الزائد على بعض الحروف كما في نحو: {فبما رحمة من الله} والكاف في نحو: {ليس كمثله شيء} وَنَحْوِهِ
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ تَجَنُّبُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ إِذِ الزَّائِدُ مَا لَا مَعْنَى لَهُ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ
وَمِمَّنْ نص على منع ذلك في الْمُتَقَدِّمِينَ الْإِمَامُ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الدَّاوُدِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمُرْشِدِ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ في القرآن صلة بوجه وذكر أبو مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلَ ذَلِكَ وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ خِلَافُ هَذَا ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِثْلَهُ يَزْعُمُ الصِّلَةَ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} وقال: إن ما ها هنا لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ: أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا
فَصْلٌ في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره
التَّأْوِيلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُنْقَادٍ وَمُسْتَكْرَهٍ:
فَالْأَوَّلُ: مَا لَا تَعْرِضُ فِيهِ بَشَاعَةٌ أَوِ اسْتِقْبَاحٌ وَقَدْ يقع فيه الخلاف بين الأئمة: إما الاشتراك في اللفظ نحو: {لا تدركه الأبصار} هَلْ هُوَ مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ أَوِ الْقَلْبِ(2/178)
وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى النَّظْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلا الذين تابوا} هَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَحْدَهُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ؟
وَإِمَّا لِغُمُوضِ الْمَعْنَى وَوَجَازَةِ النَّظْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن الله سميع عليم} وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ
وَأَمَّا الْمُسْتَكْرَهُ فَمَا يُسْتَبْشَعُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْحُجَّةِ وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظًا عَامًّا فَيَخْتَصُّ ببعض ما يدخل تحته كقوله: {وصالح المؤمنين} فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطْ
وَالثَّانِي: أَنْ يُلَفَّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ تَكْلِيفَ الْحَيَوَانَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ من أمة إلا خلا فيها نذير} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أمثالكم} إنهم مكلفون كما نحن
الثالث: مَا اسْتُعِيرَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عن ساق} فِي حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ
الرَّابِعُ: مَا أُشْعِرَ بِاشْتِقَاقٍ بَعِيدٍ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّهُ إِنْسَانٌ يَبْقُرُ عَنْ أَسْرَارِ الْعُلُومِ وَفِي الْهُدْهُدِ إِنَّهُ إِنْسَانٌ مَوْصُوفٌ بِجَوْدَةِ الْبَحْثِ والتنقيب
والأول أكثر ما يروج على المتفقه الذي لَمْ يَتَبَحَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ وَالثَّانِي عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِرِ فِي مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ النَّظْمِ وَالثَّالِثُ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَتَهَذَّبْ فِي شَرَائِطِ قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَالرَّابِعُ عَلَى الْأَدِيبِ الَّذِي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات(2/179)
فائدة فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صدوركم} فَقَالَ: الْمَوْتُ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ تَفْسِيرٌ يَحْتَاجُ لِتَفْسِيرٍ
وَرَأَيْتُ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَوْتَ سَيَفْنَى كَمَا يَفْنَى كُلُّ شَيْءٍ كَمَا جَاءَ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَبَادَرَ إِلَيْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمُ الْمَوْتَ الَّذِي يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ
قَالَ: وَبَقِيَ فِي نَفْسِي مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ حَتَّى يُكْمِلَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي فَهْمِهَا
فَصْلٌ
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر
أَصِلُ الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ فَهْمُ مَعَانِي الْوَحْيِ حَقِيقَةً وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَسْرَارُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْبِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي قَلْبِهِ بِدْعَةٌ أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ أَوْ هَوًى أَوْ حُبُّ الدُّنْيَا أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَحَقِّقِ الْإِيمَانِ(2/180)
أَوْ ضَعِيفَ التَّحْقِيقِ أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِ مُفَسِّرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا عِلْمٌ بِظَاهِرٍ أَوْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْقُولِهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجُبٌ وموانع وبعضها آكد من بعض إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُصْغِيًا إِلَى كَلَامِ رَبِّهِ مُلْقِيَ السَّمْعِ وَهُوَ شَهِيدُ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِ مُخَاطِبِهِ نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ تَارِكًا لِلْمَعْهُودِ مِنْ عِلْمِهِ وَمَعْقُولِهِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ مُفْتَقِرًا إِلَى التَّفَهُّمِ بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمَكُّنِ سَمْعٍ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَشَهَادَةِ غَيْبِ الْجَوَابِ بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَابْتِئَاسٍ وَتَمَسْكُنٍ وَانْتِظَارٍ لِلْفَتْحِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ وَلْيَسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ تِلَاوَتُهُ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ وَشَهَادَةِ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْوَعْدِ بِالتَّشْوِيقِ وَالْوَعِيدِ بِالتَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّشْدِيدِ فَهَذَا الْقَارِئُ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تلاوته أولئك يؤمنون به}
وَهَذَا هُوَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يهدي السبيل
فصل في القرآن علم الأولين والآخرين
وَفِي الْقُرْآنِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمُرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ(2/181)
وَسِتِّينَ سُورَةً وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى: {قَالَ إني عبد الله آتاني الكتاب} إلى قوله: {أبعث حيا} ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً
وَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّاسُ زَلْزَلَةَ عَامِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ من قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض} فَإِنَّ الْأَلْفَ بِاثْنَيْنِ وَالذَّالَ بِسَبْعِمِائَةٍ
وَكَذَلِكَ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَخْلِيصَهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ بحساب الجمل وغير ذلك
فصل
قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء
وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ الْحُكْمُ مِنَ السُّكُوتِ عَنِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ وَهُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ(2/182)
مَنْ سُمِّيَ فِي الْآيَةِ وَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عن ذلك فقال: لئلا يضعه الْعَمُّ عِنْدَ ابْنِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَكَذَا الْخَالُ فَيُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُثْنِيَ مُشْتَرِكٌ بِابْنِهِ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ إِلَّا الْعَمَّ وَالْخَالَ وَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَلِيغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي سَتْرِهِنَّ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مُحْتَمَلَةٌ فِي أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَذْرَهَا أَبُو الْبَعْلِ عِنْدَ ابْنِهِ الْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَأَبُو البعل ينقض قولهم إن مَنِ اسْتُثْنَى اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُهُ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بيوتكم} الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَوْلَادَ فَقِيلَ لِدُخُولِهِمْ فِي قوله: {بيوتكم}
فصل في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان
يَنْقَسِمُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى:
مَا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {التائبون العابدون} الآية وقوله: {إن المسلمين والمسلمات} الآية(2/183)
وقوله: {قد أفلح الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وقوله: {يا أيها الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا} وَإِلَى مَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَبَيَانُهُ إِمَّا فِيهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي السُّنَّةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ قَالَ تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}
وَالثَّانِي: كَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الزَّكَاةِ وَلَا نِصَابَهَا وَلَا أَوْقَاصَهَا وَلَا شُرُوطَهَا وَلَا أَحْوَالَهَا وَلَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الصَّلَاةِ وَلَا أَوْقَاتَهَا
وَكَقَوْلِهِ: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} {ولله على الناس حج البيت} وَلَمْ يُبَيِّنِ أَرْكَانَهُ وَلَا شُرُوطَهُ وَلَا مَا يَحِلُّ فِي الْإِحْرَامِ وَمَا لَا يَحِلُّ وَلَا مَا يُوجِبُ الدَّمَ وَلَا مَا لَا يُوجِبُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ قَدْ أَرْشَدَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمَّا نَزَلَ: {الَّذِينَ آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ!(2/184)
قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تسمعوا ما قال لقمان لابنه" {يا بني لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ ها هنا عَلَى الشِّرْكِ لِمُقَابَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَاسْتَأْنَسَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ لُقْمَانَ
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ مُضْمَرًا فِيهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فهذا يحتاج إلى بيان لأن {حتى} لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَمَامٍ وَتَأْوِيلُهُ حَتَّى إذا جاؤوها جاؤوها وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
وَمِثْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ به الجبال} أَيْ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَأْيِ النَّحْوِيِّينَ
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْكَفَّ
وَقَدْ يُومِئُ إِلَى الْمَحْذُوفِ إِمَّا مُتَأَخِّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فإنه لم يجئ لَهُ جَوَابٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وَتَقْدِيرُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} كَمَنْ قسا قلبه
وإما متقدم كقوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل} فَإِنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى مَا قَبْلَهُ: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضر دعا ربه منيبا} كَأَنَّهُ قَالَ: أَهَذَا الَّذِي هُوَ هَكَذَا خَيْرٌ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ؟ فَأَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ(2/185)
ونظيره: {مثل الجنة التي وعد المتقون} وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} !
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُهُ وَاضِحًا وَهُوَ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقِبَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: تَفْسِيرُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحد}
وكقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَفْسِيرُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} وَقَالَ ثَعْلَبٌ: سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَقَوْلِهِ: {فيه آيات بينات} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمنا}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حصب جهنم} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُطْلَقَةً اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أنه لا يعذبهما اللَّهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِاللَّفْظِ فَلَمَّا قال المشركون هذا الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون}(2/186)
وقوله: {يريكم البرق خوفا وطمعا} فَفَسَّرَ رُؤْيَةَ الْبَرْقِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رُؤْيَتِهِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ وَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهَى تَقْدِيمُ الْخَوْفِ عَلَى الطَّمَعِ إِذْ كَانَتِ الصَّوَاعِقُ تَقَعُ مِنْ أَوَّلِ بَرْقَةٍ وَلَا يَحْصُلُ الْمَطَرُ إِلَّا بَعْدَ تَوَاتُرِ الْبَرَقَاتِ فَإِنَّ تَوَاتُرَهَا لَا يَكَادُ يَكْذِبُ فَقَدَّمَ الْخَوْفَ عَلَى الطَّمَعِ نَاسِخًا لِلْخَوْفِ كَمَجِيءِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ
وَكَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الْآيَةَ وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي عَلَى بَطْنِهِ فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ وَكَذَا مَا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ
وكقوله تعالى: {فمن ما ملكت أيمانكم} فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنَاتُ بِقَوْلِهِ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فَخَرَجَ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أعمى} فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ مِنْهُ وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بدليل قوله بعده {وأضل سبيلا} وَلِهَذَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوَّلَ بِالْإِمَالَةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ وَالثَّانِي بِالتَّصْحِيحِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَا هُوَ اسْمٌ وَمَا هُوَ أَفْعَلُ مِنْهُ بِالْإِمَالَةِ وَتَرْكِهَا
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ النَّحْوِيُّونَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَعْمَى مِنْ عَمْرٍو لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ!
قُلْتُ: إِنَّمَا جَازَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ أَيْ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا(2/187)
أَعْمَى الْقَلْبِ عَمَّا يَرَى مِنَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ عَمَّا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ أَيْ أَشَدُّ عَمًى وَلَا شَكَّ أَنَّ عَمَى البصيرة متفاوت
ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: الْأَشْبَهُ أَنَّ المراد بالصبر ها هنا الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ مَدْحَ الصَّابِرِينَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مصيبة}
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فِي السُّورَةِ مَعَهُ أَوْ فِي غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مالك يوم الدين} وَبَيَانُهُ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئا والأمر يومئذ لله}
وقوله في سورتي النمل والقصص: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَبَيَّنَهُ فِي سورة الدخان بقوله: {في ليلة مباركة} ثُمَّ بَيَّنَهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر} فَالْمُبَارَكَةُ فِي الزَّمَانِ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ وَاحِدٌ وَبِذَلِكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُبَارَكَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَعَجَبٌ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ
وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ هُنَا بَيَانًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وما(2/188)
أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجمعان} وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} فَسَّرَهُ فِي آيَةِ الْفَتْحِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رحماء بينهم}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطيب من القول} وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لغفور شكور}
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مثلا} بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى}
وَذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مُجْمَلًا وَفَسَّرَهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ
وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ ما ملكت أيمانهم} فَاسْتَثْنَى الْأَزْوَاجَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ ثُمَّ حَظَرَ تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ وَالرَّابَّةِ بالآية الأخرى
ومنه قوله تعالى: {ن اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فَإِنَّ ظَاهِرَهُ مُشْكِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ هَدَى كُفَّارًا كَثِيرًا وَمَاتُوا مُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا يَهْدِي مَنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي السُّورَةِ: {أَفَمَنْ(2/189)
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ في النار} وَقَوْلِهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عليهم كلمت رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يروا العذاب الأليم}
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تدعون إليه إن شاء فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِجَابَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَ الْإِجَابَةَ بِقَوْلِهِ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلَا إِثْمٌ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا"
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ يريد حرث الدنيا نؤته منها} وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء} فَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْمُرَادِ لِأَنَّ الِاطْمِئْنَانَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلَجِ الْقَلْبِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى(2/190)
وَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ بِتَوْجِيلِ الْقُلُوبِ كَذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقلوبهم إلى ذكر الله} لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَوَثِقُوا بِهِ فَانْتَفَى عَنْهُمُ الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ الَّذِي يَعْرِضُ إِنْ كَانَ كَلَامُهُمْ فِيمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ تَعَوُّذًا فَجُعِلَ لَهُمْ حِكْمَةٌ دُونَ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِثَلَجِ الصُّدُورِ وَانْتِفَاءِ الشَّكِّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون} فَلَمْ يَسْتَثْنِ امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ منكم أحد إلا امرأتك} فأظهر الاستثناء في هذه الآية
وكقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} لِأَنَّ هَذِهِ لَمَّا نَزَلَتْ لَمْ يُفْهَمْ مُرَادُهَا
وقوله: {حرمت عليكم} هِيَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية(2/191)
وَقَوْلِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وللنساء نصيب} الْآيَةَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ لَا يُعْلَمُ مِنْهَا مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ وَمَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ ثُمَّ بَيِّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أولادكم} الْآيَاتِ
وَكَقَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا ما يتلى عليكم} فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}
وكقوله: {ليبلونكم الله بشيء من الصيد} الْآيَةَ فَهَذَا الِابْتِلَاءُ مُجْمَلٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي الْحِلِّ أَمْ فِي الْحَرَمِ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الْآيَةَ
وَكَقَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَهَذَا الْمُجْمَلُ بَيَّنَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الْآيَةَ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: بَيَانُ هَذَا الْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وعزرتموهم} الْآيَةَ فَهَذَا عَهْدُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَهُدُهُمْ تَمَامُ الآية في قوله: {لأكفرن عنكم سيئاتكم} فَإِذَا وَفُّوا الْعَهْدَ الْأَوَّلَ أُعْطُوا مَا وُعِدُوا(2/192)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لمن المرسلين}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مؤمنون} فَقِيلَ لَهُمْ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} وقيل: بل نزل بعده: {إنا كاشفو العذاب} وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كَشَفْنَا الْعَذَابَ تَعُودُوا
وَقَوْلِهِ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عظيم} فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار ما كان لهم الخيرة}
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وما الرحمن} بيانه: {الرحمن. علم القرآن}
وقوله: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} فَقِيلَ لَهُمْ: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بمثله}
وَقَوْلِهِ: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلهتكم} فَقِيلَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مثوى لهم} الْآيَةَ
وَمِنْهُ: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فقيل لهم: {ما لكم لا تناصرون}(2/193)
ومنه: {لو أطاعونا ما قتلوا} فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}
وقوله: {أم يقولون تقوله} رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل. لأخذنا منه باليمين}
وقوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}
وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جملة واحدة} فَقِيلَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على الناس على مكث}
وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تَفْسِيرُ هَذَا الِاخْتِصَامِ مَا قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مرسل من ربه} الْآيَةَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدنيا وفي الآخرة} وَفَسَّرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التي كنتم توعدون}(2/194)
وَمِنْهُ حِكَايَةٌ عَنْ فِرْعَوْنَ -لَعَنَهُ اللَّهُ-: {وَمَا أهديكم إلا سبيل الرشاد} فَرَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ برشيد}
وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} وذكر هذا الحلف في قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين}
وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَنِّي مغلوب فانتصر} بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الذين كذبوا بآياتنا}
وقوله: {وقالوا قلوبنا غلف} أَيْ: أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُمْ: {وَمَا أُوتِيتُمْ من العلم إلا قليلا}
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رب أرني أنظر إليك}
قَالَ: فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ وَهَى قَوْلُهُ: {حَتَّى نرى الله جهرة} تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {رَبِّ أَرِنِي} لَمْ يَكُنْ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُطَالَبَةَ قَوْمِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ إِلَّا وَقْتَ حُضُورِ قَوْمِهِ مَعَهُ وَسُؤَالِهِمْ ذَلِكَ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمت عليهم} بَيَّنَةُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء والصالحين}
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَسَّرَهَا آيَةُ مَرْيَمَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ(2/195)
مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ؟ الْآيَةَ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّبِيِّينَ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مع نوح} وقوله: {وممن هدينا واجتبينا} وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَيْفَ وَقَدْ ذُكِرَتْ مَرْيَمُ وَهِيَ صِدِّيقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا فِي الْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً فَهُمْ بَعْضُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ فِي آيَةِ النِّسَاءِ صِنْفًا مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ آيَةُ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ أَوْلَى بِتَفْسِيرِ قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وَلِأَنَّ آيَةَ مَرْيَمَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قوله: {اهدنا الصراط المستقيم}
وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهَا هِيَ نَفْسُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا هُدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى الطَّاعَةِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ أَمَسُّ بِتَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَمْدِ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سورة مريم
فصل
قد يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِأَمْرٍ وَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الِاسْمِ مِنْهُ وَلَهُ أمثلة: منها تفسيرهم السبع المثاني بِالْفَاتِحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ القرآن كله مثاني(2/196)
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ الْكِسَاءِ: "هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرَهُمْ تَطْهِيرًا" وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْأَزْوَاجِ وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُنَّ عَنِ الْآيَةِ لَكِنْ لَمَّا أُرِيدَ دُخُولُ غَيْرِهِنَّ قِيلَ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ البيت الذكور والإناث بخلاف قوله: {يا نساء النبي} ودل أَنَّ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْأَزْوَاجِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا" وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْحَصْرُ الْمَذْكُورُ حَصْرُ الْكَمَالِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا هُوَ الْعَالِمُ الْعَدْلُ وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ قُبَاءَ هو مؤسس عَلَى التَّقْوَى وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مراد بالآية
فصل
قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع ويعين في موضع آخر
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يُعَيِّنُهُ لِأَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم غشاوة} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى خَتَمَ ويحتمل الوقف على قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْخَتْمَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ وَهَذَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِي الْجَاثِيَةِ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة}(2/197)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ من الغاوين} فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِقَوْلِهِ فِي الْإِسْرَاءِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَاسْتَثْنَاهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا
وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَيَاةَ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ: وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ {حَيٍّ} مَجْرُورًا وَلَكَانَ مَنْصُوبًا وَإِنَّمَا {حَيٍّ} صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَمَعْنَى الْآيَةِ: خَلَقَ الْخَلْقِ مِنَ الْمَاءِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماء}
وَمِمَّا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فليلقه اليم بالساحل} فَإِنَّ فَلْيُلْقِهِ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ كَأَنَّهُ قَالَ فاقذفيه في اليم يلقيه اليم ونحتمل أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِإِلْقَائِهِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا فَرِيدًا مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ أَجَازَ فِيهَا وَفِي قوله: {وذرني والمكذبين} أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكْنِي وَاتْرُكْ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَكَذَلِكَ اتْرُكْنِي وَاتْرُكِ الْمُكَذِّبِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ(2/198)
الْمُرَادُ: خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَهِيَ وَاوُ مَعَ كَقَوْلِهِ: "لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا"
وَقَدْ يَكُونُ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طهرا بيتي للطائفين} ظَاهِرُهُ الْكَعْبَةُ وَبَاطِنُهُ الْقَلْبُ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةُ لَكِنَّ الْعَالِمَ يَتَجَاوَزُ إِلَى الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ قَوْمٍ وَالْأَوْلَى عِنْدَ آخَرِينَ وَمِنْ بَاطِنِهِ إِلْحَاقُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِهِ وَمِنْ ظَاهِرِهِ عِنْدَ قَوْمٍ العبور فيه
فصل في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِشْكَالِ أُمُورٌ
أَحَدُهَا: رَدُّ الْكَلِمَةِ لِضِدِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفورا} أَيْ: وَلَا كَفُورًا وَالطَّرِيقَةُ أَنْ يُرَدَّ النَّهْيُ مِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ فَنَقُولُ مَعْنَى: أَطِعْ هَذَا أَوْ هَذَا أَطِعْ أَحَدَهُمَا وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ فِي النَّهْيِ وَلَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا
الثَّانِي: رَدُّهَا إِلَى نَظِيرِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} فهذا عام وقوله: {فوق اثنتين} قَوْلٌ حُدَّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَأُرْخِيَ الطَّرَفُ الْآخَرُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لِأَنَّ أَوَّلُ مَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ الثَّلَاثَ وَآخِرَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَقَوْلِهِ: {وإن كانت(2/199)
واحدة} مَحْدُودَةُ الطَّرَفَيْنِ فَالثِّنْتَانِ خَارِجَتَانِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ وأمسك الله عَنْ ذِكْرِ الثِّنْتَيْنِ وَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثَ وَمَا فَوْقَهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْأَخَوَاتِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نصف ما ترك} الْآيَةَ فَذَكَرَ الْوَاحِدَةَ وَالِاثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهُنَّ فَضَمَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَصْلَيْنِ مَا كَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْآخَرِ فَوَجَبَ حَمْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَمْسَكَ عَنْهُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهِ
الثَّالِثُ: مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ خَبَرٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ إِيضَاحٍ فِي مَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أَنْ يَعِزَّ أَوْ تَكُونُ الْعِزَّةُ لَهُ لَكِنَّ قوله تعالى: {فلله العزة جميعا} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ فَإِنَّهَا لِلَّهِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي عُقُوبَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ وَأَنْوَاعُ الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَتِ الْحَالُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَالصَّلْبَ عَلَى مَنْ جَمَعَهُمَا وَالْقِطَعَ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَالنَّفْيَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ
الرَّابِعُ: دَلَالَةُ السِّيَاقِ فَإِنَّهَا تُرْشِدُ إِلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلِ وَالْقَطْعِ بِعَدَمِ احْتِمَالِ غَيْرِ الْمُرَادِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَتَنَوُّعِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَمَنْ أَهْمَلَهُ غَلِطَ فِي نَظِيرِهِ وَغَالَطَ فِي مُنَاظَرَاتِهِ وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ(2/200)
العزيز الكريم} كَيْفَ تَجِدُ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ
الْخَامِسُ: مُلَاحَظَةُ النَّقْلِ عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعَارُ الشَّيْءُ لِمُشَابِهِهِ ثُمَّ يُسْتَعَارُ مِنَ الْمُشَابِهِ لِمُشَابِهِ الْمُشَابِهِ وَيَتَبَاعَدُ عَنِ الْمُسَمَّى الْحَقِيقِيِّ بِدَرَجَاتٍ فَيَذْهَبُ عَنِ الذِّهْنِ الْجِهَةُ الْمُسَوِّغَةُ لِنَقْلِهِ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخِرِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤمنين} وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ دُونَ لِلْمَكَانِ الَّذِي هُوَ أَنْزِلُ مِنْ مَكَانٍ غَيْرِهِ وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ لِلْحَقِيرِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ وَالرُّتَبِ فَقِيلَ زِيدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعِيرَ فِي كُلِّ مَا يَتَجَاوَزُ حَدًّا إِلَى حَدٍّ وَتَخَطَّى حُكْمًا إِلَى حُكْمٍ آخَرَ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالتَّقْدِيرُ لَا تَتَجَاوَزُوا وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ
وكذلك قوله تعالى: {ادعوا شهداءكم من دون الله} أَيْ تَجَاوَزُوا اللَّهَ فِي دُعَائِكُمْ إِلَى دُعَاءِ آلِهَتِكُمْ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ يَرْكَنُ إِلَيْهَا الْعَاجِزُ عَنِ الْبَيِّنَاتِ مِنَ النَّاسِ بَلِ ائْتُوا بِبَيِّنَةٍ تَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْحُكَّامِ وهذا يؤذن بأنه لم يبق تَشَبُّثٌ سِوَى قَوْلِهِمْ: "اللَّهُ يَشْهَدُ لَنَا عَلَيْكُمْ" هَذَا إِذَا جَعَلْتَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بادعوا فَإِنْ جَعَلْتَهُ مُتَعَلِّقًا بِـ {شُهَدَاءَكُمْ} احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ شَهَادَةَ اللَّهِ أَيْ شَهَادَتَهُمْ لَكُمْ يوم القيامة والثاني: على أن يراد بشهدائكم آلِهَتُكُمْ أَيِ ادْعُوا الَّذِينَ تَجَاوَزْتُمْ فِي اتِّخَاذِكُمْ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ إِلَى أُلُوهِيَّتِهِمْ(2/201)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْهَدُونَ لَكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِمِثْلِهِ وَفِي هَذَا إِرْخَاءُ عِنَانِ الِاعْتِمَادِ عَلَى أَنَّ فُصَحَاءَهُمْ تَأْنَفُ نُفُوسُهُمْ مِنْ مُسَاجَلَةِ الحق الجلي بالباطل اللجلجي وتعليقه بادعوا عَلَى هَذَا جَائِزٌ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كالذي مر على قرية} فَإِنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ} لِأَنَّهَا بِمَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ
السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ النُّزُولِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعِينِ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى وَسَبَقَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ جُمْلَةٌ وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يطوف بهما} أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَقَالَتْ: "لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتَ لَقَالَ فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" وَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقَعَ فَزَعٌ فِي قُلُوبِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَطُوفُونَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلْأَصْنَامِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا الْفِعْلَ الَّذِي كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْجُنَاحَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالطَّوَافِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ السَّعْيِ
وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ مروان بن الحكم سُؤَالِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ: "لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون" فقال ابن عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَاتُ(2/202)
نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَلَا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} وَتَلَا: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ
وَقَدْ سَبَقَ فِيهِ كَلَامٌ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي مَعْرِفَةِ سَبَبِ النُّزُولِ فَاسْتَحْضِرْهُ
وَمِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أجد في ما أوحي إلي محرما} أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ فِيهَا لِمَالِكٍ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ فَأَجَابَهُمْ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَحَكَاهُ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
السَّابِعُ: السَّلَامَةُ مِنَ التَّدَافُعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الطَّوَائِفَ لَا تَنْفِرُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَبَوَادِيهَا جُمْلَةً بَلْ بَعْضُهُمْ لِتَحْصِيلِ التَّفَقُّهِ بِوُفُودِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ وَالْفَائِدَةُ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَنْفِرُونَ جَمِيعًا عَنْ بِلَادِهِمْ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ فِي حِفْظِ مَنْ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ نفيره(2/203)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِئَةِ النَّافِرَةِ هِيَ مَنْ تَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ وَسَرَايَاهُ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا أَجْمَعِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ وَالْفِئَةُ النَّافِرَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعِلْمِ وَالِاحْتِمَالَانِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي لَخَالَفَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا طَلَبَ الْجَمِيعِ بِالنَّفِيرِ أَوْ إِبَاحَتَهُ وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِهِ يُخَالِفُ النَّهْيَ عَنْ نَفْرِ الْجَمِيعِ وَإِذَا تَعَارَضَ مَحْمَلَانِ يَلْزَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُعَارَضَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآخَرِ فَالثَّانِي أَوْلَى وَلَا نَعْنِي بِلُزُومِ التَّعَارُضِ لُزُومًا لَا يُجَابُ عَنْهُ وَلَا يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ يُجَابُ عَنْهُ بِحَمْلِ "أَوْ" فِي قَوْلِهِ: {أَوِ انْفِرُوا جميعا} عَلَى التَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ كَمَا رَضِيَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النُّحَاةِ فَيَكُونُ نَفِيرُهُمْ ثُبَاتٍ مِمَّا لا يدعون الْحَاجَةُ إِلَى نَفِيرِهِمْ فِيهِ جَمِيعًا وَنَفِيرُهُمْ جَمِيعًا فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أن يتخلفوا عن رسول الله} عَلَى مَا إِذَا كَانَ الرَّسُولُ هُوَ النَّافِرُ لِلْجِهَادِ وَلَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ إِلَّا بِنَفِيرِ الْجَمِيعِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ فَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالنَّسْخِ(2/204)
أَوْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا اقْتَضَى النَّفِيرَ جَمِيعًا
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَنْعَ النَّفِيرِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوهُ وَحْدَهُ
وَالْحَمْلُ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ هَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي أَنَّ نَفِيرَهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْإِنْذَارِ وَنَفِيرُهُمْ مَعَ بَقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُمْ لَا يُنَاسِبُهُ التَّعْلِيلُ بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِذِ التَّفَقُّهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعَ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ مُعَلِّلًا لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فاتقوا الله ما استطعتم} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ فَاتَّقُوا أَيْ لا تبقى مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ شَيْءٌ
وَبِمَعْنَى التَّخْفِيفِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ أَوْ مَا أَمْكَنَكُمْ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ
قَالَ الشيخ تقي الدين الفشيري: وَيُصْلِحُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"
فَصْلٌ في الظاهر والمؤول
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ فَيُسَمَّى الرَّاجِحَ ظَاهِرًا وَالْمَرْجُوحَ مُؤَوَّلًا(2/205)
مِثَالُ الْمُؤَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كنتم} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُ الْمَعِيَّةِ عَلَى الْقُرْبِ بِالذَّاتِ فَتَعَيَّنَ صَرْفُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَمْلُهُ إِمَّا عَلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ أَوْ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حبل الوريد}
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ آدَمِيٌّ لَهُ أَجْنِحَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُضُوعِ وحسن الخلق
وكقوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَدَّ فِي الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِ كُلِّ طَائِعٍ وَعَاصٍ وَغَيْرِهِمَا طَيْرٌ مِنَ الطُّيُورِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْتِزَامِ الْكِتَابِ فِي الْحِسَابِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ
وَمِثَالُ الظَّاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فَإِنَّ الْبَاغِيَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَاهِلِ وَعَلَى الظَّالِمِ وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَغْلَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بغي عليه لينصرنه الله}
وقوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} فَيُقَالُ: لِلِانْقِطَاعِ طُهْرٌ وَلِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرَ أَنَّ الثَّانِيَ أَظْهَرُ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فيقال: للابتداء التمام والفراغ غَيْرَ أَنَّ الْفَرَاغَ أَظْهَرُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ(2/206)
الْخِيَارُ فِي الْأَجَلِ أَوْ بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لَكِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُفَارَقَةُ الْأَجَلِ
وَقَوْلِهِ: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا جُنَاحَ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "لَا بَأْسَ" وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ مَتْرُوكٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَاجِبٌ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ التَّطَوُّعِ فَقَالَ: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خيرا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ السَّابِقَ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ وَاجِبٍ لَا نَهْيٌ عَنْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ
وَقَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ فَيُعْدَلُ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ بِدَلِيلٍ آخَرَ كقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} والشهر اسْمٌ لِثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} فَالظَّاهِرُ اشْتِرَاطُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْإِخْوَةِ لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اثْنَانِ لِأَنَّهُمَا يَحْجُبَانِهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ
فَصْلٌ في اشتراك اللفظ بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز
قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ أَوْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تعالى: {لا يضار كاتب ولا شهيد} قِيلَ: الْمُرَادُ يُضَارِرْ وَقِيلَ: يُضَارَرْ أَيِ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ لَا يُضَارَرْ فَيَكْتُمُ الشَّهَادَةَ وَالْخَطَّ وَهَذَا أظهر(2/207)
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ دَعَا الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ لَا يُضَارِرْهُ فَيَطْلُبُهُ فِي وَقْتٍ فِيهِ ضَرَرٌ
وَكَذَلِكَ قوله: {لا تضار والدة بولدها} فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَبِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ خُوطِبَ بِهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أُرِيدَ هَذَا وَمَرَّةً هَذَا وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً" رواه أحمد أي اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً وَلَا يَقْتَصِرُ به على ذلك المعنى بل يعلم أنه يصلح لهذا ولهذا
وقال ابن القشيري في مقدمة تفسيره: مالا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَا احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع الأشياء مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُجْمَلٌ فَيُطْلَبُ الْبَيَانُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَ فَقَدْ مَالَ قَوْمٌ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْوَجْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ لِأَنَّهُ مَا وُضِعَ لِلْجَمِيعِ بَلْ وُضِعَ لِآحَادِ مُسَمَّيَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ وَادِّعَاءُ إِشْعَارِهِ بِالْجَمِيعِ بِعِيدٌ نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَحَامِلِ وَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَقْلًا وَفِي مِثْلِ هَذَا يُقَالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَا
فَصْلٌ
قد ينفى الشيء ويثبت باعتبارين
وَقَدْ يُنْفَى الشَّيْءُ وَيُثْبَتُ بِاعْتَبَارَيْنِ كَمَا سَبَقَ في قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ(2/208)
رمى} ثُمَّ أَثْبَتُهُ لِسِرٍّ غَامِضٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّمْيَ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عَنَى بِهِ الرَّمْيَ بِالرُّعْبِ وَالثَّانِيَ عَنَى بِهِ بِالتُّرَابَ حِينَ رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُجُوهِ أَعْدَائِهِ بِالتُّرَابِ وَالْحَصَى وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ" فَانْهَزَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُهُ أَنَّ انْهِزَامَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ التُّرَابِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَا أَوْقَعَ في قلوبهم من الرعب
فصل في الإجمال ظاهرا وأسبابه
وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي الظَّاهِرِ فَكَثِيرٌ وَلَهُ أَسْبَابٌ
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِضُ مِنْ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَرِكَةٍ وَقَعَتْ فِي التَّرْكِيبِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فأصبحت كالصريم} قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالنَّهَارِ مُبْيَضَّةً لَا شَيْءَ فِيهَا وقيل: كالليل مظلمة لاشيء فيها
وكقوله: {والليل إذا عسعس} قِيلَ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ
وَكَالْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وجد عليه أمة} بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمة} بِمَعْنَى الرَّجُلِ الْجَامِعِ لِلْخَيْرِ الْمُقْتَدَى بِهِ وَبِمَعْنَى الدِّينِ فِي قَوْلِهِ(2/209)
تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} وَبِمَعْنَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أمة}
وَكَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ الْأَدْنَى وَمِنْهُ: {ومن ذريته داود وسليمان} وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إن الله اصطفى آدم} الآية ثم قال: {ذرية} وَبِهَا يُجَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} عَلَى بَحْثٍ فِيهِ
وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فأنا أول العابدين} أَيْ: أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَمَنْ قَالَ: "الْآنِفِينِ" فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِدِينِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: عَبِدَ مِنْ كَذَا أَيْ أَنِفَ
الثَّانِي: مِنْ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ كقوله: {وترغبون أن تنكحوهن} قيل معناه ترغبون في نكاحهن لما لهن وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِزَمَانَتِهِنَّ وَقِلَّةِ مَالِهِنَّ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ رَغِبْتُ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا زَهِدْتَ فِيهِ وَرَغِبْتُ فِي الشَّيْءِ إِذَا حَرِصْتَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رُكِّبَ الْكَلَامُ تَرْكِيبًا حُذِفَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ التَّأْوِيلَيْنِ جَمِيعًا وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ(2/210)
لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. مَا أَصَابَكَ مِنْ حسنة فمن الله} أَيْ يَقُولُونَ: {مَا أَصَابَكَ} قَالَ: وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عند الله}
وقوله: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} أَيْ: آيَةً مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ مُبْصِرَةً لَا عَمْيَاءَ
الثَّالِثُ: مِنْ تَعْيِينِ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يعفو الذي بيده عقدة النكاح} فَالضَّمِيرُ فِي {يَدِهِ} يَحْتَمِلُ عَوْدَهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَعَلَى الزَّوْجِ وَرُجِّحَ الثَّانِي لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقَوَاعِدِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ مَالِ يَتِيمِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ لَقَالَ: "إِلَّا أَنْ تَعْفُوَ" بِالْخِطَابِ لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ خِطَابٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وإن طلقتموهن} إلى قوله: {نصف ما فرضتم}
قُلْنَا: هُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْفَاعِلِيُّ الَّذِي فِي {يَرْفَعُهُ} عَائِدًا عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ -وَهُوَ التَّوْحِيدُ- يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْأَعْمَالُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْكَلِمِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ لَا يَصِحُّ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ(2/211)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا. فَوَسَطْنَ بِهِ جمعا} فَالْهَاءُ الْأَوْلَى كِنَايَةٌ عَنِ الْحَوَافِرِ وَهِيَ مَوْرِيَاتٍ أَيْ أَثَرْنَ بِالْحَوَافِرِ نَقْعًا وَالثَّانِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِغَارَةِ أَيِ الْمُغِيرَاتِ صُبْحًا {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ فَأَغَارُوا بِجَمْعِهِمْ
وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كِتَابًا فِي تَعْيِينِ الضَّمَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مُجَلَّدَيْنِ
الرَّابِعُ: مِنْ مَوَاقِعِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في العلم} فَقَوْلُهُ: {الرَّاسِخُونَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ وَيَكُونُ حَذَفَ "أما" المقابلة كقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} وَيُؤَيِّدُهُ آيَةُ الْبَقَرَةِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا}
الْخَامِسُ: مِنْ جِهَةِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فلا تعضلوهن} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} {وسيدا وحصورا} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا صَنَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ كُتُبِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ
السَّادِسُ: مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ الْآنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهو شهيد}(2/212)
و {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} بِمَعْنَى: يَسْمَعُونَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ الْآنَ: أَلْقَيْتُ سمعي
وكذا قوله: {ثاني عطفه} أَيْ: مُتَكَبِّرًا
وَقَوْلُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أَيْ: يُسِرُّونَ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ
وَكَذَا: {فَأَصْبَحَ يقلب كفيه} أي: نادما
وكذا: {فردوا أيديهم في أفواههم} أَيْ: لَمْ يَتَلَقَّوُا النِّعَمَ بِشُكْرٍ
السَّابِعُ: مِنْ جِهَةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ منصوبا كالإلزام
وقوله تعالى: {يسألونك كأنك حفي عنها} أي: يسألونك عنها كأنك وَقَوْلِهِ: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كريم. كما أخرجك ربك} فَهَذَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى قوله: {قل الأنفال لله والرسول} {كما أخرجك ربك من بيتك} فصارت أنفال الغنائم لك إذا أَنْتَ رَاضٍ بِخُرُوجِكَ وَهُمْ كَارِهُونَ فَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَغَيْرُهُ
وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه} مَعْنَاهُ: {قَدْ كَانَتْ(2/213)
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذ قالوا لقومهم}
الثَّامِنُ: مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ الْمُنْقَلِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وطور سينين} أي طورسينا
وقوله: {سلام على إل ياسين} أي: الناس وقيل: إدريس وفي حرف ابن مسعود: إدراس
التَّاسِعُ: الْمُكَرَّرُ الْقَاطِعُ لِوَصْلِ الْكَلَامِ فِي الظَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} مَعْنَاهُ: يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِلَّا الظَّنَّ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} مَعْنَاهُ: الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِمَنْ آمَنَ مِنَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِلْإِجْمَالِ
اعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ وَهُوَ إِمَّا نَصٌّ وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وَإِمَّا ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ(2/214)
وَالرَّافِعُ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ وَاللَّفْظِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلَةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ أَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَصْرِفُ اللَّفْظَ إِلَى غَيْرِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي لَوْلَا الْقَرِينَةُ لِحُمِلَ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى تَخْصِيصًا وَتَأْوِيلًا وَنَوْعٌ يَظْهَرُ بِهِ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ وَيُسَمَّى بيانا
فالأول: كقوله تعالى: {وحرم الربا} فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ سبحانه: {وأحل الله البيع} الْبَعْضُ دُونَ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الِاحْتِمَالِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ بِإِجْمَالِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الرِّبَا مُجْمَلٌ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْبَيْعِ وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ يَعُودُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الرِّبَا عَامٌّ فِي الزِّيَادَاتِ كُلِّهَا وَكَوْنُ الْبَعْضِ غَيْرَ مُرَادٍ نَوْعُ تَخْصِيصٍ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَةُ الْأَوْضَاعِ
وَمِثَالُ النَّوْعِ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنَ الْفَجْرِ} فَإِنَّهُ فَسَّرَ مُجْمَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الخيط الأسود} إِذْ لَوْلَا {مِنَ الْفَجْرِ} لَبَقِيَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ عَلَى تَرَدُّدِهِ وَإِجْمَالِهِ
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ وَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ لَوْنُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ أَرَادَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ
وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: تَأْوِيلٌ وَبَيَانٌ
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره} فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطلاق مرتان} الطلاق(2/215)
الرجعي إذا لولا هذا الْقَرِينَةُ لَكَانَ الْكُلُّ مُنْحَصِرًا فِي الطَّلْقَتَيْنِ وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الطَّلْقَتَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا جَاءَتْ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَلِهَذَا جُعِلَتْ مِنْ قِسْمِ الْمُنْفَصِلَةِ
وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَيُفَسَّرُ بِهِ قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} حَيْثُ كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ أَصْلًا وَبَيْنَ نَفْيِ الْإِحَاطَةِ وَالْحَصْرِ دُونَ أَصْلِ الرُّؤْيَةِ
وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون} فَإِنَّهُ لَمَّا حَجَبَ الْفُجَّارَ عَنْ رُؤْيَتِهِ خِزْيًا لَهُمْ دَلَّ عَلَى إِثْبَاتِهَا لِلْأَبْرَارِ وَارْتَفَعَ بِهِ الإجمال في قوله: {لا تدركه الأبصار}
وَأَمَّا الْقَرَائِنُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَلَا تَنْحَصِرُ وَمِنْ مِثْلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَإِنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُنَّ قَدْ لَا يَتَرَبَّصْنَ فَيَقَعُ خَبَرُ اللَّهِ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْقَرِينَةِ حَمْلَ الصِّيغَةِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ صِيَانَةً لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ احْتِمَالِ الْمُحَالِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ(2/216)
النوع الثاني والأربعون في وُجُوهِ الْمُخَاطَبَاتِ وَالْخِطَابُ فِي الْقُرْآنِ
يَأْتِي عَلَى نَحْوٍ مَنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا:
الْأَوَّلُ: خِطَابُ الْعَامِّ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بكل شيء عليم}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}
وقوله: {ولا يظلم ربك أحدا}
وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يميتكم ثم يحييكم} {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نطفة} {الله الذي جعل لكم الأرض قرارا} وهو كثير في القرآن
{يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}
الثَّانِي: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ
مِنْ ذلك قوله تعالى: {أكفرتم بعد إيمانكم}(2/217)
{هذا ما كنزتم لانفسكم}
{ذق إنك أنت العزيز الكريم}
{يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لكي لا} وَغَيْرُ ذَلِكَ
الثَّالِثُ: خِطَابُ الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِهِ العموم
كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {يأيها يا أيها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لَهُ فَلَمَّا قَالَ فِي الْمَوْهُوبَةِ: {خَالِصَةً لَكَ} عُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/218)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} وَجَرَى أَبُو يُوسُفَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ {فِيهِمْ} عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ بَلْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ حَالٍ وَالْأَصْلُ فِي الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ لِمُعَيَّنٍ
وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لهم جنات} وَفَائِدَتُهُ الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ خَلِيقٌ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ الْجَمِيلُ
وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ ترى إذ فزعوا فلا فوت} أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخِطَابِ لَمَّا أُرِيدَ الْعُمُومُ للقصد إلى تقطيع حَالِهِمْ وَأَنَّهَا تَنَاهَتْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى امْتَنَعَ خفاؤها فلا تخص بِهَا رُؤْيَةَ رَاءٍ بَلْ كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كبيرا} لَمْ يُرَدْ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ بَلْ عُبِّرَ بِالْخِطَابِ لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ مَدْخَلٌ مُبَالَغَةً فِيمَا قَصَدَ اللَّهُ مِنْ وَصْفِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ وَلِبِنَاءِ الْكَلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ لَمْ يَجْعَلْ لِـ: "تَرَى" وَلَا لِـ: "رَأَيْتَ" مَفْعُولًا ظَاهِرًا وَلَا مُقَدَّرًا لِيَشِيعَ وَيَعُمَّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَقَالَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لِلتَّمَنِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كالترجي في {لعلهم يهتدون} لِأَنَّهُ تَجَرَّعَ مِنْ(2/219)
عَدَاوَتِهِمُ الْغُصَصَ فَجَعَلَهُ اللَّهُ كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَرَاهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ مَنْ نَكْسِ الرؤوس صُمًّا عُمْيًا لِيَشْمَتَ بِهِمْ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: "لَوْ" امْتِنَاعِيَّةً وَجَوَابَهَا مَحْذُوفٌ أَيْ لَرَأَيْتَ أَسْوَأَ حَالٍ يُرَى
الرَّابِعُ: خِطَابُ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاقِعٌ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمعوا لكم} وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نُعَيْمُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ وَالثَّانِي أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمِمَّا يقوي أن المراد بالناس في قوله: {ن النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وَاحِدٌ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ} إِلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِ جَمْعًا لَكَانَ "إِنَّمَا الشَّيَاطِينُ الشَّيَاطِينُ" فَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللَّفْظِ وَقِيلَ بَلْ وُضِعَ فِيهِ "الَّذِينَ" مَوْضِعَ "الَّذِي"(2/220)
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ الناس} يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الذين ينادونك من وراء الْحُجُرَاتِ} قَالَ الضَّحَّاكُ: وَهُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
وقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ
ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَجِيءُ تَارَةً فِي آخِرِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} فَهَذَا عَامٌّ فِي الْبَالِغَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ثُمَّ خُصَّ فِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} الْآيَةَ فَخَصَّهَا بِالْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهَا عِبَارَتُهَا مُلْغَاةٌ فِي الْعَفْوِ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفسهن} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْبَائِنَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ ثُمَّ خَصَّهَا بِالرَّجْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} لِأَنَّ الْبَائِنَةَ لَا تُرَاجَعُ
وَتَارَةً فِي أَوَّلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مما آتيتموهن شيئا} فَإِنَّ هَذَا خَاصٌّ فِي الَّذِي أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} فَهَذَا عَامٌّ فِيمَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ إِذَا كَانَ مِلْكًا لَهَا
وَقَدْ يُأْخَذُ التَّخْصِيصُ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يومئذ(2/221)
دبره} الآية فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُقَاتِلِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآية
ونظيره قوله: {حرمت عليكم الميتة} وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَيْتَاتِ ثُمَّ خَصَّهُ بقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} فَأَبَاحَ الصَّيْدَ الَّذِي يَمُوتُ فِي فَمِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ
وَخُصِّصَ أَيْضًا عُمُومُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لكم} تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَخُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عموم تلك
ومثله قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ}
ونظيره قوله: {والدم} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ ميتة أو دما مسفوحا} يَعْنِي إِلَّا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ فَهُوَ حَلَالٌ
ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مكية والآية العامة في سورة المائدة وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النُّزُولِ آيَةَ الْوُضُوءِ عَلَى أَنَّهُ التَّيَمُّمُ وَهَذَا مَاشٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاصِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَمْ تَأَخَّرَ(2/222)
ومثله قوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا} والآية وَهَذَا عَامٌّ سَوَاءٌ رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا ثُمَّ خَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيء منه نفسا فكلوه} وَخَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به}
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الْآيَةَ فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ خصها فقال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية فَخَصَّ الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْحَامِلَ فَالْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ بِالْأَشْهُرِ وَالْحَامِلُ بِالْوَضْعِ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ ثُمَّ خُصَّ بِقَوْلِهِ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية وَهَذَا عَامٌّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ ثُمَّ خص بقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية
وقوله: {الزانية والزاني} عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ثُمَّ خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
وَقَوْلُهُ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} فَإِنَّ الْخُلَّةَ عَامَّةٌ ثُمَّ خَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}
وكذلك قوله: {ولا شفاعة} بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم(2/223)
فائدة في العموم والخصوص
قَدْ يَكُونُ الْكَلَامَانِ مُتَّصِلَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا خَاصًّا وَالْآخَرُ عَامًّا وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ لِمَنْ أَعْطَى زَيْدًا دِرْهَمًا: أَعْطِ عَمْرًا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا أَعْطَيْتَ يُرِيدُ إِنْ لَمْ تُعْطِ عَمْرًا فَأَنْتَ لَمْ تُعْطِ زَيْدًا أَيْضًا وَذَاكَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَكَ
ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك} قَالَ: فَهَذَا خَاصٌّ بِهِ يُرِيدُ هَذَا الْأَمْرَ المحدد بلغه {وإن لم تفعل} ولم تبلغ هذا {فما بلغت رسالته} يُرِيدُ جَمِيعَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ
قُلْتُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أُخَرُ
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِنْ تَرَكَتْ مِنْهَا شَيْئًا كُنْتَ كَمَنْ لَا يُبَلِّغُ شَيْئًا مِنْهَا فَيَكُونُ تَرْكُ الْبَعْضِ مُحْبِطًا لِلْبَاقِي قَالَ الرَّاغِبُ: وَكَذَلِكَ أن حكم الأنبياء عليهم السلام فِي تَكْلِيفَاتِهِمْ أَشَدُّ وَلَيْسَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَجَاوَزُ عَنْهُمْ إِذَا خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَالثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
*أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي*
مَعْنَاهُ: أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْمَتَانَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ شَيْءٍ قِيلَ فِي نَظْمٍ إِنَّهُ شِعْرِي فقد(2/224)
انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ فَيُفِيدُ تَكْرِيرَ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْمَدْحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَا جواب الشرط ها هنا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ بَعْضِ الْمُبَلَّغَ تَهْدِيدًا أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَضُعِّفَ الْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ كَذِبًا وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْخَلَلَ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ كَالْخَلَلِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ فَإِنَّهُ أَيْضًا مُحَالٌ
وَفِي هَذَا التَّضْعِيفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَتَى أُتِيَ بِهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ فوجده كَالْعَدَمِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
سُئِلْتَ فَلَمْ تَمْنَعْ وَلَمْ تُعْطِ نَائِلًا
فَسِيَّانِ لَا ذَمٌّ عَلَيْكَ وَلَا حَمْدُ
أَيْ: وَلَمْ تُعْطِ مَا يُعَدُّ نَائِلًا وَإِلَّا يَتَكَاذَبُ الْبَيْتُ
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ كِتْمَانِ الْبَعْضِ جَعَلَهُ كَكِتْمَانِ الْكُلِّ كَمَا فِي قوله تعالى: {فكأنما قتل الناس جميعا}
الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَضَعَ السَّبَبَ مَوْضِعَ الْمُسَبِّبِ وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَكَ مَا يُوجِبُهُ كِتْمَانُ الْوَحْيِ كُلِّهِ مِنَ الْعَذَابِ
ذَكَرَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ(2/225)
تَنْبِيهٌ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَهُ الْكَافَّةَ وَإِنَّمَا وُرُودُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ نَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَمِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ وَمِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَنَحْوِهَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا فَإِذَا لَمْ نَجِدْ مَا كَانَ فِيهَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ انْتَهَى
وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ مَمْنُوعَةٌ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِصُورَةِ التَّوَاتُرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا تَثْبُتُ زِيَادَةُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَاعَةَ شَيْءٍ إِلَى جَمْعٍ يَتَحَصَّلُ بِهِمُ الْقَطْعُ غَيْرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ الْأَكْبَرُ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْقَطْعُ فَأَمَّا بَاقِي الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى الْآحَادِ وَالْقَبَائِلِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى قَطْعًا
الْخَامِسُ: خِطَابُ الْجِنْسِ
نَحْوُ: {يا أيها الناس} فَإِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النَّاسِ لَا كُلَّ فَرْدٍ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ وَهَذَا يَغْلِبُ فِي خِطَابِ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا سَبَقَ وَرَجَّحَ الْأُصُولِيُّونَ دُخُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِطَابِ بـ يأيها الناس وفي القرآن سورتان أولهما {يا أيها النَّاسُ} إِحْدَاهُمَا: فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَهِيَ السُّورَةُ الرابعة منه(2/226)
وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي: مِنْهُ وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ وَالْأُولَى تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّرْتِيبَ مَا أَوْقَعَهُ فِي الْبَلَاغَةِ
قال الراغب: والناس قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْفُضَلَاءُ دُونَ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّاسِ تَجَوُّزًا وَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَ معنى الإنسانية وهو وجود العقل وَالذِّكْرِ وَسَائِرِ الْقُوَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُدِمَ فِعْلُهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ لَا يَكَادُ يَسْتَحِقُّ اسْمَهُ كَالْيَدِ فَإِنَّهَا إِذَا عَدِمَتْ فِعْلَهَا الْخَاصَّ بِهَا فَإِطْلَاقُ الْيَدِ عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِهِ عَلَى يَدِ السَّرِيرِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمِنُوا كَمَا آمن الناس} أَيْ: كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْإِنْسَانِ عَيْنًا وَاحِدًا بَلْ قَصَدَ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} أَيْ: مَنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ أَيَّ إِنْسَانٍ كَانَ
قَالَ: وَرُبَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّوْعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}
السادس: خطاب النوع
نحو: {يا بني إسرائيل} والمراد: بنو يعقوب وإنما صرح بِهِ لِلَطِيفَةٍ سَبَقَتْ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ وَهُوَ علم المبهمات(2/227)
السابع: خطاب العين
نحو: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}
{يا نوح اهبط بسلام}
{يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا}
{يا موسى}
{يا عيسى}
وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ النِّدَاءُ بِـ "يَا محمد" بل بـ {يا أيها النبي} و {يا أيها الرسول} تَعْظِيمًا لَهُ وَتَبْجِيلًا وَتَخْصِيصًا بِذَلِكَ عَنْ سِوَاهُ
الثامن: خطاب المدح
نحو: {يا أيها الذين آمنوا} وَهَذَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَدْ سبق أن كل آية فيها: {يا أيها الناس}(2/228)
