك الأساب، أو تكون نزلت مرتين: مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب.
ثالثاً: أن يكون اللفظ محتملاً للأمرين أو الأمور، وذلك إما لكونه مشتركاً فى اللغة، كلفظ "قَسوَرَة"، الذى يراد به الرامى ويراد به الأسد، ولفظ "عَسْعَسَ"، الذى يراد به إقبال الليل ويراد به إدباره. وإما لكونه متواطئاً فى الأصل لكن المراد به أحد النوعين، أو أحد الشخصين، كالضمائر فى قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فتدلى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} [النجم: 8-9] .. وكلفظ: {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر} [الفجر: 1-3] .. وما ماثل ذلك، فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعانى التى قالها السَلَف، وذلك إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة وهذا تارة. وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه أو معانيه، وهذا يقول به أكثر الفقهاء من(1/100)
المالكية، والشافعية، والحنابلة، وكثير من أهل الكلام. وإما لكون اللفظ متواطئاً، فيكون عاماً إذا لم يكن هناك موجب لتخصيصه.
رابعاً: أن يُعبِّروا عن المعانى بألفاظ متقاربة لا مترادفة، فإن الترادف قليل فى اللغة، ونادر أو معدوم فى القرآن، وقَلَّ أن يُعبَّر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدى جميع معناه، وإنما يُعبَّر عنه بلفظ فيه تقريب لمعناه، فمثلاً إذا قال قائل: {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} [الطور: 9] .. المور: الحركة فذلك تقريب للمعنى، لأن المور حركة خفيفة سريعة. كذلك إذا قال: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} [الإسراء: 4] .. أي أعلمنا، لأن القضاء إليهم فى الآية أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالاً وإيحاءً إليهم.
فإذا قال أحدهم فى قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] إن معنى تبسل: تحبس، وقال الآخر: ترتهن، ونحو ذلك، لم يكن من اختلاف التضاد، لأن هذا تقريب للمعنى كما قلنا.
خامساً: أن يكون فى الآية الواحدة قراءتان أو قراءات، فيفسِّر كل منهم على حسب قراءة مخصوصة فيظن ذلك اختلافاً، وليس باختلاف، مثال ذلك: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وغيره من طرق فى قوله تعالى: {.. لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] . إن معنى سُكِّرت: سُدَّت، ومن طريق أخرى عنه: أن سُكِّرت بمعنى أُخذت وسُحرت، ثم أخرج عن قتادة أنه قال: مَن قرأ "سُكِّرت" مشددة، فإنما يعنى سُدَّت، ومَن قرأ "سكَرت" مخففة. فإنه يعنى سُحرت. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] أخرج ابن جرير عن الحسن: أنه الذى تهنأ به الإبل، وأخرج من طرق عنه وعن غيره: أنه النحاس المذاب، وليسا بقولين، وإنما الثانى تفسير لقراءة مَن قرأ: "من قطرٍ آن" بتنوين قطر، وهو النحاس المذاب، وآن: شديد الحرارة. وأمثلة هذا النوع كثيرة. وقد خُرِّج على هذا الاختلاف الوارد عن ابن عباس وغيره فى تفسير قوله تعالى. {أَوْ لاَمَسْتُمُ} [النساء: 43، المائدة: 6] .. هل هو الجِماع، أو الجس باليد؟ فالأول تفسير لقراءة: "لامستم"، والثانى لقراءة: "لمستم" ولا اختلاف.
هذه هى الأوجه بواسطتها نستطيع أن نجمع بين أقوال السَلَف التى تبدو متعارضة. أما ما جاء عنهم من اختلاف فى التفسير ويتعذر الجمع بينه بواحد من الأمور السابقة - وهذا أمر نادر، أو اختلاف مخفف كما يقول ابن تيمية - فطريقنا فيه: أن ننظر فيمن نُقِل عنه الاختلاف، فإن كان عن شخص واحد واختلفت الروايتان صحة وضعفاً، قُدِّم الصحيح وتُرِك ما عداه، وإن استوينا فى الصحة وعرفنا(1/101)
أن أحد القولين متأخر عن الآخر، قُدِّم المتأخر وتُرِك ما عداه. وإن لم نعرف تقدم أحدهما على الآخر رددنا الأمر إلى ما ثبت فيه السمع. فإن لم نجد سمعاً وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدهما، رجَّحنا ما قوَّاه الاستدلال وتركنا ما عداه. وإن تعارضت الأدلة فعلينا أن نؤمن بمراد الله تعالى ولا نتهجم على تعيين أحد القولين، ويكون الأمر حينئذ فى منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه.
وإن كان الاختلاف عن شخصين أو أشخاص، واختلفت الروايتان أو الروايات صحة وضعفاً، قُدِّم الصحيح وتُرِك ما عداه. وإن استوت الروايتان أو الروايات فى الصحة، رددنا الأمر إلى ما ثبت فيه السمع. فإن لم نجد سمعاً وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدهما رجَّحنا ما قوَّاه الاستدلال وتركنا ما عداه. وإن تعارضت الأدلة فعلينا أن نؤمن بمراد الله تعالى، ولا نتهجم على تعيين أحد القولين أو الأقوال. ويكون الأمر حينئذ فى منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه.
ويرى الزركشى: أن الاختلاف إن كان بين الصحابة وتعذر الجمع، قُدِّم قول ابن عباس على قول غيره، وعلَّل ذلك فقال: "لأن النبى صلى الله عليه وسلم بَشَّره حيث قال: "اللَّهم عَلِّمه التأويل".
* * *(1/102)
الباب الثالث: المرحلة الثالثة للتفسير.. أو التفسير فى عصور التدوين(1/103)
تمهيد
تمهيد
* ابتداء هذه المرحلة:
تبدأ المرحلة الثالثة للتفسير من مبدأ ظهور التدوين، وذلك فى أواخر عهد بنى أمية، وأول عهد للعباسين.
* الخطوة الأولى للتفسير:
وكان التفسير قبل ذلك يُتناقل بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يروى بعضهم عن بعض. والتابعون يروون عن الصحابة. كما يروى بعضهم عن بعض، وهذه هى الخطوة الأولى للتفسير.
* *
* الخطوة الثانية:
ثم بعد عصر الصحابة والتابعين، خطا التفسير خطوة ثانية، وذلك حيث ابتدأ التدوين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير باباً من هذه الأبواب التى اشتمل عليها الحديث، فلم يُفرد له تأليف خاص يُفسِّر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وُجد من العلماء مَن طوَّف فى الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار ذلك ما رُوِى فى الأمصار من تفسير منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين، ومن هؤلاء: يزيد بن هارون السلمى المتوفى سنة 117هـ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160هـ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197هـ وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198هـ، وروح عن عبادة البصرى المتوفى سنة 205هـ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211هـ، وآدم بن أبى إياس المتوفى سنة 220هـ، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعاً لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعاً للتفسير على استقلال وانفراد. وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسنداً إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شئ منها، ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
* *
* الخطوة الثالثة:
ثم بعد هذه الخطوة الثانية، خطا التفسير خطوة ثالثة، انفصل بها عن الحديث،(1/104)
فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورُتَّب ذلك على حسب ترتب المصحف. وتم ذلك على أيدى طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة 273هـ، وابن جرير الطبرى المتوفى سنة 310هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابورى المتوفى سنة 318هـ، وابن أبى حاتم المتوفى سنة 327هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369هـ، والحاكم المتوفى سنة 405هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة 410هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين، وليس فيها شئ من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللَّهم إلا ابن جرير الطبرى فإنه ذكر الأقوال ثم وجهَّها، ورجَّح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستبط الأحكام التى يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية ... وسنأتى بالكلام عن هذا التفسير عند الكلام عن الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالمأثور إن شاء الله تعالى.
وإذا كان التفسير قد خطا هذه الخطوة الثالثة التى انفصل بها عن الحديث، فليس معنى أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرح فى خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقى والرواية، كانت الخطوة الثانية له، وهى تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهى تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل المحدِّثون بعد هذه الخطوة الثالثة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير فى باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين فى ذلك على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
* *
* ليس من السهل معرفة أول من دَوَّن تفسير كل القرآن مرتَّباً:
هذا.. ولا نستطيع أن نُعيِّن بالضبط، المفسِّر الأول الذى فسرَّ القرآن آية آية، ودوَّنه على التتابع وحسب ترتيب المصحف. ونجد فى الفهرست لابن النديم (ص 99) أن أبا العباس ثعلب قال: "كان السبب فى إملاء كتاب الفرَّاء فى المعانى أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعاً إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألنى عن الشئ بعد الشئ(1/105)
من القرآن فلا يحضرنى فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لى أصولاً، أو تجعل فى ذلك كتاباً أرجع إليه فعلت، فقال الفرَّاء لأصحابه: اجتمعوا حتى أُملى عليكم كتاباً فى القرآن، وجعل لهم يوماً، فلما حضروا خرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يُؤذِّن ويقرأ بالناس فى الصلاة، فالتفت إليه الفرَّاء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسِّرها، ثم نوفى الكتاب كله، فقرأ الرجل ويفسِّر الفراء، قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبل مثله، ولا أحسب أن أحداً يزيد عليه".
فهل نستطيع أن نستخلص من ذلك: أن الفرَّاء المتوفى سنة 207 هـ، هو أول مَن دَوَّن تفسيراً جامعاً لكل آيات القرآن مرتَّباً على وفقٍ ترتيب المصحف؟ وهل نستطيع أن نقول: إن كل مَن تقدَّم الفرَّاء من المفسِّرين كانوا يقتصرون على تفسير المشكل فقط؟.. لا.. لا نستطيع أن نفهم هذا من عبارة ابن النديم لأنها غير قاطعة فى هذا، كما لا نستطيع أن نميل إليه كما مال إليه الأستاذ أحمد أمين فى كتابه ضحى الإسلام (جـ 2 ص 141) ، وذلك لأن كتاب "معانى القرآن" للفرَّاء شبيه فى تناوله للآى على ترتيبها فى السور بكتاب "مجاز القرآن" لأبى عبيدة، فإنه يتناول السور على ترتيبها، ويعرض لما فى السورة من آى تحتاج لبيان مجازها - أى المراد منها - فليس للفرَّاء أوَّلية فى هذا، بل تلك على ما يبدو كانت خطة العصر، ثم إن ما نُقِل لنا عن السَلَف يُشعر - وإن كان غير قاطع - بأن استيفاء التفسير لسور القرآن وآياته كان عملاً مبكراً لم يتأخر إلى نهاية القرن الثانى وأوائل الثالث، فمثلاً يقول ابن أبى مليكة: "رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله".
ونجد الحافظ ابن حجر عندما ترجم لعطاء بن دينار الهذلى المصرى فى كتابه "تهذيب التهذيب" يقول: "قال علىّ بن الحسن الهسنجانى، عن أحمد ابن صالح: عطاء بن دينار، من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، وقال أبو حاتم: صالح الحديث إلا أن التفسير أخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان (المتوفى سنة 86 هـ) سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار فى الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير".
فهذا صريح فى أن سعيد بن جبير رضى الله عنه جمع تفسير القرآن فى كتاب، وأخذه من الكتاب عطاء بن دينار، ومعروف أن سعيد بن جبير قُتِل سنة 94 - أو سنة(1/106)
95 هجرية - على الخلاف فى ذلك، ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هجرية.
وكذلك نجد فى وفيات الأعيان (جـ 2 ص 3) : أن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، كتب تفسيراً للقرآن عن الحسن البصرى، ومعلوم أن الحسن توفى سنة 116 هجرية.
ومرَّ بنا فيما سبق (ص 85) أن ابن جريج المتوفى سنة 150 هجرية له ثلاثة أجزاء كبار فى التفسير رواها عنه محمد بن ثور، فإذا انضم إلى هذا ما نلاحظه من قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشدة عناية القوم بأخذ الأحكام وغيرها من آيات القرآن، وحاجاتهم المُلِّحة فى ذلك، نستطيع أن نقول إن الفرَّاء لم يُسبق إلى هذا الاستيفاء والتقصى، بل هو مسبوق بذلك، وإن كنا لا نستطيع أن نُعيِّن مَن سبق إلى هذا العمل على وجه التحقيق، ولو أنه وقع لنا كل ما كتب من التفسير من مبدأ عهد التدوين. لأمكننا أن نُعيِّن المفسِّر الأول الذى دوَّن التفسير على هذا النمط.
* *
* الخطوة الرابعة:
ثم إن التفسير لم يقف عند هذه الخطوة الثالثة بل خطا بعدها خطوة رابعة، لم يتجاوز بها حدود التفسير بالمأثور، وإن كان قد تجاوز روايته بالإسناد، فصنَّف فى التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسِّرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع فى التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر فى هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين فى تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء فى هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرئليات فى التفسير. وسنعرض لهذا بالبيان والتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولقد وُجِد من بين هؤلاء المفسِّرين مَن عَنِىَ بجمع شتات الأقوال، فصار كلما سنح لَه قول أورده، وكلما خطر بباله شئ اعتمده، فيأتى مَن بعده وينقل ذلك عنه بدون أن يتحرى الصواب فيما ينقل، ويدون التفاوت منه إلى تحرير ما ورد عن السلَف الصالح ومَن يرجع إليهم فى التفسير، ظناً منه أن كل ما ذكر له أصل ثابت!! وليس أدل على نهم هؤلاء القوم بكثرة النقل من أن بعضهم ذكر فى تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] عشرة أقوال مع أن تفسيرها باليهود والنصارى، هو الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جميع الصحابة والتابعين، حتى قال ابن أبى حاتم: "لا أعلم فى ذلك اختلافاً بين المفسِّرين".
* *
*(1/107)
الخطوة الخامسة:
ثم خطا التفسير بعد ذلك خطوة خامسة، هى أوسع الخطا وأفسحها، امتدت من العصر العباسى إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصوراً على رواية ما نُقِل عن سَلَف هذه الأمة، تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلى بالتفسير النقلى، وكان ذلك على تدرج ملحوظ فى ذلك.
* * *
* تدرج التفسير العقلى:
بدأ ذلك أولاً على هيئة محاولات فهم شخص، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقبولاً ما دام يرجع الجانب العقلى منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية. ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصى تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد المتباينة، حتى وُجِد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعْدٍ عظيم.
دُوِّنت علوم اللغة، ودُوِّن النحو الصرف، وتشعبَّت مذاهب الخلاف الفقهى، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبى قائماً على قدمه وساقه فى العصر العباسى، وقامت الفِرَق الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها، وتُرجمت كتب كثيرة من كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من أبحاث بالتفسير حتى طغت عليه، وغلب الجانب العقلى على الجانب النقلى، وصار أظهر شئ فى هذه الكتب، هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول، أو بغير ذلك على المأثور.
وهكذا تدرج التفسير، واتجهت الكتب المؤلَّفة فيه اتجاهات متنوعة، وتحكَّمت الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية فى عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين فى تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة فيه، وكما ظهرت آثار النِحَل والأهواء فيه ظهوراً جلياً.(1/108)
وإنَّا لنلحظ فى وضوح وجلاء: أن كل مَن برع فى فن من فنون العلم، يكاد يقتصر تفسيره على الفن الذى برع فيه، فالنحوى تراه لا هَمَّ له إلا الإعراب وذكر ما يحتمل فى ذلك من أوجه، وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافياته، وذلك كالزَجَّاج، والواحدى فى "البسيط"، وأبى حيان فى "البحر المحيط"..
وصاحب العلوم العقلية، تراه يعنى فى تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، كما تراه يعنى بذكر شبُههم والرد عليهم، وذلك كالفخر الرازى فى كتابه "مفاتيح الغيب".
وصاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلة للفروع الفقهية، والرد على مَن يخالف مذهبه، وذلك كالجصَّاص، والقرطبى..
وصاحب التاريخ، ليس له شغل إلا القصص، وذكر أخبار مَن سَلَف، ما صح منها وما لا يصح، وذلك كالثعلبى والخازن..
وصاحب البدع، ليس له قصد إلا أن يُؤوِّل كلام الله ويُنزله على مذهبه الفاسد، وذلك كالرمانى، والجبائى، والقاضى عبد الجبار، والزمخشرى من المعتزلة، والطبرسى، وملا محسن الكاشى من الإمامية الإثنا عشرية.
وأصحاب التصوف قصدوا إلى ناحية الترغيب والترهيب. واستخراج المعانى الإشارية من الآيات القرآنية بما يتفق مع مشاربهم، ويتناسب مع رياضاتهم ومواجيدهم، ومن هؤلاء ابن عربى، وأبو عبد الرحمن السلمى..
وهكذا فسَّر كل صاحب فن أو مذهب بما يتناسب مع فنه أو يشهد لمذهبه، وقد استمرت هذه النزعة العلمية العقلية وراجت فى بعض العصور رواجاً عظيماً، كما راجت فى عصرنا الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها أن يُحَمِّلوا آيات القرآن كل العلوم، ما ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا فيما يبدو وجه من وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته لأن يتمشى مع الزمن. وفى الحق أن هذا غلو منهم، وإسراف يُخرج القرآن عن مقصده الذى نزل من أجله، ويحيد به عن هدفه الذى يرمى إليه.
وسوف نتكلم على ذلك بتوسع عند الكلام عن التفسير العلمى إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الطغيان العقلى العلمى، لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذى يجعله فى عداد ما درس وذهب، بل وُجِد من العلماء فى عصور مختلفة، مَن استطاع أن يقاوم تيار هذا الطغيان، ففسَّر القرآن تفسيراً نقلياً بحتاً، على توسع منهم فى النقل، وعدم تفرقة بين ما صح وما لم يصح، كما فعل السيوطى فى كتابه "الدر المنثور".
* *
*(1/109)
التفسير الموضوعى:
وكذلك وُجِد مِنَ العلماء مَن ضيَّق دائرة البحث فى التفسير، فتكلَّم عن ناحية واحدة من نَواحيه المتشعبة المتعددة، فابن القيم - مثلاً - أفرد كتاباً من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن سماه "التبيان فى أقسام القرآن". وأبو عبيدة أفرد كتاباً للكلام عن مجاز القرآن والراغب الأصفهانى أفرد كتاباً فى مفردات القرآن. وأبو جعفر النحاس أفرد كتاباً فى الناسخ والمنسوخ من القرآن. وأبو الحسن الواحدى أفرد كتاباً فى أسباب نزول القرآن. والجصاص أفرد كتاباً فى أحكام القرآن.. وغير هؤلاء كثير من العلماء الذين قصدوا إلى موضوع خاص فى القرآن يجمعون ما تفرَّق منه، ويفردونه بالدرس والبحث.
* *
* توسع متقدمى المفسَرين قعد بمتأخريهم عن البحث المستقل:
ثم إنَّا نجد متقدمى المفسِّرين قد توسَّعوا فى التفسير إلى حد كبير، جعل مَن جاء بعدهم من المفسِّرين لا يلقون عنتاً، ولا يجدون مشقة فى محاولتهم لفهم كتاب الله، وتدوين ما دوَّنوا من كتب فى التفسير، فمنهم مَن أخذ كلام غيره وزاد عليه، ومنهم مَن اختصر، ومنهم مَن علَّق الحواشى وتتبع كلام من سبقه، تارة بالكشف عن المراد، وأخرى بالتفنيد والاعتراض، ومع ذلك فاتجاهات التفسير، وتعدد طرائقه وألوانه. مل تزل على ما كانت عليه، متشعبة متكاثرة.
أما فى عصرنا الحاضر، فقد غلب اللون الأدبى الاجتماعى على التفسير، ووُجِدت بعض محاولات علمية، فى كثير منها تكلف ظاهر وغلو كبير، أما اللون المذهبى، فقد بقى منه إلى يومنا هذا بمقدار ما بقى من المذاهب الإسلامية، وسوف نعرض للتفسير فى عصرنا الحاضر بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
هذا هو شأن التفسير فى مرحلته الثالثة - مرحلة التدوين - وهذه هى خطواته التى تدرج فيها من لدن نشأته إلى عصرنا الحاضر، وتلك هى ألوانه وطرائقه، وأرى من العسير علىّ أن أتمشى بالتفسير مع الزمن، وأن أتكلم عن طرائقه، ومميزاته، واتجاهاته، وألوانه فى كل عصر من العصور التى مرَّت عليه، وذلك راجع إلى أننا لم نقف على كثير مما خلفته تلك العصور من آثار فيه وهى كثرة كاثرة تنوَّعت مقاصدها واختلفت اتجاهاتها. وإننا لندهش عند سماع ما أُلِّف فى التفسير من الكتب التى بلغت حد الكثرة. ونُسِبت لرجال لهم قيمتهم العلمية، ففى القرن الثانى كتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيراً للقرآن عن الحسن البصرى، كما ذكره ابن خلكان فى كتابه "وفيات الأعيان"، ويذكر صاحب كتاب "تبيين كذب المفترى": أن أبا الحسن(1/110)
الأشعرى كتب كتاباً فى التفسير يسمى "المختزن"، لم يترك آية تعلَّق بها بَدْعى إلا أبطل تعلقه بها، وجعلها حُجَّة لأهل الحق، كما يُنسب إلى الجوينى تفسير كبير يشتمل على عشرة أنواع فى كل آية، ويُنسب للقشيرى أيضاً تفسير كبير. وابن الأنبارى يذكرون أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً من تفاسير القرآن بأسانيدها وأبو هلال العسكرى، له كتاب "المحاسن فى تفسير القرآن"، خمس مجلدات، وغير هذا كثير جداً من الكتب التى أُلِّفت فى تفسير القرآن.
وبعد ... فهل يكون فى مقدورى - وقد اندرست معظم كتب التفسير - أن أتكلم عن التفسير وما أُلِّف فيه فى جميع مراحله الزمنية؟ اللهم إن هذا أمر لا أقدر عليه إلا إذا جُمِع بين يدىّ كل ما كُتِب فى التفسير من مبدأ نشأته إلى يومنا هذا، وكان لدىّ من الوقت ما يتسع لدراسته كله، وأنَّى لى بذلك؟
على أننا لو نظرنا إلى مناحى المفسِّرين واتجاهاتهم، لوجدناهم مع اختلاف عصورهم يشتركون فيها، فبينما نجد مِنَ المتقدمين مَنْ دوَّن التفسير بالمأثور خاصة، نجد من المتأخرين مَنْ قَصرَ تفسيره على المأثور أيضاً. وبينما نجد مِنَ المتقدمين مَنْ نحا فى تفسيره الناحية الإشارية نجد مِنَ المتأخرين مَنْ ينحو هذا المنحى بعينه، وبينما نجد مِنَ المتقدمين مَنْ حاول إخضاع القرآن لمذهبه وعقيدته نجد مِنَ المتأخرين مَنْ حاول مثل هذه المحاولة وهكذا نجد كثيراً من كتب التفسير على اختلاف أزمانها تتحد فى مشربها، وتتجه إلى ناحية واحدة من نواحى التفسير المختلفة.
لهذا كله، أرى نفسى مضطراً إلى أن أعدل فى هذه المرحلة الثالثة - مرحلة عصور التدوين - عن السير بالتفسير مع الزمن إلى التكلم عنه من ناحية هذه الاتجاهات التى اتجه إليها المفسِّرون فى تفاسيرهم وأتبع ذلك بالكلام عن أشهر الكتب المؤلَّفة فى التفسير، فأتكلم أولاً عن التفسير المأثور وأشهر ما دُوِّنَ فيه، ثم عن التفسير بالرأى الجائز وغير الجائز، وعن أشهر الكتب المؤلَّفة فى ذلك. ويندرج فى هذا الكلام على تفاسير الفِرَق المختلفة، ثم أتكلم بعد ذلك عن التفسير عند الصوفية وأهم كتبهم فيه، ثم عند الفلاسفة، ثم عند الفقهاء كذلك، ثم أتكلم عن التفسير العلمى، ثم أختم بكلمة عامة عن التفسير فى عصرنا الحاضر، وأسأل الله العون والتوفيق.
* * *(1/111)
التفسير بالمأثور
* ما هو التفسير المأثور؟
يشمل التفسير المأثور ما جاء فى القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نُقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نُقِل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نُقِل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم.
وإنما أدرجنا فى التفسير المأوثر ما رُوِىَ عن التابعين - وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأى - لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور، كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ما ذِكْر ما رُوِىَ عن النبى صلى الله عليه وسلم وما رُوِىَ عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نُقِل عن التابعين فى التفسير.
* *
* تدرج التفسير المأثور:
تدرَّج التفسير المأثور فى دوريه - دور الرواية ودور التدوين - أما فى دور الرواية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه ما أشكل عليهم من معانى القرآن، فكان هذا القَدْر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم وُجِد من الصحابة مَنْ تكلم فى تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قِلَّة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدينية التى كانت لهذا العهد، والمستوى العقلى الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على الله بأنه عَنِىَ باللفظ كذا.
ثم وُجِد من التابعين مَنْ تصدَّى للتفسير، فروى ما تجمَّع لديه من ذلك عن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأى والاجتهاد، بمقدار ما زاد من الغموض الذى كان يتزايد كلما بَعُدَ الناس عن عصر النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة.
ثم جاءت الطبقة التى تلى التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض ... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروى الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التى سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دورالتدوين - وهو ما يعنينا فى هذا البحث - فكان أول ما دُوِّن من التفسير، هو التفسير المأثور، على تدرج فى التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول فى هذا. وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين(1/112)
ينسبون - على عادتهم - وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير - بمعنى جامعه لا مُدَوِّنه - الإمام مالك بن أنس الأصبحى، إمام دار الهجرة.
وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلاً منظماً، ولم يُفرد بالتدوين، بل كان يُكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما رُوِى عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين.
ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأُفرد بتأليف خاص، فكان أول ما عُرف لنا من ذلك، تلك الصحيفة التى رواها علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس.
ثم وُجِد من ذلك جزء أو أجزاء دُوِّنت فى التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبى رَوق، وتلك الأجزاء الثلاثة التى يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وُجِدَت من ذلك موسوعات من الكتب المؤلَّفة فى التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروى عن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، كتفسير ابن جرير الطبرى. ويُلاحَظ أن ابن جرير ومَنْ على شاكلته - وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد - توسَّعوا فى النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقاً به. كما يُلاحَظ أنه كان لا يزال موجوداً إلى ما بعد عصر ابن جرير ومَنْ على شاكلته - ممن أفردوا التفسير بالتأليف - رجال من المحدِّثين بوَّبوا للتفسير باباً ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.
ثم وُجِد بعد هذا أقوام دوَّنوا التفسير المأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم فى ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال فى تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل، مما جعل الناظر فى هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها، لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو كثير فى التفسير.
ثم بعد هذا تغيَّرت موجهات الحياة، فبعد أن كان التدوين فى التفسير لا يتعدى المأثور منه، تعدَّى إلى تدوين التفسير بالرأى على تدرج فيه، كما أشرنا إليه فيما سبق (ص 156) .
* *
* اللَّون الشخصى للتفسير المأثور:
من المعلوم أن الشخص الذى يُفسِّر نصاً من النصوص، يُلوِّن هذا النص بتفسيره إياه، لأن المتفهم لعبارة من العبارات، هو الذى يحدد معناه ومرماها وفق مستواه الفكرى، وعلى سعة أفقه العقلى، وليس فى استطاعته أن يفهم من النص إلا ما يرمى إليه فكره، ويمتد إليه عقله، وبمقدار هذا يتحكم فى النص ويُحدِّد بيانه، وهذا أصل ملحوظ،(1/113)
نجد آثاره واضحة فى كتب التفسير على اختلافها، فما من كتاب منها إلا وقد وجدنا آثار شخصية صاحبه وقد طبعت تفسيره بطابع خاص لا يعسر علينا إدراكه.
غير أن هذا الطابع الشخصى الذى يُطبع به التفسير، إن ظهر لنا جلياً واضحاً فى كتب التفسير بالرأى، فإنَّا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور، ولكن نستطيع أن نتبينه إذا ما قدَّرنا أن المتصدى لهذا التفسير النقلى إنما يجمع حول الآية من المرويات ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلقة به، فيقصد إلى ما يتبادر لذهنه من معناها، ثم تدفعه الفكرة العامة فيها إلى أن يصل بين الآية وما يروى حولها فى اطمئنان، وبهذا الاطمئنان، يتأثر نفسياً وعقلياً، حينما يقبل مروياً ويعنى به، أو يرفض مروياً حين لا يرتاح إليه.
وكذلك راج بين المتقدمين - كما لاحظه ابن خلدون فى مقدمته - ما هم فى شوق إليه وتعلق به، من أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى فى تاريخ الإنسانية الأولى، نظراً لبداوتهم وأُميِّتهم، وقلَّة المتداول بينهم منه، فكان من وراء ذلك كثرة الإسرائيليات، وليس من شك فى أن هذا صورة عقلية، وطابع شخصى لهذا العصر الأول، كما أنه صورة عقلية، وطابع شخصى لكل مَن يقبل هذه الإسرائيليات، ويُفسِّر بعض آيات القرآن على ضوئها.
ثم إننا بعد هذا نلحظ لوناً شخصياً آخر فى التفسير النقلى، ذلك أن الشخص الذى يعرف قيمة الرجال، ويستطيع أن ينقد السند، ويعرف أسباب الضعف فى الرواية، نرى تفسيره يُطبع بهذا الطابع الشخصى الخاص، فيتحرى الصحة فيما يرويه، فلا يدخل فى كتابه مروياً اعتراه الضعف أو تطرق إليه الخلل. أما الشخص الذى لا دراية له بأسباب الضعف فى الرواية، وليس عنده القدرة على نقد الرجال ونقد المروى عنهم فحاطب ليل، يجمع كل ما يُنقل له فى ذلك بدون أن يُفرِّق بين الصحيح وغيره.
وبعد ... أفلا ترى أنه حتى فى رواج التفسير النقلى وتداوله تكون شخصية المتعرض للتفسير هى الملوِّنة له، المروِّجة لصنف منه، أظن أن نعم.
* *
* الضعف فى رواية التفسير المأثور وأسبابه:
علمنا مما تقدَّم أن التفسير المأثور يشمل ما كان تفسيراً للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيراً للقرآن بالسُّنَّة، وما كان تفسيراً للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروى عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن. أو بما ثبت من السُّنَّة الصحيحة، فذلك مما لا خلاف فى قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف. ولا يجد الشك إليه سبيلاً.(1/114)
وأما ما أُضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف فى سنده أو متنه فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصح نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وأما تفسير القرآن بما يُروى عن الصحابة أو التابعين، فقد تسرَّب إليه الخلل، وتطرَّق إليه الضعف، إلى حد كاد يُفقدنا الثقة بكل ما رُوِى من ذلك، لولا أن قيَّض الله لهذا التراث العظيم مَنْ أزاح عنه هذه الشكوك، فسلمت لنا منه كمية لا يُستهان بها، وإن كان صحيحها وسقيمها لا يزال خليطاً فى كثير من الكتب التى عَنِىَ أصحابها بجمع شتات الأقوال.
ولقد كانت كثرة المروى من ذل كثرة جاوزت الحد - وبخاصة عن ابن عباس وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما - أكبر عامل فى صرف همة العلماء ولفت أنظارهم إلى البحث والتمحيص، والنقد والتعديل والتجريح، حتى لقد نُقِل عن الإمام الشافعى رضى الله عنه أنه قال: "لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث". وهذا العدد الذى ذكره الشافعى، لا يكاد يُذكر بجوار ما رُوِى عن ابن عباس من التفسير. وهذا يدل على مبلغ ما دخل من التفسير النقلى من الروايات المكذوبة المصنوعة.
* *
* أسباب الضعف:
ونستطيع أن نُرجِعْ أسباب الضعف فى رواية التفسير المأثور إلى أُمور ثلاثة:
أولها: كثرة الوضع فى التفسير.
ثانيها: دخول الإسرائيليات فيه.
ثالثها: حذف الأسانيد.
وأرى أن أعرض لكل سبب من هذه الأسباب الثلاثة المجملة بالإيضاح والتفصيل، حتى يتبيَّن لنا مقدار ما كان لكل منها من الأثر فى فقدان الثقة بكثير من الروايات المأثورة فى التفسير.
* * *
أولاً: الوضع فى التفسير
* نشأة الوضع فى التفسير:
نشأ الوضع فى التفسير مع نشأته فى الحديث، لأنهما كانا أول الأمر مزيجاً لا يستقل أحدهما عن الآخر، فكما أننا نجد فى الحديث: الصحيح والحسن والضعيف، وفى رواته مَنْ هو موثوق به، ومَنْ هو مشكوك فيه، ومَنْ عُرِف بالوضع، نجد مثل ذلك فيما رُوِىَ من التفسير، ومَنْ روَى من المفسِّرين.
وكان مبدأ ظهور الوضع فى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، حين اختلف المسلمون(1/115)
سياسياً، وتفرَّقوا إلى شيعة وخوارج وجمهور، ووُجِدَ من أهل البدع والأهواء مَنْ روَّجوا لبدعهم، وتعصبَّوا لأهوائهم، ودخل فى الإسلام مَن تبطن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له، وتضليل أهله، فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة، ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة، ورغباتهم الخبيثة.
* *
* أسبابه:
ويرجع الوضع فى التفسير إلى أسباب متعددة: منها التعصب المذهبى، فإنَّ ما جَدَّ من افتراق الأُمة إلى شيعة تطرَّفوا فى حب علىّ، وخوارج انصرفوا عنه وناصبوه العداء، وجمهور المسلمين الذين وقفوا بجانب هاتين الطائفتين بدون أن يمسهم شئ من ابتداع التشيع أو الخروج، جعل كل طائفة من هذه الطوائف تحاول بكل جهودها أن تؤيد مذهبها بشئ من القرآن، فنسب الشيعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وإلى علىّ وغيره من أهل البيت - رضى الله عنهم - أقوالاً كثيرة من التفسير تشهد لمذهبهم. كما وضع الحوارج كثيراً من التفسير الذى يشهد لمذهبهم، ونسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، وكان قصد كل فريق من نسبة هذه الموضوعات إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، الترويج للمروى، والإمعان فى التدليس، فإن نسبة المروى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أو إلى أحد الصحابة، تورث المروى ثقة وقبولاً. لا يوجد شئ منهما عندما يُنسب المروى لغير النبى عليه الصلاة والسلام أو لغير صحابى.
كذلك نجد اللون السياسى فى هذا العصر يترك له أثراً بَيِّناً فى وضع التفسير، ويُلاحَظ أن المروى عن علىّ وابن عباس رضى الله عنهما قد جاوز حد الكثرة، مما يجعلنا نميل إلى القول بأنه قد وُضع عليهما فى التفسير أكثر مما وُضِع على غيرهما، والسبب فى ذلك أنَّ علياً وابن عباس رضى الله عنهما من بيت النبوة، فالوضع عليهما يُكسب الموضوع ثقة وقبولاً، وتقديساً ورواجاً، مما لا يكون لشئ مما يُنسب إلى غيرهما. وفوق هذا فقد كان لعلىّ من الشيعة ما ليس لغيره، فنسبوا إليه من القول فى التفسير ما يظنون أنه يُعلى من قدره، ويرفع من شأنه. وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، فوُجِد من الناس مَنْ تزَّلف إليهم، وتقرَّب بكثرة ما يرويه لهم عن جدهم ابن عباس، مما يدل على أن اللون السياسى كان له أثر ظاهر فى وضع التفسير.
كذلك نجد من أسباب الوضع فى التفسير ما قصده أعداء الإسلام الذين اندَّسوا بين أبنائه متظاهرين بالإسلام، من الكيد له ولأهله، فعمدوا إلى الدس والوضع فى التفسير بعد أن عجزوا عن أن ينالوا من هذا الدين عن طريق الحرب والقوة، أو عن طريق البرهان والحُجَّة.
* *
*(1/116)
أثر الوضع فى التفسير:
وكان من وراء هذه الكثرة التى دخلت فى التفسير ودُسَّت عليه، أن ضاع كثير من هذا التراث العظيم الذى خلَّفه لنا أعلام المفسِّرين من السَلَف، لأن ما أحاط به من شكوك، أفقدنا الثقة به، وجعلنا نرد كل رواية تطرَّق إليها شئ من الضعف، وربما كانت صحيحة فى ذاتها.
كما أن اختلاط الصحيح من هذه الروايات بالسقيم منها، جعل بعض مَنْ ينظر فيها وليس عنده القدرة على التمييز بين الصحيح والعليل، ينظر إلى جميع ما رُوِىَ بعين واحدة، فيحكم على الجميع بالصحة، وربما وَجَد من ذلك روايتين متناقضتين عن مفسِّر واحد فيتهمه بالتناقض فى قوله، ويتهم المسلمين بقبول هذه الروايات المتناقضة المتضاربة.
يقول الأستاذ "جولدزيهر" فى كتابه "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" (78-82) - ما نصه: "وإنما لمما يلفت النظر فى هذا المحيط، هذه الظاهرة الغريبة، وهى أن التعاليم المنسوبة إلى ابن عباس تحمل طابع التصديق بشكل متساو، وهى فى نفسها تظهر فى تضاد شديد بينها وبين بعضها، مما لا يقبل التوسط أو التوفيق".
ثم يسوق بعد ذلك مثالاً لهذا التضاد، فيذكر ما قام حول تعيين الذبيح من خلاف أسنده مثيروه إلى أقوال مأثورة عن السلَفَ، ويذكر فى ضمن كلامه: "أن كل فريق يعتمد فى رأيه على إسناد متصل بابن عباس يدعم به رأيه، فالإسحاقيون عن عِكرمة، والإسماعيليون عن الشعبى أو مجاهد، كل أُولئك سمعوا ذلك عن ابن عباس، وكل ادَّعى بأن هذا هو رأيه فى هذه المسألة.. "
ثم يقول بعد كلام ساقه فى هذا الموضوع: "ويمكن أن يُرى من ذلك إلى أى حد يكون مقدار صحة الرأى المستند إلى ابن عباس، وإلى أى حد يمكن الاعتراف به. وما نعتبره بالنسبة له وللآراء المأثورة عنه، يمكن أن يُعتبر إلى أقصى حد بالنسبة للتفسير المأثور، فالأقوال المتناقضة يمكن أن ترجع دائماً إلى قائل واحد، معتمدة فى الوقت نفسه على أسانيد مرضية موثوق بها ... "
ثم يقول بعد كلام ساقه عن الإسناد وما قع فيه من اللعب والخداع: "ومن الملاحظات التى أبديناها، يمكن أن نخلص بهذه النتيجة: وهى أنه لا يوجد بالنسبة لتفسير مأثور للقرآن ما نستطيع أن نسميه وحده تامة أو كياناً قائماً، فإنه قد تُروى عن الصحابة فى تفسير الموضوع الواحد آراء متخالفة وفى أغلب الأحيان يناقض بعضها بعضاً من جهة، ومن جهة أخرى فقد تُنسب للصحابى الواحد فى معنى الكلمة الواحدة أو الجملة كلها آراء مختلفة، وبناء على ذلك، يُعتبر التفسير الذي يخالف بعضه بعضاً، والمناقض بعضه بعضاً، مساوياً للتفسير بالعلم".(1/117)
هذا ما حكم به الأستاذ "جولدزيهر" على التفسير بالمأثور فى كتابه، وكل ما قاله فى هذا الموضوع لا يعدو أن يكون محاولات فاشلة يريد من ورائها أن يُظهر أن ابن عباس خاصة، ومن تكلم فى التفسير من الصحابة عامة، بمظهر الشخص الذى يناقض نفسه فى الكلمة الواحدة أو الموضوع الواحد. كما يرمى من وراء ذلك أن يصرف نظر المسلمين عن هذه الثروة الضخمة التى خلَّفها لهم السَلَف الصالح فى التفسير، زعماً أن هذا التناقض الموجود بين الروايات، نتيجة لاختلاف وجهات النظر من شخص واحد أو أشخاص، وتفسير هذا شأنه نحن فى حِلٍّ من التزامه، لأنهم قالوا بعقولهم، ونحن مشتركون معهم فى هذا القَدْر.
ونحن لا ننكر أن هناك اختلافاً بين السَلَف فى التفسير، كما لا ننكر أنَّ هناك اختلافاً بين قولين أو أقوال لشخص واحد منهم، ولكن هذا الاختلاف قلنا عنه فيما سبق مفصَّلاً: إن معظمه يرجع إلى اختلاف عبارة وتنوع، لا اختلاف تناقض وتضاد، فما كان من هذا القبيل، فالجمع بينه سهل ميسور، وما لم يمكن فيه الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدَّم إن استويا فى الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدَّم.
أما إذا تعارضت أقوال جماعة من الصحابة وتعذَّر الجمع أو الترجيح، فيُقدَّم ابن عباس على غيره، لأن النبى صلى الله عليه وسلم بشَّره بذلك حيث قال: "اللَّهم علِّمه التأويل" وقد رجح الشافعى قول زيد فى الفرائض لحديث: " أفرضكم زيد".
وأما ما ساقه على سبيل المثال من اختلاف الرواية عن ابن عباس فى تعيين الذبيح، فقد رجعتُ إلى ابن جرير فى تفسيره، فوجدته قد ذكر عن ابن عباس هاتين الروايتين المختلفتين، وساق كل رواية منها بأسانيد تتصل إلى ابن عباس، بعضها يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوف عليه.
وابن جرير - كما نعلم - لم يلتزم الصحة فى كل ما يرويه، ولو أننا عرضنا هاتين الروايتين على قواعد المحدَثين فى نقد الرواية والترجيح، لتبين لنا بكل وضوح وجلاء، أن الرواية القائلة بأن الذبيح هو إسماعيل، أصح من غيرها وأرجح مما يخالفها، لأنها مؤيَّدة بأدلة كثيرة يطول ذكرها، وأيضاً فإن الرواية التى يذكرها ابن جرير عن ابن عباس مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقيدة أن الذبيح هو إسحاق، فى سندها الحسن بن دينار عن علىّ بن زيد، والحسن بن دينار متروك، وعلىّ بن زيد منكر الحديث، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى تفسيره.(1/118)
أما باقى الروايات الموقوفة على ابن عباس، والتى تفيد أن الذبيح هو إسحاق، فهى - وإن كانت صحيحة الأسانيد - محمولة على أن ما تضمنته من أن الذبيح هو إسحاق، كان رأى ابن عباس فى أول الأمر، لأنه سمع ذلك من بعض الصحابة الذين كانوا يحدِّثون فى مثل هذا بما سمعوه من كعب وغيره من مسلمى اليهود، ثم علم بعد: أن ذلك قول اليهود فرجع عنه وصرَّح بنقيضه، كما قال ابن جرير: "حدَّثنى يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنى عمر بن قيس، عن عطاء بن أبى رباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المفدَّى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود"، وهذا الأثر صحيح عن ابن عباس، إسناده على شرط الصحيح، وهو كما ترى صريح فى تكذيب اليهود فيما زعموه، وهو يقضى على كل أثر بخلافه، وبهذا الطريق تنتظم الآثار الواردة عن ابن عباس فى هذا الباب. قال ابن كثير فى تفسيره (جـ 4 ص 17) بعد ما ساق الروايات فى أن الذبيح هو إسحاق: "وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم فى الدولة العمرية جعل يُحدِّث عمر رضى الله عنه عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر رضى الله عنه، فترخَّص الناس فى استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأُمَّة - والله أعلم - حاجة إلى حرف واحد مما عنده".
وأما ما رمى إليه من جعل التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم، وادعاؤه أنه لا يوجد له وحدة تامة أو كيان قائم، فهذا شطط منه فى الرأى، ولا يكاد يسلم له هذا المدَّعى، لأن المأثور الذى صح عن النبى صلى الله عليه وسلم له مكانته وقيمته، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 4] .. وأما ما صح عن الصحابة فغالبه مما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقليل منه قالوه عن نظر منهم واجتهاد وحتى هذا القليل - عند مَنْ لا يرى أن له حكم المرفوع - له أيضاً قيمته ومكانته، ولا يجوز العدول عنه إذا صح إلى غيره، لأنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختُصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح.
وبعد.. فهل يعُدَ التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم؟ اللَّهم إن هذا لا يقوله منصف.
* *
* قيمة التفسير الموضوع:
ثم إن هذا التفسير الموضوع، لو نظرنا إليه من ناحيته الذاتية بصرف النظر عن ناحيته الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو من قيمته العلمية، لأنه مهما كثر الوضع فى التفسير فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، أما التفسير فى حد ذاته فليس دائماً(1/119)
أمراً خيالياً بعيداً عن الآية، وإنما هو - فى كثير من الأحيان - نتيجة اجتهاد علمى له قيمته، فمثلاً مَنْ يضع فى التفسير شيئاً وينسبه إلى علىّ أو إلى ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو رأى له، واجتهاد منه فى تفسير الآية، بناه على تفكيره الشخصى، وكثيراً ما يكون صحيحاً، غاية الأمر أنه أراد لرأيه رواجاً وقبولاً، فنسبه إلى مَنْ نُسِب إليه من الصحابة. ثم إن هذا التفسير المنسوب إلى علىّ أو ابن عباس لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية غالباً، وإنما الشئ الذى لا قيمة له فيه هو نسبته إلى علىّ أو ابن عباس.
فالموضوع من التفسير - والحق يقال - لم يكن مجرد خيال أو وهم خُلِق خلقاً، بل له أساس ما، يهم الناظر فى التفسير درسه وبحثه، وله قيمته الذاتية وإن لم يكن له قيمته الإسنادية.
* * *(1/120)
ثانياً: الإسرائيليات
* تمهيد - فى بيان المراد بالإسرائيليات ومدى الصلة بينها وبين القرآن:
لفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودى للتفسير، وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أنَّا نريد به ما هو أوسع من ذلك وأشمل، فنريد به ما يعم اللون اليهودى واللون النصرانى للتفسير، وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية.
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ "الإسرائيليات"، من باب التغليب للجانب اليهودى على الجانب النصرانى، فإن الجانب اليهودى هو الذى اشتهر أمره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالَم ودخل الناس فى دين الله أفواجاً.
كان لليهود ثقافة دينية، وكان للنصارى ثقافة دينية كذلك، وكلتا الثقافتين كان لها أثر فى التفسير إلى حد ما.
أما اليهود، فإن ثقافتهم تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التى أشار إليها القرآن بقوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] ودلَّ على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ..
وكثيراً ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ "التوراة" ويطلقونه على كل الكتب المقدَّسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره. وتسمى التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى بطريق الكتابة، وإنما تحمَّلوها ونقلوها بطريق المشافهة، ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دُوِّنت وعُرِفت باسم التلمود، ووُجِد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودى، والقصص، والتاريخ، والتشريع، والأساطير.
وأما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد - فى الغالب الأهم - على الإنجيل، وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التى نزلت على الرسل فقال: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} [الحديد: 27] وغير هذا كثير من آيات القرآن التى تشهد له بذلك.(1/121)
والأناجيل المعتبرة عند النصارى يُطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل، اسم: العهد الجديد. والكتاب المقدّس لدى النصارى يشمل: التوراة والإنجيل ويُطلق عليه: العهد القديم والعهد الجديد.
وكان طبيعياً أن يُشرح الإنجيل بشروح مختلفة، كانت فيما بعد منبعاً من منابع الثقافة النصرانية، كما وُجِدَ بجوار ذلك ما زاده النصارى من القصص، والأخبار، والتعاليم، التى زعموا أنهم تلقوها عن عيسى عليه السلام، وهذا كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية.
إذن ... فقد كانت التوراة المصدر الأول لثقافة اليهودية الدينية، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصارى الدينية.
وإذا نحن أجلنا النظر فى التوراة والإنجيل نجد أنهما قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام، وذلك على اختلاف فى الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء - مثلاً - فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحى التوراة والإنجيل، فتراه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التى حصلت فيها، كما أنه لا يذكر فى الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت على أيديهم بعض الحوادث. ويدخل فى تفاصيل الجزئيات، بل يتخيَّر من ذلك ما يمس جوهر الموضوع، وما يتعلق بموضع العبرة.
وإذا نحن تتبعنا هذه الموضوعات التى اتفق فى ذكرها القرآن والتوراة، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعاً منها، وقارنا بين ما جاء فى الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهراً جلياً.
فمثلاً قصة آدم عليه السلام، ورد ذكرها فى التوراة، كما وردت فى القرآن فى مواضع كثيرة، أطولها ما ورد فى سورة البقرة، وما ورد فى سورة الأعراف. وبالنظر فى هذه الآيات من السورتين، نجد أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التى نُهِىَ آدم وزوجه عن الأكل منها، ولا بيَّن الحيوان الذى تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه. كما لم يتعرَّض للبقعة التى هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة ... إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفصيل وتوضيح.
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان فى التوراة يجد بعدها أنها قد تعرَّضت لكل ذلك وأكثر منه. فأبانت أن الجنة فى عدن شرقاً، وأن الشجرة التى نُهيا عنها كانت فى وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر، وأن الذى خاطب حواء هو الحيَّة، وذكرت ما انتقم الله به من الحيَّة التى تقمصها إبليس، بأن جعلها تسعى(1/122)
على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هى ونسلها فى حبلها ... إلى آخر ما ذُكر فيها مما يتعلق بهذه القصة.
ومثلاً نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت فى الإنجيل، فمن ذلك قصة عيسى ومريم، ومعجزات عيسى عليه السلام، كل ذلك جاء به القرآن فى أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة، ومكان العبرة، فلم يتعرَّض القرآن لنسب عيسى مفصَّلاً، ولا لكيفية ولادته، ولا للمكان الذى وُلِدَ فيه، ولا لذكر الشخص الذى قُذِفت به مريم، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء، ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياء الموتى..
مع أننا لو نظرنا فى الإنجيل لوجدناه قد تعرَّض لنسب عيسى، ولكيفية ولادة مريم له، ولذكر الشخص الذى قُذِفت به مريم، ولنوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء ولحوادث جزئية من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولكثير من مثل هذا التفصيل الموسَّع الذى أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا.
وبعد ... فهل يجد المسلمون هذا الإيجاز فى كتابهم، ويجدون بجانب ذلك تفصيلاً لهذا الإيجاز فى كتب الديانات الأخرى، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضِّح لما فيه من غموض؟.. هذا ما نريد أن نعرض له فى هذا البحث، ليتبين لنا كيف دخلت الإسرائيليات فى التفسير، وكيف تطوَّر هذا الدخول، وإلى أى حد تأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية.
* *
* مبدأ دخول الإسرائيليات فى التفسير وتطوره:
نستطيع أن نقول: إن دخول الإسرائيات فى التفسير، أمر يرجع إلى عهد الصحابة رضى الله عنهم، وذلك نظراً لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل فى ذكر بعض المسائل كما تقدَّم، مع فارق واحد، هو الإيجاز فى القرآن، والبسط والإطناب فى التوراة والإنجيل. وسبق لنا القول بأن الرجوع إلى أهل الكتاب، كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابى إذا مَرَّ على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلاً إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرض له، فلا يجد مَن يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا فى الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص الدينى.
غير أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - لم يسألوا أهل الكتاب عن كل(1/123)
شئ، ولم يقبلوا منهم كل شئ، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحاً للقصة وبياناً لما أجمله القرآن منها، مع توقفهم فيما يُلقى إليهم، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب ما دام يحتمل كلا الأمرين، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} [المائدة: 59] .. الآية.
كما أنهم لم يسألوهم عن شئ مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام، اللهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد والتقوية لما جاء به القرآن. كذلك كانوا لا يعدلون عما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك إلى سؤال أهل الكتاب، لأنه إذا ثبت الشئ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يعدلوا عنه إلى غيره، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التى يُشبه أن يكون السؤال عنها نوعاً من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذى ضُرِب به القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونوع خشبها، واسم الغلام الذى قتله الخضر.. وغير ذلك، ولهذا قال الدهلوى بعد أن بيّن أن السؤال عن مثل هذا تكلف ما لا يعنى: "وكانت الصحابة رضى الله عنهم يعدون مثل ذلك قبيحاً من قبيل تضييع الأوقات".
كذلك كان الصحابة لا يُصَدِّقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافى مع العقيدة. بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ، رَدُّوا عليهم خطأهم. وبيَّنوا لهم وجه الصواب فيه، فمن ذلك ما رواه البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياهوأشار بيده يقللها".
فقد اختلف السَلَف فى تعيين هذه الساعة، وهل هى باقية أو رُفِعَت؟ وإذا كانت باقية، فهل هى فى جمعة واحدة من السنة أو فى كل جمعة منها؟ فنجد أبا هريرة رضى الله عنه يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب: بأنها فى جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ويبيِّن له: أنها فى كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة، فيرى الصواب مع أبى هريرة فيرجع إليه.
كما نجد أبا هريرة أيضاً يسأل عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له: أخبرنى ولا تضن علىّ، فيجيبه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة فى يوم الجمعة، فيرد(1/124)
عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة فى يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يُصَلِّى" وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو فى صلاة حتى يُصلِّى"؟ ... الحديث.
فمثل هذه المراجعة التى كانت بين أبى هريرة وكعب تارة، وبينه وبين ابن سلام تارة أخرى، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا، ويردُّون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب.
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة - رضى الله عنهم - لم يخرجوا عن دائرة الجواز التى حدَّها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما فهموه من الإباحة فى قوله عليه السلام: "بلِّغوا عنى ولو آية، وحَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج، ومَن كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا ... الآية" ولا تعارض بين هذين الحديثين، لأن الأول أباح لهم أن يُحَدِّثوا عما وقع لبنى إسرائيل من الأعاجيب، لما فيها من العبرة والعظة، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوباً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح عند شرحه لهذا الحديث: "وقال الشافعى: من المعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حَدِّثوا عن بنى إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوِّزونه فلا حَرَج عليكم فى التحدث به عنهم. وهو نظير قوله: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم"، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه".
وأما الحديث الثانى، فُيراد منه التوقف فيما يُحدِّث به أهل الكتاب، مما يكون محتملاً للصدق والكذب، لأنه ربما كان صدقاً فيُكَذِّبونه، أو كذباً فيُصَدِّقونه، فيقعون بذلك فى الحَرَج، أما ما خالف شرعنا فنحن فى حِلٍّ من تكذيبه، وأما وافقه فنحن فى حِلٍّ من تصديقه.(1/125)
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم": "أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً، لئلا يكون فى نفس الأمر صدقاً فتكذِّبوه، أو كذباً فتصدِّقوه، فتقعوا فى الحَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. نبَّه على ذلك الشافعى رحمه الله" ...
ثم قال: "وعلى هذا نحمل ما جاء عن السَلَف من ذلك".
وأما ما أخرجه الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، والبزار، من حديث جابر ابن عبد الله: "أن عمر بن الخطاب أتى النبى صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب فقال: "أمتهوكون فيها يا بن الخطاب؟ والذى نفسى بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فَتُكَذِّبوا به، أو بباطل فَتُصَدِّقوا به، والذى نفسى بيده، لو أنَّ موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعنى" فلا يعارض ما قلناه من الجواز، لأن النهى الوارد هنا كان فى مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام. والإباحة بعد أن عُرِفت الأحكام واستقرَّت، وذهب خوف الاختلاط.. قال الحافظ ابن حجر فى الفتح: "وكأن النهى وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، فلما زال المحذور وقع الإذن فى ذلك، لما فى سماع الأخبار التى كانت فى زمانهم من الاعتبار".
ويمكن أن ندفع ما يُتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال: "هذا النهى إنما هو فى سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففى النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم، ولا يدخل فى النهى سؤالهم عن الأخبار المصدِّقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة".
ومن هذا كله يتبين لنا: أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة، كما يتبين لنا المقدار الذى أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب.
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث، وما عرفناه من حرص الصحابة، على امتثال ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، نستطيع أن نقر الأستاذ "جولدزيهر" والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذى وجَّهاه إلى ابن عباس خاصة، وإلى الصحابة عامة، من رجوعهم إلى أهل الكتاب فى كل شئ، وقبولهم لما نهى الرسول عن أخذه من أهل الكتاب، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس، كما ذكرنا الأثر الذى(1/126)
أخرجه البخارى عن ابن عباس، وفيه يُشدِّد - رضى الله عنه - النكير على مَن يأخذون من أهل الكتاب ويُصدِّقونهم فى كل شئ، فهل يُعقل بعد هذا، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله، ومراجعة أبى هريرة لكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، أن نعترف بتهاون الصحابة ومخالفتهم لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم!! اللهم إنَّا لا نقر ذلك ولا نرضاه.
وأما ما ذكره الأستاذ "جولدزيهر": من أن ابن عباس كان يرجع لرجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدى فى تفسير القرآن، فعلى فرض صحة ذلك. فإنّا لا نكاد نُصدِّق أن ابن عباس كان يرجع إليه فى كل شئ، بل كان يرجع إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز، وليس من شك فى ذلك بعد ما عرفتَ من شدة نكير ابن عباس على مَن كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم.
وأما ما اعتمد عليه هذا المستشرق فى دعواه هذه، من أن الطبرى عند تفسيره للفظ "البرق" فى قوله تعالى فى الآية (12) من سورة الرعد: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} .. نسب إلى ابن عباس أنه قال: إنَّ أبا الجلد يقول: إن معناه المطر فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى، لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثنى، قال: حدَّثنا حجاج، قال: حدَّثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبى الجلد يسأله عن البرق فقال: البرق: الماء" وهذا إسناد منقطع، لأن موسى بن سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس، ولم يكن مولى له، وإنما كان مولى العباسيين، وروى عن أبى جعفر الباقر الذى كان بعد ابن عباس بمدة طويلة ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولى ابن عباس سهو منه، أو لعله خطأ وقع أثناء الطبع.
ثم إنَّ سؤال ابن عباس عن معنى البرق، ليس سؤالاً عن أمر يتعلق بالعقيدة أو الأحكام، وإنما هو سؤال يرجع إلى تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية، وليس فى هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فى نهيه عن سؤال أهل الكتاب. على أن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدَّق أبا الجلد فيما قال، وكل ما فيه: أنه حكى قوله فى البرق.
وأما ما نُسِب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يُحدِّث منهما، فليس على إطلاقه، بل كان يُحَدِّث منهما فى(1/127)
حدود ما فهمه من الإذن فى قوله عليه السلام: "حَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج" كما نص على ذلك ابن تيمية.
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم. أما التابعون فقد توسَّعوا فى الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية فى التفسير، ويرجع ذلك لكثرة مَن دخل مِنْ أهل الكتاب فى الإسلام، وميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فظهرت فى هذا العهد جماعة من المفسِّرين أرادوا أن يسدُّوا هذه الثغرات القائمة فى التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء: مقاتل بن سليمان (المتوفى سنة 15 هـ) الذى نسبه أبو حاتم إلى أنه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما فى كتبهم، بل ونجد بعض المفسِّرين فى هذا العصر - عصر التابعين - يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالإسلام فى مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل، والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل بن سليمان، كان يرى أن قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الإسراء: 58] . يرجع إلى فتح القسطنطينية، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد، فقد جاء عنه أنه قال: وجدتُ فى كتاب الضحاك بن مزاحم فى تفسيرها: "أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ... ثم ذكر بلداً بلداً. وروى عن وهب بن منبه: أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنتة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى، فتُحِت قسطنطينية على يد رجل من بنى هاشم، وخراب الأندلس من قِبَل الزنج، وخراب إفريقية من قِبَل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع. وخراب الكوفة من قِبَل عدو يحصرهم ويمنعهم من الشراب من الفرات، وخراب البصرة من قِبَل الغراق (الغرق) ، وخراب الأيلة من عدو يحصرهم براً وبحراً، وخراب الرى من الديلم، وخراب خراسان من
قِبَل التبت، وخراب التبت من قِبَل الصين، وخراب الهند واليمن من قِبَل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قِبَل الحبشة، وخراب المدينة من قِبَل الجوع".
ثم جاء بعد عصر التابعين مَن عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرط فى الأخذ منها إلى(1/128)
درجة جعلتهم لا يردُّون قولاً. ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يُروَى لهم وإن كان لا يتصوره العقل!!. واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار التى أصبح الكثير منها نوعاً من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، فَوُجِد من المفسِّرين مَنْ حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلى، الذى كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها.
* *
* مقالة ابن خلدون فى الإسرائيليات:
ونرى بعد هذا أن نذكر عبارة ابن خلدون فى مقدمته، ليتبين لنا أسباب الاستكثار من هذه المرويات الإسرائيلية، وكيف تسرَّبت إلى المسلمين، فإنه خير مَنْ كتب فى هذا الموضوع، وإليك نص عبارته:
قال رحمه الله: " ... وقد جمع المتقدمون فى ذلك - يعنى التفسير النقلى - وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب فى ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأُميَّة، وإذا تشوقوا إلى معرفة شىء مما تتشوق إليه النفوس البَشرية فى أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومَنْ تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من "حِمير" الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التى يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يُرجع إلى الأحكام فيتُحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل، وتساهل المفسِّرون فى مثل ذلك، وملأوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها - كما قلنا - عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بَعُد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات فى الدين والمِلَّة، فتلقيت بالقبول من يومئذ ... "
ومن هذا يتضح لنا أن ابن خلدون أرجع الأمر إلى اعتبارات اجتماعية وأخرى دينية، فعد من الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والأُميِّة على العرب وتشوقهم لمعرفة ما تتشوَّق إليه النفوس البَشرية، من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، وهم إنما يسألون فى ذلك أهل الكتاب قبلهم.(1/129)
وعدَّ من الاعتبارات الدينية التى سوَّغت لهم تلقى المرويات فى تساهل وعدم تحر للصحة "أن مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام فيُتحرَّى فيها الصحة التى يجب بها العمل".
وسواء أكانت هذه هى كل الأسباب أم كانت هناك أسباب أخرى، فإن كثيراً من كتب التفسير قد اتسع لما قيل من ذلك وأكثر، حتى أصبح ما فيها مزيجاً متنوعاً من مخلفات الأديان المختلفة، والمذاهب المتباينة.
* *
* أثر الإسرائليات فى التفسير:
ولقد كان لهذه الإسرائيليات التى أخذها المفسِّرون عن أهل الكتاب وشرحوا بها كتاب الله تعالى أثر سئ فى التفسير، ذلك لأن الأمر لم يقف على ما كان عليه فى عهد الصحابة، بل زادوا على ذلك فرووا كل ما قيل لهم إن صدقاً وإن كذباً، بل ودخل هذا النوع من التفسير كثير من القصص الخيالى المخترَع، مما جعل الناظر فى كتب التفسير التى هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئاً مما جاء فيها، لاعتقاده أنَّ الكل من واد واحد. وفى الحق أنَّ المكثرين من هذه الإسرائيليات وضعوا الشوك فى طريق المشتغلين بالتفسير، وذهبوا بكثير من الأخبار الصحيحة بجانب ما رووه من قصص مكذوب وأخبار لا تصح، كما أن نسبة هذه الإسرائيليات التى لا يكاد يصح شئ منها إلى بعض من آمن مِنْ أهل الكتاب، جعلت بعض الناس ينظر إليهم بعين الاتهام والريبة. وسوفَ نعرض لهذا فيما بعد، ونرد عليه إن شاء الله تعالى.
* *
* قيمة ما يُروى من الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة، وهى ما يأتى:
القسم الأول: ما يُعلم صحته بأن نُقِل عن النبى صلى الله عليه وسلم نقلاً صحيحاً، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحاً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند البخارى أو كان له شاهد من الشرع يؤيده. وهذا القسم صحيح مقبول.
القسم الثانى: ما يُعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى، وهذا القسم نتوقف فيه، فلا نؤمن به ولا نُكذِّبه، وتجوز حكايته، لما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أُنِزلَ إلينا ... " الآية.(1/130)
وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر دينى، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب فى مثل هذا اختلافاً كثيراً، ويأتى عن المفسِّرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون فى مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أى الشجر كانت، وأسماء الطيور التى أحياها الله لإبراهيم، وتعيين بعض البقرة الذى ضُرِب به قتيل بنى إسرائيل، ونوع الشجرة التى كلِّم الله منها موسى.. إلى غير ذلك مما أبهمه الله فى القرآن ولا فائدة فى تعيينه تعود على المكلَّفين فى ديناهم أو دينهم.
ثم إذا جاء شى من هذا القبيل - أعنى ما سكت عنه الشرع ولم يكن فيه ما يؤيده أو يفنده - عن أحد من الصحابة بطريق صحيح، فإن كان قد جزم به فهو كالقسم الأول، يُقبل ولا يُرد، لأنه لا يعقل أن يكون قد أخذه عن أهل الكتاب بعد ما علم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم. وإن كان لم يجزم به فالنفس أسكن إلى قبوله، لأن احتمال أن يكون الصحابى قد سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منه، أقوى من احتمال السماع من أهل الكتاب، ولا سيما بعد ما تقرر من أن أخذ الصحابة عن أهل الكتاب كان قليلاً بالنسبة لغيرهم من التابعين ومَن يليهم.
أما إن جاء شئ من هذا عن بعض التابعين، فهو مما يُتوقف فيه ولا يُحكم عليه بصدق ولا يكذب، وذلك لقوة احتمال السماع من أهل الكتاب، لما عُرفوا به من كثرة الأخذ عنهم، وبُعْد احتمال كونه مما سُمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا لم يتفق أهل الرواية من علماء التفسير على ذلك، أما إن اتفقوا عليه. فإنه يكون أبعد من أن يكون مسموعاً من أهل الكتاب، وحينئذ تسكن النفس إلى قبوله والأخذ به. والله أعلم.
* *
* موقف المفسِّر إزاء هذه الإسرائيليات:
علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت فى ديننا واستفحل خطرها، كما علمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم" قاعدة مقرَّرة لا يصح العدول عنها بأى حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسِّر أن يكون يقظاً إلى أبعد حدود اليقظة، ناقداً إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من دقة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان فى سُّنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن، فمثلاً حيث وجد لقوله(1/131)
تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] مجمل فى السُّنَّة النبوية الصحيحة وهو قصة ترك "إن شاء الله" والمؤاخذة عليه فلا يرتكب قصة صخر المارد.
كذلك يجب على المفسِّر أن يلحظ أن الضرورى يتقدَّر بقدر الحاجة، فلا يذكر فى تفسيره شيئاً من ذلك إلا بقدر ما يقتضيه بيان الإجمال، ليحصل التصديق بشهادة القرآن فيكف اللسان عن الزيادة.
نعم ... إذا اختلف المتقدمون فى شئ من هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم، فلا مانع من نقل المفسِّر لهذه الأقوال جميعاً، على أن ينبه على الصحيح منها، ويبطُل الباطل، وليس(1/132)
له أن يحكى الخلاف ويُطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، لأن مثل هذا العمل يُعَد ناقصاً لا فائدة فيه ما دام قد خلط الصحيح بالعليل، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يسبب له الحيرة والاضطراب.
على أن من الخير للمفسِّر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يُعَد صارفاً عن القرآن، وشاغلاً عن التدبير فى حكمه وأحكامه، وبدهى أن هذا أحكم وأسلم.
هذا.. وقد يشير إلى ما قلناه من جواز نقل الخلاف من المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف منها وتصحيح الصحيح، وأن من الخير أن يمسك الإنسان عن الخوض فيما لا طائل تحته، ما جاء فى الآية [22] من سورة الكهف من قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} .. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة - كما يقول ابن تيمية - على الأدب فى هذا المقام، وتعليم ما ينبغى فى مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضَعَّفِ القولين الأوَّلين، وسكت عن الثالث، فدلَّ على صحته، إذ لو كان باطلاً لرده كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عِدَّتهم لا طائل تحته، فيقال فى مثل هذا: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} .. فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فَلَهذا قال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} .. أى لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلى رجم الغيب".
* *
* أقطاب الروايات الإسرائيلية:
يتصفح الإنسان كتب التفسير بالمأثور، فلا يلبث أن يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات، يكاد يدور على أربعة أشخاص، هم: عبد الله ابن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبِّه، وعبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج.. وهؤلاء الأربعة اختلفت أنظار الناسِ فى الحكم عليهم والثقة بهم، فمنهم من ارتفع بهم عن حد التهمة، ومنهم مَن رماهم بالكذب وعدم التثبت فى الرواية ولهذا أرى أن أعرض لكل فرد منهم، لأكشف عن قيمته فى باب الرواية، وبخاصة ما يرجع من ذلك إلى ناحية التفسير، لنرى أى الفريقين أصدق فى حكمه، وأدق فى نقده.
1- عبد الله بن سلام
* ترجمته:
هو أبو يوسف، عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلى الأنصارى، حليف بن عوف من(1/133)
الخرزج، وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام. أسلم عند قدوم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة. ويحدثنا البخارى عن قصة إسلامه فيقول فى ضمن حديث ساقه فى باب الهجرة: " ... فلما جاء نبى الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئتَ بحق، وقد علمت اليهود أنى سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عنى قبل أن يعلموا أنى قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أنى قد أسلمتُ قالوا فىَّ ما ليس فىّ، فأرسل نبى الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود؛ ويلكم، اتقوا الله، فواللهِ الذى لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنى رسول الله حقاً، وأنى جئتكم بحق فأسلموا"، قالوا: ما نعلمه، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاث مرات، قال: "فأى رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟ قالوا: ذلك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم، قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: " أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: "يابن سلام.. اخرج عليهم"، فخرج، فقال: يا معشر اليهود؛ اتقوا الله، فواللهِ الذى لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قيل: وكان اسمه الحصين، فسماه النبى صلى الله عليه وسلم: "عبد الله"، وشهد له بالجنة. ونجد البخارى رضى الله عن - عند الكلام عن مناقب الأنصار - يُفرد لعبد الله بن سلام باباً مستقلاً فى مناقبه، فروى فيما روى من ذلك بإسناده إلى سعد بن أبى وقاص أنه قال: ما سمعتُ النبى صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وقال: فيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ} [الأحقاف: 10] ... الآية.
ومما يُذكر عنه رحمه الله: أنه وقف خطيباً فى المتألبين على عثمان رضى الله عنه يدافع عنه، ويُخذِّل الثائرين، فقد روى عبد الملك بن عمير عن ابن أخى عبد الله بن سلام، قال: لما أريد قتل عثمان رضى الله عنه، جاء عبد الله بن سلام، فقال له عثمان: ما جاءبك؟ قال: جئتُ فى نصرك، قال: أخرج إلى الناس فاطردهم عنى، فإنك خارج خير لى منك داخل، فخرج عبد الله إلى الناس فقال: يا أيها الناس؛ إنه كان اسمى فى الجاهلية فلاناً، فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، ونزلت فىَّ آيات من كتاب الله عَزَّ وجَلَّ، نزل فىَّ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم} .. ونزل فى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] .. إن لله سيفاً مغموداً، وإن الملائكة قد جاورتكم فى بلدكم هذا الذى نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاللهَ اللهَ فى هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله لئن قتلتموه لتطردن جيرانكم من الملائكة وليُسلَنَّ سيف الله المغمود فيكم فلا يُغمد إلى يوم القيامة. قالوا: اقتلوا اليهودى.. وقتلوا عثمان"..(1/134)
روى عن النبى صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابناه: يوسف ومحمد، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بردة بن أبى موسى، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وشهد مع عمر رضى الله عنه فتح بيت المقدس والجابية. ومات بالمدينة سنة 43 هـ (ثلاث وأربعين من الهجرة) ، وقيل غير ذلك. وقد عَدَّه بعضهم فى البدريين، أما ابن سعد فذكره فى الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق وما بعدها.
* *
* مبلغه من العلم والعدالة:
أما مبلغه من العلم، فيكفى ما جاء فى الحديث البخارى السابق من إخباره عن نفسه: أنه أعلم اليهود وابن أعلمهم، وإقرار اليهود بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. والحق أنه اشتهر بين الصحابة بالعلم، حتى لقد روى أنه لَّما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، فقال: أجلسونى ... قال: إن العلم والإيمان عند أربعة رهط: عند عويمر أبى الدرداء، وعند سلمان الفارسى، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله ابن سلام الذى كان يهودياً فأسلم، فإنى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه عاشر عشرة فى الجنة".
وليس عجيباً أن يكون عبد الله بن سلام فى هذه المكانة العالية من العلم بعد أن اجتمع لديه علم التوراة وعلم القرآن، وبعد أن امتزجت فيه الثقافتان اليهودية والإسلامية، ولقد نقل عنه المسلمون كثيراً مما يدل على علمه بالتوراة وما حولها، ونجد ابن جرير الطبرى ينسب إليه فى تاريخه كثيراً من الأقوال فى المسائل التاريخية الدينية، كما نجده يتجمع حول اسمه كثير من المسائل الإسرائيلية، يرويها كثير من المفسِّرين فى كتبهم.
ونحن أمام ما يُروَى عنه من ذلك لا نُزيِّف كل ما قيل، ولا نقبل كل ما قيل، بل علينا أن نعرض كل ما يُروَى عنه على مقياس الصحة المعتبر فى باب الرواية، فما صح قبلناه، وما لم يصح رفضناه.
هذا.. وإنَّا لا نستطيع أن نتهم الرجل فى علمه، ولا فى ثقته وعدالته، بعد ما علمتَ أنه من خيار الصحابة وأعلمهم، وبعد ما جاء من آيات القرآن، وبعد أن اعتمده البخارى وغيره من أهل الحديث، كما أننا لم نجد من أصحاب الكتب التى بين أيدينا مَن طعن عليه فى علمه، أو نسب إليه من التهم مثل ما نسب إلى كعب الأحبار ووهب بن منبِّه.
* * *
2- كعب الأحبار
* ترجمته:
هو أبو إسحاق، كعب بن ماتع الحميرى، المعروف بكعب الأحبار، من آل ذى رعين، وقيل: من ذى الكلاع، وأصله من يهود اليمن، ويقال: إنه أدرك الجاهلية وأسلم فى خلافة أبى بكر، وقيل: فى خلافة عمر، وقيل: إنه أسلم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وتأخرت هجرته، وقال ابن حجر فى الفتح: إن إسلامه فى خلافة عمر أشهر، وبعد إسلامه انتقل إلى المدينة، وغزا(1/135)
الروم فى خلافة عمر، ثم تحوَّل فى خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى أن مات بحمص سنة 32 هـ (اثنتين وثلاثين من الهجرة) على أرجح الأقوال فى ذلك. وذكره ابن سعد فى الطبقة الأولى من تابعى أهل الشام وقال: كان على دين يهود فأسلم وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى تُوفى بها سنة اثنتين وثلاثين فى خلافة عثمان، وقد بلغ مائة وأربعين سنة. وقال أبو مسهر: والذى حدَّثنى به غير واحد: أنه كان مسكنه اليمن، فقدم على أبى بكر، ثم أتى الشام فمات به. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن عمر، وصهيب، وعائشة، وروى عنه معاوية، وأبو هريرة، وابن عباس، وعطاء بن أبى رباح وغيرهم.
* *
* مبلغه من العلم:
كان كعب بن ماتع على مبلغ عظيم من العلم، ولهذا كان يقال له: "كعب الحَبْر" و "وكعب الأحبار"، ولقد نُقل عنه فى التفسير وغيره ما يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية والثقافة الإسلامية، ولم يؤثر عنه أنه ألَّفَ كما ألَّف وهب بن منبِّه، بل كانت تعاليمه كلها - على ما يظهر لنا وما وصل إلينا - شفوية تناقلها عنه أصحابه ومَن أخذوا عنه. وقد جاء فى الطبقات الكبرى حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن قيس جالس إلى كتب وبينها سِفْر من أسفار التوراة وكعب يقرأ، وهذا يدلنا على أن كعباً كان لا يزال بعد إسلامه يرجع إلى التوراة والتعاليم الإسرائيلية. وقال ابن سعد: قالوا: ذكر أبو الدرداء كعباً فقال: إن عند ابن الحميرى لعلماً كثيراً. وروى معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير أنه قال: قال معاوية: ألا إنَّ أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إنَّ عمرو بن العاص أحد الحكماء، ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا المفرطين. وفى تاريخ محمد بن عثمان بن أبى شيبة، من طريق ابن أبى ذئب، أن عبد الله ابن الزبير قال: ما أصبت فى سلطانى شيئاً إلا قد أخبرنى به كعب قبل أن يقع.
* *
* ثقته وعدالته:
أما ثقته وعدالته فهذا أمر نقول به، ولا نستطيع أن نطعن عليه كما طعن بعض الناس، فابن عباس على جلاله قدره، وأبو هريرة على مبلغ علمه، وغيرهما من الصحابة كانوا يأخذون عنه ويروون له، ونرى الإمام مسلماً يُخرِّج له فى صحيحه، فقد وقعت الرواية عنه فى مواضع من صحيحه فى أواخر كتاب الإيمان، كما نرى أبا داود والترمذى والنسائى يُخرِّجون له، وهذا دليل على أن كعباً كان ثقة عند هؤلاء جميعاً، وتلك شهادة كافية لرد كل تهمة تلصق بهذا الحَبْر الجليل.
*(1/136)
اتهام الأستاذ أحمد أمين لكعب:
ولكننا نجد الأستاذ أحمد أمين - رحمه الله - يحاول أن يغض من ثقة كعب وعدالته، بل ودينه، فنراه يوجه إليه من التهم ما نعيذ كعباً من أن يلحقه شئ منها، وذلك حيث يقول: "وقد لاحظ بعض الباحثين، أن بعض الثقات كابن قتيبة والنووى لا يروى عنه أبداً، وابن جرير الطبرى يروى عنه قليلاً، ولكن غيرهم كالثعلبى، والكسائى ينقل عنه كثيراً فى قصص الأنبياء، كقصة يوسف، والوليد بن الريَّان وأشباه ذلك، ويروى ابن جرير أنه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقاله له: اعهد فإنك ميت فى ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ.. فى التوراة قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة! : قال: اللَّهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فنى أجلك".
ثم قال الأستاذ أحمد أمين: "وهذه القصة إن صحَّت دلَّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو فى هذه الصيغة الإسرائيلية، كما تدلنا على مقدار اختلافه فيما ينقل".
ثم قال: "وعلى الجملة فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم - يريد كعباً ووهباً وغيرهما من أهل الكتاب - فى عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح".
*
* تفنيد هذا الاتهام:
ونحن مع الأستاذ فى قوله: "وهذه القصة، إن صحَّت دلَّت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو فى هذه الصيغة الإسرائيلية" ولكن لسنا نعتقد صحة هذه القصة، ورواية ابن جرير لها لا تدل على صحتها، لأن ابن جرير - كما هو معروف عنه - لم يلتزم الصحة فى كل ما يرويه، والذى ينظر فى تفسيره يجد فيه مما لا يصح شيئاً كثيراً، كما أن ما يرويه فى تاريخه لا يعدو أن يكون من قبيل الأخبار التى تحتمل الصدق والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يُذكر فى كتب التاريخ ثابت صحيح.
ثم إنَّ ما يُعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخُلُقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح له، يجعلنا نحكم بأنَّ هذه القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعباً عن أن يكون على علم بمكيدة قتل عمر وما دُبِّرَ من أمرها، ثم لا يذكر لعمر مَن يُدبِّر له القتل ويكيد له، كما ننزهه عن أن يكون كذَّاباً وضَّاعاً، يحتال على تأكيد ما يُخبَر به بنسبته إلى التوراة وصوغه فى قالب إسرائيلى.
وأما قوله: "وعلى الجملة فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم فى عقيدتهم(1/137)
وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح" فإن أراد أن يُرجع ذنب هذا الأثر السئ إلى كعب وأضزابه فنحن لا نوافقه عليه، لأن ما يرويه كعب وغيره من أهل الكتاب لم يسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكذبوا فيه على أحد من المسلمين، وإنما كانوا يروونه على أنه من الإسرائيليات الموجودة فى كتبهم، ولسنا مُكلَّفين بتصديق شئ من ذلك، ولا مُطالَبين بالإيمان به، بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذِّبوهم".
وإذا كانت هذه الإسرائيليات المروية عن كعب وغيره، قد أثَّرَت فى عقيدة المسلمين وعلمهم أثراً غير صالح، فليس ذنب هذا راجعاً إلى كعب وأضرابه، لأنهم رووه على أنه مما فى كتبهم، ولم يشرحوا به القرآن - اللَّهم إلا ما يتفق من هذا مع القرآن ويشهد له - ثم جاء مَنْ بعدهم فحاولوا أن يشرحوا القرآن بهذه الإسرائيليات فربطوا بينها وبينه على ما بينهما من بُعد شاسع، بل وزادوا على ذلك ما نسجوه من قصص خرافية، نسبوها لهؤلاء الأعلام، ترويجاً لها وتمويهاً على العامة.
فالذنب إذن ذنب المتأخرين الذين ربطوا هذه الإسرائيليات بالقرآن وشرحوه على ضوئها، واخترعوا من الأساطير ما نسبوه زوراً وبهتاناً إلى هؤلاء الأعلام وهم منه براء.
* *
* اتهام الشيخ رشد رضا الكعب:
كذلك نجد السيد محمد رشيد رضا - رحمه الله - فى مقدمة تفسيره بعد أن ذكر كلاماً لابن تيمية فى شأن ما يُروَى من الإسرائيليات عن كعب ووهب يقول ما نصه: "فأنت ترى أن هذا الإمام المحقق - يريد ابن تيمية - جزم بالوقف عن تصديق جميع ما عُرِف أنه من رواة الإسرائيليات. وهذا فى غير ما يقوم الدليل على بطلانه فى نفسه، وصرَّح فى هذا المقام بروايات كعب الأحبار ووهب بن منبِّه، مع أن قدماء رجال الجرح والتعديل اغتروا بهما وعدَّلوهما، فكيف لو تبين له ما تبين لنا من كذب كعب ووهب وعزوهما إلى التوراة وغيرها من كتب الرسل ما ليس فيها شئ منه ولا حوَّمت حوله".
*
* تفنيد هذا الاتهام:
ونحن لا ننكر ما ذهب إليه ابن تيمية فى مقدمة أصول التفسير التى اعتمد عليها الشيخ فيما نقل عنه، ولكن ننكر على الشيخ فهمه لعبارة ابن تيمية، وذلك أنه ادَّعى أن ابن تيمية جزم بالوقف عن تصديق جميع ما عُرِف أنه من رواة الإسرائيليات، وهذا فى غير ما يقوم الدليل على بطلانه فى نفسه - يعنى أنه لا يُتوقف فيه بل يُرفض رفضاً باتاً.
وعبارة ابن تيمية التى ذكرها الشيخ لا تفيد ذلك الذى قاله وإنما تفيد أنَّ ما جاء(1/138)
عن رواة الإسرائيليات يُتوقف فيه إذا كان مما هو مسكوت عنه فى شرعنا ولم يقم دليل على بطلانه، أما ما روى عنه موافقاً لما جاء فى شرعنا فهذا صحيح مقبول بدون توقف، كما نص عليه ابن تيمية (فى ص 26، 27) من مقدمة فى أصول التفسير، وهو عين ما عناه بعبارته الموجودة (فى ص 13، 14) وهى التى اعتمد عليها السيد محمد رشيد فى طعنه على كعب وغيره.
كما أننا لا نقر الشيخ على هذا الاتهام البليغ لكعب ووهب، ولا على رميهما بالكذب، ولا على ادعاء عزوهما إلى التوراة وغيرها ما ليس فيها، كما أنَّا لا نقره على اتهامه لعلماء الجرح والتعديل الذين طهَّروا لنا السُّنَّة، وأزاحوا عنها ما لصق بها من الموضوعات، وبيَّنوا لنا الصحيح والعليل منها والعدل والمجروح من رواتها، حيث رماهم بالغفلة والاغترار، وهم أهل هذا الفن الذى لا يصلح له إلا قليل من الناس، ولا ندرى ما هذا الكذب الذى تبيَّن له من كعب ووهب وخفى على ابن تيمية وهو مَن نعلم علماً ومعرفة. وليت الشيخ - رحمه الله - بيَّن لنا ما يستند إليه فى دعواه، ولا أظن إلا أنه استند إلى ما جاء عن معاوية رضى الله عنه عند البخارى فى شأن كعب، وهذا نصه كما فى صحيح البخارى:
قال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهرى: أخبرنى حميد بن عبد الرحمن: أنه سمع معاوية يُحدِّث رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال: "إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين الذين يحدِّثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب".
نعم أظن أن الشيخ - رحمه الله - اتهم كعباً وأضرابه بالكذب استناداً لهذا الأثر المروى عن معاوية، والذى رجَّح لدىَّ هذا الظن ما قاله الشيخ بعد كلامه السابق بقليل: "وقد عُلِم أن بعض الصحابة رووا عن أهل الكتاب حتى عن كعب الأحبار الذى روى البخارى عن معاوية أنه قال: إن كنا لنبلوا عليه الكذب.. ومنهم أبو هريرة وابن عباس".
وأرى أن الشيخ قد فَنَّد قول نفسه بنفسه حيث أثبت - كما هو الواقع - أن أبا هريرة وابن عباس وغيرهما من الصحابة أخذوا عن كعب، وهل يُعقل أن صحابياً يأخذ علمه عن كذَّاب وضَّاع، بعد ما عُرِف عن الصحابة من العدالة والتثبت فى تحمل الأخبار، خصوصاً ابن عباس الذى كان يتشدد فى الرواية ويتأكد من صحة ما يُروَى له؟
نعم.. إن حديث البخارى الذى رواه عن معاوية، يُشعر لأول وهلة بنسبة(1/139)
الكذب إلى كعب، ولكن لو رجعنا إلى شرَّاح الحديث لوجدناهم جميعاً يشرحونه بما يُبعد هذه الوصمة الشنيعة عن كعب الأحبار، وإليك بعض ما قيل فى ذلك:
قال ابن حجر فى الفتح عند قوله: "وإن كنا لنبلوا عليه الكذب" - أى يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، فال ابن التين: وهذا نحو قول ابن عباس فى حق كعب المذكور: بَدَّل مَن قبله فوقع فى الكذب، قال: والمراد بالمحدِّثين - فى قوله: إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين الذين يُحدِّثون عن أهل الكتاب - أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم فكان يُحدِّث عنهم، وكذا مَن نظر فى كتبهم فحدَّث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعباً كان أشد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه.
وقال ابن حبان فى كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحياناً فيما يُخبر به، ولم يرد أنه كان كذَّاباً. وقال غيره: الضمير فى قوله: "لنبلوا عليه" للكتاب لا لكعب، وإنما يقع فى كتابهم الكذب لكونهم بَدَّلوه وحَرَّفوه. وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه وإن لم يقصد الكذب ويتعمده، إذ لا يُشترط فى مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب. وقال ابن الجوزى: المعنى أن بعض الذى يُخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً، لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار".
هذه هى الأقوال التى سردها لنا الحافظ ابن حجر، ونحن نميل إلى القول بأن كعباً كان يروى ما يرويه على أنه صحيح لم يُبدَّل ولم يُحرَّف، فهو لم يتعمد كذباً ولا يُنسب إلى كذب، وإن كان ما يرويه كذباً فى حد ذاته، خفى عليه كما خفى على غيره. ولهذا التحريف والتبديل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تصديق أهل الكتاب وعن تكذيبهم فيما يروونه من ذلك، لأنه ربما كان صدقاً فيُكذِّبونه أو كذباً فيُصدِّقونه فى الحَرَج.
ثم إن معاوية الذى قال هذا القول، روينا عنه فيما سبق أنه قال: "ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا المفرطين"، فمعاوية قد شهد لكعب بالعلم وغزارته، وحكم على نفسه بأنه فرَّط فى علم كعب، فهل يُعقل أن معاوية يشهد هذه الشهادة لرجل كذَّاب؟، وهل يُعقل أنه يتحسر ويتندم على ما فاته من علم رجل يُدلِّس فى كتب الله ويُحرِّف فى وحى السماء؟.. اللَّهم إنى(1/140)
لا أعقل ذلك، ولا أقول إلا أنَّ كعباً عالِم له مكانته، وثقة له قيمته، وعدل له منزلته وشهرته..
* * *
3- وهب بن مُنَبِّه
* ترجمته:
هو أبو عبد الله، وهب بن منبَّه بن سيج بن ذى كناز، اليمانى الصنعانى، صاحب القصص، من خيار علماء التابعين. قال عبد الله ابن أحمد بن حنبل عن أبيه: كان من أبناء فارس، وأصل والده "منبِّه" من خراسان من أهل هراة، أخرجه كسرى منها إلى اليمن فأسلم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وكان وهب بن منبِّه يختلف إلى هراة ويتفقد أمرها، وقيل: إنه تولى قضاء صنعاء. قال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن الهروى: ولد سنة 34 هـ (أربع وثلاثين) فى خلافة عثمان، وقال ابن سعد وجماعة: مات سنة 110 هـ (عشر ومائة) ، وقيل غير ذلك.
روى عن أبى هريرة، وأبى سعيد الخدرى، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وأنس، وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبد الله وعبد الرحمن، وعمر بن دينار، وغيرهم. وأخرج له البخارى، ومسلم، والنسائى، والترمذى، وأبو داود.
* *
* مبلغه من العلم والعدالة:
كان وهب بن منبِّه واسع العلم، كثير الاطلاع على الكتب القديمة، محيطاً بأخبار كثيرة وقصص يتعلق بأخبار الأُوَل ومبدأ العالم، ومما يؤثر عنه أنه ألَّف كتاباً فى المغازى، ويحدِّثنا ابن خلكان: أنه رأى لوهب بن منبِّه تصنيفاً ترجمه بذكر الملوك المتوَّجة من حِميَر، وأخبارهم، وقصصهم، وقبورهم وأشعارهم، فى مجلد واحد، قال: وهو من الكتب المفيدة.
وقال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه: حج عامة الفقهاء سنة مائة فحج وهب، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحسن، وهم يريدون أن يتذاكروا القَدَر، قال: فأمعن فى باب الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شئ، قال أحمد: وكان يُتهم بشئ من القَدَر ثم رجع، وقال حماد بن سلمة عن أبى سنان: سمعت وهب بن منبِّه يقول: كنت أقول بالقَدَر حتى قرأت بضعة وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء فى كلها: "مَن جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر" فتركت قولى. وقال الجوزجانى: كان وهب كتب كتاباً فى القَدَر ثم حدث أنه ندم عليه.
فأنت ترى من بين هذه الأخبار أن وهباً كان على ناحية عظيمة من المعرفة بالكتب(1/141)
الإلهية القديمة، كما ترى أنه لم يثبت على رأيه وعقيدته فى القَدَر، بل تركها بعد ما تبين له الحق، وندم على ما كان منه بعد أن ظهر له الصواب، وبعد رجوعه عن رأيه لا يصح أن نطعن عليه من هذه الناحية، ولقد كان وهب يرى من نفسه أنه قد جمع علم ابن سلام وعلم كعب، ويحدِّث هو بذلك عن نفسه فيقول: يقولون: عبد الله بن سلام أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، أفرأيتَ من جمع علمهما؟ - يريد نفسه.
* *
* مطاعن بعض الناس عليه:
ومع تلك المنزلة العالية التى كان عليها وهب، طعن عليه بعض الناس كما طعن على كعب، ورموه بالكذب والتدليس وإفساد عقول بعض المسلمين وعقائدهم، وقد سمعتَ مقالة السيد محمد رشيد رضا فيه وفى كعب، وسمعتَ الرد عليه، كما سمعتَ مقالة الأستاذ أحمد أمين وما تعقبناه به.
* *
* رأينا فيه وشهادات الموثِّقين له:
وأنا وإن كنت لا أنكر أن صاحبنا أكثرَ من الإسرائيليات، وقصَّ كثيراً من القصص إلا أنى لا أتهمه بشئ من الكذب، ولا أنسب إليه إفساد العقول والعقائد، ولا أُحَمله تبعة ذلك، لأن القوم هم الذين أفسدوا بإدخالهم فى التفسير ما لا صلة له به، وبالوضع عليه وعلى غيره ترويجاً للموضوع كما سبق.
ولو أنَّا رجعنا إلى ما قاله العلماء النُقَّاد فى شأن وهب لتبين لنا أنه رجل منزَّه عما رُمِى به، مبرأ من كل ما يخدش عدالته وصدقه. قال الذهبى: كان ثقة صادقاً، كثير النقل من كتب الإسرائيليات. وقال العجلى: ثقة تابعى، كان على قضاء صنعاء، وقال ابن حجر: وهب بن منبِّه الصنعانى من التابعين، وثَّقة الجمهور، وشذَّ الفلاس فقال: كان ضعيفاً، وكان شبهته فى ذلك أنه كان يُتهم بالقول فى القَدَر. وقال أبو زرعة والنسائى: ثقة. وذكره ابن حبان فى الثقات. والبخارى نفسه يعتمد عليه ويُوثَقه، ونرى له فى البخارى حديثاً واحداً عن أخيه همام عن أبى هريرة فى كتابة الحديث، وتابعه عليه معمر عن همام، ولهمام هذا عن أبى هريرة نسخة مشهورة أكثرها فى الصحاح، رواها عنه معمر ويحدِّثنا مثنى بن الصباح. أن وهباً لبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءاً.. وغير هذا كثير مما شهد لعدالة الرجل وحسن إيمانه..
ونحن أمام توثيق الجمهور له، واعتماد البخارى وغيره لحديثه، وما ثبت عنه من الورع والصلاح، لا نقول إلا أنه رجل مظلوم من متهميه، ومظلوم هو وكعب من(1/142)
أولئك الذين استغلوا شهرة الرجلين ومنزلتهما العلمية، فنسبوا إليهما ما لا يصح عنهما، وشوَّهوا سمعتهما، وعرَّضوهما للنقد اللاذع والطعن المرير!!
* * *
4- عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
* ترجمته:
هو أبو خالد - أو أبو الوليد - عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الأموى مولاهم - أصله رومى نصرانى. كان من علماء مكة ومحدِّثيهم، وهو مِن أول مَنْ صنَّف الكتب بالحجاز، وهو قطب الإسرائيليات فى عهد التابعين، ولو أنَّا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبرى، وتتعبنا الآيات التى وردت فى النصارى، لوجدنا كثيراً مما يرويه ابن جرير فى تفسير هذه الآيات يدور على عبد الملك، الذى يُعَبِّر عنه دائماً بـ "ابن جريج".
روى عن أبيه، وعطاء بن أبى رباح، وزيد بن أسلم، والزهرى، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد العزيز ومحمد، والأوزاعى، والليث، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وحماد بن زيد، وغيرهم. قال أبو سعد: ولد سنة 80 هـ (ثمانين) ، وأما وفاته فمختلف فيها، فمنهم مَن قال: سنة 150 هـ (خمسين ومائة) ، ومنهم مَن قال: سنة 159 هـ (تسع وخمسين ومائة) ، وقيل غير ذلك.
* *
*مبلغه من العلم والعدالة:
ابن جريج - كما قيل - هو أول مَن صنَّف الكتب بالحجاز، ويعدونه من طبقة مالك بن أنس وغيره ممن جمعوا الحديث ودَوَّنوه. قال عبد الله ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبى: مَنْ أول مَنْ صنَّف الكتب؟ قال: ابن جريج وابن أبى عروبة. وقال ابن عيينة: سمعت أخى عبد الرزاق بن همام عن ابن جريج يقول: ما دوَّن العلم تدوينى أحد. وقد عُرف عن ابن جريج أنه كان رحَّالة فى طلب العلم، فقد وُلِدَ بمكة ثم طوَّف فى كثير من البلاد، فرحل إلى البصرة واليمن وبغداد. ويقول ابن خلدون فى "العبر": إنه لم يطلب العلم إلا فى الكهولة، ولو سمع فى عنفوان شبابه لحمل عن غير واحد من الصحابة، فإنه قال: كنت أتتبع الأشعار العربية والأنساب فقيل لى: لو لزمتَ عطاء؟ فلزمته ثمانية عشر عاماً".
وقد رويت عن ابن جريج أجزاء كثيرة فى التفسير عن ابن عباس، منها الصحيح، ومنها ما ليس بصحيح، وذلك لأنه لم يقصد الصحة فيما جمع، بل روى ما ذُكِرَ فى كل آية من الصحيح والسقيم.
أما منزلته من ناحية العدالة، فإنه لم يظفر بإجماع العلماء على توثيقه وتثبته فيما يرويه، وإنما اختلفت أنظارهم فيه، فمنهم مَن وثَّقه، ومنهم مَن ضعَّفه. قال فيه(1/143)
العجلى: مكى ثقة. وقال سليمان بن النضر بن مخلد بن يزيد: ما رأيت أصدق لهجة من ابن جريج. وعن يحيى بن سعيد قال: كنا نسمى كتب ابن جريج كتب الأمانة، وإن لم يحدثك بها ابن جريج من كتابه لم يُنتفع به. وقال ابن معين: ثقة فى كل ما رُوِى عنه من الكتاب. وعن يحيى ابن سعيد قال: كان ابن جريج صدوقاً فإذا قال: "حدَّثنى"، فهو سماع. وإذا قال: "أخبرنى" فهو قراءة، وإذا قال: "قال"، فهو شبه الريح. وقال الدراقطنى: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يُدَلِّس إلا فيما سمعه من مجروح. وذكره ابن حبان فى الثقات وقال: كان من فقهاء أهل الحجاز وقرَّائهم ومتقنيهم وكان يُدَلِّس. وقال عنه الذهبنى فى ميزان الاعتدال: أحد الأعلام الثقات يُدَلِّس، وهو فى نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحواً من تسعين امرأة نكاح متعة، وكان يرى الرُخصة فى ذلك، وكان فقيه أهل مكة فى زمانه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبى: بعض هذه الأحاديث التى كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالى من أين يأخذها، يعنى قوله: أُخْبِرت وحُدِثت عن فلان. وذكر الخزرجى فى "خلاصته" أنه مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة. ولكن نرى الأستاذ أحمد أمين ينقل فى "ضحى الإسلام": أن البخارى لم يوثِّقه وقال: إنه لا يُتابَع فى حديثه، ولسنا ندرى من أين استقى صاحب "ضحى الإسلام" هذا الكلام الذى عزاه إلى البخارى رضى الله عنه.
هذه هى نظرة العلماء إليه وحكمهم عليه، ونرى أن كثيراً منهم يحكم عليه بالتدليس وعدم الثقة ببعض مروياته، ومع هذا فقد قال فيه الإمام أحمد: إنه من أوعية العلم، ونحن معه فى ذلك، ولكنه وعاء لعلم امتزج صحيحه بعليله، ولا نظن إلا أن الإمام أحمد يعنى ذلك، بدليل ما تقدم عنه من قوله: "بعض هذه الأحاديث التى كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، وكان ابن جريج لا يبالى من أين أخذها".
وكان الإمام مالك رضى الله عنه يرى فيه أنه لا يبالى من أين يأخذ، فقد روى عنه أنه قال: كان ابن جريج حاطب ليل.
وأخيراً فعلى المفسِّر أن يكون على حذر فيما رُوِى عن ابن جريج فى التفسير حتى لا يروى ضعيفاً، أو يعتمد على سقيم.
وبعد ... فهؤلاء هم أقطاب الإسرائيليات، وعليهم يدور كثير مما هو مبثوث فى كتب التفسير، وسواء أكان كل ما يُنسب إليهم صح عنهم أم وُضِعَ عليهم، فقد علمتَ قيمة كل واحد منهم، وعلمتَ قيمة ما يُروَى من هذه الإسرائيليات وما يجوز روايته وما لا يجوز ... وهذا هو جهد المُقِّل وغاية ما وصلتُ إليه فى هذا الموضوع الذى التوى، ثم التوى، حتى صار أعقد من ذَنَبِ الضَّب.
* * *(1/144)
ثالثاً: حذف الإسناد
حذف الإسناد هو السبب الثالث والأخير الذى يرجع إليه ضعف التفسير المأثور، وسبق أن أشرنا إلى مبدأ اختصار الأسانيد، ونعود إليه فنقول:
إنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا يتحرون الصحة فيما يتحملون، وكان الواحد منهم لا يروى حديثاً إلا وهو متثبت مما يقول، ولكن لم يُعرف عن الصحابة أهم كانوا يسألون عن الإسناد، لما عُرفوا به جميعاً من العدالة والأمانة. وإذا كان الأمر قد وصل ببعضهم إلى أنه كان لا يقبل الحديث إلا بعد أن تثبت عنده صحته بالشهادة أو اليمين كما دلَّت على ذلك الآثار الكثيرة، فإن الغرض من ذلك هو زيادة التأكد والتثبت، لا عدم الثقة بمن يروون عنه منهم، فقد روى أن عمر قال لأُبَىِّ بن كعب - وقد روى له حديثاً - لتأتيننى على ما تقول ببيِّنة، فخرج فإذا ناس من الأنصار فذكر لهم، قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أما إنى لم أتهمك، ولكن أحببت أن أتثبت".
ثم جاء عصر التابعين، وفيه ظهر الوضع وفشا الكذب، فكانوا لا يقبلون حديثاً إلا إذا جاء بسنده، وتثبتت لهم عدالة رواته، أما إن حُذِف السند، أو ذُكِر وكان فى رواته مَنْ لا يُوثق بحديثه، فإنهم كانوا لا يقبلون الحديث الذى هذا شأنه، فقد روى الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم".
ظل الأمر فى عهد التابعين على هذا، فكان ما يروونه من التفسير المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، لا يروونه إلا بإسناده، ثم جاء بعد عصر التابعين مَن جمَّعَ التفسير، ودَوَّن ما تجمَّع لديه من ذلك، فأُلِّفت تفاسير تجمع أقوال النبى صلى الله عليه وسلم فى التفسير، وأقوال الصحابة والتابعين، مع ذكر الأسانيد، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وغيرهما ممن تقدَّم ذكرهم.
ثم جاء بعد هؤلاء أقوام ألَّفوا فى التفسير، فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال غير معزوَّة لقائليها، ولم يتحروا الصحة فيما يروون، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل.
ثم صار كل مَنْ يسنح له قول يورده، ومَنْ يخطر بباله شئ يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه مَنْ يجئ بعده، ظاناً أنَّ له أصلاً، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السَلَف.(1/145)
وفى الحق أن هذا السبب يكاد يكون أخطر الأسباب جميعاً، لأن حذف الأسانيد جعل مَنْ ينظر فى هذه الكتب يظن صحة كل ما جاء فيها، وجعل كثيراً من المفسِّرين ينقلون عنها ما فيها من الإسرائيليات والقصص المخترع على أنه صحيح كله، مع أن فيها ما يخالف النقل ولا يتفق مع العقل.
وإذا كان للوضع خطره، وللإسرائيليات خطرها، فإن هذا الخطر كان من الممكن تلافيه لو ذُكِرت لنا هذه الأقوال بأسانيدها، ولكن حذفها - وللأسف - عمَّى علينا كل شئ، وليت هؤلاء الذين حذفوا الأسانيد وعنوا بجمع شتات الأقوال فعلوا كما فعل ابن جرير من رواية كل قول بإسناده، فهو وإن كان له يتحر الصحة فيما يرويه، إلا أن عذره فى ذلك، أنه ذكر لنا السند مع كل رواية يرويها، وكانوا يرون أنهم متى ذكروا السند فقد خرجوا عن العهدة، فإن أحوال الرجال كانت معروفة فى العهد الأول، وبذلك تعرف قيمة ما يروونه من ضعف وصحة.
وبعد ... فهذه هى الأسباب الثلاثة التى يرجع إليها ضعف التفسير المأثور، وكل واحد منهما له خطره وأثره فى التفسير، وقد أدرك المسلمون أخيراً هذا الخطر، وقدَّروا ما كان لهذه الأسباب من أثر، فتداعى علماؤهم وأشياخهم إلى تجريد كتب التفسير من هذه الإسرائيليات، وتطهيرها من كل ما دخل عليها، ولكن لم نجد منهم مَنْ نشط لهذا العمل، وإنَّا لنرجو آملين، أن يهيئ الله للمسلمين من بين علمائنا وأشياخنا مَنْ ينقد لهم هذه المجموعة المركومة من التفسير النقلىَ، على هدى قواعد القوم فى نقد الرواية متناً وسنداً، ليستبعد منها هذا الكثير الذى لا يستحق البقاء، وليستريح الناظرون فى الكتاب الكريم من الوقوف أمام شئ لا أساس له إذا ما حاولوا تفهم آية منه.
وليستُ أظن أن هذا العمل الشاق المضنى يستطيع أن يقوم به فرد وحده، بل لا بد له من جماعة كبيرة، تتفرغ له، ويتسع أمامها الزمن، وتتوفر لديها جميع المصادر والمراجع التى تتعلق بالموضوع وتتصل به.
ذلك ما نرجوه ونأمله، ونسأل الله تعالى أن يحقق الرجاء ويصدق الأمل..
* * *(1/146)
أشهر ما دُوِّنَ من كتب التفسير المأثور وخصائص هذه الكتب
لا نريد أن نستقصى هنا جميع الكتب المدوَّنة فى التفسير المأثور، لأن هذا أمر لا يتيسر لنا، نظراً لعدم وقوع كثير منها فى أيدينا. ولو تيسر لنا لوقفت عند عزمى هذا: وهو أنى لا أتعرض لكل كتاب أُلِّفَ فى هذا النوع من التفسير، بل أتكلم عما اشتهر وكثر تداوله فحسب، لأنى لو ذهبت أتكلم عن جميع ما دُوِّن من هذه الكتب، كتاباً كتاباً، لطال علىَّ الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
لهذا رأيت أن أتكلم عن ثمانية كتب منها، هى أهمها وأشهرها وأكثرها تداولاً، وسبيلى فى هذا: أن أعرض أولاً لنبذة مختصرة عن المؤلف، ثم أُبيِّن خصائص كل كتاب وطريقة مؤلفه فيه، وهذه الكتب التى وقع عليها اختيارى هى ما يأتى:
1 - جامع البيان فى تفسير القرآن: لابن جرير الطبرى
2 - بحر العلوم: لأبى الليث السمرقندى
3 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن: لأبى إسحاق الثعلبى
4 - معالم التنزيل: لأبى محمد الحسين البغوى
5 - المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز: لابن عطية الأندلسى.
6 - تفسير القرآن العظيم: لأبى الفداء الحافظ ابن كثير
7 - الجواهر الحسان فى تفسير القرآن: لعبد الرحمن الثعالبى
8 - الدر المنثور فى التفسير المأثور: لجلال الدين السيوطى
وسنتكلم عن كل واحد منها بحسب هذا الترتيب فنقول وبالله التوفيق:
1- جامع البيان فى تفسير القرآن (للطبرى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير ابن غالب الطبرى، الإمام الجليل، المجتهد المطلق، صاحب التصانيف المشهورة، وهو من أهل آمل طبرستان، وُلِدَ بها سنة 224 هـ (أربع وعشرين ومائتين من الهجرة) ، ورحل من بلده فى طلب العلم وهو ابن اثنتى عشرة سنة، سنة 236 هـ (ست وثلاثين ومائتين) ، وطوَّف فى الأقاليم، فسُمِعَ بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد، وبقى بها إلى أن مات سنة 310 هـ (عشر وثلاثمائة من الهجرة) .
* *
* مبلغه من العلم والعدالة:
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاَ لكتاب(1/147)
الله، بصيراً بالقرآن، عارفاً بالمعانى، فقيهاً فى أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم مِنَ المخالفين فى الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، هذا هو ابن جرير فى نظر الخطيب البغدادى وهى شهادة عالِم خبير بأحوال الرجال. وذُكِرَ أن أبا العباس بن سريج كان يقول: محمد بن جرير فقيه عالِم. وهذه الشهادة جد صادقة، فإن الرجل برع فى علوم كثيرة، منها: علم القراءات، والتفسير، والحديث، والفقه. والتاريخ وقد صَنَّف فى علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنَّف، فمن مصنفاته: كتاب التفسير الذى نحن بصدده. وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم والملوك، وهو من أُمهات المراجع، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل، وكتاب اختلاف العلماء، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين، وكتاب أحكام شرائع الإسلام، ألَّفه على ما أدَّاه إليه اجتهاده، وكتاب التبصر فى أصول الدين ... وغير هذا كثير من تصانيفه التى تدل على سعة علمه وغزارة فضله.
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة، سوى كتاب التفسير، وكتاب التاريخ.
وقد اعتُبِر الطبرى أباً للتفسير. كما اعتُبِر أباً للتاريخ الإسلامى، وذلك بالنظر لما فى هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية. ويقول ابن خلكان: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلدا أحداً، ونُقِل أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازى ذكره فى طبقات الفقهاء فى جملة المجتهدين. قالوا: وله مذهب معروف، وأصحاب ينتحلون مذهبه يقال لهم "الجريرية"، ولكن هذا المذهب الذى أسسه - على ما يظهر - بعد بحث طويل، ووجد له أتباعاً من الناس، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كغيره من مذاهب المسلمين، ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من الاجتهاد متُمذهباً بمذهب الشافعى، يدلنا على ذلك ما جاء فى الطبقات الكبرى لابن السبكى، من أن ابن جرير قال: أظهرتُ فقه الشافعى، وأفتيتُ به ببغداد عشر سنين، وتلقاه منى ابن بشار الأحول، أستاذ أبى العباس بن سريج. وقال السيوطى فى طبقات المفسِّرين: وكان أولاً شافعياً ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله أتباع مقلِّدون، وله فى الأصول والفروع كتب كثيرة.
وذكره صاحب لسان الميزان فقال: "ثقة، صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر ... " ثم قال: أقذع أحمد بن على السليمانى الحافظ فقال: كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندَّعى(1/148)
عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم فى بعض ينبغى أن يُتأتَّى فيه، ولا سيما فى مثل إمام كبير، ولعل السليمانى أراد الآتى - يريد محمد ابن جرير بن رستم الطبرى الرافضى - قال: ولو حلفتُ أن السليمانى ما أراد إلا الآتى لبررت، والسليمانى حافظ متقن، كان يدرى ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن فى مثل هذا الإمام بهذا الباطل".
هذا هو ابن جرير، وهذه هى نظرات العلماء إليه، وذلك هو حكمهم عليه، ومن كل ذلك تتبين لنا قيمته ومكانته.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يعتبر تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسِّرين الذين عنوا بالتفسير النقلى، وإن كان فى الوقت نفسه يُعتبر مرجعاً غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلى، نظراً لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، ترجيحاً يعتمد على النظر العقلى، والبحث الحر الدقيق.
ويقع تفسير ابن جرير فى ثلاثين جزءاً من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يُعتبر مفقوداً لا وجود له، ثم قدَّر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة سارة للأوساط العلمية فى الشرق والغرب أن وُجِدَت فى حيازة أمير "حائل" الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طُبِع عليها الكتاب من زمن قريب، فأصبحت فى يدنا دائرة معارف غنية فى التفسير المأثور.
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء فى تفسير ابن جرير، لوجدنا أن الباحثين فى الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غِنَى عنه لطالب التفسير، فقد قال السيوطى رضى الله عنه: "وكتابه - يعنى تفسير محمد بن جرير - أجَّل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين". وقال النووى: "أجمعت الأُمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبرى" وقال أبو حامد الإسفرايينى: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن(1/149)
جرير لم يكن ذلك كثيراً"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التفاسير التى فى أيدى الناس، فأصحها تفسير ابن جرير الطبرى، فإنه يذكر مقالات السَلَف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبى".
ويذكر صاحب لسان الميزان: أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال: "نظرتُ فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير" فابن خزيمة ما شهد هذه الشهادة إلا بعد أن اطلع على ما فى هذا التفسير من علم واسع غزير.
وهذا قد كتب "نولدكه" فى سنة 1860 بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: "لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تماماً، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعاً لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم".
ويظهر مما بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، اختصر مؤلفه إلى هذا القدر الذى هو عليه الآن، كما أن كتابه فى التاريخ ظفر بمثل هذا البسط والاختصار، فابن السبكى يذكر فى طبقاته الكبرى: "أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟، فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟، قالوا: كم قدره؟، فذكر نحواً مما ذكره فى التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنَّا لله، ماتت الهمم.. فاختصره فى نحو ما اختصر التفسير".
وهذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذى له الأوَّلية بين كتب التفسير، أوَّلية زمنية، وأوَّلية من ناحية الفن والصناعة.
أما أوَّليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب فى التفسير وصل إلينا، وما سبقه من(1/150)
المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شئ منها، اللَّهم إلا ما وصل إلينا منها فى ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذى نحن بصدده.
وأما أوَّليته من ناحية الفن والصناعة، فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التى سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتاباً له قيمته ومكانته.
ونريد أن نعطى هنا مثالاً لطريقة ابن جرير فى تفسيره، بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد فى بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسِّرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعاً مهماً من مراجع المفسِّرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول:
* طريقة ابن جرير فى تفسيره:
تتجلَّى طريقة ابن جرير فى تفسيره بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا فى القراءة شوطاً بعيداً، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن يفسِّر الآية من القرآن يقول: "القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا" ثم يفسِّر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم فى هذه الآية، وإذا كان فى الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض لكل ما قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه فى ذلك عن الصحابة أو التابعين.
ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط الأحكام التى يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار.
* إنكاره على مَن يفسِّر بمجرد الرأى:
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأى المستقلين فى التفكير، ولا يزال يُشدِّد فى ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين، والمنقول عنهم نقلاً صحيحاً مستفيضاً، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح، فمثلاً عندما تكلَّم عن قوله تعالى فى الآية [49] من سورة يوسف: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} .. نجده يذكر ما ورد فى تفسيرها عن السَلَف مع توجيهه للأقوال وتعرّضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على مَنْ يفسِّر القرآن برأيه، وبدون اعتماد منه على شئ إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقل ما نصه: " ... وكان بعض مَن لا علم له بأقوال السَلَف من أهل التأويل، ممن يُفسِّر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} .. إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه مِنَ العصر، والعصر التى بمعنى المنجاة، من قول أبى زبيد الطائى:(1/151)
صادياً يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
أى المقهور - ومِنْ قول لبيد:
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافاً بغير معصر
وذلك تأويل يكفى من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين".
وكثيراً ما يقف ابن جرير مثل هذا الموقف حيال ما يروى عن مجاهد أو الضحاك أو غيرهما ممن يروون عن ابن عباس.
فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [65] من سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .. يقول ما نصه: "حدَّثنى المثنى، قال. حدَّثنا أبو حذيفة، قال: حدَّثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: "مُسِخَتَ قلوبهم ولم يمُسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفاراً".
ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول ما نصه: "وهذا القول الذى قاله مجاهد، قول لظاهر ما دلَّ عليه كتاب الله مخالف" ... . الخ.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى: فى الآية: [229] من سورة البقرة أيضاً: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولائك هُمُ الظالمون} .. نجده يروى عن الضحاك فى معنى هذه الآية: أنَ مَنْ طلَّق لغير العِدَّة فقد اعتدى وظلم نفسه، ومَنْ يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون. ثم يقول: "وهذا الذى ذُكر عن الضحاك لا معنى له فى هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق فى العِدَّة ذكر فيقال: {تِلْكَ حُدُودُ} ، وإنما جرى ذكر العدد الذى يكون للمطلِّق فيه الرجعة والذى لا يكون له فيه الرجعة، دون ذكر البيان عن الطلاق للعِدَّة".
... وهكذا نجد ابن جرير فى غير موضع من تفسيره، ينبرى للرد على مثل هذه الآراء التى لا تستند على شئ إلا على مجرد الرأى أو محض اللغة.
* *
* موقفه من الأسانيد:
ثم إن ابن جرير وإن التزم فى تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه فى الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف، لأنه كان يرى - كما هو مقرر فى أصول الحديث - أنَّ مَن أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة، ومع ذلك فابن جرير(1/152)
يقف من السند أحياناً موقف الناقد البصير، فيُعَدِّل مَنْ يُعَدِّل مِن رجال الإسناد، ويُجرِّح مَنْ يُجَرِّح منهم، ويرد الرواية التى لا يثق بصحتها، ويُصرِّح برأيه فيها بما يناسبها، فمثلاً نجده عنده تفسيره لقوله تعالى فى الآية [94] من سورة الكهف: { ... فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} .. يقول ما نصه: "رُوِى عن عكرمة فى ذلك - يعنى فى ضم سين " سداً" وفتحها - ما حدَّثنا به أحمد بن يوسف.
قال: حدَّثنا القاسم، قال: حدَّثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عِكرمة قال: ما كان من صنعة بنى آدم فهو السَّد - يعنى بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السُّد، ثم يعقب على هذا السند فيقول: وأما ما ذكره عن عِكرمة فى ذلك، فإنَّ الذى نقلَ عن أيوب: "هارون"، وفى نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه".
* *
* تقديره للإجماع:
كذلك نجد ابن جرير فى تفسيره يُقَدِّر إجماع الأُمَّة، ويعطيه سلطاناً كبيراً فى اختيار ما يذهب إليه من التفسير، فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [230] من سورة البقرة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .. يقول ما نصه: "فإن قال قائل: فأى النكاحين عَنِىَ الله بقوله: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ؟ النكاح الذى هو جِماع؟ أم النكاح الذى هو عقد تزويج؟ قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجاً نكاح تزويج ثم لم يطأها فى ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يُطلِّقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول، لإجماع الأُمَّة جميعاً، فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، نكاحاً صحيحاً، ثم يجامعها فيه، ثم يُطلِّقها، فإن قال: فإن ذكر الجِماع غير موجود فى كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأُمَّة جميعاً على أن ذلك معناه".
* موقفه من القراءات:
كذلك نجد ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعانى المختلفة، وكثيراً ما يرد القراءات التى لا تعتمد على الأئمة الذين يعتُبرون عنده وعند علماء القراءت حُجَّة، والتى تقوم على أُصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه فى آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب، فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [81] من سورة الأنبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} .. يذكر أن عامة قُرَّاء الأمصار قرأوا "الريحَ"(1/153)
بالنصب على أنها مفعول لـ "سخَّرنا" المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ "الريحُ" بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التى لا أستجيز القراءة بغيرها فى ذلك ما عليه قُرَّاء الأمصار لإجماع الحُجَّة من القُرّاء عليه.
ولقد يرجع السبب فى عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى إنهم ليقولون عنه: إنه ألَّف فيها مؤلَّفاً خاصاً فى ثمانية عشر مجلداً، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلَّل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته.
* *
*موقفه من الإسرائيليات:
ثم إننا نجد ابن جرير يأتى فى تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلى، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبِّه، وابن جريج، والسدى، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيراً مما رواه عن مسلمة النصارى. ومن الأسانيد التى تسترعى النظر، هذا الإسناد: حدَّثنى ابن حميد، قال: حدَّثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبى عتاب - رجل من تغلب - كان نصرانياً عمراً من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه فى الدين، وكان فيما ذكر، أنه كان نصرانياً أربعين سنة ثم عمر فى الإسلام أربعين سنة.
يذكر ابن جرير هذا الإسناد، ويروى لهذا الرجل النصرانى الأصل خبراً عن آخر أنبياء بنى إسرائيل، عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من سورة الإسراء: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} .
كما نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [94] من سورة الكهف: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض} .. الآية.. يسوق هذا الإسناد: حدَّثنا ابن حميد قال: حدَّثنا سلمة قال: حدَّثنا محمد ابن إسحاق قال: حدَّثنى بعض مَنْ يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذى القرنين أنَّ ذا القرنين كان رجلاً من أهل مصر، اسمه مرزبا بن مردبة اليونانى من ولد يونن بن يافث بن نوح.. إلخ".
... وهكذا يُكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثَّر به من الروايات التاريخية التى عالجها فى بحوثه التاريخية الواسعة.(1/154)
وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيراً من هذه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التى اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلى، على أن ابن جرير - كما قدَّمنا - قد ذكر لنا السند بتمامه فى كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر فى السند ونتفقد الروايات.
* *
*انصرافه عما لا فائدة فيه:
ومما يلفت النظر فى تفسير ابن جرير أن مؤلِّفه لا يهتم فيه -كما يهتم غيره من المفسِّرين - بالأمور التى لا تغنى ولا تفيد، فنراه مثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى سورة المائدة: {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء ... ... .} الآيات إلى قوله: {وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} [112-114] .. يعرض لذكر ما ورد من الروايات فى نوع الطعام الذى نزلت به مائدة السماء.. ثم يُعقِّب على هذا بقوله: "وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون ثمراً من الجنة، وغير نافع العلم به، ولا ضار الجهل به، إذا أقرَّ تالى الآية بظاهر ما احتمله التنزيل".
كما نراه عند تفسير قوله تعالى فى الآية [20] من سورة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} .. يعرض لمحاولات قدماء المفسِّرين فى تحديد عدد الدراهم، هل هى عشرون؟ أو اثنان وعشرون؟ أو أربعون؟.. إلى آخر ما ذكره من الروايات.. ثم يُعقِّب على ذلك كله بقوله: "والصواب من القول أن يقال: إنَّ الله - تعالى ذكره - أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحد مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة فى كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعون، وأقل من ذلك وأكثر، وأى ذلك فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس فى العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع فى دين، ولا فى الجهل به دخول ضُرٍّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه"
* *
*احتكامه إلى المعروف من كلام العرب:
وثمة أمر آخر سلكه ابن جرير فى كتابه، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعاً موثوقاً به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها، وترجيح بعض الأقوال على بعض.(1/155)
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [40] من سورة هود: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} .. الآية - نراه يعرض لذكر الروايات عن السَلَف فى معنى لفظ "التنور"، فيروى لنا قول مَنْ قال: إن التنور عبارة عن وجه الأرض، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عن تنوير الصبح، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها، وقول مَنْ قال: إنه عبارة عما يُختبز فيه.. ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: "وأَوْلى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله "التنور" قول مَنْ قال: التنور: الذى يُختبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يُوَّجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حُجَّة على شئ منه بخلاف ذلك فيُسلَّم لها، وذلك أنه جَلَّ ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به ... "
* *
* رجوعه إلى الشِعر القديم:
كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشِعر القديم بشكل واسع، متبعاً فى هذا ما أثاره ابن عباس فى ذلك، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [22] من سورة البقرة: { ... فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} .. يقول ما نصه: قال أبو جعفر: والأنداد جمع ند، والند: العَدل والمثل، كما قال حسان ابن ثابت:
أتهجوهُ وليستَ له بندٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيرِكُما الفِدَاءُ
يعنى بقوله: "وليستَ له بندٍ": "ليست له بمثل ولا عدل، وكل شئ كان نظيراً لشئ وشبيهاً فهو له ند" ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السَلَف.
* *
* اهتمامه بالمذاهب النحوية:
كذلك نجد ابن جرير يتعرَّض كثيراً لمذاهب النحويين من البصريين والكوفيين فى النحو والصرف، ويوجه الأقوال، تارة على المذهب البصرى، وأخرى على المذهب الكوفى، فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [18] من سورة إبراهيم: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} .. يقول ما نصه: "اختلف أهل العربية فى رافع "مثل" فقال بعض نحويى البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نَقُصُّ عليكم مَثَل الذين كفروا، ثم أقبل يُفسِّره كما قال: مثل الجنة.. وهذا كثير. وقال بعض نحويى الكوفيين: إنما المَثَل للأعمال، ولكن العرب تُقَدِّم الأسماء لأنها أعرف، ثم تأتى بالخبر الذى تُخْبر عنه مع صاحبه، ومعنى الكلام: مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد.. إلخ".(1/156)
وهكذا يُكثر ابن جرير فى مناسبات متعددة من الاحتكام إلى ما هو معروف من لغة العرب، ومن الرجوع إلى الشِعر القديم يستشهد به على ما يقول، ومن التعرض للمذاهب النحوية عند ما تمس الحاجة، مما جعل الكتاب يحتوى على جملة كبيرة من المعالجات اللغوية والنحوية التى أكسبت الكتاب شهرة عظيمة.
والحق أنَّ ما قدَّمه لنا ابن جرير فى تفسيره من البحوث اللغوية المتعددة والتى تعتبر كنزاً ثميناً ومرجعاً مهماً فى بابها، أمر يرجع إلى ما كان عليه صاحبنا من المعرفة الواسعة بعلوم اللغة وأشعار العرب، معرفة لا تقل عن معرفته بالدين والتاريخ. ونرى أن ننبه هنا إلى أن هذه البحوث اللغوية التى عالجها ابن جرير فى تفسيره لم تكن أمراً مقصوداً لذاته، وإنما كانت وسيلة للتفسير، على معنى أنه يتوصل بذلك إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، كما يحاول بذلك - أحياناً - أن يوفق بين ما صح عن السَلَف وبين المعارف اللغوية بحيث يزيل ما يُتوهم من التناقض بينهما.
* *
* معالجته للأحكام الفقهية:
كذلك نجد فى هذا التفسير آثاراً للأحكام الفقهية، يعالج فيها ابن جرير أقوال العلماء ومذاهبهم، ويخلص من ذلك كله برأى يختاره لنفسه، ويرجحه بالأدلة العلمية القيمة، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [8] من سورة النحل: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .. نجده يعرض لأقوال العلماء فى حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، ويذكر قول كل قائل بسنده ... وأخيراً يختار قول مَنْ قال: إن الآية لا تدل على حُرْمة شئ من ذلك، ووجَّه اختياره هذا فقال ما نصه: "والصواب مِنَ القول فى ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثانى - وهو أن الآية لا تدل على الحُرْمة - وذلك أنه لو كان فى قوله - تعالى ذكره - {لِتَرْكَبُوهَا} دلالة على أنها لا تصلح إذا كانت للركوب للأكل، لكان فى قوله: {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفى إجماع الجميع على أنَّ ركوب ما قال تعالى ذكره: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال: {لِتَرْكَبُوهَا} جائز حلال غير حرام، إلا بما نص على تحريمه، أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شئ. وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحُمُر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى البغال بما قد بيَّنا فى كتابنا "كتاب الأطعمة" بما أغنى عن إعادته فى هذا الموضع، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان(1/157)
عن تحريم ذلك، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن لا وجه لقول مَن استدَّل بهذه الآية على تحريم لحم الفرس".
* *
* خوضه فى مسائل الكلام:
ولا يفوتنا أن ننبه على ما نلحظه فى هذا التفسير الكبير، من تعرض صاحبه لبعض النواحى الكلامية عند كثير من آيات القرآن، مما يشهد له بأنه كان عالماً ممتازاً فى أمور العقيدة، فهو إذا ما طبَّق أصول العقائد على ما يتفق مع الآية أفاد فى تطبيقه، وإذا ناقش بعض الآراء الكلامية أجاد فى مناقشته، وهو فى جدله الكلامى وتطبيقه ومناقشته، موافق لأهل السُّنَّة فى آرائهم، ويظهر ذلك جلياً فى رده على القدرية فى مسألة الاختيار.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى آخر سورة الفاتحة آية [7] : {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} .. نراه يقول ما نصه: "وقد ظن بعض أهل الغباء من القَدَرية أن فى وصف الله جَلَّ ثناؤه النصارى بالضلال بقوله: {وَلاَ الضآلين} وإضافة الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذى وصف به اليهود أنه مغضوب عليهم، دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القَدَرية، جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر على ما ظنه الغبى الذى وصفنا شأنه، لوجب أن يكون كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك من فعله، ولوجب أن يكون خطأ قول القائل: تحركت الشجرة إذا حرَّكتها الرياح، واضطربت الأرض إذا حرَّكتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذى يطول بإحصائه الكتاب، وفى قوله جَلَّ ثناؤه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها، ما يدل على خطأَ التأويل الَذَى تأوَّله مَن وصفنا قوله فى قوله: {وَلاَ الضآلين} .. وادعائه أن فى نسبة الله جَلَّ ثناؤه الضلالة إلى مَن نسبها إليه من النصارى تصحيحاً لما ادَّعى المنكرون أن يكوِّن الله جَلَّ ثناؤه في أفعال خلقه بسبب من أجلها وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عَزَّ ذكره نصاً فى آى كثيرة من تنزيله: أنه المضل الهادى، فمن ذلك قوله جَلَّ ثناؤه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلاهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .. فأنبأ جَلَّ ذكره أنه المِضِّلُ الهادى دونَ غيره، ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدَّمنا البيان عنه فى أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى مَنْ وُجِدَ منه وإن كان مشيئة غير الذى وُجِدَ منه الفعل غيره، فكيف بالفعل الذى(1/158)
يكتسبه العبد كسباً، ويُوجدِه الله جَلَّ ثناؤه عَيْناً منشأة، بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبه كسباً له بالقوة منه عليه، والاختيار منه له، وإلى الله جلَّ ثناؤه بإيجاد
عَيْنه وإنشائها تدبيراً".
وكثيراً ما نجد ابن جرير يتصدى للرد على المعتزلة فى كثير من آرائهم الاعتقادية، فنراه مثلاً يجادلهم مجادلة حادة فى تفسيرهم العقلى التنزيهى للآيات التى تثبت رؤية الله عند أهل السُّنَّة، كما نراه يذهب إلى ما ذهب إليه السَلَف من عدم صرف آيات الصفات عن ظاهرها، مع المعارضة لفكرة التجسيم والتشبيه، والرد على أُولئك الذين يُشَبِّهون الله بالإنسان.
... وهكذا نجد ابن جرير لم يقف كمفسِّر موقفاً بعيداً عن مسائل النزاع التى تدور حول العقيدة فى عصره، بل نراه يشارك فى هذا المجال من الجدل الكلامى بنصيب لا يُستهان به، مع حرصه كل الحرص على أن يحتفظ بسُنِّيته ضد وجوه النظر التى لا تتفق وتعاليم أهل السُّنَّة.
وبعد.. فإن ما جمعه ابن جرير فى كتابه من أقوال المفسِّرين الذين تقدَّموا عليه، وما نقله لنا من مدرسة ابن عباس، ومدرسة ابن مسعود، ومدرسة على بن أبى طالب، ومدرسة أُبَىّ بن كعب، وما استفاده مما جمعه ابن جريج والسدى وابن إسحاق وغيرهم من التفاسير جعلت هذا الكتاب أعظم الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالمأثور، كما أن ما جاء فى الكتاب من إعراب، وتوجيهات لُغوية، واستنباطات فى نواح متعددة، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، كان نقطة التحول فى التفسير، ونواة لما وُجِد بعد من التفسير بالرأى، كما كان مظهراً من مظاهر الروح العلمية السائدة فى هذا العصر الذى يعيش فيه ابن جرير.
وفى الحق إن شخصية ابن جرير الأدبية والعلمية، جعلت تفسيره مرجعاً مهماً من مراجع التفسير بالرواية، فترجيحاته المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولُغوية وعلمية قيِّمة، فوق ما جمع فيه من الروايات الأثرية المتكاثرة.
وعلى الإجمال، فخير ما وُصِف به هذا الكتاب ما نقله الداودى عن أبى محمد عبد الله بن أحمد الفرغانى فى تاريخه حيث قال: "فتم من كتبه - يعنى محمد بن جرير - كتاب تفسير القرآن، وجوَّده، وبيَّن فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخة،(1/159)
ومشكله وغريبه، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء فى أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص، وأخبار الأُمَّة والقيامة، وغير ذلك مما حواه من الحِكم والعجائب كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة، وإلى أبى جاد، فلو ادَّعى عالم أن يُصنِّف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوى على علم مفرد وعجيب مستفيض لفعل".
هذا وقد جاء فى معجم الأدباء (الجزء 18 ص 64-65) وصف مسهب لتفسير ابن جرير، جاء فى آخره ما نصه: " ... وذكر فيه من كتب التفاسير المصنَّفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وعن الحسن البصرى ثلاثة طرق، وعن عِكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله ابن مسعود طريقاً، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حبان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسِّرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يُدخل فى كتابه شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبى، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدى، لأنهم عنده أظنَّاء والله أعلم. وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبى، وعن ابنه هشام، وعن محمد بن عمرالواقدى، وغيرهم فيما يُفتقر إليه ولا يُؤخذ إلا عنهم.
وذكر فيه مجموع الكلام والمعانى من كتاب علىّ بن حمزة الكسائى، ومن كتاب يحيى بن زيادة الفرَّاء، ومن كتاب أبى الحسن الأخفش، ومن كتاب أبى علىّ قطرب، وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كان هؤلاء هم المتكلمون فى المعانى، وعنهم يؤخذ معانيه وإعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئاً من كلامهم، وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه".
كما نجد فى معجم الأدباء أيضاً قبل ذلك بقليل، ما يدل على أن الطبرى أتم تفسيره هذا فى سبع سنوات، إملاءً على أصحابه، فقد جاء فى الجزء (18 ص 42) على أبى بكر بن بالويه أنه قال: "قال لى أبو بكر محمد بن إسحاق - يعنى ابن خزيمة -: بلغنى أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: فى أى سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ... " إلخ.
وبعد.. فأحسب أنى قد أفضت فى الكلام عن هذا التفسير، وتوسعت فى الحديث(1/160)
عنه، وأقول: إن السر فى ذلك هو أن الكتاب يُعتبر المرجع الأول والأهم للتفسير بالمأثور، وتلك ميزة لا نعرفها لغيره من كتب التفسير بالرواية.
* * *
2- بحر العلوم (للسمرقندى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو الليث، نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى الفقيه الحنفى، المعروف بإمام الهدى. تفقه على أبى جعفر الهندوانى، واشتهر بكثرة الأقوال المفيدة، والتصانيف المشهورة. ومن أهم تصانيفه تفسير القرآن المسمى بـ "بحر العلوم"، والمعروف بتفسير أبى الليث السمرقندى، وهو ما نحن بصدده الآن، وكتاب النوازل فى الفقه، وخزانة الفقه فى مجلد، وتنبيه الغافلين، والبستان. وكانت وفاته رحمه الله سنة 373 هـ (ثلاث وسبعين وثلاثمائة) وقيل: سنة 375 هـ (خمس وسبعين وثلاثمائة) من الهجرة.
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
قال فى كشف الظنون: "تفسير أبى الليث، نصر بن محمد الفقيه السمرقندى الحنفى، المتوفى سنة 375 هـ (خمس وسبعين وثلاثمائة) ، وهو كتاب مشهور لطيف مفيد، خرَّج أحاديثه الشيخ زين الدين قاسم ابن قطلوبغا الحنفى سنة 854 هـ (أربع وخسمين وثمانمائة) .
وهذا التفسير مخطوط فى ثلاث مجلدات كبار، وموجود بدار الكتب المصرية، وتوجد منه نسختان مخطوطتان بمكتبة الأهر. واحدة فى مجلدين والأخرى فى ثلاث مجلدات.
وقد رجعتُ إلى هذا التفسير وقرأتُ فيه كثيراً، فوجدتُ مؤلِّفه قد قدَّم له بباب فى الحث على طلب التفسير وبيان فضله، واستشهد على ذلك بروايات عن السَلَف، رواها بإسناد إليهم، ثم بيَّن أنه لا يجوز لأحد أن يفسِّر القرآن برأيه من ذات نفسه ما لم يتعلم أو يعرف وجوه اللغة وأحوال التنزيل، واستدلَّ على حُرْمه التفسير بمجرد الرأى بأقوال رواها عن السَلَف بإسناده إليهم أيضاً، ثم بيَّن أن الرجل إذا لم يعلم وجوه اللغة وأحوال التنزيل، فليتعلم التفسير ويتكلَّف حفظه، ولا بأس بذلك على سبيل الحكاية.. وبعد أن فرغ من المقدمة شرع فى التفسير.
تتبعتُ هذا التفسير فوجدتُ صاحبه يفسِّر القرآن بالمأثور عن السَلَف، فيسوق الروايات عن الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم فى التفسير، ولكنه لا يذكر إسناده إلى مَنْ يروى عنه، ويندر سياقه للإسناد فى بعض الروايات، وقد لاحظتُ عليه أنه إذا ذكر(1/161)
الأقوال والروايات المختلفة لا يُعقِّب عليها ولا يُرَجَّح كما يفعل ابن جرير الطبرى - مثلاً - اللَّهم إلا فى حالات نادرة أيضاً، وهو يعرض للقراءات ولكن بقدر، كما أنه يحتكم إلى اللغة أحياناً ويشرح القرآن بالقرآن إن وجد من الآيات القرآنية ما يوضح معنى آية أخرى، كما أنه يروى من القصص الإسرائيلى، ولكن على قِلَّة وبدون تعقيب منه على ما يرويه، وكثيراً ما يقول: قال بعضهم كذا، وقال بعضهم كذا، ولا يُعيَّن هذا البعض. وهو يروى أحياناً عن الضعفاء، فيُخَرِّج من رواية الكلبى ومن رواية أسباط عن السدى، ومن رواية غيرهما ممن تُكلِّم فيه، ووجدته يُوجِّه بعض إشكالات ترد على ظاهر النظم ثم يجيب عنها، كما يعرض لموهم الاختلاف والتناقض فى القرآن ويزل هذا الإيهام.. وبالجملة، فالكتاب قَيِّمٌ فى ذاته، جمع فيه صاحبه بين التفسير بالرواية والتفسير بالدراية إلا أنه غلَّب الجانب النقلى فيه على الجانب العقلى، ولهذا عددناه ضمن كتب التفسير المأثور.
* * *(1/162)
3- الكشف والبيان عن تفسير القرآن (للثعلبى)
التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبى النيسابورى المقرئ، المفسِّر، كان حافظاً واعظاً، رأساً فى التفسير والعربية، متين الديانة، قال ابن خلكان: "كان أوحد زمانه فى علم التفسير، وصنَّف التفسير الكبير الذى فاق غيره من التفاسير". وقال ياقوت فى معجم الأدباء: "أبو إسحاق الثعلبى، المقرئ، المفسِّر، الواعظ، الأديب، الثقة، الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة: من التفسير الحاوى أنواع الفرائد من المعانى والإشارات، وكلمات أرباب الحقائق ووجوه الإعراب والقراءات.. ". وله من المؤلَّفات كتاب العرائس فى قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وله غير ذلك من المؤلفات. ونقل السمعانى عن بعض العلماء أنه يقال له "الثعلبى" و "الثعالبى"، وهو لقب له وليس بنسب. وذكره عبد الغفار بن إسماعيل الفارسى فى كتاب "سياق تاريخ نيسابور"، وأثنى عليه، وقال: هو صحيح النقل موثوق به. حدَّث عن أبى طاهر بن خزيمة والإمام أبى بكر بن مهران المقرئ. وعنه أخذ أبو الحسن الواحدى التفسير وأثنى عليه، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ. ولكن هناك مِنَ العلماء مَنْ يرى أنه لا يوثق به، ولا يصح نقله. وسنذكر بعض مَن يرى ذلك فيه ومقالاتهم عند الكلام عن تفسيره هذا.. وقد توفى الثعلبى رحمه الله سنة 427 هـ (سبع وعشرين وأربعمائة) . فرحمه الله وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
ألقى مؤلف هذا التفسير ضوءاً عليه فى مقدمته، وأوضح فيها عن منهجه وطريقته التى سلكها فيه فذكر أولاً اختلافه منذ الصغر إلى العلماء، واجتهاده فى الاقتباس من علم التفسير الذى هو أساس الدين ورأس العلوم الشرعية، ومواصلته ظلام الليل بضوء الصباح بعزم أكيد وجهد جهيد، حتى رزقه الله ما عرف به الحق من الباطل، والمفضول من الفاضل، والحديث من القديم، والبدعة من السُّنَّة، والحُجَّة من الشبهة، وظهر له أن المصنفين فى تفسير القرآن فِرَق على طُرقٍ مختلفة:
فِرقة أهل البدع والأهواء، وعَدَّ منهم الجبائى والرمَّانى.(1/163)
وفِرقة مَن ألَّفوا فأحسنوا، إلا أنهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السَلَف الصالحين، وعَدَّ منهم أبا بكر القفَّال.
وفِرقة اقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون الدارية والنقد، وعَدَّ منهم أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلى.
وفِرقة حذفت الإسناد الذى هو الركن والعماد، ونقلت من الصحف والدفاتر، وحرَّرت على هوى الخواطر، وذكرت الغثّ والسمين، والواهى والمتين، قال: وليسوا فى عِداد العلماء، فصنتُ الكتاب عن ذكرهم.
وفِرقة حازوا قصب السبق، فى جودة التصنيف والحذق. غير أنهم طوَّلوا فى كتبهم بالمعادات، وكثرة الطُرُق والروايات، وعَدَّ منهم ابن جرير الطبرى. وفِرقة جرَّدت التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال والحرام، والحل عن الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السَلَف الماضين، مثل مجاهد والسدى والكلبى.
ثم بيّن أنه لم يعثر فى كتب مَنْ تقدَّمه على كتاب جامع مهذَّب يُعتمد.. ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه فى إخراج كتاب فى تفسير القرآن وإجابته لمطلوبهم، رعاية منه لحقوقهم، وتقرباً به إلى الله.. ثم قال: "فاستخرتُ الله تعالى فى تصنيف كتاب شامل، مهذب، ملخص، مفهوم، منظوم، مستخرج من زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات. سوى ما التقطته من التعليقات والأجزاء المتفرقات، وتلقفته عن أقوام من المشايخ الأثبات، وهم قريب من ثلاثمائة شيخ، نسَّقته بأبلغ ما قدرتُ عليه من الإيجاز والترتيب". ثم قال: وخرَّجت فيه الكلام على أربعة عشر نحواً: البسائط والمقدمات، والعدد والتنزلات، والقصص، والنزولات، والوجوه والقراءات، والعلل والاحتجاجات، والعربية واللغات، والإعراب والموازنات، والتفسير والتأويلات، والمعانى والجهات، والغوامض والمشكلات، والأحكام والفقهيات، والحكم والإشارات، والفضائل والكرامات، والأخبار والمتعلقات، أدرجتها فى أثناء الكتاب بحذف الأبواب، وسميته: كتاب "الكشف والبيان عن تفسير القرآن".. ثم ذكر فى أول الكتاب أسانيده إلى مَنْ يروى عنهم التفسير من علماء السَلَف، واكتفى بذلك عن ذكرها أثناء الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره - وهى كثيرة - وكتب الغريب والمشكل والقراءات، ثم ذكر باباً فى فضل القرآن وأهله، وباباً فى معنى التفسير والتأويل، ثم شرع فى التفسير.
عثرتُ على هذا التفسير بمكتبة الأزهر فوجدته مخطوطاً غير كامل، وجدتُ منه(1/164)
أربع مجلدات ضخام - الأول والثانى والثالث والرابع -. والرابع ينتهى عند أواخر سورة الفرقان، وباقى الكتاب مفقود لم أعثر عليه بحال.
قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته يُفسِّر القرآن بما جاء عن السَلَف، مع اختصاره للأسانيد، اكتفاءً بذكرها فى مقدمة الكتاب، ولاحظتُ عليه أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [90] من سورة البقرة: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله} .. الآية، نجده يتوسع فى الكلام على "نِعْمَ" و "بِئْسَ" ويفيض فى ذلك.
كما أنه يعرض لشرح الكلمات اللغوية وأصولها وتصاريفها، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربى، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [171] من سورة البقرة: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً} .. الآية، نجده يحلل كلمة "ينعق" تحليلاً دقيقاً ويصرفها على وجوهها كلها.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [173] من السورة نفسها: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} ... الآية، نجده يحلل لفظ البغى ويتكلم عن أصل المادة بتوسع.
ومما لاحظته على هذا التفسير أنه يتوسع فى الكلام عن الأحكام الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام، فتراه يذكر الأقوال والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها، إلى درجة أنه يخرج عما يُراد من الآية، انظر إليه عندما يعرض لقوله تعالى فى الآية [11] من سورة النساء: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} .. الآية، تجده يفيض فى الكلام عما يُفعل بتركه الميت بعد موته، ثم يذكر جملة الورثة والسهام المحددة، ومَنْ فرضه الرُبُع، ومَنْ فرضه الثُمُن، والثُلُثان، والثُلُث، والسُدُس.. وهكذا، ثم يعرض لنصيب الجد والجدة والجدَّات، ثم يقول بعد هذا: "فصل فى بساط الآية"، وفيه يتكلم عن نظام الميراث عند الجاهلية وقبل مبعث الرسول.
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [24] من سورة النساء: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ، تجده قد توسَّع فى نكاح المتعة وتعرَّض لأقوال العلماء، وذكر أدلتهم بتوسع ظاهر.
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [31] من سورة النساء: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} .. الآية، تجده يقول: "فصل: فى أقاويل(1/165)
أهل التأويل فى عدد الكبائر، مجموعة من الكتاب والسُّنَّة، مقرونة بالدليل والحُجَّة".. ثم يسردها جميعاً ويذكر أدلتها على وجه التفصيل.
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [43] من سورة النساء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} .. الآية، تجده يعرض لأقوال السَلَف فى معنى اللمس والملامسة.. ثم يقول: واختلف الفقهاء فى حكم الآية على خمسة مذاهب، ويتوسع على الخصوص فى بيان مذهب الشافعى ويسرد أدلته، ويذكر تفصيل كيفية الملامسة عنده، كما يعرض لأقوال العلماء فى التيمم ومذاهبهم وأدلتهم بتوسع ظاهر عندما يتكلم عن قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} ...
وهكذا يتطرق الكتاب إلى نواح علمية متعددة، فى إكثار وتطويل يكاد يخرج به عن دائرة التفسير بالمأثور.
ثم إن هناك ناحية أخرى يمتاز بها هذا التفسير، هى التوسع إلى حد كبير فى ذكر الإسرائيليات بدون أن يتعقب شيئاً من ذلك أو يُنبِّه على ما فيه رغم استبعاده وغرابته، وقد قرأتُ فيه قصصاً إسرائيلياً نهاية فى الغرابة.
ويظهر لنا أن الثعلبى كان مولعاً بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة، بدليل أنه ألَّف كتاباً يشتمل على قصص الأنبياء، ولو أنك رجعت إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [10] من سورة الكهف: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} .. الآية، لوجدته يروى عن السدى ووهب وغيرهما كلاماً طويلاً فى أسماء أصحاب الكهف وعددهم، وسبب خروجهم إليه، ولوجدته يروى عن كعب الأحبار، ما جرى لهم مع الكلب حين تبعهم إلى الغار، ولعجبتَ حين تراه يروى أن النبى صلى الله عليه وسلم طلب من ربه رؤية أصحاب الكهف فأجابه الله بأنه لن يراهم فى دار الدنيا، وأمره بأن يبعث لهم أربعة من خيار أصحابه ليبلغوهم رسالته.. إلى آخر القصة التى لا يكاد العقل يصدقها.
ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [94] من سورة الكهف أيضاً { ... إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض} ... الآية، تجده قد أطال وذكر كلاماً لا يمكن أن يُقبل بحال، لأنه أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
ثم ارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [27] من سورة مريم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} .. الآية، تجده يروى عن السدى ووهب وغيرهما قصصاً كثيراً، وأخباراً فى نهاية الغرابة والبُعْد.(1/166)
ثم إن الثعلبى لم يتحر الصحة فى كل ما ينقل من تفاسير السَلَف، بل نجده - كما لاحظنا عليه وكما قال السيوطى فى الإتقان - يكثر من الرواية عن السدى الصغير عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس.
كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسِّرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة فى فضائل القرآن سورة سورة، فروى فى نهاية كل سورة حديثاً فى فضلها منسوباً إلى أُبَىّ بن كعب، كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسنة الشيعة فسوَّد بها كتابه دون أن يشير إلى وضعها واختلاقها. وفى هذا ما يدل عن أن الثعلبى لم يكن له باع فى معرفة صحيح الأخبار من سقيمها.
هذا.. وإن الثعلبى قد جَرَّ على نفسه وعلى تفسيره بسبب هذه الكثرة من الإسرائيليات، وعدم الدقة فى اختيار الأحاديث، اللوم المرير والنقد اللاذع من بعض العلماء الذين لاحظوا هذا العيب على تفسيره، فقال ابن تيمية فى مقدمته فى أصول التفسير: "والثعلبى هو نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد فى كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع".
وقال أيضاً فى فتاواه - وقد سئل عن بعض كتب التفسير: "وأما الواحدى فإنه تلميذ الثعلبى، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبى فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليداً لغيره وتفسيره، وتفسير الواحدى البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها".
ومَن يقرأ تفسير الثعلبى يعلم أن ابن تيمية لم يتقوَّل عليه، ولم يصفه إلا بما هو فيه.
وقال الكتانى فى الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدى المفسِّر: "ولم يكن له ولا لشيخه الثعلبى كبير بضاعة فى الحديث، بل فى تفسيرهما - وخصوصاً الثعلبى - أحاديث موضوعة وقصص باطلة".
والحق أن الثعلبى رجل قليل البضاعة فى الحديث، بل ولا أكون قاسياً عليه إذا قلت إنه لا يستطيع أن يميز الحديث الموضوع من غير الموضوع، وإلا لما روى فى تفسيره أحاديث الشيعة الموضوعة على علىّ، وأهل البيت، وغيرها من الأحاديث التى اشتهر وضعها، وحَذَّرَ العلماء من روايتها.
والعجب أن الثعلبى بعد هذا كله يعيب كل كتب التفسير أو معظمها، حتى كتاب محمد بن جرير الطبرى الذى شهد له خلق كثير، وليته إذ ادَّعى فى مقدمة(1/167)
تفسيره أنه لم يعثر فى كتب مَنْ تقدَّمه من المفسِّرين على كتاب جامع مهذَّب يُعتمد، أخرج لنا كتابه خالياً مما عاب عليه المفسِّرين.. ليته فعل ذلك.. إذن لكان قد أراحنا وأراح الناس من هذا الخلط والخبط الذى لا يخلو منه موضع من كتابه.
4- معالم التنزيل (للبغوى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف معالم التنزيل هو أبو محمد، الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفرَّاء البغوى، الفقيه، الشافعى، المحدِّث، المفسِّر، الملقَّب بمحيى السُّنَّة وركن الدين. تفقه البغوى على القاضى حسين وسمع الحديث منه، وكان تقياً ورعاً، زاهداً، قانعاً، إذا ألقى الدرس لا يلقيه إلا على طهارة، وإذا أكل لا يأكل إلا الخبز وحده، ثم عدل عن ذلك فصار يأكل الخبز مع الزيت. توفى رحمه الله فى شوَّال سنة 510 هـ (عشر وخمسمائة من الهجرة) بـ "مروروز" وقد جاوز الثمانين، ودُفِن عند شيخه القاضى حسين بمقبرة الطالقانى.
* مبلغه من العلم:
كان البغوى إماماً فى التفسير، إماماً فى الحديث، إماماً فى الفقه، وعَدَّه التاج السبكى من علماء الشافعية الأعلام، وقال: كان إماماً جليلاً، ورعاً زاهدا فقيهاً، محدِّثاً مفسِّراً، جامعاً بين العلم والعمل، سالكاً سبيل السَلَف، وصنَّف فى تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات من قول النبى صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث واعتنى بدراسته، وصنَّف كتباً كثيرة، فمن تصانيفه: "معالم التنزيل فى التفسير"، وهو الذى ترجمنا له، وسنتكلم عنه، وشرح السُّنَّة فى الحديث، والمصابيح فى الحديث أيضاً، والجمع بين الصحيحين، والتهذيب فى الفقه، وغير ذلك، وقد بورك له فى تصانيفه ورِزُق فيها القبول لحسن نِيَّته.
* التعريف بمعالم التنزيل وطريقة مؤلفه فيه:
قال فى كشف الظنون: "معالم التنزيل فى التفسير، للإمام محيى السُّنَّة، أبى(1/168)
محمد حسين بن مسعود الفرَّاء البغوى الشافعى المتوفى سنة 516 هـ (ست عشرة وخمسمائة) ، وهو كتاب متوسط، نقل فيه عن مفسِّرى الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، واختصره الشيخ تاج الدين أبو نصرى عبد الوهاب بن محمد الحسينى المتوفى سنة 875 هـ (خمس وسبعين وثمانمائة) ".
ووصفه الخازن فى مقدمة تفسيره بأنه: "من أجَّلِ المصنفات فى علم التفسير وأعلاها، وأنبلها وأسناها، جامع للصحيح من الأقاويل، عار عن الشبُهِ والتصحيف والتبديل، محلَّى بالأحاديث النبوية، مطرَّز بالأحكام الشرعية، موشَّى بالقصص الغريبة، وأخبار الماضيين العجيبة، مرصَّع بأحسن الإشارات، مُخَرَّج بأوضح العبارات، مُفَرَّغ فى قالب الجمال بأفصح مقال".
وقال ابن تيمية فى مقدمته فى أصول التفسير: "والبغوى تفسيره مختصر من الثعلبى، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة".
وقال فى فتاواه - وقد سئل عن أى التفاسير أقرب إلى الكتاب والسُّنَّة: الزمخشرى. أم القرطبى. أم البغوى أم غير هؤلاء؟؟ - قال: "وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها، فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوى، لكنه مختصر من تفسير الثعلبى، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التى فيه، وحذف أشياء غير ذلك".
وقال الكتانى فى الرسالة المستطرفة (ص58) : "وقد يوجد فيه - يعنى معالم التنزيل - من المعانى والحكايات ما يُحكم بضعفه أو وضعه".
وقد طُبِع هذا التفسير فى نسخة واحدة مع تفسير ابن كثير القرشى الدمشقى، كما طُبِعَ مع تفسير الخازن، وقد قرأتُ فيه فوجدته يتعرض لتفسير الآية بلفظ سهل موجز، وينقل ما جاء عن السَلَف فى تفسيرها، وذلك بدون أن يذكر السند، يكتفى فى ذلك بأن يقول مثلاً: قال ابن عباس كذا وكذا، وقال مجاهد كذا وكذا، وقال عطاء كذا وكذا، والسر فى هذا هو أنه ذكر فى مقدمة تفسيره إسناده إلى كل مَن يروى عنه. وبيَّن أن له طرقاً سواها تركها اختصاراً. ثم إنه إذا روى عمن ذكر أسانيده إليهم بإسناد آخر غير الذى ذكره فى مقدمة تفسيره فإنه يذكره عند الرواية، كما يذكر إسناده إذا روى عن غير مَنْ ذكر أسانيده إليهم مِنَ الصحابة والتابعين، كما أنه - بحكم كونه مِنَ الحفَّاظ المتقنين للحديث - كان يتحرَّى الصحة فيما يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرض(1/169)
عن المناكير وما لا تعلق له بالتفسير، وقد أوضح هذا فى مقدمة كتابه فقال: وما ذكرتُ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أثناء الكتاب على وفاق آية أو بيان حكم فإن الكتاب يُطلَب بيانه من السُنَّة. وعليها مدار الشرع وأُمور الدين - فهى من الكتب المسموعة للحُفَّاظ وأئمة الحديث، وأعرضتُ عن ذكر المناكير وما لا يليق بحال التفسير".
وقد لاحظتُ على هذا التفسير أنه يروى عن الكلبى وغيره من الضعفاء، كما لاحظتُ أنه يتعرض للقراءات، ولكن بدون إسراف منه فى ذلك، كما أنه يتحاشى ما ولع به كثير من المفسِّرين من مباحث الإعراب، ونكت البلاغة، والاستطراد إلى علوم أخرى لا صلة لها بعلم التفسير، وإن كان فى بعض الأحيان يتطرق إلى الصناعة النحوية ضرورة الكشف عن المعنى، ولكنه مقل لا يكثر. ووجدته يذكر أحياناً بعض الإسرائيليات ولا يُعَقِّب عليها ووجدته يورد بعض إشكالات على ظاهر النظم ثم يجيب عنها، كما وجدته ينقل الخلاف عن السَلَف فى التفسير ويذكر الروايات عنهم فى ذلك، ولا يُرَجِّح رواية على رواية، ولا يُضَعِّف رواية ويُصحح أخرى.
وعلى العموم فالكتاب فى جملته أحسن وأسلم من كثير من كتب التفسير بالمأثور وهو متداوَل بين أهل العلم.
* * *
5- المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز (لابن عطية)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسى المغربى الغرناطى الحافظ القاضى. ولى القضاء بمدينة المرية بالأندلس ولما تولَّى توخى الحق وعدل فى الحكم وأعز الخطة. ويقال: إنه قصد مرسية بالمغرب ليتولى قضاءها، فصُدَّ عن دخولها، وصُرِف منها إلى الرقة بالمغرب، واعتُدى عليه رحمه الله، وكان مولده سنة 481 هـ (إحدى وثمانين وأربعمائة) ، وتُوفى بالرِّقة سنة 546 هـ (ست وأربعين وخمسمائة من الهجرة) ، وقيل غير ذلك.
* *
*(1/170)
مكانته العلمية:
نشأ القاضى أبو محمد بن عطية فى بيت علم وفضل، فأبوه أبو بكر غالب بن عطية، إمام حافظ، وعالم جليل. رحل فى طلب العلم وتفقه على العلماء. وجدَه عطية أنسل كثيراً لهم قدر وفيهم فضل، فلا عجب إذن أن يشبه الفرع أصله.
كان أبو محمد بن عطية غاية فى الدهاء والذكاء وحسن الفهم وجلالة التصرف، شغوفاً باقتناء الكتب، وكان على مبلغ عظيم من العلم، فكان فقيهاً جليلاً، عارفاً بالأحكام والحديث والتفسير، نحوياً لُغوياً، أديباً شاعراً، مقيداً ضابطاً، سُنِّياً فاضلا. وصفه صاحب "قلائد العقيان" بالبراعة فى الأدب، والنظم، والنثر، وذكر شيئاً من شِعره، ووصفه أبو حيان فى مقدمة البحر المحيط بأنه: "أجَّل مَنْ صنَّف فى علم التفسير، وأفضل مَنْ تعرَّض فيه للتنقيح والتحرير".
روى عن أبيه، وأبى علىّ الغسَّانى، والصفدى. وروى عنه أبو بكر ابن أبى حمزة، وأبو القاسم بن حبيش، وأبو جعفر بن مضاء، وغيرهم.
وقد خلَّف من المؤلفات كتاب التفسير، المسمى بـ "المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز"، وهو الكتاب الذى ترجمنا له وستتكلم عنه، كما ألَّف برنامجاً ضمنه مروياته وأسماء شيوخه، وقد حرر هذا الكتاب وأجاد فيه.
وعلى الجملة، فالقاضى أبو محمد بن عطية عالِم له شهرته العلمية فى نواح مختلفة، وقد عدَّه ابن فرحون فى "الديباج المذهب" من أعيان مذهب المالكية، كما عدَّه السيوطى فى "بغية الوعاة" من شيوخ النحو وأساطين النحاة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
تفسير ابن عطية المسمى بـ "المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز" تفسير له(1/171)
قيمته العالية بين كتب التفسير وعند جميع المفسِّرين، وذلك راجع إلى أن مؤلفه أضفى عليه من روحه العلمية الفيّاضة ما أكسبه دقة، ورواجاً، وقبولاً. وقد لخصه مؤلفه - كما يقول ابن خلدون فى مقدمته - من كتب التفاسير كلها - أى تفاسير المنقول - وتحرَّى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك فى كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس، حسن المنحى".
والحق أن ابن عطية أحسن فى هذا التفسير وأبدع، حتى طار صيته كل مطار، وصار أصدق شاهد لمؤلفه بإمامته فى العربية وغيرها من النواحى العلمية المختلفة، ومع هذه الشهرة الواسعة لهذا الكتاب فإنه لا يزال مخطوطاً إلى اليوم، وهو يقع فى عشر مجلدات كبار، ويوجد منه فى دار الكتب المصرية أربعة أجزاء فقط: الجزء الثالث، والخامس، والثامن، والعاشر. وقد رجعتُ إلى هذه الأجزاء وقرأتُ منها ما شاء الله أن أقرأ، فوجدتُ المؤلف يذكر الآية ثم يفسِّرها بعبارة عذبة سهلة، ويورد من التفسير المأثور ويختار منه فى غير إكثار، وينقل عن ابن جرير الطبرى كثيراً، ويناقش المنقول عنه أحياناً، كما يناقش ما ينقله عن غير ابن جرير ويرد عليه. وهو كثير الاستشهاد بالشعر العربى، مَعْنِى بالشواهد الأدبية للعبارات، كما أنه يحتكم إلى اللغة العربية عندما يُوجه بعض المعانى، وهو كثير الاهتمام بالصناعة النحوية، كما أنه يتعرض كثيراً للقراءات ويُنزل عليها المعانى المختلفة.
ونجد أبا حيان فى مقدمة تفسيره يعقد مقارنة بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشرى فيقول: "وكتاب ابن عطية أنقل، وأجمع، وأخلص، وكتاب الزمخشرى ألخص، وأغوص".
ونجد ابن تيمية يعقد مقارنة بين الكتابين - كتاب ابن عطية وكتاب الزمخشرى - فى فتاواه فيقول: "وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشرى، وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير". كما يعقد مثل هذه المقارنة فى مقدمته فى أصول التفسير فيقول: "وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسُّنَّة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشرى، ولو ذكر كلام السَلَف الموجود فى التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبرى - وهو من أجَّلِ التفاسير وأعظمها قدراً - ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السَلَف لا يحكيه بحَال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعنى بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا(1/172)
أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كان أقرب إلى السُّنَّة من المعتزلة".
وأنا فى أثناء قراءتى فى هذا التفسير، رأيت ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [26] من سورة يونس: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} .. يقول ما نصه: "قالت فرقة هى الجمهور: الحُسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى الله عزَّ وجَلَّ، ورُوى فى ذلك حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، رواه صهيب، ورُوى هذا القول عن أبى بكر الصِدِّيق، وحُذيفة، وأبى موسى الأشعرى.. ".
ثم يقول: "وقالت فرقة: الحُسنى هى الحسنة، والزيادة هى تضعيف الحسنات إلى سبعمائة، فروتها حسب ما روى فى نص الحديث وتفسير قوله تعالى: {يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261] ..، وهذا قول يعضده النظر، ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح هذا القول".. ثم يأخذ فى ذكر طرق الترجيح للقول الثانى.
وهذا يدلنا على أنه يميل إليه المعتزلة، أو على الأقل يقدِّر ما ذهبت إليه المعتزلة فى مسألة الرؤية وإن كان يحترم مع ذلك رأى الجمهور. ولعل مثل هذا التصرف من ابن عطية هو الذى جعل ابن تيمية يحكم عليه بحكمه السابق.
* * *
6- تفسير القرآن العظيم (لابن كثير)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو الإمام الجليل الحافظ، عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير من ضوء بن كثير بن زرع البصرى ثم الدمشقى، الفقيه الشافعى، قَدِم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. سمع من ابن الشجنة، والآمدى، وابن عساكر، وغيرهم، كما لازم المزى وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته. وأخذ عن ابن تيمية، وفُتِن بحبه، وامتُحِن بسببه. وذكر ابن قاضى شهبة فى طبقاته: أنه كانت له خصوصية بابن تيمية، ومناضلة عنه، واتباع له فى كثير من آرائه، وكان يفتى برأيه فى مسألة الطلاق وامتُحِن بسبب ذلك وأُوذِى.
وقال الداودى فى طبقات المفسِّرين: "كان قدوة العلماء والحُفَّاظ، وعمدة أهل المعانى والألفاظ، وَلِىَ مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبى - وبعد موت السبكى مشيخة الحديث الأشرفية مدة يسيرة، ثم أُخِذت منه".
وكان مولده سن 700 هـ (سبعمائة) أو بعدها بقليل وتوفى فى شعبان سنة 774(1/173)
هـ (أربع وسبعين وسعبمائة من الهجرة) ، ودُفِن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية، وكان قد كفَّ بصره فى آخر عمره. رحمه الله رحمة واسعة.
* *
* مكانته العلمية:
كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم، وقد شهد له العلماء بسعة علمه، وغزارة مادته، خصوصاً فى التفسير والحديث والتاريخ. قال عنه ابن حجر: "اشتغل بالحديث مطالعة فى متونه ورجاله، وجمع التفسير، وشرع فى كتاب كبير فى الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذى سمَّاه البداية والنهاية، وعمل طبقات الشافعية، وشرع فى شرح البخارى.. وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، وصارت تصانيفه فى البلاد فى حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق المحدِّثين فى تحصيل العوالى، وتمييز العالى من النازل، ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدِّثى الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد". وقال الذهبى عنه فى المعجم المختص: "الإمام المفتى، المحدِّث البارع، فقيه متفنن، مُحَدِّث متقن، مُفَسِّر نقَّال، وله تصانيف مفيدة"، وذكره صاحب شذرات الذهب فقال: "كان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم"، وقال ابن حبيب فيه: "زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنَّف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنَّف، وحدَّث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه فى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم فى التاريخ والحديث والتفسير"، وقال فيه أحد تلاميذه ابن حجى: "أحفظ مَنْ أدركناه لمتون الحديث، وأعرفهم بجرحها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أنى اجتمعتُ به على كثرة ترددى عليه إلا واستفدتُ منه"..
وعلى الجملة.. فعلم ابن كثير يتجلى بوضوح لمن يقرأ تفسيره أو تاريخه، وهما من خير ما ألَّف، وأجود ما أخرج الناس.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
تفسير ابن كثير من أشهر ما دُوِّن فى التفسير المأثور، ويُعتبر فى هذه الناحية الكتاب الثانى بعد كتاب ابن جرير. اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسِّرى السَلَف، ففسَّر فيه كلام الله تعالى بالأحاديث والآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحاً وتعديلاً. وقد طُبِع هذا التفسير مع معالم التفسير للبغوى، ثم طُبِع مستقلاً فى أربعة أجزاء كبار.
وقد قدَّم له مؤلفه بمقدمة طويلة هامة، تعرَّض فيها لكثير من الأُمور التى لها تعلق(1/174)
واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذى ذكره فى مقدمته فى أصول التفسير.
ولقد قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته يمتاز فى طريقته بأنه يذكر الآية، ثم يُفسِّرها بعبارة سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية بآية أخرى ذكرها وقارن بين الآيتين حتى يتبين المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع من التفسير الذى يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، وهذا الكتاب أكثر ما عُرِف من كتب التفسير سرداً للآيات المتناسبة فى المعنى الواحد.
ثم بعد أن يفرغ من هذا كله، يشرع فى سرد الأحاديث المرفوعة التى تتعلق بالآية، ويبين ما يُحتَج به وما لا يُحتَج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومَن يليهم من علماء السَلَف.
ونجد ابن كثير يُرَجِّح بعض الأقوال على بعض، ويُضَعِّف بعض الروايات، ويُصحِّح بعضاً آخر منها، ويُعَدِّل بعض الرواة ويُجَرِّح بعضاً آخر. وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
وكثيراً ما نجد ابن كثير ينقل من تفسير ابن جرير، وابن أبى حاتم، وتفسير ابن عطية، وغيرهم ممن تقدَّمه.
ومما يمتاز به ابن كثير، أنه يُنَبِّه إلى ما فى التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات، ويُحَذِّر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [67] وما بعدها من سورة البقرة: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ... } .. إلى آخر القصة، نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة المخصوصة، وعن وجودهم لها عند رجل من بنى إسرائيل كان من أَبَرِّ الناس بأبيه.. إلخ، ويروى كل ما قيل من ذلك عن بعض علماء السَلَف:. ثم بعد أن يفرغ من هذا كله يقول ما نصه: "وهذه السياقات عن عبيدة وأبى العالية والسدىّ وغيرهم، فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بنى إسرائيل، وهى مما يجوز نقلها ولكن لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب، فلهذا لا يُعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. والله أعلم".(1/175)
ومثلاً عند تفسيره لأول سورة "ق" نراه يعرض لمعنى هذا الحرف فى أول السورة "ق" ويقول: ".. وقد روى عن بعض السَلَف أنهم قالوا: "ق" جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بنى إسرائيل التى أخذها عنهم مما لا يُصدَّق ولا يُكَذَّب، وعندى أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يُلَبِّسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى فى هذه الأُمَّة مع جلالة قدر علمائها وحُفَّاظها وأئمتها أحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قِدَم، فكيف بأُمَّه بنى إسرائيل مع طول المدى وقِلَّة الحُفَّاظ النُقَّاد فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم فى قوله: "وحدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج" فيما قد يُجَوِّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويُحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل. والله أعلم".
كما نلاحظ على ابن كثير أنه يدخل فى المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام، وإن شئتَ أن ترى مثالاً لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى فى الآية [185] من سورة البقرة: { ... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .. الآية، فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلّماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه، وارجع إليه عند تفسير قوله تعالى فى الآية [230] من سورة البقرة أيضاً: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .. الآية، فإنه قد تعرَّض لما يُشترط فى نكاح الزوج المحلِّل، وذكر أقوال العلماء وأدلَّتهم.
وهكذا يدخل ابن كثير فى خلافات الفقهاء، ويخوض فى مذاهبهم وأدلَّتهم كلما تكلَّم عن آية لها تعلق بالأحكام، ولكنه مع هذا مقتصد مُقِلٌ لا يُسرف كما أسرف غيره من فقهاء المفسِّرين.
وبالجملة.. فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور، وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطى فى ذيل "تذكرة الحفَّاظ" والزرقانى فى "شرح المواهب": إنه لم يُؤَلَّف على نمطه مثله.
* * *(1/176)
7 - الجواهر الحسان فى تفسير القرآن (للثعالبى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف الجواهر الحسان، هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبى، الجزائرى، المغربى، المالكى، الإمام الحُجَّة، العالِم العامل، الزاهد الورع، ولىُّ الله الصالح العارف بالله. كان من أولياء الله المعرضين عن الدنيا وأهلها، ومن خيار عباد الله الصالحين. قال ابن سلامة الكبرى: كان شيخنا الثعالبى رجلاً صالحاً، زاهداً عالماً، عارفاً، ولياً من أكابر الأولياء. وبالجملة فقد اتفق الناس على صلاحه وإمامته، وأثنى عليه جماعة من شيوخه بالعلم والدين والصلاح، كالإمام الأبىّ، والولىّ العراقى، وغيرهما. وقد عرَّف هو بنفسه فى مواضع من كتبه، وبيَّن أنه رحل من الجزائر لطلب العلم فى آخر القرن الثامن فدخل بجاية، ثم تونس، ثم رحل إلى مصر، ثم رجع إلى تونس، ويقول هو: لم يكن بتونس يومئذ مَن يفوتنى فى علم الحديث، إذا تكلمت أنصتوا وقبلوا ما أرويه، تواضعاً منهم وإنصافاً، واعترفاً بالحق، وكان بعض المغاربة يقول لى لما قدمت من المشرق: أنت آية فى علم الحديث. وذكر كل شيوخه الذين سمع منهم فى تلك البلاد.
وكان الثعالبى إماماً علاَّمة مُصَنِّفاً، خلَّف للناس كُتباً كثيرة نافعة، منها: "الجواهر الحسان فى تفسير القرآن" وهو التفسير الذى نحن بصدده، وكتاب الذهب الإبريز فى غرائب القرآن العزيز، وتحفة الإخوان فى إعراب بعض آيات القرآن، وكتاب جامع الأُمهات فى أحكام العبادات، وغير ذلك من الكتب النافعة فى نواح علمية مختلفة. وكانت وفاته سنة 876هـ (ست وسبعين وثمانمائة من الهجرة) أو فى أواخر التى قبلها، عن نحو تسعين سنة، ودفن بمدينة الجزائر، فرحمه الله ورضى عنه.
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
نستطيع أن نأخذ فكرة عامة واضحة عن هذا التفسير من كلام مؤلِّفه نفسه الذى ذكره فى مقدمته وخاتمته. يقول الثعالبى رحمه الله فى مقدمة تفسيره بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله: "فإنى قد جمعت لنفسى ولك فى هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عينى وعينك فى الدارين، فقد ضمَّنته بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد جمَّة، من غيره من كتب الأئمة، وثقات أعلام(1/177)
هذه الأُمَّة، حسبما رأيته أو رُوِيته عن الإثبات وذلك قريب من مائة تأليف، وما فيها تأليف إلا وهو لإمام مشهور بالدين ومعدود فى المحققين، وكل مَنْ نقلت عنه من المفسِّرين شيئاً فمن تأليفه نقلت، وعلى لفظ صاحبه عوَّلت، ولم أنقل شيئاً من ذلك بالمعنى خوف الوقوع فى الزلل، وإنما هى عبارات وألفاظ لمن أعزوها إليه، وما انفردتُ بنقله عن الطبرى، فمن اختصار الشيخ أبى عبد الله محمد ابن عبد الله بن أحمد اللخمى النحوى لتفسير الطبرى نقلت، لأنه اعتنى بتهزيبه".
ثم أبان المؤلف عن رموز الكتاب فقال: "وكل ما فى آخره: "انتهى" فليس هو من كلام ابن عطية، بل ذلك مما انفردتُ بنقله من غيره، ومَنْ أشكل عليه لفظ فى هذا المختصر فليراجع الأُمهات المنقول عنها فليصلحه منها، ولا يصلحه برأيه وبديهة عقله فيقع فى الزلل من حيث لا يشعر. وجعلتُ علامة "التاء" لنفسى بدلاً من: "قلت"، ومَنْ شاء كتبها: قلت. وأما "العين" فلابن عطية. وما نقلته من الإعراب عن غير ابن عطية فمن الصفاقصى مختصر أبى حيان غالباً. وجعلت "الصاد" علامة عليه، وربما نقلتُ عن غيره معزواً لمن عنه نقلت. وكل ما نقلته عن أبى حيان - وإنما نقلى له بواسطة الصفاقصى - أقول: قال الصفاقصى: وجعلت علامة ما زدته على أبى حيان "م" وما يتفق لى إن أمكن فعلامته: "قلت".. وبالجملة فحيث أطلق، فالكلام لأبى حيان.. "
ثم قال: "وما نقلته من الأحاديث الصحاح والحسان عن غير البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى فى باب الأذكار والدعوات، فأكثره من النووى وسلاح المؤمن. وفى الترغيب والترهيب وأصول الآخرة، فمعظمه من التذكرة للقرطبى، والعاقبة لعبد الحق. وربما زدتُ زيادة كثيرة من مصابيح البغوى وغيره، كما ستقف إن شاء الله تعالى على كل ذلك معزواً لمحاله. وبالجملة فكتابى هذا محشو بنفائس الحِكَم، وجواهر السُنن الصحيحة، والحِسان المأثورة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وسميته بالجواهر الحسان فى تفسير القرآن".
ثم نقل مما جاء فى مقدمة تفسير ابن عطية، فذكر باباً فى فضل القرآن، وباباً فى فضل تفسير القرآن وإعرابه، وفصلاً فيما قيل فى الكلام فيه، والجرأة عليه، ومراتب المفسِّرين، وفصلاً فى اختلاف الناس فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أُنزِل القرآن على سبعة أحرف"، وفصلاً فى ذكر الألفاظ التى فى القرآن مما للغات العجم بها تعلق، وباباً فى تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية.. ثم شرع فى التفسير بعد ذلك كله، وفى كل ما تقدَّم يعتمد على ابن عطية وينقل عنه.(1/178)
وفى خاتمة التفسير يقول: "وقد أودعته بحمد الله جزيلاً من الدرر، وقد استوعبتُ بحمد الله مهمات ابن عطية، وأسقطتُ كثيراً من التكرار وما كان من الشواذ فى غاية الوهى، وزدتُ من غيره جواهر ونفائس لا يُستغنى عنها، مميَّزة معزوَّة لمحالها، منقولة بألفاظها، وتوخيتُ فى جميع ذلك الصِّدق والصواب".
هذا هو وصف المؤلف لكتابه وبيانه له، ومنه يضح جلياً أن الكتاب عبارة عن مختصر لتفسير ابن عطية، مع زيادة نُقُول نقلها الثعالبى عمَّن سبقه من المفسِّرين، ومن أجل هذا نستطيع أن نقول: إن الثعالبى فى تفسيره هذا ليس له بعد الجمع والترتيب إلا عمل قليل، وأثر فكرى ضئيل.
والكتاب مطبوع فى الجزائر فى أربعة أجزاء، وتوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية، وأخرى بالمكتبة الأزهرية، وفى آخر الكتاب معجم مختصر فى شرح ما وقع فيه من الألفاظ الغريبة، ألحقه به مؤلفه، وزاد فيه كلمات أخرى وردت فى غيره يُحتاج إلى معرفتها، وجُلَّها مما جاء فى الموطأ وصحيحى البخارى، ومسلم وغيرهما من الكتب الستة، وبعد هذا ذكر الثعالبى مرائيه التى رأى فيها النبى صلى الله عليه وسلم.
وقد قرأت فى هذا التفسير فلاحظتُ أنه التزم ما ذكره فى مقدمته، فنقل عمَّن ذكرهم، ورمز إليهم بالحروف المذكورة، ووجدته يتعرض للقراءات أحياناً، ويدخل فى الصناعة النحوية ناقلاً عمَّن ذكره ومِنْ عند نفسه، ورأيته يستشهد فى بعض المواضع بالشعر العربى على المعنى الذى يذكره، وهو إذ يذكر الروايات المأثورة فى التفسير يذكرها بدون أن يذكر سنده إلى مَن يروى عنه، وقد وجدتُ الثعالبى يذكر بعض الروايات الإسرائيلية، ولكنه يتعقب ما يذكره بما يفيد عدم صحته، أو على الأقل بما يفيد عدم القطع بصحته، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [20] من سورة النمل: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} نجده يذكر بعض الأخبار الإسرائيلية، ثم يقول بعد الفراغ منها: "والله أعلم بما صحَّ من ذلك"، ومثلاً عندما تكلم عن "بلقيس" فى نفس السورة السابقة نجده يقول: "وأكثرَ بعض الناس فى قصصها بما رأيتُ اختصاره لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية، أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن، ذات مُلْك عظيم، وكانت كافرة من قوم كُفَّار".
وجملة القول.. فإن الكتاب مفيد، جامع لخلاصات كتب مفيدة، وليس فيه ما فى غيره من الحشو المُخِل، والاستطراد المُمِل.
* * *(1/179)
8 - الدُرُّ المنثور فى التفسير المأثور (للسيوطى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد، السيوطى الشافعى، المسند المحقق، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة، وِلُد فى رجب سنة 849 هـ (تسع وأربعين وثمانمائة) ، وتوفى والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وأسند وصايته إلى جماعة، منهم الكمال بن الهمام، فقرره فى وظيفة الشيخونية ولحظه بنظره، وختم القرآن وله من العمر ثمان سنين، وحفظ كثيراً من المتون، وأخذ عن شيوخ كثيرين، عدّهم تلميذه الداودى فبلغ بهم واحداً وخمسين، كما عَدَّ مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على الخمسمائة مُؤلَّف، وشهرة مؤلفاته تُغنى عن ذكرها، فقد اشتهرت شرقاً وغرباً، ورُزِقت قبول الناس. وكان السيوطى - رحمه الله - آية فى سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودى: عاينتُ الشيخ وقد كتب فى يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفاً وتحريراً.
وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه، رجالاً، وغريباً، ومتناً، وسنداً، واستنباطاً للأحكام. ولقد أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتى ألف حديث، قال: لو وجدتُ أكثر لحفظت. ولما بلغ الأربعين سنة تجرَّد للعبادة، وانقطع إلى الله تعالى، وأعرض عن الدنيا وأهلها، وترك الإفتاء والتدريس، واعتذر عن ذلك فى مُؤلَّف سمَّاه بـ " التنفيس"، وأقام فى روضة المقياس ولم يتحوَّل عنها إلى أن مات. وله مناقب وكرامات كثيرة. وله شعر كثير جيد، أغلبه فى الفوائد العلمية، والأحكام الشرعية. وتوفى فى سَحَر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة 911 هـ (إحدى عشرة وتسعمائة) فى منزله بروضة المقياس، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
عرَّف الجلال السيوطى نفسه هذا التفسير، وبيَّن لنا الحامل له على تأليفه، وذلك بمجموع ما ذكره فى آخر كتاب الإتقان له، وما ذكره فى مقدمة الدُرّ المنثور نفسه، فقال فى آخر الإتقان (2/ 183) : "وقد جمعت كتاباً مسنداً فيه تفاسير النبى صلى الله عليه وسلم، فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف، وقد تم ولله الحمد فى أربع مجلدات، وسميته "ترجمان القرآن".
وقال فى مقدمة الدُرِّ المنثور (1/2) : "وبعد.. فلما ألفَّتُ كتاب ترجمان القرآن - وهو التفسير المُسْنَد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتم بحمد الله فى مجلدات، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرَّجة منها واردات، رأيتُ قصور أكثر(1/180)
الهمم عن تحصيله، ورغبتهم فى الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخَّصتُ منه هذا المختصر، مقتصراً فيه على متن الأثر، مصدراً بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر، وسميته بالدُرِّ المنثور، فى التفسير المأثور".
ومن هاتين العبارتين يتبين لنا أن السيوطى اختصر كتابه الدُرّ المنثور من كتابه ترجمان القرآن، وحذف الأسانيد مخافة الملل، مع عزوه كل رواية إلى الكتاب الذى أخذها منه.
ويقول السيوطى فى آخر الإتقان (3/ 190) : "وقد شرعتُ فى تفسير جامع لجميع ما يُحتاج إليه من التفاسير المنقولة، والأقوال المعقولة، والاستنباطات والإشارات، والأعاريب واللغات، ونكت البلاغة ومحاسن البدائع وغير ذلك، بحيث لا يُحتاج معه إلى غيره أصلاً، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين، وهو الذى جعلت هذا الكتاب - يعنى الإتقان مقدمة له".
ومن هذه العبارة يتبين لنا أن كتاب: "مجمع البحرين، ومطلع البدرين" يشبه فى منهجه وطريقته - إلى حد كبير - تفسير ابن جرير الطبرى، ولكن لا ندرى إذا كان السيوطى قد أتم هذا التفسير أم لا، ويظهر لنا أنه لا صلة بينه وبين كتاب الدُرّ المنثور، وذلك لأنى استعرضتُ كتاب الدُرّ المنثور فوجدته لا يتعرض فيه مطلقاً لما ذكره من منهجه فى مجمع البحرين ومطلع البدرين، فلا استنباط، ولا إعراب، ولا نكات بلاغية، ولا مُحَسِّنات بديعية، ولا شئ مما ذكر أنه سيعرض له فى مجمع البحرين ومطلع البدرين، وكل ما فيه هو سرد الروايات عن السَلَف فى التفسير بدون أن يُعقِّب عليها، فلا يُعَدِّل ولا يُجَرِّح، ولا يُضَعِّف ولا يُصَحِّح، فهو كتاب جامع فقط لما يُروى عن السَلَف فى التفسير، أخذه السيوطى من البخارى، ومسلم، والنسائى، والترمذى، وأحمد، وأبى داود، وابن جرير، وابن أبى حاتم، وعبد ابن حميد، وابن أبى الدنيا، وغيرهم ممن تَقدَّمه ودَوَّن التفسير.
والسيوطى رجل مُغرم بالجمع وكثرة الرواية، وهو مع جلالة قدره، ومعرفته بالحديث وعلله، لم يتحر الصحة فيما جمع فى هذا التفسير، وإنما خلط فيه بين الصحيح والعليل، فالكتاب يحتاج إلى تصفية حتى يتميز لنا عثه من سمينه، وهو مطبوع فى ست مجلدات، ومتداوَل بين أهل العلم.
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أن كتاب الدُرّ المنثور، هو الكتاب الوحيد الذى اقتصر على التفسير المأثور من بين هذه الكتب التى تكلمنا عنها، فلم يخلط بالروايات التى نقلها شيئاً من عمل الرأى كما فعل غيره.
وإنما اعتبرنا كل هذه الكتب من كتب التفسير بالمأثور، نظراً لما امتازت به عمَّا(1/181)
عداها من الإكثار فى النقل، والاعتماد على الرواية، وما كان وراء ذلك من محاولات تفسيرية أو استطردات إلى نواح تتصل بالتفسير، فذلك أمر يكاد يكون ثانوياً بالنسبة لما جاء فيها من روايات عن السَلَف فى التفسير.
وإلى هنا نمسك عن الكلام عن بقية الكتب المؤلَّفة فى التفسير المأثور لما قدّمناه من عدم وصول جميعها إلينا، ومن مخافة التطويل.. ولعل القارئ الكريم يتفق معى على أن هذه الكتب التى تقدَّمت، يغنى الكلام عنها عن الكلام عما عداها من الكتب التى نهجت هذا المنهج وسلكت هذا الطريق.
* * *(1/182)
التفسير بالرأى وما يتعلق به من مباحث
*معنى التفسير بالرأى:
يُطلق الرأى على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه: أصحاب الرأى: أى أصحاب القياس.
والمراد بالرأى هنا "الاجتهاد" وعليه فالتفسير بالرأى، عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم فى القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها، واستعانته فى ذلك بالشعر الجاهلى ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التى يحتاج إليها المفسِّر، وسنذكرها قريباً إن شاء الله تعالى.
* موقف العلماء من التفسير بالرأى:
اختلف العلماء من قديم الزمان فى جواز تفسير القرآن بالرأى، ووقف المفسِّرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين:
فقوم تشدَّدوا فى ذلك فلم يجرءوا على تفسير شئ من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شئ من القرآن وإن كان عالماً أديباً متسعاً فى معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهى إلى ما روى النبى صلى الله عليه وسلم، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة رضى الله عنهم، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأساً من أن يفسِّروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن مَنْ كان ذا أدب وسيع فموسَّع له أن يُفسِّر القرآن برأيه واجتهاده.
والفريقان على طرفى نقيض فيما يبدو، وكل يُعَزِّز رأيه ويُقَوِّيه بالأدلة والبراهين. أما الفريق الأول - فريق المانعين - قد استدَّلوا بما يأتى:
أولاً - قالوا: إن التفسير بالرأى قول على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم منهى عنه فالتفسير بالرأى منهى عنه، دليل الصغرى: أن المفسِّر بالرأى ليس على يقين بأنه أصاب ما أراد الله تعالى، ولا يمكنه أن يقطع بما يقول، وغاية الأمر أنه يقول بالظن، والقول بالظن قول على الله بغير علم.(1/183)
ودليل الكبرى: قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهو معطوف على ما قبله من المحرَّمات فى قوله تعالى فى الآية [33] من سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} .. الآية، وقوله تعالى فى الآية [36] من سورة الإسراء: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ..
قد رَدَّ المجيزون هذا الدليل فقالوا: نمنع الصغرى. لأن الظن نوع من العلم، إذ هو إدراك الطرف الراجح. وعلى فرض تسليم الصغرى فإنَّا نمنع الكبرى، لأن الظن منهى عنه إذا أمكن الوصول إلى العلم اليقينى القطعى، بأن يوجد نص قاطع من نصوص الشرع، أو دليل عقلى موصل لذلك. أما إذا لم يوجد شئ من ذلك، فالظن كاف هنا، لاستناده إلى دليل قطعى من الله سبحانه وتعالى على صحة العمل به إذ ذاك. كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .. وقوله عليه الصلاة والسلام: "جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ واحداً"، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فبِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسُّنَّة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدره وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يُرضى رسول الله".
ثانياً - استدلوا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فقد أضاف البيان إليه، فعُلِمَ أنه ليس لغيره شئ من البيان لمعانى القرآن.
وأجاب المجيزون عن هذا الدليل فقالوا: نعم إنَّ النبى صلى الله عليه وسلم مأمور بالبيان ولكنه مات ولم يبيِّن كل شئ فما ورد بيانه عنه - صلى الله عليه وسلم - ففيه الكفاية عن فكره من بعده، وما لم يرد عنه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، فيستدلون بما ورد بيانه على ما لم يرد، والله تعالى يقول فى آخر الآية: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
ثالثاً - استدَّلوا بما ورد فى السُّنَّة من تحريم القول فى القرآن بالرأى فمن ذلك:
1 - ما رواه الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا الحديث عنى إلا ما علمتم، فمَن كذب علىّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ومَن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
2 - ما رواه الترمذى وأبو داود عن جُندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ".
وأجاب المجيزون عن هذين الحديثين بأجوبة:(1/184)
منها: أن النهى محمول على مَنْ قال برأيه فى نحو مشكل القرآن، ومشتابهه، من كل ما لم يُعلم إلا عن طريق النقل عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة عليهم رضوان الله.
ومنها: أنه أراد - بالرأى - الرأى الذى يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، أما الذى يشده البرهان، ويشهد له الدليل، فالقول به جائز، فالنهى على هذا متناول لمن كان يعرف الحق ولكنه له فى الشئ رأى وميل إليه من طبعه وهواه، فيتأوَّل القرآن على وفق هواه، ليحتج به على تصحيح رأيه الذى يميل إليه، ولو لم يكن له ذلك الرأى والهوى لما لاح له هذا المعنى الذى حمل القرآن عليه. ومتناول لمن كان جاهلاً بالحق ولكنه يحمل الآية التى تحتمل أكثر من وجه على ما يوافق رأيه وهواه، ويُرَجِّح هذا الرأى بما يتناسب مع ميوله، ولولا هذا لما تَرَجَّحَ عنده ذلك الوجه. ومتناول أيضاً لمن كان له غرض صحيح ولكنه يستدل لغرضه هذا بدليل قرآنى يعلم أنه ليس مقصوداً به ما أراد، مثل الداعى إلى مجاهدة النفس الذى يستدل على ذلك بقوله تعالى: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} ، [طه: 24] ويريد من فرعون النفس.. ولا شك أن مثل هذا قائل فى القرآن برأيه.
ومنها: أن النهى محمول على مَنْ يقول فى القرآن بظاهر العربية، ومن غير أن يرجع إلى أخبار الصحابة الذى شاهدوا تنزيله، وأدُّوا إلينا من السنُن ما يكون بياناً لكتاب الله تعالى، وبدون أن يرجع إلى السماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن، وما فيه من المبهمات. والحذف، والاختصار، والإضمار، والتقديم، والتأخير، ومراعاة مقتضى الحال، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من كل ما يجب معرفته لمن يتكلم فى التفسير، فإنَّ النظر إلى ظاهر العربية وحده لا يكفى، بل لا بد من ذلك أولاً، ثم بعد ذلك يكون التوسع فى الفهم والاستنباط.
فمثلاً قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59] معناه: وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة، وآية بيِّنة على صدق رسالته، فظلموا بعقرها أنفسهم، ولكن الواقف عن ظاهر العربية وحدها بدون أن يستظهر بشئ مما تقدَّم، يظن أن "مبصرة" من الإبصار بالعين، وهو حال من الناقة، وصف لها فى معنى، ولا يدرى بعد ذلك بِمَ ظلموا، ولا مَنْ ظلموا.
كل من هذه الأجوبة الثلاثة. يمكن أن يُجاب به على مَنْ يستند فى قوله بحُرْمة التفسير بالرأى على هذين الحديثين المتقدمين، وهى أجوبة سليمة دامغة، كافية لإسقاط حُجَّتهما والاعتماد عليهما.
هذا.. ويمكن الإجابة عن حديث جُندب - زيادة عما تقدَّم - بأنَّ هذا الحديث لم تثبت صحته، لأن مِن رواته سُهيل بن أبى حزم، وهو مُتكلَّم فيه، قال فيه أبو(1/185)
حاتم: ليس بالقوى، وكذا قال البخارى والنسائى، وضعَّفه ابن معين، وقال فيه الإمام أحمد: روى أحاديث منكرة، والترمذى نفسه يقول بعد روايته لهذا الحديث: "وقد تكلَّم بعض أهل الحديث فى سُهيل بن أبى حزم".
رابعاً - ما ورد عن السَلَف من الصحابة والتابعين، من الآثار التى تدل على أنهم كانوا يُعَظِّمون تفسير القرآن ويتحرَّجون من القول فيه بآرائهم.
فمن ذلك: ما جاء عن أبى مُليكة أنه قال: سُئل أبو بكر الصِدِّيق رضى الله عنه فى تفسير حرف من القرآن فقال: "أىُّ سماء تظلنى، وأىُّ أرض تقلنى، وأين أذهب، وكيف أصنع إذا قلتُ فى حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى"؟
وما ورد عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سُئل عن الحلال والحرام تكلَّم، وإذا سُئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع شيئاً.
وما روى عن الشعبى أنه قال: "ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأى".
وهذا ابن مجاهد يقول: "قال رجل لأُبَىِّ: أنت الذى تُفسِّر القرآن برأيك؟ فبكى أُبَىّ، ثم قال: إنى إذن لجرئ، لقد حملتُ التفسير عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم".
وهذا هو الأصمعى إمام اللغة، كان مع علمه الواسع شديد الاحتراز فى تفسير الكتاب، بل والسُّنَّة، فإذا سُئل عن معنى شئ من ذلك يقول: "العرب تقول: معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه فى الكتاب والسُّنَّة أى شئ هو".
.. وغير هذا كثير من الآثار الدالة على المنع من القول فى التفسير بالرأى.
وقد أجاب المجيزون عن هذه الآثار: بأن إحجام مَن أحجم من السَلَف عن التفسير بالرأى، إنما كان منهم ورعاً واحتياطاً لأنفسهم، مخافة ألا يبلغوا ما كُلِّفوا به من إصابة الحق فى القول، وكانوا يرون أن التفسير شهادة على الله بأنه عَنِى باللفظ كذا وكذا، فأمسكوا عنه خشية أن لا يوافقوا مراد الله عَزَّ وجَلَّ، وكان منهم مَن يخشى أن يُفسِّر القرآن برأيه فيُجعل فى التفسير إماماً يُبنَى على مذهبه ويُقتفَى طريقه، فربما جاء أحد المتأخرين وفسَّر القرآن برأيه فوقع فى الخطأ، ويقول: إمامى فى التفسير بالرأى فلان من السَلَف.
ويمكن أن يُقال أيضاً: إن إحجامهم كان مُقيَّداً بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه، أما إذا عرفوا وجه الصواب فكانوا لا يتحرَّجون من إبداء ما يظهر لهم ولو بطريق الظن. فهذا(1/186)
أبو بكر رضى الله عنه يقول - وقد سُئل عن الكلالة -: "أقول فيها برأيى فإن كان صواباً فمِن الله، وإن كان غير ذلك فمِنى ومِن الشيطان: الكلالة كذا وكذا".
ويمكن أن يُقال أيضاً: إنما أحجم مَنْ أحجم، لأنه كان لا يتعيَّن للإجابة، لوجود مَنْ يقوم عنه فى تفسير القرآن وإجابة السائل، وإلا لكانوا كاتمين للعلم، وقد أمرهم الله ببيانه للناس.
وهناك أجوبة أُخرى غير ما تقدَّم. والكل يوضح لنا سر إحجام مَنْ أحجم مِنَ السَلَف عن القول فى التفسير برأيهم، ويبيِّن أنه لم يكن عن اعتقاد منهم بعدم جواز التفسير بالرأى.
وأما الفريق الثانى - فريق المجوِّزين - فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يأتى:
أولاً - بنصوص كثيرة وردت فى كتاب الله تعالى: منها قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ..} [محمد: 24] وقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} [ص: 29] .. وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، ووجه الدلالة فى هذه الآيات: أنه تعالى حَثَّ فى الآيتين الأوليين على تدبر القرآن والاعتبار بآياته، والاتعاظ بعظاته، كما دلّت الآية الأخيرة على أن فى القرآن ما يستنبطه أُولوا الألباب باجتهادهم، ويصلون إليه بإعمال عقولهم، وإذا كان الله قد حثَّنا على التدبر، وتعبَّدنا بالنظر فى القرآن واستنباط الأحكام منه، فهل يُعقل أن يكون تأويل ما لم يستأثر الله بعلمه محظوراً على العلماء، مع أنه طريق العلم، وسبيل المعرفة والعظة؟ لو كان ذلك لكنَّا مُلْزَمين بالاتعاظ والاعتبار بما لا نفهم، ولما توصلنا لشئ من الاستنباط، ولما فُهِم الكثير من كتاب الله تعالى.
ثانياً - قالوا: لو كان التفسير بالرأى غير جائز لما كان الاجتهاد جائزاً، ولتعطل كثير من الأحكام، وهذا باطل بَيَّنُ البطلان، وذلك لأن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحاً إلى اليوم أمام أربابه، والمجتهد فى حكم الشرع مأجور، أصاب أو أخطأ، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يُفسِّر كل آيات القرآن، ولم يستخرج لنا جميع ما فيه من أحكام.
ثالثاً - استدلوا بما ثبت من أن الصحابة - رضوان الله عليهم - قرأوا القرآن واختلفوا فى تفسيره على وجوه، ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه فى تفسير القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم، إذ أنه لم يُبيِّن لهم كل معانى القرآن، بل بَيَّنَ لهم بعض معانيه، وبعضه الآخر توَّصلوا إلى معرفته بعقولهم واجتهادهم، ولو كان القول بالرأى فى القرآن محظوراً لكانت الصحابة قد خالفت ووقعت فيما حرَّم الله، ونحن نُعيذ الصحابة من المخالفة والجرُأة على محارم الله.(1/187)
رابعاً - قالوا: إنَّ النبى صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس رضى الله عنهما، فقال فى دعائه له: "اللَّهم فقهه فى الدين، وعلِّمه التأويل" فلو كان التأويل مقصوراً على السماع والنقل كالتنزيل، لما كان هناك فائدة لتخصيص ابن عباس بهذا الدعاء، فَدَلَّ ذلك على أن التأويل الذى دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس أمر آخر وراء النقل والسماع، ذلك هو التفسير بالرأى والاجتهاد، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال فيه.
هذه هى أدلة الفريقين، وكلُّ يحاول بما ذكر من الأدلة أن يثبت قوله ويركز مُدَّعاه. والغزالى - فى الإحياء، بعد الاحتجاج والاستدلال على بطلان القول بأن لا يتكلم أحد فى القرآن إلا بما يسمعه - يقول: "فبطل أن يُشترط السماع فى التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله". كما قال قبل ذلك بقليل: "إن فى فهم معانى القرآن مجالاً رحباً، ومتسعاً بالغاً، وإن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه".
والراغب الأصفهانى - بعد أن ذكر المذهبين وأدلتهما فى مقدمة التفسير - يقول: "وذكر بعض المحققين: أن المذهبين هما الغلو والتقصير، فمَن اقتصر على المنقول إليه فقد ترك كثيراً مما يحتاج إليه، ومَنْ أجاز لكل أحد الخوض فيه فقد عرَّضه للتخليط، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى: {ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} .
* *
* حقيقة الخلاف:
ونحن مع هذا البعض الذى نقل عنه الراغب هذا التحقيق إن وقف الفريق الأول عند المنقول فلم يتجاوزه، وأجاز الفريق الثانى لكل أحد الخوض فى التفسير والكلام فيه، إذ أن الجمود على المنقول تقصير وتفريط بل نزاع، والخوض فى التفسير لكل إنسان غلو وإفراط بلا جدال.
ولكن لو رجعنا إلى هؤلاء المتشدِّدين فى التفسير وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوِّزين للتفسير بالرأى ووقفنا على ما شرطوه من شروط لا بد منها لمن يتكلم فى التفسير برأيه، وحلَّلنا أدلة الفريقين تحليلاً دقيقاً، لظهر لنا أن الخلاف لفظى لا حقيقى، ولبيان ذلك نقول:
الرأى قسمان: قسم جار على موافقة كلام العرب، ومناحيهم فى القول، مع موافقة الكتاب والسُنَّة، ومراعاة سائر شروط التفسير، وهذا القسم جائز لا شك فيه، وعليه يُحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأى.
وقسم غير جار على قوانين العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، ولا مستوف لشرائط(1/188)
التفسير، وهذا هو مورد النهى ومحط الذم، وهو الذى يرمى إليه كلام ابن مسعود إذ يقول: "ستجدون أقواماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع"، وكلام عمر إذ يقول: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأوَّل القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس المُلْك على أخيه"، وكلامه إذ يقول: "ما أخاف على هذه الأُمَّة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بَيِّن فسقه، ولكنى أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوَّله على غير تأويله".. فكل هذا ونحوه، وارد فى حق مَن لا يُراعى فى تفسير القرآن قوانين اللغة ولا أدلة الشريعة، جاعلاً هواه رائده، ومذهبه قائده، وهذا هو الذى يُحمل عليه كلام المانعين للتفسير بالرأى، وقد قال ابن تيمية - بعد أن ساق الآثار عَمَّن تحرَّج من السَلَف من القول فى التفسير -: فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السَلَف، محمولة على تحرجهم عن الكلام فى التفسير بما لا علم لهم به، فأما مَن تكلَّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حَرَج عليه، ولهذا رُوِى عن هؤلاء وغيرهم أقوال فى التفسير، ولا منافاة، لأنهم تكلِّموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، هذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا عمل له به، فكذلك يجب القول فيما سُئِل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] .. ولما جاء فى الحديث المروى من طرق: "مَنْ سُئِلَ عن علم فكتمه أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار".
وإذ قد علمنا أن التفسير بالرأى قسمان: قسم مذموم غير جائز، وقسم ممدوح جائز، وتبين لنا أن القسم الجائز محدود بحدود، ومقيَّد بقيود، فلا بد لنا من أن نعرض هنا لما ذكروه من العلوم التى يحتاج إليها المفسِّر، وما ذكروه من الأدوات التى إذا توافرت لديه وتكاملت فيه، خرج عن كونه مفسِّراً للقرآن بمجرد الرأى، ومحض الهوى.
* *
* العلوم التى يحتاج إليها المفسِّر:
اشترط العلماء فى المفسِّر الذى يريد أن يُفسِّر القرآن برأيه بدون أن يلتزم الوقوف عند حدود المأثور منه فقط، أن يكون مُلِماً بجملة من العلوم التى يستطيع بواسطتها(1/189)
أن يُفسِّر القرآن تفسيراً عقلياً مقبولاً، وجعلوا هذه العلوم بمثابة أدوات تعصم المفسِّر من الوقوع فى الخطأ، وتحميه من القول على الله بدون علم. وإليك هذه العلوم مفصَّلة، مع توضيح ما لكل علم منها من الأثر فى الفهم وإصابة وجه الصواب:
الأول - علم اللغة: لأن به يمكن شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم فى كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب"، ثم إنه لا بد من التوسع والتبحر فى ذلك، لأن اليسير لا يكفى، إذ ربما كان اللفظ مشتركاً، والمفسِّر يعلم أحد المعنيين ويخفى عليه الآخر، وقد يكون هو المراد.
الثانى - علم النحو: لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، فلا بد من اعتباره. أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سُئِل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حُسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك فيها.
الثالث - علم الصرف: وبواسطته تُعرف الأبنية والصيغ. قال ابن فارس: "ومَن فاته المعظم، لأنَّ "وجد" مثلاً كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها"، وحكى السيوطى عن الزمخشرى أنه قال: "من بدع التفاسير قول مَن قال: إن الإمام فى قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] جمع "أُمّ"، وأن الناس يُدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم قال: وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف، فإن "أُمَّاً" لا تُجمع على إمام".
الرابع - الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين، اختلف باختلافهما، كالمسيح مثلاً، هل هو من السياحة أو من المسح؟
الخامس والسادس والسابع - علوم البلاغة الثلاثة "المعانى، والبيان، والبديع": فعلم المعانى، يُعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وعلم البيان، يُعرف به خواص التراكيب من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وعلم البديع، يُعرب به وجوه تحسين الكلام..(1/190)
وهذه العلوم الثلاثة من أعظم أركان المفسِّر، لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وذلك لا يُدرك إلا بهذه العلوم.
الثامن: - علم القراءات: إذ بمعرفة القراءة يمكن ترجيح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع - علم أصول الدين: وهو علم الكلام، وبه يستطيع المفسٍّر أن يستدل على ما يجب فى حقه تعالى، وما يجوز، وما يُستحَل، وأن ينظر فى الآيات المتعلقة بالنبوات، والمعاد، وما إلى ذلك نظرة صائبة، ولولا ذلك لوقع المفسِّر فى ورطات.
العاشر - علم أصول الفقه: إذ به يعرف كيف يستنبط الأحكام من الآيات ويستدل عليها، ويعرف الإجمال والتبيين، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، ودلالة الأمر والنهى، وما سوى ذلك من كل ما يرجع إلى هذا العلم.
الحادى عشر - علم أسباب النزول: إذ أن معرفة سبب النزول يعين على فهم المراد من الآية.
الثانى عشر - علم القصص: لأن معرفة القصة تفصيلاً يعين على توضيح ما أجمل منها فى القرآن.
الثالث عشر - علم الناسخ والمنسوخ: وبه يعلم المحكوم من غيره. ومَن فقد هذه الناحية، ربما أفتى بحكم منسوخ فيقع فى الضلال والإضلال.
الرابع عشر - الأحاديث المبيِّنة لتفسير المجمل والمبهم، ليستعين بها على توضيح ما يشكل عليه.
الخامس عشر - علم الموهبة: وهو علم يُورثه الله تعالى - لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} .. [البقرة: 282] .. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن عمل بما علم وَرَّثه اللهُ علم ما لا يعلم".
قال السيوطى بعد أن عَدَّ علم الموهبة من العلوم التى لا بد منها للمفسِّر: "ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول: هذا شئ ليس فى قدرة الإنسان. وليس الأمر كما ظننت من الإشكال، والطريق فى تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد. قال فى البرهان: "اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معانى الوحى ولا تظهر له أسراره، وفى قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى، أو حب دنيا، أو هو مُصِّرُ على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسِّر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وموانع بعضها آكد من بعض" قلت: وفى هذا المعنى قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [الأعراف: 146](1/191)
قال ابن عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن. أخرجه ابن أبى حاتم".
هذه هى العلوم التى اعتبرها العلماء أدوات لفهم كتاب الله تعالى، وقد ذكرناها مسهبة مفصَّلة، وإن كان بعض العلماء ذكر بعضاً وأعرض عن بعض آخر، ومنهم مَن أدمج بعضها فى بعض وضغطها حتى كانت أقل عدداً مما ذكرنا، وليس هذا العدد الذى ذكرنا حاصراً لجميع العلوم التى يتوقف عليها التفسير، فإن القرآن - مثلاً - قد اشتمل على أخبار الأمم الماضية وسيرهم وحوادثهم، وهى أمور تقتضى الإلمام بعلمى التاريخ وتقويم البلدان، لمعرفة العصور والأمكنة التى وُجِدت فيها تلك الأُمم، ووقعت فيها هذه الحوادث. وأرى أن أسوق هنا مقالة الأستاذ المرحوم السيد محمد رشيد رضا فى مقدمة تفسيره تتميماً للفائدة، وإليك نص هذه المقالة التى اقتبسها من دروس أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده عليه رضوان الله.
قال رحمه الله: "للتفسير مراتب: "أدناها أن يُبيِّن بالإجمال ما يُشرِب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير، وهذه هى التى قلنا إنها متيسرة لكل أحد: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17] ..
وأما المرتبة العليا فهى لا تتم إلا بأمور:
أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التى أودعها القرآن، بحيث يحقق المفسِّر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيراً من الألفاظ كانت تُستعمل فى زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، من ذلك لفظ: "التأويل"، اشتُهر بمعنى التفسير مطلقاً، أو على وجه مخصوص، ولكنه جاء فى القرآن بمعان أخرى، كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} [الأعراف: 53] .. فما هذا التأويل؟ يجب على مَنْ يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التى حدثت فى المِلَّة، ليفرِّق بينها وبين ما ورد فى الكتاب، فكثيراً ما يُفسِّر المفسِّرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التى حدثت فى المِلَّة بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المُدقِّق أن يُفسِّر القرآن بحسب المعانى التى كانت مستعملة فى عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر فى مواضع منه وينظر فيه، فربما استُعمِل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية: فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يُفسِّر بعضه(1/192)
بعضاَ، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سيق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذى جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب، فينبغى أن يكون عنده من عملها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدى به بقدر الطاقة، ويُحتاج فى هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب (المعانى والبيان) ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.
ترون فى كتب العربية أن العرب كانوا مسددين فى النطق، يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع، أتحسبون أن ذلك كان طبيعياً لهم؟ كلا، وإنما هى مَلَكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء العرب أشد عُجْمة من العجم عندما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعياً ذاتياً لما فقدوه فى مدة خمسين سنة بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البَشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبيَّن فيه ما لم يُبيِّن فى غيره، بَيَّن فيه كثيراً من أحوال الخلق وطبائعهم، والسُنن الإلهية فى البشر، وقصَّ علينا أحسن القَصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسُنَّته فيها، فلا بد للناظر فى هذا الكتاب من النظر فى أحوال البشر فى أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالَم الكبير، عُلويه وسُفليه، ويحتاج هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسِّر قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 213] .. الآية، وهو لا يعرف أحوال البَشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرَّقوا، وما معنى تلك الوحدة التى كانوا عليها، وهل كانت نافعة أو ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم.
أجمل القرآن الكريم عن الأُمم وعن السُنن الإلَهية، وعن آياته فى السماوات والأرض، وفى الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمَّن أحاط بكل شئ علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير فى الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذى يزيدنا ارتقاءً وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة فى ظاهره، لكنَّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم بوجه هداية البَشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسِّر القائم بهذا(1/193)
الفرض الكفائى، أن يعلم ماكان عليه الناس فى عصر النبوة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادى بأن الناس كلهم كانوا فى شقاء وضلال، وأن النبى صلى الله عليه وسلم بُعث به لهدايتهم وإسعادهم، وكيف يفهم المفسِّر ما قبَّحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها، إذا لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه؟
هل يُكتَفى من علماء القرآن - دعاة الدين والمناضلين عنه بالتقليد - بأن يقولوا تقليداً لغيرهم: إن الناس كانوا على باطل، وإن القرآن دحض أباطيلهم فى الجملة؟ كلا.
وأقول الآن: يُروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: "إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذى يُخشَى أن ينقض عُرى الإسلام عُروة عروة".
(انتهى بالمعنى) .
والمراد: أن مَن نشأ فى الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله، يجهل تأثير هدايته، وعناية الله بجعله مُغيِّراً لأحوال البَشر، ومُخْرِجاً لهم من الظلمات إلى النور، ومَن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادى، كما ترى بعض الذين يتربون فى النظافة والنعيم يعدون التشديد فى الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة فى تلك الأوامر، وتأثير تلك الآداب من أين جاء؟
خامسها: العلم بسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرف فى الشئون دنيويها وأُخرويَّهَا.
هذه هى عبارة الأستاذ الشيخ رشيد رضا بنصها، وفيها تركيز وإدماج لبعض ما قلناه من قبل، وفيها شرح وإيضاح لبعض آخر منه، وهى تُلقى ضوءاً على ما تقدَّم، وتُوضِّح بعض ما فيه من إيجاز.
* *
* مصادر التفسير:
خرجنا من المعركة التى قامت بين المتحرجين من القول فى التفسير بالرأى والمجيزين له: بأن الخلاف لفظى لا حقيقى، وأسفرت النتيجة عن انقسام التفسير بالرأى إلى قسمين: قسم جائز ممدوح، وقسم حرام مذموم، وعرفنا العلوم التى يجب على المفسِّر معرفتها حتى يكون أهلاً للتفسير بالرأى الجائز، وبقى علينا بعد ذلك أن نذكر المصادر التى يجب على المفسِّر أن يرجع إليها عند شرحه للقرآن، حتى يكون تفسيره جائزاً ومقبولاً، وإليك أهم هذه المصادر:(1/194)
أولاً: الرجوع إلى القرآن نفسه، وذلك بأن ينظر فى القرآن نظرة فاحص مُدَقِّق، ويجمع الآيات التى فى موضوع واحد، ثم يقارن بعضها ببعضها الآخر، فإن من الآيات ما أُجْمَل فى مكان وفُسِّر فى مكان آخر، ومنها ما أُوجز فى موضع وبُسِط فى موضع آخر، فيحمل المُجمَل على المُفسَّر، ويشرح ما جاء موجزاً بما جاء مُسهباً مُفصَّلاً، وهذا هو ما يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، فإن عدل عن هذا وفسَّر برأيه فقد أخطأ وقال برأيه المذموم.
ثانياً: النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مع الاحتراز عن الضعيف والموضوع فإنه كثير، فإن وقع له تفسير صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يعدل عنه ويقول برأيه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم مؤيَّد من ربه، وموكول إليه أن يُبَيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، فمَن يترك ما يصح عن النبى صلى الله عليه وسلم فى التفسير إلى رأيه فهو قائل بالرأى المذموم.
ثالثاً: الأخذ بما صحّ عن الصحابة فى التفسير، ولا يغتر بكل ما يُنسب لهم من ذلك، لأن فى التفسير كثيراً مما وُضِع على الصحابة كذباً واختلاقاً، فإن وقع على قول صحيح لصحابى فى التفسير، فليس له أن يهجره ويقول برأيه، لأنهم أعلم بكتاب الله، وأدرى بأسرار التنزيل، لِمَا شاهدوه من القرائن والأحوال، ولما اختُصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة: الخلفاء الراشدين، وأُبَىّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم، وقد سبق لنا أن عرضنا لقول الصحابى، هل له حكم المرفوع أو لا، واستوفينا الكلام فى ذلك بما يُغنى عن إعادته هنا.
ثم هل للمفسِّر أن يعدل عن أقوال التابعين فى التفسير، أو لا بد له من الرجوع إلى أقوالهم؟ خلاف سبق لنا أن عرضنا له أيضاً فلا داعى لإعادته.
رابعاً: الأخذ بمطلق اللغة، لأن القرآن نزل بلسان عربى مبين، ولكن على المفسِّر أن يحترز من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا توجد غالباً إلا فى الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها، روى البيهقى فى الشُعَب عن مالك رضى الله عنه أنه قال: "لا أُوتِىَ برجلٍ غير عالِم بلغة العرب يُفسِّر كتاب الله إلا جعلته نكالاً".
خامساً: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمتقضب من قوة الشرع، وهذا هو الذى دعا به النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال: "اللَّهم فقِّهه فى الدين وعلِّمه التأويل" والذى عناه علىُّ رضى الله عنه بقوله - حين سُئِل: هل عندكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ بعد القرآن؟ فقال: "لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه الله عَزَّ وجَلَّ رجلاً فى القرآن".(1/195)
ومن هنا اختلف الصحابة فى فهم بعض آيات القرآن، فأخذ كلٌ بما وصل إليه عقله، وأدَّاه إليه نظره.
* *
* الأُمور التى يجب على المفسِّر أن يتجنبها فى تفسيره:
هناك أُمور يجب على المفسِّر أن يتجنبها فى تفسيره حتى لا يقع فى الخطأ ويكون ممن قال فى القرآن برأيه الفاسد، وهذه الأمُور هى ما يأتى:
أولاً: التهجم على بيان مراد الله تعالى من كلامه مع الجهالة بقوانين اللغة وأصول الشريعة، وبدون أن يُحَصِّل العلوم التى يجوز معها التفسير.
ثانياً: الخوض فيما استأثر الله بعلمه، وذلك كالمتشابه الذى لا يعلمه إلا الله. فليس للمفسِّر أن يتهجم على الغيب بعد أن جعله الله تعالى سراً من أسراره وحَجَبه عن عباده.
ثالثاً: السير مع الهوى والاستحسان، فلا يُفسِّر بهواه ولا يُرَجِّح باستحسانه.
رابعاً: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تابعاً، فيحتال فى التأويل حتى يصرفه إلى عقيدته، ويرده إلى مذهبه بأى طريق أمكن، وإن كان غاية فى البُعْدِ والغرابة.
خامساً: التفسير مع القطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، وهذا منهى عنه شرعاً، لقوله تعالى فى الآية [169] من سورة البقرة: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
وإذ قد بيِّنا أن المفسِّر لا يجوز له أن يتهجم على تفسير ما استأثر الله تعالى بعلمه وحَجبَه عن خلقه، وبيَّنا أنه لا يجوز له أن يقطع بأن مراد الله كذا وكذا من غير دليل، لزم علينا أن نبيَّن أنواع العلوم التى اشتمل عليها القرآن ما يمكن معرفته منها وما لا يمكن، فنقول:
أنواع علوم القرآن
تتنوع علوم القرآن إلى أنواع ثلاثة، وهى ما يأتى:
النوع الأول: علم لم يطلع الله عليه أحداً من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه، من معرفة كُنْه ذاته وغيوبه التى لا يعلمها إلا هو، وهذا النوع لا يجوز لأحد الخوض فيه والتهجم عليه بوجه من الوجوه إجماعاً.
النوع الثانى: ما أطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له - صلى الله عليه وسلم - أو لمن أذن له. قيل: ومنه الحروف المقطعة فى أوائل السور، ومِنَ العلماء مَنْ يجعلها من النوع الأول.(1/196)
النوع الثالث: علوم علَّمها الله نبيه مما أودع فى كتابه من المعانى الجلية والخفية وأمره بتعليمها، وهذا النوع قسمان:
قسم لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وذلك كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، واللغات، وقصص الأُمم الماضية، وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأُمور الحشر والمعاد.
وقسم يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من العبارات والألفاظ، وهو ينقسم إلى قسمين.. أحدهما: اختلفوا فى جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات فى الصفات، وثانيهما: اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية، والمواعظ والحِكَم والإشارات وما شاكل ذلك من كل ما لا يمتنع استنباطه من القرآن واستخراجه منه لمن كان أهلاً لذلك.
* *
* المنهج الذى يجب على المفسِّر أن ينهجه فى تفسيره:
علمنا مما سبق: أن المفسِّر برأيه لا بد أن يلم بكل العلوم التى هى وسائل لفهم كتاب الله، وأدوات للكشف عن أسراره، كما علمنا مما سبق أيضاً: أن المفسِّر لا بد أن يطلب المعنى أولاً من كتاب الله، فإن لم يجده طلبه من السُّنَّة، لانها شارحة للقرآن ومُوضِّحة له، فإن أعجزه ذلك رجع إلى أقوال الصحابة، لأنهم أدرى بكتاب الله وأعلم بمعانيه، لما اختُصوا به من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، ولاحتمال أن يكونوا سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن عجز عن هذا كله، ولم يظفر بشئ من تلك المراجع الأولى للتفسير، فليس عليه بعد ذلك إلا أن يُعمل عقله، ويقدح فكره، ويجتهد وسعه فى الكشف عن مراد الله تعالى، مستنداً إلى الأصول التى تقدَّمت، مبتعداً عن كل ما ذكرنا من الأُمور التى تجعل المفسِّر فى عِداد المفسِّرين بالرأى المذموم، وعليه بعد ذلك أن ينهج فى تفسيره منهجاً يراعى فيه القواعد الآتية، بحيث لا يحيد عنها، ولا يخرج عن نطاقها، وهذه القواعد هى ما يأتى:
أولاً: مطابقة التفسير للمفسَّر، من غير نقص لما يحتاج إليه فى إيضاح المعنى، ولا زيادة لا تليق بالغرض ولا تناسب المقام، مع الاحتراز من كون التفسير فيه زيغ عن المعنى وعدول عن المراد.
ثانياً: مراعاة المعنى الحقيقى والمعنى المجازى، فلعل المراد المجازى، فيحمل الكلام على الحقيقة أو العكس.
ثالثاً: مراعاة التأليف والغرض الذى سِيق له الكلام، والمؤاخاة بين المفردات.
رابعاً: مراعاة التناسب بين الآيات، فيبيِّن وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق(1/197)
من آيات القرآن، حتى يوضِّح أن القرآن لا تفكك فيه، وإنما هو آيات متناسبة يأخذ بعضها بحُجز بعض.
خامساً: ملاحظة أسباب النزول. فكل آية نزلت على سبب فلا بد من ذكره بعد بيان المناسبة وقبل الدخول فى شرح الآية، وقد ذكر السيوطى فى الإتقان أن الزركشى قال فى أوائل البرهان: "قد جرت عادة المفسِّرين أن يبدأوا بذكر سبب النزول، ووقع البحث فى أنه: أيهما أولى بالبداءة؟ أيُبدأ بذكر السبب، أو بالمناسبة لأنها المصحِّحة لنظم الكلام، وهى سابقة على النزول؟ قال: والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفاً على سبب النزول كآية {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .. فهذا ينبغى فيه تقديم ذكر السبب، لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد. وإن لم يتوقف على ذلك، فالأَوْلى تقديم وجه المناسبة".
سادساً: بعد الفراغ من ذكر المناسبة وسبب النزول. يبدأ بما يتعلق بالألفاظ المفردة - من اللغة، والصرف، والاشتقاق - ثم يتكلم عليها بحسب التركيب، فيبدأ بالإعراب، ثم بما يتعلق بالمعانى، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبيِّن المعنى المراد، ثم يستنبط ما يمكن استنباطه من الآية فى حدود القوانين الشرعية.
سابعاً: على المفسِّر أن يتجنب ادعاء التكرار فى القرآن ما أمكن.
نقل السيوطى عن بعض العلماء أنه قال: "مما يدفع توهم التكرار فى عطف المترادفين نحو: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} ، {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وأشباه ذلك، أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما، فإن التركيب يُحدث معنًى زائداً، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى، فكذلك كثرة الألفاظ".
وعلى المفسِّر أيضاً أن يتجنب كل ما يُعتبر من قبيل الحشو فى التفسير كالخوض فى ذكر علل النحو، ودلائل مسائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، ودلائل مسائل أصول الدين، فإن كل ذلك مقرر فى تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلَّماً فى علم التفسير دون استدلال عليه.
وكذلك على المفسِّر أن يتجنب ذكر ما لا يصح من أسباب النزول وأحاديث الفضائل، والقَصص الموضوع، والأخبار الإسرائيلية، فإن هذا مما يُذهِب بجمال القرآن، ويُشغِل الناس عن التدبر والاعتبار.(1/198)
ثامناً: على المفسِّر بعد كل هذا أن يكون يقظاً، فطناً عليماً بقانون الترجيح، حتى إذا ما كانت الآية محتملة لأكثر من وجه أمكنه أن يُرَجِّح ويختار.
وإذا كان المفسِّر لا بد له من أن يحتكم إلى قانون الترجيح عندما تحتمل الآية أكثر من وجه، فإنَّا فى حاجة إلى بيان هذا القانون، الذى هو الحَكَم الفصل عند تزاحم الوجوه وكثرة الاحتمالات، فنقول:
قانون الترجيح فى الرأى
أجمع كلمة قيلت فى بيان هذا القانون، هى الكلمة التى نقلها لنا السيوطى فى كتابه الإتقان عن البرهان للزركشى، ونرى أن نسوقها هنا نقلاً عن الإتقان، ونكتفى بذلك لما فيها من الكفاية:
قال الزركشى رحمه الله تعالى: "كل لفظ احتمل معنيين فصاعداً هو الذى لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأى، فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفى.
وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن فى أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفى الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية، كما فى قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] .. ولو كان فى أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى. وإن اتفقا فى ذلك أيضاً، فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد، كالقُرء للحيض والطُهر، اجتهد فى المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد الله تعالى فى حقه. وإن لم يظهر له شئ فهل يتخيَّر فى الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكماً؟ أو بالأخف؟ أقوال. وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ فى الإعجاز والفصاحة، إلا إن دَلَّ دليل على إرادة أحدهما".
* *
* منشأ الخطأ فى التفسير بالرأى:
يقع الخطأ كثيراً فى التفسير من بعض المتصدرين للتفسير بالرأى، الذين عدلوا عن مذاهب الصحابة والتابعين، وفسَّروا بمجرد الرأى والهوى، غير مستندين إلى تلك الأصول التى قدَّمنا أنها أول شئ يجب على المفسِّر أن يعتمد عليه. ولا متذرعين بتلك العلوم التى هى فى الواقع أدوات لفهم كتاب الله والكشف عن أسراره ومعانيه.(1/199)
ونرى هنا أن نذكر منشأ هذا الخطأ الذى وقع فيه كثير من طوائف المفسِّرين فنقول:
يرجع الخطأ فى التفسير بالرأى - غالباً - إلى جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن الكتب التى يُذكر فيها كلام هؤلاء صرفاً غير ممزوج بغيره، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وغيرهما، لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين، بخلاف الكتب التى جَدَّت بعد ذلك فإن كثيراً منها، كتفاسير المعتزلة والشيعة، مليئة بأخطاء لا تُغتفر، حملهم على ارتكابهم نُصرة المذهب والدفاع عن العقيدة.
أما هاتان الجهتان اللتان يرجع إليهما الخطأ فى الغالب فهما ما يأتى:
الجهة الأولى: أن يعتقد المفسِّر معنى من المعانى، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن على ذلك المعنى الذى يعتقده.
الجهة الثانية: أن يفسِّر القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه مَنْ كان مِنَ الناطقين بلغة العرب. وذلك بدون نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزَّل عليه، والمخاطَب به.
فالجهة الأولى: مراعى فيها المعنى الذى يعتقده المفسِّر من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والجهة الثانية: مراعى فيها مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به العربى، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به والمخاطَب، وسياق الكلام.
ثم إن الخطأ الذى يرجع إلى الجهة الأولى يقع على أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون المعنى الذى يريد المفسِّر نفيه أو إثباته صواباً، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يُراد منه، وهو مع ذلك لا ينفى المعنى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً فى الدليل لا فى المدلول، وهذه الصورة تنطبق على كثير من تفاسير الصوفية والوعَّاظ الذين يفسِّرون القرآن بمعان صحيحة فى ذاتها ولكنها غير مرادة، ومع ذلك فهم يقولون بظاهر المعنى، وذلك مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمى فى حقائق التفسير، فمثلاً عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [66] من سورة النساء: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ ... .} الآية، نجده يقول ما نصه: {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} بمخالفة هواها، {أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ} ، أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم.. إلخ.
الصورة الثانية: أن يكون المعنى الذى يريد المفسِّر نفيه أو إثباته صواباً، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويُراد به. ويحمله على ما يريده هو، وعلى(1/200)
هذا يكون الخطأ واقعاً فى الدليل لا فى المدلول أيضاً، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير بعض المتصوفة الذين يفسِّرون القرآن بمعان إشارية صحيحة فى حد ذاتها، ومع ذلك فإنهم يقولون: إن المعانى الظاهرة غير مرادة، وتفسير هؤلاء أقرب ما يكون إلى تفسير الباطنية، ومن ذلك ما فسَّرَ به سهل التسترى قوله تعالى فى الآية [35] من سورة البقرة: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} .. حيث يقول ما نصه: لم يرد الله معنى الأكل فى الحقيقة، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشئ هو غيره ... . إلخ.
الصورة الثالثة: أن يكون المعنى الذى يريد المفسِّر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يحمل عليه لفظ القرآن، مع أنه لا يدل عليه ولا يُراد منه، وهو مع ذلك لا ينفى الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ واقعاً فى الدليل والمدلول معاً، وهذه الصورة تنطبق على ما ذكره بعض المتصوفة من المعانى الباطلة، وذلك كالتفسير المبنى على القول بوحدة الوجود، كما جاء فى التفسير المنسوب لابن عربى عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [8] من سورة المزمل: {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} .. من قوله فى تفسيرها: واذكر اسم ربك الذى هو أنت، أى اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله ... . إلخ.
الصورة الرابعة: أن يكون المعنى الذى يريد المفسِّر نفيه أو إثباته خطأ، فمراعاة لهذا المعنى يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويُراد به، ويحمله على ذلك الخطأ دون الظاهر المراد، وعلى هذا يكون الخطأ فى الدليل والمدلول معاً، وهذه الصورة تنطبق على تفاسير أهل البدع، والمذاهب الباطلة، فتارة يلوون لفظ القرآن عن ظاهره المراد إلى معنى ليس فى اللفظ أى دلالة عليه، كتفسير بعض غلاة الشيعة: "الجبت والطاغوت" بأبى بكر وعمر، وتارة يحتالون على صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى فيه تكلف غير مقبول، وذلك إذا أحسوا أن اللفظ القرآنى يصادم مذهبهم الباطل، كما فعل بعض المعتزلة ففسَّر لفظ "إلى" فى قوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بالنعمة، ذهاباً منهم إلى أن "إلى" واحد الآلاء، بمعنى النعم، فيكون المعنى: ناظرة نعمة ربها، على التقديم والتأخير، وذلك كله ليصرف الآية عما تدل عليه من رؤية الله فى الآخرة.
وأما الخطأ الذى يرجع إلى الجهة الثانية فهو يقع على صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذى ذكره المفسِّر لغة، ولكنه غير مراد، وذلك كاللفظ الذى يُطلق فى اللغة على معنيين أو أكثر. والمراد منه واحد بعينه، فيأتى المفسِّر فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد، وذلك كلفظ "أُمَّة" فإنه يُطلق على معان، منها: الجماعة، والطريقة المسلوكة فى الدين، والرجل الجامع لصفات الخير، فحمله على غير معنى الطريقة المسلوكة فى الدين فى قوله تعالى فى الآية [22] من سورة الزخرف: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} غير صحيح وإن احتمله اللفظ لغة.
الصورة الثانية: أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنى بعينه، ولكنه(1/201)
غير مُراد فى الآية، وإنما المراد معنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلاً، فيخطئ المفسِّر فى تعيين المعنى المراد، لأنه اكتفى بظاهر اللغة، فشرح اللفظ على معناه الوضعى، وذلك كتفسير لفظ "مبصرة" فى قوله تعالى فى الآية [59] من سورة الإسراء: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} بجعل "مبصرة" من الإبصار بالعين، على أنها حال من الناقة، وهذا خلاف المراد، إذ المراد: آية واضحة.
* *
* التعارض بين التفسير المأثور والتفسير بالرأى:
قلنا إن التفسير بالرأى قسمان: قسم مذموم غير مقبول، وقسم ممدوح ومقبول، أما القسم المذموم، فلا يعقل وجود تعارض بينه وبين المأثور، لأنه ساقط من أول الأمر، وخارج عن محيط التفسير بمعناه الصحيح.
وأما التفسير بالرأى المحمود، فهذا هو الذى يعقل التعارض بينه وبين التفسير المأثور، وهذا هو الذى نريد أن نتكلم فيه ونعرض له بالبحث والبيان، غير أنه يتحتم علينا - ليكون الكلام على بصيرة - أن نعرض لبيان معنى هذا التعارض فنقول:
التعارض بين التفسير العقلى والتفسير المأثور معناه التقابل والتنافى بينهما، وذلك بأن يدل أحدهما على إثبات أمر مثلاً، والآخر يدل على نفيه، بحيث لا يمكن اجتماعهما بحال من الأحوال، فكأن كلاً منهما وقف فى عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه. وأما إذا وجدت المغايرة بينهما بدون منافاة وأمكن الجمع، فلا يُسمى ذلك تعارضاً، وذلك كتفسيرهم: {الصراط المستقيم} بالقرآن، وبالإسلام، وبطريق العبودية، وبطاعة الله ورسوله، فهذه المعانى وإن تغايرت غير متنافية ولا متناقضة، لأن طريق الإسلام هو طريق القرآن، وهو طريق العبودية، وهو طاعة الله ورسوله. ومثلاً تفسيرهم لقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات}(1/202)
[فاطر: 32] .. قيل فيه: السابق هو الذى يُصلِّى فى أول الوقت، والمقتصد هو الذى يُصلَّى فى أثنائه، والظالم هو الذى يُصلِّى بعد فواته.
وقيل: السابق مَن يُؤدى الزكاة المفروضة مع الصدقة، والمقتصد مَن يُؤدى الزكاة المفروضة وحدها، والظالم لنفسه مَن يمنع الزكاة ولا يتصدق.
وغير خاف أنه لا تنافى بين هذين التفسيرين وأن تغايرا، لأن الظالم لنفسه يتناول المُضَيِّعُ للواجبات، والمنتهك للحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرَّمات، والسابق يتناول مَن يفعل الواجبات ويتقرَّب بعد ذلك بزيادة الحسنات، فكل ذكرَ فرداً لعام على سبيل التمثيل لا الحصر.
هذا.. وإن الصور العقلية التى يحصل فيها التعارض بين التفسير العقلى والتفسير النقلى هى ما يأتى:
أولاً: أن يكون العقلى قطعياً والنقلى قطعياً كذلك.
ثانياً: أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
ثالثاً: أن يكون أحدهما ظنياً والآخر ظنياً كذلك.
أما الصورة الأولى، ففرضية، لأنه لا يعقل تعارض بين قطعى وقطعى، ومن المحال أن يتناقض الشرع مع العقل.
وأما الصورة الثانية: فالقطعى منهما مُقَدَّم على الظنى إذا تعذَّر الجمع ولم يمكن التوفيق، أخذاً بالأرجح وعملاً بالأقوى.
وأما الصورة الثالثة: فإن أمكن الجمع بين العقلى والنقلى، وجب حمل النظم الكريم عليهما. وإن تعذَّر الجمع، قُدِّمَ التفسير المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم إن ثبت من طريق صحيح، وكذا يُقَدَّم ما صحَّ عن الصحابة، لأن ما يصح نسبته إلى الصحابة فى التفسير، النفس إليه أميل، لاحتمال سماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما امتازوا به من الفهم الصحيح والعمل الصالح، ولما اختُصوا به من مشاهدة التنزيل.
وأما ما يؤثر عن التابعين ففيه التفصيل، وذلك إما أن يكون التابعى معروفاً بالأخذ عن أهل الكتاب أو لا، فإن عُرِف بالأخذ عن أهل الكتاب قدم التفسير العقلى. وإن لم يُعرف بالأخذ عن أهل الكتاب وتعارض ما جاء عنه مع التفسير العقلى - كما هو الفرض - فحينئذ نلجأ إلى الترجيح، فإن تأيَّد أحدهما بسمع أو استدلال رجحناه على الآخر، وإن اشتبهت القرائن، وتعارضت الأدلة والشواهد، توقفنا فى الأمر، فنؤمن بمراد الله تعالى، ولا نتهجم على تعيينه، وينزل ذلك منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه.
وبعد.. فهذا هو التفسير العقلى بقسميه، وهذه هى نظرات العلماء إليه، وتلك(1/203)
هى حقيقة الخلاف، ثم هذه هى البحوث التى تتعلق به تعلقاً قوياً، وتتصل به اتصلاً وثيقاً، وأرى بعد ذلك أن أتكلم عن أهم كتب التفسير بالرأى الجائز وأشهرها، متعرضاً لنبذة قصيرة عن كل مؤلف، تلقى لنا ضوءاً على شخصيته الذاتية والعلمية، ملتزماً بيان المسلك الذى سلكه كل منهم فى تفسيره، وطريقته التى جرى عليها وامتاز بها، بما يظهر لى من ذلك أثناء قراءتى فى هذه الكتب، مستعيناً فى ذلك بما أظفر به من مقدمات قدَّم بها أصحاب هذه الكتب لكتبهم، ثم بعد الفراغ من ذلك يكون لنا كلام آخر عن موقف بعض الفِرق من التفسير، وعن أشهر مؤلفاتهم فيه، وهى لا تكاد تخرج عن دائرة التفسير بالرأى المذموم.
* * *(1/204)
أهم كتب التفسير بالرأى الجائز
* تمهيد:
ابتدأ عهد التدوين من قديم، وظفر التفسير بالتدوين كغيره من العلوم، فأُلِّفت فيه كتب اختلفت فى منهجها، حسب اختلاف مشارب مؤلفيها، وظفرت هذه الناحية من التفسير - ناحية التفسير بالرأى الجائز - بكثرة زاخرة من الكتب المؤلفة، كثرة تضخمت على مَرِّ العصور وكَرِّ الدهور، ففى كل عصر يَجِّد جديد من الكتب المؤلَّفة فى التفسير بالرأى الجائز، ثم تنضم إلى ما سبق من ذلك، حتى ازدحمت بها المكتبة الإسلامية على اتساعها وطول عهدها.
ولكن هل احتفظت لنا المكتبة الإسلامية بكل هذه الكتب؟ أو عفى رسمها وذهب أثرها؟
لا.. لا هذا، ولا ذاك، بل احتفظت لنا ببعضها، وذهب بعضها الآخر بتقادم الزمن عليه، ومع هذا فإن القصور المكتبى، حال بيننا وبين الاطلاع، على جميع ما خلَّفته لنا المكتبة الإسلامية العامة.. لهذا، ولعدم القدرة على الاطلاع على كل ما يوجد من هذه الكتب واستيعابه بالبحث والدراسة، أكتفى بأن أتعرض لبعض هذه الكتب على ضوء المنهج الذى بيَّنته، ولعل فى ذلك غِنَىً عن بعضها الآخر، الذى حال بينى وبين القصور المكتبى تارة، والقصور الزمنى تارة أخرى.
هذا.. ولا يقوتنى أن أنبه إلى أن هذه الكتب التى وقع عليها اختيارى، يتجه كل منها إلى اتجاه معيَّن، وتغلب عليه ناحية خاصة من نواحى التفسير وألوانه، فمنها ما تغلب عليه الصناعة النحوية، ومنها ما تغلب عليه النزعة الفلسفية والكلامية، ومنها ما تطغى فيه الناحية القصصية والإسرائيلية، ومنها غير ذلك. ولكن الجميع ينضم تحت شئ واحد هو التفسير بالرأى الجائز، فلا عليه - إذن - إن كنت قد جمعت بين هذه الكتب المختلفة المنازع والاتجاهات، وهذا أمر اعتبارى لا أقل ولا أكثر.
أما هذه الكتب التى وقع عليها اختيارى، فهى ما يأتى:
1 - مفاتيح الغيب: للفخر الرازى
2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل: للبيضاوى
3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل: للنسفى
4 - لُباب التأويل فى معانى التنزيل: للخازن
5 - البحر المحيط: لأبى حيان
6 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان: للنيسابورى(1/205)
7 - تفسير الجلالين: للجلال المحلى، والجلال السيوطى
8 - السراج المنير فى الإعانة على معرفة بعض معانى كلام ربنا الحكيم الخبير: للخطيب الشربينى
9 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: لأبى السعود
10 - روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى: للألوسى
هذه هى الكتب التى وقع عليها اختيارى، وسأتكلم عنها على حسب هذا الترتيب، فأقول وبالله التوفيق:
1 - مفاتيح الغيب (للرازى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ابن علىّ، التميمى، البكرى، الطبرستانى، الرازى، الملقَّب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب الشافعى، المولود سنة 544 هـ (أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة) . كان رحمه الله فريد عصره، ومتكلم زمانه، جمع كثيراً من العلوم ونبغ فيها، فكان إماماً فى التفسير والكلام، والعلوم العقلية، وعلوم اللغة، ولقد أكسبه نبوغه العلمى شهرة عظيمة، فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار، وقد أخذ العلم عن والده ضياء الدين المعروف بخطيب الرى، وعن الكمال السمعانى، والمجد الجيلى، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم، وله فوق شهرته العلمية شهرة كبيرة فى الوعظ، حتى قيل إنه كان يعظ باللسان العربى واللسان العجمى، وكان يلحقه الوجد فى حال الوعظ ويكثر البكاء، ولقد خلَّف - رحمه الله - للناس مجموعة كبيرة من تصانيفه فى الفنون المختلفة، وقد انتشرت هذه التصانيف فى البلاد، ورزق فيها الحظوة الواسعة، والسعادة العظيمة، إذ أن الناس اشتغلوا بها، وأعرضوا عن كتب المتقدمين. ومن أهم هذه المصنفات: تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب، وهو ما نحن بصدده الآن، وله تفسير سورة الفاتحة فى مجلد واحد، ولعله هو الموجود بأول تفسيره "مفاتيح الغيب"، وله فى علم الكلام: المطالب العالية، وكتاب البيان والبرهان فى الرد على أهل الزيغ والطغيان. وله فى أصول الفقه: المحصول، وفى الحكمة: المخلص، وشرح الإشارات لابن سينا، وشرح عيون الحِكمة، وفى الطلمسات: السر المكنون، ويقال: إنه شرح المفصل فى النحو للزمخشرى، وشرح الوجيز فى الفقه للغزالى.. وغير هذا كثير من مصنفاته، التى يتجلى فيها علم الرجل الواسع الغزير.
هذا.. وقد كانت وفاة الرازى - رحمه الله - سنة 606 هـ (ست وستمائة من(1/206)
الهجرة) بالرى، ويقال فى سبب وفاته: أنه كان بينه وبين الكرَّامية خلاف كبير وجدل فى أمور العقيدة، فكان ينال منهم وينالون منه سباً وتكفيراً، وأخيراً سمُّوه فمات على إثر ذلك واستراحوا منه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير فى ثمانى مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم، ويقول ابن قاضى شُهبة: إنه - أى الفخر الرازى - لم يتمه، كما يقول ذلك ابن خلكان فى وفيات الأعيان، إذن فمَن الذى أكمل هذا التفسير؟ وإلى أى موضع من القرآن وصل الفخر الرازى فى تفسيره؟
الحق أن هذه مشكلة لم نوفق إلى حلها حلاً حاسماً، لتضارب أقوال العلماء فى هذا الموضوع، فابن حجر العسقلانى، فى كتابه الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، يقول: "الذى أكمل تفسير فخر الدين الرازى، هو أحمد بن محمد بن أبى الحزم مكى نجم الدين المخزومى القمولى، مات سنة 727 هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) هو مصرى".
وصاحب كشف الظنون يقول: "وصنَّف الشيخ نجم الدين أحمد ابن محمد القمولى تكملة له، وتوفى سنة 727 هـ (سبع وعشرين وسبعمائة من الهجرة) ، وقاضى القضاة شهاب الدين بن خليل الخويى الدمشقى، كمَّل ما نقص منه أيضاً، وتوفى سنة 639 هـ (تسع وثلاثين وستمائة) ".
فأنت ترى أن ابن حجر يذكر أن الذى أتم تفسير الفخر هو نجم الدين القمولى، وصاحب كشف الظنون يجعل لشهاب الدين الخويى مشاركة على وجه ما فى هذه التكملة، وإن كانا يتفقان على أن الرازى لم يتم تفسيره.
وأما إلى أى موضع وصل الفخر فى تفسيره؟ فهذه كالأولى أيضاً، وذلك لأننا وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه: "الذى رأيته بخط السيد مرتضى نقلاً عن شرح الشفا للشهاب، أنه وصل فيه إلى سورة الأنبياء".
وقد وجدت فى أثناء قراءتى فى هذا التفسير عند قوله تعالى فى الآية [24] من سورة الواقعة: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذه العبارة: "المسألة الأولى أصولية، ذكرها(1/207)
الإمام فخر الدين رحمه الله فى مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها.. إلخ".
وهذه العبارة تدل على أن الإمام فخر الدين، لم يصل فى تفسيره إلى هذه السورة.
كما وجدتُ عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} .. الآية، أنه تعرَّض لموضوع النيَّة فى الوضوء. واستشهد على اشتراط النيَّة فيه بقوله تعالى فى الآية [5] من سورة البينة: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} .. وبيَّن أن الإخلاص عبارة عن النيَّة، ثم قال: "وقد حققنا الكلام فى هذا الدليل فى تفسير قوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فليُرجع إليه فى طلب زيادة الإتقان".
وهذه العبارة تُشعر بأن الفخر الرازى فسَّر سورة البيِّنة، أى أنه وصل إليها فى تفسيره، وهذا طبعاً بحسب ظاهر العبارة المجرد عن كل شئ.
والذى أستطيع أن أقوله كحل لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين، كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين الخويى، فشرع فى تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولى فأكمل ما بقى منه. كما يجوز أن يكون الخويى أكمله إلى النهاية، والقمولى كتب تكملة أخرى غير التى كتبها الخويى، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب كشف الظنون.
وأما إحالة الفخر على ما كتبه فى سورة البيِّنة، فهذا ليس بصريح فى أنه وصل إليها فى تفسيره، إذ لعله كتب تفسيراً مستقلاً لسورة البيِّنة، أو لهذه الآية وحدها، فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا، وأعتقد أنه ليس حلاً حاسماً لهذا الاضطراب، وإنما هو توفيق يقول على الظن يُخطئ ويُصيب.
ثم إن القارئ فى هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتاً فى المنهج والمسلك، بل يجرى الكتاب من أوله إلى آخره على نمط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يُميِّز بين الأصل والتكملة، ولا يتمكن من الوقوف على حقيقة المقدار الذى كتبه الفخر، والمقدار الذى كتبه صاحب التكملة.
هذا.. وإن تفسير الفخر الرازى ليحظى بشهرة واسعة بين العلماء، وذلك لأنه يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالأبحاث الفيَّاضة الواسعة، فى نواح شتَّى من العلم،(1/208)
ولهذا يصفه ابن خلكان فيقول: "إنه - أى الفخر الرازى - جمع فيه كل غريب وغريبة".
* *
* اهتمام الفخر الرازى ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره:
وقد قرأتُ فى هذا التفسير، فوجدتُ أنه يمتاز بذكر المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض، وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفى بذكر مناسبة واحدة بل كثيراً ما يذكر أكثر من مناسبة.
* *
* اهتمامه بالعلوم الرياضية والفلسفية:
كما أنه يُكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، وغيرها من العلوم الحادثة فى المِلَّة، على ما كانت عليه فى عهده، كالهيئة الفلكية وغيرها، كما أنه يعرض كثيراً لأقوال الفلاسفة بالرد والتفنيد، وإن كان يصوغ أدلته فى مباحث الإلهيات على نمط استدلالاته العقلية، ولكن بما يتفق ومذهب أهل السُنَّة.
* *
* موقفه من المعتزلة:
ثم إنه - كسُّنِّى يرى ما يراه أهل السُّنَّة، ويعتقد بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام - لا يدع فرصة تمر دون أن يعرض لمذهب المعتزلة بذكر أقوالهم والرد عليهم، رداً لا يراه البعض كافياً ولا شافياً.
فهذا هو الحافظ ابن حجر يقول عنه فى لسان الميزان: "وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويُقَصِّر فى حلها، حتى قال بعض المغاربة: "يُورد الشُبَه نقداً ويحلها نسيئة".
وقال ابن حجر أيضاً فى لسان الميزان: "ورأيت فى الإكسير فى علم التفسير للنجم الطوفى ما ملخصه: ما رأيت فى التفاسير أجمع لغالب علم التفسير من القرطبى، ومن تفسير الإمام فخر الدين، إلا أنه كثير العيوب، فحدَّثنى شرف الدين النصيبى، عن شيخه سراج الدين السرمياحى المغربى، أنه صنَّف كتاب المأخذ فى مجلدين، بيَّن فيهما فى تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول: يورد شُبَه المخالفين فى المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق، ثم يورد مذهب أهل السُّنَّة والحق على غاية من الوهاء. قال الطوفى: ولعَمرى، إن هذا دأبه فى كتبه الكلامية والحكمة. حتى اتهمه بعض الناس، ولكنه خلاف ظاهر حاله، لأنه لو كان اختار قولاً أو مذهباً ما كان عنده مَن يخاف منه حتى يستر عنه، ولعل سببه أنه كان يستفرغ أقوالاً فى تقرير دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده(1/209)
شئ من القوى، ولا شك أن القوى النفسانية تابعة للقوى البدنية، وقد صرَّح فى مقدمة نهاية العقول: أنه مقرر مذهب خصمه تقريراً لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة على ذلك".
* *
* موقفه من علوم الفقه والأصول والنحو والبلاغة:
ثم إن الفخر الرازى لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الشافعى - الذى يُقلِّدُه - بالأدلة والبراهين.
كذلك نجده يستطرد لذكر المسائل الأصولية، والمسائل النحوية، والبلاغية، وإن كان لا يتوسع فى ذلك توسعه فى مسائل العلوم الكونية والرياضية.
وبالجملة.. فالكتاب أشبه ما يكون بموسوعة فى علم الكلام، وفى علوم الكون والطبيعة، إذ أن هذه الناحية، هى التى غلبت عليه حتى كادت تُقَلِّل من أهمية الكتاب كتفسير للقرآن الكريم.
ومن أجل ذلك قال صاحب كشف الظنون: "إن الإمام فخر الدين الرازى ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شئ إلى شئ، حتى يقضى الناظر العجب" ونقل عن أبى حيان أنه قال فى البحر المحيط: "جمع الإمام الرازى فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها فى علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شئ إلا التفسير".
ويظهر لنا أن الإمام فخر الدين الرازى كان مولعاً بكثرة الاستنباطات والاستطرادات فى تفسيره، ما دام يستطيع أن يجد صلة ما بين المستنبَط أو المستطرَد إليه وبين اللفظ القرآنى، والذى يقرأ مقدمة تفسيره لا يسعه إلا أن يحكم على الفخر هذا الحكم، وذلك حيث يقول: "اعلم أنه مَرَّ على لسانى فى بعض الأوقات، أن هذه السورة الكريمة - يريد الفاتحة - يمكن أن يُستنبَط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحُسَّاد، وقوم من أهل الجهل والغى والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعانى، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمبانى، فلما شرعتُ فى تصنيف هذا الكتاب، قدَّمتُ هذه المقدمة، لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول، قريب الوصول" ... إلخ.
وبعد.. فالكتاب بين يديك، فأجِلْ نظرك فى جميع نواحيه، فسوف لا ترى إلا ما قلته فيه، وما حكمتُ به عليه.
* * *(1/210)
2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل (للبيضاوى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو قاضى القضاة، ناصر الدين أبو الخير، عبد الله ابن عمر بن محمد بن علىّ، البيضاوى الشافعى، وهو من بلاد فارس، قال ابن قاضى شهبة فى طبقاته: "صاحب المصنفات، وعالم أذربيجان، وشيخ تلك الناحية. ولى قضاء شيراز". وقال السبكى: "كان إماماً مُبرَزاً نظَّاراً خَيِّراً، صالحاً متعبداً". وقال ابن حبيب: "تكلَّم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته، ولو لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه المحرر لكفاه". ولى القضاء بشيراز، وتوفى بمدينة تبريز. قال السبكى والأسنوى: سنة 691هـ (إحدى وتسعين وستمائة) ، وقال ابن كثير وغيره: "سنة 685هـ (خمس وثمانين وستمائة) . ومن أهم مصنفاته: كتاب المنهاج وشرحه فى أصول الفقه، وكتاب الطوالع فى أصول الدين، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل فى التفسير، وهو ما نحن بصدده الآن. وهذه الكتب الثلاثة من أشهر الكتب وأكثرها تداولاً بين أهل العلم.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
تفسير العلامة البيضاوى، تفسير متوسط الحجم، جمع فيه صاحبه بين التفسير والتأويل، على مقتضى قواعد اللغة العربية، وقرر فيه الأدلة على أصول أهل السُّنَّة.
وقد اختصر البيضاوى تفسيره من الكشاف للزمخشرى، ولكنه ترك ما فيه من اعتزالات، وإن كان أحياناً يذهب إلى ما يذهب إليه صاحب الكشاف، ومن ذلك أنه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [275] من سورة البقرة: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} ... .. الآية، وجدناه يقول: "إلا قياماً كقيام المصروع، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيُصرَع".. ثم يفسِّر المس بالجنون ويقول: "وهذا أيضاً من زعمانهم أنَّ الجنى يمس الرجل فيختلط عقله".
ولا شك أن هذا موافق لما ذهب إليه الزمخشرى من أن الجن لا تسلط لها على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء.
كما أننا نجد البيضاوى قد وقع فيما وقع فيه صاحب الكشاف، من ذكره فى نهاية كل سورة حديثاً فى فضلها وما لقارئها من الثواب والأجر عند الله، وقد عرفنا قيمة هذه الأحاديث، وقلنا إنها موضوعة باتفاق أهل الحديث، وليستُ أعرف كيف اغترَّ(1/211)
بها البيضاوى فرواها وتابع الزمخشرى فى ذكرها عند آخر تفسيره لكل سورة، مع ما له من مكانة علمية، وسيأتى اعتذار بعض الناس عنه فى ذلك، وإن كان اعتذاراً ضعيفاً، لا يكتفى لتبرير هذا العمل الذى لا يليق بعالم كالبيضاوى له قيمته ومكانته.
وكذلك استمد البيضاوى تفسيره من التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب للفخر الرازى، ومن تفسير الراغب الأصفهانى، وضم لذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، كما أنه أعمل فيه عقله، فضمنه نكتاً بارعة، ولطائف رائعة، واستنباطات دقيقة، كل هذا فى أسلوب رائع موجز، وعبارة تدُق أحياناً وتخفى إلا على ذى بصيرة ثاقبة، وفطنة نيِّرة. وهو يهتم أحياناً بذكر القراءت، ولكنه لا يلتزم المتواتر منها فيذكر الشاذ، كما أنه يعرض للصناعة النحوية، ولكن بدون توسع واستفاضة، كما أنه يتعرض عند آيات الأحكام لبعض المسائل الفقهية بدون توسع منه فى ذلك، وإن كان يظهر لنا أنه يميل غالباً لتأييد مذهبه وترويجه، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [228] من سورة البقرة: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} .. يقول ما نصه: وقُروء جمع قُرء، وهو يُطلق للحيض كقوله عليه الصلاة والسلام: "دَعِى الصلاة أيام أقرائك" وللطُهر الفاصل بين الحيضتين، كقول الأعشى:
مورثة مالاً وفى الحى رفعة ... لما ضاع فيها من قُروء نسائكما
وأصله الانتقال من الطُهر إلى الحيض، وهو المراد فى الآية، لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض كما قاله الحنفية، لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أى وقت عدّتهن، والطلاق المشروع لا يكون فى الحيض. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "طلاق الأمَة تطليقتان وعدِتَّها حيضتان"، فلا يُقاوِم ما رواه الشيخان فى قصة ابن عمر: "مُرْهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلّق قبل أن يمس، فتلك العِدَّة التى أمر الله تعالى أن تُطَلَّق لها النساء" ... إلخ.
كذلك نجد البيضاوى كثيراً ما يقرر مذهب أهل السُّنَّة ومذهب المعتزلة، عندما يعرض لتفسير آية لها صلة بنقطة من نقط النزاع بينهم.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [2] و [3] من سورة البقرة: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} نراه يعرض لبيان معنى الإيمان والنفاق عند أهل السُّنَّة والمعتزلة والخوراج. بتوسع ظاهر، وترجيح منه لمذهب أهل السُّنَّة.(1/212)
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة البقرة أيضاً: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} نراه يتعرض للخلاف الذى بين أهل السُّنَّة والمعتزلة فيما يُطلق عليه اسم الرزق، ويذكر وجهة نظر كل فريق، مع ترجيحه لمذهب أهل السُّنَّة.
والبيضاوى رحمه الله مُقِّلٌ جداً من ذكر الروايات الإسرائيلية، وهو يُصْدِّر الرواية بقوله: رُوِى، أو قِيل ... إشعاراً منه بضعفها.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [22] من سورة النمل: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} يقول بعد فراغه من تفسيرها: رُوى أنه عليه السلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج.. إلى آخر القصة التى يقف البيضاوى بعد روايتها موقف المجوِّز لها. غير القاطع بصحتها، حيث يقول ما نصه: "ولعله فى عجائب قدرة الله وما خصّ به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك، يستكبرها مَن يعرفها، ويستنكرها مَن ينكرها".
ثم إن البيضاوى إذا عرض للآيات الكونية، فإنه لا يتركها بدون أن يخوض فى مباحث الكون والطبيعة، ولعل هذه الظاهرة سرت إليه من طريق التفسير الكبير للفخر الرازى، الذى استمد منه كما قلنا. فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [10] من سورة الصافات: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} نراه يعرض لحقيقة الشهاب فيقول: الشهاب ما يُرى كأن كوكباً انقض، ثم يرد على مَن يخالف ذلك فيقول: وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين - إن صَحَّ - لم يُناف ذلك".. إلى آخر كلامه فى هذا الموضوع.
هذا وأرى أن أسوق لك بعض العبارات الشارحة لمنهج البيضاوى فى تفسيره، والمبيِّنة لمصادره التى رجع إليها واختصره منها، كشاهد على بعض ما ذكرناه من ناحية، وتتميماً للفائدة من ناحية أخرى.
قال البيضاوى نفسه فى مقدمة تفسيره هذا بعد الديباجة ما نصه: "ولطالما أحدِّث نفسى بأن أصنِّف فى هذا الفن - يعنى التفسير - كتاباً يحتوى على صفوة ما بلغنى من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين ومَن دونهم من السَلَف الصالحين، وينطوى على نِكات بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومَن قبلى مِن أفاضل المتأخرين، وأماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المَعْزِّية إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القرَّاء المعتبرين، إلاَّ أن قصور بضاعتى يُثبطنى عن الإقدام، ويمنعنى عن الانتصاب فى هذا المقام، حتى سنح لى بعد الاستخارة ما صمم به عزمى على(1/213)
الشروع فيما أردته، والإتيان بما قصدته، ناوياً أن أسميه بأنوار التنزيل وأسرار التأويل".
ويقول فى آخر الكتاب ما نصه: "وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوى على فوائد ذوى الألباب. المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة، وصفوة آراء أعلام الأُمة، فى تفسير القرآن وتحقيق معانيه. والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه، مع الإيجاز الخالى عن الإخلال، والتلخيص العارى عن الإضلال، الموسوم بأنوار التنزيل وأسرار التأويل".
وكأنِّى به فى هذه الجملة الأخيرة، يشير إلى أنه اختصر من تفسير الكشاف ولخَّصَ منه، ضمن ما اختصره ولخَّصَهُ من كتب التفسير الأخرى، غير أنه ترك ما فيه من نزعات الضلال، وشطحات الاعتزال.
ويقول الجلال السيوطى - رحمه الله - فى حاشيته على هذا التفسير المسماة بـ "نواهد الأبكار وشوارد الأفكار" ما نصه: "وإن القاضى ناصر الدين البيضاوى لخَّصَ هذا الكتاب فأجاد، وأتى بكل مُستجاد، وماز فيه أماكن الاعتزال، وطرح موضع الدسائس وأزال، وحرَّر مُهمات، واستدرك تتمات، فظهر كأنه سبيكه نِضار، واشتهر اشتهار الشمس فى رائعة النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهَج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكَبَّ عليه العلماء تدريساً ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة".
ويقول صاحب كشف الظنون ما نصه: "وتفسيره هذا - يريد تفسير البيضاوى - كتاب عظيم الشأن غنى عن البيان، لخَّصَ فيه من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعانى والبيان، ومن التفسير الكبير ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الإشارات. وضم إليه ما وَرَّى زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا رين الشك عن السريرة، وزاد فى العلم بسطة وبصيرة، كما قال مولانا المنشى:
أولوا الألباب لم يأتوا ... بكشف قناع ما يُتلى
ولكن كان للقاضى ... يد بيضاء لا تُبلى
ولكونه متبحراً جال فى ميدان فرسان الكلام، فأظهر مهارته فى العلوم حسبما يليق بالمقام، كشف القناع عن تارة عن وجوه محاسن الإشارة، ومْلح الاستعارة، وهتك(1/214)
الأستار أخرى عن أسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها. وترجمان المناطقة وميزانها، فحل ما أشْكَلَ على الآنام، وذلَّل لهم صِعاب المرام، وأورد فى المباحث الدقيقة ما يُؤْمَنُ به عن الشُبَه المضلة، وأوضح لهم مناهج الأدلة. والذى ذكره من وجوه التفسير ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً بلفظ "قيل"، فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود.
وأما الوجه الذى تفرَّد فيه، وظن بعضهم أنه مما لا ينبغى أن يكون من الوجوه التفسيرية السُّنِّية، كقوله: وحمل الملائكة العرش وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، ونحوه، فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه، ولا يبلغ علمه إلى الإحاطة بما فيه، فمَن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء، ويروم أن يقنص نسر السماء، لأنه مالك زمام العلوم الدينية، والفنون اليقينية، على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة. وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق، وسلَّموا إليه قصب السبق، فكان تفسيره يحتوى فنوناً من العلم وعرة المسالك، وأنواعاً من القواعد المختلفة الطرائق، وقلّ من برز فى فن إلا وصدَّه عن سواه وشغله، والمرء عده لما جهله، فلا يصل إلى مرامه إلا من نظر إليه بعين فكره، وأعمى عين هواه، واستعبد نفسه فى طاعة مولاه، حتى يسلم من الغلط والزلل، ويقتدر على رد السفسطة والجدل.
وأما أكثر الأحاديث التى أوردها فى أواخر السور، فإنه لكونه ممن صفت مرآة قلبه، وتعرّض لنفحات ربه، تسامح فيه، وأعرض عن أسباب التجريح والتعديل، ونحا نحو الترغيب والتأويل، عالماً بأنها مما فاه صاحبه بزور، ودلَّى بغرور.
ثم إن هذا الكتاب رُزِق من عند الله سبحانه وتعالى بحسن القبول عند جمهور الأفاضل والفحولَ، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية، فمنهم من علَّق تعليقة على سورة منه، ومنهم مَن حشى تحشية تامة، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه".. ثم عَدَّ من هذه الحواشى ما يزيد عدده على الأربعين، ولا أطيل بذكرها، ومَن شاء الاطلاع على ذلك فليرجع إليه فى موضعه الذى أشرتْ إليه، وحسبى أن أقول: إن أشهر هذه الحواشى وأكثرها تداولاً ونفعاً: حاشية قاضى زاده، وحاشية الشهاب الخفاجى، وحاشية القونوى.(1/215)
وجملة القول.. فالكتاب من أُمهات كتب التفسير، التى لا يستغنى عنها مَن يريد أن يفهم كلام الله تعالى، ويقف على أسراره ومعانيه، وهو مطبوع عدة طبعات، ومتوسط فى حجمه.
* * *
3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل (للنسفى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو البركات، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى الحنفى، أحد الزُّهاد المتأخرين، والأئمة المعتبرين، كان إماماً كاملاً عديم النظير فى زمانه، رأساً فى الفقه والأصول، بارعاً فى الحديث ومعانيه، بصيراً بكتاب الله تعالى، وهو صاحب التصانيف المفيدة المعتبرة فى الفقه والأصول وغيرهما. فمن مؤلفاته: متن الوافى فى الفروع، وشرحه الكافى، وكنز الدقائق فى الفقه أيضاً، والمنار في أصول الفقه، والعُمدة فى أصول الدين، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل، وهو التفسير الذى نحن بصدد الكلام عنه، وغير ذلك من المؤلَّفات التى تداولها العلماء، وتناولوها دراسة وبحثاً، وليس هذا التراث العلمى بكثير على رجل تفقَّه على كثير من مشايخ عصره وأخذ عنهم، ومن هؤلاء: شمس الأئمة الكردى وعليه تفقه، وأحمد بن محمد العتابى الذى روى عنه الزيادات.