لِأَهْلِ مَكَّةَ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ {يا أيها الناس} الأمر بأصل الإيمان ويأتي بعد {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا} الْأَمْرُ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ جَاءَ بَعْدَهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِصْحَابِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أيها المؤمنون} قِيلَ: يَرِدُ الْخِطَابُ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تؤمن قلوبهم}
وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْخِطَابُ بـ {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول} وَلِهَذَا تَجِدُ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ فِي مَحَلٍّ لَا يَلِيقُ بِهِ الرَّسُولُ وَكَذَا عَكْسَهُ كَقَوْلِهِ فِي مقام الأمر بالتشريع العام: {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وفي مقام الخاص: {يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومثله: {إن إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ من دون المؤمنين}
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} فِي مَقَامِ الْإِقْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} فَكَأَنَّهُ جَمَعَ لَهُ الْمَقَامَيْنِ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ فِي الْحَالَيْنِ(2/229)
وقريب منه في المضاف إلى الخاص: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} وَلَمْ يَقُلْ: "يَا نِسَاءَ الرَّسُولِ" لَمَّا قَصَدَ اخْتِصَاصَهُنَّ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ
وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّبِيِّ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ لَكِنَّ مَعَ قَرِينَةِ إرادة التعميم كقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} وَلَمْ يَقِلْ طَلَّقْتَ
التَّاسِعُ: خِطَابُ الذَّمِّ
نَحْوُ: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم}
{قل يا أيها الْكَافِرُونَ}
وَلِتَضَمُّنِهِ الْإِهَانَةَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ
وَكَثُرَ الْخِطَابُ بِـ {يا أيها الذين آمنوا} عَلَى الْمُوَاجَهَةِ وَفِي جَانِبِ الْكُفَّارِ عَلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين} ثُمَّ قَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَوَاجَهَ بِالْخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْرَضَ بِالْخِطَابِ عَنِ الْكَافِرِينَ وَلِهَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَتَبَ عَلَى قَوْمٍ قَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ يَفْعَلُونَ كَذَا" فَكَنَّى عَنْهُ تَكَرُّمًا وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا(2/230)
الْعَاشِرُ: خِطَابُ الْكَرَامَةِ
نَحْوُ: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أنت وزوجك الجنة}
وقوله: {ادخلوها بسلام آمنين}
الْحَادِي عَشَرَ: خِطَابُ الْإِهَانَةِ
نَحْوُ قَوْلِهِ لِإِبْلِيسَ: {فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة}
وقوله: {قال اخسأوا فيها ولا تكلمون}
وقوله: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك}
قَالُوا: لَيْسَ هَذَا إِبَاحَةً لِإِبْلِيسَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ لَا يَضُرُّ عِبَادَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
الثَّانِي عَشَرَ: خِطَابُ التَّهَكُّمِ
وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُخَاطَبِ مَأْخُوذٌ مِنْ تَهَكَّمَ الْبِئْرُ إِذَا تَهَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وَهُوَ خِطَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ قَالَ: "مَا بين(2/231)
جَبَلَيْهَا -يَعْنِي مَكَّةَ- أَعَزُّ وَلَا أَكْرَمُ مِنِّي"
وقال: {فبشرهم بعذاب أليم} جَعَلَ الْعَذَابَ مُبَشَّرًا بِهِ
وَقَوْلُهُ: {هَذَا نُزُلُهُمْ يوم الدين}
وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فنزل من حميم. وتصلية جحيم} وَالنُّزُلُ لُغَةً: هُوَ الَّذِي يُقَدَّمُ لِلنَّازِلِ تَكْرِمَةً لَهُ قَبْلَ حُضُورِ الضِّيَافَةِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ من أمر الله} عَلَى تَفْسِيرِ الْمُعَقِّبَاتِ بِالْحَرَسِ حَوْلَ السُّلْطَانِ يَحْفَظُونَهُ -عَلَى زَعْمِهِ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ تَهَكُّمٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِذَا جَاءَهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} وهو تعالى يعلم حقيقتهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ(2/232)
مِنْ شَأْنِهِ الِاسْتِرْوَاحُ وَاللَّطَافَةُ فَنُفِيَ هُنَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْهِلُونَ الظِّلَّ الْكَرِيمَ
الثَّالِثَ عَشَرَ: خطاب الجمع بلفظ الواحد
كقوله: {يا أيها الإنسان إنك كادح} {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} وَالْمُرَادُ: الْجَمِيعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}
وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ"
وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى" {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضيفي} وَلَمْ يَقُلْ ضُيُوفِي لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ
وَقَوْلِهِ: {هُمُ العدو فاحذرهم} وَلَمْ يَقِلِ الْأَعْدَاءُ
وَقَوْلِهِ: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} أَيْ: رُفَقَاءَ
وَقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} {فما منكم من أحد عنه حاجزين}
وَفِي الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطهروا}(2/233)
وقوله: {الملائكة بعد ذلك ظهير}
وقوله: {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} وَجَمْعُهُ أَنْجِيَةٌ مِنَ الْمُنَاجَاةِ
وَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء} فَأَوْقَعَ الطِّفْلَ جِنْسًا
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهَذَا بَابٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا الصِّفَةُ نَحْوُ الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ وَالْإِنْسَانُ وَالْمَلَكُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ على أرجائها} {وجاء ربك والملك صفا صفا} {إن الأنسان لفي خسر} وَمِنْ مَجِيئِهِ فِي الصِّفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يعض الظالم على يديه} وقوله: {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار}
وقال: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقَعُ هَذَا الْمَوْقِعَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْمِ الصَّرِيحِ
الرَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الجمع
كقوله تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ قَبْلَهُ وَلَا بعده(2/234)
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} خَاطَبَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ
وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ والسعة أن يؤتوا أولي القربى} الْآيَةَ خَاطَبَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَمَّا حَرَمَ مِسْطَحًا رِفْدَهُ حِينَ تَكَلَّمَ فِي حَدِيثِ الإفك
وقوله: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا} وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا لقوله: {قل فأتوا}
وقوله تعالى: {ففررت منكم لما خفتكم}
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ ارجعون} أَيِ: ارْجِعْنِي وَإِنَّمَا خَاطَبَ الْوَاحِدَ الْمُعَظَّمَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُولُ نَحْنُ فَعَلْنَا فَعَلَى هَذَا الِابْتِدَاءِ خُوطِبُوا بِمَا فِي الْجَوَابِ وَقِيلَ {رَبِّ} اسْتِغَاثَةٌ وَ {ارْجِعُونَ} خِطَابُ الْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ الْتِفَاتًا أَوْ جَمْعًا لِتَكْرَارِ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ: "قِفَا نَبْكِ"
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ قَوْلُ مَنْ حَضَرْتُهُ الشَّيَاطِينُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ فَاخْتَلَطَ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الشَّطَطِ وَقَدِ اعْتَادَ أَمْرًا يَقُولُهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ(2/235)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ وَهَذَا مِمَّا لَا تَشْرِيكَ فِيهِ
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ: "لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِلْزَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كِبْرٌ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ سُبْحَانَهُ
وَمِنْ هَذَا مَا حَكَاهُ الْحَرِيرِيُّ فِي شَرْحِ الْمِلْحَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظَةِ نَحْنُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْظِيمِ وَهُوَ غَرِيبٌ وَحَكَى بَعْضُهُمْ خِلَافًا فِي نُونِ الْجَمْعِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقِيلَ: جَاءَتْ لِلْعَظَمَةِ يُوصَفُ بِهَا سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُكْرَهُ لِلْمُلُوكِ اسْتِعْمَالُهَا فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ نَفْعَلُ كَذَا وَقِيلَ فِي عِلَّتِهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ تجري على أيدي خلقه تنزلت أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ فَلِذَلِكَ وَرَدَ الْكَلَامُ مَوْرِدَ الجمع فعلى هذا القول يجوز مباشرة النون لكل من لايباشر بِنَفْسِهِ
فَأَمَّا قَوْلُ الْعَالِمِ: "نَحْنُ نُبَيِّنُ" "وَنَحْنُ نشرح" فمفسوح لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِنُونِ الْجَمْعِ عَنْ نفسه وأهل مقالته(2/236)
وقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} وَالْمُرَادُ: الْإِنْسُ لِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بَنِي آدَمَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ لَكِنْ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ رَسُولًا اسْمُهُ يُوسُفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذير} وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رجلا} لِيَحْصُلَ الِاسْتِئْنَاسُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْجِنِّ وَبِقَوْلِهِ تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا} الْآيَةَ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاصْطِفَاءِ النُّبُوَّةُ
وَأُجِيبَ عَنْ تَمَسُّكِ الضَّحَّاكِ بِالْآيَةِ بِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ صَادِقَةٌ بِكَوْنِ الرُّسُلِ مَنْ بَنِي آدَمَ وَلَا يَلْزَمُ إِثْبَاتُ رُسُلٍ مِنَ الْجِنِّ بِطَرِيقِ إِثْبَاتِ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ وَيُبَلِّغُونَهُ إِلَى قَوْمِهِمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ وَيَصْدُقُ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ رُسُلَ عِيسَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: {إذ أرسلنا إليهم اثنين}
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِقَوَّامِ السُّنَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ محمد بن الفضل الحوري قَالَ: قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ لِلْآيَةِ
وَقَالَ الأكثرون: الرسل من الإنس ويجيء مِنَ الْجِنِّ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ: {فَنَاظِرَةٌ بم يرجع المرسلون} وَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يكون الخطاب لرئيسهم فإن العادة جارية(2/237)
لاسيما مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ارْجِعُوا إِلَيْهِمْ أَرَادَ الرَّسُولَ وَمَنْ مَعَهُ
وقوله: {أولئك مبرأون مما يقولون} يَعْنِي: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نوح المرسلين} وَالْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ نُوحٌ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الدَّوَابَّ ويلبس البرود وماله إِلَّا دَابَّةٌ وَبُرْدٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا رَجُلٌ كَانَ لَا يُمَالِئُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم فسماه الله سبحانه طَائِفَةً وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً
وَقَوْلِهِ: {لا بيع فيه ولا خلال} والمراد خلة بدليل الآية الأخرى والموجب للجمع مناسبة رؤوس الْآيِ
فَائِدَةٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إماما} فجوز الفارسي فيه تقديرين:
أحدهما: أن إمام هُنَا جَمْعٌ لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلَ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ جَمْعٌ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَوَاحِدَهُ آمٌّ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ هَذَا فِي وَاحِدِهِ(2/238)
قال تعالى: {ولا آمين البيت الحرام} فَهَذَا جَمْعُ "آمٍّ" مُسَلَّمًا وَقِيَاسُهُ عَلَى حَدِّ قِيَامٍ وَقَائِمٍ فَأَمَّا أَئِمَّةٌ فَجَمْعُ إِمَامٍ الَّذِي هُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى حَدِّ عِنَانٍ وَأَعَنَّةٍ وَسِنَانٍ وأسنة والأصل أيمة فقلبت الفاء
والثاني: أنه جمع الإمام لِأَنَّ الْمَعْنَى: "أَئِمَّةٌ" فَيَكُونُ إِمَامٌ عَلَى هَذَا واحدا وجمعه أئمة وإمام
وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: قَيَّدَتْ عَنْ شَيْخِنَا الشَّلَوْبِينِ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ غَيْرَ هَذَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْإِمَامِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُجْرَاةِ مَجْرَى الْمَصَادِرِ فِي تَرْكِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ كَحَسِبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ دَخَلْنَا عَلَى الْأَمِيرِ وَكَسَانَا حُلَّةً وَالْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ منا حلة وكذلك هو واجعل كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إِمَامًا
الْخَامِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقِيَا في جهنم} وَالْمُرَادُ: مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطَابُ لِخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّفْقَةَ أَدْنَى مَا تَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نفس معها سائق وشهيد}(2/239)
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: لَمَّا ثَنَّى الضَّمِيرَ اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ أَلْقِ أَلْقِ يُشِيرُ إِلَى إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ
وَجَعَلَ الْمَهْدَوِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تعالى: {قال قد أجيبت دعوتكما} قَالَ: الْخِطَابُ لِمُوسَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ الدَّاعِي وَقِيلَ: لَهُمَا وَكَانَ هَارُونُ قَدْ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ وَالْمُؤَمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ
السَّادِسَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاثْنَيْنِ بلفظ الواحد
كقوله تعالى: {فمن ربكما يا موسى} أَيْ: وَيَا هَارُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْرَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّدَاءِ بِمَعْنَى التَّخْصِيصِ والتوقف إذا كَانَ هُوَ صَاحِبَ عَظِيمِ الرِّسَالَةِ وَكَرِيمِ الْآيَاتِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ
وَالثَّانِي: لَمَّا كَانَ هَارُونُ أَفْصَحَ لِسَانًا مِنْهُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ثَبَتَ عَنْ جَوَابِ الْخَصْمِ الْأَلَدِّ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَانْظُرْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَوَابِينَ
ومثله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالشَّقَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ(2/240)
الشَّقَاءَ فِي مَعِيشَةِ الدُّنْيَا فِي حَيِّزِ الرِّجَالِ وَيُحْتَمَلُ الْإِغْضَاءُ عَنْ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا قِيلَ مِنَ الْكَرَمِ سَتْرُ الْحُرَمِ
وَقَوْلِهِ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إنا رسول رب العالمين}
وَنَحْوُهُ فِي وَصْفِ الِاثْنَيْنِ بِالْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
وقال: {هذان خصمان اختصموا} ولم يقل: اختصما
وقال: {فتاب عليه} وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيْهِمَا اكْتِفَاءً بِالْخَبَرِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ
السَّابِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الْجَمْعِ بَعْدَ الْوَاحِدِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ} الآية فَجُمِعَ ثَالِثُهَا وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا جُمِعَ فِي الْفِعْلِ الثَّالِثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ دَاخِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا جُمِعَ تَفْخِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا كَمَا فِي قوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم}
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تبوءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصلاة وبشر المؤمنين} فَثَنَّى فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ جَمَعَ ثُمَّ أَفْرَدَ لِأَنَّهُ خُوطِبَ أَوَّلًا مُوسَى وَهَارُونُ لِأَنَّهُمَا الْمَتْبُوعَانِ ثُمَّ سِيقَ الْخِطَابُ عَامًّا(2/241)
لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ خُصَّ مُوسَى بِالْبِشَارَةِ تَعْظِيمًا لَهُ
الثَّامِنَ عَشَرَ: خِطَابُ عَيْنٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ
كقوله: {يا أيها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَقِيًّا وَحَاشَاهُ مِنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} بدليل قوله في صدر الآية بعدها: {قل يا أيها النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَوَّلَهُ قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي الْيَاقُوتَةِ: سَمِعْتُ الْإِمَامَيْنِ ثَعْلَبَ وَالْمُبَرِّدَ يَقُولَانِ: مَعْنَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شك} أي قل يا محمد: إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْأَلْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ كِتَابٍ(2/242)
وَقَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قَالَ ابْنُ فَوْرِكٍ: مَعْنَاهُ وَسَّعَ اللَّهُ عَنْكَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَ {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} تَغْلِيظٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِتَابٌ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ في شك مما أنزلنا إليك}
وقوله: {عبس وتولى} قِيلَ: إِنَّهُ أُمَيَّةُ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقِلْ: "عَبَسْتَ"
وَقَوْلِهِ: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولتكونن من الخاسرين}
وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ خِطَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ثُبُوتِ عِصْمَتِهِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَيُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْمُحَالُ يَصِحُّ فَرْضُهُ لِغَرَضٍ
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْعَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ شَخْصٍ معين والمعنى(2/243)
اتِّفَاقُ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَرَاحُ حِينَئِذٍ مِنْ إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ
وَعَكْسُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامًّا وَالْمُرَادُ الرَّسُولُ قَوْلُهُ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِهَا: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين}
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فِي أَلَا تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لِجَمْعَهَمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ
ثُمَّ قَالَ: وَيَظْهَرُ تَبَايُنُ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {ني أعظك أن تكون من الجاهلين} وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ
وَقَالَ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ: الْخِطَابُ بقوله: {فلا تكونن من الجاهلين} لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ
وَقَالَ قَوْمٌ: وُقِّرَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسِنِّهِ وَشَيْبِهِ
وَقَالَ قَوْمٌ: جَاءَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَكَانَتِهِ كَمَا يَحْمِلُ الْعَاتِبُ عَلَى قَرِيبِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَجَانِبِ
قَالَ: وَالْوَجْهُ الْقَوِيُّ عِنْدِي فِي الآية هو أن ذلك لم يجيء بِحَسَبِ النَّبِيِّينَ وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَسَبِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ وَوَقْعِ النَّبِيِّ عَنْهُمَا وَالْعِقَابِ فِيهِمَا(2/244)
التَّاسِعَ عَشَرَ: خِطَابُ الِاعْتِبَارِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ صَالِحٍ لَمَّا هَلَكَ قَوْمُهُ: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وقال يا قوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تحبون الناصحين} خَاطَبَهُمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ إِمَّا لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ بَدْرٍ وَقَالَ: "وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ" وَإِمَّا لِلِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فانظروا} وقوله: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر}
الْعِشْرُونَ: خِطَابُ الشَّخْصِ ثُمَّ الْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ
كقوله: {فإلم يستجيبوا لكم} الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِلْكُفَّارِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} بدليل قوله: {فهل أنتم مسلمون}
وقوله: {ذلك أدنى ألا تعولوا}
قال ابن خالويه: في كتاب المبتدأ(2/245)
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّلْوِينِ
وَسَمَّاهُ الثَّعْلَبِيُّ الْمُتَلَوِّنُ كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} {فمن ربكما يا موسى} وَتُسَمِّيهِ أَهِلُ الْمَعَانِي الِالْتِفَاتَ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَقْسَامِهِ
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْجَمَادَاتِ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أتينا طائعين} تَقْدِيرُهُ: طَائِعَةٌ
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ مِمَّنْ يَقُولُ وَهِيَ حَالَةُ عَقْلٍ جَرَى الضَّمِيرُ فِي {طَائِعِينَ} عليه كقوله: {رأيتهم لي ساجدين}
وَقَدِ اخْتُلِفَ -أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ جَعَلَ لَهَا حَيَاةً وَإِدْرَاكًا يَقْتَضِي نُطْقَهَا أَوْ مجازا بمعنى ظَهَرَ فِيهَا مِنَ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْقَوْلِ- عَلَى قَوْلَيْنِ:
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأول أحسن لأنه لاشيء يَدْفَعُهُ وَالْعِبْرَةُ فِيهِ أَتَمُّ وَالْقُدْرَةُ فِيهِ أَظْهَرُ(2/246)
ومنه قوله تعالى: {ياجبال أوبي معه} فَأَمَرَهَا كَمَا تُؤْمَرُ الْوَاحِدَةُ الْمُخَاطَبَةُ الْمُؤَنَّثَةُ لِأَنَّ جميع مالا يَعْقِلُ كَذَلِكَ يُؤْمَرُ
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّهْيِيجِ
كَقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْإِيمَانُ بَلْ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّوَكُّلِ
وَقَوْلِهِ: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كنتم مؤمنين}
وقوله: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كنتم مؤمنين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْخِطَابِ ثُمَّ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَقَصَدَ حَثَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ
وَقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين}
وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كنتم مسلمين}
وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: "إِنْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى: "إِذْ"(2/247)
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ الْإِغْضَابِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}
وقوله: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يهاجروا في سبيل الله}
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّشْجِيعِ وَالتَّحْرِيضِ
وَهُوَ الْحَثُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كأنهم بنيان مرصوص} وَكَفَى بِحَثِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَشْجِيعًا عَلَى مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُبَاشَرَةِ الطِّعَانِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}
وقوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} وَكَيْفَ لَا يَكُونُ لِلْقَوْمِ صَبْرٌ وَالْمَلِكُ(2/248)
الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ وَعَدَهُمْ بِالْمَدَدِ الْكَرِيمِ فَقَالَ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العزيز الحكيم} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ من الله ما لا يرجون}
وَقَدْ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقَسْمِ مَا يُرَادُ مِنْهُ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالتَّأَنِّي بِالْحَرْبِ وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَيْهَا بِالْعُدَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوة}
وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا جَاءَ فِي قَصَصِ الْأَشْقِيَاءِ تَحْذِيرًا لِمَا نَزَلَ مِنَ الْعَذَابِ وَإِخْبَارًا لِلسُّعَدَاءِ فِيمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ
السَّادِسَ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّنْفِيرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن الله تواب رحيم} فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْصَافًا وَتَصْوِيرًا لِمَا يَنَالُهُ الْمُغْتَابُ مِنْ عِرْضِ مَنْ يَغْتَابُهُ عَلَى أَفْظَعِ وَجْهٍ وَفِي ذَلِكَ مَحَاسِنُ كَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ وَجَعْلِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَرَاهَةِ مَوْصُولًا بِالْمَحَبَّةِ وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى {أَحَدِكُمْ} وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَمْثِيلِ الِاعْتِبَارِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ حَتَّى جَعَلَهُ أَخًا وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَحْمِ الْأَخِ حَتَّى(2/249)
جَعَلَهُ مَيْتًا وَهَذِهِ مُبَالَغَاتٌ عَظِيمَةٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُغْتَابَ غَائِبٌ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ لِمَا قِيلَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ
السَّابِعَ وَالْعِشْرُونَ: خطاب التحنن والاستعطاف
كقوله تعالى: {قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رحمة الله}
الثامن والعشرون: خطاب التحبيب
نحو: {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ}
{يا بني إنها إن تك مثقال حبة}
{يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي}
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ"
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِطَابُ التَّعْجِيزِ
نَحْوُ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}
{فليأتوا بحديث مثله}(2/250)
{قل فأتوا بعشر سور مثله}
{فادرأوا عن أنفسكم الموت}
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حديدا} وَرَدَّ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ التَّعْجِيزَ يَكُونُ حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمْرِ فِعْلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ: كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّقْدِيرِ كَذَا
الثَّلَاثُونَ: التَّحْسِيرُ وَالتَّلَهُّفُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ موتوا بغيظكم}
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: التَّكْذِيبُ
نَحْوُ قَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون}
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ التَّشْرِيفِ
وَهُوَ كُلُّ مَا في القرآن العزيز مخاطبة بـ"قل" كالقلاقل
وكقوله: {قل آمنا} وَهُوَ تَشْرِيفٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يخاطبها(2/251)
بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِتَفُوزَ بِشَرَفِ الْمُخَاطَبَةِ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْفَصِيحِ أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ قَالَ لِي الْمُرْسِلُ قُلْ كَذَا وَكَذَا وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بقاؤها ولا بدلها مِنْ فَائِدَةٍ فَتَكُونُ أَمْرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ لِلْمُتَكَلَّمِ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَمْرَهُ شِفَاهًا بِلَا وَاسِطَةٍ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ افْعَلْ كَذَا
الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: خِطَابُ الْمَعْدُومِ
وَيَصِحُّ ذَلِكَ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {يا بني آدم} فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلِكُلِّ مَنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْرِي مِنَ الْوَصَايَا فِي خِطَابِ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ مَا تَنَاسَلُوا بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِتْيَانِ طَاعَتِهِ
قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَإِنَّمَا جَازَ خِطَابُ الْمَعْدُومِ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ لِلْمُخَاطِبِ دُونَ غَيْرِهِ وأما قوله تعالى: {كن فيكون} فَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ حَصَلَ بِخِطَابِ "كُنْ"
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: التَّكْوِينُ أَزَلِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ تَكْوِينٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا أَنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ كَافٍ وَنُونٍ
وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ خِطَابَ كُنْ مَوْجُودٌ عِنْدَ إِيجَادِ كُلِّ شَيْءٍ فَالْحَاصِلُ عِنْدَهُمْ فِي إِيجَادِ الشَّيْءِ شَيْئَانِ: الْإِيجَادُ وَخِطَابُ كُنْ(2/252)
وَاحْتَجَّ الْأَشَاعِرَةُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يقول له كن فيكون} وَقَوْلِهِ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَلَوْ حَصَلَ وُجُودُ الْعِلْمِ بِالتَّكْوِينِ لَمْ يَكُنْ فِي خِطَابِ كُنْ فَائِدَةٌ عِنْدَ الْإِيجَادِ وَأَجَابَ الحنفية بأنا نقول لموجها وَلَا تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ كَالْمُتَشَابِهِ فَيَقُولُ بِوُجُودِ خِطَابِ كُنْ عِنْدَ الْإِيجَادِ فِي غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تعطيل(2/253)
النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ
لَا خِلَافَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَائِقِ وَهِيَ كُلُّ كَلَامٍ بَقِيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ كالآيات التي لم يتجوز فهيا والآيات النَّاطِقَةُ ظَوَاهِرُهَا بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَالدَّاعِيَةُ إِلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة} الآية وقوله: {أمن خلق السماوات والأرض} {أمن جعل الأرض قرارا} {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر} {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وقوله تعالى: {أفرأيتم ما تمنون} {أفرأيتم ما تحرثون} {أفرأيتم الماء الذي تشربون} {أفرأيتم النار التي تورون}
قِيلَ: وَمِنْهُ الْآيَاتُ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ وَهِيَ كَالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآيَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ(2/254)
وَلَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ وَإِحْسَانِهِ وَهَذَا أَكْثَرُ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هم يوقنون} وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي مِنَ الْآيِ عَلَى هَذَا
وَأَمَّا الْمَجَازُ فَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْوُقُوعِ وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَاذَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَابْنِهِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ
وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا إِذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَهَذَا بَاطِلٌ وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَجَازِ لَوَجَبَ خُلُوُّهُ مِنَ التَّوْكِيدِ وَالْحَذْفِ وَتَثْنِيَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ مِنَ الْقُرْآنِ سَقَطَ شَطْرُ الْحُسْنِ
وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَجَمَعَ فأوعى(2/255)
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَقَالَ الْحَاتِمِيُّ: مَعْنَاهُ طَرِيقُ الْقَوْلِ وَمَأْخَذُهُ مَصْدَرُ جُزْتُ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: "قُمْتُ مَقَامًا"
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَلَامُ الْعَرَبِ إِنَّمَا هُوَ مثال شبه الوحي
نوعا المجاز
وَلَهُ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: الشَّبَهُ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْأُصُولِيُّ وَالثَّانِي: الْمُلَابَسَةُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَهْلُ اللِّسَانِ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ وَهُوَ أَنْ تُسْنَدَ الْكَلِمَةُ إِلَى غَيْرِ مَا هِيَ لَهُ أَصَالَةً بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَسَبَّ زَيْدٌ أَبَاهُ إِذَا كَانَ سببا فيه
المجاز في المركب وأقسامه
وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْمُرَكَّبِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زادتهم إيمانا} وَنُسِبَتِ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى الْآيَاتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا فِيهَا
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} وقوله: {يذبح أبناءهم} وَالْفَاعِلُ غَيْرُهُ وَنُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ به
وكقوله: {ينزع عنهما لباسهما} نَسَبَ النَّزْعَ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى إبليس(2/256)
-لَعَنَهُ اللَّهُ- لِأَنَّ سَبَبَهُ أَكْلُ الشَّجَرَةَ وَسَبَبَ أَكْلِهَا وَسْوَسَتُهُ وَمُقَاسَمَتُهُ إِيَّاهُمَا إِنَّهُ لَهُمَا لِمَنِ الناصحين
وقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} جَعَلَ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ
وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الْمَعْزُومُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ: {فَإِذَا عزمت فتوكل على الله}
وقوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار} فَنَسَبَ الْإِحْلَالِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ إِلَى أَكَابِرِهِمْ لِأَنَّ سَبَبَهُ كُفْرُهُمْ وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ أَمْرُ أَكَابِرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الولدان شيبا} نَسَبَ الْفِعْلِ إِلَى الظَّرْفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ
وَقَوْلِهِ تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها}
وقوله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}
وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ النَّزْعَ وَالْإِحْلَالَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَهُمَا فَالْمَجَازُ إِفْرَادِيٌّ لَا إسنادي
وقوله: {يوما يجعل الولدان شيبا} يِحْتَمِلُ مَعْنَاهُ: يَجْعَلُ هَوْلُهُ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الحذف(2/257)
وأما قوله تعالى: {في عيشة راضية} فَقِيلَ: عَلَى النَّسَبِ أَيْ: ذَاتِ رِضًا وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ وَكِلَاهُمَا مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا مَجَازَ إِسْنَادٍ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي لَفْظِ رَاضِيَةٍ لَا فِي إِسْنَادِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَأَنَّهُمْ قَدَّرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَضِيَتْ عِيشَتُهُ فَقَالُوا: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا طَرَفَاهُ حَقِيقَتَانِ نَحْوُ: أَنْبَتَ الْمَطَرُ الْبَقْلَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عليهم آياته زادتهم إيمانا} وقوله: {وأخرجت الأرض أثقالها}
والثاني: مجازيان نحو: {فما ربحت تجارتهم}
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مَجَازًا دُونَ الآخر كقوله: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} وقوله: {حتى تضع الحرب}
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ شَبَهٌ بِالْمَتْرُوكِ فِي تَعَلُّقِهِ بالعامل
المجاز الإفرادي وأقسامه
وَأَنْوَاعُ الْإِفْرَادِيِّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَعْجِزُ الْعَدُّ عن إحصائها(2/258)
كقوله: {كلا إنها لظى. نزاعة للشوى. تدعو} قَالَ: الدُّعَاءُ مِنَ النَّارِ مَجَازٌ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أم أنزلنا عليهم سلطانا} الآية وَالسُّلْطَانُ هُنَا هُوَ الْبُرْهَانُ أَيْ بُرْهَانٌ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ فَيَكُونُ صَامِتًا نَاطِقًا كَالدَّلَائِلِ الْمُخْبِرَةِ وَالْعِبْرَةِ والموعظة
وقوله: {فأمه هاوية} فَاسْمُ الْأُمِّ الْهَاوِيَةِ مَجَازٌ أَيْ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ كَافِلَةٌ لِوَلَدِهَا وَمَلْجَأٌ لَهُ كَذَلِكَ أَيْضًا النَّارُ لِلْكَافِرِينَ كَافِلَةٌ وَمَأْوًى وَمَرْجِعٌ
وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ الخراصون} {قتل الإنسان ما أكفره} {قاتلهم الله أنى يؤفكون} وَالْفِعْلُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ وَقِيلَ قَهَرَهُ وَغَلَبَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فَلْنَذْكُرْ أَنْوَاعَهُ لِتَكُونَ ضَوَابِطَ لِبَقِيَّةِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ
الْأَوَّلُ: إِيقَاعُ الْمُسَبَّبِ مُوقِعَ السَّبَبِ
كقوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباسا} وإنما نزل سببه وهو الماء وكقوله: {يا بني آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ من الجنة} وَلَمْ يَقُلْ: "كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ" لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ الْمُسَبَّبُ النَّاشِئُ عَنِ الْفِتْنَةِ فَأَوْقَعَ الْمُسَبَّبَ مَوْقِعَ السَّبَبِ أَيْ لَا تَفْتَتِنُوا بِفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ فَأُقِيمُ فِيهِ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ سَبَبٌ خَاصٌّ فَإِذَا عُدِمَ فَيُعْدَمُ الْمُسَبَّبُ فَالنَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ لِبَنِي آدَمَ وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمْ فَلَمَّا أُخْرِجَ السَّبَبُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِإِيرَادِ النَّهْيِ عَلَيْهِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى(2/259)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النار} وَهُمْ لَمْ يَدْعُوهُ إِلَى النَّارِ إِنَّمَا دَعَوْهُ إِلَى الْكُفْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ} لَكِنَّ لَمَّا كَانَتِ النَّارُ مُسَبَّبَةً عَنْهُ أَطْلَقَهَا عليه
وقوله تعالى: {فاتقوا النار} أَيِ: الْعِنَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلنَّارِ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بطونهم نارا} لِاسْتِلْزَامِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِيَّاهَا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يجدون نكاحا} إِنَّمَا أَرَادَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الشَّيْءَ الَّذِي يُنْكَحُ بِهِ مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ وَمَا لَا بُدَّ لِلْمُتَزَوِّجِ مِنْهُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بينكم بالباطل} أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِالسَّبَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ القمار وقوله: {والرجز فاهجر} أَيْ: عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُسَبَّبٌ عَنْهَا
وقوله: {وليجدوا فيكم غلظة} أَيْ: وَأَغْلِظُوا عَلَيْهِمْ لِيَجِدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِالْوِجْدَانِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ وَأَمَّا الْإِغْلَاظُ فَلَمْ يُقْصَدْ لِذَاتِهِ بَلْ لِتَجِدُوهُ
الثَّانِي: عَكْسُهُ وَهُوَ إِيقَاعُ السَّبَبِ مُوقِعَ الْمُسَبَّبِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بمثل ما اعتدى عليكم}(2/260)
سُمِّيَ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ سَيِّئَةً وَاعْتِدَاءً فَسُمِّيَ الشَّيْءُ بِاسْمِ سَبَبِهِ وَإِنْ عَبَّرَتِ السَّيِّئَةُ عَمَّا سَاءَ أَيْ أَحْزَنَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْإِسَاءَةَ تُحْزِنُ فِي الْحَقِيقَةِ كالجناية
ومنه: {ومكروا ومكر الله} تَجُوزُ بِلَفْظِ الْمَكْرِ عَنْ عُقُوبَتِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهَا
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إِنَّمَا جُعِلَتِ الْمَرْأَتَانِ لِلتَّذْكِيرِ إِذَا وَقَعَ الضَّلَالُ لَا لِيَقَعَ الضَّلَالُ فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلتَّذْكِيرِ أُقِيمَ مَقَامَهُ
وَمِنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْكِتَابِ عَلَى الْحِفْظِ أَيِ الْمَكْتُوبِ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ سَبَبٌ له كقوله تعالى: {سنكتب ما قالوا} أي: سنحفظه حتى نجازيهم عَلَيْهِ
وَمِنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّمْعِ عَلَى الْقَبُولِ كقوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع} أَيْ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ قَبُولَ ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِهِ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّيْءِ مُرَتَّبٌ عَلَى سَمَاعِهِ ومسبب عنه ويجوز أن يكون نَفْيِ السَّمْعِ لِابْتِغَاءِ فَائِدَتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنْ حَلِفَتْ لَا يَنْقُضُ النَّأْيُ عَهْدَهَا
فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَانِ يَمِينُ
أَيْ: وَفَاءُ يَمِينٍ
وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْإِيمَانِ عَلَى مَا نَشَأَ عَنْهُ مِنَ الطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانكم} {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} أَيْ: أَفَتَعْلَمُونَ بِبَعْضِ التَّوْرَاةِ وَهُوَ فِدَاءُ الْأَسَارَى وَتَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِبَعْضٍ وَهُوَ قَتْلُ إِخْوَانِهِمْ وَإِخْرَاجُهُمْ من ديارهم(2/261)
وَجَعَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مِنَ الْأَنْوَاعِ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِ سَبَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَهُمَا مما كانا فيه} أَيْ: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ فَلَا يُخْرِجْنَكُمَا مِنَ الجنة: {ينزع عنهما لباسهما} الْمُخْرِجُ وَالنَّازِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَكْلُ الشَّجَرَةِ وَسَبَبُ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ وَمُقَاسَمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ النَّاصِحِينَ وَقَدْ مَثَّلَ الْبَيَانِّيُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلسَّبَبِ وَإِنَّمَا هِيَ لِسَبَبِ السَّبَبِ
وَقَوْلِهِ: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دار البوار} لما أمروهم بالكفر الموجب لحلول النار نسب ذلك إليهم لأنهم أمروهم به فالله هو المحل لدار البوار وسبب إحلالها كُفْرُهُمْ وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ أَمْرُ أَكَابِرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِحُلُولِ النَّارِ
الثَّالِثُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ
قَالَ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} أَيْ: أَنَامِلَهُمْ وَحِكْمَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْأَصَابِعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ أَنَامِلَهُمْ فِي آذَانِهِمْ بِغَيْرِ الْمُعْتَادِ فِرَارًا مِنَ الشِّدَّةِ فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَصَابِعَ
وقال تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} وَالْيَدُ حَقِيقَةً إِلَى الْمَنْكِبِ هَذَا إِنَّ جَعْلَنَا "إِلَى" بِمَعْنَى "مَعَ" وَلَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ إِذَا سَتَرَهُ بَعْضُ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ(2/262)
وقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وَالْمُرَادُ هُوَ الْبَعْضُ الَّذِي هُوَ الرُّسْغُ
وَقَالَ تعالى: {ومن لم يطعمه} أَيْ: مِنْ لَمْ يَذُقْ
وَقَوْلُهُ: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وَالْمُرَادُ: وُجُوهُهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ جُمْلَتَهُمْ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} اسْتَشْكَلَهُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّهْرُ وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الشَّهْرَ وَأَرَادَ جُزْءًا مِنْهُ وَإِرَادَةُ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ مَجَازٌ شَهِيرٌ
وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ وَأَنَّ الشَّخْصَ مَتَى كَانَ مُقِيمًا أَوْ فِي الْبَرِّ ثُمَّ سَافَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْجَمِيعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ: {فمن كان منكم مريضا} الآية وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يَلْزَمُهُ صَوْمُ مَا سَبَقَ إِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَوَّلِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ
الرَّابِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ له} أي: ذاته ويبقى وجه ربك(2/263)
وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}
وقوله: {وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة} يُرِيدُ الْأَجْسَادَ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالنَّصْبَ مِنْ صِفَاتِهَا وأما قوله: {وجوه يومئذ ناعمة} فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنِ الرِّجَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَصْفِ الْبَعْضِ بِصِفَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ التَّنَعُّمَ مَنْسُوبٌ إِلَى جميع الجسد
ومنه: {وجوه يومئذ ناضرة} فَالْوَجْهُ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ لَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ "الْوَجْهِ" الَّذِي جَاءَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُودِ وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالْوَجْهِ مَجَازٌ إِذْ هُوَ أَظْهَرُ الْأَعْضَاءِ في الْمُشَاهَدَةِ وَأَجَلُّهَا قَدْرًا وَقِيلَ -وَهُوَ الصَّوَابُ-: هِيَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ بِالسَّمْعِ زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَعَّفَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فَالْمُرَادُ الْجِهَةُ الَّتِي وُجِّهْنَا إِلَيْهَا فِي الْقِبْلَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْجَاهُ أَيْ فَثَمَّ جَلَالُ الله وعظمته
وقوله: {فبما كسبت أيديكم} {ولا تلقوا بأيديكم} تَجَوَّزَ بِذَلِكَ عَنِ الْجُمْلَةِ
وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كل بنان} الْبَنَانُ الْإِصْبَعُ تَجَوَّزَ بِهَا عَنِ الْأَيْدِي(2/264)
والأرجل عكس قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم}
وقوله: {فتحرير رقبة}
وقوله: {سنسمه على الخرطوم} عَبَّرَ بِالْأَنْفِ عَنِ الْوَجْهِ {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
وكقوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} أَضَافَ الْإِثْمَ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا آثِمَةً مِنْ حَيْثُ كَانَ مَحَلًّا لِاعْتِقَادِ الْإِثْمِ وَالْبِرِّ كَمَا نُسِبَتِ الْكِتَابَةُ إِلَى الْيَدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُفْعَلُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {مما كتبت أيديهم} وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا كَاتِبَةً وَلِهَذَا قَالَ: {وويل لهم مما يكسبون}
وكذا قوله: {لا تدركه الأبصار} وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ هُوَ الْجُمْلَةُ دُونَ الْحَاسَّةِ فَأَسْنَدَ الْإِدْرَاكَ إِلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّهُ بِهَا يَكُونُ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نفسه} أي: إياه
{تعلم ما في نفسي}
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يغضوا من أبصارهم} وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ "مِنْ" هُنَا لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْغَضِّ عَمَّا يَحْرُمُ النظر إليه
وقوله: {قم الليل} أَيْ: صَلِّ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ الصلاة(2/265)
وكقوله: {وقرآن الفجر} أي: صلاة الفجر
ومنه: "المسجد الحرام" وَالْمُرَادُ: جَمِيعُ الْحَرَمِ
وَقَوْلِهِ: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: المصلين
{يخرون للأذقان سجدا} {ويخرون للأذقان يبكون} أَيِ: الْوُجُوهِ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} فَعَبَّرَ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَنِ الْعَالَمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مقام الوعيد والوعيد إنما لَوْ بُيِّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَالْعِبَادُ وَأَحْوَالُهُمْ لَيْسَتِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْعَالَمُ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ
وَقَوْلِهِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لكم} قال الفارسي: جعله على المجاز أذنا لأجل إصغائه قال: ولو صغرت أذنا في هذه الآية كان في لحاق تاء فِيهَا وَتَرْكِهَا نَظَرٌ
وَجَعَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأمنا} الْمُرَادُ بِهِ: جَمِيعُ الْحَرَمِ لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} وقوله: {هديا بالغ الكعبة} وَالْمُرَادُ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ(2/266)
هذا} وَالْمُرَادُ: مَنْعُهُمْ مِنَ الْحَجِّ وَحُضُورِ مَوَاضِعِ النُّسُكِ
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أن نسوي بنانه} أَيْ: نَجْعَلُهَا صَفْحَةً مُسْتَوِيَةً لَا شُقُوقَ فِيهَا كَخُفِّ الْبَعِيرِ فَيَعْدَمُ الِارْتِفَاقَ بِالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالْأَصَابِعِ قَالُوا وَذُكِرَتِ الْبَنَانُ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتِ الْيَدَانِ فَاخْتَصَّ مِنْهَا أَلْطَفَهَا
وَجَوَّزَ أَبُو عُبَيْدَةَ وُرُودَ الْبَعْضِ وَإِرَادَةَ الْكُلِّ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فيه} أَيْ: كُلِّهِ وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وَأَنْشَدَ بَيْتَ لَبِيَدٍ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا
أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
قَالَ: والموت لا يعتلق بعض النفوس دون البعض وَيُقَالُ لِلْمَنِيَّةِ: عَلُوقٌ وَعُلَاقَةٌ انْتَهَى
وَهَذَا الَّذِي قال فيه أمران:
أحدها: أنه ظن أن النبي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي شَرِيعَتِهِ جَمِيعَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ وَعَنِ الرُّوحِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا الْآيَةُ(2/267)
الْأُخْرَى فَقَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّهُ كَانَ وَعَدَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: يُصِبْكُمْ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا -وَهُوَ بَعْضُ الْوَعِيدِ- مِنْ غَيْرِ نَفْيِ عَذَابِ الْآخِرَةِ
الثَّانِي: أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّاعِرِ بِبَعْضِ النُّفُوسِ نَفْسُهُ هُوَ لِأَنَّهَا بَعْضُ النُّفُوسِ حَقِيقَةً وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَا إِذَا لَمْ أَرْضَ الْأَمْكِنَةَ اتْرُكْهَا إِلَى أَنْ أَمُوتَ أَيْ إِذَا تَرَكَتْ شَيْئًا لَا أَعُودُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ أَمُوتَ كَقَوْلِ الْآخَرِ:
إِذَا انْصَرَفَتْ نَفْسِي عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَكَدْ
إِلَيْهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدَّهْرِ تَرْجِعُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَلْقَى: كَانَ أَجْفَى مِنْ أَنْ يَفْقَهَ مَا أَقُولُ لَهُ وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَالَ لِلْمَازِنِيِّ: مَا أكذب النحويين! فقلت له: لم قلت ذلك؟ قال: يقولون: هاء التأنيث تدخل على ألف التأنيث وإن الألف التي في علقى ملحقة ليست للتأنيث قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رُؤْبَةَ يَنْشِدُ:
فَحَطَّ فِي عَلْقَى وَفِي مُكُورٍ
فَلَمْ يُنَوِّنْهَا فَقُلْتُ: مَا وَاحِدُ الْعَلْقَى فَقَالَ: عَلْقَاةٌ قَالَ الْمَازِنِيُّ: فَأَسِفْتُ وَلَمْ أُفَسِّرْ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَغْلَظُ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ مِثْلَ هَذَا!(2/268)
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَنَّ الْوَعِيدَ مِمَّا لَا يُسْتَنْكَرُ تَرْكُ جَمِيعِهِ فَكَيْفَ بَعْضُهُ! وَيَدُلُّ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يرجعون} وَفِيهَا تَأْيِيدٌ لِكَلَامِ ثَعْلَبٍ أَيْضًا
وَقَدْ يُوصَفُ البعض كقوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} وقوله: {ناصية كاذبة خاطئة} الْخَطَأُ صِفَةُ الْكُلِّ فَوَصَفَ بِهِ النَّاصِيَةَ وَأَمَّا الْكَاذِبَةُ فَصِفَةُ اللِّسَانِ
وَقَدْ يُوصَفُ الْكُلُّ بِصِفَةِ البعض كقوله: {إنا منكم وجلون} وَالْوَجَلُ صِفَةُ الْقَلْبِ
وَقَوْلِهِ: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وَالرُّعْبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ
الْخَامِسُ: إِطْلَاقُ اسم الملزوم على اللازم
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يتكلم بما كانوا به يشركون} أَيْ: أَنْزَلْنَا بُرْهَانًا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ وَهُوَ يَدُلُّهُمْ سَمَّى الدَّلَالَةَ كَلَامًا لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْكَلَامِ
وقوله: {صم وبكم في الظلمات} فَإِنَّ الْأَصْلَ "عُمْيٌ" لِقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {صم بكم عمي} لَكِنْ أَتَى بِالظُّلُمَاتِ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمَ الْعُمْيِ(2/269)
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الْوَاوِ هُنَا وَفِي التَّعْبِيرِ بِالظُّلُمَاتِ عَنِ الْعَمَى بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى
السَّادِسُ: إِطْلَاقُ اسْمِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ من المسبحين} أَيِ: الْمُصَلِّينَ
السَّابِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى المقيد
كقوله: {فعقروا الناقة} والعاقر لها من قوم صالح قدار لكنه لما رضوا بالفعل نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ
الثَّامِنُ: عَكْسُهُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} وَالْمُرَادُ: كَلِمَةُ الشِّهَادَةِ وَهِيَ عِدَّةُ كَلِمَاتٍ
التَّاسِعُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إني رسول رب العالمين} أي: رسله
وقال: {هم العدو فاحذرهم} أي: الأعداء(2/270)
{وخضتم كالذي خاضوا} أي: الذين
وقوله: {علمت نفس} أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ
وَقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلها} أي: كل سيئة
وقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
الْعَاشِرُ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ
كَقَوْلِهِ تعالى: {ويستغفرون لمن في الأرض} أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ويستغفرون للذين آمنوا} وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ زَعَمَ أَنَّ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِالثَّانِيَةِ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ لَهُ قانتون} أَيْ: أَهْلُ طَاعَتِهِ لَا النَّاسُ أَجْمَعُونَ حَكَاهُ الْوَاحِدَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ
وقوله: {كان الناس أمة واحدة} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ في السفينة وقيل: آدم وحواء
وقوله: {وآل عمران على العالمين} أَيْ: عَالَمِي زَمَانِهِ وَلَا يَصِحُّ الْعُمُومُ(2/271)
لِأَنَّهُ إِذَا فُضِّلَ أَحَدُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَدْ فُضِّلَ عَلَى سَائِرِهِمْ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِينَ فَإِذَا فَضَّلَ الْآخَرِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَدْ فَضَّلَهُمْ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِينَ فَيَصِيرُ الْفَاضِلُ مَفْضُولًا وَلَا يَصِحُّ
وَقَوْلِهِ: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلا جعلته كالرميم} أَيْ: شَيْءٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّهَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم}
وقوله: {تدمر كل شيء بأمر ربها}
وقوله: {وأوتيت من كل شيء} مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتَ لِحْيَةً وَلَا ذَكَرًا
وقوله: {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي: كل شيء أَحَبُّوهُ
وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئا} أي: مِمَّا ظَنَّهُ وَقَدَّرَهُ
وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وعن موسى {وأنا أول المؤمنين} ولم يرد الكل لأن الأنبياء قبله ما كانوا مسلمين ولا مؤمنين
وقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون} وَلَمْ يَعْنِ كُلَّ الشُّعَرَاءِ
وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كَانَ له إخوة} أَيْ: أَخَوَانِ فَصَاعِدًا وَقَوْلِهِ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: بابا من أبوابها قاله المفسرون(2/272)
وقوله: {قالت الأعراب آمنا} وَإِنَّمَا قَالَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} وَأَرَادَ الْآيَاتِ الَّتِي إِذَا كُذِّبَ بِهَا نَزَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْمُكَذِّبِ
وَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرض} أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}
وقوله: {وكذب به قومك وهو الحق} وَالْمُرَادُ: بَعْضُهُمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ أَفَاضِلَ الْمُسْلِمِينَ وَالصِّدِّيقَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فَإِنَّ {النَّاسَ} الْأَوْلَى لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ النَّاسَ} وَلِأَنَّ {الَّذِينَ} مِنَ {النَّاسِ} فَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُسْتَغْرِقًا ضَرُورَةَ خُرُوجِ {الَّذِينَ} مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِأَنْفُسِهِمْ
وَقَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ معلومات} وَالْمُرَادُ: شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ
الْحَادِي عَشَرَ: إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْمُثَنَّى
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قلوبكما} أَطْلَقَ اسْمَ الْقُلُوبِ عَلَى الْقَلْبَيْنِ(2/273)
الثَّانِي عَشَرَ: النُّقْصَانُ
وَمِنْهُ حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ المضاف إليه مقامه
كقوله: {واسأل القرية} أَيْ: أَهْلَهَا
وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا على رسلك} أي: على لسان رسلك
وقال: {نحن أنصار الله} أَيْ: أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ
وَقَالَ: {وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل} أي: حبه
{واختار موسى قومه} أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ إِذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَالْمَحْذُوفَاتُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ وَسَيَأْتِي الْإِشْبَاعُ فِيهِ وَفِي شُرُوطِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ حَذْفَ الْمُضَافِ لَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَلِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْمَحْذُوفَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا التَّجَوُّزُ فِي أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَا كان منسوبا إلى المضاف كالأمثلة السابقة
الثاني عَشَرَ: الزِّيَادَةُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ذكره الأصوليون(2/274)
وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِثْلِ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ
وَالثَّانِي -وَهُوَ الْمَشْهُورُ-: أَنَّ الْكَافَ هِيَ الزَّائِدَةُ وَأَنَّ مِثْلِ خَبَرُ لَيْسَ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَةِ الْحَرْفِ أَسْهَلُ مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الِاسْمِ
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ جِنِّي وَالسِّيرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَقَالُوا: الْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ وَالْكَافُ زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَاسْتَحَالَ الْكَلَامُ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً كَانَتْ بِمَعْنَى مِثْلَ وَإِنْ كَانَتْ حَرْفًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ ثَبَتَ لَهُ مِثْلٌ وَنُفِيَ الشَّبَهُ عَنْ مِثْلِهِ وَهَذَا مُحَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا مِثْلَ لَهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِهِ مُحَالٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَذَلِكَ أَنَا لَوْ قُلْنَا: لَيْسَ مِثْلٌ مِثْلَ زَيْدٍ لَاسْتَحَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ لِزَيْدٍ مِثْلًا وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ زَيْدٍ مِثْلًا لَهُ لِأَنَّ مَا مَاثَلَ الشَّيْءَ فَقَدْ مَاثَلَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مِثْلًا لِعَمْرٍو وَعَمْرٌو لَيْسَ مِثْلًا لِزَيْدٍ فَإِذَا نَفَيْنَا الْمِثْلَ عَنْ مِثْلِ زَيْدٍ وَزَيْدٌ هُوَ مِثْلُ مِثْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفْنَا وَلِأَنَّهُ يلزم منه التناقص عَلَى تَقْدِيرِ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ لِأَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِ لا يَصِحُّ نَفْيُهُ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مِثْلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ مِثْلٌ لَهُ
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ غَايَةُ مَا فِيهِ نَفْيُ مِثْلِ مِثْلِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَصْلًا ضَرُورَةَ أَنَّ مِثْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْلُهُ فَإِذَا انْتَفَى عَنْ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ عَمْرٍو انْتَفَى عَنْ عَمْرٍو أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ(2/275)
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَلْزَمُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْمِثْلِ وَنَحْنُ قَدْ مَنَعْنَاهُ بَلْ أَحَلْنَاهُ مِنَ الْعِبَارَةِ وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةٌ إِمَّا لِاعْتِبَارِ جَوَازِ سَلْبِ الشَّيْءِ عَنِ الْمَعْدُومِ كَمَا تُسْلَبُ الْكِتَابَةُ عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ معدوم أو يحمل المثل على المثل أي الصفة كقوله تعال: ى {مثل الجنة} أَيْ: صِفَتُهَا فَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَتْ كَصِفَتِهِ شَيْءٌ
وَبِهَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ التَّخَلُّصُ عَنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ مِثْلٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَائِدَةً
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الزَّائِدَ مِثْلٌ وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِاسْتِلْزَامِ تَقْدِيرِ دُخُولِ الْكَافِ عَلَى الضَّمِيرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَجِيءُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَخْلُصُ مِنْ لُزُومِ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ الذَّاتُ وَالْعَيْنُ كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمنوا بمثل ما آمنتم به} وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
*عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ*
فَالْكَافُ عَلَى بَابِهَا وَلَيْسَ كَذَاكَ بَلِ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْمِثْلِ لِيَكُونَ نَفْيًا عَنِ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْمَمْدُوحَةِ مِثْلٌ فِي الْخَارِجِ حَصَلَ النَّفْيُ عَنْهُ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلُ فِي الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْبَيَانِيُّ
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا عَنِ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ تَسْتَدْعِي الْمُسَاوَاةَ فِي الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ اتِّفَاقَ الشَّخْصِيَّتَيْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ اتِّحَادَ أَفْعَالِهِمَا(2/276)
قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ هُنَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ بَلِ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِثْلُ حَالِهِ فِي الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مِثْلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ لَفْظَةَ مِثْلُ لَا تَسْتَدْعِي الْمُشَابَهَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكَافَ وَمِثْلُ لَيْسَا زَائِدَتَيْنِ بَلْ يَكُونُ التَّمْثِيلُ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ فَرَضْنَا لَهُ مِثْلًا لَامْتَنَعَ أَنْ يُشْبِهَ ذَلِكَ الْمِثْلَ الْمَفْرُوضَ شَيْءٌ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا} فَقِيلَ: إِنَّ مَا فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَا لَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا مِنَ الصِّلَةِ ضَمِيرٌ وَهُوَ الْهَاءُ فِي بِهِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعُودُ عَلَى الْحُرُوفِ وَلَا يُعْتَبَرُ اسْمًا إِلَّا بِالصِّلَةِ وَالِاسْمُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مَا هُوَ صِفَتُهُ إِذْ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى رَبْطٍ وَجَوَابُهُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً صِلَتُهَا {آمَنْتُمْ بِهِ} وَقِيلَ: مَزِيدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ أَيْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ
وَقِيلَ: إِنَّ مِثْلًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ آمَنُوا بِشَيْءٍ مِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَا آمَنُوا بِهِ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ حَتَّى يُؤْمِنُوا بذلك المثل(2/277)
وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَنَّ الْوَجْهَ صِلَةٌ وَالْمَعْنَى: فَثَمَّ اللَّهُ يَعْلَمُ وَيَرَى قَالَ: وَالْوَجْهُ قَدْ وَرَدَ صِلَةً مَعَ اسْمِ اللَّهِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {إنما نطعمكم لوجه الله} {كل شيء هالك إلا وجهه}
قُلْتُ: وَالْأَشْبَهُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّاتُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ
وَمِنَ الزِّيَادَةِ دعوى أبي عبيدة {يسمعونكم إذ تدعون} أَنَّ "إِذْ" زَائِدَةٌ
وَقَوْلِهِ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الذي حرم عليكم}
وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وَقَدْ سَبَقَ
الرَّابِعَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فاجرا كفارا} أَيْ صَائِرًا إِلَى الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ
وَقَوْلِهِ: {إِنِّي أراني أحمل فوق رأسي خبزا} أَيْ: لِأَنَّ الَّذِي تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْبُرُّ لَا الْخَبْزُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ إِنَّمَا اقْتَصَرُوا فِي التمثيل(2/278)
على قوله: {أعصر خمرا} أَيْ: عِنَبًا فَعَبَّرَ عَنْهُ لِأَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْخَمْرِيَّةِ وَقِيلَ: لَا مَجَازَ فِيهِ فَإِنَّ الْخَمْرَ الْعِنَبُ بِعَيْنِهِ لُغَةٌ لِأَزْدِ عُمَانَ نَقْلَهُ الْفَارِسِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ عَنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ لِابْنُ دُرَيْدٍ
وَقِيلَ: اكْتَفَى بِالْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْعِنَبُ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي في الخصائص
وقيل: ولا مَجَازَ فِي الِاسْمِ بَلْ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ {أَعْصِرُ} فَإِنَّهُ أُطْلِقُ وَأُرِيدُ بِهِ اسْتَخْرِجُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَزِيزٍ فِي غَرِيبِهِ
وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تنكح زوجا غيره} سَمَّاهُ زَوْجًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَؤُولُ إِلَى زَوْجِيَّةٍ لِأَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي حَالِ كَوْنِهِ زَوْجًا
وقوله: {فبشرناه بغلام حليم} {وبشروه بغلام عليم} وَصَفَهُ فِي حَالِ الْبِشَارَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ
تَنْبِيهٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ وَإِرَادَتُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {فتبسم ضاحكا} مقدار ضحكه(2/279)
وكذا قوله: {وخروا له سجدا} على قول أبي علي وهذا حَمْلٌ مِنْهُ لِلْخُرُورِ عَلَى ابْتِدَائِهِ وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى انْتِهَائِهِ كَانَتِ الْحَالُ الْمَلْفُوظُ بِهَا نَاجِزَةً غير مقدرة
وكذلك قوله: {فادخلوها خالدين} أَيِ: ادْخُلُوهَا مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مُدْخَلًا كَرِيمًا مُقَدِّرًا أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا كَانَ ذَلِكَ أَتَمَّ لِسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ وَلَوْ تَوَهَّمَ انْقِطَاعَهُ لِتَنَغَّصَ عَلَيْهِ النَّعِيمُ النَّاجِزُ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الِانْقِطَاعِ اللَّاحِقِ
الْخَامِسَ عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا اليتامى أموالهم} أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقِيلَ: بَلْ هُمْ يَتَامَى حَقِيقَةً وَأَمَّا حَدِيثُ: "لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ" فَهُوَ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّرْعِ لَا اللُّغَةُ وَهُوَ غَرِيبٌ
وقوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وَإِذَا مِتْنَ لَمْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا فَسَمَّاهُنَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ أَزْوَاجًا وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ ينكحن أزواجهن} أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجَهُنَّ
وَكَذَلِكَ: {وَيَذْرُوَنَ أَزْوَاجًا} لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْمَوْتِ
وَقَوْلِهِ: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مجرما} سَمَّاهُ مُجْرِمًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْإِجْرَامِ(2/280)
وقوله: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} وَلَكِنْ مَا رُدَّ عَلَيْهِمْ مَالُهُمْ وَإِنَّمَا كَانُوا قد اشتروا بها الميرة فجعلها يوسف فِي مَتَاعِهِمْ وَهِيَ لَهُ دُونَهُمْ فَنَسَبَهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ
السَّادِسَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ
كَقَوْلِهِ: {فَلْيَدْعُ ناديه}
وقوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أَيْ: نِسَاؤُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}
وَكَالتَّعْبِيرِ بِالْيَدِ عَنِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَنَحْوُهُ
وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {لَهُمْ قلوب لا يفقهون بها} أَيْ: عُقُولٌ
وَبِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَلْسُنِ كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قالوا آمنا بأفواههم} {يقولون بأفواههم}
وَإِطْلَاقُ الْأَلْسُنِ عَلَى اللُّغَاتِ كَقَوْلِهِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبين}
وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَرْيَةِ عَنْ سَاكِنِهَا نَحْوُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}(2/281)
السَّابِعَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحَالِّ عَلَى الْمَحَلِّ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فيها خالدون} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الرَّحْمَةِ
وَقَوْلِهِ: {بل مكر الليل والنهار} أَيْ: فِي اللَّيْلِ
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ: {إذ يريكهم الله في منامك} أَيْ: فِي عَيْنِكِ وَاسْتَبْعَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدَّرَ: يَعْنِي فِي رُؤْيَاكَ
وَقَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمنا} وَصَفَ الْبَلَدَ بِالْأَمْنِ وَهُوَ صِفَةٌ لِأَهْلِهِ وَمِثْلُهُ: {وهذا البلد الأمين} {إن المتقين في مقام أمين}
وقوله: {بلدة طيبة} وَصَفَهَا بِالطَّيِّبِ وَهُوَ صِفَةٌ لِهَوَائِهَا
وَقَدِ اجْتَمَعَ هذا والذي قبله في قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عند كل مسجد} وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ الزِّينَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَحَلَّ الزِّينَةِ وَلَا يَجِبُ أَخْذُ الزِّينَةِ لِلْمَسْجِدِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الصَّلَاةَ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ وَفِي الزِّينَةِ بِالْعَكْسِ
الثَّامِنَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ آلَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدق في الآخرين} أَيْ: ذِكْرًا حَسَنًا(2/282)
أَطْلَقَ اللِّسَانَ وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ اللسان آية للذكر
وقال تعالى: {تجري بأعيننا} أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ آلَةَ الرُّؤْيَةِ وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بلسان قومه} أَيْ: بِلُغَةِ قَوْمِهِ
التَّاسِعَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ اسْمِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيئة مثلها} وَهِيَ مِنَ الْمُبْتَدِئِ سَيِّئَةٌ وَمِنَ اللَّهِ حَسَنَةٌ فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ
وَعَكْسُهُ: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان} سُمِّيَ الْأَوَّلُ إِحْسَانًا لِأَنَّهُ مُقَابِلٌ لِجَزَائِهِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالْأَوَّلُ طَاعَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ جَزَاءُ الطَّاعَةِ إِلَّا الثَّوَابُ!
وَكَذَلِكَ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّفْظِ فَخَرَجَ الِانْتِقَامُ بِلَفْظِ الذَّنْبِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمْكُرُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلا القوم الخاسرون} فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ مَكْرِهِمْ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَبْلَهُ مَا يَصِيرُ إِلَى مَكْرٍ وَالْمُقَابَلَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذِكْرُ الْمُقَابِلِ لَفْظًا بَلْ هُوَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم} لَمَّا قَالَ: بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْجَنَّةِ قَالَ: بِشِّرْ هَؤُلَاءِ بِالْعَذَابِ وَالْبِشَارَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْخَيْرِ لَا فِي الشَّرِّ
وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فإنا نسخر منكم} وَالْفِعْلُ الثَّانِي لَيْسَ بِسُخْرِيَةٍ(2/283)
الْعِشْرُونَ: تَسْمِيَةُ الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ بِاسْمِ الصَّارِفِ عَنْهُ
لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تسجد} يَعْنِي: مَا دَعَاكَ أَلَّا تَسْجُدَ؟ وَاعْتَصَمَ بِذَلِكَ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ "لَا"
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا حماك فِي أَلَّا تَسْجُدَ أَيْ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَيْ مَا جَعَلَكَ فِي مِنْعَةٍ مِنْ عُقُوبَةِ تَرْكِ السُّجُودِ
وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَأَنَّ تَرْكِيبَهُ ما يمنعك سؤالا عَمَّا يَمْنَعُهُ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ لَا تَخْوِيفَ بِمَاضٍ
وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَقْتَضِي الْأَمَنَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَمْنُكَ حَتَّى خَالَفَتْ! بَيَانًا لِاغْتِرَارِهِ وَعَدَمِ رُشْدِهِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا خَالَفَ وَحَالُهُ حَالُ مَنِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ فكنى عنه بما مَنَعَكَ تَهَكُّمًا لَا أَنَّهُ امْتَنَعَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جَسَرَ جَسَارَةَ مَنْ هُوَ فِي مِنْعَةٍ
وَرُدَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَجَابَ {أَنَا خَيْرٌ} وَهُوَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا إِلَّا لِتَرْكِ السُّجُودِ
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لم يجب ولكن عدل بذلك جواب مالا يمكن جوابه(2/284)
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إِقَامَةُ صِيغَةٍ مَقَامَ أُخْرَى
وَلَهُ صور:
فمنه: فاعل بمعنى مفعول كقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله} أَيْ: لَا مَعْصُومَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ مَاءٍ دافق} أي: مدفوق
و {في عيشة} أَيْ: مَرَضِيَّةٍ بِهَا وَقِيلَ عَلَى النَّسَبِ أَيْ: ذَاتِ رِضًا وَهُوَ مَجَازُ إِفْرَادٍ لَا تَرْكِيبٍ
وقوله: {أنا جعلنا حرما آمنا} أي: مأمونا
وعكسه: {إنه كان وعده مأتيا} أَيْ: آتِيًا
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حجابا مستورا} أَيْ: سَاتِرًا وَحَكَى الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبِ عَنْ أصل اللُّغَةِ وَتَأْوِيلُ الْحِجَابِ الطَّبْعُ
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ أَيْ مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ وَلَا يُحِسُّ بِهِ أَحَدٌ(2/285)
وَالْمَعْنَى: مَسْتُورٌ عَنْكَ وَعَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو}
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَيْ حِجَابًا عَلَى حِجَابٍ وَالْأَوَّلُ مَسْتُورٌ بِالثَّانِي يُرَادُ بِذَلِكَ كَثَافَةُ الْحِجَابِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا
قال أبو الفتح في كتابه هذا الفد: وَسَأَلْتُهُ -يَعْنِي الْفَارِسِيَّ- إِذَا جَعَلْتَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَعَلَامَ تَرْفَعُ الضَّمِيرَ الَّذِي فِيهِ؟ أَعْلَى حَدِّ ارْتِفَاعِ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ أَمِ اسْمِ الْمَفْعُولِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ارْتَفَعَ الضَّمِيرُ فِيهِ ارْتِفَاعَ الضَّمِيرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَإِنْ جَاءَ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ
وَمِنْهُ "فَعِيلٌ" بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ" كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ الْكَافِرُ على ربه ظهيرا} أَيْ: مَظْهُورًا فِيهِ وَمِنْهُ ظَهَرْتُ بِهِ فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ
أَمَّا نَحْوُ: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّ مُؤْلِمًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ آلَمَ ثُمَّ زَالَ وَأَلِيمٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ قَالَ: وَلِهَذَا مَنَعَ النَّحْوِيُّونَ إِلَّا سِيبَوَيْهِ أَنْ يُعَدَّى فَعِيلٌ
وَمِنْهُ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى فُعُولٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يذكر أو أراد شكورا} وَقَوْلِهِ: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ(2/286)
الْجَمْعَ هُنَا بَلِ الْمُرَادُ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ شكرا أَصْلًا وَهَذَا أَبْلَغُ فِي قَصْدِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفْيِ الْأَنْوَاعِ
وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ شُكْرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى
وَمِنْهَا: إِقَامَةُ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أَيْ: تَكْذِيبٌ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ نَحْوُ: {بأيكم المفتون} أَيِ: الْفِتْنَةُ
وَمِنْهُ وَصْفُ الشَّيْءِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فإنهم عدو لي} قَالُوا: إِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدَاوَةٌ
وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ علمه} أَيْ: مِنْ مَعْلُومِهِ
وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ العلم} أي: من العلوم
وقوله: {صنع الله} أَيْ: مَصْنُوعَهُ
وَقَوْلِهِ: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: مُتَرَحَّمٌ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَأَعِينُونِي بقوة} أَيْ: مُقَوًّى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ زُبَرَ الْحَدِيدِ وَالنَّفْخَ عَلَيْهَا
وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خاب من حمل ظلما} أَيْ: مَظْلُومًا فِيهِ(2/287)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أَيْ: مَكْذُوبٍ فِيهِ وَإِلَّا لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَأَشْكَلَ لَأَنَّ الْكَذِبَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَجْسَامِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ فِي النَّحْوِ بِدَمٍ كَذِبًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ {جَاءُوا} فِيهِ مَعْنَى: "كَذَبُوا كَذِبًا" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {والعاديات ضبحا} لِأَنَّ الْعَادِيَاتِ بِمَعْنَى الضَّابِحَاتِ
وَعَكْسُهُ: {وَإِنَّهُ لَذُو علم لما علمناه}
وَمِنْهُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ بعد ذلك ظهير}
وقوله: {خلصوا نجيا}
وقوله: {وحسن أولئك رفيقا}
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ جَمْعًا وَأَنَّهُ لَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْمُثَنَّى وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَإِنَّهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ {قَعِيدٌ} أُسْنِدَ لَهُمَا
وَقَدْ يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ عَنْ لَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ أُرِيدَ مَعْنَاهُ لِنُكْتَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يقولون نحن جميع منتصر} فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ يَقْضِي بِإِعْرَابِ مُنْتَصِرٌ خَبَرًا(2/288)
وَمِنْهُ: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أولادهن} أَيْ: لَيُرْضِعِ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ
وَقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أَيْ: تَتَرَبَّصُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
وَقَوْلِهِ: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سنين دأبا} وَالْمَعْنَى: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَذَرُوهُ في سنبله}
وقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} مَعْنَاهُ: آمِنُوا وَجَاهِدُوا وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِالْجَزْمِ فِي قوله: {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات} وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي قوله: {هل أدلكم} لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَإِدْخَالَ الْجِنَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدين
والتحقيق ما قاله النبلي: أَنَّهُ جَعَلَ الدَّلَالَةَ عَلَى التِّجَارَةِ سَبَبًا لِوُجُودِهَا وَالتِّجَارَةُ هِيَ الْإِيمَانُ وَلِذَلِكَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: {تُؤْمِنُونَ} فَعُلِمَ أَنَّ التِّجَارَةَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ هِيَ الْإِيمَانُ فَالدَّلَالَةُ سَبَبُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ سَبَبُ الْغُفْرَانِ وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ تَأْكِيدٌ وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ شَبَّهَ الطَّلَبَ فِي تأكده بخبر الصادق الذي لابد(2/289)
مِنْ وُقُوعِهِ وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالْخَبَرِ الْمَاضِي كَانَ آكَدَ
وَمِنْهُ: عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مدا} وَالتَّقْدِيرُ: مَدَّهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا
وَقَوْلِهِ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ولنحمل خطاياكم} أَيْ: نَحْمِلُ
قَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَبْلُغُ مِنَ الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ نَحْوُ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ كَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مَقْصُودُهُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ يُشْبِهُ الْخَبَرَ فِي إِيجَابِهِ
وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كن فيكون} قَالَ: {كُنْ} لَفْظُهُ أَمْرٌ وَالْمُرَادُ الْخَبَرُ وَالتَّقْدِيرُ: يَكُونُ فَيَكُونُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُوَ يَكُونُ قَالَ: وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى رَفْعِ {فَيَكُونُ} وَرَفَضُوا فِيهِ النَّصْبَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَسَوَّغَ النَّصْبُ لِكَوْنِهِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {نَقُولَ} فَيَجِيءُ النَّصْبِ على الفعل المنصوب لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هُنَا الْعَطْفُ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ {قال} ماض(2/290)
و {يكون} مُضَارِعًا فَلَا يُحْسِنُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِهِمَا
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَارِسِيُّ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَمِنْهُ: إِطْلَاقُ الْخَبَرِ وَإِرَادَةُ النَّهْيِ كقوله: {لا تعبدون إلا الله} وَمَعْنَاهُ: لَا تَعْبُدُوا
وَقَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ولا تخرجون أنفسكم} أَيْ: لَا تَسْفِكُوا وَلَا تَخْرِجُوا
وَقَوْلِهِ: {وَمَا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إِطْلَاقُ الْأَمْرِ وَإِرَادَةُ التَّهْدِيدِ وَالتَّلْوِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي السِّتَّةَ عَشَرَ وَمَا زِيدَ عَلَيْهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ وَلَمْ يَذْكُرُوهُ هُنَا فِي أَقْسَامِهِ
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَاعِلٍ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ
إِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {جدارا يريد أن ينقض} فَإِنَّهُ شَبَّهَ مَيْلَهُ لِلْوُقُوعِ بِشَبَهِ الْمُرِيدِ لَهُ
وَإِمَّا لِأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَقَوْلِهِ تعالى: {الم. غلبت الروم} فَالْغَلَبَةُ وَاقِعَةٌ بِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ثُمَّ قَالَ: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} فَأَضَافَ الْغَلَبَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَلَبَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمْ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِمْ لوقوعه بهم(2/291)
ومثله: {وآتى المال على حبه} {ويطعمون الطعام على حبه} فَالْحُبُّ فِي الظَّاهِرِ مُضَافٌ إِلَى الطَّعَامِ وَالْمَالِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِهِمَا
وَمِثْلُهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان} {ذلك لمن خاف مقامي} أَيْ: مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ
وَإِمَّا لِوُقُوعِهِ فِيهِ كقوله تعالى: {يوما يجعل الولدان شيبا}
وَإِمَّا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} {ينزع عنهما لباسهما} {وأحلوا قومهم دار البوار} كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّزْعَ وَالْإِحْلَالَ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ فِعْلِ مَا أَوْجَبَهُمَا فَالْمَجَازُ إِفْرَادِيٌّ لَا إِسْنَادِيٌّ
وقوله تعالى: {وما يجعل الولدان شيبا} أي: يجعل هو له فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ مُقَارَبَتُهُ وَمُشَارَفَتُهُ لَا حَقِيقَتُهُ
كَقَوْلِهِ تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن} أَيْ: قَارَبْنَ بُلُوغَ الْأَجَلِ أَيِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ لَا يَكُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ بُلُوغُ الْأَجَلِ تَمَامُهُ(2/292)
كقوله تعالى: {فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} أي: أتمن الْعِدَّةَ وَأَرَدْنَ مُرَاجَعَةَ الْأَزْوَاجِ وَلَوْ كَانَتْ مُقَارَبَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ حُكْمٌ فِي إِزَالَةِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّهَا بِيَدِ الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرُ رَجْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَيْضًا عَلَيْهَا حُكْمٌ قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ وَلَا تُسَمَّى عَاضِلًا حَتَّى يَمْنَعَهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} الْمَعْنَى: قَارَبَ وَبِهِ يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِيهَا إِنَّ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَجَلِ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حضر أحدكم الموت} أَيْ: قَارَبَ حُضُورُ الْمَوْتِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتة} أَيْ: حَتَّى يُشَارِفُوا الرُّؤْيَةَ وَيُقَارِبُوهَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّؤْيَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ: يَرَوْنَهُ فَلَا يَظُنُّونَهُ عَذَابًا {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} وَلَا يَظُنُّونَهُ وَاقِعًا بِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ رُؤْيَتِهِ
وَمِنْ دَقِيقِ هَذَا النوع قوله تعالى: {ونادى نوح ربه} الْمُرَادُ: قَارَبَ النِّدَاءَ لَا أَوْقَعَ النِّدَاءِ لِدُخُولِ الْفَاءِ فِي فَقَالَ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ النِّدَاءُ لَسَقَطَتْ وَكَانَ مَا ذُكِرَ(2/293)
تَفْسِيرًا لِلنِّدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا ربه قال} وَقَوْلِهِ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رب} لما فسر النداء سقطت الفاء
وذكر النجاة أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ مُفَسَّرًا على مجمل كقوله: توضأ فغسل وجهه وفائدته ذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ ذَلِكَ فَرُدَّ الْقَصْدُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقَعْ لَا عَنْ قَصْدٍ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} أَيْ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا وَإِنَّمَا أُوِّلَ التَّرْكُ بِمُشَارَفَةِ التَّرْكِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْكِ لِأَنَّهُمْ بعد أَمْوَاتٌ
وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَإِرَادَةُ إِرَادَتِهِ كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ
وَقَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمْ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ سَبَبُ الْقِيَامِ
{إذا قضى أمرا} أي: أراد
{وإن حكمت فاحكم بينهم} أَيْ: أَرَدْتَ الْحُكْمَ
وَمِثْلُهُ: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس}
{إذا ناجيتم الرسول} أي أردتم مناجاته(2/294)
{إذا طلقتم النساء}
وقوله: {من يهد الله فهو المهتدي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ وَلَقَدْ أَحْسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشرط والجزاء
وقوله: {وإذا قلتم فاعدلوا} أي: أردتم القول
{والذين إذا أنفقوا} أي: أَرَادُوا الْإِنْفَاقَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَأْسِ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ -أَعْنِي الْبَيَاتَ وَالْقَيْلُولَةَ- لِأَنَّهَا وَقْتُ الْغَفْلَةِ وَالدَّعَةِ فَيَكُونُ نُزُولُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ وَأَفْظَعُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا آمَنَتْ قبلهم من قرية أهلكناها} أي: أردنا إهلاكها
{فانتقمنا منهم فأغرقناهم} أَيْ: فَأَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَحِكْمَتُهُ أَنَّا إِذَا أَرَدْنَا أَمْرًا نُقَدِّرُ فِيهِ إِرَادَتَنَا وَإِنْ كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا} أَيْ: أَرَدْتَ جِدَالَنَا وَشَرَعْتَ فِيهِ وَكَانَ الْمُوجِبُ لِهَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفَ التَّكْرَارِ لِأَنَّ جَادَلْتَ فَاعَلْتَ وَهُوَ يُعْطِي التَّكْرَارَ أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ تُرِدِ مِنَّا غَيْرَ الْجِدَالِ لَهُ لَا النَّصِيحَةَ
قُلْتُ: وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ بِقُدْرَةِ الْفَاعِلِ وَإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ إِلَيْهِ كَمَا عُبِّرَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِمْ الْإِنْسَانُ لَا يَطِيرُ وَالْأَعْمَى(2/295)
لا يبصر أي لا يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ وَالْإِبْصَارِ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَالْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ يُوجِبُ أَنَّ مَنْ جَلَسَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ آخَرَ فَلَا يَزَالُ مَشْغُولًا بِالْوُضُوءِ وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلصَّلَاةِ وَفَسَادُهُ بَيِّنٌ
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لِلتَّلَبُّسِ بِهِ والمراد دوامه
كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} هَكَذَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَصْلُ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَلَا بِالْحَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ الْمَعْدُومِ حَالَةَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فَلَيْسَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ بَلْ تَحْصِيلًا لِلْمَعْدُومِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ حَالَةَ الْخِطَابِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَمْ لَا لِأَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخِطَابِ مِثْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا نَفْسُ الْمَأْمُورِ بِهِ والحاصل أن الكل مأمور بالإنشاء فالمؤمن ينشئ مَا سَبَقَ لَهُ أَمْثَالُهُ وَالْكَافِرُ يُنْشِئُ مَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ أَمْثَالُهُ
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِطْلَاقُ اسْمُ الْبُشْرَى عَلَى الْمُبَشَّرِ بِهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بشراكم اليوم جنات} قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ: بُشْرَاكُمْ دُخُولُ جَنَّاتٍ أَوْ خُلُودُ جَنَّاتٍ لِأَنَّ الْبُشْرَى مَصْدَرٌ وَالْجَنَّاتُ ذَاتٌ فَلَا يُخْبَرُ بِالذَّاتِ عَنِ الْمَعْنَى(2/296)
وَنَحْوُهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمَقُولِ عَلَى الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يقولون}
وَمِنْهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} أَيْ: عَنْ مَدْلُولِ قَوْلِهِمْ
وَمِنْهُ: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مما قالوا} أَيْ: مِنْ مَقُولِهِمْ وَهُوَ الْأُدْرَةُ
وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} أي: مسميات {سبح اسم ربك الْأَعْلَى} أَيْ رَبَّكَ
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أَيْ: لِمُقْتَضَى عَذَابِ اللَّهِ وَ {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مريم} تَجَوَّزَ بِالْكَلِمَةِ عَنِ الْمَسِيحِ لِكَوْنِهِ تَكَوَّنَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَجِيهًا فِي الدنيا والآخرة ومن المقربين} وَلَا تَتَّصِفُ الْكَلِمَةُ بِذَلِكَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسمه المسيح عيسى} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى فَالْمَعْنَى الْمُسَمَّى الْمُبَشَّرُ بِهِ المسيح بن مريم(2/297)
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَحْلُوفِ بِهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} أَيْ: لَا تَجْعَلُوا يَمِينَ اللَّهِ أَوْ قَسَمُ اللَّهِ مَانِعًا لِمَا تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَيْنَ النَّاسِ
إِطْلَاقُ الْهَوَى عَنِ الْمَهْوِيِّ ومنه: {ونهى النفس عن الهوى} أَيْ: عَمَّا تَهْوَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَلَا يَصِحُّ نَهْيُهَا عَنْ هَوَاهَا وَهُوَ مَيْلُهَا لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يُطَاقُ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ نَهْيِ النَّفْسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى
التَّجَوُّزُ عَنِ الْمَجَازِ بِالْمَجَازِ
وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَجَازَ الْمَأْخُوذَ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِمَثَابَةِ الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجَازٍ آخَرَ فَتَتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ الْأَوَّلِ عَنِ الثَّانِي لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا
مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تواعدوهن سرا} فَإِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ مَجَازٍ فَإِنَّ الْوَطْءَ تُجُوِّزَ عَنْهُ بِالسِّرِّ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا فِي السِّرِّ وَتُجُوِّزَ بِالسِّرِّ عَنِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ فَالصَّحِيحُ لِلْمَجَازِ الْأَوَّلِ الْمُلَازَمَةُ وَالثَّانِي السَّبَبِيَّةُ وَالْمَعْنَى: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ عَقْدَ نِكَاحٍ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمله} إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ كَانَ مِنْ مَجَازِ الْمَجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَجَازٌ عَنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِمَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ وَالتَّعْبِيرُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَنِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمَقُولِ عَنِ الْمَقُولِ فِيهِ(2/298)
وَالْأَوَّلُ مِنْ مَجَازِ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللِّسَانِ مُسَبَّبٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْجَنَانِ
قُلْتُ: وَهَذَا يُسَمِّيهِ ابْنُ السَّيِّدِ مَجَازَ الْمَرَاتِبِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا} فَإِنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ اللِّبَاسِ بَلِ الْمَاءُ الْمُنْبِتُ لِلزَّرْعِ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ الْغَزَلُ الْمَنْسُوجُ مِنْهُ اللِّبَاسُ(2/299)
النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكِنَايَاتِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْقُرْآنِ
اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الْكِنَايَةَ مِنَ الْبَرَاعَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهِيَ عِنْدُهُمْ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ
قَالَ الطَّرْطُوسِيُّ: وَأَكْثَرُ أَمْثَالِهِمُ الْفَصِيحَةِ عَلَى مَجَارِي الْكِنَايَاتِ وَقَدْ أَلَّفَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُتُبًا فِي الْأَمْثَالِ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ عَفِيفُ الْإِزَارِ طاهر الذيل ولم يُحْصِنْ فَرْجَهُ وَفِي الْحَدِيثِ: "كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ" فَكَنَّوْا عَنْ تَرْكِ الْوَطْءِ بِشَدِّ الْمِئْزَرِ وَكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالْعُسَيْلَةِ وَعَنِ النِّسَاءِ بِالْقَوَارِيرِ لِضَعْفِ قُلُوبِ النِّسَاءِ وَيُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِرَبَّةِ الْبَيْتِ وَعَنِ الْأَعْمَى بالمحجوب(2/300)
وَالْمَكْفُوفِ وَعَنِ الْأَبْرَصِ بِالْوَضَّاحِ وَبِالْأَبْرَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خطبة النساء أو أكننتم}
وَالْكِنَايَةُ عَنِ الشَّيْءِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِ
وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ: أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ إِثْبَاتَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَلَا بذكره بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مِنَ اللُّغَةِ وَلَكِنْ يَجِيءُ إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود فيومئ بِهِ إِلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ: "طَوِيلُ النجاد" و"كثير الرَّمَادِ" يَعْنُونَ طَوِيلَ الْقَامَةِ وَكَثِيرَ الضِّيَافَةِ فَلَمْ يذكروا المراد بلفظ الْخَاصِّ بِهِ وَلَكِنْ تَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِذِكْرِ مَعْنًى آخَرَ هُوَ رَدِيفُهُ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الْقَامَةَ إِذَا طَالَتْ طَالَ النِّجَادُ وَإِذَا كَثُرَ الْقِرَى كَثُرَ الرَّمَادُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ أو مجاز فقال الطرطوسي في العمدة: قَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُودِ الْكِنَايَةِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ كَالْخِلَافِ فِي الْمَجَازِ فَمَنْ أَجَازَ وُجُودَ الْمَجَازِ فِيهِ أَجَازَ الْكِنَايَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَنْكَرَ هَذَا
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَجَازٍ لِأَنَّكَ اسْتَعْمَلْتَ اللَّفْظَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَأَرَدْتَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَهَذَا شَبِيهٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تقل لهما أف}
أسباب الكناية
وَلَهَا أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدة} كِنَايَةً عَنْ آدَمَ(2/301)
ثَانِيهَا: فِطْنَةُ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ داود: {خصمان بغى بعضنا على بعض} فكنى داود يخصم عَلَى لِسَانِ مَلَكَيْنِ تَعْرِيضًا
وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَيْدٍ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي: زيد {ولكن رسول الله}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والحجارة} فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَلَّا تُعَانِدُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ فَتَمَسَّكُمْ هَذِهِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} الْآيَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى: لَا تَظُنُّ أَنَّكَ مُقَصِّرٌ فِي إِنْذَارِهِمْ فَإِنَّا نَحْنُ الْمَانِعُونَ لَهُمْ مِنَ الإيمان فقد جعلناهم حطبا للنار ليقوى الْتِذَاذَ الْمُؤْمِنِ بِالنَّعِيمِ كَمَا لَا تَتَبَيَّنُ لَذَّةُ الصَّحِيحِ إِلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَرِيضِ
ثَالِثُهَا: تَرْكُ اللَّفْظِ إِلَى مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نعجة ولي نعجة واحدة} فكنى بالمرأة عن النعجة كَعَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُكَنِّي بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ
وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فئة} كَنَّى بِالتَّحَيُّزِ عَنِ الْهَزِيمَةِ(2/302)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كفرا لن تقبل توبتهم} كَنَّى بِنَفْيِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ يُرَادِفُهُ
رَابِعُهَا: أَنْ يَفْحُشَ ذِكْرُهُ فِي السَّمْعِ فَيُكَنَّى عَنْهُ بِمَا لَا يَنْبُو عنه الطَّبْعِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كراما} أَيْ: كَنَّوْا عَنْ لَفْظِهِ وَلَمْ يُورِدُوهُ عَلَى صِيغَتِهِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ قَوْمِ هود: {إنا لنراك في سفاهة} {قال يا قوم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العالمين} فَكَنَّى عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَحْسَنَ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ لا تواعدوهن سرا} فَكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالسِّرِّ
وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فِي السِّرِّ غَالِبًا وَلَا يُسِرَّهُ -مَا عَدَا الْآدَمِيِّينَ- إِلَّا الْغُرَابُ فَإِنَّهُ يُسِرُّهُ وَيُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ أَسَرَّ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْحَاتِمِيِّ كَلَامًا فَقَالَ: لِيَكُنْ عِنْدَكَ أَخْفَى مِنْ سِفَادِ الْغُرَابِ وَمِنَ الرَّاءِ فِي كَلَامِ الْأَلْثَغِ فَقَالَ: نَعَمْ يَا سَيِّدَنَا وَمِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ
وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجِمَاعِ بِاللَّمْسِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالرَّفَثِ وَالدُّخُولِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِنَّ قَالَ تَعَالَى: {فَالْآنَ باشروهن} فَكَنَّى بِالْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْجِمَاعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إِذْ لَا يَخْلُوا الْجِمَاعُ عَنِ الْمُلَامَسَةِ(2/303)
وَقَوْلُهُ فِي الْكِنَايَةِ عَنْهُنَّ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وأنتم لباس لهن} وَاللِّبَاسُ مِنَ الْمُلَابَسَةِ وَهِيَ الِاخْتِلَاطُ وَالْجِمَاعُ
وَكَنَّى عَنْهُنَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} كِنَايَةٌ عَمَّا تَطْلُبُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ
وَقَوْلُهُ تعالى: {فلما تغشاها حملت حملا خفيفا}
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا: {كَانَا يأكلان الطعام} فَكَنَّى بِأَكْلِ الطَّعَامِ عَنِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ لِأَنَّهُمَا منه مسببان إذ لابد لِلْآكْلِ مِنْهُمَا لَكِنِ اسْتُقْبِحَ فِي الْمُخَاطَبِ ذِكْرُ الْغَائِطِ فَكَنَّى بِهِ عَنْهُ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أحد منكم من الغائط}
قُلْنَا: لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى خِطَابِ الْعَرَبِ وَمَا يَأْلَفُونَ وَالْمُرَادُ تَعْرِيفُهُمُ الْأَحْكَامَ فَكَانِ لَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْغَائِطَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ النَّجْوِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا قَضَاءَ حَاجَتِهِمْ أَبْعَدُوا عَنِ الْعُيُونِ إِلَى مُنْخَفَضٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسُمِّيَ مِنْهُ لِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ
وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطعام} هُوَ الْمَشْهُورُ وَأَنْكَرَهُ الْجَاحِظُ وَقَالَ: بَلِ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ نَفْسُ أَكْلِ(2/304)
الطَّعَامِ لِأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَأْكُلُهُ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ مُحْدِثًا كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَاعِمًا قَالَ الْخَفَاجِيُّ وَهَذَا صَحِيحٌ
ويقال لهما: الكناية عن الغائط في تشنيع وبشاعة على من اتخذهما آلِهَةً فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسواق} فَهُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ
قَالَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فُضِّلَ الْعَالِمُ الْمُتَصَدِّي لِلْخَلْقِ عَلَى الزَّاهِدِ الْمُنْقَطِعِ فَإِنَّ النَّبِيَّ كَالطَّبِيبِ وَالطَّبِيبُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَرْضَى فَلَوِ انْقَطَعَ عَنْهُمْ هَلَكُوا
ومنه قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} كَنَّى بِهِ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْعَذِرَةِ فَإِنَّ الْوَرَقَ إِذَا أُكِلَ انْتَهَى حَالُهُ إِلَى ذَلِكَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أَيْ: لِفُرُوجِهِمْ فَكَنَّى عَنْهَا بِالْجُلُودِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {والتي أحصنت فرجها} فَصَرَّحَ بِالْفَرْجِ؟
قُلْنَا: أَخْطَأَ مَنْ تَوَهَّمَ هُنَا الْفَرْجَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَاتِ وَأَحْسَنِهَا وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجِ الْقَمِيصِ أَيْ لَمْ يَعْلَقْ ثَوْبَهَا رِيبَةٌ فَهِيَ طَاهِرَةُ الْأَثْوَابِ وَفُرُوجُ الْقَمِيصِ أَرْبَعَةٌ: الْكُمَّانُ وَالْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَنْزَهُ مَعْنًى(2/305)
وَأَلْطَفُ إِشَارَةً وَأَمْلَحُ عِبَارَةً مِنْ أَنْ يُرِيدَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهْمُ الْجَاهِلِ لَاسِيَّمَا وَالنَّفْخُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ بِأَمْرِ الْقُدُّوسِ فَأُضِيفَ الْقُدْسُ إِلَى الْقُدُّوسِ وَنُزِّهَتِ الْقَانِتَةُ الْمُطَهَّرَةُ عَنِ الظَّنِّ الْكَاذِبِ وَالْحَدْسِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ
وَمِنْهُ وقوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين} يُرِيدُ الزُّنَاةَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الزِّنَا وَقِيلَ: أَرَادَ طَرْحَ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ بَطْنَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَقْتَ الْحَمْلِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وَإِنَّمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ السَّبَّابَةُ فَذَكَرَ الْإِصْبَعَ وَهُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ أَدَبًا لِاشْتِقَاقِهَا مِنَ السَّبِّ أَلَا تَرَاهُمْ كَنَّوْا عَنْهَا بِالْمُسَبِّحَةِ وَالدَّعَّاءَةِ وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ ذِكْرَ الْإِصْبَعِ هَنَا جَامِعٌ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا التَّنَزُّهُ عَنِ اللَّفْظِ الْمَكْرُوهِ وَالثَّانِي حَطُّ مَنْزِلَةُ الْكُفَّارِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِاللَّفْظِ الْمَحْمُودِ وَالْأَعَمُّ يُفِيدُ الْمَقْصُودَيْنِ مَعًا فَأَتَى بِهِ وَهُوَ لَفْظُ الْإِصْبَعِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِالتَّعْبِيرِ بِالْأَحْسَنِ مكان القبيح كما فِي حَدِيثِ: "مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ وَيَخْرُجْ" أَمَرَ بِذَلِكَ إِرْشَادًا إِلَى إِيهَامِ سَبَبٍ أَحْسَنَ مِنَ الْحَدَثِ وَهُوَ الرُّعَافُ وهو أدب حسن من شرع فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِخْفَاءِ الْقَبِيحِ وَقَدْ صَحَّ نهيه عليه السلام(2/306)
أن يقال لشجر العنب: الْكَرْمُ وَقَالَ: "إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ" كَرِهَ الشَّارِعُ تَسْمِيَتَهَا بِالْكَرْمِ لِأَنَّهَا تُعْتَصَرُ مِنْهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ
وَحَدِيثِ: "كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرَّأْسِ وَهُوَ صَائِمٌ" قِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُبْلَةِ وَلَيْسَ لَفْظُ الْقُبْلَةِ مُسْتَهْجَنًا وَقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءُ الدِّمْنِ"
خَامِسُهَا: تَحْسِينُ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} فإن العرب كانت عَادَتِهِمُ الْكِنَايَةُ عَنْ حَرَائِرِ النِّسَاءِ بِالْبَيْضِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَبَيْضَةُ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ
وَقَوْلُهُ تعالى: {وثيابك فطهر} وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ
لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ
سَادِسُهَا: قَصْدُ الْبَلَاغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وهو في الخصام غير مبين} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُنَّ يُنَشَّأْنَ فِي التَّرَفُّهِ وَالتَّزَيُّنِ وَالتَّشَاغُلِ(2/307)
عَنِ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقِيقِ الْمَعَانِي وَلَوْ أَتَى بِلَفْظِ النِّسَاءِ لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ وَالْمُرَادُ نفي ذَلِكَ -أَعْنِي الْأُنُوثَةَ- عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَكَوْنِهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ
وَقَوْلِهِ: {فَمَا أصبرهم على النار} أَيْ: هُمْ فِي التَّمْثِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ بِهَذَا التَّعَجُّبِ
سَابِعُهَا: قَصْدُ الْمُبَالِغَةِ فِي التَّشْنِيعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} فَإِنَّ الْغُلَّ كِنَايَةٌ عَنِ الْبُخْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} لِأَنَّ جَمَاعَةً كَانُوا مُتَمَوِّلِينَ فَكَذَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ وَهُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {غلت أيديهم} فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالْمُطَابَقَةِ لِلَّفْظِ وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ أَبْخَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُمْ تُغَلُّ أَيْدِيهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِسَارِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ وَأَغْلَالِ النَّارِ
وَقَوْلُهُ: {بَلْ يداه مبسوطتان} كِنَايَةٌ عَنْ كَرَمِهِ وَثَنَّى الْيَدَ وَإِنْ أُفْرِدَتْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّخَاءِ وَالْجُودِ
ثَامِنُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَصِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تبت يدا أبي لهب وتب} أَيْ: جُهَنَّمِيٌّ مَصِيرُهُ إِلَى اللَّهَبِ وَكَقَوْلِهِ: {حَمَّالَةَ الحطب} أَيْ: نَمَّامَةً وَمَصِيرُهَا إِلَى أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لجهنم(2/308)
تَاسِعُهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ وَمِنْهُ الْكِنَايَةُ عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِلَفْظِ فَعَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا كانوا يفعلون} {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا
عَاشِرُهَا: أَنْ يَعْمِدَ إِلَى جُمْلَةٍ وَرَدَ مَعْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَيَأْخُذَ الْخُلَاصَةَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُفْرَدَاتِهَا بِالْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ فَتُعَبِّرَ بِهَا عَنْ مَقْصُودِكَ وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ اسْتَنْبَطَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَخَرَّجَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ على العرش استوى} فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُلْكِ فَجَعَلُوهُ كِنَايَةً عَنْهُ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يوم القيامة} الْآيَةَ إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضِ وَالْيَمِينِ إِلَى جِهَتَيْنِ: حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ
وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا تَفْتَحُ بَابَ تَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَابِ إِلَى نَعْلٍ وَخَلْعِهِ وَكَذَا نَظَائِرُهُ انْتَهَى
وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ إِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ بِخِلَافِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِ(2/309)
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْكِنَايَةِ قَرِينَةٌ كَالْمَجَازِ؟
هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّهَا مَجَازٌ أَمْ لَا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قوله تعالى: {ولا ينظر إليهم} فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِنَّهُ مَجَازٌ عَنِ الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول: فلان لاينظر إِلَى فُلَانٍ تُرِيدُ نَفْيَ اعْتِدَادِهِ بِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ قَالَ: وَأَصْلُهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ الْكِنَايَةُ لِأَنَّ مَنِ اعْتَدَّ بِالْإِنْسَانِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَأَعَارَهُ نَظَرَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى صَارَ عبارة عن الاعتداء وَالْإِحْسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ نَظَرٌ ثُمَّ جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مُجَرَّدًا لِمَعْنَى الْإِحْسَانِ مَجَازًا عَمَّا وَقَعَ كِنَايَةً عَنْهُ فِيمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ انْتَهَى
وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَجَازٌ وَبِهِ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عرضتم به من خطبة النساء}
وَصَرَّحَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَرِينَةٍ
الثَّانِي: قِيلَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تُكَنِّي عَنِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ يقبح(2/310)
ذِكْرُهُ وَذَكَرُوا احْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقد أفضى بعضكم إلى بعض}
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَنَّى بِالْإِفْضَاءِ عَنِ الْإِصَابَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَنَّى عَنِ الْخُلْوَةِ
وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تُكَنِّي عَمَّا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي اللَّفْظِ وَلَا يُقْبُحُ ذِكْرُ الْخُلْوَةِ وَهَذَا حَسَنٌ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ
وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِ الْعَرَبِ لَا تُكَنِّي إِلَّا عَمَّا يَقْبُحُ ذِكْرُهُ فَغَلَطٌ فَكَنَّوْا عَنِ الْقَلْبِ بِالثَّوْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {وثيابك فطهر} وغير ذلك مما سبق
التعريض والتلويح
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَقِيلَ: إِنَّهُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى من طريق المفهوم وسمي تعويضا لِأَنَّ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِهِ يُفْهَمُ مِنْ عُرْضِ اللَّفْظُ أَيْ مِنْ جَانِبِهِ وَيُسَمَّى التَّلْوِيحَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُلَوِّحُ مِنْهُ لِلسَّامِعِ مَا يُرِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا ينطقون} لِأَنَّ غَرَضَهُ بِقَوْلِهِ: {فَاسْأَلُوهُمْ} عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَّضَ لَهُمْ بِهِ مِنْ عَجْزِ كَبِيرِ الْأَصْنَامِ عَنِ الْفِعْلِ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ إِجَابَتِهِمْ إِذَا سُئِلُوا وَلَمْ يرد بقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} نِسْبَةَ الْفِعْلِ الصَّادِرِ عَنْهُ إِلَى الصَّنَمِ فَدَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَجْزُ كَبِيرِ الْأَصْنَامِ عَنِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ
وَمِنْ أَقْسَامِهِ أَنْ يُخَاطَبَ الشَّخْصُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ نَفْسِهِ أو مع(2/311)
غيره كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك}
{ولئن اتبعت أهواءهم}
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} تَعْرِيضًا بِأَنَّ قَوْمَهُ أَشْرَكُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَزَلُّوا فيما مضى من الزمان لأن الرسول لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ فَأَبْرَزَ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي مَعْرِضِ الْحَاصِلِ ادِّعَاءً
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ من بعد ما جاءتكم البينات} فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالتَّعْرِيضَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الزَّلَلَ لَهُمْ لَا لِلْمُؤْمِنِينَ
فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَفِيهَا ثَلَاثَةُ: أُمُورٍ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ وَإِخْرَاجُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ وَاسْتِعْمَالُ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَأَمْرٌ رَابِعٌ وَهُوَ "إِنِ" الشَّرْطِيَّةَ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي هِيَ لَازِمَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ الشَّرْطِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ وُقُوعِهِ
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَرَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلَ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا يلزم من فرض أمر لابد مِنْهُ صِحَّةُ وُقُوعِهِ بَلْ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُحَالِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولد فأنا أول العابدين} إِذَا جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً لَا نَافِيَةً
وَمِنْهُ: {إِنْ كنا فاعلين}(2/312)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} المراد: مالكم لا تعبدون بدليل قوله: {وإليه ترجعون} وَلَوْلَا التَّعْرِيضُ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ وَإِلَيْهِ أُرْجَعُ
وَكَذَا قوله: {أأتخذ من دونه آلهة} وَالْمُرَادُ: أَتَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ولذلك قيل: {آمنت بربكم فاسمعون} دون ربي واتبعه فَاسْمَعُوهُ
وَوَجْهُ حُسْنِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِعْلَامُ السَّامِعِ عَلَى صُورَةٍ لَا تَقْتَضِي مُوَاجَهَتَهُ بِالْخِطَابِ الْمُنْكَرِ كَأَنَّكَ لَمْ تَعْنِهِ وَهُوَ أَعْلَى فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَأَقْرَبُ لِلْقَبُولِ وَأَدْعَى لِلتَّوَاضُعِ وَالْكَلَامُ مِمَّنْ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَزَّلَهُ بِلُغَتِهِمْ وَتَعْلِيمًا لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ
قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تعملون} فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فِي قَالَبِ التَّلَطُّفِ وَكَانَ حَقُّ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَوْلَاهُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَسْأَلُونَ عَمَّا عَمِلْنَا وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا تُجْرِمُونَ وَكَذَا مِثْلُهُ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} حيث ردد الضلال بينهم وبين أنفسهم وَالْمُرَادُ: إِنَّا عَلَى هُدًى وَأَنْتُمْ فِي ضَلَالٍ وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِئَلَّا تَصِيرَ هُنَا نُكْتَةٌ هُوَ أَنَّهُ خُولِفَ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ "عَلَى" وَ"فِي" بِدُخُولِ "عَلَى" عَلَى الحق و"في" عَلَى الْبَاطِلِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ كَأَنَّهُ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٌ يَرْكُضُ بِهِ حَيْثُ أَرَادَ وَصَاحِبُ الْبَاطِلِ كَأَنَّهُ مُنْغَمِسٌ فِي ظَلَامٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ
قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الْخِطَابَ الْمُنْصِفَ أَيْ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ(2/313)
يُنْصِفَ الْمُخَاطَبَ إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ اسْتِدْرَاجًا استدراجه الْخَصْمِ إِلَى الْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْجَدَلِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمُغَالَطَاتِ الْخِطَابِيَّةِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم} الْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِذَمِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَشْيَةُ وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ لِفَرْطِ عِنَادِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أُذُنٌ تَسْمَعُ وَلَا قَلْبٌ يَعْقِلُ وَأَنَّ الْإِنْذَارَ لَهُ كَلَا إِنْذَارٍ وَأَنَّهُ قَدْ أُنْذِرَ مَنْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَتْ لَهُ
وقوله: {إنما يتذكر أولو الألباب} الْقَصْدُ التَّعْرِيضُ وَأَنَّهُمْ لِغَلَبَةِ هَوَاهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم} نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ قَالَ: "مَا بَيْنَ أَخْشَبَيْهَا -أَيْ جَبَلَيْهَا يَعْنِي مَكَّةَ- أَعَزُّ مِنِّي وَلَا أَكْرَمُ" وَقِيلَ: بَلْ خُوطِبَ بِذَلِكَ استهزاء
التوجيه
وَأَمَّا التَّوْجِيهُ وَهُوَ مَا احْتَمَلَ مَعْنِيِّينَ وَيُؤْتَى بِهِ عِنْدَ فِطْنَةِ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون} فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمُوسَى وَأَنْ يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَبِهَذَا تَخَلَّصَتْ أُخْتُ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّكِ عَرَفْتِهِ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ نَاصِحُونَ لِلْمَلِكِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا فِي كلامها المحكي(2/314)
وَهَذَا مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْحِكَايَةَ مُطَابَقَةٌ لِمَا قَالَتْهُ وَإِنْ كَانَتْ بِلُغَةٍ أُخْرَى
وَنَظِيرُهُ جَوَابُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِمَنْ قَالَ لَهُ: مَنْ كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ أَمْ عَلِيٌّ؟ فَقَالَ: مَنْ كَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَهُ
وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مُشْكِلَاتُ القرآن(2/315)
النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي أَقْسَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ
زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ لَا تَنْحَصِرُ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحَصْرِهَا وَحِكَايَةُ ابْنِ السَّيِّدِ عَنْ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ فِي زَمَانِهِ
وَقِيلَ: قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَغَيْرُ خَبَرٍ
وَقِيلَ: عَشَرَةٌ: نِدَاءٌ وَمَسْأَلَةٌ وَأَمْرٌ وَتَشَفُّعٌ وَتَعَجُّبٌ وَقَسَمٌ وَشَرْطٌ وَوَضْعٌ وَشَكٌّ وَاسْتِفْهَامٌ
وَقِيلَ: تِسْعَةٌ وَأَسْقَطُوا الِاسْتِفْهَامَ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ
وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ وَأَسْقَطُوا التَّشَفُّعَ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ
وَقِيلَ: سَبْعَةٌ وَأَسْقَطُوا الشَّكَّ لِأَنَّهُ فِي قِسْمِ الْخَبَرِ
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ يَرَى أَنَّهَا سِتَّةٌ أَيْضًا وَهِيَ عِنْدُهُ الْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالنِّدَاءُ وَالتَّمَنِّي وَقِيلَ: خَمْسَةٌ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ وَالتَّصْرِيحُ وَالطَّلَبُ وَالنِّدَاءُ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ(2/316)
الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ وَالْقَصْدُ بِهِ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ وَقَدْ يُشْرَبُ مَعَ ذَلِكَ مَعَانِي أُخَرُ
مِنْهَا: التَّعَجُّبُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهُوَ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى أضرابه بوصف
وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: اسْتِعْظَامُ صِفَةٍ خَرَجَ بِهَا الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَنْ نَظَائِرِهِ نَحْوُ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا! وَأَحْسِنْ بِهِ! اسْتَعْظَمْتُ حُسْنَهُ عَلَى حُسْنِ غَيْرِهِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الصَّفِّ: مَعْنَى التَّعَجُّبِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْمَطْلُوبُ فِي التَّعَجُّبِ الْإِبْهَامُ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِمَّا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَكُلَّمَا اسْتُبْهِمَ السَّبَبُ كَانَ التَّعَجُّبُ أَحْسَنَ قَالَ وَأَصْلُ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الْخَفِيِّ سَبَبُهُ وَالصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تُسَمَّى تَعَجُّبًا يَعْنِي مَجَازًا قَالَ: وَمِنْ أَجْلِ الْإِبْهَامِ لَمْ تَعْمَلْ نِعْمَ إِلَّا فِي الْجِنْسِ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ لِيَقَعَ التَّفْسِيرُ عَلَى نَحْوِ التَّفْخِيمِ بِالْإِضْمَارِ قَبْلَ الذَّكْرِ
ثُمَّ قَدْ وَضَعُوا لِلتَّعَجُّبِ صِيَغًا مِنْ لَفْظِهِ وَهِيَ: "ما أفعله" و"أفعل به وصيغا(2/317)
مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ نَحْوُ: "كَبُرَ" فِي نَحْوِ: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} {كبر مقتا عند الله} {كيف تكفرون}
وَاحْتَجَّ الثَّمَانِينِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أسمع بهم وأبصر} تَقْدِيرُهُ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ! وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتَعَجَّبْ بِهِمْ وَلَكِنْ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ
وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: قِيلَ: لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ: مَا أَعْظَمَ اللَّهَ! لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى: شَيْءٌ عَظَّمَ اللَّهَ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ صِيَغِ التَّعَجُّبِ وَصِفَاتُ اللَّهِ تعالى قديمة وقيل: بجوازه باعتبار أنه يجب تَعْظِيمُ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَهُوَ يَرْجِعُ لِاعْتِقَادِ الْعِبَادِ عَظَمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
مَا أَقْدَرَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِي عَلَى شَحَطٍ
مَنْ دَارُهُ الْحُزْنُ مِمَّنْ دَارُهُ صُولُ
وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: هَذَا أَعْرَابِيٌّ جَاهِلٌ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَقَالَ بعض المحققين: التعجب إِنَّمَا يُقَالُ لِتَعْظِيمِ الْأَمْرِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ وَلَا يُخْطَرُ بِالْبَالِ أَنَّ شَيْئًا صَيَّرَهُ كَذَلِكَ وَخَفِيَ عَلَيْنَا فَلَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ التَّعَجُّبُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ
وَالثَّانِيَةُ: هَلْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ التَّعَجُّبِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ: بِالْمَنْعِ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ اسْتِعْظَامٌ وَيَصْحَبُهُ الْجَهْلُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي الْمُقَرِّبِ(2/318)
قَالَ: فَإِنْ وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ صُرِفَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أَيْ: هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: بالجواز لقوله: {فما أصبرهم على النار} إِنْ قُلْنَا: "مَا" تَعَجُّبِيَّةٌ لَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: {بل عجبت} فِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ بِالضَّمِّ
وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ وَمَا وَقَعَ مِنْهُ أُوِّلَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَاطَبِ أَيْ: عَلِمْتُ أَسْبَابَ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ الْعِبَادَ فَسَمَّى الْعِلْمَ بِالْعَجَبِ عَجَبًا
وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفُّ عَلَى خِلَافٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّعَجُّبِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ خَفَاءُ سَبَبِهِ فيتحيز فيه المتعجب منه أولا؟
وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ صِيغَةُ التَّعَجُّبِ إِلَّا قوله: {فما أصبرهم على النار} وقوله: {قتل الإنسان ما أكفره} و {يا أيها الإنسان ما أغرك} فِي قِرَاءَةِ مَنْ زَادَ الْهَمْزَةَ
ثُمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: التَّعَجُّبُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَلِهَذَا تَلَطَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعَجُّبِ وَمَجِيءُ التَّعَجُّبِ مِنَ اللَّهِ كَمَجِيءِ الدُّعَاءِ مِنْهُ وَالتَّرَجِّي وَإِنَّمَا هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ أَيْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكُمْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَقُولُوا لَهُمْ هَذِهِ وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ سِيبَوَيْهِ(2/319)
قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} قَالَ: الْمَعْنَى: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا
قُلْتُ: وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {ويل للمطففين} فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ إِنَّهُ دُعَاءٌ ها هنا لأن الكلام بذلك واللفظ به قَبِيحٌ وَلَكِنَّ الْعِبَادَ إِنَّمَا كُلِّمُوا بِكَلَامِهِمْ وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَعَلَى مَا يَعْنُونَ فَكَأَنَّهُ -والله أعلم- قيل لهم: {ويل للمطففين} و {ويل يومئذ للمكذبين} أَيْ: هَؤُلَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يُقَالُ لِصَاحِبِ الشَّرِّ وَالْهَلَكَةِ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْهَلَكَةِ وَوَجَبَ لَهُمْ هَذَا انْتَهَى
وَمِنْهَا: الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {والمطلقات يتربصن} {الوالدات يرضعن} فَإِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُ خَبَرٌ وَإِلَّا لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ وَسَبَقَ فِي الْمَجَازِ(2/320)
وَمِنْهَا: النَّهْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المطهرون}
وَمِنْهَا: الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ}
وَمِنْهَا: الْوَعِيدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي منقلب ينقلبون}
وَمِنْهَا: الْإِنْكَارُ وَالتَّبْكِيتُ نَحْوُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العزيز الكريم}
وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين} أَيْ: أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ
وَرُبَّمَا كَانَ اللَّفْظُ خبرا والمعنى شرطا وجزاء كقوله: {إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون} فَظَاهِرُهُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى: إِنَّا إِنْ نَكْشِفْ عَنْكُمُ العذاب تعودوا
ومنه قوله: {الطلاق مرتان} مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مَرَّتَيْنِ فَلْيُمْسِكْهَا بَعْدَهُمَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ يُسَرِّحْهَا بِإِحْسَانٍ
وَمِنْهَا: التَّمَنِّي وَكَلِمَتُهُ الْمَوْضُوعَةُ له "ليت" وقد تستعمل ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ
أَحَدُهَا: "هَلْ" كَقَوْلِهِ: {فَهَلْ لَنَا من شفعاء فيشفعوا لنا} حُمِلَتْ هَلْ عَلَى إِفَادَةِ التَّمَنِّي لِعَدَمِ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ شَفِيعٍ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ فَيَتَوَلَّدُ التَّمَنِّي بِمَعُونَةِ قَرِينَةِ الْحَالِ(2/321)
وَالثَّانِي: "لَوْ" سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ "وَدَّ " كَقَوْلِهِ تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنوا} بِالنَّصْبِ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} وَقَوْلِهِ: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} {وأن لي كرة فأكون}
وَالثَّالِثُ: "لَعَلَّ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَاخْتُلِفَ: هَلِ التَّمَنِّي خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ أَوْ لَيْسَ بِخَبَرٍ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ؟ قَوْلَانِ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ حَكَاهُمَا ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ
وَالزَّمَخْشَرِيُّ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ وَاسْتَشْكَلَ دُخُولَ التَّكْذِيبِ فِي جَوَابِهِ وَفِي قَوْلِهِ تعالى: {ليتنا نرد ولا نكذب} إلى قوله: {وإنهم لكاذبون} وَأَجَابَ بِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِدَةِ فَدَخَلَهُ التَّكْذِيبُ(2/322)
وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: التَّمَنِّي حَقِيقَةً لَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَذِبُ وَإِنَّمَا يَرِدُ الْكَذِبُ فِي التَّمَنِّي الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدَ صَاحِبِهِ وُقُوعُهُ فَهُوَ إِذَنْ وَارِدٌ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ
قَالَ: وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي قوله: {وإنهم لكاذبون} أَنَّ مَا تَمَنَّوْا لَيْسَ بِوَاقِعٍ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ذَمٌّ بَلِ التَّكْذِيبُ وَرَدَ عَلَى إِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ
وَمِنْهَا: التَّرَجِّي وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمُمَكِنَاتِ وَالتَّمَنِّيَ يَدْخُلُ الْمُسْتَحِيلَاتِ
وَمِنْهَا: النِّدَاءُ وَهُوَ طَلَبُ إِقْبَالِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الدَّاعِي بِحَرْفٍ مَخْصُوصٍ وَإِنَّمَا يَصْحَبُ في الأكثر الأمر والنهي كقوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} {يا أيها النبي اتق الله} {يا عباد فاتقون} {ويا قوم استغفروا ربكم} {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم}
وَرُبَّمَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ جُمْلَةَ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}(2/323)
وَإِذَا جَاءَتْ جُمْلَةُ الْخَبَرِ بَعْدَ النِّدَاءِ تَتْبَعُهَا جملة الأمر كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له}
وَقَدْ تَجِيءُ مَعَهُ الْجُمَلُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالْخَبَرِيَّةُ كَقَوْلِهِ تعالى في الخبر: {يا عباد لا خوف عليكم} وفي الاستفهام: {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تفعلون} {يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
وَهُنَا فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ نِدَاءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَعْقُبُهُ فَهْمٌ فِي الدِّينِ إِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي عُقِدَتْ بِهَا سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ وَإِمَّا مَوَاعِظُ وَزَوَاجِرُ وَقَصَصٌ لِهَذَا الْمَعْنَى كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ وَقَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ بِهِ فَكَانَ حَقُّ هَذِهِ أَنْ تُدْرَكَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ الْبَلِيغَةِ
الثَّانِيَةُ: النِّدَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْبَعِيدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}
لَطِيفَةٌ: فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا نَادَاهُ نَاجَاهُ أَيْضًا وَالنِّدَاءُ مُخَاطَبَةُ الْأَبْعَدِ وَالْمُنَاجَاةُ مُخَاطَبَةُ الْأَقْرَبِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ اللَّطِيفَةِ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مخاطبته لآدم وحواء بقوله: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}(2/324)
وفي موضع: {ويا آدم اسكن} ثُمَّ لَمَّا حَكَى عَنْهُمَا مُلَابَسَةَ الْمُخَالَفَةِ قَالَ في وصف خطابه لهما: {وناداهما ربهما} فَأَشْعَرَ هَذَا اللَّفْظُ بِالْبُعْدِ لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ كَمَا أَشْعَرَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ بِالْقُرْبِ عِنْدَ السَّلَامَةِ مِنْهَا
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ النِّدَاءُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ مَجَازًا فِي مَوَاضِعَ:
الْأَوَّلُ: الْإِغْرَاءُ وَالتَّحْذِيرُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} وَالْإِغْرَاءُ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْرِيضُ وَلِهَذَا خَصُّوا به المخاطب
الثاني: الاختصاص وهوكالنداء إِلَّا أَنَّهُ لَا حَرْفَ فِيهِ
الثَّالِثُ: التَّنْبِيهُ نحو: {يا ليتني مت قبل هذا} لِأَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ يَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ
وَقَالَ النَّحَّاسُ في قوله تعالى: {يا ويلتى} نِدَاءٌ مُضَافٌ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: هَذَا وَقْتُ حُضُورِ الْوَيْلِ وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يا حسرة على العباد} مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نَدَاهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتُهَا
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ النِّدَاءَ خَبَرٌ أَمْ لَا قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ: ذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَى أَنَّ قَوْلَكَ: يَا زَيْدُ لَيْسَ بِخَبَرٍ مُحْتَمِلٍ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ وَالتَّصْوِيتِ
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِكَ: يَا فَاسِقُ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ أَيْضًا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ(2/325)
الْفَارِسِيُّ: خَبَرٌ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ نِسْبَتَهُ لِلْفِسْقِ
وَمِنْهَا: الدعاء نحو: {تبت يدا أبي لهب وتب} وقوله: {قاتلهم الله} {حصرت صدورهم} {ويل للمطففين}
قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا دُعَاءٌ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الطَّرَاوَةِ لِاسْتِحَالَتِهِ هُنَا وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ لِلْخَلْقِ وَإِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ كَمَا فِي الرَّجَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ
فَائِدَةٌ
ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ نَحْوُ تَاللَّهَ هَلْ قَامَ زَيْدٌ قَسَمٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ لِكَوْنِهِ خَبَرًا
الاستخبار وهو الاستفهام
الثَّانِي: الِاسْتِخْبَارُ وَهُوَ طَلَبُ خَبَرِ مَا لَيْسَ عندك وهو بمعنى الاستفهام أَيْ: طَلَبُ الْفَهْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ مَا سُبِقَ أَوَّلًا وَلَمْ يُفْهَمْ حَقَّ الْفَهْمِ فَإِذَا سَأَلَتْ عَنْهُ ثَانِيًا كَانَ اسْتِفْهَامًا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ
وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ طَلَبَ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ تَحْصِيلَهُ فِي الذِّهْنِ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ حَقِيقَةً(2/326)
إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْ شَاكٍّ مُصَدِّقٍ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ غَيْرَ الشَّاكِّ إِذَا اسْتَفْهَمَ يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِذَا لَمْ يُصَدِّقْ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ انْتَفَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ
وَفِي الِاسْتِفْهَامِ فَوَائِدُ
الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ حَاصِلٌ فَيَسْتَفْهِمُ عَنْهُ نَفْسَهُ تُخْبِرُهُ بِهِ إِذْ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ عِنْدَهَا فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ من الله حديثا} وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} {فهل أنتم مسلمون} وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ إِذَا اسْتَفْهَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَنْهُ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَسْتَفْهِمُ خَلْقَهُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَسْتَفْهِمُهُمْ لِيُقَرِّرَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَقَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَهَذَا أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ انْفَرَدَ بِهِ خِطَابُ الْقُرْآنِ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مُخْتَلِفٌ
الثَّانِيَةُ: الِاسْتِفْهَامُ إِذَا بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ فُهِمَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى جَوَابِهِ أَيَّ جَوَابٍ كَانَ لِأَنَّ سَبْقَهُ عَلَى الْجَوَابِ يَشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ مَنْ يُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ لِئَلَّا يَكُونَ إِيرَادُهُ قَبْلَهُ عَبَثًا فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ تَعْمِيمًا نَحْوُ: "مَنْ جَاءَكَ فَأُكْرِمَهُ" بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ قَبْلَ ذِكْرِ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ "أُكْرِمَهُ" عُلِمَ أَنَّهُ يُكْرِمُ مَنْ يَقُولُ الْمُجِيبُ: إِنَّهُ جَاءَ أَيْ جَاءَ كَانَ وَكَذَا حُكْمُ "مَنْ ذَا جَاءَكَ أَكْرِمْهُ" بالجزم(2/327)
الثَّالِثَةُ: قَدْ يَخْرُجُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَقَعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَيَسْتَغْنِي عَنْ طَلَبِ الْإِفْهَامِ
أقسام الاستفهام
وهو قسمان: بمعنى الخبر وبمعنى الإنشاء
الاستفهام بمعنى الخبر
الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيٌ وَالثَّانِي: إِثْبَاتٌ فَالْوَارِدُ لِلنَّفْيِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْوَارِدُ لِلْإِثْبَاتِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بالأول إنكار المخاطب وبالثاني إقراره به
استفهام الإنكار
فَالْأَوَّلُ: الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْأَدَاةِ مَنْفِيٌّ وَلِذَلِكَ تَصْحَبُهُ "إِلَّا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} وقوله تعالى: {وهل نجازي إلا الكفور}
وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ الْمَنْفِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: لَا يَهْدِي وَهُوَ كَثِيرٌ
وَمِنْهُ: {أَفَأَنْتَ تنقذ من في النار} أَيْ: لَسْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
{أَفَأَنْتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}(2/328)
{أفغير الله أبتغي حكما}
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أَيْ: لَا نُؤْمِنُ
وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ ولكم البنون} أي: لا يكون هذا
وقوله تعالى: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} أَيْ: مَا أُنْزِلَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أَيْ: مَا شَهِدُوا ذَلِكَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تسمع الصم أو تهدي العمي} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء}
وقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} أَيْ: لَمْ نَعْيَ بِهِ
وَهُنَا أَمْرَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدْ يَجِيءُ لِتَعْرِيفِ الْمُخَاطَبِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُدَّعَى مُمْتَنَعٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العمي} لِأَنَّ إِسْمَاعَ الصُّمِّ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِسْمَاعَهُمْ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ وَإِنَّمَا قُدِّمَ الِاسْمُ فِي الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ: "أَتُسْمِعُ الصُّمَّ" إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارٍ مُوَجَّهٍ عَنْ تَقْدِيرِ ظَنٍّ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِإِسْمَاعِ مَنْ بِهِ صَمَّمٌ وَأَنَّهُ ادَّعَى الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ إنكار الفعل(2/329)
وَفِيهِ دُخُولُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِذَا قُلْتَ أَتَفْعَلُ أَوْ أَأَنْتَ تَفْعَلُ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُ وُجُودِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لها كارهون} وَالْمَعْنَى: لَسْنَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ هَذَا الْإِلْزَامُ وَإِنْ عَبَّرْنَا بِفِعْلِ ذَلِكَ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بَلِ الْمَعْنَى إِنْكَارُ أَصْلِ الْإِلْزَامِ وَالثَّانِي: قَوْلُكُ لِمَنْ يَرْكَبُ الْخَطَرَ: أَتَذْهَبُ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ؟ انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَاسْتَبْصِرْ فَإِذَا قَدَّمَتَ الْمَفْعُولَ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى كَوْنِهِ بِمَثَابَةِ أَنْ يُوقَعَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {قل أغير الله أتخذ وليا} وقوله: {أغير الله تدعون} الْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللَّهِ بِمَثَابَةِ مَنْ يُتَّخَذُ وَلَّيًا
ومنه: {أبشرا منا واحدا نتبعه} لِأَنَّهُمْ بَنَوْا كَفْرَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَتَّبِعُ صِيغَةَ الْمُسْتَقْبَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ نَحْوُ: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا} أو للاستقبال نحو: {أهم يقسمون رحمت ربك}
الثَّانِي: قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْكَارَ التَّكْذِيبُ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّ المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه كقوله تعالى: {أصطفى البنات على البنين} {ألكم الذكر وله الأنثى} {أإله مع الله}(2/330)
وَسَوَاءٌ كَانَ زَعْمُهُمْ لَهُ صَرِيحًا مِثْلُ: {أَفَسِحْرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} أو التزاما مثل: {أشهدوا خلقهم} فَإِنَّهُمْ لَمَّا جَزَمُوا بِذَلِكَ جَزْمَ مَنْ يُشَاهِدُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ شَهِدَ خَلْقَهُمْ وَتَسْمِيَةُ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مِنْ أَنْكَرَ إِذَا جَحَدَ وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى: "لَمْ يَكُنْ" كقوله تعالى: {أفأصفاكم} أو بمعنى: "لا يكون" نحو: {أنلزمكموها}
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْكَارَ قِسْمَانِ إِبْطَالِيٌّ وَحَقِيقِيٌّ:
فَالْإِبْطَالِيُّ: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا غَيْرَ وَاقِعٍ وَمُدَّعِيهِ كَاذِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَالْحَقِيقِيُّ: يَكُونُ مَا بَعْدَهَا واقع وأن فاعله ملوم نحو: {أتعبدون ما تنحتون} {غير الله تدعون} {أإفكا آلهة} {أتأتون الذكران} {أتأخذونه بهتانا}
استفهام التقرير
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيرُ: حَمْلُكَ الْمُخَاطَبَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَمْرٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي الْخَاطِرِيَّاتِ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ بِـ "هَلْ" وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:(2/331)
*جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط*
و"هل" لَا تَقَعُ تَقْرِيرًا كَمَا يَقَعُ غَيْرُهَا مِمَّا هو للاستفهام
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قوله تعالى: {هل يسمعونكم} إِلَى أَنَّ "هَلْ" تُشَارِكُ الْهَمْزَةَ فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَبَا عَلِيٍّ أَبَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ قبيل الإنكار وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ لَا يَكُونُ بِـ "هَلْ" إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْهَمْزَةُ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أن "هل" تأتي تقريرا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}
وَالْكَلَامُ مَعَ التَّقْرِيرِ مُوجَبٌ وَلِذَلِكَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْمُوجَبِ وَيُعْطَفُ عَلَى صَرِيحِ الْمُوجَبِ فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فهدى} وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وزرك} {ألم يجعل كيدهم في تضليل}(2/332)
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا علما} عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ حَيْثُ جَعَلَهَا مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}
وَيَجِبُ أَنْ يَلِيَ الْأَدَاةَ الشَّيْءُ الَّذِي تَقَرَّرَ بِهَا فَتَقُولُ فِي تَقْرِيرِ الْفِعْلِ: "أَضَرَبْتَ زَيْدًا" وَالْفَاعِلُ نَحْوُ: "أَأَنْتَ ضَرَبْتَ" أَوِ الْمَفْعُولُ "أَزَيْدًا ضَرَبْتَ" كَمَا يَجِبُ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ
وَقَوْلِهِ تعالى: {أأنت فعلت} يَحْتَمِلُ الِاسْتِفْهَامَ الْحَقِيقِيَّ بِأَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوا أنه الفاعل والتقرير بِأَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا وَلَا يَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَنِ الْفِعْلِ وَلَا تَقْرِيرًا لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلِهِ وَلِأَنَّهُ أَجَابَ بِالْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}
وَقِيلَ: أَرَادَ التَّقْرِيرَ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ لَا التَّقْرِيرَ بِالنَّفْيِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهَا الْمُنْكِرُ لِلنَّسْخِ!