وكانت وفاة النسفى - رحمه الله - سنة 701 هـ (إحدى وسبعمائة من الهجرة) ، ودفن ببلدة أيذج فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير، اختصره النسفى - رحمه الله - من تفسير البيضاوى ومن الكشاف للزمخشرى، غير أنه ترك ما فى الكشاف من الاعتزالات، وجرى فيه على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وهو تفسير وسيط بين الطول والقصر، جمع فيه صاحبه بين وجوه الإعراب والقراءات، وضمنه ما اشتمل عليه الكشاف من النكت البلاغية، والمحسنَّات البديعية، والكشف عن المعانى الدقيقة الخفية، وأورد فيه ما أورده الزمخشرى فى تفسيره من الأسئلة والأجوبة، لكن لا على طريقته من قوله: "فإن قيل ... قلت" بل جعل ذلك فى الغالب كلاماً مدرجاً فى ضمن شرحه للآية، كما أنه لم يقع فيما وقع فيه صاحب الكشاف من ذكره للأحاديث الموضوعة فى فضائل السور.(1/216)
هذا وقد أورد النسفى فى مقدمة تفسيره عبارة قصيرة، أوضح فيها عن طريقته التى سلكها فيه، وأرى أن أسوقها لك بنصها لتمام الفائدة:
قال رحمه الله: "قد سألنى مَن تتعين إجابته، كتاباً وسطاً فى التأويلات، جامعاً لوجوه، الإعراب والقراءات، متضمناً لدقائق علمى البديع والإشارات، حالياً بأقاويل أهل السُّنَّة والجماعة، خالياً عن أباطيل أهل البدع والضلالة، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، وكنت أُقدِّم فيه رِجْلاً وأؤخر أخرى، استقصاراً لقوة البَشر عن درك هذا الوطر، وأخذاً لسبيل الحذر عن ركوب متن الخطر، حتى شرعتُ فيه بتوفيق الله والعوائق كثيرة، وأتممته فى مدة يسيرة، وسميته بمدارك التنزيل وحقائق التأويل".
وقال صاحب كشف الظنون: "اختصره - يعنى تفسير النسفى - الشيخ زين الدين، أبو محمد، عبد الرحمن بن أبى بكر بن العينى، وزاد فيه". ولكن لم يقع فى يدنا هذا المختصر، ولم نظفر به حتى نحكم عليه.
قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته كما قلت آنفاً موجز العبارة سهل المأخذ، مختصراً من تفسير الكشاف، جامعاً لمحاسنه، متحاشياً لمساوئه، ومن تفسير البيضاوى أيضاً حتى إنه ليأخذ عبارته بنصها أو قريباً منه ويضمنها تفسيره.
* *
* خوضه فى المسائل النحوية:
كذلك وجدته - كما يقول صاحبه - جامعاً بين وجوه الإعراب والقراءات، غير أنه من ناحية الإعراب لا يستطرد كثيراً. ولا يزج بالتفاصيل النحوية فى تفسيره كما يفعل غيره، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [217] من سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} .. الآية.
يقول ما نصه: "والمسجد الحرام": عطف على "سبيل الله"، أى وَصَدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وزعم الفرّاء أنه معطوف على الهاء فى "به"، أى كفر به وبالمسجد الحرام، ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار،(1/217)
فلا تقول: مررت به وزيد، ولكن تقول: وبزيد، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل: وكفر به وبالمسجد الحرام".
* *
* موقفه من القراءات:
وأما من ناحية القراءات فهو ملتزم للقراءات السبع المتواترة مع نسبة كل قراءة إلى قارئها.
* * *
* خوضه فى مسائل الفقه:
كذلك عند تفسيره لآية من آيات الأحكام نجده يعرض للمذاهب الفقهية التى لها تعلق وارتباط بالآية، ويوجه الأقوال ولكن بدون توسع.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [222] من سورة البقرة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} .
يقول ما نصه: " ... ثم عند أبى حنيفة وأبى يوسف - رحمهما الله - يجتنب ما اشتمل عليه الإزار. ومحمد - رحمه الله - لا يُوجب إلا اعتزال الفَرُج، وقالت عائشة رضى الله عنها: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك.
{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} مجامعين، أو: ولا تقربوا مجامعتهن {حتى يَطْهُرْنَ} بالتشديد - كوفى غير حفص - أى يغتسلن، وأصله يتطهرن فأدغم التاء فى الطاء لقرب مخرجيهما. غيرهم {يَطْهُرْنَ} أى ينقطع دمهن، والقراءتان كآيتين، فعملنا بهما. وقلنا: له أن يقربها فى أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل، عملاً بقراءة التخفيف، وفى أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت الصلاة، عملاً بقراءة التشديد، والحمل على هذا أولى من العكس، لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عُرف. وعند الشافعى - رحمه الله - لا يقربها حتى تطهر وتتطهر، دليله قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} : فجامعوهن، فجمع بينهما.. ".
وهو ينتصر لمذهبه الحنفى ويرد على مَنْ خالفه فى كثير من الأحيان، وإن أردت الوقوف على ذلك فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [228] من سورة البقرة: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} .. (جـ 1 ص 89) ؛ وعند(1/218)
تفسيره لقوله تعالى فى الآية (237) من سورة البقرة: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} . (جـ 1 ص 95) وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة الطلاق: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} .. الآية، (جـ 4 ص 201) .
* *
* موقفه من الإسرائيليات:
ومما نلحظه على هذا التفسير أنه مُقِل جداً فى ذكره للإسرائيليات، وما يذكره من ذلك يمر عليه بدون أن يتعقبه أحياناً، وأحياناً يتعقبه ولا يرتضيه.
فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [16] من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} يقول: روى أنه صاحب فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يُخلقوا، وصاح طاووس فقال: يقول: كما تدين تدان. وصاح هدهد فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبون. وصاح خطاف فقال: يقول: قَدِّموا خيراً تجدوه، وصاحت رخمة فقال: تقول: سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمرى فأخبر أنه يقول: سبحان ربى الأعلى، وقال: الحدأة تقول: كل شئ هالك إلا الله، والقطاة تقول: مَن سكت سلم، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول: يا بن آدم، عِشْ ما شئت آخرك الموت، والعُقاب يقول: فى البُعد عن الناس أُنس. والضفدع يقول: سبحانه ربى القدوس.
ثم يتكلم عن قوله تعالى: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} بدون أن يتعقب ما ذكره من ذلك كله.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة النمل أيضاً: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} .. نراه يذكر خبر هدية بلقيس لسليمان وما كان من امتحانها له، وهو خبر أشبه ما يكون بقصة نسجها خيال شخص مسرف فى تخيله، ومع ذلك فلا يُعَقِّب عليها الإمام النسفى بكلمة واحدة.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [21] و [22] فى سورة [ص] : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} .. نراه - بعد أن يذكر من الروايات ما لاَ يتنافى مع عصمة داود عليه السلام - يقول ما نصه: "وما يُحكى أنه بعث مرة بعد مرة أوريا إلى غزوة البلقاء وأحب أن يُقتل(1/219)
ليتزوجها - يعنى زوجة أوريا - فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أفناء الناس، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء، وقال علىّ رضى الله عنه: مَن حدَّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [34] من سورة [ص] أيضاً: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} .. نراه يذكر من الروايات ما لا يتنافى مع عصمة سليمان عليه السلام، ثم يقول ما نصه: "وأما ما يُروى من حديث الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن فى بيت سليمان عليه السلام، فمن أباطيل اليهود".
ففى هذه الآية الأخيرة وما قبلها نجد النسفى - رحمه الله - يتصدى للتنبيه والرد على القَصص المكذوب الذى يتنافى مع عصمة الأنبياء، ولا يتساهل هنا كما تساهل فيما مثَّلنا به قبل ذلك، ولعله يرى أن كل ما يمس العقيدة من هذا القَصص يجب التنبيه على عدم صحته، وما لا يمس العقيدة فلا مانع من روايته بدون تعقيب عليه، ما دام يحتمل الصدق والكذب فى ذاته، ولا يتنافى مع العقل أو يتصادم مع الشرع.
هذا.. وإن الكتاب لمتداول بين أهل العلم، ومطبوع فى أربعة أجزاء متوسطة الحجم، وقد نَفَّعَ الله به الناس كما نفَّعَهم بغيره من مؤلَّفات النسفى رحمه الله.
* * *
4 - لُبَاب التأويل فى معانى التنزيل (للخازن)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير. هو علاء الدين، أبو الحسن، علىّ بن محمد ابن إبراهيم بن عمر بن خليل الشيحى. البغدادى، الشافعى، الصوفى، المعروف بالخازن. اشتهر بذلك لأنه كان خازن كتب خانقاه السميساطية بدمشق. ولُد ببغداد سنة 678 هـ (ثمان وسبعين وستمائة من الهجرة) ، وسمع بها من ابن الدواليبى، وقدم دمشق فسمع من القاسم ابن مظفر ووزيرة بنت عمر، واشتغل بالعلم كثيراً. قال ابن قاضى شهبة: "كان من أهل العلم، جمع وألَّف، وحدَّث ببعض مصنفاته". وقد خَلَّف رحمه الله كتباً جمَّة فى فنون مختلفة، فمن ذلك: لُبَاب التأويل فى معانى التنزيل، وهو التفسير الذى نريد الكلام عنه، وشرح عمدة الأحكام، ومقبول المنقول فى عشر مجلدات، جمع فيه بين مسندى الشافعى وأحمد والكتب الستة والموطأ وسنن الدارقطنى، ورتَّبه على الأبواب، وجمع سيرة نبوية مطوَّلة. وكان رحمه الله(1/220)
صوفياً حسن السمت بشوش الوجه، كثير التودد للناس. توفى سنة 741 هـ (إحدى وأربعين وسبعمائة من الهجرة) بمدينة حلب، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير اختصره مؤلفه من معالم التنزيل للبغوى، وضم إلى ذلك ما نقله ولخّصه من تفاسير من تقدَّم عليه، وليس له فيه - كما يقول - سوى النقل والانتخاب، مع حذف الأسانيد وتجنب التطويل والإسهاب.
وهو مكثر من رواية التفسير المأثور إلى حد ما، مَعْنِىُّ بتقرير الأحكام وأدلتها، مملوء بالأخبار التاريخية، والقصص الإسرائيلى الذى لا يكاد يسلم كثير منه أمام ميزان العلم الصحيح والعقل السليم، وأرى أن أسوق هنا ما قاله الخازن نفسه فى مقدمة تفسيره، مبيِّناً به طريقته التى سلكها، ومنهجه الذى نهجه فيه، وفيها غِنى عن كل شئ.
قال رحمه الله تعالى: ولما كان كتاب معالم التنزيل، الذى صنَّفه الشيخ الجليل، والحَبْر النبيل، الإمام العالم محيى السُّنَّة، قدوة الأُمة، وإمام الأئمة، مفتى الفِرق، ناصر الحديث، ظهير الدين، أبو محمد الحسين ابن مسعود البغوى - قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه - مِن أجَّلِّ المصنفات فى علم التفسير وأعلاها، وأنبلها وأسناها. جامعاً للصحيح من الأقاويل، عارياً عن الشُبه والتصحيف والتبديل، محلىّ بالأحاديث النبوية، مطرزاً بالأحكام الشرعية، موشىً بالقَصص الغريبة، وأخبار الماضين العجيبة، مُرصعاً بأحسن الإشارات، مخرجاً بأوضح العبارات، مُفرغاً فى قالب الجمال بأفصح مقال، فرحم الله تعالى مُصنِّفه وأجزل ثوابه. وجعل الجنة متقلبه ومآبه. لما كان هذا كتاب كما وصفتُ، أحببتُ أن أنتخب من غُرَرِ فوائده، ودُرَرِ فرائده، وزواهر نصوصه، وجواهر فصوصه، مختصراً جامعاً لمعانى التفسير، ولُباب التأويل والتعبير، حاوياً لخلاصة منقوله، متضمناً لنكته وأصوله، مع فوائد نقلتها، وفرائد لخَّصتها من كتب التفسير المصنَّفة، فى سائر علومه المؤلَّفة، ولم أجعل لنفسى تصرفاً سوى النقل والانتخاب، مجتنباً حد التطويل والإسهاب، وحذفتُ منه الإسناد لأنه أقرب إلى تحصيل المراد، فما أوردتُ فيه من الأحاديث النبوية والأخبار المصطفوية، على تفسير آية أو بيان حكم - فإن الكتاب يُطلب بيانه من السُّنَّة، وعليها مدار الشرع وأحكام الدين - عزوتُه إلى مخرجه، وبيَّنتُ اسم ناقله، وجعلتُ عوض كل اسم حرفاً يُعرف به، ليهون على الطالب طلبه. فما كان من صحيح أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى فعلامته قبل ذكر الصحابى الراوى للحديث (خ) . وما كان من صحيح أبى الحسين مسلم ابن الحجاج(1/221)
النيسابورى فعلامته (م) . وما كان مما اتفقا عليه فعلامته (ق) . وما كان من كتب السنن، كسنن أبى داود، والترمذى، والنسائى فإنى أذكر اسمه بغير علامة. وما لم أجده فى هذه الكتب ووجدت البغوى قد أخرجه بسند له انفرد به. قلت: روى البغوى بسنده، وما رواه البغوى بإسناد الثعلبى قلت: روى البغوى بإسناد الثعلبى. وما كان فيه من أحاديث زائدة وألفاظ متغيرة فأعتمده، فإنى اجتهدت فى تصحيح ما أخرجته من
الكتب المعتبرة عند العلماء كالجمع بين الصحيحين للحميدى، وكتاب جامع الأصول لابن الأثير الجزرى، ثم إنى عوَّضتُ عن حذف الإسناد شرح غريب الحديث وما يتعلق به. ليكون أكمل فائدة فى هذا الكتاب، وأسهل على الطُلاب، وسقته بأبلغ ما قدرتُ عليه من الإيجاز وحسن الترتيب، مع التسهيل والتقريب. وينبغى لكل مؤلف كتاباً فى فن قد سُبق إليه، أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد: استنباط شئ إن كان معضلاً. أو جمعه إن كان متفرقاً. أو شرحه إن كان غامضاً. أو حُسْن نظم وتأليف. أو إسقاط حشو وتطويل، وأرجو أن لا يخلو هذا الكتاب عن هذه الخصال التى ذكرت. وسمَّيته: "لُباب التأويل فى معانى التنزيل".
ثم قدَّم الخازن لتفسيره بخمسة فصول - الفصل الأول: فى فصل القرآن وتلاوته وتعليمه. الفصل الثانى: فى وعيد مَن قال فى القرآن برأيه من غير علم، ووعيد مَن أوتى القرآن فنسيه ولم يتعهده. الفصل الثالث: فى جمع القرآن وترتيب نزوله، وفى كونه نزل على سبعة أحرف. الفصل الرابع: فى كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل فى ذلك. الفصل الخامس: فى معنى التفسير والتأويل. ثم ابتدأ بعد ذلك فى التفسير.
* توسعه فى ذكر الإسرائيليات:
وقد قرأت فى هذا التفسير كثيراً فوجدته يتوسع فى ذكر القصص الإسرائيلى وكثيراً ما ينقل ما جاء من ذلك عن بعض التفاسير التى تعنى بهذه الناحية كتفسير الثعلبى وغيره، وهو فى الغالب لا يُعَقِّب على ما يذكر من القَصص الإسرائيلى، ولا ينظر إليه بعين الناقد البصير، وإن كان فى بعض المواضيع لا يترك القصة تمر بدون أن يُبَيِّن لنا ضعفها أو كذبها، ولكن على ندرة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى سورة [ص] : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب ... ... .} الآيات إلى قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [21-24] نراه يسوق قَصصاً أشبه ما يكون بالخرافة كقصة الشيطان الذى تمثَّل لداود فى صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، وجناحاها من الدُّر والزبرجد، فطارت ثم وقعت بين رجليه وألهته عن صلاته، وقصة المرأة التى وقع بصره عليها فأعجبه جمالها فاحتال على زوجها حتى قُتِل رجاء أن تسلم له هذه المرأة التى فُتِنَ بها وشُغِفَ بحبها، وغير ذلك من الروايات العجيبة الغريبة، ولكنه يأتى بعد كل هذا فيقول: "فصل فى تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به ويُنسب(1/222)
إليه" ويُفَنِّد فى هذا الفصل كل ما ذكره مما يتنافى مع عصمة نبى الله داود عليه السلام.
ولكنَّا نرى الخازن يمر بقصص كثيرة لا يُعقِّب عليها، مع أن بعضها غاية فى الغرابة، وبعضها مما يخل بمقام النبوَّة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [10] من سورة الكهف: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} .. الآية، نراه يذكر قصة أصحاب الكهف، وسبب خروجهم إليه عن محمد بن إسحاق ومحمد بن يسار، وهى غاية فى الطول والغرابة ومع ذلك فهو يذكرها ولا يُعَقِّب عليها بلفظ واحد.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [83، 84] من سورة الأنبياء: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين * فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} .. نراه يروى فى حق أيوب عليه السلام، قصة طويلة جداً عن وَهب بن منبَّه، وهى مما لا يكاد يقرها الشرع أو يُصدِّقها العقل، لما فيها من المنافاة لمقام النبوَّة، ومع ذلك، فهو يذكر هذه القصة ويمر عليها بدون أن يُعَقِّب عليها بأية كلمة.
* *
* عنايته بالأخبار التاريخية:
كذلك نلاحظ على هذا التفسير أنه يفيض فى ذكر الغزوات التى كانت على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأشار إليها القرآن.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [9] من سورة الأحزاب: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} نراه بعد أن يفرغ من التفسير يقول: "ذكر غزوة الخندق وهى الأحزاب" ثم يذكر وقائع الغزوة وما جرى فيها باستفاضة وتوسع.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [27] من سورة الأحزاب أيضاً: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .. نراه يستطرد إلى ذكر غزوة بنى قريظة، بتوسع ظاهر، وتفصيل تام.
* *
* عنايته بالناحية الفقهية:
كذلك نجد هذا التفسير يعنى جد العناية بالناحية الفقهية، فإذا تكلَّم(1/223)
عن آية من آيات الأحكام، استطرد إلى مذاهب الفقهاء وأدلَّتهم، وأقحم فى التفسير فروعاً فقهية كثيرة، قد لا تهم المفسِّر بوصف كونه مفسِّراً فى قليل ولا كثير.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية (226) من سورة البقرة: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نراه بعد أن ينتهى من التفسير يقول: "فروع تتعلق بحكم الآية" ثم يذكر خمسة فروع - الفرع الأول: فى حكم ما إذا حف أنه لا يقرب زوجته أبداً أو مدة هى أكثر من أربعة أشهر، والثانى: فى حكم ما لو حلف ألا يطأها أقل من أربعة أشهر، والثالث: فى حكم ما لو حلف ألا يطأها أربعة أشهر، والرابع: فى مدة الإيلاء فى حق الحر والعبد واختلاف المذاهب فى ذلك، والخامس: فيما إذا خرج من الإيلاء بالوطء، فهل تجب عليه كفَّارة أو لا تجب.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [228] من سورة البقرة: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} .. الآية، نراه يعرض لمذهب الحنفية ومذهب الشافعية فيما تنقضى به عِدَّة الحائض.. ثم يقول: "فصل فى أحكم العِدَّة، وفيه مسائل" فيذكر أربع مسائل، يتكلم فى المسألة الأولى منها: عن عِدَّة الحوامل، وفى الثانية: عن عِدَّة المتوفى عنها زوجها، وفى الثالثة: عن عِدَّة المطلِّقة المدخول بها، وفى الرابعة: عن عِدَّة الإماء..
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [229] من سورة البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} .. الآية، نجده يقول: "فصل فى حكم الخُلْع، وفيه مسائل" ويذكر ثلاث مسائل؛ المسألة الأولى: فيما يُباح من أجله الخُلْع، والثانية: فى جواز الخُلْع بأكثر مما أعطاها وعدم جوازه، الثالثة: فى اختلاف العلماء فى الخُلْع هل هو فسخ أو طلاق؟.
ومثلاً عند تفسيره لآية الظَهَار التِى فى أول سورة المجادلة نراه يسوق فصلاً فى أحكام الكفَّارة، وما يتعلق بالظَهَار، ويورد فيه ثمانى مسائل لا نطيل بذكرها.
* *
* عنايته بالمواعظ:
ثم إنَّ هذا التفسير كثيراً ما يتعرض للمواعظ والرقاق، ويسوق أحاديث الترغيب والترهيب، ولعل نزعة الخازن الصوفية هى التى أثَّرت فيه فجعلته يعنى بهذه الناحية ويستطرد إليها عند المناسبات.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [16] من سورة السجدة: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} .. الآية؛ نراه يقول بعد الانتهاء من التفسير: "فصل فى فضل(1/224)
قيام الليل والحث عليه".. ثم يسوق فى ذلك أحاديث كثيرة عن النبى صلى الله عليه وسلم كلها تدور على البخارى ومسلم والترمذى.
وهكذا نجد هذا التفسير يطرق موضوعات كثيرة فى نواح من العلم مختلفة. ولكن شُهْرته القَصصية، وسُمْعه الإسرائيلية، أساءت إليه كثيراً، وكادت تصد الناس عن الرجوع إليه والتعويل عليه!!. ولعل الله يهيئ لهذا الكتاب مَنْ يُعَلِّق عليه بتعليقات توضح غَثَّهُ مِنْ سَمِينه، وتستخلص صحيحه مِنْ سقيمه. والكتاب مطبوع فى سبعة أجزاء متوسطة الحجم، وهو متداوَل بين الناس، خصوصاً مَنْ له شغف بالقَصص وولوع بالأخبار.
* * *
5 - البحر المحيط (لأبى حيان)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أثير الدين، أبو عبد الله، محمد بن يوسف بن علىّ بن يوسف بن حيان، الأندلسى، الغرناطى، الحيَّانى، الشهير بأبى حيَّان، المولود سنة 654 هـ (أربع وخمسين وستمائة من الهجرة) .
كان - رحمه الله - مُلِّماً بالقراءات صحيحها وشاذها، قرأ القرآن على الخطيب عبد الحق بن علىّ إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب أبى جعفر ابن الطباع، ثم على الحافظ أبى علىّ بن أبى الأحوص بمالقة، وسمع الكثير من العلماء ببلاد الأندلس وإفريقية، ثم قَدِمَ الإسكندرية فقرأ القراءات على عبد النصير بن علىّ المريوطى، وبمصر على أَبى طاهر إسماعيل بن عبد الله المليجى، ولازم بها الشيخ بهاء الدين بن النحاس، فسمع عليه كثيراً من كتب الأدب. قال أبو حيان: "وعدة مَن أخذتُ عنه أربعمائة وخمسون شخصاً، وأما مَنْ أجازتى فكثير جداً" وقال الصفدى: "لم أره قط إلا يسمع، أو يشتغل، أو يكتب، أو ينظر فى كتاب، ولم أره على غير ذلك".
كذلك عُرِف أبو حيان، بكثرة نظمه للأشعار والموشحات، كما كان على جانب كبير من المعرفة باللغة، أما النحو والتصريف فهو الإمام المطلق فيهما، خدم هذا الفن أكثر عمره، حتى صار لا يُذكر أحد فى أقطار الأرض فيهما غيره، وبجانب هذا كله كان لأبى حيان اليد الطولى فى التفسير، والحديث، وتراجم الرجال، ومعرفة طبقاتهم، خصوصاً المغاربة.
ولقد أخذ كثير عنه العلم حتى صار من تلامذته أئمة وأشياخ فى حياته، وهو الذى جَسَّر الناس على كتب ابن مالك ورَغَّبتهم فيها وشرح لهم غامضها. وأما مؤلفاته فكثيرة، انتشرت فى حياته وبعد وفاته فى كثير من أقطار الأرض وتلقاها الناس(1/225)
بالقبول، ومن أهمها: تفسير البحر المحيط الذى نحن بصدده الآن، وغريب القرآن فى مجلد واحد، وشرح التسهيل، ونهاية الإعراب، وخلاصة البيان، وله منظومة على وزن الشاطبية فى القراءات بغير رموز، وهي أخصر وأكثر فوائد، ولكنها لم تُرزق من القبول حظ الشاطبية هذا، وقد قيل: إن أبا حيان كان ظاهرى المذهب، ثم رجع عنه وتبع الشافعى على مذهبه، وكان عرياً من الفلسفة، بريئاً من الاعتزال والتجسيم، متمسكاً بطريقة السَلَف. أما وفاته فكانت بمصر سنة 745 هـ (خمس وأربعين وسبعمائة من الهجرة) ، فرحمه الله ورضى عنه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير فى ثمان مجلدات كبار، وهو مطبوع ومتداول بين أهل العلم. ومعتبر عندهم المرجع الأول والأهم لمن يريد أن يقف على وجوه الإعراب الألفاظ القرآن الكريم، إذ أن الناحية النحوية هى أبرز ما فيه من البحوث التى تدور حول آيات الكتاب العزيز، والمؤلف إذ يتكلم عن هذه الناحية، فهو ابن بجدتها، وفارس حلبتها، غير أنه - والحق يقال - قد أكثر من مسائل النحو فى كتابه، مع توسعه فى مسائل الخلاف بين النحويين، حتى أصبح الكتاب أقرب ما يكون إلى كتب النحو منه إلى كتب التفسير.
هذا.. وإن أبا حيان وإن غلبت عليه الصناعة النحوية فى تفسيره إلا أنه مع ذلك لم يُهمل ما عداها من النواحى التى لها اتصال بالتفسير، فنراه يتكلم على المعانى اللغوية للمفردات، ويذكر أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات الواردة مع توجيهها، كما أنه لا يغفل الناحية البلاغية فى القرآن، ولا يهمل الأحكام الفقهية عندما يمر بآيات الأحكام، مع ذكره لما جاء عن السلف ومن تقدمه من الخلف فى ذلك، كل هذا على طريقة وضعها لنفسه، ومشى عليها فى كتابه، ونبهنا عليها فى مقدمته، وذلك حيث يقول:
"وترتيبى فى هذا الكتاب، أنى أبتدئ أولاً بالكلام على مفردات الآية التى أفسرها لفظة لفظة، فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التى لتلك اللفظة قبل التركيب، وإذا كان للكلمة معنيان أو معان ذكرتُ ذلك فى أول موضع فيه تلك الكلمة، ليُنظر ما يناسب لها من تلك المعانى فى كل موضع تقع فيه فيْحمل عليه، ثم أشرع فى تفسير الآية ذاكراً سبب نزولها إذا كان لها سبب، ونسخها، ومناسبتها، وارتباطها بما قبلها، حاشداً فيها القراءات، شاذها ومستعملها. ذاكراً توجيه ذلك فى علم العربية، ناقلاً أقاويل السَلَف والخلَف فى فهم معانيها، متكلماً(1/226)
على جليها وخفيها، بحيث أنى لا أغادر منها كلمة وإن اشتهرت حتى أتكلم عليها، مبدياً ما فيها من غوامض الإعراب، ودقائق الآداب، من بديع وبيان، مجتهداً أنى لا أكرر الكلام فى لفظ سبق، ولا فى جملة تقدَّم الكلام عليها، ولا فى آية فُسِّرت، بل أذكر فى كثير منها الحوالة على الموضع الذى تُكلِّم فيه على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية، وإن عرض تكرير فبمزيد فائدة، ناقلاً أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم فى الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآنى، مُحيلاً على الدلائل التى فى كتب الفقه، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أحيل فى تقريرها والاستدلال عليها على كتب النحو، وربما أذكر الدليل إذا كان الحكم غريباً أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس، بادئاً بمقتضى الدليل وما دَلَّ عليه ظاهر اللفظ مرجِّحاً له لذلك، ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه متنكباً فى الإعراب عن الوجوه التى تنزّه القرآن عنها، مبيِّناً أنها مما يجب أن يُعدل عنه، وأنه ينبغى أن يُحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب، إذ كلام الله تعالى أفصح الكلام، فلا يجوز فيه جميع ما يُجوِّزه النحاة فى شعر الشماخ والطرماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة، والتراكيب القلقة، والمجازات المعقَّدة، ثم أختتم فى جملة من الآيات التى فسّرتُها إفراداً وتركيباً بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصاً، ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور، أشرح به مضمون تلك الآيات على ما أختاره من تلك المعانى، ملخصاً جملها أحسن تلخيص، وقد ينجر معها ذكر معان لم
تتقدم فى التفسير، وصار ذلك أنموذجاً لمن يريد أن يسلك ذلك فيما بقى من سائر القرآن، وستقف على هذا المنهج الذى سلكته إن شاء الله تعالى، وربما ألممت بشئ من كلام الصوفية بما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ، وتجنبت كثيراً من أقاويلهم ومعانيهم التى يُحَمِّلونها الألفاظ وتركتُ أقوال الملحدين الباطنية، المخرجين الألفاظ العربية عن مدلولاتها فى اللغة، إلى هذيان افتروه على الله، وعلى علىٍّ كرَّم الله تعالى وجهه، وعلى ذُرِّيته، ويسمونه علم التأويل.. ".
هذا.. وإن أبا حيان - رحمه الله تعالى - ينقل فى تفسيره كثيراً من تفسير الزمخشرى، وتفسير ابن عطية، خصوصاً ما كان من مسائل النحو ووجوه الإعراب، كما أنه يتعقبهما كثيراً بالرد والتفنيد لما قالاه فى مسائل النحو على الخصوص،(1/227)
ولكثرة هذا التعقيب منه على كلام الزمخشرى وابن عطية تجد تلميذه تاج الدين أحمد بن عبد القادر (بن أحمد) بن مكتوم المتوفى سنة 749 هـ (تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة) يختصر هذا التفسير فى كتاب سمَّاه: "الدُّرّ اللقيط من البحر المحيط" يكاد يقتصر فيه على مباحثه مع ابن عطية والزمخشرى ورده عليها وهذا المختصر تُوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر، كما أنه مطبوع على هامش البحر المحيط.
كذلك نجد الشيخ يحيى الشاوى المغربى يفرد مؤلفاً عنوانه: "بين أبى حيان والزمخشرى" يجمع فيه اعتراضات أبى حيان على الزمخشرى وهو مخطوط فى مجلد كبير بالمكتبة الأزهرية.
وكثيراً ما يحمل أبو حيان على الزمخشرى حملات ساخرة قاسية من أجل آرائه الاعتزالية (جـ2 ص276، جـ7 ص85) ، ومع ذلك نجده يشيد بما للزمخشرى من مهارة فائقة فى تجلية بلاغة القرآن وقوة بيانه. حيث يصفه بأنه أوتى من علم القرآن أوفر حظ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ (جـ7 ص85) .
هذا.. وإن أبا حيان يعتمد فى أكثر نقول كتابه هذا - كما يقول - "على كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير، من جمع شيخه الصالح، القدوة، الأديب، جمال الدين أبى عبد الله، محمد بن سليمان بن حسن ابن حسين المقدسى، المعروف بابن النقيب، رحمه الله. إذ هو أكبر كتاب صُنِّف فى علم التفسير، يبلغ فى العدد مائة سِفْرٍ أو يكاد".
ونهاية القول، فإن أبا حيان قد غلبت عليه فى تفسيره الناحية التى برز فيها وبرع فيها وهى الناحية النحوية التى طغت على ما عداها من نواحى التفسير.
* * *
6 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان (للنيسابورى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلِّف هذا التفسير، هو الإمام الشهير، والعلاَّمة الخطير، نظام الدين ابن الحسن بن محمد بن الحسين، الخراسانى، النيسابورى، المعروف بالنظام الأعرج. أصله وموطن أهله وعشيرته مدينة "قُم"، وكان منشؤه وموطنه بديار نيسابور. كان رحمه الله من(1/228)
أساطين العلم بنيسابور، مُلِّماً بالعلوم العقلية، جامعاً لفنون اللغة العربية، له القدم الراسخ فى صناعة الإنشاء، والمعرفة الوافرة بعلم التأويل والتفسير.
وهو معدود فى عِداد كبار الحفَّاظ والمقرئين، وكان مع هذه الشهرة العلمية الواسعة على جانب كبير من الورع والتقوى، وعلى مبلغ عظيم من الزهد والتصوف، ويظهر أثر ذلك واضحاً جلياً فى تفسيره الذى أودع فيه مواجيده الروحية، وفيوضاته الربانية، ولقد خَلَّف رحمه الله للناس كتبا مفيدة نافعة، ومصنَّفات فريدة واسعة، فمن ذلك شرحه على متن الشافية فى فن الصرف للإمام ابن الحاجب، وهو معروف بشرح النظام، وشرحه على تذكرة الخواجة نصير المِلَّة والدين الطوسى فى علم الهيأة، وهو المسمى بتوضيح التذكرة، ورسائل فى علم الحساب، وكتاب فى أوقات القرآن على حذو ما كتبه السجاوندى المشهور، وأهم مصنَّفاته تفسيره لكتاب الله تعالى المعروف بـ "غرائب القرآن ورغائب الفرقان"، وهو ما نحن بصدده الآن، وله مجلد آخر فى لب التأويل نظير تأويلات المولى عبد الرزاق القاشانى.
أما تاريخ وفاته، فلم نعثر عليه فى الكتب التى بين أيدينا، وكل ما عثرنا عليه هو قول صاحب روضات الجنَّات: "إنه كان من علماء رأس المائة التاسعة، على قرب من درجة السيد الشريف، والمولى جلال الدين الدوانى، وابن حجر العسقلانى، وقرنائهم الكثيرين من علماء الجمهور، وتاريخ إنهاء مجلدات تفسيره المذكور، صادفت حدود ما بعد الثمانمائة والخمسين من الهجرة" قال: "ويوجد أيضاً بالبال نسبة التشيع إليه فى بعض مصنفات الأصحاب".
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
اختصر النيسابورى تفسيره هذا من التفسير الكبير للفخر الرازى، وضم إلى ذلك بعض ما جاء فى الكشاف وغيره من التفاسير، وما فتح الله به عليه من الفهم لحكم كتابه، وضمَّنه ما ثبت لديه من تفاسير سَلَف هذه الأُمَّة من الصحابة والتابعين.
* *
*(1/229)
موقفه من الزمخشرى والفخر الرازى:
وهو إذ يختصر كلام الفخر الرازى، أو يقتبس من تفسير الكشاف أو غيره، لا يقف عند النص وقوف مَنْ يجمد عند النصوص ويرى أنها ضربة لازب عليه فلا يعترض ولا يتصرف، بل نجده حراً فى تفكيره، متصرفاً فيما يختصر أو يقتبس، فإن وجد فساداً نَبَّه عليه وأصلحه، وإن رأى نقصاً تداركه فأتمه وأكمله.
وكثيراً ما نجده ينقل عن الكشاف فيقول: قال فى الكشاف كذا وكذا، أو قال جار الله كذا وكذا، وقد ينقل ما ذكره صاحب الكشاف وما اعترض به عليه الفخر الرازى ثم ينصب نفسه حَكَماً بين الإمامين، ويبدى رأيه على حسب ما يظهر له.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [67] من سورة الزمر: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} .. يقول ما نصه: "قال جار الله: الغرض من هذا الكلام - إذا أخذته كما هو بجملته - تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز، وكذلك حكم ما يُروى عن عبد الله بن مسعود: أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم؛ إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال، وأنزل الله الآية تصديقاً له. قال جار الله: وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك، ولا إصبع، ولا هز، ولا شئ من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شئ وآخره على الزُبْدة والخلاصة، التى هى الدلالة على القدرة الباهرة. وأن الأفعال العظام التى لا تكتنهها الأوهام هيِّنة عليه.. ثم ذكر كلاماً آخر طويلاً، واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازى: بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته، لأنه هل يسلم أن الأصل فى الكلام حمله على حقيقته أم لا؟ وعلى الثانى يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حُجَّة، فإن الكل أحد حينئذ أن يؤول الآية بما يشاء، وعلى الأول - وهو الذى عليه الجمهور - يلزم بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلانى على معناه الحقيقى لتعين المصير إلى التأويل، ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما، ففى هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب المصير إلى التأويل صوناً للنص عن التعطيل، ولا تأويل إلا أن يُقال: المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره، كما يقال: فلان فى قبضة فلان. وقال تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ويقال: هذه الدار فى يد فلان ويمينه، وفلان صاحب اليد.(1/230)
وأنا أقول: هذا الذى ذكره الإمام طريق أصولى، والذى ذكره جار الله طريق بيانى. وإنهم يحيلون كثيراً من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينها، ولا يرد اعتراض الإمام تشنيعه، وقد مرَّ لنا فى هذا الكتاب الأصل الذى كان يعمل به السَلَف فى باب المتشابهات فى مواضع، فتذكر".
* *
* منهجه فى التفسير:
ثم إننا نجد الإمام النيسابورى، قد سلك فى تفسيره مسلكاً قد يكون منفرداً به من بين المفسِّرين، ذلك أنه يذكر الآيات القرآنية أولاً، ثم يذكر القراءات، مع التزامه ألا يذكر ما كان منها منسوباً إلى الأئمة العشرة، وإضافة كل قراءة إلى صاحبها الذى تُنسب إليه، ثم بعد ذلك يذكر الوقوف مع التعليل لكل وقف منها، ثم بعد ذلك يشرع فى التفسير، مبتدئاً بذكر المناسبة وربط اللاحق بالسابق مع عناية كبيرة بذلك سرت إليه من التفسير الكبير للفخر الرازى، ثم بعد ذلك يبين معانى الآيات بأسلوب بديع، يشتمل على إبراز المقدرات، وإظهار المضمرات، وتأويل المتشابهات، وتصريح الكنايات، وتحقيق المجاز والاستعارات، وتفصيل المذاهب الفقهية، مع توجيه أدلة كل مذهب وما حُمِلت عليه الآية القرآنية، لتكون مؤيدة لمذهب من المذاهب، أو غير متعارضة معه ولا منافية له.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [38] من سورة المائدة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} نجده يقول: "واعلم أن الكلام فى السرقة، يتعلق بأطراف المسروق، ونفس السرقة، والسارق".. ثم يمضى فيتكلم عن هذه النواحى الثلاث من الناحية الفقهية، بتفصيل واسع وتوجيه للأدلة.
* *
* خوضه فى المسائل الكلامية:
كذلك نجده يخوض فى المسائل الكلامية، فيذكر مذهب أهل السُّنَّة ومذهب غيرهم، مع ذكره لأدلة كل مذهب، وانتصاره لمذهب أهل السُّنَّة وتأييده له، وردّ ما يرد عليه من جانب المخالفين.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [25] من سورة الأنعام: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} ... الآية، تجده يقول: "وفى الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذى يصرف عن الإيمان، ويحول بين المرء وبين قلبه، وقالت المعتزلة: لا يمكن إجراؤها على ظاهرها، وإلا كان حُجَّة للكفار، ولأنه يكون تكليفاً للعاجز، ولم يتوجه ذمهم فى قولهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، [البقرة: 88] فلا بد من التأويل. وذلك من وجوه.. ثم ساق(1/231)
خمسة أوجه للمعتزلة، وبعد أن فرغ منها تعقبها بالرد عليها، تفنيداً لمذهب المعتزلة، وتصحيحاً لمذهب أهل السُّنَّة.
* *
*خوضه فى المسائل الكونية والفلسفية:
كذلك إذا مرّ النيسابورى على آية من الآيات الكونية فإنه لا يمر عليها بدون أن يخوض بأسرار الكون وكلام الطبيعيين والفلاسفة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [189] من سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} نراه يذكر سبب نزول الآية، ثم يبين الحكمة التى أرادها الله من وراء جوابه لهم على غير مقصودهم، وهنا يتعرض للسبب الذى من أجله يبدو الهلال دقيقاً ثم يزيد شيئاً فشيئاً حتى يصير بدراً، ثم يأخذ فى النقصان إلى أن يعود كما بدأ.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [42] من سورة الزمر: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} .. الآية، يقول ما نصه: "وقال حكماء الإسلام: النفس الإنسانية جوهر مشرق نورانى، إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه فى جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها، وهو الحياة واليقظة، وأما فى وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره، فتبقى نفس الحياة التى بها النفس وعمل القوى البدنية فى الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل، وإذا انقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت".
وهذا المسلك الذى سلكه النيسابورى فى الكونيات والآراء الفلسفية. ليس هو فى الواقع إلا صدى لما جاء فى تفسير الفخر الرازى الذى لخَّص منه تفسيره. وإن كان النيسابورى ليس بوقاً للرازى فى كل ما يقول بل كثيراً ما يستدرك عليه ولا يرتضى قوله.
فمثلاً نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [1، 2] من سورة الانفطار: {إِذَا السمآء انفطرت * وَإِذَا الكواكب انتثرت} يقول ما نصه: "وفيه - يعنى فى قوله تعالى {إِذَا السمآء انفطرت} ، وكذا فى قوله: {وَإِذَا الكواكب انتثرت} - إبطال قول من زعم أن الفلكيات لا تنخرق، أما الدليل المعقول الذى ذكره الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره، وهو أن الأجسام متماثلة فى الجسمية. فيصح على كل واحد منهما ما يصح على الباقى، لكن السفليات يصح عليها الانخراق، فيصح على العلويات(1/232)
أيضاً، فغير مفيد ولا مقنع، لأن الخصم لو سلَّم الصحة فله أن ينازع فى الوقوع لمانع، كالصورة الفلكية وغيرها".
* *
* النزعة الصوفية فى تفيسر النيسابورى:
ثم إن النيسابورى بعد أن يفرغ من تفسير الآية يتكلم عن التأويل، والتأويل الذى يتكلم عنه هو عبارة عن التفسيرات الإشارية للآيات القرآنية التى يفتح الله بها على عقول أهل الحقيقة من المتصوِّفة، والنيسابورى - رحمه الله - كان صوفياً كبيراً، أفاض من روحه الصوفية الصافية على تفسيره، فنراه لذلك يستطرد أثناء التفسير إلى كثير من المواعظ والمبكيات. والحكم والغاليات، كما نراه فى تأويله الإشارى يمثل الفلسفة التصوفية بأعلى أنواعها.
* *
* ليس فى تفسير النيسابورى ما يدل على تشيعه:
وعلى كثرة ما قرأت فى هذا التفسير لم أقع على نص منه يدل على تشيع مؤلفه، وكل ما وقعت عليه، أنه قال فى خاتمة تفسيره (جـ30 ص228) : "وإنى أرجو فضل الله العظيم، وأتوسل إليه بوجهه الكريم، ثم بنبيه القرشى الأبطحى ووليه المعظم العلى.. إلخ" وهذه الجملة الأخيرة: "ووليه المعظم العلى" وإن كانت اعترافاً منه بولاية علىّ رضى الله عنه، ليست دليلاً قاطعاً على تشيعه، بل نجد النيسابورى على العكس من ذلك يعترف فى نفس خاتمة تفسيره (جـ30 ص224) بأنه لم يمل فى تفسيره إلا إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وإذا رجعت إلى تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [54، 55] من سورة المائدة: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .. إلخ (جـ6 ص195 وما بعدها) لوجدته يرد على الشيعة استدلالهم بهاتين الآيتين على ولاية علىّ رضى الله عنه وأنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ما ذكره تلخيصاً لما قال الفخر الرازى فى تفسيره.
وهنا - وبعد ما ذكرت - أرى لزاماً علىَّ أن أذكر كلام النيسابورى الذى أوضح فيه مسلكه فى تفسيره ومنهجه الذى نهجه فيه، فإن صاحب البيت أعرف به وأدرى بما فيه.
قال رحمه الله فى مقدمة تفسيره ما نصه: "وإذا وفَّقنى الله تعالى لتحريك القلم فى أكثر الفنون المنقولة والمعقولة - كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنه فيما بين أهل الزمان - وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من العين والعين من الإنسان، وكان قد رزقنى الله تعالى من إبَّان الصبا وعنفوان الشباب، حفظ لفظ القرآن وفهم(1/233)
معنى الفرقان، وطالما طالبنى بعض أجِلَّةُ الإخوان، وأعِزَّة الأخدان ممن كنت مشاراً إليه عندهم بالبنان فى البيان - والله المنَّان يجازيهم عن حسن ظنونهم، ويوفقنا لإسعاف سؤلهم، وإنجاح مطلوبهم - أن أجمع كتاباً فى علم التفسير، مشتملاً على المهمات، منبئاً عما وقع إلينا من نقل الإثبات، وأقوال الثقات من الصحابة والتابعين، ثم من العلماء الراسخين، والفضلاء المحققين، المتقدمين والمتأخرين - جعل الله تعالى سعيهم مشكوراً، وعملهم مبروراً - فاستعنتُ بالمعبود، وشرعتُ فى المقصود، معترفاً بالعجز والقصور فى هذا الفن، وفى سائر الفنون لا كمن هو بابنه مفتون، كيف وقد قال عَزَّ مِنْ قائل: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} ، ومَن أصدق من الله قيلاً، وكفى بالله ولياً، وكفى بالله وكيلاً.
ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل، والهمام الأمثل، والحَبْر النِحْرير، والبحر الغزير، الجامع بين المعقول والمنقول، الفائز بالفروع والأصول، أفضل المتأخرين، فخر المِلَّة والحق والدين، محمد بن عمر ابن الحسين الخطيب الرازى، تغمَّده الله برضوانه وأسكنه بحبوبة جِنانه، اسمه مطابق لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يُحصى، ومن الزوائد والفتوى ما لا يُخفى، فإنه قد بذل مجهوده، ونثل موجوده، حتى عَسَّرَ كتبه على الطالبين، وأْعَّوَز تحصيله على الراغبين، فحاذيتُ سياق مرامه، وأوردتُ حاصل كلامه، وقرَّبتُ مسالك أقدامه، والتقطتُ عقود نظامه، من غير إخلال بشئ من الفوائد. وإهمال لما يُعَد من اللطائف والفرائد، وضممتُ إليه ما وجدتُ فى الكشاف وفى سائر التفاسير من اللطائف المهمات، أو رزقنى الله تعالى من البضاعة المزجاة، وأثبت القراءات المعتبرات والوقوف المعللات، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات، والمعنويات مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغى إتمامه من المسائل الموردة فى التفسير الكبير والاعتراضات، ومع كل ما يُوجد فى الكشاف من المواضع المعضلات، سوى الأبيات المعقدات، فإن ذلك يوردها مَنْ ظن أن تصحيح القراءات وغرائب القرآن، إنما يكون بالأمثال والمستشهدات، كلاَّ فإن القرآن حُجَّة على غيره وليس غيره حُجَّة عليه، فلا علينا أن نقتصر فى غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات، وعلى إيراد بعض المتجانسات التى نعرف منها أصول الاشتقاقات، وذكرتُ طرفاً من الإشارات المقنعات، والتأويلات الممكنات، والحكايات المبكيات، والمواعظ الرادعة عن المنهيات، الباعثة على أداء الواجبات، والتزمتُ إيراد لفظ القرآن الكريم أولاً، مع ترجمته على وجه بديع، وطريق منيع، يشتمل على إبراز المقدرات، وإظهار المضمرات، وتأويل المتشابهات، وتصريح الكنايات، وتحقيق المجازات والاستعارات، فإن هذا النوع من الترجمة مما تُسكب فيه(1/234)
العبرات، وترن المترحمون هنالك إلى العثرات، وقلَّما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة العربية، فضلاً عن الدخيل الزحيل القاصر فى العلوم الأدبية، واجتهدتُ كل الاجتهاد، فى تسهيل سبيل الرشاد،
ووضعت الجميع على طرف التمام، ليكون الكتاب كالبدر التمام، وكالشمس فى إفادة الخاص والعام، من غير تطويل يُورث الملام، ولا تقصير يُوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام، فخير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ: "وحسبك من الزاد ما بلغك المحل".
وقال فى آخر تفسيره ما نصه: "وقد تضمن كتابى هذا حاصل التفسير الكبير، الجامع لأكثر التفاسير، وجُلَّ كتاب الكشاف الذى رُزِق له القبول من أساتذة الأطراف والأكتاف، واحتوى على ذلك على النكت المستحسنة الغريبة، والتأويلات المحكمة العجيبة، مما لم يوجد فى سائر تفاسير الأصحاب، أو وُجِدَت متفرقة الأسباب، أو مجموعة طويلة الذيول والأذناب.
أما الأحاديث، فإما من الكتب المشهورة، كجامع الأصول، والمصابيح وغيرها، وإما من كتاب الكشاف والتفسير الكبير ونحوهما، إلا الأحاديث الموردة فى الكشاف فى فضائل السور، فإنَّا قد أسقطناها لأن النقد زَيَّفها إلا ما شَذَّ منها.
وأما الوقوف فللإمام السجاوندى، مع اختصار لبعض تعليلات، وإثبات للآيات لتوقفها على التوقيف.
وأما أسباب النزول، فمن كتاب جامع الأصول، والتفسيرين، أو من تفسير الواحدى.
وأما اللغة، فمن صحاح الجوهرى، ومن التفسيرين كما نُقلا.
وأما المعانى والبيان وسائر المسائل الأدبية، فمن التفسيرين، والمفتاح، وسائر الكتب العربية.
وأما الأحكام الشرعية، فمنهما، ومن الكتب المعتبرة فى الفقه، ولا سيما شرح الوجيز للإمام الرافعى.
وأما التآويل، فأكثرها للشيخ المحقق، المتقى المتقن نجم المِلَّة والدين المعروف بـ "داية" قُدِّس نفسه ورُوِّح رمسه، وطرف منها مما دار بخلدى، وسمحت به ذات يدى غير جازم بأنه المراد من الآية، بل خائف من أن يكون ذلك جرأة منى وخصوصاً فيما لا(1/235)
يعنينى، وإنما شجعنى على ذلك سائر الأئمة الذين اشتهروا بالذوق والوجدان، وجمعوا بين العرفان والإيمان، والإتقان فى معنى القرآن، الذى هو باب واسع، يطمع فى تصنيفه كل طامع، فإن أصبتُ فبها، وإن أخطأتُ فعلى الإمام ما سها، والعذر مقبول عند أهل الكرم والنهى، والله المستعان لنا ولهم فى مظان الخلل والزلل، وعلى رحمته التكلان فى محال الخطأ والخطل، فعلى المرء أن يبذل وسعه لإدراك الحق، ثم الله معين لإرادة الصواب، ومعين لإلهام الصدق.
وكذا الكلام فى بيان الرباطات والمناسبات بين السور والآيات، وفى أنواع التكريرات وأصناف المشتبهات، فإن للخواطر والظنون فيها مجالاً، وللناس الأكياس فى استنباط الوجوه والنسب هناك مقالاً".
ثم مضى فقال: "وإنى لم أمل فى هذا الإملاء إلا إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، فبيَّنتُ أصولهم، ووجوه استدلالاتهم بها، وما ورد عليها من الاعتراضات، والأجوبة عنها.
وأما فى الفروع، فذكرتُ استدلال كل طائفة بالآية على مذهبه، من غير تعصب ومراء وجدال وهراء"..
ثم مضى فقال: "ولقد وُفِّقتُ لإتمام هذا الكتاب فى مدة خلافة علىّ رضى الله عنه وكنا نُقَدِّر إتمامه فى مدة خلافة الخلفاء الراشدين وهى ثلاثون سنة، ولو لم يكن ما اتفق فى أثناء التفسير من وجود الأسفار الشاسعة، وعدم الأسفار النافعة، ومن غموم لا يُعد عديدها، وهموم لا يُنادَى وليدها - لكان يمكن إتمامه فى مدة خلافة أبى بكر، كما وقع لجار الله العلاَّمة".
هذا.. وقد نَوَّه صاحب روضات الجنَّات بمكانة هذا التفسير فقال: "وتفسيره - يريد النيسابورى - من أحسن شروح كتاب الله المجيد، وأجمعها للفوائد اللفظية والمعنوية، وأحوزها للفوائد القشرية واللُّبية، وهو قريب من تفسير مجمع البيان كمَّا وكيفاً، وسِمَة وترتيباً، بزيادة أحكام الأوقاف فى أوائل تفسير الآى، ومراتب التأويل فى آخره، والإشارة إلى جملة من دقائق نكات العربية فى البيِّن".
والكتاب مطبوع على هامش تفسير ابن جرير الطبرى ومتداوَل بين أهل العلم.
* * *(1/236)
7 - تفسير الجلالين لـ (جلال الدين المحلَّى) و (جلال الدين السيوطى)
* التعريف بمؤلفى هذا التفسير:
ألَّف هذا التفسير الإمامان الجليلان، جلا الدين المحلَّى، وجلال الدين السيوطى. أما جلال الدين السيوطى، فقد سبق التعريف به عند الكلام عن تفسيره المسمى بالدُّرِّ المنثور.
وأما جلال الدين المحلَّى، فهو جلال الدين، محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلَّى الشافعى، تفتازانى العرب، الإمام العلاَّمة. قال فى حسن المحاضرة: "ولد بمصر سنة 791 هـ (إحدى وتسعين وسبعمائة) ، واشتغل وبرع فى الفنون فقهاً، وكلاماً، وأُصولاً، ونحواً، ومنطقاً، وغيرها. وأخذ من البدر محمود الأقصرانى، والبرهان البيجورى، والشمس البساطى، والعلاء البخارى، وغيرهم، وكان علاَّمة آية فى الذكاء والفهم، حتى كان بعض أهل عصره يقول فيه: إن ذهنه يثقب الماس، وكان يقول عن نفسه: إن فهمه لا يقبل الخطأ، ولم يك يقدر على الحفظ".
وكان غُرَّة عصره فى سلوك طريق السَلَف، على مبلغ عظيم من الصلاح والورع، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا تأخذه فى الحق لومه لائم، فكان يواجه بالحق أكابر الظَلَمة والحُكَّام، وكانوا يأتون إليه فلا يلتفت إليهم، ولا يأذن لهم فى الدخول عليه، وكان حديد الطبع لا يراعى أحداً فى القول، وقد عُرِض عليه القضاء الأكبر فلم يقبله، وولى تدريس الفقه بالمؤيدية والبرقوقية، وسمع من جماعة، وكان مع هذا متقشفاً فى معيشته يتكسب بالتجارة، وقد ألَّف كتباً كثيرة تُشَد إليها الرِحَال، وهى غاية فى الاختصار، والتحرير والتنقيح، وسلامة العبارة وحسن المزج والحل، وقد أقبل الناس على مؤلفاته وتلقوها بالقبول، وتداولوها فى دراساتهم، فمن مؤلفاته: شرح جمع الجوامع فى الأصول، وشرح المنهاج فى فقه الشافعية، وشرح الورقات فى الأصول، ومنها هذا التفسير الذى نحن بصدده.
توفى - رحمه الله - فى أول يوم من سنة 864 هـ (أربع وستين وثمانمائة من الهجرة) .
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفيه فيه:
اشترك فى هذا التفسير - كما قلنا - الإمامان الجليلان، جلال الدين المحلَّى، وجلال الدين السيوطى.(1/237)
أما جلال الدين المحلَّى، فقد ابتدأ تفسيره من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة، وبعد أن أتمها اخترمته المنية فلم يُفسِّر ما بعدها.
وأما جلال الدين السيوطى - فقد جاء بعد الجلال المحلَّى فكمَّل تفسيره، فابتدأ بتفسير سورة البقرة، وانتهى عند آخر سورة الإسراء، ووضع تفسير الفاتحة فى آخر تفسير الجلال المحلَّى لتكون ملحقة به.
هذا هو الواقع. ولا أظن صاحب كشف الظنون مصيبا حيث يقول عند الكلام على تفسير الجلالين ما نصه: "تفسير الجلالين من أوله إلى آخر سورة الإسراء للعلاَّمة جلال الدين محمد بن أحمد المحلّى الشافعى المتوفى سنة 864هـ (أربع وستين وثمانمائة) ، ولما مات كمّله الشيخ المتبحر جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى المتوفى سنة 911 هـ (إحدى عشرة وتسعمائة) .. وحيث يقول بعد ذلك بقليل: "وكأن المحلَّى لم يُفسِّر الفاتحة، وفسَّرها السيوطى تفسيراً مناسباً".
نعم.. لا أظن صاحب كشف الظنون مصيباً فى ذلك، لأن السيوطى - فى مقدمة هذا التفسير وقبل الكلام على سورة البقرة - يقول بعد الديباجة ما نصه: "هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين فى تكملة تفسير القرآن الكريم، الذى أَلَّفه الإمام المحقق، جلال الدين، محمد بن أحمد، المحلَّى الشافعى رحمه الله، وتتميم ما فاته وهو - يريد ما فات الجلال المحلَّى وقام هو بتفسيره - من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء".
ويقول فى آخر سورة الإسراء ما نصه: "قال مؤلفه: هذا آخر ما كمَّلتُ به تفسير القرآن الكريم، الذى ألَّفه الشيخ الإمام، العالِم العلاَّمة المحقق، جلال الدين المحلَّى الشافعى رضى الله عنه".
هذا هو ناحية تعيين القَدْر الذى فسَّره كل منهما. وأما من الناحية الأخرى وهى ادعاء صاحب كشف الظنون أن المحلَّى لم يُفسِّر الفاتحة، وإنما الذى فسَّرها هو السيوطى، فهى أيضاً دعوى يظهر لنا أنها غير صحيحة وذلك لما يقوله الشيخ سليمان الجمل فى مقدمة حاشيته على هذا التفسير (جـ1 ص7) : "وأما الفاتحة ففسَّرها المحلَّى، فجعلها السيوطى فى آخر تفسير المحلَّى لتكون منضمة لتفسيره، وابتدأ هو من أول سورة البقرة".
ولقوله فى الحاشية نفسها (جـ4 ص626) عند نهاية ما كتبه على تفسير سورة الفاتحة: "إنه - أى الجلال المحلَّى - كان قد شرع فى تفسير النصف الأول، وأنه ابتدأ بالفاتحة، وأنه اخترمته المنية بعد الفراغ وقبل الشروع فى البقرة وما بعدها".(1/238)
هذا.. وقد قال صاحب كشف الظنون بعد ما نقلناه عنه آنفاً بقليل: "ولم يتكلم الشيخان على البسملة، فتكلَّم عليها بأقل مما ينبغى من الكلام بعض العلماء من زبيد وكتب ذلك حاشية بالهامش، وهذا صحيح، فإن الجلال المحلَّى لم يتكلم عن تفسير البسملة مطلقاً فى الجزء الذى فسَّره، لا فى أول سورة الكهف، ولا فى أول فاتحة الكتاب، كذلك الجلال السيوطى، لم يتكلَّم عن تفسيرها مطلقاً فى الجزء الذى فسَّره.
وبعد هذا.. فالجلال المحلَّى، فسَّر الجزء الذى فسَّره بعبارة موجزة محررة، فى غاية الحسن ونهاية الدقة. والجلال السيوطى تابعه على ذلك ولم يتوسع؛ لأنه التزم بأن يتم الكتاب على النمط الذى جرى عليه الجلال المحلَّى، كما أوضح هو ذلك فى مقدمته، وذكر فى خاتمة سورة الإسراء أنه ألَّف الجزء الذى ألَّفه فى قدر ميعاد الكليم، وهو أربعون يوماً، كما ذكر فى هذا الموضوع نفسه: أنه استفاد فى تفسيره من تفسير الجلال المحلَّى، وأنه اعتمد عليه فى الآى المتشابهة، كما أنه اعترف - جازماً - بأن الذى وضعه الجلال المحلَّى فى قطعته أحسن مما وضعه هو بطبقات كثيرة".
وعلى الجملة.. فالسيوطى قد نهج فى تفسيره منهج المحلَّى "من ذكر ما يفهم من كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، والتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة، على وجه لطيف، وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية".
ولا شك أن الذى يقرأ تفسير الجلالين، لا يكاد يلمس فرقاً واضحاً بين طريقة الشيخين فيما فسَّراه، ولا يكاد يحس بمخالفة بينهما فى ناحية من نواحى التفسير المختلفة، اللَّهم إلا فى مواضع قليلة لا تبلغ العشرة كما قيل.
فمن هذه المواضع أن المحلَّى فى سورة (ص) فَسَّرَ "الروح": بأنها جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه. والسيوطى تابعه على هذا التفسير فى سورة الحِجْر ثم ضرب عليه لقوله تعالى فى الآية [85] من سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} فهى صريحة أو كالصريحة فى أن الروح من علم الله تعالى، فالإمساك عن تعريفها أولى.
ومنها: أن المحلَّى قال فى سورة الحج: "الصابئون: فرقة من اليهود"، والسيوطى فى(1/239)
سورة البقرة تابعه على ذلك وزاد عليه: "أو النصارى" بياناً منه لقول ثان ... وهكذا تلمح الخلاف بين الشيخين قليلا نادراً.
ثم إن هذا التفسير، غاية فى الاختصار والإيجاز، حتى لقد ذكر صاحب كشف الظنون عن بعض علماء اليمن أنه قال: "عددتُ حروف القرآن وتفسيره للجلالين فوجدتهما متساويين إلى سورة المزمل. ومن سورة المدثر التفسير زائد على القرآن، فعلى هذا يجوز حمله بغير الوضوء".
ومع هذا الاختصار، فالكتاب قَيِّمٌ فى بابه، وهو من أعظم التفاسير انتشاراً، وأكثرها تداولاً ونفعاً، وقد طُبِع مراراً كثيرة، وظفر بكثير من تعاليق العلماء وحواشيهم عليه، ومن أهم هذه الحواشى: حاشية الجمل، وحاشية الصاوى، وهما متداولتان بين أهل العلم.
وذكر صاحب كشف الظنون: أن عليه حاشية لشمس الدين محمد ابن العلقمى سمَّاها: قبس النيرين، فرغ من تأليفها سنة 952 هـ (اثنين وخمسين وتسعمائة) ، وحاشية مسماة بالجمالين، لمولانا الفاضل نور الدين على بن سلطان محمد القارى نزيل مكة المكرمة، والمتوفى بها عام 1010 هـ (عشر وألف) ، وشرح لجلال الدين محمد بن محمد الكرخى، وهو كبير فى مجلدات سماه مجمع البحرين ومطلع البدرين، وله حاشية صغرى".. ولكن شيئاً مما ذكره صاحب كشف الظنون لم يقع تحت أيدينا، ولم نظفر بالاطلاع عليه.
* * *
8 - السراج المنير.. فى الإعانة على معرفة بعض معانى كلام ربنا الحكيم الخبير - للخطيب الشربينى.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو الإمام العلاَّمة شمس الدين، محمد بن محمد الشربينى، القاهرة الشافعى الخطيب. تلقى العلم عن كثير من مشايخ عصره؛ فمنهم الشيخ(1/240)
أحمد البرلسى، والنور المحلَّى، والبدر المشهدى، والشهاب الرملى، وغيرهم، ولما أنس منه أشياخه ورأوه أهلاً للفتوى والتدريس أجازوه بها فدرَّس وأفتى فى حياتهم، وانتفع به خلائق لا يحصون.
ولقد كان - رحمه الله - على جانب عظيم من الصلاح والورع، وقد أجمع أهل مصر على ذلك، ووصفوه بالعلم والعمل، والزهد والورع، وكثرة التنسك والعبادة. وكان من عادته أن يعتكف من أول رمضان فلا يخرج من الجامع إلا بعد صلاة العيد، وكان إذا حج لا يركب إلا بعد تعب شديد، وكان يؤثر الخمول ولا يكترث بأشغال الدنيا. وعلى الجملة، فقد كان آية من آيات الله تعالى، وحُجَّة من حُجَجه على خلقه. توفى فى عصر يوم الخميس ثانى شعبان سنة 977هـ (سبع وسبعين وتسعمائة من الهجرة) . ومن أهم مؤلفاته: شرحه لكتاب المنهاج وكتاب التنبيه، وهما شرحان عظيمان، جمع فيهما تحريرات أشياخه بعد القاضى زكريا، وأقبل الناس على قراءتهما وكتابتهما إلى حياته، وتفسيره لكتاب الله تعالى، وهو الذى نحن بصدده الآن.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفة فيه:
ذكر مؤلف هذا الكتاب فى مقدمته: أن أئمة السَلَف ألَّفوا فى التفسير كتباً، كل على قدر فهمه ومبلغ علمه، وأنه خطر له أن يقتفى أثرهم، ويسلك طريقهم، ولكنه تردد فى ذلك مدة من الزمن، مخافة أن يدخل تحت الوعيد الوارد فى حق مَنْ فَسَّر القرآن برأيه أو بغير علم، ثم ذكر أنه استخار الله تعالى فى حضرته، بعد أن صلَّى ركعتين فى روضته، وسأله أن يشرح صدره لذلك وييسره له، فشرح الله له صدره، ولما رجع من سفره، كتم ذلك فى سره، حتى قال له شخص من أصحابه: إنه رأى فى المنام أن النبى صلى الله عليه وسلم أو الشافعى يقول: قل لفلان يعمل تفسيراً على القرآن. وذكر المؤلف أنه لم يمض عليه إلا القليل حتى قرر فى وظيفة مشيخة تفسير البيمارستان، وذكر أن جماعة من أصحابه ممن لم شغف بالعلم، طلبوا منه بعد فراغه من شرح منهاج الطالبين، أن يجعل لهم تفسيراً وسيطاً بين الطويل الممل والقصير المخل، فأجابهم إلى ذلك، متمثلاً وصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، حيث قال فيما يرويه عنه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه: "إن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فى الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً" ومقتدياً بالماضين من السَلَف، فى تدوين العلم إبقاءً على الخلف، وذكر أنه ليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بد فى كل زمان من تجديد ما طال به العهد، وقصر للطالبين فيه الجد والجهد، تنبيهاً للمتوقفين، وتحريضاً للمتثبطين، وليكون ذلك عوناً له وللقاصرين أمثاله - كما يقول.(1/241)
وذكر أنه اقتصر فيه على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية، وذكر أن ما يذكره فيه من القراءات فهو من السبع المشهورات. قال: وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوة مدراكها، أو لورودها ولكن بصيغة: "قيل"، ليعلم أن المرضى أولها، وسميته: "السراج المنير فى الإعانة على معرفة بعض معانى كلام ربنا الحكيم الخبير".. ثم قال: وقد تلقيت التفسير - بحمد الله - من تفاسير متعددة رواية، عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم واشتهرت وانتشرت مآثرهم".
وقال فى خاتمة الكتاب: "فدونك تفسيراً كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد، جمع من التفاسير معظمها، ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها، محرراً لدلائل فى هذا الفن، مظهراً لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جن".. إلخ.
وقد قرأتُ فى هذا التفسير فوجدته تفسيراً سهل المأخذ، ممتع العبارة. ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل، نقل فيه صاحبه بعض تفسيرات مأثورة عن السَلَف، كما أنه يذكر أحياناً أقوال مَن سبقه من المفسِّرين كالزمخشرى، والبيضاوى، والبغوى، وقد يُوجِّه ما يذكره من هذه الأقوال ويرتضيها، وقد يناقشها ويرد عليها.
* *
* موقفه من القراءات والأعاريب والحديث:
وقد وفَّى فيه صاحبه بما وعد فلم يذكر من القراءات إلا ما تواتر منها، ولم يُقحم نفسه فيما لا يعنى المفسِّر من ذكر الأعاريب التى لا تَمُتُّ إلى التفسير بسبب. كما أنه وَفَّى بما التزمه من أنه لا يذكر فيه إلا حديثاً صحيحاً أو حسناً، ولهذا نراه يتعقب الزمخشرى والبيضاوى فيما ذكراه من الأحاديث الموضوعة فى فضائل القرآن سورة سورة، كما يُنَبِّه على الأحاديث الضعيفة إن روى شيئاً منها فى تفسيره.
فمثلاً فى آخر سورة آل عمران يقول ما نصه: "روى الطبرى لكن بإسناد ضعيف: "مَن قرأ السورة التى يُذكر فيه آل عمران يوم الجمعة صلَّى الله عليه وملائكته حتى تُحجب الشمس".. أى تغيب، وما رواه البيضاوى تبعاً للزمخشرى وتبعهما ابن عادل من أنه - صلَّى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قرأ سورة آل عمران أُعْطَى بكل آية منها أماناً على جسر(1/242)
جهنم"، فهو من الأحاديث الموضوعة على أُبَىِّ بن كعب فى فضائل السور، فليُتنبه لذلك ويُحذر منه، وقد نبَّه أئمة الحديث قديماً وحديثاً على ذلك، وعابوا مَن أورده من المفسِّرين فى تفاسيرهم، والله أعلم".
وفى آخر سورة الأعراف يقول ما نصه: "والحديث الذى ذكره البيضاوى تبعاً للزمخشرى وهو: "مَنْ قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سداً، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة".. حديث موضوع".
وفى آخر سورة الجاثية يقول ما نصه: "وما رواه البيضاوى تبعاً للزمخشرى من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قرأ سورة حم الجاثية، ستر الله عورته، وسَكّنَ روعته يوم الحساب".. حديث موضوع".
* *
* اهتمامه بالنكت التفسيرية ومشكلات القرآن:
ومما نلحظه فى هذا التفسير، أنه يورد بعض النكت التفسيرية، وبعض الإشكالات والإجابة عنها، تارة بقوله: تنبيه، وتارة بقوله: فإن قيل كذا أُجيب بكذا.
* *
* عنايته بالمناسبات بين الآيات:
كما أنه شديد العناية بذكر المناسبات بين آيات القرآن، عظيم الاهتمام بتقرير الأدلة وتوجيهها.
* *
* موقفه من المسائل الفقهية:
كما أننا نلاحظ عليه أنه يستطرد إلى ذكر الأحكام الفقهية. ومذاهب العلماء وأدلتهم، وإن كان مقلاً فى هذه الناحية، فلا يتوسع ولا يكثر من ذكر الفروع.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [225] من سورة البقرة: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولاكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} نراه يعرض لبعض أقوال العلماء فى معنى اليمين اللَّغو، ثم بعد الفراغ من تفسير الآية يقول: "تنبيه" ثم يذكر ما ينعقد به اليمين، وما يترتب على الحِنث فى اليمين المنعقدة، وهل تجب الكفَّارة بالحِنث فى اليمين الغَموس أو لا تجب؟ فيذكر عن الشافعية أنهم يقولون بوجوبها، وعن بعض العلماء أنه لا كفَّارة فيها كأكثر الكبائر، ويعرض لحكم الحلف بغير الله كالكعبة والنبى والأب غير ذلك.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [229] من سورة البقرة: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} يقول بعد الفراغ من التفسير: "تنبيه: اختلف العلماء فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً، فذهب الأكثر - ومنهم الشافعى رضى الله(1/243)
عنه - إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج، فالحر يملك على زوجته الأَمَة ثلاث تطليقات، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة إلا طلقتين. وذهب الأقل - ومنهم أبو حنيفة رضى الله عنه - إلى أن الاعتبار بالمرأة فى عدد الطلاق كالعِدَّة، فيملك العبد على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقات، ولا يملك الحر على زوجته الأَمَة إلا طلقتين".
* *
* خوضه فى الإسرائيليات:
هذا.. ولم يخل تفسير الخطيب، من ذكر بعض القَصص الإسرائيلى الغريب، وذلك بدون أن يتعقبه بالتصحيح أو التضعيف.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [16] من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} ... الآية، نراه يروى خبراً طويلاً عن كعب فيه: أنه صاح ورشَان عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يُخْلَقوا. وصاح طاووس فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنه يقول: كما تدين تُدَان ... إلى آخر ما ذكره من صيحات حيوانات متعددة، ومعانى هذه الصيحات، ثم يروى ما يشبه هذا عن مكحول، وعن فرقد السنجى كما يروى بعد ذلك أن جماعة من اليهود سألوا ابن عباس عن معانى ما تقوله بعض الطيور، وما كان من جواب ابن عباس عن ذلك، وهو شبيه بما تقدَّم أيضاً، ومع كون القصة فى نهاية الغرابة والبُعْد فإن الخطيب يمر عليها مَرّ الكرام، ولا يُعَقِّب عليها بكلمة واحدة.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة النمل أيضاً: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} نراه يقص لنا عن وهب بن منَّبه وغيره قصة غريبة فيها بيان نوع هدية بلقيس لسليمان، وما كان اختبارها له. وما كان من سليمان عليه السلام من إجابته على ما اختبرته به، وإظهاره لعظمة مُلْكه وقوة سلطانه، مما يبعث الدهشة ويثير العجب، ومع ذلك لا يُعَقِّب على ما رواه بكلمة واحدة.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [123] من سورة الصافات: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} .. نراه يقول: "تنبيه أذكر فيه شيئاً من قصته عليه السلام".. ثم يروى لنا قصة طويلة وعجيبة عن علماء السير والأخبار، وبعد الفراغ منها لا يتعقبها بتصحيح أو تضعيف.(1/244)
ولكن الخطيب إن مَرّ على مثل هذه القصص بدون أن يُعَقِّب عليها، لا يرضى لنفسه أن يَمُرَّ على قصة فيها ما يخل بمقام النبوة إلا بعد أن يُعَقِّب عليها بما يُظهر بطلانها وعدم صحتها.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات: [21، 22، 23، 24] من سورة [ص] : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} ... الآيات، إلى آخر القصة، نراه يذكر لنا عبارة الفخر الرازى التى ذكرها فى تفسيره لتفنيد الروايات الباطلة فى هذه القصة، وتقرير ما هو لائق فى حق نبى الله داود عليه السلام.
... وهكذا نلاحظ على هذا التفسير أنه يغلب عليه الجانب القَصصى بالنسبة لغيره من بقية جوانب التفسير.
* *
* كثرة نقوله عن تفسير الفخر الرازى:
هذا ولا يفوتنا أن الخطيب الشربينى، كثيراً ما يعتمد على التفسير الكبير للفخر الرازى، والذى يقرأ فى تفسيره هذا، يجد أنه يكثر من النقول عنه.
والكتاب مطبوع فى أربعة أجزاء كبار، ومتداوَل بين أهل العلم، لما فيه من السهولة والجمع لخلاصة التفاسير التى سبقته مع الدقة والإيجاز.
* * *
9 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (لأبى السعود)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى، العمادى، الحنفى المولود فى سنة 983 هـ (ثلاث وتسعين وثمانمائة من الهجرة) ، بقرية قريبة من القسطنطينية، وهو من بيت عُرف أهله بالعلم والفضل حتى قال بعضهم فيه: تَربَّى فى حجر العلم حتى رَبَى، وارتضع ثدى الفضل إلى أن ترعرع وحَبَا، ولا زال يخدم العلوم الشريفة حتى رحب باعه، وامتد ساعده واشتد اتساعه".
قرأ كثيراً من كتب العلم على والده، وتتلمذ لكثير من جلَّة العلماء، فاستفاد منهم علما جمّاً، ثم طارت سمعته، وفاضت شهرته، وعظم صيته، وتولى التدريس فى كثير من المدارس التركية، ثم قُلِّد قضاء بروسة ثم نُقل إلى قضاء القسطنطينية، ثم نُقل إلى قضاء ولاية العسكر فى ولاية روم أيلى، ودام على قضائها مدة ثمان سنين، ثم تولى أمر الفتوى بعد ذلك، فقام بها خير قيام بعد أن اضطرب أمرها بانتقالها من يد إلى يد، وكان ذلك سنة 952 هـ (اثنتين وخمسين وتسعمائة من الهجرة) ومكث فى منصب(1/245)
الإفتاء نحواً من ثلاثين سنة أظهر فيها الدقة العلمية التامة، والبراعة فى الفتوى والتفنن فيها، وقد ذكروا عنه أنه كان يكتب جواب الفتوى على منوال ما يكتبه السائل من الخطاب، فإن كان السؤال منظوماً، كان الجواب منظوماً كذلك، مع الاتفاق بينهما فى الوزن والقافية، وإن كان السؤال نثراً مسجعاً، كان الجواب مثله، وإن كان بلغة العرب فالجواب بلغة العرب، وإن كان بلغة التُرْك، فالجواب بلغة التُرْك ... وهكذا مما يشهد للرجل بسعة أُفقه وغزارة مادته، ولقد قرأنا فى ترجمته شيئاً من الاستفتاء والفتوى، فوجدنا صدق ما قيل عنه فى ذلك.
وكان - رحمه الله - كما قيل عنه من الذى قعدوا من الفضائل والمعارف على سنامها وغاربها، وسارت بذكره الركبان فى مشارق الأرض ومغاربها، ولقد حاز قصب السبق بين أقرانه، ولم يقدر أحد أن يجاريه فى ميدانه، ولقد كان اشتغاله بالتدريس وتنقله بين كثير من المدارس وتوليه للقضاء ثم الفتوى سبباً عاتقاً له عن التفرغ والتصنيف والتأليف، ولكنه اختلس فرصاً من وقته فصرفها إلى كتابة التفسير. فأخرج الناس كتابه الذى نحن بصدده، كما أنه كتب بعض الحواشى على تفسير الكشاف، وكتب حاشية على العناية من أول كتاب البيع من الهداية. وعلى الجملة فقد جمع صاحبنا بين العلم والأدب، فبينما نراه مُجوِّداً فيما كتبه وألَّفه من كتب العلم، نراه مبدعاً غاية الإبداع فيما أُثِر عنه من منثور ومنظوم، ولا أظن أن صاحبه الذى رثاه بعد وفاته قد تغالى فى الثناء، أو اشتط فى الرثاء حيث يقول فى مرثيته الطويلة:
ما العلم إلا ما حويتَ حقيقة ... وعلوم غيرك فى الورى كسراب
توفى رحمه الله بمدينة القسطنطينية، ودفن بجوار أبى أيوب الأنصارى، وذلك فى أوائل جمادى الأولى سنة 982 هـ (اثنتين وثمانين وتسعمائة من الهجرة) . فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
قلنا: إن صاحب هذا التفسير شغُل كثيراً بالتدريس والقضاء والفتوى، ولكنه اختلس فرصاً من وقته ألَّف فيها كتابه فى التفسير، قلنا هذا فيما سبق، والمؤلف نفسه يقرر هذا فى مقدمة تفسيره، ولم يُعرف أنه أخرج تفسيره للناس دفعة واحدة، بل ذكروا أنه ابتدأ فيه، فلما وصل إلى آخر سورة (ص) عرض له من الشواغل ما جعله يقف فى تفسيره عند هذا الحد، فبيَّض ما كتب فى شعبان سنة 973هـ (ثلاث وسبعين وتسعمائة من الهجرة) ثم أرسله إلى الباب العالى، فتلقاه السلطان سليمان(1/246)
خان بحسن القبول، وأنعم عليه بما أنعم، وزاد فى وظيفته كل يوم خمسمائة درهم، ثم تيَّسر له بعد ذلك إتمامه، فأتمه بعد سنة، ثم أرسله إلى السلطان ثانياً بعد إتمامه، فقابله السلطان بمزيد لطفه وإنعامه، وزاد فى وظيفته مرة أخرى.
والحق أن هذا التفسير غاية فى بابه، ونهاية فى حسن الصوغ وجمال التعبير، كشف فيه صاحبه عن أسرار البلاغة القرآنية، بما لم يسبقه أحد إليه، ومن أجل ذلك ذاعت شهرة هذا التفسير بين أهل العلم، وشهد له كثير من العلماء بأنه خير ما كُتب فى التفسير، فصاحب "العقد المنظوم فى ذكر أفاضل الروم"، يقول عنه فى كتابه: "وقد أتى فيه بما لم تسمح به الأزمان، ولم تقرع به الآذان، فصدق المثل السائر: كم ترك الأول للآخر".
وصاحب "الفوائد البهية فى تراجم الحنفية" يقول: "وقد طالعتُ تفسيره وانتفعتُ به وهو تفسير حسن، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، متضمن لطائف ونكات، ومشتمل على فوائد وإشارات". ونقل عن صاحب "الكشف" أنه قال: "انتشرت نسخه فى الأقطار، ووقع له التلقى بالقبول من الفحول الكبار، لحسن سبكه وصدق تعبيره، فصار يقال له: "خطيب المفسرين". ومن المعلوم أن تفسير أحد سواه بعد الكشاف والقاضى لم يبلغ إلى ما بلغه من رتبة الاعتبار".
ولم يظفر هذا التفسير - كغيره من التفاسير - بكثرة الحواشى والتعليقات التى تكشف عن مراده. أو تتعقبه فى بعض ما يقول، ولم يقع تحت يدنا شئ من ذلك، غير أننا نجد فى "كشف الظنون" عند الكلام عن هذا التفسير، ذكر ما كتب عليه من التعليقات فمن ذلك: تعليقة الشيخ أحمد الرومى الآحصارى المتوفى سنة 1041 هـ (إحدى وأربعين وألف من الهجرة) ، من سورة الروم إلى سورة الدخان. وتعليقة الشيخ رضى الدين بن يوسف القدسى، علَّقها إلى قريب من النصف، وأهداها إلى المولى أسعد بن سعد الدين، حين دخل المقدس زائراً، وكان دأبه فيها نقل كلام العلامتين الزمخشرى والبيضاوى، وكلام ذلك الفاضل "أبى السعود" بقوله: قال الكشاف، وقال القاضى، وقال المفتى، ثم المحاكمة فيما بينهم. هذا ما ذكره صاحب كشف الظنون، ولا نعلم أحداً كتب عليه غير من ذكرهما.
قرأت مقدمة الكتاب لمؤلفه، فوجدته يثنى كثيراً على تفسير الكشاف، وأنوار التنزيل للبيضاوى، ويذكر أنه قرأهما قبل أن يؤلف تفسيره، ثم يقول: "ولقد كان فى سوابق الأيام، وسوالف الدهور والأعوام، أوان اشتغالى بمطالعتهما وممارستهما، وزمان انتصابى لمفاوضتهما ومدارستهما، يدور فى خلدى على استمرار، آناء الليل(1/247)
وأطراف النهار، أن أنظم درر فوائدهما فى سمط دقيق، وأرتب غرر فرائدهما على ترتيب أنيق، وأضيف إليهما ما ألفيته فى تضاعيف الكتب الفاخرة من جواهر الحقائق، وصادفته فى أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق، وأسلك خلالها بطريق الترصيع، على نسق أنيق وأسلوب بديع، حسبما تقتضيه جلاله شأن التنزيل، ويستدعيه جزالة نظمه الجليل، ما سنح للفكر العليل بالعناية الربانية، وسمح به النظر الكليل بالهداية السبحانية، من عوارف معارف تمتد إليها أعناق الهمم من كل ماهر لبيب. وغرائب رغائب ترنو إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب، وتحقيقات رصينة تقيل عثرات الأفهام فى مداحض الأقدام، وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام من خواطر الآنام، فى معارك أفكار تشتبه فيها الشئون، ومدارك أنظار تختلط فيها الظنون، وأبرز من وراء أستار الكمون، من دقائق السر المخزون فى خزائن الكتاب المكنون، ما تطمئن إليه النفوس، وتقر به العيون، من خفايا الرموز وخبايا الكنوز.. ناوياً أن أسميه عند تمامه، بتوفيق الله وإنعامه "إرشاد العقل السليم، إلى مزايا الكتاب الكريم".
ومن هنا تبين لنا، أن أبا السعود يعتمد فى تفسيره على تفسير الكشاف والبيضاوى وغيرهما ممن تقدمه، غير أنه لم يغتر بما جاء فى الكشاف من الاعتزالات. ولهذا لم يذكرها إلا على جهة التحذير منها، مع جريانه على مذهب أهل السُّنَّة فى تفسيره، ولكن نجده قد وقع فيما وقع فيه صاحب الكشاف، وصاحب أنوار التنزيل من أنه ذكر فى آخر كل سورة حديثاً عن النبى صلى الله عليه وسلم فى فضلها، وما لقارئها من الثواب والأجر عند الله، مع أن هذه الأحاديث موضوعة باتفاق أهل العلم جميعاً.
* *
* عنايته بالكشف عن بلاغة القرآن وسر إعجازه:
قرأت فى هذا التفسير فلاحظت عليه - غير ما تقدم - أنه كثير العناية بسبك العبارة وصوغها، مولع كل الولوع بالناحية البلاغية للقرآن، فهو يهتم بأن يكشف عن نواحى القرآن البلاغية، وسر إعجازه فى نظمه وأسلوبه، وبخاصة فى باب الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، والتقديم والتأخير، والاعتراض والتذييل، كما أنه يهتم بإبداء المعانى الدقيقة التى تحملها التراكيب القرآنية بين طيَّاتها، مما لا يكاد يظهر إلا لمن أوتى حظاً وافراً من المعرفة بدقائق اللغة العربية، ويكاد يكون صاحبنا هو أول المفسِّرين المبرزين فى هذه الناحية.
* *
* اهتمامه بالمناسبات وإلمامه ببعض القراءات:
ونلحظ على أبى السعود فى تفسيره أنه كثيراً ما يهتم بإبداء وجوه المناسبات بين(1/248)
الآيات، كما نلحظ عليه أنه يعرض أحياناً لذكر القراءات، ولكن بقدر ما يوضح به المعنى، ولا يتوسع كما يتوسع غيره.
* *
* إقلاله من رواية الإسرائيليات:
ومن ناحية أخرى نجد أنه مُقِلٌ فى سرد الإسرائيليات، غير مُولع بذكرها، وإن ذكرها أحياناً فإنه لا يذكرها على سبيل الجزم بها، والقطع بصحتها، بل يُصَدِّر ذكر الرواية بقوله: روى، أو قيل، مما يُشعر بضعفها، وإن كان لا يُعَقَّب عليها بعد ذلك، ولعله يكتفى بهذه الإشارة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة النمل: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} يقول: رُوى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوارى وحليهم الأساور والأطواق ... إلى آخر ما ذكره من القصة العجيبة الغريبة، ومع ذلك فلم يُعَقِّب عليها ولا بكلمة واحدة، ولعله اكتفى - كما قلت - بما يشير إليه لفظ "رُوى" من عدم صحة ما ذكره.
* *
* روايته عن بعض مَن اشتهر بالكذب:
كما نلاحظ عليه أنه يروى بعض القصص عن طريق الكلبى عن أبى صالح، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [15] وما بعدها من سورة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} ... الآيات إلى آخر القصة، نجده يقول: وأصل قصتهم ما رواه الكلبى عن أبى صالح: أن عمرو بن عامر من أولاد سبأ، وبينهما أثنى عشر أباً، وهو الذى يقال له "مزيقيا بن ماء السماء"، أخبرته "طريفة" الكاهنة بخراب سد مأرب، وتغريق سيل العرم الجنَّتين.. ويمضى فى ذكر روايات أخرى عن رجال آخرين مع العلم أن الكلبى مُتَّهم بالكذب، فقد قال السيوطى فى خاتمة الدر المنثور ما نصه: "الكلبى اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه فى مرضه: كل شئ حدَّثتكم عن أبى صالح كذب" ولكن نجد أبا السعود، يخلص من تبعة هذه الروايات التى سردها بقوله أخيراً: "والله تعالى أعلم" وهذا يُشعر بأنه يشك فى صدقها وصحتها.
* *
* إقلاله من ذكر المسائل الفقهية:
كذلك نجد أبا السعود - رحمه الله - يتعرض فى تفسيره لبعض المسائل الفقهية، ولكنه مُقِلٌ جداً، ولا يكاد يدخل فى المناقشات الفقهية والأدلة المذهبية، بل نجده يسرد المذاهب فى الآية ولا يزيد على ذلك.(1/249)
فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [225] من سورة البقرة: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} .. الآية، نجده يعرض للخلاف المذهبى فى تحديد معنى اليمين اللغو فيقول: "وقد اختُلِفَ فيه، فعندنا هو أن يحلف على شئ يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه، فإنه لا يقصد فيه الكذب. وعند الشافعى - رحمه الله - هو قول العرب: لا واللهِ، وبلى واللهِ، مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال" ولا يزيد على ذلك بل يمضى فينزل الآية على قول الحنفية.
* *
* تناوله لما تحتمله الآيات من وجوه الإعراب:
كما نلحظ عليه أنه يعرض أحياناً للناحية النحوية إذا كانت الآية تحتمل أوجهاً من الإعراب، ويُنزل الآية على اختلاف الأعاريب، ويُرَجِّح واحداً منها ويدلل على رجحانه.
وعلى الجملة.. فالكتاب دقيق غاية الدقة، بعيد عن خلط التفسير بما لا يتصل به، غير مُسرف فيما يضطر إليه من التكلم عن بعض النواحى العلمية، وهو مرجع مهم يعتمد عليه كثير ممن جاء بعده من المفسِّرين، وقد طُبع هذا التفسير مراراً، وهو يقع فى خمسة أجزاء متوسطة الحجم.
* * *
10 - روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى (للألوسى) .
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو: أبو الثناء، شهاب الدين، السيد محمود أفندى الألوسى البغدادى. ولد فى سنة 1217 هـ (سبع عشرة ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية) ، فى جانب الكرخ من بغداد.
كان رحمه الله شيخ العلماء فى العراق، وآية من آيات الله العظام، ونادرة من نوادر الأيام. جمع كثيراً من العلوم حتى أصبح علاَّمة فى المنقول والمعقول، فهَّامة فى الفروع والأصول، مُحَدِّثاً لا يُجارَى ومُفَسِّراً لكتاب خالد النقشبندى، والشيخ على السويدى، وكان رحمه الله غاية فى الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه، وكان كثيراً مما ينشد:
سهرى لتنقيح العلوم ألذُّلى ... من وصل غانية وطيب عناق
اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس فى عدة مدارس،(1/250)
وعندما قُلِّد إفتاء الحنفية، شرع يُدَرِّس سائر العلوم فى داره الملاصقة لجامع الشيخ عبد الله العاقولى فى الرصافة. وقد تتلمذ له وأخذ عنه خلق كثير من قاصى البلاد ودانيها، وتخرَّج عليه جماعات من الفضلاء من بلاد مختلفة كثيرة، وكان - رحمه الله - يُواسى طلبته من ملبسه ومأكله، ويُسكنهم البيوت الرفيعة من منزله، حتى صار فى العراق العَلَمُ المفرد، وانتهت إليه الرياسة لمزيد فضله الذى لا يُجحد، وكان نسيجٌ وحده فى النثر وقوة التحرير، وغزارة الإملاء وجزالة التعبير، وقد أملى كثيراً من الخطب والرسائل، والفتاوى والمسائل، ولكن أكثر ذلك - على قرب العهد - دَرَسَ وَعَفت آثاره، ولم تظفر الأيدى إلا بالقليل منه، وكان ذا حافظة عجيبة. وفكرة غريبة، وكثيراً ما كان يقول: "ما استودعتُ ذهنى شيئاً فخاننى، ولا دعوتُ فكرى لمعضلة إلا وأجابنى". قُلِّد إفتاء الحنفية فى السنة الثامنة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية، وقبل ذلك بأشهر، ولى أوقاف المدرسة المرجانية، إذا كانت مشروطة لأعلم لأهل البلد، وتحقق لدى الوزير الخطير علىّ رضا باشا، أنه ليس فيها مَن يدانيه من أحد. وفى شوَّال سنة 1263 هـ (ثلاث وستين ومائتين بعد الألف) انفصل من منصب الإفتاء، وبقى مشتغلاً بتفسير القرآن الكريم حتى أتمه، ثم سافر القسطنطينية فى السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف، فعرض تفسيره على السلطان عبد المجيد خان، فنال إعجابه ورضاه، ثم رجع منها سنة 1269 هـ (تسع وستين ومائتين بعد الألف) .
وكان - رحمه الله - عالماً باختلاف المذاهب، مطلعاً على الملل والنحل، سَلَفى الاعتقاد، شافعى المذهب، إلا أنه فى كثير من المسائل يُقلِّد الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان رضى الله عنه، وكان فى آخر أمره يميل إلى الاجتهاد. ولقد خَلَّف - رحمه الله - للناس ثروة علمية كبيرة ونافعة، فمن ذلك تفسيره لكتاب الله، وهو الذى نحن بصدده الآن، وحاشيته على القطر، كتب منها فى الشباب إلى موضع الحال، وبعد وفاته أتمها ابنه السيد نعمان الألوسى، وشرح السلم فى المنطق، وقد فُقِد، ومنها الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية، والأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية، ودُرَّة الغواص فى أوهام الخواص، والنفحات القدسية فى المباحث الإمامية، والفوائد السنية فى علم آداب البحث.
وقد توفى رحمه الله فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة 1270 هـ (سبعين ومائتين بعد الألف من الهجرة) ، ودُفن مع أهله فى مقبرة الشيخ معروف الكرخى فى الكرخ، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
*(1/251)
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلف هذا التفسير فى مقدمته أنه منذ عهد الصغر، لم يزل متطلباً لاستكشاف سر كتاب الله المكتوم، مترقباً لارتشاف رحيقه المختوم، وأنه طالما فرق نومه لجمع شوارده، وفارق قومه لوصال خرائده، لا يرفل فى مطارف اللهو كما يرفل أقرانه، ولا يهب نفائس الأوقات لخسائس الشهوات كما يفعل إخوانه، وبذلك وفَّقه الله للوقوف على كثير من حقائقه، وحل وفير من دقائقه، وذكر أنه قبل أن يكمل سنه العشرين، شرع يدفع كثيراً من الإشكالات التى ترد على ظاهر النظم الكريم، ويتجاهر بما لم يظفر به فى كتاب من دقائق التفسير، ويعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذى ذهن خطير، وذكر أنه استفاد من علماء عصره، واقتطف من أزهارهم، واقتبس من أنوارهم، وأودع علمهم صدره، وأفنى فى كتابة فوائدهم حبره ... ثم ذكر أنه كثيراً ما خطر له أن يحرر كتاباً يجمع فيه ما عنده من ذلك وأنه كان يتردد فى ذلك، إلى أن رأى فى بعض ليالى الجمعة من شهر رجب سنة 1252 هـ (اثنتين وخمسين ومائتين بعد الألف من الهجرة) ، أن الله جَلّ شأنه أمره بطى السماوات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض، فرفع يداً إلى السماء، وخفض الأخرى إلى مستقر الماء، ثم انتبه من نومه وهو مستعظم لرؤيته، فجعل يفتش لها عن تعبير، فرأى فى بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فشرع فيه فى الليلة السادسة عشرة من شهر شعبان من السنة المذكورة، وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة، وذلك فى عهد السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان، وذكر فى خاتمته أنه انتهى منه ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 1267 هـ (سبع وستين ومائتين بعد الألف) ، ولما انتهى منه جعل يفكر ما اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر، وتبتش من سماعه الخواطر، فعرض الأمر على وزير الوزراء علىّ رضا باشا. فسمَّاه على الفور: "روح المعانى، فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى".
هذه هى قصة تأليف هذا التفسير، كما ذكرها صاحبه عليه رضوان الله.
وقد ذكروا أن سلوكه فى تفسيره هذا كان أمراً عظيماً، وسراً من الأسرار غريباً، فإن نهاره كان للإفتاء والتدريس وأول ليلة لمنادمة مستفيد وجليس، فيكتب بأواخر الليل منه ورقات، فيعطيها صباحاً للكُتَّاب الذين وظَّفهم فى داره فلا يكملونها تبييضاً إلا فى نحو عشر ساعات.
* *
* مكانة هذا التفسير من التفاسير التى تقدمته:
ثم إن هذا التفسير - والحق يقال - قد أفرغ فيه مؤلفه وسعه، وبذل مجهوده حتى أخرجه للناس كتاباً جامعاً لآراء السَلَف رواية ودراية، مشتملاً على أقوال الخَلَف بكل(1/252)
أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من التفاسير، فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية، وتفسير أبى حيان، وتفسير الكشاف، وتفسير أبى السعود، وتفسير البيضاوى، وتفسير الفخر الرازى، وغيرها من كتب التفسير المعتبرة، وهو إذا نقل عن تفسير أبى السعود يقول - غالباً -: قال شيخ الإسلام. وإذا نقل عن تفسير البيضاوى يقول - غالباً -: قال القاضى، وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازى يقول - غالباً -: قال الإمام. وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حَكَماً عدلاً بينها، ويجعل من نفسه نقَّاداً مُدققاً، ثم يبدى رأيه حراً فيما ينقل، فتراه كثيراً ما يعترض على ما ينقله عن أبى السعود، أو عن البيضاوى، أو عن أبى حيان، أو عن غيرهم. كما تراه يتعقب الفخر الرازى فى كثير من المسائل، ويرد عليه على الخصوص فى بعض المسائل الفقهية، انتصاراً منه لمذهب أبى حنيفة، ثم إنه إذا استصوب رأياً لبعض مَن ينقل عنهم، انتصر له ورجَّحَه على ما عداه.
* *
* موقف الألوسى من المخالفين لأهل السُّنَّة:
والألوسى سَلَفى المذهب سُّنِّى العقيدة، ولهذا نراه كثيراً ما يُفَنِّد آراء المعتزلة والشيعة، وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [15] من سورة البقرة: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .. يقول بعد كلام طويل ما نصه: " ... وإضافته - أى الطغيان - إليهم، لأنه فعلهم الصادر منهم، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة، إنما هو بهذا الاعتبار، لا باعتبار المحلية والاتصاف، فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد استقلالاً من غير توقف على إذن الفعَّال لما يريد، فإنه اعتبار عليه غبار، بل غبار ليس له اعتبار، فلا تهولنك جعجعة الزمخشرى وقعقعته".
وانظر إلى ما كتبه قبل ذلك عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من السورة نفسها: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} تجده يطيل بما لا يتسع لذكره المقام هنا، من بيان إسناد الختم إليه عَزَّ وجلَّ على مذهب أهل السُّنَّة، ومن ذكر ما ذهب إليه المعتزلة فى هذه الآية وما ردَّ به عليهم، وفنَّد به تأويلهم الذى يتفق مع مذهبهم الاعتزالى.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [11] من سورة الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين} .. يقول ما نصه: "وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضى الله(1/253)
تعالى عنهم، بأنهم آثروا دنياهم، على آخرتهم، حيث انفضُّوا إلى اللَّهو والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التى هو عماد الدين، وأفضل من كثير من العبادات، لا سيما مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى أن ذلك قد وقع مراراً منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضُّوا، والقصة كانت فى أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلى بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضُّون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يُقتات به لو لم ينفضُّوا، ولذا لم يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهقى فى شُعَب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغنى - والله تعالى أعلم - أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يُلتفت إليه ولا يُعَوِّل عند المحدِّثين عليه. وإن أريد بها غيرها فليبين وليثبت صحته، وأنَّى بذلك؟ وبالجملة: الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم - وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى - سفه ظاهر وجهل وافر.
* الألوسى والمسائل الكونية:
ومما نلاحظه على الألوسى فى تفسيره، أنه يستطرد إلى الكلام فى الأُمور الكونية. ويذكر كلام أهل الهيئة وأهل الحكمة، ويقر منه ما يرتضيه، ويُفنَّد ما لا يرتضيه، وإن أردت مثالاً جامعاً، فارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات [38، 39، 40] من سورة يس: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم * والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم * لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ..
وارجع إليه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [12] من سورة الطلاق: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} فسترى منه توسعاً فى هذه الناحية.
* *
* كثرة استطراده للمسائل النحوية:
كذلك يستطرد الألوسى إلى الكلام فى الصناعة النحوية، ويتوسع فى ذلك أحياناً إلى حد يكاد يخرج به عن وصف كونه مفسِّراً، ولا أحيلك على نقطة بعينها، فإنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك.
* *
*(1/254)
موقفه من المسائل الفقهية:
كذلك نجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فإنه لا يمر عليها إلا إذا استوفى مذاهب الفقهاء وأدلتهم مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية: [236] من سورة البقرة: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين} .. يقول ما نصه: وقال الإمام مالك: المحسنون: المتطوعون، وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب، وعندنا: هى واجبة للمطلَّقات فى الآية، مستحبَة لسائر المطلَّقات. وعند الشافعى رضى الله عنه فى أحد قوليه: هو واجبة لكل زوجة مطلَّقة إذا كان الفراق من قِبَل الزوج إلا التى سمى لها وطُلِّقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم فى قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} لأنه يحمل المطلق على المقيد، قال بالقياس، وجعله مقدَّماً على المفهوم، لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك، بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات، فلا ينافى الوجوب، فلا يكون صارفاً للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقاً".
وإذا أردت أن تتأكد من أن الألوسى غير متعصب لمذهب بعينه فارجع إلى البحث الذى أفاض فيه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [228] من سورة البقرة: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} ... الآية، تجده بعد أن يذكر مذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، وأدلة كل منهم، ومناقشاتهم يقول: "وبالجملة، كلام الشافعية فى هذا المقام قوى، كما لا يخفى على مَن أحاط بأطراف كلامهم، واستقرأ ما قالوه، تأمل ما دفعوا به من أدلة مخالفيهم".
* *
* موقفه من الإسرائيليات:
ومما نلاحظ على الألوسى أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة التى حشا بها كثير من المفسِّرين تفاسيرهم وظنوها صحيحة، مع سخرية منه أحياناً.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [12] من سورة المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} .. نجده يقص علينا قصة عجيبة عن عوج بن عنق، يرويها عن البغوى، ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه: "وأقول: قد(1/255)
شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفى فتاوى العلاَّمة ابن حجر، قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام، ولم يسلم من الكفار أحد. وقال ابن القيم: من الأُمور التى يُعرف بها كون الحديث موضوعاً، أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق. وليس العجب مِن جرأة مَن وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى، إنما العجب ممن يُدخل هذا الحديث فى كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبيِّن أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.. ثم مضى الألوسى فى تفنيد هذه القصة بما حكاه عن غير مَن تقدّم من العلماء الذين استنكروا هذه القصة الخرافية.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [38] من سورة هود: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} .. نجده يروى أخباراً كثيرة فى نوع الخشب الذى صُنعت منه السفينة، وفى مقدار طولها وعرضها ارتفاعها، وفى المكان الذى صُنعت فيه.. ثم يُعقِّب على كل ذلك بقوله: "وسفينة الأخبار فى تحقيق الحال فيما رأى لا تصلح للركوب فيها، إذ هى غير سالمة عن عيب، فالحرى بحال مَن لا يميل إلى الفضول، أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفُلْك حسبما قص الله تعالى فى كتاب، ولا يخوض فى مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، ومن أى خشب صنعها، وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السُّنَّة الصحيحة".
* *
* تعرضه للقراءات والمناسبات وأسباب النزول:
ثم إن الألوسى يعرض لذكر القراءات ولكنه لا يتقيد بالمتواتر منها، كما أنه يعنى بإظهار وجه المناسبات بين السور كما يعنى بذكر المناسبات بين الآيات ويذكر أسباب النزول للآيات التى أنزلت على سبب، وهو كثير الاستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعانى اللغوية.
* *
* الألوسى والتفسير الإشارى:
ولم يفت الألوسى أن يتكلم عن التفسير الإشارى بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، ومن هنا عَدَّ بعض العلماء تفسيره هذا فى ضمن كتب(1/256)
التفسير الإشارى، كما عَدَّ تفسير النيسابورى فى ضمنها كذلك، ولكنى رأيت أن أجعلهما فى عِداد كتب التفسير بالرأى المحمود، نظراً إلى أنه لم يكن مقصودهما الأهم هو التفسير الإشارى، بل كان ذلك تابعاً - كما يبدو - لغيره من التفسير الظاهر، وهذه - كما قلت من قبل - مسألة اعتبارية لا أكثر ولا أقل، وإنما أردت أن أُبيِّن جهتى الاعتبار.
وجملة القول.. فروح المعانى للعلاَّمة الألوسى ليس إلا موسوعة تفسيرية قيِّمة. جمعت جُلَّ ما قاله علماء التفسير الذين تقدَّموا عليه، مع النقد الحر، والترجيح الذى يعتمد على قوة الذهن وصفاء القريحة، وهو وإن كان يستطرد إلى نواح علمية مختلفة، مع توسع يكاد يخرجه عن مهمته كمفسِّر إلا أنه متزن فى كل ما يتكلم فيه، مما يشهد له بغزارة العلم على اختلاف نواحيه، وشمول الإحاطة بكل ما يتكلم فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء، إنه سميع مجيب.
وبعد ... فهذه هى أهم كتب التفسير بالرأى الجائز، وهناك كتب أخرى تدخل فى هذا النوع من التفسير، ولها أهميتها وقيمتها، كما أن لها شهرتها الواسعة بين أهل العلم الذين يعنون بالتفسير، غير أنى أمسكت عنها هنا مخافة التطويل، ولعدم إمكان الحصول على بعضها، وأحسب أن فى هذا القدر كفاية وغنى عن كتب أخرى كثيرة.
* * *(1/257)
التفسير بالرأى المذموم.. أو تفسير الفرقة المبتدعة
* تمهيد فى بيان نشأة الفِرَق الإسلامية:
جرى التفسير منذ زمن النبوة إلى زمن أتباع التابعين، على طريقة تكاد تكون واحدة، فخَلَف كل عصر يحمل التفسير عمَّن سلف بطريق الرواية والسماع، وفى كل عصر من هذه العصور، تتجدد نظرات تفسيرية، لم يكن لها وجود قبل ذلك، وهذا راجع إلى أن الناس كلما بعدوا عن عصر النبوة ازدادت نواحى الغموض فى التفسير. فكان لا بد للتفسير من أن يتضخم كلما مرَّت عليه السنون.
لم يكن هذا التضخم فى الحقيقة إلا محاولات عقلية، ونظرات اجتهادية، قام بها أفراد ممن لهم عناية بهذه الناحية. غير أن هذه الناحية العقلية فى التفسير لم تخرج عن قانون اللغة، ولم تتخط حدود الشريعة، بل ظلَّت محتفظة بصبغتها العقلية والدينية، فلم تتجاوز دائرة الرأى المحمود إلى دائرة الرأى المذموم الذى لا يتفق وقواعد الشرع.
ظلَّ الأمر على ذلك إلى أن قامت الفرق المختلفة، وظهرت المذاهب الدينية المتنوعة، ووجِد من العلماء من يحاول نُصرة مذهبه والدفاع عن عقيدته بكل وسيلة وحيلة. وكان القرآن هو هدفهم الأول الذى يقصدون إليه جميعاً، كلٌ يبحث فى القرآن ليجد فيه ما يُقَوِّى رأيه ويُؤَيِّد مذهبه، وكلٌ واجد ما يبحث عنه ولو بطريق إخضاع الآيات القرآنية لمذهبه، والميل بها مع رأيه وهواه، وتأويل ما يصادمه منها تأويلاً يجعلها غير منافية لمذهبه ولا متعارضة معه.
ومن هنا بدأ الخروج عن دائرة الرأى المحمود إلى دائرة الرأى المذموم، واستفحل الأمر إلى حد جعل القوم يتسعون فى حماية عقائدهم، والترويج لمذاهبهم، بما أخرجوه للناس من تفاسير حملوا فيها كلام الله على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونحلهم!!
ونحن نعلم بطريق الإجمال - وللتفصيل موضع غير هذا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستفترق أُمَّتى ثلاثاً وسبعين فِرْقة، كلها فى النار، إلا واحدة، وهى ما أنا عليه وأصحابى" وقد حقق الله نبوءة رسوله، وصدَّق قوله فتصدعت الوحدة الإسلامية إلى أحزاب مختلفة، وفرق متنافرة متناحرة، ولم يظهر هذا التفرق بكل ما فيه من خطر على الإسلام والمسلمين إلا فى عصر الدولة العباسية، أما قبل ذلك، فقد كان المسلمون يداً واحدة، وكانت عقيدتهم واحدة كذلك، إذا استثنينا ما كان بينهم من المنافقين الذين(1/258)
ينتسبون إلى الإسلام ويضُمرون الكفر، وما كان بين علىّ ومعاوية من خلاف لم يكن له مثل هذا الخطر. وإن كان النواة التى قام عليها التحزب، ونبت عنها التفرق والاختلاف.
بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ، فى أُمور اجتهادية لا تصل بأحد منهم إلى درجة الابتداع والكفر، كاختلافهم عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: "إئتونى بقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدى" حتى قال عمر: إن النبى قد غيبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط فى ذلك حتى قال النبى صلى الله عليه وسلم: "قوموا عنى، لا ينبغى عندى التنازع".
وكاختلافهم فى موضع دفنه - صلى الله عليه وسلم - أيُدفن بمكة، لأنها مولده وبها قِبْلته ومشاعر الحج؟ أم يُدفن بالمدينة، لأنها موضع هجرته، وموطن أهل نُصرته؟ أم يُدفن ببيت المقدس، لأن بها تربة الأنبياء ومشاهدهم؟
وكالخلاف الذى وقع بينهم فى سقيفة بنى ساعدة فى تولية مَن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وغير ذلك من الخلافات التى وقعت بينهم، ولم يكن لها خطرها الذى ينجم عنه التفرق ووقوع الفتنة والبغضاء بين المسلمين.
ظل الأمر على ذلك إلى زمن عثمان رضى الله عنه، وكان ما كان من خروج بعض المسلمين عليه، ومحاصرتهم لداره، وقتلهم له، فعرى المسلمين من ذلك الوقت رجة فكرية عنيفة، طاحت بالروية، وذهبت بكثير من الأفكار مذاهب شتَّى، فقام قوم يطالبون بدم عثمان، ثم نشبت الحرب بين علىّ ومعاوية رضى الله عنهما من أجل الخلافة، وكان لكل منهم شيعة وأنصار يشدون أزره، ويقوون عزمه، وتبع ذلك انشقاق جماعة علىّ كرَّم الله وجهه، بعد مسألة التحكيم فى الخلاف الذى بينه وبين معاوية، فى السنة السابعة والثلاثين من الهجرة، فظهرت من ذلك الوقت فرقة الشيعة، وفرقة الخوراج، وفرقة المرجئة، وفرقة أخرى تنحاز لمعاوية، وتؤيد الأمويين على وجه العموم.
ثم أخذ هذا الخلاف والتفرق، يتدرج شيئاً فشيئاً، ويترقى حيناً بعد حين، إلى أن ظهر فى أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية، وكان أول مَن جهر بهذا المذهب ووضع الحجر الأساسى لقيام هذه الفِرْقة، معبد الجهنى الذى أخذ عنه مذهبه غيلان الدمشقى ومَن شاكله، وكان ينكر عليهم مذهبهم هذا مَن بقى من الصحابة كعبد الله بن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبى هريرة، وغيرهم.
ثم ظهر بعد هؤلاء - وفى زمن الحسن البصرى بالبصرة - خلاف واصل ابن عطاء(1/259)
فى القدر، وفى القول بالمنزلة بين المنزلتين، ومجادلته للحسن البصرى فى ذلك، واعتزاله مجلسه، ومن ذلك الوقت ظهرت فرقة المعتزلة.
ثم كان من أصحاب الديانات المختلفة كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والصابئة.. إلى آخر مَن تزيا بزى الإسلام وأبطن الكيد له، حنيناً إلى مِلَّتهم الأولى، كعبد الله بن سبأ اليهودى، فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة، ويرجون لهم الفُرْقة، فأفلحوا فيما قصدوا إليه من تحزب المسلمين وتفرقهم.
وفى خلال ذلك غلا بعض الطوائف التى ولدها الخلاف، فابتدعوا أقوالاً خرجت بهم عن دائرة الإسلام كالقائلين بالحلول والتناسخ من السبئية، وكالباطنية الذين لا يُعدون من فرق الإسلام، وإنما هم فى الحقيقة على دين المجوس.
لم يزل الخلاف يتشعب، والآراء تتفرق، حتى تفرَّق أهل الإسلام وأرباب المقالات، إلى ثلاث وسبعين فِرقة كما قال صاحب المواقف، وكما عَدَّهم وبينَّهم الإمام الكبير، أبو المظفر الإسفرايينى، فى كتابه "التبصير فى الدين"، وليس هذا موضع ذكرها واستقصائها.
والذى اشتهر من هذه الفِرَق خمس: أهل السُّنَّة، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وما وراء ذلك من الفرق كالجبرية، والباطنية، والمشبهة، وغيرها، فمعظمها مشتق من هذه الفِرَق الخمس الرئيسية.
نحن نعلم هذا التفرق الذى أصاب المسلمين فى وحدتهم الدينية والسياسية، ونعلم أيضاً، أن الناس كانوا فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم وبعده يقرأون القرآن أو يسمعونه فيغنون بتفهم روحه، فإن عنى علماؤهم بشئ وراء ذلك، فما يوضح الآية من سبب للنزول، واستشهاد بأبيات من أشعار العرب تُفسِّر لفظاً عربياً، أو أسلوباً غامضاً. ولكنَّا لا نعلم فى هذا العصر الأول، انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية وآراء فى الملل والنحل، فلما وقع هذا التفرق الذى أشرنا إليه وأجملنا مبدأه وتطوره، رأينا كل فِرْقة من هذه الفِرَق تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها، وتُفسِّره بما يتلاءم مع مذهبها، فالمعتزلى يطبق القرآن على مذهبه فى الاختيار، والصفات، والتحسين والتقبيح العقليين.. ويُؤَوِّل ما لا يتفق ومذهبه، وكذلك يفعل الشيعى، وكذلك يفعل كل صاحب مذهب حتى يسلم له مذهبه.
غير أننا لم نحط علماً بكل هذه النظرات المذهبية فى القرآن، ولم يقع تحت أيدينا من كتب التفسير المذهبية إلا القليل النادر بالنسبة لما حُرمت منه المكتبة الإسلامية، على أن هذا القليل ليس إلا لبعض الفِرق دون بعض، وهناك تفسيرات وتأويلات(1/260)
لبعض من آيات القرآن لبعض من الفرق، ولكنها متفرقة مشتتة بين صحائف كتب التفسير خاصة وكتب العلم عامة. وهناك فِرق أخرى لم نظفر لها بتفسير كامل ولا بشئ من التفسير، ولهذا أرى أن أتكلم عن التفسير المذهبى لا لكل الفِرَق، بل للفِرق التى ألَّفت وخلَّفت لنا كتباً فى التفسير، ووقعت تحت أيدينا، فاستطعنا بعد القراءة فيها والنظر إليها أن نحكم عليها بما يتناسب مع المنهج الذى انتهجه فيها مؤلفوها، والطريق الذى سلكوه فى شرحهم لكتاب الله تعالى.
وسبق لنا أن تكلمنا عن التفسير بالرأى الجائز وأهم ما أُلَّف فيه من كتب، وذلك هو تفسير أهل السُّنَّة والجماعة، وتلك هى أشهر تفاسيرهم التى خلَّفوها للناس، فلا نعود لذلك، بل نشرع فى الكلام عن موقف غيرهم من الفِرَق، بالنسبة لكتاب الله تعالى، وعن أهم ما خلَّفوه لنا من كتب فى التفسير، والله يتولانا ويُسدِّد خُطانا، إنه سميع مجيب.
* * *(1/261)
المعتزلة.. وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
* كلمة إجمالية عن المعتزلة وأصولهم المذهبية - نشأة المعتزلة:
نشأت هذه الفِرْقة فى العصر الأموى، ولكنها شغلت الفكر الإسلامى فى العصر العباسى ردحاً طويلاً من الزمان. وأصل هذه الفِرْقة هو واصل بن عطاء الملَّقب بالغزَّال المولود سنة 80 هـ (ثمانين) ، والمتوفى سنة 131 هـ (إحدى وثلاثين ومائة) ، فى خلافة هشام بن عبد الملك، وذلك أنه دخل على الحسن البصرى رجل فقال: يا إمام الدين؛ ظهر فى زماننا جماعة يُكَفِّرون صاحب الكبيرة - يريد وعيدية الخوارج - وجماعة أخرى يُرجِئون الكبائر، ويقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فكيف لنا أن نعتقد فى ذلك؟ فتفكَّر الحسن، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، ثم قام إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به، من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين، قائلاً: إن المؤمن اسم مدح، والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمناً، وليس بكافر أيضاً، لإقراره بالشهادتين، ولوجود سائر أعمال الخير فيه، فإذا مات بلا توبة خُلِّدَ فى النار، إذ ليس فى الآخرة إلا فريقان، فريق من الجنة، وفريق فى السعير، لكن يُخَفَفُ عنه، وتكون دركته فوق دركات الكفار، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فلذلك سُمى هو وأصحابه معتزلة.
ويُلَقَّب المعتزلة بالقدرية تارة، وبالمُعَطِّلة تارة أخرى، أما تلقيبهم بالقدرية، فلأنهم يسندون أفعال العباد إلى قدرتهم، وينكرون القَدَر فيها. وأما تلقيبهم بالمُعَطِّلة فلأنهم يقولون بنفى صفات المعانى فيقولون: الله عالِم بذاته، قادِر بذاته.. وهكذا.
فأنت ترى مما تقدم، أن الاعتزال نشأ فى البصرة، ولكن سرعان ما انتشر فى العراق، واعتنقه من خلفاء بنى أمية يزيد بن الوليد، ومروان بن محمد، وفى العصر العباسى، استفحل أمر المعتزلة، واحتلت أفكارهم وعقائدهم من عقول الناس وجدل العلماء مكاناً عظيماً، وما لبث أن تكوَّنت للاعتزال مدرستان كبيرتان: مدرسة البصرة،(1/262)
وعلى رأسها واصل بن عطاء. ومدرسة بغداد، وعلى رأسها بشر بن المعتمر، وكان بين معتزلى البصرة ومعتزلى بغداد جدال وخلاف فى كثير من المسائل.
ولا أطيل بذكر ما كان بين المدرستين من مسائل خلافية، فإن هذه العُجَالة لا تتحمل الإطالة والتفصيل، ويكفى أن أُجمل القول فى ذكر أُصول المعتزلة، وأن أشير إلى تعدد فرقهم، ومَن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب التى أُلِّفت فى تاريخ الفِرَق، وهى كثيرة.
* *
* أصول المعتزلة:
أما أصول المعتزلة فهى خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وهذه الأصول الخمسة يجمع الكل عليها، ومَن لم يقل بها جميعاً فليس معتزلياً بالمعنى الصحيح. قال أبو الحسن الخياط أحد زعماء المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى: "وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإذا كملت هذه الخصال فهو معتزلى".
أما التوحيد: فهو لُبِّ مذهبهم، ورأس نحلتهم، وقد بنوا على هذا الأصل: استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وأن الصفات ليست شيئاً غير الذات، وأن القرآن مخلوق لله تعالى.
وأما العدل: فقد بنوا عليه: أن الله تعالى لم يشأ جميع الكائنات، ولا خلقها ولا هو قادر عليها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله تعالى، لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعاً، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته.
وأما الوعد والوعيد: فمضمونه، أن الله يجازى مَن أحسن بالإحسان، ومَن أساء بالسوء، لا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب، ولا يقبل فى أهل الكبائر شفاعة، ولا يُخرج أحداً منهم من النار. وأوضح من هذا أنهم يقولون: إنه يجب على الله أن يُثيب المطيع ويُعاقب مرتكب الكبيرة، فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب لزم الخلف فى وعيده. وهم يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصى قانون حتمى التزم الله به، كما قالوا: إن مرتكب الكبيرة مُخَلَّدٌ فى النار ولو صَدَّق بوحدانية الله وآمن برسله، لقوله تعالى فى الآية [81] من سورة البقرة: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ..(1/263)
وأما المنزلة بين المنزلتين: فقد سبق أن بيَّناها فى مناظرة واصل بن عطاء للحسن البصرى.
وأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهو مبدأ مقرر عندهم، وواجب على المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية، وهداية الضالين وإرشاد الغاوين، ولكنهم بالغوا فى هذا الأصل، وخالفوا ما عليه الجمهور، فقالوا: إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون بالقلب إن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إن لم يغنيا، وبالسيف إن لم تكف اليد، لقوله تعالى فى الآية [9] من سورة الحجرات: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} .. وهم فى ذلك لا يُفرِّقون بين صاحب السلطان وغيره، كما أنهم لم يُفرِّقوا بين الأصول الدينية المُجْمعُ عليها وعقائدهم الاعتزالية.
وهناك مبادئ أخرى للمعتزلة، لا يشتركون فيها، بل هى مبادئ خاصة لكل فِرْقة من فِرقهم المتعددة، التى بلغت العشرين أو تزيد، ولا أطيل بذكر هذه الفِرَق وبيان خصائص كل فِرْقة، وأحيلك على المواقف، أو التبصير فى الدين، أو الفَرْق بين الفِرَق للبغدادى، أو المِلَل والنِحل للشهرستانى، أو الفِصَل لابن حزم، لتتعرف منها هذه الفِرَق وخصائصها، إذ ليس هذا موضع التفصيل.
وبعد.. فقد عرفنا نشأة المعتزلة، وعرفنا أصولهم التى أجمعوا عليها، وما علينا بعد ذلك إلا أن نتكلم عن موقفهم الذى وقفوه من تفسير القرآن، ثم بعد ذلك نتكلم عن أهم من عرفناه من مفسِّرى المعتزلة. وعن كتبهم التى ألَّفُوها فى التفسير، ونسأل الله التوفيق والسداد.
* *
موقف المعتزلة من تفسير القرآن الكريم
* إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة:
أقام المعتزلة مذهبهم على الأصول الخمسة التى ذكرناها آنفاً، ومن المعلوم أن هذه الأصول لا تتفق ومذهب أهل السُّنَّة والجماعة، الذين يعتبرون أهم خصومهم، لهذا كان من الضرورى لهذه الفِرْقة - فِرْقة المعتزلة - فى سبيل مكافحة خصومها، أن تُقيم(1/264)
مذهبها وتُدعِّم تعاليمها على أُسس دينية من القرآن، وكان لا بد لها أيضاً أن ترد الحجج القرآنية لهؤلاء الخصوم، وتضعف من قوتها، وسبيل ذلك كله هو النظر إلى القرآن أولاً من خلال عقيدتهم، ثم إخضاعهم عبارات القرآن لآرائهم التى يقولون بها، وتفسيرهم لها تفسيراً يتفق مع نحلتهم وعقيدتهم.
ولا شك أن مثل هذا التفسير الذى يخضع للعقيدة، يحتاج إلى مهارة كبيرة، واعتماد على العقل أكثر من الاعتماد على النقل، حتى يستطيع المفسِّر الذى هذا حاله، أن يلوى العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه.
والذى يقرأ تفسير المعتزلة، يجد أنهم بنوا تفسيرهم على أُسسهم من التنزيه المطلق، والعدل وحرية الإرادة، وفعل الأصلح.. ونحو ذلك، ووضعوا أسساً للآيات التى ظاهرها التعارض فَحَكَّمُوا العقل، ليكون الفيصل بين المتشابهات وقد كان مَن قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة أو التابعين، فإذا جاءوا المتشابهات سكتوا وفوَّضوا العلم لله.
* *
* إنكار المعتزلة لما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة:
ثم إن هذا السلطان العقلى المطلق، قد جَرَّ المعتزلة إلى إنكار ما صح من الأحاديث التى تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية، كما أنه نقل التفسير الذى كان يعتمد أولاً وقبل كل شئ على الشعور الحى، والإحساس الدقيق، والبساطة فى الفهم وعدم التكلف والتعمق، إلى مجموعة من القضايا العقلية، والبراهين المنطقية، مما يشهد للمعتزلة - رغم اعتزالهم - بقوة العقل وجودة التفكير.
ومع أن هذا السلطان العقلى المطلق، كان له الأثر الأكبر فى تفسير المعتزلة للقرآن، حتى اضطرهم فى بعض الأحيان إلى رد ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة، فإنَّا لا نستطيع أن نقول أن نقول إن المعتزلة كانوا يقصدون الخروج على الحديث أو عدم الاعتراف بالتفسير المأثور، وذلك لأن حالهم بإزاء التفسير المأثور وتصديقهم له، يظهر بأجلى وضوح من حكم النظام على استرسال المفسِّرين من معاصريه.
وكان "النظام" معتبراً فى مدرسة المعتزلة من الرؤوس الحرة الواسعة الحرية وقد ذكر لنا تلميذه الجاحظ قوله الذى قاله فى شأن هؤلاء المفسِّرين، وهذا نصه: قال الجاحظ: "كان أبو إسحاق يقول: لا تسترسلوا إلى كثير من المفسِّرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا فى كل مسألة، فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلما كان المفسِّر أغرب عندهم كان أحب إليهم، وليكن عندكم عِكرمة، والكلبى، والسدىّ، والضحاك، ومقاتل بن سليمان، وأبو بكر الأصم فى سبيلٍ واحدة، وكيف أثق بنفسيرهم وأسكن إلى صوابهم وقد قالوا فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} :(1/265)
[الجن: 18] إن الله عَزَّ وجَلَّ، لم يعن بهذا الكلام مساجدنا التى نصلى فيها، بل إنما عنى الجباه، وكل ما سجد الناس عليه من يد وجبهة وأنف وثفنة - وقالوا فى قوله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} : [الغاشية: 17] إنه ليس يعنى الجمال والنوق، وإنما يعنى السحاب - وإذا سُئلوا عن قوله: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 29] قالوا: الطلح هو الموز - وجعلوا الدليل على أن شهر رمضان قد كان فرضاً على جميع الأُمم وأن الناس غيَّروه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] .. وقالوا فى قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} [طه: 125] .. قالوا: إنه حشره بلا حُجة - وقالوا فى قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} : [المطففين: 1] الويل واد فى جهنم، ثم قعدوا يصفون ذلك الوادى. ومعنى الويل فى كلام العرب معروف، وكيف كان فى الجاهلية قبل الإسلام، وهو من أشهر كلامهم - وسئلوا عن قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} [الفلق: 1] .. قالوا: الفلق واد فى جهنم. ثم قعدوا يصفونه، وقال آخرون: الفلق: المقطرة بلغة اليمن.. إلى آخر ما ذكره من تفسيراتهم الغريبة".
هذا.. وإن الزمخشرى - وهو أهم مَن عرفنا من مفسِّرى المعتزلة - نجده كثيراً ما يذكر ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن السَلف من التفسير ويعتمد على ما يذكر من ذلك فى تفسيره.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [41-42] من سورة الأحزاب: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .. يقول ما نصه: {اذكروا الله} اثنوا عليه بضروب الثناء، من التقديس، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وما هو أهله، وأكثروا ذلك {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أى كافة الأوقات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكر الله على فم كل مسلم" - وروُى: "فى قلب كل مسلم" وعن قتادة: "قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم" وعن مجاهد: "هذه كلمات يقولها الطاهر والجُنُب والغفلان" أعنى: اذكروا وسبِّحوا موجهان إلى البُكرة والأصيل، كقولك: صُمْ وصَلِّ يوم الجمعة".. إلخ.
* *
* ادعاؤهم أن كل محاولاتهم فى التفسير مرادة لله:
ثم إن المعتزلة - بناء على رأيهم فى الاجتهاد، من أن الحكم ما أدَّى إليه اجتهاد كل مجتهد، فإذا اجتهدوا فى حادثة فالحكم عند الله تعالى فى حق كل واحد(1/266)
مجتهده - رفضوا أن يكون للآية التى تحتمل أوجهاً تفسيراً واحداً لا خطأ فيه، وحكموا على جميع محاولاتهم التى حاولوها فى حل المسائل الموجودة فى القرآن، بأنها مرادة لله تعالى، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان التفسير المخالف لمبادئهم وآرائهم.
وبدهى أن هذا الذى ذهب إليه المعتزلة، يخالف مذهب أهل السُّنَّة من أن لكل آية من القرآن معنى واحداً مراداً لله تعالى، وما عداه من المعانى المحتملة، فهى محاولات واجتهادات، يُراد منها الوصول إلى مُراد الله بدون قطع، غاية الأمر أن المفسِّر يقول باجتهاده، والمجتهد قد يُخطئ وقد يُصيب، وهو مأجور فى الحالتين وإن كان الأجر على تفاوت.
* *
* المبدأ اللغوى فى التفسير وأهميته لدى المعتزلة:
كذلك نجد المعتزلة قد حرصوا كل الحرص على الطريقة اللغوية التى تعتبر عندهم المبدأ الأعلى لتفسير القرآن، وهذا المبدأ اللغوى، يظهر أثره واضحاً فى تفسيرهم للعبارات القرآنية التى لا يليق ظاهرها عندهم بمقام الألوهية، أو العبارات التى تحتوى على التشبه، أو العبارات التى تصادم بعض أصولهم، فنراهم يحاولون أولاً إبطال المعنى الذى يرونه مشتبهاً فى اللفظ القرآنى، ثم يُثبتون لهذا اللفظ معنى موجوداً فى اللغة يُزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم، ويستشهدون على ما يذهبون إليه من المعانى التى يحملون ألفاظ القرآن عليهم بأدلة من اللغة والشعر العربى القديم.
فمثلاً الآيات التى تدل على رؤية الله تعالى كقوله سبحانه فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وقوله تعالى فى الآية [23] من سورة المطففين: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} نجد المعتزلة ينظرون إليها بعين غير العين التى ينظر بها أهل السُّنَّة، ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يُطَبِّقوا مبدأهم اللغوى، حتى يتخلصوا من الورطة التى أوقعهم فيها ظاهر اللفظ الكريم، فإذا بهم يقولون: إن النظر إلى الله معناه الرجاء والتوقع للنعمة والكرامة، واستدلوا على ذلك بأن النظر إلى الشئ فى العربية ليس مختصاً بالرؤية المادية، واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر:
وإذ نظرتُ إليك من ملك ... والبحر دونك زدتنى نعماً
ومثلاً عندما يقرأ المعتزلى قوله تعالى فى الآية [31] من سورة الفرقان: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} يجد أن مذهبه الذى يقول بوجوب الصلاح(1/267)
والأصلح على الله لا يتفق وهذا الظاهر من معنى الجعل، ولكن سرعان ما يتخلص من هذه الضائقة العالِم المعتزلى الكبير أبو علىّ الجبائى فيفسِّر: "جعل" بمعنى "بَيَّن" لا بمعنى خلق، ويستدل على ذلك بقول الشاعر:
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا ... على ثبت من أمرهم حين يمموا
فيكون المعنى على هذا: أن الله سبحانه بَيَّنَ لكل نبى عدوه حتى يأخذ حذره منه.
* *
*تصرف المعتزلة فى القراءات المتواترة المنافية لمذهبهم:
وأحياناً يحاول المعتزلة تحويل النص القرآنى من أجل عقيدتهم إلى ما لا يتفق وما تواتر من القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً ينظر بعض المعتزلة إلى قوله تعالى فى الآية [164] من سورة النساء: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} .. فيرى أن مذهبه لا يتفق وهذا اللفظ القرآنى حيث جاء المصدر مؤكداً للفعل، رافعاً لاحتمال المجاز، فيبادر إلى تحويل هذا النص إلى ما يتفق ومذهبه فيقرؤه هكذا: "وكلَّم الله موسى تكليماً" بنصب لفظ الجلالة على أنه مفعول، ورفع موسى على أنه فاعل. وبعض المعتزلة يُبقى اللفظ القرآنى على وضعه المتواتر، ولكنه يحمله على معنى بعيد حتى لا يبقى مصادماً لمذهبه فيقول: إن "كلم" من الكَلْم بمعنى الجرح، فالمعنى: وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن، وهذا ليفر من ظاهر النظم الذى يصادم عقيدته ويخالف هواه.
هذا الذى ذكرناه، تعرَّض له الزمخشرى فى كشافه، فرواه عمن قال به عندما تكلم عن هذه الآية فقال: وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا "وكلم اللهَ" بالنصب، ثم قال مندداً بالرأى الثانى: "ومن بدع التفاسير أنه من الكَلْم، وأن معناه: وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن".
ومن الأمثلة التى يظهر فيها هذا التصرف من أجل أغراضهم المذهبية، قوله تعالى فى الآية [88] من سورة البقرة: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} .. فبعض المعتزلة أحس من هذه الآية أنها لا تتفق ومذهبه، لأنها تُشعر بأن الله خلق قلوبهم على طبيعة وحالة لا تقبل معها الإسلام، فيكون هو الذى منعهم عن الهدى وألجأهم إلى الضلال فقرأها هذا المعتزلى: "غُلُفٌ".. جمع غلاف بمعنى الوعاء، أى قلوبنا أوعية حاوية للعلم، فهم مستغنون بما عندهم عما جاءهم به محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا الوجه يتمشى مع القراءة المعروفة: {غُلْفٌ} على أنه مخفف(1/268)
"غلف"، وبطبيعة الحال يكون هذا القول من اليهود افتخاراً منهم بأن قلوبهم أوعية للعلم، فلا حاجة لهم بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وليس اعتذاراً منهم وتبريراً لكفرهم بأن الله خلق قلوبهم فى أكنة مما يدعوهم إليه، ومغشاة بأغطية تمنع وصول دعوة الرسول إليها.