وَحَقِيقَةُ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْإِنْكَارُ نَفْيٌ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَنَفْيُ الْمَنْفِيِّ إِثْبَاتٌ وَالَّذِي يُقَرَّرُ عِنْدَكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْرِيرِ الْإِثْبَاتُ قَوْلُ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَى "لَيْسَ" أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ كَانَتْ تَقْرِيرًا وَدَخَلَهَا مَعْنَى الْإِيجَابُ فَلَمْ يَحْسُنْ مَعَهَا "أَحَدٌ"(2/333)
لِأَنَّ أَحَدًا إِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ حَقِيقَةِ النَّفْيِ لَا تَقُولُ: أَلَيْسَ أَحَدٌ فِي الدَّارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى قَوْلِكَ: أَحَدٌ فِي الدَّارِ وأحد لا تستعمل في الواجب
وأمثلته كثيرة كقوله تعالى: {ألست بربكم} أَيْ: أَنَا رَبُّكُمْ
وَقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
{أوليس الذي خلق السماوات والأرض}
{أليس الله بكاف عبده}
{أليس الله بعزيز ذي انتقام}
{أليس في جهنم مثوى للكافرين}
{أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَنْقُصُ الرطب إذا جف" وقوله جَرِيرٍ:
*أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا*
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَعْلِهِمُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِشْكَالًا لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّفْيِ لَجَازَ أَنْ يُجَابَ بِنَعَمْ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: "نَعَمْ" كَفَرُوا وَلَمَا حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ وَلَوْ لَمْ تُفِدْ لَفْظَةُ الْهَمْزَةِ اسْتِفْهَامًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَوَابُ إِذْ لَا سُؤَالَ حِينَئِذٍ
وَالْجَوَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ يَدْخُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:(2/334)
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ النَّفْيِ هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا؟ فَيَبْقَى النَّفْيُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ لِلتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {ألم يجدك يتيما}
فَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ نَعَمْ فِي جَوَابِهِ إِذَا أَرَدْتَ إِيجَابَهُ بَلْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ بَلَى وَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ التَّقْرِيرُ فَلِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ لَفْظٌ وَمَعْنًى فَلَفْظُهُ نَفْيٌ دَاخِلٌ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَاهُ الْإِثْبَاتُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِهِ تُجِيبُهُ بِبَلَى وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ إِثْبَاتًا تُجِيبُهُ بِنَعَمْ
وَقَدْ أَنْكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ كَوْنَ الْهَمْزَةِ لِلْإِيجَابِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُخَالِفُ الْوَاجِبَ وَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى "مَا" أَوْ "لَيْسَ" يَكُونُ تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا فَالتَّقْرِيرُ: كقوله تعالى: {أنت قلت للناس} {أأنت فعلت} وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا
الثَّانِي: الْإِثْبَاتُ مَعَ الِافْتِخَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {أَلَيْسَ لي ملك مصر}(2/335)
الثَّالِثُ: الْإِثْبَاتُ مَعَ التَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تكن أرض الله واسعة} أَيْ: هِيَ وَاسِعَةٌ فَهَلَّا هَاجَرْتُمْ فِيهَا
الرَّابِعُ: مَعَ الْعِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعَ سِنِينَ وَمَا أَلْطَفَ مَا عَاتَبَ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عنك لم أذنت لهم} وَلَمْ يَتَأَدَّبَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الْخَامِسُ: التَّبْكِيتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين} هُوَ تَبْكِيتٌ لِلنَّصَارَى فِيمَا ادَّعُوهُ كَذَا جَعَلَ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ نَوْعِ التَّقْرِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ السَّادِسُ: التَّسْوِيَةُ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةٍ يَصِحُّ حُلُولُ الْمَصْدَرِ مَحَلَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ مُجَرَّدَةً لِلتَّسْوِيَةِ مُضْمَحِلًّا عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ
وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِيهِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عِلْمِ الْمُسْتَفْهَمِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ(2/336)
إِمَّا الْإِنْذَارُ وَإِمَّا عَدَمُهُ وَلَكِنْ لَا يُعَيِّنُهُ وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ بِعِلْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يُعْلَمُ مِنْ لَفْظَةِ سَوَاءٌ لَا مِنَ الْهَمْزَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ مِنْهُ لَزِمَ التَّكْرَارُ
قِيلَ: هَذَا الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظَةِ سَوَاءٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ مُسْتَوَيَيْنِ فَجُرِّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَنِ الْمُسْتَوَيَيْنِ وَلَا يَكُونُ ضَرَرٌ فِي إِدْخَالِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ يَسْتَوِيَانِ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا -أَعْنِي حَذْفَ مُقَدَّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ -كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا فِي النِّدَاءِ فَإِنَّهُ لِتَخْصِيصِ الْمُنَادَى وَطَلَبِ إِقْبَالِهِ فَيُحْذَفُ قَيْدُ الطَّلَبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ نَحْوُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ" فَإِنَّهُ يَنْسَلِخُ عَنْ مَعْنَى الْكَلِمَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعَصَائِبِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أجزعنا أم صبرنا}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم}
{أوعظت أم لم تكن من الواعظين}
وَتَارَةً تَكُونُ التَّسْوِيَةُ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَتَارَةً لَا تَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَدْرِي أقريب أم بعيد}
السَّابِعُ: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}(2/337)
الثامن: التهويل نحو: {الحاقة. ما الْحَاقَّةِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}
وقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} تَفْخِيمٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ
التَّاسِعُ: التَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ}
الْعَاشِرُ: التَّفَجُّعُ نَحْوُ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة إلا أحصاها}
الْحَادِي عَشَرَ: التَّكْثِيرُ نَحْوُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها}
الثَّانِي عَشَرَ: الِاسْتِرْشَادُ نَحْوُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفسد فيها} وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا مُسْتَرْشِدِينَ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ العبارتين أدبا وقيلك هي هنا للتعجب
الاستفهام بمعنى الإنشاء
الْقِسْمُ الثَّانِي: الِاسْتِفْهَامُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ وَهُوَ على ضروب:(2/338)
الْأَوَّلُ: مُجَرَّدُ الطَّلَبِ وَهُوَ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أفلا تذكرون} أَيِ: اذْكُرُوا
وَقَوْلِهِ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والأميين أأسلمتم} أَيْ: أَسْلِمُوا
وَقَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لكم} أَيْ: أَحِبُّوا
وَقَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ في سبيل الله} أَيْ: قَاتِلُوا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
وقوله: {فهل أنتم منتهون} انْتَهُوا وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "انْتَهَيْنَا"
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {أتصبرون} وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَتَصْبِرُونَ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ؟ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لِنَعْلَمَ أَتَصْبِرُونَ
الثَّانِي: النَّهْيُ كَقَوْلِهِ تعالى: {ما غرك بربك الكريم} أَيْ: لَا يَغُرُّكَ
وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه} بدليل قوله: {فلا تخشوا الناس}
الثالث: التحذير كقوله: {ألم نهلك الأولين} أَيْ: قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ فَنَقْدِرُ عَلَيْكُمْ(2/339)
الرَّابِعُ: التَّذْكِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فعلتم بيوسف وأخيه}
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} {ألم نشرح لك صدرك}
الْخَامِسُ: التَّنْبِيهُ وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في ربه}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ ذَلِكَ: انْظُرْ بِفِكْرِكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَتَنَبَّهْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مخضرة} حَكَاهُ صَاحِبُ "الْكَافِي" عَنِ الْخَلِيلِ وَلِذَلِكَ رَفَعَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَنْصِبْهُ
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {فَأَيْنَ تذهبون} لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ
وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عن ملة إبراهيم}(2/340)
السَّادِسُ: التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} {هل أدلكم على تجارة تنجيكم}
السَّابِعُ: التَّمَنِّي كَقَوْلِهِ: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ}
{أنى يحيي هذه الله بعد موتها} قَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَيْ كَيْفَ وَمَا أَعْجَبَ مُعَايِنَةَ الْإِحْيَاءِ!
الثَّامِنُ: الدُّعَاءُ وَهُوَ كَالنَّهْيِ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء} وقوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها} وَهُمْ لَمْ يَسْتَفْهِمُوا لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنِّي جاعل في الأرض خليفة} وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّكَ سَتَجْعَلُ وَشَبَّهَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِ الرَّجُلِ لِغُلَامِهِ وَهُوَ يَضْرِبُهُ: أَلَسْتَ الْفَاعِلَ كَذَا وَقِيلَ: بَلْ هُوَ تَعَجُّبٌ وَضَعْفٌ
وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْأَوْلَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا:(2/341)
أن الله تعالى لما قال: {ني جاعل في الأرض خليفة} قَالُوا: وَمَا ذَاكَ الْخَلِيفَةُ! يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا!
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَتَجْعَلُهُمْ فِيهَا أَمْ تَجْعَلُنَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَجْعَلُهُمْ وَحَالُنَا هَذِهِ أَمْ يَتَغَيَّرُ
التَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ: الْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: الْأَوَّلُ طَلَبٌ بِرِفْقٍ وَالثَّانِي بِشِقٍّ فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لكم والله} والثاني: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم}
وَمِنَ الثَّانِي: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فرعون ألا يتقون} الْمَعْنَى: ائْتِهِمْ وَأْمُرْهُمْ بِالِاتِّقَاءِ
الْحَادِي عَشَرَ: الِاسْتِبْطَاءُ كَقَوْلِهِ: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بدليل: {ويستعجلونك بالعذاب}
وَمِنْهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ الْبَيَانِيِّ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله}
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ: "حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ(2/342)
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا: مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ" وَهُوَ حَسَنٌ
الثَّانِي عَشَرَ: الْإِيَاسُ {فَأَيْنَ تذهبون}
الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِينَاسُ نَحْوُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى}
وقال ابن فارس: المراد به الْإِفْهَامُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا أَمْرًا قَدْ خَفِيَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَعْلَمَ مِنْ حَالِهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ
وَقِيلَ: هُوَ لِلتَّقْرِيرِ فَيَعْرِفُ مَا فِي يَدِهِ حَتَّى لَا يَنْفِرَ إِذَا انْقَلَبَتْ حَيَّةً
الرَّابِعَ عشر: التهكم والاستهزاء {أصلاتك تأمرك} {ألا تأكلون. ما لكم لا تنطقون}
الْخَامِسَ عَشَرَ: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رسولا} وَمِنْهُ مَا حَكَى صَاحِبُ الْكِتَابِ: مَنْ أَنْتَ زَيْدًا؟ عَلَى مَعْنَى مَنْ أَنْتَ تَذْكُرُ زَيْدًا!(2/343)
السَّادِسَ عَشَرَ: التَّعَجُّبُ نَحْوُ: {مَا لِيَ لَا أرى الهدهد}
{كيف تكفرون بالله}
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِلتَّنْبِيهِ
السَّابِعَ عَشَرَ: الِاسْتِبْعَادُ كَقَوْلِهِ: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مبين} أَيْ: يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمُ الرسول ثم تولوا
الثَّامِنَ عَشَرَ: التَّوْبِيخُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون}
{لم تقولون ما لا تفعلون}
{أفتتخذونه وذريته أولياء} وَلَا تَدْخُلُ هَمْزَةُ التَّوْبِيخِ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِعْلٌ قَبِيحٌ
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ يَجْتَمِعُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَاحِدُ لِلْإِنْكَارِ والتقرير كقوله: {فأي الفريقين أحق بالأمن} أَيْ: لَيْسَ الْكُفَّارُ آمِنِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ مَوَاقِعِ التَّقْرِيرِ دُونَ الْإِنْكَارِ قَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بظلم}(2/344)
وَقَدْ يَحْتَمِلُهُمَا كَقَوْلِهِ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِمَا عِنْدَهُمْ تَقْرِيرَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: التَّقْدِيرُ "لَا" فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَفْهَمُوا اسْتِفْهَامَ تَقْرِيرٍ بِمَا لَا جَوَابَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا "لَا" جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ قَالُوا وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لِأَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِمْ فَيَكُونُ مَيْتَةً وَالْمُرَادُ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ غَيْبَتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَ {فَكَرِهْتُمُوهُ} بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ اكْرَهُوهُ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانَتْ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيهِ نُسِبَ ذلك إليهم وكذبوا فيه فيكون فكرهتموه
الْخَامِسَةُ: إِذَا خَرَجَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَإِنْ أُرِيدَ التَّقْرِيرُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى مُعَادِلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ وَالْمُعَادِلُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ أَمْ يريدون وَقِيلَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ فَالْمُعَادِلُ عِنْدَهُمْ مَحْذُوفٌ أَيْ أَمْ عَلِمْتُمْ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مخاطبة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبَةَ أَمَتَّهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ وَحْدَهُ فَالْمُعَادِلُ مَحْذُوفٌ لَا غَيْرُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ انْتَهَى
وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّقْرِيرِ فَيُسْتَغْنَى عَنِ الْمُعَادِلِ أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمُعَادِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ القيامة} أَيْ: كَمَنْ يَنْعَمُ فِي الْجَنَّةِ؟(2/345)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حسنا} أَيْ: كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يشاء} التَّقْدِيرُ: ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ بِدَلِيلِ: {فَلَا تذهب نفسك عليهم حسرات}
وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مَوْضِعٌ صَرَّحَ فِيهِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا نحن فيه وهو قوله تعالى: {أمن هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فقطع أمعاءهم} أَيْ: أَكْمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي الْجَنَّةِ يُسْقَى مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ
وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِمَا عَلَى الْأَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس كمن مثله في الظلمات}
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زين له سوء عمله}
السَّادِسَةُ: اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَاضٍ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ الْأَقْصَى الْقَرِيبِ وَقَالَ: قَدْ يَكُونُ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أفحكم الجاهلية يبغون} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} قَالَ: أَنْكَرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا يُبْغَى لِحَقَارَتِهِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ سَلْبَ الْعِزَّةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُنْكَرٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْبَيَانِيِّينِ وَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذَكَرَهُ بَلِ الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَتَيْنِ عَنْ مَاضٍ وَدَخَلَهُ الِاسْتِقْبَالُ تَغْلِيبًا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْمُنْكَرِ بِزَمَانٍ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ(2/346)
تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خير} لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ وَهُوَ طَلَبُ الْبَدَلِ وَقَعَ مَاضِيًا وَلَا: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} وَإِنْ كَانَتْ أَنْ تُخَلِّصَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَلْمُوحٌ بِهِ جَانِبُ الْمَعْنَى وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جِنِّي فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْإِعْرَابَ قَدْ يرد على خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْمَعْنَى
السَّابِعَةُ: هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنْ خُرُوجِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي النَّفْيِ هَلْ تَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ أَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْكُلِّيَّةِ؟ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بَلْ مِنْهُ مَا تَجَرَّدَ كَمَا فِي التَّسْوِيَةِ وَمِنْهُ مَا يَبْقَى وَمِنْهُ مَا يَحْتَمِلُ وَيُحْتَمَلُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَهَلِ الْمُرَادُ بِالتَّقْرِيرِ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ فَيَكُونُ خَبَرًا مَحْضًا أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ طَلَبُ إِقْرَارِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مَعَ كَوْنِ السَّائِلِ يَعْلَمُ فَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِ الْمُخَاطَبِ أَيْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ مُقَرِّرًا بِهِ وَفِي كَلَامِ النُّحَاةِ وَالْبَيَانِيِّينِ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ
الثَّامِنَةُ: الْحُرُوفُ الْمَوْضُوعَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ ثَلَاثَةٌ: الْهَمْزَةُ وَهَلْ وَأَمْ وَأَمَّا غَيْرُهَا مِمَّا يُسْتَفْهَمُ بِهِ كَمَنْ وَمَا وَمَتَى وَأَيْنَ وَأَنَّى وَكَيْفَ وَكَمْ وَأَيَّانَ فَأَسْمَاءُ اسْتِفْهَامٍ اسْتُفْهِمَ بِهَا نِيَابَةً عَنِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَخْتَصُّ بِطَلَبِ التَّصْدِيقِ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ كَهَلْ وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةِ وَمَا يَخْتَصُّ بِطَلَبِ التَّصَوُّرِ كَأَمِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا لَا يَخْتَصُّ كالهمزة
أحكام اختصت بها همزة الاستفهام
وَلِكَوْنِ الْهَمْزَةِ أُمَّ الْبَابِ اخْتَصَّتْ بِأَحْكَامٍ لَفْظِيَّةٍ ومعنوية(2/347)
فَمِنْهَا: كَوْنُ الْهَمْزَةِ لَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا حَتَّى يَهْجِسَ فِي النَّفْسِ إِثْبَاتُ مَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِخِلَافِ "هَلْ" فَإِنَّهُ لَا تُرَجُّحَ عِنْدَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِهِمْ
وَمِنْهَا: اخْتِصَاصُهَا بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّقْرِيرَ لَا يَكُونُ بـ "هل" وَالْخِلَافُ فِيهِ
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: إِنْ طُلِبَ بِالِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٌ أَوْ تَوْبِيخٌ أَوْ إِنْكَارٌ أَوْ تَعَجُّبٌ كَانَ بِالْهَمْزَةِ دُونَ "هَلْ" وَإِنْ أُرِيدَ الْجَحْدُ كَانَ بِهَلْ وَلَا يَكُونُ بِالْهَمْزَةِ
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِإِنْكَارِ إِثْبَاتِ مَا يَقَعُ بَعْدَهَا كَقَوْلِكَ: أَتُضْرِبُ زَيْدًا وَهُوَ أَخُوكَ قَالَ تَعَالَى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَلَا تَقَعُ "هَلْ" هَذَا الْمَوْقِعَ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ لَهُ مَنْ أَصْلِهِ وَالْمَمْنُوعُ مِنْ إِنْكَارِ إِثْبَاتِ مَا وَقَعَ بَعْدَهَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ
وَمِنْهَا: أَنَّهَا يَقَعُ الِاسْمُ مَنْصُوبًا بَعْدَهَا بِتَقْدِيرِ نَاصِبٍ أَوْ مَرْفُوعًا بِتَقْدِيرِ رَافِعٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِكَ: أَزَيْدًا ضرب وَأَزَيْدٌ قَامَ وَلَا تَقُولُ: هَلْ زَيْدًا ضَرَبْتَ وَلَا هَلْ زَيْدٌ قَامَ إِلَّا عَلَى ضَعْفٍ
وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: لَيْسَ فِي أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ ما إذا اجتمع بعده الاسم والفعل بليه الِاسْمُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ إِلَّا الْهَمْزَةُ فَتَقُولُ: أَزَيْدٌ قَامَ وَلَا تَقُولُ: هَلْ زَيْدٌ قَامَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ بَلِ الْفَصِيحُ هَلْ قَامَ زَيْدٌ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَقَعُ مَعَ أَمِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا تَقَعُ مَعَ هَلْ وَأَمَّا الْمُنْقَطِعَةُ فَتَقَعُ فيهما(2/348)
جَمِيعًا فَإِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدِكَ أَمْ عَمْرٌو فَهَذَا الْمَوْضِعُ لَا تَقَعُ فِيهِ هَلْ مَا لَمْ تَقْصِدْ إِلَى الْمُنْقَطِعَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الشَّرْطِ تَقُولُ: أَإِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَأَإِنْ تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَكَ أَإِنْ تَضْرِبْ أَضْرِبْ؟ وَلَا تَقُولُ: هَلْ إِنْ تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَكَ؟
وَمِنْهَا: جَوَازُ حَذْفِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وتلك نعمة تمنها} وقوله تعالى: {هذا ربي} فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: {سَوَاءٌ عليهم أأنذرتهم}
وَمِنْهَا: زَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا إِلَّا مُعَادَلَةً أَوْ فِي حُكْمِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَتَقُولُ: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ؟ وَيَجُوزُ أَلَّا يُذْكَرَ الْمُعَادِلُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ ذِكْرِ الضِّدِّ
وَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّفَّارُ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: هَلْ قَامَ زَيْدٌ؟ فَالْمَعْنَى هَلْ قَامَ أَمْ لَمْ يَقُمْ؟ لِأَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْيَقِينَ وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَزِيزٌ فِي كَلَامِهِمْ لَا يَأْتُونَ لَهَا بِمُعَادِلٍ فَخَطَأٌ بَلْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عبثا} {أفرأيت الذي تولى} {أفرأيتم اللات والعزى} {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا(2/349)
وَمِنْهَا: تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَاوِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ فَتَقُولُ: أَفَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَوَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} وقال تعالى: {أوكلما عاهدوا عهدا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ به} فَتُقَدَّمُ الْهَمْزَةُ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ وَكَانَ الْقِيَاسُ تَأْخِيرَهَا عَنِ الْعَاطِفِ فَيُقَالُ: فَأَلَمْ أَكْرِمْكَ؟ وَأَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى سَائِرِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وفيكم رسوله} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} وقوله تعالى: {فأين تذهبون} فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ الْعَاطِفُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ لِأَنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ جُزْءٌ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْعَاطِفُ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَعْطُوفِ وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا فِي الْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ فَأَرَادُوا تَقْدِيمَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ
وَالزَّمَخْشَرِيُّ اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فَتَارَةً يَجْعَلُ الْهَمْزَةَ فِي مِثْلِ هَذَا دَاخِلَةً عَلَى مَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَيُقَدِّرُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَعْطِفُ الْفَاءُ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهَا وَتَارَةً يَجْعَلُهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْعَاطِفِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الْأَوْلَى
وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّ ثَمَّ مَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا تَقْدِيرُ فِعْلٍ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ ينشأ في الحلية} {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق} {أفمن هو قائم}(2/350)
وَقَالَ ابْنُ خَطِيبٍ زَمَلْكَا: الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ بَعْدَ الْهَمْزَةِ قَبْلَ الْفَاءِ تَكُونُ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَيْهِ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مات} لَوْ صُرِّحَ بِهِ لَقِيلَ: "أَتُؤْمِنُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ فَإِنْ مَاتَ ارْتَدَدْتُمْ فَتُخَالِفُوا سُنَنَ اتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكُمْ فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى مُلْكِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ"؟ وَهَذَا مَذْهَبُ الزَّمَخْشَرِيِّ
فَائِدَةٌ
زَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كَلَامِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُمَلِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا
وَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَعْلَمُ وَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ: هَلْ قَامَ زَيْدٌ أَمْسُ؟ وَهَلْ أَنْتَ قَائِمٌ أَمْسُ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} فهذا كله ماض غير آت
الشرط
الثَّالِثُ: الشَّرْطُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَوَاعِدُ
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: الْمُجَازَاةُ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ:(2/351)
أُولَاهُمَا: فِعْلِيَّةٌ لِتُلَائِمَ الشَّرْطَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يرد الله أن يهديه} {إن كنت جئت} {استقر استقر مكانه} {رينك بعض الذي نعدهم} {يأتينكم مني هدى}
وَثَانِيهُمَا: قَدْ تَكُونُ اسْمِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ فِعْلِيَّةً جَازِمَةً وَغَيْرَ جَازِمَةٍ أَوْ ظَرْفِيَّةً أَوْ شَرْطِيَّةً كما يقال: {فأولئك يدخلون الجنة} {شرح الله صدره للإسلام} {فأت بآية} {فسوف تراني} {إلينا مرجعهم} {فمن تبع هداي}
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الشَّرْطِ اتَّحَدَتَا جُمْلَةً وَاحِدَةً نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يدخلون الجنة} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} وقوله: {فإن استقر مكانه فسوف تراني} وَقَوْلِهِ: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نتوفينك فإلينا مرجعهم} وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هداي فلا يضل ولا يشقى} فَالْأُولَى مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَازَاةِ تُسَمَّى شَرْطًا وَالثَّانِيَةُ تُسَمَّى جَزَاءً وَيُسَمِّي الْمَنَاطِقَةُ الْأَوَّلَ مُقَدَّمًا وَالثَّانِيَ تَالِيًا
فَإِذَا انْحَلَّ الرِّبَاطُ الْوَاصِلُ بَيْنَ طَرَفَيِ المجازاة عادة الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ كَمَا كَانَ(2/352)
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُنْتَظِمَةُ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ
قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: الْعِبْرَةُ فِي هَذَا بِالتَّالِي إِنَّ كان التالي قبل الانتظام جازما كان هَذِهِ الشُّرْطِيَّةُ جَازِمَةً -أَعْنِي خَبَرًا مَحْضًا- وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُوصَلَ بِهَا الْمَوْصُولَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا لَمْ تَكُنْ جَازِمَةً بَلْ إِنْ كَانَ التَّالِي أَمْرًا فَهِيَ فِي عِدَادِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وَإِنْ كَانَتْ رَجَاءً فَهِيَ فِي عِدَادِ الرَّجَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أَيْ: فَهَذَا التَّسْوِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ فَإِنْ جَعَلْتَ سَوْفَ بِمَعْنًى أَمْكَنَ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا صِرْفًا فَأَمَّا الْفَاءُ الَّتِي تَلْحَقُ التَّالِي مُعَقِّبَةً فَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَبِطَ التَّالِي بِذَاتِهِ ارْتِبَاطًا وَذَلِكَ إِنْ كَانَ افْتُتِحَ بِغَيْرِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالها} لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ فَيُجَازَى بِهِ
وَكَذَلِكَ الْحَرْفُ إِنْ كَانَ مُفْتَتَحًا بِالْأَمْرِ كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يُنَاسِبُ مَعْنَاهُ الشَّرْطَ فَإِنْ كَانَ مُفْتَتَحًا بِفِعْلٍ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ ارْتَبَطَ بِذَاتِهِ نَحْوُ قَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَنَحْوُ قوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يؤخذ منها} لأن(2/353)
هَذِهِ كَالْجُزْءِ مِنَ الْفِعْلِ وَتَخَطَّاهَا الْعَامِلُ وَلَيْسَتْ كَـ "إِنْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا}
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه}
قُلْنَا الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الِاسْمِ كَمَا أَنَّ التَّقْدِيرَ "فَأَنْتُمَا قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" وَ"فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ" يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّ صَغَتْ لَوْ جُعِلَ نَفْسُهُ الْجَزَاءَ لَلَزِمَ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنَ الشَّرْطِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَهَذَا غَيْرُ مُسَوَّغٍ هُنَا وَلَوْ جَازَ لَجَازَ أَنْ تَقُولَ: أَنْتُمَا إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ صَغَتْ أَوْ فَصَغَتْ قُلُوبُكُمَا لَكِنِ الْمَعْنَى: إِنْ تَتُوبَا فَبَعْدَ صَغْوٍ مِنْ قُلُوبِكُمَا لِيُتَصَوَّرَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالُ مَعَ بَقَاءِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُمْكِنِ وَأَنَّ يَنْتَقِمُ لَوْ جُعِلَ وَحْدَهُ جَزَاءً لَمْ يَدُلْ عَلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الْآنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ
الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَنْ يَتَوَقَّفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ جَوَابُهُ بِوُقُوعِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَقَوْلِكَ: إِنْ زُرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَالْإِحْسَانُ إِنَّمَا اسْتُحِقَّ بِالزِّيَارَةِ وَقَوْلِكَ: إِنْ شَكَرْتَنِي زُرْتُكَ فَالزِّيَارَةُ إِنَّمَا اسْتُحِقَّتْ بِالشُّكْرِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ
وَقَدْ أَوْرَدَ على هذا آيات كريمات
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَهُمْ عِبَادُهُ عَذَّبَهُمْ أَوْ رَحِمَهُمْ(2/354)
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم} وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ غَفَرَ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فقد صغت قلوبكما} وَصَغْوُ الْقُلُوبِ هُنَا لِأَمْرٍ قَدْ وَقَعَ فَلَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى ثُبُوتِهِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ أَجْوِبَةً وَإِنَّمَا جَاءَتْ عَنِ الْأَجْوِبَةِ الْمَحْذُوفَةِ لِكَوْنِهَا أَسْبَابًا لَهَا
فَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ: فَتَحَكَّمْ فِيمَنْ يَحِقُّ لَكَ التَّحَكُّمُ فِيهِ وَذَكَرَ الْعُبُودِيَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ القدرة
وقوله: {وإن تغفر} فَالْجَوَابُ: فَأَنْتَ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِأَلَّا تُجَازِيَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فكمالك غي مُفْتَقِرٍ إِلَى شَيْءٍ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَازَاةَ لَا يَجِبُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مَوْقُوفًا عَلَى الشَّرْطِ أَبَدًا وَلَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَوْقُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ أَبَدًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَلَا أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الشَّرْطِ دَائِمًا إِلَى الْجَزَاءِ نِسْبَةَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ بَلِ الْوَاجِبُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ بِحَيْثُ إِذَا فُرِضَ حَاصِلًا لَزِمَ مَعَ حُصُولِهِ حُصُولُ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاءُ قَدْ يَقَعُ لَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ كَقَوْلِ الطَّبِيبِ مَنِ اسْتَحَمَّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ احتقنت الحرارة باطن حسده لِأَنَّ احْتِقَانَ الْحَرَارَةِ قَدْ يَكُونُ لَا عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا
وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ أَوْ مُسْتَحِيلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(2/355)
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العابدين}
وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ سَبَبًا فِي الْجَزَاءِ وَوَصْلَةً إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أجوركم} أَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ من حسنة فمن الله} أَوْ كَانَ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ فَلَا يَقَعُ إِلَّا مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ عَلَى اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فلن يهتدوا إذا أبدا} إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ سَبَبًا لِلضَّلَالِ وَمُفْضِيَةً إِلَيْهِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ مُفْضِيًا إِلَى الدَّعْوَةِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لكم أعداء} وَعَلَى هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قرح مثله} فَإِنَّ التَّأْوِيلَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَمَعَ اعْتِبَارِ قَرْحٍ قَدْ مَسَّهُمْ قَبْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ كَانَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ إن مت على اإسلام دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لِلنُّحَاةِ فِيهِ تَقْدِيرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِعْلَ يُغَيَّرُ لَفْظًا لَا مَعْنًى فَكَانَ الْأَصْلُ إِنْ تَمُتْ مُسْلِمًا تَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَغَيَّرَ لَفْظَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَغَيُّرُ مَعْنًى وَإِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَلَبَ مَعْنَاهُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَبَقِيَ لَفْظُهُ عَلَى حَالِهِ(2/356)
وَالْأَوَّلُ أَسْهَلُ لِأَنَّ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ أَسْهَلُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَعْنَى
وَذَهَبَ الْمِبْرَدُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ لَفْظُ كَانَ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْمُضِيِّ لِأَنَّ كَانَ جُرِّدَتْ عِنْدَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي فَلَمْ تُغَيِّرْهَا أَدَوَاتُ الشَّرْطِ وَقَالَ إِنَّ كَانَ مُخَالِفَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِسَائِرِ الْأَفْعَالِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إن كنت قلته} {وإن كان قميصه} وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا
فقال ابن عصفور والشلوبين وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِنْ أَكُنْ كُنْتُ قُلْتُهُ أَيْ إِنْ أَكُنْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَوْصُوفًا بِأَنِّي كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فَفِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ مَعَ هَذَا وَلَيْسَتْ "كَانَ" الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ فِعْلُ الشَّرْطِ
قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَلْ {كُنْتُ} بَعْدَ {إِنْ} مَقْلُوبَةُ الْمَعْنَى إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَمَعْنَى: {إِنْ كُنْتُ} إِنْ أَكُنْ فَهَذِهِ الَّتِي بَعْدَهَا هِيَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الِاسْتِقْبَالُ لَا أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ وَأَبْطَلُوا مَذْهَبَ الْمُبَرِّدِ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ جَاءَتْ مُرَادًا بها الاستقبال كقوله تعالى: {وإن وإن كنتم جنبا فاطهروا}
وَقَدْ نُبِّهَ فِي "التَّسْهِيلِ" فِي بَابِ الْجَوَازِمِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَاخْتَارَ فِي كَانَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِذْ قَالَ وَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ غَيْرُ مُسْتَقْبَلِ الْمَعْنَى بِلَفْظِ كَانَ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا مُؤَوَّلًا(2/357)
وَاسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ "لَوْ" وَ"لَمَّا" الشَّرْطِيَّتَيْنِ فَإِنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَاضِيًا فَتَعَيَّنَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إِلَى {إِنْ وَهَبَتْ} فَوَقَعَ فِيهَا "أَحْلَلْنَا" الْمَنْطُوقُ بِهِ أَوِ الْمُقَدَّرُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ الْإِحْلَالِ قَدِيمًا فَهُوَ مَاضٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ: "إِنْ وَهَبَتْ فَقَدْ حَلَّتْ" فَجَوَابُ الشَّرْطِ حَقِيقَةُ الْحِلِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْإِحْلَالِ لَا الْإِحْلَالُ نَفْسِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الظَّرْفَ مِنْ قَوْلِكَ: "قُمْ غَدًا" لَيْسَ هُوَ لِفِعْلِ الْأَمْرِ بَلْ لِلْقِيَامِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ
وَقَالَ الْبَيَانِّيُونَ: يَجِيءُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَسْبَابٍ
مِنْهَا: إِيهَامُ جَعْلِ غَيْرِ الْحَاصِلِ كَالْحَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رأيت ثم رأيت نعيما}
وَمِنْهَا: إِظْهَارُ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ فِي وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ ظَفِرْتَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فَذَاكَ وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إن أردن تحصنا} أَيِ: امْتِنَاعًا مِنَ الزِّنَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَمْ يَقُلْ يُرِدْنَ إِظْهَارًا لِتَوْفِيرِ رِضَا اللَّهِ وَرَغْبَةً فِي إِرَادَتِهِنَّ التَّحْصِينَ
وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَنْ يُخَاطِبَ وَاحِدًا وَمُرَادُهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أشركت ليحبطن عملك}(2/358)
الرَّابِعَةُ: جَوَابُ الشَّرْطِ أَصْلُهُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ وَقَدْ يَقَعُ مَاضِيًا لَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ: إِنْ أَكْرَمْتُكَ فَقَدْ أَكْرَمْتَنِي اكْتِفَاءً بِالْمَوْجُودِ عَنِ الْمَعْدُومِ
وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وَمَسُّ الْقَرْحِ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ وَالْمَعْنَى: إِنْ يُؤْلِمْكُمْ مَا نَزَلْ بِكُمْ فَيُؤْلِمُهُمْ مَا وَقَعَ فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْأَلَمِ الْوَاقِعِ لِجَمِيعِهِمْ فَوَقَعَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَلَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كنت قلته فقد علمته} فَعَلَى وُقُوعِ الْمَاضِي مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِيهِمَا دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أَيْ: {إِنْ كُنْتُ قلته} تَكُنْ قَدْ عَلِمْتَهُ وَهُوَ عُدُولٌ إِلَى الْجَوَابِ إِلَى مَا هُوَ أَبْدَعُ مِنْهُ كَمَا سَبَقَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كنا صادقين} فَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا وَلَوْ ظَهَرَتْ لَكَ بَرَاءَتُنَا بِتَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيْنَا وَقَدْ أَتَوْهُ بِدَلَائِلَ كَاذِبَةٍ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ وَقَرَّعُوهُ بقولهم: {إنك لفي ضلالك القديم} وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ قَتْلِهِ ثُمَّ رَمْيُهُمْ لَهُ فِي الْجُبِّ أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَلَوْ كُنَّا صادقين} عِنْدَكَ
الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُ الشَّرْطِ: حُرُوفٌ وَهِيَ إِنْ وَأَسْمَاءٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَاهَا ثُمَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ بظرف كمن وَمَا وَأَيُّ وَمَهْمَا وَأَسْمَاءٌ هِيَ ظُرُوفٌ أَيْنَ وأينما ومتى وحيثما وإذ ما(2/359)
وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ دَلَالَةُ "إِنْ" لِبَسَاطَتِهَا وَلِهَذَا كَانَتْ أُمَّ الْبَابِ
وَمَا سِوَاهَا فَمُرَكَّبٌ مِنْ مَعْنَى "إِنْ" وَزِيَادَةٍ مَعَهُ فَمَنْ مَعْنَاهُ كُلٌّ فِي حُكْمِ إِنْ وَمَا مَعْنَاهُ كُلُّ شيء إن وأينما وحيثما يدلان على المكان وعلى إن وإذ ما ومتى يَدُلَّانِ عَلَى الشَّرْطِ وَالزَّمَانِ
وَقَدْ تَدْخُلُ "مَا" عَلَى "إِنْ" وَهِيَ أَبْلَغُ فِي الشَّرْطِ مِنْ "إن" ولذلك تتلقى بِالنُّونِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْمُضَارِعُ نَحْوُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قوم خيانة فانبذ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كلاهما}
وَمِمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ "إِذَا" وَهِيَ كَـ "إِنْ" وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ "إِنْ" تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَلِهَذَا يَقْبُحُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ كَانَ كَذَا وَإِنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ آتِكَ وَتَكُونُ "إِذَا" لِلْجَزْمِ فَوُقُوعُهُ إِمَّا تَحْقِيقًا نَحْوُ: إذا أطلعت الشمس كان كذا أو اعتبارا كنا سَنَذْكُرُهُ
قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَلِذَلِكَ إِذَا قِيلَ: "إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأَنْتِ طَالِقٍ" وَقَعَ الطَّلَاقُ في الحال عند مالك لأنه شيء لابد مِنْهُ وَإِنَّمَا يُتَوَقَّفُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِمَا
وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ "إِنْ" فِي مَقَامِ الْجَزْمِ لِأَسْبَابٍ:
مِنْهَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقَةِ وَضْعِ الشُّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ الَّذِي يُوضَعُ شَرْطُهُ تَقْدِيرًا لِتَبْيِينِ(2/360)
مَشْرُوطِهِ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ للرحمن ولد} وقوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة}
وَمِنْهَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقِ تَبْيِينِ الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَأْنَسُ بِهِ الْمُخَاطِبُ وَإِظْهَارًا لِلتَّنَاصُفِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ ربي}
وَمِنْهَا: تَصْوِيرُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِ الشَّرْطِ كَفَرْضِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحِيلِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} والضمير للأصنام ويحتمل منه ما سبق فيه قوله تعالى: {إن كان للرحمن ولد}
وَمِنْهَا: لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ فِي ارْتِكَابِ مَدْلُولِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الِانْتِفَاءِ حَقِيقٌ أَلَّا يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كنتم قوما مسرفين} فيمن يكسر "إِنْ" فَاسْتُعْمِلَتْ "إِنْ" فِي مَقَامَ الْجَزْمِ بِكَوْنِهِمْ "مُسْرِفِينَ" لِتَصَوُّرِ أَنَّ الْإِسْرَافَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا فَأَجْرَاهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ
وَمِنْهَا: تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَهْيِيجُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إياه تعبدون} وَالْمَعْنَى: عِبَادَتُكُمْ لِلَّهِ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَكُمْ لَهُ فَإِنْ كُنْتُمْ مُلْتَزِمِينَ عِبَادَتَهُ فَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَاشْكُرُوهُ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُورَدُ فِي الْحِجَاجِ وَالْإِلْزَامِ تَقُولُ: "إِنْ كَانَ لِقَاءُ اللَّهِ حَقًّا فَاسْتَعَدَّ لَهُ"
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مؤمنين}(2/361)
وَمِنْهَا: التَّغْلِيبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي ريب من البعث} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا} فَاسْتَعْمَلَ "إِنْ" مَعَ تَحَقُّقِ الِارْتِيَابِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَابِينَ فَغَلَّبَ غَيْرَ الْمُرْتَابِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُرْتَابِينَ لِأَنَّ صُدُورَ الِارْتِيَابِ مِنْ غَيْرِ الِارْتِيَابِ مَشْكُوكٌ فِي كَوْنِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَ "إِنْ" عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {إِنْ عُدْنَا فِي ملتكم}
وَاعْلَمْ أَنَّ "إِنْ" لِأَجْلِ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ كَانَ جَوَابُهَا مُعَلَّقًا عَلَى مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ فَيُخْتَارُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمُحْتَمِلِ لِلْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ لِيُطَابِقَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى فَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي لَمْ يُعْدَلْ إِلَّا لِنُكْتَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لو تكفرون} فَأَتَى الْجَوَابُ مُضَارِعًا وَهُوَ "يَكُونُوا" وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ "يَبْسُطُوا" مُضَارِعًا أَيْضًا وَأَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ "وَدُّوا" بِلَفْظِ الْمَاضِي وَكَانَ قِيَاسَهُ الْمُضَارِعُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ وِدَادَتَهُمْ لِكُفْرِهِمْ مِنَ الشَّكِّ فِيهَا مَا يَحْتَمِلُهُ أَنَّهُمْ إِذَا ثَقِفُوهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ أَتَى فِيهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهَا وَكَوْنَهُمْ أَعْدَاءً وَبَاسِطِي الْأَيْدِي وَالْأَلْسُنِ بِالسُّوءِ مَشْكُوكٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ فَلَمْ يُتَحَقَّقْ وُقُوعُهُ
وَأَمَّا "إِذَا" فَلَمَّا كَانَتْ فِي الْمَعَانِي الْمُحَقَّقَةِ غُلِّبَ لَفْظُ الْمَاضِي مَعَهَا لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْوُقُوعِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فِي الْمُضَارِعِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ(2/362)
تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} بِلَفْظِ الْمَاضِي مَعَ "إِذَا" فِي جَوَابِ الْحَسَنَةِ حَيْثُ أُرِيدَ مُطْلَقُ الْحَسَنَةِ لَا نَوْعٌ مِنْهَا وَلِهَذَا عُرِّفَتْ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ وَلَمْ تُنَكَّرْ كَمَا نُكِّرَ الْمُرَادُ بِهِ نَوْعٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عند الله} وَكَمَا نُكِّرَ الْفِعْلُ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله} وَبِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مَعَ إِنْ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ وَتَنْكِيرُهَا بِقَصْدِ النَّوْعِ
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يقنطون} لَفْظُ الْمَاضِي مَعَ "إِذَا" وَالْمُضَارِعُ مَعَ "أَنْ" إِلَّا أَنَّهُ نُكِّرَتِ الرَّحْمَةُ لِيُطَابِقَ مَعْنَى الْإِذَاقَةِ بِقَصْدِ نَوْعٍ مِنْهَا وَالسَّيِّئَةُ بِقَصْدِ النَّوْعِ أَيْضًا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} أتى بـ "إذا" لَمَّا كَانَ مَسُّ الضُّرِّ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُحَقَّقًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط} فإنه لم يقيد مس الشر ها هنا بَلْ أَطْلَقَهُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كان يؤوسا} فَإِنَّ الْيَأْسَ إِنَّمَا حَصَلَ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَسِّ الضُّرِّ لَهُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِإِذَا أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَنْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عريض} فَإِنَّهُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِ وَضَعْفِ احْتِمَالِهِ فِي مَوْقِعِ الشَّرِّ أَعْرَضَ وَالْحَالُ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا تَحَقَّقَ وقوعه كان يئوسا وأما قوله: {إن امرؤ هلك} مَعَ أَنَّ الْهَلَاكَ مُحَقَّقٌ لَكِنْ جُهِلَ وَقْتُهُ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِإِنْ(2/363)
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} فَأَتَى بِإِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلشَّكِّ وَالْمَوْتُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ ولكن وقته مَعْلُومٍ فَأُورِدَ مَوْرِدَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين} مَعَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ مُحَقَّقَةٌ فَجَاءَ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ كَيْفَ يَقُولُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى جِهَةِ الِاتِّبَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إلا أن يشاء الله} فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مُخْبَرٍ بِهِ مَقْطُوعًا أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ" وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْإِبْهَامِ فِي وَقْتِ اللُّحُوقِ مَتَى يَكُونُ
تَنْبِيهٌ: سَكَتَ الْبَيَانِّيُونَ عَمَّا عَدَا "إِذَا" وَ"إِنْ" وَأَلْحَقَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ وَابْنُ الْحَاجِبِ "مَتَى" بِإِنْ قَالَ: لَا تَقُولُ: مَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ بَلْ تَقُولُ: مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ "مَتَى" وَ"إِذْ": إن متى للوقت المبهم وَإِذَا لِلْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ وَلِإِبْهَامِ مَتَى جُزِمَ بِهَا دُونَ إِذَا
السَّادِسَةُ: قَدْ يُعَلَّقُ الشَّرْطُ بِفِعْلٍ مُحَالٍ يَسْتَلْزِمُهُ مُحَالٌ آخَرُ وَتَصْدُقُ الشرطية دون(2/364)
مُفْرَدَيْهَا أَمَّا صِدْقُهَا فَلِاسْتِلْزَامُ الْمُحَالِ وَأَمَّا كَذِبُ مُفْرَدَيْهَا فَلِاسْتِحَالَتِهِمَا
وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أول العابدين}
وقوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا}
وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون} الْآيَةَ
وَفَائِدَةُ الرَّبْطِ بِالشَّرْطِ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ اسْتِلْزَامِ إِحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ لِلْأُخْرَى وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ فَالْمَلْزُومُ كَذَلِكَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الشَّرْطَ يُعَلَّقُ بِهِ الْمُحَقِّقُ الثُّبُوتِ وَالْمُمْتَنِعُ الثُّبُوتِ وَالْمُمْكِنُ الثُّبُوتِ
السَّابِعَةُ: الِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مات أو قتل انقلبتم} وقوله تعالى: {أفإن مت فهم الخالدون} وَنَظَائِرُهُ فَالْهَمْزَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَدُخُولُهَا عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ وَالْفِعْلُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ لَيْسَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ وَإِنَّمَا هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَالْهَمْزَةُ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ تَقْدِيرًا فَيُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا بَلِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: "أَأَنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أَنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ"؟ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنْكَارُ انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ
وَيَقُولُ يُونُسَ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا هُوَ: "أَتَنْقَلِبُونَ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ"
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: قَالَ يونس: الهمزة في مثل هذا أحقها أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ(2/365)
الشرط تقديره: "أتنقلبون عَلَى أَعْقَابِكُمْ أَنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ" لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ أَوِ التَّوْبِيخُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْحَقُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّكَ لَوْ قَدَّمْتَ الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ وَجْهٌ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: أَتَزُورُنِي فَإِنْ زُرْتُكَ ومنه قوله: {أفإن مت فهم الخالدون} وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ وَإِنَّ لها صدر الكلام فقد وَقَعَا فِي مَوْضِعِهِمَا وَالْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ انْتَهَى
وَقَدْ رَدَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى يُونُسَ بِقَوْلِهِ: {أفإن مت فهم الخالدون} لا يجوز في {فهم} أن يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ فَإِنْ مِتَّ؟ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِئَلَّا يَبْقَى الشَّرْطُ بِلَا جَوَابٍ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ لِأَنَّ الْفَاءَ الْمُتَّصِلَةَ بِإِنْ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ وَلَا يَقُولُونَ: أَنْتَ ظَالِمٌ فَإِنْ فَعَلْتَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا دَخَلَتْ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ
الثَّامِنَةُ: إِذَا تَقَدَّمَ أَدَاةَ الشَّرْطِ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَزَاءً ثُمَّ ذُكِرَ فِعْلُ الشَّرْطِ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ جَوَابٌ نَحْوُ: أَقُومُ إِنْ قُمْتَ وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَلَا تَقْدِيرَ عند الكوفيين بل المقدم هو جواب وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ دَلِيلُ الْجَوَابِ
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لَدَخَلَتْ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ لَمَا افْتَرَقَ الْمَعْنِيَّانِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فَفِي التَّقَدُّمِ بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَبَرِ(2/366)
ثُمَّ طَرَأَ التَّوَقُّفُ وَفِي التَّأْخِيرِ بُنِيَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى الشَّرْطِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ وَتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ وَنُوزِعَا فِي ذَلِكَ بَلْ مَعَ التَّقْدِيمِ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَمْ يُقِرْ بِالْعَشَرَةِ ثُمَّ أَنْكَرَ مِنْهَا دِرْهَمًا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ ثُمَّ زَعَمَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِوُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كنتم إياه تعبدون}
التَّاسِعَةُ: إِذَا دَخَلَ عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ وَاوُ الْحَالِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى جَوَابٍ نَحْوُ: أَحْسِنْ إِلَى زَيْدٍ وَإِنْ كَفَرَكَ وَاشْكُرْهُ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ أَيْ أَحْسِنْ إِلَيْهِ كَافِرًا لَكَ وَاشْكُرْهُ مُسِيئًا إِلَيْكَ
فَإِنْ أُجِيبَ الشَّرْطُ كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً لَا لِلْحَالِ نَحْوُ: أَحْسِنْ إِلَيْهِ وَإِنْ كَفَرَكَ فَلَا تَدَعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ وَاشْكُرْهُ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَأَقِمْ عَلَى شُكْرِهِ وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ هُنَا لِلْحَالِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جَوَابٌ
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَ فَضْلَةٌ وَأَصْلُ وَضْعِ الْفَضْلَةِ أَنْ تَكُونَ مُفْرَدًا كَالظَّرْفِ وَالْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ كذلك لم يجب الشرط إذا وقع مَوْقِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ لَوْ أُجِيبَ لَصَارَ جُمْلَةً وَالْحَالُ إِنَّمَا هِيَ فَضْلَةٌ فَالْمُفْرِدُ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ وَالشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً فَإِنَّهُ يَجْرِي عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْآحَادِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى جَوَابِهِ احْتِيَاجَ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ(2/367)
العاشرة: الشرط والجزاء لابد أن يتغاير لَفْظًا وَقَدْ يَتَّحِدَانِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ كَقَوْلِهِ: {إلا من تاب وآمن} والآية التي تليها: {من تاب وعمل صالحا} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} فَقِيلَ عَلَى حَذْفِ الْفِعْلِ أَيْ مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مُعْرِضَةٌ لَهُ لَا يَحُولُ بينه بينها حائل ومثله: {فإذا قرأت القرآن} أَيْ: أَرَدْتَ وَيَدُلُّ لِهَذَا تَأْكِيدُ التَّوْبَةِ بِالْمَصْدَرِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رحله فهو جزاؤه} فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَمَا هِيَ خَبَرُهُ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَالْأَصْلُ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رِحْلِهِ فَهُوَ هُوَ فَوُضِعَ الْجَزَاءُ مَوْضِعَ هُوَ
وَقَوْلُهُ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ" فَلَا يَتَّحِدُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ
وَقَدْ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تدخل النار فقد أخزيته} وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فقد فاز} وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}(2/368)
وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ تَفْخِيمُ الْجَزَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْكَامِلُ الْبَالِغُ النِّهَايَةِ يَعْنِي مَنْ يَبْخَلُ فِي أَدَاءِ رُبُعِ الْعُشْرِ فَقَدْ بَالَغَ فِي الْبُخْلِ وَكَانَ هُوَ الْبَخِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ
الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: فِي اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ وَقَدْ عَدُّوا مِنْ ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً بَعْضُهَا مُسْتَقِيمٌ وَبَعْضُهَا بِخِلَافِهِ
الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وريحان} الْآيَةَ
قَالَ الْفَارِسِيُّ: قَدِ اجْتَمَعَ هُنَا شَرْطَانِ وَجَوَابٌ وَاحِدٌ فَلَيْسَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ جوابا لأما أو لإن ولا يجوز أن يكون جواب لَهُمَا لِأَنَّا لَمْ نَرَ شَرْطَيْنِ لَهُمَا جَوَابٌ وَاحِدٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَجَازَ شَرْطٌ وَاحِدٌ لَهُ جَوَابَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لـ "إن" دُونَ "أَمَّا" لِأَنَّ "أَمَّا" لَمْ تُسْتَعْمَلْ بِغَيْرِ جَوَابٍ فَجُعِلَ جَوَابًا لِأَمَّا فَتُجْعَلُ أَمَّا وَمَا بَعْدَهَا جَوَابًا لِإِنْ
وَتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي كَوْنِ الْجَوَابِ لِأَمَّا
وَقَدْ سَبَقَهُمَا إِلَيْهِ إِمَامُ الصِّنَاعَةِ سِيبَوَيْهِ وَنَازَعَ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي عَدِّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُقْرَنَ الثَّانِي بِفَاءِ الْجَوَابِ لَفْظًا نَحْوُ إِنْ تَكَلَّمَ زَيْدٌ فَإِنْ أَجَادَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي وَجَوَابَهُ جَوَابُ الْأَوَّلِ أَوْ يُقْرَنَ بِفَاءِ الْجَوَابِ تَقْدِيرًا كَهَذِهِ الْآيَةِ الشريفة لأن الأصل عند النجاة مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَفَّى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَجَزَاؤُهُ رَوْحٌ فَحُذِفَ مَهْمَا وَجُمْلَةُ شَرْطِهَا وَأُنِيبَ عَنْهَا "أَمَّا"(2/369)
فَصَارَ "أَمَّا فَإِنْ كَانَ" مُفْرِدًا مِنْ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلِي أَدَاةَ الشَّرْطِ بِغَيْرِ فَاصِلٍ وَثَانِيهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْعَطْفِ فَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ سَبَبَيْنِ وَهُمَا الْمُتَعَاطِفَانِ فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا مِنْ بَابِ الْعَطْفِ حَفَظُوا عَلَيْهَا الْمَعْنَى الْآخَرَ وَهُوَ التَّوَسُّطُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا فِي حَيِّزِهَا عَلَيْهَا إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ فَقُدِّمَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهَا كَالْجَزَاءِ الْوَاحِدِ كَمَا قُدِّمَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} فَصَارَ {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ} فَحُذِفَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي جَوَابِ إِنْ لِئَلَّا يلتقي فاءان فتخلص أَنَّ جَوَابَ أَمَّا لَيْسَ مَحْذُوفًا بَلْ مُقَدَّمًا بَعْضُهُ عَلَى الْفَاءِ فَلَا اعْتِرَاضَ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يريد أن يغويكم} وإنما يكون من هذا لو كان {لا ينفعكم نصحي} مُؤَخَّرًا بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ أَوْ لَازِمًا أَنْ يُقَدَّرَ كَذَلِكَ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ وأما الثاني فلأن {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} جُمْلَةٌ تَامَّةٌ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَمَنْ شَرْطٌ مُؤَخَّرٌ وَجَزَاءٌ مُقَدَّمٌ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَالْمُقَدَّمُ دَلِيلُ الْجَزَاءِ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ فَيُقَدَّرُ بَعْدَ شَرْطِهِ فَلَمْ يَقَعِ الشَّرْطُ الثَّانِي مُعْتَرِضًا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْتَرِضِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ لَا حَذْفَ وَالْجَوَابُ مُقَدَّمٌ وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ الْحَذْفُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ(2/370)
وهنا فائدة وهي أنه لم عَدَلَ عَنْ "إِنْ نَصَحْتُ" إِلَى {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ} ؟ وَكَأَنَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ أَرَادَ الْإِغْوَاءَ
وَقَدْ أَحْسَنَ الزمخشري فَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الِاعْتِرَاضِ فِي الْآيَةِ بَلْ سَمَّاهُ مُرَادِفًا هُوَ صَحِيحٌ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي}
وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْصَحَ لَكُمْ مُرَادًا ذَلِكَ مِنْكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وَهُوَ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِرَاضِ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الْآيَةَ وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا لِتَقَدُّمِ الْجَزَاءِ أَوْ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ فَالِاحْتِمَالُ فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَرْطٌ فِي الْإِحْلَالِ هِبْتُهَا نَفْسَهَا وَفِي الْهِبَةِ إِرَادَةُ الِاسْتِنْكَاحِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلَلْنَاهَا لَكَ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا لِأَنَّ إِرَادَتَهُ هِيَ قَبُولُ الْهِبَةِ وما به تتم
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ مُقَيِّدٌ لِلْأَوَّلِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَحْلَلْنَاهَا فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْأَوَّلِ وَيُقَدَّرُ جَوَابُ الثَّانِي مَحْذُوفًا
الْآيَةُ الرابعة: قوله تعالى: {وقال موسى يا قوم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كنتم(2/371)
مسلمين} وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ اقْتَرَنَ بِجَوَابِهِ ثُمَّ أَتَى بِالثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا ذُكِرَ جَوَابُ الثَّانِي تَالِيًا لَهُ فَأَيُّ اعْتِرَاضٍ هُنَا لِهَذَا قَالَ الْمُجَوِّزُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لِلْأَوَّلِ وَجَوَابَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ: "إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَإِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا" فَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ السَّابِقِ عَلَيْهِ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. إِنْ يسألكموها فيحفكم تبخلوا} وَكَلَامُ ابْنِ مَالِكٍ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ وليس كذلك بل عطف هل الشَّرْطِ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ
الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَعَذَّبْنَا} وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَالشَّرْطَانِ وَهُمَا "لَوْلَا" وَ"لَوْ" قَدِ اعْتَرَضَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا إِلَّا جَوَابٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُمَا وَهُوَ {لَعَذَّبْنَا}
الْآيَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن ترك خيرا الوصية} وَهَذِهِ تَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ} عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ أَيْ: فَالْوَصِيَّةُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَأَمَّا إِذَا رُفِعَتِ {الْوَصِيَّةُ} بِـ {كُتِبَ} فَهِيَ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي حَذْفِ الْجَوَابَيْنِ(2/372)
تنبيه في ضابط اعتراض الشرط على الشرط
ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ضَابِطًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِذَا دَخَلَ الشَّرْطُ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي بِالْفَاءِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ جَوَابُهُ وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عليهم}
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْفَاءِ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي متأخرا في الوجود عن الأول كان مقدر بِالْفَاءِ وَتَكُونُ الْفَاءُ جَوَابَ الْأَوَّلِ وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ جَوَابَ الثَّانِي نَحْوُ: إِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ إِنْ صَلَّيْتَ فِيهِ فَلَكَ أَجْرٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ صَلَّيْتَ فِيهِ فَحُذِفَتِ الْفَاءُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي نِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَمَا قَبْلَهُ جَوَابُهُ وَالْفَاءُ مُقَدَّرَةٌ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نصحي} تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَإِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت} كَانَ الْحُكْمُ رَاجِعًا إِلَى التَّقْدِيرِ وَالنِّيَّةِ فَأَيُّهُمَا قَدَّرْتَهُ الشَّرْطَ كَانَ الْآخَرُ جَوَابًا لَهُ
وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفَاءِ كَانَ الْمُتَقَدِّمَ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمُتَأَخِّرَ فَإِنْ قَدَّرْنَا الْهِبَةَ شَرْطًا كَانَتِ الإرادة جوابا له وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا وَإِنْ قَدَّرْنَا الْإِرَادَةَ شَرْطًا كَانَتِ الْهِبَةُ جَزَاءً وَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا فَإِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبي(2/373)
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَهِيَ حَلَالٌ لَكَ وَقِسْ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ
فائدة
قد يسمى الشرط يمينا
قال ابن حني فِي كِتَابِ "الْقَدِّ": يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ جُمْلَةٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى أُخْرَى وَقَدْ جَرَتِ الْجُمْلَتَانِ مَجْرَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَمِنْ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ!
الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ
وَهُمَا جُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْأَسَالِيبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ التَّأْكِيدِ وَالْقَسَمُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ وَالِالْتِزَامُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ أَوْ لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الْمُضِيَّ أَوِ الِاسْتِقْبَالَ وَفَائِدَتُهُ تَحَقُّقُ الْجَوَابِ عِنْدَ السَّامِعِ وتأكده ليزول عنه التردد فيه
الأمر
الْأَمْرُ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ بِغَيْرِ الْحَرْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {ادخلوا مساكنكم} {اخرجوا من دياركم} {كلوا من ثمره}(2/374)
وَجَاءَ بِالْحَرْفِ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ بعضهم: {فبذلك فلتفرحوا} وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ إِلَى الْخِطَابِ فَكَأَنَّهُ لَا غَائِبٌ وَلَا حَاضِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا} فِيهِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ كَخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فَكَأَنَّهُمَا اتَّحَدَا فِي الْحُكْمِ وَوُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَالِاتِّبَاعِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فِي الْمَعْنَى فَأَتَى بِاللَّامِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ قَوْمًا غُيَّبًا وَبِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ حُضُورًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الآية: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} الْآيَةَ فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ مُخَاطَبِينَ ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبرحمته} فبذلك يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُمْ فَصَارُوا مُخَاطَبِينَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
وَنَظِيرُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ فِي كَلِمَتَيْنِ وَحَالَتَيْنِ وهذا في كلمة وَاحِدَةٍ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
ومنها قوله تعالى: {ليقض علينا ربك}
النَّفْيُ
هُوَ شَطْرُ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا إِثْبَاتٌ أَوْ نَفْيٌ وَفِيهِ قَوَاعِدُ:(2/375)
الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَحْدِ قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ كَانَ النَّافِي صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ سُمِّيَ كَلَامُهُ نَفْيًا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ مَا نَفَاهُ كَانَ جَحْدًا فَالنَّفْيُ أَعَمُّ لِأَنَّ كُلَّ جَحْدٍ نَفْيٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْجَحْدُ نَفْيًا لِأَنَّ النَّفْيَ أَعَمُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّفْيُ جَحْدًا
فَمِنَ النَّفْيِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}
ومن الجحد نفي فرعون وقومه آيات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} أَيْ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَكَذَلِكَ إِخْبَارُ اللَّهِ عَمَّنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} فأكذبهم اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}
وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا} فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}
قَالَ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْتُهُ
الثَّانِيَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّفْيِ عَنِ الشَّيْءِ صِحَّةَ اتِّصَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ(2/376)
الشَّيْءِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} {وما كان ربك نسيا} {لا تأخذه سنة ولا نوم} {وهو يطعم ولا يطعم} وَنَظَائِرُهُ
وَالصَّوَابُ أَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَنَفْيُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ
الثَّالِثَةُ: الْمَنْفِيُّ مَا وَلِيَ حَرْفَ النَّفْيِ فَإِذَا قُلْتَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا كُنْتَ نَافِيًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ وَإِذَا قُلْتَ: مَا أَنَا ضَرْبَتُهُ كُنْتَ نَافِيًا لِفَاعِلِيَّتِكَ لِلضَّرْبِ فَإِنْ قُلْتَ: الصُّورَتَانِ دَلَّتَا عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
قُلْتُ: مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن الأولى نفت ضربا خاص وَهُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ ضرب غيرك ولا عدمه إذا نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ وَلَا ثُبُوتَهُ وَالثَّانِيَةُ نَفَتْ كَوْنَكَ ضَرَبْتَهُ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ غَيْرَكَ ضَرَبَهُ بِالْمَفْهُومِ
الثَّانِي: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ ضَرْبِكِ لَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالثَّانِيَةَ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِهِ بِوَاسِطَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}(2/377)
الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَامًّا وَنَفَيْتَهُ فَإِنْ تَقَدَّمَ حَرْفُ النَّفْيِ أَدَاةَ الْعُمُومِ كَانَ نَفْيًا لِلْعُمُومِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْإِثْبَاتَ الْخَاصَّ فَإِذَا قُلْتَ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّ ذَا بَلْ بَعْضَهُ اسْتَقَامَ وَإِنْ تَقَدَّمَ صِيغَةُ الْعُمُومِ عَلَى النَّفْيِ فَقُلْتَ: كُلُّ ذَا لَمْ أَفْعَلْهُ كَانَ النَّفْيُ عَامًّا وَيُنَاقِضُهُ الْإِثْبَاتُ الْخَاصُّ
وَحَكَى الْإِمَامُ فِي "نِهَايَةِ الْإِيجَازِ" عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهُ قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ كَمَا لَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّفْيِ لَا يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ
الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُهُ كَثِيرَةٌ قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَأَصْلُهَا "لا" و"ما" لِأَنَّ النَّفْيَ إِمَّا فِي الْمَاضِي وَإِمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاسْتِقْبَالُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي أَبَدًا وَ"لَا" أَخَفُّ مِنْ "مَا" فَوَضَعُوا الْأَخَفَّ لِلْأَكْثَرِ
ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا وَاحِدًا مُسْتَمِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا فِيهِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ النَّفْيُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ وَاخْتَارُوا لَهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: مَا، لَمْ، لَنْ، لَا
وأما "إن" و"لما" فليسا بأصليين(2/378)
فـ "ما" و"لا" في الماضي والمستقبل متقابلان و"لم "و "لن" فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ وَ"لَمْ" كَأَنَّهُ مأخوذ من "لا" و"ما" لِأَنَّ "لَمْ" نَفْيٌ لِلِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا فَأَخَذَ اللَّامَ مِنْ "لَا" الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمِيمَ مِنْ "مَا" الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمَاضِي وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِي "لَمِ" الْمُسْتَقْبَلَ وَالْمَاضِيَ وَقَدَّمَ اللَّامَ عَلَى الْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَا هُوَ أَصْلُ النَّفْيِ وَلِهَذَا يُنْفَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فَيُقَالُ: لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو وَلَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا
أَمَّا "لَمَّا" فتركيب بعد تركيب كأنه قال: "لم" و"ما" لِتَوْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَتُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا وَلِهَذَا تُفِيدُ لَمَّا الِاسْتِمْرَارَ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا قُلْتَ نَدِمَ زِيدٌ وَلَمْ يَنْفَعْهُ النَّدَمُ أَيْ حَالَ النَّدَمِ لَمْ يَنْفَعْهُ وَإِذَا قُلْتَ: نَدِمَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَنْفَعْهُ النَّدَمُ أَيْ حَالَ النَّدَمِ وَاسْتَمَرَّ عَدَمُ نَفْعِهِ
قُلْتُ: وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا نُفِيَ بِهَا الْفِعْلُ اخْتَصَّتْ بِنَفْيِ الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُتَّسَعَ فِيهَا فَيُنْفَى بِهَا الْحَاضِرُ نَحْوُ: مَا قَامَ وَمَا قَعَدَ
قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ بِلَمْ وَمَا أَنَّ النَّفْيَ بِمَا كَقَوْلِكَ: مَا قَامَ زَيْدٌ مَعْنَاهُ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ هَذَا الْوَقْتُ وَهُوَ إِلَى الْآنِ مَا فَعَلَ فَيَكُونُ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي وأن النفي بلم كَقَوْلِكَ: لَمْ يَقُمْ تَجْعَلُ الْمُخْبِرَ نَفْسَهُ بِالْعَرْضِ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَلِأَنَّهُ يَقُولُ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ أَنَا أُخْبِرُكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَعَلَى هَذَا فَتَأَمَّلِ السِّرَّ في قوله تعالى: {لم يتخذ ولدا} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ ولد} لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَقَامِ طَلَبِ الذِّكْرِ وَالتَّشْرِيفِ بِهِ لِلثَّوَابِ وَالثَّانِيَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ إِلَّا بِالنَّفْيِ عَنْ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ(2/379)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيا} وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فَإِنَّ مَرْيَمَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي تَفَكَّرْتُ فِي أَزْمِنَةِ وُجُودِي وَمَثَّلْتُهَا فِي عَيْنِي: "لَمْ أَكُ بَغِيًّا" فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهَا تَنْفِي نَفْيًا كُلِّيًّا مَعَ أَنَّهَا نَسِيَتْ بَعْضَ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا وَأَمَّا هُمْ لَمَّا قَالُوا: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} مَا كَانَ يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ تَصَوَّرْنَا كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِ أُمِّكِ وَنَنْفِي عَنْ كُلِّ واحد منها كونها بغيا لأن أحد لَا يُلَازِمُ غَيْرَهُ فَيَعْلَمَ كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا لَهَا إِنَّ أُمَّكِ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى حَكَمُوا عَلَيْهَا حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا أَنَّهَا مَا بَغَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وأهلها غافلون} وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يبعث في أمها رسولا} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {بِظُلْمٍ} كَانَ سَبَبُ حُسْنِ الْهَلَاكِ قَائِمًا وَأَمَّا الظُّلْمُ فَكَانَ يُتَوَقَّعُ فِي كُلِّ زَمَنِ الْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانُوا غَافِلِينَ أَمْ لَا لَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ يُمْسِكُ عَنْهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَافَقَتْهُ غَفْلَتُهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وَإِنْ جَدَّ الظُّلْمُ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ سَبَبًا مَعَ الْإِصْلَاحِ فَبَقِيَ النَّفْيُ الْعَامُّ بِعَدَمِ تَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى فِي كُلِّ زَمَانٍ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُذْكَرِ الظُّلْمُ لَمْ يُتَوَقَّعِ الْهَلَاكُ فَلَمْ يَبْقَ مُتَكَرِّرًا فِي كُلِّ زَمَانٍ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنفسهم} وقوله: {وما كان الله معذبهم} ذُكِرَ عِنْدَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً(2/380)
إِلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ قال تعالى: {وما كان الله معذبهم} نَفْيًا وَاحِدًا عَامًّا عِنْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعَذَابِ وَيَتَكَرَّرَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لَا لِلْمِنَّةِ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ
وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قلبين في جوفه} وَقَالَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سميا} وقال تعالى: {ولم يجعلني جبارا شقيا} وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سترا} فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ مَا حَصَّلَ الْمَذْكُورُ أُمُورًا لَا يُتَوَقَّعُ تَجَدُّدُهَا وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَحْصُلْ تَوَقُّعُ تَجَدُّدِ الْمَذْكُورِ
فَاسْتَمْسِكْ بِمَا ذَكَرْنَا وَاجْعَلْهُ أَصْلًا فَإِنَّهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ(2/381)
النوع السادس والأربعون: في أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَفُنُونِهِ الْبَلِيغَةِ
وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بَيْتُ الْقَصِيدَةِ وَأَوَّلُ الْجَرِيدَةِ وَغُرَّةُ الْكَتِيبَةِ وَوَاسِطَةُ الْقِلَادَةِ وَدُرَّةُ التَّاجِ وَإِنْسَانُ الْحَدَقَةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِلْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ شَرِيفُ الْمَحَلِّ عَظِيمُ الْمَكَانِ قَلِيلُ الطُّلَّابِ ضَعِيفُ الْأَصْحَابِ لَيْسَتْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ وَلَا ذَوُو بَصِيرَةٍ تَسْتَقْصِيهِ وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الشِّعْرِ وَأَهْوَلُ مِنَ الْبَحْرِ وَأَعْجَبُ مِنَ السِّحْرِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْكَافِلُ بِإِبْرَازِ إِعْجَازِ النَّظْمِ الْمُبِينِ مَا أُودِعَ مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَبَرَاعَةِ التَّرْكِيبِ وَمَا تَضَمَّنَهُ فِي الْحَلَاوَةِ وَجَلَّلَهُ فِي رَوْنَقِ الطَّلَاوَةِ مَعَ سُهُولَةِ كَلِمِهِ وَجَزَالَتِهَا وَعُذُوبَتِهَا وَسَلَاسَتِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَرْجِعُ الْحُسْنُ إِلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى
وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ صِنَاعَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَعُدَّ الْأَسَالِيبَ الْبَلِيغَةَ وَالْمَحَاسِنَ اللَّفْظِيَّةَ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ مَجْمُوعُ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ إِذِ اللَّفْظُ مَادَّةُ الْكَلَامِ الَّذِي مِنْهُ يَتَأَلَّفُ وَمَتَى أُخْرِجَتِ الْأَلْفَاظُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعًا خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ الْمُعْتَبَرَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ إِلَّا بها(2/382)
وَهَا أَنَا أُلْقِي إِلَيْكَ مِنْهُ مَا يَقْضِي لَهُ الْبَلِيغُ عَجَبًا وَيَهْتَزُّ بِهِ الْكَاتِبُ طَرَبًا
فَمِنْهُ التَّوْكِيدُ بِأَقْسَامِهِ وَالْحَذْفُ بِأَقْسَامِهِ الْإِيجَازُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ الْقَلْبُ الْمُدْرَجُ الِاقْتِصَاصُ التَّرَقِّي التَّغْلِيبُ الِالْتِفَاتُ التَّضْمِينُ وَضْعُ الْخَبَرِ مَوْضِعَ الطَّلَبِ وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ وَضْعُ النِّدَاءِ مَوْضِعَ التَّعَجُّبِ وَضْعُ جُمْلَةِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ تَذْكِيرُ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثُ الْمُذَكِّرِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي عَكْسُهُ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى النَّحْتُ الْإِبْدَالُ الْمُحَاذَاةُ قَوَاعِدُ فِي النَّفْيِ وَالصِّفَاتِ إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ الْهَدْمُ التَّوَسُّعُ الِاسْتِدْرَاجُ التَّشْبِيهُ الِاسْتِعَارَةُ التَّوْرِيَةُ التَّجْرِيدُ التَّجْنِيسُ الطِّبَاقُ الْمُقَابَلَةُ إِلْجَامُ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ التَّقْسِيمُ التَّعْدِيدُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ قَاعِدَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعًا تَارَةً وَمُفْرَدًا أُخْرَى وَحِكْمَةُ ذَلِكَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى فِي الضَّمَائِرِ قَاعِدَةٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ الْخِطَابُ بِالشَّيْءِ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ التَّأَدُّبُ فِي الْخِطَابِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ الْخِطَابُ بِالِاسْمِ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ قَاعِدَةٌ فِي ذِكْرِ الْمَوْصُولَاتِ وَالظَّرْفِ تَارَةً وَحَذْفِهَا أُخْرَى قَاعِدَةٌ فِي النَّهْيِ وَدَفْعِ التَّنَاقُضِ عَمَّا يُوهِمُ ذَلِكَ وَمِلَاكُ ذَلِكَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً
وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ(2/383)
الْأُسْلُوبُ الْأَوَّلُ: التَّأْكِيدُ
وَالْقَصْدُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ لِيَصِيرَ وَاقِعًا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْكِيدُ الْمَاضِي وَلَا الْحَاضِرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ الْمُسْتَقْبَلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَأْكِيدٌ وَلَا في اللغة بل لابد أَنْ يُفِيدَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْأَوَّلِ وَاعْتَرَضَ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّأْكِيدَاتِ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ فِي النَّظْمِ إِيجَازُ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْنَى وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَا يُمَلُّ وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ لِقُصُورِ النَّفَسِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمُرَادِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ
وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لِسَانِ الْقَوْمِ وَفِي لِسَانِهِمُ التَّأْكِيدُ وَالتَّكْرَارُ وَخِطَابُهُ أَكْثَرُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابِرٌ إِذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ فَإِنَّ الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إِلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
الثَّانِيَةُ: حَيْثُ وَقَعَ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ الطرطوسي في العمدة ثُمَّ قَالَ وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا فَيُقَالُ لَهُ إِذَا كَانَ(2/384)
التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ نَحْوُ عَجِّلْ عَجِّلْ وَنَحْوُهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا جَازَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَوَّلِ
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ
الرَّابِعَةُ: يَكْتَفِي فِي تِلْكَ بِأَيْ مَعْنًى كَانَ وَشَرْطٍ وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى يَحْذُوَ بِهِ حَذْوَ الْأَلْفَاظِ
الْخَامِسَةُ: فِي تَقْسِيمِهِ وَهُوَ صِنَاعِيٌّ -يَتَعَلَّقُ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ- وَمَعْنَوِيٌّ وَأَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ فَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا
الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: التَّوْكِيدُ الصِّنَاعِيُّ
وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيِّ: تقرير معنى الأول بلفظ أو مرادفه فمن المرادف: {فجاجا سبلا} {ضيقا حرجا} في قراءة كسر الراء {وغرابيب سود}(2/385)
وَجَعَلَ الصَّفَّارُ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِيمَا إِنْ مكناكم فيه} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَاهُمَا لِلنَّفْيِ
وَاللَّفْظِيُّ يَكُونُ في الاسم النكرة بالإجماع نحو: {قواريرا. قوارير} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ مِنْهُ: {دَكًّا دكا} و {صفا صفا} وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ معنى دكا دكا دكا بَعْدَ دَكٍّ وَأَنَّ الدَّكَّ كُرِّرَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا وَأَنَّ مَعْنَى: {صَفًّا صَفًّا} أَنَّهُ تَنَزَّلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الثَّانِي مِنْهُمَا تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ رَجُلًا رَجُلًا وَعَلَّمْتُهُ الْحِسَابَ بَابًا بَابًا
وَقَدْ ذِكْرَ ابْنُ جِنِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إذا رجت} أَنْ {رُجَّتِ} بَدَلٌ مِنْ {وَقَعَتْ} وَكُرِّرَتْ "إِذَا" تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ امْتِزَاجِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ
وَيَكُونُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لما توعدون}
وَفِي الْجُمْلَةِ نَحْوُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} ولكون(2/386)
الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّوْكِيدِ سَقَطَتْ مِنْ مُصْحَفِ ابْنِ مسعود ومن قراءته
والأكثر فصل الجملتين بثم كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أدراك} {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
ويكون فِي الْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجنة خالدين فيها} وَالْأَكْثَرُ فِيهِ اتِّصَالُهُ بِالْمَذْكُورِ وَزَعَمَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّهُ لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد قَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: وَالسَّمَاعُ يَرُدُّهُ قال تعالى: {وهم بالآخرة هم كافرون} فَإِنَّ "هُمُ" الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أَلَّا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} فَأَكَّدَ "لَمَّا" وَبَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَأَصْلُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كفروا} فَكُرِّرَ لِلطُّولِ الَّذِي بَيْنَ "لَمَّا" وَجَوَابِهَا وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أنكم مخرجون} فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ "أَنَّ" بَعْدَ مَا فَصَلَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات للمؤمنين} .
رَيْبَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْهَلَاكِ وَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى اجْتَمَعُوا فِي النَّجَاةِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن يوسف: {وأتوني بأهلكم أجمعين} فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ وَإِنْ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَعْنَى إِلَيْهِ وَأَلَّا(2/387)
يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ
وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ
وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: {كلهم} يُفِيدُ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ: {أَجْمَعُونَ} قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ في السجود هذا في اللفظ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكُنْ لِيَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عنده ولاسيما وَقَدْ وُقَّتَ لَهُمْ بِوَقْتٍ وَحُدَّ لَهُمْ بِحَدٍّ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ وَنَفْخِ الرُّوحِ فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ سَجَدُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعَلَى هَذَا يُخَرِّجُ كَلَامَ الْمُبَرِّدِ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ عَلَى الْكُلِّ بدليل قوله: {أستكبرت أم كنت من العالين} مَرْدُودٌ بَلْ الْعَالُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَفِي رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ أَنَّ الْعَالِينَ هُمُ الْعُقُولُ الْعَاقَّةُ الَّتِي لَمْ تَسْجُدُ وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ الَّتِي تَدَّعِيهَا الْفَلَاسِفَةُ
وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ عُنْصُرًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَتِ الْجَانُّ مِنَ النَّارِ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" وَهُوَ مِنْهُمْ حُكْمًا لِدُخُولِهِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا آلَ لوط إنا لمنجوهم أجمعين} فَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ "كُلُّهُمْ" لَمَّا(2/388)
لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْآيَةِ لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ فِي التَّأْكِيدِ بِدَلِيلِ الاستثناء بعده من قوله: {إلا امرأته}
وَمِنْهَا: قَصْدُ تَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إني جاعل} فَأُكِّدَ بِإِنَّ وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَاكِّينَ فِي الْخَبَرِ
وَمِثْلُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ ميتون}
وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ نُوحٍ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يضلوا عبادك}
وَمِنْهَا: قَصْدُ إِغَاظَةِ السَّامِعِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {إنك لمن المرسلين}
وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} أَكَّدَهُ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ وَهِيَ إِنَّ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ وَالْمُبَالَغَتَانِ مَعَ الصِّفَتَيْنِ لَهُ لِيَدُلَّ عَلَى تَرْغِيبِ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ طَمِعَ فِي عَفْوِهِ وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إن الله معنا}
وَمِنْهَا: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} دون الاقتصار على "يأتينكم هدى" قال المفسرونك فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ
وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشفاء لما في الصدور} {قد جاءكم برهان من ربكم}(2/389)
وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ إني ظلمت نفسي} وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} تعريضا سؤال قَبُولِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ تَطْلُبُ لِلنَّذْرِ ذَكَرًا
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ لِلْحَاجَةِ لِلتَّحَرُّزِ عن ذكر مالا فَائِدَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ سَاذَجًا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ خَالِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِيهِ حَسُنَ تَقْوِيَتُهُ بِمُؤَكَّدٍ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ تَأْكِيدُهُ وَيُرَاعَى فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْكِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عن رسل عيسى: {ربنا يعلم} الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مثلنا} والثاني قولهم: {ما أنزل الرحمن من شيء} والثالث قولهم: {إن أنتم إلا تكذبون} فَقُوبِلُوا عَلَى نَظِيرِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {ربنا يعلم} وُوجِهَ التَّأْكِيدُ فِيهِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى قَسَمٍ والثاني قوله: {إنا إليكم لمرسلون} وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ المبين}(2/390)
وَقَدْ يَنْزِلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكَرِ وَعَكْسُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أكدت الإماتة تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَلَّا يَتَكَرَّرَ وَيَتَرَدَّدَ فِيهِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ
الثَّانِي: قَالَ التَّنُوخِيُّ في "أقصى القرب": إِذَا قَصَدُوا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ أَتَوْا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِنْ أَكَّدُوا فَبِالِاسْمِيَّةِ ثُمَّ بِإِنَّ ثُمَّ بِهَا وَبِاللَّامِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الْفِعْلِيَّةُ بِقَدْ وَإِنِ احْتِيجَ بِأَكْثَرَ جِيءَ بِالْقَسَمِ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الِاسْمِيَّةُ بِاللَّامِ فَقَطْ نَحْوُ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ وَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَلَى دَرَجَاتٍ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ لَقَدْ قَامَ -فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلِيَّةَ كَأَنَّهَا دُونَ الِاسْمِيَّةِ- ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ولزيد قائم
ما يلتحق بالتأكيد الصناعي
وَيَلْتَحِقُ بِالتَّأْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} وقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} {وسلموا تسليما} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الجبال سيرا} {وهي تمر مر السحاب}(2/391)
{فدكتا دكة واحدة} {إذا زلزلت الأرض زلزالها} {فيكيدوا لك كيدا} وَهُوَ كَثِيرٌ
قَالُوا: وَهُوَ عِوَضٌ عَنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ فَقَوْلُكَ ضَرَبْتُ ضَرْبًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْمُفْرَدِ
وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وتظنون بالله الظنونا} بل هو جمع الظن وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ قَالَهُ ابْنُ الدَّهَّانِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَرْفَعُ الْمَجَازَ عَنِ الْفَاعِلِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ اللِّصَّ ولا يكون باشر بل أمر به ضَرَبًا عُلِمَ أَنَّهُ بَاشَرَ
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذلك ثعلب في أماليه وابن العصفور فِي شَرْحِ الْجَمَلِ الصَّغِيرِ
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْوَهْمَ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ احْتُمِلَ مَجَازَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ الضَّرْبِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ الْأَمِيرِ عَلَى أَمْرِهِ فَإِذَا أَرَدْتَ رَفْعَ الْأَوَّلِ أَتَيْتَ بِالْمَصْدَرِ فَقُلْتَ: ضَرْبًا وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ قُلْتَ: نَفْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ ضَعْفَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ(2/392)
تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} فَإِنَّهُ لِمَا أُرِيدَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ قَالَ: {تَكْلِيمًا} وَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ حَقِيقَةً أَمَّا تَأْكِيدُ فَاعِلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلَقَدْ سَخُفَ عَقْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ وَيُحْكَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِالْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُؤَكِّدُ فَسَلَّمَ الْمُعْتَزِلِيُّ لَهُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَأَرَادَ دَفْعَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا هُوَ {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى} بِنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَجَعَلَ مُوسَى فَاعِلًا بِـ كَلَّمَ وَأَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَكَابَرَ فَقَالَ السُّنِّيُّ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ موسى لميقاتنا وكلمه ربه} فَانْقَطَعَ الْمُعْتَزِلِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَرَعْتُ ظَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ
وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْتُ الْهَوَى قَسْرًا
قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وأسررت لهم إسرارا} فَمَفْعُولُ {أَسْرَرْتُ} مَحْذُوفٌ أَيِ: الدُّعَاءَ وَالْإِنْذَارَ وَنَحْوَهُ
فَإِنْ قُلْتَ: التَّأْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين:(2/393)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُصَدِّرَ لَمْ يُؤْتَ بِهِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ بِصُورَتِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ وَلِهَذَا لَمْ يُؤْتَ بِمَصْدَرٍ {أَعْلَنْتُ} وَهُوَ مِثْلُهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ "أَسْرَّ" وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ مَفْعُولِهِ وَجُعِلَ نَسْيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ فُلَانٌ يُعْطَى وَيُمْنَعُ فَصَارَ لِذَلِكَ كَاللَّازِمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَجِيءِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ لَوْ كَانَ
ثُمَّ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ تَارَةً يَجِيءُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ وَتَارَةً يَجِيءُ مِنْ مُرَادِفِهِ كقوله تعالى: {ثم إني دعوتهم جهارا} فَإِنَّ الْجِهَارَ أَحَدُ نَوْعَيِ الدُّعَاءِ وَقَوْلُهُ: {لَيًّا بألسنتهم} فإنه منصوب بقوله: {يحرفون الكلم} لِأَنَّ {لَيًّا} نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيفِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون منه: {أتأخذونه بهتانا} لِأَنَّ الْبُهْتَانَ ظُلْمٌ وَالْأَخْذُ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظَلَمٌ وغيره
وزعم الزمخشري قوله: {نافلة لك} وضع {نافلة} مَوْضِعَ تَهَجُّدًا لِأَنَّ التَّهَجُّدَ عِبَادَةٌ زَائِدَةٌ فَكَانَ التَّهَجُّدُ وَالنَّافِلَةُ يَجْمَعُهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ(2/394)
وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا} قِيلَ: كَانَ الْأَصْلُ تَكْرَارَ الصِّدْقِ بِلَفْظِهِ فَاسْتُثْقِلَ التَّكْرَارُ لِلتَّقَارُبِ فَعُدِلَ إِلَى مَا يُجَارِيهِ خِفَّةً ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خِفَّةً وَوَزْنًا إِحْرَازًا لِلتَّنَاسُبِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويخرجكم إخراجا} فَفَائِدَةُ {إِخْرَاجًا} أَنَّ الْمَعَادَ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْهَا أَمْثَالُهُمْ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَبْطُلُ بِقَوْلِهِ تعالى: {نبتكم من الأرض نباتا} فَإِنَّهُ أَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ النَّبَاتِ
قُلْتُ: لَا جَرَمَ حَيْثُ لَمْ يَرُدَّ الْحَقِيقَةَ هُنَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ بِالْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ الْقِيَاسِيِّ بَلْ عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَرَ أَنْبَتَ الْإِنْبَاتُ وَالنَّبَاتُ اسْمُهُ لَا هُوَ كَمَا قيل في "الكلام" و"السلام": اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّسْلِيمُ وأما قوله: {وتبتل إليه تبتيلا} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى تَبَتُّلٍ لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى: بِتَّلْ نَفْسَكَ تَبَتُّلًا
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَوْضِعُ تَعَالِيًا لِأَنَّهُ مَصْدَرُ قَوْلِهِ: {وَتَعَالَى} وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مَعْنَاهُ وَكَذَا قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَاعُلِ مِنَ التَّكَلُّفِ كَمَا يَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ(2/395)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا. وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجُمْلَةُ الْفَاعِلِيَّةُ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فِي مفرديها جميعا وفي كل منهما مثاله ها هنا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنَّ الْمَجَازَ فِي: {تَمُورُ} وَأَنَّهَا مَا تَمُورُ بَلْ تَكَادُ أَوْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا تَمُورُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَجَازَ فِي السماء وأن المور الحقيقي لكنها وَأَهْلِهَا لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي {وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَإِذَا رُفِعَ الْمَجَازُ عَنْ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ نُفِيَ احْتِمَالُهُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَأُجِيبَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ {مَوْرًا} فِي تَقْدِيرِ "تَمُورُ" فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمُورُ السَّمَاءُ تَمُورُ السَّمَاءُ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ تَسِيرُ الْجِبَالُ فَأَكَّدَ كُلًّا مِنَ الْجُزْأَيْنِ بِنَظِيرِهِ وَزَالَ الْإِشْكَالُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {شَيْئًا} مِنْ تَأْكِيدِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ بَيْعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالتِّبْيَانِ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَمْرًا أَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَانْظُرْ كَيْفَ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ وَقَوْلُ الْبَيَانِيَّيْنِ: إِنَّهُ يَجِبُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ عَامًّا وَأَمَّا قوله تعالى: {دكا دكا} فَالْمُرَادُ بِهِ: التَّتَابُعَ أَيْ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ وكذا قوله: {صفا صفا} أَيْ: صَفًّا يَتْلُوهُ صَفٌّ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدِ لَا يَحْتَمِلُ صَفًّا وَاحِدًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فَإِنَّ إِضَافَةَ الزِّلْزَالِ إِلَيْهَا يُفِيدُ مَعْنَى ذَاتِهَا وَهُوَ: زِلْزَالُهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا الْمَعْرُوفُ مِنْهَا الْمُتَوَقَّعُ كَمَا تَقُولُ غَضِبَ زَيْدٌ غَضَبَهُ وَقَاتَلَ زَيْدٌ قِتَالَهُ أَيْ غَضَبَهُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ وَقِتَالَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ كَقَوْلِهِ:(2/396)
*أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي*
وَاعْلَمْ أَنَّ القاعدة في المصدر والمؤكدأن يَجِيءَ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ نَحْوُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليما} وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إليه تبتيلا} وقوله تعالى: {فإني أعذبه عذابا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقوله تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} ولم يقل: "تبتلا" و"تعذيبا" و"إقراضا" و"إنباتا"
واختلف في ذلك على أقوال: أ
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَضَعَ الِاسْمَ مِنْهَا مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُجْرَى عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ دَلِيلًا عَلَى الْمُضْمَرِ فَالْمَعْنَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ خَرُوفٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ يَعِيشَ وَنَازِعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ(2/397)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَارِيَةً عَلَيْهَا
وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ غَيْرُ مُعَبِّرٍ بِمَعْنَى مَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} أَيْ: وَنَبَتُّمْ أَيْ وَسَاغَ إِضْمَارُهُ لِأَنَّهُمْ إِذَا أُنْبِتُوا فَقَدْ نَبَتُوا وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُنْصَبَ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَصْدَرِ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَهُ أَوْ تَبْيِينُ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِنْبَاتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَاهُ فَكَيْفَ يُؤَكِّدُهُ أَوْ يُبَيِّنُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} فَإِنَّمَا ذِكْرُ قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} مَعَ {تَدَايَنْتُمْ} يَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي {فَاكْتُبُوهُ} عليه إذ لولم يَذْكُرْهُ لَقَالَ: "فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ" ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ {تَدَايَنْتُمْ} لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ
الثَّانِي: أَنْ {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الدِّينِ فَاحْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لَا مِنَ الدِّينِ
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى إِرَادَةِ الدَّيْنِ
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {بِدَيْنٍ} إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ(2/398)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيْعٌ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ
وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّيْنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَلَمَّا قَالَ: {بَدَيْنٍ} عُلِمَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَاحِدٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْإِشْهَادَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أجله}
الْخَامِسُ: أَنَّ {تَدَايَنْتُمْ} مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاقْتِرَاضِ وَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَذُكِرَ الدَّيْنُ لِتَمْيِيزِ الْمُرَادِ قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا
نِ دَنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ ظُهُورِهِ فِيمَا قَبْلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا ربها بقبول حسن} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وقوله: {سأل سائل} فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ فِيهِمَا أَوْ بِضَمِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا قَبِلَهُ
وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ(2/399)
كل شيء} فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تمر مر السحاب} لِأَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعْدَ الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} لِأَنَّ هَذَا وَعْدُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كتابا مؤجلا} انْتَصَبَ {كِتَابًا} عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: "وَكَتَبَ اللَّهُ" لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى كَتَبَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عليكم} تأكيد لقوله: {حرمت عليكم} الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا وَانْتَصَبَ الْمَصْدَرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ فَعْلٌ تَقْدِيرُهُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ بـ "عليكم" عَلَى الْإِغْرَاءِ وَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ التقدير وقوله: {صبغة الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ به فقد اهتدوا} لِأَنَّ هَذَا دِينُ اللَّهِ وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْأَمْرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لأن الزلفى مصدر كالرجعى و"يقربونا" يَدُلُّ عَلَى "يُزَلِّفُونَا" فَتَقْدِيرُهُ: يُزَلِّفُونَا زُلْفَى(2/400)
وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ مَعَ حَذْفِ عَامِلِهِ كقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا تَمُنُّوا مَنًّا وَإِمَّا إِنْ تُفَادُوا فِدَاءً فَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ
وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} لِأَنَّهُ إِذَا أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا فَيَكُونُ {خَلَقَهُ} عَلَى مَعْنَى خَلَقَهُ خَلْقًا وَالضَّمِيرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَيْ أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ
قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَنَّ فِي هَذَا إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَكْثَرُ وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: "أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ" لِأَنَّهُ قَدْ يُحْسِنُ الْخَلْقَ وَهُوَ الْمُحَاوَلَةُ وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَإِذَا قَالَ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ
فَائِدَتَانِ
الْأُولَى: هَلِ الْأَوْلَى التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ أَوِ الْفِعْلِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَصْدَرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ اسْمٌ وَهُوَ أَخَفُّ مِنَ الْفِعْلِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ فَيَكُونُ جُمْلَةً فَيَزْدَادُ ثِقَلًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفِعْلَ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ الثَّانِيَةُ: حَيْثُ أُكِّدَ الْمَصْدَرُ النَّوْعِيُّ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْعَتَ بِالْوَصْفِ الْمُرَادِ مِنْهُ نَحْوُ:(2/401)
قمت قياما حسنا {وسرحوهن سراحا جميلا} وقوله: {اذكروا الله ذكرا كثيرا}
وَقَدْ يُضَافُ الْوَصْفُ إِلَى الْمَصْدَرِ فَيُعْطَى حُكْمَ الْمَصْدَرِ قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
الثَّانِي: الْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ وَهِيَ الْآتِيَةُ عَلَى حَالٍ واحدة عكس الْمُبِيِّنَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْتَقِلَةً وَهِيَ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لنفسه وسميت مؤكدة لأنها نعلم قَبْلَ ذِكْرِهَا فَيَكُونُ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِهَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حيا}
وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
{فتبسم ضاحكا من قولها} لِأَنَّ مَعْنَى تَبَسَّمَ: ضَحِكَ مَسْرُورًا
وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ للناس رسولا}
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} وَذُكِرَ الْإِعْرَاضُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الضلال ومثله: {أقررتم وأنتم تشهدون} إِذْ مَعْنَى الْإِقْرَارُ أَقْرَبُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ وَالشَّهَادَةَ حَالَانِ لَهُمْ عِنْدَ التَّوَلِّي وَالْإِقْرَارِ(2/402)
وقوله: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}
وَقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فَإِنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ففي الجنة خالدين فيها} وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحَالِ الِانْتِقَالُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنَا فَإِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي غَيْرِ الْمُؤَكِّدَةِ وَلَمَّا لَمْ يَقِفِ ابْنُ جِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَدَّرَ مَحْذُوفًا أَيْ مُعْتَقَدًا خُلُودَهُمْ فِيهَا لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَابِتٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا سَاغَ مَجِيئُهَا غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي التَّأْكِيدِ فِي بَعْضِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الْحَالَ الْمُؤَكِّدَةَ مَفْهُومَهَا مَفْهُومُ عَامِلِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّبَسُّمُ وَالضَّحِكُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْغَضْبَانِ"
وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ والإدبار في قوله تعالى: {ولى مدبرا} {ثم وليتم مدبرين} فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَالتَّوْلِيَةُ أَنْ يُوَلِّيَ الشَّيْءَ ظَهْرَهُ وَالْإِدْبَارُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْهُ فَلَيْسَ كُلُّ مُوَلٍّ مُدْبِرًا وَلَا كُلُّ مُدْبِرٍ مُوَلِّيًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} فَلَوْ كَانَ أَصَمَّ مُقْبِلًا لَمْ يَسْمَعْ فَإِذَا وَلَّى ظَهْرَهُ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِنَ السَّمَاعِ فَإِذَا أَدْبَرَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ لِبُعْدِهِ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِدْبَارَ قَوْلُهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} فإنه بمعنى الإقبال(2/403)
وقوله: {ولم يعقب} إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الْهُرُوبِ وَعَدَمِ رُجُوعِهِ يُقَالُ: فُلَانٌ وَلَّى إِذَا رَجَعَ وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: لَمْ يَقِفْ وَلَمْ يلتفت وكذلك قوله: {وأرسلناك للناس رسولا} قِيلَ: لَيْسَتْ بِمُؤَكَّدَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ قَدْ لَا يَكُونُ رَسُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أرسلنا عليهم الريح العقيم} وقوله: {وهو الحق مصدقا} جَعَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْرِبِينَ مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ صِفَةَ الْحَقِّ التَّصْدِيقُ قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ الْعَامِلِ وَأَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَأْكِيدَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ
وَدَعْوَى التَّأْكِيدِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ فِيهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ كَوْنُهُ حَقًّا وَكَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ {مُصَدِّقًا} حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لَا مُؤَكِّدَةٌ وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا الْحَقُّ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الثَّابِتِ وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ الْحَقُّ لِتَأَوُّلِهِ بِالْمُشْتَقِّ
وَقَوْلِهِ: {قَائِمًا بالقسط} فـ "قائما" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ فَهِيَ لَازِمَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَقَدْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ
قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى مَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ منفرد بالربوبية وقائم بالقسط فإنه سبحانه بِالصِّفَتَيْنِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمَا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَالِ الِاتِّصَافِ بِالْأُخْرَى وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَمْ يَزَلْ بِهِمَا لِأَنَّ صِفَاتِهِ ذَاتِيَّةٌ قديمة(2/404)
فائدة
عن صاحب المفصل في وقوع الحال بعد الجملة الاسمية
قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ: لَا تَقَعُ الْمُؤَكِّدَةُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الْجُمْلَتَيْنِ مُحْتَجًّا بِمَا سَبَقَ وَكَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء إذا ولوا مدبرين} وقوله تعالى: {ولى مدبرا ولم يعقب} فمدبرين ومدبرا حال مؤكدة لفعل التولية
في أدوات التأكيد
مؤكدات الجمل الاسمية
الأول: التأكيد بـ "إن" قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عظيم} وَهِيَ أَقْوَى مِنَ التَّأْكِيدِ بِاللَّامِ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ قَالَ: وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِ إِنَّ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاءِ هُوَ الْجَوَابُ لَكِنْ بِشَرْطِ إِنْ يَكُونُ لِلسَّائِلِ فِيهِ ظَنٌّ بِخِلَافِ مَا أَنْتَ تُجِيبُهُ بِهِ فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ مَرَدَّ الْجَوَابِ أَصْلًا فِيهَا فَلَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلى قولك:(2/405)
"صَالِحٌ" فِي جَوَابِ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ حَتَّى تَقُولَ: إِنَّهُ صَالِحٌ وَلَا قَائِلَ بِهِ بِخِلَافِ اللَّامِ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَظُ فِيهَا غَيْرُ أَصْلِ الْجَوَابِ
وَقَدْ يَجِيءُ مَعَ التَّأْكِيدِ فِي تَقْدِيرِ سُؤَالِ السَّائِلِ إِذَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ نَفْسَهُ لِلنَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زلزلة الساعة شيء عظيم} أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ وُجُوبَهَا مُجِيبًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَاصِفًا لَهَا بِأَهْوَلِ وَصْفٍ لِيُقَرِّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبَ
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أَيْ: لَا تَدْعُنِي فِي شَأْنِهِمْ وَاسْتِدْفَاعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِكَ لِأَنَّهُمْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْرَاقِ وَقَدْ جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَفِّهِ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الدُّعَاءِ لِمَنْ وجبت شقاوته قوله تعالى: {يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إن ربي غفور رحيم} فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أَوْرَثَ لِلْمُخَاطَبِ حَيْرَةً كَيْفَ لَا يُنَزِّهُ نَفْسَهُ مَعَ كَوْنِهَا مُطَمْئِنَةً زَكِيَّةً فَأَزَالَ حَيْرَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} فِي جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ {بِالسُّوءِ} إِلَّا الْمَعْصُومَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صلاتك سكن لهم}
واعلم أن كل جملة صدرت بإن مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَجَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فَإِنَّ الْفَاءَ(2/406)
يَصِحُّ أَنْ تَقُومَ فِيهَا مَقَامَ إِنَّ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ حَسُنَ تَجْرِيدُهَا عَنْ كَوْنِهَا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ
وَإِنْ صُدِّرَتْ لِإِظْهَارِ فَائِدَةِ الْأُولَى لَمْ يَصِحَّ قِيَامُ الْفَاءِ مَقَامَهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون} بَعْدَ قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يسمعون}
وَمِنْ فَوَائِدِهَا: تَحْسِينُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا إِذَا فسر بالجملة الشرطية مالا يَحْسُنُ بِدُونِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} {أنه من يحادد الله ورسوله} {أنه من عمل منكم سوءا بجهالة} {إنه إنه لا يفلح الكافرون} وَأَمَّا حُسْنُهُ بِدُونِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هو الله أحد} فَلِفَوَاتِ الشَّرْطِ
الثَّانِي: "أَنَّ" الْمَفْتُوحَةُ نَحْوُ: عَلِمْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَهِيَ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ كَالْمَكْسُورَةِ نَصَّ عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ: لِأَنَّكَ لَوْ صَرَّحْتَ بِالْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا لَمْ يُفِدْ تَوْكِيدًا وَيُقَالُ التَّوْكِيدُ لِلْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِأَنَّ مَحَلَّهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ وَبِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ فِي الْمَكْسُورَةِ لِلْإِسْنَادِ وَهَذِهِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ
الثَّالِثُ: "كَأَنَّ" وَفِيهَا التَّشْبِيهُ الْمُؤَكِّدُ إِنْ كَانَتْ بَسِيطَةً وَإِنْ كَانَتْ مركبة من(2/407)
كاف التشبيه وأن فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِأَنَّ فِيهَا مَا سَبَقَ وَزِيَادَةٌ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ أَيْ بَيْنِ قَوْلِكَ: كَأَنَّهُ أَسَدٌ وَبَيْنَ أَنَّهُ كَالْأَسَدِ أَنَّكَ مَعَ كَأَنَّ بَانٍ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ
وَقَالَ الْإِمَامُ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ: اشْتَرَكَ الْكَافُ وَكَأَنَّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّشْبِيهِ وَكَأَنَّ أبلغ وبذلك جزم حازم في منهج الْبُلَغَاءِ وَقَالَ: وَهِيَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَقْوَى الشَّبَهُ حَتَّى يَكَادَ الرَّائِي يَشُكُّ فِي أَنَّ الْمُشَبَّهَ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَوْ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ قالت بلقيس: {كأنه هو}
الرَّابِعُ: "لَكِنْ" لِتَأْكِيدِ الْجُمَلِ ذَكَرَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ وَالتَّنُوخِيُّ فِي "الْأَقْصَى" وَقِيلَ: لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ وَقِيلَ لِلِاسْتِدْرَاكِ الْمُجَرَّدِ وَهِيَ أَنْ يُثْبِتَ لِمَا بَعْدَهَا حُكْمٌ يُخَالِفُ مَا قَبِلَهَا وَمِثْلُهَا "لَيْتَ" و"لعل" وَ"لَعَنَّ" فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ هَمْزَةَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ عَيْنًا وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ التَّنُوخِيُّ
الْخَامِسُ: لَامُ الِابْتِدَاءِ نحو: {إن ربي لسميع الدعاء} وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا زَحْلَقُوهَا فِي بَابِ إِنَّ عَنْ صَدْرِ الْجُمْلَةِ كَرَاهِيَةَ ابتداء الكلام المؤكدين وَلِأَنَّهَا تَدُلُّ بِجِهَةِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّ تَدُلُّ بِجِهَتَيْنِ الْعَمَلُ وَالتَّأْكِيدُ وَالدَّالُّ بِجِهَتَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ بِجِهَةٍ كَنَظِيرِهِ فِي الْإِرْثِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا جَاءَتْ مَعَ إِنَّ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ إِنَّ أَفَادَتِ التَّكْرِيرَ مَرَّتَيْنِ فَإِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ صَارَتْ ثَلَاثًا(2/408)
وَعَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَّ اللَّامَ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ وَإِنَّ لتأكيد الاسم وفيه تجوز لأن لتأكيد إِنَّمَا هُوَ لِلنِّسْبَةِ لَا لِلِاسْمِ وَالْخَبَرِ
السَّادِسُ: الْفَصْلُ وَهُوَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْجُمْلَةِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَقَالَ: فِي قوله تعالى: {إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا} {أَنَا} وَصْفٌ لِلْيَاءِ فِي {تَرَنِ} يَزِيدُ تَأْكِيدًا وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ يُؤَكِّدُ الضَّمِيرَ وَأَمَّا تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فَلَمْ يُعْهَدْ وَلِهَذَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ دُعَامَةً لِأَنَّهُ يُدَعَّمُ بِهِ الْكَلَامُ أَيْ يَقْوَى وَلِهَذَا قَالُوا لَا يُجَاءُ مَعَ التَّوْكِيدِ فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ نَفْسُهُ هُوَ الْفَاضِلُ وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَخَالَفَ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ: ضَمِيرُ الْفَصْلِ لَيْسَ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَإِمَّا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا لَأَنَّ اللَّفْظِيَّ إِعَادَةُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَزَيْدٍ زَيْدٍ أَوْ معناه كقمت أنا وَالْفَصْلُ لَيْسَ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ وَلَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَنِّيًا عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَلَا مُفَسِّرًا وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا لِأَنَّ أَلْفَاظَهُ مَحْصُورَةٌ كَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا مِنْهُ نَفْيٌ لِلتَّوْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ وَلَبْسٌ لِلْكَلَامِ
وَفِي الْبَسِيطِ لِلْوَاحِدِيِّ عند قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} قَالَ سِيبَوَيْهِ: دَخَلَ الْفَصْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تجدوه عند الله هو خيرا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}(2/409)
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ "مَا" فِي قَوْلِهِ تعالى: {فبما رحمة} انْتَهَى
السَّابِعُ: ضَمِيرُ الْبَيَانِ لِلْمُذَكَّرِ وَالْقِصَّةِ لِلْمُؤَنَّثِ وَيُقَدِّمُونَهُ قَبْلَ الْجُمْلَةِ نَظَرًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَهُ الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ وَعَادَتُهُمْ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ جُمْلَةٍ قَدْ يُقَدِّمُونَ قَبْلَهَا ضَمِيرًا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْهُ وَمُفَسِّرَةً لَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ التَّفْخِيمِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنْ يَتَطَلَّعَ السَّامِعُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْهُ وَطَلَبِ تَفْسِيرِهِ وَحِينَئِذٍ تُورَدُ الْجُمْلَةُ الْمُفَسِّرَةُ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا}
وَقَدْ يُفِيدُ مَعَهُ الِانْفِرَادُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قل هو الله أحد} أَيِ: الْمُنْفَرِدُ بِالْأُحْدِيَّةِ
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: هو ضمير الشأن و"الله" مبتدأ ثان و"أحد" خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَالْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَخَبَرُهُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى عَائِدٍ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ تَفْسِيرٌ لَهُ وَلِكَوْنِهَا مُفَسِّرَةً لَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ فَنَزَلَتْ
وَمِنْهُ: {وَأَنَّهُ لما قام عبد الله} وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مُؤَنَّثٌ كقوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار} فَالْهَاءُ فِي {فَإِنَّهَا} ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَ {تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إِنَّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْلَمَ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ علماء بني إسرائيل}(2/410)
بقراءة الياء و"أن يعلمه" مبتدأ وآية الْخَبَرُ وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَأَنَّثَ لِوُجُودِ آيَةٍ فِي الْكَلَامِ
الثَّامِنُ: تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ وَيَجِبُ أَنْ يُؤَكَّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} وقوله تعالى: {فاذهب أنت وربك}
وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّأْكِيدُ بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آباؤنا} فَعَطَفَ {آبَاؤُنَا} عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ وَلَيْسَ هُنَا تَأْكِيدٌ بَلْ فَاصْلٌ وَهُوَ "لَا"
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ إِنَّمَا يَأْتِي قَبْلَ وَاوِ الْعَطْفِ كَالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كما أمرت ومن تاب معك}
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَاصِلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الملقين} فأكد السحر ضَمِيرَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْإِلْقَاءِ دُونَ ضَمِيرِ مُوسَى حَيْثُ لَمْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أَنْتَ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَبُّوا التَّقْدِيمَ فِي الْإِلْقَاءِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ يُقَرِّرُ عَظَمَتَهُ فِي أَذْهَانِ الْحَاضِرِينَ فَلَا يَرْفَعُهَا مَا يَأْتِي بَعْدَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَءُوا بِمُوسَى(2/411)
فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْبَدَاءَةَ بِالْإِلْقَاءِ عَلَى عَادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّنَّاعِ فِي تَأَدُّبِهِمْ مَعَ قُرَنَائِهِمْ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ تَأَدَّبُوا تَهَذَّبُوا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ التَّأْكِيدِ بِالتَّصْرِيحِ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أول من ألقى} وَهَذَا جَوَابٌ بَيَانِيٌّ لَا نَحْوِيٌّ
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ هَذَا الْإِطْنَابِ وَهَلَّا قَالُوا إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين:
أحدهما: لفظي وهو المزاوجة لرءوس الْآيِ عَلَى سِيَاقِ خَوَاتِمِهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا
وَالثَّانِي: مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قُوَّةِ أَنْفُسِ السَّحَرَةِ وَاسْتِطَالَتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى مُوسَى فَجَاءَ عَنْهُمْ بِاللَّفْظِ أَتَمَّ وَأَوْفَى مِنْهُ فِي إِسْنَادِهِمُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي "خَاطِرَيَاتِهِ" ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لِسَانٍ فَيَذْهَبُ بِهِمْ هَذَا الْمَذْهَبُ مِنْ صِيغَةِ الْكَلَامِ! وَأَجَابَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَعْرُوفِ مَعَانِيهِمْ وَلَيْسَتْ بِحَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} أَنَّ هَذِهِ الْفَصَاحَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى لُغَةِ الْعَجَمِ
التَّاسِعُ: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرٍ مُبْتَدَأٍ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَلِهَذَا قِيلَ بِإِفَادَةِ الْحَصْرِ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَشَّافِهِ(2/412)
قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} مَعْنَاهُ الْحَصْرُ أَيْ: لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ إِلَّا هُمْ
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من الأرض هم ينشرون} أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يُنْشِرُ إِلَّا هُمْ وَإِنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يُلْزِمُهُمْ حَصَرَ الْأُلُوهِيَّةَ فِيهِمْ ثُمَّ خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَمَّا خَالَفَ مَذْهَبَهُ الْفَاسِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ من النار} فَقَالَ: هُمْ هُنَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ:
*هُمْ يَفْرِشُونَ اللُّبَدَ كُلَّ طِمْرَةٍ*
فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ انْتَهَى
وَبَيَانُهُ أَنَّ مُقْتَضَى قَاعِدَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَقَدُهُ فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّأْوِيلِ لِلْآيَةِ بِفَائِدَةٍ تَتِمُّ لَهُ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الْخُلُودِ لَهُمْ لَا اخْتِصَاصَهُ بِهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ خُلِّدُوا فِي النَّارِ عَلَى زَعْمِهِ إِلَّا أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَهُ أَحَقُّ بِالْخُلُودِ وَأَدْخُلُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَخَيَّلَ فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الْمَعَانِي فِي اقْتِضَاءِ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الِاخْتِصَاصِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ أَقْوَى وَأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ إِفَادَةِ مُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ فِي الصِّفَةِ وَقَدْ نَصَّ الْجُرْجَانِيُّ فِي دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ عَلَى أَنَّ إِفَادَةَ تَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاخْتِصَاصِ جَلِيلَةً وَأَمَّا إِرَادَةُ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهَا فَلَيْسَتْ جَلِيلَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَيْسَ هُنَا مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجَ الْكَلَامِ عَنْ مَعْنَاهُ الْجَلِيِّ كَيْفَ وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ وَتَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْعُصَاةَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُوَحِّدٌ أَبَدًا فهذه(2/413)
الْآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى انْفِرَادِ الْكُفَّارِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ مُوَافَقَةٌ وَلَا دَلِيلَ لِلْمُخَالِفِ سِوَى قَاعِدَةِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَإِلْزَامِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ وَتَحْقِيقِ الْعِقَابِ وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النار نعوذ بالله من ذلك!