وهذا الذى ذكرنا من قراءة "غلف" بدون تخفيف تعرض لذكره الزمخشرى فقال: "وقيل غُلُف: تخفيف غُلْف، جمع غلاف أى قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، وروُى عن أبى عمرو: "قلوبنا غُلُف".. بضمتين".
كما ذكره أيضاً الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره لهذه الآية فقال: " ... وثانيها - أى ثانى الأوجه - روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غُلُفْ بالعلم، ومملوؤة بالحكمة، فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام".
وهكذا نجد شيوخ المعتزلة، يحاولون التوفيق بين مذهبهم والقرآن، بكل ما يستطيعون من وسائل التوفيق، تارة بتطبيق مبدئهم اللغوى على كثير من آيات القرآن الكريم، حتى يتمشى النص القرآنى مع قواعد مذهبهم أو يتلخصوا من معارضته ومصادمته لهم على الأقل، وتارة بتحويل النص القرآنى والتصرف فيه، بما يجعله فى جانبهم لا فى جانب خصومهم.
* *
* نقد ابن قتيبة لهذا المسلك الاعتزالى فى التفسير:
غير أن هذا المسلك قد أغضب العلاَّمة ابن قتيبة وأهاجه عليهم فانتقدهم انتقاضاً مراً لاذعاً فى كتابه "تأويل مختلف الحديث"، وإليك ما قاله بنصه لتقف على ما كان بين الفريقين - فريق أهل السُّنَّة وفريق المعتزلة - من جدال ومحاورة، وليتبين لك مقدار الميل بالعبارات القرآنية إلى ناحية المذهب والعقيدة من كبار شيوخ المذهب الاعتزالى.
قال أبو محمد: "وفسَّروا - أى المعتزلة - القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم فى قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255] أى علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يُعرف، وهذا قول الشاعر:
ولا بكرْسئُ علم الله مخلوق
كأنه عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق. والكرسى غير مهموز، وبكرسئ مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله تعالى كرسياً أو سريراً، ويجعلون العرش شيئاً آخر، والعرب لا تعرف من العرش إلا السرير وما عرش من السقف والآبار، يقول الله(1/269)
تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} .. أى السرير، وأمية بن أبى الصلت يقول:
مَجِّدوا الله، وهو للمجد أهل ... ربنا فى السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذى سبق النا ... س وسوَّى فوق السماء سريرا
شَرْ جَعاً ما يناله العيـ ... ـن ترى دونه الملائك صورا
وقال فريق منهم فى قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 100] : إنها هَمَّتْ بالفاحشة، وهمَّ هو بالفرار منها أو الضرب لها، والله تعالى يقول: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام عندها؟ وليس يجوز فى اللغة أن تقول: هممتُ بفلان وهَمَّ بى، وأنت تريد اختلاف الهمَّين حتى تكون أنت تهم بإهانته ويهم هو بإكرامك، وإنما يجوز هذا الكلام إذا اتفق الهمَّان.
وقال فريق منهم فى قوله تعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] : إنه أتخم من أكل الشجرة، فذهبوا إلى قول العرب: غَوِىَ الفصيل يَغْوىَ غَوىً، إذا أكثر من شرب اللبن حتى يبشم. وذلك غَوَى يَغْوِى غَيّاً، وهو من البشم: غَوِىَ يَغْوَى غَوىً.
وقال فريق منهم فى قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179] : أى ألقينا فيها، يذهب إلى قول الناس: ذرته الريح. ولا يجوز أن يكون ذرأنا من ذرته الريح، لأن ذرأنا مهموز، وذرته الريح تذروه غير مهموز. ولا يجوز أيضاً أن نجعله من أذرته الدابة عن ظهرها أى ألقته، لأن ذلك من "ذرأت" تقدير فعلت بالهمز، وهذا من "أذريت" تقدير أفعلت بلا همز، واحتج بقول المثقب العبدى:
تقول إذا ذرأت لها وضينى ... أهذا دينه أبداً ودينى؟
وهذا تصحيف، لأنه قال: تقول إذا درأت، أى دفعت، بالدال غير معجمة.
وقالوا فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] : إنه ذهب مغاضباً لقومه، استيحاشاً من أن يجعلوه مغاضباً لربه مع عصمة الله، فجعلوه مغاضباً لقومه حين آمنوا، ففروا إلى مثل ما استقبحوا، وكيف يجوز أن يغضب نبى الله صلى الله عليه وسلم على قومه حين آمنوا وبذلك بُعِثَ وبه أُمرِ؟، وما الفرق بينه وبين عدو الله إن كان يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون ولم يخرج مغاضباً لربه(1/270)
ولا لقومه؟ - وهذا مبين فى كتابى المؤلف فى مشكل القرآن، ولم يكن قصدى فى هذا الكتاب الإخبار عن هذه الحروف وأشباهها، وإنما كان القصد به الإخبار عن جهلهم وجرأتهم على الله بصرف الكتاب إلى ما يستحسنون، وحمل التأويل على ما ينتحلون.
وقالوا فى قوله تعالى: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] : أى فقيراً إلى رحمته، وجعلوه من الخَلة بفتح الخاء، استيحاشاً أن يكون الله تعالى خليلاً لأحد من خلقه، واحتجوا بقول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم
أى إن أتاه فقير، فأية فضيلة فى هذا القول لإبراهيم صلى الله عليه وسلم؟ أما تعلمون أن الناس جميعاً فقراء إلى الله تعالى، وهل إبراهيم خليل الله إلا كما قيل، وموسى كليم الله، وعيسى روح الله؟
وقالوا فى قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] : إن اليد ههنا النعمة، لقول العرب: لى عند فلان يد، أى نعمة ومعروف. وليس يجوز أن تكون اليد ههنا النعمة، لأنه قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] معارضة عما قالوه فيها، ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ... ولا يجوز أن يكون أراد غُلَّت نعمهم بل نعمتاه مبسوطتان، لأن النعم لا تُغَّل، ولأن المعروف لا يُكَنَّى عنه باليدين كما يُكَنَّى عنه باليد، إلا أن يريد جنسين من المعروف فيقول: لى عنده يدان. ونعم الله تعالى أكثر من أن يُحاط بها".
* *
* تذرع المعتزلة بالفروض المجازية إذا بدا ظاهر القرآن غريباً:
هذا.. وإن المعتزلة فى كثير من الأحيان، يعتمدون فى طريقتهم التفسيرية على الفروض المجازية، فمثلاً إذا مروا بآية من الآيات التى تبدو فى ظاهرها غريبة مستبعدة، كقوله تعالى فى الآية [172] من سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ... الآية، وقوله تعالى فى الآية [72] من سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} ... الآية، نجدهم يحملون الكلام على التمثيل أو التخييل، ولا يقولون بالظاهر ولا يحوِّمون عليه، اللَّهم إلا للرد على مَن يقول به ويُجَوِّز حصوله.. نعم إن القرآن يمثل القمة العالية فى كمال الأسلوب وبراعة النظم، وهو فى نفسه يقبل ما يقوله المعتزلة من المجازات والاستعارات، ولكن ما الذى يمنع من إرادة الحقيقة؟ وأى صارف يصرف اللفظ عن الظاهر إلى غيره من التمثيل أو التخييل بعد ما تقرر من أن اللفظ إذا أمكن حمله على الظاهر وجب ح(1/271)
مله عليه وقبح صرفه إلى غير ما يتبادر منه؟؟.. اللَّهم لا شئ يمنع من إرادة المعنى الظاهر إلا استبعاد ذلك على قدرة الله تعالى، ولسنا فى شك من صلاحية القدرة لمثل ما جاء فى الآيات التى أشرنا إليها، غاية الأمر، أن كيفية أخذ الله ذُرِّية بنى آدم من ظهورهم، ومخاطبته لتلك الذُرِّية، وكيفية عرض الأمانة على ما ذكر من السماوات والأرض والجبال وإبائها عن حملها، أمر لا نستطيع أن نخوض فيه، بل يجب علينا أن نفوِّض علمه وحقيقته إلى الله سبحانه.
وسيأتى الكلام عن هذه الناحية بالذات بما هو أوسع من هذا، عند الكلام على الكشاف للزمخشرى، فإنه صاحب اليد الطولى فى هذه الناحية، وخير من أفاض فيها وأجاد.
* *
* تفسيرهم للقرآن على ضوء ما أنكروه من الحقائق الدينية:
وكذلك نجد المعتزلة قد وقفوا تجاه بعض الحقائق الدينية الثابتة عند جمهور أهل السُّنَّة موقف المعارضة والكفاح، فأهل السُّنَّة يقولون بحقيقة السحر، ويعترفون بما له من تأثير فى المسحور، ويقولون بوجود الجن، ويعترفون بما لهم من قوة التأثير فى الإنسان حتى ينشأ عن ذلك المس والصَرَع، ويقولون بكرامات الأولياء.. وما إلى ذلك، ولكن المعتزلة الذين ربطوا التفسير بما شرطوه من جعل العقل مقياساً للحقائق الدينية وقفوا ضد هذا كله وجعلوه من قبيل الخرافات، والتصورات المخالفة لطبيعة الأشياء، وكان من وراء ذلك أن تمرد المعتزلة - فى حرية مطلقة من كل قيد - على الاعتقاد بالسحر والسَحَرة، وما يدور حول ذلك، وبلغ بهم الأمر أن أنكروا أو تأوَّلوا ما صح من الأحاديث التى تُصَرِّح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سُحِر، ولم يقفوا طويلاً أمام ما يعارضهم من سورة الفلق، بل تخلَّصوا بتأويلات ثلاث ذكرها الزمخشرى فى كشافه (الجزء الثانى ص 568) .
كذلك تمرد بعض أعلام المعتزلة كالنظام على الاعتقاد بوجود الجن، وثار بعضهم كالزمخشرى ضد مَن يقول بأن الجن لها قوة التأثير فى الإنسان مع الاعتراف منه بوجودها فى نفسها، فأوَّلوا ما يصادمهم من الآيات القرآنية، وأنكروا أو تأوَّلوا ما صح من الأحاديث النبوية، كالحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى، وفيه: "أن شيطاناً من الجن عرض للنبى صلى الله عليه وسلم وهو فى الصلاة يريد أن يشغله عنها فأمكنه الله منه"،(1/272)
وكالحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يُولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها".
كذلك تمرَّد المعتزلة على الاعتقاد بكرامات الأولياء، واعتمدوا فى تمردهم هذا على قول الله تعالى فى الآيتين [26، 27] من سورة الجن: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} .. ونرى الزمخشرى يستنتج من هذه الآية: "أنه تعالى لا يطلع على الغيب إلا المرتضى، الذى هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى، وفى هذا إبطال الكرامات، لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شئ من الارتضاء وأدخله فى السخط".
وبعد.. فإن المعتزلة لم يقفوا هذا الموقف الذى لا يتفق مع معتقدات أهل السُّنَّة، ولم يعطوا العقل هذا السلطان الواسع فى التفسير، إلا من أجل أن يبعدوا - كما يزعمون - كل الأساطير الخرافية عن محيط الحقائق الدينية، وليربطوا بين القرآن وبين عقيدتهم التى قامت على التوحيد الخالص من كل شائبة.
ولكن هل وقف أهل السُّنَّة حيال هذه المحاولات الاعتزالية فى فهم نصوص القرآن الكريم موقف التسليم لها والرضا بها؟ أو أغضبهم هذا التصرف من خصومهم المعتزلة؟. الحق أن هذا التصرف من المعتزلة أثار عليهم خصومهم أهل السُّنَّة واستعداهم عليهم فرموهم بالعبارات اللاذعة، واتهموهم بتحريك النصوص عن مواضعها تمشياً مع الهوى وميلاً مع العقيدة. وقد مرَّ بك آنفاً مقالة ابن قتيبة، وفيها يُشدِّد عليهم النكير من أجل مسلكهم اللغوى فى التفسير.
* *
* حكم الإمام أبى الحسن الأشعرى على تفسير المعتزلة:
وهذا هو الإمام أبو الحسن الأشعرى، يحكم على تفسير المعتزلة بأنه زيغ وضلال، وذلك حيث يقول فى مقدمة تفسيره المسمى بالمختزن والذى لم يقع لنا: "أما بعد، فإن أهل الزيغ والتضليل تأوَّلوا القرآن على آرائهم، وفسَّروه على أهوائهم، تفسيراً لم يُنزل الله به سلطاناً، ولا أوضح به برهاناً، ولا رووه عن رسول رب العالمين، ولا عن أهل بيته الطيبين، ولا عن السَلَف المتقدمين، من الصحابة والتابعين، افتراءً على الله، قد ضَلُّوا وما كانوا مهتدين.
وإنما أخذوا تفسيرهم عن أبى الهذيل بياع العلف ومتبعيه، وعن إبراهيم نظَّام الخرز ومقلديه، وعن الفوطى وناصريه، وعن المنسوب إلى قرية جُبى ومنتحليه، وعن الأشج(1/273)
جعفر بن حرب ومجتبييه، وعن جعفر بن مبشر القصبى ومتعصبيه، وعن الإسكافى الجاهل ومعظميه، وعن الفروى المنسوب إلى مدينة بلخ وذويه، فإنهم قادة الضلال، من المعتزلة الجهال، الذين قلدوهم فى دينهم، وجعلوهم معولهم الذى عليه يُعوِّلون، وركنهم الذى إليه يستندون.
ورأيت الجبائى ألَّف فى تفسير القرآن كتاباً أوَّله خلاف ما أنزل الله عَزَّ وجَلَّ، وعلى لغة أهل قريته المعروفة بجُبى، وليس من أهل اللسان الذى نزل به القرآن، وما روى فى كتاب حرفاً عن أحد من المفسِّرين. وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيراً من العوام، واستنزل به عن الحق كثيراً من الطغام، لم يكن لتشاغلى به وجه".
* *
* حكم ابن تيمية على تفسير المعتزلة:
كذلك حكم ابن تيمية على تفسيرهم فقال: "إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سَلَف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا فى رأيهم ولا فى تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما فسَّروا به القرآن إما دليلاً على قولهم، أو جواباً على المعارض لهم، ومِن هؤلاء مَن يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع فى كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف، ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسِّرين وغيرهم مَن يذكر فى كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التى يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدى لذلك".
* *
* حكم ابن القيم على تفسير المعتزلة:
كذلك نجد العلاَّمة ابن القيم يحكم على التفسير المعتزلة حكماً قاسياً فيقول: "إنه زُبالة الأذهان، ونخالة الأفكار، وعفار الآراء، ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق سواداً، والقلوب شكوكاً، والعالَم فساداً، وكل مَن له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالَم إنما نشأ من تقديم الرأى على الوحى، والهوى على العقل".
* * *(1/274)
أهم كتب التفسير الاعتزالى
صَنَّف كثير من شيوخ المعتزلة تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم، ولم تكن هذه التفاسير أكثر حظاً من غيرها من كتب التفسير المختلفة، حيث امتدت إلى كثير منها يد الزمان، فضاعت بتقادم العهد عليها، وحُرمت المكتبة الإسلامية العامة من معظم هذا التراث العلمى الذى لو بقى إلى يومنا هذا لألقى لنا ضوءاً واضحاً على مدى التفكير التفسيرى، لشيوخ هذا المذهب الاعتزالى، ولكشف لنا عن حقيقة ما يُنسب لبعض شيوخهم من تفسيرات واسعة النطاق، نسمع بها من علمائنا المتقدمين، ونقف منها موقف الحائر بين الشك واليقين، لما يُذكر عنها من الاستفاضة والتضخم إلى حد يكاد يكون متخيلاً أو مبالغاً فيه.
نتصفح طبقات المفسِّرين للسيوطى، وطبقات المفسِّرين لتلميذه الداودى، وغيرهما من الكتب التى لها عناية بهذا الشأن، فنجد أن من أشهر من صَنَّف فى التفسير من المعتزلة: أبو بكر، عبد الرحمن بن كيسان الأصم المتوفى سنة 240 هـ (أربعين ومائتين من الهجرة) . أقدم شيوخ المعتزلة، وشيخ إبراهيم ابن إسماعيل بن علية الذى كان يناظر الشافعى، فقد ذكر ابن النديم فى الفهرست: أنه ألَّف تفسيراً للقرآن الكريم. ولكنا لا نعلم عن هذا التفسير خبراً، حيث إنه فُقِد بمرور الزمن وتقادم العهد عليه.
ومحمد بن عبد الوهاب بن سلام (أبو على الجبائى) المتوفى سنة 303 هـ (ثلاث وثلاثمائة من الهجرة) ، وأحد شيوخ المعتزلة الذين كانت لهم شهرة واسعة فى الفلسفة والكلام، فقد ذكر السيوطى فى طبقات المفسِّرين: أنه ألَّف فى التفسير، وذكر ذلك ابن النديم فى الفهرست أيضاً. ولكنَّا لا نعلم شيئاً عن هذا التفسير أكثر مما ذكرناه آنفاً عن أبى الحسن الأشعرى.
وأبو القاسم، عبد الله بن أحمد البلخى الحنفى، المعروف بالكعبى المعتزلى، المتوفى سنة 319 هـ (تسع عشرة وثلاثمائة من الهجرة) ، فقد ذكر صاحب كشف الظنون: أنه ألَّف تفسيراً كبيراً يقع فى اثنى عشر مجلداً، وقال: إنه لم يُسبَق إليه ولكن لم يقع لنا هذا التفسير كغيره.
وأبو هاشم عبد السلام بن أبى علىّ الجبائى المتوفى سنة 321 هـ (إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة) ، ذكر السيوطى فى طبقات المفسِّرين: أنه ألَّف تفسيراً، وقال إنه رأى جزءاً منه، ولكنَّا لم نظفر به أيضاً.(1/275)
وأبو مسلم، محمد بن بحر الأصفهانى المتوفى سنة 322 هـ (اثنتين وعشرين وثلاثمائة من الهجرة) ، صنَّف تفسيراً اسمه "جامع التأويل لمحكم التنزيل" يقع فى أربعة عشر مجلداً، وقيل: فى عشرين مجلداً، وقد أشار إلى هذا التفسير ابن النديم فى الفهرست، والسيوطى فى بُغية الوعاة فى طبقات النحاة. وهذا التفسير - فيما يبدو - هو الذى يعتمد عليه الفخر الرازى فيما ينقله فى تفسيره من أقوال منسوبة لأبى مسلم، وقد أخذ بعض المؤلفين ما جاء فى تفسير الفخر الرازى منسوباً لأبى مسلم، وجمعه فى كتاب مستقل سماه تفسير أبى مسلم الأصفهانى، وقد اطلعتُ على جزء منه صغير الحجم بمكتبة الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) .
وأبو الحسن علىّ بن عيسى الرمانى المتوفى سنة 384 هـ (أربع وثمانين وثلاثمائة من الهجرة) ، وأحد شيوخ المعتزلة المتشيعين صنَّف تفسيراً للقرآن الكريم، قال السيوطى فى طبقات المفسِّرين إنه رآه. وذكر صاحب كشف الظنون: أنه اختصره عبد الملك بن علىّ المؤذن الهروى المتوفى سنة 489 هـ (تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة) ولكنَّا لم نظفر به ولا بمختصره.
وعبيد الله بن محمد بن جرو الأسدى أبو القاسم النحوى العروضى المعتزلى المتوفى سنة 387 هـ (سبع وثمانين وثلاثمائة من الهجرة) ، قال السيوطى فى طبقات المفسِّرين: إنه صنَّف تفسيراً للقرآن الكريم، وذكر فى {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} مائة وعشرين وجهاً ولكنَّا لم نظفر به أيضاً.
والقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى، المتوفى سنة 415 هـ (خمس عشرة وأربعمائة من الهجرة) ، ألَّف كتابه "تنزيه القرآن عن المطاعن" وهو بين أيدينا، ومتداوَل بين أهل العلم، ولكنه غير شامل لجميع آيات القرآن الكريم.
والشريف المرتضى، العالِم الشيعى العلوى المتوفى سنة 436 هـ (ست وثلاثين وأربعمائة من الهجرة) ، كتب بحوثاً فيَّاضة فى بعض آيات القرآن الكريم التى تصادم مذهب المعتزلة، ووفق بين ظاهر النظم الكريم والعقيدة الاعتزالية، ونجد هذه البحوث التفسيرية ضمن ما دوَّنه فى أماليه التى سماها: غُرر الفوائد ودُرر القلائد.
وعبد السلام بن محمد بن يوسف القزوينى شيخ المعتزلة المتوفى سنة 483 هـ (ثلاث وثمانين وأربعمائة من الهجرة) ، فسَّر القرآن تفسيراً واسعاً، فقد جاء فى طبقات المفسِّرين، للسيوطى: "أنه جمع التفسير الكبير الذى لم يرد فى التفاسير(1/276)
أكبر منه ولا أجمع للفوائد، لولا أنه موجه بكلام المعتزلة وبَثَّ فيه معتقده وهو فى ثلاثمائة مجلد، منها سبع مجلدات فى الفاتحة". ونقل عن ابن النجار أنه قال فى شأن القزوينى هذا: "إنه كان طويل اللسان، ولم يكن محققاً إلا فى التفسير، فإنه لهج بالتفاسير حتى جمع كتاباً بلغ خمسمائة مجلد حشى فيه العجائب، حتى رأيت منه مجلداً فى آية واحدة، وهى قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} ... الآية".
وأبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى المتوفى سنة 538 هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة) ، فسَّر القرآن الكريم تفسيراً عظيماً جداً لولا ما فيه من نزعات الاعتزال، وهو أشمل ما وصل إلينا من تفاسير المعتزلة.
هؤلاء هم أشهر مَن عرفناهم من مفسِّرى المعتزلة. وهذه هى تفاسيرهم التى نسمع عنها، ولم يصل إلينا منها إلا هذه المصنَّفات الثلاثة: تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضى عبد الجبار، وأمالى الشريف المرتضى، والكشاف للزمخشرى. لهذا نرى أن نتكلم عن هذه الكتب الثلاثة، وعن المسلك الذى سلكه فيها أصحابها، بما يلقى لنا ضوءاً على المنحى الذى نحاه المعتزلة فى تفسيرهم لكتاب الله تعالى، وتأويلهم لنصوصه، حتى تشهد لهم، أو لا تتعارض معهم على الأقل.
* * *(1/277)
1 - تنزيه القرآن عن المطاعن (للقاضى عبد الجبار)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو قاضى القضاة، أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد ابن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل الهمدانى الأسدباذى الشافعى، شيخ المعتزلة. سمع من أبى الحسن بن سلمة بن القطان، وعبد الله بن جعفر ابن فارس، وغيرهما. عاش دهراً طويلاً وفاق أقرانه، وسار ذكره، وعظم صيته، ورحلت إليه الطلبة، وأخذ عنه كثير من العلماء، منهم: أبو القاسم علىّ بن الحسن التنوخى، والحسن بن على الصيمرى الفقيه، وأبو محمد عبد السلام القزوينى المفسِّر المعتزلى.
استدعاه الصاحب إلى الرَّى بعد سنة 360 هـ (ستين وثلاثمائة من الهجرة) ، فولى قضاءها، وبقى بها مواظباً على التدريس إلى آخر حياته، وكان الصاحب يقول فيه: هو أعلم أهل الأرض.
وقد خلَّف القاضى عبد الجبار مصنَّفات فى أنواع مختلفة من العلوم، منها: كتاب الخلاف والوفاق، وكتاب المبسوط، وكتاب المحيط، وكلها فى علم الكلام. وألَّف فى أصول الفقه: النهاية، والعمدة، وشرحه. وألَّف فى المواعظ كتاباً سماه نصيحة المتفقهة. وقال ابن كثير فى طبقاته: إن من أجَّل مصنفاته وأعظمها، كتاب دلائل النبوة، فى مجلدين، أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة، وبالجملة فقد طبق الأرض بكتبه، وبعد صيته، وعظم قدره، حتى انتهت إليه الرياسة فى المعتزلة، وصار شيخها وعالمها غير مدافع، وكانت وفاته فى ذى العقدة 415 هـ (خمس عشرة وأربعمائة من الهجرة) .
* *
* التعريف بكتاب تنزيه القرآن عن المطاعن وطريقة مؤلفه فيه:
ذكر مؤلف هذا الكتاب فى مقدمته (ص3، 4) : أنه لا يُنتفع بكتاب الله إلا بعد الوقوف على معانى ما فيه، وبعد الفصل بين مُحكمه ومتشابهه، وذكر أن كثيراً من الناس قد ضلَّ بأن تمسك بالمتشابه حتى اعتقد أن قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحشر: 1، والصف: 1] حقيقة فى الحجر والمدر والطير والنعم، وربما رأوا فى ذلك تسبيح كل شئ من ذلك، ومَن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [محمد: 24] . وكذلك وصفه تعالى بأنه: {يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين} [الإسراء: 9] .. ثم قال: وقد أملينا فى ذلك كتاباً يفصل بين(1/278)
المحكم والمتشابه، عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها، وبيَّنا معانى ما تشابه من آياتها، مع بيان وجه خطأ فريق من الناس فى تأويلها، ليكون النفع به أعظم، ونسأل الله التوفيق للصواب إن شاء الله.
فالكتاب لم يقصد فيه مؤلفه أن يعرض لشرح كتاب الله آية آية، بل كان كل همه - كما نأخذ من عبارته السابقة، وكما يظهر لنا من مسلكه فى الكتاب نفسه - موجهاً إلى الفصل بين مُحكم الكتاب ومتشابهه، وإلى بيان معانى هذه الآيات المتشابهة، ثم إلى بيان خطأ فريق من الناس، فى تأويلها، وهو يقصد بهذا الفريق - فى الغالب - جماعة أهل السُّنَّة الذين لا يرون رأيه فى القرآن، ولا ينظرون إليه نظرته الاعتزالية.
نقرأ هذا الكتاب، فنجد أن مؤلفه قد ابتدأه بسورة الفاتحة، واختتمه بسورة الناس، ولكنه لا يستقصى جميع السورة، ولا يعرض لكل آياتها بالشرح كما قلنا، بل نجده يبنى كتابه على مسائل، كل مسألة تتضمن إشكالاً وجواباً، وهذا الإشكال تارة يرد على ظاهر النظم الكريم من ناحية الصناعة العربية، وتارة يرد عليه من ناحية أنه لا يتفق مع عقيدته الاعتزالية.
* *
* بعض مواقفه من مشكلات الصناعة العربية:
أما المسائل التى أوردها مشتملة على مشكلات الصناعة العربية وأجوبتها، فهو لا تخرج عما عرض له عامة المفسِّرين فى تفاسيرهم، وهذا الجانب يشمل جزءاً غير قليل من الكتاب، وإليك بعض هذه المسائل:
فمثلاً فى سورة الحمد يقول فى (ص 4، 5) ما نصه: "مسألة - قالوا: الحمد لله: خبر، فإن كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه. وإن أمرنا بذلك، فكان يجب أن يقول: قولوا الحمد لله. وجوابنا عن ذلك: أن المراد به الأمر بالشكر والتعليم لكى نشكره، لكنه وإن حذف الأمر فقد دل عليه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .. لأنه لا يليق بالله تعالى، وإنما يليق بالعباد، فإذا كان معناه قولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فكذلك قوله: {الحمد للَّهِ} .. وهكذا كقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23-24] .. ومثله كثير من القرآن".
ومثلاً فى سورة البقرة يقول فى (ص6) ما نصه: "مسألة" - ومتى قيل: ولماذا قال تعالى: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] ولم يقل: هذا الكتاب؟ فجوابنا: أنه جَلَّ وعَزَّ وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء، فلما أنزل ذلك قال: {ذَلِكَ الكتاب} . والمراد: ما وعدتك، ولو قال: "هذا الكتاب" لم يفد هذه الفائدة".
ويقول بعد ذلك مباشرة فى (ص 7، 6) ما نصه: "مسألة" - قالوا: ما معنى: {لاَ(1/279)
رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وقد علمتم أن خلقاً يشكُّونَ فى ذلك فكيف يصح ذلك؟. وإن أراد: لا ريب فيه عندى وعند مَن يعلم، فلا فائدة فى ذلك. فجوابنا: أن المراد أنه حق يجب أن لا يُرتاب فيه، وهذا كما يبين المرء الشئ لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول: هذا كالشمس واضح، وهذا لا يشك فيه أحد، وهذا كما يقال عند إظهار الشهادتين: إن ذلك حق وصدق، وإن كان فى الناس مَن يُكَذِّب بذلك".
ومثلاً فى سورة هود يقول فى (ص 164) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] : ما الفائدة فى هذا الابتداء ولا خبر له؟ وجوابنا: أن الخبر قد يُحذف إذا كان كالمعلوم، والمراد: أفمن كان بهذا الوصف كمن هو يكفر ولا يسلك طريق العبادة وما توجبه البيِّنة".
ومثلاً فى سورة الفرقان يقول فى (ص 354) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] كيف يصح ذلك ولا خير فى النار أصلاً؟ وجوابنا: أن المراد: أيهما أولى بأن يكون خيراً؟ وقد يقول الحكيم لغيره من العصاة: إن التمسك بالطاعة خير لك من المعصية، والمراد ما قد ذكرنا".
هذه أمثلة من الإشكالات التى أوردها القاضى عبد الجبار على ظاهر النظم من ناحية الصناعة، وهذه هى الأجوبة التى أجاب بها عن هذه الإشكالات.
* *
* بعض مواقفه من المشكلات العقيدية الاعتزالية:
وأما المسائل التى أوردها مشتملة على إشكالات ترد على ظاهر النظم من ناحية أنه لا يتفق وعقيدته، وعلى أجوبة هذه الإشكالات، فهى كثيرة جداً، وهى تشغل الجزء الأكبر من هذا المؤلَّف، وإليك بعضه هذه المسائل:
* الهداية والضلال:
فمثلاً يقول فى سورة البقرة (ص 9، 10) ما نصه: "مسألة - قالوا: فقد قال تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غشَاوَةٌ} [البقرة: 7] .. وهذا يدل على أنه قد منعم من الإيمان، ومذهبكم بخلافه، وكيف تأويل الآية؟. وجوابنا: أن للعلماء فى ذلك جوابين، أحداهما: أنه شَبَّه حالهم بحال الممنوع الذى على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا، كما قد تعيَّن للواحد الحق فتوضحه فإذا لم يقبل صحَّ أن تقول: إنه حمار قد طبع الله على قلبه، وربما تقول: إنه ميت، وقد قال تعالى للرسول: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 8] وكانوا أحياء، فلما لم يقبلوا شبَّههم بالموتى، وهو كقول الشاعر:(1/280)
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادى
ويبيِّن ذلك أنه تعالى ذَمَّهم، ولو كان هو المانع لهم لما ذَمَّهم، وأنه ذكر فى جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم، وذلك لو كان ثابتاً لم يؤثر فى كونهم عقلاء مُكلَّفين.
والجواب الثانى: أن الختم علامة يفعلها تعالى فى قلوبهم، لتعرف الملائكة كفرهم وأنهم لا يؤمنون فتجتمع على ذَمَّهم، ويكون ذلك لطفاً لهم، ولطفاً لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه، فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر. وهذا جواب الحسن رحمه الله، ولهذا قال تعالى: {غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] ".
ومثلاً فى سورة الأعراف يقول فى (ص 140) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولائك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178] أليس ذلك يدل على أنه يخلق الهدى والضلال؟ وجوابنا: أن المراد: منَ يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدى فى الدنيا. ومَن يُضلل عن الثواب إلى العقاب فأُولئك هم الخاسرون فى الدنيا، وسبيل ذلك أن يكون بعثاً من الله تعالى على الطاعة. وكذلك قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] المراد: مَن يُضلله عن الثواب فى الآخرة فلا هادى له إليه، وإن كنا قد أزحنا العِلَّة وسهَّلنا السبيل إلى الطاعة".
ومثلاً فى سورة الحج يقول فى (ص 240، 241) ما نصه: "مسألة - وربما(1/281)
قيل فى قوله تعالى: {وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} [الحج: 16] : إن ذلك يدل على أنه يهدى قوماً دون قوم بخلاف قولكم: إن الهدى عام. وجوابنا: أن المراد: يكلف مَن يريد، لأن فى الناس مَن لا يبلغه حد التكليف. أو يحتمل أن يريد الهداية إلى الثواب، لأنها خاصة فى المطيعين دون العصاة، ورغَّبَ تعالى المؤمن فى تحمل المشاق واحتمال ما يناله من المبطلين بقوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [الحج: 17] .. فبيِّن حُسن عاقبة المؤمن عند الفصل، ليكون فى الدنيا وإن لحقه الذل صابراً. وعلى هذا الوجه قال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
فأنت ترى من هذا كله: أنه يفر من القول بأن الله تعالى هو الذى يصرف العبد عن طريق الهدى إلى طريق الضلال أو العكس، تمشياً مع مذهبه وعقيدته..
*
* مس الشيطان:
كذلك نراه يُفسِّر الآيات التى تدل على أن الشيطان له قدرة على أن يؤثر فى الإنسان بما يوافق مذهبه، فيقول فى سورة البقرة (ص 50) ما نصه: "مسألة - وربما قيل: إن قوله: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} [البقرة: 275] كيف يصح ذلك وعندكم أن الشيطان لا يقدر على مثل ذلك؟. وجوابنا: أن مس الشيطان إنما هو بالوسوسة كما قال تعالى فى قصة أيوب: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] ، كما يقال فيمن يفكر فى شئ يغمه: قد مسَّه التعب، وبيَّن ذلك قوله فى صفة الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] .. ولو كان يقدر على أن يخبط لصرفً هِمَّته إلى العلماء والزُهَّاد وأهل العقول، لا إلى مَن يعتريه الضعف. وإذا وسوس ضعف قلب مَن يخصه بالوسوسة فتغلب عليه المرة فيتخبط، كما يتفق ذلك فى كثير من الإنس إذا فعلوا ذلك لغيرهم".
ويقول فى سورة الناس (ص 385، 386) : "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس *مَلِكِ الناس *إلاه الناس *مِن شَرِّ الوسواس الخناس} [الناس: 1-4] : أليس ذلك يدل على أن الشيطان يؤثر فى الإنسان حتى أُمِرنا بأن نتعوَّذ من شره، وأنتم تقولون: إنه لا يقدر على شئ من ذلك؟. وجوابنا: أنه تعالى بيَّن أن هذا الوسواس من الجِنَّة والناس، ومعلوم أن من يوسوس من الناس لا يخبط ولا يُحدِث فيمن يوسوس له تغيير عقل وجسم، فكذلك حال الشيطان، ومع ذلك فلا بد فى وسوستهم من أن يكون ضرر يصح أن يُتعوَّذ بالله تعالى منه، وهذا يدل إذا تأمله المرء على قولنا بأن العبد مختار لفعله، وذلك لأنه تعالى لو كان يخلق كل هذه الأمور فيه لم يكن لهذا التعوُّذ معنى، لأنه إن أراد خلق ما يضره فيه، وخلق المعاصى فيه، فهذا التعوُّذ وجوده كعدمه، وإنما ينفع متى كان العبد مختاراً، فإذا أتى بهذا التعوُّذ كان أقرب إلى أن لا يناله من قِبَلِ الجِنَّة والناس ما كان يناله لولا ذلك".
*
* رؤية الله:
ولما كان المعتزلة لا يجوزِّون وقوع رؤية الله فى الآخرة، فإن صاحبنا قد تخلَّص من كل آية تُجوَّز وقوع الرؤية.
فمثلاً فى سورة يونس يقول فى (ص 159) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] : أليس المراد بها الرؤية على ما روى فى الخبر؟. وجوابنا: أن المراد بالزيادة التفضل فى الثواب، فتكون الزيادة من جنس المزيد عليه، وهذا مروى، وهو الظاهر، فلا معنى لتعلقهم بذلك، وكيف يصح ذلك وعندهم أن الرؤية أعظم من كل الثواب فكيف تُجعل زيادة على الحسنى؟ ولذلك قال بعده: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26] فبيَّن أن الزيادة هى من هذا الجنس فى الجنَّة".(1/282)
وفى سورة القيامة يقول فى (ص 358، 359) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23] : إنه أقوى دليل على أن الله تعالى يُرَى فى الآخرة. وجوابنا: أن مَن تعلَّق بذلك إن كان ممن يقول بأن الله تعالى جسم، فإنَّا لا ننازعه فى أنه يُرَى. بل فى أنه يُصافَح، ويُعانَق، ويُلمَس، تعالى الله عن ذلك، وإنما نكلمه فى أنه ليس بجسم. وإن كان ممن ينفى التشبيه عن الله فلا بد من أن يعترف بأن النظر إلى الله تعالى لا يصح، لأن النظر هو تقليب العين الصحيحة نحو الشئ طلباً لرؤيته، وذلك لا يصح إلا فى الأجسام. فيجب أن يُتأوَّل على ما يصح النظر إليه وهو الثواب، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] ، فإنَّا تأوَّلناه على أهل القرية لصحة المسألة منهم. وبيَّن ذلك أن الله ذكر ذلك ترغيباً فى الثواب كما ذكر قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24-25] زجراً عن العقاب، فيجب حمله على ما ذكرناه".
*
* أفعال العباد:
كذلك يتأثر القاضى عبد الجبار بعقيدته الاعتزالية القائلة بأن الله تعالى لا يخلق أفعال العباد، فيقول فى سورة الأنفال (ص 144) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولاكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولاكن الله رمى} [الأنفال: 17] ، كيف يصح ذلك مع القول بأن الله تعالى لا يخلق أفعال العباد؟ وجوابنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرمى يوم بدر، والله تعالى بلغ برميته المقاتل، فلذلك أضافه تعالى إلى نفسه كما أضاف الرمية أولاً إليه بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} ، والكلام متفق بحمد الله.
ويقول فى سورة الصافات (ص 298، 299) ما نصه: "مسألة- وربما قيل فى قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95-96] : أليس فى ذلك تصريح بخلق أعمال العباد؟ وجوابنا: أن المراد: واللهُ خلقكم وما تعملون من الأصنام، فالأصنام من خلق الله، وإنما عملهم نحتها وتسويتها، ولم يكن الكلام فى ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أنكر عبادتهم، فقال: أتعبدون ما تنحتون؟ وذلك الذى تنحتون الله خلقه. ولا يصح لما أورده عليهم معنى إلا على هذا الوجه، وذلك فى اللغة ظاهر، لأنه يقال فى النجار: عمل السرير - وإن كان عمله قد تقضى - وعمل الباب، ونظير ذلك قوله تعالى فى عصا موسى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45] : المراد ما وقع إفكهم فيه، فعلى هذا الوجه نتأوَّل هذه الآية، معنى قوله من بعد: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} [الصافات: 99-100] ".
*
* المنزلة بين المنزلتين:
ولما كان القاضى عبد الجبار يقول - كغيره من المعتزلة - بالمنزلة بين المنزلتين، فإنَّا نراه(1/283)
يتأثر بهذه العقيدة، ففى سورة الأنفال فى قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 2-4] .. نجده فى (ص 143) يقول ما نصه: "وكل ذلك يدل على أن الإيمان قول وعمل، ويدخل فيه كل هذه الطاعات، وأن المؤمن لا يكون مؤمناً إلا أن يقوم بحق العبادات، ومتى وقعت منه كبيرة خرج عن أن يكون مؤمناً".
وفى سورة الإنسان يقول فى (ص 359، 360) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] : أما يدل ذلك على أنه ليس من المكلَّفين إلا كافر ومؤمن؟ وجوابنا: أن الشاكر قد يكون شاكراً وإن لم يكن مؤمناً برَّاً تقياً، لأن الفاسق بغضب أو غيره قد يكون شاكراً فلا يدل على ما قالوا، بل فى الآية دلالة على ما نقول من أن الكافر والمؤمن هما سواء فى أن الله تعالى قد هداهما، لا كما قالت المجبِّرة: إنه تعالى إنما هدى المؤمنين. والمراد به أنه دلَّ الجميع وأزال عِلَّتهم، فمَن عصى فمِن جهة نفسه أُتِىَ".
* *
* تذرعه بالمجاز والتشبيه فيما يُستبعد ظاهره:
كذلك نرد القاضى عبد الجبار يقف أمام الآيات التى تبدو فى ظاهرها غريبة مستبعَدة، موقف النفور من جواز إرادة المعنى الحقيقى، والتخلص من هذا الظاهر المستغرَب بحمل الكلام على المجاز والتشبيه.
فمثلاً يقول فى سورة الأعراف (ص 140) ما نصه: "مسألة - وربما قيل فى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] : وفى الخبر أن جميع بنى آدم أخذ عليهم المواثيق من ظهر آدم صلى الله عليه وسلم، كيف يصح ذلك؟ وجوابنا: أن القوم مخطئون فى الرواية، فمن المحال أن يأخذ عليهم المواثيق وهم كالذَّر لا حياة لهم ولا عقل، فالمراد أنه أخذ الميثاق من العقلاء، بأن أودع فى عقلهم ما ألزمهم، إذ فائدة الميثاق أن يكون مُنَبِّهاً، وأن يُذَكِّر المرء بالدنيا والآخرة، وذلك لا يصح إلا فى العقلاء، وظاهر الآية بخلاف قولهم، لأنه تعالى أخذ من ظهور بنى آدم، لها من آدم، والمراد أنه خرج من ظهورهم ذُرِّية أكمل عقولهم، فأخذ الميثاق عليهم، وأشهدهم على أنفسهم بما أودعه عقلهم".
ومثلاً فى سورة الرعد يقول فى (ص 181) ما نصه: "مسألة - ومتى قيل: فما معنى قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] ، وكيف يصلح التسبيح من الرعد؟. وجوابنا: أن المراد دلالة الرعد وتلك الأصوات الهائلة على قدرته وعلى تنزيهه، وذلك بقوله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [الحديد: 1] .. لدلالة الكل على أنه(1/284)
منزَّه عما لا يليقَ، ولذلك قال: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] ففصل بين الأمرين. وقوله بعد: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15] ؛ معناه: يخضع، فالمكلَّف العارف بالله يخضع طوعاً، وغيره يخضع كرهاً، لأنَّا نعلم أن نفس السجود لا يقع من كل أحد".
وقد رأينا كيف حمل القاضى حملته الشعواء فى مقدمة كتابه على مَن يحمل مثل هذه الآية على حقيقتها، وكيف حكم عليه بأنه ضال لا ينتفع بما يقرأ من كتاب الله.
... وهكذا نجد القاضى عبد الجبار يتأثر تأثراً عظيماً بمذهبه الاعتزالى، فلا يكاد يمر بآية تعارض مذهبه إلا صرفها عن ظاهرها، ومال بها إلى ناحية مذهبه.. وعلى الجملة فالكتاب - رغم ما فيه من هذه النزعات الاعتزالية - قد كشف لنا عن كثير من الشبهات التى ترد على ظاهر النظم الكريم، وأوضح لنا عن كثير من جمال التركيب القرآنى الذى ينطوى على البلاغة والإعجاز، مما يشهد لمؤلفه بقوة وغزارة العلم. وهو مطبوع فى مجلد واحد كبير ومتداوَل بين أهل العلم.
* * *
2 - أمالى الشريف المرتضى أو "غُرَر الفوائد ودُرَر القلائد"
* التعريف بمؤلف هذا الكتاب:
مؤلف هذا الكتاب، هو أبو القاسم، علىّ بن الطاهر أبى أحمد الحسين ابن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علىّ زين العابدين بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم، وهو أخو الشريف(1/285)
الرضىّ، وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق، وكان مع تشيعه معتزلياً مبالغاً فى اعتزاله، وقد تبحَّر - رحمه الله - فى فنون العلم، وعُرِف بالإمامة فى الكلام والأدب، والشعر، وأخذ عن الشيخ المفيد، وروى الحديث عن سهل الديباجى الكذَّاب، وله تصانيف كثيرة على مذهب الشيعة ومقالة فى أصول الدين، وله ديوان شعر كبير، وله كتاب "الأمالى" الذى سمَّاه "غُرَر الفوائد ودُرَر القلائد"، وجمع فيه بين التفسير الاعتزالى، والحديث، والأدب، وهو ما نحن بصدد الكلام عنه الآن، واختلف الناس فى كتاب "نهج البلاغة" المنسوب إلى الإمام علىّ بن أبى طالب، هل هو جمعه؟ أو جمع أخيه الشريف الرضىّ؟. وبالجملة فقد كان الشريف المرتضى إمام أئمة العراق، يفزع إليه علماؤها، ويأخذ عنه عظماؤها. وكانت ولادته سنة 355 هـ (خمس وخمسين وثلاثمائة من الهجرة) ، وتوفى سنة 436 هـ (ست وثلاثين وأربعمائة) ببغداد، ودُفن فى داره عَشية يوم وفاته، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا الكتاب وطريقة مؤلِّفه التى سلكها فى التفسير:
كتاب غُرَر الفوائد ودُرَر القلائد، كتاب يشتمل على محاضرات أو أمالى، أملاها الشريف المرتضى فى ثمانين مجلساً، تشتمل على بحوث فى التفسير والحديث، والأدب، وهو كتاب ممتع، يدل على فضل كثير، وتوسع فى الاطلاع على العلوم، وهو لا يحيط بتفسير القرآن كله، بل ببعض من آياته التى يدور أغلبها حول العقيدة، وعلى ضوء ما فسَّره من الآيات نستطيع أن نلقى نظرة فاحصة على تفسير المعتزلة للقرآن فى ذلك العصر، كما نستطيع أن نقف على مبلغ جهود الشريف المرتضى للتوفيق بين آرائه الاعتزالية وآيات القرآن التى تتصادم معها.
ونحن إذ نتكلم عن أمالى الشريف المرتضى لا نتكلم عنها إلا من ناحية ما فيها من التفسير، أما الناحية الحديثية والأدبية فلا تعنينا فى هذا البحث، وإن كان لها قيمتها ومكانتها العلمية بين رجال الدين والأدب.
نتصفح كتاب الأمالى، ونجيل النظر بين ما فيه من بحوث فى التفسير، فنجد السيد الشريف يسعى بكل جهوده إلى الوصول إلى مبادئه الاعتزالية عن طريق التفسير، مستعيناً فى ذلك بنبوغه الأدبى، ومعرفته بفنون اللغة وأساليبها، حتى إننا لنراه يقف من الآيات التى تعارضه موقفاً يلتزم فيه مخالفة ظاهر القرآن، ويُفَضِّل فيه التفسير الملتوية لبعض الألفاظ على ما يتبادر منها إرضاء لعقيدته، وتمشياً مع مذهبه.
وإليك بعض الأمثلة من تفسيره للآيات التى تدور حول العقيدة، لتقف على حقيقة الأمر، ولتلمس مقدار هذا التعصب المذهبى عند هذا الشريف العلوى:(1/286)
* رؤية الله:
يقول فى المجلس الثالث (جـ1 ص28-29) : "مسألة - اعلم بأن أصحابنا قد اعتمدوا فى إبطال ما ظنَّه أصحاب الرؤية فى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على وجوه معروفة، لأنهم بيَّنوا أن النظر ليس يفيد الرؤية، ولا الرؤية من أحد محتملاته، ودلُّوا على أن النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة: منها تقليب الحدقة الصحيحة فى جهة المرئى طلباً للرؤية، ومنها النظر الذى هو الانتظار، ومنها النظر الذى هو التعطف والمرحمة، ومنها النظر الذى هو الفكر والتأمل. وقالوا: إذ لم يكن فى أقسام النظر الرؤية، لم يكن للقوم بظاهرها تعلق، واحتجنا جميعاً إلى طلب تأويل الآية من جهة غير الرؤية. وتأوَّلها بعضهم على الانتظار للثواب، وإن كان المُنّتَظَر فى الحقيقة محذوفاً، والمُنْتَظَر منه مذكوراً على عادة للعرب معروفة. وسلَّم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر. وحمل الآية على رؤية أهل الجنَّة لنِعَم الله تعالى عليهم، على سبيل حذف المرئى فى الحقيقة. وهذا كلام مشروح فى مواضعه، وقد بيَّنا ما يرد عليه، وما يُجاب به عن الشبهة المعترضة فى مواضع كثيرة.
وههنا وجه غريب فى الآية، حُكى عن بعض المتأخرين، لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر، أو إلى تقدير محذوف، ولا يحتاج إلى منازعتهم فى أن النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها، بل يصح الاعتماد عليه، سواء أكان النظر المذكور فى الآية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين، وهو أن يُحمِل قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا} ، إلى أنه أراد نعمة ربها، لأن الآلاء النِعَم، وفى واحدها أربع لغات، ألَى مثل قفَى، وألِى مثل رمِى، وإِلى مثل معىِ، وإِلى مثل حِنى. قال أعشى بكر بن وائل:
أبيضُ لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رَحْماً ولا يخون إلِى
أراد أنه لا خون نعمة. وأراد تعالى: {إلى رَبِّهَا} ، فأسقط التنوين للإضافة؛ فإن قيل: فأى فرق بين هذه الوجه وبين تأويل مَن حمل الآية على أنه أراد به: إلى ثواب ربها ناظرة، بمعنى: رائية لنعمه وثوابه؟ قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف، لأنه إذا جعل "إلى" حرفاً، ولم يعلقها بالرب تعالى، فلا بد من تقدير محذوف، وفى الجواب الذى ذكرناه لا يُفتقر إلى تقدير محذوف، لأن "إلى" فيه اسم يتعلق به الرؤية، ولا يحتاج إلى تقدير غيره. والله أعلم بالصواب".
*
* الإرادة وحرية الأفعال:
وفى المجلس الرابع (جـ1 ص30-33) يقول ما نصه: "تأويل آية - إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين(1/287)
لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] .. فظاهر هذا الكلام يدل على أن الإيمان إنما كان لهم فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم. وإن حُمِل الإذن هنا على الإرادة، اقتضى أن مَن لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه، وهذا أيضاً بخلاف قولكم. ثم جعل الرجس - الذى هو العذاب - على الذين لا يعقلون، ومَن كان فاقداً لعقله لا يكون مكلَّفاً. فكيف يستحق العذاب. وهو بالضد من الخبر المروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكثر أهل الجنة البُله"؟.. الجواب: يقال له: فى قوله تعالى: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} وجوه: منها أن يكون الإذن: الأمر، ويكون معنى الكلام أن الإيمان لا يقع إلا بعد أن يأذن الله فيه ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنه السائل من أنه لا يكون للفاعل فعله إلا بإذنه، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] .. ومعلوم أن معنى قوله: "ليس لها" - فى هذه الآية. هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه فى هذه الآية التى ذُكِر فيها الموت أن يكون المراد بالإذن: العلم، ومنها أن يكون الإذن هو: التوفيق والتيسير والتسهيل. ولا شبهة فى أن الله يُوفِّق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويُسهِّل السبيل إليه.. ومنها أن يكون الإذن: العلم، من قولهم: أذنتُ لكذا وكذا، إذا سمعته وعلمتَه. وأذنتُ فلاناً بكذا، إذا أعلمته، فتكون فائدة الآية: الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات، فإنه ممن لا تخفى عليه الخفيات. وقد أنكر بعض مَن لا بصيرة له أن يكون الإذْن - بكسر الألف وتسكين الذال - عبارة عن العلم، وزعم أن الذى هو العلم: الأُذن - بالتحريك - واستشهد بقول الشاعر:
إنَّ هَمَّى فى سماع وأُذن
وليس الأمر على ما توهَّم هذا المتوهم، لأن الأذن هو المصدر، والإذن هو اسم الفعل، فيجرى مجرى الحذَر، والحذَر فى أنه مصدر، والحذْر - بالتسكين - الاسم. على أنه لو لم يكن مسموعاً إلا الأذن بالتحريك لجاز التسكين مثل: مثَل ومثْل، وشَبه وشِبْه، ونظائر ذلك كثيرة.. ومنها أن يكون الإذن: العلم، ومعناه إعلام الله المكلَّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان وما يدعوها إلى فعله.. فأما ظن السائل دخول الإرادة فى محتمل اللفظ فباطل، لأن الإذن لا يحتمل الإرادة فى اللُّغة، ولو احتملها أيضاً لم يجب ما توهمه، لأنه إذا قال: إن الإيمان لا يقع إلا وأنا مريد له، لم ينف أن يكون مريداً لما لم يقع، ولس فى صريح الكلام ولا دلالته شئ من ذلك". ثم انتقل من هذا إلى كشف الشبهة عن معنى قوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} مما لا يتصل بعقيدته الاعتزالية.(1/288)
وفى المجلس (41 جـ 3 ص 2-4) يقول ما نصه: "تأويل آية - إن سأل سائل عن قوله تعالى: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [التكوير: 26-27] ... إلى آخر الأية فقال: ما تأويل هذه الآية؟ أو ليس ظاهرها يقتضى أنَّا لا نشاء شيئاً إلا والله تعالى شاءه، ولم يخصّ إيمان من كفر، ولا طاعة من معصية..؟ الجواب: الوجه المذكور فى هذه الآية أن الكلام متعلق بما تقدمه من ذكر الاستقامة، لأنه تعالى قال: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} ثم قال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} : أى ما تشاءون الاستقامة إلا والله تعالى مريد لها، ونحن لا ننكر أن يريد الله تعالى الطاعات، وإنما أنكرنا إرادته المعاصى وليس لهم أن يقولوا: تقدم ذكر الاستقامة لا يوجب قصر الكلام عليها ولا يمنع من عمومه، كما أن السبب لا يوجب قصر ما يخرج من الكلام عليه حتى لا يتعداه، وذلك أن الذى ذكروه إنما يجب فيما يستقل بنفسه من الكلام دون ما لا يستقْل.. وقوله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} لا ذكر للمراد فيه، فهو غير مستقل بنفسه، وإذا علق بما تقدم من ذكر الاستقامة استقل. على أنه لو كان للآية ظاهر يقتضى ما ظنُّوه - وليس لها ذلك - لوجب الانصراف عنه بالأدلة الثابتة على أنه تعالى لا يريد المعاصى ولا القبائح. على أن مخالفينا فى هذه المسألة لا يمكنهم حمل الآية على العموم، لأن العباد قد يشاءون عندهم ما لا يشاؤه الله تعالى بأن يريدوا الشئ ويعزموا عليه فلا يقع لمانع، ممتنعاً كان أو غيره. وكذلك قد يريد النبى عليه الصلاة والسلام من الكفار والإيمان، وقد تعبدنا بأن نريد من المقدم على القبيح تركه، وإن كان تعالى عندهم لا يريد ذلك إذا كان المعلوم أنه لا يقع، فلا بد لهم من تخصيص الآية، فإذا جاز لهم ذلك بالشبهة، جاز لنا مثله بالحُجَّة، وتجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى: {إِنَّ هاذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 29-30] .. وقوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [المدثر: 56] فى تعلق الكلام بما قبله..
فإن قالوا: فالآية تدل على صحة مذهبنا من وجه وبطلان مذهبكم من وجه آخر، وهو أنه عَزَّ وجلَّ قال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} . وذلك يقتضى أنه يشاء الاستقامة فى حال مشيئتنا لها لأن "أن" الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت الاستقبال، وهذا يوجب أنه يشاء أفعال العباد فى كل حال، ويبطل ما تذهبون إليه من أنه إنما يريد الطاعات فى حال الأمر، قلنا: ليس فى ظاهر الآية أنَّا لا نشاء إلا ما شاءه الله تعالى فى حال مشيئتنا كما ظننتم، وإنما يقتضى حصول مشيئته لما نشاءوه من الاستقامة من غير ذكر لتقدم ولا(1/289)
تأخر، ويجرى ذلك مجرى قول القائل: ما يدخل زيد هذه الدار إلا أن يدخلها عمرو، ونحن نعلم أنه غير واجب بهذا الكلام أن يكون دخولهما فى حالة واحدة، بل لا يمتنع أن يتقدم دخول عمرو، ويتلوه دخول زيد. و "أن" الخفيفة وإن كانت للاستقبال - على ما ذكر - فلم يبطل على تأويلنا معنى الاستقبال فيها، لأن تقدير الكلام: وما تشاءون الطاعات إلا بعد أن يشاء الله تعالى. ومشيئته تعالى قد كانت لها حال الاستقبال. وقد ذهب أبو على الجبائى إلى أنه لا يمتنع أن يريد تعالى الطاعات حالاً بعد حال، وإن كان قد أرادها فى حال الأمر، كما يصح أن يأمر بها أمراً بعد أمر، قال: لأنه قد يصح أن يتعلق بإرادته ذلك منا بعد الأمر وفى حال الفعل مصلحة. ويعلم تعالى أنَّا نكون متى علمنا ذلك كنا إلى فعل الطاعات أقرب، وعلى هذا المذهب لا يُعترض بما ذكروه.. والجواب الأول واضح إذا لم نذهب إلى مذهب أبى علىّ فى هذا الباب. على أن اقتضاء الآية للاستقبال من أوضح دليل على فساد قولهم، لأن الكلام إذا اقتضى حدوث المشيئة وأبطل استقبالها بطل قول من قال منهم: إنه مريد بنفسه، أو مريد بإرادة قديمة، وصحَّ ما نقوله من أن إرادته مُحْدَثة مُجَدَّدة. ويمكن فى تأويل الآية وجه آخر مع حملنا إياها على العموم من غير أن نخصها بما تقدَّم ذكره من الاستقامة، ويكون المعنى: وما تشاءون شيئاً من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، وإقداركم عليها، والتخلية بينكم وبينها. وتكون الفائدة فى ذلك الإخبار عن الافتقار إلى الله تعالى، وأنه لا قدرة على ما لم
يُقَدِّره الله تعالى عزَّ وجَلَّ. وليس يجب عليه أن يستبعد هذا الوجه، لأن ما تتعلق به المشيئة فى الآية محذوف غير مذكور، وليس لهم أن يُعلِّقوا قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} بالأفعال، دون تعلقه بالقُدرة، لأن كل واحد من الأمرين غير مذكور، وكل هذا واضح بحمد الله.
فأنت ترى من هذه المُثُل وغيرها لو رجعت إليها فى مكانها أن الشريف المرتضى تأثر فى تأويله للآيات القرآنية بعقيدته الاعتزالية ودافع بكل ما يستطيع عن مذهبه، ورَدَّ كل شُبهة تَرِد عليه بما يدل على قوة ذهنه وسعة اطلاعه.
* *
* رفضه لبعض ظواهر القرآن:
كذلك نجد الشريف المرتضى - كغيره من المعتزلة - يرفض بشدة المعانى القرآنية الظاهرة، التى تبدو فى أول أمرها مُسْتبعدَة مُسْتغرَبة، والتى يجوِّزها أهل السُّنَّة ويرونها أولى بأن يُحمل اللفظ عليها من غيرها، ويتخلص من ذلك إما بحمل اللفظ على معنى حقيقى آخر لا غرابة فيه، وإما بحمله على التمثيل أو التخييل، ونجد لذلك مثلاً جلياً واضحاً فى المجلس الثالث (جـ1 ص20، 22) حيث يقول ما نصه: قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ(1/290)
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هاذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172-173] ..
وقد ظنّ بعض مَن لا بصيرة له ولا فطنة عنده، أن تأويل هذه الآية: أن الله استخرج من ظهر آدم جميع ذُرِّيته وهم فى خلق الذَّر، فقررهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل مع أن العقل يبطله ويحيله، مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأن الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ} ، ولم يقل: من ظهره. وقال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} ، ولم يقل: ذُرِّيته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقول إنهم كانوا عن هذا غافلين. أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنهم نشئوا على دينهم وسُنَّتهم، وهذا يقتضى أن الآية لم تتناول ولد آدم لصلبه، وأنها تناولت من كان له آباء مشركون، وهذا يدل على اختصاصها ببعض ولد آدم، فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويله. فأما شهادة العقل؛ فمن حيث لا تخلو هذه الذُرِّية التى استُخْرِجت من ظهر آدم فخوطبت وقُرِرت من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف، أو لا تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه فى تلك الحال، وما قُرِروا به واستُشْهِدوا عليه، لأن العاقل لا ينسى ما يجرى هذا المجرى وإن بَعُدَ العهد وطال الزمان، ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا فى بلد من البلدان وهو عاقل كامل، فينسى مع بُعْد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله، وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير، لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذِكْر، لكان تخلل النوم، والسُكر، والجنون، والإغماء من أحوال العقلاء يزيل ذِكْرهم لما مضى من أحوالهم، لأن سائر ما عددناه مما ينفى العلوم يجرى مجرى الموت فى هذا. وليس لهم أن يقولوا: إذا جاز فى العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه فى حال الطفولية جاز ما ذكرناه، وذلك إنما أوجبنا ذكرالعقلاء لما ادَّعوه إذا كملت عقولهم، من حيث يجرى عليهم وهم كاملو العقول، ولو كانوا بصفة الأطفال فى تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه. على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض فى الآية، وذلك أن الله تعالى أخبرنا بأنه إنما قررهم وأشهدهم، لئلا يدَّعوا يوم القيامة الغفلة وسقوط الحُجَّة عنهم، فإذا جاز نسيانهم له، عاد الأمر إلى سقوط
الحُجَّة وزوالها، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف، قبح خطابهم، وتقريرهم، وإشهادهم، وصار ذلك عبثاً قبيحاً. فإن قيل: قد أبطلتم قول مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم؟. قلنا: فى الآية وجهان، أحدهما: أن يكون تعالى إنما عَنِىَ بها جماعة من ذُرِّية بنى آدم، خلقهم، وبلَّغهم، وأكمل(1/291)
عقولهم، وقرَّرهم على ألسن رسله عليهم السلام بمعرفته، وما يجب من طاعته، فأُمِروا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم لئلا يقولوا يوم القيامة: إنَّا كنا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم. وإنما أُتِىَ مَن اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظن أن اسم الذُرِّية لا يقع إلى على مَن لم يكن عاقلاً كاملاً، وليس الأمر كما ظن، لأنه سمى جميع البَشر بأنهم ذُرِّية آدم وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر: 8] ولفظ "الصالح" لا يُطلق إلا على مَن كان كاملاً عاقلاً، فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلَّفين فهذا جوابهم.
والجواب الثانى: أنه تعالى لما خلقهم وركبَّهم تركيباً يدل على معرفته، ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، فأراهم العِبر، والآيات، والدلائل، فى أنفسهم وفى غيرهم، كان بمنزلة المُشْهِد لهم على أنفسهم وكانوا فى مشاهدة ذلك ومعرفته، وظهوره فيهم على الوجه الذى أراده الله تعالى وتعذَّر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته، بمنزلة المُقِّر المعترف وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة، ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] ، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة، ولا منهما جواب. ومثله قوله تعالى: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] ، ونحن نعلم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم، وإنما ذلك لَمَّا ظهر منهم ظهوراً لا يتمكنون من دفعه، كانوا بمنزلة المعترفين به، ومثل هذا قولهم: جوارحى تشهد بنعمتك، وحالى معترفة بإحسانك، وما رُوى عن بعض الحكماء من قوله: سل الأرض مَن شق أنهارِك؟ وغرس أشجارك؟ وجنى ثمارِك؟ فإن لم تجبك جؤاراً، أجابتك اعتباراً، وهذا باب كبير، وله نظائر كثيرة فى النظم والنثر، يُغنى عن ذكر جميعها القدر الذى ذكرناه منها.
* *
الطريقة اللُّغوية فى تفسيره للقرآن:
ثم إننا نجد الشريف المرتضى، قد ولع بالطريقة اللُّغوية فى تفسيره للآيات القرآنية، وحرص كل الحرص على تطبيق هذا المبدأ اللُّغوى، الذى يُعتبر الأصل المهم من قواعد التفسير عند المعتزلة، وكثيراً ما نراه يُظهر مهارة فائقة فى استعماله لهذه الطريقة عندما يساوره الشك فى ظاهر اللفظ الذى يتعلق بالعقيدة، فنراه يفسِّره تفسيراً مقبولاً لديه، يقوم على أساس من الأسس اللُّغوية. والحق أن الشريف المرتضى قد ظهر تفوقه العلمى الصحيح، عند تطبيقه لهذا المبدأ، وذلك راجع إلى تمكنه العظيم من اللُّغة والشعر القديم، ولهذا نجده لا يُعتبر من التفاسير اللُّغوية إلا ما كان له شاهد من اللُّغة أو(1/292)
الشعر العربى القديم. أما التفسير المطلق، الذى لا يعتمد على شاهد من ذلك، فإنه يرفضه ولا يرضاه. وإليك بعض الأمثلة التى تصوِّر لك عناية المرتضى بهذا المبدأ اللُّغوى.
ففى المجلس (23 جـ 2 ص 6-9) يقول ما نصه: إن سأل سائل عن قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ، ما المراد بالنفس فى هذه الآية وهل المعنى فيها كالمعنى فى قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28، 30] أو يخالفه؟ أو يطابق معنى الآيتين؟ والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عَزَّ وجَلَّ: إذا أحبَّ العبدُ لقائى أحببتُ لقاؤه، وإذا ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى فى مَلإٍ ذكرته فى مَلإٍ خير منه، وإذا تقرَّب إلىّ ذراعاً تقرَّبتُ إليه باعاً" أو لا يطابقه؟.. الجواب: قلنا: إن النفس فى اللغة لها معان مختلفة. ووجوه فى التصرف متباينة؛ فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان، وهى التى إذا فقدها خرج عن كونه حياً، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] .. والنفس: ذات الشئ الذى يُخبر عنه، كقولهم: فعلً ذلك فلان نفسه، إذا تولى فعله، والنفس: الأنفة، من قولهم: ليس لفلان نفس، أى لا أنفة له، والنفس: الإرادة، من قولهم: نفس فلان فى كذا، أى إرادته. قال الشاعر:
فنفساى نفس قالت إئت ابن بجدل ... تجد فرجاً من كل غم تهابها
ونفس تقول اجهد نجاك فلا تكن ... كخاصبة لم يغن شيئاً خضابها
ومنه: أن رجلاً قال للحسن البصرى: يا أبا سعيد؛ لم أحجج قط، فنفس تقول لى: حج، ونفس تقول لى: تزوج، فقال الحسن: أما النفس فواحدة، ولكن لك هم يقول: حج، وهم يقول: تزوج، وأمره بالحج. وقال الممزق العبدى، ويروى لمعقر بن حمار البارقى:
ألا مَن لعين قد نآها حميمها ... وأرَّقنى بعد المنام همومها
فباتت لها نفسان، شتَّى همومها ... فنفس تعزيها، ونفس تلومها
وقال نمر من تولب العكلى:
أما خليلى، فإنى لستُ معجله ... حتى يؤامر نفسيه كما زعما
نفس له من نفوس القوم صالحة ... تعطى الجزيل، ونفس ترضع الغنما
أراد أنه بين نفسين: نفس تأمره بالجود، وأخرى تأمره بالبخل، وكَنَّى برضاع الغنم عن البخل، لأن البخيل يرضع اللبن من الشاة ولا يحلبها، لئلا يسمع الضيف صوت الشخب فيهتدى إليه، ومنه قيل: لئيم راضع، وقال كثير:
فأصبحتُ ذا نفسين: نفس مريضة ... من الناس، ما ينفك هم يعودها(1/293)
ونفس ترجى وصلها بعد صرمها ... تجمل كى يزداد غيظاً حسودها
والنفس: العين التى تصيب الإنسان يقال: أصابت فلاناً نفس: أى عين، وروُى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقى فيقول: "بسم الله أرقيك، واللهُ يشفيك، من كل داء يؤذيك، وداء هو فيك، من كل عين عائن، ونفس نافس، وحسد حاسد".
وقال ابن الأعرابى: النفوس: التى تصيب الناس بالنفس، وذكر رجلاً فقال: كان واللهِ حسوداً نفوساً كذوباً، وقال عبد الله بن قيس الرقيات، وهو قرشى:
يتقى أهلها النفوس عليها ... فعلى نحرها الرقى والتميم
وقال مضرس الفقعسى:
وإذا نموا صعداً فليس عليهم ... منا الخيال ولا نفوس الحُسَّدِ
وقال ابن هرمة، يمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك:
فاسلم، سلمتَ من المكاره والردى ... وعثارها، ووُقيتَ نفس الحُسَّدِ
والنفس أيضاً من الدباغ بمقدار الدبغة، تقول: أعطنى نفساً من دباغ، أى قدر ما أدبغ به مرة. والنفس: الغيب، يقول القائل: إنى لا أعلم نفس فلان: أى غيبه. وعلى هذا تأويل قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] : أى تعلم غيبى وما عندى، ولا أعلم غيبك. وقيل: إن النفس أيضاً: العقوبة، من قولهم: أحذرك نفسى: أى عقوبتى وبعض المفسِّرين يحمل قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28، 30] على هذا المعنى كأنه: يحذركم عقوبته، وروى ذلك عن ابن عباس والحسن وآخرين، قالوا: معنى الآية: يحذركم الله إياه. وقد رُوى عن الحسن ومجاهد فى قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ما ذكرناه من التأويل بعينه.
فإن قيل: ما وجه تسميته "الغيب" بأنه نفس؟ قلنا: لا يمتنع أن يكون الوجه فى ذلك: أن نفس الإنسان لما كانت خفية الموضع، نزل ما يكتمه ويجتهد فى ستره منزلتها، وسمى باسمها فقيل فيه: إنه نفسه، مبالغة فى وصفه بالكتمان والخفاء. وإنما حَسُن أن يقول تعالى مخبراً عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} من حيث تقدم قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ليزدوج الكلام، ولهذا لا يحسن ابتداءً: أنا لا أعلم ما فى نفس الله تعالى وإن حَسُنَ على الوجه الأول، ولهذا نظائر فى الاستعمال مشهورة مذكورة. فأما الخبر الذى يرويه السائل فتأويله ظاهر، وهو خارج على مذهب العرب فى مثل هذا الباب المعروف، ومعناه: أن مَن ذكرنى فى نفسه جاريته على ذكره لى، وإذا تقرَّب إلىّ شِبْراً جازيته على تقربه إلىّ.. وكذلك الخبر إلى آخره، فسمى المجازاة على الشئ باسمه اتساعاً، كما قال تعالى: {وَجَزَآءُ(1/294)
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} [الأنفال: 30] ، {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] .. وكما قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونظائر هذا كثير فى كلام العرب. ولما أراد تعالى المبالغة فى وصف ما يفعله به من الثواب والمجازاة على تقربه بالكثرة والزيادة، كَنَّى عن ذلك بذكر المسافة المتضاعفة فقال: باعاً وذراعاً، إشارة إلى المعنى من أبلغ الوجوه وأحسنها.
وقال فى المجلس (45 جـ3 ص 46-50) ما نصه: إن سأل سائل عن معنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] ، وقوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] .. وما شاكل ذلك من آى القرآن المتضمنة لذكر الوجه.. الجواب: قلنا: الوجه ينقسم فى اللغة العربية إلى أقسام: فالوجه المركَّب فيه العينان من كل حيوان. والوجه أيضاً: أول الشئ وصدره. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] : أى أول النهار، ومنه قول الربيع ابن زياد:
مَن كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
أى غداة كل يوم، وقال قوم: وجه نهار: اسم موضع. والوجه: القصد بالفعل، من ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} [النساء: 125] .. وقال الفرزدق:
وأسلمتُ وجهى حين شدَّت ركائبى ... إلى آل مروان بناة المكارم
أى جعلتُ قصدى وإرادتى لهم. وأنشد الفرَّاء:
أستغفر الله ذنباً لستُ محصيه ... رَبُّ العباد إليه الوجِه والعمل
أى القصد، ومنه قولهم فى الصلاة: وَجهَّتُ وجهى للذى فَطَرَ السماوات والأرض: أى قصدتُ قصدى بصلاتى وعملى، وكذلك قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم} [الروم: 43] ..
والوجه: الاحتيال فى الأمر، من قولهم: كيف الوجه لهذا الأمر، وما الوجه فيه، أى الحيلة. والوجه: الذهاب والجهة والناحية. قال حمزة ابن بيض الحنفى:
أى الوجوه انتجعت؟ قلت لهم ... لأى وجه إلا إلى الحكم
متى يقل صاحباً سرادقه ... هذا ابن بيض الباب يبتسم
والوجه: القدر والمنزلة، ومنه قولهم: لفلان وجه عريض، وفلان أوجه مِن فلان، أى أعظم قدراً وجاهاً، ويقال: أوجهه السلطان، إذا جعل له جاهاً. قال امرؤ القيس:(1/295)
ونامت قيصر فى ملكه ... فأوجهنى وركبت البريدا
يقال: حمل فلاناً على البريد إذا هيَّأ له فى كل مرحلة مركباً ليركبه، فإذا وصل إلى المرحلة الأخرى نزل عن المعيى وركب المرفَّه.. وهكذا إلى أن يصل إلى مقصده.
والوجه: الرئيس المنظور إليه، يقال: فلان وجه القوم، وهو وجه عشيرته. ووجه الشئ: نفسه وذاته، قال أحمد بن جندل:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة ... فأفلت منها وجهه عتد بها
أراد أفلته ونجَّاه، ومن ذلك قولهم: إنما أفعل ذلك لوجهك، ويدل أيضاً على أن الوجه يُعَبَّرُ به عن الذات، قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22-25] ، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية: 8-9] ، لأن جميع ما أضيف إلى الوجوه فى ظاهر الآى من النظر والظن والرضا لا يصح إضافته على الحقيقة إليها، وإنما يضاف إلى الجملة، فمعنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} ، أى كل شئ هالك إلا إياه. فكذلك قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26-27] ؛ لما كان المراد بالوجه نفسه لم يقل: "ذى" كما قال: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} [الرحمن: 78] لما كان اسمه غيره.. ويمكن فى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، وجه آخر - وقد روى عن بعض المتقدمين - وهو أن يكون المراد بالوجه ما يُقصد به إلى الله تعالى، ويُوجَّه به إليه، نحو القُربة إليه جَلَّت عظمته، فيقول: لا تشرك بالله ولا تدع إلَهاً غيره، فإنَّ كل فعل يُتقرب به إلى غيره، ويُقصد به سواه فهو هالك باطل، وكيف يسوغ للمشبهة أن يحملوا هذه الآية والتى قبلها على الظاهر؟ أوَ ليس ذلك يُوجب أنه تعالى يفنى ويبقى وجهه، وهذا كفر وجهل من قائله.. فأما قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] ، وقوله: {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20] ، وقوله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 39] ، فمحمول على أن هذه الأفعال مفعولة له، ومقصود بها ثوابه والقُربة إليه، والزلفى عنده. فأما قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] ، فيُحتمل أن يُراد به فثَمَّ الله، لا على معنى الحلول، ولكن على معنى التدبير والعلم. ويحتمل أيضاً أن يُراد به: فَثَمَّ رضا الله وثوابه والقُربة إليه. ويُحتمل أن يكون المراد بالوجه: الجهة، ويكون
الإضافة(1/296)
بمعنى: الملك، والخلق، والإنشاء، والإحداث، لأنه عَزَّ وجَلَّ قال: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] : أى أن الجهات كلها لله، وتحت ملكه، وكل هذا واضح بَيِّنٌ بحمد الله.
ونراه يقول فى المجلس (39 جـ2 ص 53-56) ما نصه: إن سأل سائل عن قوله تعالى: {أولائك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب} [البقرة: 202] فقال: أىُّ تَمدُّح فى سرعة الحساب وليس بظاهر وجه المدح فيه؟ الجواب: قلنا: فى ذلك وجوه:
أولها: أن يكون المعنى أنه سريع الحساب للعباد على أعمالهم، وأن وقت الجزاء قريب وإن تأخر، ويجرى مجرى قوله تعالى: {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] ، وإنما جاز أن يُعبَّر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب، لأن ما يُجازَى به العبد هو كفؤ لفعله وبمقداره، فهو حساب له إذا كان مماثلاً مكافئاً. ومما يشهد بأن فى الحساب معنى المكافأة قوله تعالى: {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} [النبأ: 36] : أى عطاءً كافياً. ويقال: أحسبنى الطعام يحسبنى إحساباً: إذا كفانى. قال الشاعر:
وإذ لا ترى فى الناس حُسناً يفوتها ... وفى الناس حُسناً لو تأملت محسب
معناه: كاف.
وثانيها: أن يكون المراد أنه عَزَّ وجَلَّ يُحاسِب الخلق جميعاً فى أوقات يسيرة. ويقال: إن مقدار ذلك حلب شاة، لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره، بل يكلمهم جميعاً، ويحاسبهم كلهم على أعمالهم فى وقت واحد، وهذا أحد ما يدل على أنه تعالى ليس بجسم، وأنه لا يحتاج فى فعل الكلام إلى آلة، لأنه لو كان بهذه الصفات - تعالى عنها - لما جاز أن يخاطب اثنين فى وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين، ولكان خطاب بعض الناس يشغله عن خطاب غيره ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة، كما أن جميع ذلك واجب فى المُحدِّثين الذين يفتقرون فى الكلام إلى الآلات.
وثالثها: ما ذكره بعضهم من أن المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنه لما كانت عادة بنى الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء فى أكثر أمورهم، أعلمهم الله أنه يعلم ما يحسبون بغير حساب، وإنما سمى العلم حساباً، لأن الحساب إنما يُراد به العلم، وهذا جواب ضعيف، لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يُسمى حساباً، ولو سُمى بذلك لما جاز أيضاً أن يقال: إنه سريع العلم بكذا، لأن علمه بالأشياء مما لا يتجدد فيوصف بالسرعة.
ورابعها: أن الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم، وذلك أنه يُسئل فى(1/297)
وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخر، فيجزى كل عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحد ومقدار، فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب، فأعلمنا تعالى أنه سريع الحساب، أى سريع القبول للدعاء بغير إحصاء، وبحث عن المقدار الذى يستحقه الداعى. كما يبحث المخلوقون للحساب والإحصاء. وهذا جواب مبنى أيضاً على دعوى أن قبول الدعاء يُسمى حساباً، ولم يُعهد ذلك فى لغة، ولا عُرف ولا شرع. وقد كان يجب على مَن أجاب بهذا الجواب، أن يستشهد على ذلك بما يكون حُجَّة فيه، وإلا فلا طائل فيما ذكره. ويمكن فى الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة، ومواقفهم عليها، وتكون الفائدة، فى الإخبار بسرعته: الإخبار عن قرب الساعة، كما قال تعالى: {سَرِيعُ العقاب} [الأنعام: 165] ، وليس لأحد أن يقول: فهذا هو الجواب الأول الذى حكيتموه وذلك أن بينهما فرقاً، لأن الأول مبنى على أن الحساب فى الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال، وفى هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه، وعن معنى المحاسبة المعروفة، والمقابلة بالأعمال وترجيحها، وذلك غير الجزاء الذى يفضى الحساب إليه. وقد طعن بعضهم فى الجواب الثانى معترضاً على أبى علىّ الجبائى فى اعتماده إياه، بأن قال: مخرج الكلام فى الآية على وجه الوعيد، وليس فى خفة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضى زجراً، ولا هو مما يُتوعد بمثله فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة، والمجازاة على الأعمال. وهذا الجواب ليس أبو علىّ المبتدئ به، بل قد حُكى عن الحسن البصرى، واعتمده أيضاً قطرب بن المستنير النحوى، وذكره الفضل بن سلمة، وليس الطعن الذى حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له، لأنه اعتمد على أن مخرج الآية مخرج الوعيد، وليس كذلك، لأنه تعالى قال: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النار * أولائك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب} [البقرة: 200-202] ، فالأشبه بالظاهر أن يكون وعداً بالثواب، وراجعاً إلى الذين يقولون: ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أو يكون راجعاً إلى الجميع، فيكون المعنى: أن للجميع نصيباً مما كسبوا، فلا يكون وعيداً خالصاً: بل إما أن يكون وعداً خالصاً، أو وعدا ووعيداً. على أنه لو كان وعيداً خالصاً على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى: {والله سَرِيعُ الحساب} على تأويل مَن أراد قصر الزمان وسرعة الموافقة وجه وتعلق بالوعد والوعيد، لأن الكلام على كل حال متضمن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد، والإحاطة بخيرها وشرها وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة، وفى هذا ترغيب(1/298)
وترهيب لا محالة، لأن مَن علم بأنه يُحاسَب بأعماله، ويُوقَف على جميلها وقبيحها انزجر عن القبيح، وعمل ورغب فى فعل الجواب، فهذا ينصر الجواب، وإن كنا لا ندفع أن فى حمل الجواب على قرب المجازاة، وقرب المحاسبة على الأعمال ترغيباً فى الطاعات، وزجراً على المقبحات، فالتأويل الأول أشبه بالظاهر ونسق الآية، إلا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضاً ولا مردود.
فأنت ترى فى المثالين الأوَّلين كيف تخلَّص من ظاهر اللفظ الذى يمس عقيدته بمهارته اللُّغوية وتوسعه فى المعرفة بأشعار العرب، كما ترى فى المثال الثالث كيف لم يقبل قول مَن قال: إن معنى "سريع الحساب" سريع العلم، أو سريع القبول للدعاء، لأن القولين لم يستندا - كما قال - إلى أصل لُّغوى، أو عُرْفى، أو شرعى.
* *
* دفعه لموهم الاختلاف والتناقض:
هذا.. وإن الشريف المرتضى لا يقتصر فى أماليه على هذا النوع المذهبى من التفسير، بل نجده يعرض لبعض الإشكالات التى ترد على ظاهر النظم الكريم مما يوهم الاختلاف والتناقض، ثم يجيب عنها بدقة بالغة، ترجع إلى مهارته فى اللُّغة وإحاطته بفنونها.
فمثلاً فى المجلس الثالث (جـ1 ص 18-20) يقول ما نصه: "تأويل آية - إن سأل سائل فقال: "ما تقولون فى قوله تبارك وتعالى حكاية عن موسى: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 32] ، وقال تعالى فى موضع آخر: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص: 31] ، والثعبان: الحية العظيمة الخِلْقة، والجان: الصغير من الحيَّات، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟ وكيف يجوز أن تكون العصا فى حال واحدة بصفة ما عَظُم خَلْقه من الحيَّات وبصفة ما صَغُر منها؟ وبأى شئ تزيلون التناقض عن هذا الكلام؟ الجواب: أول ما نقول: إنَّ الذى ظنَّه السائل من كون الآيتين خبراً عن قصة واحدة باطل، بل الحالتان مختلفتان، فالحال التى أخبر أن العصا فيها بصفة الجان، كانت فى ابتداء النبوة وقبل مسير موسى إلى فرعون. والحال التى صار العصا عليها ثعباناً، كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، والتلاوة تدل على ذلك، وإذا اختلفت القصتان فلا مسألة، على أنَّ قوماً من المفسِّرين قد تعاطوا الجواب على هذا السؤال، إما لظنهم أن القصة واحدة، أو لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب فى حالتين، تارة إلى صفة الجان، وتارة إلى صفة الثعبان.
أو على سبيل الاستظهار فى الحُجَّة، وأنَّ الحال لو كانت واحدة على سبيل ما ظن لم يكن بين الآيتين تناقض. وهذا الوجه أحسن ما تكلَّف به الجواب لأجله، لأن(1/299)
الأوَّلين لا يكونان إلا عن غلط أو عن غفلة. وذكروا وجهين تزول بكل منهما الشُبهة من تأويلها.
أحدهما: أنه تعالى إنما شبَّهها بالثعبان فى إحدى الحالتين لِعظَم خلقها، وكِبَر جسمها، وهول منظرها. وشبَّهها فى الآية الأخرى بالجان لسرعة حركتها، ونشاطها، وخفتها، فاجتمع لها مع أنها فى جسم الثعبان وكبر خلقه، نشاط الجان وسرعة حركته، وهذا أبهر فى باب الإعجاز وأبلغ فى خرق العادة، ولا تناقض بين الآيتين. وليس يجب إذا شبَّهها بالثِعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان، وإذا شبَّهها بالجان أن يكون لها جميع صفاته، وقد قال الله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ* قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ..} [الإنسان: 15-16] ، ولم يرد تعالى أن الفضة قوارير على الحقيقة، وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقتها، مع أنها من فضة، وقد تُشَبِّه العرب الشئ بغيره فى بعض وجوهه، فيُشبِّهون المرأة بالظبية، وبالبقرة، ونحن نعلم أن فى الظباء والبقر من الصفات ما لا يُستحسن أن يكون فى النساء، وإنما وقع التشبيه فى صفة دون صفة، ومن وجه دون وجه.
والجواب الثانى: أنه تعالى لم يرد بذكر الجان فى الآية الأخرى الحية، وإنما أراد أحد الجن، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعباناً فى الخِلْقة وعِظَم الجسم، وكانت مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} .. ويمكن أن يكون فى الآية تأويل آخر استخرجناه، إن لم يزد على الوجهين الأوَّلين لم ينقص عنهما، والوجه فى تكلفنا له، ما بيَّناه من الاستظهار فى الحُجَّة، وأن التناقض الذى توهم زائل على كل وجه، وهو أن العصا لما انقلبت حيَّة صارت أولاً بصفة الجان وعلى صورته، ثم صارت بصفة الثعبان، ولم تصر كذلك ضربة واحدة، فتتفق الآيتان على هذا التأويل ولا يختلف حكمهما، وتكون الآية الأولى تتضمن ذكر الثعبان إخباراً عن غاية حال العصا، وتكون الآية الثانية تتضمن ذكر الحال التى ولَّى موسى منها هارباً، وهى حال انقلاب العصا إلى خِلْقة الجان، وإن كانت بعد تلك الحال انتهت إلى صورة الثعبان. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يصح ما ذكرتموه مع قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ، وهذا يقتضى أنها صارت ثعباناً بعد الإلقاء بلا فصل؟ قلنا: ليس تفيد الآية ما ظن، وإنما فائدة قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ} الإخبار عن قُرب الحال التى صارت فيها بتلك الصفة، وأنه لم يطل الزمان فى مصيرها كذلك، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [يس: 77] ، مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه(1/300)
خصيماً مبيناً، وقولهم: ركب فلان من منزله فإذا هو فى ضيعته، وسقط من أعلى الحائط فإذا هو فى الأرض، ونحن نعلم أن بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زماناً، وأنه لم يصل إليها إلا على تدريج، وكذلك الهابط من الحائط، وإنما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزمان وأنه لم يطل ولم يمتد".
* *
* ليس فى الأمالى أثر للتشيع، وإنما فيه عزو أُصول المعتزلة إلى الأئمة من آل البيت:
هذا.. وإنَّا لا نكاد نجد أثراً ظاهراً للتشيع فيما فسَّره الشريف المرتضى من الآيات فى آماليه، رغم أنه من شيوخ الشيعة وعلمائهم، غير أنَّا نجد منه محاولة جَدِّية، يريد من ورائها أن يثبت أن أصول المعتزلة مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، ومن كلام غيره من أئمة الشيعة وغيرهم، وذلك حيث يقول فى المجلس العاشر (جـ1 ص103، 104) ما نصه: "اعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علىّ (عليه السلام) وخطبه وأنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه، ومَن تأمل المأثور فى ذلك من كلامه علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد فى تصنيفه وجمعه إنما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول، ورُوى عن الأئمة من أبنائه عليهم السلام ما لا يكاد يُحاط به كثرة، ومَن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير الذى فى بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة، ونحن نُقدِّم على ما نريد ذكره شيئاً مما يُروى عنهم فى هذا الباب".. ثم ساق أشياء كثيرة منها ما نصه: "وروى صفوان بن يحيى قال: دخل أبو قرة المحدِّث على أبى الحسن الرضا عليه السلام، فسأله عن أشياء من الحلال والحرام، والأحكام والفرائض، حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد، فقال أبو قرة: إنَّا رُوينا: أن الله قَسَّم الكلام والرؤية، فقسم لموسى عليه السلام الكلام، ولمحمد صلى الله عليه وسلم الرؤية، فقال الرضا عليه السلام: فمَن المبلِّغ عن الله إلى الثَقَلين - الجن والإنس -: أنه {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] ، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .. أليس محمد نبياً صادقاً؟ قال: بلَى. قال: وكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله يدعوهم إليه بأمره ويقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .. ثم يقول: سأراه بعينى، وأُحيط به علماً، ألا تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون يأتى عن الله بشئ، ثم يأتى بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة: فإنه يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى *
عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} [النجم: 13-14] .. قال عليه السلام: ما قبل هذه الآية يدل على ما رأى حيث يقول: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى}(1/301)
[النجم: 11] .. يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 18] ، وآيات الله غير الله، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم، فقال أبو قرة: فأُكذِّب بالرؤية؟ فقال الرضا عليه السلام: إن القرآن كذَّبها وما أجمع عليه المسلمون أنه لا يُحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ".
.. ثم قال بعد قليل: "وروُى أن شيخاً حضر صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخْبِرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من الله تعالى وقدر؟ قال له: نعم يا أخا أهل الشام، والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً، ولا علونا تلعة، إلا بقضاء من الله وقدر، فقال الشامى: عند الله أحتسب عناى يا أمير المؤمنين، وما أظن أن لى أجراً فى سعيى إذا كان الله قضاء علىّ وقدَّره، فقال له عليه السلام: إنَّ الله قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا فى شئ من حالاتكم مُكْرَهين، وإلا إليها مضطرين، ولا عليها مُجبْرَين، فقال الشامى: كيف ذاك والقضاء والقَدَر ساقانا. وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟ فقال عليه السلام: ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقَدَراً حاكماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهى، ولما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسئ، والمسئ أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور، وقدرية هذه الأُمة ومجوسها. إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، وأعطى على القليل كثيراً. ولم يُطَع مكرهاً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُكِلف عسيراً، ولم يُرسل الأنبياء لعباً، ولم يُنزل الكتب لعباده عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27] .. قال الشامى فما القضاء والقَدر الذى كان مسيرنا بهما وعنهما؟ قال: الأمر من الله بذلك والحكم. ثم تلا: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38] .. فقام الشامى: فرحاً مسروراً لما سمع هذا المقال، وقال: فرَّجت عنى، فرَّج الله عنك يا أمير المؤمنين، وجعل يقول:
أنت الإمام الذى نرجو بطاعته ... يوم الحساب من الرحمن غفراناً
أوضحتَ من أمرنا ما كان ملتبساً ... جزاك ربك بالإحسان إحساناً"
وهكذا يذكر الشريف المرتضى من الأخبار عن أهل البيت وعن غيرهم ما يستدل به على أن أصول المعتزلة مستمدة من كلامهم، والله يعلم مقدار ما عليه هذه الأخبار من الصحة، وأنا لا أكاد أصدقها بالنسبة لعلىّ (رضى الله عنه) . فقد روى أبو القاسم(1/302)
بن حبيب فى تفسيره بإسناده: أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه سأله سائل عن القَدَر فقال: دقي لا تمش فيه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبِرنى عن القَدَر، فقال: بحر عميق لا تَخُضْ فيه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبِرنى عن القَدَر، فقال: سر خفى لله لا تُفشِه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبِرنى عن القَدَر، فقال علىّ (رضى الله عنه) : يا سائل؛ إن الله خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فقال: كما شاء، قال: إن الله تعالى يبعثك يوم القيامة كما شئت أو كما شاء؟ فقال: كما شاء. فقال: يا سائل؛ لك مشيئة مع الله أو فوق مشيئته أو دون مشيئته؟ فإن قلت: مع مشيئته، ادعيت الشركة معه. وإن قلت: دون مشيئته، استغنيتَ عن مشيئته. وإن قلت: فوق مشيئته، كانت مشيئتك غالبة فى مشيئته. ثم قال: ألست تسأل الله العافية؟ فقال: نعم، فقال: فعن ماذا تسأله العافية؟ أمن بلاء هو ابتلاك به؟ أو من بلاء غيره ابتلاك به؟ قال: من بلاء ابتلانى به. فقال: ألست تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم؟ قال: بلى، قال: تعرف تفسيرها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، علِّمنى مما علَّمك الله، فقال: تفسيره: أن العبد لا قدرة له على طاعة الله ولا على معصيته إلا بالله عَزَّ وجَلَّ، يا سائل؛ إن الله يسقم ويداوى، منه الداء. ومنه الدواء، اعقل عن الله، فقال السائل عقلت، فقال له: الآن صرتَ مسلماً، قوموا إلى أخيكم المسلم وخذوا بيده، ثم قال علىّ: لو وجدتُ رجلاً من أهل القَدَر لأخذت بعنقه، ولا أزال أضربه حتى أكسر عنقه، فإنهم يهود هذه الأُمة.
وبعد ... فهذه هى أمالى الشريف المرتضى، وهى وإن كانت لا تصوِّر لنا تفسيراً متناولاً للقرآن كله إلا أنها يمكن أن تكشف لنا عن مبلغ تأثر صاحبها بعقيدته الاعتزالية فى بحوثه التفسيرية التى عالجها، كما تكشف لنا عن مبلغ ما كان لفنه الأدبى من الأثر الظاهر فى التفسير.
* * *(1/303)
3 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل (للزمخشرى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو القاسم: محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمى، الإمام الحنفى المعتزلى، الملقب بجار الله، ولد فى رجب سنة 467 هـ (سبع وستين وأربعمائة من الهجرة) بزمخشر - قرية من قرى خوارزم وقدم بغداد، ولقى الكبار وأخذ عنهم، دخل خراسان مراراً عديدة. وما دخل بلداً إلا واجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له، وما ناظر أحداً إلا وسَلَّم له واعترف به. ولقد عظم صيته وطار ذكره حتى صار إمام عصره من غير مدافعة.
ليس عجباً أن يحظى الزمخشرى بكل هذا وهو الإمام الكبير فى التفسير والحديث والنحو، واللغة والأدب، وصاحب التصانيف البديعة فى شتَّى العلوم. ومن أجَّل مصنفاته: كتابه فى تفسير القرآن العزيز الذى لم يُصنَّف قبله مثله، وهو ما نحن بصدده الآن، والمحاجاة فى المسائل النحوية، والمفرد والمركب فى العربية، والفائق فى تفسير الحديث، وأساس البلاغة فى اللغة، والمفصَّل فى النحو، ورؤوس المسائل فى الفقه.. وغير هذا كثير من مؤلفاته.
قال صاحب وفيات الأعيان: "كان الزمخشرى معتزلى الاعتقاد، متظاهراً باعتزاله، حتى نُقِل عنه: أنه كان إذا قصد صاحباً له واستأذن عليه فى الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلى بالباب، وأول ما صنَّف كتاب الكشاف، كتب استتفتاح الخطبة: "الحمد لله الذى خلق القرآن" فيقال إنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس سولا يرغب أحد فيه، فغيَّره بقوله: "الحمد لله الذى جعل القرآن" و "جعل" عندهم بمعنى "خلق"، والبحث فى ذلك يطول. ورأيت فى كثير من النسخ: "الحمد لله الذى أنزل القرآن" وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المُصنِّف".
يقول الفيروزآبادى - وصاحب القاموس - فيما علَّقه على خطبة الكشاف: "قال بعض الطلبة - وأثبته بعض المعتنين بالكشاف فى تعليق له عليه - أنه كان فى الأصل كتب: "خلق" مكان: "أنزل" وأخيراً غيَّره المصنف أو غيَّره حذراً عن الشناعة(1/304)
الواضحة وهذا قول ساقط جداً وقد عرضته على أستاذى فأنكره غاية الإنكار، وأشار إلى أن هذا القول بمعزل عن الصواب لوجهين: أحدهما أن الزمخشرى لم يكن أهلاً لأن تفوته اللطائف المذكورة فى "أنزل" وفى "نزل" فى مفتتح كلامه ووضع كلمة خالية من ذلك. والثانى: أنه لم يكن يأنف من انتمائه إلى الاعتزال، وإنما كان يفتخر بذلك، وأيضاً أتى عقيبه بما هو صريح فى المعنى ولم يبال بأنه قبيح، وقد رأيت النسخة التى بخط يده بمدينة السلام، مختبئة فى تربة الإمام أبى حنيفة، خالية عن أثر كشط وإصلاح".
وكانت وفاة الزمخشرى رحمه الله ليلة عرفة سنة 538 هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة) بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة، ورثاه بعضهم، بأبيات من جملتها:
فأرض مكة نَدَّى الدمع مقلتها ... حزناً لفُرقة جار الله محمود
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه - قصة تأليف الكشاف:
قبل الخوض فى التعريف بالكشاف للزمخشرى، أرى أن أسوق لك قصة تأليفه وما كان من الزمخشرى من التردد بين الإقدام عليه والإحجام عنه أولاً.. ثم العزم المصمم منه على تأليفه حتى أخرجه للناس كتاباً جامعاً نافعاً.
أسوق هذه القصة نقلاً عن الزمخشرى فى مقدمة كشافه، فقد أوضح ما كان منه أول الأمر، وكشف عن السبب الذى دعاه إلى تأليف كتابه فى التفسير فقال:
"ولقد رأيت إخواننا فى الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلىَّ فى تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحُجُب، أفاضوا فى الاستحسان والتعجب، واستطيروا شوقاً إلى مُصَنَّف يضم أطرافاً من ذلك، حتى اجتمعوا إلىَّ مقترحين أن أُملى عليهم الكشف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل، فى وجوه التأويل، فاستعفيت، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين، وعلماء العدل والتوحيد. والذى حدانى إلى الاستعفاء - على علمى أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علىَّ واجبة، لأن الخوض فيه كفرض العَيْن - ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله، وركاكة رجاله، وتقاصر همهم عن أدنى عدد هذا العلم، فضلاً أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمى البيان والمعانى، فأمليت عليهم مسألة فى الفواتح، وطائفة من الكلام فى حقائق سورة البقرة، وكان كلاماً مبسوطاً كثير السؤال والجواب،(1/305)
طويل الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم، وأن يكون لهم مناراً ينتحونه، ومثالاً يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار الله، والإناخة بحرم الله، فتوجهت تلقاء مكة، وجدت فى مجتازى بكل بلد مَن فيه مسكة من أهلها - وقليل ما هم - عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملَى، متطلعين إلى إيناسه، حراصاً على اقتباسه، فهزَّ ما رأيت من عِطفى، وحرَّك الساكن من نشاطى، فلما حططت الرَحْل بمكة إذا أنا بالشعبة السنية من الدرجة الحسنية: الأمير الشريف، الإمام شرف آل رسول الله، أبى الحسن، بن حمزة بن وهاس - أدام الله مجده - وهو النكتة والشامة فى بنى الحسن، مع كثرة محاسنهم، وجموم مناقبهم، أعطش الناس كبداً، وألهبهم حشىً، وأوفاهم رغبة، حتى ذكر أنه كان يُحدِّث نفسه فى مدة غيبتى عن الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشادة، بقطع الفيافى وطى المهامه، والإفادة علينا بخوارزم، ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض، فقلت: قد ضاقت على المستعفى الحيل، وعيّت به العلل. ورأيتنى قد أخذت منى السن، وتقعقع الشن، وناهزت العشر التى سمتها العرب دقاقة الرقاب، فأخذت فى طريقة أخصر من الأولى، مع ضمان التكثير من الفوائد، والفحص عن السرائر،
ووفَّق الله وسدَّد، ففُرِغ منه فى مقدار مدة خلافة أبى بكر الصِدِّيق رضى الله عنه وكان يُقَدَّر تمامه فى أكثر من ثلاثين سنة. وما هى إلا آية من آيات هذا البيت المحرَّم، وبركة أُفيضت علىّ من بركات هذا الحرم المعظَّم. أسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه سبباً ينجينى، ونوراً لى على الصراط يسعى بين يدى ويمينى، ونِعْم المسئول".
هذه قصة تأليف الكشاف كما يرويها الزمخشرى نفسه.
* *
* قيمة الكشاف العلمية:
وأما قيمة هذا التفسير. فهو - بصرف النظر عما فيه من الاعتزال - تفسير لم يُسبق مؤلفه إليه، لما أبان فيه من وجوه الإعجاز فى غير ما آية من القرآن، ولما ظهر فيه من جمال النظم القرآنى وبلاغته، وليس كالزمخشرى مَن يستطيع أن يكشف لنا عن جمال القرآن وسحر بلاغته، لما برع فيه من المعرفة بكثير من العلوم. لا سيما ما برز فيه من الإلمام بلغة العرب. والمعرفة بأشعارهم. وما امتاز به من الإحاطة بعلوم البلاغة،(1/306)
والبيان والإعراب، والأدب، ولقد أضفى هذا النبوغ العلمى والأدبى على تفسير الكشاف ثوباً جميلاً، لفت إليه أنظار العلماء وعلَّق به قلوب المفسِّرين.
هذا.. وقد أحس الزمخشرى إحساساً قوياً بضرورة الإلمام بعلمى المعانى والبيان قبل كل شئ، لمن يريد أن يُفسِّر كتاب الله عَزَّ وجلَّ، وجهر بذلك فى مقدمة الكشاف فقال: ".. ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يُبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سبكها، علم التفسير، الذى لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذى علم - كما ذكر الجاحظ فى كتاب نظم القرآن - فالفقيه وإن برز على الأقران فى علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بَزَّ أهل الدنيا فى صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القِرِّية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصرى أوعظ، والنحوى وإن كان أنحى من سيبويه، واللُّغوى وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعانى، وعلم البيان، وتمهل فى ارتيادهما آونة، وتعب فى التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة فى معرفة لطائف حُجَّة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ، جامعاً بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رَجَعَ زماناً ورُجِعَ إليه، ورَدَّ ورُدَّ عليه، فارساً فى علم الإعراب، مقدَّماً فى حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقَّادها، يقظان النفس، دراً كاللمحة وإن لطف شأنها، منتبهاً على الرمزة وإن خفى مكانها، لا كزَّاً جاسياً، ولا غليظاً جافياً، متصرفاً ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضاً غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يُرتَّب الكلام ويُؤلَّف، وكيف يُنظَّم ويُرصَّف، طالما دفع إلى مضايقه. ووقع فى مداحضه ومزالقه".
وفى الحقيقة أن الزمخشرى قد جمع كل هذه الوسائل التى لا بد منها للمفسِّر، فأخرج للناس هذا الكتاب العظيم فى تفسير القرآن "الكشاف عن حقائقه، المخلص من مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت فى مداحضه، المُلخِّص لنكته ولطائف نظمه، المُنَقِّر عن فِقَره وجواهر علمه، المكتنز بالفوائد المفتنَّة التى لا تُوجد إلا فيه، المحيط بما لا يكتنه من بدع ألفاظه ومعانيه، مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكرَه(1/307)
المملول، ولو لم يكن فى مضمونه إلا إيراد كل شئ على قانونه، لكفى به ضالة ينشدها محققة الأخبار، وجوهرة يتمنى العثور عليها غاصة البحار".
ولما علم الزمخشرى أن كتابه قد تحلَّى بهذه الأوصاف قال متحدثاً بنعمة الله:
إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعَمْرى مثل كشافى
إن كنتَ تبغى الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافى
وإذا كان الزمخشرى قد اعتزَّ بكشافه، وبلغ إعجابه به إلى حد جعله يقول فيه ما قال من تقريظ له، وإطراء عليه، فإنَّا نعذره فى ذلك ولا نلومه عليه، فالكتاب واحدٌ فى بابه، وعَلَمٌ شامخ فى نظر علماء التفسير وطُلابه، ولقد اعترف له خصومه بالبرعة وحسن الصناعة، وإن أخذوا عليه بعض المآخذ التى يرجع أغلبها إلى ما فيه من ناحية الاعتزال، وإليك مقالات بعض العلماء فى الكشاف:
* مقالة ابن بشكوال فى الكشاف:
وإنَّا لنجد فى مقدمة تفسير أبى حيان، مقارنة للحافظ أبى القاسم بن بشكوال، بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشرى، ووصفاً رقيقاً وتحليلاً عميقاً لكتاب الكشاف يقول فيها:
"وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص. وكتاب الزمخشرى ألخص وأغوص، إلا أن الزمخشرى قائل بالطفرة، ومقتصر من الذؤابة على الوفرة، فربما سنح له آبى المقادة فأعجزه اعتياصه، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه، فتركه عقلاً لمن يصطاده، وغفلاً لمن يرتاده. وربما ناقض هذا المنزع، فثنى العنان إلى الواضح والسهل اللائح، وأجال فيه كلاماً، ورمى نحو غرضه سهاماً. هذا مع ما فى كتابه من نصرة مذهبه، وتقحم مرتكبه، وتجشم حمل كتاب الله عَزَّ وجَلَّ عليه، ونسبة ذلك إليه، فمغتفر إساءته لإحسانه، ومصفوح عن سقطه فى بعض، لإصابته فى أكثر تبيانه".
*
* مقالة الشيخ حيدر الهروى:
كذلك نجد للشيخ حيدر الهروى - أحد الذين عَلَّقوا على الكشاف - وصفاً دقيقاً لكتاب الكشاف وهذا نصه:
" ... وبعد، فإن كتاب الكشاف، كتاب عَلىُّ القدر رفيع الشأن، لم يُرَ مثله فى تصانيف الأوَّلين، ولم يرد شبيهه فى تآليف الآخرين. اتفقت على متانة تراكيبه الرشيقة كلمة المهرة المتقنين، واجتمعن على محاسن أساليبه الأنيقة ألسنة الكلمة المفلقين. ما قصَّرَ فى قوانين التفسير وتهذيب براهينه. وتمهيد قواعده وتشييد معاقده.(1/308)
وكل كتاب بعده فى التفسير، ولو فُرِض أنه لا يخلو عن النقير والقطمير، إذا قيس به لا تكون له تلك الطلاوة، ولا يُوجد فيه شئ من تلك الحلاوة، على أن مؤلفه يَقتفى أثره، ويَسأل خبره. وقلَّما غيَّر تركيباً من تراكيبه إلا وقع فى الخطأ والخطل، وسقط من مزالق الخبط والزلل، ومع ذلك كله إذا فتشت عن حقيقة الخبر، فلا عين منه ولا أثر، ولذلك قد تداولته أيدى النظار، فاشتهر فى الأقطار، كالشمس فى وسط النهار، إلا أنه لإخطائه سلوك الطرق الأدبية، وإغفاله عن إجمال أرباب الكمال. أصابته عين الكلالة. فالتزم فى كتابه أُموراً أذهبت رونقه وماءه، وأبطلت منظره ورواءه، فتكدرت مشارعه الصافية، وتضيَّقت موارده الضافية، وتزلزلت رتبه العالية.
منها: أنه كلما شرع فى تفسير آية من الآى القرآنية مضمونها لا يساعد هواه، ومدلولها لا يطاوع مشتهاه، صرفها عن ظاهرها بتكلفات باردة، وتعسفات جامدة، وصرف الآية - بلا نكتة بلاغية لغير الضرورة - عن الظاهر، وفيه تحريف لكلام الله سبحانه وتعالى، وليته يكتفى بقدر الضرورة، بل يبالغ فى الإطناب والتكثير، لئلا يوهم بالعجز والتقصي، فتراه مشحوناً بالاعتزالات الظاهرة التى تتبادر إلى الأفهام، والخفية التى لا تتسارق إليها الأوهام، بل لا يهتدى إلى حبائله إلا ورَّاد بعد وراَّد من الأذكياء الحذَّاق، ولا ينتبه لمكائده إلا واحد من فضلاء الآفاق. وهذه آفة عظيمة ومصيبة جسيمة.
ومنها: أنه يطعن فى أولياء الله المرتضين من عباده، ويغفل عن هذا الصنيع لفرط عناده. ونِعْمَ ما قال الرازى فى تفسير قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] .. خاض صاحب الكشاف فى هذا المقام فى الطعن فى أولياء الله تعالى، وكتب فيها ما لا يليق بعاقل أن يكتب مثله فى كتب الفحش، فهب أنه اجترأ على الطعن فى أولياء الله تعالى، فكيف اجتراؤه على كتبه ذلك الكلام الفاحش فى تفسير كلام الله المجيد.
ومنها: أنه أورد فيه أبياتاً كثيرة، وأمثالاً غزيرة بنى على الهزل والفكاهة أساسها. وأورد على المزاح البارد نبراسها. وهذا أمر من الشرع والعقل بعيد، لا سيما عند أهل العدل والتوحيد.
ومنها: أنه يذكر أهل السُّنَّة والجماعة - وهم الفرقة الناجية - بعبارات فاحشة، فتارة يُعَبِّر عنهم بالمُجَبِّرة، وتارة ينسبهم على سبيل التعريض إلى الكفر والإلحاد. وهذه وظيفة السفهاء الشطار، لا طريقة العلماء الأبرار".
*
* مقالة أبى حيان:
ونجد أبا حيان صاحب البحر المحيط عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [49] من(1/309)
سورة النمل: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .. يتعقب الزمخشرى فى تفسيره لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .. ثم يصفه بقوله: "وهذا الرجل وإن كان أُوتِىَ من علم القرآن أوفر حظ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ، ففى كتابه فى التفسير أشياء منتقدة، وكنت قريباً من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيداً فى شغل الإنسان بكتاب الله، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشرى، فذكرت أشياء من محاسنه، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك مَن يقف على كتابى هذا، ويتنبه على ما تضمنه من القبائح، فقلت بعد ذكر ما مدحته به:
ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلاً ... ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
ويشم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضايقا
ويُسهب فى المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يُقوِّل فيها الله ما ليس قائلا ... وكان محباً فى الخطابة وامقا
ويخطئ فى تركيبه لكلامه ... فليس لما قد ركَّبوه موافقا
وينسب إبداء المعانى لنفسه ... ليُوهم أغماراً وإن كان سارقا
ويخطئ فى فهم القرآن لأنه ... يُجَوِّز إعراباً أبى أن يطابقا
وكم بين مَن يؤتى البيان سليقة ... وآخر عاناه فما هو لاحقا
ويحتال للألفاظ حتى يديرها ... لمذهب سوء فيه أصبح مارقا
فيا خسره شيخ تخرَّق صيته ... مغارب تخريق الصبا ومشارقا
لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يُرى للكافرين مرافقا"
وأحسب أن القارئ لا يفوته أن يدرك ما فى الوصف من قسوة على الزمخشرى، وما فيه من اتهامه بقِلَّة بضاعته فى البيان والعربية، مع أنه سلطان هذه الطريقة فى التفسير غير مدافع.
*
* مقالة ابن خلدون:
وهذا هو العلاَّمة ابن خلدون، نجده عندما تكلم عن القسم الثانى من التفسير وهو ما يرجع إلى اللسان، من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة فى تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. يقول: "ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشرى من أهل خوارزم العراق، إلا أن مؤلِّفه من أهل الاعتزال فى(1/310)
العقائد، فيأتى بالحِجَاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرَض له فى آى القرآن من طرق البلاغة، فصار بذلك للمحققين من أهل السُّنَّة انحراف عنه، وتحذير للجمهور من مكامته، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة، وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السُّنِّية، محسناً للحجاج عنها، فلا جَرَم أنه مأمون من غوائله، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه فى اللسان. ولقد وصل إلينا فى هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبى من أهل توريز، من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشرى هذا، وتَنَبَّع ألفاظه، وتَعَرَّض لمذاهبه فى الاعتزال بأدلة تُزيفها، وتُبيِّن أن البلاغة إنما تقع فى الآية على ما يراه أهل السُّنَّة، لا على ما يراه المعتزلة، فأحسن فى ذلك ما شاء، مع إمتاعه فى سائر فنون البلاغة، وفوق كل ذى علم عليم".
*
*مقالة التاج السبكى:
وأخيراً.. فهذا هو العلاَّمة تاج الدين السبكى يقول فى كتابه "معيد النِعَم ومبيد النِقَم": "واعلم أن الكشاف كتاب عظيم فى بابه، ومصنِّفه إمام فى فنه، إلا أنه رجل مبتدع متاجر ببدعته، يضع من قدر النبوة كثيراً، ويسئ أدبه على أهل السُّنَّة والجماعة، والواجب كشط ما فى الكشاف من ذلك كله، ولقد كان الشيخ الإمام - يعنى والده تقى الدين السبكى - يقرأه فإذا انتهى إلى كلامه فى قوله تعالى فى سورة التكوير الآية [19] : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أعرض عنه صفحاً، وكتب ورقة حسبة سماها "سبب الانكفاف، عن إقراء الكشاف" وقال فيها: قد رأيت كلامه على قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ} ، وكلامه فى سورة التحريم وغير ذلك من الأماكن التى أساء أدبه فيها على خير خلق الله تعالى، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعرضتُ عن إقراء كتابه حياءً من النبى صلى الله عليه وسلم، مع ما فى كتابه من الفوائد والنكت البديعة".
هذه هى شهادات بعض العلماء فى تفسير الكشاف بما له وما عليه. ومهما يكن(1/311)
من شئ، فالكل مجمع عن أن الزمخشرى هو سلطان الطريقة اللُّغوية فى تفسير القرآن، وبها أمكنه أن يكشف عن وجه الإعجاز فيه، ومن أجلها طار كتابه فى أقصى المشرق والمغرب، واشتهر فى الآفاق، واستمد كل مَن جاء بعده من المفسِّرين من بحره الزاخر، وارتشف من معينه الفيَّاض، واعتنى الأئمة المحققون بالكتابة عليه: فمن مميِّز لما جاء فيه من الاعتزال، ومن مناقش لما أتى فيه من وجوه الإعراب، ومن محش وضَّحَ ونَقَّحَ واستشكل وأجاب، ومن مخرج لأحاديثه عَزَا وأسْنَدَ وصَحَّحَ وأنقد، ومن مختصر لَخَّصَ وأوجز.
ولا أطيل بذكر الكتب التى عَنِىَ فيها أصحابها بهذه النواحى، ويكفى أن أقول: إن من أهم الحواشى على تفسير الكشاف، حاشية العلامة شرف الدين الحسن بن محمد الطيبى، المتوفى سنة 743 هـ (ثلاث وأربعين وسبعمائة من الهجرة) ، وهى تقع فى ست مجلدات كباراً، وهى التى أشار إليها ابن خلدون فى مقالته السابقة. وقد سمَّاها صاحبها "فتوح الغيب، فى الكف عن قناع الريب" ومَن يريد الوقوف على كل ما كُتِب على الكشاف ليرجع إلى كشف الظنون (جـ2 ص173-177) وسيراها كثيرة، كثرة يضيق المقام عن ذكرها.
هذا.. وإن حظوة الكشاف بهذا التقدير والإعجاب حتى من خصومه، وظفره بهذه الشهرة الواسعة التى أغرت العلماء بالكتابة عليه بمثل هذه الكثرة الوافرة الزاخرة من المؤلفات، لدليل قاطع على أنه تفسير فى أعلى القمة.
وليس عجيباً أن يكون الكشاف كذلك وهو أول كتاب فى التفسير كشف لنا على سر بلاغة القرآن، وأبان لنا عن وجوه إعجازه، وأوضح لنا عن دقة المعنى الذى يُفهم من التركيب اللفظى. كل هذا فى قالب أدبى رائع، وصوغ إنشائى بديع، لا يتفق لغير الزمخشرى، إمام اللُّغة وسلطان المفسِّرين. وإذا كان الزمخشرى قد تأثر فى تفسيره بعقيدته الاعتزالية فمال بالألفاظ القرآنية إلى المعانى التى تشهد لمذهبه، أو تأوَّلها بحيث لا يتنافى معه على الأقل، فإنه فى محاولاته هذه قد برهن بحق على براعته وقوة ذهنه، وصوَّر لنا مقدار ما كان من التأثر بين التفسير وهوى العقيدة، وما كان لنا بعد هذا كله أن نغض الطرف عن هذا التفسير، تأثراً بمذهبنا السُّنِّى، وكراهة لمذهب المعتزلة، وبخاصة بعد ما هو ثابت وواقع من ثناء كثير من علماء أهل السُّنَّة عليه - فيما عدا ناحيته الاعتزالية - واعتماد معظم مفسِّريهم عليه وأخذهم منه.
فالكشاف - والحق يقال - قد بلغ فى نجاحه مبلغاً عظيماً، ليس فقط لأنه لا يمكن الاستغناء عنه فى بيان الأقوال الكثيرة لقدماء المعتزلة، بل لأنه استطاع أيضاً أن يكون(1/312)
معتَرفاً به من الأصدقاء والخصوم على السواء ككتاب أساسى للتفسير، وأن يأخذ طابعاً شعبياً يغرى الكل ويتسع للجميع.
وكما اعتبرنا تفسير الطبرى ممثلاً للقمة العالية فى التفسير بالمأثور فأطنبنا فى وصفه وأطلنا الكلام عليه، فهنا كذلك سنعتبر الكشاف للزمخشرى القمة العالية للتفسير الاعتزالى، لأنه الكتاب الوحيد من تفاسير المعتزلة الذى وصل إلينا متناولاً للقرآن كله. وشاملاً للأفكار الاعتزالية التى تتصل بالقرآن الكريم باعتباره أصل العقيدة ومعتمد ما يتشعب عنها من آراء وأفكار، ولهذا أرانى مضطراً إلى الإطناب والإفاضة فى كلامى عن هذا التفسير، ودراستى له من جميع نواحيه بمقدار ما يفتح الله.
* *
* اهتمام الزمخشرى بالناحية البلاغية للقرآن:
عندما يلقى الإنسان نظرة فاحصة على العمل التفسيرى الذى قام به العلاَّمة الزمخشرى فى كشَّافه، يظهر له من أول وهلة، أن المبدأ الغالب عليه فى جهوده التفسيرية، كان فى تبيين ما فى القرآن من الثروة البلاغية التى كان لها كبير الأثر فى عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله. والذى يقرأ ما أورده الزمخشرى عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات، والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، يرى أن الزمخشرى كان يحرص كل الحرص على أن يُبرز فى حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه، وإنَّا لنكاد نقطع - إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنايتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية فى المعانى والبيان - بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالاً فى جهوده فى هذا الصدد من تفسير الزمخشرى.
ولقد كانت لعناية الزمخشرى بهذه الناحية فى تفسيره من الأثر بين المفسِّرين وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح بيِّنٌ.
أما أثره بين المفسِّرين، فإنَّ كل مَن جاء بعده منهم - حتى من أهل السُّنَّة - استفادوا من تفسيره فوائد كثيرة كانوا لا يلتفتون إليها لولاه، فأوردوا فى تفسيرهم ما ساقه الزمخشرى فى كشَّافه من ضروب الاستعارات، والمجازات، والأشكال البلاغية الأخرى، واعتمدوا ما نبَّه عليه الزمخشرى من نكات بلاغية، تكشف عما دَقَّ من براعة نظم القرآن وحسن أُسلوبه.
وليس عجيباً أن يعتمد خصوم الزمخشرى كغيرهم على كتاب الكشاف، وينظروا إليه كمرجع مهم من مراجع التفسير فى هذه الناحية، بعد ما قدَّروا هذ الناحية البلاغية فى تفسير القرآن، وبعد ما علموا أن الزمخشرى هو سلطان هذه الطريقة غير مدافَع.
وأما أثره بين مواطنيه من المشارقة، فإنهم أخذوا عنه هذا الفن البلاغى وبرعوا فيه،(1/313)
حتى سبقوا مَن عداهم من المغاربة، وقد بيَّن ابن خلدون فى مقدمته - عند الكلام عن علم البيان - ما لتفسير الزمخشرى من الأثر فى براعة المشارقة فى هذا الفن فقال:
".. وبالجملة، فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه - والله - أعلم - أنه كمالى فى العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد فى العمران والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرنا. أو نقول: لعناية العجم - وهم معظم أهل المشرق - بتفسير الزمخشرى وهو كله مبنى على هذا الفن وهو أصله".
ثم إنَّا نستعرض هذه الروح البلاغية التى تسود فى تفسير الزمخشرى فنشهدها واضحة من أول الأمر عندما تكلم عن قوله تعالى فى الآية [2] من سورة البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} .. فبعد أن ذكر كل الاحتمالات التى تجوز فى محل هذه الجملة من الإعراب، نَبَّهَ على أن الواجب على مُفَسِّر كلام الله تعالى أن يلتفت للمعانى ويحافظ عليها، ويجعل الألفاظ تبعاً لها، فقال ما نصه: ".. والذى هو أرسخ عرقاً فى البلاغة أن يُضرب عن هذه الحال صفحاً وأن يقال: إن قوله: {آلم} جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. {ذَلِكَ الكتاب} جملة ثانية و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثالثة و {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم، حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك حسن لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها.. وهلم جرّاً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك: أنه نَبَّه أولاً على أنه الكلام المُتَحدَّى به. ثم أشير إليه بأنه الكتاب المبعوث بغاية الكمال، فكان تقريراً لجهة التحدى وشداً من أعضاده، ثم نفى عنه أنه يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء: فيم لذَّتك؟ فقال: فى حُجَّة تتبختر اتضاحاً، وفى شبهة تتضاءل افتضاحاً. ثم أخبر عنه بأنه {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يُحَوَّم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتُبت هذا الترتيب الأنيق، ونُظِمَت هذا النظم السوى، من نكتة ذات جزالة، ففى الأولى: الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه، وفى الثانية: ما فى التعريف من الفخامة، وفى الثالثة: ما فى تقديم الريب على الظرف. وفى الرابعة: الحذف، وضح المصدر الذى هو {هُدًى} موضع الوصف الذى هو {هَاد} ، وإيراده(1/314)
منكراً، والإيجاز فى ذكر {لِّلْمُتَّقِينَ} . زادنا الله اطلاعاً على أسرار كلامه، وتييناً لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه".
* *
* تذرعه بالمعانى اللغوية لنُصرة مذهبه الاعتزالى:
كذلك نرى الزمخشرى - كغيره من المعتزلة - إذا مَرَّ بلفظ يشتبه عليه ظاهره ولا يتفق مع مذهبه، يُحاول بكل جهوده أن يُبطل هذا المعنى الظاهر، وأن يُثبت للفظ معنى آخر موجوداً فى اللغة.
فمثلاً يراه عندما تَعَرَّضَ لتفسير قوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. يتخلص من المعنى الظاهر لكلمة "ناظرة"، لأنه لا يتفق مع مذهبه الذى لا يقول برؤية الله تعالى، ونراه يثبت له معنى آخر هو التوقع والرجاء، ويستشهد على ذلك بالشعر العربى فيقول ما نصه: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} : تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألا ترى إلى قوله: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} [القيامة: 12] .. {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 30] .. {إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} [الشورى: 53] .. {إلى الله المصير} [آل عمران: 28، النور: 42، فاطر: 18] .. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] .. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 1] كيف دَلَّ فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد، وفى محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظَّارة ذلك اليوم، لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص. والذى يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:
وإذا نظرتُ إليك من ملك ... والبحر دونك زدتنى نعماً
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر، حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عُيينتى نويظرة إلى الله وإليكم" والمعنى: أنهم لا يتوقون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا فى الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه".
* *
* اعتماده على الفروض المجازية، وتذرعه بالتمثيل والتخييل فيما يُستبعد ظاهره:
كذلك نرى الزمخشرى يعتمد فى تفسيره على الفروض المجازية فى الكلام الذى يبدو فى حقيقته بعيداً وغريباً.(1/315)
فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [72] من سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} .. الآية، يقول ما نصه: "وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظَّم أمرها، وفَخَّم شأنها. وفيه وجهان:
أحدهما: أن هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال، قد انقادت لأمر الله عَزَّ وعلا انقياد مثلها، وهو ما يتأتى من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التى تصح منها وتليق بها، حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً، وتكويناً، وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] .. وأما الإنسان، فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه - وهو حيوان عاقل صالح للتكليف - مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وأما حمل الأمانة، فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق.. فإذا أدَّاها لم تكن راكبة له ولا هو حاملاً لها. ونحوه قولهم: لا يملك مولى لمولى نصراً، يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها الخاذل، ومنه قول القائل:
أخوك الذى لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف
أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما فى يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم: ابغض حق أخيك، لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدِّه، وإذا أبغضه أخرجه وأدَّاه. فمعنى: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] : فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملاً لها لا يؤدِّيها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤه.
والثانى: أنَّ ما كُلِّفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله، أنه عُرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به، وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها: ونحو هذا الكلام كثير فى لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. ومن ذلك قولهم: "لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوى العوج" وكم لهم من(1/316)
أمثال على ألسنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال ولكن الغرض أن السمن فى الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوَّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع فى نفس السامع، وهى به آنس، وله أقبل وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها، وثقل محملها، والوفاء بها.
وهنا تقوم أمام الزمخشرى صعوبات ومشاكل يصوِّرها لنا فى سؤاله: "فإن قلت: قد عُلِمَ وجه التمثيل فى قولهم للذى لا يثبت على رأى واحد: أراك تُقَدِّم رِجْلاً وتُؤَخِّر أخرى، لأنه مُثِّلَت حاله فى تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضى على أحدهما، بحال مَن يتردد فى ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى فى وجهة، وكل واحد من الممثل والممثَّل به شئ مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما فى هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال فى نفسه غير مستقيم، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تُشبِّه شيئاً والمشبَّه به غير معقول".
ولكن الزمخشرى لا يقف طويلاً أمام هذه الصعوبات، بل نراه يتخلص منها بكل دقة وبراعة حيث يقول: "قلت الممثَّل به فى الآية، وفى قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب، وفى نظائره، مفروض، والمفروضات تتخيل فى الذهن كما المحققات مثلت حال التكليف فى صعوبته وثقل محمله، بحاله المفروضة لو عُرِضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها".
ثم إن هذه الطريقة التى يعتمد عليها الزمخشرى فى تفسيره - أعنى طريقة الفروض المجازية، وحمل الكلام الذى يبدو غريباً فى ظاهره على أنه من قبيل التعبيرات التمثيلية أو التخييلية - قد أثارت حفيظة خصمه السُّنِّى ابن المنير الإسكندرى عليه، فاتهمه بأشنع التهم فى كثير من المواضع التى تحمل هذا الطابع، ونسبه فيها إلى قِلَّة الأدب وعدم الذوق.
فمثلاً عندما يعرض الزمخشرى لقوله تعالى فى الآية [21] من سورة الحشر: {لَوْ أَنزَلْنَا هاذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .. نراه يقول: "هذا تمثيل وتخييل كما مَرَّ فى قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} وقد دلَّ عليه قوله: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} .. والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقِلَّة تخشعه، عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره".
ولكن هذا قد أغضب ابن المنير على الزمخشرى فقال معقباً عليه: "وهذا مما تقدَّم(1/317)
إنكارى عليه فيه، أفلا كان يتأدب بأدب الآية، حيث سمَّى الله هذا مَثَلاً، ولم يقل: تلك الخيالات نضربها للناس؟. ألهمنا الله حُسْن الأدب معه. والله الموفق".
ولكن الزمخشرى ولع بهذه الطريقة، فمشى عليها من أول تفسيرهُ إلى آخره، ولم يقبل المعانى الظاهرة التى يُجوِّزها أهل السُّنَّة، بل ويرونها أقرب إلى الصواب من غيرها، وهو فى كل ما يذكر من المعانى لا يعدم مثلاً عربياً سائراً، أو بيتاً من الشعر القديم يشهد لما يقوله، كما أنه لا ينفك عن التنديد بأهل السُّنَّة الذين يقبلون هذه المعانى الظاهرة ويقولون بها، وكثيراً ما ينسبهم من أجل ذلك إلى أنهم من أهل الأوهام والخرافات. وإليك بعض الأمثلة لتقف على مقدار تمسكه بهذه الطريقة:
ففى سورة البقرة عند قوله تعالى فى الآية [255] : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} .. يذكر الزمخشرى أربع أوجه فى معنى الكرسى، يقول فى الوجه الأول منها: إن كرسيُّه لم يضق عن السَّمَاوات والأرض لبسطته وسِعَته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسى ثمة، ولا قعود، ولا قاعد، كقوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] . من غير تصور قبضة وطى ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه، وتمثيل حسن، ألا ترى إلى قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} ..
وبطبيعة الحال لم يرتض ابن المنير هذا الكلام فتعقبه بقوله: "قوله فى الوجه الأول: إن ذلك تخييل للعظمة، سوء أدب فى الإطلاق، وبُعْدٌ فى الإصرار. فإن التخييل إنما يُستعمل فى الأباطيل وما ليست له حقيقة صدق، فإن يكن معنى ما قاله صحيحاً، فقد أخطأ فى التعبير عنه بعبارة موهمة، لا مدخل لها فى الأدب الشرعى. وسيأتى له أمثالها مما يوجب الأدب أن يُجتنب".
وفى سورة الأعراف عند قوله تعالى فى الآيتين [172، 173] : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هاذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} يقول ما نصه: وقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} من باب التمثيل ومعنى ذلك: أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التى ركَّبها فيهم، وجعلها مميزة بين(1/318)
الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم. وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ وكأنهم قالوا: بَلَى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع فى كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام وفى كلام العرب، ونظيره قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] .. وقوله:
إذا قالت الأنساع للبطن الحق ... قالت له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول، وإنما هو تميل وتصوير للمعنى".
ولكن ابن المنير السُّىِّ لم يرض هذا من الزمخشرى بطبيعة الحال، ولذا تعقبه بقوله: "إطلاق التمثيل أحسن، وقد ورد الشرع به، وأما إطلاقه التخييل على كلام الله تعالى فمردود ولم يرد به سمع. وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة، ثم إن القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه، فكذلك أقره الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالاً. وأما كيفية الإخراج والمخاطبة فالله أعلم بذلك".
ويتصل بهذه الآية السابقة قوله تعالى فى الآية [8] من سورة الحديد: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} .. فالزمخشرى يميل فى تفسير الميثاق هنا إلى المعنى الذى حمل عليه أخذ العهد فى آية الأعراف، فيقول: "والمعنى: وأى عذر لكم فى ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان، حيث رَكَّبَ فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ومكَّنكم من النظر وأزاح عللكم، فإذا لم تبق لكم عِلَّة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فمالكم لا تؤمنون".
ولكن ابن المنير السُّنِّى، يريد أن يحمل أخذ الميثاق الذى فى سورة الحديد، على المعنى الذى ارتضاه للفظ "العهد" فى سورة الأعراف، ولهذا نراه يرد على الزمخشرى ويشدِّد عليه النكير فيقول: "ومما عليه أن يحمل أخذ الميثاق على ما بينَّه الله فى آية غير هذه، إذ يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] ولقد يريبنى منه إنكاره لكثير من مثل هذه الظواهر، والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلاً، ووقوعها بالسمع(1/319)
قطعاً، إلى ما يتوهمه من تمثيل يسميه تخييلاً. فالقاعدة التى تعتمد عليها كى لا يضرك ما يومئ إليه: أن كل ما جوَّزه العقل وورد بوقوعه السمع، وجب حمله على ظاهره. والله الموفق".
ومسألة التمثيل والتخيل يستعملها الزمخشرى بحرية أوسع فيما ورد من الأحاديث التى يبدو ظاهرها مستغرباً، وأسوق إليك مثالاً أتى به الزمخشرى عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [36] من سورة آل عمران: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} .. قال رحمه الله: "وما يروون من الحديث: "ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها" فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان فى إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومَيْن، وكذلك كل منَ كان فى صفتهما، كقوله تعالى: { ... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83] .. واستهلاله صارخاً من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه. ونحوه من التخييل قول ابن الرومى:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سُلِّطَ إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه".
وبالضرورة لم يرتض ابن المنير هذا الصنيع من خصمه المعتزلى، فنراه يتورَّك عليه بقوله: "أما الحديث فمذكور فى الصحاح متفَق على صحته، فلا محيص له إذن عن تعطيل كلامه عليه السلام بتعميله ما لا يحتمله، جنوحاً إلى اعتزال منتزع، فى فلسفة منتزعة، فى إلحاد. ظلمات بعضها فوق بعض،. وقد قدمت عند قوله تعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} [البقرة: 275] ما فيه الكفاية. وما أرى الشيطان إلا طعن فى خواصر القدرية حتى بقرها، وذكر فى قلوبهم حتى حمل الزمخشرى وأمثاله أن يقول فى كتاب الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام بما يتخيل، كما قال فى هذا الحديث. ثم تنظيره بتخييل ابن الرومى فى شعره جرأة وسوء أدب. ولو كان معنى ما قاله صحيحاً لكانت هذه العبارة واجباً أن تُجتنب. ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن على بُعْدٍ أن يكون تمثيلاً، أما وهو واقع مُشاهدَ فلا وجه لحمله على التخييل إلا الاعتقاد الضئيل، وارتكاب الهوى الوبيل".(1/320)
* *
* مبدأ الزمخشرى فى التفسير عندما يصادم النص القرآنى مذهبه:
والمبدأ الذى يسير عليه الزمخشرى فى تفسيره ويعتمد عليه عندما تصادمه آية تخالف مذهبه وعقيدته، هو حمل الآيات المتشابهة على الآيات المحكمة، وهذا المبدأ قد وجده المزمخشرى فى قوله تعالى فى الآية [7] من سورة آل عمران: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .. فـ "المحكمات" هى التى أحكمت عباراتها، بأن حُفظت من الاحتمال والاشتباه. و "المتشابهات" هى المتشبهات المحتملات. و "أم الكتاب" هى أصله الذى يُحمل عليه المتشابه، ويُرَد إليه، ويُفسَّر به.
علىَ هذا التفسير جرى الزمخشرى فى كشَّافه عندما تَعرَّض لهذه الآية، وهو تفسير لا غبار عليه، كما أن هذا المبدأ - أعنى مبدأ حمل الآيات المتشابهات على الآيات المحكمات - مبدأ سليم يقول به غير الزمخشرى أيضاً من علماء أهل السُّنَّة، ولكن الذى لا نُسَلِّمه للزمخشرى هو تطبيقه لهذا المبدأ على الآيات التى تصادمه، فإذا مَرَّ بآية تُعارِض مذهبه، وآية أخرى فى موضوعها تشهد له بظاهرها، نراه يَدَّعى الاشتباه فى الأولى والإحكام فى الثانية، ثم يحمل الأولى على الثانية وبهذا يُرضى هواه المذهبى، وعقيدته الاعتزالية.
وقد مَثَّل الزمخشرى لحملِ المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله تعالى فى الآية [103] من سورة الأنعام: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} . وقوله فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة، والآية الثانية متشابهة، وعليه فتجب أن تكون الآية الثانية متفقة مع الآية الأولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بحملها عليها، وردها إليها.
ومَثَّل أيضاً بقوله تعالى فى الآية [28] من سورة الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، وقوله فى الآية [16] من سورة الإسراء: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} .. فهو يرى أن الآية الأولى محكمة، والآية الثانية متشابهة، فلا بد من حمل الثانية على الأولى ليتفق المعنى ويتحدد المراد.
ثم لا ينتهى الزمخشرى من تطبيقه لهذا المبدأ حتى يتساءل عن السبب الذى من أجله لم يكن القرآن كله محكماً، وعن السر الذى من أجله جعل الله فى القرآن آيات(1/321)
محتملات متشابهات؟. ولكن الزمخشرى يجيب بنفسه على ما تساءل عنه فيقول: "لو كان كله محكماً لتعلَّق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذى لا يُتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما فيه المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما فى تقادح العلماء وإتعابهم القرائح فى استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمَّة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة فى كلام الله ولا اختلاف، وإذا رأى فيه ما يتناقض فى ظاهره، وأهمه طلب ما يُوفِق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكَّر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقدة وقوة فى إيقانه".
وهذا الجواب فى منتهى القوة والسداد، وابن المنير السُّنَّى يمر على كل هذا الكلام فلا يرى فيه أدنى ناحية من نواحى الاعتزال، لكنه يغضب على الزمخشرى فقط من أجل أنه عدَّ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23] من قبيل المتشابه الذى يجب حمله على آية الأنعام: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] ، فيقول معقباً عليه: قال محمود: "المحكمات التى أُحكمت عباراتها.. إلخ" قال أحمد: هذا كما قدمته عنه من تكلفه لتنزيل الآى على وفق ما يتعقده، وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعاً للرأى، وذلك أن معتقده إحالة رؤية الله تعالى، بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية والجهة، فإذا ورد عليهم النص القاطع الدال على وقوع الرؤية كقوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التى يَدَّعون أن ظاهرها يوافق رأيهم، ولآية قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ثم جمع ابن المنير بين الآيتين بما يتفق مع مذهبه السُّنِّى.. ثم قال: وأما الآيتان الأخريان اللتان إحداهما قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} ، والأخرى التى هى قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} ، فلا ينازع الزمخشرى فى تمثيل المحكم والمتشابه بهما".
* *
* انتصار الزمخشرى لعقائد المعتزلة:
هذا.. وإن الزمخشرى لينتصر لمذهبه الاعتزالى، ويؤيده بكل ما يملك من قوة الحُجَّة وسلطان الدليل، وإنَّا لنلمس هذا التعصب الظاهر فى كثير مما أسلفنا من النصوص، وفى غيرها مما نسوقه لك من الأمثلة. وهو يحرص كل الحرص على أن يأخذ من الآيات القرآنية ما يشهد لمذهبه، وعلى أن يتأوَّل ما كان منها معارضاً له.
* انتصاره لرأى المعتزلة فى أصحاب الكبائر:
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [93] من سورة النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً(1/322)
مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .. نجده يجعل هذه الآية أهمية كبيرة فى نُصْرة مذهبه، ويتيه بها على خصومه من أهل السُّنَّة، ويُنَدِّد بهم حيث يقولون بجواز مغفرة الذنب وإن لم يتب منه صاحبه، وبأن صاحب الكبيرة لا يخلد فى النار، فيقول مستغلاً لهذه الفرصة المواتية للاستهزاء من خصومه السُّنِّين: "هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم وخَطْبٌ غليظ، ومن ثَمَّ رُوِى عن ابن عباس ما رُوِى من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة، وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سُئِلوا، قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسُنَّة الله فى التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلاً، وفى الحديث: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم". وفيه: "لو أن رجلا قُتِلَ بالمشرق وآخر رَضِىَ بالمغرب لأُشِرَك فى دمه" وفيه: "إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون مَن هدم بنيانه". وفيه: "مَن أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله". والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يُخَيِّل إليهم مُناهم، أن يطمعوا فى العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] .. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة فى قتل الخطأ - لما عسًى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ - فيه حسم للأطماع وأى حسم، ولكن لا حياة لمن تنادى، فإن قلت: هل فيها دليل على خلود مَن لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل، وهو تناوله قوله: {وَمَن يَقْتُلْ} أىُّ قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل، فمَن ادَّعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله".
وفى سورة الأنعام عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [158] : {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً} .. نجد الزمخشرى يمسك بهذه الآية، ويستدل بها على صحة عقيدته فى أن الكافر والعاصى سواء فى الخلود فى النار فيقول: "والمعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت - وهى آيات ملجئة مضطرة - ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدَّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدِّمة الإيمان غير كاسبة فى إيمانها خيراً، فلم يُفَرِّق - كما ترى - بين النفس الكافرة إذا آمنت فى غير وقت الإيمان، وبين النفس التى آمنت فى وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أن قوله: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} جمع(1/323)
بين قرينتين لا ينبغى أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك".
* *
* انتصاره لمذهب المعتزلة فى الحُسْن والقُبْح العقليين:
ولما كان الزمخشرى يقول بمبدأ المعتزلة فى التحسين والتقبيح العقليين، كان لابد له أن يتخلص من ظاهر هذين النصين المنافيين لمذهبه، وهما: قوله تعالى فى الآية [165] من سورة النساء: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} ، وقوله فى الآية [15] من سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} .. فنراه فى الآية الأولى يستشعر معارضة ظاهر الآية لهذا المبدأ فيسأل هذا السؤال: "كيف يكون للناس على الله حُجَّة قِبَل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التى النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل فى أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر فى تلك الأدلة، ولا عُرِفَ أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها"؟
ثم يجيب هو عن هذا السؤال فيقول: "قلت: الرسل منُبِّهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أُمور الدين، وبيان أحوال التكليف. وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعِلَّة، وتتميماً لإلزام الحُجَّة لئلا يقولوا: لولا أرسلتَ إلينا رسولاً فيوقظنا من سِنَة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له".
وعندما تكلم عن الآية الثانية نراه يستشعر مثل ما استشعر فى الآية الأولى، ويسأل ويجيب بمثل ما سأل عنه وأجاب به فى الآية الأولى فيقول: "فإن قلت: الحُجَّة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأن معهم أدلة العقل التى بها يُعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التى لا سبيل إليها إلا بالتوقيف والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان. قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا: كنا غافلين فلولا بعثتَ إلينا رسولاً ينبهنا على النظر فى أدلة العقل".
* *
* انتصار لمعتقد المعتزلة فى السحر:
ثم إن الزمخشرى - كغيره من المعتزلة - لا يقول بالسحر ولا يعتقد فى السَحَرة، ولهذا نجده عندما يفسِّر سورة الفلق التى تشهد لأهل السُّنَّة ولا تشهد له، لا تخونه مهارته، ولا تعوزه الحيلة التى يخرج بها فى تفسيره من هذه الورطة الصريحة، كما نجده يشدِّد النكير ويغرق فى الاستهزاء والسخرية بأهل السُّنَّة القائلين بحقيقة السحر، وذلك حيث يقول: "النفَّاثات: النساء أو النفوس، أو الجماعات السواحر، اللاتى يعقدن عُقَداً فى الخيوط، وينفثن عليها ويرقين. والنفث: النفخ من(1/324)
ريق. ولا تأثير لذلك، اللَّهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شئ ضار، أو سقيه، أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكن الله عَزَّ وجَلَّ، قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذى يتميز به الثبت على الحق، من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشو والرعاع إليهن وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبأون به. فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرِّهن؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يُستعاذ من عملهن الذى هو صنعة السحر ومن إثمهن فى ذلك.
والثانى: أن يُستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن.
والثالث: أن يُستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن.
ويجوز أن يُراد بهن النساء الكيَّادات من قوله: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] تشبيهاً لكيدهن بالسحر والنفث فى العُقَد، أو اللاتى يفتنَّ الرجال بتعرضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك".
وفى الحق أن هذه محاولة عقلية عنيفة من الزمخشرى يريد من ورائها أن يحوِّل الحقائق التى ورد بوقوعها الكتاب والسُّنَّة. إلى ما يتناسب مع هواه وعقيدته. ولقد دهش ابن المنير من هذه المحاولة وحكم على الزمخشرى بأنه: "استفزَّه الهوى حتى أنكر ما عُرِف، وما به إلا أن يتبع اعتزاله، ويغطى بكفه وجه الغزالة".
* *
* انتصاره لمذهب المعتزلة فى حرية الإرادة وخلق الأفعال:
ولقد تأثر الزمخشرى برأيه الاعتزالى فى حرية الإرادة وخلق الأفعال، ولكنه وجد ما يصادمه من الآيات الصريحة فى أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فأراد أن يتفادى هذا التصادم ويعمل على الخروج من هذه الورطة الكبرى، فساعده على ما أراد هذا المعنى الذى تمسك به المعتزلة ونفعهم فى كثير من المواضع. وهو "اللُّطف" من الله، فباللُّطف منه تعالى يسهل عمل الخير على الإنسان، وبسلبه يصعب عليه عمل الخير.
هذا "اللُّطف" وما يتصل به من "التوفيق" ساعد الزمخشرى على الخروج من الضائقة التى صادفته عندما تناول بالتفسير تلك الآيات القرآنية الصريحة فى أن الله يخلق أفعال العباد خيرها وشرها، والتى يعتبرها أهل السُّنَّة سلاحاً قوياً لهم ضد هذه النظرية الاعتزالية.
ففى سورة آل عمران عند قوله تعالى فى الآية [8] : {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} .. نجد الزمخشرى يستشعر من هذه الآية أن قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف(1/325)
يشاء، فمَن أراد الله هدايته هداه، ومَن أراد ضلاله أضله، ولكنه يفر من هذا الظاهر فيقول: {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفتَ بنا".
وفى سورة المائدة عند قوله تعالى فى الآية [41] : {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولائك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} .. نجد الزمخشرى لا يجزع من هذا الظاهر الذى يتشبث به أهل السُّنَّة ويتيهون به على خصومهم، بل نراه يفسِّرها حسب هواه ووفق مبدئه فيقول: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} تركه مفتوناً وخذلاناً.. {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} فلن نستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً، أولئك الذين لم يُرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يُطَهِّر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنهم لا تنفع فيهم ولا تنجع: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله} [النحل: 104] .. {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] .
وهكذا نجد الزمخشرى بواسطة هذه التأويلات يُخْضِع لمبدئه الاعتزالى فى الجبر والاختيار مثل هذه المواضع القرآنية التى لم تكن طيَّعة له. ولكن ابن المنير السكندرى لم ترقه هذه التأويلات، ولم يُسَلِّم بها لخصمه، فأخذ يناقشه فى معنى اللُّطف مناقشة حادة ساخرة، فعندما تكلم الزمخشرى عن قوله تعالى فى الآية [272] من سورة البقرة: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولاكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} وتذرع بلفظ "اللُّطف" تعقبه ابن المنير فقال: "المعتقَد الصحيح، أن الله هو الذى يخلق الهدى لمن يشاء هداه، وذلك هو اللُّطف، لا كما يزعم الزمخشرى أن الهدى ليس خلقا لله إنما العبد يخلقه لنفسه، وإن أطلق الله تعالى إضافة الهدى إليه كما فى الآية فهو مؤوَّل - على زعم الزمخشرى - بلطف الله الحامل للعبد على أن يخلق هداه. إن هذا إلا اختلاق. وهذه النزعة من توابع معتقدهم السئ فى خلق الأفعال، وليس علينا هداهم، ولكن الله يهدى من يشاء، وهو المسئول ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا".
وعندما تكلَّم الزمخشرى عن قوله تعالى فى الآية [39] من سورة الأنعام: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وقال: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} .. أى يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، لأنه ليس من أهل اللُّطف. {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أى يلطف به، لأن اللُّطف يجدى عليه. عندما قال ذلك تعقبه ابن المنير فقال: "وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة اتباعاً لمعتقده الفاسد فى أن(1/326)
الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد. وكم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها، وقد اتسع الخرق على الراقع".
وعندما تكلم الزمخشرى عن قوله تعالى فى الآية [43] من سورة الأعراف: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} وتأوَّل الهداية هنا بمعنى اللُّطف والتوفيق كعادته. تعقبه ابن المنير وردّ عليه رداً فى غاية التهكم والسخرية فقال: "وهذه الآية - يعنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} - تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن المهتدى مَنْ خلق الله له الهدى، وأن غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدى إلا مَن هدى الله ولو لم يهده لم يهتد، وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى فهو إذن مهتد وإن لم يهده الله، إذ هدى الله للعبد خلق الهدى له، وفى زعمهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى ولا يتوقف ذلك على خلقه. تعالى الله عما يقولون. ولما فطن الزمخشرى لذلك جرى على عادته فى تحريف الهدى من الله تعالى إلى اللُّطف الذى بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه. فأنصِف من نفسك، واعرِض قول القائل: المهتدى مَن اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله - أى يخلق له الهدى - على قوله تعالى حكاية عن قول الموَحِّدين فى دار الحق: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} .. وانظر تباين هذين القولين - أعنى قول المعتزلى فى الدنيا وقول الموَحِّد فى الآخرة فى مقعد صدق - واختر لنفسك أى الفريقين تقتدى به. وما أراك - والخطاب لكل عاقل - تعدل بهذا القول المحكى عن أولياء الله فى دار الإسلام منوهاً به فى الكتاب العزيز، قول قدرى ضال تذبذب مع هواه وتعصبه فى دار الغرور والزوال. نسأل الله حُسْن المآب والمآل".
* *
* خصومة العقيدة بين الزمخشرى وأهل السُّنَّة:
ومن أجل هذا الخلاف العقيدى بين الزمخشرى وأهل السُّنَّة، نجد الخصومة بينهم حادة عنيفة، كل يتهم خصمه بالزيغ والضلال، ويرميه بأوصاف يسلكه بها فى قرن واحد مع الكفرة الفجرة، وتلك - على ما أعتقد - مبالغة مُسِفَّة فى الخصومة - ما كان ينبغى لأحد الخصمين أن يخوض فيها على هذا الوجه. وبخاصة بعد ما عُرِف من أن كليهما يهدف إلى تنزيه الله عما لا يليق بكماله. وإليك بعض الحملات التى وجهها كل من الخصمين إلى الآخر، لتلمس بنفسك مبلغ هذه الخصومة وتحكم عليها:
* ح(1/327)
ملة الزمخشرى على أهل السُّنَّة:
هذا.. وإن المتتبع لما فى الكشَّاف من الجدل المذهبى، ليجد أن الزمخشرى قد مزجه فى الغالب بشئ من المبالغة فى السخرية والاستهزاء بأهل السُّنَّة، فهو لا يكاد يدع فرصة تمر بدون أن يُحقِّرهم ويرميهم بالأوصاف المقذعة، فتارة يسميهم المجبرة، وأخرى يسميهم الحشوية، وثالثة يسميهم المشبهة، وأحياناً يسميهم القدرية، تلك التسمية التى أطلقها أهل السُّنَّة على منكرى القَدَر، فرماهم بها الزمخشرى لأنهم يؤمنون بالقَدَر، كما جعل حديث الرسول الذى حكم فيه على القدرية أنهم مجوس هذه الأُمة مُنصَّباً عليهم، وذلك حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [17] من سورة فصلت: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} : "ولو لم يكن فى القرآن حُجَّة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم - وكفى به شاهداً - إلا هذه الآية لكفى بها حُجَّة".
كما سمَّاهم بهذا الاسم ورماهم بأنهم يحيون لياليهم فى تحمل فاحشة ينسبونها إلى الله تعالى، حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [9، 10] من سورة الشمس: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} : "وأما قول مَن زعم أن الضمير فى "زَكّى" و "دَسَّى" لله تعالى، وأن تأنيث الراجع إلى "مَنْ" لأنه فى معنى النفس، فمن تعكس القدرية الذين يوركون على الله قَدَراً هو برئ منه ومتعال عنه، ويحيون لياليهم فى تمحل الفاحشة ينسبونها إليه".
والظاهرة العجيبة فى خصومة الزمخشرى، أنه يحرص كل الحرص على أن يُحوِّل الآيات القرآنية التى وردت فى حق الكفار إلى ناحية مخالفيه فى العقيدة من أهل السُّنَّة، ففى سورة آل عمران حيث يقول الله تعالى فى الآية [105] : {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} .. نجد الزمخشرى بعد ما يعترف بأن الآية واردة فى حق اليهود والنصارى، يُجَوِّز أن تكون واردة فى حق مبتدعى هذه الأُمة، وينص على أنهم المشبهة، والمجبرة، والحشوية، وأشباههم.
وفى سورة يونس حيث يقول الله تعالى فى الآية [39] : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} .. يقول: "بل سارعوا إلى التكذيب وفاجأوه فى بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كُنْهَ أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله(1/328)
ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم. وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه - وإن كان أضوأ من الشمس فى ظهور الصحة وبيان الاستقامة - أنكرها فى أول وهلة، واشمأز منها قبل أن يحسن إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر فى صحة أو فساد، لأنه لم يُشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب".
ولقد أظهر الزمخشرى تعصباً قوياً للمعتزلة، إلى حد جعله يُخرج خصومه السُّنِّيين من دين الله وهو الإسلام، وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [18] من سورة آل عمران: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} .. الآية: "فإن قلت: ما المراد بـ "أُولى العلم" الذين عظَّمهم هذا التعظيم، حيث جمعهم معهْ ومع الملائكة فى الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت: هم الذين يُثبتون وحدانيته وعدله بالحجج والبراهين القاطعة، وهم علماء العدل والتوحيد - يريد أهل مذهبه - فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ - يعنى فى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] .. قلت: فائدته أن قوله: {لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ} توحيد. وقوله: {قَآئِمَاً بالقسط} تعديل، فإذا أردفه قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده فى شئ من الدين. وفيه أن مَن ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدى إليه كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذى هو محض الجَوْر، لم يكن على دين الله الذى هو الإسلام. وهذا بيِّنٌ جَلِىٌ كما ترى".
هذه بعض الأمثلة التى يتجلى فيها تعصب الزمخشرى لمذهبه الاعتزالى، وانتصاره له. ويتضح منها مبلغ إيغاله فى الخصومة، ومقدار حملته على أهل السُّنَّة، وهناك غيرها كثير مما أثار عليه خصومه من السُّنِّيين، فتعقبوه بالمناقشة والتفنيد، وردوا بشكل حاسم على ما أورده فى كشّافه من استنتاجات اعتقادية. من آى القرآن الكريم، وقالوا: إنها جافة وقائمة على الرأى الطليق.
ومع ذلك لم يجحدوا ما كان للزمخشرى من أثر محمود فى التفسير، فنراهم - على ما بينهم وبينه من خصومه، ورغم ما سيمر بك من حملاتهم عليه - يُقَدِّرون إلى حد بعيد ما كان له من مجهود خاص فى عمله التفسيرى الذى يرجع إلى الناحية البلاغية واللُّغوية، كما نراهم فى الغالب يسطون على كتابه ويأخذون منه ما يعجبون به ويرون أنه عزيز المنال إلا على الزمخشرى.
*(1/329)
* حملة ابن القيم على الزمخشرى:
فهذا هو العلاَّمة ابن القيم، كثيراً ما يثور على الزمخشرى من أجل تفسيره الاعتزالى.
فمثلاً نراه يذكر ما فَسَّرَ به الزمخشرى قوله تعالى فى الآية [176] من سورة الأعراف: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولاكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} .. ثم يقول: "فهذا منه شنشنة نعرفها من قَدَرى نافٍ للمشيئة العامة، مبعد للنجعة فى جعل الكلام الله معتزلياً قدرياً".
*
* حملة ابن المنير على الزمخشرى:
ومن الذين خصصوا جهودهم للكشَّاف بعد قرون من ظهوره، قاضى الإسكندرية، أحمد بن محمد بن منصور المنير المالكى، فقد كتب عليه حاشية خاصة سماها "الانتصاف" ناقش فيها الزمخشرى وجادله فى بعض ما جاء فى كشَّافه من أعاريب وغيرها، ولكنه ركز مجهوده العظيم فى بيان ما تضمنه من الاعتزال، وإبطال ما فيه من تأويلات تتناسب مع مذهب الزمخشرى وتتفق مع هواه.
ويظهر أن القاضى المالكى كان يميل بوجه عام إلى الجدال والنقاش، فقد قيل: إنه كان بصدد أن يرد على كتب الإمام الغزالى، تلك الكتب التى لم تكن مقبولة عند المالكية، ولم يصرفه عن قصده إلا أُمه التى لم يطب خاطرها بهذه الحرب التى يثيرها ابنها ضد الموتى كما أثارها ضد الأحياء، ولكنه مع ذلك فعل هذا مع الزمخشرى، واعتقد أنه بعمله هذا قد ثار لأهل السُّنَّة من أهل البدعة، وقد صرَّح بذلك حيث توجَّه باللوم للزمخشرى على تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [23، 24] ُ من سورة آل عمران: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ * ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ..
فقال: "فانظر إليه كيف أشحن قلبه بغضاً لأهل السُّنَّة وشقاقاً، وكيف ملأ الأرض من هذه النزعات نفاقاًَ، فالحمد لله الذى أهَّل عبده الفقير إلى التورك عليه، لأن آخذ من أهل البدعة بثأر أهل السُّنَّة، فأصمى أفئدتهم من قواطع البراهين بمقومات الأسِّنة".
كما اعتقد أنه أدَّى للمسلمين وللإسلام خدمة عظيمة، كافية لأن تقوم له عذراً أمام الله وأمام الناس عن تخلفه عن الخروج للغزو والجهاد فى سبيل الله وذلك حيث يقول بعد تعقيبه على الزمخشرى فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [122] من سورة(1/330)
التوبة: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .. قال أحمد: ولا أجد فى تأخرى عن حضور الغزاة عذراً إلا صرف الهمة لتحرير هذا المُصنَّف، فإنى تفقهَّتُ فى أصل الدين وقواعد العقائد مؤيداً بآيات الكتاب العزيز، مع ما اشتمل عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء، وأنا مع ذلك أرجو من الله حُسْن التوجه. بلَّغنا الله الخير، ووفَّقنا لما يرضيه، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم".
وابن المنير - مع شدة خصومته للزمخشرى - لا ينسى ما له من أثر طيب فى التفسير - فكثيراً ما يُبدى إعجابه به، لتنويهه بأساليب القرآن العجيبة التى تنادى بأنه ليس من كلام البَشر.. وكثيراً ما يعترف - بتقدير كبير وفى عدالة واعتدال - بتحليلاته اللُّغوية، ونكاته البلاغية.
فمثلاً عندما تعقَّب تفسيره لقوله تعالى فى الآية [91] من سورة الأنعام: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} .. نجده يقول: "وهذا أيضاً من دقة نظره فى الكتاب العزيز والعمق فى آثار معانده، وإبراز محاسنه".
وفى سورة يونس عند قوله تعالى فى الآية [11] : {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} .. الآية، نجده يثنى على تفسيره لها فيقول: "وهذا أيضاً من تنبيهات الزمخشرى الحسنة التى تقوم على دقة نظره".
وفى سورة هود عند قوله تعالى فى الآية [91] : {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} .. أثنى على تفسيره لقوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} .. فقال: "وهذا من محاسن نكته الدالة على أنه كان ملياً بالحذاقة فى علم البيان".
وعندما بيَّن الزمخشرى سر التعبير بقوله تعالى فى الآية [51] من سورة النحل: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلاهين اثنين} .. قال ابن المنير معترفاً بدقة الزمخشرى وبراعته: "وهذا الفصل من حسناته التى لا يُدافع عنها".
ومع كل هذا الاعتراف، فإن ابن المنير يلاحظ على الزمخشرى - أحياناً - أنه سئ(1/331)
النية فيما يقول: فمن ذلك أن الزمخشرى لما تكلم عن قوله تعالى فى الآية [33] من سورة الرعد: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} .. وختم تفسيره للآية بقوله: "وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التى ورد عليها، مناد على نفسه بلسان طلق ذلق: أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه. فتبارك الله أحسن الخالقين" لما قال الزمخشرى هذه المقالة، لم يتركها ابن المنير تمر بدون أن يُنبِّه على ما فيها فقال: "هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلاً، لأنه يُعَرِّض فيها بخلق القرآن، فتنبه لها. وما أسرع المُطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه، وهو غافل عما تحته، لولا هذا التنبيه والإيقاظ".
وفى الوقت نفسه لم يترك ابن المنير فرصة تمر بدون أن يكيل للزمخشرى بمثل كيله من الإقذاع فى القول والسخرية به وبأمثاله من المعتزلة، فنراه يرد هجمات الزمخشرى التى يشنها على أهل السُّنَّة بعبارات شديدة يوجهها إلى الزمخشرى وأصحابه، مع تحقيره له ولهم، واستبشاعه لتفسيره وتفسيرهم.
فمثلاً فى سورة آل عمران عندما تكلم الزمخشرى عن قوله تعالى فى الآية [18] : {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ} .. الآية، ونوَّه بأنه وأصحابه أهل العدل والتوحيد، وأنهم أُولوا العلم المرادون بالآية، وصرَّح - أو كاد - بخروج أهل السُّنَّة من مِلَّة الإسلام. عندما تكلم الزمخشرى بهذا كله، عقَّب عليه ابن المنير بتهكمه اللاذع، وسخريته الفاضحة فقال: "وهذا تعريض بخروج أهل السُّنَّة من رِبقة الإسلام، بل تصريح، وما ينقم منهم إلا أن صدَّقوا وعد الله عباده المكرمين على لسان نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم بأنهم يرون ربهم كالقمر ليلة البدر لا يُضامون فى رؤيته، ولأنهم وحَّدوا الله حق توحيده، فشهدوا أنْ لا إله إلا هو، ولا خالق لهم ولأفعالهم إلا هو، واقتصروا على أن نسبوا لأنفسهم قدرة تقارن فعلهم، لا خلق لها ولا تأثير غير التمييز بين أفعالهم الاختيارية والاضطرارية. وتلك هى المُعَبَّرُ عنه شرعاً بالكسب فى مثل قوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .
هذا إيمان القوم وتوحيدهم، لا كقوم يغيرون فى وجه النصوص، فيجحدون الرؤية التى يظهر أن جحدهم لها سبب فى حرمانهم إياها، ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكة لله فى مخلوقاته، فيزعمون أنهم يخلقون لأنفسهم بما شاءوا من أفعال على خلاف مشيئة ربهم، محادة ومعاندة لله فى مُلكه، ثم بعد ذلك يتسترون بتسمية(1/332)
أنفسهم: أهل العدل والتوحيد، والله أعلم بمن اتقى، وَلَجَبْرٌ خيرٌ من إشراك، إن كان أهل السُّنَّة مجبرة فأنا أول المجبِّرين.
ولو نظرت أيها الزمخشرى بين الإنصاف إلى جهالة القدرية وضلالها لانبعثتَ إلى حدائق السُّنَّة وظلالها، ولخرجتَ من مزالق البدع ومزَّالها - ولكن كره الله انبعاثهم - ولعلمتَ أى الفريقين أحق بالأمن، وأولى بالدخول فى أُولى العلم المقرونين فى التوحيد بالملائكة المشرفين بعطفهم على اسم الله عَزَّ وجَلَّ".
وفى سورة المائدة عند قوله تعالى فى الآية [41] : {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولائك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} .. الآية، نراه يُمعن فى السخرية من المعتزلة، ويغرق فى النكير على تفسير الزمخشرى لهذه الآية. وذلك حيث يقول: "كم يتلجلج والحق أبلج. هذه الآية - كما تراها - منطبقة على عقيدة أهل السُّنَّة فى أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يُطَهِّر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد، ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها - لو أراد الله أن يطهر قلوبهم من وضر البدع: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] .
وما أبشع صرف الزمخشرى هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله أن يمنحهم ألطافه، لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا تنفع، فلطف مَن ينفع؟ وإرادة مَن تنجع؟ وليس وراء الله للمرء مطمع".
ولقد يتطرف ابن المنير فيرمى خصومه من المعتزلة بالشرك، ففى سورة يونس عند تفسير الزمخشرى لقوله تعالى فى الآية [31] : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} ... الآية، نرى ابن المنير يقول: وهذه الآية كافحة لوجوه القدرية، الزاعمين أن الأرزاق منقسمة، فمنها ما رزقه الله للعبد وهو الحلال، ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام، وهذه الآية ناعية عليهم هذا الشرك الخفى لو سمعوا: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] ..
وإنَّا لنرى ابن المنير يعتمد فى حملاته الساخرة القاسية التى يحملها على الزمخشرى، على ما يعتمد عليه الزمخشرى فى حملاته على أهل السُّنَّة، أو على(1/333)
الأصح، يأخذ من كلام الزمخشرى نفسه ما يبرر به موقفه الذى وقفه منه للرد على اعتزالاته، فحيث يقول الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى فى الآية [73] من سورة التوبة: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} : " {جَاهِدِ الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالحُجَّة {واغلظ عَلَيْهِمْ} فى الجهادين جميعاً ولا تحابهم. وكل مَن وُقِفَ منه على فساد فى العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يُجاهَد بالحُجَّة، وتُستعمل معه الغلظة ما أمكن"، عندما يقول الزمخشرى هذا، ويرمى من ورائه إلى أن الآية شاملة لخصومه من أهل السُّنَّة، نرى ابن المنير يستغل هذا الكلام لنفسه ويقلبه على خصمه المعتزلى فيقول: "الحمد لله الذى أنطقه بالحُجَّة لنا فى إغلاظ عليه أحياناً".
وقد تبدو على ابن المنير علائم البِشْر، وتأخذه نشوة الفرح والسرور، عندما يرى أن الزمخشرى قد ابتعد عن متطرفى المعتزلة، وخالفهم فى بعض آرائهم، وأخذ برأى أهل السُّنَّة ومثل هذا نراه واضحاً عندما فسَّر الزمخشرى قوله تعالى فى الآية [185] من سورة آل عمران: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} .. حيث قال فى تفسير هذه الآية: "فإن قلت: كيف اتصل به - أى بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} - {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} .. قلت: اتصاله به على أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا تُوَفَّون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقب موتكم، وإنما تُوَفَّونها يوم قيامكم من القبور. فإن قلت: فهذا يوهم نفى ما يُروى أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. قلت: كلمة التوفية تُزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور".
وهنا نرى ابن المنير يعترف بأن الزمخشرى قد أحسن فى مخالفته لأصحابه من المعتزلة، وموافقته لأهل السُّنَّة، فيقول: "هذا - كما ترى - صريح فى اعتقاده حصول بعضها قبل يوم القيامة، وهو المراد بما يكون فى القبر من نعيم وعذاب، ولقد أحسن الزمخشرى فى مخالفة أصحابه فى هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به".
* * *
* موقف الزمخشرى من المسائل الفقهية:
هذا.. وإن الزمخشرى - رحمه الله - يتعرض إلى حد ما، وبدون توسع إلى المسائل الفقهية التى تتعلق ببعض الآيات القرآنية، وهو معتدل لا يتعصب لمذهبه الحنفى.(1/334)
ففى سورة البقرة عند قوله تعالى فى الآية [222] : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} .. يقول: " ... وبين الفقهاء خلاف فى الاعتزال، فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار. ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفَرْج، وروى محمد حديث عائشة رضى الله عنها: أن عبد الله بن عمر سألها: هل يباشر الرجل امرأته وهى حائض؟ فقال: تشد إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن شاء، وما روى زيد بن أسلم: أن رجلاً سأل النبى صلى الله عليه وسلم: ما يحل لى من امرأتى وهى حائض؟ قال: "لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها"، ثم قال: وهذا قول أبى حنيفة، وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: "يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك". وقرئ "يطَّهرن" بالتشديد، أى يتطهرن، بدليل قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} .. وقرأ عبد الله: "حتى يتطَّهرْن" و "يَطْهرن" بالتخفيف، والتطهر الاغتسال، والطُهر انقطاع دم الحيض. وكلتا القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها فى أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل وفى أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت صلاة. وذهب الشافعى إلى أنه لا يقربها حتى تَطْهر وتَطَّهر فتجمع بين الأمرين، وهو قول واضح، ويعضده قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ".
وعندما فَسَّر قوله تعالى فى الآية [237] من سورة البقرة: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} .. قال: "والذى بيده عقدة النكاح الولى، يعنى إلا أن تعفو المطلقَّات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآنى، ولا خدمته، ولا استمتع بى، فكيف آخذ منه شيئاً. أو يعفو الولى الذى يلى عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعى. وقيل هو الزوج وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملاً، وهو مذهب أبى حنيفة، والأول ظاهر الصحة".
وفى سورة الطلاق عند قوله تعالى فى الآية [1] : {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العدة} .. يقول ما نصه: "فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرَّم، أى مستقبلاً لها. وفى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فى قبل عِدَّتهم"، وإذا طُلِّقت المرأة فى الطُهْر المتقدم للقُرْءِ الأول من أقرائها فقد طُلِّقت مستقبلة لعِدَّتها.
والمراد أن يُطَّلقَن فى طُهر لم يُجامَعْنَ فيه، ثم يُخلين حتى تنقضى عدتهن، وهذا أحسن الطلاق، وأدخله فى السُّنَّة، وأبعده من الندم، ويدل عليه ما روى عن إبراهيم(1/335)
النخعى: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون ألاَّ يُطَلِّقوا أزواجهم للسُّنَّة إلا واحدة، ثم لا يُطَلِّقوا غير ذلك حتى تنقضى العِدَّة، وكان أحسن عندهم من أن يُطلِّق الرجل ثلاثاً فى ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس رضى الله عنه: لا أعرف طلاق السُّنَّة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة.
وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة فى طُهر واحد، فأما مُفرَّقاً فى الأطهار فلا، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حيث طلَّق امرأته وهى حائض: "ما هكذا أمرك الله، إنما السُّنَّة أن تستقبل الطُهر استقبالاً، وتُطلِّقها لكل قُرء تطليقه". وروى أنه قال لعمر: "مر ابنك فليراجعها، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ليُطلِّقها إن شاء، فتلك العِدَّة التى أمر الله أن تُطَّلَق لها النساء".
وعند الشافعى رضى الله عنه لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف فى عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة، وهو مباح.
فمالك يراعى فى طلاق السُّنَّة الواحدة والوقت. وأبو حنيفة يراعى التفريق والوقت. والشافعى يراعى الوقت وحده".
* *
* موقف الزمخشرى من الإسرائيليات:
ثم إن الزمخشرى مُقِلٌ من ذكر الروايات الإسرائيلية، وما يذكره من ذلك إما أن يُصَدِّره بلفظ "روى"، المُشعر بضعف الرواية وبُعدها عن الصحة، وأما أن يُفَوِّض علمه إلى الله سبحانه، وهذا فى الغالب يكون عند ذكره للروايات التى لا يلزم من التصديق بها مساس بالدين، وإما أن يُنَبِّه على درجة الرواية ومبلغها من الصحة أو الضعف ولو بطريق الإجمال، وهذا فى الغالب يكون عند الروايات التى لها مساس بالدين وتَعلُّق به.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة النمل: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} .. الآية، نجده يذكر هذه الرواية فيقول: "روى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوارى، وحليهم الأساور والأطواق والقرطة، راكبى خيل مغشَّاة بالديباج محلاَّة اللُّجُم والسروج بالذهب المرصَّع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك فى زِىِّ الغلمان، وألف لَبِنة من ذهب وفضة، وتاجاً مكَّلَلاً بالدُّرِ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحُقاً فيه دُرَّة عذراء وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر ابن عمرو، وآخر ذا رأى وعقل، وقالت: إن كان نبياً مَيَّز بين الغلمان والجوارى، وثقب الدُرَّة ثقباً مستوياً، وسلك فى الخرزة خيطا. ثم قالت للمنذر:(1/336)
إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بَشَّاً لطيفاً فهو نبى. فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجن فضربوا لَبِنَ الذهب والفضة، وفرشوه فى ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شُرَفَهُ من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب فى البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللَّبِن، وأمر بأولاد الجن - وهم خلق كثير - فأُقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسى من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا بُهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللَّبِن فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وقال: أين الحُقّ؟ وأخبره جبريْل عليه السلام بما فيه، فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها فجُعِل رزقها فى الشجرة، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها فجُعِل رزقها فى الفواكه، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله فى الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رَدَّ الهدية وقال للمنذر: ارجع إليهم، فقالت: هو نبى وما لنا به طاقة، فشخصت إليه فى اثنى عشر ألف قَيْلٍ تحت كل قَيْلٍ ألوف".
وفى سورة القصص عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [38] : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً} .. الآية، قال: "روى أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع والأُجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيَّده حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان البانى لا يقدر أن يقوم على رأسه يبنى، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطَّعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة فى البحر، وقطعة فى المغرب ولم يبق أحد من عُمَّاله إلا قد هلك. ويروى فى هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنُشابه إلى السماء، فأراد الله أن يفتنهم، فرُدت إليه ملطوخة بالدم، فقال: قد قتلتُ إلَه موسى، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه، والله أعلم بصحته".
فالقصة الأولى صَدَّرها الزمخشرى بلفظ: "روى" المشعر بضعفها. والقصة الثانية صَدَّرها أيضاً بهذا اللفظ وعَقَّبَ عليها بقوله: "والله أعلم بصحته" مما يَدُل على أنه متشكك فى صحة هذه الرواية. وكِلتا القصتين على فرض صحتهما لا مطعن فيهما(1/337)
ولا مغمز من ورائها يحلق الدين، ولهذا اكتفى الزمخشرى بما ذكر فى حكمه عليهما.
وفى سورة "ص" عند تفسيره لقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} .. الآيات [21] وما بعدها إلى آخر القصة نراه يقول: "كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة فى المواساة بذلك قد اعتادوها - وقد روينا أن الأنصار كانوا يُواسون المهاجرين بمثل ذلك - فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له "أوريا" فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل، فتزوجها - وهى أم سليمان - فقيل له: إنك مع عظيم منزلتك، وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك، وكثرة نسائك، لم يكن ينبغى لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأَة واحدة النزول عنها، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك، وقهر نفسك، والصبر على ما امتُحنتَ به. وقيل: خطبها "أوريا" ثم خطبها داود فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خِطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
وأما ما يُذكر أن داود عليه السلام، تمنَّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: يا رب، إن آبائى قد ذهبوا بالخير كله، فأوحى إليه أنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها، قد ابتُلِىَ إبراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف، فسأل الابتلاء، فأوحى الله إليه: إنك لمبتلىً فى يوم كذا وكذا فاحترس، فلما حان ذلك اليوم، دخل محرابه، وأغلق بابه، وجعل يُصلِّى ويقرأ الزبور، فجاء الشيطان فى صورة حمامة من ذهب، فمدَّ يده ليأخذها لابن له صغير فطارت، فامتد إليها فطارت، فوقعت فى كوّة فتتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نفضت شعرها فغطى بدنها، وهى امرأة أوريا، وهو من غزاة البلقاء، فكتب إلى أيوب بن صوريا - وهو صاحب بعث البلقاء - أن ابعث أوريا وقَدِّمه على التابوت - وكان من يتقدم لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد - ففتح الله على يده وسلم، فأمر برده مرة أخرى وثالثة حتى قُتِل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه، مما لا يصح أن يُحَدَّث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: مَن حَدَّثكم بحديث داود على ما يرويه القُصَّاص، جلدته مائة وستين جَلْدة، وهو حد الفرية على الأنبياء. وروى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذَّب المحدِّث به وقال: إن كانت القصة على ما فى كتاب الله فما ينبغى أن يُلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كان كما ذكرت وكفَّ الله عنها ستراً على نبيه، فما ينبغى إظهارها عليه،(1/338)
فقال عمر: لسماعى هذا الكلام أحبُّ إلىّ مما طلعت عليه الشمس. والذى يدل عليه المثل الذى ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب".
فأنت ترى أن الزمخشرى يرتضى قصة النزول عن الزوجة، وقصة الخطبة على الخطبة، ولا يرى فى ذلك إخلالاً بعصمة داود، ولا مساساً بمقام النبوة، ويمثل قصة النزول بما كان من تنازل الأنصار للمهاجرين عن أزواجهم فى مبدأ الهجرة، ويروى أن الآية تدل على ذلك، ولكنه يستنكر القصة الأخيرة، ويذكر فى الأخبار ما يؤكد استبعادها، وذلك لأنه يرى فيها - لو صحَّت - إخلالاً بمقام النبوة، وهدماً لعصمة نبى الله داود عليه السلام.
كذلك نرى الزمخشرى فى السورة نفسها عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [34] : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} .. يقول "قيل: فُتِن سليمان بعد ما مُلِّك عشرين سنة، ومَلَك بعد الفتنة عشرين سنة. وكانت من فتنته: أنه وُلِد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم. فكان يغذوه فى السحاب، فما راعه إلا أن أُلقى على كرسيه ميتاً، فتنبه على خطئه فى أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتى بفارس يجاهد فى سبيل الله - ولم يقل إن شاء الله - فطاف عليهنَّ فلم يحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذى نفسى بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فى سبيل الله فرساناً أجمعون". فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} . وهذا ونحوه مما لا بأس به.
وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن فى بيت سليمان فالله أعلم بصحته. حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون، وهى مدنية فى بعض الجزائر، وأن بها مَلِكاً عظيم الشأن لا يُقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها، وأصاب بنتاً له اسمها "جرادة". ومن أحسن الناس وجهاً، فاصطفاها لنفسه. وأسلمت، وأحبها. وكانت لا يرقأ دمعها على أبيها، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته، وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها، يسجدن له كعادتهنّ فى مُلكه، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة، وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فَلاةٍ وفُرش له الرماد فجلس عليه تائباً إلى الله متضرعاً. وكانت له أم ولد يقال لها "أمينة" إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع(1/339)
خاتمه عندها - وكان مُلكه فى خاتمه - فوضعه عندها يوماً، وأتاها الشيطان صاحب البحر - وهو الذى دَلَّ سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس، واسمه "صخر" - على صورة سليمان فقال: يا أمينة، خاتمى، فتختَّم به وجلس على كرسى سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس وغيَّر سليمان من هيئته، فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته. فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال أنا سليمان، حثوا عليه التراب وسبُّوه، ثم عمد إلى السمَّاكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحاً عدد ما عُبِد الوثن فى بيته، فأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم الشيطان. وسأل آصف نساء سليمان، فقلن: ما يدع امرأة منا فى دمها ولا يغتسل من جنابة. وقيل: بل نفذ حكمه فى كل شئ إلا فيهن. ثم طار الشيطان وقذف الخاتم. فتختَّم به ووقع ساجداً، ورجع إليه مُلكه، وجاب صخرة لـ "صخر" فجعله فيها، وسدَّ عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص وقذفه فى البحر. وقيل: لما افتتن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك. والخاتم لا يقر فى يدك، فتُبْ إلى الله عَزَّ وجَلَّ. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله، وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكون من فعل هذه الأفاعيل، وتسليط الله إياهم على
عباده حتى يقعوا فى تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهن قبيح. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع، ألا ترى إلى قوله: {مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] .. وأما السجود للصورة فلا يُظَن بنبى الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه فلا عليه".
وجَلِىُّ أن الزمخشرى قد صرَّح بجواز الروايتين (الأولى والثانية) ورأى أنه لا بأس من وقوع إحداهما، ولكنه فَنَّدَ الرواية الأخيرة - رواية صخر المارد - وبَيَّنَ أنها تُذْهِب بعصمة الأنبياء، ولا تتفق وقواعد الشريعة.
... وهكذا لم يقع الزمخشرى فيما وقع فيه غيره من المفسِّرين من الاغترار بالقَصص الإسرائيلى والأخبار المختلفة المصنوعة، وهذه محمدة أخرى لهذا المفسِّر الكبير تُحمَد له ويُشكَر عليها.
وبعد.. فهذه الكتب الثلاثة: تنزيه القرآن عن المطاعن، وأمالى الشريف المرتضى، وكشَّاف الزمخشرى، هى كل ما وصل إلى أيدينا من تراث المعتزلة ومؤلفاتهم فى التفسير، وهى وإن كانت قليلة بالنسبة لما لم تنله أيدينا من تفاسير المعتزلة، يمكن أن تكون تعويضاً مقبولاً إلى حد كبير عن التفاسير التى طوتها يد النسيان، وأدرجتها(1/340)
فى غضون الزمن السحيق. وهى بعد ذلك تُعتبر أثراً خالداً ومهماً، لا فى تاريخ التفسير الاعتزالى فقط، بل فيه، وفى تاريخ الأدب العربى كذلك، لما تشتمل عليه من بحوث أدبية قيمة، تلقى لنا ضوءاً على ما كان بين الأدب والتفسير من تأثر كل منهما بالآخر وتأثيره فيه. والله أعلم.
* * *(1/341)
الشيعة وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
كلمة إجمالية عن الشيعة وعقائدهم
*كلمة إجمالية عن الشيعة وعقائدهم:
الشيعة في الأصل، هم الذين شايعوا علياً وأهل بيته ووالوهم، وقالوا: إن علياً هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الخلافة حق له، استحقها بوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى لا تخرج عنه في حياته، ولا عن أبنائه بعد وفاته، وإن خرجت عنهم فذلك يرجع إلى واحد من أمرين:
أحدهما: أن يغتصب غاصب ظالم هذا الحق لنفسه.
ثانيهما: أن يتخلى صاحب الحق عنه في الظاهر، تقيَّة منه، ودرءاً للشر عن نفسه وعن أتباعه.
وهذا المذهب الشيعي، من أقدم المذاهب الإسلامية، وقد كان مبدأ ظهوره في آخر عهد عثمان رضى الله عنه، ثم نما واتسع على عهد علىّ رضى الله عنه، إذ كان كلما اختلط - رضى الله عنه - بالناس تملكهم العجب، واستولت عليهم الدهشة، مما يظهر لهم من قوة دينه، ومكنون علمه، وعظيم مواهبه، فاستغل الدعاة كل هذا الإعجاب وأخذوا ينشرون مذهبهم بين الناس.
ثم جاء عصر بني أُمية وفيه وقعت المظالم على العلويين، ونزلت بهم محن قاسية، أثارت كامن المحبة لهم، وحرّكت دفين الشفقة عليهم، ورأى الناس في علىّ وذُرِّيته شهداء هذا الظلم الأمور، فاتسع نطاق هذا المذهب الشيعى وكثر أنصاره. ويظهر لنا أن هذا الحب لعلىّ وأهل بيته، وتفضيلهم على مَن سواهم، ليس بالأمر الذي جَدَّ وحدث بعد عصر الصحابة، بل وُجِدَ من الصحابة مَن كان يحب علياً ويرى أنه أفضل من سائر الصحابة، وأنه أَولى بالخلافة من غيره، كعمَّار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وأبى ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، وجابر بن عبد الله ... وغيرهم كثير.
غير أن هذا الحب والتفضيل لم يمنع أصحابه من مبايعة الخلفاء الذين سبقوا علياً رضى الله عنه، لعلمهم أن الأمر شورى بينهم، وأن صلاح الإسلام والمسلمين لا بد له من شمل متحد وكلمة مجموعة، كما أن الأمر لم يصل بهم إلى القول بالمبدأ الذى تكاد تتفق عليه كلمة الشيعة، ويرونه قوام مذهبهم وعقيدتهم وهو "أن الإمامة ليست من مصالح العامة التى تُفوَّض إلى نظر الأُمة، ويعين القائم بها بتعيينهم، بل هى ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز للنبى إغفاله ولا تفويضه إلى الأُمة، بل يجب(2/5)
عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر، وأن علياً رضى الله عنه، هو الذى عيَّنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه".
لم يكن الشيعة جميعاً متفقين فى المذهب، والعقيدة، بل تفرّقت بهم الأهواء فانقسموا إلى فِرَق عِدّة، يرجع أساس اختلافها وانقسامها إلى عاملين قويين، كان لهما كل الأثر تقريباً في تعدد فِرَق الشيعة وتفرق مذاهبهم.
أولهما: اختلافهم فى المبادئ والتعاليم، فمنهم مَن تغالى فى تشيعه وتطرّف فيه إلى حد جعله يلقى على الأئمة نوعاً من التقديس والتعظيم، ويرمى كل مَن خالف علياَ وحزبه بالكفر. ومنهم مَن اعتدل فى تشيعه فاعتقد أحقية الأئمة بالإمامة وخطأ مَن خالفهم، ولكن ليس بالخطأ الذى يصل بصاحبه إلى درجة الكفر.
وثانيهما: الاختلاف فى تعيين الأئمة، وذلك أنهم اتفقوا جميعاً على إمامة علىّ رضى الله عنه، ثم على إمامة ابنه الحسن من بعده، ثم على إمامة الحسين من بعد أخيه. ولما قُتل الحسين على عهد يزيد بن معاوية تعددت وجهة نظر الشيعة فيمن يكون الإمام بعد الحسين رضى الله عنه:
ففريق يرى أن الخلافة بعد قتل الحسين انتقلت إلى أخيه من أبيه، محمد ابن علىّ، المعروف بابن الحنفية، فبايعوه بها.
وفريق ثان: يرى حصر الإمامة فى ولد علىّ من فاطمة، وقد أصبحت بعد قتل الحسين حقاً لأولاد الحسن، لأنه أكبر إخوته فلا يؤثر بها غير أولاده، وهم ينتظرون كبرهم ليبايعوا أرشدهم.
وفريق ثالث: يرى ما يراه الفريق الثانى من حصرها فى ولد علىّ من فاطمة، غاية الأمر أنه يقول: إن الحسن قد تنازل عنها فسقط حق أولاده فيها، وبقيت الإمامة حقاً لأولاد الحسين الذى قُتل من أجلها فهم أولى بالانتظار.
بلغ عدد الفِرَق التي انقسم إليها الشيعة حداً كبيراً من الكثرة، منها مَن تغالى في تشيعه وتجاوز بمعتقداته حد العقل والإيمان، ومنها مَن اعتدل فى تشيعه فلم تبالغ كما بالغ غيرها.
ولست بمستوعب كل هذه الفرق، ولكنى سأقتصر على فرقتين هما: الزيدية، والإمامية "الإثنا عشرية"، والإسماعيلية، لأنى لم أعثر على مؤلفات فى التفسير لغير هاتين الفرقتين من فرق الشيعة.
* *
الزيدية
أما الزيدية، فهم أتباع زيد بن عليّ بن الحسين رضى الله عنهم، طمحت نفسه إلى(2/6)
استرداد الخلافة، فخرج على الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك، ولكن أتباعه خذلوه وتفرَّقوا عنه فقُتل وصُلب، ثم أُحرق جسده. وقد ورد فى سبب تفرق أصحابه عنه وخذلانهم له "أنه لما اشتد القتال بينه وبين يوسف ابن عمر الثقفى عامل هشام بن عبد الملك، قال الذين بايعوه: ما تقول فى أبى بكر وعمر؟ فقال زيد: اثنى عليهما جدى علىّ، وقال فيهما حسناً، وإنما خروجى على بنى أُمية، فإنهم قاتلوا جدى علياً، وقتلوا جدى حسيناً، فخرجوا عليه ورفضوه، فسُمُّوا رافضة بذلك السبب".
والزيدية أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية، إذ أنها لم تغل فى معتقداتها، ولم يُكَفِّر الأكثرون منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ترفع الأئمة إلى مرتبة الإله أو إلى درجة النبيين.
* *
قوام مذهب الزيدية
وقوام مذهب زيد وأتباعه إلى ما قبل طرو التغير عليه والتفرق بين أصحابه، هو ما يأتى:
1- أن الإمام منصوص عليه بالوصف لا بالاسم، وهذه الأوصاف هى: كونه فاطمياً، ورعاً، سخياً، يخرج داعياً الناس لنفسه.
2- أنه يجوز إمامة المفضول مع وجود مَن هو أفضل منه بتوفر هذه الصفات فيه.
وبنوا على هذا أنه لو وقع اختيار أُولى الحل والعقد على إمام تتوفر فيه هذه الصفات مع وجود مَن تتوفر فيه صحَّت إمامته، ولزمت بَيْعته، ولهذا قالوا بصحة إمامة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وعدم تكفير الصحابة ببيعتهما.
ولقد كان من مذهب الزيدية جواز خروج إمامين فى قُطْرين مختلفين لا فى قُطْر واحد، كما كان من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة إذا لم يتب فهو مُخَلَّد فى النار، وهذا هو عَيْن مذهب المعتزلة. ويظهر أن هذه العقيدة تسرَّبت من المعتزلة إلى الزيدية فقالوا بها كما قالوا بكثير من مبادئهم. والسر فى ذلك هو أن زيداً رحمه الله تتلمذ لواصل بن عطاء، فأخذ عنه آراءه الاعتزالية وقال بها.
غير أن الزيدية لم يدوموا على وحدتهم المذهبية زمناً طويلاً، بل تفرَّقوا واختلفت عقائدهم. وقد ذكر لنا صاحب "المواقف" أنهم تفرَّقوا إلى ثلاث فِرَق، وذكر لكل فرقة خصائصها ومميزاتها وعقائدها، ولا نطيل بذكر ذلك. ومَن أراد الوقوف عليه فليرجع إليه فى موضعه.
* * *
الإمامية
أما الإمامية فهم القائلون بأن النبى صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علىّ رضى الله عنه نصاً(2/7)
ظاهراً، لا بطريق التعريض بالوصف كما يقول الزيدية، كما أنهم يحصرون الإمامة بعد علىّ فى ولده من فاطمة رضى الله عنها.
وأصحاب هذا المذهب قد بالغوا فى تشيعهم، وتعدوا حدود العقل والشرع، فكفَّروا الكثير من الصحابة، واعتبروا أبا بكر وعمر مغتصبين للخلافة ظالمين لعلىّ رضى الله عنه، فأوجبوا التبرؤ منهما، ولم يسلم من هذا التطرف إلا نفر قليل، كالعلامة الطبرسى صاحب التفسير.
وقد اتفق الإمامية على إمامة علىّ رضى الله عنه، ثم انتقلت الإمامة إلى ابنه الحسن بالوصية له من أبيه، ثم إلى أخيه الحسين من بعده، ثم إلى ابنه علىّ زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصادق، ثم اختلفوا بعد ذلك فى سَوْق الإمامة، وانقسموا إلى فِرَق عدة أشهرها فرقتان: الإمامية الإثنا عشرية، والإمامية الإسماعيلية.
الإمامية الإثنا عشرية
أما الإمامية الإثنا عشرية، فيرون أن الإمامة بعد جعفر الصادق انتقلت إلى ابنه موسى الكاظم، ثم إلى ابنه علىّ الرضا، ثم إلى ابنه محمد الجواد، ثم إلى ابنه علىّ الهادى، ثم إلى ابنه الحسن العسكرى، ثم إلى ابنه محمد المهدى المنتظر وهو الإمام الثانى عشر، ويزعمون أنه دخل سرداباً فى دار أبيه بـ "سرُ مَن رأى" ولم يعد بعد، وأنه سيخرج فى آخر الزمان، ليملأ الدنيا عدلاً وأمناً، كما مُلئت ظلماً وخوفاً.
وهؤلاء قد جاوزوا الحد فى تقديسهم للأئمة، فزعموا: أن الإمام له صلة روحية بالله كصلة الأنبياء. وقالوا: إن الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله، وأن مَن مات غير معتقد بالإمام فهو ميت على الكفر، وغير ذلك من اعتقاداتهم الباطلة فى الأئمة.
* *
أشهر تعاليم الإمامية الإثنا عشرية
وأشهر تعاليم الإمامية الإثنا عشرية أمور أربعة: العصمة، والمهدية، والرجعة، والتقية.
أما العصمة: فيقصدون منها أن الأئمة معصومون من الصغائر والكبائر فى كل حياتهم، ولا يجوز عليهم شىء من الخطأ والنسيان.
وأما المهدية: فيقصدون منها الإمام المنتظر الذى يخرج فى آخر الزمان فيملأ الأرض أمناً وعدلاً، بعد أن مُلئت خوفاً وجوراً. وأول مَن قال بهذا هو "كيسان" مولى علىّ بن أبى طالب فى محمد ابن الحنفية. ثم تسرَّبت إلى طوائف الإمامية، فكان لكل منها مهدى منتظر.(2/8)
وأما الرجعة: فهى عقيدة لازمة لفكرة المهدية، ومعناها: أنه بعد ظهور المهدى المنتظر، يرجع النبى صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، ويرجع علىّ، والحسن، والحسين، بل وكل الأئمة، كما يرجع خصومهم، كأبى بكر وعمر، فيُقتص لهؤلاء الأئمة من خصومهم، ثم يموتون جميعاً، ثم يحيون يوم القيامة.
وأما التقية: فمعناها المداراة والمصانعة، وهى مبدأ أساسى عندهم، وجزء من الدين يكتمونه عن الناس، فهى نظام سرى يسيرون على تعاليمه، فيدعون فى الخفاء لإمامهم المختفى ويظهرون الطاعة لمن بيده الأمر، فإذا قويت شوكتهم أعلنوها ثورة مسلحة فى وجه الدولة القائمة الظالمة.
هذه هى أهم تعاليم الإمامية الإثنا عشرية، وهم يستدلون على كل ما يقولون ويعتقدون بأدلة كثيرة، غير أنها لا تُسلَّم لهم، ولا تُثبت مدعاهم. ونحن نمسك عنها وعن ردها خوف الإطالة، وسيمر بك - إن شاء الله تعالى - شىء من ذلك.
* *
الإمامية الاسماعيلية
وأما الإمامية الإسماعيلية، فيرون أن الإمامة بعد جعفر الصادق انتقلت إلى ابنه إسماعيل، بالنص من أبيه على ذلك، قالوا: وفائدة النص مع أنه مات قبل أبيه هو بقاء الإمامة فى عقبه، ثم انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم، وهو أول الأئمة المستورين، وبعده تتابع أئمة مستورون إلى أن ظهر بالدعوة الإمام عبد الله المهدى رأس الفاطميين.
ثم إن هؤلاء الإمامية الإسماعيلية لُقِّبوا بسبعة ألقاب، وبعض هذه الألقاب أسماء لبعض فرقهم، وهذه الألقاب هى ما يأتى:
1- الإسماعيلية: لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق كما قلناه.
2- الباطنية: لقولهم بالإمام الباطن أى المستور، أو لقولهم بأن للقرآن ظاهراً وباطناً، والمراد منه باطنه دون ظاهره.
3- القرامطة: لأن أولهم الذى دعا الناس إلى مذهبهم رجل يقال له "حمدان قرمط".
4- الحرمية: لإباحتهم المحرَّمات والمحارم.(2/9)
5- السبعية: لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع سبعة: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ومحمد المهدى المنتظر سابع النطقاء، وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتممون شريعته، ولا بد فى كل عصر من سبعة بهم يُقتدى وبهم يُهتدى.
6- البابكية أو الخرمية: لاتباع طائفة منهم "بابك الخرمى" الذى خرج بأذربيجان.
7- المحمرة: للبسهم الحمرة أيام بابك، أو لتسميتهم المخالفين لهم حميراً.
هذا وسيأتى بعد ما يكشف لنا عن عقيدة هؤلاء الباطنية، عندما نتكلم عن موقفهم من تفسير القرآن الكريم.
وقبل أن أخلص من هذه العُجَالة أسوق لك كلمة أنقلها بنصها عن أبى المظفر الإسفراينى فى كتابه "التبصير فى الدين" قال رحمه الله:
"واعلم أن الزيدية، والإمامية منهم، يُكَفِّر بعضهم بعضاً، والعداوة بينهم قائمة دائمة، والكيسانية يُعَدون فى الإمامية. واعلم أن جميع مَن ذكرناهم من فِرق الإمامية متفقون على تكفير الصحابة، ويدَّعون أن القرآن قد غُيِّر عما كان، ووقع فيه الزيادة والنقصان من قِبَل الصحابة، ويزعمون أنه قد كان فيه النص على إمامة علىّ فأسقطه الصحابة منه، ويزعمون أنه لا اعتماد على القرآن الآن ولا على شىء من الأخبار المروية عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنه لا اعتماد على الشريعة التى فى أيدى المسلمين، وينتظرون إماماً يسمونه "المهدى" يخرج ويعلمهم الشريعة، وليسوا على شىء من الدين وليس مقصودهم من هذا الكلام تحقيق الكلام فى الإمامة، ولكن مقصودهم إسقاط كلفة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا فى استحلال المحرَّمات الشرعية، ويعتذروا عند العوام بما يعدونه من تحريف الشريعة وتغير القرآن من عند الصحابة، ولا مزيد على هذا النوع من الكفر، إذ لا بقاء فيه على شىء من الدين".
* *
موقف الشيعة من تفسير القرآن الكريم
إذا نحن أجلنا النظر فى مذهب الشيعة، وجدنا أصحابه لم يسلموا من التفرق والتحزب والانقسام فى الرأى والعقيدة. فبينا نجد الغلاة الذين رفعوا علياً إلى مرتبة الآلهة فكفروا، نجد المعتدلين الذين يرون علياً أفضل من غيره من الصحابة، وأنه أحق(2/10)
بالولاية وأولى بها من غيره فحسب، ونجد مَن يقف موقفاً وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، فلا هو يؤلِّه علياً، ولا هو يرى أنه بشر يُخطىء ويُصيب، بل يرى أنه معصوم، وأنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منازع ولا مدافع وإن غُلب على أمره واعتُصِبَت الولاية منه.
ولم يقل أمر الشيعة عند حد الانقسام إلى حزبين أو ثلاثة، بل تفرَّقت بهم الأهواء - كما قلنا - إلى حد الكثرة فى التحزب، وكان كل حزب له عقيدة خاصة لا يشاركه فيها غيره، ورأى خاص لا يقول به سواه.
وكان طبيعياً - وكل حزب من هذه الأحزاب يَدَّعى الإسلام، ويعترف بالقرآن ولو فى الجملة - أن يبحث كل عن مستند يستند إليه من القرآن ويحرص كل الحرص على أن يكون القرآن شاهداً له لا عليه، فما وجده من الآيات القرآنية يمكن أن يكون دليلاً على مذهبه تمسك به، وأخذ فى إقامة مذهبه على دعامة منه. وما وجده مخالفاً لمذهبه حاول بكل ما يستطيع أن يجعله موافقاً لا مخالفاً، وإن أدى هذا كله إلى خروج اللفظ القرآنى عن معناه الذى وُضِعَ له وسِيقَ من أجله. وإليك طرفاً من تأويلات هؤلاء الغلاة:
* من تأويلات السبئية:
فمثلاً نجد بعض السبئية يزعم أن علياً فى السحاب، وعلى هذا يُفسِّرون الرعد بأنه صوت علىّ، والبرق بأنه لمعان سَوْطه أو تبسمه، ولهذا كان الواحد منهم إذا سمع صوت الرعد يقول: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
كذلك نجد زعيم السبئية يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيرجع إلى الحياة الدنيا، وتأوَّل على ذلك قوله تعالى فى الآية [85] من سورة القصص: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} . *
* من تأويلات البيانية:
كذلك نجد بيان بن سمعان التميمى زعيم البيانية، يزعم أنه هو المذكور فى(2/11)
القرآن بقوله تعالى فى الآية [138] من سورة آل عمران: {هاذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} .. ويقول: أنا البيان، وأنا الهدى والموعظة.
كما نراه يزعم أن الله تعالى رجل من نور، وأنه يفنى كله غير وجهه، ويتأوَّل على زعمه هذا قوله تعالى فى الآية [88] من سورة القصص:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} .. وقوله فى الآيتين [26-27] من سورة الرحمن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ... } .
*
* من تأويلات المغيرية:
كذلك نجد المغيرة بن سعيد العجلى زعيم المغيرية يقول: إن الله تعالى لما أراد أن يخلق العالَم تكلَّم بالاسم الأعظم، فطار ذلك الاسم ووقع تاجاً على رأسه، وتأوَّل على ذلك قوله تعالى فى الآية الأولى من سورة الأعلى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} ... وزعم أن الاسم الأعلى إنما هو ذلك التاج.
ويزعم المغيرة أيضاً: أن الله تعالى خلق أظلال الناس قبل أجسادهم، فكان أول ما خلق منها ظل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال: فذلك قوله فى الآية [81] من سورة الزخرف: {قُلْ إِن كَانَ للرحمان وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} .. قال: ثم أرسل ظل محمد إلى أظلال الناس، ثم عرض على السماوات والجبال أن يمنعن علىّ أبى طالب من ظالميه فأبين ذلك، فعرض ذلك على الناس. فأمر عمر أبا بكر أن يتحمل نُصْرة علىّ ومنعه من أعدائه، وأن يغدر به فى الدنيا، وضمن له أن يعينه على الغدر به، على شريطة أن يجعل له الخلافة من بعده، ففعل أبو بكر ذلك. قال: فذلك تأويل قوله فى الآية [72] من سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .. فزعم أن الظلوم والجهول أبو بكر.
وتأوَّل فى عمر قوله تعالى فى الآية [16] من سورة الحشر: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ} .. والشيطان عنده عمر.
*
*(2/12)
من تأويلات المنصورية:
وكذلك نجد أبا منصور العجلى زعيم المنصورية والمعروف بـ "الكِسْف"، يزعم أنه عُرِج به إلى السماء، وأن الله تعالى مسح بيده على رأسه وقال له: يا بنى بلِّغ عنى، ثم أنزله إلى الأرض، وزعم أنه الكِسْف الساقط من السماء المذكور فى قوله تعالى فى الآية [44] من سورة الطور: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} .
وتأوَّلت هذه الطائفة الجنَّة بأنها رجل أُمِرنا بموالاته وهو الإمام، والنار بالضد، أى رجل أُمِرنا ببغضه وهو ضد الإمام وخصمه كأبى بكر وعمر، وتأوَّلوا الفرائض والمحرَّمات فقالوا: الفرائض أسماء رجال أُمِرنا بموالاتهم، والمحرَّمات أسماء رجال أُمِرنا بمعاداتهم.
*
* من تأويلات الخطابية:
كذلك نجد من الخطابية مَن يتأوَّل الجنَّة بأنها نعيم الدنيا، والنار بأنها آلامها.
ووجدنا منهم مَن يقول: إنه لا يؤمن إلا والله تعالى يُوحى إليه، وعلى هذا المعنى كانوا يتأوَّلون قوله تعالى فى الآية [145] من سورة آل عمران: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} .. ويقولون: إن معناه: بوحى من الله، ويقولون: إذا جاز أن يُوحى إلى النحل كما ورد فى قوله تعالى فى الآية [68] من سورة النحل: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} .. لِمَ لا يجوز أن يُوحى إلينا؟.
*
*(2/13)
من تأويلات العبيدين:
كذلك نجد أبا إسحاق الشاطبى يذكر لنا عن بعض العلماء: أن عبيد الله الشيعى المسمى المهدى، حين ملك إفريقيا واستولى عليها، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره.. وكان أحدهما يسمى بـ "نصر الله"، والآخر يسمى بـ "الفتح" فكان يقول لهما: أنتما اللَّذان ذكركما الله فى كتابه فقال: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] قالوا: وقد كان عمل ذلك فى آيات من كتاب الله تعالى فبدَّل قوله تعالى فى الآية [110] من سورة آل عمران: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .. بقوله: "كتامة خير أُمَّة أُخْرِجت للناس".
فأنت ترى أن هؤلاء الغلاة الذين كفروا بما يعتقدون، يجدون فى صرف اللَّفظ القرآنى عن معناه الذى سيق له إلى معنى يتفق مع عقيدتهم، ويتناسب مع أهوائهم ونزعاتهم، وهم بعملهم هذا يُحَمِّلون القرآن ما لا يحتمله، ويقولون على الله بغير علم ولا برهان.
كذلك نجد الإمامية الإثنا عشرية يميلون بالقرآن نحو عقائدهم، ويلوونه حسب أهوائهم ومذاهبهم، وهؤلاء ليس لهم فى تفسيرهم المذهبى مستند صحيح يستندون إليه، ولا دليل سليم يعتمدون عليه، وإنما هى أوهام نشأت عن سلطان العقيدة الزائفة، وخرافات صدرت من عقول عشَّش فيها الباطل وأفرخ، فكان ما كان من خرافات وترهات!!
نعم.. يعتمد الإمامية الإثنا عشرية فى تفسيرهم للقرآن الكريم ونظراتهم إليه، على أشياء لا تعدو أن تكون من قبيل الأوهام والخرافات التى لا توجد إلا فى عقول أصحابها، فمن ذلك الذى يعتمدون عليه ما يأتى:
أولاً: جمع القرآن الكريم وتأويله، وهو كتاب جمع فيه علىّ رضى الله عنه القرآن على ترتيب النزول.
ثانياً: كتاب أملى فيه أمير المؤمنين عليه السلام ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن، وذكر لكل نوع مثالاً يخصه. ويعتقدون أنه الأصل لكل مَن كتب فى أنواع علوم القرآن، وهم يروون عن علىّ رضى الله عنه هذا الكتاب بطرق عدة، وهو فى أيديهم إلى اليوم، ويبلغ ثلاث عشرة ورقة إلا ربعاً بالقطع الكبير الكامل، كل صفحة منها سبعة وعشرون سطراً.(2/14)
ثالثاً: الجامعة وهى كتاب طوله سبعون ذراعاً من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخط علىّ عليه السلام، مكتوب على الجلد المسمى بالرق فى عرض الجلد، جُمِعت الجلود بعضها ببعض حتى بلغ طولها سبعين ذراعاً وعدها من مؤلفات علىّ باعتبار أنه كتبها ورتبها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإملائه. قالوا: وفيها كل حلال وحرام، وكل شئ يحتاج الناس إليه حتى الأرش فى الخدش.
رابعاً: الجفر، وهو غير الجامعة وفيه يقول ابن خلدون: "واعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعد العجلى وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم، على طريق الكرامة والكشف الذى يقع لمثلهم من الأولياء، وكان مكتوباً عند جعفر فى جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلى، وكتبه، وسماه "الجفر" باسم الجلد الذى كُتِب فيه، لأن الجفر فى اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم عَلَماً على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه تفسير القرآن وما فى باطنه من غرائب المعانى، مروية عن جعفر الصادق.
وهذا الكتاب لم تتصل روايته، ولا عُرِف عَيْنه، وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل، ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نِعْمَ المستند من نفسه، أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات".
ويُعرِّف صاحب أعيان الشيعة "الجفر" بأنه كتاب أملاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على علىّ رضى الله عنه، ويذكر فى ذلك أقوالاً متضاربة ثم يقول بعد فراغه منها: "الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال، وحرام، وأحكام، وأُصول.. ما يحتاج إليه الناس فى أحكام دينهم وما يصلحهم فى دنياهم، والإخبار عن بعض الحوادث، ويمكن أن يكون فيه تفسير بعض المتشابه من القرآن المجيد، ثم ينكر على مَن يستبعد أن يكون الجفر فيه كل هذه العلوم، ويتمثل بقول أبى العلاء المَعرِّى:
لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أروهم علمهم فى مسك جفر
ومرآة المنجم وهى صغرى ... أرته كل عامرة وقفر
خامساً: مصحف فاطمة، جاء فى البصائر: "أن أبا عبد الله سأله بعض الأصحاب(2/15)
عن مصحف فاطمة، فقال: إنكم تبحثون عما تريدون وعما لا تريدون. إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وسبعين يوماً، وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبريل يأتيها ويُحسن عزاءها على أبيها، ويُطِّيب نفسها، ويُخبرها عن أبيها ومكانه، ويُخبرها بما يكون بعدها فى ذُرِّيتها. وكان علىّ عليه السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة.
هذه هى أهم الأشياء التى يستند إليها الإمامية الإثنا عشرية فى تفسيرهم لكتاب الله تعالى، وهى كلها أوهام وأباطيل لا ثبوت لها إلا فى عقول الشيعة.. وكيف يكون سائغاً ومقبولاً أن ينبنى تفسير القرآن وفهم معانيه على أوهام وأباطيل؟؟ لهذا نرى العلامة ابن قتيبة يشدد النكير على الشيعة فى تفسيرهم لكتاب الله تعالى فيقول:
"وأعجب من هذا التفسير - يعنى تفسير المعتزلة - تفسير الروافض للقرآن، وما يدَّعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر الذى ذكره هارون بن سعد العجلى، وكان رأس الزيدية فقال:
ألم نر أن الرافضين تفرَّقوا ... فكلهم فى جعفر قال منكرا
فطائفة قالوا: إمام، ومنهم ... طوائف سمَّته النبى المُطهَّرا
ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم ... بَرِئتُ إلى الرحمن ممن تجفَّرا
بَرئتُ إلى الرحمن من كان رافض ... بصير بباب الكفر.. فى الدين أعورا
إذا كفَّ أهل الحق عن بدعة مضى ... عليها، وإن يمضوا على الحق قصَّرا
ولو قال: إن الفيل ضبٌ لصدَّقوا ... ولو قال: زنجى تحوَّل أحمرا
وأخلف من بول البعير فإنه ... إذا هو للإقبال وُجِّه أدبرا
فقُبِّح أقوام رموه بفرية ... كما قال فى عيسى الفَرى مَن تنصرا(2/16)
قال أبو محمد: وهو جلد جفر ادَّعوا أنه كتب فيه لهم الإمام كل ما يحتاجه إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة، فمن ذلك قولهم فى قول الله عَزَّ وجَلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] : إنه الإمام ورث النبى صلى الله عليه وسلم علمه. وقولهم فى قول الله عز وجل: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] : إنها عائشة رضى الله عنها، وفى قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73] : إنه طلحة والزبير. وقولهم فى الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر رضى الله عنهما.. والجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو بن العاص.. مع عجائب أرغب عن ذكرها، ويرغب مَن بلغه كتابنا هذا عن استماعها.
وكان بعض أهل الأدب يقول: ما أشبه تفسير الرافضة للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر، فإنه قال ذات يوم: ما سمعتُ بأكذب من بنى تميم، زعموا أن قول القائل:
بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع، وأبو الفوارس نهشل
إنه فى رجال منهم.. قيل له: فما تقول أنت فيهم؟ قال: البيت: بيت الله. وزرارة: الحِجْر، قيل: فمجاشع؟ قال: رمز.. جشعت بالماء. قيل: فأبو الفوارس؟ قال: أبو قبيس، قيل له: فنهشل؟ قال: نهشل.. أشده، وفكر ساعة ثم قال: نهشل: مصباح الكعبة، لأنه طويل أسود، فذلك نهشل.
وهم أكثر البدع اقترافاً ونحلاً، فمنهم قوم يقال لهم البيانية، يُنسبون إلى رجل يقال له "بيان"، قال لهم: إلىّ أشار الله تعالى إذ قال: {هاذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] ..
وهم أول مَن قال بخلق القرآن، ومنهم المنصورية، أصحاب أبى منصور الكسْف، وكان قال لأصحابه: فىّ نزل قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً} [الطور: 44] .. ومنهم الخنَّاقون والشدَّاخون، ومنهم الغرَّابية، وهم الذين ذكروا أن علياً رضى الله عنه كان أشبه بالنبى صلى الله عليه وسلم من الغراب بالغراب، فتغلط جبريل عليه السلام حيث بُعِثَ إلى علىّ لشبهه به.
قال أبو محمد: ولا نعلم فى أهل البدع والأهواء أحداً ادَّعى الربوبية لبَشر غيرهم، فإن عبد الله بن سبأ، ادَّعى الربوبية لعلىّ فأحرق علىُّ أصحابه بالنار، وقال فى ذلك:(2/17)
لما رأيت الأمر أمراً منكرا ... أججت نارى ودعوت قنبرا
ولا نعلم أحداً ادَّعى النبوة لنفسه غيرهم، فإن المختار بن أبى عبيد ادَّعى النبوة لنفسه، وقال: "إن جبريل وميكائيل يأتيان إلى جهته، فصدَّقه قوم واتبعوه، وهم الكيسانية".
هذا ولا يفوتنا أن نقول: إن هذه الطوائف من الشيعة قد باد معظمها، وأشهر ما بقى منها إلى اليوم ثلاث فِرَق، هى: الإمامية الإثنا عشرية، والإمامية الإسماعيلية - وهم المسمون بالباطنية - والزيدية.
أما الإمامية الإثنا عشرية، فينتشرون اليوم فى بلاد إيران، وبلاد العراق كما يوجد منهم جماعة بالشام.
وأما الإسماعيلية، فينتشرون فى بلاد الهند، كما يوجدون فى نواح أخرى متفرقة، وزعيمهم أغا خان الزعيم الهندى الإسماعيلى المعروف.
وأما الزيدية فيوجدون ببلاد اليمن.
إذن.. فالأجدر بنا أن نمسك عن موقف هذه الفِرَق البائدة من تفسير القرآن، ما دامت قد بادت ولم يبق لها أثر، وما دمنا لم نقف لها على شئ فى التفسير أكثر من هذه النُبَذ المتفرقة التى وجدناها للبعض منهم وجمعناها من بطون الكتب المختلفة.
والذى يستحق عنايتنا وبحثنا بعد ذلك، هو تلك الفِرَق الثلاث التى لا تزال موجودة إلى اليوم، محتفظة بتعاليمها وآرائها. وسنبدأ أولاً بالإمامية الإثنا عشرية، ثم الإمامية الإسماعيلية، ثم بالزيدية، فنقول وبالله التوفيق:(2/18)
1- موقف الإمامية الإثنا عشرية من تفسير القرآن الكريم
للإمامية الإثنا عشرية معتقدات يدينون بها، وينفردون بها عمن عداهم من طوائف الشيعة. وهم حين يعتقدون هذه المعتقدات لا بد لهم - ما داموا يقرون بالإسلام ويعترفون بالقرآن ولو بوجه ما - أن يقيموا هذه العقائد على دعائم من نصوص القرآن الكريم، وأن يدافعوا عنها بكل ما يمكنهم من سلاح الجدل وقوة الدليل.
* موقفهم من الأئمة وأثر ذلك فى تفسيرهم:
وإذا نحن استعرضنا هذه المعتقدات وجدنا أن أهمها يدور حول أئمتهم، فهم يلقون على الأئمة نوعاً من التقديس والتعظيم، ويرون أن الأئمة "أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحُجَّة الله البالغة على مَن فوق الأرض ومَن تحت الثرى"، ويرون أن الإمامة "زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين".
ولما كان الإمام عندهم فوق أن يُحكم عليه، وفوق الناس فى طينته وتصرفاته، فإنَّا نراهم يعتقدون بأن له صلة روحية بالله تعالى كتلك الصلة التى للأنبياء والرسل، وأنه مُشَرِّع ومُنَقِّذ، وأن الله قد فوَّض النبى والإمام فى الدين، ويروون عن الصادق أنه قال: "إن الله خلق نبيه على أحسن أدب وأرشد عقل، ثم أدَّب نبيه فأحسن تأديبه فقال: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] .. ثم أثنى الله عليه فقال: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .. ثم بعد ذلك فوَّض إليه دينه، فوَّض إليه التشريع فقال: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ، و {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] .. والله فوَّض دينه إلى نبيه. ثم إن نبى الله فوَّض كل ذلك إلى علىّ وأولاده سلَّمتم وجحده الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله، وما جعل الله لأحد خيراً فى خلاف أمرنا".
وحيث إن الله تعالى خلق النبى وكل إمام بعده على أحسن أدب وأرشد عقل، فلا يختار النبى ولا الإمام إلا ما فيه صلاح وثواب، ولا يخطر بقلب النبى ولا بقلب الإمام ما يخالف مشيئة الله وما يتناقض مصلحة الأُمة، فيفوِّض الله تعيين بعض الأُمور إلى رأى النبى ورأى الإمام، مثل الزيادة فى عدد ركعات الفرض، ومثل تعيين النوافل من(2/19)
الصلاة والصيام، وذلك إظهاراً لكرامة النبى والإمام، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحى، ثم لم يكن الاختيار إلا بالإلهام، وله فى الشرع شواهد: حرَّم الله الخمر، وحرَّم النبى كل مسكر فأجازه الله، وفرض الله الفرائض ولم يذكر الجد، فجعل النبى للجد السدس، وكان النبى يُبَشِّر ويُعطى الجنَّة على الله ويجيزه الله.
وأيضاً فوَّض الله للنبى والأئمة من بعده أُمور الخلق، وأُمور الإدارة والسياسة من التأديب والتكميل والتعليم، وواجب على الناس طاعتهم فى كل ذلك. قالوا: وهذا حق ثابت دلَّت الأخبار عليه.
وأيضاً فوَّضهم الله تعالى فى البيان، بيان الأحكام والإفتاء وتفسير آيات القرآن وتأويلها، ولهم أن يُبيِّنوا ولهم أن يسكتوا، ولهم فوق ذلك البيان كيفما أرادوا وعلى أى وجه شاءوا، تَقيَّة منهم وعلى حسب الأحوال والمصلحة. والتفويض بهذا المعنى يدَّعون أنه حق ثابت لهم، والأخبار ناطقة به وشاهدة عليه. يقول صاحب الكافى: "سأل ثلاثة من الناس الصادق عن آية واحدة فى كتاب الله فأجاب كل واحد بجواب، أجاب ثلاثة بأجوبة ثلاثة، واختلاف الأجوبة فى مسألة واحدة كان يقع إما على سبيل التقيَّة وإما على سبيل التفويض".
وهناك نوع آخر من التفويض يثبتونه للنبى والأئمة، ذلك هو أن النبى أو الإمام له أن يحكم بظاهر الشريعة، وله أن يترك الظاهر ويحكم بما يراه وما يلهمه الله من الواقع وخالص الحق فى كل واقعة، كما كان لصاحب موسى فى قصة الكهف، وكما وقع لذى القرنين.
ثم كان من توابع هذه العقيدة التى يعتقدونها فى أئمتهم أن قالوا بعصمة الأئمة، وقالوا بالمهدى المنتظر، وقالوا بالرجعة، وقالوا بالتَقيَّة، وهذه كلها عقائد رسخت فى أذهانهم وتمكنت من عقولهم، فأخذوا بعد هذا ينظرون إلى القرآن الكريم من خلال هذه العقائد ففسَّروا القرآن وفقاً لهواهم، وفهموا نصوصه وتأوَّلوها حسبما تمليه عليهم العقيدة ويزينه لهم الهوى.. وهذا تفسير بالرأى المذموم، تفسير مَن اعتقد أولاً، ثم فسَّر ثانياً بعد أن اعتقد.
* *
* تأثير الإمامية الإثنا عشرية بآراء المعتزلة وأثر ذلك فى تفسيرهم:
هذا.. وإن الإمامية الإثنا عشرية لهم فى نصوص القرآن التى تتصل بمسائل علم الكلام نظرة تتفق إلى حد كبير مع نظرة المعتزلة إلى هذه النصوص نفسها، ولم يكن بينهم وبين المعتزلة خلاف إلا فى مسائل قليلة، ويظهر أن هذا الارتباط الوثيق الذى كان بين الفريقين راجع إلى تتلمذ الكثير من شيوخ الشيعة وعلمائهم لبعض شيوخ(2/20)
المعتزلة، كما يظهر لنا جلياً أن هذا الارتباط فى التفكير شئ قديم غير جديد، فالحسن العسكرى، والشريف المرتضى، وأبو على الطبرسى، وغيرهم من قدماء الشيعة، ينظرون هذه النظرة الاعتزالية فى تفاسيرهم التى بأيدينا، والتى تعرَّضنا لبعضها وسنعرض لبعضها الآخر قريباً، بل إننا نجد الشريف المرتضى فى أماليه يحاول محاولة جدية أن يجعل علياً رضى الله عنه معتزلياً أو رأس المعتزلة على الأصح، وقد تقدمت لنا مقالته التى عرضنا لها عند الكلام عن أماليه. وليس من شك فى أن هذه النظرات الاعتزالية كان لها أثر كبير فى تفسيرهم، وسنقف على شئ من ذلك إن شاء الله تعالى.
* *
* تأثرهم بمذاهبهم الفقهية والأُصولية فى تفاسيرهم:
ثم إن الشيعة لهم فى الفقه وأُصوله آراء خالفوا بها مَن سواهم، فمثلاً نجدهم يذكرون أن أدلة الفقه أربعة وهى: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، ودليل العقل. أما الكتاب فلهم رأى فيه سنعرض له فيما بعد.
وأما السَّنَّة فهم غير أمناء عليها ولا ملتزمين ما صح منها، وسنعرض لها فيما بعد أيضاً.
وأما الإجماع فليس حُجَّة بنفسه، وإنما يكون حُجَّة إذا دخل الإمام المعصوم فى المُجْمِعين، أو كان الإجماع كاشفاً عن رأيه فى المسألة، أو كان الإجماع عن دليل معتبر، فهو فى الحقيقة داخل فى الكتاب أو السُّنَّة.
وأما دليل العقل عندهم فلا يدخل فيه القياس، ولا الاستحسان، ولا المصالح المرسلة، لأن ذلك كله ليس حُجَّة عندهم.
وفى الفقه لهم مخالفات يشذون بها، فمثلاً تراهم يقولون: إن فرض الرِجْلين فى الوضوء هو المسح دون الغسل، ولا يجوِّزون المسح على الخفين، وجوَّزوا نكاح المتعة، وجوَّزوا أن تورث الأنبياء، ولهم مخالفات فى نظام الإرث، كإنكارهم للعول مثلاً، ولهم مخالفات كثيرة غير ذلك فى مسائل الاجتهاد.(2/21)
لهذا كان طبيعياً أن يقف الإمامية الإثنا عشرية من الآيات التى تتعلق بالفقه وأصوله موقفاً فيه تعصب وتعسف، حتى يستطيعوا أن يخضعوا هذه النصوص ويجعلوها أدلة لآرائهم ومذاهبهم، كما كان طبيعياً، أن يتأوَّلوا ما يعارضهم من الآيات والأحاديث. بل ووجدناهم أحياناً يزيدون فى القرآن ما ليس منه ويدَّعون أنه قراءة أهل البيت، وهذا إمعان منهم فى اللجاج، وإغراق فى المخالفة والشذوذ.
* * *
* احتيالهم على تركيز عقائدهم وترويجها:
ويظهر لنا أن الإمامية الإثنا عشرية لم يجدوا فى القرآن كل ما يساعدهم على أغراضهم وميولهم، فراحوا (أولاً) يدَّعون أن القرآن له ظاهر وباطن بل وبواطن كثيرة، وأن علم جميع القرآن عند الأئمة، سواء فى ذلك ما يتعلق بالظواهر وما يتعلق بالبواطن، وحجروا على العقول فمنعوا الناس من القول فى القرآن بغير سماع من أئمتهم.
وراحوا (ثانياً) يدَّعون أن القرآن وارد كُلّه أو جُلّه فى أئمتهم ومواليهم، وفى أعدائهم ومخالفيهم كذلك.
وراحوا (ثالثاً) يدَّعون أن القرآن حُرِّف وبُدِّل عما كان عليه زمن النبى صلى الله عليه وسلم، وكل هذا لا أعتقد إلا أنه من قبيل الاحتيال على تركيز عقائدهم وإيهام الناس أنها مستقاة من القرآن الذى هو المنبع الأساسى والأول للدين.
وأعجب من هذا.. أنهم أخذوا يموِّهون على الناس، ويغرون العامة بما وضعوه من أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته، وطعنوا على الصحابة إلا نفراً قليلاً منهم، ورموهم بكل نقيصة فى الدين، ليجدوا لأنفسهم من وراء ذلك ثغرة يخرجون منها عندما تأخذ بخناقهم الأحاديث الصحيحة التى يرويها هؤلاء الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحسن بنا ألا نمر سراعاً على هذه النقط الأربع بالذات، بل علينا أن نقف أمامها وقفة طويلة ودقيقة حتى نستطيع أن نقف على مدى هذه الأوهام والدعاوى. التى كان لها أكبر الأثر فى اتجاه التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، فنقول وبالله التوفيق:
1 - ظاهر القرآن وباطنه:
يقول الإمامية الإثنا عشرية: إنَّ القرآن له ظاهر وباطن. وهذه حقيقة نقرهم عليها ولا نعارضهم فيها بعد ما صح لدينا من الأحاديث التى تقرر هذا المبدأ فى التفسير، غاية الأمر أن هؤلاء الإمامية لم يقفوا عند هذا الحد. بل تجاوزوا إلى(2/22)
القول بأن للقرآن سبعة وسبعين بطناً، ولم يقتصروا على ذلك بل تمادوا وادَّعوا أن الله تعالى جعل ظاهر القرآن فى الدعوة إلى التوحيد والنبوة والرسالة، وجعل باطنه فى الدعوة إلى الإمامة والولاية وما يتعلق بهما.
* حرصهم على التوفيق بين ظاهر القرآن وباطنه:
ولقد كان من أثر هذا الرأى فى القرآن، أن اشتد حرص هؤلاء القائلين به على أن يعقدوا صلة بين المعانى الظاهرة والمعانى الباطنة للقرآن، ويعملوا بكل ما فى وسعهم وطاقتهم على إيجاد مناسبة بينهما حتى يُقرِّبوا هذا المبدأ من عقول الناس ويجعلوه أمراً سائغاً مقبولاً. ومن أمثلة هذا التوفيق والربط بين ظاهر القرآن وباطنه، قوله تعالى فى الآية [15] من سورة محمد عليه السلام: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} .. فهم يقرون أن هذا الظاهر مراد الله تعالى، ومراد له مع هذا الظاهر معنى آخر باطنى هو علوم الأئمة عليهم السلام، ويقولون: إن الجامع بين المعنيين هو الانتفاع بكل منهما وبمثل هذا يوفقون بين المعانى الظاهرة والباطنة، حتى لا يكون مستبعداً إرادة الله لمعنى خاص بحسب ما يدل عليه ظاهر اللفظ، وإرادته لمعنى آخر بحسب ما يدل عليه باطن الأمر.
* *
* حملهم الناس على التسليم بما يدَّعون من المعانى الباطنة للقرآن:
وكأنِّى بالإمامية الإثنا عشرية بعد أن ربطوا بين ظاهر القرآن وباطنه، وجمعوا بينهما بجامع التناسب والتشابه.. كأنَّى بهم يعتقدون أن مثل هذا الربط لا يكفى فى حمل الناس على أن يذهبوا مذهبهم هذا، فحاولوا أن يحملوهم عليه من ناحية العقيدة والإرهاب الدينى، الذى يشبه الإرهاب الكَنَسى للعامة فى العصور المظلمة، من حمل الناس على ما يوحون به إليهم بعد أن حظروا عليهم إعمال العقل، وحالوا بينهم وبين حريتهم الفكرية، فقالوا: إن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بظاهر القرآن وباطنه على السواء، كما يجب عليه أن يؤمن بمحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ولا بد أن يكون ذلك على سبيل التفصيل إن وصل إليه علم ذلك مفصَّلاً عن آل البيت، ويكفى فيه الإجمال إن لم يصل إليه التفصيل. قالوا: ولا يجوز أن ينكر الباطن بحال، وعليه أن يُسَلِّمْ بكل ما وصل إليه من ذلك عن طريق آل البيت وإن لم يفهم معناه، ولو أن إنساناً آمن بالظاهر وأنكر الباطن لكفر بذلك، كما لو أنكر الظاهر وآمن بالباطن أو الظاهر والباطن جميعاً.
وحرصاً منهم على تعطيل عقول الناس ومنعهم من النظر الحر فى نصوص القرآن الكريم، قالوا: إن جميع معانى القرآن، سواء منها ما يتعلق بالظاهر وما يتعلق بالباطن،(2/23)
اختص بها النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده، فهم الذين عندهم علم الكتاب كله، لأن القرآن نزل فى بيتهم "وأهل البيت أدرى بما فى البيت". أما مَن عداهم من الناس فلا يرون أدنى شبهة فى قصور علمهم، وعدم إدراكه لكثير من معانى القرآن الظاهرة، فضلاً عن معانيه الباطنة، قالوا: ولهذا لا يجوز لإنسان أن يقول فى القرآن إلا بما وصل إليه من طريقهم، غاية الأمر أنهم جوَّزوا لمن أخلص حبه وانقياده لله ولرسوله ولأهل البيت، واستمد علومه من أهل البيت حتى آنس من نفسه العلم والمعرفة.. جوَّزوا لمثل هذا أن يستنبط من القرآن ما يتيسر له، لأنه بحبه لآل البيت وأخذه عنهم صار كأنه منهم، وقد قيل: "سلمان منا آل البيت".
* * *
* أثر التفسير الباطنى فى تلاعبهم بنصوص القرآن:
ولقد كان من نتائج هذا التفسير الباطنى للقرآن أن وجد القائلون به أمام أفكارهم مضطرباً بالغاً ومجالاً رحباً، يتسع لكل ما يشاؤه الهوى وتزينه لهم العقيدة، فأخذوا يتصرَّفون فى القرآن كما يحبون، وعلى أى وجه يشتهون، بعد ما ظنوا أن العامة قد انخدعت بأوهامهم وسلَّموا بأفكارهم ومبادئهم.
فقالوا - مثلاً - إنَّ من لطف الله تعالى أن يشير بواسطة المعانى الباطنة لبعض الآيات إلى ما سيحدث فى المستقبل من حوادث، ويعدون هذا من وجوه إعجازه، ثم يُفرِّعون على هذه القاعدة ما يشاؤه لهم الهوى، وما يزينه فى أعينهم داعى العقيدة وسلطانها، فيقولون مثلاً فى قوله تعالى فى الآية [19] من سورة الانشقاق: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} : إنه إشارة إلى أن هذه الأُمة ستسلك سبيل مَن كان قبلها من الأُمم فى الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.
كذلك مكَّن لهم القول بباطن القرآن من أن يقولوا: إن اللَّفظ الذى يراد به العموم ظاهراً، كثيراً ما يراد به الخصوص بحسب المعنى الباطن، فمثلاً لفظ "الكافرون" الذى يُراد به العموم، يقولون: هو فى الباطن مخصوص بمن كفر بولاية علىّ.
كما مكَّنهم أيضاً من أن يصرفوا الخطاب الذى هو موجَّه فى الظاهر إلى الأُمم السابقة أو إلى أفراد منها، إلى مَن يصدق عليه الخطاب فى نظرهم من هذه الأُمة بحسب الباطن، فمثلاً قوله تعالى فى الآية [159] من سورة الأعراف: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .. يقولون فيه: قوم موسى فى الباطن هم أهل الإسلام.
ولقد مكَّنهم أيضاً من أن يتركوا أحياناً المعنى الظاهر ويقولوا بالباطن وحده، كما فى قوله تعالى فى الآيتين [74-75] من سورة الإسراء: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا(2/24)
نَصِيراً} .. فالظاهر غير مراد عندهم، ويقولون: عنى بذلك غير النبى، لأن مثل هذا لا يليق أن يكون موجهاً للنبى عليه الصلاة والسلام، وإنما هو معنى به من قد مضى، أو هو من باب: "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة".
كذلك مكَّنهم هذا المبدأ من إرجاع الضمير إلى ما لم يسبق له ذكر، كما فى قوله تعالى فى الآية [15] من سورة يونس: {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} .. حيث يفسرون "أو بَدِّلُه" بمعنى أو بدِّل علياً. ومعلوم أن علياً لم يسبق له ذكر، ولم يكن الكلام مسوقاً فى شأن خلافته وولايته.
ومما ساغ لهم أن يقولوه بعد تقريرهم لمبدأ القول بالباطن: أن تأويل الآيات القرآنية لا يجرى على أهل زمان واحد، بل عندهم أن كل فقرة من فقرات القرآن لها تأويل يجرى فى كل آن، وعلى أهل كل زمان، فمعانى القرآن على هذا متجددة. حسب تجدد الأزمنة وما يكون فيها من حوادث. بل وساغ لهم ما هو أكثر من ذلك فقالوا: إن الآية الواحدة لها تأويلات كثيرة مختلفة متناقضة، وقالوا: إن الآية الواحدة يجوز أن يكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ آخر.. ولا شك أن باب التأويل الباطنى باب واسع يمكن لكل مَن ولجه أن يصل منه إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره.
وليس لقائل أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرَّح بأن للقرآن باطناً، وأن المفسِّرين جميعاً يعترفون بذلك ويقولون به، فكيف توجه اللوم إلى الإمامية وحدهم؟ ليس لقائل أن يقول ذلك، لأن الباطن الذى أشار إليه الحديث وقال به جمهور المفسِّرين، هو عبارة عن التأويل الذى يحتمله اللفظ القرآنى، ويمكن أن يكون من مدلولاته. أما الباطن الذى يقول به الشيعة فشئ يتفق مع أذواقهم ومشاربهم، وليس فى اللفظ القرآنى الكريم ما يدل عليه ولو بالإشارة.
* *
* مخلصهم من تناقض أقوالهم فى التفسير:
ثم إن الإمامية الإثنا عشرية، أحسوا بخطر موقفهم وتحرجه عندما جوَّزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير واحد مع التناقض والاختلاف بين هذه التفاسير. فأخذوا يموِّهون على العامة ويضللونهم، فقرروا من المبادئ ما أوجبوا الاعتقاد به أولاً على الناس ليصلوا بعد ذلك إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق الحرج، فكان من هذه المبادئ التى قرروها وأوجبوا الاعتقاد بها ما يأتى:
أولاً: أن الإمام مفوَّض من قِبَلِ الله فى تفسير(2/25)
القرآن.
ثانياً: أنه مفوَّض فى سياسة الأُمة.
ثالثاً: التقية.
وكل واحد من هذه الثلاثة يمكن أن يكون مخلصاً للخروج من هذا التناقض الذى وقع فى تفاسيرهم التى يروونها عن أئمتهم، فكون الإمام مفوَّضاً من قِبَلِ الله فى تفسير القرآن مخلص لهم، لأن باب التفويض واسع. وكونه مفوَّضاً فى سياسة الأُمة مخلص أيضاً، لأن الإمام أعلم بالتنزيل والتأويل، وأعلم بما فيه صلاح السائل والسامع، فهو يجيب كل إنسان على حسب ما يرى فيه صلاح حاله، والقول بالتقية مخلص أوسع من سابقيه، لأن الإمام له أن يسكت ولا يجيب، تقية منه. "قيل عند الباقر: إن الحسن البصرى يزعم أن الذين يكتمون العلم تؤذى ريح بطونهم أهل النار، فقال الباقر: فهلك إذن مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً، فليذهب الحسن يميناً وشمالاً، لا يوجد العلم إلا ههنا.. وأشار إلى صدره".
وللإمام أن يجيب بحسب الأحوال وما يرى فيه المصلحة.. تقية منه أيضاً وبنوا على هذا "أن الإمام إن قال قولاً على سبيل التقية، فللشيعى أن يأخذ به ويعمل بما قاله الإمام إن لم يتنبه الشيعى إلى أن قول الإمام كان على سبيل التقية".
ونحن لا نظن أن الأئمة كانوا يلجأون إلى هذه التقية.. تقية الخداع فى الأخبار، والنفاق فى الأحكام، وإنما هى تمحلات يتمحلونها، ليُخلِّصوا بها أنفسهم من هذا الارتباك الذى وقعوا فيه.
* *
2- موقف القرآن من الأئمة وأوليائهم وأعدائهم
ثم إن الإمامية الإثنا عشرية، قرروا أن الإقرار بإمامة علىّ ومَن بعده مِنَ الأئمة والتزام حبهم وموالاتهم، وبغض مخالفيهم وأعدائهم، أصل من أُصول الإيمان، بحيث لا يصلح إيمان المرء إلا إذا حصل ذلك، مع الإقرار بباقى الأصول، كما قرروا وجوب طاعة الأئمة، واعتقاد أفضليتهم على الخلائق أجمعين.
قرر الإمامية هذا كله، ثم أخذوا يُنزلون نصوص القرآن على ما قرروه، بل وزادوا على ذلك فقالوا: إن كل آيات المدح والثناء وردت فى الأئمة ومَن والاهم، وكل آيات الذم والتقريع وردت فى مخالفيهم وأعدائهم، بل ويدَّعون ما هو أكثر من ذلك فيقولون: إن جُلّ القرآن بل كُلّه، أُنزِل فى الإرشاد إليهم، والإعلان بهم، والأمر بموافقتهم، والنهى عن مخالفتهم.
ولقد كان من أثر زعمهم أن القرآن جُلّه أو كُلّه وارد فى أئمتهم ومَن والاهم، وفى أعدائهم ومَن وافقهم، أن قالوا: إن ما نسبه الله إلى نفسه بصيغة الجمع أو ضميره سره أن أراد إدخال النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة معه، قالوا: وهو مجاز شائع معروف، بل وبالغوا فقالوا: إن الأئمة هم المقصودون بالذات أحياناً كما فى قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] .. حيث رووا عن أبى جعفر محمد الباقر أنه قال فيها: إن الله أعظم وأعَزّ وأَجلّ من أن يُظلم، ولكن خلطنا(2/26)
بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، حيث يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} [المائدة: 55] بمعنى الأئمة منا.
وأعجب من هذا، أنهم جعلوا لفظ الجلالة، والإله والرب، مراداً به الإمام، وكذا الضمائر الراجعة إليه سبحانه، وتأوَّلوا ما أضافه الله إلى نفسه من الإطاعة والرضا والغنى والفقر مثلاً، بما يتعلق بالإمام كإطاعته، ورضاه، وغناه، وفقره ... إلخ، ويعدون ذلك من قبيل المجاز الشائع المعروف.. ولكن لا شيوع لمثل هذا المجاز ولا معرفة لنا به إذ المجاز المتعارَف عليه بين العلماء هو استعمال اللَّفظ فى غير ما وُضِع له لعلاقة مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلى، وأين العلاقة هنا؟ وإذا تكلَّفوا العلاقة فأين القرينة الصارفة للفظ عن حقيقته؟ ثم.. لِمَ هذا التكلف والعدول إلى المجاز، وقد تقرر أنه لا يُعدل إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة؟
* *
3- تحريف القرآن وتبديله
وأحسب أن الإمامية الإثني عشرية، عزَّ عليهم أن يكون القرآن غير صحيح فى عقيدتهم بالنسبة للأئمة وموافقيهم، وبالنسبة لأعدائهم ومخالفيهم، وكأنِّى بهم وقد تساءلوا فيما بينهم فقالوا: إذا كان القرآن جُلّه وارداً فى شأن الأئمة وشيعتهم، وفى شأن أعدائهم ومخالفيهم، فلِمَ لَمْ يأت القرآن بذلك صريحاً مع أنه المقصود أولاً بالذات؟ ولِمَ اكتفى بالإشارة الباطنة فقط؟.. كأنِّى بهم بعد هذا التساؤل، وبعد هذا الاعتراض الذى أخذ بخناقهم، وراحوا يتلمسون للتخلص منه كل سبيل، فلم يجدوا أسهل من القول بتحريف القرآن وتبديله، فقالوا: إن القرآن الذى جمعه علىّ عليه السلام، وتوارثه الأئمة من بعده، هو القرآن الصحيح الذى لم يتطرق إليه تحريف ولا تبديل، أما ما عداه فمحرَّف ومبدَّل، حُذِف منه كل ما ورد صريحاً فى فضائل آل البيت، وكل ما ورد صريحاً فى مثالب أعدائهم ومخالفيهم. وأخبار التحريف متواترة عند الشيعة، ولهم فى ذلك روايات كثيرة يروونها عن آل البيت، وهم منها براء.
يروى الكافى عن الصادق: أن القرآن الذى نزل به جبريل على محمد سبعة عشر ألف آية، والتى بأيدينا منها ستة آلاف ومائتان وثلاث وستون آية، والبواقى مخزونة عند أهل البيت فيما جمعه علىّ.
ويقولون: إن سورة "لم يكن" كانت مشتملة على اسم سبعين رجلاً من قريش بأنسابهم وآبائهم. وإن سورة "الأحزاب" كانت مثل سورة "الأنعام" أسقطوا منها(2/27)
فضائل أهل البيت، وإن سورة "الولاية" أُسقطت بتمامها ... وغير ذلك من خرافاتهم.
وأخف ما لهم فى هذا الموضوع هو "أن جميع ما فى المصحف كلام الله، إلا أنه بعض ما نزل، والباقى مما نزل عند المستحفظ لم يضع منه شئ، وإذا قام القائم يقرؤه الناس كما أنزله الله على ما جمعه أمير المؤمنين علىّ".
ولقد اصطدم مدَّعو التحريف والتبديل، بنصوص من القرآن صريحة فى هدم مدَّعاهم هذا، فمن تلك النصوص: قوله تعالى فى الآية [9] من سورة الحِجْر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .. ولكن سرعان ما تخلَّصوا منها بالتأويل فقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أى عند الأئمة، وبمثل هذا التأويل يتخلَّصون من باقى النصوص المعارضة لهم.
واصطدموا أيضاً بأمرين آخرين لهما عظيم الخطر على عقائدهم ومبائدهم.
أولهما: كيف تعتمدون فى تعاليمكم ومعتقداتكم على هذا القرآن الذى بأيدينا وقد جزمتم بوقوع التحريف والتبديل فيه؟
ثانيهما: كيف تُوجبون على الناس أن يعترفوا بفضائل آل البيت، ويتبرأوا من أعدائهم ومخالفيهم، والحُجَّة غير قائمة عليهم بعد أن حُذِف كل ذلك من القرآن؟
وقد أجابوا عن الأول: بأن التحريف إنما وقع فيما لا يخل بالمقصود كثير إخلال، كحذف اسم علىّ، وآل محمد، وأسماء المنافقين.
وأجابوا عن الثانى: بأن الله تعالى علم ما سيكون من وقوع التحريف والتبديل فى القرآن، فلم يكتف بما جاء صريحاً فى فضائل أهل البيت ومثالب أعدائهم، بل أشار إلى ذلك ودَلَّ عليه بحسب بطون القرآن وتأويله، وهذا قد سلم من التحريف والتبديل قطعاً، فبقيت الحُجَّة قائمة على الناس وإن بدَّلوا الظاهر وحرَّفوه.
والحق أن الشيعة هم الذين حرَّفوا وبدَّلوا. فكثيراً ما يزيدون فى القرآن ما ليس منه، ويدَّعون أنه قراءة أهل البيت، فمثلاً نراهم عند قوله تعالى فى الآية [67] من سورة المائدة: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} .. يزيدون: "فى شأن علىّ"، وهى زيادة لم ترد إلا من طريقهم، وهى طريق مطعون فيها.
وهم الذين حرَّفوا القرآن أيضاً حيث تأوَّلوه على غير ما أنزل الله "قيل للصادق: ألم يكن علىّ قوياً فى دين الله؟ قال: بلى. قيل: فكيف ظهر عليه القوم ولم يدفعهم؟ وما منعه من ذلك قال؟ الصادق: آية فى كتاب الله منعته. قيل: أى آية؟ قال: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] ، كان لله ودائع مؤمنون فى أصلاب(2/28)
قوم كافرين ومنافقين، ولم يكن علىّ يقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرجت ظهر علىّ على مَن ظهر فقتلهم".
وروى العياشى عن الباقر أنه قال: "لما قال النبى: "اللَّهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام" أنزل الله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} .
[الكهف: 51] وتقول أُصول الكافى فى قوله تعالى فى الآية [137] من سورة النساء: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} : إن هذه الآية نزلت فى أبى بكر وعمر وعثمان، آمنوا بالنبى أولاً، ثم كفروا حيث عُرضت عليهم ولاية علىّ، ثم آمنوا بالبيعة لعلىّ، ثم كفروا بعد موت النبى. ثم ازدادوا كفراً بأخذ البيعة من كل الأُمة.
هذه أمثلة نذكرها ونضعها بين يدى القارئ الكريم ليحكم بنفسه حكماً صادقاً: أن هؤلاء الشيعة، الذين يدَّعون التحريف والتبديل للقرآن، هم أنفسهم المحرَّفون لكتاب الله، المبدلِّون فيه، بصرفهم ألفاظ القرآن إلى غير مدلولاتهم وتقولهم على الله بالهوى والتشهى.
* *
4- موقفهم من الأحاديث النبوية وآثار الصحابة
ولقد رأى الإمامية الإثنا عشرية أنفسهم أمام كثرة من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام كثيرة من الروايات المأثورة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وفى تلك الأحاديث وهذه الآثار ما يخالف تعاليمهم مخالفة صريحة، لذا كان بدهياً أن يتخلص القوم من كل هذه الروايات، إما بطريق ردها، وإما بطريق تأويلها. والرد عندهم سهل ميسور، ذلك لأن الرواية إما أن تكون قولاً لصحابى، وإما أن تكون قولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق صحابى، وهم يُجَرِّحون معظم الصحابة، بل ويُكَفِّرونهم لمبايعتهم أبا بكر أولاً، ثم عمر من بعده، ثم عثمان من بعدهما.. وأما التأويل فباب واسع.. وهم أهله وأربابه.
فمثلاً نجدهم يردون الأحاديث والآثار التى ثبتت فى تحريم نكاح المتعة ونسخ حِلَّه، كما نجدهم يردون أحاديث المسح على الخفين ويقولون: إنها من رواية المغيرة بن شعبة رأس المنافقين. ثم نجدهم يُسَلِّمون صحة الرواية جدلاً ولكنهم يتأوَّلونها فيقولون: إن الخف الذى كان يلبسه النبى صلى الله عليه وسلم كان مشقوقاً من أعلى، فكان يمسح على ظاهر قدمه من هذا الشق.. وظاهر أن هذا تأويل بارد متكلف.(2/29)
فإذا كان هؤلاء لا يقبلون أقوال الصحابة، ولا يثقون بروايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذن فمَن يقبلون قوله؟ ومَن يثقون بروايته؟
الذى عليه الشيعة إلى اليوم، أنهم لا يأخذون الحديث إلا ممن كان شيعياً، ولا يقبلون تفسيراً إلا ممن كان شيعياً، ولا يثقون بشئ مطلقاً إلا إذا وصل إليهم من طريق شيعى!! ... وبهذا حصروا أنفسهم فى دائرة خاصة، حتى كأنهم هم المسلمون وحدهم، فإن عاشوا وسط السنيين فباطنهم لأنفسهم، وظاهرهم للتقية!!
وليت الأمر وقف بهم عند هذا الحد - حد الثقة بأشياعهم والاتهام لمن عداهم - بل وجدنا الرؤساء من الشيعة كجابر بن يزيد الجعفى وغيره - قد استغلوا أفكار الجمهور الساذجة، وقلوبهم الطيبة الطاهرة، وحبهم لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراحوا يضعون الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، ويضمنونها ما يَرضى ميولهم المذهبية، وأغراضهم السيئة الدنيئة، ولم يفتهم أن يحكموا أسانيد هذه الشيعة لأنهم وجدوها مؤيدة لدعواهم..
ويعجبنى هنا ما ذكره أبو المظفر الإسفرائينى فى كتابه "التبصير فى الدين"، وهو: أن الروافض "لما رأوا الجاحظ يتوسع فى التصانيف، ويصنف لكل فريق، قالت له الروافض: صنِّفْ لنا كتاباً، فقال لهم: لستُ أدرى لكم شبهة حتى أرتبها وأتصرف فيها، فقالوا له: إذن دلنا على شئ نتمسك به، فقال: لا أرى لكم وجهاً إلا أنكم إذا أردتم أن تقولوا شيئاً تزعمونه، تقولون: إنه قول جعفر بن محمد الصادق، لا أعرف لكم سبباً تستندون إليه غير هذا الكلام. فتمسكوا بحمقهم وغباوتهم بهذه السوءة التى دلَّهم عليها، فكلما أرادوا أن يختلقوا بدعة أو يخترعوا كذبة، نسبوها إلى ذلك السيد الصادق، وهو عنها منزَّه ومن مقالتهم فى الدارين برئ". * *
أهم الكتب التى يعتمدون عليها فى رواية الأحاديث والأخبار
هذا.. وللإمامية الإثنا عشرية كتب كثيرة، يعتمدون عليها فى رواية الأحاديث والأخبار، ويُنزلونها من أنفسهم منزلة سامية، ويثقون بها وثوقاً بالغاً، فمن أهم هذه الكتب ما يأتى:
أولاً: كتاب "الكافى"، وهو أهم الكتب عند الإمامية الإثنا عشرية على الإطلاق، وهو لأبى جعفر محمد بن يعقوب الكلينى المتوفى سنة 328 هـ (أو 329هـ) . وهو عندهم كالبخارى عند أهل السُّنَّة، وهذا الكتاب يحتوى على ستة عشر ألف حديث، قسمها - كما فعل أهل السُّنَّة - إلى صحيح، وحسن، وضعيف. وهو يقع فى ثلاث مجلدات: المجلد الأول فى الأصول، والثانى والثالث فى الفروع.(2/30)
ثانياً: كتاب "التهذيب" لمحمد بن الحسن الطوسى، مجلدان فى الفروع.
ثالثاً: كتاب "مَن لا يحضره الفقيه"، لمحمد بن علىّ بن بابويه. وهو فى الفروع.
رابعاً: كتاب "الاستبصار فيما اختُلِفَ فيه من الأخبار"، لمحمد ابن الحسن الطوسى (اختصره من كتاب التهذيب) .
هذه الكتب الأربعة، هى أُمهات كتب الشيعة التى يعتمدون عليها ويثقون بها، وقد جمعها كتاب "الوافى" فى ثلاث مجلدات كبيرة، وهو من مؤلفات محمد بن مرتضى، المعروف بملا محسن الكاشى.
وهناك كتب فى الحديث ذكرها صاحب "أعيان الشيعة" غير ما تقدم، منها: "وسائل الشيعة إلى أحاديث الشريعة"، للشيخ محمد بن الحسن العاملى، و "بحار الأنوار فى أحاديث النبى والأئمة الأطهار"، للشيخ محمد الباقر، وهى لا تقل أهمية عن الكتب المتقدمة.
والذى يقرأ فى هذه الكتب لا يسعه أمام ما فيها من خرافات وأضاليل إلا أن يحكم بأن متونها موضوعة، وأسانيدها مفتعلة مصنوعة، كما لا يسعه إلا أن يحكم على هؤلاء الإمامية بأنهم قوم لا يُحسنون الوضع، لأنهم ينقصهم الذوق، وتعوزههم المهارة، وإلا فأى ذوق وأية مهارة فى تلك الرواية التى يروونها عن جعفر الصادق رضى الله عنه، وهى: أنه قال: "ما من مولود يولد إلا وإبليس من الأبالسة بحضرته، فإن علم الله أن المولود من شعيتنا حجبه من ذلك الشيطان، وإن لم يكن المولود من شيعتنا أثبت الشيطان أصبعه فى دُبرُ الغلام فكان مأبوناًَ، وفى فَرْج الجارية فكانت فاجرة".
أظن أن القارئ معى فى أن الذى وضع هذه الرواية واختلقها على جعفر الصادق، رجل ينقصه الذوق، وتعوزه المهارة، ونحن أمام هذه الأحاديث والروايات، لا يسعنا إلا أن نردها رداً باتاً، وذلك لأسباب الآتية:
أولاً: إن غالب هذه الأحاديث يروونها بدون سند، بل يعتمدون على مجرد وجودها فى كتبهم. تروى كتب الشيعة أن إماماً من أئمة أهل البيت أولاد علىّ يقول: "ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله". ولكن بأى سند؟ تجيب كتب الشيعة: "إن شيوخنا رووا عن الباقر وعن الصادق وكانت التقية شديدة، وكانت الشيوخ تكتم الكتب، فلما خلت الشيوخ وماتت وصلت كتب الشيوخ إلينا، فقال إمام من الأئمة: حدِّثوا بها فإنها صادقة".(2/31)
ثانياً: إن ما روى من هذه الروايات مسنداً لا بد أن يكون فى سنده شيعى متعصب لمذهبه، وقد قال رجال الحديث: إنه لا تُقبل رواية المبتدع الذى يدعو لمذهبه ويُرَوِّج له.
ثالثاً: إن القاعدة المتفق عليها بين المحدِّثين: أن "كل متن يناقض المعقول. أو يخالف الأصول. أو يعارض الثابت من المنقول، فهو موضوع على الرسول"، وغالب أحاديثهم لا تسلم لهم إذا عرضناها على هذه القاعدة.
وكلمة الحق والإنصاف: أنه لو تصفح إنسان أُصول "الكافى"، وكتاب "الوافى" وغيرهما من الكتب التى يعتمد عليها الإمامية الإثنا عشرية، لظهر له أن معظم ما فيها من الأخبار موضوع وضع كذب وافتراء، وكثير مما روى فى تأويل الآيات وتنزيلها، لا يدل إلى على جهل القائل بها وافترائه على الله، ولو صح ما ترويه هذه الكتب من تأويلات فاسدة للقرآن، لما كان قرآن، ولا إسلام، ولا شرف لأهل البيت، ولا ذِكْر لهم.
وبعد.. فغالب ما فى كتب الإمامية الإثنا عشرية فى تأويل الآيات وتنزيلها، وفى ظهر القرآن وبطنه، استخفاف بالقرآن والكريم، ولعب بآيات الذكر الحكيم ... وإذا كان لهم فى تأويل الآيات وتنزيلاتها أغلاط كثيرة، فليس من المعقول أن تكون كلها صادرة عن جهل منهم، بل المعقول أن بعضها قد صدر عن جهل، والكثير منها صدر عمداً عن هوى ملتزم، وللشيعة - كما بيَّنا - أهواء التزمتها.
* *
أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية
للإمامية الإثنا عشرية ثروة كبيرة من كتب التفسير، منها ما تم، ومنها ما لم يتم، ومنها القديم، ومنها الحديث. ومنها ما بقى، ومنها ما اندثر، وكلها تدور حول تركيز عقيدتهم مع اختلاف بينها فى الغلو والاعتدال، واختلاف فى المنهج الذى سلكه مؤلف كل منها ومن هذه الكتب ما يأتى:
1 - تفسير الحسن العسكرى، المتوفى سنة 245 هـ (أربع وخمسين ومائتين من الهجرة) لم يتم، وهو مطبوع فى مجلد واحد، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية.
2 - تفسير محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمى الكوفى المعروف بـ "العياشى" من علماء القرن الثالث الهجرى، وهو من أُمهات كتب التفسير عند الشيعة. وعليه يعوِّلون كثيراً، ولم يقع لنا هذا التفسير.
3 - تفسير علىّ بن إبراهيم القُمِّى. فى أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجرى، وهو تفسير مختصر يعتمد عليه أرباب هذا المذهب كثيراً، وهو مطبوع فى مجدل واحد كبير، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية.
4 - التبيان: للشيخ أبى جعفر محمد بن الحسن بن على الطوسى المتوفى سنة 460 هـ (ستين وأربعمائة من الهجرة) . وهو الذى استمد منه الطبرسى تفسيره، وقد ذكر صاحب "أعيان الشيعة" أنه يقع فى عشرين مجلداً. ولم يقع لنا هذا التفسير أيضاً.
5 - مجمع البيان: لأبى علىّ الفضل بن الحسن الطبرسى المتوفى سنة 538 هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة) ، وهو مطبوع فى مجلدين كبيرين، وموجود بدار الكتب المصرية وبالمكتبة الأزهرية.
6 - الصافى: لمحمد بن مرتضى، الشهير بملا محسن الكاشى، من علماء القرن الحادي عشر الهجرى، وهو مطبوع فى مجلد واحد كبير، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية.
7 - الأصفى: للمؤلف السابق، وهو مختصر من الصافى، ومطبوع فى مجلد واحد كبير، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية، وأخرى بمكتبة الجامعة المصرية "جامعة القاهرة".
8 - البرهان: لهاشم بن سليمان بن إسماعيل الحسينى البحرانى، المتوفى سنة 1107 هـ (سبع ومائة بعد الألف من الهجرة) ، وهو مطبوع فى مجلدين، وموجود بدار الكتب المصرية.(2/32)
9 - مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار: للمولى عبد اللطيف الكازرانى، ولم يقع لنا هذا التفسير والموجود منه مقدمته فقط، وهى مطبوعة فى مجلد كبير وموجودة فى دار الكتب المصرية.
10 - المؤلِّف: لمحمد مرتضى الحسينى، المعروف بنور الدين، من علماء القرن الثانى عشر الهجرى، وهو مخطوط فى مجلد واحد صغير، وموجود بدار الكتب المصرية.
11 - تفسير القرآن: للمولى السيد عبد الله بن محمد رضا العلوى، المتوفى سنة 1242 هـ (اثنتين وأربعين ومائتين بعد الألف من الهجرة) ، وهو مطبوع فى مجلد كبير، وموجود بدار الكتب المصرية.
12 - بيان السعادة فى مقامات العبادة: لسلطان بن محمد بن حيدر الخراسانى، من علماء القرن الرابع عشر الهجرى، وهو مطبوع فى مجلد كبير وموجود بدار الكتب المصرية.(2/33)
13- آلاء الرحمن فى تفسير القرآن: لمحمد جواد بن الحسن النجفى المتوفى سنة 1352 هـ (اثنتين وخمسين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة) . لم يتم، والموجود منه بدار الكتب المصرية الجزء الأول، وهو كل ما كتبه المؤلف، ثم عاجلته المنية قبل إتمامه. وهو يبدأ بسورة الفاتحة، وينتهى عند قوله تعالى فى الآية [56] من سورة النساء: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} ... . الآية.
هذا هو أهم ما عرفناه من كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية وقد أمكننى أن أطلع على كل ما ذكرته من الموجود من هذه الكتب. وعلى غير ما ذكرته مما هو موجود أيضاً بدار الكتب المصرية، فوقفت بنفسى على مشارب أصحابها فى التفسير، واتجاهاتهم فى فهمهم لكتاب الله تعالى، وكم كنت أود أن أطلع على تفسير العياشى، وتفير الطوسى، لأقف بنفسى على هذين الكتابين المعتبرين أهم المراجع فى التفسير عند أرباب هذا المذهب.
وأظننى لست بحاجة إلى أن أتكلم عن كل كتاب اطلعت عليه من كتب هؤلاء القوم فى التفسير، بل يكفينى أن أتكلم عن بعض منها، وهو أهمها، مع ملاحظة أن يكون كل كتاب عليه اختيارى، له لون خاص من ألوان التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، وطابع يمتاز به عما سواه.
وقد رأيت أن ألخص أولاً مقدمة "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار" للكازرانى، لأنها تعطينا فكرة واضحة عن التفسير من وجهة نظر هؤلاء القوم بوجه عام، ومن وجهة نظر مؤلفها بوجه خاص.
ثم أتكلم عن "تفسير الحسن العسكرى"، لأنه يمثل لنا تفسير إمام من أئمتهم المعصومين، الذين عندهم علم الكتاب كله، ظاهره وباطنه.
ثم عن "مجمع البيان" للطبرسى، لأنه يمثل لنا تفسير معتدلى الإمامية الإثنا عشرية كما أنه يعطينا فكرة واضحة عن طريقة الجدل عندهم، ومقدار دفاعهم عن آرائهم وعقائدهم.
ثم عن "الصافى" لملا محسن الكاشى، لأنه يمثل لنا التفسير عند متطرفى الإمامية الإثنا عشرية.
ثم عن "تفسير القرآن" للسيد عبد الله العلوى، لأنه يمثل لنا التفسير السهل الذى جمع بين الاختصار وكثرة الفائدة.
ثم عن "بيان السعادة فى مقامات العبادة"، لسلطان بن محمد الخراسانى، لأنه يمثل لنا التفسير الصوفى الفلسفى عند الإمامية الإثنا عشرية.
هذه هى أهم الكتب التى سأتكلم عنها وعن مؤلفيها وسأعرض لها مرتَّبة حسب ترتيبها فى الذكر، فأقول مستمداً من الله العون والتوفيق:(2/34)
1- مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار (للمولى عبد اللطيف الكازرانى
*التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو المولى عبد اللطيف الكازرانى مولداً، النجفى مسكناً.
* *
* التعريف بمرآة الأنوار ومشكاة الأسرار وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير يُعَد فى الحقيقة مرجعاً مهماً من مراجع التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، وأصلاً لا بد من قراءته لمن يريد أن يقف على مدى تأثير عقيدة صاحبه ومَن على شاكلته فى فهمه لكتاب الله، وتنزيله لنصوصه على وفق ميوله المذهبية وهواه الشيعى ... ولكن كيف نحكم بأهمية هذا التفسير كمرجع من مراجع التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، ونحن لم نعثر عليه فى مكتبة من مكاتبنا المصرية؟ أليس هذا يُعَد من قبيل الحكم على ما نجهله، والقول فيما ليس لنا به علم؟؟ ... لا، فالكتاب وإن لم نظفر به ولم نطلع عليه، قد وجدنا ما هو عوض عنه إلى حد كبير، ذلك هو مقدمته التى قدَّم بها مؤلفه لتفسيره هذا.
وجدت هذه المقدمة فى دار الكتب المصرية، فقرأتها، فرأيتها تكشف لنا عن منهج صاحبها فى تفسيره، وتوضح لنا كثيراً من آرائه فى فهم كتاب الله وتبين فى صراحة تامة كيف تأثر المولى الكازرانى بعقيدته الزائفة، فحمَّل كتاب الله ما لا يحتمله بأى حال من الأحوال. وها أنا ذا أُلخص لك أهم المباحث التى تشتمل عليها هذه المقدمة، وبذلك نُلقى ضوءاً على هذا التفسير المفقود ونُعطى القارئ فكرة واضحة إلى حد كبير عن طريقة المؤلف ومنهجه فى تفسيره.
* *
المؤلف يتكلم عن الباعث له على تأليف تفسيره وعلى منهجه الذى سلكه فيه:
يجد القارئ أول ما يقرأ فى هذه المقدمة، بياناً مسهباً من المؤلف، يكشف لنا فيه عن الباعث الذى حمله على تأليفه لهذا التفسير، وعن المنهج الذى نهجه لنفسه فيه وسار عليه، كما يكشف لنا فى أثناء بيانه هذا، عن نظرته لكتاب الله وموقفه من تفسيره. تلك النظرة التى لا نشك أنها نظرة رجل ينظر إلى القرآن من خلال عقيدته، وذلك الموقف الذى لا نرتاب فى أنه موقف من أغراه مذهبه وخدعه هواه.
يقول المؤلف فى المقدمة (ص 2-3) ما نصه: " ... إن من أبين الأشياء وأظهرها، وأوضح الأُمور وأشهرها، أن لكل آية من كلام الله المجيد ... وكل فقرة من(2/35)
كتاب الله الحميد، ظهراً وبطناً، وتفسيراً وتأويلا، بل لكل واحدة منها - كما يظهر من الأخبار المستفيضة - سبعة بطون وسبعون بطناً، وقد دلَّت أحاديث متكاثرة، كادت أن تكون متواترة، على أن بطونها وتأويلها، بل كثيراً من تنزيلها وتفسيرها، فى فضل شأن السادة الأطهار، وإظهار جلالة حال القادة الأخيار، أعنى النبى المختار، وآلة الأئمة الأبرار، عليهم صلوات الله الملك الغفَّار. بل الحق المتين، والصدق المبين، كما لا يخفى على البصير الخبير بأسرار كلام العليم القديم، المرتوى من عيون علوم أمناء الحكيم الكبير، أن أكثر آيات الفضل والإنعام، والمدح والإكرام، بل كلها فيهم وفى أوليائهم نزلت، وأن جُلَّ فقرات التوبيخ والتشنيع، والتهديد والتفضيح، بل جملتها فى مخالفيهم وأعدائهم وردت.
بل التحقيق الحقيق - كما سيظهر عن قريب - أن تمام القرآن إنما أُنزل للإرشاد إليهم، والإعلام بهم، وبيان العلوم والأحكام لهم، والأمر بإطاعتهم وترك مخالفتهم، وأن الله عَزَّ وجَلَّ جعل جملة بطن القرآن فى دعوة الإمامة والولاية، كما جعل جُلّ ظهره فى دعوة التوحيد والنبوة والرسالة".
وهذه الدعاوى من المولى الكازرانى لا نكاد نُسلِّمها له، إذ أنها لا تقوم على دليل صحيح، وما ادّعاه من دلالة الأخبار المستفيضة والأحاديث المتكاثرة على ما ذهب إليه، أمر لا يُلتفَت إليه ولا يُعوَّل عليه، لأن ما يعنيه من الأخبار والأحاديث لا يعدو أن يكون موضوعاً لا أصل له. ومن هذا يتضح لنا أن هذا الشيعى مبالغ فى تشيعه إلى حد جعله يُحَمِّل كتاب الله تعالى ما لا يحتمله، ويجعله موزعاً بين دعوة الحق ودعوة الباطل، تلك بظاهرالقرآن وهذه بباطنه!!
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك ما كان من تسامح مفسِّرى الشيعة الذين سبقوه، وسكوتهم عن ذكر ما ثبت عن الأئمة فى تفاسيرهم، وبيَّن عذرهم فى ذلك.