فائدة: مواضع إفادة الحصر
لَا تُخَصُّ إِفَادَةُ الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْفَاعِلُ أَوِ الْمَفْعُولُ أَوِ الْجَارُّ أَوِ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقَاتُ بِالْفِعْلِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي الإيمان بالله بل لابد مَعَهُ مِنْ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّوَكُّلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْقَدِيمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ قُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِيهِ لِيُؤْذِنَ بِاخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ولذلك قدم الظرف في قوله: {لا فيها غول} لِيُفِيدَ النَّفْيَ عَنْهَا فَقَطْ وَاخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ بِخِلَافِ تأخيره في: {لا ريب فيه} لِأَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ بَلْ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَذَلِكَ(2/414)
الْعَاشِرُ: مِنْهَا "هَاءُ" التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا} قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا الْأَلِفُ وَالْهَاءُ اللَّتَانِ لَحِقَتَا "أَيًّا" تَوْكِيدًا فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ يَا مرتين إذا قلت يأيها وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا
هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَكَلِمَةُ التَّنْبِيهِ الْمُقْحَمَةُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا لِفَائِدَةِ تَبْيِينِ مُعَاضَدَةِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمُكَاتَفَتِهِ بِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ وَوُقُوعِهَا عِوَضًا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ
الْحَادِي عَشَرَ: "يَا" الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَعِيدِ إِذَا نُودِيَ بِهَا الْقَرِيبُ الْفَطِنُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ الْمُؤَذِّنُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَتْلُوهُ مُعْتَنًى بِهِ جِدًّا
الثَّانِي عَشَرَ: الْوَاوُ زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِتَأْكِيدِ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} وقوله تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَوْصُوفَ بِهَا لَا تَقْتَرِنُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَقَعُ فِي الصِّفَاتِ بَلِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ "قَرْيَةٍ" لِكَوْنِهَا عَامَّةً بِتَقْدِيمِ إِلَّا عَلَيْهَا
الثَّالِثَ عَشَرَ: "إِمَّا" الْمَكْسُورَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَصْلُهَا "إِنَّ" الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ "مَا" تَأْكِيدًا وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ اللَّحَاقِ نُونُ التَّوْكِيدِ(2/415)
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِمُشَابَهَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِدُخُولِ مَا لِلتَّأْكِيدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا كَالْعَدَمِ فِي الْقَسَمِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَ إِمَّا تَوْكِيدُهُ بِالنُّونِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا مُؤْذِنَةٌ بِإِرَادَةِ شِدَّةِ التَّوْكِيدِ وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَتَلْزَمُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ فِعْلَ الشَّرْطِ عِنْدَ وَصْلِ إِمَّا أَمْ لَا فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَلْزَمُ وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا ضَرُورَةً وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: لَا تَلْزَمُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ وَيَجُوزُ حَذْفُ "ما" وإثبات النون قال سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما انْتَهَى وَجَاءَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ "إِمَّا" كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةً
فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا
الرَّابِعَ عَشَرَ: "أَمَّا" الْمَفْتُوحَةَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنه الحق من ربهم} إِنَّهَا تُفِيدُ التَّأْكِيدَ
الْخَامِسَ عَشَرَ: "أَلَا" الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ألا إنهم هم المفسدون} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لِلتَّحْقِيقِ أَيْ: تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَهَذَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِكَوْنِهَا بِهَذَا الْمَنْصِبِ مِنَ التَّحْقِيقِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ نَحْوُ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2/416)
السَّادِسَ عَشَرَ: "مَا" النَّافِيَةُ نَحْوُ: مَا زَيْدٌ قَائِمًا أَوْ قَائِمٌ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ جَعَلَ سِيبَوَيْهِ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي النفي جوابا لقد فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ قَدْ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ
السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ نَحْوُ مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلَقٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: الْقَدِيمِ هِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَوْلُكَ: مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ جَوَابُ إِنَّ زَيْدًا لِمُنْطَلَقٍ مَا بِإِزَاءِ إِنَّ وَالْبَاءُ بِإِزَاءِ اللَّامِ وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ فَإِذَا كَانَتْ بِإِزَائِهَا كَانَتْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ هَذَا كله في مؤكدات الجملة الاسمية
مؤكدات الجملة الفعلية
وَأَمَّا مُؤَكِّدَاتُ الْفِعْلِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: "قَدْ" فَإِنَّهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فقد هدي إلى صراط مستقيم م} مَعْنَاهُ: حَصَلَ لَهُ الْهُدَى لَا مَحَالَةَ
وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهَا فِي شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مُتَشَوِّقًا إِلَى سَمَاعِهِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَتَشَوَّقُ سَمَاعَ قُدُومِ زَيْدٍ قَدْ قَدِمَ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَحْسُنِ الْمَجِيءُ بِهَا بَلْ تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ
وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ(2/417)
مثل} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا منكم في السبت} قَدْ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلُ إِنَّ وَاللَّامِ فِي الِاسْمِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا فِي إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ
وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي نَحْوُ: {قد أفلح من زكاها}
والمضارع نحو: {قد نعلم إنه ليحزنك} {قد يعلم ما أنتم عليه} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتْ قَدْ لِتَوْكِيدِ الْعِلْمِ
وَيَرْجِعُ ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا تُفِيدُ التَّعْلِيلَ مَعَ الْمُضَارِعِ
وَقَالَ ابْنُ أَبَانٍ: تُفِيدُ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ التَّعْلِيلَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ فَالْأُولَى كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَدْ يَفْعَلُ كَذَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَثِيرِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الْمَعْنَى -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ مَا أَنْتُمْ عليه
ثانيا: السِّينُ الَّتِي لِلتَّنْفِيسِ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فسيكفيكهم الله} مَعْنَى السِّينِ: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى حِينٍ
وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السِّينُ تُفِيدُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: "سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا" يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتَنِي وإن تبطأت(2/418)
ونحوه: {سيجعل لهم الرحمن ودا} {ولسوف يعطيك ربك فترضى} {سوف يؤتيهم أجورهم} لَكِنْ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُجُودَ الرَّحْمَةِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْفِعْلِ "لَا" مِنَ السِّينِ وَبِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَا مَحَالَةَ لَا إِشْعَارَ لِلسِّينِ بِهِ
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مَعَ التَّأَخُّرِ فَإِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَيْسَ مَقَامَ تَأْخِيرٍ لِكَوْنِهِ بِشَارَةً تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الْوُقُوعِ وَتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُوبِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ لَا مِنَ السِّينِ
وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ يَحْصُلُ بِهَا تَرْتِيبُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ أَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ وَالْإِخْبَارُ بِطُرُقِهِ وَأَنَّهُ مُتَرَاخٍ فَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ وَتَعْيِينَ طُرُقِهِ مُؤْذِنٌ بِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ المخبر به
ثالثها: النُّونُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَبِالْخَفِيفَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذَكْرِهِ مَرَّتَيْنِ
قِيلَ: وَهَذَانَ النُّونَانِ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فِي مُقَابَلَةِ تَأْكِيدِ الِاسْمِ بِأَنَّ وَاللَّامِ وَلَمْ يَقَعْ(2/419)
فِي الْقُرْآنِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: {وليكونا من الصاغرين} وقوله تعالى: {لنسفعا بالناصية} وَلَمَّا لَمْ يُتَجَاوَزِ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهَا فِي تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ قَالَ تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَهَّلَ وَأَمْهِلْ وَرُوَيْدًا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُنَّ فِعْلَانِ وَاسْمُ فِعْلٍ
رَابِعًا: "لَنْ" لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَإِنَّ فِي تَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ: لَا أَبْرَحُ فَإِذَا أَرَدْتَ تَأْكِيدَ النَّفْيِ قُلْتَ: لَنْ أَبْرَحَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: سَيَفْعَلُ يَعْنِي وَالسِّينُ لِلتَّأْكِيدِ فَجَوَابُهَا كَذَلِكَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ "لَا" وَكَذَا قَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: "لَنْ" لِتَأْكِيدِ مَا تُعْطِيهِ "لَا" مِنْ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تراني} قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. ولن يتمنوه أبدا} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الآخرة فيقولون: {يا ليتها كانت القاضية} يَعْنِي: الْمَوْتَ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَنْفِي الْأَبَدَ وَلَكِنْ إِلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ النَّفْيَ بِلَا أَطْوَلُ مِنَ النَّفْيِ بِلَنْ لِأَنَّ آخِرَهَا أَلِفٌ وَهُوَ حَرْفٌ يَطُولُ فِيهِ النَّفَسُ فَنَاسَبَ طُولُ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ "لَنْ"(2/420)
ولذلك قال تعالى: {لن تراني} وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِدَارِ الدُّنْيَا
وَقَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الأبصار} وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ تُشَاكِلُ الْمَعَانِيَ وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ لَا بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ
وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الزَّمْلِكَانِيُّ فِي التِّبْيَانِ بِقَوْلِهِ: "لا" تنفي ما بعد و"لن" تنفي ما قرب وبحسب الْمَذْهَبَيْنِ أَوَّلُوا الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} {ولا يتمنونه أبدا}
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ: {لَا يَتَمَنَّوْنَهُ} جَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الموت} وحرف الشرط يعم كل الأزمنة فقوبل بلا لِيُعَمَّمَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ أَيْ زَعَمُوا ذَلِكَ فِي وَقْتِ مَا قِيلَ لَهُمْ تَمَنَّوُا الموت وأما {ولن يتمنوه} فَجَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عند الله خالصة} أَيْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الْآنَ اسْتِعْجَالًا لِلسُّكُونِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَعَلَى وَفْقِ هذا القول جاء قوله: {لن تراني}
قلت: والحق أن "لا" و"لن" لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالتَّأْبِيدُ وَعَدَمُهُ يُؤْخَذَانِ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وبقوله: {لن يخلقوا ذبابا} عورض بقوله: {فلن أكلم اليوم إنسيا} وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ وبقوله: {ولن يتمنوه أبدا} ولو كانت(2/421)
لتأبيد لَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ تَكْرِيرًا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَبُقُولِهِ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} لَا يُقَالُ: هِيَ مُقَيَّدَةٌ فَلَمْ تُفِدِ التَّأْبِيدَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ "لَا" لِلِاسْتِغْرَاقِ الْأَبَدِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يقضى عليهم فيموتوا} وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} {ولا يؤوده حفظهما} وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الخياط} وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ لِلتَّأْبِيدِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ "لَا" دُونَ "لَنْ" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَالتَّأْبِيدُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ
الْقِسْمُ الثَّانِي: الصِّفَةُ
وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ إِنْ وَقَعَتْ صفة للنكرة وموضحة للمعرفة
الأسباب التي تأتي الصفة من أجلها
وَتَأْتِي لِأَسْبَابٍ:
أَحَدُهَا: لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَمِنْهُ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم} فَلَيْسَ ذِكْرُ الْوَصْفِ هُنَا لِلتَّمْيِيزِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ-(2/422)
حَتَّى يُوَضَّحَ بِالصِّفَةِ وَأَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ هَذَا الْمَعْنَى فَذَكَرَ أَسَامِيَ بَعْضِ مَمْدُوحِهِ ثُمَّ قَالَ:
أَسَامِيًا لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفَةً
وَإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاهَا
فَقَوْلُهُ: لَمْ تَزِدْهُ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِطْنَابِ وَالثَّنَاءِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّبْيِينِ
وَقِيلَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ الْمُرَادُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلَةٌ لَهُ لَا لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ وَلَوْ كَانَتْ لِلثَّنَاءِ لَكَانَ الِاخْتِيَارُ قَطْعَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ لَيْسَ غَيْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ نَبِيُّونَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ كَذَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَأُرِيدَ بِهَا التَّعْرِيضُ باليهود وأنهم بعداء من ملة اإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وَأَنَّ الْيَهُودَ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذِهِ الصفة للتمييز وقد أطلق الله وصف اإسلام عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَالْأَصْلُ فِي الْمَدْحِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَمْدُوحِ وَغَيْرِهِ بِالْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ وَالْإِسْلَامُ وَصْفٌ عَامٌّ فَوَصْفُهُمْ بِالْإِسْلَامِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا له أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ غَايَتَهُ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ الرَّاجِعَيْنِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْعِبَادِ فَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِهَا فِي أَشْرَفِ حَالَاتِهِمْ وَأَكْمَلِ أَوْقَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ(2/423)
وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} أَيْ: مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ لِقَضَائِكَ وَكَذَا قَوْلُ يُوسُفَ: {توفني مسلما} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} تَنْوِيهٌ بِقَدْرِ الْإِسْلَامِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تُعَظَّمُ بِعِظَمِ مَوْصُوفِهَا كَمَا وُصِفَتِ الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: {يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به} تَنْوِيهًا بِقَدْرِ الْإِيمَانِ وَحَضًّا لِلْبَشَرِ عَلَى التَّحَلِّي بِهِ لِيَكُونُوا كَالْمُقَرَّبِينَ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ حَتَّى قِيلَ أَوْصَافُ الْأَشْرَافِ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ
الثَّانِي: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ وَتَعْرِيفُهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْإِضَافَةِ
فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الذِّهْنُ يَتَبَادَرُ إِلَّا إِلَيْهِ!
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ وَضْعِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} وفي موضع آخر: {رسل الله} وَفِي حَقِّ عِيسَى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَفِي حَقِّ مُوسَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا}(2/424)
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ أَوْ دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَوْقَهُ فَلَا لِأَنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ تَابِعَةٌ وَالتَّابِعُ دُونَ الْمَتْبُوعِ
فَإِنْ: قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُزَالَ إِبْهَامُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَبْهَمُ مِنْهُ؟
فَالْجَوَابُ إِنَّ التَّعْرِيفَ لَمْ يَقَعْ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ
الثَّالِثُ: لِتَعْيِينِهِ لِلْجِنْسِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يطير بجناحيه} لِأَنَّ الْمَعْنَى بِدَابَّةٍ وَالَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ الْجِنْسِيَّةُ لَا الْإِفْرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فَجَمْعُ {أُمَمٍ} مُحَقِّقٌ إِرَادَةَ الْجِنْسِ مِنَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْجِنْسِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ كَوْنُ الدَّابَّةِ غَيْرَ مُنْفَكَّةٍ عَنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَوْنُ الطَّائِرِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ كَوْنُهُ طَائِرًا بِجَنَاحَيْهِ لِيَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ الْفَرْدِيَّةِ هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ
وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصْفَ لِيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِدُونِ الْوَصْفِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ المنفية -لاسيما مَعَ "مِنْ" الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ- قَطْعِيَّةٌ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ: {فِي الْأَرْضِ} وَ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يفيد زيادة(2/425)
التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا من طائر في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ لَمَّا كَانَ يوصف به من يعقل كالجان والملائكة فلولم يقل: {بجناحيه} لتوهم الاقتصار على حبسها مِمَّنْ يَعْقِلُ فَقِيلَ: {بِجَنَاحَيْهِ} لِيُفِيدَ إِرَادَةَ هَذَا الطَّيْرِ الْمُعْتَقَدِ فِيهِ عَدَمَ الْمَعْقُولِيَّةِ بِعَيْنِهِ
وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي الْخِفَّةِ وَشِدَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:
*طَارُوا إِلَيْهِ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا*
فَقَوْلُهُ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْمَعْنَى
وَقِيلَ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الطَّائِرِ فَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} لَكَانَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ يُوهِمُ وَلَا طَائِرٍ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ إِذَا قُيِّدَ بِظَرْفٍ أَوْ حَالٍ يُقَيَّدُ بِهِ الْمَعْطُوفُ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِطَيْرِ الْأَرْضِ الَّذِي لَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا قَالَ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زَالَ هَذَا الْوَهْمُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَائِرٍ مُقَيَّدٍ إِنَّمَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الدَّابَّةُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لهم لا تفسدوا في الأرض} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْفَسَادَ(2/426)
لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ قِيلَ فِي ذكرها تنبيه على أن الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ شَأْنُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ -وَهِيَ سُتْرَةُ أَمْوَالِكُمْ- جَدِيرٌ أَلَّا يُفْسَدَ فيه إذا مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ
وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير} لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِبَعْضِهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ قولهم بأفواههم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصدور} وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُقَيَّدِ -إِذِ الْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ وَالْأَكْلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَطْنِ- فَفَوَائِدُهُ مُخْتَلِفَةٌ
فَقِيلَ: {بِأَفْوَاهِهِمْ} لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّسَانِ أَيْ لَا يُعَضِّدُهُ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ فَارِغٌ مِنْ مَعْنًى تَحْتَهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُؤَثِّرٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنًى قَوْلٌ بِالْفَمِ وَمُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ مَقُولٌ بِالْفَمِ لَا غَيْرَ أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْهَبُ أَيْ هُوَ مَذْهَبُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ لَا بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ تُوجِبُ اعْتِقَادَهُ بِالْقَلْبِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ رَافِعٌ لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ كَمَا في قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم}(2/427)
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فَأَفَادَ: {بِأَفْوَاهِهِمُ} التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَمْ يُسْتَفَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَيَشْهَدُ لَهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنك} الْآيَةَ فَلَمْ يُكَذِّبْ أَلْسِنَتَهُمْ بَلْ كَذَّبَ مَا انْطَوَى عَنْ ضَمَائِرِهِمْ مِنْ خِلَافِهِ
وَإِنَّمَا قَالَ: {في بطونهم نارا} لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ إِذَا أَمْعَنَ وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ إِذَا اقْتَصَرَ قَالَ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا
فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْكُلُونَ مَا يُجَرُّ -إِذَا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ- نَارًا
وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّتِي فِي الصدور} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير وَالتَّعَقُّلِ وَسَمَاعِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَلْ شَيْءٌ أَبْلَغُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ فَيَرَوْا بُيُوتًا خَاوِيَةً قَدْ سَقَطَتْ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرًا يَشْرَبُ أَهْلُهَا فِيهَا قَدْ عُطِّلَتْ وَقَصْرًا بَنَاهُ مَلِكُهُ بِالشِّيدِ خَلَا مِنَ السَّكَنِ وَتَدَاعَى بِالْخَرَابِ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ وَيَخَافُوا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ!(2/428)
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَبْصَارَهُمُ الظَّاهِرَةَ لَمْ تَعْمَ عَنِ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَإِنْ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمُ الَّتِي فِي صُدُورِهِمْ
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ قَدْ يُعْنَى بِهَا الْقَلْبُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذكري} جَازَ أَنْ يُعْنَى بِالْقَلْبِ الْعَيْنُ فَقَيَّدَ الْقُلُوبَ بِذِكْرِ مَحَلِّهَا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ غَيْرِهَا
وَقِيلَ: ذِكْرُ مَحَلِّ الْعَمَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِاسْمِ الْعَمَى مِنْ عَمَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" أَيْ: هَذَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْهُ فَعَمَى الْقَلْبِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ لَا عَمَى الْبَصَرِ فَأَعْمَى الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَعْمَى مِنْ أَعْمَى الْعَيْنِ فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {الَّتِي فِي الصدور} عَلَى أَنَّ الْعَمَى الْبَاطِنَ فِي الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّدْرُ لَا الْعَمَى الظَّاهِرُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْوَجْهُ
فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَةِ
الْأُولَى: الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ
اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَةَ الْعَامَّةَ لَا تَأْتِي بَعْدَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ لَا تَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَصِيحِ إِذْ كَلُّ فَصِيحٍ مُتَكَلِّمٌ وَلَا عَكْسُ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا أُشْكِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ(2/429)
الوعد وكان رسولا نبيا} إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {نَبِيًّا} صِفَةٌ لِـ "رَسُولَ" لِأَنَّ النَّبِيَّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ إِذْ كُلُّ رَسُولٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسُ
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {رَسُولًا} وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي رَسُولَ مِنْ مَعْنَى يُرْسِلُ أَيْ كَانَ إِسْمَاعِيلُ مُرْسَلًا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ وَهِيَ حَالٌ مؤكدة كقوله: {وهو الحق مصدقا}
الثانية: تأتي الصفة لازمة لا للتقييد
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا برهان له به} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لم ينزل به سلطانا} وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ نَحْوَ قَوْلِهِ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} جِيءَ بِهَا لِلتَّوْكِيدِ لَا أَنْ يَكُونَ فِي الآلهة ما يجوز أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِكَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ: لَا أَحَقَّ بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ فَاللَّهُ مُثِيبُهُ
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لِبَيَانِ خَاصَّةِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَلَّا تَقُومَ عَلَى صِحَّتِهِ حُجَّةٌ لَا بَيَانُ أَنَّهُ نَوْعَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا طائر يطير بجناحيه} هُوَ بَيَانُ خَاصَّةِ الطَّيَرَانِ لَا أَنَّهُ نَوْعَانِ(2/430)
وقوله: {سفها بغير علم} وَالسَّفَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ وَقِيلَ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِمِقْدَارِ قُبْحِهِ وَقَوْلِهِ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بغير الحق} وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُمْ إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِصِفَةِ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ أَبْلَغُ فِي ذَمِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِلْفِعْلِ كَمَا فِي عَكْسِهِ: {قال رب احكم بالحق} لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي التَّصْرِيحِ بِالصِّفَةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ كَقَتْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَهُ وَلَوْ وُجِدَ لَكَانَ بِحَقٍّ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا قَيَّدَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَإِلَّا اسْتَوْجَبُوا الْقَتْلَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ شُبْهَةً
وَإِنَّمَا نَصَحُوهُمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَلَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا وَجْهًا يُوجِبُ عِنْدَهُمُ الْقَتْلَ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جدال في الحج} مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ أَيْضًا لَكِنْ خُصِّصَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَخَطَرِهِ فِي الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ فِي الْحَجِّ كَيْفَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل} لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقَعُ فِي الْحَجِّ كَثِيرًا فَاعْتَنَى فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْإِخْلَاصِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} وَاتِّبَاعُ الْهَوَى لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ(2/431)
وَقِيلَ بَلْ يَكُونُ الْهَوَى فِي الْحَقِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فَإِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى حَسُنٌ لِمَنْ يُوقِنُ وَلِمَنْ لَا يُوقِنُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ ظُهُورَ حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك لأن المؤمن هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ الْجَاهِلِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ فَفَائِدَتُهُ مُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ التَّحْرِيفَ بِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ فَإِنَّهُ يُقَالُ كَتَبَ فُلَانٌ كَذَا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ بَلْ أَمَرَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ عَلَيٍّ: "كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ".
الثَّالِثَةُ: قَدْ تَأْتِي الصِّفَةُ بِلَفْظٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لونها} قِيلَ: الْمُرَادُ سَوْدَاءٌ نَاصِعٌ وَقِيلَ: بَلْ عَلَى بابها
ومنه قوله تعالى: {كأنه جمالت صفر} قِيلَ: كَأَنَّهُ أَيْنُقٌ سُودٌ وَسُمِّيَ الْأَسْوَدُ مِنَ الْإِبِلِ أَصْفَرُ لِأَنَّهُ سَوَادٌ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ
الرَّابِعَةُ: قَدْ تَجِيءُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْمِيمِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّمَا يُؤْكَلُ إِذَا أَثْمَرَ(2/432)
فَقِيلَ: فَائِدَتُهُ نَفْيُ تَوَهُّمِ تَوَقُّفِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالنُّضْجِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ أَوَّلِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حسد}
وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هي أحسن} فَإِنَّ غَيْرَ مَالِ الْيَتِيمِ كَذَلِكَ لَكِنْ إِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الطَّمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ لِعَجْزِهِ وَقِلَّةِ النَّاصِرِ لَهُ بِخِلَافِ مَالِ الْبَالِغِ أَوْ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِمَجْمُوعِ الْحُكْمَيْنِ وَهُمَا النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ بِغَيْرِ الْأَحْسَنِ
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ وَقُصِدَ بِهِ لِيُعْلَمَ وُجُوبُ الْعَدْلِ فِي الْفِعْلِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى كقوله: {فلا تقل لهما أف}
الْخَامِسَةُ: قَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَسْبَابِ السَّابِقَةِ
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إله واحد} فَإِنَّ ابْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ جَعَلُوهُ نَعْتًا قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ التَّأْكِيدِ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يقول: إن إلهين مثنى والاثنان للتثنية فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه:
أحدهما: قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ: إِنَّ فَائِدَتَهَا تَوْكِيدُ نَهْيِ الإشراك بالله سبحانه وذلك(2/433)
لأن الْعِبْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْإِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا اثْنَيْنِ فَقَطْ وَلَوْ وُصِفَ إِلَهَيْنِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ عَاجِزَيْنِ لَأَشْعَرَ بِأَنَّ الْقَادِرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَا فَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ فَسُبْحَانَ مَنْ دَقَّتْ حِكْمَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ!
وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: {فإن كانتا اثنتين}
الثَّانِي: أَنَّ الْوَحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا النَّوْعِيَّةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ" وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْعَدَدُ نَحْوَ: "إِنَّمَا زَيْدٌ رَجُلٌ وَاحِدٌ" فَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِهَا فَلَوْ قِيلَ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فَقَطْ لَصَحَّ فِي مَوْضُوعِهِ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنِ اتِّخَاذِ جِنْسَيْنِ آلِهَةً وَجَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَعْدَادُ آلِهَةٍ لِأَنَّهُ يطلق عليهم أنهم واحد لاسيما وَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ لَا تَتَضَادُّ مَطْلُوبَاتُهُ فَيَصِحُّ فَلَمَّا قَالَ: {اثْنَيْنِ} بَيَّنَ فِيهِ قُبْحَ التَّعْدِيدِ لِلْإِلَهِ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَدَدِيَّةِ وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله: أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَلَمْ تَصِفْهُ بِوَاحِدٍ لَمْ يَحْسُنْ وَقِيلَ لَكَ إِنَّكَ نَفَيْتَ الْإِلَهِيَّةَ لَا الْوَحْدَانِيَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ وَاقِعًا عَلَى التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ أَتَى بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَكَ: لَا تَتَّخِذْ ثَوْبَيْنِ يَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ عَنِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قُلْتَ: ثَوْبَيْنِ اثْنَيْنِ عَلِمَ الْمُخَاطَبُ أَنَّكَ نَهَيْتَهُ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالِاثْنَيْنِيَّةِ دُونَ الْوَاحِدِ وَأَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ مِنْهُ الِاقْتِصَارَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إِلَى نَفْسِ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَدِ(2/434)
فَأَتَى بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ الدَّالِّ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُعَدِّدِ الْآلِهَةَ وَلَا تَتَّخِذْ عَدَدًا تَعْبُدُهُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ
الرَّابِعُ: أَنَّ "اتَّخَذَ" هِيَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيَكُونُ: {اثْنَيْنِ} مَفْعُولَهَا الْأَوَّلُ وَ {إِلَهَيْنِ} مَفْعُولَهَا الثَّانِي وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَيَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ إِلَهَيْنِ أَخَصُّ مِنَ اثْنَيْنِ وَاتِّخَاذُ اثْنَيْنِ يَقَعُ عَلَى مَا يَجُوزُ وَعَلَى مالا يَجُوزُ وَأَمَّا اتِّخَاذُ اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ فَلَا يَقَعُ إلا على ما يَجُوزُ وَقَدَّمَ إِلَهَيْنِ عَلَى اثْنَيْنِ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ اتِّخَاذُهُمَا إِلَهَيْنِ فَالنَّهْيُ وَقَعَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ الْآلِهَةُ الْمُتَّخَذَةُ وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذكر الاثنين والإلهين إِذْ هُمَا مَفْعُولَا الِاتِّخَاذِ
قَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْجَيِّدُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَلَى التَّأْكِيدِ وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ إِلَهَيْنِ مَفْعُولَ تَتَّخِذُوا واثنين صِفَةً فَإِنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَصْفِ إِلَى التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ اثْنَيْنِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْ إِلَهَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ وَالْجِنْسِ وَالثَّانِي عَلَى مُجَرَّدِ الِاثْنَيْنِيَّةِ
قَالَ: وَهَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ كل زوجين اثنين} فِي دُخُولِ اثْنَيْنِ فِي حَدِّ الْوَصْفِ إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِتَنْوِينِ كُلٍّ فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ التَّنْوِينَ عِوَضًا عَنْهُ وَ {زوجين} مفعول "احمل" أو "فاسلك" و"اثنين" نعت ومن يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ لِكَوْنِهِ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا وَالتَّقْدِيرُ: احْمِلْ أَوِ اسْلُكْ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَمَنْ قَرَأَ بِإِضَافَةِ كُلٍّ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ اثْنَيْنِ المفعول والجار والمجرور متعلق(2/435)
فعل الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي: جَعْلُ مِنْ زائدة على رأي الأخفش وكل هي المفعول واثنين صِفَةٌ
الْخَامِسُ: أَنَّهُ بَدَلٌ وَيُنْوَى بِالْأَوَّلِ الطَّرْحُ وَاخْتَارَهُ النِّيلِيُّ فِي شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ حَسْمِ مَادَّةِ التَّأْوِيلِ وَنَظِيرُ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} فإن مروان بن سعد الْمُهَلَّبِيَّ سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ فَقَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ؟ أَرَادَ مَرْوَانُ أَنَّ لَفْظَ كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ فَمَا فَائِدَةُ تَفْسِيرِهِ الضَّمِيرَ الْمُسَمَّى بِاثْنَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ كَانَتَا ثَلَاثًا وَلَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَمْ يفصل الخبر الاسم في شيء؟ فَأَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ بِأَنَّهُ أَفَادَ الْعَدَدَ الْمَحْضَ مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَةِ أَيْ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا صَغِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا أَوْ كَبِيرَتَيْنِ فَلَهُمَا كَذَا أَوْ صَالِحَتَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ فَلَمَّا قَالَ: {اثْنَتَيْنِ} أَفْهَمَ أَنَّ فَرْضَ الثُّلُثَيْنِ لِلْأُخْتَيْنِ تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا اثْنَتَيْنِ فَقَطْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوَرِّثُونَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نُوَرِّثُ إِلَّا مَنْ يَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَنْكِئُ الْعَدُوَّ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِتَوْرِيثِ الْبَنَاتِ أَعْلَمَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي أخذ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْمِيرَاثِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْأَخَوَاتِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى العدد
قال الحريري: ولعمري لقد أَبْدَعَ مَرْوَانُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ وَسُؤَالِهِ وَأَحْسَنَ أَبُو الْحَسَنِ فِي كَشْفِ إِشْكَالِهِ! وَلَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ هَذَا الْجَوَابَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ- وَقَدْ بَيَّنَّا(2/436)
أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْأَخْفَشِ- ثُمَّ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُثَنَّى مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَاتِ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ خَبَرًا دَالًّا عَلَى التَّجْرِيدِ مِنَ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا يُعْنَى بِاللَّفْظِ ذَاتُهُ الْمَوْضُوعَةُ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ لَا يَفْهَمُ إِلَّا ذَاتٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَجْرِيدٍ عَنْ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ عَقْلٍ فَكَذَلِكَ اثْنَتَيْنِ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى مُسَمَّى اثْنَتَيْنِ فَقَطْ فَلَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ لَوْ سَلِمَ صِحَّةُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا إِذْ لَوْ صَحَّ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ حَصَلَ وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ تَثْنِيَةَ الضَّمِيرِ فِي كَانَتَا عَائِدٌ عَلَى الْكَلَالَةِ وَالْكَلَالَةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَجَمَاعَةً فَإِذَا أَخْبَرَ بِاثْنَتَيْنِ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَةٌ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي كَانَتَا الْعَائِدُ عَلَى الْكَلَالَةِ هُوَ فِي مَعْنَى اثْنَيْنِ صَحَّ أَنَّ تُثَنِّيَهُ لِأَنَّ تَثْنِيَتَهُ فَرْعٌ عَنِ الْإِخْبَارِ بِاثْنَيْنِ إِذْ لَوْلَاهُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَمْ تُسْتَفَدِ التَّثْنِيَةُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُمَاثِلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يوصيكم الله في أولادكم} ثم قال: {فإن كن نساء} {وإن كانت واحدة} وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْكَلَالَةِ وَإِلَّا لَكَانَ الضَّمِيرُ لِغَيْرِ مَذْكُورٍ
وَالْجَوَابُ بِشَيْءٍ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ إِلَيْهِ وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِهِ فَإِذَا قُلْتَ إِذَا جَاءَكَ رِجَالٌ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَإِنْ كَانَ اثْنَيْنِ فَكَذَا صَحَّ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْجَائِي وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: وَإِنْ كَانَ الْجَائِي مِنَ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِكَ: إِذَا جَاءَكَ وَالْآيَةُ سِيقَتْ لبيان(2/437)
الْوَارِثِينَ الْأَوْلَادِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ مِنَ الْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَقَدْ دَخَلَتْ الِاثْنَانِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى
وَيَجُوزُ أَنَّ تَبْقَى الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَخْتَصُّ هَذَا الْجَوَابُ بِهَذِهِ
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أُخَرُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ فَإِنْ كَانَ من ترك اثنتين وهذا مفيد فَأَضْمَرَهُ عَلَى مَا بَعْدُ وَ"مَنْ" يَسُوغُ مَعَهَا ذِكْرُ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ فَإِذَا وَقَعَ الضَّمِيرُ مَوْقِعَ "مَنْ" جَرَى مَجْرَاهَا فِي جَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالِاثْنَيْنِ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى أُصُولِهَا الْمَرْفُوضَةِ كَقَوْلِهِ تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان} وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْأَعْدَادِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ أَنْ تُضَافَ إِلَى الْمَعْدُودِ كَثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ اثْنَيْنِ رَجُلٍ وَوَاحِدِ رَجُلٍ وَلَكِنَّهُمْ رَفَضُوا ذَلِكَ لِأَنَّكَ تَجِدُ لَفْظَةً تَجْمَعُ الْعَدَدَ وَالْمَعْدُودَ فَتُغْنِيكَ عَنْ إِضَافَةِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُكَ: رَجُلَانِ وَرَجُلٌ وليس كذلك ما فوق الاثنتين أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ثَلَاثَةُ لَمْ يُعْلَمِ الْمَعْدُودُ مَا هُوَ؟ وَإِذَا قُلْتَ: رِجَالٌ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ مَا هُوَ فَأَنْتَ مُضْطَرٌّ إِلَى ذِكْرِ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ فَلِذَلِكَ قِيلَ: كَانَ الرجال ثلاثة ولم يقل: كان الرجلان اثنتين وَلَا الرَّجُلَانِ كَانَا اثْنَيْنِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالًا لِلشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ كَقَوْلِهِ:
*ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْظَلِ*(2/438)
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الشِّعْرِ؟
قِيلَ: إِنَّا وَجَدْنَا فِي القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة كاستحوذ وَنَظَائِرِهَا
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَبَّرَ بِالْأَدْنَى عَنْهُ وَعَمَّا فَوْقَهُ قَالَهُ ابْنُ الضَّائِعِ النَّحْوِيُّ
قُلْتُ: وَنَظَائِرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فإن لم يكونا رجلين} فَإِنَّ الرُّجُولِيَّةَ الْمُثَنَّاةَ فُهِمَتْ مِنَ الضَّمِيرِ بِدَلِيلِ: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: {رَجُلَيْنِ} حَالٌ لَا خَبَرٌ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا حَالَ كَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فَإِنَّ الْأُنُوثَةَ فُهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَضَعْتُهَا}
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمُ السُّؤَالَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: الضَّمِيرُ فِي {يَكُونَا} لِلرَّجُلَيْنِ لِأَنَّ "الشَّهِيدَيْنِ" قُيِّدَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الرِّجَالِ فَكَأَنَّ الْكَلَامَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلَانِ رَجُلَيْنِ وَهَذَا مُحَالٌ
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ الْأَخْفَشُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: إِنَّ الْخَبَرَ هُنَا أَفَادَ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الصِّفَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ إِذْ وَضَعَ فِيهِ "الرَّجُلَيْنِ" مَوْضِعَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ تَجَوُّزٌ بَعِيدٌ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ الْمُجَرَّدُ مِنْهُمَا الرُّجُولِيَّةُ أَوِ الْأُنُوثِيَّةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِصِفَةٍ مَا دَالًّا عَلَى نَفْيِهَا!(2/439)
عَلَى أَنَّ فِي جَوَابِ الْفَارِسِيِّ هُنَاكَ نَظَرًا فإنه لم يرد عَلَى أَنْ جَعَلَ نَفْسَ السُّؤَالِ جَوَابًا كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَ ذُكِرَ الْعَدَدُ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلضَّمِيرِ فَقَالَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ فَلَمْ يَزِدِ الْأَلْفَاظَ تَجَرُّدًا
قَالَ: وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ {رجلين} منصوب على الحال المبينة وكان تَامَّةٌ فَهُوَ أَظْرَفُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عن وجه النظم وأسلوب البلاغة ونفي مالا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْحَشْوِ فَأَجَابَ بِالْإِعْرَابِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ السُّؤَالِ بِشَيْءٍ وَالَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ خَبَرٌ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالٌ وَمَا زَادَنَا إِلَّا التَّكَلُّفَ فِي جَعْلِهِ حَالًا وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ {شَهِيدَيْنِ} لَمَّا صَحَّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بِمَعْنَى شَخْصَيْنِ شَهِيدَيْنِ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ثُمَّ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} عَلَى الشَّهِيدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ وَكَانَ عَوْدُهُ عَلَيْهِمَا أَبْلَغَ لِيَكُونَ نَفْيُ الصِّفَةِ عَنْهُمَا كَمَا كَانَ إِثْبَاتُهَا لَهُمَا فَيَكُونُ الشَّرْطُ مُوجَبًا وَنَفْيًا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كَالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ وَفِي النَّظْمِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الِارْتِبَاطِ وَجَرْيِ الكلام على نسق واحد مالا خَفَاءَ بِهِ وَأَمَّا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ وُضِعَ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ اخْتِصَارًا لِبَيَانِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ اثْنَيْنِ ثُمَّ وُضِعَ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ مَوْضِعَ الْوَارِثِ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ لَمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْهُ الِاثْنَانِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْوَارِثِ -وَإِنْ كَانَ جَمْعًا- بِاثْنَيْنِ فَفِيهِ تَفَاوُتٌ مَا لِكَوْنِهِ مُفْرَدَ اللَّفْظِ فَكَانَ الْأَلْيَقُ بِحُسْنِ النَّظْمِ وَضْعُ الْمُضْمَرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ ثُمَّ يُجْرِي الْخَبَرَ عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ -وَهُوَ الْوَارِثُ- فَيَجْرِي الْكَلَامُ فِي طَرِيقِهِ مَعَ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ المضمر الظَّاهِرِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ تَفَاوُتِ اللَّفْظِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ لَفْظٍ مُفْرَدٍ بِمُثَنَّى(2/440)
وَنَظِيرُ هَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ اسْمٌ مَوْضِعَ غَيْرِهِ إِيجَازًا ثُمَّ جَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ فِي الْحَدِيثِ عَمَّنْ هُوَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا أو هم قائلون} فَعَادَ هَذَا الضَّمِيرُ وَالْخَبَرُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ أُقِيمَتِ الْقَرْيَةُ فِي الذِّكْرِ مَقَامَهُمْ فَجَرَى الْكَلَامُ مَجْرَاهُ مَعَ حُصُولِ الْإِيجَازِ فِي وَضْعِ الْقَرْيَةِ مَوْضِعَ أَهْلِهَا وَفُهِمَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وهذه الغاية في البيان يقصد عن مداها الْإِنْسَانِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نفخة واحدة} قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَمَّا فُهِمَ مِنْهَا التَّأْكِيدُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الذَّاتِ وَلَيْسَ فِي {وَاحِدَةٌ} دَلَالَةً عَلَى نَفْخٍ فَدَلَّ عَلَى أنها ليست تأكيدا
وَفِي فَائِدَةِ {وَاحِدَةٌ} خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: التَّوْكِيدُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: "أَمْسِ الدَّابِرُ"
الثَّانِي: وَصْفُهَا لِيَصِحَّ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْفَاعِلِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا إِذَا وُصِفَ وَرُدَّ بِأَنَّ تَحْدِيدَهَا بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مُصَحِّحٌ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْفَاعِلِ
الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَحْدَةَ لَمْ تُعْلَمْ مِنْ نَفْخَةٍ إِلَّا ضِمْنًا وَتَبَعًا لِأَنَّ قَوْلَكَ نَفْخَةٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ النَّفْخُ وَالْوَحْدَةُ فَلَيْسَتْ نَفْخَةٌ مَوْضُوعَةً لِلْوَحْدَةِ فَلِذَلِكَ صَحَّ وَصْفُهَا
الرَّابِعُ: وصفه النفخة بواحدة لأجل نفي توهم الكثرة كقوله تعالى: {إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فَالنِّعْمَةُ فِي اللَّفْظِ وَاحِدَةٌ وَقَدْ عَلَّقَ عَدَمَ الإحصاء بعدها(2/441)
الْخَامِسُ: أَتَى بِالْوَحْدَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ كقوله: {وما أمرنا إلا واحدة} أَيْ: لَا اخْتِلَافَ فِي حَقِيقَتِهِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {وإلهكم إله واحد} قِيلَ: مَا فَائِدَةُ {إِلَهٍ} وَهَلَّا جَاءَ وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ أَوْجَزُ قِيلَ: لَوْ قَالَ: وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ لَكَانَ ظَاهِرُهُ إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا فِي إِلَهِيَّتِهِ يَعْنِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ إِخْبَارًا عَنْ تَوَحُّدِهِ فِي ذَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كُرِّرَ ذِكْرُ الْإِلَهِ وَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِإِثْبَاتِ أَحَدِيَّتِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْيِ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى إِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَالْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ أي الأصول كما أن زيدا واحدا وَأَعْضَاؤُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَمَّا قَالَ: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} دَلَّ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: {وَاحِدٌ} يَحْتَمِلُ الْأَحَدِيَّةَ فِي الذَّاتِ وَالْأَحَدِيَّةَ في الصفات سواء ذكر الإله أولا فلا يتم الجواب
ومنها قوله: {ومناة الثالثة الأخرى} وَمَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ: {الثَّالِثَةَ} أَنَّهَا {الْأُخْرَى} وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَمِثْلُهُ عَلَى رَأْيِ الْفَارِسِيِّ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى}
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قِيلَ: بِمَعْنَى "عَنْ" أَيْ: خَرَّ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ كَمَا تَقُولُ: اشْتَكَى فُلَانٌ عَنْ دَوَاءٍ شَرِبَهُ أَيْ مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ فَخَرَّ لَهُمْ وَقِيلَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ لَفْظَةَ "عَلَى" فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ تَقُولُ خَرِبَتْ عَلَى فُلَانٍ ضَيْعَتُهُ كَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا(2/442)
ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} {ويقولون على الله الكذب} {أتقولون على الله ما لا تعلمون} وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: سَقَطَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ كَذَا إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَوْقِهِ بَلْ تَحْتَهُ فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ فوقهم} عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِالْفَوْقِيَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بنيانهم من القواعد} كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى رَأْسِهِ
السَّادِسَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ
إِذَا اجْتَمَعَ مُخْتَلِفَانِ فِي الصَّرَاحَةِ وَالتَّأْوِيلِ قُدِّمَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ ثُمَّ الظَّرْفُ أَوْ عَدِيلُهُ ثُمَّ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} فَقَوْلُهُ: {وَجِيهًا} حَالٌ وَكَذَلِكَ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَقَوْلُهُ: {يُكَلِّمُ} وَقَوْلُهُ {مِنَ الصَّالِحِينَ} فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ انْتَصَبَتْ عَنْ قَوْلِهِ "كَلِمَةٍ" وَالْحَالُ الْأُولَى جِيءَ بِهَا عَلَى الْأَصْلِ اسْمًا صَرِيحًا وَالثَّانِيَةُ فِي تَأْوِيلِهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ وَجِيءَ بِهَا هَكَذَا لِوُقُوعِهَا فَاصِلَةً فِي الْكَلَامِ وَلَوْ جِيءَ بِهَا اسْمًا صَرِيحًا لَنَاسَبَتِ الْفَوَاصِلَ وَالثَّالِثَةُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَالرَّابِعَةُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يكتم إيمانه} {قال(2/443)
رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} وَلَمَّا كَانَ الظَّرْفُ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمُفْرَدِ وَشَبَهٌ مِنَ الْجُمْلَةِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا
وَقَدْ أَوْجَبَ ابن عصفور وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} وَلَا يُقَالُ: إِنَّ {أَذِلَّةٍ} بَدَلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَوَامِدِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَذَا كتاب أنزلناه مبارك} فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {مُبَارَكٌ} خَبَرًا لِمَحْذُوفٍ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ
السَّابِعَةُ: فِي اجْتِمَاعِ التابع والمتبوع
فِي اجْتِمَاعِ التَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْمَتْبُوعَ فيقولون: أبيض ناصع وأصفر فاقع وأحمر قان وأسود غِرْبِيبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} والمعنى: أن التبع فيه زِيَادَةِ الْوَصْفِ فَلَوْ قُدِّمَ لَكَانَ ذِكْرُ الْمَوْصُوفِ بَعْدَهُ عَيْبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى أَوْجَبَ تَقْدِيمَهُ
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وغرابيب سود} وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدِئَتْ فِيهَا الْأَذْهَانُ الصَّقِيلَةُ وَعَادَتْ بِهَا أَسِنَّةُ الْأَلْسِنَةِ مَفْلُولَةً وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَجَائِبِ أَنَّ شَيْخًا أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُدَرِّسٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ السَّوَادَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْغِرْبَانِ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ فَلَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَرَابِيبَ هُوَ الْغُرَابُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله!(2/444)
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِتَقْدِيمِ "الْغَرَابِيبِ" هُوَ تَنَاسُبُ الْكَلِمِ وَجَرَيَانُهَا عَلَى نَمَطٍ مُتَسَاوِي التَّرْكِيبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْبِيضُ والحمر دون إتباع كان الأليق بحسن النسق وترتيب النظام أني يَكُونَ السُّودُ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السُّودِ هُنَا زِيَادَةُ الْوَصْفِ كَانَ الْأَلْيَقُ فِي الْمَعْنَى أَنْ يُتْبَعَ بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَهُوَ الْغَرَابِيبُ فَيُقَابِلُ حَظَّ اللَّفْظِ وَحَظَّ الْمَعْنَى فَوَفَّى الْخِطَابَ وَكَمُلَ الْغَرَضَانِ جَمِيعًا وَلَمْ يَطْرَحْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَقَعُ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْحِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْغَرَابِيبِ عَلَى السُّودِ فَوَقَعَ فِي لَفْظِ الْغَرَابِيبِ حَظُّ الْمَعْنَى فِي زِيَادَةِ الْوَصْفِ وَفِي ذِكْرِ السُّودِ مُفْرَدًا مِنَ الْإِتْبَاعِ حَظُّ اللَّفْظِ إذا جَاءَ مُجَرَّدًا عَنْ صُورَةِ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ فَاتَّسَقَتِ الْأَلْفَاظُ كَمَا يَنْبَغِي وَتَمَّ الْمَعْنَى كَمَا يَجِبُ وَلَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْغَرَابِيبِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِمَعْنَى السُّودِ لئلا تتنافر الألفاظ فإن ضم الغرابيب إِلَى الْبَيْضِ وَالْحُمْرِ وَلَزَّهَا فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ:
*كَابْنِ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرْنٍ*
غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِتَلَاؤُمِ الْأَلْفَاظِ وَتَشَاكُلِهَا وَبِذِكْرِ السُّودِ وَقَعَ الِالْتِئَامُ وَاتَّسَقَ نَسَقُ النِّظَامِ وَجَاءَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي دَرَجَةِ التَّمَامِ وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي تَكِلُّ دُونَهَا الْعُقُولُ وَتَعْيَا بِهَا الْأَلْسُنُ لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ! وَالْحَمْدُ لله(2/445)
ثُمَّ رَأَيْتُ أَبَا الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيَّ أَشَارَ إِلَى مَعْنًى غَرِيبٍ فَنَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الدَّيْنَوَرِيِّ أَنَّ الْغِرْبِيبَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْعِنَبِ وَلَيْسَ بِنَعْتٍ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْآيَةِ وَسُودٌ عِنْدِي بَدَلٌ لَا نَعْتٌ وَإِنْ كَانَ الْغِرْبِيبُ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ بِذِكْرِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ قَلَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعِنَبُ الَّذِي هُوَ اسْمُهُ خَاصَّةً فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التَّقْيِيدُ
الثامنة: عند تكرار النعوت لواحد
إذا تكررت النعوت لواحدة فَتَارَةً يُتْرَكُ الْعَطْفُ كَقَوْلِهِ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم وَتَارَةً تَشْتَرِكُ بِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ مَعَانِيهَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: دُخُولُ الْعَاطِفِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ كُلَّ صفة مستقلة
وَالْعَطْفُ أَحْسَنُ إِنْ تَبَاعَدَ مَعْنَى الصِّفَاتِ نَحْوَ: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} وَإِلَّا فَلَا
التَّاسِعَةُ: فَصْلُ الْجُمَلِ فِي مَقَامِ المدح والذم أبلغ من جعلها نمط وَاحِدًا
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ فِي إِعْرَابِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فَإِذَا خُولِفَ فِي الْإِعْرَابِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفتن وَعِنْدَ الْإِيجَازِ تَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا(2/446)
وَمِثْلُهُ فِي الْمَدْحِ قَوْلُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصلاة والمؤتون الزكاة} فانتصب {والمقيمين} عَلَى الْقَطْعِ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ {الْمُؤْمِنُونَ} وَقِيلَ: بَلِ انْتَصَبَ بِالْعَطْفِ عَلَى قوله: {بما أنزل إليك} وَهُوَ مَجْرُورٌ وَكَأَنَّهُ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَبِالْمُقِيمِينَ أَيْ بِإِجَابَةِ الْمُقِيمِينَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلتَّفْخِيمِ فَالْأَلْيَقُ بِهِ إِضْمَارُ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ الْكَلَامُ جُمْلَةً لَا مُفْرَدًا
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ
وَجَوَّزَ السِّيرَافِيُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القربى} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَالصَّابِرِينَ} وَرَدَّهُ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَوْصُولِ قَبْلَ تَمَامِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ {وَالصَّابِرِينَ} مَعْطُوفًا عَلَى {وَالسَّائِلِينَ} فَهُوَ مِنْ صِلَةِ " مَنْ " فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ
وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ " مِنْ " صِلَةِ مَنْ وَتَكُونُ الصلة كملت(2/447)
عند قوله تعالى: {وآتى الزكاة} ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقَطْعِ
وَمِثَالُهُ فِي الذَّمِّ: {وامرأته حمالة الحطب} بِنَصْبِ {حَمَّالَةَ}
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يَحْسُنُ الْقَطْعُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ مَعْلُومًا أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَجْهُولٍ وَقَوْلُنَا " أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ " لابد مِنْهُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي له ملك السماوات والأرض} رفع على الإبدال من {الذي نزل} أَوْ رُفِعَ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ نُصِبَ عَلَيْهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْإِبْدَالُ أَوْلَى لِأَنَّ مِنْ حَقِّ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وكونه تعالى {نزل الفرقان على عبده} لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْعَالَمِينَ فَأُبْدِلَ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بَيَانًا وَتَفْسِيرًا وَتَبَيَّنَ لَكَ المدح
وجوابه ما ذكرنا أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم وها هنا لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَعْلُومِ وَجُعِلَتْ صِلَةً نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورُ
وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصفة للثناء والتعظيم
واشرط بَعْضُهُمْ ثَالِثًا وَهُوَ تَقَدُّمُ الْإِتْبَاعِ حَكَاهُ ابْنُ بابشاذ(2/448)
وَزَيَّفَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فَحِينَئِذٍ يَتَقَدَّمُ الْإِتْبَاعُ لِيَسْتَحْكِمَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ أَمَّا إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ قَالَ: وَالْأَصْلُ -فِيمَا الصِّفَةُ فِيهِ مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ وَالْمَوْصُوفُ مَعْلُومٌ- قَطْعُ الضَّمِيرِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ أُورِدَ عَلَى دَعْوَى أَفْصَحِيَّةِ الْقَطْعِ عِنْدَ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَلَى الْإِتْبَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَضَعَّفُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ مَعَ حُصُولِ شَرْطَيِ الْقَطْعِ
وَأَجَابَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْقَطْعِ مُطَّرِدٌ مَا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ لَا يَلِيقُ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا سِوَاهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قَلِيلٌ جِدًّا فَكَذَلِكَ لَمْ يُفْصِحْ سِيبَوَيْهِ بِاشْتِرَاطِهِ فَإِذَا كَانَتِ الصف مِمَّنْ لَا يُشَارِكُ فِيهَا الْمَوْصُوفُ غَيْرَهُ وَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ فَالْوَجْهُ فِيهَا الْإِتْبَاعُ
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعُ وَعَلَيْهِ وَرَدَ السَّمَاعُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطول} لَمَّا كَانَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِـ {غَافِرِ الذَّنْبِ} وَمَا بَعْدَهُ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْإِتْبَاعُ وَالْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ وَيَلْزَمُ الْإِتْبَاعُ فِي الْكُلِّ
وَهَذَا مَعَ تَكَرُّرِ الصِّفَاتِ وَذَلِكَ مِنْ مُسَوِّغَاتِ الْقَطْعِ عَلَى صِفَةٍ مَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تقييد بصفة(2/449)
وَأَمَّا الْإِتْبَاعُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى فَكَثِيرٌ فَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَارِدِ فِي سُورَةِ وَالنَّجْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى. وأنه هو رب الشعرى} فَوَرَدَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِيَتَحَدَّدَ بِمَفْهُومِهِ نَفْيُ الِاتِّصَافِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَكَانَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: " وَأَنَّهُ هُوَ لَا غَيْرُهُ " وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذكر والأنثى} لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَاطَاهُ أَحَدٌ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا ادِّعَاءً بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُمْرُوذَ
قُلْتُ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {التائبون العابدون} الآية وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مسلمات} الْآيَاتِ
وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْصَافِ الذَّمِّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ} الآية قَدْ جَرَتْ كُلُّهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْإِتْبَاعِ وَلَمْ يَجِئْ فِيهَا الْقَطْعُ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: {عُتُلٍّ} بِالرَّفْعِ عَلَى الذَّمِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْوِيَةٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّانِي قَدْ يَلْتَبِسُ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْمَدْحِ بِالِاخْتِصَاصِ وَقَدْ فَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَيَّنَ(2/450)
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَصِبُ لَفْظًا يَتَضَمَّنُ نَفْسُهُ مَدْحًا نَحْوَ " هَذَا زِيدٌ عَاقِلُ قَوْمِهِ " وَفِي الِاخْتِصَاصِ لَا يَقْتَضِي اللفظ ذلك كقوله تعالى: {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت} فيمن نصب {أهل}
العاشرة: في وصف الجمع بالمفرد
يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ قَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} فَوَصَفَ الْجَمْعَ بِالْمُفْرَدِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الحسنى} فَوَصَفَ الْأَسْمَاءَ وَهِيَ جَمْعُ اسْمٍ بِالْحُسْنَى وَهُوَ مفرد تأنيث الأحسن
وكذلك قوله تعالى: {قال فما بال القرون الأولى} فَإِنَّ الْأُولَى تَأْنِيثُ الْأَوَّلِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُفْرَدٍ
وَإِنَّمَا حَسُنَ وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرِدِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُؤَنَّثَ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ بِخِلَافِ لفظ المذكر وأما قوله تعالى: {وكنتم قوما بورا} وَالْبُورُ الْفَاسِدُ فَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ إِلَّا أَنَّهُ تُرِكَ جَمْعُهُ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ
وَقَدْ يُوصَفُ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ وَلَا يُوصَفُ مُفْرَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمُفْرَدِ وَمِنْهُ: {فَوَجَدَ فيها(2/451)
رجلين يقتتلان} فَثَنَّى الضَّمِيرَ وَلَا يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ يَقْتَتِلُ
ومنه: {وأخر متشابهات} ولا يقال وأخرى متشابهة
الحادية عشر: قَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً تَأْكِيدًا
ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} قَالَ: الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ وَالْقِيَاسُ عَدَمُ دُخُولِ الْوَاوِ فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} وَإِنَّمَا تَوَسَّطَتْ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ
وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَالْقِيَاسُ مَعَ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّ الصِّفَةَ كَالْحَالِ فِي الْمَعْنَى وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِالْوَاوِ فِي الصِّفَاتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامنهم كلبهم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وَتَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَالْعَالِمُ(2/452)
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الصِّفَةُ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ
لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا لِلْبَيَانِ وَالتَّخْصِيصِ أَوِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَهَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِطَالَةِ لَا الِاخْتِصَارِ فَصَارَ مِنْ بَابِ نَقْصِ الْغَرَضِ
وَقَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: عِنْدِي أَنَّ الْبَيَانَ حَصَلَ بِالصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَعًا فَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ يُنْقِصُ الْغَرَضَ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: مَرَرْتُ بِطَوِيلٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ قَوْسٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ ظُهُورًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ}
قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَا فَرْقَ فِي صِفَةِ النَّكِرَةِ بين أن يذكر معها أولا
قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْبَدَلُ
وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَهُوَ يُفِيدُ الْبَيَانَ وَالتَّأْكِيدَ أَمَّا الْبَيَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فلأنه(2/453)
عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُ زَيْدًا جَازَ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْتَ رَأْسَهُ أَوْ يَدَهُ أَوْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَإِذَا قُلْتَ " يَدَهُ " فَقَدْ رَفَعْتَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ فالبدل جار مجرى التأكيد الدلالة الأولى عليه أو المطابقة كما بَدَلِ الْكُلِّ أَوِ التَّضَمُّنِ كَمَا فِي بَدَلِ الْبَعْضِ أَوِ الِالْتِزَامِ كَمَا فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ فَكَأَنَّكَ قَدْ ذَكَرْتَ الرَّأْسَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالتَّضَمُّنِ وَأُخْرَى بِالْمُطَابَقَةِ وَإِذَا قُلْتَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِكَ: شَرِبْتُ مَاءَ الْبَحْرِ أَنَّكَ لَمْ تَشْرَبْهُ كُلَّهُ فَجِئْتَ بِالْبَعْضِ تَأْكِيدًا
وَهَذَا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الِاسْمَ تَأْكِيدًا وَجَرَى مَجْرَى الصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو زَيْدًا ورأيت غلامك زيدا ومررت بِرَجُلٍ صَالِحٍ زَيْدٍ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُهُ بِأَنَّهُ غُلَامُكَ أَوْ بِأَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَلَى الْعَكْسِ فَلَمَّا ذَكَرْتَهُمَا أُثْبِتَ بِاجْتِمَاعِهِمَا الْمَقْصُودُ
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وإنما يذكر الأولى لِتَجُوزَ التَّوْطِئَةُ وَلِيُفَادَ بِمَجْمُوعِهِمَا فَضْلُ تَأْكِيدٍ وَتَبْيِينٍ لَا يَكُونُ فِي الْإِفْرَادِ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: لَيْسَ كُلُّ بَدَلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الصِّرَاطَ الثاني لم يشك أجد أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَلِهَذَا جَوَّزُوا بَدَلَ الْمُضْمَرِ من المضمر كلقيته أباه انتهى(2/454)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَكَأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكَرُّرِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لمن آمن منهم} وَبِدَلِيلِ بَدَلِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُظْهَرِ مِنَ الْمُضْمَرِ وَهَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فِي الصِّفَةِ فَكَمَا أُعِيدَتِ اللَّامُ الْجَارَّةُ فِي الِاسْمِ فَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْعَامِلِ الرَّافِعِ أَوِ النَّاصِبِ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرَارِ وَهُوَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَبْيِينٌ لِلْأَوَّلِ كَالصِّفَةِ
وَقِيلَ لِأَبِي عَلِيٍّ: كَيْفَ يَكُونُ الْبَدَلُ إِيضَاحًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جُمْلَتِهِ؟ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَاتَّصَلَ الْبَدَلُ بِالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ جَازَ أَنْ يُوَضِّحَهُ
وَمِنْ فَوَائِدِ الْبَدَلِ التَّبْيِينُ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ فَقَوْلُكَ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَفْضَلِهِمْ فُلَانٌ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ الْأَكْرَمُ وَالْأَفْضَلُ بِذِكْرِهِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْوَاحِدِيُّ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ نَحْوَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} يُسَمَّى هَذَا بَدَلَ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْبَدَلِ إِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَلَامِ الْبَدَلَيْنِ أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ وَالثَّانِيَةُ بِالْخُصُوصِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الذين}(2/455)
{آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون}
وقوله: {لنسفعا بالناصية. ناصية كاذبة} وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتخيص عَلَى نَاصِيَةٍ وَالثَّانِيَةَ عَلَى عِلَّةِ السَّفْعِ لِيَشْمَلَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ كُلِّ نَاصِيَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا
وَيَجُوزُ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صراط الذين}
وَبَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوَ: {بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كاذبة} قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَا يَحْسُنُ بَدَلُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى تُوصَفَ كَالْآيَةِ لِأَنَّ الْبَيَانَ مُرْتَبِطٌ بِهِمَا جَمِيعًا
وَالنَّكِرَةُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا. حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا. وَكَوَاعِبَ أترابا. وكأسا دهاقا} فَحَدَائِقَ وَمَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ " مَفَازًا "
وَمِنْهُ قوله تعالى: {وغرابيب سود} فَإِنَّ سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ سُودٌ غَرَابِيبُ فَغَرَابِيبُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِسُودٍ وَنُزِعَ الضَّمِيرُ مِنْهَا وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهَا الَّذِي كَانَ مَوْصُوفًا بِهَا كَقَوْلِهِ تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} وقوله: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} فَهَذَا بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ أُخْرَى مَوْصُوفَةٍ فِيهَا بَيَانُ الْأُولَى
وَمِثْلُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ مِثْلِهَا مُجَرَّدَةٍ وَبَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} لِأَنَّ " صِرَاطِ اللَّهِ " مُبَيِّنٌ إِلَى الصِّرَاطِ(2/456)
الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّ مَجِيءَ الْخَاصِّ وَالْأَخَصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَالْأَعَمِّ كَثِيرٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْحَذَّاقُ فِي قوله تعالى: {ما يلفظ من قول} إِنَّهُ لَوْ عُكِسَ فَقِيلَ " مَا يَقُولُ مِنْ لَفْظٍ " لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ الْمُهْمَلَ الَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ
وَقَدْ يَجِيءُ لِلِاشْتِمَالِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَلِ الْبَعْضِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَعْضِ جَرَّ فِي الِاشْتِمَالِ وَصْفًا كَقَوْلِهِ: {وَمَا أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} فَإِنَّ أَذْكُرَهُ بِمَعْنَى " ذِكْرَهُ " وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ فِي {أَنْسَانِيهِ} الْعَائِدَةُ إِلَى الْحُوتِ وَتَقْدِيرُهُ: " وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ "
وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عن الشهر الحرام قتال فيه} فَـ {قِتَالٍ} بَدَلٌ مِنَ "الشَّهْرِ " بَدَلَ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَمَا كَانَ زَيْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ فَجَاءَ بِهِ تَأْكِيدًا
وَقَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود. النار} فَالنَّارُ بَدَلٌ مِنَ " الْأُخْدُودِ " بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّارِ وَغَيْرِهَا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ " الْمُوقَدَةُ فِيهِ"
وَمِنْ بَدَلِ الْبَعْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلا} فَالْمُسْتَطِيعُونَ بَعْضُ النَّاسِ لَا كُلُّهُمْ
وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: بَلْ هَذِهِ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَجَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ بَعْضَهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جمعوا(2/457)
لكم} فِي أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ لِأَنَّ {النَّاسَ} فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ لَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {إِنَّ النَّاسَ} فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مُطَابِقٌ لِعِدَّةِ الْمُسْتَطِيعِينَ فِي كَمِّيَّتِهِمْ وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعُهُمْ
وَالصَّحِيحُ مَا صَارَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ بَابَ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِي بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنْ يُذْكَرَ الْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ مُبَيِّنًا وَمُوَضِّحًا
وَلَا بُدَّ فِي إِبْدَالِ الْبَعْضِ مِنْ ضَمِيرٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بعضهم ببعض} {ويجعل الخبيث بعضه على بعض}
وَقَدْ يُحْذَفُ لِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حج البيت من استطاع} " مِنْهُمْ " وَهُوَ مُرَادٌ بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ من آمن منهم} فَـ {مَنْ آمَنَ} بَدَلٌ مِنْ {أَهْلِهِ} وَهُمْ بَعْضُهُمْ
وَقَدْ يَأْتِي الْبَدَلُ لِنَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ مبدله نحو: جاء القوم أكثرهم وأعجبني زَيْدٌ ثَوْبُهُ وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَلَا يَصِحُّ "غِلْمَانُهُ "
وَعَدَلَ عَنِ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يعقلون} لِأَنَّهُ أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي الْحَالِ الثاني وهو {ولو أنهم صبروا} فَلَوْ أُبْدِلَ لَأَوْهَمَ بِخِلَافِ " إِنَّكَ أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ لَكَ " الْبَدَلُ أَرْجَحُ
وَالْبَدَلُ فِي تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ وَلَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ بِدَلِيلِ تَكْرِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ(2/458)
قَدْ يُكَرَّرُ عَامِلُهُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} فَـ {طَلْعِهَا} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ {النَّخْلِ} وَكَرَّرَ الْعَامِلَ فِيهِ وَهُوَ "مِنْ"
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لمن آمن منهم} {لِمَنْ آمَنَ} بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنَ {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَقَدْ كَرَّرَ اللَّامَ
وَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سقفا من فضة} فَقَوْلُهُ {لِبُيُوتِهِمْ} بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ اللَّامَ الْأُولَى لِلْمِلْكِ وَالثَّانِيَةَ لِلِاخْتِصَاصِ فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ الْبَدَلُ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْحَرْفَيْنِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكُونُ لَنَا عيدا لأولنا وآخرنا} فَـ {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي {لَنَا} وَقَدْ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ مَقْصُودًا بِهِ التَّفْصِيلُ
وَمِنْهُ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: جَازَ إِبْدَالُ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ سَبَبِ الْجُثُوِّ
قِيلَ: وَلَمْ يَظْهَرْ عَامِلُ الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ إِيذَانًا بِافْتِقَارِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ فإن حروف الجر مفتقرة ولم يظهروا الفعل إذا لَوْ أَظْهَرُوهُ لَانْقَطَعَ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ لَأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْفِعْلِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ(2/459)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إِظْهَارِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَإِنْ كَانَ رَافِعًا أَوْ نَاصِبًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُجَوِّزُونَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أمدكم} يجوز أَنْ يَكُونَ {أَمَدَّكُمُ} الثَّانِي بَدَلًا مَنْ {أَمَدَّكُمْ} الْأَوَّلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْجُمْلَةِ وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ صِلَةَ " الَّذِي " كَالْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ شَارِحَةً لِلْأُولَى كَقَوْلِكَ ضَرَبْتُ رَأْسَ زَيْدٍ قَذَفْتُهُ بِالْحَجَرِ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ} أبدل قوله: {اتبعوا من لا يسألكم} من قوله: {اتبعوا المرسلين} لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَلَطُّفًا فِي اقْتِضَاءِ اتِّبَاعِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ له العذاب} فَـ {يَلْقَ} مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْأَلِفِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فبين بها الأثام ما هو
تقسيم البدل باعتبار آخر
وَيَنْقَسِمُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى بَدَلِ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَجُمْلَةٍ مِنْ جُمْلَةٍ وَقَدْ سَبَقَا وَجُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ آدَمَ خلقه من تراب} وَقَوْلِهِ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وَجَازَ إِسْنَادُ {يُقَالُ} إِلَى مَا عَمِلَتْ فِيهِ كَمَا جَازَ إِسْنَادُ {قِيلَ} فِي {وَإِذَا قِيلَ إن وعد الله حق} وَمِنْ إِبْدَالِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُفْرَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا(2/460)
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ {النَّجْوَى}
وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما. يضاعف له العذاب} الْآيَةَ
وَالرَّابِعُ: بَدَلُ الْمُفْرَدِ مِنَ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أنهم إليهم لا يرجعون} فَـ {أَنَّهُمْ} بَدَلٌ لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ وَعَدَمَ الرُّجُوعِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ
فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ بَدَلًا لَكَانَ مَعَهُ الِاسْتِفْهَامُ؟
قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مَعْنَوِيٌّ
تنبيه في تكرار البدل
وَقَدْ يُكَرَّرُ الْبَدَلُ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصاحبه} فَقَوْلُهُ: {إِذْ هُمَا} بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذْ أخرجه الذين كفروا} وقوله: {إذ يقول لصاحبه} بدل من {إذ هما في الغار}(2/461)
تنبيه
في إعراب كلمة "آزر" في سورة الأنعام
أَعْرَبُوا {آزَرَ} مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأبيه آزر} بَدَلًا
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَيَانِ وَالْأَبُ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ حَسُنَ الْبَدَلُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَبَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ويعقوب} فَقَالَ " آزَرَ " لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ
هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ "آزَرَ" اسْمُ أَبِيهِ لَكِنْ فِي الْمُعْرَبِ لِلْجَوَالِيقِيِّ عَنِ الزَّجَّاجِ لَا خِلَافَ أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ "تَارِحُ" وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ وَقِيلَ: آزَرُ ذَمٌّ فِي لُغَتِهِمْ وَكَأَنَّهُ يَا مُخْطِئُ وَهُوَ مِنَ الْعَجَمِيِّ الَّذِي وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْعَرَبِيِّ نَحْوَ الْإِزَارُ وَالْإِزْرَةُ قَالَ تَعَالَى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} وَعَلَى هَذَا فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ فِي قِرَاءَةِ {آزَرَ}
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: عَطْفُ الْبَيَانِ
وَهُوَ كَالنَّعْتِ فِي الْإِيضَاحِ وَإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ الْكَائِنِ فِيهِ
وَشَرَطَ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وُضُوحُهُ زَائِدًا عَلَى وُضُوحِ مَتْبُوعِهِ(2/462)
وَرُدَّ مَا قَالَهُ بِأَنَّ الشَّرْطَ حُصُول زِيَادَةِ الْوُضُوحِ بِسَبَبِ انْضِمَامِ عَطْفِ الْبَيَانِ مَعَ مَتْبُوعِهِ لَا أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ أَوْضَحَ وَأَشْهَرَ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَحْصُلَ بِاجْتِمَاعِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةُ وُضُوحٍ لَا تَحْصُلُ حَالَ انْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي " خَالِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ زَيْدٌ " مَعَ أَنَّ اللَّقَبَ أَشْهَرُ فَيَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَفَاءٌ بِانْفِرَادِهِ وَيُرْفَعُ بِالِانْضِمَامِ
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: جُعِلَ " يا هذا الحمد " عَطْفُ بَيَانٍ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ أَعْرَفُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَى ذِي اللَّامِ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْبَيَانِ مَعْرِفَةً وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِكَ: لَبِسْتُ ثَوْبًا جُبَّةً وَقَدْ أعرب الفارسي: {من شجرة مباركة زيتونة} وكذا: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِي: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثنين إنما هو إله واحد}
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ؟
قُلْتُ: عَطْفُ الْبَيَانِ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِيضَاحِ بِاسْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الْإِيضَاحِ كَالْمَدْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الكعبة البيت الحرام} فَإِنَّ {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عَطْفُ بَيَانٍ جِيءَ بِهِ لِلْمَدْحِ لَا لِلْإِيضَاحِ وَأَمَّا الصِّفَةُ فَوُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي مَتْبُوعِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مُفِيدَةً لِلْإِيضَاحِ لِلْعِلْمِ بِمَتْبُوعِهَا مِنْ غَيْرِهَا
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} وقوله تعالى: {آيات بينات مقام إبراهيم}(2/463)
وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حيث سكنتم من وجدكم} أَنَّ {مِنْ وُجْدِكُمْ} عَطْفُ بَيَانٍ
وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُعَادُ فِي الْبَدَلِ لَا فِي عَطْفِ الْبَيَانِ
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَلِ؟
قُلْتُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ابْنُ كَيْسَانَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَدَلَ يُقَرِّرُ الثَّانِي فِي مَوْضِعِ الْأَوَّلِ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَذْكُرِ الْأَوَّلَ وَعَطْفُ الْبَيَانِ أَنْ تُقَدِّرَ أَنَّكَ إِنْ ذَكَرْتَ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالثَّانِي وَإِنْ ذَكَرْتَ الثَّانِي لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا بِالْأَوَّلِ فَجِئْتَ بِالثَّانِي مُبَيِّنًا لِلْأَوَّلِ قَائِمًا لَهُ مَقَامَ النَّعْتِ وَالتَّوْكِيدِ
قَالَ: وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِي النِّدَاءِ تَقُولُ: يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ عَلَى الْبَدَلِ كَأَنَّكَ رَفَعْتَ الْأَوَّلَ وَقُلْتَ: يَا زَيْدُ أَقْبِلْ فَإِنْ أَرَدْتَ عَطْفَ الْبَيَانِ قُلْتَ: يَا أَخَانَا زَيْدٌ أَقْبِلْ
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: ذِكْرُ الخاص بعدم العام
فيؤتى به معطوفا عليه بالواو وللتنبيه عَلَى فَضْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَامِّ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الْوَصْفِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ وَعَلَى هَذَا بَنَى الْمُتَنَبِّي قَوْلَهُ:
فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ(2/464)
وَابْنُ الرُّومِيِّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ:
كَمْ مِنْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنِ ذُرَا شَرَفٍ
كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ
وَحَكَى الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَطْفَ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَفْصِيلًا
وَلَهُ شَرْطَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ مَالِكٍ: أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالثَّانِي كَوْنُ الْمَعْطُوفِ ذَا مَزِيَّةٍ وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِّ الْمَذْكُورِ: هَلْ يتناول الخاص المعطوف عليه أولا يَتَنَاوَلُهُ؟ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا نَظِيرَ مَسْأَلَةِ "نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ" عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْعَامِّ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ عَطْفُ الْخَاصِّ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى إِرَادَةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَهُوَ نَظِيرُ بَحْثِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا مِنْ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَوْمِ وَقَدْ يَتَقَوَّى هَذَا بِقَوْلِهِ
يَا حُبَّ لَيْلَى لَا تَغَيَّرْ وَازْدَدِ وَانْمُ كَمَا يَنْمُو الْخِضَابُ فِي الْيَدِ
وَإِنْ كَانَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَطْفِ الْعَامِّ
وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الْقَوْلَيْنِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قوله: {جنات وعيون. وزروع ونخل طلعها هضيم}(2/465)
وَقَدْ يُقَالُ: آيَةُ الشُّعَرَاءِ إِنَّمَا جَازَ فِيهَا الِاحْتِمَالَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ "جَنَّاتٍ" وَقَعَ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ وَلَمْ يَعُمَّ الْجِنْسَ وَأَمَّا الْآيَةُ السَّابِقَةُ فَالْإِضَافَةُ تَعُمُّ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ ورمان} أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِنَّ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا بِفَاكِهَةٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَوْلُهُ: " فَاكِهَةٌ " مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِعَامٍّ
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهَا كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَالْعِيدِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بالكتاب وأقاموا الصلاة} مَعَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ يَشْمَلُ كُلَّ عِبَادَةٍ وَمِنْهَا الصَّلَاةُ لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِمَرْتَبَتِهَا لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال} فَإِنَّ عَدَاوَةَ اللَّهِ رَاجِعَةٌ إِلَى عَدَاوَةِ حِزْبِهِ فَيَكُونُ جِبْرِيلَ كَالْمَذْكُورِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ وَتَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ ثُمَّ عُمُومِ حِزْبِهِ ثُمَّ خُصُوصِهِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَدَدِ فَيَكُونُ الذِّكْرُ ثَلَاثًا وَذِكْرُهُمَا بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ -مَعَ كَوْنِهِمَا مِنَ الْجِنْسِ- دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِهِمَا عَلَى أن التفصيل(2/466)
إِنْ كَانَ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ فَقَدْ عَدَلَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلَهُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ وَقَدْ يُلْحَظُ شَرَفُهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا وَأَيْضًا فَالْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ الْعَامِّ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ فِرَارًا من التكرار أو يدخل
وفائدته التوكيد وحكاه الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" مِنْ كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَخَرَّجَ عليه ما إذا أوصى رجل لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَزَيْدٌ فَقِيرٌ فَهَلْ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ مَا أَوْصَى لَدَيْهِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى مَا أَرَادَ الْوَصِيُّ وَجْهَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْطَى غَيْرَ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَطْعُ اجْتِهَادِ الْوَصِيِّ
قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ جِنِّي وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَحْسُنُ عَدُّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ
وَأَيْضًا فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفَانِ هَلْ يُجْعَلُ الْآخَرُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى مَا يَلِيهِ وَقَعَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكَشَّافِ تَجْوِيزُ الْأَمْرَيْنِ
فَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي} أَنَّ " مُخْرِجًا " مَعْطُوفٌ عَلَى {فَالِقُ} لَا عَلَى {يُخْرِجُ} فِرَارًا مِنْ عَطَفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَخَالَفَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَوَّلَهُ
وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغمام والملائكة(2/467)
وقضي الأمر} عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى {اللَّهِ} لِأَنَّ قَضَاءَهُ قَدِيمٌ
وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ كَانَ قَوْلُهُ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ أَنْشَأَهَا وَأَوْجَدَهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} يَعْنِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ هَذِهِ صِفَتُهَا وَإِنْ أريد به المخاطبون بمكة كان قوله: {خلق} عَطْفًا عَلَى {خَلَقَكُمْ} وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ التَّكْرَارِ
وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "جِبْرِيلَ" مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَلَوْ سَلَّمْنَا بِعَطْفِهِ عَلَى رُسُلِهِ فَكَذَلِكَ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ لِعَطْفِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَلَيْسُوا مِنْهُ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ
أَحَدُهُمَا: لِمَ خَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ؟ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّهُمَا بِالْحَيَاةِ فَجِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِيكَائِيلُ بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَلِأَنَّهُمَا كَانَا سَبَبَ النُّزُولِ فِي تَصْرِيحِ الْيَهُودِ بِعَدَاوَتِهِمَا
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ حَيَاةَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ حَيَاةِ الْأَبْدَانِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ(2/468)
عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا
فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونخل ورمان} وَغَلَطَ بَعْضُهُمْ مَنْ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فَاكِهَةً نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهَا
وَهُوَ غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ هَاهُنَا الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ بَلْ كُلُّ مَا كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِ شَامِلًا لِلثَّانِي
وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ لِعُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَجْمُوعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ وَلَمَّا لَمَحَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ وَهُوَ الْمُغَايِرَةُ لَمْ يُحَنِّثِ الْحَالِفَ عَلَى أَكْلِ الْفَاكِهَةِ بِأَكْلِ الرُّمَّانِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} إِذِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ جُمْلَةِ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وآمنوا بما نزل على مُحَمَّدٍ} وَالْقَصْدُ تَفْضِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نُزِّلَ عَلَيْهِ إِذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ومشارب}(2/469)
وَقَوْلُهُ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أشركوا} فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مَعَ دُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ النَّاسِ أَنَّ حِرْصَهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ
وَقَوْلُهُ: {الذين يؤمنون بالغيب} فهذا عام {وبالآخرة هم يوقنون} وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ يَشْمَلُهَا وَلَكِنْ خَصَّهَا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فَكَانَ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ مَدْحٌ لَهُمْ
وَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَعَمَّ بِقَوْلِهِ: {خَلَقَ} جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ ثُمَّ خَصَّ فقال: {خلق الإنسان من علق} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دما مسفوحا أو لحم خنزير} فَإِنَّهُ عَطَفَ "اللَّحْمَ" عَلَى "الْمَيْتَةِ" مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ ذَكَاةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالْقَصْدُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى شِدَّةِ التَّحْرِيمِ فِيهِ
تَنْبِيهٌ
ظَاهِرُ كَلَامِ الْكَثِيرِينَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَقَدْ سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ مَجِيئُهُ فِي "أَوْ" فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نفسه} مَعَ أَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ(2/470)
مِنْ عَمَلِ السُّوءِ فَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْمَعْنَى: يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ السُّوءِ حَيْثُ دَسَّاهَا بِالْمَعْصِيَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فَإِنَّ الْوَحْيَ مَخْصُوصٌ بِمَزِيدِ قُبْحٍ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيدِ الْعِقَابِ فِيهِ وَالْإِثْمِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ دَاخِلٌ فِيهِ قِيلَ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ظُلْمِ النَّفْسِ وَهُوَ الرِّبَا أَوْ كُلُّ كَبِيرَةٍ فَخَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ وَأُرِيدَ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ
الْقِسْمُ السَّادِسُ: ذِكْرُ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ
وَهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ وُجُوَدَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ
وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَاضِحَةٌ وَالِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْعَامِّ قَبْلَهُ ثَابِتَانِ هُنَا أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ صلاتي ونسكي} وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب}
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظيم}
وقوله إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات}(2/471)
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمر} بعد قوله: {قل من يرزقكم}
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يَقَعَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَكِنَّ وُقُوعَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ
الْقِسْمُ السَّابِعُ: عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ
وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِالْوَاوِ وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}
وَيَكْثُرُ فِي الْمُفْرَدَاتِ كَقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استكانوا}
وقوله: {فلا يخاف ظلما ولا هضما} {لا تخاف دركا ولا تخشى}(2/472)
وقوله: {ثم عبس وبسر}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
وقوله: {لا تبقي ولا تذر}
وَقَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
وَقَوْلِهِ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَقِيلَ: الْأَمْتُ أَنْ يَغْلُظَ مَكَانٌ وَيَرِقَّ مَكَانٌ قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي "الْمَقَايِيسِ" وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ
وَقَوْلِهِ: {أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم}
وقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}
وقوله: {إلا دعاء ونداء}
وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ بِأَنَّ النِّدَاءَ قَدْ يُقَالُ إِذَا قِيلَ "يَا" أَوْ "أَيَا" وَنَحْوَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ الِاسْمَ وَالدُّعَاءُ لَا يَكَادُ يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ الِاسْمُ نَحْوَ: يَا فُلَانُ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا}
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض}(2/473)
وَقَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فَإِنَّ "نَصَبٌ" مِثْلُ "لَغَبٍ" وَزْنًا وَمَعْنًى وَمَصْدَرًا وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ ربهم ورحمة} عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالرَّحْمَةِ وَالْأَحْسَنُ خِلَافُهُ وَأَنَّ الصَّلَاةَ لِلِاعْتِنَاءِ وَإِظْهَارِ الشَّرَفِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُتَغَايِرَيْنِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ من قبلك} إِنَّهُمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَوَّلًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ شَرْطَ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ تَغَايُرُ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ أَيِ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُتَغَايِرَةِ وَلَا تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْعَالِمُ فَإِنَّهُ تَكْرَارٌ وَالْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الذين يؤمنون بالغيب} وَالْمَعْطُوفُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليك} وَالْمُنْزَلُ هُوَ الْغَيْبُ بِعَيْنِهِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْغَيْبِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْبٌ خَاصٌّ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب المنير} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(2/474)
هو الزبور ونقله على إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّعْتِ كَمَا تُعْطَفُ النُّعُوتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا يَرُدُّهُ تَكْرَارُ الْبَاءِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْفَصْلِ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَكْرَارِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ الْفَصْلِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَعَدَمِ التَّجَوُّزِ فِي العطف الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ وَبَيَانُهُ وَجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {جَاءَتْهُمُ} يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِي الْمُرْسَلِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ وقوله تعالى: {ثم أخذت الذين كفروا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: كَذَّبُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِقِيَامِ الحجة عليهم {بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} وَجَاءَ تَقْدِيمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْعَطْفِ اعْتِرَاضًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَمِثْلُهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ قَوْلُهُ تعالى: {فقد كذب رسل من قبلك} وَقَوْلُهُ: {جَاءُوا} انْصِرَافٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلًا فِي الضَّمِيرِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جِئْتُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَأَقَامَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَائِبِ مَقَامَ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَرَيْنَ بهم} وَفِيهِ وَجْهٌ مِنَ التَّعَجُّبِ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ إِذَا اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَيْبَةِ لِيَعُمَّ الْإِخْبَارُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْآيَتَيْنِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْكِتَابِ الْمُنِيرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ(2/475)
فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بعدي اسمه أحمد}
وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذَا النَّوْعَ وَمَنَعَ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَعَلَّهُ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ كَالْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ بِالْوَاوِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَدْ أُنِيبَتْ " أَوْ " عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} {ومن يكسب خطيئة أو إثما}
قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ أَنْ يُرَادَ بِالْخَطِيئَةِ مَا وَقَعَ خَطَأً وَبِالْإِثْمِ مَا وَقَعَ عَمْدًا قُلْتُ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نفسه}
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ"
قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ قَدْ سَبَقَهُ بِهِ ثَعْلَبٌ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ فَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نذرا} الْعُذْرُ وَالنُّذْرُ وَاحِدٌ(2/476)
قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَبَعْضُهُمْ يُثَقِّلُ
وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ يُجْرَى فِي الْعَطْفِ بِثُمَّ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قَالَ: مَعْنَاهُ: "وَتُوبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الِاسْتِغْفَارُ" وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ وجعل منه قوله تعالى: {وغرابيب سود} والغرابيب هي السود {سبلا فجاجا} {الرحمن الرحيم} وَغَيْرُ ذَلِكَ الثَّالِثُ: مِمَّا يَدْفَعُ وَهْمَ التَّكْرَارِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ
الْقِسْمُ الثَّامِنِ: الْإِيضَاحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ
لِيُرَى الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ أَوْ لِيَكُونَ بَيَانُهُ بَعْدَ التَّشَوُّفِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَلَذُّ لِلنَّفْسِ وَأَشْرَفُ عِنْدَهَا وَأَقْوَى لِحِفْظِهَا وَذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤلاء مقطوع مصبحين}(2/477)
وقوله تعالى {قل هو الله أحد} فَإِنَّ وَضْعَ الضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ مَعْنَاهُ الْبَيَانُ أَوِ الْحَدِيثُ أَوِ الْأَمْرُ لِلَّهِ أَحَدٌ مَكْفُوًّا بها ثم فسر وكان أو قع فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ مُفَسَّرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ وَتُفِيدُ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُرَادَ تَعْظِيمًا لَهُ
وَسَيَأْتِي عَكْسُهُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ
وَمِثْلُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}
وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات ربه أربعين ليلة} وَأَعَادَ قَوْلَهُ: {أَرْبَعِينَ} وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الثلاثين والعشر أَنَّهَا أَرْبَعُونَ لِنَفْيِ اللَّبْسِ لِأَنَّ الْعَشْرَ لَمَّا أَتَتْ بَعْدَ الثَّلَاثِينِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُوَاعَدَةِ دَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْمُوَاعَدَةِ فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَرْبَعِينِ نَفْيًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعَدَدِ لِلْمُوَاعَدَةِ
وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} أَعَادَ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ تَجِيءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِبَاحَةِ وَقَوْلُهُ: {كَامِلَةٌ} تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ وَتَأْكِيدٌ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَ زَمَنُ الْمُوَاعَدَةِ أَرْبَعِينَ فَلِمَ كَانَتْ ثَلَاثِينَ ثُمَّ عشرا؟(2/478)
أَجَابَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي "التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ" بِأَنَّ الْعَشْرَ إِنَّمَا فُصِلَ مِنْ أُولَئِكَ لِيَتَحَدَّدَ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعَدَةِ وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ حَاضِرَ الذِّهْنِ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا لَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فَإِذَا جَعَلَ الْعَشْرَ فِيهَا إِتْمَامًا لَهَا اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ
قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّلَوُّمِ الَّذِي جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُفْصِلُونَهُ مِنْ أَيَّامِ الْأَجَلِ وَلَا يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ هَذَا
فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَعْنِي الْأَعْرَافَ الثَّلَاثِينَ ثُمَّ الْعَشْرَ وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} وَلَمْ يَفْصِلِ الْعَشْرَ مِنْهَا
وَالْجَوَابُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْأَعْرَافِ ذِكْرَ صِفَةِ الْمُوَاعَدَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فَذَكَرَ عَلَى صِفَتِهَا وَفِي الْبَقَرَةِ إِنَّمَا ذَكَرَ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مُجْمَلَةً فَقَالَ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} {وإذ أنجيناكم من آل فرعون}
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ لَنَا مِمَّا سَبَقَ جَوَابَانِ فِي ذِكْرِ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ إِمَّا الْإِجْمَالُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ وَإِمَّا رَفْعُ الِالْتِبَاسِ وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ:(2/479)
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِنَّمَا عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا أَكْثَرَ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي الْحَجِّ وَيُكْمِلُ سَبْعًا إِذَا رَجَعَ
رَابِعُهَا: أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْجِنْسَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَفِّرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ أَنْ يُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ وَيَكْسُوَهُمْ وَلَا الْمَظَاهِرَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَحِلُّ هَذَيْنِ الصَّوْمَيْنِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ صَارَا بِاخْتِلَافِ الْمَحِلَّيْنِ كَالْجِنْسَيْنِ وَالْجِنْسَانِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ -وَهِيَ قَوْلُهُ: {تلك عشرة كاملة} -رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ مِنْ أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاثة وَإِمَّا السَّبْعُ
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ كَمَالٍ لَا ذِكْرُ الْعَشَرَةِ فَلَيْسَتِ الْعَشَرَةُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَشَرَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وإنما ذكر لتوصف بالكامل الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْقِصَّةِ
السَّادِسُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالتَّقْدِيرُ: فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ أَلْجَأَنَا إِلَيْهِ
السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً كَكَفَّارَاتِ الْجِنَايَاتِ وَلَمَّا فَصَلَ هَاهُنَا بَيْنَ صَوْمِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْطَارِ قَبْلَ صَوْمِهَا بِذِكْرِ الْفِدْيَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَهِيَ كَالْمُتَّصَلَةِ
فَإِنْ قُلْتَ: فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَا يَجِبُ عَلَى(2/480)
الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ
قُلْتُ: هِيَ فِي حُكْمِ الْمُتَتَابِعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ خَفَّفَ بِالتَّفْرِيقِ
ثَامِنُهَا: أَنَّ السَّبْعَ قَدْ تُذْكَرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا الْعَدَدُ وَالَّذِي فَوْقَ السِّتَّةِ وَدُونَ الثَّمَانِيَةِ وَرَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ أَيْ أَكْثَرَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ التَّضْعِيفَ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنَ السَّبْعِ وَلَفْظُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِآلَةِ الْجَمْعِ فَيُفْضِي إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ رَفْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ الْفَذْلَكَةِ وَلِلْعَرَبِ مُسْتَنَدٌ قَوِيٌّ فِي إِطْلَاقِ السَّبْعِ وَالسَّبْعَةِ وَهِيَ تُرِيدُ الْكَثْرَةَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ تَاسِعُهَا: أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْدَادِ فَقُيِّدَ بِالْعَشَرَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَمُلَ وَقَطَعَ الزِّيَادَةَ الْمُفْضِيَةَ لِلتَّسَلْسُلِ
عَاشِرُهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ عَقِبَ الثَّلَاثَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أربعة أيام} أَيْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خَلَقَ الْأَرْضَ(2/481)
فِيهِمَا فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَنْدَفِعَ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ فَجَاءَ التَّقْيِيدُ بِالْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ التَّدَاخُلِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السلام ترجيحه وردده ابن أبي الإصبع بأن احْتِمَالَ التَّدَاخُلِ لَا يُظَنُّ إِلَّا بِعَدَدَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا جُمْلَةً فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ احْتَمَلَ ذَلِكَ فَالتَّقْيِيدُ مَانِعٌ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ
وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ فَإِنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ رافع لذلك الاحتمال
الحادي عش: ر أَنَّ حُرُوفَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ مُشْتَبِهَةٌ فَأُزِيلَ الْإِشْكَالُ بقوله: {تلك عشرة كاملة} لِئَلَّا يَقْرَءُوهَا تِسْعَةً فَيَصِيرُ الْعَدَدُ اثْنَيْ عَشَرَ وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا واحدا"
فائدة في التأكيد بمائة إلا واحدا
التأكيد بمائة إِلَّا وَاحِدًا لِإِزَالَةِ إِلْبَاسِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ بِالسَّبْعَةِ وَالسَّبْعِينَ لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْمُونٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهُ
الْقِسْمُ التَّاسِعُ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ
لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْبَيَانِيِّينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي أَقْسَامِ الْإِطْنَابِ(2/482)
وَمِنْهُ بَيْتُ الْكِتَابِ:
إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّ الْوَحْشَ فِي ظُلَلَاتِهَا
سَوَاقِطُ مِنْ حَرٍّ وَقَدْ كَانَ أظهرا
وَلَوْ أَتَى عَلَى وَجْهِهِ لَقَالَ: "إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّهَا"
وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَتِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ كَالْبَيْتِ سَهُلَ الْأَمْرُ لَكِنَّ الْجُمْلَتَيْنِ فِيهِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الرَّافِعَ لِلْوَحْشِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ كَمَا يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ سَادٌّ مَسَدَّ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ قُدِّرَ رَفْعُ الْوَحْشِ بِالِابْتِدَاءِ فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ
وَيَسْهُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْشَ الْكَرِيهَةَ أَوْشَكَتْ
حِبَالُ الْهُوَيْنَى بِالْفَتَى أَنْ تَقَطَّعَا
فَاخْتِلَافُ لَفْظَيْنِ ظَاهِرَيْنِ أَشْبَهَا لَفْظَيِ الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ فِي اخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبي} ثم قال: {والذين يؤذون رسول الله} وَلَمْ يَقُلْ: يُؤْذُونَهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْظِيمِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "نَبِيُّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} الْآيَةَ فَإِنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ وَلَمْ يُضْمَرْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ مُرْتَبِطَةً بِبَعْضِهَا ارْتِبَاطَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان}(2/483)
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ الشَّيْطَانُ وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى تَفْسِيرِهِ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: إِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ حَسُنَ الْإِظْهَارُ وَالْإِضْمَارُ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ وَزَيْدٌ رَجُلٌ فَاضِلٌ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَهُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ
وَقَوْلِهِ: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يجعل رسالته}
وَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ قَبُحَ الْإِظْهَارُ وَلَمْ يَكَدْ يُوجَدُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
قَالَ: وَإِذَا اقْتَرَنَ بِالِاسْمِ الثَّانِي حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ كَانَ الْمُنَاسِبُ الْإِظْهَارَ كَقَوْلِهِ: تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ. مَا الحاقة} و {القارعة. ما الْقَارِعَةِ} وَالْإِضْمَارُ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وما أدراك ما هيه}
الخروج على خلاف الأصل وأسبابه
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً وَأَصْلُ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ كَذَلِكَ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ ثَانِيًا أَنْ يُذْكَرَ مُضْمَرًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ السَّابِقِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْإِعْرَابُ وَفِي الْأَفْعَالِ الْبِنَاءُ وَإِذَا جَرَى الْمُضَارِعُ مَجْرَى الِاسْمِ أُعْرِبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون}(2/484)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إنه لا يحب الظالمين}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كان توابا}
وَلِلْخُرُوجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَسْبَابٌ:
أَحَدُهَا: قَصْدُ التَّعْظِيمِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ والله بكل شيء عليم}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حزب الله هم المفلحون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما تعملون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أشرك بربي أحدا} فَأَعَادَ ذِكْرَ الرَّبِّ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ ولهضم للخضم
وقوله تعالى: {الله أحد. الله الصمد}
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالعباد}
{هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وما كان عطاء ربك محظورا}
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سعيرا}(2/485)
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وقوله تعالى: {الحاقة. ما الحاقة} {القارعة. ما الْقَارِعَةِ} كَانَ الْقِيَاسُ ـ لَوْلَا مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ ـ " الْحَاقَّةُ مَا هِيَ "
وَمِثْلُهُ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ما أصحاب المشأمة} تَفْخِيمًا لِمَا يَنَالُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وأليم العقاب
الثاني: قصد الإهانة والتحقير
كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يتبع خطوات الشيطان}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حزب الشيطان}
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كان للإنسان عدوا مبينا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصد عن السبيل وما كيد فرعون}(2/486)
وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا لِلنَّوَى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي النَّوَى
وَعَهْدُ النَّوَى عِنْدَ الْفِرَاقِ ذَمِيمُ
وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ مَنْ يُنْشِدُ:
فَمَا لِلنَّوَى جَدَّ النَّوَى قَطَعَ النَّوَى
كَذَاكَ النَّوَى قَطَّاعَةٌ لِلْقَرَائِنِ
فَقَالَ: لَوْ قُيِّضَ لِهَذَا الْبَيْتِ شَاةٌ لَأَتَتْ عَلَيْهِ
الثَّالِثُ: الِاسْتِلْذَاذُ بِذِكْرِهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أنزلناه وبالحق نزل} إِنْ كَانَ الْحَقُّ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ
وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حيث نشاء} وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْهَا" وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْجَنَّةَ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
كَرِّرْ عَلَى السَّمْعِ مِنِّي أَيُّهَا الْحَادِي
ذِكْرَ الْمَنَازِلِ وَالْأَطْلَالِ وَالنَّادِي
وَقَوْلُهُ:
يَا مُطْرِبِي بِحَدِيثِ مَنْ سَكَنَ الْغَضَى
هجت الهوى وقدحت في حراق
إن كررت حَدِيثَكَ يَا مُهَيِّجَ لَوْعَتِي
إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الحبيب تلاق(2/487)
الرَّابِعُ: زِيَادَةُ التَّقْدِيرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نزل}
وقوله: {الله الصمد} بعد قوله: {الله أحد} وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّقْدِيرِ سَبَبُ نُزُولِهَا وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تدعوننا إليه فنزل: {الله أحد} مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي سَأَلْتُمُونِي وَصْفَهُ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ تَقْدِيرُ كَوْنِهِ اللَّهَ أُعِيدَ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِ
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يشكرون}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وما هو من عند الله}
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هو من الكتاب}
الْخَامِسُ: إِزَالَةُ اللَّبْسِ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمِيرُ يُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تشاء} لَوْ قَالَ: "تُؤْتِيهِ" لَأَوْهَمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السوء عليهم دائرة السوء} كرر السوء(2/488)
لأنه لو قال: "عليهم دائرته" لَالْتَبَسَ بِأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَنَظِيرُهُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} وَتَبْيِينُهُ: الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ وَالثَّانِي الْوُجُودُ فِي الْجَنِينِ أَوِ الطِّفْلِ وَالثَّالِثُ الَّذِي بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ وَهُوَ أَرْذَلُ الْعُمُرِ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ التَّحَرُّكَ وَالِاهْتِدَاءَ لِلثَّدْيِ وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ ويؤيد الغيرية التنكير
ونحوه قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مشهودا} الْآيَةَ لَوْ قَالَ: "إِنَّهُ" لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفَجْرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نفس تجادل عن نفسها} فَلَمْ يَقُلْ: "عَنْهَا" لِئَلَّا يَتَّحِدَ الضَّمِيرَانِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا مَعَ أَنَّ الْمُظْهَرَ السَّابِقَ لَفْظُ النَّفْسِ فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ ضَرَبَ زَيْدٌ نَفْسَهُ
وَكَقَوْلِهِ تعالى: {ثم استخرجها من وعاء أخيه} وَإِنَّمَا حَسُنَ إِظْهَارُ الْوِعَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فَاسْتَخْرَجَهَا مِنْهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الْأَخِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَخَ مُبَاشِرٌ لَطَلَبِ خُرُوجِ الْوِعَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا فِي الْمُبَاشِرِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ فَأُعِيدَ لَفْظُ الظَّاهِرِ لِنَفْيِ هذا(2/489)
الله تبارك وتعالى الرب عز وجل وَإِنَّمَا لَمْ يُضْمَرِ الْأَخُ فَيُقَالُ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَائِهِ لِأَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ فِي {اسْتَخْرَجَهَا} لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَوْ قَالَ مِنْ وِعَائِهِ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يُوسُفُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مذكور فأظهر لذلك
والثاني أن لأخ مَذْكُورٌ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مَقْصُودًا بِالنِّسْبَةِ الْإِخْبَارِيَّةِ فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ مَا وَأُضِيفَ إِلَيْهِ أَظْهَرَهُ أَيْضًا
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله}
السَّادِسُ
أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ تَرْبِيَةَ الْمَهَابَةِ وَإِدْخَالَ الرَّوْعَةِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ بِذِكْرِ الِاسْمِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْخَلِيفَةُ لِمَنْ يَأْمُرُهُ بِأَمْرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا مَكَانَ أَنَا آمُرُكَ بِكَذَا
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}
وَقَوْلُهُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}
وَقَوْلُهُ {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} وَلَمْ يَقُلْ لِخَزَنَتِهَا(2/490)
السَّابِعُ: قَصْدُ تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} وَلَمْ يَقُلْ "عَلَيَّ" وَحِينَ قَالَ {عَلَى اللَّهِ} لَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ يُحِبُّ" أَوْ "إِنِّي أُحِبُّ" تَقْوِيَةً لِدَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ بِالتَّوَكُّلِ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ والله بكل شيء عليم}
الثَّامِنُ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}
وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانِ} وَلَمْ يَقُلْ: "خَلَقْنَاهُ" لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ
وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وكانت الجبال كثيبا مهيلا} فَإِنَّمَا أُعِيدَ لَفْظُ {الْجِبَالِ} وَالْقِيَاسُ الْإِضْمَارُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي "الم السَّجْدَةِ" فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ(2/491)
وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} وَهُوَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ سِيقَتَا لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ فَإِعَادَةُ الظَّاهِرِ أَبْلَغُ وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ {الْجِبَالَ} لَاحْتُمِلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَرْضِ
التَّاسِعُ: أَنْ يُقْصَدَ التَّوَصُّلُ بِالظَّاهِرِ إِلَى الْوَصْفِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يؤمن بالله وكلماته} بَعْدَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {إِنِّي رَسُولُ الله إليكم جميعا} {فآمنوا بالله ورسوله} دُونَ "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَبِي" لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَبِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ هُوَ مَنْ وُصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنَا أَوْ غَيْرِي إِظْهَارًا لِلنَّصَفَةِ وَبُعْدًا مِنَ التَّعَصُّبِ لِنَفْسِهِ
الْعَاشِرُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قولا غير الذي قيل لهم}
وقوله: {فإن الله عدو للكافرين} أَعْلَمَنَا أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِهَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ هَذَا إِنْ خِيفَ الْإِلْبَاسُ لِعَوْدِهِ لِلْمَذْكُورِينَ وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ} دُونَ " فَإِنَّهُ "(2/492)
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا من السماء} وَلَمْ يَقُلْ: "عَلَيْهِمْ" لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مِنْ ذِكْرِ الظُّلْمِ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْعَذَابُ
وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}
وقوله تعالى: {فلعنة الله على الكافرين} والأصل "عليهم" لدلالة عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ لَحِقَتْهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فَإِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَقَدَّمْتُ فِي الشَّرْطِ وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةٍ أُخْرَى زَائِدَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول} لِأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ عَظِيمٍ
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يفلح الظالمون} وَالْقِيَاسُ "أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ" وَلَوْ ذَكَرَ الظَّاهِرَ لَقَالَ: "لَا يُفْلِحُ الْمُفْتَرُونَ" أَوِ "الْكَاذِبُونَ" لَكِنْ صَرَّحَ بِالظُّلْمِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْفَلَاحِ الظُّلْمُ
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} وَلَمْ يَقُلْ: "أَجْرَهُمْ" تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صَلَاحَهُمْ عِلَّةٌ لِنَجَاتِهِمْ
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لربك وانحر} وَلَمْ يَقُلْ: "لَنَا" لِيُنَبِّهَ(2/493)
عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنْ يُصَلِّيَ لَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ وَرَبَّاهُ بِنِعْمَتِهِ
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ عَدُوًّا لَهُمْ فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ أَشْرَفُ وَالْمَعْنَى وَمَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ العقاب المهين
وَقَدْ أَدْمَجَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَذْهَبَهُ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى النَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَهُوَ كَمَا قِيلَ:
وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِنَّ ذَا الْهَوَى
إِلَى حَيْثُ يَهْوَى الْقَلْبُ تَهْوِي بِهِ الرِّجْلُ
وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُطِيعٍ:
أُمِّي الضَّرِيحَ الَّذِي أُسَمِّي
ثُمَّ اسْتَهِلُّ عَلَى الضَّرِيحِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ "عَلَيْهِ" لِأَنَّهُ بَاكٍ بِذِكْرِ الضَّرِيحِ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِ وَيَحْزَنَ لِذِكْرَاهُ
الْحَادِي عَشَرَ: قَصْدُ الْعُمُومِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قرية استطعما أهلها} وَلَمْ يَقُلْ: "اسْتَطْعَمَهُمْ" لِلْإِشْعَارِ بِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا اسْتَطْعَمَاهُ وَأَبَى وَمَعَ ذَلِكَ قَابَلَهُمْ(2/494)
بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسوء} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: "إِنَّهَا لَأَمَّارَةٌ" لَاقْتَضَى تَخْصِيصَ ذَلِكَ فَأَتَى بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْمِيمُ مَعَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بعده: {إلا ما رحم ربي وقوله: {إن ربي غفور رحيم} وَلَمْ يَقُلْ: "إِنَّهُ" إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ وَإِمَّا لِلِاسْتِلْذَاذِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رحمة فرح بها} ثم قال: {فإن الإنسان كفور} وَلَمْ يَقُلْ " فَإِنَّهُ" مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسِ شَأْنُهُ كُفْرَانُ النِّعَمِ
الثَّانِي عَشَرَ: قَصْدُ الْخُصُوصِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَلَمْ يَقُلْ: "لَكَ" لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ لَأُخِذَ جَوَازُهُ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وبنات عمك} فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ(2/495)
الثَّالِثَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ التَّجْنِيسِ
وَمِنْهُ: {قُلْ أَعُوذُ برب الناس} السورة ذكره الشيخ عز الدين ابن عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَتَحَمَّلَ ضَمِيرًا لَا بُدَّ مِنْهُ
كَقَوْلِهِ: {أَتَيَا أهل قرية استطعما أهلها}
الْخَامِسَ عَشَرَ: كَوْنُهُ أَهَمَّ مِنَ الضَّمِيرِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُعِيدَ {إِحْدَاهُمَا} لِتَعَادُلِ الْكَلِمِ وَتَوَازُنِ الْأَلْفَاظِ فِي التَّرْكِيبِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي التَّرْصِيعِ الْبَدِيعِيِّ بَلْ هَذَا أَبْلَغُ مِنَ التَّرْصِيعِ فَإِنَّ التَّرْصِيعَ تَوَازُنُ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ صِيَغِهَا وَهَذَا مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبِهَا فَكَأَنَّهُ تَرْصِيعٌ مَعْنَوِيٌّ وَقَلَّمَا يُوجَدُ إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْكَلَامِ وَقَدِ اسْتَغْرَبَ أَبُو الْفَتْحِ مَا حُكِيَ عَنِ المتنبي في قوله:
وقد جادت الأجفان قرحى من البكا
وعادت بَهَارًا فِي الْخُدُودِ الشَّقَائِقُ(2/496)
قَالَ: سَأَلْتُهُ: هَلْ هُوَ "قَرْحَى" أَوْ "قَرْحًا مُنَوَّنٌ؟ فَقَالَ لِي: قَرْحًا مُنَوَّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهَا "وَعَادَتْ بَهَارًا" قَالَ: يَعْنِي أَنَّ بهارا جمع بهار وقرحى جَمْعُ قُرْحَةٍ ثُمَّ أَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُتَنَبِّي وَاسْتَغْرَبَ فِطْنَتَهُ لِأَجْلِ هَذَا وَبَيَانُ مَا ذَكَرْتُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِقِسْمَيْنِ قِسْمُ الضَّلَالِ وَقِسْمُ التَّذْكِيرِ فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى ظَاهِرٍ حَيْثُ أَسْنَدَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يُوصَلْ بِضَمِيرٍ مَفْصُولٍ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ لَازِمًا فَأَتَى بِالثَّانِي عَلَى صُورَتِهِ مِنَ التَّجَرُّدِ عَنِ الْمَفْعُولِ ثُمَّ أَتَى بِهِ خَبَرًا بَعْدَ اعْتِدَالِ الْكَلَامِ وَحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي تَرْكِيبِهِ
وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ حَرْفٌ لَكَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ الْأَخِيرُ بَدَلًا أَوْ نَعْتًا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ ضَلَالٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ تَذْكِيرٌ مِنَ الْأُخْرَى وَقَدَّمَ عَلَى "الْأُخْرَى" لَفْظَ "إِحْدَاهُمَا" لِيُسْنِدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى مِثْلِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
السَّادِسَ عَشَرَ: كَوْنُ مَا يَصْلُحُ لِلْعَوْدِ وَلَمْ يُسَقِ الْكَلَامُ لَهُ
كَقَوْلِهِ: {رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعلم} وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَبْكِي عَلَى زَيْدٍ وَلَا زَيْدَ مثله
برئ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الْجَوَانِحِ(2/497)
السَّابِعَ عَشَرَ: الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْجُمْلَةِ فِي حُكْمِ الْأُولَى
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} فِي سُورَةِ الشُّورَى فَإِنْ {يَمْحُ} اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَلَى الْجَوَابِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وَلَيْسَ صَحِيحًا فِي {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لِأَنَّ مَحْوَ الْبَاطِلِ ثَابِتٌ فَلِذَلِكَ أُعِيدَ الظَّاهِرُ وَأَمَّا حَذْفُ الْوَاوِ مِنَ الْخَطِّ فَلِلَّفْظِ وَأَمَّا حذفها في الوقف كقوله تعالى: {يدع الداع} و {سندع الزبانية} فَلِلْوَقْفِ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُقُوفُ يَعْقُوبَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ
وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْبَزْدَوِيِّ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ وَهَذَا أَنَّا لا نسلم أن المعلق ها هنا بِالشَّرْطِ هُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا الْمَشِيئَةُ وَلَيْسَ الْمَحْوُ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الشَّرْطَ هُنَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ مَشِيئَةُ الْخَتْمِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْقُوَّةِ شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهدى} {ولو شاء الله ما أشركوا} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} المعنى: "ولو شاء الله جمعهم لجمعهم" "ولو شاء الله عدم إيمانهم ما أشركوا" "ولو شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ قِتَالِهِمْ مَا اقْتَتَلُوا"(2/498)
قِيلَ: لَا يَكَادُ يَثْبُتُ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ إِلَّا نَادِرًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَذْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مَا ادَّعَيْنَاهُ فَإِنَّ مَحْوَ اللَّهِ ثَابِتٌ قَبْلَ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْخَتْمَ
فَإِنْ قُلْتَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ لَكِنَّهَا إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِقَرِينَةِ الْجَوَابِ
وَالْجَوَابُ هُنَا شَيْئَانِ فَالْمَعْنَى إِنْ يَشَأِ اللَّهُ الْخَتْمَ وَمَحْوَ الْبَاطِلِ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ الْبَاطِلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ مَا ادَّعَاهُ
وَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثابت وغير ممتنع ويمحو الْبَاطِلَ كَانَ ثَابِتًا فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهَذَا أَحْسَنُ جِدًّا
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ كُلًّا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ بَلْ مَجْمُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ وَالْمَجْمُوعُ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَابِتًا
الْأَوَّلُ
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ لِيَشْمَلَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ من أحسن عملا}
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يشاء} لِأَنَّ إِنْزَالَ الْخَيْرِ هُنَا سَبَبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ " اللَّهِ " لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مُنَاسِبٌ لِلْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ دَائِرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْسَعُ
وَمِثْلُهُ: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نشاء} كما سبق(2/499)
وَمِنْ فَوَائِدِهِ: التَّلَذُّذُ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمُ الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ
وَمِنْ فَوَائِدِهِ: قَصْدُ الذَّمِّ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويقول الكافر} فَقَالَ: الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِزِيَادَةِ الذَّمِّ