ثم ذكر أنه كان يجيش بصدره، ويدور بخاطره وخلده، أن يجمع ما تفرَّق من الأخبار المأثورة عن آل البيت ويشرح مضامينها، ثم يُلحق نصوص كل آية بسورتها، وذلك كله فى كتاب مستقل، ولكن حال بينه وبين ما تطمح إليه نفسه - حقبة من الزمن - تفرُّق باله، وتشتُّت حاله، وكثرة أشغاله، ثم ظفر بعد ذلك بجملة من الآثار التى كان حريصاً على جمعها، فرأى أن الذى تطمح إليه نفسه لا يصح التغافل والتسامح فيه، فاستخار الله واستعان بحَوْله وقوته على تحقيق مرامه، فشرع فى جمع الروايات وتحريرها، وتفسير الآيات وتقريرها.
ثم بيّن لنا هدفه الذى يرمى إليه من وراء هذا التفسير، وهو أنه أراد أن يُفسِّر آيات القرآن ويقرر معانيها على وجه منيف، وبيان لطيف، وطور رشيق، وطرز أنيق، بطريق(2/36)
الإيجاز والاختصار، مع ذكر لب المقصود من الآيات والأخبار، بحيث يوضح غوامض أسرارها، ويكشف عن خبايا أستارها، ويتبين طريق الوصول إلى ذخائر كنوزها، ويرفع النقاب عن وجوه رموزها، من غير تطويل ممل، ولا اختصار زائد مخل.
ثم بيَّن لنا منهجه الذى سلكه فى تأليفه لهذا التفسير، وهو يتلخص فيما يأتى:
1 - يختصر الأخبار فلا يذكرها بتمامها، بل يقتصر على موضع الحاجة ويحذف الأسانيد رغبة منه فى الاختصار.
2 - أنه لا يتعرض لبيان جميع ما يتعلق بظاهر الآيات إلا إذا وجد أن التصريح بالمعنى الظاهر أمر لازم محترم، وقد جعل مدار هذا التفسير على بيان ما يتعلق بالبطون لخلو أكثر التفاسير منها أو من جُلِّها.
3 - أنه إذا لم يعثر على نص يفسِّر به الآية اجتهد فى تفسيرها على وفق الأخبار العامة المطلقة التى يمكن استخلاص معنى الآية منها.
4 - أنه يحرص كل الحرص على ذكر ما يعرفه من قراءة أهل البيت عند كل آية من القرآن.
ثم ذكرأنه وفق لما وفق إليه من كتابة التفسير "ببركات أول مَن آمن بالله بعين الإيقان، وثانى أول ما خلق الله قبل الكون والمكان، قاسم درجات الجنان ودركات النيران ... إمام المشارق والمغارب، أمير المؤمنين أبى الحسنين علىّ بن أبى طالب".
ثم قال: "وكنت لا أرجو من الإقدام على هذا الأمر إلا أن يدخلنى فى شيعته الخاصين. وأوليائه الخالصين. وأن تدركنى شفاعته المقبولة، وحمايته المأمولة، وجعلته خدمة لسدته السنية، وثوابه هدية إلى حضرته العلية، وسميته "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار".
وبالجملة.. فهذا التفسير أشبه ما يكون بالتفسير المأثور، لالتزام صاحبه فيه بيان المعنى بما ورد من الأخبار عن علماء أهل البيت إما صريحاً أو استخلاصاً من عموم الأخبار، غاية الأمر أن هذه الأخبار أخبار لا يُوثق بصحتها، ولا يُعوَّل على صدق نسبتها إلى مَن تُنسب إليه من علماء آل البيت رضى الله عنهم.
بعد هذا البيان قال المولى عبد اللطيف الكازرانى: "ولنذكر قبل الشروع فى المقصود ثلاث مقدمات نافعة لابد من بيانها ههنا".
ونستعرض هذه المقدمات الثلاث فنراه قد جعل المقدمة الأولى فى بيان ما يوضح حقيقة ورود بطن القرآن فيما يتعلق بدعوة الولاية والإمامة، كما أن ورود ظهره فيما يتعلق بدعوة التوحيد والنبوة والرسالة، وأن الأصل فى تنزيل آيات القرآن بتأويلها، إنما هو الإرشاد إلى ولاية النبى والأئمة صلوات الله عليهم وإعلام عز شأنهم وذل حال(2/37)
شانئهم، بحيث لا خير أخبر به إلا وهو فيهم وفى أتباعهم وعارفيهم، ولا سوء ذُكِر فيه إلا وهو صادق على أعدائهم وفى مخالفيهم. قال: "ويستبين ذلك فى ثلاث مقالات:
المقالة الأولى: فى بيان ما يوضح المقصود بحسب الأخبار الواردة فى خصوص هذه المقدمة، وهى تتم بفصول. ثم ذكر ثلاثة فصول.
جعل الفصل الأول منها فى بيان نبذ مما يدل على أن للقرآن بطوناً ولآياته تأويلات. وأن مفاد فقرات القرآن غير مقصور على أهل زمان واحد، بل لكل منها تأويل يجرى فى كل أوان وعلى أهل كل زمان ...
ثم ساق الروايات الدالة على ذلك وكلها مسندة إلى آل البيت، فمن هذه الروايات ما رواه العياشى وغيره عن جابر قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام عن شئ من تفسير القرآن فأجابنى، ثم سألته ثانية فأجابنى بجواب آخر، فقلت: جُعِلتُ فداك، كيف أجبتَ فى هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لى: يا جابر؛ إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً. يا جابر؛ وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن.. إن الآية ليكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ وهو كلام متصل يتصرف على وجوه".
ثم عقب المولى عبد اللطيف على هذا الخبر فقال: "دلالة مبدأ هذا الخبر على وجود تأويل له باطن وظاهر، وعلى تعدد تأويل آية واحدة، وعلى عدم تنافى تأويل أول آية فى شئ وآخرها فى آخر، بل عدم تنافى التفسير بالظاهر فى أولها والباطن فى آخرها أو بالعكس ظاهرة، فإذا سمعت شيئاً من ذلك فلا تنكره، لأنهم عليهم السلام أعلم بالتنزيل والتأويل، وبما فيه إصلاح السائل والسامع، ولهذا ورد: "إن القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه". ويؤيده ما فى الكافى عن الصادق عليه السلام أنه قال لعمر بن يزيد لما سأله عن قوله تعالى: {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} [الرعد: 21] : هذه نزلت فى رحم آل محمد صلى الله عليه وسلم وقد يكون فى قرابتك، فلا تكونن ممن يقول للشئ إنه فى شئ واحد".
ومن هذه الروايات ما نقله عن كتاب العلل بإسناده إلى أبى حكيم الزاهد قال: حدثنى أبو عبد الله بمكة قال: "بينما أمير المؤمنين عليه السلام مار بفناء الكعبة إذ نظر إلى رجل يصلى فاستحسن صلاته، فقال: يا هذا الرجل؛ إن الله تبارك وتعالى ما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر من الأمور إلا وله متشابه وتأويل وتنزيل، وكل ذلك على التعبد، فمَن لم يعرف تأويل صلاته فصلاته كلها خداج ناقصة غير تامة".
ثم عقب المولى على هذا فقال: "الظاهر أن المراد المتشابه الشبيه، وبالتأويل الباطن، وبالتنزيل الظاهر، وبالتعبد سبيل الإطاعة، والمعنى: أن كل ما جاء به النبى(2/38)
صلى الله عليه وسلم وأمر به الظاهر فله شبيه ونظير مأمور به فى الباطن، ويلزم الإيمان بهما جميعاً، فمَن لم يعرف شبيه الصلاة وباطنها الذى هو الإمام وإطاعته - كما سيأتى - فصلاته الظاهرية ناقصة" (ص 3-4) .
وعند الفصل الثانى فى ذكر الأخبار الصريحة فى أن بطن القرآن وتأويله، إنما - هو بالنسبة إلى الأئمة - وولايتهم وأتباعهم وما يتعلق بذلك، فكان من جملة الأخبار التى ساقها: ما رواه الكلينى بإسناده إلى أبى بصير قال: "قال الصادق عليه السلام: يا أبا محمد؛ ما من آية تقود إلى الجنة ويُذكر أهلها بخير إلا وهى فينا وفى شعيتنا، وما من آية نزلت يُذكر أهلها بشر وتسوق إلى النار إلا وهى فى عدونا ومَن خالفنا".
وما نقله عن الكافى وتفسير العياشى وغيرهما، عن محمد بن ميمون، عن الكاظم عليه السلام فى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] .. قال: القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرَّم الله فى الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحَلَّ الله فى الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أمئة الحق.
وما رواه عن الباقر عليه السلام قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم فى خطبته يوم الغدير: "معاشر الناس؛ هذا علىّ أحقكم بى، وأقربكم إلىّ، والله أنا عنه راضيان، وما نزلت آية رضا إلا فيه، وما خاطب الذين آمنوا إلا بدأ به، وما نزلت آية مدح فى القرآن إلا فيه. معاشر الناس؛ إن فضائل علىّ عند الله عَزّ وجَلَّ، وقد أنزلها علىّ فى القرآن أكثر من أن أحصيها فى مكان واحد، فمن نبأكم بها وعرفها فصدِّقوه".
وما رواه عن عبد الله بن سنان أنه قال: قال ذريح المحاربى: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] . فقال: المراد لقاء الإمام، فأتيت أبا عبد الله عليه السلام وقلت له: جُعِلتُ فداك، قوله عَزَّ وجَلَّ: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} .. قال: أخذ الشارب، وقص الأظافر، وما أشبه ذلك. فحكيت له كلام ذريح فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومَن يحتمل ما يحتمل ذريح؟ ثم عقَّب المولى على هذا فقال: "الكلام من الإمام عليه السلام صريح فى أنهم عليهم السلام كانوا يكتمون أمثال هذه التأويلات عن أكثر الناس، حتى عن ابن سنان الذى كان من فضلاء أصحابه" (ص 5) .
وعقد الفصل الثالث فى بيان نبذ مما يدل على وجوه تناسب الظواهر مع البطون، وجهات تشابه أهل التأويل مع أهل التنزيل فقال: "اعلم أن ما دلَّت عليه الأخبار الماضية، وما تدل عليه الأخبار التى ستأتى من المعانى الباطنة والتأويلات. ليست جملتها مما استعمل فيها اللفظ على سبيل الحقيقة، بل أكثرها ومعظمها على طريق(2/39)
التجوًُّز، ونهج الاستعارة، وسبيل الكناية ومن قبيل المجازات اللُّغوية والعقلية، إذ أبواب التجوُّز فى كلام العرب واسعة وموارده فى عبارات الفصحاء سائغة، فلا استبعاد إن أراد الله عَزَّ وجَلَّ بحسب الاستعمال الذى يدل عليه ظاهر اللفظ معنى، وبحسب التجوُّز الذى تدل عليه القرائن ويجتمع مع الظاهر بنوع من التناسب معنى آخر، وسنشير إلى كثير من وجوه التناسب فى المقدمة الثالثة وغيرها، ولكن نذكر فى هذا المقام من كليات تلك الوجوه بعض ما يُستفاد من أخبار الأئمة الأطياب، ونرفع عن وجوه الآيات لطالب تأويلها الحجاب، ونكشف عنها النقاب، تبصرة لمن أراد التبصر من أُولى الألباب. وأما إحاطة العلم بالجميع، فهى للراسخين فى العلم ومَن عنده علم الكتاب ... كما سيظهر فى الفصل الآخير.
فاعلم أنه يمكن تبيين المرام فى هذا المقام من وجوه وإن أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، ثم ساق وجوهاً خمسة يرجع بعضها إلى بعض كما قال، فكان مما ذكره فى الوجه الرابع ما جاء فى البصائر عن نصر بن قابوس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 30-33] قال: يا نصر؛ إنه ليس حيث يذهب الناس، وإنما هو العالِم وما يخرج منه.
ثم قال المولى: "قال شيخنا العلامة - رحمه الله -: "لعل المعنى ليس حيث يذهب الناس من انحصار جنَّة المؤمنين فى الجنَّة الصورية الأخروية، بل لهم فى الدنيا أيضاً ببركة أئمتهم عليهم السلام جنَّات روحانية من ظل حمايتهم ولطفهم الممدود فى الدنيا والآخرة. وماء مسكوب من علومهم الممتعة التى بها تحيا النفوس والأرواح، وفواكه كثيرة من أنواع معارفهم التى لا تنقطع عن شيعتهم ولا يُمنعون منها، وفُرُشٌ مرفوعة مما يتلذذون به من حكمهم وآدابهم، بل لا يتلذذ المقرَّبون فى الآخرة أيضاً فى الجنان الصورية إلا بتلك الملاذ المعنوية التى كانوا يتنعمون بها فى الدنيا كما تشهد به الأخبار" - انتهى كلامه أعلى الله مقامه - فتأمل ولا تغفل عن جريان مثله فى ساير نِعَم الجنَّة، مثل أنهار الخمر وأمثالها، كما يشهد له ما سيأتى فى الأنهار واللبن من تأويل اللبن والخمر بعلوم الأئمة عليهم السلام. وسيأتى فى الجنَّة والنار وما بمعناهما من تأويل الأولى بولاية الأئمة، والثانية بعداوتهم، وأمثال هذه التأويلات كثيرة ينادى بها كثير من الأخبار فى الترجمات الجائية المناسبة لها فافهم، وكذا كل ما ورد ظاهره فى العذاب، والمسخ والهلاك، والموت البدنى، ونحو ذلك، فباطنه فى الهلاك المعنوى بضلالاتهم وحرمانهم عن العلم والكمالات، وموت قلوبهم ومسخها وعميها عن إدراك الحق، فهم إن كانوا فى صور البَشر لكنهم كالأنعام بل هم أضل، وإن كانوا(2/40)
ظاهراً بين الأحياء، فهم أموات، ولكن لا يشعرون، إذ لا يسمعون الحق، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه، ولا ينطقون به، ولا يأتى منهم أمر ينفعهم فى أُخراهم، فهم شر من الأموات، وكذا كل ما كان فى القرآن مما ظاهره فى النهى عن القبائح الصورية، وتحريم الخبائث الظاهرية، كالزنا، والسرقة، والإيذاء، ونحوها مما هو علامة رذالة حال فاعله، ودليل خباثة طبع مرتكبه، كالخمر، والميتة، والدم، ونحوها مما تستقذر منه الطبائع السليمة، وتنفر منه القرائح المستقيمة، فبطنه فى النهى عن القبائح الباطنة التى هى معاداة الأئمة عليهم السلام، والزجر عن الخبائث المعنوية التى هى أعاديهم ومنكرو ولايتهم والفضائل التى هى فيهم، فإنها أيضاً - فى استقذار الأرواح،
وتخبث القلوب، واستنفار العقول ... ونحو ذلك مثل الخبائث الظاهرة والقبائح الصورية. بل أشد كما لا يخفى، وهكذا حال بطون ما ظاهره فى الترغيب بالمبرات والأمر بالخيرات بالنسبة إلى الأئمة وولايتهم ومعرفتهم، وبالجملة المدار على تشبيه الأمور المعنوية بالصورية، كالحياة والموت والانتفاعات والتصورات الروحانية بالجسمية ... وهكذا فى البواقى. على أن فى هذا الأخير تناسباً آخر أيضاً، وهو أنه لا خفاء فى كون النبى والأئمة صلوات الله عليهم وسائط معرفة العبادات والمأمورات، وأنهم الأصل فى قبولها فلا بُعْد إن أريدوا بها فى بطن القرآن. وكذا لا بُعْد فى كون أعدائهم من حيث مضادتهم لهم من المراد بالخبائث والمنهيات" (ص 8) .
وفى الوجه الخامس من العلل، علَّل ما ورد من تأويل معرفة الله، وعبادته، ومخالفته، وأسفه، وظلمه، ورضاه، وسخطه، وأمثالها بمعرفة الإمام وإطاعته ومخالفته وأسفه وظلمه ورضاه وسخطه، وكذا تأويل الإمام يد الله، وعينه، وجنبه، وقلبه، وسائر ما هو من هذا القبيل مما نسبه الله إلى نفسه وخصَّه به، بالإمام عليه السلام، وما ورد من الأخبار فى تأويل روح الله ونفسه، ولفظ الجلالة والإله والرب الإمام عليه السلام.. علَّل هذه التأويلات وما شاكلها بأن الذى جرى من عادة الأعاظم والملوك والأكبر أن ينسبوا ما وقع من خدمهم بأمرهم إلى نفسهم تجوُّزاً، وكذا قد ينسبون مجازاً ما يصيب خدمهم ومقربيهم من الإطاعة والخير والشر إلى أنفسهم، إظهاراً لجلالة حال أُولئك الخدم عندهم، وإشعاراً بأنهم فى لزوم المراعاة والإطاعة ودفع الضر عنهم وجلب النفع إليهم بمنزلة مخاديمهم وفى حكمهم، بحيث أن كل ما يصل إليهم فهو كالواصل إلى المخاديم.
قال الصادق عليه السلام - كما سيأتى عن الكافى وغيره - إن الله تعالى - لا يأسف كأسفنا، ولكن خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، وسخطهم سخط نفسه، لأنهم جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه ... (الخبر) .(2/41)
وفى رواية أخرى: ولكن الله خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته، ثم أنزل بذلك قرآناً على نبيه ... (الخبر) .
قال المولى: وسيأتى بقية الأخبار مفصَّلة. وهكذا كثيراً ما يُطلق تجوُّزاً على مُقرِّبى الرجل وأعوانه أسامى جوارحه وأعضائه وسائر ما يختص به فى النفع كما يقال للوزير الكامل المقرَّب عند السلطان النافع له جداً: إنه يده وسيفه وعينه.. وهكذا بناء على أنه فى الدفع والنفع والقُرب والعِزَّة مثل ذلك، حتى إنه قد يقال: إنه روحه ونفسه، بل ربما يقال إنه السلطان تجوُّزاً بمعنى أنه جعل إطاعته إطاعته، ومخالفته مخالفته، بحيث لا يرضى بغير ذلك (ص 9) .
ثم عقد الفصل الرابع فى بيان ما يدل على أن الواجب على الإنسان أن يؤمن بظاهر القرآن وباطنه، وتنزيله وتأويله معاً، كما أن الواجب الإيمان بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، وبسائر ما يتعلق بذلك جميعاً مفصَّلاً أو على سبيل الإجمال إن لم يعلم التفصيل من طريق أهل البيت الذين هم أدرى بما فى البيت. وأن مَن أنكر الظاهر كافر وإن أقر بالباطن، كما هو مذهب الباطنية من ملاحدة الخطابية والإسماعيلية وغيرهم القائلين بسقوط العبادات كما سيظهر، وكذا بالعكس: أى إنكار الباطن وإن أقر بالظاهر، على كل مؤمن أن لا يجترئ بإنكار ما نُقِل عن الأئمة عليهم السلام فى ذلك تفسيراً وتأويلاً وإن لم يفهم معناه ولم يدرك مغزاه.
ثم ساق من الروايات ما يدل على ذلك، وكلها منسوبة إلى أهل البيت، فمن ذلك ما روى عن الباقر عليه السلام أنه قال: "إن الله عزَّ وجَلَّ قد أرسل رسله بالكتاب وبتأويله، فمن كذَّب بالكتاب أو كذَّب بما أرسل به رسله من تأويل الكتاب فهو مشترك" (ص 9) .
ومنها ما روى عن الهيثم التميمى، قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام: يا هيثم؛ إن قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم ذلك شيئاً، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً.. لا إيمان بظاهر إلا بباطن، ولا بباطن إلا بظاهر" (ص 9) .
وعقد الفصل الخامس فى بيان ما يدل على أن علم تأويل القرآن كله عند الأئمة عليهم السلام، وما ذكر فى الأخبار الواردة فى المنع من تفسير القرآن بالرأى وبغير سماع من الأئمة، وفى الجمع بينها وبين ما يعارضها من الآيات والروايات وتوجيه ما هو الحق فى ذلك، فقال: اعلم أنه لا ريب فى اطلاع النبى والأئمة على جميع وجوه آيات القرآن ومعانيها كلها، ظواهرها وبواطنها، تنزيلها وتأويلها، وأنهم الذين عندهم علم الكتاب كله، كما أنزله الله فى بيتهم، فإن أهل البيت أدرى بما فى البيت، وقد(2/42)
دلَّت على هذا أخبار متواترة ... فمنها: ما فى البصائر بسند صحيح عن أبى الصباح قال: واللهِ لقد قال لى جعفر بن محمد عليه السلام: إن الله علَّم نبيه صلى الله عليه وسلم التنزيل والتأويل. قال: فعلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام، قال: وعلَّمنا ... . (الخبر) .
وما فيه أيضاً بإسناده عن يعقوب بن جعفر قال: كنت مع أبى الحسن عليه السلام بمكة، فقال له رجل: إنك لتفسِّر من كتاب الله ما لم نسمع به، فقال أبو الحسن: فنحن نعرف حلاله وحرامه، وناسخه ومنسوخه، وسفريه وحضريه، وفى أى ليلة نزلت من آية، فيمن نزلت، وفيم أنزلت ... (الخبر) .
واستدل أيضاً بما فى الكافى عن أبى جعفر عليه السلام أنه قال: ما يستطيع أحد يدَّعى أن عنده علم جميع القرآن كله ظاهره وباطنه إلا الأولياء.
ثم قال المولى عبد اللطيف بعد سياقه لهذه الروايات وغيرها: "وأما غيرهم عليهم السلام فلا شبهة فى قصور علومهم وعجز أفهامهم عن الوصول إلى ساحة إدراك كثير من تفسير الظواهر والتنزيل، فضلاً عن البواطن والتأويل، بلا إسناد من الأئمة العاملين، وعناية من الله رب العالمين".
ثم بعد أن استدل على ذلك بما ذكره من روايات سابقة ولاحقة قال: "ولهذا ورد المنع من التفسير بغير الأخذ منهم عليهم السلام". ثم استدل على عدم جواز تفسير القرآن بالرأى وضرورة الرجوع إلى الأئمة فى فهم معانيه، فكان مما استدل به، ما رواه عن العياشى عن الصادق عليه السلام قال: "مَن فَسَّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء"، وما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: "مَن فسَّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعدة من النار"، وما ورد فى تفسير الإمام عليه السلام من قوله: "أتدرون من المتمسك بالقرآن الذى له الشرف العظيم؟ هو الذى يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت، أو عن وسائط السفراء عنا إلى شيعتنا، لا عن آراء المجادلين، وقياسا الفاسقين، فأما مَن قال فى القرآن برأيه فإن اتفق له مصادفة صواب فقد جهل فى أخذه عن غير أهله، وإن أخطأ القائل فى القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار" (ص 11-12) .
ثم بعد ذلك وفَّق بين الأخبار الدالة بظواهرها على حُرْمة التفسير بالرأة وبين ما ورد من قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] ، وقوله: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ... وقوله عليه السلام: "القرآن ذلولَ ذو وجوه، فاحملوه على أحسن الوجوه"، وغير ذلك من الآيات والأخبار الدالة على أن فى معانى القرآن لأرباب الفهم متسعاً بالغاً ومجالاً رحباً فقال: لنا فى هذا المقام توجيهات عديدة نشير ههنا إلى ما هو الأكمل منها، وهو ما ذكره بعض محققى علمائنا، وقال: "الصواب أن يقال: إن مَن أخلص الانقياد لله ورسوله ولأهل البيت،(2/43)
وأخذ علمه منهم، وتتبع آثارهم، واطلع على جمله من أسرارهم، بحيث يحصل له المراس فى العلم والطمأنينة فى المعرفة، وانفتح عينا قلبه، وهجم به العلم على حقائق الأُمور، وباشر روح اليقين، وأنس بما استوحش منه الجاهلون، فله أن يستفيد من القرآن غرائبه، ويستنبط منه نُبذاً من عجائبه، وليس ذلك من كرم الله بغريب، ولا من جوده بعجيب، وليست السعادة وقفاً على قوم دون آخرين، وقد عدُّوا عليهم السلام جماعة من أصحابهم المتصفين بهذه الصفات من أنفسهم، كما قالوا: سلمان منا أهل البيت، فمَن هذه صفته لا يبعد دخوله فى الراسخين فى العلم، العالمين بالتأويل" (ص 12-13) .
ثم قال: وأما التفسير المنهى عنه، فقد نزَّله المحقق أيضاً على وجهين:
أحدهما: أن يكون للمفسِّر فى الشئ رأى وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوَّل القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج به على تصحيح غرضه ومدَّعاه، فيكون قد فسَّر القرآن برأيه، أى رأيه هو الذى حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وهذا كما أنه مع الجهل كأكثر تفاسير المخالفين مثلاً كذلك قد يكون مع العلم، كالذى يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يُلبِّس على خصمه، ومن هذا ما مرَّ من تأويلات الباطنية، وقد يصدر مثله عمن له غرض صحيح، لكن يطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به ذلك، كالذى يدعو مثلاً إلى مجاهدة القلب القاسى فيقول: قال الله تعالى: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] ، ويشير إلى قلبه ويومئ إليه أنه المراد بفرعون. قال ذلك المحقق: وهذا قد يستغله بعض الوعَّاظ فى المقاصد الصحيحة تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع وهو ممنوع.
ثانيهما: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل عن الأئمة فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيها من الألفاظ المبهمة والمبدَّلة، وما فيها من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، وفيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ والخاص والعام والرخص والعزائم والمحكم والمتشابه ... إلى غير ذلك من وجوه الآيات المفتقرة إلى السماع إذ مَن بادر إلى استنباط المعانى فيها بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل فى زمرة مَن يفسِّر بالرأى، فلا بد له أولاً من السماع وظاهر التفسير ليتقى مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط، فإن ظاهر التفسير يجرى مجرى تعليم اللُّغة التى لا بد منها للفهم، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59] .. فإن معناه: آبة مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، والناظر إلى ظاهرة العربية يظن أن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن(2/44)
عمياء. ولا يدرى أنهم بماذا ظلموا، وأنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم. ومن ذلك الآيات التى سنشير إلى كونها واردة على سبيل الكناية والرموز بحيث لا يطلع على ما فيها إلا مَن تجرَّع كؤوس علوم آل محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، كما سيأتى فى الفصل السادس من المقالة الأولى من المقدمة الثالثة فى قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] من أن المراد ظلم محمد وآله. ومنها ما سيأتى أيضاً فى الفصل الثالث من المقالة المذكورة فى قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] من أنه تعالى عنى بذلك غير النبى صلى الله عليه وسلم كما قال الصادق عليه السلام: "ما خاطب الله به نبيه فهو يعنى به مَن قد مضى" وقد روى الكلينى وغيره عنه عليه السلام أنه قال: "نزل القرآن بـ "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة". وعن الباقر عليه السلام: "إذا علم الله شيئاً هو كائن أخبر عنه ما قد كان"، وقد مرَّ فى حديث جابر قوله عليه السلام: "وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن أن الآية ليكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ" ... (الخبر) .
وسنذكر عن قريب فى فصول المقالة المذكورة وغيرها، ما يوضح حال تفسير الآيات التى كذا شأنها، ليتبصر به الناظر فيما نذكره من تفسير تلك الآيات إن شاء الله تعالى (ص 13) .
ونحن لا نرى أدنى خلل فيما ذكره من الوجهين السابقين بصرف النظر عما ذكره من تفسير، ولكن نأخذ عليه أنه لم يأخذ بما قال، بل جعل القرآن تبعاً لرأيه. ونزَّله على معان تتفق وهواه، ورمى غيره بالداء الذى هو فيه.
ثم ذكر المقالة الثانية، فجعلها فى بيان ما يوضح اشتمال كلام الله تعالى، الوارد فيما يتعلق بالتوحيد والنبوة صريحاً وتنزيلاً، على ما يتعلق بالولاية والإمامة بطناً وكناية وتأويلاً، بحسب الأخبار الواردة فى أن الولاية - أى الإقرار بنبوة النبى وإمامة الأئمة والتزام حبهم وإطاعتهم وبغض أعدائهم ومخالفيهم - أصل الإيمان، مع توحيد الله عَزَّ وجَلَّ، بحيث لا يصح الدين إلا بذلك كله، بل إنها بسبب إيجاد العالَم، وبناء حكم التكليف، وشرط قبول الأعمال والخروج عن حد الكفر والشرك، وأنها التى عُرِضت كالتوحيد على الخلق جميعاً، وأُخِذ عليهم الميثاق، وبُعِث بها الأنبياء، وأُنزِلت فى الكتب، وكُلِّف بها جميع الأُمم ولو ضمناً، وأن نسبة النبوة إلى الإمامة كنسبتها إلى التوحيد فى تلازم الإقرار بها وبقرينها، بحيث إن الكفر بكلٍّ فى حكم الكفر بالآخر. ولا يفيد الإيمان ببعض دون بعض، وأن الأئمة مثل النبى فى فرض الطاعة والأفضلية بعده على الخلائق أجمعين، وكونهم وسائط ووسائل لسائر عباد الله المكرَّمين، من الأنبياء والأوصياء والملائكة المقرَّبين ... عقد هذه المقالة الثانية لهذا(2/45)
الغرض فقال: "اعلم أن الأحاديث الغير المحصورة، تدل على هذه الأُمور المذكورة، بل أكثرها مما هو مُجمعَ عليه عند علمائنا الإماميين، وقد نص على حقيقتها بل كون جُلّها من ضروريات هذا المذهب أعاظم أصحابنا المحدثين، وكفى فى بيان ذلك ما ذكروه من مباحث الإمامة وكتب فضائل الأئمة، وسنذكر فى هذا الكتاب لها شواهد كثيرة، فلنكتف ههنا بنقل شئ من تصريحات محققى أصحابنا فى هذا الباب، وذكر أقل قليل من نصوص الأئمة الأطياب إذ ليس هنا موضع البسط والإطناب، ويكفى ما سنذكره فى تبصرة مَن هو مِن أُولى الألباب "فههنا فصول خمسة" ... ثم ساق الفصول الخمسة:
فجعل الفصل الأول منها فى بيان نُبَذ من تصريحات علماء الشيعة الإمامية من عِظَم شأن الأئمة وولايتهم وكفر منكريهم.
وجعل الفصل الثانى فى بيان نُبَذ من الأخبار التى وردت فى خصوص فرض ولاية أهل البيت وحبهم وطاعتهم، وأن ذلك مناط صحة الإيمان، وشرط قبول الأعمال والخروج عن حد الكفر والشرك، وأورد فيه ما جاء من ذم إنكار الولاية والشك فيهم، وكفر مبغضيهم ومخالفيهم.
وجعل الفصل الثالث فى بيان بعض الأخبار التى وردت فى أن الإقرار بإبمامة الأئمة وحبهم وولايتهم يتلو الإقرار بنبوة النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فى مدخلية صحة الدين وصدق الإيمان، كما أن الإقرار بالنبوة يتلو التوحيد فى ذلك، وأن نسبة النبوة إلى الإمامة، كنسبتها إلى التوحيد فى تلازم الإقرار بها وبقرينها، بحيث إن الكفر بكلٍّ فى حكم الكفر بالآخر ولا يفيد الإيمان ببعض دون الآخر.
وجعل الفصل الرابع فى بيان بعض الأخبار التى وردت فى خصوص أن الولاية عُرضت مع التوحيد على الخلق جميعاً، وأُخِذ عليهم الميثاق، وبُعِث بها الأنبياء، وأُنزِلت فى الكتب، وكُلِّفَ بها جميع الأُمم، وأورد فيه ما يدل على أنها سبب إيجاد الخلق أيضاً.
وجعل الفصل الخامس فى بيان بعض الأخبار التى وردت فى أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام أول المخلوقين، وأفضلهم وأكملهم، وأكرمهم بحيث كانت الملائكة والأنبياء تتوسل بهم وبولايتهم، وتفخر الملائكة بخدمتهم، وتعلَّموا التسبيح والتمجيد منهم، وأنهم وولايتهم العِلَّة فى الإيجاد، والأصل فى الطاعة والمعرفة.
ثم ذكر المقالة الثالثة وجعلها فى بيان ما يوضح ورود بطون القرآن فيما يتعلق بالولاية والإمامة، بحسب الأخبار التى تدل على أن هذه الآية تقتفى سنن الأُمم السابقة، وسيرة مَن كان قبلهم من كل أفعالهم وجميع أطوارهم وأعمالهم، كما أنه(2/46)
كان كذلك فى سائر الأُمم، قال: "فإنها بجملتها - يعنى بطون القرآن - تقتضى بحسب لطف الله تعالى أن لا يترك الإنذار والتبشير فيهم، كما لم يترك بالنسبة إلى سابقهم، وأن يشير إلى الزين والشين فى كل أوان بالنسبة إلى أهل كل زمان. وحيث لم يكن وقت نزول القرآن بعض ما علم الله صدوره من هذه الأمة صار أبعد منهم، فلا بد من ألطافه الكاملة أن يجعل ذلك تأويل كلامه البليغ، بحيث يُستفاد من التنزيل والتبليغ، ولا شك أن هذا أبلغ فى الإعجاز وأجمل للإيجاز.. ".
وقد أورد فى جملة ما أورد من الأخبار فى ذلك، ما رواه الطبرسى فى الاحتجاج عن علىّ عليه السلام أنه قال فى قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19] : أى لتسلكن سبيل مَن كان قبلكم من الأمم فى الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء. وما رواه الكلينى فى الصحيح عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام فى قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} .. قال: "يا زرارة؛ أى لتركبن هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق فى أمر فلان، وفلان، وفلان".. قال المولى الكازرانى: "أقول: أى كانت ضلالتهم بعد نبيهم مطابقة إلى صور من الأمم السابقة فى ترك الخليفة واتباع العجل والسامرى وأشباه ذلك.. قال: ويحتمل أن يكون المعنى تطابق أحوال خلفاء الجور فى الشدة والفساد" (ص 23-24) .
ثم ذكر المقدمة الثانية فتكلم فى بيان ما يوضح وقوع بعض تغيير فى القرآن وأنه السر فى جعل الإرشاد إلى أمر الولاية والإمامة والإشارة إلى فضائل أهل البيت وفرض طاعة الأئمة بحسب بطن القرآن وتأويله، والإشعار بذلك على سبيل التجوُّز والرموز والتعريض فى ظاهر القرآن وتنزيله فقال: "اعلم أن الحق الذى لا محيص عنه بحسب الأخبار الواردة المتواترة الآتية وغيرها، أن هذا القرآن الذى فى أيدينا قد وقع فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شئ من التغييرات، وأسقط الذين جمعوه بعده كثيراً من الكلمات والآيات، وأن القرآن المحفوظ عما ذكر، الموافق لما أنزله الله تعالى، ما جمعه علىّ عليه السلام وحفظه إلى أن وصل إلى ابنه الحسن عليه السلام ... وهكذا إلى أن ينتهى إلى القائم عليه السلام، وهو اليوم عنده صلوات الله عليه. ولهذا - كما قد ورد صريحاً حديث سنذكره - لما أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قد سبق فى علمه الكامل صدور تلك الأفعال الشنيعة من المفسدين فى الدين، وأنهم بحيث كلما اطلعوا على تصريح بما يضرهم ويزيد فى شأن علىّ عليه السلام وذُرِّيته الطاهرين، حاولوا إسقاط ذلك رأساً أو تغييره محرِّفين، وكان فى مشيئته الكاملة ومن ألطافه الشاملة محافظة أوامر الإمامة والولاية، ومحارسة مظاهر فضائل النبى صلى الله عليه وآله الأئمة، بحيث تسلم عن تغيير أهل التضييع والتحريف ويبقى لأهل مفادها مع بقاء(2/47)
التكليف، لم يكتف بما كان مصرحاً به منها فى كتابه الشريف، بل جعل جُلّ بيانها بحسب البطون وعلى نهج التأويل، وفى ضمن بيان ما تدل عليه ظواهر التنزيل، وأشار إلى جمل من برهانها بطريق التجوُّز والتعريض، والتعبير عنها بالرموز والتورية وسائر ما هو من هذا القبيل، حتى تتم حُجَّته على الخلائق جميعاً ولو بعد إسقاط المسقطين ما يدل عليه صريحاً بأحسن وجه وأجمل سبيل" قال: ويستبين صدق هذا المقال بملاحظة جميع ما نذكره فى هذه الفصول الأربعة المشتملة على كل هذه الأحوال.
ثم عقد الفصل الأول فى بيان نُبَذ مما ورد فى جمع القرآن ونقصه وتغييره، من الروايات التى نقلها أصحابه من الإمامية فى كتبهم.
وعقد الفصل الثانى فى بيان نُبَذ مما ورد فى جمع القرآن ونقصه وتغييره، والاختلاف فيه من الروايات التى نقلها المخالفون فى كتبهم.
وعقد الفصل الثالث فى بيان ما وعد به سابقاً، من الخبر المشتمل على التصريح بتغيير القرآن، وأنه هو السر فى الإشارة إلى ما يتعلق بالولاية والإمامة على سبيل الرمز والتعريض.
وعقد الفصل الرابع فى بيان خلاصة أقوال علمائهم فى تغيير القرآن وعدمه وتزييف استدلال مَن أنكر التغيير.
ثم ذكر المقدمة الثالثة وقد عقدها لبيان ما يوضح نُبَذاً من التأويلات المأثورة عن الأئمة السادات والمفهومة من بعض الروايات، المرشدة إلى تأويل ما لم يظفر من تأويله على نص خاص من الكلمات القرآنية والآيات.
قال: ويُستبان بها أيضاً ما بينته من صحة ورود بطن القرآن فيما يتعلق بالولاية والإمامة، وأن فى هذا الأمر تأويل ما ورد تنزيله فيما يتعلق بالتوحيد والنبوة.. عقد هذه المقدمة لبيان ما تقدم فقال:
"اعلم أن التأويلات التى ظفرنا عليها من أخبار الأئمة الأطهار على ثلاثة أقسام:
الأول: ما ورد مختصاً بكلمة أو آية مذكورة فى موضع واحد بحيث لا يجرى فى غيرها، ومحل ذكر مورده.
الثانى: ما ورد فى آية أو كلمة قرآنية لكنه بحيث يجرى فى غيرها. بل ربما يكون الورود على سبيل العموم أيضاً، ونحن نذكر هذا القسم فى هذه المقدمة مع نصه أو الإشارة إلى موضع ذكر النص.
الثالث: ما لم يرد فى تأويل آية إلا أنه مما يجرى فيها، كقوله عليه السلام: "نحن يد الله" ... ونحوه، وهذا أيضاً مما نذكره فى هذه المقدمة مع ذكر نصه أو الإشارة إليه، وفى هذين الأخيرين إذا وصلنا فى كتابنا هذا إلى موضع يجرى فيه أحدهما(2/48)
أولناه على وفقه بعد الإشارة إلى ورود التأويل وموضعه، بل مع إعادة ذكر أكثر النصوص فى مواردها. ثم من هذه التأويلات ما هو على نهج الكناية والتعريض والمجازات العقلية. ومنها ما هو من قبيل المجاز اللُّغوى، وها نحن نرتب هذه المقدمة على مقالتين، نذكر فى إحداهما مظاهره على النهج الأول مما لا بد من إفراد ذكره، وفى الأخرى سائر التأويلات العامة مع نصوصها. ثم نلحقها بخاتمة نختم بها المقدمات" (ص 36) .
ثم ذكر المقالة الأولى: فجعلها فى بيان بعض التأويلات التى لا بد من إفراد ذكرها من حيث عِظَم فوائدها، وجُلّها من قبيل المجازات العقلية، والتجوُّز فى الإسناد، والكناية، والتعريض وإن أمكن التكلف فى إدخال بعضها تحت المجاز اللُّغوى، وقد جعل هذه المقالة مشتملة على سبعة فصول:
جعل الفصل الأول منها: فى بيان ما يظهر من الأخبار من أن الله عَزَّ وجَلَّ كثيراً ما أراد فى كتابه بحسب الباطن بالألفاظ والخطابات الواردة ظاهراً على سبيل العموم خصوص بعض أفراد ما صدقت عليه، كالأئمة أو شيعتهم أو أعدائهم أو نحو ذلك. قال: ويدل على هذا أحاديث كثيرة، منها ما سيأتى فى تأويل الكافرين: بمن كفر بالولاية، والمنافقين: بمن نافق فيها، والمشركين: بمن أشرك مع الإمام مَن ليس بإمام، وأشباه ذلك.. ثم قال: والحق أنه إذا تأمل بصيرٌ فى أكثر ما ورد من تفسير البطن علن أن معظم ذلك من هذا القبيل، وهو مجاز شائع ذائع استعماله فى كثير من الألفاظ العامة والمطلقة ونحوها ... إلخ (ص 36) .
وجعل الفصل الثانى: فى بيان ما يظهر من الأخبار أن الله تعالى كثيراً ما يخاطب بخطاب أو وصف صادق على الماضين من أهل أزمان النبى صلى الله عليه وسلم والأُمم السالفة بحسب الظاهر، ومراده بحسب التأويل والباطن مَن صدق ذلك الخطاب أو الوصف عليه من هذه الأُمة بالنظر إلى حال الإمامة والولاية وإن لم يكن فى ذلك الزمان.. ثم ذكر فى ضمن ما رواه من الأخبار الدالة على ذلك ما جاء فى تفسير العياشى عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] .. قال: قوم موسى: هم أهل الإسلام. قال المولى: "والظاهر أن مراده عليه السلام: أن نظيره جار فيهم، وإنما ذكر فى الآية تمثيلاً لحال هذه الأُمة، ويؤيده ما سيأتى فى الأئمة، فلا ينافى هذا ما هو الظاهر من الآية من وجود جماعة فى قوم موسى هادين إلى الحق صريحاً كما يظهر من بعض الأخبار" (ص 37) .(2/49)
وجعل الفصل الثالث: فى بيان ما يظهر من الأخبار من أن الله سبحانه قد يريد بخطابه فى كتابه بحسب التأويل والبطن مخاطباً غير مَن يَفهم من الظاهر كون الخطاب متوجهاً إليه، وكان ذلك فى أثناء الخطاب وبين الخطاب مع المخاطب المفهوم من الظاهر وفى آية واحدة، وذلك كما ورد فى خبر جابر من قوله عليه السلام: "إن الآية لتكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ"، وما ورد فى الكافى وفى تفسير العياشى عن عبد الله بن بكير عن أبى عبد الله قال: نزل القرآن بـ إياكِ أعنى واسمعى يا جارة"، وفيهما أيضاً عن أبى عمير عمن حدَّثه عن أبى عبد الله قال: "ما خاطب الله به فهو يعنى به مَن قد مضى ذكره فى القرآن مثل قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] عَنِىَ بذلك غيره. قال بعض المحدثين: لعل المراد مَن مضى ذكره فى القرآن من الذين أسقط أسماءهم الملحدون فى آيات ... قال: وفى كنز الفوائد عن الأعمش قال: سمعت عطاء بن أبى رباح يقول: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عَزَّ وجَلَّ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وعلىّ نُلْقِى فى جهنم كل من عادانا" ... . (الخبر) (ص 37) .
وجعل الفصل الرابع: فى بيان ما يظهر من الأخبار من أن الضمير فى القرآن قد يكون بحسب التأويل راجعاً إلى شئ ليس بمذكور صريحاً، بل مقصود بحسب الباطن ومعهود تأويلاً، كالضمائر التى ورد رجوعها إلى الولاية أو إلى أمير المؤمنين عليه السلام أو نحو ذلك، بلا سبق ذكر ظاهراً. ثم ذكر ما ورد من الأخبار فى ذلك، منها: ما رواه الكلينى عن المفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عَزَّ وجَلَّ: {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] .. قال: قالوا: أو بَدِّل علياً.. وما ورد فى كنز الفوائد للكراكجى من تأويل أهل البيت فى حديث أحمد بن إبراهيم عنهم عليهم السلام قالوا: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة: 82] : أى أن شكر النعمة التى رزقكم وما مَنَّ عليكم بمحمد وآله {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أى بوصيه {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} إلى وصيه علىّ عليه السلام يبشر وليه بالجنَّة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} : يعنى أقرب إلى أمير المؤمنين علىّ منكم {ولاكن لاَّ تُبْصِرُونَ} .. أى لا تعرفون.
ومنها ما ورد فى تفسير القُمِّى عن أبى الشمال عن أبى جعفر عليه السلام فى قوله تعالى فى سورة المدثر: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} [المدثر: 35-36] قال: يعنى فاطمة، وكذا قال فى سائر الضمائر التى فى السورة (ص 38) .
وجعل الفصل الخامس: فى بيان ما يدل على أنه لا استبعاد فى أن يحمل ما عبر(2/50)
عنه بالماضى على ما هو المستقبل الآتى كما يقتضيه كثير من التأويلات فقال: روى الكلينى فى الكافى بإسناده عن أبى جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: إذا علم الله شيئاً هو كائن أخبر خبر ما قد كان. يعنى: إذا كان فى علم الله تعالى الكامل وقوع الشئ لا محالة وأنه سيكون قطعاً، أخبر عنه على سبيل ما قد مضى وكان، سواء أكان ذلك مما يدل عليه ظاهر القرآن وتنزيله، أو باطنه وتأويله، كما هو مقتضى التطابق كأحوال يوم القيامة مثلاً، والثواب والعقاب وسائر ما هو من هذا القبيل كالرجعة وما يكون فيها، وما يصدر من الأُمة بالنسبة إلى الإمامة وأمثال ذلك.. قال: ولا يخفى أنه بناءً على هذا يرتفع الاستبعاد المذكور (ص 38) .
وجعل الفصل السادس: فى بيان ما يظهر من الأخبار من أن إيراد أكثر الأشياء التى نسبها الله عَزَّ وجَلَّ إلى نفسه على صيغة الجمع وضميره كقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، وقوله عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25-26] ، وأمثالها من الكلمات القرآنية فإن السر فيه إدخال النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة فيها، بل إنهم هم المقصودون فى كثير منها. وعَدَّ هذا من قبيل المجازات الشائعة فى كلام الملوك والأعاظم ... ثم قال: فلنكتف ههنا بنقل بعض الأخبار الدالة عليه، وذكر أخباراً، منها: ما رواه الكلينى فى الصحيح عن حمزة بن بزيغ عن أبى عبد الله عليه السلام فى قول الله عَزَّ وجَلَّ: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} .. فقال: إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، وسخطهم سخط نفسه، لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه ... إلخ، وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال: "مَن أهان لى ولياً فقد بارزنى بالمحاربة ودعانى إليها"، وقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] ، وقال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .. قال: وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك الخبر ولا يخفى صراحة فى المقصود ههنا.. قال: وفى الكافى وغيره عن زرارة عن أبى جعفر قال: سألته عن قول الله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا ظَلَمُونَا ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 160] فقال: إن الله أعظم وأعَزّ وأجَلّ من أن يُظلم، ولكن خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته حيث يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} [المائدة: 55] .. يعنى الأئمة منا (ص 39) .
وجعل الفصل السابع: فى بيان ما يظهر من الأخبار من إطلاق لفظ الجلالة والإله والرب بحسب بطن القرآن وتأويله على الإمام فى مواضع عديدة، بل هكذا حال بعض الضمائر الراجعة بحسب التنزيل إليه سبحانه، وأن تأويل ما نسبه الله إلى نفسه(2/51)
بإضافته إلى هذه الألفاظ من العبادة، والإطاعة، والمعرفة، والرضا، والسخط، والمخالفة، والفقر، والغنى ... إلى غير ذلك هو ما يتعلق بالإمام كمتابعته، وإقامته، وإطاعته، ورضاه، وسخطه، وسبه، وأذاه، ومخالفته، وغناه، وفقره ... ونحو ذلك. وعَدَّ ذلك من قبيل المجازات العقلية والتجوُّز فى الإسناد، قال: لكن يظهر من بعض ما سنذكره من الأخبار أن فى ذلك ما هو من قبيل المجاز اللُّغوى أو التشبيه بالمعنى العُرْفى. ثم ذكر بعض ما هو نص فى بيان المقصود، فذكر من ذلك ما رواه الطبرسى فى الاحتجاج عن علىّ عليه السلام أنه قال فى حديث له طويل: إن قوله تعالى: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إلاه وَفِي الأرض إلاه} [الزخرف: 84] ، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] .. فإنما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التى ركبها فيهم على جميع خلقه، وأن فعلهم فعله ... (الخبر) ، وما رواه العياشى فى تفسيره عن أبى بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلاهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إلاه وَاحِدٌ} [النحل: 51] يعنى بذلك: لا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد، وما جاء فى كنز الفوائد للكراكجى عن علىّ بن أسباط عن إبراهيم الجعفرى عن أبى الجارود عن أبى عبد الله عليه السلام فى قوله تعالى: {أإلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] .. قال: أىءَإمام هدى مع إمام ضلال فى قرن واحد؟ وما رواه القُمِّى فى تفسير قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] .. أن الصادق عليه السلام قال: أى رب الأرض، يعنى إمام الأرض، وما جاء فى تفسير القُمِّى فى قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} [إبراهيم: 18] ... الآية،
قال: مَن لم يقر بولاية علىّ عليه السلام بطل عمله مثل الرماد الذى تجئ الريح فتحمله، وما جاء فى كنز الفوائد من تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87] .. أن الإمام عليه السلام قال: هو يُرَدّ إلى أمير المؤمنين عليه السلام فيعذبه عذاباً نكراً، ثم يقول: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] .. أى من شيعة أبى تراب (ص 41) .
وأما المقالة الثانية: فهى فى بيان سائر التأويلات العامة التى تجرى فى غير موضعها وتعم أكثر من موضع واحد مع نصوصها وأدلتها. وقد رتب المولى ما فى هذه المقالة على ترتيب حروف الهجاء ونهج فيها منهج كتب اللُّغة بملاحظة الحرف الأول، ثم الآخر ثم الثانى. فمن ذلك الذى ذكره ما يأتى:
"الإصر" قال: هو فى سورة البقرة، وآل عمران، والأعراف. وفى أساس البلاغة: الإصر: الثقل. وفى القاموس: الإصر - بالكسر: الذنب، وسيأتى فى الذنب تأويله. وقد روى الكلينى أيضاً عن الباقر عليه السلام فى قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ(2/52)
والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .. أنه قال: "الإصر: الذنوب التى كانوا فيها قبل معرفة فضل الإمام، فلما عرفوا فضل الإمام وضع عنهم الإصر، قال: قال عليه السلام: الإصر الذنب، وهى الآصار" ... (الخبر) ، وتأويله ظاهر. وفى تفسير القُمِّى عن الصادق عليه السلام أنه قال من قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] : أى عهدى، أى عهد الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم ونُصرة علىّ عليه السلام ... . (ص 50) .
"الباطل" قال: الباطل والمبطلون، والباطل ضد الحق وقد ورد تأويله بأعداء الأئمة، وبدولة الباطل، وبما كان عليه بنو أُمية وأشباههم من غاصبى الخلافة، كعداوة الأئمة وغيرها، ومنه يظهر المراد بالمبطلين أى مُدَّعى الباطل وأتباعهم، ففى تفسير القُمِّى عن الصادق عليه السلام فى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} [محمد: 3] قال: هم الذين اتبعوا أعداء علىّ وآل الرسول ... . (الخبر) (ص 70) .
"الراجفة" قال: الراجفة، والرادفة، والرجفة، والمرجفون: أصل الرجفة الحركة والاضطراب، ومنها الأرجوفة للكذب الذى يوقع فى الاضطراب. وفى سورة الأحزاب فى الآية [60] : {والمرجفون فِي المدينة} .. قال: وسيأتى هناك عن الصادق عليه السلام: أن الراجفة الحسين عليه السلام، والرادفة أبوه علىّ عليه السلام، وأن أول من ينفض التراب عن رأسه فى الرجفة الحسين عليه السلام. وقد فسَّرها المفسِّرون بالنفخ الأول، والرادفة بالنفخ الثانى، وهو أيضاً مناسب للتأويل المذكور كما سيأتى فى الصور. وربما أمكن إجراء ما ذكرناه من التأويل فى بعض موارد الرجفة على حسب التناسب، بل يمكن التأويل أيضاً بقيام القائم ورجعة الناس فلا تغفل (ص 109) .
"الزيت والزيتون" قال: أما الزيتون فمعروف. وأما الزيت ففرد منه، ويأتى إن شاء الله فى المشكاة، وفى سورة النور عند تأويل آية النور ما يدل على تأويل الزيت بالعلم، وفى سورة "التين" ما يدل على تأويل الزيتون بالحسين، وقد أوّله القُمِّى أيضاً بعلىّ عليه السلام كما سيظهر فى السورة المذكورة، ولعله يمكن إجراء ذلك فى غير تلك السورة أيضاً. وقد قيل فى وجه هذه الاستعارة: إن الزيتون فاكهة وإدام ودواء وله دهن مبارك لطيف، وعلىّ عليه السلام وكذا الحسين عليه السلام كل واحد ثمره فؤاد المقرَّبين، وعلومه قوة قلب المؤمنين، وبنوره ونور أولاده الطاهرين اهتدى جميع المهتدين، وقد مثَّل الله نوره بأنوارهم كما شاع فى أخبارهم، ثم قد ورد تأويل الزيتون ببيت المقدس كما يأتى فى "الطور" (ص 113) .
"القِبْلة" قال فى القاموس: القِبْلة التى يُصَلَّى نحوها، والجهة، والكعبة، وكل ما يُستقبل - يقال: ما له قِبْلة ولا دِبْرة - بكسرهما - أى وجهة، هذا وقد مَرَّ فى الصلاة ما يدل على تأويل القِبْلة بالأئمة عليهم السلام، وأنهم المراد بها بحسب بطن القرآن،(2/53)
واستقبالها كناية عن التمسك بهم واتباعهم ونحو هذا. وفى تفسير العياشى عن الصادق عليه السلام: "نحن قِبْلة الله، ونحن كعبة الله" وسيأتى بعض المؤيِّد فى "الكعبة" والله الهادى (ص 183) .
ثم ذكر الخاتمة، وجعلها مشتملة على فصلين:
الفصل الأول: فى بيان نُبَذ مما ورد من تأويلات الحروف المقطعة التى فى أوائل بعض السور فقال: "اعلم أن أصل تركيب مقطعات أوائل السور من غير ملاحظة ما تكرر منها أربع عشرة بعدد المعصومين الأربعة عشر: النبى وفاطمة والأئمة الإثنا عشر. والسور هى هذه: "آلم. آلمص. آلر. آلمر. كهيعص. طه. طسم. طس. يس. ص. حم. حمعسق. ق. ن".. ثم قال: وفى معانى الأخبار بإسناده إلى أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: "آلم: حروف من حروف اسم الله الأعظم المقطع فى القرآن، الذى يؤلفه النبى والإمام عليه السلام، فإذا دعا به أُجيب"، قال بعض الأفاضل: فى هذ الحديث دلالة على أن الحروف المقطعات أسرار بين الله ونبيه، ورموز لم يُقصد بها إفهام غيره وغير الراسخين فى العلم من ذُرِّيته. أقول: ويؤيده ما فى تفسير الإمام عليه السلام: أن معنى "آلم": أن هذا الكتاب الذى أنزلته هو الحروف المقطعة التى منها "أل م" وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ... ثم قال: وسنشير فيما ورد فى "ص" إلى ما يدل على أن جميع المقطعات القرآنية اسم للنبى صلى الله عليه وسلم، ولنذكر بعض ما يتعلق بتأويلها على ترتيبها. فما ورد فى: آلم، وآلمص، وآلر، وآلمر. ما قيل من أن معنى "آلم": أنا الله أعلم وأرى. و "آلمص": أنا الله أعلم وأفصل. وعلى هذا يمكن التأويل بأنه علم حيث اختار محمداً وعلياً وآلهماً الطيبين للنبوة والإمامة وأنزل لهم وفيهم كتابه المجيد، وعلى هذا القياس تأويل ما يأتى بعده ... . إلخ" (ص 231) .
ثم قال: وأما "كهيعص" فمعناه: أنا الكافى الهادى، والوالى العالم الصادق الوعد.
أقول: تأويل هذا: ما ورد عنه عليه السلام أيضاً أنه قال: أى كاف لشيعتنا، هاد لهم، ولى لهم، وعده حق، يبلغ بهم المنزلة التى وعدهم إياها فى بطن القرآن. وما فى الاحتجاج والمناقب وإكمال الدين عن سعد بن عبد الله عن الحُجَّة القائم عليه السلام أنه سأل عن تأويل "كهيعص" فقال: إن هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع الله عليها عبده زكريا، ثم فصَّلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن زكريا سأل ربه أن يعلمه بأسماء الخمسة، فأهبط الله عليه جبريل عليه السلام فعلَّمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً، وعلياً، وفاطمة، والحسن سرى عنه همه وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة. فقال ذات يوم: إلهى؛ ما بالى إذا ذكرت أربعاً منهم تسليت بأسمائهم من همومى، وإذا ذكرت الحسين تدمع عينى وتثور زفرتى؟ فأنبأه(2/54)
تبارك وتعالى عن قصته فقال: "كهيعص" فالكاف: اسم كربلاء، والهاء: هلاك العترة، والياء: يزيد لعنه الله - وهو ظالم الحسين - والعين: عطشه، والصاد: صبره، فلما سمع بذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيها الناس من الدخول عليه ... . (الخبر) . قال: وسيأتى تتمته فى سورته (ص 223) .
وجعل الفصل الثانى من الخاتمة فى ذكر بعض الفوائد.
فالفائدة الأولى: بيَّن فيها أن دأبه فى هذا التفسير على شيئين:
أحدهما: تأويل ما ورد بحسب التنزيل بالنسبة إلى الأُمم السابقة وما صدر منهم بالنسبة إلى إطاعة أنبيائه وعصيانهم، بأن المراد الإطاعة وعدمها فيما بلَّغوا إليهم وأمروهم به من الإقرار بولاية النبى والأئمة، والاعتراف بحقهم، والتمسك بهم، مع التبرى من أعدائهم. بعد الإقرار بالله ورسله، وتصديقهم فيما بلَّغوا جميعاً، لا سيما الولاية.
وثانيهما: تطبيق كثير مما ورد بالنسبة إلى تلك الأُمم وإلى إطاعتهم وإلى معصيتهم وما ورد عليهم من الشر والنقم والخير والنعم وغير ذلك على طوائف هذه الأُمة فيما صدر منهم بالنسبة إلى إطاعة النبى والأئمة فى أمر الولاية وعدمها، وما ورد ويرد عليهم من الشر والخير لذلك، وذلك بتمثيل الأخيار بالأخيار، والأشرار بالأشرار، وتبيان وجه الشبه فى تنظيم أفعالهم بأفعالهم، كتنظير أصحاب السبت بقتلة ذُرِّية النبى كبنى أُمية وبنى العباس مثلاً، وأصحاب الكهف بأبى طالب ونظرائه مثلا، وأصحاب العِجْل بأهل السقيفة ... وغير ذلك (ص 235) .
والفائدة الثانية: بيَّن فيها أن المراد فى الباطن بجميع ما حرَّم الله فى القرآن: أئمة الجور، وبما أحلّ: أئمة الحق، وأنهم أصل كل خير، ومن فروعهم كل بر، وأعداؤهم أصل كل شر، ومن فروعهم كل قبيح وفاحشة، وأن أعداءهم المراد بالفواحش والمناهى وما يُعبد من دون الله (ص 236) .
والفائدة الثالثة: قال فيها: "إنه تقدَّم وجوب الإيمان بظاهر القرآن وباطنه معاً، وأن كُلاً منهما مقصود البارى، ولكن لما كانت التفاسير المتداولة مشتملة على جُلِّ ما يتعلق بالظاهر، وكان مقصدنا بالذات من وضع هذا الكتاب إبراز خبايا التأويلات المستفادة من الأئمة السادة، لخلو أكثر التفاسير عنها جميعاً، ومن أكثرها، جعلنا مدار كلامنا على تبيين هذا الأمر وبيان ما يتعلق بالبطون فلا نتعرض لما يتعلق بالظواهر مفصَّلاً، حذراً من التطويل والخروج عن المقصود الأصلى (ص 236) .
والفائدة الرابعة: بيَّن فيها أن كل ما ذكره من تأويل الآيات والكلمات القرآنية فى تفسيره، فمبناه على التجوُّز فى المعنى، أو الإسناد، أو نحو ذلك من وجوه الاستعارات(2/55)
وأمثالها. قال: ومع هذا لا يجوز ذلك فى موضع إلا بعد وجدان مستند له فيه وفى مثله، أو بحسب العموم والإطلاق الشامل (ص 236) .
والفائدة الخامسة: بيَّن فيها أنه اقتصر فى نقل الأخبار على موضع الحاجة منها وما يدل على المراد، مخافة التطويل.
قال: فربما فرَّقنا مضمون خبر على مواضع، وربما نقلنا خلاصة مضمون روايته، ولكن كل ذلك بحيث لا يخل بالحديث ولا يتغير منه معناه (ص 236) .
والفائدة السادسة: بيَّن فيها أن كل ما ذكره فى تفسيره من التأويلات فهو غير خال من المستند المستفاد من الأئمة عليهم السلام (ص 236) .
والفائدة السابعة: بيَّن فيها أن الرجعة من ضروريات مذهب الشيعى، وادَّعى تواتر الأحاديث المثبتة لها فى الجملة وإن كانت مختلفة فى تفصيلها وقال: لقد وقفت على أزيد من مائتى حديث فيها، ثم ذكر من الأخبار ما يدل على ذلك (ص 237-239) .
ثم قال: "وليكن هذا آخر ما أردنا إيراده فى مقدمات تفسيرنا، ونشرع بعد هذا فى أصل التفسير إن شاء الله تعالى وبحَوْله وقُوَّته وتوفيقه، حامداً ومُصَلِّياً ومُسَلِّماً، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الأئمة المعصومين، صلوات الله عليهم أجمعين، حمداً وصلاة وتسليماً كثيراً كثيراً كثيراً".
ولكن أين هذا التفسير؟؟. قلنا: لم نعثر عليه فى مكتبة من مكاتبنا المصرية. وقلنا: إنه لو وقع لنا لكان خير مرجع يُصوِّر لنا معالم التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية.. ولكن ألستَ معى فى أن هذه المقدمة التى لخصتُ لك أهم مباحثها، تكشف لنا إلى حد كبير عن مذهب صاحبها فى تفسيره، وعن مقدار تأثره بعقيدته فى فهمه لكتاب الله؟ أظن أنك معى فى هذا وإليك أسوق أهم القواعد التى سار عليها المولى عبد اللطيف فى تفسيره، وهى قواعد استخلصتها ولخصتها من مقدمة تفسيره، ولا أحسب أنه تخطاها أو شذ عنها بعد ما دافع عنها وقوَّاها بما استطاع من الأدلة. وهذه هى أهم القواعد:
أولاً: القرآن له ظهر وبطن، بل كل فقرة من كتاب الله لها سبعة وسبعون بطناً، وجملة باطن الكتاب فى الدعوة إلى الإمامة والولاية، وجملة ظاهره فى الدعوة إلى التوحيد والنبوة والرسالة، وكل ما ورد من الآيات المشتملة على المدح والإكرام ففى أئمتهم، وكل ما ورد من الآيات المشتملة على التهديد والوعيد والتوبيخ والتقريع ففى مخالفيهم وأعدائهم نزلت.
ثانياً: لا تقتصر معانى الآيات القرآنية على أهل زمان واحد، بل لكل آية تأويل يجرى فى كل أوان وعلى أهل كل زمان.(2/56)
ثالثاً: معانى القرآن الظاهرة متناسبة مع معانيه الباطنة.
رابعاً: المعانى الباطنة ليست جملتها مما استعمل فيها اللَّفظ على سبيل الحقيقة بل أكثرها ومعظمها على طريق التجوُّز ونهج الاستعارة وسبيل الكناية ومن قبيل المجازات اللُّغوية والعقلية، وهذا فى تقديره أمر لا غرابة فيه ولا استبعاد، إذ أن أبواب التجوُّز فى كلام العرب واسعة، وموارده فى عبارات الفصحاء سائغة.
خامساً: يجب على الإنسان أن يؤمن بظاهر القرآن وباطنه على السواء، كما يجب عليه أن يؤمن بمحكم القرآن ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وبسائر ما يتعلق بذلك تفصيلاً أو إجمالاً إن لم يعلم التفصيل من أهل البيت، ومَن أنكر الظاهر وأقرَّ بالباطن أو العكس فهو ملحد كافر، بل ويجب على كل إنسان أن يُصدِّق بكل ما نُقِل عن الأئمة من تفسير وتأويل وإن لم يفهم معناه، ومن الجرأة أن ينكر أحد شيئاً من ذلك لخفائه عليه.
سادساً: علم تأويل القرآن جميعه عند الأئمة، وهذا أمر اختُصوا به دون مَن عداهم، فلهذا لا يجوز لأحد أن يُفسِّر القرآن برأيه وبدون سماع منهم، لأنه لا شبهة فى أن مَن عداهم تقصر علومهم وتعجز أفهامهم عن الوصول إلى كثير من ظواهر القرآن فضلاً عن بواطنه وتأويله.
سابعاً: ما علم الله صدوره من هذه الأُمة المحمدية فى الأزمنة المستقبلة - أى بعد نزول القرآن - أشار الله إليه ونَبَّه عليه فى كتابه الكريم، فكل ما جَدَّ ويَجِدّ من الحوادث بعد نزول القرآن يُستفاد من آياته عن طريق تأويلها، وهذا أبلغ فى الإعجاز وأجمل للإيجاز، فقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19] تأويله الإخبار من الله بأن هذه الأُمة ستسلك سبيل مَن كان قبلها من الأُمم فى الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.
ثامناً: القرآن الذى جمعه علىّ عليه السلام وتوارثته الأئمة من بعده هو القرآن الصحيح، وما عداه وقع فيه التغيير والتبديل، فكل ما ورد صريحاً فى مدح أهل البيت وذم شانئيهم أُسْقِط من القرآن أو حُرِّف وبُدِّل، ولعلم الله بما سيكون من التغيير والتبديل لم يكتف الله تعالى بالإرشاد إلى أمر الإمامة والولاية وفضائل أهل البيت ومثالب أعدائهم بما صرَّح به القرآن، بل أرشد إلى ذلك أيضاً بحسب ما يدل عليه باطن اللَّفظ وتأويله، لتقوم بذلك الحُجَّة على الناس وإن حُرِّف القرآن وبُدِّل.
تاسعاً: كثيراً ما يريد الله فى كتابه بحسب الباطن بالألفاظ والخطابات الواردة ظاهراً على سبيل العموم خصوص بعض أفراد ما صدقت عليه، كالأئمة أو شيعتهم أو أعدائهم أو نحو ذلك، كما ورد فى تأويل "المشركين" بمن أشرك مع الإمام مَن ليس بإمام.(2/57)
عاشراً: ما ورد من الخطاب للأُمم السابقة كثيراً ما يُراد به بحسب الباطن ما يصدق عليه الخطاب من هذه الأُمة بحسب الإمامة والولاية وغيرهما، مع إرادة الظاهر أيضاً مثل: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] أراد فى الباطن بقوم موسى: أهل الإسلام.
الحادية عشرة: قد يُراد بالخطاب فى الباطن مخاطَباً غير مَن نفهم من الظاهر كون الخطاب له، كما ورد عن أبى عبد الله أنه قال: نزل القرآن بـ "إياك أعنى واسمعى يا جارة"، فقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] عَنِىَ به غير النبى.
الثانية عشرة: قد يرجع الضمير بحسب التأويل والباطن إلى ما لم يسبق له ذكر صريحاً، مثل قوله تعالى: {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] : يعنى أو بَدِّل علياً.
الثالثة عشرة: ما نسبه الله إلى نفسه بصيغة الجمع أو ضميره كقوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] السر فيه إدخال النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة فى مفهومه وهذا مجاز شائع معروف.
الرابعة عشرة: لفظ الجلالة وما شاكله والضمائر الراجعة إلى الله فى الظاهر مراد به الإمام باطناً وتأويلاً، وهذا مجاز شائع معروف.
هذه هى أهم القواعد التى سار عليها المؤلف فى تفسيره، وهى كما ترى ملخصه من مقدمة تفسيره.
* * *
2- تفسير الحسن العسكرى
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد الحسن بن علىّ الهادى بن محمد الجواد ابن علىّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علىّ زين العابدين بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، الإمام الحادى عشر عند الإمامية الإثنا عشرية، والمعروف بالحسن العسكرى، وهو والد المهدى المنتظر.
ولد سنة 231 هـ (إحدى وثلاثين ومائتين من الهجرة) وقيل سنة 232 هـ(2/58)
بالمدينة على الراجح، وتوفى بـ "سُرَّ من رأى" سنة 260 هـ (ستين ومائتين) ودفن بها بجانب أبيه.
* *
*التعريف بهذا التفسير:
عثرنا على هذا التفسير فى دار الكتب المصرية فوجدناه منسوباً إلى الإمام أبى محمد الحسن العسكرى، ومروياً عنه برواية أبى يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبى الحسن علىّ بن محمد بن محمد بن سيار، وهما من الشيعة الإمامية، وقد تلقيا هذا التفسير وكتباه عن الحسن العسكرى فى سبع سنين. ولهما فى تلقى هذا التفسير عن الحسن العسكرى قصة غريبة فى مقدمة الكتاب حدَّثا بها فقالا ما ملخصه: كنا صغيرين. وكان أبوانا إماميين، وكانت الزيدية هم الغالبين بـ "إستراباذ"، وكنا فى إمارة الحسن ابن زيد العلوى، الملقب بالداعى إلى الحق، إمام الزيدية، وكان كثير الإصغاء إليهم، يقتل الناس لسعاياتهم، فخاف أبوانا الوشاية بهما عنده فخرجا بنا وبأهلينا إلى حضرة الإمام أبى محمد الحسن بن علىّ بن محمد أبى القائم، فلما دخلا عليه قال لهما: مرحباً بالآوين إلينا، الملتجئين إلى كنفنا، قد تقبَّل الله سعيكما، وآمن روعكما، وكفاكما أعداءكما، فانصرِفا آمنين على أنفسكما وأموالكما، قالا: فماذا تأمر أيها الإمام؟ أن نرجع فى طريقنا إلى أن ننتهى إلى بِلد خرجنا منه؟ وكيف ندخل ذلك البلد ومنه هربنا وطلب سلطان البلد لنا حثيث، ووعيده إيانا شديد؟ فقال عليه السلام: خلِّفا علىَّ ولديكما هذين لأفيدهما العلم الذى يشرفهما الله به، ثم لا تحفلا بالسعاة ولا بوعيد المسعى إليه، فإن الله عَزَّ وجَلَّ يقصهم السعاة ويلجئهم إلى شفاعتكم فيهم عند مَن هربتم منه.
قال أبو يعقوب وأبو الحسن: فأتمرا لما أُمِرا، وخرجا وخلِّفانا هناك، فكنا نختلف إليه فيتلقانا ببر الإماء وذوى الأرحام الماسة، فقال لنا ذات يوم: إذا أتاكما خبر كفاية الله عَزَّ وجَلَّ أبويكما، وإخزائه أعداءهما، وصدق وعدى إياهما، جعلت من شكر الله عَزَّ وجَلَّ أن أفيدكما تفسير القرآن مشتملاً على بعض أخبار محمد صلى الله عليه وسلم، فيعظم الله بذلك شأنكما، قالا: ففرحنا وقلنا: يا ابن رسول الله؛ فإذن نأتى جميع علوم القرآن ومعانيه؟ قال: كلا، إن الصادق علم ما أريد أن أعلمكما بعض أصحابه ففرح بذلك وقال: يا ابن رسول الله قد جمعت علوم القرآن كلها، قال: قد جمعت خيراً كثيراً وأُوتيتُ فضلاً واسعاً، ولكنه مع ذلك أقل قليل أجزء علم القرآن، إن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ(2/59)
جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109] ، ويقول: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] ، وهذا علم القرآن ومعانيه وما أودع من عجائبه، فكيف ترى مقدار ما أخذته من جميع هذا القرآن؟ ولكن القدر الذى أخذته قد فضَّلَك الله به على كل مَن لا يعلم كعلمك ولا يفهم كفهمك.
ثم ذكرا ما كان من أمر عدول الحسن بن زيد العلوى عن بطشه وفتكه، وعدم تعرضه للناس فى مذاهبهم، وأمره لأبويهما بملازمة الإمام أبى محمد الحسن العسكرى لما سمع بهذا قال: هذا حين إنجازى ما وعدتكما من تفسير القرآن، ثم قال: قد وظَّفتُ لكما كل يوم شيئاً منه تكتبانه، فالزَمانى وواظبا على توفيق الله تعالى من العبادة حظوظكما. فأول ما أملى علينا أحاديث فى فضل القرآن وأهله، ثم أملى علينا التفسير بعد ذلك فكتبناه فى مدة مقامنا عنده، وذلك سبع سنين، نكتب فى كل يوم منه مقدار ما ننشط له، فكان أول ما أملى علينا وكتبناه قال: "حدَّثنى أبى: علىّ بن محمد، عن أبيه: محمد بن علىّ، عن أبيه: علىّ بن موسى، عن أبيه: موسى ابن جعفر، عن أبيه: جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه: الباقر محمد ابن علىّ، عن أبيه: علىّ بن الحسين زين العابدين، عن أبيه: الحسين ابن علىّ سيد المستشهدين، عن أبيه: أمير المؤمنين وسيد الوصيين وخليفة رسول الله رب العالمين، فاروق الأُمة، وباب مدينة الحكمة، ووصى رسول الرحمة، علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، عن رسول رب العالمين، وسيد المرسلين، وقائد الغُرّ المُحجَّلين، والمخصوص بأشرف الشفاعات فى يوم الدين، صلى الله عليه وآله أجمعين".
ثم ذكر شيئاً من الأخبار فى فضل القرآن وحملته.. ثم قال: "قال رسول الله: "أتدرون من المتمسك الذى بتمسكه ينال هذا الشرف العظيم؟ هو الذى أخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت، وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا، لا عن آراء المجادلين وقياس القايسين.. ". ثم قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57ـ58] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضَّلَ الله عَزَّ وجَلَّ القرآن والعلم بتأويله. وبرحمته: توفيقه لموالاة محمد وآله الطيبين، ومعاداة أعدائهم.. ".
ثم ذكر الحسن العسكرى تفسير "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" منسوباً إلى علىّ رضى الله عنه، وفيه يقول علىّ: "ألا أُنبئكم ببعض أخبارنا؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: إن رسول الله لما بنى مسجده بالمدينة وأشرع فيه بابه وأشرع المهاجرين والأنصار أبوابهم، أراد الله إبانة محمد وآله الأفضلين بالفضيلة، فنزل جبريل(2/60)
عن الله تعالى: بأن سُدُّوا الأبواب عن مسجد رسول الله قبل أن ينزل بكم العذاب، فأول مَن بعث إليه رسول الله يأمره بسد بابه العباس بن عبد المطلب، فقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله - وكان الرسول معاذ بن جبل - ثم مرَّ العباس بفاطمة فرآها قاعدة على بابها وقد أقعدت الحسن والحسين، فقال لها: ما بالك قاعدة؟ انظروا إليها كأنها لبؤَة بين يديها جرواها، أتظن أن رسول الله يُخرج عمه ويُدخل ابن عمه؟! فمرَّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ما بالك قاعدة؟ قالت: أنتظر أمر رسول الله بسد الأبواب، فقال لها: إن الله تعالى أمرهم بسد الأبواب واستثنى منهم رسول الله، وإنما أنتم نفس رسول الله. ثم إن عمر بن الخطاب جاء فقال: أحب النظر إليك يا رسول الله إذا مررت إلى مُصَلاك، فأْذن لى فى فُرجة أنظر إليك منك، فقال: قد أبى الله عَزَّ وجَلَّ ذلك، قال: فمقدار ما أضع عليه وجهى، قال: قد أبى الله ذلك، قال: فمقدار ما أضع عليه إحدى عَيْنىَّ، قال: أبى الله ذلك، ولو قلتَ قدر طرف الإبرة لم آذن لك، والذى نفس محمد بيده ما أنا أخرجتكم ولا أدخلتهم، ولكن الله أدخلهم وأخرجكم.. ثم قال: لا ينبغى لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت فى هذا المسحد جُنُباً إلا محمد وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين والمنتجبون من آلهم الطيبين من أولادهم. قال: فأما المؤمنون فقد رضوا وسلَّموا، وأما المنافقون فاغتاظوا لذلك وأنفوا، ومشى بعضهم يقول إلى بعض فيما بينهم: ألا ترون محمداً لا يزال يخص بالفضائل ابن عمه ليُخرجنا منها صفراً، والله لئن أنفذنا له فى حياته لنأتين عليه بعد وفاته، وجعل عبد الله بن أُبُىّ يصغى إلى مقالتهم ويغضب تارة ويسكن أخرى، ويقول لهم: إن محمداً لمتألِّه، فإياكم ومكاشفته، فإن مَن كاشف المتألِّه انقلب خاسئاً
حسيراً وينغص عليه عيشه. وإن الفطن اللبيب مَن يتجرع على الغُصَّة لينتهز الفُرصة. فبينما هم كذلك إذا طلع رجع من المؤمنين يقال له زيد بن أرقم فقال لهم: يا أعداء الله، أباللهِ تُكَذِّبون؟ وعلى رسوله تطعنون؟ ولدينه تكيدون؟ والله لأُخْبِرن رسول الله بكم، فقال عبد الله ابن أُبَىّ والجماعة: واللهِ لئن أخبرته بنا لنكذبنك ولنحلفن له، فإنه إذن يُصدِّقنا، ثم واللهِ لنقيمن عليك من يشهد عليك عنده بما يوجب قتلك أو قطعك أو حدك، قال: فأتى زيد رسول الله فأسَرَّ إليه ما كان من عبد الله بن أُبَىّ وأصحابه، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 48] المجاهدين لك يا محمد فيما دعوتهم إليه من الإيمان بالله والموالاة لك ولأوليائك، والمعاداة لأعدائك، {والمنافقين} الذين يطيعونك فى(2/61)
الظاهر ويخالفونك فى الباطن، {وَدَعْ أَذَاهُمْ} مما يكون منهم من القول السئ فيك وفى ذويك، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فى إتمام أمرك وإقامة حُجَّتك، فإن المؤمن هو الظاهر بالحُجَّة وإن غُلِبَ فى الدنيا، لأن العاقبة له، لأن غرض المؤمنين فى كدحهم فى الدنيا إنما هو الوصول إلى نعيم الأبد فى الجنة، وذلك حاصل لك ولآلك ولأصحابك وشيعتك.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى ما بلغه عنهم، وأمر زيداً فقال: "إن أردت أن لا يصيبك شرهم ولا ينالك مكرهم فقل إذا أصبحت: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، فإن الله يعيذك من شرهم، فإنهم شياطين يُوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وإذا أردت أن يُؤَمِّنك بعد ذلك من الغرق والحرق والسرق فقل إذا أصبحت: بسم الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله، بسم الله لا يسوق الخير إلا الله، بسم الله ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله، بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، بسم الله ما شاء الله وصلى الله على محمد وآله الطيبين، فإن مَن قالها ثلاثاً إذا أصبح أمن من الغرق والحرق والسرق حتى يمسى، ومَن قالها ثلاثاً إذا أمسى أمن من الحرق والغرق حتى يصبح، وإن الخضر وإلياس يلتقيان فى كل موسم، فإذا تفرقا تفرقا عن هذه الكلمات، وإن ذلك شعار شيعتى، وبه يمتاز أعدائى من أوليائى يوم خروج قائمهم.. ".
ثم ذكر حديثاً آخر طويلاً عن الباقر يتضمن ما كان من المحاورة بين العباس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن إغلاق باب العباس وغيره، وإبقاء باب علىّ وحده، وفيه شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل لعلىّ على غيره، وفى آخره يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم رسول الله؛ إن شأن علىّ عظيم، إن حال علىّ جليل. وإن وزن علىّ ثقيل، وما وُضِع حب علىّ فى ميزان أحد إلا رجع على سيئاته، ولا وُضِع بغضه فى ميزان أحد إلا رجح على حسناته" ... إلخ.
هذا.. والكتاب مطبوع فى مجلد صغير يقع فى (286 صحيفة) ، وهو غير شامل للقرآن كله، بل بعد الفراغ من المقدمة وشرح الاستعاذة شرع فى الفاتحة ففسَّرها، ثم شرع فى سورة البقرة فوصل فيها إلى قوله تعالى فى الآية [114] : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِي خَرَابِهَآ أولائك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} .. (وذلك يبدأ من أول الكتاب إلى ص 236) .
ومن قوله تعالى فيها: {إِنَّ الصفا والمروة} الآية [158] ... إلى قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} الآية [179] .. (وذلك يبدأ من ص 236 إلى ص 254) .(2/62)
ومن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} الآية [198] ... إلى قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} الآية [210] .. (وذلك يبدأ من ص 254 إلى ص 267) .
ومن قوله تعالى فيها: {أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} الآية [282] ... إلى قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فى الآية [283] .. (وذلك يبدأ من ص 267 إلى ص 286) .
هذا هو كل ما وُجِد وطُبع من التفسير المنسوب إلى الحسن العسكرى رحمه الله تعالى، وأرى أن أسوق لك بعض النماذج لتقف بنفسك على مسلكه فى التفسير، وتأثره بمذهب الإمامية، ولنرى بعد ذلك هل يمكن أن يكون هذا التفسير حقيقة لهذا الإمام الصالح، أو نُسب إليه زوراً وبهتاناً.
* ولاية على:
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [8] من سورة البقرة: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} .. يقول: "قال العالم موسى بن جعفر: إن رسول الله لما أوقف أمير المؤمنين علىّ ابن أبى طالب فى يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله؛ انسبونى، فقالوا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف، ثم قال: يا أيها الناس؛ ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فنظر إلى السماء وقال: اللَّهم اشهد بقول هؤلاء - وهو يقول ويقولون ذلك ثلاثاً - ثم قال: ألا فمَن كنتُ مولاه وأولى به فهذا علىّ مولاه وأولى به، اللَّهم وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وانصر مَن نصره. واخذل من خذله.. ثم قال: قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام وبايع له. ثم قال: قم يا عمر فبايع له بإمره المؤمنين، فقام فبايع له، ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة رؤساء المهاجرين والأنصار، فبايعوا كلهم، فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطاب فقال: بَخٍ بَخٍ يا ابن أبى طالب، أصحبتَ مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة، ثم تفرّقوا عند ذلك وقد وُكِّدَتْ عليهم العهود والمواثيق. ثم إن قوماً من متمرديهم وجبابرتهم تواطأوا بينهم لئن كان بمحمد كائنة ليدفعن هذا الأمر من علىّ ولا يتركونه، فعرف الله ذلك من قِبَلهم، وكانوا يأتون رسول الله ويقولون: لقد أقمتَ علينا أحب خلق الله إلى الله وإليك وإلينا فكفيتنا مؤنة الظلمة لنا والمتجبرين فى سياستنا، وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون، فأخبر الله عَزَّ وجَلَّ محمداً عنهم فقال: يا محمد {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله} الذى أمرك بنصب علىّ إماماً وسايساً لأُمتك ومدبراً، {وَمَا هُم(2/63)
بِمُؤْمِنِينَ} بذلك، ولكنهم يتواطأون على إهلاكك وإهلاكه، يوطنون أنفسهم على التمرد على علىّ إن كانت بك كائنة".
وعند قوله تعالى فى الآية [13] من سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولاكن لاَّ يَعْلَمُونَ} .. يقول: "قال موسى بن جعفر: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبَيْعة، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار: آمنوا برسول الله وعلىّ الذى أوقفه موقفه وأقامه مقامه وأناط مصالح الدين والدنيا كلها به، وآمنوا بهذا النبى وسلِّموا لهذا الإمام، وسلِّموا له فى ظاهر الأمر وباطنه، كما آمن الناس المؤمنون كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار، قالوا فى الجواب لمن يفضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين، فإنهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، ولكنهم يذكرون لمن يفضون إليه من أهلهم والذين يثقون بهم من المنافقين ومن المستضعفين من المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم، يقولون لهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء} ؟! يعنون سلمان وأصحابه لما أعطوا علياً خالص ودهم ومحض طاعتهم، وكشفوا رؤوسهم بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه حتى إن اضمحل أمر محمد طحطحهم أعداؤه، وأهلكهم سائر الملوك والمخالفين لمحمد، فهم بهذا التعرض لأعداء محمد جاهلون سفهاء، قال الله عَزَّ وجَلَّ: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء} الأخفاء العقول والآراء، الذين لم ينظروا فى أمر محمد حق النظر فيعرفوا نبوته، ويعرفوا صحة ما ناطه بعلمه من أمر الدين والدنيا، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج الله جاهلين، وصاروا خائفين وجلين من محمد وذُرِّيته ومن مخالفيهم، لا يأمنون أيهم يغلب فيهلكون معه. فهم السفهاء حيث لا يسلم لهم بنفاقهم هذا لا محبة محمد والمؤمنين ولا محبة اليهود وسائر الكافرين، لأنهم يُظهرون لمحمد من موالاته وموالاة أخيه علىّ ومعاداة أعدائهم اليهود والنصارى، كما يُظهرون لهم معاداة محمد وعلىّ وموالاة أعدائهم، فهم يُقدِّرون فيهم نفاقهم معهم كنفاقهم مع محمد وعلىّ، ولكن لا يعلمون أن الأمر كذلك وأن الله يُطْلِع نبيه على أسرارهم فيخشاهم ويعلنهم ويُسقطهم".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [159و 160] من سورة البقرة: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولائك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون * إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .. يقول: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} من صفة محمد وصفة علىّ وحليته، {والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب} .. قال:(2/64)
والذى أنزلناه هو ما أظهرناه من الآيات على فضلهم ومحلهم، كالغمامة التى تظل رسول الله فى أسفاره، والمياه الأجاجة التى كانت تعذب فى الآبار بريقه، والأشجار التى كانت تتهدل ثمارها بنزوله تحتها، والعاهات التى كانت تزول بمسح يده عليها أو بنفث ريقه فيها، وكالآيات التى ظهرت على علىّ من تسليم الجبال والصخور والأشجار قائلة: يا ولى الله ويا خليفة رسول الله، والسموم القاتلة التى تناولها مَن سمَّى باسمه عليها ولم يصبه بلاؤها ... وسائر ما خصَّه الله تعالى به من فضائله، فهذا من الهدى الذى بيَّنه الله للناس فى كتابه ... إلخ.
* *
* روايات مكذوبة فى فضل أهل البيت:
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة البقرة: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} .. يقول: "ثم وصف هؤلاء المتقين الذين هذا الكتاب هدىً لهم فقال: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} يعنى بما غاب عن حواسهم من الأُمور التى يلزمهم الإيمان بها: كالبعث، والنشور، والحساب، والجنَّة، والنار، وتوحيد الله تعالى، وسائر ما لا يُعرف بالمشاهدة وإنما يُعرف بدلائل قد نصبها الله عَزَّ وجَلَّ عليها: كآدم، وحواء، وإدريس، ونوح، وإبراهيم، والأنبياء الذين يلزمهم الإيمان بهم بحجج الله تعالى وإن لم يشاهدوهم، ويؤمنون بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وذلك أن سلمان الفارسى مَرَّ بقوم من اليهود فسألوه أن يجلس إليهم ويُحدِّثهم بما سمع من محمد فى يومه هذا، فجلس إليهم لحرصه على إسلامهم فقال: سمعتُ محمداً يقول: إن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: يا عبادى؛ أوَ ليس مَن له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتجمل عليكم بأحب الخلق إليكم تقضونها كرامة لشفيعه؟ ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علىّ وأفضلهم لدىَّ محمد وأخوه علىّ، ومن بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلىَّ، ألا فليَدُعُنى مَن أَهْمَّته حاجة يريد نفعها، أو دهته دهياء يريد كف ضررها، بمحمد وآله الأفضلين الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن مما يقضيها مَن تشفعون إليه بأعزِّ الخلق عليه. قالوا لسلمان - وهم يستهزئون به - يا عبد الله؛ فما بالك لا تقترح على الله وتتوسل بهم أن يجعلك أغنى أهل المدينة؟ فقال سلمان: قد دعوتُ الله عَزَّ وجَلَّ بهم، وسألته ما هو أجَلّ وأفضل وأنفع من مُلْك الدنيا بأسرها، وسألته بهم أن يهب لى لساناً لتمجيد شأنه ذاكراً، وقلباً لآلائه شاكراً، وعلى الدواهى الداهية لى صابراً، وهو عَزَّ وجَلَّ قد أجابنى إلى ملتمسى من ذلك، وهو أفضل من مُلْك الدنيا بحذافيرها وما يشتمل عليه من خيراتها مائة ألف ألف مرة. قال: فجعلوا يهزأون ويقولون: يا سلمان؛ لقد ادَّعيت مرتبة عظيمة يُحتاج أن يُمتحن صدقك من كذبك فيها، وها نحن إذن قائمون إليك(2/65)
بسياط عذابنا فضاربوك، فاسأل ربك أن يكفَّ أيدينا عنك، فجعل سلمان يقول: اللَّهم اجعلنى على البلايا صابراً، وجعلوا يضربونه بسياطهم حتى أعيوا وملُّوا، وجعل
سلمان لا يزيد على قوله: اللَّهْم اجعلنى على البلايا صابراً، فلما مَلُّوا وأعيوا قالوا: يا سلمان؛ ما ظننا أن روحاً تثبت فى مقرها على مثل هذا العذاب الوارد عليك، فما بالك لا تسأل ربك أن يكفّنا عنك؟ قال: لأن سؤال ذلك ربى خلاف الصبر، بل سلَّمتُ لإمهال الله تعالى لكم، وسألته الصبر، فلما استراحوا قاموا بعد إليه بسياطهم فقالوا: لا نزال نضربك بسياطنا حتى تزهق روحك أو تكفر بمحمد، فقال: ما كنتُ أفعل ذلك، فإن الله قد أنزل على محمد: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} ، وإن احتمالى لمكارهكم لأدخل فى جملة مَن مدحه الله بذلك سهل علىَّ يسير، فجعلوا يضربونه بسياطهم حتى مَلُّوا، ثم قعدوا وقالوا: يا سلمان؛ لو كان لك عند ربك قدر لإيمانك بمحمد لاستجاب دعاءك وكفَّنا عنك، فقال سلمان: ما أجهلكم!! كيف يكون مستجيباً دعائى إذا فعل بى خلاف ما أريد منه، أنا أردت منه الصبر فقد استجاب لى فصبرت، ولم أسأله كفكم عنى فيمنعنى حتى يكون ضد دعائىكما تظنون، فقاموا إليه ثالثة بسياطهم فجعلوا يضربونه وسلمان لا يزيد على قوله: اللَّهم صبِّرنى على البلايا فى حب صفيك وخليلك محمد، فقالوا له: يا سليمان؛ ويحك! أو ليس محمد قد رخَّص لك أن تقول كلمة الكفر به بما تعتقد ضده للتقية؟ فقال سلمان: إن الله قد رخَّص لى ذلك ولم يفرضه علىّ، بل أجاز لى ألا أعطيكم ما تريدون وأحتمل مكارهكم، وجعله أفضل المنزلتين، وأنا لا أختار غيره، ثم قاموا إليه بسياطهم وضربوه ضرباً كثيراً وسيَّلوا دماءه، وقالوا له وهم ساخرون: لو لم تسأل الله كفّنا عنك ولا تُظهر لنا ما نريد منك لنكفّ به عنك فادع علينا بالهلاك إن كنتَ من الصادقين فى دعواك أن الله لا يرد دعاءك بمحمد وآله الطيبين الطاهرين، فقال سلمان: إنى لأكره أن أدعوا الله بهلاككم مخافة أن يكون فيكم مَن قد علم الله أن سيؤمن من بعد فأكون قد سألت الله اقتطاعه عن الإيمان، فقالوا: قل: اللَّهم أهْلِك مَن كان فى علمك أنه يبقى إلى الموت على تمرده، فإنك لا تصادف بهذا الدعاء ما خِفْته، قال: فانفرج له حائط البيت الذى هو فيه مع القوم وشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا سلمان؛ ادع عليهم بالهلاك فليس فيهم أحد
يرشد. كما دعا نوح على قومه لما عرف أنه لن يؤمن من قومه إلا مَن قد آمن، فقال سلمان: كيف تريدون أن أدعو عليكم بالهلاك؟ فقالوا: تدعو الله بأن يقلب سَوْط كل واحد منا أفعى تعطف رأسها ثم تمشش عظام سائر بدنه.. فدعا الله بذلك، فما من سياطم سَوْط إلا قلبه الله تعالى أفعى لها رأسان تتناول برأس رأسه، وبرأس آخر يمينه التى كان فيها سوطه، ثم رضضتهم ومششتهم وبلعتهم والتقمتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى مجلسه: معاشر المؤمنين؛ إن الله(2/66)
تعالى قد نصر أخاكم سلمان ساعتكم هذه على عشرين فِرْقة من اليهود والمنافقين، قُلِبت سياطهم أفاعى رضضتهم ومششتهم وهَشمت عظامهم والتقمتهم، فقوموا بنا ننظر إلى تلك الأفاعى المبعوثة لنُصْرة سلمان، فقام رسول الله وأصحابه إلى تلك الدار وقد اجتمع إليها جيرانها من اليهود والمنافقين لما سمعوا ضجيج القوم بالتقام الأفاعى لهم، فإذا هم خائفون منها، نافرون من قُرْبها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت كلها إليه عن البيت إلى شارع المدينة، وكان شارعاً ضيقاً فوسَّعه الله تعالى وجعله عشرة أضعافه، ثم نادت الأفاعى: السلام عليك يا محمد يا سيد الأوَّلين والآخرين، السلام عليك يا علىّ يا سيد الوصيين، السلام على ذُرِّيتك الطيبين الطاهرين الذين جُعلوا على الخلق قوَّامين، ها نحن سياط هؤلاء المنافقين الذين قلبنا الله تعالى أفاعى بدعاء هذا المؤمن سلمان، قال رسول الله: الحمد لله الذى جعل من يضاهى بدعائه عند قبضه وعند انبساطه نوحاً نبيه. ثم نادت الأفاعى: يا رسول الله؛ قد اشتد غضبنا على هؤلاء الكافرين، وأحكامك وأحكام وصيك علينا جائزة فى ممالك رب العالمين، ونحن نسألك أن تسأل الله تعالى أن يجعلنا أفاعى جهنم حتى نكون فيها لهؤلاء مُعذِّبين كما كنا لهم فى هذه الدنيا ملتقمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجبتكم إلى ذلك فالحقوا بالطبق الأسفل من جهنم، بعد أن تقذفوا ما فى أجوافكم من أجزاء أجسام هؤلاء الكافرين ليكون أتم لخزيهم وأبقى للعار عليهم إذا كانوا بين أظهرهم مدفونين، يعتبر بهم المؤمنون المارون بقبورهم، يقولون: هؤلاء الملعونون المخزيون بدعاء ولى محمد سلمان
الخير من المؤمنين، فقذفت الأفاعى ما فى بطونها من أجزاء أبدانهم، فجاء أهلوهم فدفنوهم، وأسلم كثير من الكافرين، وأخلص كثير من المنافقين، وغلب الشقاء على كثير من الكافرين والمنافقين، فقالوا: هذا سحر مبين. ثم أقبل رسول الله على سلمان فقال: يا عبد الله؛ أنت من خواص إخواننا المؤمنين، ومن أحباب قلوب ملائكة الله المقرَّبين، إنك فى ملكوت السماوات والحُجُب والكرسى والعرش وما دون ذلك إلى الثرى أشهر فى فضلك عندهم من الشمس الطالعة فى يوم لا غيم ولا قتر ولا غبار فى الجو، فأنت من أفاضل الممدوحين بقوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} .
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [210] من سورة البقرة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} .. يقول ما نصه: ".. قالَ علىُّ بن الحسين: طلب هؤلاء الكفار الآيات ولم يقنعوا بما أتاهم به منها بما فيه الكفاية والبلاغ، حتى قيل لهم: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} .. أى إذا لم يقتنعوا بالحجج الواضعة الدامغة، فهل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ وذلك محال،(2/67)
لأن الإتيان على الله لا يجوز، كذلك النواصب اقترحوا على رسول الله فى نصب أمير المؤمنين علىّ إماماً، واقترحوا.. حتى اقترحوا المحال، وذلك أن رسول الله لما نص على علىّ بالفضيلة والإمامة، وسكن إلى ذلك قلوب المؤمنين وعاند فيه أصناف الجاحدين من المعاندين، وشك فى ذلك ضعفاء من الشاكين، واحتال فى السلم من الفريقين من النبى وخيار أصحابه ومن أصناف أعدائه جماعة المنافقين، وفاض فى صدورهم العداوة والبغضاء، والحسد والشحناء، حتى قال قائل المنافقين: لقد أسرف محمد فى مدح نفسه، ثم أسرف فى مدح أخيه علىّ، وما ذاك من عند رب العالمين، ولكنه فى ذلك من المتقوِّلين، يريد أن يثبت لنفسه الرياسة علينا حياً ولعلىّ بعد موته، قال الله تعالى: يا محمد؛ قل لهم: وأى شئ أنكرتم من ذلك؟ هو عظيم كريم حكيم، ارتضى عباداً من عباده، قد اختصهم بكرامات، لما علم من حسن طاعتهم ولانقيادهم لأمره، ففوَّض إليهم أمور عباده، وجعل إليهم سياسة خلقه بالتدبير الحكيم الذى وفقهم له، أفلا ترون لملوك الأرض إذا ارتضى أحدهم خدمة بعض عبيده ووثق بحسن اصطناعه بما يندب له من أُمور ممالكه، جعل ما وراء بابه إليه واعتمد فى سياسة جيوشه ورعاياه عليه؟ كذلك محمد فى التدبير الذى رفعه له ربه، وعلىّ من بعده الذى جعله وصيه وخليفته فى أهله، وقاضى دينه ومنجز عداته، والموازر لأوليائه والمناصب لأعدائه، فلم يقنعوا بذلك ولم يُسلِّموا، وقالوا: ليس الذى تسنده إلى ابن أبى طالب أمراً صغيراً إنما هو دماء الخلق، ونساؤهم، وأولادهم، وأموالهم، وحقوقهم، وأنصباؤهم، ودنياهم، وأخراهم، فلتأتنا بآية تليق بجلالة هذه الولاية، فقال
رسول الله: أما كفاكم نور علىّ الْمشْرِق فى الظلمات الذى رأيتموه ليلة خروجه من عند رسول الله إلى منزله؟ أما كفاكم أن علياً جاز والحيطان بين يديه ففتحت له وطُرِّقت ثم عادت والتأمت؟ أما كفاكم يوم غدير خُم أن علياً لما أقامه رسول الله رأيتم أبواب السماء مفتحة والملائكة فيها مطلعين تناديكم: هذا ولى الله فاتبعوه وإلا حَلَّ بكم عذاب الله فاحذروه؟ أما كفاكم رؤيتكم علىّ بن أبى طالب وهو يمشى والجبال تسير من بين يديه لئلا يحتاج إلى انحراف عنها، فلما جاز رجعت الجبال إلى أماكنها؟ ثم قال: اللَّهم زدهم آيات فإنها عليك سهلات يسيرات لتزيد حُجَّتك عليهم تأكيداً. قال: فرجع القوم إلى بيوتهم فأرادوا دخولها فاعتقلتهم الأرض ومنعتهم ونادتهم: حرام عليكم دخولها حتى تؤمنوا بولاية علىّ، قالوا: آمنا.. ودخلوا.. ثم ذهبوا ينزعون ثيابهم ليلبسوا غيرها فثقلت عليهم ولا يقلوها، ونادتهم: حرام عليكم سهولة نزعنا حتى تقروا بولاية علىّ، فأقروا.. ونزعوها.. ثم ذهبوا يلبسون ثياب الليل فثقلت عليهم ونادتهم: حرام عليكم لبسنا حتى تعترفوا بولاية علىّ، فاعترفوا.. ثم ذهبوا يأكلون فثقلت عليهم اللقم وما لم يثقل منها استحجر فى أفواههم وناداهم: حرام عليكم(2/68)
أكلنا حتى تعترفوا بولاية علىّ، فاعترفوا.. ثم ذهبوا يبولون ويتغوطون فتعذبوا وتعذر عليهم ونادتهم بطونهم ومذاكيرهم: حرام عليكم السلامة منا حتى تعترفوا بولاية علىّ بن أبى طالب، فاعترفوا.. ثم ضجر بعضهم وقال: {اللهم إِن كَانَ هاذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] .. إلخ.
* *
* الشجرة التى نُهى آدم عن الأكل منها:
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [35] من سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} .. يبين المراد من الشجرة ويعلل النهى عنها فيقول: ".. لا تقربا هذه الشجرة: شجرة العلم، شجرة علم محمد وآل محمد، الذين آثرهم الله عَزَّ وجَلَّ به دون سائر خلقه، فقال الله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة، شجرة العلم، فإنها لمحمد وآله خاصة دون غيرهم، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم.. ومنها ما كان يتناوله النبى، وعلىّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نَصَب، وهى شجرة تميزت من بين أشجار الجنة، إن سائر أشجار الجنة كان كل نوع منها يحمل نوعاً من الثمار والمأكول، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البُرَّ والعِنَب والتين والعُنَّاب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون لتلك الشجرة، فقال بعضهم: هى بُرَّة، وقال آخرون: هى عِنَبة، وقال آخرون: هى عُنَّابة. قال الله تعالى: ولا تقربا هذه الشجرة تلتمسان بذلك دوحة محمد وآل محمد فى فضلهم، فإن الله تعالى خصَّهم بهذه دون غيرها، وهى شجرة التى مَن يتناول منها بإذن الله عَزَّ وجَلَّ أُلْهِم علم الأوَّلين والآخرين من غير تعلم. ومَنِ تناول منها بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربه، {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} .. بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما كما إذ أردتما بغير حكم الله".
* *
* توسل الأنبياء والأُمم السابقة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبأهل البيت:
وقد جاء فى هذا التفسير من الأخبار ما يدل على أن الأنبياء والأُمم السابقين كانوا إذا حزبهم أمر وأهمهم توسلوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته رضوان الله تعالى عليهم.
فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [38] من سورة البقرة: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .. نراه يقول: ".. فلما زلَّت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربه عَزَّ وجَلَّ قال: يا رب؛ تُبْ علىّ واقبل معذرتى، وأعدنى إلى مرتبتى، وارفع لديك درجتى فما أشد تبين بغض الخطيئة وذلها بأعضائى وسائر(2/69)
بدنى، قال الله تعالى: يا آدم؛ أما تذكر أمرى إياك بأن تدعونى بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك وفى النوازل تنزل بك؟ قال آدم: يا رب بلى، قال الله عَزَّ وجَلَّ له: فتوسل بمحمد وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين خصوصاً، فادعنى أجبك إلى ملتمسك وأزدك فوق مرادك، فقال آدم: يا رب وقد بلغ عندك من محلهم أنك بالتوسل بهم تقبل توبتى، وتغفر خطيئتى، وأنا الذى أسجدتَ له ملائكتك، وأبحته جنَّتك، وزوَّجته حواء أَمَتك، وأخدمته كرام ملائكتك؟ قال الله: يا آدم؛ إنما أمرتُ الملائكة بتعظيمك بالسجود إذ كنتَ وعاءً لهذه الأنوار، ولو كنتَ سألتنى بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها وأن أفطنك لدواعى عدوك إبليس حتى تحذر منها لكنتُ قد جعلتُ ذلك، ولكن المعلوم فى سابق علمى يجرى موافقاً لعلمى، فالآن بهم فادعنى لأُجبك، فعند ذلك قال آدم: اللَّهم بجاه محمد وآله الطيبين، بجاه محمد وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم لما تفضَّلتَ بقبول توبتى، وغفران زلَّتى. وإعادتى من كراماتك إلى مرتبتى، فقال الله عَزَّ وجَلَّ: قد قبلتُ توبتك وأقبلتُ برضوانى عليك، ورزقتُ آلائى ونعمائى عليك، وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتى، ووفرت نصيبك من رحماتى. فذلك قوله عَزَّ وجَلَّ: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} [البقرة: 37] .
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [50] من سورة البقرة: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} نجده يقول: "قال الله عَزَّ وجَلَّ: واذكروا إذ جعلنا ماء البحر فرقاً ينقطع بعضه عن بعض، فأنجيناكم هناك وأغرقنا فرعون وقومه وأنتم تنظرون إليهم وهم يغرقون، وذلك أن موسى لما انتهى إلى البحر أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: قل لبنى إسرائيل جدِّدوا توحيدى، وأَمِرُّوا بقلوبكم ذكر محمد سيد عبيدى وإمائى، وأعيدوا على أنفسكم الولاية لعلىّ أخى محمد وآله الطبيين، وقولوا: اللَّهم بجاههم جوِّزنا على متن هذا الماء، فإنه يتحول لكم أرضاً، فقال لهم موسى ذلك، فقالوا: أتورد علينا ما نكره، وهل فررنا من آل فرعون إلا من خوف الموت، وأنت تقتحم بنا هذا الماء الغمر بهذه الكلمات، وما يدرينا ما يحدث من هذه علينا؟ فقال لموسى كالب بن يوحنا وهو على دابة له - وكان ذلك الخليج أربعة فراسخ - يا نبى الله؛ أمرك الله بهذا أن نقوله وندخل الماء؟ قال: نعم. قال: وأنت تأمرنى به؟ قال: نعم، فوقف وجدَّد على نفسه من توحيد الله ونبوة محمد وولاية علىّ والطيبين من آلهما ما أُمِرَ به، ثم قال: اللَّهم بجاههم جوِّزنى على متن هذا الماء، وإذا الماء قصته كأرض لينة، حتى بلغ آخر الخليج ثم عاد راكضاً، ثم قال لبنى إسرائيل: يا بنى(2/70)
إسرائيل؛ أطيعوا موسى، فما هذا الدعاء إلا مفتاح أبواب الجنان، ومغاليق أبواب النيران، ومستنزل الأرزاق. وجالب على عباد الله وإمائه رضا المهيمن الخلاق. فأبوا وقالوا: لا نسير إلا على الأرض، فأوحى الله: يا موسى؛ اضرب بعصاك البحر وقل: اللَّهم بجاه محمد وآله الطيبين لما فلقته، ففعل؛ فانفلق وظهرت الأرض إلى آخر الخليج، فقال موسى: ادخلوها، قالوا: الأرض وحلة، نخاف أن نرسب فيها، فقال الله عَزَّ وجَلَّ: يا موسى؛ قل: اللَّهم بحق محمد وآله الطيبين جففها، فقالها، فأرسل الله عليها ريح الصبا فجفَّت، فقال موسى: ادخلوها، فقالوا: يا نبى الله؛ نحن اثنتا عشرة قبيلة بنو اثنى عشر أباً، وإن دخلناها رام كل فريق منا تقدم صاحبه، ولا نأمن من وقوع الشر بيننا، فلو كان لكل فريق منا طريق على
حدة لأمنا ما نخافه، فأمر الله موسى أن يضرب البحر بعددهم اثنى عشر ضربة، فى اثنتى عشرة موضعاً إلى جانب ذلك الموضع ويقول: اللَّهم بجاه محمد وآله الطيبين بَيِّن الأرض لنا، وأقصر الماء عنا، فصار فيه تمام اثنى عشر طريقاً، وجَفَّ قرار الأرض بريح الصبا، فقال: ادخلوها، فقالوا: كل فريق منا يدخل سكة من هذه السكك لا يدرى ما يحدث على الآخرين، فقال الله عَزَّ وجَلَّ: فاضرب كل طَوْد من الماء بين هذه السكك، فضرب فقال: اللَّهم بجاه محمد وآله الطيبين لما جعلت فى هذا الماء طيقاناً واسعة يرى بعضهم بعضاً، فحدثت طيقان واسعة يرى بعضهم بعضاً، ثم دخلوها، فلما بلغوا آخرها جاء فرعون وقومه فدخل بعضهم، فلما دخل آخرهم وهمَّ أولهم بالخروج أمر الله تعالى البحر فانطبق عليهم فغرقوا، وأصحاب موسى ينظرون إليهم فذلك قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} .
* *
* التقيَّة:
وهو يعترف بالتقيَّة ويدين بها، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها، فمن ذلك: أنه روى عن الحسن بن علىّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنبياء إنما فضَّلهم الله على الخلق أجمعين لشدة مداراتهم لأعداء دين الله، وحُسن تقيتهم لأجل إخوانهم فى الله".
وروى عن أمير المؤمنين أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن سُئل عن علم فكتمه حيث يجب إظهاره وتزول عنه التقية، جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من النار".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [163] من سورة البقرة: {وإلاهكم إلاه وَاحِدٌ لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ الرحمان الرحيم} .. يقول: "الرحيم بعباده المؤمنين من شيعة آل محمد،(2/71)
وسَّع لهم فى التقية، يجاهرون بإظهار موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه إذا قدروا، ويُسِّرُّونها إذا عجزوا".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [173] من سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير} .. الآية، يقول: ".. نظر الباقر إلى بعض شيعته وقد دخل خلفَ بعض المنافقين إلى الصلاة، وأحس الشيعى بأن الباقر قد عرف ذلك منه بقصده وقال: أعتذر إليك يا ابن رسول الله عن صلاتى خلف فلان فإنها تقيَّة، ولولا ذلك لصليتُ وحدى، قال له الباقر: يا أخى؛ إنما كنت تحتاج أن تعتذر لو تركت، يا عبد الله المؤمن؛ ما زالت ملائكة السماوات السبع والأرضين السبع تصلى عليك وتلعن إمامك ذاك، وإن الله تعالى أمر أن تُحسب صلاتك خلفه للتقيَّة بسبعمائة صلاة لو صليتها لوحدك. فعليك بالتقيَّة".
* *
* تأثره بمذهب المعتزلة:
وإنا لنجد فى هذا التفسير تأثراً بمذهب المعتزلة ومعتقداتهم، فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [7] من سورة البقرة: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} .. نجد المؤلف لا يرتضى نسبة الختم إلى الله على ظاهره، ونراه يتأوَّل هذا الختم بما يتفق ورأى المعتزلة فيقول: "أى وسَمَها بسِمَة يعرفها مَن يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنهم الذين لا يؤمنون، وعلى سمعهم كذلك بسِمَات، وعلى أبصارهم غشاوة، وذلك أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كُلِّفوه، وقصَّروا فيما أُرِيد منهم، جهلوا ما لزمهم من الإيمان به، فصاروا كمن على عينه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإن الله عَزَّ وجَلَّ يتعالى عن العبث والفساد، وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته ولا بالمسير إلى ما قد صدَّهم بالعجز".
* *
* تأثره فى تفسيره بآراء الشيعة فى الفروع الفقهية:
كذلك نجد المؤلف يجرى فى تفسيره على وفق ما يميل إليه من الأحكام الفقهية التى يقول بها الإمامية الإثنا عشرية.
فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [43] من سورة البقرة: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} .. نراه يروى حديثاً طويلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه صراحة أن فرض الرِجْلين فى الوضوء مسحهما لا غسلهما، وأن غسلهما لا يجوز إلا للتقيَّة، وهذا الحديث هو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا توضأ فغسل وجهه تناثرت ذنوب وجهه، وإذا غسل يديه إلى المرفقين تناثرت عنه ذنوب يديه، وإذا مسح رأسه تناثرت ذنوب رأسه، وإذا مسح رجليه - أو غسلهما تقيَّة - تناثرت ذنوب رجليه" ... إلخ.(2/72)
وهكذا نجد هذا التفسير يسير مع الهوى الشيعى، سيراً فيه كثير من التطرف والغلو والخروج عن دائرة المعقول المقبول. وإذا كان هذا التفسير من عمل الحسن العسكرى، الإمام المعصوم، الذى عنده علم القرآن كله، فتلك أكبر شهادة على أنه لا عصمة له ولا علم عنده، وكيف يصدر هذا التلاعب بنصوص القرآن من إمام له قيمته ومكانته.
وإذا كان ما يذكره صاحب أعيان الشيعة من علمه وصلاحه أمراً حقيقياً، فالظن بهذا الكتاب أن يكون منسوباً إلى هذا الإمام زوراً وبهتاناً، وهذا ما أُرجحه وأختاره، لأنى لم أعثر على نقل صحيح يدل على غلو الرجل وتطرفه فى التشيع كما فعل غيره.
* * *(2/73)
3- مجمع البيان لعلوم القرآن (للطبرسى)
* ترجمة المؤلف ومكانته العلمية:
مؤلف هذا التفسير فى نظر أصحابه هو أبو علىّ، الفضل بن الحسن ابن الفضل الطبرسى المشهدى، الفاضل، العالِم، المفسِّر، الفقيه، المحدِّث، الجليل، الثقة، الكامل، النبيل، وهو من بيت عُرِف أهله بالعلم، فهو وابنه رضى الدين أبو نصر حسن بن الفضل صاحب مكارم الأخلاق، وسبطه أبو الفضل علىّ بن الحسن، وسائر سلسلته وأقربائه، من أكابر العلماء. ويروى عنه جماعة من العلماء منهم: ولده المذكور، وابن شهراشوب، والشيخ منتخب الدين، والقطب الراوندى، وغيرهم. ويروى هو عن الشيخ أبى علىّ ابن الشيخ الطوسى. قال الشيخ منتخب الدين فى الفهرس: "هو ثقة، فاضل، دَيِّن، عَيْن، له تصانيف، منها: مجمع البيان فى تفسير القرآن، والوسيط فى التفسير أربع مجلدات، والوجيز مجلدة، وإعلام الورى بأعلام الهدى مجلدتين، وتاج المواليد، والآداب الدينية للخزانة المعيبة".
قال صاحب روضات الجنَّات معقباً على هذا: "وقد فرغ من تأليف المجمع فى منتصف ذى القعدة سنة 534 هـ (أربع وثلاثين وخمسمائة) ولعل مراده بالوسيط هو تفسير جوامع الجامع المشهور. وبالوجيز: الكافِ الشافِ عن الكشاف، ويحتمل المغايرة".
وقال صاحب مجالس المؤمنين ما معناه: "إن عمدة المفسِّرين، أمين الدين، ثقة الإسلام، أبو علىّ الفاضل بن الحسن بن الفضل الطبرسى، كان من نحارير علماء التفسير، وتفسيره الكبير الموسوم بمجمع البيان، بيان كاف ودليل واف لجامعيته لفنون الفضل والكمال، ثم لما وصل إليه بعد هذا التأليف كتاب الكشاف واستحسن طريقته، ألَّف تفسيراً آخر مختصراً، شاملاً لفوائد تفسيره الأول ولطائف الكشاف، وسماه الجوامع، وله تفسير ثالث أيضاً أخصر من الأولين، وتصانيف أخرى فى الفقه والكلام، ويظهر من كتاب اللمعة الدمشقية فى مبحث الرضاع أن الطبرسى هذا كان داخلاً فى زمرة مجتهدى علمائنا أيضاً، ومقالته فى الرضاع معروفة، وهى قوله بعدم اعتبار اتحاد الفحل فى نشر الحرمة، وكذا قوله بأن المعاصى كلها كبائر، وإنما يكون اتصافها بالصغيرة بالنسبة لما هو أكبر".
ومن العجيب أنهم يذكرون قصة فى غاية الطرافة والغرابة فى سبب تأليفه لتفسيره "مجمع البيان" - الذى نحن بصدده - فيقولون: "ومن عجيب أمر هذا الطبرسى بل(2/74)
من غريب كراماته، وما اشتهر بين الخاص والعام، أنه قد أصابته السكتة فظنوا به الوفاة فغسلوه وكفنوه ودفنوه ثم رجعوا، فلما أفاق وجد نفسه فى القبر ومسدوداً عليه سبيل الخروج عنه من كل جهة، فنذر فى تلك الحالة أنه إذا نجى من تلك الداهية ألَّف كتاباً فى تفسير القرآن، فاتفق أن بعض النبَّاشين قصده لأخذ كفنه، فلما كشف عن وجه القبر أخذ الشيخ بيده، فتحيَّر النباش، ودهش مما رآه، ثم تكلم معه فأزداد به قلقاً، فقال له: لا تخف، أنا حى وقد أصابتنى السكتة ففعلوا بى هذا، ولما لم يقدر على النهوض والمشى من غاية ضعفه، حمله النبَّاش على عاتقه وجاء به إلى بيته الشريف، فأعطاه الخلعة وأولاه مالاً جزيلاً، وتاب على يده النبَّاش، ثم إنه بعد ذلك وفى بنذره الموصوف، وشرع فى تأليفه مجمع البيان".
وكانت وفاته ليلة النحر سنة 835 هـ (ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة) .
* *
* الكلام على هذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
قبل أن أخوض فى الكلام عن هذا التفسير أرى أن أسوق ما جاء فى مقدمة هذا التفسير للمؤلف رحمه الله، لما جاء فيه من بيان الحوافز التى دفعت مؤلفه إلى تأليفه، ولما أوضحه لنا من طريقته التى سلكها فى تفسيره، فهو أدرى بها وأعلم..
*
* الدواعى التى حملت الطبرسى على كتابة هذا التفسير:
ذكر الطبرسى هذه الدواعى فقال: " ... وقد خاض العلماء قديماً وحديثاً فى علم تفسير القرآن، واجتهدوا فى إبراز مكنونه وإظهار مضمونه، وألَّفوا فيه كتباً جمَّة غاصوا فى كثير منها إلى أعماق لججه، وشققوا الشعر فى إيضاح حججه، وحققوا فى تفتيح أبوابه وتغلغل شعابه، إلا أن أصحابنا - رضى الله عنهم - لم يدوِّنوا فى ذلك غير مختصرات نقلوا فيها ما وصل إليهم فى ذلك من الأخبار، ولم يعنوا ببسط المعانى فيه وكشف الأسرار، إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذى يُقتبس من ضيائه الحق، ويلوح عيه رواء الصدق، وقد تضمن فيه من المعانى الأسرار البديعة، واختصر من الألفاظ اللغة الوسيعة، ولم يقنع بتدوينها دون تبينها، ولا بتنميقها دون تحقيقها، وهو القدوة أستضئ بأنواره، وأطأ مواقع آثاره، غير أنه خلط فى أشياء مما ذكره فى الإعراب والنحو الغث بالسمين، والخاثر بالزباد، ولم يميز الصلاح مما ذكر فيه والفساد، وأدى الألفاظ فى مواضع من متضمناته قاصرة عن المراد، وأخلَّ بحسن الترتيب وجودة التهذيب، فلم يقع له لذلك من القلوب السليمة الموقع المرضى، ولم يعل من الخواطر الكريمة المكان العلى".(2/75)
"وقد كنت فى ريعان الشباب وحداثة السن، وريَّان العيش ونضارة الغصن، كثير النزاع شديد التشوق إلى جمع كتاب فى التفسير، ينتظم أسرار النحو اللطيفة، ولمع اللُّغة الشريفة، ويفى موارد القراءات من متوجهاتها، مع بيان حججها الواردة من جميع جهاتها، ويجمع جوامع البيان فى المعانى المستنبطة من معادنها، المستخرجة من كوامنها، إلى غير ذلك من علومه الجمَّة، مطلعة من الغلف والأكمة، فيعترض لذلك جوائح الزمان، وعوائق الحدثان، وواردات الهموم، وهفوات القدر المحتوم، وهلم جرآ إلى الآن، وقد زرف سنى على الستين واشتعل الرأس شيباً، وامتلأت العيبة عيباً، فحدانى على تصميم هذه العزيمة ما رأيت من عناية مولانا الأمير السيد الأجل العالِم، ولى النعِيم جلال الدين ركن الإسلام، فخر آل رسول الله صلى الله عليه وآله، أبَى منصور محمد بن يحيى بن هبة الله الحسين - أدام الله علاه - بهذا العلم، وصدق رغبته فى معرفة هذا الفن. وقصر همه على تحقيق حقائقه، والاحتواء على جلائله ودقائقه، والله عَزَّ اسمه المسئول أن يحرس للإسلام والمسلمين رفيع حضرته، ويفيض على الفضل والفضلاء سجال سيادته، ويمد على العلم والعلماء أمداد سعادته.. فأوجبتُ على نفسى إجابته إلى مطلوبه، وإسعافه بمحبوبه، واستخرتُ الله تعالى، ثم قصرت وهَمْى وهَمِّى على اقتناء هذه الذخيرة الخطيرة، واكتساب هذه الفضيلة النبيلة، وشمرتُ عن ساق الجد، وبذلتُ غاية الجهد والكد، وأسهرتُ الناظر، وأتعبتُ الخاطر، وأطلتُ التفكير، وأحضرتُ التفاسير، واستمددتُ من الله التوفيق والتيسير".
* *
* وصف الطبرسى لتفسيره:
ثم وصف الطبرسى تفسيره فقال: "وابتدأتُ فى تأليف كتاب هو فى غاية التلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوى فصوصه وعيونه، من علم قراءاته وإعرابه ولغاته، وغوامضه ومشكلاته، ومعانيه وجهاته، ونزوله وأخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه - وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكرنا ما يتفرد به أصحابنا - رضى الله عنهم - من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة ما يعتقدونه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، على وجه الاعتدال والاختصار، فوق الإيجاز دون الإكثار، فإن الخواطر فى هذا الزمان لا تحمل أعباء العلوم الكثيرة، وتضعف عن الإجراء فى الحلبات الخطيرة، إذ لم يبق من العلماء إلا الأسماء، ومن العلوم إلا الذماء". * *
*(2/76)
منهج الطبرسى فى تفسيره:
ثم وضَّح منهجه فقال: " وقدَّمتُ فى مطلع كل سورة ذكر مكيها ومدنيها، ثم ذكر الاختلاف فى عدد آياتها، ثم ذكرت تلاوتها، ثم أُقدِّم فى كل آية الاختلاف فى القراءات، ثم أذكر العلل والاحتجاجات، ثم أذكر العربية واللُّغات، ثم أذكر الإعراب والمشكلات، ثم أذكر الأسباب والنزولات، ثم أذكر المعانى والأحكام والتأويلات، والقصص والجهات، ثم أذكر انتظام الآيات. على أنى قد جمعت فى عربيته كل غُرَّة لائحة، وفى إعرابه كل حُجَّة واضحة، وفى معانيه كل قول متين، وفى مشكلاته كل برهان مبين، فهو بحمد الله للأديب عمدة، وللنحوى عُدَّة، وللمقرئ بصيرة، وللناسك ذخيرة، وللمتكلم حُجَّة، وللمحدِّث محجة، وللفقيه دلالة، وللواعظ آلة، وسميته "مجمع البيان لعلوم القرآن".
* *
* مقدمات الكتاب:
ثم استطرد إلى ذكر مقدمات تتعلق ببعض علوم القرآن فقال: وقبل أن نشرع فى تفسير السور والآيات، فنحن نُصدِّر الكتاب بذكر مقدمات لا بد من معرفتها، لمن أراد الخوض فى علومه تجمعها فنون سبعة:
جعل الفن الأول منها: فى أعداد آى القرآن والفائدة من معرفتها.
والفن الثانى: فى ذكر أسامى القرَّاء المشهورين فى الأمصار ورواتهم.
والفن الثالث: فى ذكر التفسير والتأويل والمعنى، والتوفيق بين ما ورد من الآيات والآثار من النهى عن التفسير بالرأى وإباحته.
والفن الرابع: فى ذكر أسامى القرآن ومعانيها.
والفن الخامس: فى أشياء من علوم القرآن يحال فى شرحها وبسط الكلام فيها على المواضع المختصة بها والكتب المؤلَّفة فيها كإعجاز القرآن، والكلام عن زيادة القرآن ونقصانه.
وهنا يقول: فأما الزيادة فيه فمُجْمَع على بطلانه، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن فى القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذى نصره المرتضى قدَّس الله روحه ... إلخ.
ثم ذكر من جمله العلوم التى يحال فى شرحها وبسط الكلام فيها على الكتب المؤلَّفة فيها الكلام فى النسخ والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من العلوم المتعلقة بالقرآن وليست داخلة فى التفسير.
والفن السادس: فى ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة فى فضل القرآن وأهله.(2/77)
والفن السابع: فى ذكر ما يُستحَب للقارئ من تحسين اللفظ وتزيين الصوت بقراءة القرآن.
ثم شرع فى التفسير فتكلم عن الاستعاذة فالبسملة ففاتحة الكتاب وهكذا إلى آخر القرآن.
والحق أن تفسير الطبرسى - بصرف النظر عما فيه من نزعات تشيعية وآراء اعتزالية - كتاب عظيم فى بابه، يدل على تبحر صاحبه فى فنون مختلفة من العلم والمعرفة. والكتاب يجرى على الطريقة التى أوضحها لنا صاحبه، فى تناسق تام وترتيب جميل، وهو يجيد فى كل ناحية من النواحى التى يتكلم عنها، فإذا تكلم عن القراءات ووجوهها أجاد، وإذا تكلم عن المعانى اللُّغوية للمفردات أجاد، وإذا تكلم عن وجوه الإعراب أجاد، وإذا شرح المعنى والإجمالى أوضح المراد، وإذا تكلم عن أسباب النزول وشرح القصص استوفى الأقوال وأفاض، وإذا تكلم عن الأحكام تعرَّض لمذاهب الفقهاء، وجهر بمذهبه ونصره إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء، وإذا ربط بين الآيات آخى بين الجُمَل، وأوضح لنا عن حُسْن السبك وجمال النظم، وإذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال وأراح البال. وهو ينقل أقوال مَن تقدَّمه من المفسِّرين معزوة لأصحابها، ويرجح ويوجه ما يختار منها، وإذا كان لنا بعض المآخذ عليه فهو تشيعه لمذهبه وانتصاره له، وحمله لكتاب الله على ما يتفق وعقيدته، وتنزيله لآيات الأحكام على ما يتناسب مع الاجتهادات التى خالف فيها هو ومَن على شاكلته، وروايته لكثير من الأحاديث الموضوعة. غير أنه - والحق يقال - ليس مغالياً فى تشيعه، ولا متطرفاً فى عقيدته، كما هو شأن كثير غيره من علماء الإمامية الإثنا عشرية.
وإليك بعض المثل من هذا التفسير، لترى كيف يميل الطبرسى بالآيات القرآنية إلى المعانى التى تتفق ومذهبه، وكيف يحاول بكل قواه الجدلية العنيفة أن يقيم مذهبه على أُسس من القرآن الكريم، وأن يرد ما يصادفه من ظواهر النصوص ويدفع بها فى وجه خصمه:
* إمامة علىّ:
لما كان الطبرسى يدين بإمامة علىّ رضى الله عنه، ويرى أنه خليفة النبى صلى الله عليه وسلم بلا فصل، فإنَّا نراه يحاول بكل جهوده أن يثبت إمامته وولايته من القرآن فنراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. يبذل مجهوداً كبيراً لاستخلاص وجوب إمامة علىّ رضى الله عنه من هذه الآية، فنجده أولاً يتكلم(2/78)
عن المعانى اللُّغوية لبعض مفردات الآية، فيفسِّر "الولى" بقوله: "الولى هو الذى يلى النُصْرة والمعونة، والولى هو الذى يلى تدبير الأمر. يقال: فلان ولى أمر المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها. وولى الدم مَن كان إليه المطالبة بالقَوْد. والسلطان ولى أمر الراعية. ويقال لمن يرشحه للخلافة عليهم بعده: ولى عهد المسلمين. قال الكميت يمدح علياً:
ونِعْم ولى الأمر بعد وليه ... ومنتجع التقوى ونِعْم المؤدب
ويروى الفتوى: "وإنما أراد ولى الأمر والقائم بتدبيره، قال المبرد فى كتاب العبادة عن صفات الله: "أصل الولى الذى هو أولى - أى أحق - ومثله المولى".
ثم بعد ذلك فسَّر الطبرسى "الركوع" و "الحزب"، ثم ذكر الإعراب ثم ذكر سبب النزول فقال بعد سياقه لسند طويل: " ... بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، إذ أقبل رجل متعمم بعمامة، فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا قال الرجل: "قال رسول الله، فقال ابن عباس: سألتك بالله مَن أنت؟ فكِشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيها الناس؛ مَن عرفنى فقد عرفنى، ومَن لم يعرفنى فأنا جندب من جنادة البدرى أبو ذر الغفارى، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: "علىّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، ومنصورٌ مَن نصره، ومخذولٌ مَن خذله"، أما إنى صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل فى المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يده إلى السماء فقال: اللَّهم إنى سألت فى مسجد رسول الله فلم يعطنى أحد شيئاً، وكان علىّ راكعاً فآوى بخنصره اليمنى إليه - وكان يتختم فيها - فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ النبى من صلاته رفع رأسه إلى السماء فقال: اللَّهم إن أخى موسى سألك فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي * واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي* اشدد بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} [طه: 25-32] فأُنزِلت عليه قرآناً ناطقاً: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص: 35] ، اللَّهُم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللَّهم فاشرح لى صدرى، ويَسِّر لى أمرى، واجعل لى وزيراً من أهلى، علياً أشدد به ظهرى. قال أبو ذر: فواللهِ ما استتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند ربه فقال: يا محمد؛ اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال اقرأ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} [المائدة: 55] ..
وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبى فى تفسيره بهذا الإسناد بعينه، وروى أبو بكر الرازى فى كتاب أحكام القرآن - على ما حكاه المغربى عنه، والرمانى، والطبرى أنها نزلت فى علىّ حين تصدَّق بخاتمه وهو راكع، وهو قول مجاهد والسدى. والمروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله وجميع علماء أهل البيت.(2/79)
وقال الكلينى: نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم فنزلت الآية. وفى رواية عطاء قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله؛ أنا رأيت علياً تصدَّق بخاتمه وهو راكع فنحن نتولاه.
وقد رواه السيد أبو الحمد أبى القاسم الحسكانى بالإسناد المتصل المرفوع إلى أبى صالح أبى الصلاح عن ابن عباس قال: أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممن آمنوا بالنبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله؛ إن منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذه المجالس. وإن قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله وصدَّقناه رفضونا وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} ... الآية، ثم إن النبى خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فبصر بسائل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال: نعم، خاتم من فضة، فقال النبى: مَن أعطاكه؟ قال: ذلك القائم - وأومأ بيده إلى علىّ - فقال النبى صلى الله عليه وسلم: على أى حال أعطاكه؟ قال: أعطانى وهو راكع، فكبَّر النبى ثم قرأ: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] .. فأنشأ حسان بن ثابت يقول فى ذلك:
أبا حسن تفديك نفسى ومُهجتى ... وكل بطئ فى الهدى ومسارع
أيذهب مدحيك المحبر ضائعاً ... وما المدح فى جنب الإله بضائع
فأنت الذى أعطيت إذ كنت راكعاً ... زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية ... وثبتها ثبت الكتاب الشرائع
وفى حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير: أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رهط من قومه يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من قومهم، فبينا هم يشكون إذ نزلت هذه الآية، وأذَّن بلال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وإذا بمسكين يسأل، فقال صلى الله عليه وسلم: ماذا أُعْطِيتَ؟ قال: خاتم من فضة، قال: مَن أعطاكه؟ قال: ذلك القائم. فإذا هو علىّ. قال: على أى حال أعطاكه؟ قال: أعطانى وهو راكع، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ..} ..
ثم شرح المعنى فقال: "ثم بيَّن تعالى مَن له الولاية على الخلق والقيام بأمرهم، ويجب طاعته عليهم، فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} .. أى الذى يتولى مصالحكم ويحقق تدبيركم هو الله تعالى، ورسوله يفعله بأمره: {والذين آمَنُواْ} .. ثم وصف الذين آمنوا فقال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} بشرائطها، {وَيُؤْتُونَ الزكاة} أى ويعطون الزكاة {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أى فى حال الركوع. وهذه الآية من أوضح الدلالة على صحة إمامة علىّ بعد النبى صلى الله عليه وسلم بلا فصل. والوجه فيه: أنه إذا ثبت أن لفظة: {وَلِيُّكُمُ} فى الآية تفيد مَن هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته عليكم،(2/80)
وثبت أن المراد بـ {الذين آمَنُواْ} علىّ، ثبت النص عليه بالإمامة ووضح. والذى يدل على الأول هو الرجوع إلى اللُّغة. فمن تأملها علم أن القوم نَصُّوا على ذلك، وقد ذكرنا قول أهل اللُّغة فيه قبل فلا وجه لإعادته. وإن الذى يدل على أنها فى الآية تفيد ذلك دون غيره، أن لفظة {إِنَّمَا} على ما تقدم ذكره تفيد التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور، كما يقولون: إنما الفصاحة للجاهلية، ويعنون نفى الفصاحة عن غيرهم. وإذا تقرر هذا لم يجز حمل لفظة "الوالى" على الموالاة فى الدين والمحبة، لأنه لا تخصيص فى هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر، والمؤمنون كلهم مشتركون فى هذا المعنى، كما قال سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] .. وإذا لم يجز حمله على ذلك لم يبقَ إلا الوجه الآخر وهو التحقيق بالأمور، وما يقتضى فرض الطاعة على الجمهور، لأنه لا محتمل للفظ إلا الوجهان، فإذا بطل أحدهما ثبت الآخر، والذى يدل على أن المعنى بـ {الذين آمَنُواْ} هو علىّ؛ الرواية الواردة من طريق العامة والخاصة بنزول الآية فيه لما تصدَّق بخاتمه فى حال الركوع، وقد تقدم ذكرها، وأيضاً فإن كل مَن قال: إن المراد بلفظة "ولى" ما يرجع إلى فرض الطاعة والإمامة، ذهب إلى أنه هو المقصود بالآية والمنفرد، ولا أحد من الأمة يذهب إلى أن هذه اللفظة تقتضى ما ذكرنا ويذهب إلى أن المعنىَّ بها سواه، وليس لأحد أن يقول: إن لفظة {الذين آمَنُواْ} لفظ جمع فلا يجوز أن يتوجه إليه
على الانفراد، وذلك أن أهل اللغة قد يُعبِّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التفخيم والتعظيم، وذلك أشهر فى كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. وليس لهم أن يقولوا: إن المراد بقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، أن هذه شيمتهم وعادتهم ولا يكون حالاً لإيتاء الزكاة، وذلك لأن قوله: {يُقِيمُونَ الصلاة} ، قد دخل فيه الركوع، فلو لم يحمل قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} على أنه حال مَن {وَيُؤْتُونَ الزكاة} ، وحملناه على مَن صفتهم الركوع، كان ذلك كالتكرار غير المفيد، والتأويل المفيد أولى من البعيد الذى لا يفيد. ووجه آخر فى الدلالة على أن الولاية فى الآية مختصة، أنه قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} فخاطب جميع المؤمنين، ودخل فى الخطاب النبى صلى الله عليه وسلم وغيره، ثم قال: {وَرَسُولُهُ} فأخرج النبى صلى الله عليه وسلم من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، ثم قال: {والذين آمَنُواْ} فوجب أن يكون الذى خوطب بالآية هو الذى جُعِلَت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وإلى أن يكون كل واحد من المؤمنين ولى نفسه، وذلك محال. واستيفاء الكلام فى هذا الباب يطول به الكتاب ومَن أراده فليطلبه من مظانه ... ".(2/81)
ولا شك أن هذه محاولة فاشلة، فإن حديث تصدق علىّ بخاتمه فى الصلاة - وهو محور الكلام - حديث موضوع لا أصل له، وقد تكفل العلامة ابن تيمية بالرد على هذه الدعوى فى كتابه منهاج السُّنَّة (الجزء الرابع ص 3-9) .
* *
* عصمة الأئمة:
ولما كان الطبرسى يدين بعصمة الأئمة فإنَّا نراه عند تفسيره لقوله تعاتلى فى الآية [33] من سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .. يحاول محاولة جدية أن يقصر أهل البيت على النبى صلى الله عليه وسلم وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين، ليصل من وراء ذلك إلى أن الأئمة معصومون من جميع القبائح كالأنبياء سواء بسواء، فلهذا يقول بعد ما سرد من الروايات ما يشهد له بالقصر الذى يريده: " ... والروايات فى هذا كثيرة من طريق العامة والخاصة، لو تصدينا لإيرادها لطال الكلام، وفيما أوردناه كفاية.. واستدلت الشيعة على اختصاص الآية بهؤلاء الخمسة بأن قالوا: إن لفظة {إِنَّمَا} محققة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإن قول القائل: إنما لك عندى درهم، وإنما فى الدار زيد، يقتضى أنه ليس عندى سوى الدرهم، وليس فى الدار سوى زيد. وإذا تقرر هذا فلا تخلو الإرادة فى الآية أن تكون هى الإرادة المحضة، أو الإرادة التى يتبعها التطهير وإذهاب الرجس، ولا يجوز الوجه الأول، لأن الله تعالى قد أراد من كل مُكلَّف هذه الإرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، ولأن هذا القول يقتضى المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة، ولا مدح فى الإرادة المجردة، فثبت الوجه الثانى، وفى ثبوته ثبوت عصمة الأئمة بالآية من جميع القبائح. وقد علمنا أن مَن عدا مَن ذكرنا من أهل البيت غير مقطوع على عصمته، فثبت أن الآية مختصة بهم لبطلان تعلقها بغيرهم. ومتى قيل: إن صدر الآية وما بعدها فى الأزواج، فالقول فيه: إن هذا لاينكره مَن عرف عادة الفصحاء فى كلامهم، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم".
فأنت ترى أن الطبرسى يحاول من وراء هذا الجدل العنيف أن يثبت عصمة الأئمة، وهى عقيدة فاسدة يؤمن بها هو ومَن على شاكلته من الإمامية الإثنا عشرية، ولا شك أن هذا تحكم فى كلام الله تعالى دفعه إليه الهوى وحمله عليه تأثير المذهب.
* *
* الرجعة:
ولما كان الطبرسى يقول بالرجعة، فإنَّا نراه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [56] من سورة البقرة: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يقول ما نصه: "..(2/82)
واستدل قوم من أصحابنا بهذه الآية على جواز الرجعة. وقول مَن قال: إن الرجعة لا تجوز إلا فى زمن النبى لتكون معجزة له دلالة على نبوته باطل، لأن عندنا - بل عند أكثر الأمة - يجوز إظهار المعجزات على أيدى الأئمة والأولياء، والأدلة على ذلك مذكورة فى كتب الأصول ... . ".
* *
* المهدى:
والطبرسى يدين بالمهدى، ويعتقد أنه اختفى وسيرجع فى آخر الزمان، وقد تأثر بهذه العقيدة، فنجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة البقرة: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يذكر الأقوال الواردة فى المعنى المراد بـ "الغيب"، وينقل فى جملة ما ينقل من الأقوال: أن ابن مسعود وجماعة من الصحابة فسَّروا الغيب بما غاب عن العباد علمه. ثم يقول: "وهذا أولى لعمومه، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدى ووقت خروجه".
* *
* التقيَّة:
ولما كان الطبرسى يقول بمبدأ التقيَّة، فإنَّا نجده يستطرد إلى الكلام فيها ويؤيد مذهبه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [28] من سورة آل عمران: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} ... الآية، فيقول: "مَن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من الله فى شئ، أى ليس هو من أولياء الله، والله برئ منه، وقيل: ليس هو من ولاية الله تعالى فى شئ. وقيل: ليس من دين الله فى شئ. ثم استثنى فقال: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} .. والمعنى: إلا أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يُظهر موافقتهم ولم يُحسن العِشْرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار موَدَّتهم بلسانه، ومداراتهم تَقيَّة منهم ودفعاً عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك. وفى هذه الآية دلالة على أن التقيَّة جائزة فى الدين عند الخوف(2/83)
على النفس، وقال أصحابنا: إنها جائزة فى الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح وليس تجوز من الأفعال فى قتل المؤمن، ولا فيما يُعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد فى الدين.
قال المفيد: إنها قد تجب أحياناً وتكون فرضاً، وتجوز أحياناً من غير وجوب، وتكون فى وقت أفضل من تركها، وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً أو معفواً عنه متفضلاً عليه بترك اللوم عليها.
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسى: وظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رُخْصته فى جواز الإفصاح بالحق عنده، وروى الحسن: أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقال لأحدهما: أتشهد أنَّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتشهد أنى رسول الله؟ قال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أنَّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أفتشهد أنى رسول الله؟ قال: إنى أصم.. قالها ثلاثاً، كل ذلك يجيبه بمثل الأول، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رُخْصة الله فلا تبعة عليه، فعلى هذا تكون التقيَّة رُخْصة والإفصاح بالحق فضيلة".
* *
* تأثر الطبرسى بفقه الشيعة فى تفسيره:
ونجد الطبرسى فى تفسيره يتأثر بفقه الإمامية الإثنا عشرية وآرائهم الاجتهادية، فنراه يستشهد بكثير من الآيات على صحة مذهبه، أو يرد استدلال مخالفيه بآيات القرآن على مذاهبهم، وهو فى استدلاله، ورده، ودفاعه، وجدله، عنيف كل العنف، قوى إلى حد بعيد، بحيث يخيل لغير المدقق الخبير أن الحق بجانبه، والباطل بجانب مَن يخالفه.
* نكاح المتعة:
فمثلاً نجد الإمامية الإثنا عشرية يقولون بجواز نكاح المتعة، ولا يعترفون بنسخه كغيرهم من المسلمين، فلهذا حاول الطبرسى - وهو واحد منهم - أن يأخذ هذا المذهب بدليله من كتاب الله تعالى؛ فعندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [24] من سورة النساء: {والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ... الآية، يقول ما نصه: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ... الآية، قيل: المراد بالاستمتاع هنا درك البغية والمباشرة وقضاء الوطر من اللَّذة.. عن الحسن ومجاهد وابن زيد. فمعناه على هذا: فما استمتعتم وتلذذتم من النساء بالنكاح فآتوهن مهورهن. وقيل: المراد نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معيَّن إلى أجل معلوم.. عن ابن عباس والسدى وابن سعيد وجماعة من التابعين، وهو مذهب أصحابنا الإمامية، وهو الواضح، لأن أصل الاستمتاع والتمتع وإن كان فى الأصل واقعاً على الانتفاع والالتذاذ فقد صار بُعْرف الشرع مخصوصاً بهذا العقد، ولا سيما إذا أضيف إلى النساء، فعلى هذا يكون معناه: فمتى عقدتم عليهن هذا العقد المسمى مُتعة فآتوهن أُجورهن، ويدل على ذلك أن الله علَّق وجوب إعطاء المهر(2/84)
بالاستمتاع وذلك يقتضى أن يكون معناه هذا العقد المخصوص دون الجِماع والاستلذاذ، لأن المهر لا يجب إلا به. هذا، وقد روى عن جماعة من الصحابة منهم أُبَىّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود: أنهم قرأوا: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مُسمَّى فآتوهن أُجورهن".. وفى ذلك تصريح بأن المراد به عقد المتعة. وقد أورد الثعلبى فى تفسيره عن حبيب بن أبى ثابت قال: أعطانى ابن عباس مصحفاً فقال: هذا على قراءة أُبَىّ، فرأيت فى المصحف: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مُسمَّى". وبإسناده عن أبى نضرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟ فقلت: بلى، فقال: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مُسمَّى"، قلت: لا أقرؤها
هكذا. قال ابن عباس: واللهِ هكذا أنزلها الله تعالى (ثلاث مرات) . وبإسناده عن سعيد بن جبير أنه قرأ: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مُسمَّى". وبإسناده عن شعبة بن الحكم بن عيينة قال: سألته عن هذه الآية: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} أمنسوخة هى؟ قال: قال الحكم: قال علىّ بن أبى طالب: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفى. وبإسناده عن عمران بن الحصين قال: نزلت آية المتعة فى كتال الله تعالى ولم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات ولم ينهنا عنها، فقال بعد رجل برأيه ما شاء. ومما أورده مسلم بن الحجاج فى الصحيح قال: حدثنا الحسن الحلوانى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: قدم جابر ابن عبد الله معتمراً فجئناه فى منزله، فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة، فقال: استمتعنا على عهد رسول الله وأبى بكر وعمر.
ومما يدل أيضاً على أن لفظ الاستمتاع فى الآية لا يجوز أن يكون المراد به الانتفاع والجِماع، أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم شئ مِن المهر مَن لا ينتفع من المرأة بشئ، وقد علمنا أن لو طلَّقها قبل الدخول لزم نصف المهر، ولو كان المراد به النكاح الدائم لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد، لأنه قال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أى مهورهن، ولا خلاف فى أن ذلك غير واجب، وإنما يجب الأجر بكماله بنفس العقد فى نكاح المتعة.
ومما يمكن التعلق به فى هذه المسألة، الرواية المشهورة عن عمر بن الخطاب أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما، فأخبر بأن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله وأضاف النهى عنها إلى نفسه بضرب من الرأى، فلو كان النبى صلى الله عليه وسلم نسخها أو نهى عنها أو أباحها فى وقت مخصوص دون غيره(2/85)
لأضاف التحريم إليه دون نفسه. وأيضاً فإنه قرن بين متعة الحج ومتعة النساء فى النهى، ولا خلاف فى أن متعة الحج غير منسوخة ولا محرَّمة، فوجب أن يكون حكم متعة النساء حكمها. وقوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} .. من قال إن المراد بالاستمتاع الانتفاع والجِماع، قال: المراد به: ولا حرج ولا إثم عليكم فيما تراضيتم به من زيادة مهر ونقصانه، أو حط، أو إبراء، أو تأخير. وقال السدى: معناه: لا جُناح عليكم فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء مدة الأجل المضروب فى عقد المتعة، يزيدها الرجل فى الآخر وتزيده فى المدة، وهذا قول الإمامية وتظاهرت به الروايات عن أئمتهم.. ".
* *
* فرض الرِجْلَين فى الوضوء:
كذلك يقول الطبرسى - كغيره من علماء مذهبه - بأن المسح هو فرض الرِجْلين فى الوضوء، فلهذا نراه يجادل بكل قوة، ويدافع عن مذهبه وينصره بأدلة إن دلَّت على شئ فهو قوة عقلية هذا الرجل وسعة ذهنه وكثرة اطلاعه، فعندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. يقول ما نصه: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. اختُلِفَ فى ذلك، فقال جمهور الفقهاء: إن فرضهما الغسل. وقالت الإمامية: فرضهما المسح دون غيره، وبه قال عِكرمة. وقد روى القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين، كابن عباس، وأنس وأبى العالية والشعبى. وقال الحسن البصرى بالتخيير بين المسح والغسل، وإليه ذهب الطبرى والجبائى إلا أنهم قالا: يجب مسح جميع القدمين ولا يجوز الاقتصار على مسح ظاهر القدم. قال ناصر الحق من جملة أئمة الزيدية: يجب الجمع بين المسح والغسل. وروى عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله فمسح على رجليه. وروى عنه أنه قال: إن فى كتاب الله المسح، ويأبى الناس إلا الغسل. وقال: الوضوء غسلتان ومسحتان. وقال قتادة: فرض الله غسلتين ومسحتين. وروى ابن عُلية، عن حميد، عن موسى ابن أنس: أنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحَجَّاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم، وإنه ليس شئ من بنى آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقبهما، فقال أنس: صدق الله وكذب الحَجَّاج، قال تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. قال فكان أنس إذا مسح قدميه بَلَّهما. وقال الشعبى: نزل جبريل عليه السلام بالمسح. وقال: إن فى التيمم يمسح ما كان غسلاً، ويلغى ما كان مسحاً.(2/86)
وقال يونس: حدثنى مَن صحب عِكرمة إلى واسط. قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما كان يمسح عليهما - وأما ما رُوى عن سادة أهل البيت فى ذلك فأكثر من أن يُحصَى، فمن ذلك ما روى الحسين بن سعيد الأهوازى، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن غالب بن هذيل قال: سألت أبا جعفر عن المسح على رجلين
فقال: هو الذى نزل به جبريل. وعنه عن أحمد ابن محمد قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضح بكفه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين، فقلت له: لو أن رجلاً قال بأصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين؟ قال: لا، إلا بكفه كلها. وأما وجه القراءتين فى {وَأَرْجُلَكُمْ} فمن قال بالغسل حمل الجر فيه على أنه عطف على {بِرُؤُوسِكُمْ} ، وقال: المراد بالمسح هو الغسل. وروى عن أبى زيد أنه قال: المسح خفيف الغسل، فقد قالوا: تمسَّحت للصلاة، وقوى ذلك بأن التحديد إنما جاء فى المغسول ولم يجئ فى الممسوح، فلما وقع التحديد فى المسح عُلِم أنه فى حكم الغسل لموافقة الغسل فى التحديد، وهذا قول ابن علىّ الفارسى.
وقال بعضهم: هو خفض على جوار، كما قالوا: جحر ضب خرب. وخرب من صفات الحجر لا الضب، وكما قال امرؤ القيس:
كأن ثبيراً فى عرانين وبله ... كبير أناس بجاد مزمل
وقال الزجَّاج: إذا قرئ بالجر يكون عطفاً على الرؤوس فيقتضى كونه ممسوحاً، وذُكر عن بعض السَلَف أنه قال: نزل جبريل بالمسح، والسُّنَّة فيه الغسل. قال: والخفض على الجوار لا يجوز فى كتاب الله تعالى، ولكن المسح على هذا التحديد فى القرآن كالغسل. وقال الأخفش: هو معطوف على الرؤوس فى اللفظ، مقطوع فى المعنى، كقول الشاعر:
علفتها تبناً وماءً بارداً
أى: وسقيتها ماءً بارداً.
وأما القراءة بالنصب، فقالوا فيه: إنه معطوف على {وَأَيْدِيَكُمْ} ، لأنَّا رأينا فقهاء الأمصار عملوا على الغسل دون المسح، ولما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى قوماً توضأوا وأعقابهم تلوح. فقال: "ويل للعراقيب من النار". ذكره أبو علىّ الفارسى، وأما مَن قال بوجوب مسح الرجلين.. حمل الجر والنصب فى "أرجلكم" على ظاهره بدون تعسف، فالجر للعطف على الرؤوس، والنصب للعطف على موضع الجار والمجرور، وأمثال ذلك فى كلام العرب أكثر من أن تُحصى. قالوا: ليس فلان بقائم ولا ذاهباً، وأنشد:
معاوى إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وقال تأبط شراً:
هل أنت باعث ديناراً لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق(2/87)
فعطف "عبد" على موضع "دينار"، فإنه منصوب فى المعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
جئنى بمثل بنى بدر لقومهم ... أو مثل إخوة منظور بن سيار
فإنه لما كان معنى "جئنى": هات وأحضر لى مثلهم، عطف بالنصب على المعنى، وأجابوا الأوَّلين عما ذكروه فى وجه الجر والنصب بأجوبة نوردها على وجه الإيجاز.. قالوا: ما ذكروه أولاً من أن المراد بالمسح الغسل فباطل من وجوه:
أحدها: أن فائدة اللَّفظين فى اللُّغة والشرع مختلفة، وقد فرَّق الله سبحانه بين الأعضاء المغسولة وبين الأعضاء الممسوحة، فكيف يكون معنى المسح والغسل واحداً؟
وثانيها: أن الأرجل إذا كان معطوفاً على الرؤوس، وكان الفرض فى الرؤوس المسح الذى ليس بغسل بلا خلاف، فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، لأن حقيقة العطف تقتضى ذلك.
وثالثها: أن المسح لو كان بمعنى الغسل لسقط استدلالهم بما رووه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه توضأ وغسل رجليه، لأن على هذا لا ينكر أن يكون مسحهما فسمُّوا المسح غسلاً وفى هذا ما فيه.
فأما استشهاد أبى زيد بقولهم: تمسَّحْتُ للصلاة، فالمعنى فيه: أنهم لما أرادوا أن يُخبروا عن الطهور بلفظ موجز ولم يجز أن يقولوا: تغسَّلْتُ للصلاة، لأن ذلك تشبيه بالغُسل، قالوا بدلاً من ذلك تمسَّحْتُ، لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً فتجوَّزوا لذلك تعويلاً على أن المراد مفهوم، وهذا لا يقتضى أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل.
وأما ما قالوا فى تحديد طهارة الرِجْلين فقد ذكر المرتضى فى الجواب عنه: أن ذلك لا يدل على الغسل، وذلك لأن المسح فعل قد أوجبته الشريعة كالغسل فلا يُنكر تحديده كتحديد الغسل، ولو صرَّح سبحانه وتعالى فقال: وامسحوا أرجلكم وانتهوا بالمسح إلى الكعبين لم يكن منكراً. فإن قالوا: إن تحديد اليدين لما اقتضى الغسل فكذلك تحديد الرِجْلين يقتضى الغسل، قلنا: إنَّا لم نوجب الغسل فى اليدين للتحديد بل للتصريح بغسلهما، وليس كذلك فى الرِجْلين، وإن قالوا: عطف المحدود على المحدود أولى وأشبه بترتيب الكلام. قلنا: هذا لا يصح، لأن الأيدى محدودة وهى معطوفة على الوجوه التى ليست فى الآية محدودة، فإذن جاز عطف الأرجل وهى محدودة، على الرؤوس التى ليست بمحدودة، وهذا أشبه مما ذكرتموه، لأن الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه، وعطف عضو محدود مغسول عليه، ثم استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود، فيجب أن يكون "أرجل" ممسوحة محدودة(2/88)
معطوفة على الرؤوس دون غيره. ليتقابل الجملتان فى عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود، وعطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود.
وأما مَن قال: إنه عطف على الجوار، فقد ذكرنا عن الزجَّاج أنه لم يُجوِّز ذلك فى القرآن، ومَن أجاز ذلك فى الكلام فإنما يجوز مع فقد حرف العطف، وكل ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا وذاك. وأيضاً فإن المجاورة إنما وردت فى كلامهم عند ارتفاع اللَّبْس والأمن من الاشتباه، فإن أحداً لا يشتبه عليه أن "خرباً" لا يكون من صفة الضب، ولفظة "مزمل" لا يكون من صفة البجاد، وليس كذلك الأرجل فإنها يجوز أن تكون ممسوحة كالرؤوس. وأيضاً فإن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزاً فى كلام العرب، وقالوا فى "حجر ضب خرب": إنهم أرادوا خرب جحره، فحذفوا المضاف الذى هو "جحر" وأقيم المضاف إليه وهو الضمير المجرور مقامه، وإذا ارتفع الضمير استكن فى "خرب" وكذلك القول فى "كبير أناس فى بجاد مزمل"، فتقديره: مزمل كبيره، فبطل الإعراب بالمجاورة جملة، وهذا واضح لمن تدبره.
وأما مَن جعله مثل قول الشاعر: "علفتها تبناً وماءً بارداً"، كأنه قدَّر فى الآية: واغسلوا أرجلكم، فقوله أبعد من الجميع، لأن مثل ذلك لو جاز فى كتاب الله تعالى - على ضعفه وبُعْده فى سائر الكلام - فإنما يجوز إذا استحال حمله على ظاهر، فأما إذا كان الكلام مستقيماً ومعناه ظاهراً فكيف يجوز مثل هذا التقدير الشاذ البعيد؟
وأما ما قاله أبو علىّ فى القراءة بالنصب على أنه معطوف على الأيدى، فقد أجاب عنه المرتضى بأن قال: جعل التأثير فى الكلام للقريب أولى من جعله للبعيد، فنصب الأرجل عطفاً على الموضع أولى من عطفها على الأيدى والوجوه، على أن الجملة الأولى المأمور فيها بالغسل قد انقضت وبطل حكمها باستئناف الجملة الثانية، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى أن تعطف على ما فيها، فإن ذلك يجرى مجرى قولهم: ضربتُ زيداً وعَمْراً، وأكرمتُ خالداً وبكراً، فإن رد بكر إلى خالد فى الإكرام هو الوجه فى الكلام لا يسوغ الذى سواه، ولا يجوز رده إلى الضرب الذى قد انقطع حكمه، ولو جاز ذلك أيضاً لترجح ما ذكرناه لتطابق معنى القراءتين ولا تتنافيان.
فأما ما روى فى الحديث أنه قال: "ويل للعراقيب من النار"، وغير ذلك من الأخبار التى رووها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه توضأ وغسل رجليه، فالكلام فى ذلك أنه لا يجوز أن يُرجعْ عن ظاهر القرآن المعلوم بظاهر الأخبار الذى لا يوجب علماً وإنما يقتضى الظن، على أن هذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة وردت من طرقهم ووُجِدت فى كتبهم، ونُقِلت عن شيوخهم، مثل ما روى عن أوس بن أبى أوس أنه قال: رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم يتوضأ ومسح على نعليه ثم قام فصلَّى، وعن حذيفة قال: أتى رسول الله سباطة قوم فبال عليها ثم(2/89)
دعا بماء فتوضأ ومسح على قدميه، وذكره أبو عبيدة فى غريب الحديث ... إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
وقوله: "ويل للعراقيب من النار"، فقد روى فيه أن قوماً من أجلاف الأعراب كانوا يبولون وهم قيام، فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها، ويدخلون المسجد للصلاة، وكان ذلك سبباً لهذا الوعيد..
وأما الكعبان فقد اختُلِف فى معناهما، فعند الإمامية هما العظمان النابتان فى ظهر القدم عند معقد الشراك، ووافقهم فى ذلك محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة، وإن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع. وقال جمهور المفسَرين والفقهاء: الكعبان هما عظما الساقين، قالوا: ولو كان كما قالوه لقال سبحانه: "وأرجلكم إلى الكعاب" ولم يقل: إلى الكعبين، لأن على ذلك القول يكون فى كل رِجْل كعبان".
* *
* نكاح الكتابيات:
ولما كان مذهب الطبرسى عدم جواز نكاح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإنَّا نجده يتأثر بهذا المذهب فيفسِّر كلام الله على مقتضاه، فنجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [221] من سورة البقرة: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} ... الآية، يقول بعد ما تكلم عن اللُّغة والإعراب وسبب النزول: "لما تقدم ذكر المخالطة بيَّن تعالى مَن يجوز مخالطته بالنكاح فقال: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} أى لا تزوجوا النساء الكافرات حتى يؤمنّ - أى يصدقن بالله - وهى عامة عندنا فى تحريم مناكحة جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم. وليست بمنسوخة ولا مخصوصة، فاختلفوا فيه، فقال بعضهم: لا يقع اسم المشركات على أهل الكتاب، وقد فصل الله بينهما فقال: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] ، و {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [البقرة: 105] وعطف أحدهما على الآخر، فلا نسخ فى الآية ولا تخصيص.
وقال بعضهم: الآية متناولة جميع الكفار، والشرك يُطلق على الكل، ومَن جحد نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنكر معجزته وأضافه إلى غير ذلك، وهذا هو الشرك بعينه، لأن المعجزة شهادة من الله له بالنبوة. ثم اختلف هؤلاء: منهم مَن قال: إن الآية منسوخة فى الكتاب بالآية التى فى المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] .. عن ابن عباس والحسن ومجاهد - ومنهم من قال: إنها مخصوصة بغير الكتابيات.. عن قتادة وسعيد بن جبير - ومنهم مَن قال: إنها على ظاهرها فى تحريم نكاح كل كافرة كتابية كانت أو مشركة.. عن ابن عمر وبعض الزيدية وهو مذهبنا،(2/90)
وسيأتى بيان آية المائدة فى موضعها إن شاء الله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} : معناه: مملوكة مصدِّقة مسلمة خير من حُرَّة مشركة، {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} : معناه: ولو أعجبتكم بمالها أو حسبها أو جمالها، فظاهر هذا يدل على أنه يجوز نكاح الأَمَة المؤمنة فى وجود الطَوْل، فأما قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] ... الآية، فإنما هى على التنزيه دون التحريم، {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} معناه: ولا تُنكِحوا النساء المسلمات جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم حتى يؤمنوا، وهذا يؤيد قول من يقول: إن قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} يتناول جميع الكافرات، وقوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} ، أى عبد مصدِّق مسلم خير من حُرٍّ مشرك ولو أعجبكم ماله أو حاله أو جماله".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} ... الآية، نراه يقول ما نصه: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وهم اليهود والنصارى، واختُلف فى معناه، فقيل: هنَّ العفائف حرائر كنَّ أو إماء، حربيات كنَّ أو ذِمِّيات.. عن مجاهد والحسن والشعبى وغيرهم - وقيل: هنَّ الحرائر ذِمِّيات كنَّ أو حربيات - وقال أصحابنا: لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابية، لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، ولقوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10] . وأوَّلوا هذه الآية بأن المراد بـ {المحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} اللاتى أسلمن منه، والمراد بـ {والمحصنات مِنَ المؤمنات} : اللاتى كُنَّ فى الأصل مؤمنات بأن وُلِدْن على الإسلام، وذلك أن قوماً كانوا يتحرَّجون من العقد على مَن أسلمت عن كفر، فبيَّن سبحانه أنه لا حَرَج فى ذلك، ولهذا أفردهن بالذكر، حكى ذلك أبو القاسم البلخى. قالوا: ويجوز أن يكون مخصوصاً أيضاً بنكاح المتعة وملك اليمين، فإن عندنا يجوز وطؤهن بكلا الوجهين، على أنه قد روى أبو الجارود عن أبى جعفر أنه منسوخ بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} ، بقوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [10] من سورة الممتحنة: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} قال ما نصه: "أى لا تمسكوا بنكاح الكافرات، وأصل العصمة المنع، وسمى النكاح عصمة، لأن المنكوحة تكون فى حبال الزوج وعصمته، وفى هذا دلالة على أنه لا يجوز العقد على الكافرة سواء أكانت حربية أو ذِميَّة، وعلى كل حال، الآية(2/91)
عامة فى الكوافر، وليس لأحد أن يخص الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بالسبب".
* *
* الغنائم:
ولما كانت الإمامية الإثنا عشرية لهم فى الغنائم نظام خاص يخالفون به مَن عداهم فيوجبون الخُمس لمستحقيه فى مطلق الغنيمة، فهو غير مختص عندهم بغنائم الحرب بل يشمل أنواعاً سبعة هى: غنائم الحرب، وغنائم الغوص، والكنز الذى يُعثر عليه، والمعدن الذى يُستنبط من الأرض، وأرباح المكاسب، والحلال المختلط بالحرام، والأرض المنتقلة من المسلم إلى الذِمِّى. وليس الخُمس الهاشمى الذى يرون وجوبه - فيما عدا الغنائم الحربية - من الصدقات كما يتوهم البعض، ولكنهم يعتبرونه حقاً امتيازياً لآل محمد الذين حُرِّمت عليهم الصدقات نظير ما تمتاز به الأسر المالكة اليوم من التمتع بمخصصات خاصة، وقد تضافر الحديث عن الأئمة بأن الخُمس حق سلطانى بإرادة ملكية، وهى إرادة مليك الكائنات لمستحقيه الذين ذكرهم القرآن.
لما كان هذا، فإنَّا نجد الطبرسى يُنزل ما ورد فى الغنائم من الآيات على مذهبه، ولهذا عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [41] من سورة الأنفال: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} ... الآية، يقول متأثراً بمذهبه: "اختلف العلماء فى كيفية قسمة الخُمس ومَن يستحقه على أقوال:
أحدها: ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أن الخُمس يُقسَّم على ستة أسهم، فسهم الله، وسهم للرسول، وهذان السهمان مع سهم ذى القُرَبى للإمام القائم مقام الرسول، وسهم ليتامى آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، ولا يشركهم فى ذلك غيرهم، لأن الله سبحانه حَرَّم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس وعوَّضهم من ذلك الخُمس، وروى ذلك الطبرى عن علىّ بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علىّ الباقر. وروى ايضاً عن أبى العالية والربيع أنه يُقسم على ستة أسهم إلا أنهما قالا: سهم الله للكعبة، والباقى لمن ذكره الله. وهذا القسم مما يقتضيه ظاهر الكتاب ويقويه.
الثانى: أن الخُمس يُقسم على خمسة أسهم، وأن سهم الله والرسول واحد، ويُصرف هذا السهم إلى الكراع والسلاح، وهو المروى عن ابن عباس، وإبراهيم، وقتادة، وعطاء.
الثالث: أن يُقسم على أربعة أسهم: سهم لذى القُرَبى.. لقرابة النبى صلى الله عليه وسلم، والأسهم الثلاثة لمن ذُكِروا بعد ذلك من سائر المسلمين وهو مذهب الشافعى.
الرابع: أنه يُقسم على ثلاثة أسهم، لأن سهم الرسول قد سقط بوفاته، لأن الأنبياء(2/92)
لا تورث فيما يزعمون، وسهم ذوى القُربى قد سقط، لأن أبا بكر وعمر لم يعطيا سهم ذى القُرَبى ولم ينكر ذلك، أحد من الصحابة عليهما.. وهو مذهب أبى حنيفة وأهل العراق - ومنهم مَن قال: لو أعطى فقراء ذوى القُربَى سهماً والآخرين ثلاثة أسهم جاز، ولو جعل ذوى القُرَبى أُسوة بالفقراء ولا يفرد لهم سهم جار - واختُلِف فى ذى القُرَبى: فقيل: هم بنو هاشم خاصة من ولد عبد المطلب، لأن هاشماً لم يعقب إلا منه.. عن ابن عباس ومجاهد، وإليه ذهب أصحابنا - وقيل: هم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو عبد المطلب بن عبد مناف ... وهو مذهب الشافعى، وروى ذلك عن جبير بن مطعم عن النبى صلى الله عليه وسلم - وقال أصحابنا: إن الخُمس واجب فى كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب، وأرباح التجارات، وفى الكنوز والمعادن، والغوص، وغير ذلك مما هو مذكور فى الكتب، ويمكن أن يُستدل على ذلك بهذه الآية، فإن فى عُرْف اللغة يُطلق على جميع ذلك اسم الغُنْم والغنيمة.. ".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من سورة الحشر: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ... الآية، يقول ما نصه: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} أى من أموال كفار أهل القرى، {فَلِلَّهِ} يأمركم فيه بما أحب، {وَلِلرَّسُولِ} بتمليك الله إياه، {وَلِذِي القربى} يعنى أهل بيت رسول الله وقرابته، وهم بنو هاشم، {واليتامى والمساكين وابن السبيل} منهم، لأن التقدير: ولذى قُرْباه، ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم، وروى المنهال بن عمرو عن علىّ بن الحسين قال: قلت: قوله: {وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} قال: هم أقرباؤنا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة، وكذلك المساكين وأبناء السبيل. وقد روى أيضاً ذلك عنهم. وروى محمد بن مسلم عن أبى جعفر أنه قال: "كان أبى يقول: لنا سهم رسول الله وسهم ذوى القُرَبى، ونحن شركاء الناس فيما بقى. والظاهر يقتضى أن ذلك لهم، سواء أكانوا أغنياء أو فقراء.. وهو مذهب الشافعى - وقيل: إن مال الفئ للفقراء من قرابة رسول الله وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وروى عن الصادق أنه قال: نحن قوم فرض الله طاعتنا، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال.. يعنى ما كان يُصطفى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من فره الدواب، وحسان الجوارى، والدُرَّة الثمينة، والشئ الذى لا نظير له".
* *
* ميراث الأنبياء:
والطبرسى يقول كغيره من علماء مذهبه بأن الأنبياء عليهم السلام يورثون كما(2/93)
يورث سائر الناس، ولهذا نراه يتأثر بمذهبه هذا. فيحمل عليه كلام الله، فمثلاً عندما فسَّر قوله تعالى فى الآيتين [5، 6] من سورة مريم: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً} .. يقول ما نصه: ".. اختُلِف فى معناه، فقيل: معناه: يرثنى مالى ويرث من آل يعقوب النبوة.. عن أبى صالح - وقيل معناه: يرث نبوتى ونبوة آل يعقوب.. عن الحسن ومجاهد. واستدل أصحابنا بالآية على أن الأنبياء يورثون المال، وأن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم والنبوة، بأن قالوا: إن لفظ الميراث فى اللُّغة والشريعة لا يُطلق إلا على ما يُنقل من الموروث إلى الوارث كالأموال، ولا يُستعمل فى غير المال إلا على طريق المجاز والتوسع، ولا يُعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة. وأيضاً فإن زكريا قال فى دعائه: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} .. أى اجعل يا رب ذلك المولى الذى يرثنى رضياً عندك ممتثلاً لأمرك، ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى، وكان لغواً عبثاً، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد: اللَّهم ابعث لنا نبياً، واجعله عاقلاً رضياً فى أخلاقه، لأنه إذا كان نبياً فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا فى النبوة، ويقوى ما قلناه أن زكريا صرَّح بأنه يخاف بنى عمه بعده بقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} .. وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم، لأنه كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً مَن ليس بأهل النبوة، وأن يورث علمه وحكمته مَن ليس لهما بأهل، ولأنه إنما بُعث لإذاعة العلم ونشره فى الناس، فكيف يخاف من الأمر الذى هو الغرض من بعثته. فإن قيل: إن هذا يرجع عليكم فى ورثة المال، لأن فى ذلك إضافة الضن والبخل إليه، قلنا: معاذ الله أن يستوى الأمران، فإن المال قد يروق المؤمن والكافر، والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بنى عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا
ينبغى، بل فى ذلك غاية الحكمة، فإن تقوية الفُسَّاق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة فى الدين، فمن عَدَّ ذلك بخلاً وضَنا فهو غير منصف، وقوله: {خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} يُفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم ومعان فيهم لا من أعيانهم، كما أن مَن خاف الله تعالى فإنما خاف عقابه، فالمراد به: خِفْتُ تضييع الموالى مالى وإنفاقهم إياه فى معصية الله".
وعندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [16] من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} .. نجده يقول ما نصه: "فى هذه دلالة على أن الأنبياء يورثون المال كتوريث غيرهم.. وهو قول الحسن - وقيل: معناه: أنه ورث علمه ونبوته ومُلكه دون سائر(2/94)
أولاده. ومعنى الميراث هنا أنه قام مقامه فى ذلك، فأْطلق عليه اسم الإرث كما أُطلق على الجنَّة اسم الإرث.. عن الجبائى، وهذا خلاف الظاهر، والصحيح عند أهل البيت هو الأول".
* *
* الإجماع:
ولما كان الطبرسى كعلماء مذهبه لا يعتبرون حِجِّية الإجماع مهما كان نوعه إلا إذا كان كاشفاً عن رأى الإمام أو كان الإمام داخلاً فى جملة المجمعين، فإنَّا نراه يرد الأدلة القرآنية التى استدل بها الجمهور على حِجِّية الإجماع ويناقشهم فى فهم هذه الآيات.
فمثلاً عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [59] من سورة النساء: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .. نراه يرد استدلال الجمهور بهذه الآية على حِجِّية الإجماع فيقول ما نصه: " ... واستدلّ بعضهم بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} على أن إجماع الأُمة حُجَّة بأن قالوا: إنما أوجب الله الرد إلى الكتاب والسُّنَّة بشرط وجود التنازع، فدل على أنه إذا لم يوجد التنازع لا يجب الرد، ولا يكون كذلك إلا والإجماع حُجَّة. وهذا الاستدلال إنما يصح لو فُرض أن فى الأُمة معصوماً حافظاً للشرع، فأما إذا لم يُفرض ذلك فلا يصح، لأن تعليق الحكم بشرط أو صفة لا يدل على أن ما عداه بخلافه عند أكثر العلماء، فكيف اعتمدوا عليه ههنا. على أن الأُمة لا تُجْمِع على شئ إلا عن كتاب أو سُنَّة. وكيف يقال إنها إذا أجمعت على شئ لا يجب عليها الرد إلى الكتاب والسُّنَّة وقد رُدَّت إليهما"؟.
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [115] من سورة النساء: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى} ... الآية، يقول ما نصه: ".. وقد استدل بهذه الآية على أن إجماع الأُمة حُجَّة، لأنه توعَّد على مخالفة سبيل المؤمنين كما توعَّد على مشاقة الرسول. والصحيح أنه لا يدل على ذلك، لأن ظاهر الآية يقتضى إيجاب متابعة مَن هو مؤمن على الحقيقة ظاهراً وباطناً، لأن مَن أظهر الإيمان لا يوصف بأنه مؤمن إلا مجازاً، فكيف يُحمل ذلك على الإيجاب متابعة مَن أظهر الإيمان، وليس كل مَن أظهر الإيمان مؤمناً، ومتى حملوا الآية على بعض الأُمة حملها غيرهم على مَن هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين وهم الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم. على أن ظاهر الآية يقتضى أن الوعيد إنما يتناول مَن جمع(2/95)
بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين لهم أنَّ مَن يفعل أحدهما يتناوله الوعيد؟. ونحن إنما علمنا أن الوعيد إنما يتناول بمشاقة الرسول بانفرادها بدليل غير الآية، فيجب أن يسندوا تناول الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين إلى دليل آخر".
* *
* تأثر الطبرسى بمذهب المعتزلة فى تفسيره:
هذا.. وإن عقيدة الطبرسى كعقيدة غيره من الشيعة لها كثير الارتباط بمبادئ المعتزلة فى علم الكلام، ولهذا نراه فى تفسيره كثيراً ما يوافق المعتزلة فى بعض آرائهم الكلامية، ويرتضى مذهبهم، ويدافع عنه، ويحاول أن يهدم ما عداه. وأحياناً نراه لا يرتضى ما يقوله المعتزلة ولا يسلمه لهم بل يقف موقف المنازع لهم، والمعارض لأدلتهم.
* الهدى والضلال:
ففى الآيات التى لها تعلق بهداية العبد وضلاله، نراه يوافق المعتزلة فى عقيدتهم، ويدافع عنها، ويهدم ما عداها.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [125] من سورة الأنعام: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ... الآية، يقول ما نصه: ".. قد ذُكِر فى تأويل الآية وجوه:
أحدها: أن معناه: مَن يرد الله أن يهديه إلى الثواب وطريق الجنَّة يشرح صدره للإسلام فى الدنيا، بأن يثبت عزمه عليه، ويقوى دواعيه على التمسك به، ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان وما يعرض فى القلوب من الخواطر الفاسدة. وإنما يغفل ذلك لطفاً له ومَنا عليه وثواباً على اهتدائه بهدى الله وقبوله إياه. ونظيره قوله سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] ، {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} [مريم: 76] ، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} عن ثوابه وكرامته، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ} فى كفره، {ضَيِّقاً حَرَجاً} عقوبة له على ترك الإيمان من غير أن يكون سبحانه مانعاً له عن الإيمان، وسالباً إياه القدرة عليه، بل ربما يكون ذلك سبباً داعياً له إلى الإيمان، فإن مَن ضاق صدره بالشئ كان ذلك داعياً له إلى تركه. والدليل على أن شرح الصدر قد يكون ثواباً قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} .. الآيات ومعلوم أن وضع الوزْر ورفع الذِكْر يكون ثواباً على تحمل أعباء الرسالة وكلفها، وكذلك ما قُرِن به من شرح الصدر. والدليل على أن الهدى قد يكون إلى الثواب قوله: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4-5] ، ومعلوم(2/96)
أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الثواب، فليس بعد الموت تكليف، وقد وردت الرواية الصحيحة: أنه لما نزلت هذه الآية سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر: ما هو؟ فقال: نور يقذفه الله فى قلب المؤمن فيشرح له صدره وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟. قال: "نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافى عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت".
وثانيها: أن معنى الآية: فمن يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من الوجه الذى ذكرنا جزاءً له على إيمانه واهتدائه، وقد يُطلق لفظ الهدى والمراد به الاستدامة كما قلنا فى قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] ، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} .. أى يخذله ويخَلى بينه وبين ما يريده لاختياره الكفر وتركه الإيمان، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} بأن يمنعه الألطاف التى ينشرح بها صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره. فإن قيل: إنَّا نجد الكافر غير ضيق الصدر لما هو فيه، ونراه طيب القلب على كفره، فكيف يصح الخلف فى خبره سبحانه؟ قلنا: إنه سبحانه بيَّن أنه يجعل صدره ضيقاً ولم يقل فى كل حال، ومعلوم من حاله فى أحوال كثيرة أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه والشكوك عليه، وعندما يجازى الله المؤمنين على استعمال الأدلة الموصلة إلى الإيمان، وهذا القدر هو الذى يقتضيه الظاهر.
وثالثها: أن معنى الآية: مَن يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التى وعدها المؤمن يشرح صدره لتلك الزيادة، لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} عن تلك الزيادة بمعنى يُذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} لمكان فقد تلك الزيادة، لأنها إذا اقتضت فى المؤمن ما قلناه أوجب فى الكافر ما يضاده، ويكون الفائدة فى ذلك الترغيب فى الإيمان والزجر عن الكفر.. وهذا التأويل قريب مما تقدم. وقد روى عن ابن عباس أنه قال: إنما سمى الله قلب الكافر حَرَجاً، لأنه لا يصل الخير إلى قلبه - وفى رواية أُخرى: لا تصل الحكمة إلى قلبه - ولا يجوز أن يكون المراد بالإضلال فى الآية الدعاء إلى الضلال، ولا الأمر به، ولا الإجبار عليه، لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال ولا يدعو إليه، فكيف يُجبر عليه، والدعاء إليه أهون من الإجبار عليه. وقد ذم الله تعالى فرعون والسامرى على إضلالهما عن دين الهدى فى قوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [طه: 79] ، وقوله: {وَأَضَلَّهُمُ السامري} [طه: 85] ، ولا خلاف فى أن إضلالهما إضلال أمر وإجبار ودعاء، وقد ذمهما الله تعالى عليه مطلقاً، وكيف يتمدح بما ذم عليه غيره".
* *
*(2/97)
رؤية الله:
كذلك يقول الطبرسى بما يقول به المعتزلة من عدم جواز رؤية الله ووقوعها فى الآخرة، ولهذا نراه يُفسِّر قوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بما يتفق ومذهبه فيقول: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} اختلف فيه على وجهين:
أحدهما: أن معناه نظرة العين. والثانى: أنه الانتظار.
واختلف من حمله على نظر العين على قولين:
أحدهما: أن المراد: إلى ثواب ربها ناظرة، أى هى ناظرة إلى نعيم الجنَّة حالاً بعد حال، فيزداد بذلك سرورها. وذكر الوجوه والمراد به أصحاب الوجوه.. روى ذلك عن جماعة من علماء المفسِّرين من الصحابة والتابعين وغيرهم.. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما فى قوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] : أمر ربك. وقوله: {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} [غافر: 42] : أى إلى إطاعة العزيز الغفار وتوحيده. وقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] : أى أولياء الله.
والآخر: أن النظر بمعنى الرؤية، والمعنى: تنظر إلى الله معاينة، روى ذلك عن الكلبى ومقاتل وعطاء وغيرهم.. وهذا لا يجوز، لأن كل منظور إليه بالعين، مشار إليه بالحدقة واللحاظ، والله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين، كما يجل سبحانه عن أن يُشار إليه بالأصابع، وأيضاً فإن الرؤية بالحاسة لا تتم إلا بالمقابلة والتوجه، والله يتعالى عن ذلك بالاتفاق. وأيضاً فإن رؤية الحاسة لا تتم إلا باتصال الشعاع بالمرئى، والله منزَّه عن اتصال الشعاع به. على أن النظر لا يفيد الرؤية فى اللُّغة، فإنه إذا علق بالعين أفاد طلب الرؤية. كما أنه إذا علق بالقلب أفاد طلب المعرفة بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول ساقطاً متناقضاً، وقولهم: ما زلتُ أنظر إليه حتى رأيته، والشئ لا يُجعل غاية لنفسه، فلا يقال: ما زلتُ أراه حتى رأيته، ولأنَّا نعلم الناظر ناظراً بالضرورة، ولا نعلمه رائياً بالضرورة، بدلالة أنَّا نسأله: هل رأيتَ أم لا؟
وأما مَن حمل النظر فى الآية على الانتظار فإنهم اختلفوا فى معناه على أقوال:
أحدها: أن المعنى: منتظرة لثواب ربها.. روى ذلك عن مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك.. وهو المروى عن علىّ. ومَن اعترض على هذا بأن قال: إن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بـ "إلى"، فلا يقال: انتظرت إليه، وإنما يقال: انتظرته، فالجواب عنه على وجوه:
منها: أنه قد جاء فى الشعر بمعنى الانتظار ومعدى بـ "إلى"، كما فى البيت الذى سبق ذكره:(2/98)
. ناظرات ... إلى الرحمن
وكقول جميل بن معمر:
وإذا نظرتُ إليك من ملك ... والبحر دونك زدتنى نعماً
وقول الآخر:
إنى إليك لما وعدتَ لناظر ... نظر الفقير إلى الغنى الموسر
ونظائره كثيرة..
ومنها أن تحمل "إلى" فى قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على أنها اسم، فهو واحد الآلاء التى هى النعم، فإن فى واحدها أربع لغات: "إلا" و "ألا" مثل: معى وقفا، و "ألى"و "إلى" مثل جدى وحسى، وسقط التنوين بالإضافة. وقال الأعشى:
أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحماً ولا يخون إلى
وليس لأحد أن يقول: إن هذا من أقوال المتأخرين وقد سبقهم الإجماع، فإنَّا لا نُسلِّم ذلك، لما ذكرناه من أن علياً ومجاهداً والحسن وغيرهم قالوا: المراد بذلك: تنتظر الثواب.
ومنها: أن لفظ النظر يجوز أن يعدى بـ "إلى" فى الانتظار على المعنى، كما أن الرؤية عديت بـ "إلى" فى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] فأجرى الكلام على المعنى، ولا يقال: رأيت إلى فلان. ومن إجراء الكلام على المعنى قول الفرزدق:
ولقد عجبت إلى هوازن أن أصبحت ... منى تلوذ ببطن أم جرير
فعدى "عجبت" بـ "إلى" لأن المعنى نظرت.
وثانيها: أن معناه: مؤملة لتجديد الكرامة، كما يقال: عينى ممدودة إلى الله تعالى وإلى فلان، وأنا شاخص الطرف إلى فلان.. ولما كانت العيون بعض أجزاء الوجوه أضيف الذى يقع بالعين إليها.. عن أبى مسلم.
وثالثها: أن المعنى: أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كل شئ سوى الله، ورجوه دون غيره، فكنى سبحانه عن الطمع بالنظر، ألا ترى أن الرعية تتوقع نظر السلطان(2/99)
وتطمع فى إفضاله عليها وإسعافه فى حوائجها، فنظر الناس مختلف: فناظر إلى السلطان، وناظر إلى تجارة، وناظر إلى زراعة، وناظر إلى ربه يؤمله.. وهذه الأقوال متقاربة فى المعنى، وعلى هذا فإن هذا الانتظار متى يكون؟ فقيل: إنه بعد الاستقرار فى الجنَّة، وقيل: إنه قبل استقرار الخلق فى الجنة والنار، فكل فريق ينتظر ما هو له أهل.. وهذا اختيار القاضى عبد الجبار - وذكر جمهور أهل العدل أن النظر يجوز أن يُحمل على المعنيين جميعاً، ولا مانع لنا من حمله على الوجهين، فكأنه سبحانه أراد أنهم ينظرون إلى الثواب المُعَد لهم فى الحال من أنواع النعيم، وينتظرون أمثالها حالاً بعد حال ليتم لهم ما يستحقون من الإجلال، ويُسئل على هذا فيقال: إذا كان بمعنى النظر بالعين حقيقة وبمعنى الانتظار مجازاً فكيف يُحمل عليهما؟ والجواب: أن عند أكثر المتكلمين فى أصول الفقه يجوز أن يرادا بلفظ واحد إذ لا تنافى بينهما.. وهو اختيار المرتضى قدَّس الله روحه، ولَمْ يجوزِّ ذلك أبو هاشم إلا إذ تكلم به مرتين: مرة يريد النظر، ومرة يريد الانتظار. وأما قولهم: المنتظر لا يكون نعيمه خالصاً فكيف يوصف أهل الجنَّة بالانتظار؟ فالجواب عنه: أن مَن ينتظر شيئاً لا يحتاج إليه فى الحال وهو واثق بوصوله إليه عند حاجته فإنه لا يهتم بذلك ولا ينقص سروره به، بل ذلك زايد فى نعيمه، وإنما يحلق الهم المنتظر إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره فى الحال ويلحقه بفوته مضرَّة وهو غير واثق بالوصول إليه. وقد قيل فى إضافة النظر إلى الوجوه: إن الغم والسرور إنما يظهران فى الوجوه، فبيَّن الله سبحانه أن المؤمن إذا ورد يوم القيامة تهلل وجهه، وأن الكافر يخاف مغبة أفعاله القبيحة فيكلح وجهه.. "
* *
السحر:
والطبرسى ينكر حقيقة السحر ولا يقول به، ويخالف جمهور أهل السُّنَّة فى ذلك، ويرد أدلتهم، وينكر حديث البخارى فى سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نراه فى آخر تفسيره لقوله تعالى للآية [102] من سورة البقرة: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ... الآية، يقول ما نصه: ".. واختُلِف فى ماهية السحر على أقوال:
فقيل: إنه ضرب من التخييل وصنعة لطيفة من الصنائع، وقد أمر الله تعالى بالتعوذ منه وجعل التحرز منه بكتابة وقاية منه، وأنزل فيه سورة الفلق.. وهو قول الشيخ المفيد أبى عبد الله من أصحابنا.
وقيل: إنه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها، تخيل إلى المسحور لها حقيقة..
وقيل: إنه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حماراً ويقلبه من صورة إلى صورة، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع. وهو لا يجوز، ومن صدَّق به فهو لا يعرف النبوة،(2/100)
ولا يأمن من أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع، ولو أن الساحر والمعزم قدرا على نفع أو ضرر، وعلما الغيب لقدرا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من معادنها والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه وضرر، فلما رأيناهم أسوأ الناس حالاً وأكثرهم مكيدة واحتيالاً. علمنا أنهم لا يقدرون على شئ من ذلك. فأما ما روى من الأخبار أن النبى صلى الله عليه وسلم سُحر فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله أو أنه لم يفعل ما فعله فأخبار مفتعلة لا يُلتفت إليها، وقد قال الله حكاية عن الكفار: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الفرقان: 8] . فلو كان السحر عمل فيه لكان الكفار صادقين فى مقالهم، حاشا للنبى من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله، فإنه حُجَّة الله على خلقه وصفوته على بريته.. ".
* *
* الشفاعة:
هذا.. ولا يلتزم الطبرسى القول بكل معتقدات المعتزلة، بل نراه يخالفهم فى كثير من الأحيان، ويرد عليهم معتقداتهم، ويجادلهم فيها جدالاً عنيفاً قوياً.
فمذهب الطبرسى فى الشفاعة - مثلاً - يخالف مذهب المعتزلة، ولهذا نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [48] من سورة البقرة: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} .. يقول ما نصه: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قال المفسرون: حكم هذه الآية مختص باليهود، لأنهم قالوا: نحن أولاد الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا، فأيأسهم الله عن ذلك فخرج الكلام مخرج العموم والمراد به الخصوص، ويدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبى شفاعة مقبولة، وإن اختلفوا فى كيفيتها، فعندنا هى مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبى المؤمنين.
وقالت المعتزلة: هى فى زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين. وهى ثابتة عندنا للنبى، ولأصحابه المنتخبين، وللأئمة من أهل بيته الطاهرين، ولصالحى المؤمنين، وينجى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ويؤيده الخبر الذى تلقته الأمة بالقبول وهو قوله: "ادخرتُ شفاعتى لأهل الكبائر من أُمتى"، وما جاء فى روايات أصحابنا رضى الله عنهم مرفوعاً إلى النبى أنه قال: "إنى أُشَفَّع يوم القيامة فأشفع، ويُشفَّع علىّ فيشفع، ويُشَفَّع أهل بيتى فيشفعون، وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع فى أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار"، وقوله مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101] .
* *
*(2/101)
حقيقة الإيمان:
وهو أيضاً يخالف المعتزلة فى حقيقة الإيمان، فلذلك لما عرض لتفسير قوله تعالى فى الآية [3] من سورة البقرة: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .. قال ما نصه: ".. وقالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطاعة، ثم اختلفوا فمنهم مَن اعتبر الفرائض والنوافل. ومنهم مَن اعتبر الفرائض فحسب. واعتبروا الاجتناب من الكبائر كلها، وقد روى العام والخاص عن علىّ بن موسى الرضا: أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، وقد روى ذلك على لفظ آخر منه أيضاً: الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول.
وأقول أنا: أصل الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله. وكل عارف بشئ فهو مصدِّق به، يدل عليه هذه الآية، فإنه تعالى لما ذكر الإيمان علَّقه بالغيب، ليعلم أنه تصديق للمخبر فيما أخبر به من الغيب على معرفة وثقة، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية والمالية وعطفها عليه فقال: {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، والشئ لا يُعطف على نفسه إنما يُعطف على غيره، ويدل عليه أيضاً أنه تعالى حيث ذكر الإيمان أضافه إلى القلب فقال: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] ، وقال: {أولائك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] .. وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "الإيمان سر - وأشار إلى صدره - والإسلام علانية" وقد يسمى الإقرار إيماناً كما يسمى تصديقاً إلا أنه متى صدر على شك أو جهل كان إيماناً لفظياً لا حقيقياً، وقد تُسمى أعمال الجوارح أيضاً إيماناً استعارة وتلويحاً كما يسمى تصديقاً كذلك، فيقال: فلان تُصدِّق أفعاله مقاله، ولا خير فى قول لا يصدقه الفعل. والفعل ليس بتصديق حقيقى باتفاق أهل اللُّغة، وإنما استعير هذا الاسم على الوجه الذى ذكرناه. فقد آل الأمر مع تسليم صحة الخبر وقبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللُّغة، ولا يُطلق لفظه إلا على ذلك. إلا أنه يستعمل فى الإقرار باللسان والعمل بالأركان مجازاً واتساعاً، وبالله التوفيق".
* *
* روايته للأحاديث الموضوعة:
هذا.. ولا يفوتنا أن نقول: إن الطبرسى رحمه الله لم يكن صادقاً فى وصفه لكتابه هذا بأنه محجة للمحدِّث، ذلك لأنَّا تتبعناه فوجدناه غير موفق فيما يروى من الأحاديث فى تفسيره، فقد أكثر من ذكر الموضوعات، خصوصاً ما وضعه الشيعة ونسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى أهل البيت مما يشهد لمعتقداتهم ويدل على تشيعهم.(2/102)
وإذا نحن تتبعنا ما يرويه من الأحاديث فى فضائل السور لوجدناه قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسِّرين من الاغترار بما جاء من الأحاديث فى فضائل السور مسنداً إلى أُبَىّ وغيره، ومرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى أحاديث موضوعة باتفاق أهل العلم.
كذلك لو تتبعنا هذا التفسير لوجدنا صاحبه يروى فى تفسيره من الأحاديث ما يشهد لمذهبه أو يتصل به، وهى أخبار نقرؤها ولا نكاد نرى عليها صبغة الصدق ورواء الحق.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من سورة الرعد: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} .. نجد أنه يذكر من الروايات ما هو موضوع على ألسنة الشيعة، ثم يمر عليها بدون تعقيب منه، مما يدل على أنه يصدقها ويقول بها. فهو بعد أن ذكر أقوالاً أربعة فى معنى هذه الآية نقل عن ابن عباس أنه قال: "لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا المنذر وعلىّ الهادى من بعدى، يا علىّ، بك يهتدى المهتدون". ونقل بسنده إلى أبى بردة الأسلمى أنه قال: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهور، وعنده علىّ ابن أبى طالب، فأخذ رسول الله بيد علىّ بعد ما تطهر فألزمها بصدره ثم قال: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} ، ثم ردها إلى صدره، ثم قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ، ثم قال: إنك منارة الأنام، وغاية الهدى، وأمير القرى، وأشهد علىّ ذلك أنك كذلك".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [23] من سورة الشورى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} .. نجده يذكر أقوالاً ثلاثة فى معنى هذه الآية:
أحدها: لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلا التوادد والتحاب فيما يُقَرِّب إلى الله تعالى من العمل الصالح.
وثانيها: أن معناه: إلا أن تودونى فى قرابتى منكم وتحفظونى لها.
وثالثها: إلا أن تودوا قرابتى وتحفظونى فيهم ... وهنا يسوق من الروايات عن أهل البيت وغيرهم ما يصرِّح بأن الذين أمر الله بمودتهم: علىّ وفاطمة وولدهما، ويروى - فيما يروى - هذا الحديث الغريب الذى نقله من كتاب "شواهد التنزيل لقواعد التفضيل" مرفوعاً إلى أبى أُمامة الباهلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق الأنبياء من أشجار شتَّى، وخُلقت أنا وعلىّ من شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعلىّ فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها، فمَن تعلَّق بغصن من أغصانها نجا، ومَن زاغ عنها هوى، ولو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالى، ثم لم يدرك محبتنا كبَّه الله على منخريه فى النار، ثم تلا: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} .
* *
*(2/103)
نموقفه من الإسرائيليات:
وكثيراً ما يروى الطبرسى فى تفسيره الروايات الإسرائيلية معزوَّة إلى قائليها، ونلاحظ عليه أنه يذكرها بدون أن يُعقِّب عليها.. اللَّهُمَ إلا إذا كانت مما يتنافى مع العقيدة، فإنه ينبه على كذب الرواية، ويبين ما فيها من مجافاتها للحق وبُعدها عن الصواب، فمثلاً عند قوله تعالى فى الآية [21] وما بعدها من سورة (ص) : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ ... .} ... الآيات، نجده يقول: "واختلف فى استغفار داود من أى شئ كان، فقيل: إنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع والتذلل بالعبادة والسجود، كما أخبر سبحانه عن إبراهيم بقوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] .. وأما قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] فالمعنى أنَّا قبلناه منه وأثبتناه، فأخرجه على لفظ الجزاء مثل قوله: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، وقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] . فلما كان المقصود من الاستغفار والتوبة القبول قيل فى جوابه: "غفرنا" وهذا قول من يُنَزِّه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم. ومَن جوَّز على الأنبياء الصغائر قال: إن استغفاره كان لذنب صغير وقع منه، ثم إنهم اختلفوا فى ذلك على وجوه:
أحدها: أن أُوريا بن حيّان خطب امرأة وكان أهلها أرادوا أن يُزوِّجوها منه، فبلغ داود جمالها فخطبها أيضاً فزوَّجوها منه، فقدَّموه على أوربا، فعوتب داود على الدنيا.. عن الجبائى.
وثانيها: أنه أخرج أُوريا إلى بعض ثغوره فقُتل فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته، فعوتب على ذلك بنزول المَلَكين.
وثالثها: أنه كان فى شريعته أن الرجل إذا مات وخلَّف امرأته فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها، فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوج، فلما قُتل أُوريا خطب داود امرأته ومنعت هيبة داود وجلالته أولياءه يخطبوها فعوتب على ذلك.
ورابعها: أن داود كان متشاغلاً بالعبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وذلك مباح، فمالت نفسه إليها ميل الطباع ففصل بينهما وعاد إلى عبادة ربه، فشغله الفكر فى أمرها عن بعض نوافله فعوتب.
وخامسها: أنه عوتب على عجلته فى الحكم قبل التثبت، وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ويحكم عليه قبل ذلك، وإنما أنساه التثبت فى الحكم فزعه من دخولهما عليه فى غير وقت العادة.
وأما ما ذُكر فى القصة أن داود كان كثيرا الصلاة فقال: يا رب فضَّلتَ علىّ إبراهيم فاتخذَتُه خليلاً، وفضَّلتَ علىّ موسى فكلَّمتَه تكليماً، فقال: يا داود إنا ابتليناهم بما(2/104)
لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتْ، فقال: نعم يا رب فابتلنى، فبينا هو فى محرابه ذات يوم وقعت حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوَّة المحراب، فذهب ليأخذها فاطلع من الكوَّة فإذا امرأة أُوريا ابن حيَّان تغتسل فهواها وهَمَّ بتزوجها، فبعث بأُوريا إلى بعض سراياه وأمر بتقديم أمام التابوت الذى فيه السكينة ففعل ذلك وقُتِل، فلما انقضت عِدَّتها تزوجها وبنى بها فولد له منها سليمان، فبينا هو ذات يوم فى محرابه يقرأ إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما، فقالا: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ ... } ... إلى قوله: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} .. فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على أنهما ملكان بعثهما الله إليه فى صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب وبكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه، فمما لا شبهة فى فساده، فإن ذلك مما يقدح فى العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله تعالى الذين هم أمناؤه على وحيه وسفراؤه بينه وبين خلقه بصفة مَن لا تُقبل شهادته وعلى حالة تنفر عن الاستماع إليه والقبول منه؟ جَلَّ أنبياء الله عن ذلك. وقد روى عن أمير المؤمنين أنه قال: لا أُوتى برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أُوريا إلا جلدتُه حدَّين: حداً للنبوة، وحداً للإسلام".
* *
* التفسير الرمزى:
والطبرسى مع أنه فى كتابه هذا يُفسِّر القرآن تفسيراً يتمشى مع الظاهر المتبادر إلى الذهن إلا أنَّا نلاحظ عليه أحياناً أنه يذكر المعانى الباطنية، أو بعبارة أخرى يذكر التفسير الرمزى الذى يقول به الشيعة، وهو وإن كان ناقلاً لهذه الأقوال إلا أنه يرتضيها ولا يرد عليها، وكثيراً ما يؤيدها بأدلة من عنده.
مثال ذلك أنه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [35] من سورة النور: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} ... الآية، نجده يقول بعد كلام طويل: "واختلف فى هذا المشبه والمشبه به على أقوال".. ثم ذكر هذه الأقوال، فكان من جملة ما ذكره هذه الروايات التى لا تعدو أن تكون من وضع الشيعة، وهى ما روى عن الرضا أنه قال: "نحن المشكاة فيها المصباح محمد صلى الله عليه وسلم يهدى الله لولايتنا من أحب". وما نقله من كتاب التوحيد لأبى جعفر بن بابويه رحمه الله بالإسناد عن عيسى بن راشد عن أبى جعفر الباقر فى قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: نور العلم فى صدر النبى، {المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة} الزجاجة صدر علىّ، صار علم النبى إلى صدر علىّ، علَّم النبى علياً، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} نور العلم، {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} لا يهودية ولا نصرانية، {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قال:(2/105)
يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يُسئل، {نُّورٌ على نُورٍ} أى إمام مؤيَّد بنور العلم والحكمة فى أثر إمام من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك من النبى آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء فى أرضه، وحججه على خلقه، لا تخل الأرض فى كل عصر من واحد منهم، ويدل عليه قول أبى طالب:
أنت الأمير محمد ... قرم أغر مسود
لمسودين أطاهر ... كرموا وطاب المولد
أنت السعيد من السعو ... د تكنفتك الأسعد
من لدن آدم لم يزل ... فينا وصى مرشد
ولقد عرفتك صادقاً ... والقول لا يتفند
مازلت تنطق بالصوا ... ب وأنت طفل أمرد
تحقيق هذه الجملة يقتضى أن الشجرة المباركة المذكورة فى الآية هى دوحة التقى والرضوان وعترة الهدى والإيمان، شجرة أصلها النبوة، وفرعها الإمامة، وأغصانها التنزيل، وأوراقها التأويل، وخدمها جبريل وميكائيل".
* *
* اعتداله فى تشيعه:
والطبرسى معتدل فى تشيعه غير مغال فيه كغيره من متطرفى الإمامية الإثنا عشرية، ولقد قرأنا فى تفسيره فلم نلمس عليه تعصباً كبيراً، ولم نأخذ عليه أنه كفَّر أحداً من الصحابة أو طعن فيهم بما يُذهب بعدالتهم ودينهم.
كما أنه لم يغال فى شأن علىّ بما يجعله فى مرتبة الإله أو مصاف الأنبياء، وإن كان يقول بالعصمة. ولقد وجدناه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فى شأن مَن وإلى علياً ومَن عاداه، وهو بصرف النظر عن درجته من الصحة يدل على أن الرجل وقف موقفاً وسطاً أو فوق الوسط إلى حد ما فيه من حبه لعلىّ رضى الله عنه، هذا الحديث هو ما رواه فى الوجه الرابع من الوجوه التى قيلت فى سبب نزول قوله تعالى فى الآية [57] من سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، حيث قال: ".. ورابعها: ما رواه سادة أهل البيت عن علىّ عليهم أفضل الصلوات أنه قال: جئت إلى رسول الله يوماً فوجدته فى ملإٍ من قريش فنظر إلىّ ثم قال: يا علىّ؛ إنما مثلك فى هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبه قوم فأفرطوا فى حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا فى بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبه بالأنبياء والرسل.. فنزلت الآية".(2/106)
وكل ما لاحظناه عليه من تعصبه أنه يدافع بكل قوة عن أُصول مذهبه وعقائد أصحابه، كما أنه إذا روى أقوال المفسِّرين فى آية من الآيات ونقل أقوال المفسِّرين من أهل مذهبه فيها نجده يرتضى قول علماء مذهبه ويؤيده بما يظهر له من الدليل.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [58] من سورة النساء: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} ... الآية، يقول: "قيل فى المعنىِّ بهذه الآية أقوال".. ثم يذكر الأقوال، ويذكر ما رواه أصحابه عن أبى جعفر الباقر وأبى عبد الله الصادق من أنهما قالا: "أمر الله كل واحد من الأئمة أن يُسلِّم الأمر إلى مَن بعده".. ثم قال مؤيداً لهذا القول: "ويعضده أنه أمر الرعية بعد هذا بطاعة ولاة الأمر. وروى عنهم أنهم قالوا: آيتان إحداهما لنا والأخرى لكم، قال الله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} ... الآية".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [59] من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} .. الآية، نجده بعد أن يذكر ما جاء عن بعض السَلَف من أن المراد بأُولى الأمر الأمراء، وما جاء عن بعضهم من أن المراد بهم العلماء يقول: "وأما أصحابنا فإنهم رووا عن الباقر والصادق أن أُولى الأمر هم الأئمة من آل محمد، أوجب الله طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلا مَن ثبت عصمته، وعلم أن باطنه كظاهره، وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح، وليس ذلك بحاصل فى الأمراء ولا العلماء سواهم، جلَّ الله أن يُطاعه مَن يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين فى القول والفعل، لأنه محال أن يُطاع المختلفون، كما أنه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. ومما يدل على ذلك أيضاً أن الله لم يقرن طاعة أُولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته، ألا وإن أُولى الأمر فوق الخلق جميعاً، كما أن الرسل فوق أُولى الأمر وفوق سائر الخلق، وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد الذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم، واتفقت الأمة على علو رتبتهم وعدالتهم".
وبعد.. أفلا ترى معى أن هذا التفسير يجمع بين حسن الترتيب، وجمال التهذيب، ودقة التعليل، وقوة الحُجَّة؟ أظن أنك معى فى هذا، وأظن أنك معى أيضاً فى أن الطبرسى وإن دافع عن عقيدته ونافح عنها لم يغل غلو غيره ولم يبلغ به الأمر إلى الدرجة التى كان عليها المولى الكازرانى وأمثاله من غلاة الإمامية الإثنا عشرية.
* * *(2/107)
4- الصافى فى تفسير القرآن (لملا محسن الكاشى)
* التعريف بصاحب هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو محمد بن الشاه مرتضى بن الشاه محمود، المعروف بملا محسن، وبالفيض الكاشى، وأحد غلاة الإمامية الإثنا عشرية. قال صاحب روضات الجنَّات فى ترجمته ما ملخصه: "وأمره فى الفضل والفهم والنبالة فى الفروع والأصول، والإحاطة بمراتب المعقول والمنقول، وكثرة التأليف والتصنيف، مع جودة التعبير والترصيف، أشهر من أن يخفى فى هذه الطائفة على أحد إلى منتهى الأبد. وعمره كما استفيد لنا من تتبع تصانيفه الوافرة تجاوز حدود الثمانين. ووفاته بعد الألف من الهجرة الطاهرة بنيف يلحق تمام التسعين. وأبوه مرتضى المذكور أيضاً كان من العلماء، وكذا أخوه محمد المعروف بنور الدين، وكذا أخوه الآخر المشهور بالمولى عبد الغفور، وبالجملة: فقد كان بيته الجليل المرتفع قدره إلى ذروة الأفلاك، من كبار بيوتات العلم والعمل والفضل والإدراك. وأما نفس الرجل فقد بلغ فضله إلى حيث لم يُعرف بين هذه الطائفة مثله، وخصوصاً فى مراتب المعرفة والأخلاق، وتطبيق الظواهر بالبواطن بحسن المذاق، وجودة الإشراق، وكان يشبه مشربه مشرب أبى حامد الغزالى، وقد نسب إليه الشيخ على المشهدى العاملى فى ذيل رسالته فى تحريم الغناء وغيرها، كثيراً من الأقاويل الفاسدة، والآراء الباطلة والعاطلة، التى تفوح منها رائحة الكفر والمضارة بضروريات هذا الدين المتين، والمضادة لما هو من قطعيات علم هذا الشرع المتين، ولو أردنا تأويل جملة منها بمحامل وجيهة صحيحة لما أمكننا ذلك بالنسبة إلى ما تدل عليه ألفاظه الظاهرة بل الصريحة ... من منافيات أصول هذه الشريعة وفروع مذهب الشيعة. مثل قوله بوحدة الوجود، وبعدم خلود الكفار فى عذاب النار، وعدم نجاة أهل الاجتهاد وإن كانوا فى جملة أجلائنا الكبار، وفى قوله بعدم منجسية المتنجس لغيره مثل النجس.. وبالجملة فقد كان رحمه الله دائماً فى طرف النقيض من الشيخ على المذكور ... ومن جملة مَن كان ينكر عليه أيضاً كثيراً من علماء زمانه الفاضل المحدِّث المولى محمد طاهر القُمِّى صاحب كتاب حُجَّة الإسلام وغيره، وإن قيل إنه رجع فى أواخر عمره عن اعتقاده السوء فى حقه، فخرج من "قُم" المباركة إلى بلدة" كاشان" للاعتراف عنده بالخلاف، والاعتذار
لديه بحسن الإنصاف، ماشياً على قدميه إلى أن وصل إلى باب داره، فنادى: يا محسن قد أتاك المسئ، فخرج إليه مولانا المحسن وجعلا يتصافحان ويتعانقان ويستحل كل منهما من صاحبه ثم رحل من فوره(2/108)
إلى بلده وقال: لم أرد من هذه الحركة إلا هضم النفس وتدارك الذنب وطلب رضوان الله العزيز الوهَّاب. ويقال أيضاً: إن بعض مَن اعتقد فى حقه الباطل رجع عنه بعد وفاته لما رآه فى المنام على هيئة حسنة يأمره بالرجوع إلى بعض ما كتبه فى أواخر عمره وهو فى مكان كذا كذا، فلما استيقظ وطلبه وجده كما نسبه، وكان فيه تبرئة نفسه من جميع ما يُنسب إليه من أقوال الضلال ... وقد ذكره صاحب أمل الآمل فقال: المولى الجليل، محمد بن مرتضى، المدعى بمحسن الكاشى، كان فاضلاً عالماً، حكيماً متكلماً، محدِّثاً فقيهاً، شاعراً أديباً، أحسن التصنيف، من المعاصرين، وله كتب: منها كتاب الوافى فى جمع الكتب الأربعة مع شرح أحاديثها المشكلة، وهو حسن إلا أن فيه ميلاً إلى بعض طريقة الصوفية، وكذا جملة من كتبه، وكتاب سفينة النجاة فى طريقة العمل، وتفاسير ثلاثة: كبير وصغير ومتوسط، وكتاب عَيْن اليقين، وكتاب علم اليقين، وكتاب حق اليقين.. وقال صاحب لؤلؤة البحرين: "وهذا الشيخ كان فاضلاً، محدِّثاً، إخبارياً، صلباً، كثير الطعن على المجتهدين، ولا سيما فى رسالة سفينة النجاة، حتى إنه يُفهم منها نسبة جملة من العلماء إلى الكفر فضلاً عن الفسق، مثل إيراده لآية: {يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 42] .. وهو تفريط وغلو بحت، مع أن له أدلة من المقالات التى جرى فيها على مذهب الصوفية والفلاسفة مما يكاد يوجب الكفر والعياذ بالله، مثل ما يدل فى كلامه على القول بوحدة الوجود، وقد وقفتُ له على رسالة قبيحة صريحة فى القول بذلك، قد جرى فيها على عقائد ابن عربى الزنديق، وأكثر فيها من النقل عنه وإن عبَّر عنه ببعض العارفين. ثم قال: وقد تتلمذ فى الحديث على السيد ماجد البحرانى، وفى الحكمة والأصول على صدر الدين محمد ابن إبراهيم الشيرازى، كان صهره على ابنته، ولذا ترى أن كتبه فى الأصول كلها على قواعد الصوفية والفلاسفة. ولاشتهار مذهب التصوف فى بلاد العجم وميلهم إليه،
بل وغلوهم فيه صارت إليه المرتبة العليا فى زمانه، والغاية القصوى فى أوانه، وفاق عند الناس جملة أقرانه. حتى جاء شيخنا المجلس فسعى غاية السعى فى سد تلك الشقائق الفاغرة، وإطفاء ثائرة البدع البائرة. وله تصانيف كثيرة أفرد لها فهرساً على حدة ونحن ننقل عنه ملخصاً: كتاب الصافى فى تفسير القرآن يقرب من سبعين ألف بيت فرغ من تأليفه فى سنة 1075 هـ (خمس وسبعين بعد الألف من الهجرة) . وكتاب الأصفى، منتخب منه، أحد وعشرين ألف بيت تقريباً. ثم عدَّد كتبه التى ألفها وهى كثيرة. وحكى السيد السعيد السيد نعمة الله الجزائرى التسترى قال: كان أستاذنا المحقق المولى محمد محسن الكاشانى صاحب مؤلفات وفيرة مما يقرب من مائتى كتاب ورسالة، وكان نشوه فى بلدة "قُم"،(2/109)
فسمع بقدوم السيد الأجَّل المحقق الإمام الهمام السيد ماجد البحرانى الصادقى إلى "شيراز"، فأراد الارتحال إليه لأخذ العلوم منه، فتردد والده فى الرخصة إليه، ثم بنوا الرخصة وعدمها على الاستخارة، فلما فتح القرآن جاءت الآية: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} [التوبة: 122] ... الآية، ثم بعده تفاءل بالديوان المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين فجاءت الأبيات هكذا:
تغرب عن الأوطان فى طلب العلا ... وسافِر ففى الأسفار خمس فوائد
تفرج هم، واكتساب معيشة ... وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
هذه ترجمة المؤلف وفيها ما يشهد للرجل بعلو كعبه بين أصحابه فى العلم، كما أن الأقوال التى قيلت عن عقيدته تكاد تكون مجمعة على أنها عقيدة زائفة فاسدة، وإن كان صاحب روضات الجنَّات يحاول تبرئته من هذه التهمة ويقول إنها فرية بلا مرية.. أما أنا فلم ألاحظ عليه فى تفسيره أثراً للقول بوحدة الوجود، ولا ما يشهد بأنه يرى عدم خلود الكفار فى عذاب النار. ولم أر على تفسيره ذلك اللون الصوفى الفلسفى، ولعل الكتاب من أواخر مؤلفاته وبعد رجوعه عما نُسِب إليه واتُهِم به".
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
الصافى فى تفسير القرآن الكريم، كتاب فسَّر فيه صاحبه القرآن الكريم على وفق مبادئ الإمامية الإثنا عشرية. وهو تفسير وسط يقع فى جزئين كبيرين ومتناول لشرح الآيات القرآنية شرحاً مختصراً جداً ولا يطيل إلا إذا وجد فى الآية ما يمكن أن يأخذ منه شاهداً على مبدأ من مبادئه، أو دليلاً على عقيدة من عقائده، أو دفعاً يدفع به رأيا من آراء مخالفيه. كذلك يطيل عندما يعرض لشرح قصة من قصص القرآن، أو غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم. والكتاب يعتمد أولاً وقبل كل شئ على ما ورد من التفسير عن الأئمة وعلماء أهل البيت، شأنه فى هذا شأن كل كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، الذين يعتقدون أن أهل البيت هم أدرى الناس بأسرار القرآن وأعلمهم بمعانيه، والكتاب فى جملته يدل على مقدار تعصب صاحبه لمذهبه وغلوه فى تشيعه، فهو يجادل ويدافع عن مبادئ حزبه، ويطعن فى صاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرميهم بالنفاق والكفر.. إلى غير ذلك مما ستقف عليه فيما بعد إن شاء الله تعالى. هذا وقد قدَّم ملا محسن الكاشى لتفسيره باثنتى عشرة مقدمة، أرى أنه لا داعى لذكرها جميعاً، ولكن حسبى وحسب القارئ أن أذكر أهم الآراء التى يقول بها المؤلف ويشرحها لنا فى هذه المقدمات، ثم أذكر طريقته التى سار عليها فى تفسيره(2/110)
كما أوضحها هو، ثم أعرض على القارئ بعد ذلك بعض مواقف المؤلف فى تفسيره، ومنها يتبين جلياً قيمة هذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه، ومسلكه الذى سلكه فى شرحه لكتاب الله تعالى بما يتفق مع مذهبه ويتمشى مع عقيدته، وإليك أهم هذه الآراء التى قالها المؤلف:
* آل البيت هم تراجمة القرآن، لأنهم جمعوا علمه كله دون مَن عداهم".
يرى المؤلف أن آل البيت هم تراجمة القرآن دون مَن عداهم، فهم الذين جمعوا علم القرآن كله وأحاطوا بمعانيه وأسراره، ووقفوا على رموزه وإشارته، ذلك لأن القرآن نزل فى بيتهم - بيت النبوة - ورب البيت أدرى بما فيه، وهو فى هذه العقيدة لا يشذ وحده بل هو رأى هذه الطائفة كلها لا فرق بين معتدل ومتطرف.
يرى المؤلف هذا الرأى ويصرِّح به فى مقدمة تفسيره فيقول: " ... وإن العترة تراجمة القرآن فمَن الكشاف عن وجوه عرايس أسرار ودقائقه وهم خوطبوا به؟ ومَن لتبيان مشكلاته ولديه مجمع بيان معضلاته ومنبع بحر حقائقه وهم أبو حسنه؟ ومَن يشرح آيات الله وييسر تفسيرها بالرموز والصراح إلا مَن شرح الله صدره بنوره ومثَّله بالمشكاة والمصباح؟ ومَن عسى يبلغ علمهم بمعالم التنزيل والتأويل، وفى بيوتهم كان ينزل جبريل؟.. وهى البيوت التى أذن الله أن تُرفع، فمنهم يُؤخذ ومنهم يُسمع. إذن أهل البيت بما فى البيت أدرى، والمخاطَبون بما خُوطبوا به أوعى، فأين نذهب عن بابهم وإلى مَن نصير.. "؟.
ثم يمضى صاحبنا بعد ذلك فيؤيد قوله هذا بأحاديث يرويها عن أهل البيت كلها - فيما نعتقد وكما يظهر من أسلوبها - من وضع الشيعة وأخلاقهم، فمن ذلك ما نقله عن الكافى بإسناده عن سليم بن قيس الهلالى قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول.. وساق الحديث إلى أن قال: ما نزلت آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله إلا أقرأنيها وأملاها علىّ فأكتبها بخطى، وعلَّمنى تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله أن يُعلِّمنى فهمها وحفظها، فما نسيتُ آية من كتاب الله، ولا علماً أملاه علىّ فكتبته منذ دعا لى بما دعا، وما ترك شيئاً علَّمه الله من حلال وحرام، ولا أمر ولا نهى كان أو يكون من طاعة أو معصية إلا علَّمنيه. وحفظته فلم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدرى ودعا الله أن يملأ قلبى علماً وفهماً وحكمة ونوراً، فقلت: يا رسول الله - بأبى أنت وأمى - منذ دعوتَ الله لى بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتنى شئ لم أكتبه، أوَ تتخوَّف علىّ النسيان فيما بعد؟. فقال: لستُ أتخوَّفُ عليك نسياناً ولا جهلاً" قال: ورواه العياشى فى تفسيره(2/111)
والصدوق فى إكمال الدين. بتفاوت يسير فى ألفاظه، وزيد فى آخره: "وقد أخبرنى ربِّى أنه قد استجاب لى فيك وفى شركائك الذين يكونون من بعدك، فقلت: يا رسول الله؛ ومَن شركائى من بعدى؟ قال: الذين قرنهم الله بنفسه وبى، فقال: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} .. فقلت: ومَن هم؟ قال: الأوصياء منى إلى أن يردوا علىَّ الحوض، كلهم هادين مهتدين لا يضرهم مَن خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقهم ولا يفارقونه، بهم تُنصر أُمتى وبهم تُمطر، وبهم يُدفع عنهم البلاء، وبهم يُستجاب دعاؤهم. فقلت: يا رسول الله؛ سمِّهم لى.. فقال: ابنى هذا.. ووضع يده على رأس الحسن، ثم قال: ابنى هذا.. ووضع يده على رأس الحسين، ثم ابن له يقال له: علىّ وسيولد فى حياتك فأقرئه منى السلام، ثم تكملة اثنى عشر من ولد محمد. فقلت له: بأبى أنت وأُمى أنت فسمِّهم لى، فسمَّاهم رجلاً رجلاً، فقال: منهم - والله يا أخا بنى هلال - مهدى أُمة محمد، الذى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت
ظلماً وجوراً، والله أنى لأعرف مَن يبايعه بين الركن والمقام وأعرف أسماء آبائهم وقبائلهم".
ومنها ما نقله عن الكافى بإسناده إلى زيد الشحَّام.. قال: دخل قتادة ابن دعامة على أبى جعفر عليه السلام فقال: يا قتادة؛ أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر عليه السلام: بعلم تُفسِّره أم بجهل؟ قال: لا، بل بعلم، فقال له أبو جعفر عليه السلام: فإن كنت تُفسِّره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك. قال قتادة: سل. قال: أخبرنى عن قول الله تعالى فى سبأ: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18] .. فقال قتادة: مَن خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يريد هَذَا البيت كان آمناً حتى يرجع إلى أهله. فقال أبو جعفر عليه السلام: نشدتك بالله - يا قتادة - هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يريد هذا البيت فيُقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويُضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة: اللَّهم نعم. فقال أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا قتادة.. إن كنت إنما فسَّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكتَ وأهلكت، وإن كنتَ أخذته من الرجال فقد هلكتَ وأهلكت، ويحك يا قتادة.. ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يؤم هذا البيت عارفا بحقنا، يهوانا قلبه، كما قال الله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] ، ولم يعين البيت فقيل: إليه.. ونحن واللهِ دعوة إبراهيم عليه السلام التى مَن هوانا قلبه قُبِلت حَجَّته وإلا فلا، يا قتادة فإذا كان ذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة. قال قتادة: لا جَرَم والله لا أُفسرها إلا هكذا. فقال أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا قتادة.. إنما يعرف القرآن من خُوطب به".
* *
*(2/112)
مَن يجوز له أن يُفسِّر القرآن برأيه:
ولكن هل معنى ذلك أن ملا محسن يرى أن فهم معانى القرآن ومعرفة أسراره أصبح أمراً مقصوراً على أهل البيت وحدهم فيكون بذلك قد حجر واسعاً وجحد فضل مَن عداهم من العلماء؟ أو يرى أن القرآن فى فهمه قدر مشترك بين العلماء جميعاً لا فرق بين أهل البيت وغيرهم؟.. الحق أن صاحبنا يرى أن فى معانى القرآن لأرباب الفهم متسعاً بالغاً ومجالاً رحباً، ولكن مَن هم أُولوا الفهم الذين يجوز لهم أن يُعمِلوا عقولهم فى فهم معانى القرآن واستنباط أحكامه؟. نرى المؤلف يحدد لنا أُولى الفهم بحدود، ويقيدهم بقيود لها صلة قوية بمذهبه الشيعى، وذلك حيث يقول: ".. فالصواب أن يقال: إن مَن أُخلص الانقياد لله ولرسوله ولأهل البيت عليهم السلام، وأخذ عمله منهم، وتتبع آثارهم، واطلع على جملة من أسرارهم، بحيث حصل له الرسوخ فى العلم، والطمأنينة فى المعرفة، وانفتح عينا قلبه، وهجم به العلم على حقائق الأُمور، وباشر روح اليقين، واستلان ما استوعره المترفون، وأنس بما استوحش منه الجاهلون، وصحب الدنيا ببدن روحه معلَّقة بالمحل الأعلى، فله أن يستفيد من القرآن بعض غرائبه، ويستنبط منه نبذاً من عجائبه، ليس ذلك من كرم الله بغريب، ولا من جوده بعجيب، فليست السعادة وقفاً على قوم دون آخرين، وقد عَدُّوا عليهم السلام جماعة من أصحابهم المتصفين بهذه الصفات من أنفسهم، كما قالوا: سلمان منا أهل البيت، فمَن هذه صفته فلا يبعد دخوله فى الراسخين فى العلم، العالمين بالتأويل".
* *
* المؤلف يرى أن تفسيره للقرآن بما جاء من أهل البيت هو التفسير المثالى ويطعن فى بقية الصحابة وفى تفسيرهم:
ولما كان المؤلف - رحمه الله - قد جعل جُلّ اعتماده فى تفسيره، بل كله، على ما وصل إليه من التفسير عن آل البيت، لاعتقاده أنهم أدرى به من غيرهم، فإنَّا نراه يرى - مع شئ من التواضع التقليدى - أن تفسيره هو التفسير المثالى الذى يجب أن يُحتذى، كما نراه لا يعترف بتفسير غيره ممن تقدم عصره، بل ويبالغ فى عدم الاعتراف فيطعن على مَن عدا أهل البيت من الصحابة ويرميهم بالنفاق وغيره، ولا يرتضى ما جاء عنهم من تفسير، كأن عقول الصحابة جميعاً قد عقمت وضلَّت إلا عقول أهل البيت ومَن والاهم..
يقرر المؤلف هذا بكل صراحة وجراءة مع حملة ظالمة على صحابة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حيث يقول: ".. هذا يا إخوانى ما سألتمونى من تفسير القرآن، بما وصل إلينا(2/113)
من أئمتنا المعصومين من البيان، أتيتكم به مع قِلَّة البضاعة، وقصور يدى عن هذه الصناعة، على قدر مقدور، فإن المأمور معذور، والميسور لا يُترك بالمعسور، ولا سيما أنى كنت أراه أمراً مهماً، وبدونه أرى الخطب مدلهماً، فإن المفسِّرين وإن أكثروا القول فى معانى القرآن، إلا أنه لم يأت أحد منهم فيه بسلطان، وذلك لأن فى القرآن ناسخاً ومنسوخاً، ومحكماً ومتشابهاً، وخاصاً وعاماً، ومبيناً ومبهماً، ومقطوعاً وموصولاً، وفرائض وأحكاماً، وسُنَناً وآداباً، وحلالاً وحراماً، وعزيمة ورُخصة، وظاهراً وباطناً، وحداً ومطلعاً.. ولا يعلم تمييز ذلك كله إلا مَن نزل فى بيته، وذلك هو النبى صلى الله عليه وسلم وآله وأهل بيته، فكل ما لا يخرج من بيتهم فلا تعويل عليه، ولهذا ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم: "مَن فسَّر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ"، وقد جاءت عن أهل البيت صلوات الله عليهم فى تفسير القرآن وتأويله أخبار كثيرة، إلا أنها خرجت متفرقة عن أسئلة السائلين، وعلى أقدار أفهام المخاطبين، وبموجب إرشادهم إلى مناهج الدين، وبقيت بعد خبايا فى زوايا، خوفاً من الأعداء وتقيَّة من البعداء، ولعله مما برز وظهر لم يصل إلينا الأكثر، لأن رواته كانوا فى محنة من التقيَّة، وشدة من الخطر، وذلك أنه لما جرى فى الصحابة ما جرى، وضَلَّ بهم عامة الورى، أعرض الناس عن الثَقَلين، وتاهوا فى بيداء ضلالاتهم عن النجدين إلا شرذمة من المؤمنين فمكث العامة بذلك سنين، وعمهوا فى غمرتهم حتى حين، فآل الحال إلى أن نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته، فكان الكتاب وأهله فى الناس وليسا فى الناس، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا. وكان العلم مكتوماً، وأهله مظلوماً، لا سبيل لهم بإبرازه إلا بتعميته وإلغازه، ثم خلف من بعدهم خلف غير عارفين ولا ناصيين، لم يدروا ما صنعوا بالقرآن، وعمن أخذوا التفسير والبيان. فعمدوا إلى طائفة يزعمون أنهم من العلماء، فكانوا يُفسِّرون لهم
بالآراء، ويروون تفسيره عمن يحسبونه من كبرائهم، مثل أبى هريرة وأنس وابن عمر ونظرائهم، وكانوا يعدون أمير المؤمنين من جملتهم، ويجعلونه كواحد من الناس، وكان خير مَن يستندون إليه بعده ابن مسعود وابن عباس، ممن ليس على قوله كثير تعويل، ولا له إلى لُبَاب الحق سبيل، وكان هؤلاء الكبراء ربما ينقلونه من تلقاء أنفسهم غير خائفين من مآله، وربما يسندونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، ومن الآخذين عنهم مَن لم يكن له معرفة بحقيقة أحوالهم، لما تقرر عندهم من أن الصحابة كلهم عدول ولم يكن لأحد منهم عن الحق عدول، ولم يعلموا أن أكثرهم كانوا يُبطنون النفاق، ويجترئون على الله ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عزة وشقاق، وهكذا كان حال الناس قرناً بعد قرن، فكان لهم فى كل قرن(2/114)
رؤساء ضلالة، عنهم يأخذون، وإليهم يرجعون، وهم بآرائهم يجيبون، أو إلى كبرائهم يستندون، وربما يروون عن بعض أئمة الحق عليهم السلام فى جملة ما يروون عن رجالهم، ولكن يحسبونه من أمثالهم، فتباً لهم ولأدب الرواية، إذ ما رعوها حق الرعاية، نعوذ بالله من قوم حذفوا محكمات الكتاب، ونسوا الله رب الأرباب، وراموا غير باب الله أبواباً، واتخذوا من دون الله أرباباً، وفيهم أهل بيت نبيهم، وهم أزِّمة الحق، وسُنَّة الصدق، وشجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحى، وعَيْبة العلم، ومنار الهدى، والحجج على أهل الدنيا، خزائن أسرار الوحى والتنزيل، ومعادن جواهر العلم والتأويل، والأمناء على الحقائق، والخلفاء على الخلائق. أُولوا الأمر الذين أُمروا بطاعتهم، وأهل الذكر الذين أُمروا بمسألتهم، وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطَهَّرهم تطهيراً، والراسخون فى العلم الذين عندهم القرآن كله تأويلاً وتفسيراً، ومع ذلك كله يحسبون أنهم مهتدون، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولما أصبح الأمر كذلك وبقى العلم سخرياً هنالك، صار الناس كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب بإمامهم، فضربوا بعضه ببعض لترويج مرامهم، وحملوه على أهوائهم فى تفاسيرهم وكلامهم، والتفاسير التى صنَّفها العامة من هذا القبيل، فكيف يصح عليها التعويل، وكذلك التى صنَّفها متأخرو أصحابنا
فإنها أيضاً مستندة إلى رؤساء العامة وشذ ما تُقِل فيه حديث عن أهل العصمة عليهم السلام، وذلك لأنهم إنما نسجوا على منوالهم، واقتصروا فى الأكثر على أقوالهم، مع أن أكثر ما تكلم به هؤلاء وهؤلاء - فإنما تكلموا فى النحو، والصرف، والاشتقاق، واللُّغة، والقراءة، وأمثالها - مما يدور على القشور دون اللُّباب - فأين هم والمقصود من الكتاب؟ وإنما ورد على طائفة منهم ما قويت فيه منته، وترك ما لا معرفة له به مما قصرت عنه همته، ومنهم مَن أدخل فى التفسير ما لا يليق به، فبسط الكلام فى فروع الفقه وأُصوله، وطوَّل القول فى اختلاف الفقهاء. أو صرف همته فيه إلى المسائل الكلامية وذكر ما فيها من الآراء، وأما ما وصل إلينا مما ألَّفه قدماؤنا من أهل الحديث فغير تام، لأنه إما غير منته إلى آخر القرآن، وإما غير محيط بجميع الآيات المفتقرة إلى البيان، مع أن منه ما لم يثبت صحته عن المعصوم، لضعف رواته أو جهالة حالهم، ونكارة بعض مقالهم".. إلى أن قال: "وبالحرى أن يسمى هذا التفسير بالصافى، لصفائه عن كدروات آراء العامة والممل والمحير والمتنافى".
* *
* جُلّ القرآن نازل فى شأن آل البيت وأوليائهم وأعدائهم:
ويعتقد صاحبنا أن معظم القرآن إنما نزل فى شأن آل البيت وأوليائهم وأعدائهم،(2/115)
فما كان من آية مدح فهى فى آل البيت وأشياعهم، وما كان من آية ذم أو وعيد أو تهديد فهى فى مخالفيهم، ثم يقوِّى رأيه هذا ويستدل له بما يرويه عن علماء أهل البيت من روايات واردة فى هذا المعنى، فمن ذلك ما نقله عن الكافى وتفسير العياشى بالإسناد إلى أبى جعفر عليه السلام قال: "نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع فى أعدائنا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام"، وزاد العياشى: "ولنا كرائم القرآن".. ثم مضى بعد ذكره لهذه الرواية وأمثالها فقال: "وقد وردت أخبار جَمَّة عن أهل البيت عليهم السلام، فى تأويل كثير من آيات القرآن بهم وبأوليائهم وبأعدائهم، حتى إن جماعة من أصحابنا صنَّفوا كتباً فى تأويل القرآن على هذا النحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهم السلام فى تأويل آية آية، إما بهم أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن. وقد رأيت منها كتاباً يقرب من عشرين ألف بيت.. ثم قال: وذلك مثل لما رواه الكافى عن أبى جعفر عليه السلام فى قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 193-195] .. قال: هى الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام. وفى تفسير العياشى عن محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: يا أبا محمد؛ إذا سمعتَ الله ذكر قوماً من هذه الأمة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى فهم عدونا. وفيه عن عمير بن حنظلة عن أبى عبد الله عليه السلام: سأله عن قوله تعالى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] .. قال: فلما رآنى أتتبع هذا وأشباهه من الكتاب قال: حسبك.. كل شئ فى الكتاب من فاتحته إلى خاتمته مثل هذا فهو فى الأئمة عُنوا به".
* *
* رأى المصنف فى تحريف القرآن وتبديله:
يدين ملا محسن بأنَّ علياً رضى الله عنه هو أول مَن جمع القرآن، وأن القرآن الذى جمعه هو القرآن الكامل الذى لم يتطرق إليه تحريف ولا تبديل، ويروى لنا أحاديث عن آل البيت كمستند له فى رأيه هذا، فمن ذلك: ما نقله عن القُمَّى فى تفسيره بإسناده عن أبى عبد الله عليه السلام أنه قال: "إن النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال لعلىّ عليه السلام: "يا علىّ؛ إن القرآن خلف فراشى فى الصحف والحرير والقراطيس، فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة"، فانطلق عليه السلام فجمعه فى صوب أصفر ثم ختم عليه فى بيته وقال: لا أرتدى حتى جمعه. قال: كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه".
ومنها ما رواه القُمِّى بإسناده عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبى عبد الله -(2/116)
وأنا أستمع - حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله: كُفّ عن هذه القراءة. اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام اقرأ كتاب الله تعالى على حدة، وأخرج المصحف الذى كتبه علىّ عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جمعته بين اللوحين. فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما واللهِ ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنما كان علىّ أن أخبركم حين جمعته لقراءته.
ومن ذلك ما روى عن أبى ذر الغفارى رضى الله عنه: أنه لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع علىّ عليه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم، لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم. فلما فتحه أبو بكر خرج فى أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر وقال: يا علىّ.. اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه علىّ عليه السلام وانصرف، ثم حضر زيد بن ثابت - وكان قارئاً للقرآن - فقال له عمر: إن علياً جاءنا بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد أردنا أن تؤلف لنا القرآن وتُسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علىّ القرآن الذى ألَّفه أليس قد بطل كل ما عملتم؟. ثم قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: ما الحيلة دون أن نقتله ونستريح منه، فدبَّر فى قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك.. فلما استخلف عمر سأل علياً عليه السلام أن يدفع إليه القرآن فيحرقوه فيما بينهم فقال: يا أبا الحسن؛ إن كنتَ جئت به إلى أبى بكر فأت به إلينا حتى نجمع عليه، فقال علىّ عليه السلام: هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئتُ به لأبى بكر لتقوم به الحُجَّة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة: إنَّا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: ما جئتنا به. إن القرآن الذى عندى لا يمسه إلا المطهَّرون والأوصياء من ولدى، فقال عمر: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ قال علىّ عليه السلام: نعم، إذا قام القائم من ولدى فيُظهره ويحمل الناس عليه فتجرى السُّنَّة به".
ولكنَّا نجد صاحبنا بعد ما ساق هذه الروايات وكثيراً غيرها يقف منها موقف المستشكل فيقول: "ويرد على هذا كله إشكال.. وهو أنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شئ من القرآن، إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن يكون محرَّفاً ومغيَّراً، أو يكون على خلاف ما أنزل الله، فلم يبق لنا فى القرآن حُجَّة أصلاً، فتنفى فائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك، وأيضاً قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 41-42] ، وقال:(2/117)
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .. فكيف يتطرق إليه التحريف والتغيير؟ وأيضاً قد استفاض عن النبى والأئمة صلوات الله عليهم حديث عرض الخبر المروى على كتاب الله ليُعلم صحته بموافقته له، وفساده بمخالفته، فإذا كان القرآن الذى بأيدينا محرَّفاً فما فائدة العرض؟ مع أن خبر التحريف مخالف لكتاب الله مكذِّب له، فيجب رده والحكم بفساده أو تأويله".
وهنا يجيب ملا محسن على إشكاله هذا بجوابين:
أولهما: أن هذه الأخبار إن صحَّت فلعل التغيير إنما وقع فيما لا يخل بالمقصود كثير إخلال، كحذف اسم علىّ وآل محمد، وحذف أسماء المنافقين، فإن انتفاء التعبير باق لعموم اللَّفظ.
وثانيهما: أن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى، أى حرَّفوه وغيَّروه فى تفسيره وتأويله، بأن حملوه على خلاف ما يُراد منه".
ثم ذكر بعد هذا أقوال مَن تقدَّمه من شيوخه وعلماء مذهبه وهم ما بين مجيز للتحريف والنقصان ومانع لذلك، ولكلِّ أدلته وحُجَّته، ولا نطيل بذكرها ومَن أرادها فليرجع إليها فى المقدمة السادسة (ص 14، 15) .
* *
* طريقة المؤلف فى تفسيره:
بيَّن المؤلف فى المقدمة الثانية عشرة من مقدمات تفسيره طريقته واصطلاحاته التى جرى عليها فى كتابه فقال: "كل ما يحتاج من الآيات إلى بيان وتفسير لفهم المقصود من معانيه. أو إلى تأويل لمكان تشابه فيه، أو إلى معرفة سبب نزوله المتوقف عليه فهمه وتعاطيه، أو إلى تعرف نسخ أو تخصيص أو صفة أُخرى فيه، وبالجملة ما يزيد على شرح اللفظ والمفهوم مما يفتقر إلى السماع عن المعصوم، فإن وجدنا شاهداً من محكمات القرآن يدل عليه أتينا به، فإن القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً، وقد أُمِرنا من جهة أئمة الحق عليهم السلام أن نرد متشابهات القرآن إلى محكماته، وإلا فإن ظفرنا فيه بحديث معتبر عن أهل البيت عليهم السلام فى الكتب المعتبرة من طرق أصحابنا رضوان الله عليهم أوردناه، وإلا أوردنا ما روينا عنهم عليهم السلام من طرق العامة.. نظائره فى الأحكام ما روى عن الصادق: إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما يروى عنا، فانظروا إلى ما رووه عن علىّ عليه السلام فاعملوا به (رواه الشيخ الطوسى فى العدة) .(2/118)
وما لم نظفر فيه بحديث عنهم عليهم السلام أوردنا ما وصل إلينا من غيرهم من علماء التفسير إذا وافق القرآن وفحواه، وأشبه حديثهم فى معناه.. فإن لم نعتمد عليه من جهة الاستناد، اعتمدنا عليه من جهة الموافقة والشبه والسداد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتب الله فخذوه"، وقال الصادق: "ما جاءك فى رواية من راوٍ فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك فى رواية من راوٍ فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به"، وقال الكاظم: "إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وعلى أحاديثنا. فإن أشبههما فهو حق، وإن لم يشبهها فهو باطل"، وما ورد فيه أخبار كثيرة فإن لم يكن فيها كثير اختلاف اقتصرنا منها على ما اشتمل على مجامعها، وتركنا سايرها مما فى معناه روماً للاختصار، وصوناً عن الإكثار، وربما أشرنا إلى تعددها وتكثرها إذا أهمنا الاعتماد.
وإن كانت مختلفات نقلنا أصحها وأحسنها وأعمها فائدة، ثم أشرنا إلى موضع الاختلاف ما استطعنا. وما لا يحتاج إلى شرح اللَّفظ والمفهوم، والنكات المتعلقة لعلوم الرسوم، مما لا يفتقر إلى السماع من المعصوم، أوردنا فيه ما ذكره المفسِّرون الظاهريون، مَن كان تفسيره أحسن، وبيانه أوجز وأتقن، كائناً مَن كان".
ثم ذكر أنه اقتبس من تفسير الحسن العسكرى وغيره، وذكر اصطلاحاته فى العزو إلى الكتب التى استقى منها، وفى نسبة الأقوال إلى قائليها ولا نطيل بذكرها.
هذه هى أهم الآراء التى يقول بها ملا محسن، والتى استخلصناها من مقدماته التى قدَّم بها تفسيره. وهذه هى طريقته التى سار عليها فى كتابه الذى نحن بصدده. والكتاب - كما أشرنا آنفاً - مذهبى إلى حد التطرف والغلو، فهو لا يكاد يمر بآية من القرآن إلا ويحاول صاحبه أن يأخذ منها شاهداً لمذهبه أو دفعاً لمذهب مخالفيه! ... ولقد قرأت فى هذا الكتاب، فلمست فيه روح التحيز المزرى، والتعصب الممقوت. ولأجل أن يكون القارئ على بيِّنة من الأمر أسوق إليه نماذج من نواح شتَّى وفى موضوعات مختلفة ليلمس كما لمست مقدار هذا التعصب الذى يريد صاحبه من ورائه أن يحجب نور الحق ويطمس معالمه.
* *
* القرآن وأهل البيت:
فمثلاً، نجد كثيراً من آيات القرآن لها معان خاصة، ولا صلة لها بأهل البيت، ولا بما لهم من مناقب وشمائل، ولكنَّا نجد صاحبنا يتأثر بمذهبه الشيعى، فيحاول أن يلوى(2/119)
هذه الآيات إلى معان لا صلة لها باللَّفظ.. معان تحمل فى طياتها طابع التعاصب المذهبى بصورة مكشوفة مفضوحة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [34] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ} ... الآية، يقول ما نصه: "وذلك لما كان فى صلبه من أنوار نبينا وأهل بيته المعصومين، وكانوا قد فُضِّلوا على الملائكة باحتمالهم الأذى فى جنب الله، فكان السجود لهم تعظيماً وإكراماً، ولله سبحانه عبودية، ولآدم طاعة. قال علىّ بن الحسين: حدَّثنى أبى، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عباد الله؛ آدم لما رأى النور ساطعاً من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره، رأى النور ولم يتبين الأشباح، فقال: يا رب؛ ما هذه الأنوار؟ قال الله عَزَّ وجَلَّ: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشى إلى ظهرك، ولذلك أمرتُ الملائكة بالسجود لك إذ كنتَ وعاءً لتلك الأشباح، فقال آدم: يا رب؛ لو بينتها لى؟ فقال الله عَزَّ وجَلَّ: انظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم عليه السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم إلى ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التى فى ظهره، كما ينطبع وجه الإنسان فى المرأة الصافية، فرأى أشباحنا فقال: ما هذه الأشباح يا رب؟ قال الله: يا آدم؛ هذه أشباح أفضل خلائقى وبرياتى، هذا محمد، وأنا الحميد المحمود فى فعالى، شققتُ له أسماً من اسمى. وهذا علىّ، وأنا العالى، شققتُ له اسماً من اسمى. وهذه فاطمة، وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائى من رحمتى يوم فصل قضائى، وفاطم أوليائى عما يعيرهم ويشينهم فشققتُ لها اسماً من اسمى، وهذا الحسن، وهذا الحسين، وأنا المُحَسِّن المُجَمِّل، شققتُ اسميهما من اسمى. هؤلاء خيار خليقتى، وكرام بريتى، بهم آخذ، وبهم أعطى، وبهم أُعاقب، وبهم أُثيب، فتوسل بهم إلىّ يا آدم، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إلىّ شفعاءك، فإنى آليت على نفسى قسَماً حقاً لا أخيب بهم آملاً، ولا أرد بهم سائلاً، فلذلك حين زلَّت به الخطيئة دعا الله عَزَّ وجَلَّ بهم، فتاب عليه وغفر له".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [1-3] من سورة البلد: {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} .. يقول ما نصه: "فى المجمع عن الصادق: يعنى آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم.. ".
فأنت ترى من كل هذا أن المؤلف يجِّد فى إخضاع آيات القرآن لمذهبه، وتنزيلها على وفق هواه وعقيدته، وهذا خروج بكتاب الله عن معانيه الظاهرة المرادة منه!!
* *
*(2/120)
طعن المؤلف على الصحابة:
كذلك نجد ملا محسن فى تفسيره هذا، يطعن على أبى بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرميهم بما لا يليق بمؤمن فضلاً عن صحابى جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذل فى سبيل نُصرْته دمه وماله، كما يطعن فى بنى أُمية ويرميهم بكل نقيصة، وهو فى حملته هذه مدفوع بدافع الخصومة المذهبية والنزعة الشيعية.
* طعنه على عثمان رضى الله عنه:
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [84، 85] من سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هاؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .. نجده يفسر الآية تفسيراً مختصراً مقبولاً، ثم يروى عن القُمِّى: "أنها نزلت فى أبى ذر - رحمة الله عليه - وفيما فعل به عثمان بن عفان، وكان سبب ذلك: أنه لما أمر عثمان بنفى أبى ذر - رحمة الله عليه - إلى الرِبْذة، دخل عليه أبو ذر وكان عليلاً وهو متكئ على عصاه، وبين يدى عثمان مائة ألف درهم أتته من بعض النواحى، وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطعمون أن يقسمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان: ما هذا المال؟ فقال: حُمِل إلينا من بعض الأعمال مائة ألف درهم أريد أن أضم إليها مثلها ثم أرى فيها رأيى.. قال أبو ذر: يا عثمان؛ أيما أكثر؟ مائة ألف درهم أم أربعة دنانير؟ قال عثمان: بل مائة ألف درهم، فقال: أما تذكر إذ أنا وأنت دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم عِشاءً فوجدناه كئيباً حزيناً، فسلَّمنا عليه فلم يرد علينا السلام، فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكاً مستبشراً، فقلت له: بأبى أنت وأُمى، دخلنا عليك البارحة فرأيناك كئيباً حزيناً، وعدنا إليك اليوم فرأيناك ضاحكاً مستبشراً، فقال: "نعم.. قد بقى عندى من فئ المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسمتها، وخِفتُ أن يدركنى الموت وهى عندى، وقد قسمتها اليوم فاسترحت". فنظر عثمان إلى كعب الأحبار فقال له: يا أبا إسحاق؛ ما تقول فى رجل أدَّى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيها بعد ذلك شئ؟ فقال: لا، ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من
فضة ما وجب عليه شئ، فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، فقال يابن اليهودية المشركة، ما أنت والنظر فى أحكام المسلمين؟ قول الله عز وجَلَّ أصدق من قولك حيث قال: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ... } ... إلى(2/121)
قوله: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] .. قال عثمان: يا أبا ذر؛ إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، ولولا صحبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلتك، فقال: كذبتَ يا عثمان؛ ويلك، أخبرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يفتنونك يا أبا ذر ولا يقتلونك"، أما عقلى فقد بقى منه ما أذكرنى حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فيك وفى قومك، قال: وما سمعتَ من رسول الله فىّ وفى قومى؟ قال: سمعته يقول - وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ آل أبى العاص ثلاثون رجلاً صيَّروا مال الله دولاً، وكتاب الله دغلاً، وعباد الله خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً". قال عثمان: يا معشر أصحاب محمد؛ هل سمع أحد منكم هذا الحديث من رسول الله؟ قالوا: لا ما سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عثمان: ادعوا علياً.. فجاء أمير المؤمنين فقال له عثمان: يا أبا الحسن؛ اسمع ما يقول الشيخ الكذَّاب، فقال أمير المؤمنين: يا عثمان؛ لا تقل كذاباً، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء على ذى لهجة أصدق من أبى ذر". قال أصحاب رسول الله. صدق علىّ، سمعنا هذا من رسول الله، فعند ذلك بكى أبو ذر، وقال: ويلكم، كلكم قد مدَّ عنقه إلى هذا المال، ظننتم أنى أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نظر إليهم فقال: مَن خيركم؟ فقالوا: أنت تقول إنك خيرنا، قال: نعم.. خلفت حبيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره، وأنتم قد أحدثتم أحداثاً كثيرة، والله سائلكم عن ذلك ولا يسألنى، فقال عثمان: يا أبا ذر؛ أسألك بحق رسول الله ألا ما أخبرتنى عما أنا سائلك عنه؟ فقال أبو ذر: واللهِ لو لم تسألنى بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخبرتك، فقال: أى البلاد أحب إليك أن تكون فيها؟ فقال: مكة
حرم الله وحرم رسوله، أعبد الله فيها حتى يأتينى الموت، فقال: لا، ولا كرامة لك. قال: المدينة حرم رسول الله، فقال: لا، ولا كرامة لك، قال: فسكت أبو ذر. فقال: وأى البلاد أبغض إليك أن تكون بها؟ قال: الرِبْذة التى كنتُ بها على غير دين الإسلام، فقال عثمان: سر إليها، فقال أبو ذر: قد سألتنى فصدقتك، وأنا أسألك فاصدقنى، قال: نعم، قال: أخبرنى، لو أنك بعثتنى فيمن بعثت من أصحابك إلى المشركين فأسرونى وقالوا لا نفديه إلا بثلث ما تملك؟.. قال: كنت أفديك، قال: فإن قالوا: لا نفديه إلا بكل ما تملك، قال: كنت أفديك، فقال أبو ذر: الله أكبر.. قال لى حبيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "يا أبا ذر؛ كيف أنت إذا قيل لك أى البلاد أحب إليك أن تكون فيها؟ فتقول: مكة حرم الله وحرم رسوله، أعبد الله فيها حتى يأتينى الموت، فيقال: لا، ولا كرامة لك، فتقول: المدينة حرم رسول الله، فيقال: لا، ولا كرامة لك، ثم يقال لك: فأى البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ فتقول: الرِبْذة التى كنت بها على غير دين الإسلام، فيقال لك: سر إليها"، فقلت: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال: "والذى نفسى بيده إنه لكائن"، فقلت: يا رسول الله؛ أفلا أضع سيفى على(2/122)
عاتقى فأضرب به قدماً قدماً؟ قال: "لا.. اسمع واسكت ولو لعبد حبشى، وقد أنزل الله فيك وفى عثمان - خصمك - آية، فقلت: وما هى يا رسول الله؟ فقال: قول الله ... .. وتلا الآية".
* *
* طعنه على أبى بكر:
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [40] من سورة التوبة: {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} ... الآية، نجده لا يعترف بهذه المنقبة لأبى بكر، رضى الله عنه، بل ويحاول بكل جهوده أن يأخذ منها مغمزاً على أبى بكر، وذلك حيث يقول ما نصه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} وهو أبو بكر، {لاَ تَحْزَنْ} لا تخف، {إِنَّ الله مَعَنَا} بالعصمة والمعونة.. فى الكافى عن الباقر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول لأبى بكر فى الغار: اسكن فإن الله معنا، وقد أخذته الرعدة وهو لا يسكن، فلما رأى رسول الله حاله قال له: تريد أن أريك أصحابى من الأنصار فى مجالسهم يتحدثون؟ وأريك جعفر وأصحابه فى البحر يغوصون؟ قال: نعم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدثون، وإلى جعفر وأصحابه فى البحر يغوصون، فأضمر تلك الساعة أنه ساحر، {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} أمنته التى تسكن إليها القلوب {عَلَيْهِ} .. فى الكافى عن الرضا: أنه قرأها: "على رسوله" قيل له: هكذا؟ قال: هكذا نقرؤها، وهكذا تنزيلها. والعياشى عنه: إنهم يحتجون علينا بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار} وما لهم فى ذلك من حُجَّة، فوالله لقد قال الله: "فأنزل الله سكينته على رسوله" وما ذكره فيها بخبر، قَيل: هكذا تقرأونها؟ قال: هكذا قراءتها".
* *
* طعنه على أبى بكر وعمر وعائشة وحفصة:
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة التحريم: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ... } ... الآيات إلى قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هاذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} [التحريم: 3] .. نراه ينقل عن القُمِّى فى سبب نزول هذه الآية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بعض بيوت نسائه، وكانت مارية القبطية تكون معه تخدمه، وكانت ذات يوم فى بيت حفصة، فذهبت حفصة فى حاجة لها، فتناول رسوله الله مارية، فعلمت حفصة بذلك فغضبت، وأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ فى يومى؟ وفى دارى؟ وعلى فراشى؟ فاستحى رسول الله منها فقال: كُفِّى، فقد حرَّمتُ مارية على نفسى، ولا أطؤها بعد هذا أبداً، وأنا أفضى إليكِ سراً إن أخبرتِ به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقالت: نعم، ما هو؟ فقال: إن أبا(2/123)
بكر يلى الخلافة بعدى، ثم بعده أبوك، فقالت: مَن أنبأك هذا؟ فقال: نبأنى العليم الخبير، فأخبرت حفصةُ به عائشةَ من يومها ذلك، وأخبرت عائشة أبا بكر فجاء أبا بكر إلى عمر فقال له: إن عائشة أخبرتنى عن حفصة بشئ ولا أثق بقولها فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال لها: ما هذا الذى أخبرتْ عنكِ عائشة، فأنكرت ذلك وقالت: ما قلتُ لها من ذلك شيئاًَ. فقال لها عمر: إن هذا حق فأخبرينا حتى نتقدم فيه، فقالت: نعم.. قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا أربعة على أن يسمُّوا رسول الله، فنزل جبريل على رسول الله بهذه السورة قال: {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} يعنى أظهره على ما أخبرت به وما هَمُّوا به من قتله {عَرَّفَ بَعْضَهُ} : أخبرها وقال: لِمَ أخبرتِ بما أخبرتك {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} .. قال: لم يخبرهم بما يعلم مما هَمُّوا به من قتله".
* *
* صرفه لآيات العتاب عن ظاهرها:
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة عبس: {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى} ... الآيات إلى آخر القصة، نجده يصرف الآيات عن ظاهرها المتعارف بين المفسِّرين جميعاً، ويجعل العتاب موجهاً إلى عثمان رضى الله عنه، أو إلى رجل آخر من بنى أُمية. والذى حمله على ذلك هو ما يراه من أن مثل هذا العتاب لا يليق أن يكون موجهاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد من الأئمة المعصومين، كما أن سبب العتاب لا يليق أن يصدر منهم، أما توجه العتاب إلى عثمان وصدور سببه منه فهذا أمر جائز وواقع فى نظره، لأن عثمان ليس له من العصمة ما للأئمة، فلهذا تراه يروى عن القُمِّى: "أنها نزلت فى عثمان وابن أُم مكتوم"، وكان ابن أُم مكتوم مؤذناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أعمى، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه وعثمان عنده، فقدَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان فعبس عثمان وجهه وتولَّى عنه، فأنزل الله: {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى} .. ونقل عن مجمع البيان أنها نزلت فى رجل من بنى أُمية كان عند النبى فجاء ابن أُم مكتوم، فلما رآه تقذَّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله ذلك وأنكره عليه.. ثم قال: أقول: "وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات فى النبى صلى الله عليه وسلم دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه، وكذا ما ذكره بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، ويمكن أن يكون من مختلقات أهل النفاق خذلهم الله".
* *
* دفاع المؤلف عن أُصول مذهبه:
كذلك نجد المؤلف ينظر إلى القرآن من خلال عقيدته، ونراه ينتصر لمذهبه(2/124)
ويتعصب له، ويؤيد أُصوله بكل ما يستطيع من الأدلة، ويدفع الشبه عنه، ويرد على الخصوم بما يستطيع من أوجه الرد، فلهذا نجده إذا مرَّ بآية من آيات القرآن التى يستطيع أن يستند إليها ويعتمد عليها فى نظره، أخذ فى تأويلها على وفق مذهبه وهواه، وإن كان فى ذلك خروج عن ظاهر النظم القرآنى.
* ولاية على:
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. نراه يستند إلى هذه الآية استناداً قوياً فى أن علياً رضى الله عنه هو وصى النبى صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده، فيقول ما نصه: "فى الكافى عن الصادق فى تفسير هذه الآية "أولى بكم": أى أحق بكم وبأموركم من أنفسكم وأموالكم الله ورسوله والذين آمنوا - يعنى علياً وأولاده الأئمة إلى يوم القيامة - ثم وصفهم الله فقال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. وكان أمير المؤمنين فى صلاة الظهر - وقد صلَّى ركعتين - وهو راكع، عليه حُلَّة قيمتها ألف دينار، وكان النبى أعطاه إياها، وكان النجاشى أهداها له، فجاء سائل فقال: السلام عليك يا ولى الله وأولى المؤمنين من أنفسهم.. تصدق على مسكين، فطرح الحُلَّة إليه، وأومأ بيده إليه أن احملها، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ فيه هذه الآية، وصيَّر نعمة أولاده بنعمته، فكل مَن بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدَّقون وهم راكعون. والسائل الذى سأل أمير المؤمنين من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة.
وعنه عن أبيه عن جده فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} .. قال: لما نزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} ... الآية، اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد المدينة فقال بعضهم: إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذلٌ حين يُسلَّط علينا علىّ ابن أبى طالب، فقالوا: قد علمنا أن محمداً صادق فيما يقول، ولكنا نتولاه ولا نطيع علياً فيما أمرنا، قال: فنزلت هذه الآية: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} يعنى ولاية على، {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} بالولاية.
وعنه أنه سُئل: الأوصياء طاعتهم مفروضة؟. قال: نعم، هم الذين قال الله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] .. وهم الذين قال الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} ... الآية، وروى المؤلف غير ذلك من الروايات، وكلها يدور حول هذا الشأن، ثم ادّعى إجماع الأُمة على أنه لم يُؤْتِ الزكاة يومئذ أحد منهم وهو راكع غير رجل واحد هو علىّ.. ثم علَّل عدم ذكره باسمه فى الكتاب بأنه لو ذُكِر باسمه فى الكتاب لأُسقط مع ما أُسقط.. ثم وفَّق بين الروايات(2/125)
القائلة بأنه تصدَّق بحُلَّته، وبين الروايات القائلة بأنه تصدَّق بخاتمه فقال: "لعله تصدَّق مرة فى ركوعه بالحُلَّة، ومرة بالخاتم.. والآية نزلت بعد الثانية، وقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ} إشعار بذلك، لتضمنه التكرار والتجديد، كما أن فيه إشعاراً بفعل أولاده أيضاً".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [67] من سورة المائدة: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ... الآية، نراه يحمل التبليغ المأمور به عليه السلام على تبليغه للناس إمامة علىّ وولايته، ويروى هنا قصة طويلة جداً، ويروى خطبة النبى لأصحابه عند "غدير خُمْ"، وهى خطبة طويلة كذلك، وفى هذه الخطبة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً سبب نزول الآية: "وأنا مبين لكم سبب هذه الآية: إن جبريل هبط إلىَّ مراراً ثلاثة، يأمرنى عن السلام ربى وهو السلام: أن أقوم فى هذا المشهد وأُعلم كل أبيض وأسود أن علىَّ بن أبى طالب أخى، ووصيى وحليفتى، والإمام من بعدى، الذى محله منى محل هارون من موسى، إلا أنه لا نبى بعدى، وهو وليكم بعد الله ورسوله، وقد أنزل الله علىّ بذلك آية من كتابه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، وعلىّ بن أبى طالب أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يريد الله عَزَّ وجَلَّ فى كل حال، وسألتُ جبريل أن يستغفر لى عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس، لعلمى بِقِلَّة المتقين، وكثرة المنافقين، وإدغال الآثمين، وحيل المستهزئين بالإسلام، الذين وصفهم الله فى كتابه بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، ويحسبونه هَيِّناً وهو عند الله عظيم، وكثرة أذاهم لى غيره مرة حتى سمونى أُذُناً، وزعموا أنى كذلك لكثرة ملازمته إياى وإقبالى عليه، حتى أنزل الله عَزَّ وجَلَّ فى ذلك: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} [التوبة: 61] ... الآية، ولو شئتُ أن أسميهم بأسمائهم لسميت، وأن أُومئ إليهم لأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لدللت، ولكنى - والله - فى أُمورهم قد تكرمت، وكل ذلك لا يرضى الله منى إلا أن أُبلِّغ ما أنزل إلىّ.. ثم تلا: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} فى علىّ، {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} .. إلخ". * *
* أُولوا الأمر الذين تجب طاعتهم:
ومثلاً عند قوله تعالى فى الآية [59] من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} .. الآية، نراه يحمل هذه الآية على وفق مذهبه، فيقصر أُولى الأمر على الأئمة من أهل البيت خاصة، أما مَن عداهم فليسوا أُولى الأمر، وليس يجب على أحد من يقوم بطاعتهم، ولهذا يقول عند تفسيره لهذه(2/126)
الآية ما نصه: "فى الكافى والعياشى عن الباقر: إيانا عنى خاصة.. أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا. وفى الكافى عن الصادق: أنه سُئِل عن الأوصياء، طاعتهم مفترضة؟ قال: نعم، هم الذين قال الله: {أَطِيعُواْ الله} ... .. الآية، وقال الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} ... الآية. وفيه والعياشى عنه فى هذه الآية قال: نزلت فى علىّ بن أبى طالب والحسن والحسين، فقال: إن الناس يقولون: فما له لم يُسَمِ علياً وأهل بيته فى كتابه؟ فقال: فقولوا لهم: نزلت الصلاة ولم يُسَمِ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسَّر ذلك لهم، ونزلت: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} ، ونزلت فى علىّ والحسن والحسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى علىّ: "مَن كنت مولاه فهذا علىّ مولاه"، وقال: "أُوصيكم بكتاب الله وأهل بيتى، فإنى سألت الله أن لا يُفرِّق بينهما حتى يوردهما على الحوض، فأعطانى ذلك". وقال: "لا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم"، وقال: "إنهم لم يخرجوكم من باب هدى ولم يدخلوكم فى باب ضلالة"، فلو سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين مَنْ أهل بيته لادعاها آل فلان وآل فلان، ولكن الله أنزل فى كتابه تصديقاً لنبيه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ، فكان علىّ والحسن والحسين وفاطمة، فأدخلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الكساء فى بيت أُم سلمة ثم قال: "اللَّهم إن لكل نبى أهلاً وثَقَلاً، وهؤلاء أهل بيتى وثَقَلى"، فقالت أُم سلمة: ألستُ من أهلك؟ فقال: "إنك إلى خير، ولكن هؤلاء أهل بيتى وثقلى" ... (الحديث) ، وزاد العياشى: آل عباس، وآل عقيل، قبل قوله: وآل فلان.
عن الصادق أنه سئُل عما بنيت عليه دعائم الإسلام التى إذا أُخِذَ بها زكى العمل ولم يضر جهل ما جهل بعده، فقال: "شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وحق فى الأموال: الزكاة، والولاية التى أمر الله بها: ولاية آل محمد، فإن رسول الله قال: "مَن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية".. قال الله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} ، فكان علىّ، ثم صار من بعده الحسن، ثم بعده الحسين، ثم من بعده علىّ بن الحسين، ثم من بعده محمد بن علىّ، ثم هكذا يكون الأمر، إن الأرض لا تصلح إلا بإمام" ... (الحديث) .
وفى المعانى عن سليم بن قيس الهلالى عن أمير المؤمنين أنه سأله: ما أدنى ما يكون به الرجل ضالاً، فقال: أن لا يعرف مَن أمر الله بطاعته وفرض ولايته، وجعله حُجَّته فى أرضه، وشاهده على خلقه.. قال: فمن هم يا أمير المؤمنين؟ قال: الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} . قال: فقبلَّتُ رأسه وقلت: أوضحتَ لى، وفرَّجتَ عنى، وأذهبتَ كل شئ كان فى قلبى.(2/127)
وفى الإكمال عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله؛ عرفنا الله ورسوله، فمَن أُولوا الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال: "هم خلفائى يا جابر وأئمة المسلمين من بعدى، أولهم علىّ بن أبى طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علىّ بن الحسين، ثم محمد بن علىّ المعروف فى التوراة بالباقر - وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منى السلام - ثم الصادق جعفر بن محمد بن موسى بن جعفر، ثم علىّ بن موسى، ثم محمد بن علىّ، ثم علىّ بن محمد، ثم الحسن ابن علىّ، ثم سميى محمد، وكنيته "حُجَّة الله فى أرضه، وبقيته فى عباده"، ابن الحسن بن علىّ، ذاك الذى يُفتح على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذى يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا مَن امتحن الله قلبه للإيمان". قال جابر: فقلت: يا رسول الله؛ فهل لشيعته الانتفاع به فى غيبته، فقال: "إى، والذى بعثنى بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره، وينتفعون بولايته، كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب. يا جابر؛ هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله".
والأخبار فى هذا المعنى من الكتب المتداولة المعتبرة لا تحصى كثرة. وفى التوحيد عن أمير المؤمنين: اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسول، وأُولى الأمر بالمعروف والعدل والإحسان.
وفى العلل عنه: لا طاعة لمن عصى الله، وإنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر، إنما أمر الله بطاعة الرسول لأنه معصوم مُطهَّر لا يأمر بمعصية، وإنما أمر بطاعة أُولى الأمر لأنهم معصومون مُطهَّرون لا يأمرون بمعصية".
* *
الإمام يوصى لمن بعده:
ولما كان مذهب المؤلف أن كل إمام يوصى بالإمامة لمن بعده، وليس ذلك لأحد من المسلمين غيره، فإنَّا نجده يتأثر بهذه العقيدة ويُفسِّر قوله تعالى فى الآية [58] من سورة النساء: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} ... الآية على وفق هذه العقيدة فيقول: "فى الكافى وغيره فى عدة روايات أن الخطاب إلى الأئمة.. أمر كُلاً منهم أن يؤدى إلى الإمام الذى بعده ويوصى إليه، ثم هى جارية فى سائر الأمانات.. وفيه وفى العياشى عن الباقر: إيانا عنى، أن يؤدى الإمام الأول إلى الذى بعده العلم والكتب والسلاح" ... إلخ.
* *
* استدلاله على الرجعة:
ولما كان المؤلف يدين بالرجعة فإنَّا نجده يستدل على جوازها بقوله تعالى فى الآيتين [55، 56] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً(2/128)
فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .. وذلك حيث يقول: "أقول: قيَّد البعث بالموت لأنه قد يكون عن إغماء ونوم، وفيه دلالة واضحة على جواز الرجعة التى قال بها أصحابنا نقلاً عن أئمتهم، واحتج بهذه الآية أمير المؤمنين على ابن الكواء حين أنكرها كما رواه عنه الإصبع بن نباتة، والقُمِّى، هذا دليل على الرجعة فى أُمة محمد صلى الله عليه وسلم. فإنه قال: لم يكن فى بنى إسرائيل شئ إلا وفى أُمته مثله - يعنى دليلاً على وقوعها".
* *
* الإيمان بالرجعة وقيام القائم من الإيمان بالغيب:
ولكون المؤلف يعتقد بالرجعة ويرى ضرورة الإيمان بها لكل مؤمن، فإنَّا نراه يعد الإيمان بها من ضمن الإيمان بالغيب الذى مدح الله به عباده المتقين وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [2، 3] من سورة البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} : {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} بما غاب عن حواسهم من توحيد الله، ونبوة الأنبياء، وقيام القائم، والرجعة، والبعث، والحساب، والجنَّة، والنار، وسائر الأُمور التى يلزمهم الإيمان بها مما لا يُعرف بالمشاهدة وإنما يُعرف بدلائل نصبها الله عَزَّ وجَلَّ".
* *
* التقيَّة:
ولما كان ملا محسن يقول بالتقية، ويراها ضرورة من ضروريات قيام مذهبه وصون أصحابه من الاضطهاد، فإنَّا نراه يفيض فيها عندما تكلم عن قوله تعالى فى الآية [28] من سورة آل عمران: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} ... الآية فيقول: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} إلا أن تخافوا من جهتهم خوفاً وأمراً يجب أن يُخاف منه، وقرئ: "تقية"، منع عن موالاتهم ظاهراً وباطناً فى الأوقات كلها إلا وقت المخافة، فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز بالمخالفة كما قيل: كن وسطاً وامش جانباً.. ثم قال: وفى العياشى عن الصادق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إيمان لمن لا تقية له"، ويقول: قال الله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} . وفى الكافى عنه قال: التقية ترس الله بينه وبين خلقه. وعن الباقر قال: التقية فى كل شئ يضطر إليه ابن آدم، وقد أحلَّ الله له. والأخبار فى ذلك مما لا يُحصى".
* *
* تأثره فى تفسيره بالفروع الفقهية للإمامية:
ولما كان المؤلف كغيره من علماء مذهبه له فى بعض المسائل الاجتهادية الفقهية(2/129)
رأى يخالف آراء مجتهدى المذاهب الأخرى، فإنا نراه ينتصر لمذهبه ويعمل على تأييده بما يظهر له من آيات القرآن.. والمتتبع لتفسيره لآيات الأحكام يجد أثر هذا كله ظاهراً جلياً، فهو يحاول محاولة جدية أن يأخذ رأيه من النص القرآنى أو يدفع رأى مخالفيه بما يظهر له منه، وإليك بعض المثل لتعرف مقدار تأثر هذا التفسير بمذهب صاحبه الفقهى:
* المتعة:
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [24] من سورة النساء: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .. نراه يتأثر بما يراه من حِلِّ نكاح المتعة فيحمل الآية على هذا ويجعلها دليلاً على صحة مذهبه وذلك حيث يقول ما نصه: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن، سمى أجراً لأنه فى مقابلة الاستمتاع، {فَرِيضَةً} مصدر مؤكد. فى الكافى عن الصادق: وإنما أُنزلت: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أُجورهن فريضة".. والعياشى عن الباقر: أنه كان يقرأها كذلك، وروته العامة أيضاً عن جماعة من الصحابة: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} من زيادة فى المهر أو الأجل، أو نقصان فيهما، أو غير ذلك مما لا يخالف الشرع. فى الكافى مقطوعاً والعياشى عن الباقر: "لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، تقول: استحللتك بأجر آخر برضاً منها، ولا تحل لغيرك حتى تنقضى عدَّتها، وعدَّتها حيضتان، {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بالمصالح، {حَكِيماً} فيما شرع من الأحكام. فى الكافى عن الصادق: المتعة نزل بها القرآن، وجرت بها السُّنَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، وعن الباقر: كان علىّ يقول: لولا ما سبقنى به ابن الخطاب ما زنى إلا شفى - بالفاء، يعنى إلا قليل - أراد أنه لولا ما سبقنى به عمر من نهيه عن المتعة وتمكن نهيه من قلوب الناس، لندبتُ الناس عليها، ورغَّبتهم فيها، فاستغنوا بها عن الزنا، فما زنى منهم إلا قليل، وكان نهيه عنها تارة بقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مُحرِّمهما ومُعاقِبٌ عليهما: مُتعة الحج، ومُتعة النساء، وأخرى بقوله: ثلاث كُنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مُحرِّمهن ومُعاقِبٌ عليهن: مُتعة الحج ومُتعة النساء وحىّ على خير العمل فى الأذان. وفيه: جاء عبد الله بن عمر الليثى إلى أبى جعفر فقال له: ما تقول فى مُتعة النساء؟ فقال: أحلَّها الله فى كتابه وعلى لسان نبيه، فهى حلال إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر؛ مثلك يقول هذا وقد حرَّمها عمر ونهى عنها؟ فقال: وإن كان فعل، قال:
فإنى أُعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئاً حرَّمه عمر، فقال له: فأنت على قول صاحبك وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلم أُلاعنك أن القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الباطل ما قال صاحبك، وقال: فأقبل عبد الله بن عمر فقال: أيسرك أن نساءك، وبناتك، وأخواتك، وبنات عمك،(2/130)
يفعلن ذلك؟ فأعرض عنه أبو جعفر حين ذكر نساءه وبنات عمه. وفيه: سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد ابن النعمان صاحب الطاق فقال: يا أبا جعفر؛ ما تقول فى المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك ليستمتعن ويكسبن عليك؟ فقال أبو جعفر: ليست كل الصناعات يُرغَب فيها وإن كانت حلالاً، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم، ولكن ما تقول يا أبا حنيفة فى النبيذ، أتزعم أنه حلال؟ قال: نعم، قال: فما يمنعك أن تُقْعِد نساءك فى الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ، ثم قال: يا أبا جعفر؛ إن الآية التى فى "سأل سائل" تنطق بتحريم المتعة والرواية عن النبى قد جاءت بنسخها، فقال أبو جعفر: يا أبا حنيفة؛ إن سورة "سأل سائل" مكية وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة ردية، فقال أبو حنيفة: وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة، فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث، فقال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟ فقال أبو جعفر: لو أن رجلاً من المسلمين تزوج بامرأة من أهل الكتاب ثم توفى عنها. ما تقول فيها: قال: لا ترث منه، فقال: قد ثبت النكاح بغير ميراث.. ثم افترقا. وعن الصادق أنه سأله أبو حنيفة عن المتعة فقال: عن أى المتعتين تسأل؟ فقال: سألتك عن متعة الحج فأنبئنى عن متعة النساء أحق هى؟ فقال: سبحان الله.. أما تقرأ كتاب الله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ؟ فقال أبو حنيفة: واللهِ لكأنها آية لم أقرأها قط. وفى الفقه عنه: ليس منا مَن لم يؤمن بكَرَّتنا ويستحل متعتنا (أقول) : الكَرَّة: الرجعة، وهى إشارة إلى ما ثبت عندهم من رجوعهم إلى الدنيا مع جماعة من شيعتهم فى زمن القائم لينصروه، وقد مضت الإشارة إليه فيما سلف، ويأتى أخبار أُخر فيها إن شاء الله.
* *
* نكاح الكتابيات:
وملا محسن، لا يميل إلى حُرْمة نكاح الكتابيات من اليهود والنصارى، بل نراه يذكر لنا فى تفسيره للآيات التى تتصل بهذا الموضوع أقوال العلماء، ويفيض فى سرده لأقوال المجيزين منهم، ويُعقِّب على أقوال المجيزين بما يدل على أنه مؤيد لعدم الحُرْمة، ومرتض لقول مَن يقول بالحِلِّ، ولهذا نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [221] من سورة البقرة: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} ... الآية، يقول ما نصه: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} لا تزوجوا الكافرات {حتى يُؤْمِنَّ} ، {وَلأَمَةٌ} مملوكة، {مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} حُرَّة، {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} المشركة بجمالها أو مالها أو حسبها، {وَلاَ(2/131)
تَنْكِحُواْ المشركين} لا تزوِّجوا منهم المؤمنات، {حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} مملوك، {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} حُرٍّ، {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} جماله أو ماله أو حاله، {أولائك} إشارة إلى المشركين والمشركات، {يَدْعُونَ إِلَى النار} إلى الكفر المؤدى إلى النار، فحهقم أن لا يُوالوا لا يُصَاهروا، {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة} إلى فعل ما يوجب الجنَّة والمغفرة من الإيمان والطاعة، {بِإِذْنِهِ} بأمره وتوفيقه، {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أوامره ونواهيه، {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ويتعظون. القُمِّى: هى منسوخة بقوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ... } ... إلى قوله: {والمحصنات مِنَ الذين(2/132)
أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قال: فنسخ هذه الآية: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} وترك قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} على حاله لم ينسخ، لأنه لا يحل للمسلم أن يُنكح المشرك، ويحل له أن يتزوج المشركة من اليهود والنصارى، وكذلك قال النعمان فى كتابه، وكلاهما عَدَّ قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} من منسوخ النصف من الآيات، ويأتى تمام الكلام فيه فى سورة المائدة إن شاء الله تعالى".
وعندما تكلم عن قوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} ... الآية، يقول ما نصه: {.. والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} فى الفقيه عن الصادق: هن العفائف. والعياشى عن الكاظم: أنه سُئل ما معنى إحصانهن؟ قال: هن العفائف من نسائهم. وفى الكافى، والمجمع، والعياشى، عن الباقر: أنها منسوخه بقوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10] .. وزاد فى المجمع: وبقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} .. القُمِّى: أحل الله نكاح أهل الكتاب بعد تحريمه فى قوله فى سورة البقرة: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} .. قال: وإنما يحل نكاح أهل الكتاب الذين يؤدون الجزية، وغيرهم لم تحل مناكحتهم.. (أقول) : يؤيد هذا الحديث النبوى: "إن سورة المائدة آخر القرآن نزولاً فأحِلُّوا حلالها وحَرَّموا حرامها".. وفى الكافى عن الحسن ابن الجهم قال: قال لى أبو الحسن الرضا: يا أبا محمد؛ ما تقول فى رجل يتزوج نصرانية على مسلمة؟ قلت: جُعِلتُ فداك، وما قولى بين يديك؟ قال: لتقولن، فإن ذلك تعلم به قولى. قلت: لا يجوز تزوج نصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة؟ قال: ولِمَ؟ قلت: لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} .. قال: فما تقول فى هذه الآية: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} ؟ قلت: فقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} نسخت هذه الآية، فتبسم ثم سكت. وفيه وفى الفقيه عن الصادق فى الرجل المؤمن يتزوج النصرانية واليهودية قال: إذا أصاب المسلمة فماذا يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقيل: يكون له فيها الهوى، فقال: إن فعل فيمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه فى دينه غضاضة. وعن الباقر: لا ينبغى للمسلم أن يتزوج يهودية ولا نصرانية وهو يجد مسلمة حُرَّة أو أَمَة. وعنه: إنما يحل منهم نكاح البُلْه. وفى الفقيه عنه: أنه سئل عن الرجل المسلم يتزوج المجوسية قال:
لا، ولكن إن كانت له أَمَة مجوسية فلا بأس أن يطأها ويعزل عنها ولا يطلب ولدها، وفى رواية: لا يتزوج الرجل اليهودية ولا النصرانية على المسلمة، ويتزوج المسلمة على اليهودية والنصرانية. وفى التهذيب عن الصادق: لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية والنصرانية وعنده حُرَّة. وفيه فى جواز التمتع بهما وبالمجوسية أخبار أُخر".
وفى سورة الممتحنة عند قوله تعالى فى الآية [10] : {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .. قال ما نصه: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} بما يعتصم به الكافرات من عقد ونسب.. جمع عصمة، والمراد نهى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات. القُمِّى عن الباقر فى هذه الآية قال: يقول: مَن كانت عنده امرأة كافرة - يعنى على غير مِلَّة الإسلام - وهو على مِلَّة الإسلام، فليعرض عليها الإسلام، فإن قبلت فهى امرأته، وإلا فهى بريئة منه، فنهى الله أن يمسك بعصمتها. وفى الكافى عنه قال: لا ينبغى نكاح أهل الكتاب، قيل: وأين تحريمه؟ قال: قوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .. (أقول) : قد مضى فى سورة المائدة ما يخالف ذلك".
* فرض الرِجْلين فى الوضوء وحكم المسح على الخُفَّين:
ويرى صاحبنا أن فرض الرِجْلين فى الوضوء مسحها لا غسلها، كما يرى عدم جواز المسح على الخُفَّين، ولهذا نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} ... الآية، نراه يقول بوجوب وصول الماء إلى بشرة سائر الأعضاء كما هو مقتضى الأمر بالغسل والمسح، وعليه فلا يجزئ المسح على القلنسوة ولا على الخُفَّين، ثم يروى ما جاء فى التهذيب عن الباقر من أن عمر جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم علىّ فقال: ما تقولون فى المسح على الخُفَّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخُفَّين، فقال علىّ: قبل المائدة أو بعد المائدة؟ قال: لا أدرى، فقال علىّ: سبق الكتاب الخُفَّين، إنما نزلت المائدة قبل أن(2/133)
يُقبض بشهرين أو ثلاثة. وهنا يُعقِّب ملا محسن على هذه الرواية فيقول: (أقول) : المغيرة بن شعبة هذا هو أحد رؤساء المنافقين من أصحاب العقبة والسقيفة لعنهم الله.. ثم يقول: وفى الفقيه: روت عائشة عن النبى أنه قال: أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره. وروى عنها أنها قالت: لأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلىّ من أن أمسح على خُفَّىْ. ولم يُعرف للنبى خف إلى خف أهداه النجاشى وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقاً، فمسح النبى صلى الله عليه وسلم على رِجْليه وعليه خُفَّاه، فقال الناس: إنه مسح علىخُفَّيه، على أن الحديث فى ذلك غير صحيح الإسناد (انتهى كلام الفقيه) .
وبعد هذا انتقل المؤلف إلى الكلام على فرض الرِجْلين فى الوضوء، فقال بعد ما بيَّن أولاً أن قراءة نصب الأرجل مردودة عندهم: ".. ثم دلالة الآية على مسح الرِجْلين دون غسلهما أظهر من الشمس فى رابعة النهار، وخصوصاً على قراءة الجر، ولذلك اعترف بها جمع كثير من القائلين بالغسل، وفى التهذيب عن الباقر أنه سُئل عن قول الله عَزَّ وجَلَّ: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. على الخفض هى أم على النصب؟ قال: "بل هى على الخفض"، ثم قال: (أقول) : وعلى تقدير القراءة على النصب أيضاً تدل على المسح، لأنها تكون حينئذ معطوفة على محل الرؤوس، كما تقول: مررت بزيد وعَمْراً، إذ عطفهما على الوجوه خارج عن قانون الفصاحة، بل عن أسلوب العربية.. ثم روى من الأخبار عن أهل البيت ما يشهد لمذهبه".
* * *
*الغنائم:
وهو يرى فى الغنائم ما يراه غيره من علماء مذهبه من أن الخُمس يُقسم إلى ستة سهام: سهم لله. وسهم للرسول. وسهم للإمام، وسهم ليتامى آل الرسول، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم. وسهم الله وسهم الرسول يرثهما الإمام، فيكون للإمام ثلاثة أسهم من ستة.. ثم يعلل اختصاص الإمام من الخُمس بالأسهم الثلاثة، بأن الله تعالى قد ألزم الإمام بما ألزم به النبى من تربية الأُمة، ومؤن المسلمين وقضاء ديونهم، وحملهم فى الحج والجهاد، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أُنزل عليه: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} "وهو أبٌ لهم"، فلما جعله الله أباً للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد للولد، فقال عند ذلك: "مَن ترك مالاً فلورثته، ومَن ترك دَيْناً أو ضَيَاعاً فعلىَّ وإلىَّ"، فلزم الإمام ما لزم الرسول. فلذلك صار له من الخُمس ثلاثة أسهم.
"والمؤلف يرى أن الله تعالى عوّض يتامى آل البيت ومساكينهم وأبناء سبيلهم بما(2/134)
خُصوا به من هذه السهام عن الصدقات التى حُرِّمت عليهم ومُنعوا من أخذها لكونهها أوساخ الناس، ويروى فى ذلك أخباراً كثيرة عن علماء آل البيت".
وعندما فسَّر المؤلف قوله تعالى فى الآية [7] من سورة الحشر: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} ... الآية، نقل من الكافى عن أمير المؤمنين أنه قال: "نحن والله الذين عنى الله بـ "ذى القُرْبَى" الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين} منا خاصة ولم يجعل لنا سهماً فى الصدقة.. أكرم الله نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما فى أيدى الناس". * *
* الاستنباط:
ويرى ملا محسن أن الاستنباط لا يجوز لأحد من الأُمة إلا للأئمة، لأنهم هم المعصومون عن الخطأ، أما من عداهم فليس له هذه العصمة، ولهذا نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [83] من سورة النساء: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ... الآية، يقول ما نصه: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف} مما يوجب الأمن والخوف، {أَذَاعُواْ بِهِ} فشوه. قيل: كان قوم من ضعفه المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرهم الرسول بما أُوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة أذاعوه، وكانت إذاعتهم مفسدة، {وَلَوْ رَدُّوهُ} ردوا ذلك الأمر، {إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قيل: أى يستخرجون تدبيره بتجاربهم وأنظارهم. فى الجوامع عن الباقر: هم الأئمة المعصومون. والعياشى عن الرضا: يعنى آل محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين يستنبطون من القرآن، ويعرفون الحلال والحرام، وهم حُجَّة الله على خلقه. وفى الإكمال عن الباقر: مَن وضع ولاية الله وأهل استنباط علم الله فى غير أهل الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر الله عَزَّ وجَلَّ، وجعل الجُهَّال وُلاة أمر الله، والمتكلفين بغير هدى زعموا أنهم أهل استنباط علم الله فكذبوا على الله وزاغوا عن وصية الله وطاعته، فلم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله تبارك وتعالى، فضلُّوا وأضلُّوا أتباعهم، فلا تكون لهم يوم القيامة حُجَّة".
* *
* موقف المؤلف من مسائل علم الكلام:
والمؤلف كغيره من الشيعة متأثر إلى حد ما بتعاليم المعتزلة وآرائهم الكلامية، فهو يوافقهم فى بعض المسائل، ويخالفهم فى بعض آخر منها. وإنَّا لنلحظ هذا التأثر فى تفسيره للآيات التى لها ارتباط بالمسائل الكلامية، وإليك بعض المثل التى وافق فيها المعتزلة، وبعض المثل التى خالفهم فيها:
*(2/135)
أفعال العباد:
يرى صاحبنا أن العبد يخلق أفعال نفسه، ويوافق برأيه هذا رأى المعتزلة القائلين بخلق العباد أفعال أنفسهم. ولهذا نراه يتأثر بهذه العقيدة فى تفسيره. فمثلاً عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [123] من سورة الأنعام: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} ... الآية، نراه يفر من نسبة هذا الجعل إلى الله تعالى فيقول: ".. والمعنى خليناهم وشأنهم ليمكروا ولم نكفهم عن المكر".
* *
* رؤية الله:
كذلك يوافق ملا محسن المعتزلة فى أن رؤية الله تعالى غير جائزة ولا واقعة، ولهذا نراه يتأوَّل آيات الرؤية كما تأوَّلها المعتزلة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. يقول ما نصه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} القُمِّى: أى مشرقة، {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: ينظرون إلى وجه الله أى إلى رحمته ونعمته. وفى العيون عن الرضا قال: يعنى مشرقة تنتظر ثواب ربها. وفى التوحيد والاحتجاج عن أمير المؤمنين فى حديث قال: ينتهى أولياء الله بعد ما يُفرغ من الحساب إلى نهر يسمى "الحيوان"، فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيض وجوههم إشراقاً، فيذهب عنهم كل قذى ووعث، ثم يُؤمرون بدخول الجنَّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم، قال: فذلك قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وإنما نعنى بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى. وزاد فى الاحتجاج: والناظرة فى بعض اللغة هى المنتظرة، ألم تسمع إلى قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35] .. أى منتظرة".
* الشفاعة:
ويخالف المؤلف المعتزلة فى القول بالشفاعة فهو يرى أنها جائزة وواقعة يوم القيامة، وأهل البيت يشفعون للعصاة من شيعتهم، ولهذا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [48] من سورة البقرة: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} ... الآية، نراه ينقل من تفسيره الإمام عن الصادق أنه قال: "هذا يوم الموت فإن الشفاعة والفداء لا يُغنى عنه، فأما القيامة فإنَّا وأهلنا نجزى عن شيعتنا كل جزاء، ليكونن على الأعراف بين الجنَّة والنار: محمد، وعلىّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، والطيبون من آلهم، فنرى بعض شيعتنا فى تلك العرصات، فمَن كان منهم مُقصِّراً وفى بعض شدائدها فنبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان، والمقداد، وأبى ذر، وعمَّار، ونظرائهم فى العصر الذى يليهم، ثم فى كل عصر إلى يوم القيامة، فينقضوُّن عليهم كالبزاة والصقور، ويتناولونهم كما تتناول البزاة والصقور صيدها،(2/136)
فيزفونهم إلى الجنة زفاً، وإنَّا لنبعث على آخرين من محبينا خيار شيعتنا كالحمام فيلتقطونهم من العرصات كما يلتقط الطير الحب وينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا، وسيؤتى بالواحد من مُقصِّرى شيعتنا فى أعماله بعد أن حاز الولاية والتقية وحقوق إخوانه ويوقف بإزائه مائة أو أكثر من ذلك إلى مائة ألف من النُّصَّاب فيقال له: هؤلاء فداؤك من النار، فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنَّة وأُولئك النُّصَّاب النار، وذلك ما قال الله عَزَّ وجَلَّ فى الآية [2] . من سورة الحجر: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} يعنى: بالولاية، {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} فى الدنيا، منقادين للأئمة، ليُجعل مخالفوهم من النار فداؤهم".
* *
* السحر:
كذلك يخالف المؤلف المعتزلة فى القول بالسحر، فهو يعترف بحقيقته ولا ينكر أن النبى صلى الله عليه وسلم سُحر، ولهذا نراه عند تفسيره لسورة الفلق يقول ما نصه: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4] ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللواتى يعقدن عقداً فى خيوط وينفثن عليها، والنفث: النفخ مع ريق.. ثم ذكر الحديث الذى فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر بفعل لبيد ابن الأعصم.
* *
* روايته للأحاديث الموضوعة:
ثم لا يفوتنا أن ننبه على أن هذه الأحاديث التى يرويها المؤلف فى تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أهل البيت كشاهد لصحة ما يقول، هى فى الغالب مكذوبة موضوعة لا أصل لها، وقد مَرّ بك الكثير من هذه الروايات، وهى ناطقة على نفسها بالوضع، فلستُ فى حاجة إلى بيان وضعها بميزان نقد الرواة، إذ نحن فى غنى عن هذا بعد ما حمل الحديث تكذيب نفسه بنفسه فى ثنايا ألفاظه ومعانيه. والمصنف بعد هذا لا يفوته أن يذكر فى نهاية تفسير كل سورة من الروايات عن أهل البيت ما يشهد لفضل هذه السورة، وما أعد الله لقارئها من الأجر والثواب، وفى اعتقادى أن هذه الروايات لا تعدو أن تكون مكذوبة كالروايات المنسوبة إلى أُبَىّ وابن عباس فى فضائل السور، وليس بغريب أن يذكر صاحبنا مثل هذه الروايات المكذوبة فى تفسيره بعد ما سوَّد كتابه من أوله إلى آخره بالأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته عليهم رضوان الله.
* * *(2/137)
5- تفسير القرآن (للسيد عبد الله العلوى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو السيد عبد الله بن محمد رضا، العلوى، الحسينى، الشهير بشبَّر، وُلِد بأرض النجف سنة 1188 هـ (ثمان وثمانين ومائة بعد الألف من الهجرة النبوية) .. ثم ارتحل مع والده إلى الكاظمية ومكث بها إلى أن مات سنة 1242 هـ (اثنتين وأربعين ومائتين بعد الألف من الهجرة) . كان فى نظر أصحابه من أعيان الشيعة وفضلائهم، فقيهاً، محدِّثاً، مفسِّراً متبحراً، جامعاً لعلوم كثيرة، آية فى الأخلاق. تلقى العلم على والده، وعلى الإمام الكبير السيد محسن الأعرجى، وقد تتلمذ عليه خلق كثير، لأنهم كانوا يعتبرونه عَلَماً من أعلام الشيعة، وشخصية علمية بارزة لها مكانها ومقدارها. ولقد عكف مدة حياته العلمية على التأليف والتصنيف حتى أخرج للناس مع سنه الذى لم يتجاوز الأربع والخمسين سنة كتباً كثيرة ومصنفات عديدة نذكر منها:
1 - الدرر المنثورة فى المواعظ المأثورة عن الله تعالى والنبى والأئمة الطاهرين عليهم السلام والحكماء.
2 - رسالة فى حِجَّية خبر واحد.
3 - إعمال السُّنَّة. كتاب على نمط زاد المعاد للمجلسى.
4 - رسالة فى حِجِّية العقل والحسن والقبح العقليين.
5 - مصباح الظلام فى شرح مفاتيح شرائع الإسلام.
6 - قصص الأنبياء.
7 - البرهان المبين فى فتح أبواب علوم الأئمة المعصومين.
8 - كتاب شرح نهج البلاغة.
9 - صفوة التفاسير فى ستين ألف بيت.
10 - الجوهر الثمين فى تفسير القرآن المبين.. فى مجلدين فى ثلاثين ألف بيت.
11 - التفسير الوجيز، مجلد واحد فى ثمانية عشر ألف بيت. ولعل هذا التفسير هو الذى فى أيدينا.
وهناك مؤلفات أخرى كثيرة مذكورة فى ترجمته لا نطيل بذكرها.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير يجرى على مذهب الإمامية الإثنا عشرية، من حمل ألفاظ القرآن(2/138)
الكريم على معان تتفق وأصول المذهب وتعاليمه، مع شئ من التعصب والغلو فى التنويه بشأن أهل البيت والحط من قدر الصحابة الذين يعتبرهم غير موالين لعلىّ وذُرِّيته. والكتاب مختصر فى ألفاظه، موجز فى عباراته، مع تضمنه للمعانى الكثيرة الدقيقة، فهو أشبه ما يكون بتفسير الجلالين من جهة إفادة المعانى كثيرة، والنكات الخفية الدقيقة، بعبارة سهلة موجزة.
ولقد حرص المؤلف فيه على أن يكون جُلّ اعتماده على ما ورد من التفسير عن أهل البيت، وإن كان لا يعزو كل قول إلى قائله فى الغالب، كما حرص على أن ينصر مذهبه ويدافع عنه سواء فى ذلك ما يتعلق بأُصول المذهب أو بفروعه، وهو بعد ذلك يشرح الآيات التى لها صلة بمسائل علم الكلام شرحاً يتفق أحياناً كثيرة مع مذهب المعتزلة، وأحياناً مع مذهب أهل السُّنَّة. وذلك راجع إلى أنه يأخذ بمذهب المعتزلة فى بعض المسائل، وبمذهب أهل السُّنَّة فى بعض آخر منها، شأن الكثير الغالب من علماء الإمامية الإثنا عشرية. ثم لا يفوت المؤلف فى تفسيره هذا أن يشير إلى بعض مشكلات القرآن التى ترد على ظاهر النظم الكريم. ثم يجيب عنها. كما لا يفوته أن يكشف لنا عن كثير من النكات اللَّفظية والبيانية والمعنوية، مع الخوض أحياناً فى المعانى اللُّغوية والمسائل النحوية، كل هذا - كما قلت - فى أسلوب ممتع لا يمل قارئه من تعقيد ولا يسأم من طول.
ولقد وصف المؤلف تفسيره هذا، وبيَّن مسلكه فيه فقال فى مقدمته:
"هذه كلمات شريفة، وتحقيقات منيفة، وبيانات شافية، وإشارات وافية، تتعلق ببعض مشكلات الآيات القرآنية، وغرائب الفقرات الفرقانية. وتتحرى غالباً ما ورد عن خُزَّان أسرار الوحى والتنزيل، ومعادن جواهر العلم والتأويل، والذين نزل فى بيوتهم جبرائيل، بأوجز إشارة، وألطف عبارة، وفيما يتعلق بالألفاظ والأغراض والنكات البيانية تفسير وجيز، فإنه ألطف التفاسير بياناً وأحسنها تبياناً مع وجازة اللَّفظ وكثرة المعنى".
هذا.. وقد أتم المؤلف تفسيره هذا - كما قال فى خاتمته - فى جمادى الأولى سنة 1239 هت (تسع وثلاثين ومائتين بعد الألف من الهجرة) والكتاب مطبوع فى مجلد واحد كبير الحجم، وموجود بدار الكتب المصرية، وإليك بعض ما يكشف عن منهج هذا التفسير:
* تعصب المؤلف لأصول مذهبه وأثر ذلك فى تفسيره:
هذا.. وإن المؤلف بحكم عقيدته وهواه يتأثر فى تفسيره بتعاليم الإمامية(2/139)
الإثنا عشرية وأُصول مذهبهم، فلا يكاد يمر بآية يلمح منها حُجَّة لمذهبه أو دفعاً لمذهب مخالفيه إلا فسَّرها كما يحب ويهوى.
* الإمامة:
فمثلاً نراه يتأثر بعقيدته فى الإمامة عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. فيذكر أنها "نزلت فى علىّ عليه السلام حين سأل سائل وهو راكع فى صلاته فأومأ إليه بخنصره فأخذ خاتمه منها".. ويدَّعى إطباق أكثر المفسِّرين على ذلك واستفاضة الروايات فيه من الجانبين - جانب الموافقين وجانب المخالفين - ثم يقول بعد ذلك: "وتدل - يعنى الآية - على إمامته دون مَن سواه، للحصر وعدم اتصاف غيره بهذه الصفات، وعَبَّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً، أو لدخول أولاده الطاهرين".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [67] من سورة المائدة أيضاً: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ... الآية، يروى عن أهل البيت وابن عباس وجابر: "أن الله أوحى إلى نبيه أن يستخلف علياً، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فنزلت، فأخذ بيده فقال: ألستُ أولى بكم من أنفسكم"؟ قالوا: بلى.. قال: "مَن كنت مولاه فعلىّ مولاه".
* كل إمام يوصى لمن بعده:
ويدين المؤلف بأن الأمر الإمامة ليس موكولاً لأحد من الناس، بل كل إمام يوصى لمن بعده، ولهذا نراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [58] من سورة النساء: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} .. الآية، يعترف بأن الأمر يعم كل مكلَّف وكل أمانة.. ثم يقول: "وعنهم عليهم السلام أنه أمر لكل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر لمن بعده".
وفى سورة الأحزاب عند قوله تعالى فى الآية [36] : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} ... الآية، يقول: "وفيه رد على من جعل الإمامة بالاختيار".
* *
* وجود الأئمة فى كل زمان وعصمتهم، ووجوب الرجوع إليهم عند الاختلاف دون غيرهم:
ولما كان المؤلف يرى أنه لا يخلو كل زمان من إمام، وأن الأئمة لهم من الله العصمة(2/140)
كالأنبياء وليس هذا لغيرهم، فإنه يوجب الرجوع إليهم عند الاختلاف وعدم وجود نص من الكتاب أو السُّنَّة، وأما مَن عداهم من الناس فلا يصح الرجوع إليه بحال من الأحوال، لأن غير المعصوم لا يُرجع إليه، ولا يُؤخذ برأيه فى مسائل الخلاف.
يقول المؤلف هذا ويدين به فنجده يتأثر به فى تفسيره، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [59] من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} .. الآية، يقول: "دَلَّ على وجود أُولى الأمر فى كل زمان، بحيث يجب طاعتهم لعلمهم وفضلهم، وعصمتهم، ولا ينطبق إلا على مذهب الإمامية.. وعنهم عليهم السلام: إيانا عنى خاصة، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} أيها المأمورون، {فِي شَيْءٍ} من أُمور الدين،. {فَرُدُّوهُ} فراجعوا فيه، {إِلَى الله} إلى محكم كتابه، {والرسول} بالأخذ لسُنَّته، والمراجعة إلى من أمر بالمراجعة إليه، فإنها رد إليه. وقرئ: "فإن خفتم تنازعاً فى شئ فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولى الأمر منكم".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [83] من سورة النساء أيضاً: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .. يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ} هم آل محمد عليهم السلام، {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يستخرجون تدبيره بأفكارهم وهم آل محمد عليهم السلام.
* *
* الرجعة:
والمؤلف يدين بالرجعة ويتأثر بها، فمثلاً فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [2، 3] من سورة البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} .. نجده يُفسِّر الغيب: "بما غاب عن حواسهم من معرفة الصانع، وصفاته، والنبوة، وقيام القائم، والرجعة، والبعث، والحساب، والجنَّة والنار".
ومثلاً فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [56] من سورة البقرة أيضاً: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .. يقول: "وفيه حُجَة على صحة البعث والرجعة".
* *
* التقيَّة:
ولتأثر المؤلف بعقيدته فى التقيَّة نجده عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [28] من سورة آل عمران: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ(2/141)
ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} ... الآية، يقول: "رخَّص لهم إظهار موالاتهم إذا خافوهم مع إبطال عداوتهم وهى التقيَّة التى تدين بها الإمامية، ودلت عليها الأخبار المتواترة وقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] .
* *
* تحريف القرآن:
كذلك نجد شبَّراً يعتقد بأن القرآن بُدِّل وحُرِّف، ولما اصطدم بقوله تعالى فى الآية [9] من سورة الحِجْر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، نجحده يتفادى هذا الاصطدام بالتأويل فيقول: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عند أهل الذكر واحداً بعد واحد إلى القائم، أو فى اللَّوح.. وقيل: الضمير للنبى".
* *
*آيات العتاب:
والمؤلف يكبر عليه معاتبة الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأُمور، فيحاول بكل ما يستطيع أن يُحوِّل العتاب إلى غير النبى صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فى شأن ابن أُم مكتوم يشق على شبَّر أن يكون مقصوداً به النبى، فنراه يقتصر على ما روى عن أهل البيت من أن آيات العتاب "نزلت فى رجل من بنى أُميَّة، كان عند النبى صلى الله عليه وسلم فجاء ابن أُم مكتوم فلما رآه تقذَّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه".
* *
* طعنه على الصحابة:
وإنَّا لنلاحظ على المؤلف أنه يطعن على الصحابة ويرميهم بالكفر أو ما يقرب منه، ويجردهم من كل فضل نُسب إليهم فى القرآن تنقيصاً لهم، وحطاً من قدرهم.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [40] من سورة التوبة: {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} ... الآية، نجده يعرض عن تعيين هذا الذى صحب النبى صلى الله عليه وسلم فى هجرته، وهو أبو بكر، ثم يُصرِّح أو يُلمِّح بما ينقص من قدره، أو يذهب بفضله المنسوب إليه والمنوَّه به فى القرآن الكريم فيقول: {ثَانِيَ اثنين} حال أى معه واحد لا غير، {إِذْ هُمَا فِي الغار} نقب فى ثور، وهو جبل بقرب مكة، {إِذْ} بدل ثان، {يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} - ولا مدح فيه إذ قد يصحب المؤمن الكافر كما قال: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 37]- {لاَ تَحْزَنْ} فإنه خاف على نفسه وقُبض واضطرب حتى كاد أن يدل عليهما فنهاه عن ذلك، {إِنَّ الله مَعَنَا} عالم بنا. {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ(2/142)
هُوَ رَابِعُهُمْ ... } ... . إلى قوله. {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] : أى عالِم بهم. {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} طمأنينته، {عَلَيْهِ} على الرسول. وفى إقرانه - صلى الله عليه وسلم - ههنا مع اشتراك المؤمنين معه حيث ذكرت ما لا يخفى، وجعل "الهاء" لصاحبه ينفيه كونها للرسول قبل وبعد.. إلخ".
* *
* تعصبه لآل البيت:
ولقد مَرَّ بنا عند قراءتنا فى هذا التفسير، الكثير مما يدل على تعصب المؤلف لآل البيت تعصباً ممقوتاً مرذولاً، فتارة نجده يصرف اللفظ العام إلى علىّ رضى الله عنه، كما فعل فى الآية [4] من سورة التحريم عند قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ، فإنه صرف لفظ "صالح المؤمنين" عن عمومه وادَّعى أنه خاص بأمير المؤمنين علىّ عليه السلام، كما ادَّعى رواية العامة والخاصة لذلك.
كما نجده يحاول أن يأخذ من القرآن ما يدل على أن آل البيت كانوا معروفين لدى الأُمم السابقة وأنبيائهم يتوسلون بهم إلى الله، فيكشف عنهم الغُمَّة، ويزحزح عنهم الكُرْبة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [34] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ} ... إلى آخر القصة، نجده يدَّعى أن السجود لآدم إنما كان "لما فى صلبه من نور محمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته"، ويدَّعى أن الكلمات التى تلقاها آدم من ربه ليتوب عليه هو "التوسل فى دعائه بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين".
ومثل هذا التعصب كثير فى مواضع من هذا التفسير.
* *
* علم القرآن كله عند آل البيت:
والمؤلف يدَّعى - كغيره من الإمامية الإثنا عشرية - أن علم القرآن كله عند أهل البيت دون غيرهم، وأنَّا لنجد أثر هذا واضحاً فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من سورة آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} ... الآية، وذلك حيث يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} تأويل القرآن كله الذى يجب أن يُحمل عليه {إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} الثابتون فيه ومَن لا يُختلف فى علمه.. عن الصادق عليه السلام: نحن الراسخون فى العلم، ونحن نعلم تأويله. ومَن وقف مِن الجمهور على "الله"، فسَّر المتشابه بما استأثر الله تعالى بعلمه كوقت قيام الساعة ...(2/143)
نحوه". * *
* تأثر المؤلف فى تفسيره بفروع الإمامية الفقهية:
ثم إن المؤلف يجرى فى تفسيره لآيات الأحكام على وفق ما يأخذ به ويميل إليه من اجتهادات فقهاء الإمامية.
* نكاح المتعة:
فمثلاً نجده يتأثر برأيه الذى يقول بجواز نكاح المتعة وعدم نسخه. فنراه عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [24] من سورة النساء: { ... وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ... الآية، يقول: "والمراد به نكاح المتعة بإجماع أهل البيت، ويدل عليه قراءة أُبَىّ وابن عباس وابن مسعود: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن، {فَرِيضَةً} من الله {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} من استئناف عقد آخر بعد انقضاء المدة بزيادة فى الأجر والمدة".
* *
* فرض الرِجْلين فى الوضوء:
ولما كان المؤلف يرى أن فرض الرِجْلين فى الوضوء هو المسح لا الغسل، فإنَّا نراه يشير إلى ذلك عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} ... الآية، فيقول: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. بالجر كما عن حمزة وابن كثير وأبى عمرو.. ونصبه الباقون عطفاً على "رُءُوسِكُمْ" محلاً".
* *
* الغنائم:
كذلك يقول المؤلف بما يقول به علماء مذهبه فى تفسير خُمس الغنائم، ويجرى على مذهبه فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [41] من سورة الأنفال: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} ... الآية، فيقول: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} خبر محذوف، أو مبتدأ، أى فالحكم أو فواجب أن الله خُمُسه، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} الإمام، {واليتامى} يتامى الرسول، {والمساكين} منهم، {وابن السبيل} منهم".
وفى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من سورة الحشر: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ...(2/144)
الآية. يقول مثل ما قاله فى الآية السابقة وينبه على أنه مَرَّ فى الأنفال نحوه.
* *
* ميراث الأنبياء:
ونجد شبَّراً يقول بأن الأنبياء يُوَرِّثون المال كسائر الناس، ولهذا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [5، 6] من سورة مريم: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً} .. يقول ما نصه: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي} الذين يلونى فى النسب، وهم بنو عمه، {مِن وَرَآئِي} بعد موتى أن يرثوا مالى فيصرفوه فيما لا ينبغى، إذ كانوا أشراراً {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} لا تلد {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} ابناً، {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ... إلخ".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [16] من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ... الآية، يقول ما نصه: "وورث سليمان داود ماله ومُلْكه، وقيل: نبوته وعلمه، بأن قام مقامه فى ذلك بدون سائر بنيه وهم تسعة عشر، والأول مروى".
* *
* نكاح الكتابيات:
ولكن نرى المؤلف فى مسألة نكاح الكتابيات يميل إلى القول بالحلِّ وعدم الحُرْمة، ففى قوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} ... الآية، يقول: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} ظاهره حل نكاح كل كتابية ذمِيَّة أو حربية، دائماً، أو منقطعاً، أو ملكاً.. فيخص آية: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} إن شملت الكتابية.. وعن الباقر عليه السلام أنه منسوخ بتلك".
وعند قوله تعالى فى الآية [10] من سورة الممتحنة: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .. نراه يمر عليها بدون أن يتعرَّض لهذا الموضوع أصلاً". * *
* تأثره بمذهب المعتزلة فى تفسيره:
والمؤلف كغيره من علماء الإمامية الإثنا عشرية ينظر إلى بعض المسائل الكلامية نظرة المعتزلة إليها، ويقول بما يقولون به فى كثير من أُمور العقائد، كما يخالف أهل الاعتزال فى بعض منها ويقول بما يقول به أهل السُّنَّة، وإننا لنلمس أثر ذلك واضحاً جلياً فى تفسيره لكتاب الله تعالى.(2/145)
* حرية الإرادة وخلق الأفعال:
فمثلاً نجد المؤلف يوافق المعتزلة فى أن العبد حُرٌ فى إرادته. خالق لأفعاله كلها، ولهذا نراه كلما اصطدم بآية من الآيات التى تدل على أن الله هو الذى يخلق أفعال العباد، لجأ إلى التأويل الذى يتفق مع عقيدته هذه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [7] من سورة البقرة: { ... خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} .. نراه يفر من نسبة الختم إلى الله تعالى ويقول: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} وسمها بسمة يعرفها مَن يشاء من ملائكته وأوليائه، إذا نظروا إليها علموا بأنهم لا يؤمنون. وعن الرضا عليه السلام: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم - كما قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]- {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} غطاء.. (أقول) : ويمكن أن يكون تهكماً حكاية لقولهم: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] أى فى الآخرة. والتعبير بالماضى لتحققه، ويشهد له قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء: 97] .
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [108] من سورة الأنعام: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} .. الآية، نراه يفر من نسبة التزيين إلى الله فيقول: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} .. أى لم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشيطان حتى زينَّه لهم".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [112] من السور نفسها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} ... الآية، يتخلص من نسبة الجعل هنا إلى الله تعالى بتأويله بالتخلية فيقول: "أسند الجعل إليه تعالى لأنه بمعنى التخلية، أى لم يمنعهم من العداوة".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [125] من السور نفسها: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ... الآية، نراه يخرج من هذه الورطة بإرادة معنى اللطف والخذلان فيقول: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أى يلطف به {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} بأن يفسح فيه ويُنوِّر قلبه، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} أى يمنعه آلطافه حتى ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان".(2/146)
* رؤية الله:
ولقد تأثر المؤلف أيضاً فى تفسيره باعتقاده بعدم رؤية الله وعدم وقوعها، ولهذا لما فسَّر قوله تعالى فى الآية [143] من سورة الأعراف: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} ... الآية، قال ما نصه: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} روى لما كرر سؤال الرؤية أوحى الله إليه: يا موسى سلنى ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، {قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} علق على المحال، {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أى أظهر له أمره واقتداره أو نوره وعظمته، {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ} تنزيها لك عما لا يليق بك من الرؤية وغيرها، {تُبْتُ إِلَيْكَ} من طلب الرؤية، أو السؤال بلا إذن، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنك لا تُرى".
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين [22، 23] من سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. يقول: "ناظرة إلى رحمته وإنعامه".
* *
* غفران الذنوب:
ولما كان المؤلف يخالف المعتزلة فى بعض معتقداتهم، فإنَّا نراه يُفسِّر الآيات التى يستندون إليها فى بعض عقائدهم بخلاف تفسيرهم لها، فمثلاً يرى المؤلف أنه يجوز فى حق الله تعالى أن يغفر الذنوب - إلا الشرك - بدون توبة من العبد تفضلاً منه ورحمة، وهذا ما لا يقول به المعتزلة، فلهذا نجده يجرى على هذه العقيدة فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [48] من سورة النساء: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فيقول: {.. إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ} أى الشرك {بِهِ} بدون توبة للإجماع على غفرانها بها، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ما سواه من الذنوب بدون توبة، {لِمَن يَشَآءُ} تفضلا، ومقتضاه الوقوف بين الخوف والرجاء".
وهكذا نجد هذا الكتاب يجمع بين الاختصار وسهولة العبارة مع كثير من التعصب للمذهب الشيعى، والدفاع عن أُصوله وفروعه.
* * *
6- بيان السعادة فى مقامات العبادة (لسلطان محمد الخراسانى)
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو سلطان محمد بن حيدر الجنابذى الخراسانى أحد متطرفى الإمامية الإثنا عشرية فى القرن الرابع عشر الهجرى.
* *
*(2/147)
قيمة هذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يعطينا هذا التفسير لونا آخر من ألوان التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية، وذلك لأن كل ما تقدم لنا من كتبهم فى التفسير يكاد يكون متفقاً على لون واحد، وهو نقل ما جاء فى التفسير عن الأئمة وآل البيت، وما كان من تفاوت بينها فهو لا يعدو أن يكون تفاوتاً بمقدار ما بين مؤلفيها من اعتدال فى التشيع أو غلو فيه، وبمقدار ما بينهم من تفاوت فى القدرة على تأييد مذهبهم وتدعيم أُصوله بالأدلة والبراهين.
أما هذا الكتاب الذى نحن بصدده فقد سلك مؤلفه فيه مسلكاً غير هذا المسلك، مما جعل له لوناً مخالفاً للون تلك الكتب السابقة، ذلك أن المؤلف وإن كان يعتقد كغيره من علماء مذهبه أن علم القرآن كله عند الأئمة، إلا أنه لم يعتمد فى تفسيره على هذه الناحية كل الاعتماد، بل تراه يمزج بها التفسير الصوفى الذى يقوم على الرموز والإشارات، كما يخلط بالتفسير كثيراً من البحوث الفلسفية الدقيقة. والذى يقرأ هذا الكتاب ويتتبع ما فيه من الشطحات الصوفية العميقة فى إدراكها، الغريبة فى لفظها وأسلوبها، لا يسعه إلا أن يحكم على الكتاب بأنه مغلق فى إدراك معانيه، عسير فى فهم مراده ومراميه. وأنا إذ أحكم على الكتاب هذا الحكم لا أكون مغالياً ولا متجنياً فيما حكمت، فكثيراً ما قرأت فيه العبارة المرة بعد المرة، ولا أخرج منها إلا بالمعنى القاصر المبتور، بعد أن يرتد إلىَّ البصر خاسئاً وهو حسير، ويرجع الذهن عاجزاً عن الفهم وهو كليل.. وربما أكون واهماً فى هذا الحكم، لقصور معرفتى باصطلاحات القوم، وعدم وقوفى على أُصول مذهبهم ومرامى رموزهم التى يرمزون بها.. ولو تيسر لى ذلك لجاز أن يكون لى حكم على هذا التفسير مغاير لهذا الحكم، ورأى فيه مخالف لهذا الرأى..
والذى نلحظه فى هذا التفسير بعد ذلك: أنه يدافع عن أُصول مذهبه ويطيل فى دفاعه، مع تعصب كبير، وتطرف بالغ إلى درجة الغلو والعناد. أما فروع المذهب ومسائله الاجتهادية الفقهية، فيمر عليها مراً سريعاً بدون تفصيل للأدلة وبيان لوجهة النظر، كما نلاحظ فيه أنه لا يقتصر على النقل من تفاسير الشيعة بل ينقل من تفاسيرها أهل السُّنَّة أيضاً كالبيضاوى وغيره، وكثيراً ما ينقل بعض العبارات الفارسية لبعض العلماء كشاهد على ما يقول.
وبالجملة.. فالكتاب يكاد فى جملته أن يكون تفسيراً جارياً على النمط الذى يجرى عليه الصوفية فى تفاسيرهم، ويظهر أن مؤلفه كان يقصد هذا اللون الصوفى فى تفسيره أولاً، وبالذات، يدلنا على ذلك هذه العبارة التى نقتطفها من مقدمة تفسيره وهى قوله: ".. وقد كنت نشيطاً منذ أوان اكتسابى للعلوم وعنفوان شبابى بمطالعة(2/148)
كتب التفاسير والأخبار ومدارستها، ووفقنى الله تعالى لذلك، وقد كان يظهر لى فى بعض الأحيان من إشارات الكتب وتلويحات الأخبار لطائف ما كنت أجدها فى كتاب ولا أسمعها من خطاب، فأردت أن أُثبتها فى وريقات، وأجعلها نحو تفسير للكتاب، لتكون تذكرة لى ولإخوانى المؤمنين، وتنبيهاً لنفسى ولجملة الغافلين، راجياً من الله أن يجعلها لى ذخيرة ليوم الدين، ولسان صدق فى الآخرين وهو جدير بأن يسمى: "بيان السعادة فى مقدمات العبادة".
فأنت ترى أن المؤلف يقرر فى هذه العبارة أن تفسيره هذا عبارة عن مجموعة تلك الإشارات والتلويحات التى فتح الله بها عليه ولم يُسبق إليها، فلو أَنَّا جعلناه ضمن تفسير الصوفية لما كنا بعيدين عن وجهة الحق والصواب، ولكنا آثرنا أن نجعله ضمن تفاسير الإمامية الإثنا عشرية، لما فيه من اللَّون المذهبى والأثر الشيعى البالغ حد التطرف والغلو حتى فى ناحيته الصوفية والفلسفية. والكتاب مطبوع فى جزءين، وموجود بدار الكتب المصرية، آخره ما يدل على أن مؤلفه فرغ منه سنة 1311هـ.
وأرى قبل كل شئ أن أسوق للقارئ الكريم أهم الآراء التى يقول بها المصنِّف ويجهر بها فى مقدمة تفسيره، ثم أعرض بعد هذا لتوضيح مسلكه الذى سلكه فى هذا التفسير بما أذكره ضمن النماذج المختلفة. وإليك أهم هذه الآراء:
* الإمامية الإثنا عشرية والمهدى المنتظر:
يدين صابحنا بأن علياًَ أول العترة، ووارث علم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده الأحد عشر من ولده، وأن الحادى عشر منهم غائب قائم منتظر لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج ويملأ الأرض قِسْطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، وأن هؤلاء الإثنا عشر أئمته وشفعاؤه يوم القيامة.
* *
* القرآن والعترة:
ويعتقد المؤلف أن القرآن دليل العترة، وأن العترة مبينون للقرآن، ويقول: "إن القرآن إمام صامت، والعترة إمام ناطق"، كما يقول: "إن محبة العالِم من العترة وتعظيمه، والنظر إليه، والجلوس عنده، واستماع قوله وسماعه، والتدبر فى أفعاله وأحواله وأخلاقه، والتفكر فى شئونه والتسليم له والمتشابهات ما منه، وتخلية بيت القلب لنزوله بملكوته فيه، بملاحظة أنه حبل الله الممدود إلى الناس من غير عناد منه من أعظم العبادات. كذلك تعظيم القرآن، والنظر فى سطوره، واستماع كلماته وسماعها، والتدبر فى عباراته، والتفكر فى إشاراته ولطائفه، وتخلية بيت القلب(2/149)
لتجلى حقائقه، واتباع أحكامه وتسليم متشابهاته من أعظم العبادات إذا كان بلحاظ كونه حبلاً ممدوداً من الله".
* *
* علم القرآن جميعه عند محمد والأوصياء:
ويعتقد المؤلف أن علم القرآن جميعه عند النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة، أما مَن عداهم فعلمهم بمعانى القرآن قاصر لا يبلغ المبلغ الذى خُصَّ به النبى والأئمة، وذلك فى نظره راجع إلى تفاوت المقامات التى يتفاوت العلم بتفاوتها. ونظرية تفاوت المقامات التى يتفاوت من أجلها العلم بمعانى القرآن، نظرية فلسفية صوفية شيعية، وإليك نص عبارة المؤلف فى الفصل العاشر من مقدمة كتابه لتكون على بصيرة بها..
يقول المؤلف ما نصه: "الفصل العاشر: إن علم القرآن بتمام مراتبه منحصر فى محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيائه الإثنا عشر وليس لغيرهم إلا بقدر مقامه، قد مضى أن بطون القرآن وحقائقه كثيرة متعددة، وأن بطنه الأعلى وحقيقته العليا هو محمدية محمد، وعلوية علىّ، وهو مقام المشيئة التى هى فوق الإمكان، وكل نبى ووصى كان لا يتجاوز مقامه الإمكان سوى محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيائه، ومن لم يبلغ إلى مقام المشيئة لا يعلم ما فيه، ولا يتبين من ذلك المقام شيئاً، لأن المفسِّر لا يتجاوز فى تفسيره حد نفسه، فكل مَن علم من القرآن شيئاً أو فسَّر منه شيئاً وإن بلغ من المقامات لا يكون علمه وتفسيره بالنسبة إلى علم القرآن إلا كقطرة من بحر محيط، فإن حقيقة القرآن - التى هى حقيقة محمد وعلىّ - هى مقام الإطلاق الذى لا نهاية له، والممكن وإن كان أشرف الممكنات الذى هو العقل اإلكلى يكون محدوداً، ولا يتصور النسبة بين المحدود وغير المتناهى الغير محدود، فعلم كل عالِم ومفسِّر للقرآن بالنسبة إلى علم القرآن كقطرة إلى البحار. ولما كان مقام محمد صلى الله عليه وسلم وعلىّ وأولاده المعصومين مقام المشيئة كان علم القرآن كله عندهم، وكان علىّ هو مَن عنده علم الكتاب كما فى الآية بإضافة العلم إلى الكتاب المفيد للاستغراق. وكان آصف هو الذى عنده علم من الكتاب. وكان إبراهيم ابتلاه ربه بكلمات معدودة لا بجملة الكلمات، مع أنه كان أكمل الأنبياء بعد نبينا. وكان محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله وكلماته جميعاً فى قوله تعالى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] .. فإن "الكلمات" جمع مضاف مفيد للاستغراق، وليس المراد به الإيمان الإجمالى وإلا لشاركه غيره فيه، بل الإيمان التفصيلى، والإيمان التفصيلى لا يكون إلا بإدراك المؤمن به شهوداً وعياناً".
* *
* تحريف القرآن وتبديله:
والمؤلف يذكر لنا رأيه بوضوح فى تحريف القرآن وتبديله فيقول ما نصه: "اعلم أنه(2/150)
قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد يقع شك فى صدور بعضها منهم وتأويل الجميع بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هى فى مدركاتهم من القرآن لا فى لفظ القرآن كلغة، ولا يليق بالكاملين فى مخاطباتهم العامة، لأن الكامل يخاطب بما فيه حظ العوام والخواص، وصرف اللَّفظ عن ظاهره من غير صارف، وما تواهموه صارفاً من كونه مجموعاً عندهم فى زمن النبى، وكانوا يحفظونه ويدرسونه، وكانت الأصحاب مهتمين بحفظه عن التغيير والتبديل، حتى ضبطوا قراءات القُرَّاء وكيفيات قراءاتهم.
فالجواب عنه: أن كونه مجموعاً غير مُسَلَّم، فإن القرآن نزل فى مدة رسالته إلى آخر عمره نجوماً، وقد استفاضت الأخبار بنزول بعض السور وبعض الآيات فى العام الآخر، وما ورد من أنهم جمعوه بعد رحلته، وأن علياً جليس فى بيته مشغولاً بجمع القرآن، أكثر من أن يمكن إنكاره. وكونهم يحفظونه ويدرسونه مُسَلَّم، لكن كان الحفظ والدرس فيما كان بأيديهم، واهتمام الأصحاب بحفظه وحفظ قراءات القُرَّاء وكيفيات قراءاتهم كان بعد جمعه وترتيبه، وكما كانت الدواعى متوفرة فى حفظه، كذلك كانت متوفرة من المنافقين فى تغييره. أما ما قيل: إنه لم يبق لنا حينئذ اعتماد عليه، والحال أنَّا مأمورون بالاعتماد عليه، واتباع أحكامه، والتدبر فى آياته، وامتثال أوامره ونواهيه. وإقامة حدوده، وعرض الأخبار عليه، لا يعتمد عليه صرف مثل هذه الأخبار الكثيرة الدالة على التغيير والتحريف عن ظواهرها، لأن الاعتماد على هذا المكتوب ووجوب اتباعه، وامتثال أوامره ونواهيه، وإقامة حدوده وأحكامه، إنما هى للأخبار الكثيرة الدالة على ما ذُكِر، للقطع بأن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم من غير نقيصة وزيادة وتحريف فيه. ويُستفاد من هذه الأخبار: أن الزيادة والنقيصة والتغيير إن وقعت فى القرآن لم تكن مخلة بمقصود الباقى منه، بل نقول: كان المقصود الأهم من الكتاب الدلالة على العترة والتوسل بهم، وفى الباقى منه حُجَّتهم أهل البيت، وبعد التوسل بأهل البيت إن أمروا باتباعه كان حُجَّة قطعية لنا ولو كان مغيراً تغييراً مخلاً بمقصوده، وإن لم نتوسل بهم أو لم يأمروا باتباعه، وكان التوسل به، واتباع أحكامه، واستنباط أوامره ونواهيه، وحدوده، وأحكامه، من قِبَل أنفسنا كان من قِبَل التفسير بالرأى الذى منعوا منه، ولو لم يكن متغيراً".
* *
* نزول القرآن فى شأن الأئمة وأشياعهم وأعدائهم:
ويرى المؤلف أن القرآن نزل بتمامه فى الأئمة الإثنا عشر بوجه، ونزل فيهم وفى(2/151)
أعدائهم بوجه، ونزل أثلاثاً: ثلث فيهم وفى أعدائهم، وثلث سُنَن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام.. بوجه. أو ثلث فيهم وفى أحبائهم، وثلث فى أعدائهم، وثلث سُنَّة ومُثل.. بوجه. ونزل أرباعاً: ربع فيهم، وربع فى عدوهم، وربع سُنَن وأمثال، وربع فرائض وأحكام.. بوجه. ويرى أن كل هذا قد أشعرت به الأخبار الواردة عن أهل البيت، ويوجه ذلك فيقول: "لما كان جميع الشرائع الإلهية والكتب السماوية لتصحيح الطريق الإنسانية، وتوجيه الخلق إلى الولاية، وكان أصل المتحققين بالطريق الإنسانية والولاية والمتحقق بالولاية المطلقة محمداً صلى الله عليه وسلم وعلياً وأولادهما، صح أن يقال: جملة الشرائع الإلهية وجميع الكتب السماوية نزلت فيهم وفى توجيه الخلق إليهم. وهو أيضاً وصف وتبجيل لهم. ولما كان كثير من آيات القرآن نزلت فيهم تصريحا أو تعريضاً أو تورية، وما كان فى أعدائهم لم يكن المقصود منه إلا الاعتبار بمخالفيهم والانزجار عن مخالفتهم ليكون سبباً للتوجه إليهم ولمعرفة قدرهم وعظمة شأنهم، وكان سائر آيات الأمر والنهى والقصص والأخبار لتأكد السير على الطريق الإنسانية إلى الولاية، صح أن يقال: جميع القرآن نزل فيهم، ولما كان القرآن مفصَّلاً يكون بعض آياته فيهم وفى محبيهم. وبعضها فى أعدائهم ومخالفيهم، وبعضها سُنَناً وأمثالاً، وبعضها فرائص وأحكاماً، صح أن يقال: نزل القرآن فيهم وفى أعدائهم، أو نزل أثلاثاً أو أرباعاً، والآية الدالة على أخبار الأخيار والأشرار الماضين كلها تعريض بالأئمة وأخيار هذه الأمة وأشرارهم، مع قطع النظر عن رجوعها إليهم وإلى أعدائهم بسبب كونهم أصلا فى الخير وكون أعدائهم أصلاً فى الشر. بل نقول: كل آية ذُكِر فيها خير كان المراد بها أخيار الأُمة، وكل آية ذُكِر فيها شر كان المراد بها أشرار الأُمة، لكون الآية فيهم أو تعريضاً بهم، أو لكونهم وكون أعدائهم أصلاً فى الخير والشر".
هذه أهم آراء المصنِّف التى يراها فى القرآن وتفسيره ومُفسِّريه. وإليك بعض النماذج التى توضح لك الطريقة التى جرى عليها المصنِّف فى تفسيره، ومقدار تأثره بنزعته الصوفية، وهواه الشيعى:
* من التفسير الصوفى:
قلنا: إن هذا التفسير يغلب عليه الطابع الصوفى لكثرة ما فيه من التأويلات الإشارية، والشطحات الصوفية، والمواجيد التى تقرؤها للمؤلف فى تفسيره للآيات القرآنية، وإليك بعض المثل لتعرف مقدار طغيان هذه الناحية على باقى النواحى فى هذه التفسير:(2/152)
فمثلاً عندما تكلَّم عن قوله تعالى فى الآية [75] من سورة النساء: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هاذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} .. يقول عند تفسيره لقوله تعالى: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هاذه القرية} ... الآية: "إن كان النزول فى ضعفاء قِلَّة فلا اختصاص لها بهم كما فى الخبر. فالقرية مكة وكل قرية لا يجد الشيعة فيها ولياً من الإمام ومشايخهم، وكل قرية وقع بها الأئمة بين منافقى الأُمة، وقرية النفس الحيوانية التى لا يجد الجنود الإنسانية فيها ولياً ويطلبون الخروج منها إلى قرية الصدر ومدينة القلب. ويسألون الحضور عند إمامهم أو مشايخهم فى بيت القلب خالياً عن مزاحمة الأغيار بقولهم: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} .. تكرار "جعل"، لأن مقام التضرع والابتهال يناسبه التطويل والإلحاح فى السؤال، ولأن المسئول ليس شخصاً واحداً، ولو كان واحداً، لم يكن مسئولا من جهة واحدة، بل المسئول محمد صلى الله عليه وسلم وعلىّ، أو المسئول محمد من جهة هدايته ومن جهة نُصْرته، وعلىّ كذلك".
"وقد بقى بين الصوفية أن يكون التعليم والتلقين بتعاضد نفسين متوافقتين، يسمى أحد الشخصين هادياً والآخر دليلاً، والشيخ الهادى له الهداية وتولى أمور السالك فيما ينفعه ويجذبه، والشيخ الدليل ينصره لمدافعة الأعداء، ويخرجه عن الجهل والردى بدلالة طريق التوسل إلى شيخ الهدى، وفى الآية إشارة إلى أن السالك ينبغى له أن يطلب دائماً حضوره عند شيخه بحسب مقام نورانيته ومقام صدره، وهو معنى انتظار ظهور الشيخ فى عالم الصغير، وأما ظهور الشيخ بحسب بشريته على بشرية السالك، فلا يصدق عليه أنه لدن الله، وإذا ظهر الشيخ بحسب النورانية كان ولياً من لدن الله ونصيراً من لدنه".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [87] من سورة المائدة: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} .. يقول: ".. اعلم أن الإنسان ذو مراتب عديدة بعضها فوق بعض إلى ما لا نهاية له، والتكاليف الإلهية الواردة عليه ليست لمرتبة خاصة منه، بل - ما عرفتَ سابقاً - للمفاهيم الواردة فى التكاليف مصاديق متعددة بتعدد مراتب الإنسان. بعضها فوق بعض، فكل ما ورد فى الشريعة المطهَّرة من الألفاظ فهى مقصودة من حيث مفاهيمها العامة باعتبار جميع مصاديقها بحيث لا يشذ عنها مصداق من المصاديق، فالإنسان(2/153)
بحسب مرتبته النباتية له محللات إلهية، وبحسب مرتبته الحيوانية أخرى، وبحسب الصدر أخرى، وبحسب القلب أخرى، وبحسب الروح أخرى، والتحريم الإلهى فى كل مرتبة بحسبه، وكذا تحريم الإنسان على نفسه، فالمحللات بحسب مرتبته الحيوانية والنباتية: ما أباح الله له من المأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، والمنكوح، والمسكون، والمنظور، وبحسب الصدر: ما أباح الله له من الأفعال الإرادية، والأعمال الشرعية، والتدبيرات المعادية والمعاشية، والأخلاق الجميلة، والمكاشفات الصورية، وبحسب القلب: ما أباح الله له من الأعمال القلبية، والواردات الإلهية، والعلوم اللدنية، والمشاهدات المعنوية الكلية.. وهكذا فى سائر المراتب. والطيبات من ذلك فى كل مرتبة: ما تستلذه المدارك المختصة بتلك المرتبة، ومطلق المباح فى كل مرتبة طيب بالنسبة إلى مباح المرتبة الدانية منه، وأن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، ولا يحب الشره والاعتداء فى رخصه بحيث يؤدى إلى الانتقال إلى ما هو حرام محظور بأصل الشرع، أو بحيث يؤدى إلى صيرورة المباح حراماً بفضل التجاوز عن حد الترخيص بالإكثار فيه، كما لا يحب الامتناع عن رخصه، فمعنى الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تمتنعوا من الرخص، ولا تحرِّموا - بقسم وشبهة، ولا بكسل ونحوه - على أنفسكم ما تستلذه المدارك بحسب كل مرتبة وقوة مما أباحه الله لكم، لأن الله يحب أن يرى عبده مستلذاً بما أباحه له، كما يحب أن يراه مستلذاً بعباداته ومناجاته، ولا
تمتنعوا بالاكتفاء بمستلذات المرتبة الدانية عن مستلذات المرتبة العالية، فإنه يحب أن يرى عبده مُصِّراً على طلب مستلذات المرتبة العالية، كما يحب أن يراه فى هذه الحالة معرضاً عن مباحات المرتبة الدانية، مكتفياً بضرورياتها وراجحاتها. ولا تعتدوا عما أباح الله إلى ما حظره، وفى المباح إلى حد الحظر. والآية إشارة إلى التوسط بين التفريط والإفراط فى كل الأُمور من الأفعال والطاعات والأخلاق والعقائد والسير إلى الله، فإن المطلوب من السائر إلى الله أن يكون واقعاً بين إفراط الجذب وتفريط السلوك"..
ثم بعد ذلك فسَّر قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] بما يشبه التفسير السابق.. ثم بعد ذلك ذكر أن الآية نزلت فى علىّ وبلال وعثمان بن مظعون، فأما علىّ فحلف أن لا ينام بالليل، وأما بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، وأما عثمان ابن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبداً، فلما علم بذلك رسول الله خرج على الناس ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال أقوام يُحرِّمون على أنفسهم الطيبات؟ إنى أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سُنَّتى فليس منى"، فقام(2/154)
هؤلاء فقالوا: يا رسول الله؛ قد حلفنا على ذلك، فأنزل الله آيات الحلف.. ثم استشكل المؤلف على هذه الرواية إشكالين:
أولهما: أن مثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الأيمان غير مناسبة لمقام علىّ.
وثانيهما: أن علياً إما كان عالماً بأن تحريم الحلال إن كان بالاستبداد والرأى كان من البدع والضلال، وإن كان بالنذر وشبهه كما دَلَّ عليه الخبر، كان مرجوحاً غير مرضى لله تعالى، ومع ذلك حرَّمه على نفسه، أو كان جاهلاً بذلك، وكِلا الوجهين غير لائق بمقامه..
ثم أجاب عن هذين الإشكالين بجواب كله من قبيل النظرات الصوفية فقال: "والجواب الجلى لطالبى الآخرة والسالكين إلى الله، الذين بايعوا علياً بالولاية، وتابعوه بقدم صدق، واستشهوا نفحات نشأته حال سلوكه أن يقال: إن السالك إلى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسلوك، بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف، وإفراط الجذب الصرف، فإنه إن كان فى نشأة السلوك فقد جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير. وإن كان فى نشأة الجذب فقط، فنى بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته، بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر، وهو وإن كان فى روح وراحة، لكنه ناقص كمال النقص من حيث أن المطلوب منه حضوره بالعودة لدى ربه مع جنوده، وخدمه، وأتباعه، وحشمه، وهو طرح الكل، وتسارع بوحدته، فالسالك إلى الله تكميله مربوط بأن يكون فى الجذب والسلوك منكسراً برودة سلوكه بحرارة جذبه، فالجذب والسلوك كالليل والنهار وكالصيف والشتاء، من حيث أنهما يربيان المواليد بتضادهما، فهما - مع كونهما متنازعين متآلفان متوافقان.
إذا علمت ذلك، فاعلم أن السالك إذا وقع فى نشأة الجذب، وشرب من شراب الشوق الزنجبيلى، سكر وطرب ووجد، بحيث لا يبقى فى نظره سوى الخدمة للمحبوب، وكل ما رآه منافياً للخدمة رآه ثقلاً ووبالاً على نفسه ومكروهاً لمولاه، فيصمم فى طرحه، ويعزم على ترك الاشتغال به، وهو من كمال الطاعة لا أنه ترك الطاعة كما يظن، فلا ضير أن يكون أمير المؤمنين حال سلوكه وقع فى تلك النشأة، وحرَّم على نفسه كل ما يشغله عن الخدمة، لكمال الاهتمام بالطاعة، ولما لم يكن تحصيل الكمال التام إلا بالجمع بين النشأتين، أسقاه محمد صلى الله عليه وسلم من شراب السلوك، لأنه كان مكملاً مربياً له ولغيره، ولذا قالوا: لأن يكون للسالك شيخ وإلا فيوشك أن يقع فى الورطات المهلكة، ولا منقصة فى أمثال هذه المعاتبات على الأحباب، بل فيها من اللطف والترغيب فى الخدمة ما لا يخفى، وعلىّ كان عالماً بأن الكمال لا يحصل إلا بالنشأتين، لكنه يرى حين الجذب أن كل ما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب،(2/155)
ومرجوح عنده، فحلف على ترك المرجوح. أو يقال: إن علياً لما كان شريكاً للرسول صلى الله عليه وسلم فى تكميل السلاك لقوله: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى"، وكان له شأن الدلالة، ولمحمد شأن الإرشاد، والمرشد بنشأته النبوية شأنه تكميل السالك بحسب نشأة السلوك، وإن كان بنشأته الولوية وشأن الإرشاد شأنه التكميل بحسب الجذب، والدليل بنشأته الولوية شأنه التكميل بحسب نشأة الجذب، وإن كان بنشأته النبوية وشأن الدلالة شأنه التكميل بحسب السلوك فالدليل بولايته يقرب السالك إلى الحضور، ويعلمه آداب الحضور، وطريق العبودية، من عدم الالتفات إلى ما سوى المعبود، وطرح جميع العوائق من طريقه، والمرشد بنبوته يُبعده عن الحضور، ويُقربه إلى السلوك، ويرغبه فيه، فهما فى فعلهما كالنشأتين: متضادان متوافقان، فأمير المؤمنين لما رأى بلالاً وعثمان مستعدين لنشأة الجذب، رغَّبهما إلى تلك النشأة بطرح المستلذات وترك المألوفات، وشاركهما فى ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتم جذبهما، ولما مضى مدة ورأى الرسول أن عودهما إلى السلوك أوفق وأنفع لهما، ردهما إلى نشأة السلوك، وعاتبهما بألطف عتاب، ولا يرد نقص على أمير
المؤمنين. ولما قالوا بعد عتابه: قد حلفنا.. نزل {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225، المائدة: 89] ، وهو الذى يؤتى به للتأكيد فى الكلام كما هو عادة العوام".. إلخ.
فأنت ترى من هذين المثالين السابقين، أن المؤلف يفيض فى الناحية الصوفية فى تفسيره للآيات، كما أنه لم يخل تفسيره الصوفى من التشيع لعلىّ وذُرِّيته بل ومن اتخاذه مخرجاً يخرج به من الإشكالات التى ترد عليه.
* *
* من التفسير الفلسفى:
كذلك نجد المؤلف فى كثير من الأحيان يخلط البحوث الفلسفية بتفسيره للآيات القرآنية، فمثلاً فى أول سورة الإسراء نراه يحقق أن المعراج كان بجسده وروحه عليه السلام، ويرد على الفلاسفة الذين ينكرون ذلك، ويقدم لبحثه هذا بمقدمة كلها نظريات فلسفية مخلوطة ببعض خرافات منسوبة إلى الإمام علىّ رضى الله عنه، وذلك حيث يقول:
"العالَم ليس منحصراً فى هذا العالَم المحسوس المعبَّر عنه بعالَم الطبع بسماواته وأرضيه، بل فوقه البرزخ، وهو عالَم بين عالَم الطبع وعالَم المثال، وله الحكومة على عالَم الطبع والتصرف فيه أى تصرف شاء، من الإحياء والإماتة، وإيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وستر المحسوس، وإظهار غير المحسوس بصورة المحسوس. ومنه طى(2/156)
الأرض، والسير على الماء والهواء، والدخول فى النار سالماً، وقلب الماهيات. ومنه طى الزمان، كما ورد فى الأخبار أنه قال المعصوم لمنافق: اخسأ فصار كلباً. وقال لآخر: أنت امرأة بين الرجال فصار امرأة. وأنكر آخر قلب الماهيات عند المعصوم، فسار إلى نهر ليغتسل فدخل الماء وارتمس فخرج ورأى نفسه امرأة على ساحل بحر قرب قرية منكورة، فدخلت القرية وتزوجت وعاشت مدة وولدت لها أولاد.. ثم خرجت لتغتسل فى البحر فدخلت الماء وارتمست فخرجت على ساحل النهر المعهود وهو رجل وإذا بثيابه موضوعة كما وضعها. فلبسها ودخل بيته وأهله غير شاعرين بغيبته لقصر الزمان، وأمثال ذلك رويت عن التابعين لهم على الصدق، وهذا من قبيل بسط الزمان إن كان وقوعه فى عالَم الملك، كما نقل أن امرأة وقع لها ذلك فأخبرت وأنكرها جماعة فأُتيت بأولادها بعد ذلك من بلدة بعيدة، مع أنه لم يمض فى بلدها قدر ساعة، أو من قبيل البسط فى الدهر من غير تصرف فى الزمان إن كان وقوعه فى الملكوت. وفوق البرزخ عالَم المثال، وله التصرف فى البرزخ والطبع. وفوقه عالَم النفوس الكليات المعبَّر عنها بـ {فالمدبرات أَمْراً} [النازعات: 5] . وفوقه الأرواح المعبَّر عنها بـ {والصافات صَفَّا} [الصافات: 1] ، ويُعبَّر عنها فى لسان الإشراقيين بأرباب الأنواع وأرباب الطلَسمات. وفوقها العقول المعبَّر عنها بالمقرَّبين. وفوقها الكرسى وفوقه العرش، وهو سرير الملك المتعال، وهما بين الوجوب والإمكان لا واجبان ولا ممكنان، بل فوق الإمكان وتحت الوجوب. وكل من تلك العوالم له الإحاطة والتصرف والحكومة على جميع ما دونه، فإذا غلب واحد من تلك العوالم على ما دونه صار ما دونه بحكمه، وذهب عنه حكم نفسه.
ثم اعلم أن الإنسان مختصر من تلك العوالم، وله مراتب بإزاء تلك العوالم، وكل مرتبة عالية لها الحكومة على ما دونها من غير فرق، كما نشاهده من حكومة النفس على البدن والقوى، لكن تلك المراتب فى أكثر الناس بالقوة، وما بالفعل من النفس المجردة التى هى بإزاء عالَم النفوس ضعيفة غاية الضعف، بحيث لا يمكنها التصرف فى بدنها زائداً على ما جعله الله فى جبلتها، فكيف بغير بدنها؟ فإذا صار بعض تلك المراتب بالفعل كما فى أكثر الأنبياء والأولياء، أو جميعها كما فى خاتم الأنبياء وصاحبى الولاية الكلية، كان لهم التصرف فى أبدانهم بأى نحو شاءوا، وفى سائر أجزاء العالم، كما روى عن الأنبياء والأولياء من طى المكان والزمان، والسير على الماء والهواء، ودخول النار، وإحياء الموتى، وإماتة الأحياء، وقلب الماهيات، وغير ذلك مما لا يُنكر تمامها لكثرتها، وتواتر الأخبار بمجموعها وإن كان آحادها غير متواترة. وأما(2/157)
التصرف فى البدن الطبيعى بحيث يُخرجه عن حكم الإمكان ويُدخله فى عالم العرش الذى هو فوق الإمكان وفوق عالَم العقول والملائكة المقرَّبين، كما روى أن جبريل تخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى المعراج، وقال: لو دنوتُ أنملة لاخترقت، مع أنه من عالَم العقول المقرَّبين، فهو من خواص خاتم الكل فى الرسالة والنبوة والولاية، وهو من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره لا نبى مرسل ولا خاتم الأولياء. ولذلك جعلوا المعراج الجسمانى بالكيفية المخصوصة من خواصه صلى الله عليه وسلم. ولما كان المعراج بتلك الكيفية أمراً لا يتصور أمر فوقه من الممكن، وكان لا يتيسر إلا إذا غلب العالَم الذى فوق الإمكان على البدن الطبيعى ولا تتيسر تلك الغلبة بسهولة ولكل واحد وفى كل زمان، قالوا: إن المعراج للنبى صلى الله عليه وسلم كان مرتين، مع أنه نُسِب إلى بعض العرفاء أنه قال: إنى أعرج كل ليلة سبعين مرة، والمعراج بالروح أمر يقع لكثير من الرياضيين، بل ورد أن الصلاة معراج المؤمن.
إذا تقرر ذلك نقول: إنه عرج ببدنه الطبيعى وعليه عباءته ونعلاه إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماوات، ومنها إلى الملكوت، ومنها إلى الجبروت، ومنها إلى العرش الذى هو فوق الإمكان، وفى هذا السير تخلَّف جبريل عنه صلى الله عليه وسلم، لأنه كان من عالَم الإمكان، ولم يكن له طريق إلى ما فوق الإمكان، لأن الملائكة كُلٌ له مقام معلوم لا يتجاوزه، بخلاف الإنسان. ولم يكن منه ذلك المعراج إلا مرتين كما فى الأخبار، ولا يلزم منه خرق السماوات، لارتفاع حكم الملك عن بدنه بغلبة الملكوت - ولا استغراب فى عروج البدن الطبيعى إلى الملكوت والجبروت - ولسقوط حكم الملك بل حال الإمكان عنه مع بقاء عينه، ولا غرو فى كثرة وقائعه فى المعراج، فإنه من بسط الدهر مع قصر الزمان كما قال: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ، وقال أيضاً: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] .. فقدر ساعة من الدهر بإزاء ساعة من الزمان تكون كألف ساعة من الزمان أو خمسين ألف ساعة".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [21] من سورة الحِجْر: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .. يقول ما نصه: "اعلم أنه قد يُطلق الشئ ويراد به ما يساوق الموجود، فيشمل الحق الأول تعالى شأنه. وقد يُطلق ويُراد به المشئ وجوده، فلا يشمل الحق الأول، ولا حضرة الأسماء ولا حضرة الفعل الذى هو مبدأ إضافاته، ويشمل الممكنات كلها من حضرة العقول المعبَّر عنها بالأقلام العالية والملائكة المقرَّبين، وحضرة الأرواح المعبَّر عنها بأرباب الأنواع والصَّافات صفاً، وحضرة النفوس الكلية المعبَّر عنها بالأرواح(2/158)
الكلية المحفوظة والمدبِّرات أمراً، وحضرة النفوس الجزئية بألواح المحو والإثبات وبعالم المثال باعتبارين، ويشمل موجودات عالَم الطبع تماماً، وكل ما فى تلك الحضرات له حقيقة فى حضرة الأسماء، وحقيقة فى حضرة الفعل والإضافة الإلهية الإشراقية. وكل ما فى حضرة الفعل له حقيقة أيضاً فى حضرة الأسماء، وكل ما فى حضرة الأرواح له حقيقة فى حضرة الأقلام، وحقيقة فى حضرة الفعل، وحقيقة فى حضرة الأسماء، وهكذا حضرة النفوس الكلية وما فيه، وحضرة النفوس الجزئية وما فيها، وعالَم الطبع وما فيه، وبعبارة أخرى: كل دان له صورة بالاستقلال فى العالى، وصورة بالاستقلال فى عالى العالى، وصروة بتبع العالى فى عالى العالى، فلكل شئ من الممكنات حقائق فى حضرة الأسماء استقلالاً وتبعاً، وهكذا فى حضرة الفعل، وهكذا فى حضرة الأقلام إلى عالَم المثال، وكل تلك الحضرات من حيث إنها عوالم مجردة عن المادة وأغشيتها، تسمى "عند الله"، و "لدن الله"، لحضورها فى محضره، ولما كانت تلك الحقائق محفوظة عن التغير والتبدل كالأشياء النفيسة المخزونة المحفوظة، سمَّاها تعالى بالخزائن، فكل ما فى عالَم الملك له حقيقة فى عالَم المثال، ينزله - تعالى شأنه - من عالَم المثال إلى عالم الملك بقدر استعداد المادة لقبوله وحين استعدادها، وهكذا من النفوس الكلية إلى عالَم المثال، وهكذا الأمر فى العالى والأعلى إلى حضرة الأسماء. ولما كان موجودات عالَم الملك متحددة بالتحدد الذاتى، بمعنى أنها كل آن فانية عن ذواتها، وموجودة بموجدها كما حقق فى محله، فما من شئ مما فى عالم
الملك إلا ويفنى آنا فآناً، وينزله تعالى من خزائنه آناً فآناً، فلذلك قال: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .
* *
* آل البيت والأُمم السابقة:
ومما نلاحظه على المؤلف أنه يذكر لنا من الأخبار ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وآل بيته كانوا معروفين عند الأُمم السابقة، وكان لهم أشياع وأتباع يوالونهم، ويتوسَّلون بهم، وينالهم الخير والبركة بسبب حبهم.
وهذه الروايات لا نعتقد إلا أنها من قبيل الخرافات التى تسلَّطت على عقول أولئك القوم، ومن هذه الروايات - مثلاً - ما ذكره المؤلف فى قصة قتيل بنى إسرائيل المذكورة فى قوله تعالى فى الآية [67] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} ... الآيات إلى آخر القصة من أن موسى جمع أماثل القبيلة التى وجد القتيل فيها، وألزمهم أن يحلف خمسون منهم بالله(2/159)
القوى الشديد إله بنى إسرائيل بفضل محمد وآله الطيبين على البرايا أجمعين ما قتلناه ولا علمنا له قائلاً.
وبعد ذلك بقليل يذكر أنهم طلبوا هذه البقرة المذكورة بأوصافها فى القرآن فلم يجدوها إلا عند شاب من بنى إسرائيل أراه الله فى منامه محمداً وعلياً وطيبى ذُرِّيتهما فقالا: إنك كنت لنا محباً مفضِّلاً، ونحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك فى الدنيا، فإذا راموا شراء بقرتك فلا تبعها إلا بأمر أُمك، فإن الله يلقنها ما يغنيك عقبك، وجاء القوم يطلبون بقرته، فقالوا: بكم تبيع بقرتك هذه؟ قال: بدينارين، والخيار لأمى، قالوا: رضينا بدينار، فسألها، فقالت: بأربعة، فأخبرهم، فقالوا: نعطيك دينارين، فأخبر أُمه، فقالت: ثمانية، فما زالوا يطلبون على النصف مما تقول أُمه، ويرجع إلى أمه فتَضَعِّف الثمن حتى بلغ ثمنها ملئ مسك ثور أكبر ما يكون دنانير، فأوجب لهم البيع فذبحوها وما كادوا يفعلون.. ".
وبعد ذلك بقليل يقول: "وفى تفسير الإمام: أن أصحاب البقرة ضجوا إلى موسى وقالوا: افتقرت القبيلة، وانسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا، فأرشدهم موسى إلى التوسل بنبينا صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إليه: ليذهب رؤساؤهم إلى خربة بنى فلان ويكشفوا عن موضع كذا ويستخرجوا ما هناك، فإنه عشرة آلاف ألف دينار، وليردوا على كل مَن دفع من ثمن هذه البقرة ما دفع، لتعود أحوالهم على ما كانت، ثم ليتقاسموا بعد ذلك ما يفضل وهو خمسة آلاف ألف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم، لتتضاعف أموالهم جزاء على توسلهم بمحمد وآله، واعتقادهم لتفضيلهم".
كما يروى أنهم توسلوا إلى الله تعالى بالنبى محمد وآله عند ضربهم للقتيل ببعض البقرة، لأجل أن يُحييه لهم فاستجاب، وأن القتيل بعد حياته توسل إلى الله بمحمد وآله أن يُبقيه فى الدنيا متمتعاً بابنة عمه، ويجزى عنه أعداءه، ويرزقه رزقاً كثيراً طيباً، فوهب له سبعين سنة زيادة على السنين التى عاشها قبل ذلك، وعاش فى الدنيا صحيحة حواسه، قوية شهواته، متمتعاً بحلال الدنيا، وعاش معها لم يفارقها ولم تفارقه، وماتا جميعاً معاً، وصارا إلى الجنة وكانا فيها زوجين ناعمين".
* *
* قصص القرآن:
وإنَّا لنجد المؤلف يقرر فى غير موضع من كتابه: أن القصص القرآنى وما ورد فى شروحه من الروايات على اختلافها وتضاربها، ليس المقصود منه ظاهره الذى يتبادر إلى الذهن، بل هى مَن قبيل المرموزات التى رمزوا بها لأشياء يعلمونها ويريدونها، كما(2/160)
يقرر أن من يريد حملها على الظاهر فلا بد وأن يتحَّير فيها، وليس يمكن له أن يصل إلى حقيقتها، والمقصود منها بمجرد قوته البَشرية: فعندما تكلم على قصة آدم فى أول البقرة وجدناه يقول: "ولما كان قصة آدم وخلقته، وأمر الملائكة بسجدته، وإباء إبليس عن السجود، وهبوطه من الجنَّة، وبكائه فى فراق الجنَّة وفراق حواء، وخلقته حواء من ضلع الجنب الأيسر، وغرروة بقول الشيطان وحواء، وكثرة نسله، وحمل حواء فى كل بطن ذكراً وأُنثى، وتزويج كل بطن لذكر البطن الآخر من مرموزات الأوائل، وقد كثر ذكره فى كتب السَلَف خصوصاً كتب اليهود وتواريخهم، وردت أخبارنا مختلفة فى هذا الباب اختلافاً كثيراً، مرموزاً بها إلى ما رمزوه، ومَن أراد أن يحملها على ظاهرها تحيَّر فيها، ومَن رام أن يدرك المقصود بقوته البَشرية والمدارك الشيطانية منها طُرِد عنها، ولم يدرك منها إلا خلاف مدلولها".
وبعد أن يقرر المؤلف هذا نراه يكشف لنا عن تلك الأُمور المرموز إليها فى القصة، لا بقوته البشرية، فإنها عاجزة عن إدراكها كما يقول، بل بقوته الروحية التى تستلهم المعارف من الله، وذلك حيث يقول فى أثناء تفسيره للقصة نفسها: "اعلم أن قصة خلق آدم من الطين، وحواء من ضلعه الأيسر. وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وإباء إبليس عن السجدة، وإسكان آدم وحواء الجنة، ونهيهما عن أكل شجرة من أشجارها، ووسوسة إبليس لهما، وأكلهما من الشجرة المنهية، وهبوطهما، من المرموزات المذكورة فى كتب الأُمم السالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقاً، فالمراد بآدم فى العالَم الصغير: اللطيفة العاقلة الآدمية، الخليفة على الملائكة الأرضيين، وعلى الجِنَّة والشياطين المطرودين عن وجه أرض النفس والطبع، المسجودة للملائكة، المخلوقة من الطين، الساكنة فى جنَّة النفس الإنسانية، وهى أعلا من مقام النفس الحيوانية، المخلوق من ضلع جنبها الأيسر الذى يلى النفس الحيوانية زوجتها المسماة بحواء، لكدورة لونها بقربها من النفس الحيوانية. والمراد بالشجرة المنهية: مرتبة النفس الإنسانية التى هى جامعة لمقام الحيوانية والمرتبة الآدمية. والمراد بالحيَّة واختفاء إبليس بين لحييها: القوة الواهمة، فإنها لكونها مظهراً لإبليس، تسمى بإبليس فى العالَم الصغير، ووسوسته: تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الأيسر من آدم المغبَّر عنه بحواء. وهبوط آدم وحواء عبارة عن تنزيلهما إلى مقام الحيوانية. وهبوط الحيَّة وذُرِّيتهما: عبارة عن تنزلهما عن مقام التبعية لآدم، فإن إبليس لما كان الواهمة أحد مظاهره كان رفعتها رفعته، وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته، وهبوط الواهمة كان هبوطاً له، وإذا أريد بالشجرة: النفس الإنسانية ارتفع الاختلاف من الأخبار، فإن النفس الإنسانية شجرة لها أنواع الثمار(2/161)
والحبوب، وأصناف الأوصاف والخصال، لأن الحبوب والثمار وإن لم تكن بوجود ذاتها العينية الدانية الموجودة فيها لكن الكل بحقائقها موجودة فيها، فتعيين تلك الشجرة بشئ من الحبوب والثمار، والعلوم والأصناف بيان لبعض شئونها.
روى فى تفسير الإمام: أنها شجرة علم محمد وآل محمد الذين آثرهم الله تعالى دون سائر خلقه، فقال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} [البقرة: 35] شجرة العلم، فإنها لمحمد وآله دون غيرهم، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم. ومنها ما كان يتناوله النبى صلى الله عليه وسلم، وعلىّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، بعد إطعامهم المسكين، واليتيم، والأسير، حتى لم يحسوا بجوع، ولا عطش ولا تعب ولا نَصّب، وهى شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعاً من الثمار، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البُرّ، والعِنَب، والتِّين، والعُنَّاب، وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون.. فقال بعضهم: بُرَّة، وقال آخرون: هى الشجرة التى مَن تناول منها بإذن الله أُلْهِمَ عِلْم الأوَّلين والآخرين من غير تعلم، ومن تناول بغير إذن الله خاب مراده وعصى ربه".
أقول: "آخر الحديث يدل على ما قالته الصوفية من أن السالك ما لم يتم سلوكه، ولم ينته إلى مقام الفناء، ولم يرجع إلى الصحو بعد المحو بإذن الله، لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النفس زائداً على قدر الضرورة. وشجرة علم محمد وآل محمد إشارة إلى مقام النفس الجامع لكمالات الكثرة والواحدة".
وفى سورة البقرة أيضاً عندما تكلَّم عن قصة هاروت وماروت يقول: "اعلم أن أكثر قصص سليمان كان من مرموزات الأوائل، وأخذها المتأخرون بطريق الأسمار، وأخذوا منها ظاهرها الذى لا يليق بشأن الأنبياء، وورد عن المعصومين تقرير ما أخذوه أسماراً نظراً إلى ما رمزها الأقدمون، وأمثال هذه ورد عنهم تكذيبها نظراً إلى ظاهر ما أخذها العوام، وتصديقها نظراً إلى ما رمزوا إليه".
وفى أول سورة النساء عند قوله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ... الآية: يقول: "لما كان تلك الحكاية وأمثالها من مرموزات الأوائل من الأنبياء والأولياء والحكماء التابعين لهم، وحملها العوام من الناس على ظاهرها، اختلفت الأخبار فى تصديقها وتقريرها وتكذيبها وتوهينها، فإن فى كيفية خلقه آدم وتناسلهما وتناكحهما وتناكح أولادهما، وكذا فى قصة هاروت وماروت. وقصة داود، وغير ذلك، اختلافاً كثيراً فى الأخبار، واضطراباً شديداً، بحيث يورث التحير والاضطرابات لمن لا خبرة له، حتى يكاد يخرج من الدين، ولكن الراسخين فى العلم(2/162)
يعلمون أن كلاً من معادن النبوة ومحال الوحى صدر، ولا اختلاف فيها ولا اضطراب، جعلنا الله منهم، والله ولى التوفيق".
وفى سورة [ص] عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} .. الآيات من [34] إلى تمام القصة، يقول بعد ما ذكر قصة الفتنة: "وأمثال هذه، وأمثال روايات سلب مُلْك سليمان، وجلوس الشيطان على كرسيه، وكون مُلْكه منوطاً بخاتم، ليس إلا من الرموز التى رمزها الأقدمون، ثم أخذها العامة بصورها الظاهرة، ومفاهيمها العامية، ونسبوا إلى الأنبياء ما لا يليق أن ينسب إلى مؤمن، فكيف بكامل أو نبى"؟!.
* *
* الإمامية:
والمؤلف يقرر فى تفسيره إمامة علىّ رضى الله عنه، وخلافته للنبى صلى الله عليه وسلم بدون فصل، فمثلاً فى تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة المائدة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} .. نجده يؤكد أن الآية نازلة فى حق علىّ رضى الله عنه، وأن المراد من الولاية ولاية التصرف لا ولاية المعاشرة، ويرد على مَن يخالف ذلك بما يظهر له من الدليل، كما يبين السر الذى من أجله ذُكِر علىّ بوصفه دون اسمه. وذلك حيث يقول: "قد ورد من طريق العامة والخاصة أن الولاية نازلة فى علىّ حين تصدَّق فى المسجد فى ركوع الصلاة بخاتمه أو بحُلَّته التى كان قيمتها ألف دينار، ومفسرو العامة لا ينكرون الأخبار فى كونها نازلة فى أمير المؤمنين وقد نقلوا بطرق عديدة من رواتهم أنها نزلت فى علىّ، ومع ذلك يقولون فى تفسيرها: إن الآية نزلت بعد النهى عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء، ولا شك أن المراد بالأولياء هناك أولياء المعاشرة، بقرينة المقابلة، وبقرينة جمع المؤمنين، ولو كان المراد أمير المؤمنين وبالولاية ولاية التصرف لصرَّح باسمه، أو لقال: "والذى آمن" بالإفراد، وهم غافلون عن أنه لو صرَّح باسمه، أو أفرد المؤمن - مع الاتفاق فى أنها نازلة فى أمير المؤمنين - لأسقطوه تمويهاً على عابدى عِجْلهم، فنقول: نسبة الولاية أولاً إلى الله، ثم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وآله، ثم إلى الذين آمنوا، تدل على أن المراد بالولاية ولاية التصرف التى فى قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] .. لأن ولاية الله ليست ولاية المعاشرة ولا ولاية الرسول، بقرينة العطف، وبما هو معلوم من الخارج، فكذلك ولاية الذين آمنوا بقرينة العطف، وبقرينة عدم تكرار الولى، فإن المراد أن الولاية ههنا أمر واحد مترتب فى الظهور، فإن ولاية الرسول ليست شيئاً سوى ولاية الله، وولاية الله تتحقق بولاية الرسول، فهكذا ولاية الذين آمنوا، فإنها ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تظهر فى ولاية الذين آمنوا على ما قاله الشيعة، ولو كان المراد ولاية(2/163)
المعاشرة كان "أولياؤكم" بلفظ
الجمع أولى، وتقييد الذين آمنوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فى حال الركوع يدل على أنها ليست ولاية المعاشرة، وإلا لكان جملة المؤمنين فيها سواء، وليس كل المؤمنين متصفين بالصفات المذكورة، على أنه لا خلاف معتداً فى أنها نزلت فى علىّ وصورة الأوصاف خاصة به، وقوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} بالمضارع إشارة إلى أن هذا الوصف مستمر لهم، يعنى حالهم استمرار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فى حال الخضوع لله، لا فى حال بهجة النفس، لأنهم {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] .. بخلاف الفاعل من قِبَلِ النفس فإن شأنه الارتضاء بفعله، وتوقع المدح من الغير على فعله، لأن كل حزب من أحزاب النفس بما لديهم فرحون، ويحبون أن يُحمدوا على ما لم يفعلوا، فضلاً عمَّا فعلوا. واستمرار الصفات بحسب المعنى: لعلىّ وأولاده المعصومين بشهادة أعدائهم، وبحسب الصورة: ما كان أحد مصداقها إلا علىّ نقلاً عن طريق العامة والخاصة. ووقع صدور الزكاة فى الركوع من كل الأئمة كما ورد عن طريق الخاصة. وفى نسبة الولاية إلى الله دون المخاطب والإتيان بأداة الحصر دلالة تامة على أن المراد بها ولاية التصرف، فإنها ثابتة لله ذاتاً ولرسوله ولخلفاء رسوله باعتبار كونهما مظهرين لله، وليس لأحد شركة فيها، وليس المراد بها ولاية المعاشرة التى تكون بالمواضعة والاتخاذ، وإلا لم يكن للحصر وجه، وكان اقتضاء المقابلة أن يقول: بل أنتم أولياء الله ... إلخ، أو: بل اتخذوا الله ورسوله والمؤمنين أولياء، ولأن المراد بها ولاية التصرف التى كانت بالذات لله قال فى عكسه: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ} .. إشعاراً بأن الولاية السابقة هى ولاية التصرف وليست لغير الله إلا قبولها، ومَن قبلها منهم باستعداده لظهورها فيه صار مرتبطاً بالله وخلفائه، ومَن صار مرتبطاً بالله صار من حزب الله، ومن صار من حزب الله كان غالباً {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] . ولو كان المراد بها المعاشرة لكان الأوْلى أن يقول: ومن يتخذ الله، أو: ومَن صار ولياً لله، والحاصل: أن فى لفظ الآية دلالات واضحة على أن
المراد بالولاية ولاية التصرف، وأنها بعد الرسول ليست لجملة المؤمنين، بل لمن اتصف بصفات خاصة كائناً مَن كان، متعدداً أو منفرداً، سواء قلنا نزلت فى علىّ أو لم نقل، لكن باتفاق الفريقين لم توجد الأوصاف إلا فيه، ونزلت الآية فى حقه، والمراد بـ {الذين آمَنُواْ} ههنا، هم الموصوفون فى الآية السابقة، لما تقرر عندهم أن المعرفة إذا تكررت كانت عَيْن الأولى".
وفى سورة المائدة أيضاً عند قوله تعالى فى الآية [67] : {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ... الآية، نجده يدَّعى - كغيره من الإمامية - أن القراءة(2/164)
الصحيحة كانت: "بَلِّغ ما أُنزل إليك من ربك فى علىّ"، ويحمل التبليغ المأمور به النبى على ذلك فحسب، ويمنع إرادة العموم، ويُقيم الأدلة على ذلك رداً على مَن يدَّعى العموم، وغرضه من ذلك كله إثبات إمامة علىّ رضى الله عنه بنص القرآن الكريم".
* *
* الرجعة:
والمؤلف يتأثر بعقيدة الرجعة، فلهذا نراه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [56] من سورة البقرة: { ... ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .. يستدل بهذا البعث على جوار الرجعة فيقول: "وهذه الآية تدل على جواز الرجعة كما ورد الإخبار عنها وصارت كالضرورى فى هذه الأمة. وقد احتج أمير المؤمنين عليه السلام بها على ابن الكواء فى إنكاره الرجعة".
* *
* تحريف القرآن:
ولما كان المؤلف ممن يقولون بوقوع التحريف والتبديل فى القرآن، فإنَّا نجده عندما يصطدم بقوله تعالى فى الآية [9] من سورة الحِجْر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .. يحاول أن يتخلص من هذا النص الذى يجبهه فيقول: "ولا ينافى حفظه تعالى للذِكْر بحسب حقيقة التحريف فى صورة تدوينه، فإن التحريف إن وقع وقع فى الصورة المماثلة له كما قال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هاذا مِنْ عِنْدِ الله} [البقرة: 79] ، وكما قال: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78] .
* *
* موقف المؤلف من الصحابة:
لم نلاحظ على المؤلف فى تفسيره هذا ما يدل صراحة على أنه يُكَفِّر أحداً من الصحابة، كما لاحظنا على ملا محسن فى تفسيره، غاية الأمر أننا نأخذ عليه أنه أحياناً يقف من الآيات التى وردت فى شأن بعض الصحابة وما لهم من الفضل موقفاً يراد منه سلب هذا الفضل عنهم أو تقليل أهميته، وأحياناً بنسب إلى بعض الصحابة ما يكاد يكون تصريحاً منه بفسقهم أو كفرهم.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [144] من سورة آل عمران: { ... وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} نراه يصرف لفظ(2/165)
"الشاكرين" عن عمومه ويريد منه خصوص علىّ ونفر معه فيقول: "والمراد بالشاكرين ههنا: علىّ ونفر يسير بقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم المسلمون" هنا يروى رواية عليها دليل الوضع وسمته فيقول:
"روى عن الصادق: أنه لما انهزم المسلمون يوم أُحُد عن النبى صلى الله عليه وسلم انصرف إليها بوجهه وهو يقول: أنا محمد رسول الله، لم أُقتل ولم أمت، فالتفت إليه فلان وفلان فقالا: الآن يسخر بنا أيضاً وقد هُزِمنا، وبقى معه علىّ وأبو دجانة رحمه الله، فدعاه النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا دجانة؟ انصرف وأنت فى حِلَّ من بَيْعتك، فأما علىّ فهو أنا، وأنا هو، فتحوَّل وجلس بين يدى النبى وبكى وقال: لا واللهِ، ورفع رأسه إلى السماء وقال: لا واللهِ، لا جعلتُ نفسى فى حِلٍّ من بَيْعتك، إنى بايعتك فإلى مَنْ انصرف يا رسول الله؟ إلى زوجة تموت؟ أو ولد يموت؟ أو دار تخرب ومال يفنى وأجل قد اقترب؟ فَرَق له النبى صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يُقاتل حتى قُتل، فجاء به علىّ إلى النبى فقال: يا رسول الله؛ أوفيتُ ببيعتى؟ فقال: نعم. وقال له النبى خيراً. وكان الناس يحملون على النبى صلى الله عليه وسلم الميمنة فيكشفهم علىّ، فإذا كشفهم أقبلت الميسرة إلى النبى فلم يزل كذلك حتى تقطَّع سيفه بثلاث قطع، فجاء إلى النبى فطرحه بين يديه وقال: سيفى قد تقطَّع، فيومئذ أعطاه النبى ذا الفقار، ولما رأى النبى صلى الله عليه وسلم اختلاج ساقيه من كثرة القتال، رفع رأسه إلى السماء وهو ويبكى وقال: يا ربِّ، وعدتنى أن تُظهر دينك وإن شئتَ لم يعيك، فأقبل علىّ إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ أسمع دوياً شديداً، وأسمع: أقدم يا حيزوم، وما أهم أضرب أحداً إلا سقط ميتاً قبل أن أضربه، فقال: هذا جبريل وميكائيل وإسرافيل والملائكة، ثم جاء جبريل فوقف إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد؛ إن هذه لهى المواساة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن علياً منى وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكم".. (إلى آخر الحديث) . ونزل: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} .
ومثلاً نجد أن المؤلف عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [14] وما بعدها إلى آخر سورة اللَّيل: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى} يصعب عليه أن يعترف اعترافاً جازماً بأن الأتقى مراد به الصِّدِّيق رضى الله عنه كما يقول المفسِّرون من أهل السًّنَّة، كما نراه حريصاً على أن يكون علىّ هو أولى الناس بهذا الشرف وهذا التنويه الإلهى، فلهذا نراه يقول ما نصه: "إن كانت الآيات نزلت فى رجل خاص فالمعنى عام، والأصل فيمن أعطى واتقَّى: علىّ، وفيمن بخل واستغنى هو الثانى، وقيل المراد بمن أعطى: أبو بكر(2/166)
حيث اشترى بلالاً فى جماعة من المشركين وكانوا يؤذونه فأعتقه، والمراد بالأشقى: أبو جهل وأُمية بن خلف".
وفى سورة النور عند قوله تعالى فى الآية [11] : {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} ... الآية، يقول: "قد نُقِل فى تفاسير الخاصة والعامة أن الآيات نزلت فى عائشة". ثم يروى السبب المعروف لنا، ثم يقول: "ونُقِل عن الخاصة أنها نزلت فى مارية القبطية وما رمتها به عائشة، روى عن الباقر أنه قال: لما هلك إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، فقالت له عائشة: ما الذى يُحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريج، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأمره بقتله، فذهب علىّ ومعه السيف، وكان جريج القبطى فى حائط، فضرب علىّ باب البستان، فأقبل إليه جريج ليفتح له الباب، فلما رأى علياً عرف فى وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب علىّ على الحائط، ونزل إلى البستان واتبعه، وولى جريج مدبراً، فلما خشى أن يرهقه صعد فى نخلة وصعد علىّ فى إثره، فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عَوْرته، فإذا ليس له ما للرجال، ولا له ما للنساء، فانصرف علىّ إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إذا بعثتنى فى أمر أكون فيه كالمسمار المحمى فى الوبر أمضى على ذلك أم أتثبت؟ قال: لا، بل تثبت، قال: والذى بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذى صرف عنا السوء أهل البيت".
وفى سورة التحريم عند تفسيره لقوله تعالى فى أولها: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} ... الآيات، إلى آخر القصة. نراه يذكر سبب نزولها فيقول: "قال القُمِّى وغيره: سبب نزول الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى بيت عائشة أو فى بيت حفصة، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية، فعلمت حفصة بذلك فغضبت، وأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ فى يومى؟ وفى دارى؟ وعلى فراشى؟ فاستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كفى، فقد حرَّمتُ مارية على نفسى، وأنا أُفضى إليكِ سراً إن أنتِ أخبرتِ به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقالت: نعم.. ما هو؟ فقال: إن أبا بكر يلى الخلافة بعدى، ثم بعده أبوكِ، فقالت: مَن أنبأك هذا؟ قال: نبأنى العليم الخبير، فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك، وأخبرت عائشة أبا بكر، فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له: إن عائشة أخبرتنى بشئ عن حفصة ولا أثق بقولها، فاسأل أنت حفصة، فجاء عمر إلى حفصة فقال: ما هذا الذى أخبرتْ عنكِ عائشة؟ فأنكرت ذلك وقالت: ما قلتُ لها من ذلك شيئاً، فقال لها عمر: إن هذا حق فأخبرينا حتى نتقدم فيه، فقالت: نعم، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا أربعة على أن(2/167)
يسمُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة: {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} .. يعنى أظهره الله على ما أخبرت به وما همُّوا من قتله، و {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أى خبرها وقال: لِمَ أخبرتِ بما أخبرتك؟ {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} يعنى لم يخبرهم بما يعلمه مما هَمُّوا به من قتله".
* *
* عتاب النبى صلى الله عليه وسلم:
ويرى المؤلف - كغيره من الشيعة - أن ما ورد من الآيات مشتملاً على عتاب النبى صلى الله عليه وسلم، أو على التهديد والوعيد للنبى صلى الله عليه وسلم، على فرض وقوع المعصية منه - إنما هو من قبيل: "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة" والذى دفعه إلى ذلك، هو ارتفاعه بمقام النبوة عن أن يُوجَّه إليه عتاب من الله، أو لوم وتهديد على فرض صدور المعصية.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين: [74، 75] من سورة الإسراء: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} . نجده يقول: وقد ورد فى الأخبار أن هذه الآية من قبيل: "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة" وورد أنها من فرية الملحدين، ولو كان الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - من غير كونه عن طريق "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة"، ولم تكن فرية لم يكن فيها ازدراء به - صلى الله عليه وسلم بل يكون صدر الآية ازدراء بالملحدين، لإشعاره بأنهم بالغوا فى فتنته، يعنى أنهم ما أهملوا شيئاً مما يُفتن به، ولو كان المفتون غيرك ولم يكن التثبيت من الله لفتن، وذيَّلها ببيان امتنانه عليه بأن ثبَّته فى مثل هذا المقام".
ومثلاً عند تفسيره لقول تعالى فى الآية [28] من سورة الكهف: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ... الآية، يقول ما نصه: "وهذا على إياكِ أعنى واسمعى يا جارة".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة عبس: {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى ... } ... الآيات - إلى قوله: {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} يقول ما نصه: "وقد استبعد بعض العلماء كون الآيات فى الرسول الله لبُعْدِ مقامه عن العبوس والتولى عن الأعمى، وعلو مرتبته عن أن يصير مُعاتَباً بمثل هذا العتاب.
أقول: لو كانت الآيات فيه والعتاب له لم يكن فيه نقص لشأنه، ولم يكن منافياً لما قاله تعالى فى حقه من قوله: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .. فإن إقباله وإدباره، وعبوسه، واستبشاره، كان لله، فإن عبوسه إن كان لمنع الأعمى عن نشر دين الله، وإسماع كلماته لأعداء الله وأعداء دينه وتقريبهم إلى دينه، لم يكن فيه نقص فيه(2/168)
وفى خُلُقه، وأما أمثال العتاب له - صلى الله عليه وسلم - فإنها تدل على تفخيمه والاعتداد به، فإن كلها كانت بـ "إياكِ أعنى واسمعى يا جارة"، فالخطاب والعتاب يكون لغيره لا له، وكذا نسبة الله زرية عيب العبوس والقول له يكون متوجهاً إلى غيره فى الحقيقة".
* *
* الناحية الفقهية فى هذا التفسير:
أما الناحية الفقهية فى هذا التفسير: فإنها تظهر فيه بمظهر التأثر بما لفقهاء الشيعة من الاجتهادات التى يخالفون فيها مَن عداهم، غير أن المؤلف يطوى الكلام طياً، فلا يتعرض لتفصيل المسائل الجزئية، ولا يُشغل نفسه بكثرة الأدلة والبراهين، ولا بالدفاع عن مذهبه ورد مذهب مخالفيه، كما يفعل الطبرسى مثلاً..
* نكاح الكتابيات:
فمثلاً عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [5] من سورة المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} ... الآية، يقول ما نصه: "قد اختلفت الأخبار والأقوال فى نكاح النساء من أهل الكتاب، وكذا فى أن هذه الآية منسوخة بآية حُرْمة نكاح المشركات، وحُرْمة الأخذ بعِصَمِ الكوافر، أو ناسخة، وكذا فى الدوام والتمتع بهن. وقول النبى صلى الله عليه وآله: "إن سورة المائدة آخر القرآن نزولا، فأحلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها" ينفى كونها منسوخة".
* *
* المتعة:
وعندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [24] من سورة النساء: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} .. نجده يقول: "وفى لفظ الاستمتاع، وذكر الأجور، وذكر الأجل - على قراءة "إلى أجل" - دلالة واضحة على تحليل المتعة، {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} من إعطاء الزيادة على الفريضة أو إسقاطهن شيئاً من الفريضة {مِن بَعْدِ الفريضة} .. وفيه إشعار بكون الأجر من أركان عقد التمتع كما عليه من قال به.
وعن الباقر: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، تقول: استحللتك بأجر آخر برضا منها ولا تحل لغيرك حتى تنقضى عِدَّتها، وعِدَّتها حيضتان.. {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فحلَّل المتعة عن علم، ولغايات منوطة بالمصالح والحكم".
* *
*(2/169)
فرض الرِجْلين فى الوضوء:
وعند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [6] من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} .. الآية، يقول: "وَأَرْجُلِكُمْ" بالجر عطف على "رُءُوسِكُمْ"، وبالنصب على محل "رُءُوسِكُمْ"، وعطفه على "وُجُوهَكُمْ" مع جواز العطف على "رءوسكم" فى غاية البُعْد، غاية الأمر أنها فى هذا العطف محتملة مجملة كسائر أجزاء الآية محتاجة إلى البيان، ولم يكن رأينا مبيناً للقرآن لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، بل المبين: من نص الله ورسوله عليه، لا مَن نصبوه لبيانه، فإن نصب شخص إنسانى لبيان القرآن وخلافة الرحمن ليس بأقل من نصب الأصنام لعبادة الآنام، أو العِجْل المصنوع للعوام، وتفصيل الوضوء وكيفيته قد وصل إلينا مفصَّلاً مبيَّناً عن أئمتنا المعصومين من الله ورسوله، وقد فصَّله الفقهاء رضوان الله عليهم، فلا حاجة إلى التفصيل ههنا".
* *
* ميراث الأنبياء:
والمؤلف يقول كغيره من علماء مذهبه بأن الأنبياء يُوَرِّثون كما يُوَرِّث سائر الناس، ولكنا نلاحظ عليه أنه لم يقف من الآيات التى استدل بها علماء مذهبه على أن الأنبياء يُوَرِّثون المال موقفاً فيه تلك المغالاة وهذا التطرف كالذى وقفه الطبرسى منها، بل نجده عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [5] من سورة مريم: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} .. يقول: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي} فى الإرث الصورى من التضييع والنزاع والخلاف، أو فى الإرث المعنوى من الاختلاف وتضييع العباد، وهذا إشعار بأن دعاءه خال من مداخلة الهوى مقدمة للإجابة.
هذا هو كل ما قاله فى هذه الناحية من الآية فأنت ترى أنه لم يقطع أن الآية فى الإرث الصورى دون المعنوى، بل جوَّز صدقها على كل منهما، ولم يدافع عن مذهبه هذا الدفاع العنيف الذى كان من الطبرسى عندما أراد أن يُقصر الإرث فى الآية على الإرث الصورى.
ونجده عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [16] من سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ(2/170)
دَاوُودَ} ... الآية، يقرر أن الميراث هو ميراث ما ينبغى أن يرثه منه من الرسالة والعلم والمُلْك والسلطنة، ثم يقول: "ولذلك حذف المفعول الثانى"، يقول هذا أيضاً ولا يحاول أن يُخرج الآية عن ظاهرها وسياقها كما حاول غيره.
* *
* الغنائم:
ويرى المؤلف كغيره من علماء مذهبه أن الغنائم لا تختص بما أُخِذ من الكفار بطريق القهر والغلبة، بل تعم ذلك وكل ما استفاده الإنسان من أى وجه كان، كما يرى أن الخُمس يقسم بين ذوى القُرْبَى وهو الإمام، ويتامى آل البيت، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم، وذلك تعويض لهم من الله عن الصدقات التى هى أوساخ الناس.
يرى المؤلف هذا كله ويقرره فى تفسيره باختصار فيقول عند قوله تعالى فى الآية [41] من سورة الأنفال: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين} ... الآية، ما نصه: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} .. اسم الغنيمة قد غلب على ما كان يُؤخذ من الكفار بالقهر والغلبة حين القتال، وإلا فهى اسم لكل ما استفاد الإنسان من أى وجه كان وأى شئ كان، فعن الصادق: هى والله الرفادة يوماً بيوم {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ، وقد فسّر "ذوى القُرْبىَ" بالإمام من آل محمد، فإنه ذو القربى حقيقة، وفسَّر الثلاثة الأخيرة بمن كان من قرابات الرسول، جعل ذلك لهم بدلاً عن الزكاة التى هى أوساخ الناس تشريفاً لهم".
وفى سورة الحشر عند قوله تعالى فى الآية [7] {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} ... الآية، يقول: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} .. أى ذى قُرْبَى الرسول صلى الله عليه وسلم، واليتامى والمساكين وابن السبيل من قرابات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد خصص فى الأخبار كل ذلك بأقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم".
* *
* موقف المؤلف فى تفسيره من المسائل الكلامية:
وإنَّا لنجد المؤلف يتأثر بمذهب المعتزلة فى بعض المسائل الكلامية فيوافقهم عليها فى تفسيره، ويخالفهم فى بعض آخر منها فيقول بما يقول به أهل السُّنَّة، فمن المسائل التى يوافق فيها المعتزلة مثلاً:
* رؤية الله:
فهو ينكر جوازها ووقوعها، ويُجرى تفسيره لآيات الرؤية على هذه العقيدة.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [55] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} نجده يقول ما نصه: "وورد أنه سُئِل الرضا: كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم أن الله لا يجوز عليه الرؤية حتى(2/171)
يسأل هذا السؤال؟ فقال: إن كليم الله علم أن الله منزَّه عن أن يُرى بالأبصار، ولكنه لما كلَّمه وقرَّبه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله كلَّمه وقرَّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته، وكان القوم سبعمائة ألف، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم فى سفح الجبل، وصعد موسى إلى الطور وسأل ربه أن يُكلِّمه ويُسمعهم كلامه "وكلَّمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام - لا أن الله أحدثه فى الشجرة، ثم جعله منبعثاً منها - حتى سمعوه من جميع الوجوه. فقالوا: لن نؤمن بأن هذا الذى سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث الله عليه بصاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، فماتوا، فقال موسى: ما أقول لبنى إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم، لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيتَ من مناجاة الله إياك، فأحياهم وبعثهم. فقالوا: إنك لو سألت الله أن يُريك تنظر إليه لأجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حق معرفته، فقال موسى: يا قوم؛ إن الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى: يا ربِّ إنك قد سمعتَ مقالة بنى إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله إليه: يا موسى؛ سلنى ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولاكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} وهو يهوى، {فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} يقول: رجعت إلى معرفتنى بك عن جهل قومى،
{وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} [الأعراف: 143] منهم بأنك لا تُرّى".
وفى سورة القيامة عند قوله تعالى فى الآيتين [22، 23] : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .. يقول: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أى إلى ربها المضاف لظهور الولاية وصاحبها فى ذلك اليوم، أو إلى ربها المطلق لظهور آثاره، أى إلى آثاره ناظرة، أو منتظرة إلى ثواب ربها. روى عن أمير المؤمنين فى حديث: ينتهى أولياء الله بعد ما يُفرغ من الحساب إلى نهر يسمى "الحيوان" فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيض وجوههم إشراقاً، فيذهب كل قذى ووعث، ثم يُؤمرون بدخول الجنَّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم قال: فذلك قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وإنما يعنى بالنظر إليه، النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى. وفى الخبر: والناظرة فى بعض اللُّغة هى المنتظرة، ألم تسمع إلى قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35] أى منتظرة".
* *
ومن المسائل التى يخالف فيها المعتزلة:
* السحر:
فهو يقول به ويعترف بحقيقته ويوضح لنا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [102] من سورة البقرة: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولاكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر} ... الآية، حقيقة السحر(2/172)
وكيفية تأثيره فى المسحور وذلك حيث يقول: "والسحر اسم لقول أو فعل أو نقش فى صفحة يؤثر فى عالَم الطبع تأثيراً خارجاً عن الأسباب والمعتاد، وذلك التأثير يكون سبب مزج القُوَى الروحانية مع القُوَى الطبيعية، أو بتسخير القُوَى الروحانية بحيث تتصرف على إرادة المسخِّر الساحر، وهذا أمر واقع فى الأمر ليس محض تخييل كما قيل.. وتحقيقه أن يقال: إن عالَم الطبع واقع بين الملكوت السفلى والملكوت العلوى كما مَرّ، وأن لأهل العالمين تصرفاً بإذن الله فى عالَم الطبع بأنفسهم، أو بأسباب من قِبَل النفوس البَشرية، وأن النفوس البَشرية إذا تجردت من علائقها، وصفت من كدروتها بالرياضات الشرعية أو غير الشرعية، وناسبت المجردات العلوية أو السفلية، تؤثر بالأسباب أو بغير الأسباب فى أهل العالمين بتسخيرها إياهم، وجذبها لهم إلى عالمها، وتوجيههم فى مراداتها شرعية كانت أو غير شرعية، وإذا كان التأثير كان من أهل العالَم السفلى تسمى أسبابه سحراً، وقد يسمى ذلك التأثير والأثر الحاصل به سحراً، وإذا كان من أهل العالَم العلوى يسمى ذلك التأثير والأثر الحاصل به معجزة وكرامة، وقد تتقوى فى الجهة السفلية أو العلوية فتؤثر بنفسها من دون حاجة إلى التأثير فى الأرواح، ويُسمى ذلك التأثير والأثر أيضاً سحراً ومعجزة. فالسحر هو السبب المؤثر فى الأرواح الخبيثة الذى خفى سببيته، أو تأثير تلك الأرواح وآثارها فى عالَم الطبع بحيث خفى مدركها، ثم أُطلق على كل علم وبيان دقيق قلَّما يُدرك مدركه، ويُطلق على العالم بذلك العلم اسم الساحر، ومنه: {ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] على وجه.. فيُستعمل على هذا فى المدح، والذم".
وفى الآية [4] من سورة الفلق نجده يعترف أيضاً بالسحر ويُروى أن الرسول سُحِرَ بيد لُبيد بن الأعاصم وذلك حيث يقول: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} .. أى من شر النفوس اللاتى يعقدن على الشعور والخيوط، وينفثن فيها، ويسحرون الناس بها. أو النساء اللاتى يفعلن ذلك.. ثم ساق حديث سِحْر الرسول صلى الله عليه وسلم".
وهناك مسائل أُخرى يوافق فيها المعتزلة، ومسائل أُخرى يخالفهم فيها ويوافق أهل السُّنَّة، ولا أطيل بذكرها بعد أن ذكرت نموذجاً من كل طائفة، ومَن أراد الرجوع إليها فليرجع إلى تفسيره للآيات التى تتعلق بهذه المسائل.
هذا.. ولا يفوتنا أن ننبه على أن المؤلف كثيراً ما يهتم فى بعض المواضع بالمسائل النحوية، فنراه يذكر الأعاريب التى فى الآية، كما يهتم فى بعض النواحى بالقراءات، وإن كان يعتمد فى كثير من الأحيان ما نُسِب إلى أهل البيت من قراءات لاأصل لها، كما نراه يذكر بعض النكات التى ترجع إلى نظم القرآن وأسلوبه.
وبالجملة.. فهذا التفسير يكشف لنا عن مقدار تعصب صاحبه لمذهبه، وتأثره بعقيدته الشيعية، ونزعته الصوفية الفلسفية فى فهمه لكتاب الله تعالى.
.. والكتاب مطبوع فى جزءين كبيرين. وموجود بدار الكتب المصرية.
* * *(2/173)
الإمامية الإسماعيلية "الباطنية" وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
كلمة إجمالية عن الإسماعيلية وعقائدهم وأغراضهم
قلنا: إن الإسماعيلية من الشيعة الإمامية تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقلنا: إنهم يلقبون بالباطنية أيضاً لقولهم بباطن القرآن دون ظاهره، أو لقولهم بالإمام الباطن المستور.
والحق أن هذه الطائفة لا يمكن أن تكون داخلة فى عدَاد طوائف المسلمين، وإنما هى فى الأصل جماعة من المجوس رأوا شَوْكة الإسلام قوية لا تُقهر، وأبصروا عِزَّة المسلمين فتية لا تُغلب ولا تُكسر، فاشتعلت بين جوانحهم نار الحقد على الإسلام والمسلمين، ورأوا أنه لا سبيل لهم إلى الغلب على المسلمين بقوة الحديد والنار، ولا طاقة لهم بالوقوف أمام جيشهم الزاخر الجرَّار، فسلكوا طريق الاحتيال الذى يوصلهم إلى مآربهم وأهوائهم، ليطفئوا نور الله بأفواههم، وخفى على هؤلاء الملاحدة أن الله متم نوره ولو كره الكافرون.
* *
مؤسسو هذه الطائفة
ظهرت بوادر هذه الفتنة، ونبتت نواه هذه الطائفة: زمن المأمون، وبيد جماعة جمع بينهم سجن العراق، هم: عبد الله بن ميمون القدَّاح، وكان مولى جعفر بن محمد الصادق. ومحمد بن الحسين المعروف بـ "ذيذان"، وجماعة كانوا يدعون "الجهاربجة".
اجتمع هؤلاء النفر، فوضعوا مذهب الباطنية وأسسوا قواعده، فلما خلصوا من السجن ظهرت دعوتهم، لم استفحل أمرها، واستطار خطرها إلى كثير من بلاد المسلمين. وما زالت لها بقية إلى يومنا هذا بين كثير ممن يَدَّعون الإسلام.
* *
احتيالهم على الوصول إلى أغراضهم
رأى المؤسسون لمبادئ الباطنية أنه لا طاقة لهم بالوقوف فى وجه المسلمين صراحة وجهاراً، فاحتالوا - كما قلنا - على الوصول إلى مآربهم بشتَّى الحيل، فاندسوا بين المسلمين باسم الحدب على الإسلام، وتلفعوا بالتشيع والموالاة لأهل البيت، وتظاهروا(2/174)
بالورع الكاذب، وجعلوا ذلك كله ستاراً لما يريدون أن يبذروه بين المسلمين من بذور الفساد والاضطراب فى العقيدة والسياسة.
ومن المحزن أن يَدِّعى هؤلاء الملاحدة الانتماء إلى أهل بيت النبوة، ويصلون أنسابهم بأنسابهم عن طريق آباء وأئمة مستورين، فيلقى هذا الادعاء رواجاً وقبولا من أناس ضعفاء أغمار، غرَّهم التباكى على آل البيت والتحزن عليهم، فتحركت أحقاد دفينة، وثارت فتن دامية بين المسلمين كان لها أثرها وخطرها.
أسس هؤلاء الباطنية الجمعيات السرية لنشر مذهبهم وهدم مذهب المسلمين، ورسموا لهذا المذهب خطة دبروها بنوع من المكر والخديعة، فجعلوا هدفهم الأول: الاحتيال على الطغام بتأويل الشرائع إلى ما يعود إلى قواعدهم من الإباحة والإلحاد، وتدرجوا فى وصولهم إلى غرضهم هذا بجعلهم الدعوة على مراتب وهى ما يأتى:
مراتب الدعوة عند الباطنية
أولا - الذوق: وهو تفرس حال المدعو. هل هو قابل للدعو أو لا؟ ولذلك منعوا من إلقاء البذر فى السبخة.. أى دعوة مَن ليس قابلاً لها، ومنعوا التكلم فى بيت البذر فى السبخة.. أى دعوة مَن ليس قابلاً لها، ومنعوا التكلم فى بيت فيه سراج.. أى فى موضع فيه فقيه أو متعلم.
ثانياً - التأنيس: باستمالة كل واحد من المدعوين بما يميل إليه بهواه وطبعه، من زهد، وخلاعة، وغيرهما، فإن كان يميل إلى زهد زيَّنه فى عينه وقبَّح نقيضه، وإن كان يميل إلى الخلاعة زينَّها وقبَّح نقيضها، ومَن رآه الداعى مائلاً إلى أبى بكر وعمر مدحهما عنده وقال: لهما حظ فى تأويل الشريعة، ولهذا استصحب النبى أبا بكر إلى الغار، ثم إلى المدينة، وأفضى إليه فى الغار تأويل الشريعة.. وهكذا حتى يحصل له الأُنس به.
ثالثاً - التشكيك فى أُصول الدين وأركان الشريعة: كأن يقول للمدعو: ما معنى الحروف المقطعة فى أوئل السور؟ ولِمَ تقضى الحائض الصوم دون الصلاة؟ ولِمَ يجب الغُسل من المنى دون البول؟ ولِمَ اختلفت الصلوات فى عدد ركعاتها فكان بعضها ركعتين، وبعضها ثلاثاً، وبعضها أربعاً؟ وحيث يشككون بمثل هذا فلا يجيبون ليتعلق قلب مَن يشككونه بالرجوع إليهم والأخذ عنهم.
رابعاً - الرابط: وهو أمران: أحدهما: أخذ الميثاق على الشخص بأن لا يفشى لهم سراً، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7] ، وقوله: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91] .. وثانيهما: حوالته على الإمام فى حل ما أشكل عليه من الأُمور التى أُلقيت إليه، فإنها لا تُعلم إلا من قِبَلِ الإمام.(2/175)
خامساً - التدليس: وهو دعوة موافقة أكابر الدين والدنيا ليزداد الإقبال على مذاهبهم.
سادساً - التأسيس: وهو تمهيد مقدمات يراعون فيها حال المدعو لتقع تعاليمهم منه موقع القبول من نفسه.
سابعاً - الخلع: وهو الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية.
ثامناً - السلخ: وهو سلخ المدعو من العقائد الإسلامية، ثم بعد ذلك يأخذون من تأويل الشريعة على ما تشاء أهواؤهم.
فأنت ترى أن الباطنية قد توسَّلوا بكل هذه الحيل إلى تشكيك المسلمين فى عقائدهم، وكأنهم رأوا أن القرآن ما دام موجوداً بين المسلمين ومحفوظاً عندهم يرجعون إليه فى أُمور الدين، ويهتدون بهَدْيه كلما نزلت بهم نازلة، فليس من السهل صرف الناس عنه إلا بواسطة تأويله، وصرف ألفاظه وآياته عن مدلولاتها الظاهرة، فأخذوا يَجِدُّون فى تأويل نصوص القرآن كما يُحبون. وعلى أى وجه يرونه هدماً لتعاليم الإسلام، الذى أصبح قذىً فى أعينهم، وشجىً فى حلوقهم!!
وحرصاً منهم على أن تكون دعواهم فى تأويل القرآن مقبولة لدى مَن يَستخِفُّونه.. قالوا: "إن الأئمة هم الذين أودعهم الله سره المكنون، ودينه المخزون، وكشف لهم بواطن هذه الظواهر، وأسرار هذه الأمثلة، وإن الرشد والنجاة من الضلال بالرجوع إلى القرآن وأهل البيت، ولذلك قال عليه السلام - لما قيل: ومن أين يُعرف الحق بعدك؟ -: "ألم أترك فيكم القرآن وعترتى"؟.. وأراد به أعقابه، فهم الذين يَطِّلِعون على معانى القرآن".
ولكن احتيال الباطنية بتأويل القرآن على هدم الشريعة لم يلق رواجاً عند عقلاء المسلمين، ولم يجد غباوة فى عقول علمائهم الذين نصبوا أنفسهم لحماية القرآن من أباطيل المضللين.. وكيف يمكن أن يجد رواجاً عند هؤلاء أو غباوة من أولئك، وقد علموا وتيقنوا بأن الألفاظ إذا صُرِفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشريعة، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ، وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يُوثق به، والباطن لا ضبط له. بل تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتَّى.
* *(2/176)
إنتاج الباطنية فى تفسير القرآن الكريم
ومع أن هؤلاء الباطنية قد اتخذوا من تأويل القرآن باباً للوصول إلى أغراضهم، فإنَّا لم نقف لهم على كتب مستقلة فى تفسير كتاب الله تعالى، ولم نسمع أن واحداً منهم كتب تفسيراً جامعاً للقرآن كله، سورة سورة، وآية آية، ولعل السر فى ذلك: أنهم لم يستطيعوا أن يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية، ولو أنهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها، ولا يقدرون على التخلص منها.
وكل الذى وجدناه لهم فى تفسير القرآن - أو تأويله على الأصح - إنما هو نصوص متفرقة فى بطون الكتب، تعطينا إلى حد ما صورة واضحة، وفكرة جلية عن موقف هؤلاء القوم من القرآن الكريم، ومبلغ تهجمهم على القول فيه بغير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير.
وأرى أن أقسم موقف الباطنية من القرآن الكريم إلى قسمين اثنين:
الأول: موقف الباطنية المتقدمين من القرآن الكريم.
والثانى: موقف الباطنية المتأخرين منه أيضاً.
ونريد المتقدمين: الذين أسسوا مذهب الباطنية ومَن قاربهم من الزمن، وبالمتأخرين: البابية والبهائية. وسنوضح عند الكلام عن البابية والبهائية السبب الذى من أجله عددناهم من قبيل الباطنية.
* * *(2/177)