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الفاسقين} إِنَّ "الْفَاسِقِينَ" يُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ وَيَكُونُ قَدْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَالتَّصْرِيحُ بِصِفَةِ الْفِسْقِ سَبَبٌ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعُمُومَ لِكُلِّ فَاسِقٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا وَكَذَا سَائِرُ هَذِهِ النَّظَائِرِ
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الباب قوله تعالى: {إن تكونوا صالحين} أَيْ: فِي مُعَامَلَةِ الْأَبَوَيْنِ {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غفورا}
وقوله تعالى: {من كان عدوا لجبريل} إلى قوله: {فإن الله عدو للكافرين}
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ شَرْطٌ فَإِنَّ الشُّرُوطَ أَسْبَابٌ وَلَا يَكُونُ الْإِحْسَانُ لِلْوَالِدَيْنِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ اللَّهِ لِكُلِّ تَائِبٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُثَابَ غَيْرُ الْفَاعِلِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ وَكَذَلِكَ مُعَادَاةُ بَعْضِ الْكَفَرَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمُعَادَاةِ كُلِّ كَافِرٍ فَتَعَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لَيْسَ إِلَّا(2/500)
الثَّانِي
قَدْ مَرَّ أَنَّ سُؤَالَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ الواحدة نحو: {الحاقة. ما الْحَاقَّةِ} فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ فِي جُمْلَتَيْنِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فَحَسُنَ فِيهِمَا مَا مالا يَحْسُنُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَتَكْرَارُ الْمَوْتِ فِي عَجُزِ الْبَيْتِ أَوْسَعُ مِنْ تَكْرَارِهِ فِي صَدْرِهِ لِأَنَّا إِذَا عَلَّلْنَا هَذَا إِنَّمَا نَقُولُ أَعَادَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لَمَّا أَرَادَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْتِ وَتَهْوِيلِ أَمْرِهِ فَإِذَا عَلَّلَهَا مُكَرَّرَةً فِي عَجُزِهِ عَلَّلْنَاهُ بِهَذَا وَبِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَمِثَالُهُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} وَقَوْلِهِ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أهلها كانوا ظالمين}
وَقَدْ أُشْكِلَ الْإِظْهَارُ هَاهُنَا وَالْإِضْمَارُ فِي الْمِثْلِ قوله: {إلى فرعون وملإه إنهم كانوا قوما فاسقين} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ إِهْلَاكَ الْقُرَى صَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَلَاكُ كَأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظُّلْمَ مَعَهُمْ وَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ مَعَهُمْ إِذْ لِلْبِقَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الطِّبَاعِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِهْلَاكُهُمْ بِصِفَاتِهِمْ حَيْثُ كَانُوا وَلَمْ يُهْلِكْ بَلَدَهُمْ أَتَى بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمَكَانِ(2/501)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى طَالَ الْكَلَامُ حَسُنَ إِيقَاعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ كَيْلَا يَبْقَى الذِّهْنُ مُتَشَاغِلًا بِسَبَبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فَيَفُوتُهُ مَا شَرَعَ فِيهِ كَمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ آيَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أعلم أم الله ومن أظلم} الْآيَةَ
وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إن الله بالناس}
وَقَوْلِهِ: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال للناس}
وقوله: {رجال لا تلهيهم تجارة}
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ
تَجِيءُ اللَّفْظَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ بِصِيَغٍ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ
كَفَعَّالٍ وَفَعِيلٍ وَفَعْلَانٍ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّ أَصْلَهُ وُضِعَ لِذَلِكَ فَإِنَّ ضَرُوبًا نَابَ عَنْ قَوْلِكَ ضارب وضارب وضارب ما جاء على فعلان
أَمَّا فَعْلَانُ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فَعِيلٍ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ الرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ فَعِيلٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ فَعْلَانِ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ كَغَضْبَانَ لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا وَلِهَذَا لا يحوز التَّسْمِيَةُ بِهِ وَحَكَاهُ الزَّجَّاجُ فِي تَأْلِيفِهِ الْمُفْرَدِ على البسملة(2/502)
وأما قول الشاعر الْيَمَامَةِ:
* وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا *
فَهُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ كَذَا أَجَابَ بِهِ الزمخشري
ورده بعضهم بأن النعت لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ إِطْلَاقِهِمْ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ السَّبَبَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الرَّحْمَنَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ مُضَافًا وَمُنَكَّرًا وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ
وَأَجَابَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ " لَا زِلْتَ ذَا رَحْمَةٍ " وَلَمْ يرد بالاسم الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْرِفُ هَذَا الِاسْمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فله الأسماء الحسنى} وأما قوله: {وما الرحمن} فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا جَهِلُوا الصِّفَةَ دُونَ الْمَوْصُوفِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا "وَمَنِ الرَّحْمَنُ"
وَذَكَرَ الْبُرْزَابَاذَانِيُّ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَنِ حَيْثُ جَعَلُوهُ بِمَعْنَى الْمُتَّصِفِ بِالرَّحْمَةِ
قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الملك العظيم العادل لدليل: {الملك يومئذ الحق للرحمن} إِذِ الْمُلْكُ يَسْتَدْعِي الْعَظَمَةَ وَالْقُدْرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِخَلْقِهِ لَا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} وَإِنَّمَا يَصْلُحُ السُّجُودُ لِمَنْ لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ و {إني أعوذ بالرحمن} وَلَا يُعَاذُ إِلَّا بِالْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحِفْظِ والذب(2/503)
{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} أَيْ: وَمَا يَنْبَغِي لِلْعَظِيمِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْمُسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الْوَالِدِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
{الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} {وخشعت الأصوات للرحمن}
{قل من يكلأكم بالليل والنهار من الرحمن} وَلَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى حَافِظٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ ذِي الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ
{إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}
{وربنا الرحمن المستعان}
{من خشي الرحمن بالغيب}
وَلَا مُنَاسَبَةَ لِمَعْنَى الرَّحْمَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا "رَحِيمٌ" فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ كَقَوْلِهِمْ: "كَرِيمٌ" وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّحْمَنَ أَبْلَغُ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَحَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ عن الأكثرين(2/504)
وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِمُ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى لَفْظِ التَّنْبِيهِ وَالتَّنْبِيهُ تَضْعِيفٌ وَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ
وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ لِلتَّوْكِيدِ
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ قَالَ وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ زعم أن رحيما أبلغ من رحمن يجيد إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ وَلَوْ قِيلَ فَعْلَانٌ أَشَدُّ مُبَالَغَةً كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا خُصَّ بِاللَّهِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ مَمْنُوعٌ وَأَرَادَ بِهِ مَنْعَ الْخَلْقِ أَنْ يَتَّسِمُوا بِهِ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا التَّوْكِيدُ وَإِتْبَاعُ الْأَوَّلِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الثَّانِي
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ
وَعَنِ الْخَطَّابِيِّ اسْتِشْكَالُ هَذَا وَقَالَ لَعَلَّهُ أَرْفَقُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ"
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الزَّاهِرِ: الرَّحِيمُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ
وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ الرَّحْمَنَ جَاءَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الرَّحِيمِ وَلَوْ كَانَ أَبْلَغُ لَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَيَقُولُونَ فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ فَلَمْ يَكُنْ لذكره معنى
وهذا قدر ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرْدَافِ وَأَنَّهُ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مارق منها ولطف(2/505)
وفيه ضعف لاسيما إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ لَا صِفَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّحْمَنُ كَالْعَلَمِ إِذْ لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ قُدِّمَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَعْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِفِ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا ثُمَّ يُتْبَعَ الْأَنْكَرَ وَمَا كَانَ التَّعْرِيفِ أَنْقَصُ
قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَجَاءَ هَذَا عَلَى مِنْهَاجِ كَلَامِ الْعَرَبِ
وَأَجَابَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَنَّ الرَّحْمَنَ لِلْخَلْقِ وَالرَّحِيمَ لهم بالرزق والخلق قبل الزرق
وَمِنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي حَقِّهِ وَالنِّهَايَةُ فِي صِفَاتِهِ وَأَكْثَرُ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ جَارِيَةٌ عَلَى فَعِيلٍ كَرَحِيمٍ وَقَدِيرٍ وَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَكَرِيمٍ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى فَعْلَانٍ إِلَّا قَلِيلٌ وَلَوْ كَانَ فَعْلَانٌ أَبْلَغَ لَكَانَ صِفَاتُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ
قُلْتُ: وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ وُرُودَ فَعْلَانٍ بِصِيغَةِ التَّكْثِيرِ كَانَ فِي عَدَمِ تَكْرَارِ الْوَصْفِ بِهِ بِخِلَافِ فَعِيلٍ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِقَّ فِي الْكَثْرَةِ رِقَّتَهُ كَثُرَ فِي مَجِيءِ الْوَصْفِ
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي فَعْلَانٍ مِنْ جهة موافقة لفظ التَّثْنِيَةِ كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ فَفَعِيلٌ مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ كَعَبِيدٍ وَكَلِيبٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَكْثَرُ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَهَذَا أَحْسَنُهَا
قَالَ: وَقَوْلُ قُطْرُبٍ إِنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَيَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وهو ممتنع(2/506)
تنبيهات
الْأَوَّلُ
نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ الرَّشِيدِيِّ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ كَغَفَّارٍ وَرَحِيمٍ وَغَفُورٍ وَمَنَّانٍ كُلُّهَا مَجَازٌ إِذْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ هِيَ أَنْ تُثْبِتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ وَصِفَاتُ اللَّهِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا وَالْمُبَالَغَةُ أَيْضًا تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَى
وَذُكِرَ هَذَا لِلشَّيْخِ ابْنِ الْحَسَنِ السُّبْكِيِّ فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا صِفَاتٌ
فَإِنْ قُلْنَا: أَعْلَامٌ زَالَ ذَلِكَ
قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ
وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جماعة متعددين
وعلى هذا التقسيم يحب تَنْزِيلُ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَالرَّحْمَنِ وَالْغَفُورِ وَالتَّوَّابِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَبْقَى إِشْكَالٌ حِينَئِذٍ لِهَذَا قَالَ بَعْضُ المفسرين في حكم مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حِكَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ(2/507)
يتوب إليه من عباده أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة أَوْ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ نَزَّلَ صَاحِبَهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسِعَةِ كَرَمِهِ
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَهُوَ أَنَّ قَدِيرًا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى قَادِرٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى قَادِرٍ مُحَالٌ إِذْ الِاتِّحَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ حملها على كُلُّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا وَالْمُبَالَغَةُ إِذَنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ التَّعَلُّقِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْوَصْفِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم} يَسْتَحِيلُ عَوْدُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى نَفْسِ الْوَصْفِ إِذِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ لَا يَصِحُّ التَّفَاوُتُ فِيهِ فَيَجِبُ صَرْفُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ إِمَّا لِعُمُومِ كُلِّ أَفْرَادِهِ وَإِمَّا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الشَّيْءَ وَلَوَاحِقَهُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ
الثَّانِي
سُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَلْ تَدْخُلُ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقَالُ: عَلَّامَةٌ؟ فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْإِنَاثَ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ
حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ(2/508)
الثَّالِثُ
أَنَّهُ لَوْ جُرِّدَ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ لَمْ يُصْرَفْ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي آخِرِهِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ أَوِ الصِّفَةِ
وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَعْلَانٌ صِفَةً مِنَ الصَّرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُؤَنَّثُهُ فَعَلَى كَغَضْبَانَ وَغَضْبَى وَمَا لَمْ يَكُنْ مُؤَنَّثُهُ فَعْلَى يَنْصَرِفُ كَنَدْمَانٍ وَنَدْمَانَةٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّ رَحْمَنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُؤَنَّثٌ عَلَى فَعْلَى فَلَيْسَ لَهُ مؤنث فَعْلَانَةٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلَا مؤنث له من لفظه ف إذا عُدِمَ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْقِيَاسِ وَكُلُّ أَلِفٍ وَنُونٍ زَائِدَتَانِ فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى مَنْعِ الصَّرْفِ
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْبِهْ غَضْبَانَ وَلَمْ يُشْبِهْ نَدْمَانَ مِنْ جِهَةِ التَّأْنِيثِ فَلِمَاذَا تُرِكَ صَرْفُهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الصَّرْفُ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ كَغَضْبَانَ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ كَنَدْمَانَ فَلَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا لِأَنَّ الصَّرْفَ لَيْسَ بِالشَّبَهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَصْلِ وَعَدَمُ الصَّرْفُ بِالشَّبَهِ وَلَمْ يُوجَدْ
قُلْتُ: وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَسَاكِرَ يَدْفَعُ هَذَا عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ نَعَمْ أَنْكَرَ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ تَمْثِيلَهُ بِـ "الرَّحْمَنِ" لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ وَقَالَ لَمْ يُمَثِّلْ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِهِ فَإِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ بِالْغَلَبَةِ لله مُخْتَصٌّ بِهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُجَرَّدْ مِنْ " الْ " وَلَمْ يُسْمَعْ مُجَرَّدًا إِلَّا فِي النِّدَاءِ قَلِيلًا مِثْلُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الآخرة(2/509)
قال وقد أنكر على الشاطبي
*تَبَارَكَ رَحْمَانًا رَحِيمًا وَمَوْئِلًا*
لِأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ بِالْغَلَبَةِ
وَلَمْ يَحْضُرِ الزَّمَخْشَرِيَّ هَذَا الْجَوَابُ فَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ كَمَا سبق
ما جاء على فعيل
وَأَمَّا "فَعِيلٌ" فَعِنْدَ النُّحَاةِ أَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْرَارِ كَرَحِيمٍ وَسَمِيعٍ وَقَدِيرٍ وَخَبِيرٍ وَحَفِيظٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَعَلِيمٍ فَإِنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنْ "فَاعِلٍ" بِالنِّسْبَةِ وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِلْفَاعِلِ لَا لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ وَالْقَتْلُ لَا يَتَفَاوَتُ
وَقَدْ يَجِيءُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير} وقوله: {خلصوا نجيا} وَغَيْرُ ذَلِكَ
وَمِنَ الْمُشْكَلِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نسيا} فَإِنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُ أَصْلِ النِّسْيَانِ وَهُوَ كَالسُّؤَالِ الْآتِي فِي {ظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَيَخْتَصُّ هَذَا بجواب آخر وهو مناسبة رؤوس الآي قبله(2/510)
ما جاء على فعال
وَأَمَّا "فَعَّالٌ" فَنَحْوَ غَفَّارٍ وَمَنَّانٍ وَتَوَّابٍ وَوَهَّابٍ {فعال لما يريد} {علام الغيوب} ونحو: {لكل صبار شكور} ونحو: {نزاعة للشوى}
وَمِنَ الْمُشْكَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعبيد} وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الظُّلْمِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ وَالْوَاقِعُ نَفْيُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الناس شيئا} {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا:
أحدهما: أَنَّ "ظَلَّامًا" وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَكِنَّهُ جَاءَ فِي مُقَابِلِهِ الْعَبِيدُ وَهُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ إِذَا قُوبِلَ بِهِمُ الظُّلْمُ كَانَ كَثِيرًا
وَيُرَشِّحُ هَذَا الْجَوَابَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ في موضع آخر: {علا م الغيوب} فَقَابَلَ صِيغَةَ "فَعَّالٍ" بِالْجَمْعِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: {عالم الغيب} فَقَابَلَ صِيغَةَ "فَاعِلٍ" الدَّالَّةَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِالْوَاحِدِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله ولا الملائكة المقربون} حَيْثُ احْتَجَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ على الأنبياء(2/511)
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَابَلَ عِيسَى بِمُفْرَدِهِ بِمَجْمُوعِ الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي تَفْضِيلِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ
الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ فَيَنْتَفِي الْقَلِيلُ ضرورة لأن الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ فَإِذَا تَرَكَ الظُّلْمَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ ظُلْمِهِ فِي حق من يجوز عليه النفع كَانَ الظُّلْمُ الْقَلِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَكْثَرَ
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى النَّسَبِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَيْ: "ذَا ظُلْمٍ" كَقَوْلِهِ: "وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ" أَيْ: بِذِي نُبْلٍ أَيْ: لَا يُنْسَبُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ بَزَّازٍ وَعَطَّارٍ
الرَّابِعُ: أَنَّ فَعَّالًا قَدْ جاء غير مراد به الكثرة كقوله طَرَفَةَ:
وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ
لَا يُرِيدُ أَنَّهُ يَحُلُّ التِّلَاعَ قَلِيلًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ: "يَسْتَرْفِدِ القوم أرفد" هذا يدل عَلَى نَفْيِ الْحَالِ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ تمام المدح لا يحصل بِإِيرَادِ الْكَثْرَةِ
الْخَامِسُ: أَنَّ أَقَلَّ الْقَلِيلِ لَوْ وَرَدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَقَدْ جَلَّ عَنْهُ لَكَانَ كَثِيرًا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ زَلَّةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةٌ
ذَكَرَهُ الْحَرِيرِيُّ فِي الدُّرَّةِ قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمَخْزُومِيُّ فِي قَوْلِهِ:
كَفُوفَةِ الظُّفْرِ تَخْفَى مِنْ حَقَارَتِهَا
وَمِثْلَهَا فِي سَوَادِ الْعَيْنِ مَشْهُورُ(2/512)
السَّادِسُ: أَنَّ نَفْيَ الْمَجْمُوعِ يَصْدُقُ بِنَفْيِ وَاحِدٍ وَيَصْدُقُ بِنَفْيِ كُلِّ وَاحِدٍ وَيُعَيَّنُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لا يظلم مثقال ذرة}
السَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهِ ذَلِكَ {وَمَا ربك بظلام}
الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ ظَلَّامٌ وَالتِّكْرَارُ إِذَا وَرَدَ جَوَابًا لِكَلَامٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ كَمَا إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ
التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: "بِظَلَّامٍ" لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَنْ يُعَذِّبُ غَيْرَهُ عَذَابًا شَدِيدًا ظَلَّامٌ قَبْلَ الْفَحْصِ عَنْ جُرْمِ الذَّنْبِ
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا وَغَيْرُ الْمُبَالَغَةِ سَوَاءً فِي الْإِثْبَاتِ جَرَى النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ ثَمَّةَ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ
وَأَمَّا "فُعَالٌ" بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ عُجَابٌ وَكُبَارٌ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال: {ومكروا مكرا كبارا} قَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي "اللَّامِعِ الْعَزِيزِيِّ": "فَعِيلٌ" إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ نُقِلَ بِهِ إِلَى "فُعَالٍ" وإذا أريد به الزيادة شدوا فقال "فُعَّالٌ" ذَلِكَ مِنْ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ وَعُجَّابٍ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ(2/513)
{إن هذا لشيء عجاب} بِالتَّشْدِيدِ وَقَالُوا طَوِيلٌ وَطُوَّالٌ وَيُقَالُ نَسَبٌ قَرِيبٌ وَقُرَابٌ وَهُوَ أَبْلَغُ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ:
وَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ بَنِي لُؤَيٍّ
عَرَفْتُ الْوُدَّ والنسب القرابا
ما جاء على فعول
وَأَمَّا "فَعُولٌ" كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شكورا}
وَقَدْ أَطْرَبَنِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكور} فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا قَالَ "الشَّاكِرُ" فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إما شاكرا وإما كفورا} كَيْفَ غَايَرَ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ وَجَعَلَ الْمُبَالَغَةَ مِنْ جَانِبٍ الْكُفْرَانِ؟
قُلْتُ: هَذَا سَأَلَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيِّ فَأَجَابَ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ شُكْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا قَلِيلٌ وَكُلُّ كُفْرٍ يَأْتِي فِي مُقَابَلَتِهَا عَظِيمٌ فَجَاءَ شَكُورٌ بلفظ "فاعل" وجاء كفور "فَعُولٍ" عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فَتَهَلَّلَ وَجْهُ الصَّاحِبِ
ما جاء على فعل
وَأَمَّا "فَعِلٌ" فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}(2/514)
وقوله تعالى: {كذاب أشر} قرن "فعلا" بفعال
ما جاء على فعل
وَأَمَّا "فُعَلٌ" فَيَكُونُ صِفَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَهْلَكْتُ مالا لبدا} اللُّبَدُ الْكَثِيرُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ}
ويكون مصدر كَهُدَى وَتُقَى وَيَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ "أَفْعُلٍ" مِنْ كذا كقوله تعالى: {وأخر متشابهات} وقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} كما قال: {أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى}
ما جاء على فعلى
وَأَمَّا فُعْلَى فَيَكُونُ اسْمًا كَالشُّورَى وَالرُّجْعَى قَالَ الله تعالى: {إن إلى ربك الرجعى} وقال تعالى: {وكلمة الله هي العليا}
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن والسوأى فِي تَأْنِيثِ الْأَسْوَأِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله}
قال الفارسي: يحتمل السوءى تَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْنِيثَ "الْأَسْوَأِ" وَالْمَعْنَى كان عاقبتهم لخلة السوءى فتكون(2/515)
السوءى عَلَى هَذَا خَارِجَةً مِنَ الصِّلَةِ فَتُنْصَبُ عَلَى الْمَوْضِعِ وَمَوْضِعُ "أَنْ" نَصْبٌ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لِتَكْذِيبِهِمْ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السُّوأَى مَصْدَرًا مِثْلَ الرُّجْعَى وَعَلَى هَذَا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَمُنْتَصِبَةٌ بِأَسَاءُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} وَيَكُونُ {أَنْ كَذَّبُوا} نَصْبًا لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ
وَيَجُوزُ فِي إِعْرَابِ {السُّوأَى} وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةَ "الْعَاقِبَةِ" وَتَقْدِيرُهَا: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْمَذْمُومَةُ التَّكْذِيبَ
وَ"الْفُعْلَى" فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صِفَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ القصوى} وقوله تعالى: {فأراه الآية الكبرى} فَجَرَتْ صِفَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا فَإِنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ تُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَالْأَبْطَحِ وَالْأَجْرَعِ والأدهم(2/516)
المجلد الثالث
تابع النوع السادس والأربعون
...
القسم الحادي عشر: الْمُثَنَّى وَإِرَادَةُ الْوَاحِدِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤلؤ والمرجان} وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَإِنَّمَا تُخْرَجُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمِلْحِ وَقَدْ غَلَطَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ حَيْثُ قَالَ يَذْكُرُ الدُّرَّةَ:
فَجَاءَ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ... يَدُومُ الْفُرَاتُ فَوْقَهَا وَيَمُوجُ
وَالْفُرَاتُ لَا يَدُومُ فَوْقَهَا وَإِنَّمَا يَدُومُ الْأُجَاجُ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} إِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ جَمِيعًا وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا دَلَّ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ"رَجُلٍ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ".
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فيهن نورا} أَيْ فِي إِحْدَاهُنَّ.(3/3)
وقوله تعالى: {نسيا حوتهما} وَالنَّاسِي كَانَ يُوشَعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِمُوسَى: {فَإِنِّي نسيت الحوت} وَلَكِنْ أُضِيفَ النِّسْيَانُ لَهُمَا جَمِيعًا لِسُكُوتِ مُوسَى عَنْهُ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عليه} وَالتَّعْجِيلُ يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ تأخر فلا إثم عليه} قِيلَ إِنَّهُ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَإِنَّ مَوْضِعَ الْإِثْمِ وَالتَّعْجِيلِ يَجْعَلُ الْمُتَأَخِّرَ الَّذِي لَمْ يُقَصِّرْ مِثْلَ مَا جَعَلَ لِلْمُقَصِّرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْتَ مُقَصِّرٌ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُؤَثِّمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} وقوله تعالى: {جعلا له شركاء} أي أحدهما على أحد القولين.
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فَالْجُنَاحُ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا أَعْطَى قَالَ أَبُو بكر الصيرفي: المعنى: فإن خيف من ذَلِكَ جَازَتِ الْفِدْيَةُ وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى عَدَمِ الْإِقَامَةِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جهنم} قِيلَ هُوَ خِطَابٌ لِلْمَلِكِ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ثَنَاهُ عَلَى"أَلْقِ"وَالْمَعْنَى: أَلْقِ أَلْقِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي"قِفَا"وَخَالَفَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَقَالَ بَلْ هُوَ مُخَاطَبَةٌ لِلْمَلَكَيْنِ.(3/4)
وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ ربكما تكذبان} قَالَ: يُخَاطِبُ الْإِنْسَانَ مُخَاطَبَةً بِالتَّثْنِيَةِ.
وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّتَيْنِ} فَقِيلَ: جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ بِدَلِيلِ قوله تعالى آخر الآية: {ودخل جنته} فَأَفْرَدَ بَعْدَ مَا ثَنَى.
وَقَوْلِهِ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتت أكلها} فإنه ما ثنى هنا إِلَّا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ لَهَا وَجْهَيْنِ وَأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ رَأَيْتَ فِي كِلْتَا النَّاحِيَتَيْنِ مَا يَمْلَأُ عَيْنَيْكَ قُرَّةً وَصَدْرَكَ مَسَرَّةً.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ من دون الله} وَإِنَّمَا الْمُتَّخَذُ إِلَهًا عِيسَى دُونَ مَرْيَمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ"وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ" قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ "الْقَدِّ" وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ جِنِّي وَغَيْرُهُ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
*قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ*
.(3/5)
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ:
أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ
وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
عَشِيَّةَ سَالَ الْمِرْبَدَانِ كِلَاهُمَا ... سَحَابَةَ مَوْتٍ بِالسُّيُوفِ الصَّوَارِمِ
وَإِنَّمَا هُوَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ فَقَطْ.
وَقَوْلُهُ: "وَدَارٍ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ".
وَقَوْلُهُ: "بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ".
وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
لَمَّا مَرَرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيسِ
قَالُوا: أَرَادَ "دَيْرَ الْوَلِيدِ" فَثَنَّاهُ بِاعْتِبَارِ مَا حَوْلَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي عَشَرَ. إِطْلَاقُ الْجَمْعِ وَإِرَادَةُ الْوَاحِدِ.
كَقَوْلِهِ: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ.(3/6)
في غمرتهم حتى حين} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
وَمِثْلُهُ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ وَهَذَا مِمَّا لَا شَرِيكَ فِيهِ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَجْرِي عَلَى أَيْدِي خَلْقِهِ نُزِّلَتْ أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ قَبُولِ الْقَوْلِ بِمَوْرِدِ الْجَمْعِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} والرسول كان واحدا بدليل قوله تعالى: {ارجع إليهم} .
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ مُخَاطَبَةَ رئيسهم فإن العادة جارية لاسيما مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا.
وَمِنْهُ: {فَفَرَرْتُ منكم لما خفتكم} وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ الْمُخَاطَبَاتِ.
ومنه: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} وَالْمُرَادُ جِبْرِيلُ.
وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى ما آتاهم الله من فضله} وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {الذين قال لهم الناس} وَالْمُرَادُ بِهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِنَّمَا.(3/7)
جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ "النَّاسِ" عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ حَسُنَ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الكل قال الله تعالى: {إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} {وإذ قلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وَالْقَائِلُ ذَلِكَ رُءُوسُهُمْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ دَسَّهُمْ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جُعْلًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا.
الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثم ارجع البصر كرتين} فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ فَهُوَ جَمْعٌ وَالْمَعْنَى "كَرَّاتٌ" لِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحْسَرُ إِلَّا بِالْجَمْعِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الطلاق مرتان} .
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: التَّكْرَارُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ.
وَهُوَ مَصْدَرُ كَرَّرَ إِذَا رَدَّدَ وَأَعَادَ هُوَ "تَفْعَالٌ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ بِخِلَافِ التَّفْعِيلِ.(3/8)
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مَصْدَرُ "فَعَّلَ" وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ فِي التَّفْعِيلِ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ.
وَقَدْ غَلِطَ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ ظَنًّا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَلَيْسَ كذلك بل هو من محاسنها لاسيما إِذَا تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ فِي خِطَابَاتِهَا إِذْ أَبْهَمَتْ بِشَيْءٍ إِرَادَةً لِتَحْقِيقِهِ وَقُرْبَ وُقُوعِهِ أَوْ قَصَدَتِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَرَّرَتْهُ تَوْكِيدًا وَكَأَنَّهَا تُقِيمُ تَكْرَارَهُ مَقَامَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَوْ الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ حَيْثُ تَقْصِدُ الدُّعَاءَ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ وَكَانَتْ مُخَاطَبَاتُهُ جَارِيَةً فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَعْضٍ وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ تَسْتَحْكِمُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَعَلَى ذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا وَرَدَ مِنْ تَكْرَارِ الْمَوَاعِظِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَلَا يَقْمَعُ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرَارُ الْمَوَاعِظِ وَالْقَوَارِعِ قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} قَالَ فِي "الْكَشَّافِ" أَيْ سَهَّلْنَاهُ لِلِادِّكَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِأَنْ نَسَجْنَاهُ بِالْمَوَاعِظِ الشَّافِيَةِ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ التَّكْرَارُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قدر} .
وَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .
وَقَوْلِهِ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} .
وقوله: {كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} .(3/9)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هو من عند الله} .
وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الذين من قبلكم بخلاقهم} .
وَفَائِدَتُهُ الْعُظْمَى التَّقْرِيرُ وَقَدْ قِيلَ الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْأَخْبَارَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
وَقَالَ: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أو يحدث لهم ذكرا} .
وَحَقِيقَتُهُ إِعَادَةُ اللَّفْظِ أَوْ مُرَادِفِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنًى خَشْيَةَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ لِطُولِ الْعَهْدِ بِهِ.
فَإِنْ أُعِيدَ لَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْنَى السَّابِقِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ من دونه} .
فَأَعَادَ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ ديني} قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} لَا لِتَقْرِيرٍ الْأَوَّلِ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهَا وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ يَخُصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي الثَّانِي.(3/10)
وَأَخَّرَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ وَثَانِيًا فِيمَنْ فُعِلَ لِأَجْلِهِ الْفِعْلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ سُؤَالُ الْحِكْمَةِ عَنِ التَّكْرَارِ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ أَمَّا إِذَا وَافَقَ الْأَصْلَ فَلَا وَلِهَذَا لَا يَتَّجِهُ سُؤَالُهُمْ لِمَ كَرَّرَ "إِيَّاكَ" فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
فَقِيلَ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا تَقُولُ "بين زبد وَبَيْنَ عَمْرٍو مَالٌ".
وَقِيلَ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِارْتِفَاعِ أَنْ يُتَوَهَّمَ إِذَا حُذِفَتْ أَنَّ مَفْعُولَ "نَسْتَعِينُ" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ وَاقِعٌ بَعْدَ الْفِعْلِ فَتَفُوتُ إِذْ ذَاكَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ لِأَنَّ هُنَا عَامِلَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَعْمُولًا فَإِذَا ذُكِرَ مَعْمُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَقَدْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَنْ سَبَبِ ذِكْرِ مَا الْأَصْلُ ذِكْرُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تكلف الجواب عنه وقس بذلك نظائره.
فوائد التكرير.
وَلَهُ فَوَائِدُ:.
أَحَدُهَا: التَّأْكِيدُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْرِيرَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي تَكْرَارِ التَّأْسِيسِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يُقَرِّرُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَعَدَمَ التَّجَوُّزِ فَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إِنَّ الثَّانِيَةَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّانِيَةَ أَبْلَغَ فِي الْإِنْشَاءِ فَقَالَ: وَفِي {ثُمَّ} تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الأول.(3/11)
وكذا قوله: {ما أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ ما يوم الدين} وَقَوْلُهُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قدر} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ: هَلْ هُوَ إِنْذَارُ تَأْكِيدٍ أو إنذاران؟ إن قُلْتَ":سَوْفَ تَعْلَمُ ثُمَّ سَوْفَ تَعْلَمُ "كَانَ أَجْوَدُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَطْفٍ لِتُجْرِيَهُ عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ التَّأْكِيدِ وَلِعَدَمِ احْتِمَالِهِ لِتَعَدُّدِ الْمُخْبَرِ بِهِ.
وَأَطْلَقَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ" الْخُلَاصَةِ "أَنَّ الْجُمْلَةَ التَّأْكِيدِيَّةَ قَدْ تُوصَلُ بِعَاطِفٍ وَلَمْ تَخْتَصَّ بِثُمَّ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ وَالِدِهِ التَّخْصِيصَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتقوا الله} فَإِنَّ الْمَأْمُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَرَجَّحُوا ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ" التَّقْوَى "الْأُولَى مَصْرُوفَةً لِشَيْءٍ غَيْرِ" التَّقْوَى "الثَّانِيَةِ مَعَ شَأْنِ إِرَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ فَمُرَادُهُمْ تَأْكِيدُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرِيرِ الْإِنْشَاءِ لَا أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ وَلَوْ كَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لَمَا فُصِلَ بِالْعَطْفِ وَلَمَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: {وَلْتَنْظُرْ نفس} .
فَإِنْ قُلْتَ:"اتَّقُوا" الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى "وَلْتَنْظُرْ".(3/12)
أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ: {وَقُولُوا للناس حسنا} قولوا للناس حسنا معطوف على: {لا تعبدون إلا الله} لا على قوله: {وبالوالدين إحسانا} وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العالمين} وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هداكم} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ "اصْطِفَاءَيْنِ" وَ"ذِكْرَيْنِ" وَهُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ طُلِبَ فِيهِ تَكْرَارُ الذِّكْرِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {كي نسبحك كثيرا وَنَذْكُرُكَ كَثِيرًا} وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} كَرَّرَ "أُولَئِكَ".
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} .
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بالذي} إلى قوله: {من المصلحين} كررت "أن" في أربع مواضيع تَأْكِيدًا.
وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أول المسلمين} .
الثَّانِي: زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ.(3/13)
تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: إِذَا طَالَ الْكَلَامُ وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ أُعِيدَ ثَانِيًا تَطْرِيَةً لَهُ وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ من بعدها لغفور رحيم} .
وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بعد ما فتنوا} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله} ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَمَّا لَا تَجِيءُ بِالْفَاءِ!.
وَمِثْلُهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ثم قال: {فلا تحسبنهم} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ من بعدهم} ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} .
ومنه قوله: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهم لي ساجدين} .
وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وعظاما أنكم مخرجون} فقوله: {أنكم} الثاني بناء على الأول إذ كارا بِهِ خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هم غافلون} .(3/14)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {كذلك نجزي المحسنين} .
بِغَيْرِ {إِنَّا} وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ ذِكْرَ {إِنَّا كَذَلِكَ} لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَهُ في هذه القصة من قوله {إنا كذلك} فكأنه طرح فِيمَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ أَوَّلًا عَنْ ذِكْرِهِ ثَانِيًا وَلِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالنِّسْبَةِ فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُونَ تَوْكِيدِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَهَذَا أُسْلُوبٌ غَرِيبٌ وَقَلَّ فِي الْقُرْآنِ وَجُودُهُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ تَقَدُّمِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ كَالْمُبْتَدَأِ وَحُرُوفِ الشَّرْطَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَيُسْتَغْنَى عَنْهُ عِنْدَ أَمْرٍ مَحْذُورِ التَّنَاسِي.
وَقَدْ يَرِدُ مِنْهُ شَيْءٌ يَكُونُ بِنَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ بِأَنْ تَتَقَدَّمَ التَّفَاصِيلُ وَالْجُزْئِيَّاتُ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا خُشِيَ عَلَيْهَا التَّنَاسِي لِطُولِ الْعَهْدِ بِهَا بَنَى عَلَى مَا سَبَقَ بِهَا بِالذِّكْرِ الْجُمْلِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وكفرهم بآيات الله وقتلهم} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فَقَوْلُهُ "فَبِظُلْمٍ" بَيَانٌ لِذِكْرِ الْجُمْلِيِّ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَوْلِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ جُمْلِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّفَاصِيلِ مِنَ النَّقْضِ وَالْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غلف} وَالْقَوْلُ عَلَى مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ وَدَعْوَى قَتْلِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الِاعْتِرَاضِ بِهَا مَوْضِعَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قليلا} وقوله: {وما قتلوه وما صلبوه} إلى قوله: {شهيدا} وأنه لَمَّا ذَكَرَ بِالْبِنَاءِ جُمْلِيَّ الظُّلْمِ مِنْ قَوْلِهِ "فَبِظُلْمٍ" لِأَنَّهُ يَعُمُّ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ وينطوي عليه ذكر حينئد مُتَعَلِّقُ الْجُمْلِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} عَقِبَ الْبَاءِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْأَصْلِ حَقُّهُ أن بلى مَعْمُولَهُ فَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ(3/15)
الذين هادوا حرمنا} هو متعلق بقوله: {فبظلم} وَقَدِ اشْتَمَلَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ مَا تَأَخَّرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي عُدِّدَتْ بَعْدَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ الشَّيْءِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَذُكِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ الْأَوْلَى بِخُصُوصِ كُلٍّ وَاحِدٍ ثُمَّ ذُكِرَ الْعَامُّ الْمُنْطَوِي عَلَيْهَا فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ثُمَّ ذُكِرَتْ جُزْئِيَّاتٌ أُخَرَ بِخُصُوصِهَا فَتَرْكِيبُ الْأَسَالِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآيَةِ وَهُوَ التَّعْمِيمُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ ثُمَّ التَّخْصِيصُ بَعْدَ التَّعْمِيمِ ثُمَّ الْبِنَاءُ بَعْدَ الِاعْتِرَاضِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {عذابا أليما} فقوله: {ولولا رجال مؤمنون} إلى قوله: {بغير علم} هُوَ الْمُقْتَضَى الْأَوَّلُ الْمُتَقَدِّمِ وَقَوْلُهُ: {لَوْ تَزَيَّلُوا} هُوَ الْمُقْتَضَى الثَّانِي وَهُوَ الْبِنَاءُ لِأَنَّهُ الْمُذَكِّرُ بِالْمُقْتَضَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ "لَوْلَا" خَشْيَةَ تَنَاسِيهِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ أَوْرَدَ مُقْتَضَاهَا مِنَ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} وُرُودًا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ أُخِذَا مَعًا كَأَنَّهُمَا مُقْتَضًى مُنْفَرِدٌ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ وهو الشرط الماضي فقوله: {لو تزيلوا} بناء على قوله: {ولولا رجال} نَظَرَ فِي الْمُضَارَعَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعدها لغفور رحيم} فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَأَصْلَحُوا} وَيَكُونُ الثَّانِي بَيَانًا لِمُجْمَلٍ لَا تَكْرِيرًا.
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بالله من بعد إيمانه} ثم قال: {من شرح بالكفر صدرا} .(3/16)
وقوله: {ولولا رجال مؤمنون} ثم قال: {لو تزيلوا} ونازعه العراق لِأَنَّ الْمُعَادَ فِيهِمَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَذَا يَجِيءُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ التَّكْرِيرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا.
الرَّابِعُ: فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} {القارعة ما الْقَارِعَةِ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أدراك ما ليلة الْقَدْرِ} .
وَقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} .
وَقَوْلِهِ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ المشأمة ما أصحاب المشأمة} .
وقوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} .
الْخَامِسُ: فِي مَقَامِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَذِكْرُ "ثُمَّ" فِي الْمُكَرَّرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَإِنْ تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَغْيِيرٌ بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ دَائِمًا.(3/17)
السَّادِسُ: التَّعَجُّبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثم قتل كيف قدر} فَأُعِيدَ تَعَجُّبًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ الْغَرَضَ عَلَى حَدِّ قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ!.
السَّابِعُ: لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ ربكما تكذبان} فَإِنَّهَا وَإِنْ تَعَدَّدَتْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ بِهَا الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لَهُمْ فَكُلَّمَا ذَكَرَ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ النِّعَمِ طَلَبَ إِقْرَارَهُمْ وَاقْتَضَاهُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَصُوَرٌ شَتَّى.
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَكْرِيرِهَا عَدُّ النِّعَمِ وَاقْتِضَاءُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} وَأَيُّ نِعْمَةٍ هُنَا! وَإِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ.
قِيلَ: إِنَّ نِعَمَ اللَّهِ فِيمَا أَنْذَرَ بِهِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوبَاتِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ لِيَحْذَرُوهَا فَيَرْتَدِعُوا عَنْهَا نَظِيرُ أَنْعُمِهِ عَلَى مَا وَعَدَهُ وَبَشَّرَ مِنْ ثَوَابِهِ عَلَى طَاعَتِهِ لِيَرْغَبُوا فِيهَا وَيَحْرِصُوا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِأَنْ تَعْتَبِرَهُ بِضِدِّهِ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِنْ تَقَابَلَا فِي ذَوَاتِهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي مَوْضِعِ النِّعَمِ بِالتَّوْقِيتِ عَلَى مِلَاكِ الْأَمْرِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِ حُكَمَاءِ الشُّعَرَاءِ:
وَالْحَادِثَاتُ وَإِنْ أَصَابَكَ بُؤْسُهَا فَهُوَ الَّذِي أَنْبَاكَ كَيْفَ نَعِيمُهَا
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِتَعْلَمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَوْ كَانَ عَائِدًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ أُرِيدَ بِهَا غَيْرَ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ.(3/18)
قُلْتُ: إِنْ قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ.
وَقَدْ تَكَلَّفَ لِتَوْجِيهِ الْعِدَّةِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً قَالَ الْكِرْمَانِيُّ جَاءَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كُرِّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِأَنَّ سِتَّ عَشْرَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِنَانِ لِأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهَا رَاجِعَةٌ إِلَى النِّعَمِ وَالنِّقَمِ فَأَعْظَمُ النِّقَمِ جَهَنَّمُ وَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَجَاءَتْ سَبْعَةٌ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ الْأَبْوَابِ وَسَبْعَةٌ عَقِبَ كُلِّ نِعْمَةٍ ذَكَرَهَا لِلثَّقَلَيْنِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: نَبَّهَ فِي سَبْعٍ مِنْهَا عَلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى عِدَّةِ أُمَّهَاتِ النِّعَمِ وَأَفْرَدَ سَبْعًا مِنْهَا لِلتَّخْوِيفِ وَإِنْذَارًا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ وَفَصَلَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالسَّبْعِ الثَّوَانِي بِوَاحِدَةٍ سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَنَاءِ حَيْثُ اتَّصَلَتْ بِقَوْلِهِ: {كل من عليها فان} فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ أُتْبِعَتْ بِثَمَانِيَةٍ فِي وَصْفِ الْجِنَانِ وَأَهْلِهَا عَلَى عِدَّةِ أَبْوَابِهَا ثُمَّ بِثَمَانِيَةٍ أُخَرَ فِي وَصْفِ الْجَنَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ دُونِ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِذَلِكَ أَيْضًا فَاسْتُكْمِلَتْ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المراسلات عَشْرُ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ قِصَصًا مُخْتَلِفَةً وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ وَيْلٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهَذِهِ القصة وكل قصة مخالفة لصحابتها فَأَثْبَتَ الْوَيْلَ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَزَاءُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَجَعَلَ لِلْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الثَّوَابِ وَيْلٌ وَمِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين(3/19)
وإن ربك لهو العزيز الرحيم} فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ لِأَجْلِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ قَدْ يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحد.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فَذَلِكَ لِظُهُورِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْعَجَبُ مِنْ تَخَلُّفِ مَنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا مَعَ ظُهُورِهَا.
وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْأَكْثَرِ، فَدَلَّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى إِيمَانِ الْأَقَلِّ فَكَانَتِ الْعِزَّةُ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالرَّحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ وَهُمَا مُرَتَّبَتَانِ كَتَرْتِيبِ الْفَرِيقَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} الْآيَةَ، لِأَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ أَوَّلًا وَثَانِيًا عَلَى نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَهَذَا أَقْرَبُ لِلْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَحَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فَإِنَّ الْمُعَامَلَاتِ الْإِلَهِيَّةِ للطائع والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية الْبَرْزَخِيَّةُ ثُمَّ الْحَشْرِيَّةُ كَمَا أَنَّ أَحْوَالَ الِاسْتِقْرَارِ بعد الجميع في الغايقة بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَفِي [ثُمَّ] دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَقِّي إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الزَّمَانُ مُرَتَّبًا فِي الْإِنْذَارِ عَلَى التَّكْرَارِ وَفِي الْمُنْذِرِ بِهِ عَلَى التَّنْوِيعِ.
وَمِنْهُ تَكْرَارُ: {فذوقوا عذابي ونذر} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها.(3/20)
يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ تِكْرَارًا وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ الْحَسَنُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الكفار قالوا: نعبد إلهك شهرا ونعبك آلِهَتَنَا شَهْرًا فَجَاءَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ التَّكْرَارِ فِي شَيْءٍ بَلْ هِيَ بِالْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ أَلْيَقُ وَذَلِكَ لأن قوله: {لا أعبد ما تعبدون} ، أَيْ لَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا تَعْبُدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلَهُ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عبدتم} ،أَيْ وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْحَالِ مَا عبدتم في المستقبل {ولا أنتم عابدون} فِي الْحَالِ مَا أَعْبُدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ الْحَالُ وَالْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالُ وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ النَّفْيُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَحَذْفُ الْمَاضِي مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَتِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ تَقْدِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ وَقَوْلُكَ: لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَنَا فَاعِلُهُ، أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَفْعَلُهُ. فالجملة الفعلية نفي لإمكانه والاسمية لانصافه كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} . {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ في القبور} . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِ وَمِنَ الِاتِّصَافِ بِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمْ إِلَّا بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَفَرَّقَ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْيِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ ما عبدتم} وَقَالَ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ما أعبد} عَائِدٌ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَالَ لَا أعبد ما تعبدون بِالْمُضَارِعِ وَفِي الثَّانِي: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عبدتم} بِالْمَاضِي فَإِنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ الْمَاضِي فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مَا عَبَدْتُمُوهُ وَلَوْ مَرَّةً مَا أَنَا عَابِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ فَفِيهِ كمال.(3/21)
بَرَاءَتِهِ وَدَوَامُهَا مِمَّا عَبَدُوهُ وَلَوْ مَرَّةً بِخِلَافِ قوله: {لا أعبد ما تعبدون} فَإِنَّ النَّفْيَ مِنْ جِنْسِ الْإِثْبَاتِ وَكِلَاهُمَا مُضَارِعٌ يَظْهَرَانِ جُمْلَةً وَمُنْفَرِدًا.
وَمِنْهُ تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سورة البقرة1 لن الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنَّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ وَأَهْلُ النِّفَاقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا لَهُ لأنه كان أول نسخ نزل وكفارة قُرَيْشٍ قَالُوا نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتناوكانوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَدْعُونَا إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَتَهُمَا وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظلموا منهم} وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أَيْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يعلمون} ، أَيْ يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حين. وأبصرهم فسوف يبصرون} .
وَقَالَ صَاحِبُ [الْيَنْبُوعِ] :لَمْ يَبْلُغْنِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فيه شيء.(3/22)
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ: هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَشْدِيدِ الْوَعِيدِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ [الْحِينُ] فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَ [الْحِينُ] فِي هَاتَيْنِ يَوْمَ فَتْحِ مكة.
ومن فوائد قوله تعال في الأوليين: {وأبصرهم} وفي هاتين {وأبصر} أَنَّ الْأُولَى بِنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ قَتْلًا وَأَسْرًا وَهَزِيمَةً وَرُعْبًا فَمَا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ بهم قيل له: {وأبصرهم} ،وَأَمَّا يَوْمُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ اقْتَرَنَ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمُ الْإِنْعَامُ بِتَأْمِينِهِمْ وَالْهِدَايَةُ إِلَى إِيمَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ وَفْقًا لِلتَّشَفِّي بِهِمْ بَلْ كَانَ فِي اسْتِسْلَامِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ لِعَيْنِهِ قُرَّةً وَلِقَلْبِهِ مَسَرَّةً فَقِيلَ لَهُ: {أَبْصِرْ} .
وَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أَيْ يُبْصِرُونَ مَنَّكَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ وَمَنَّنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لهن} .
وللتكرار [هنا] فَائِدَتَانِ:.
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَمَا لو ارتدت الزوجية قَبْلَ الدُّخُولِ يَحْرُمُ النِّكَاحُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِمَا فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّانِيَةَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفَيْنِ كَذَلِكَ الْمَانِعُ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي الْمَاضِي وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ.(3/23)
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْإِضْرَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَلْ إِذَا ذُكِرَتْ بَعْدَ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ.
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ الْخَلْقِ وَمَعْنَاهُ إِبْطَالُ مَا سَبَقَ عَلَى طَرِيقِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى.
وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَرْبَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الرَّدِّ رَاجِعًا إِلَى الْعِبَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أحلام بل افتراه بل هو شاعر} .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا وَلَكِنَّهُ عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْقَضَى وَقْتُهُ وَأَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} . {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لما يذوقوا عذاب} .
وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ [الْكَافِيَةِ] أَنَّ [بَلْ] حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ لغرض آخر لإبطال وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ وَبِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} ،فَأَضْرَبَ بِهَا عَنْ قَوْلِهِمْ، وَأَبْطَلَ كَذِبَهُمْ.
وَقَوْلِهِ: {بل أنتم قوم عادون} أَضْرَبَ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ إِتْيَانِهِمُ الذُّكُورَ وَتَرْكِ الْأَزْوَاجِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله} ،.(3/24)
فَالْأَوَّلُ لِلْمُطَلِّقِينَ وَالثَّانِي لِلشُّهُودِ، نَحْوَ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} ،أَوَّلُهَا لِلْأَزْوَاجِ وَآخِرُهَا لِلْأَوْلِيَاءِ.
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْأَمْثَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وما يستوي الأحياء ولا الأموات} .
وَكَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ ثَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:" وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ"، قَالَ:" وَلِذَلِكَ أَخَّرَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ".
وَمِنْهُ تَكْرَارُ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ وَقِصَّةِ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوَاصِمِ:" ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةٍ، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي سَبْعِينَ آيَةٍ". انْتَهَى.
وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا لِفَائِدَةٍ خَلَتْ عنه في الموضع الآخر وهي أمور:(3/25)
أحدها: أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ الْقِصَّةَ زَادَ فِيهَا شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّةَ1 فِي عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانًا فَفَائِدَتُهُ أَنَّ لَيْسَ كُلَّ حَيَّةٍ ثُعْبَانًا وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ أَنْ يُكَرِّرَ أَحَدُهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ أَوْ قَصِيدَتِهِ كَلِمَةً لِصِفَةٍ زَائِدَةٍ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يُهَاجِرُ بعده آخرون يحكمون عَنْهُ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ الْأَوَّلِينَ وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِهِ مُهَاجِرِيًّا فَلَوْلَا تَكَرُّرُ الْقِصَّةِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسَى إِلَى قَوْمٍ وَقِصَّةُ عِيسَى إِلَى آخَرِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقِصَصِ فَأَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةُ الْقَوْمِ وَزِيَادَةُ [تَأْكِيدٍ وَتَبْصِرَةٍ] ، لِآخَرِينَ وَهُمُ الْحَاضِرُونَ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وغيره.
الثَّالِثَةُ: تَسْلِيَتُهُ لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا اتَّفَقَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ مَعَ أُمَمِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل ما نثبت به فؤادك} .
الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِبْرَازَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ.(3/26)
السَّادِسَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ آيَةٍ لِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ:" وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ".
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَمَّا سَخِرَ الْعَرَبُ بِالْقُرْآنِ قال: {فأتوا بسورة من مثله} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} ،فَلَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ مَثَلًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتَفَى بِهَا لَقَالَ الْعَرَبِيُّ بِمَا قَالَ الله تعالى: فأتوا بسورة من مثله} إِيتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَأَنْزَلَهَا سُبْحَانَهُ فِي تَعْدَادِ السُّوَرِ دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ كَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا لَا تُغَايِرُ الْأُخْرَى فَقَدْ يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِهَا زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتِلْكَ حَالُ الْمَعَانِي الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تُخَالِفَ نَظِيرَتَهَا مِنْ نَوْعِ مَعْنًى زَائِدٍ فِيهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ ذِكْرَ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُ أَجْزَاءً ثُمَّ قَسَّمَ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ عَلَى تَارَاتِ التَّكْرَارِ لِتُوجَدَ مُتَفَرِّقَةً فِيهَا وَلَوْ جُمِعَتْ تِلْكَ الْقِصَصُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَأَشْبَهَتْ مَا وُجِدَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ انْفِرَادِ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا بِمَوْضِعٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَعَانٍ عَجِيبَةٍ:.
مِنْهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهَا مَعَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يُوقِعْ فِي اللَّفْظِ هُجْنَةً وَلَا أَحْدَثَ مَلَلًا فَبَايَنَ بِذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَلْبَسَهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ أَنْ.(3/27)
تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَاحِدَةً بِأَعْيَانِهَا فَيَكُونُ شَيْئًا مُعَادًا فَنَزَّهَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْقِصَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ صَارَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي تَارَاتِ التَّكْرِيرِ فَيَجِدُ الْبَلِيغُ - لِمَا فِيهَا مِنَ التَّغْيِيرِ- مَيْلًا إِلَى سَمَاعِهَا لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ الَّتِي لِكُلٍّ مِنْهَا حِصَّةٌ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظْمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُونَ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْقِصَصِ وَالْأَنْبَاءِ مَعَ تَغَايُرِ أَنْوَاعِ النَّظْمِ وَبَيَانِ وُجُوهِ التَّأْلِيفِ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ مَرْدُودٌ إِلَى قُدْرَةِ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ نِهَايَةٌ وَلَا يَقَعُ عَلَى كَلَامِهِ عَدَدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلام والبحر يمده} الْآيَةَ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَقَاصِيصَ بَنِي إِسْرَئِيلَ وُجُوهًا مِنَ الْمَقَاصِدِ:.
أَحَدُهَا: الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْوَحْيِ.
الثَّانِي: تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضْلِ كَالنَّجَاةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَفَرْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التِّيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَتَفَجُّرِ الْحَجَرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ.(3/28)
الثَّالِثُ إِخْبَارُ اللَّهِ نَبِيَّهُ بِتَقْدِيمِ كُفْرِهِمْ وَخِلَافِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي أَعَزَّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِ فغير بدع ما يعامله أخلافهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الرَّابِعُ تَحْذِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ كَمَا نَزَلَ بِأَسْلَافِهِمْ
وَهُنَا سُؤَالَانِ
أَحَدُهُمَا مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكَرُّرِ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَوْقُهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ
الْأَوَّلُ فِيهَا مِنْ تَشْبِيبِ النِّسْوَةِ بِهِ وَتَضَمُّنِ الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتُتِنَّ بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا وَأَرْفَعِهِمْ مِثَالًا فَنَاسَبَ عَدَمُ تَكْرَارِهَا لِمَا فيها من الإعضاء وَالسَّتْرِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا النَّهْيَ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ
الثَّانِي أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقِصَصِ فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سَائِرِ الْقِصَصِ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ
الثَّالِثُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَاقَ قِصَّةَ يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ(3/29)
إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي تَصْدِيرُهُ عَلَى الْفَصَاحَةِ فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ في قصص سائر الأنبيا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُمْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَرْيَمَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ.
وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ السُّوَرَ الْأُوَلَ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا نَصْرَ رُسُلِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ وَنِجَاءِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهَذِهِ السُّوَرُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيهَا عَلَى ذِكْرِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ بَلْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْمُهُمْ وَلِهَذَا سُمِّيتْ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ فِيهَا إِكْرَامَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ وبدأ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ كَرَامَتِهِ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمُ أَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَهُوَ أَبُ أَكْثَرِهِمْ وَلَيْسَ هُوَ أَبُ نُوحٍ وَلُوطٍ لَكِنْ لُوطٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَيُّوبُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى في سورةالأنعام: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب} .
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ فيها امتحانه للمؤمنين نصره لَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ وَذَكَرَ فِيهَا حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِمَنْ صَبَرَ وَعَاقِبَةَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهَا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَالَ فِيهَا: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} ،وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ، إِمَّا بِكَوْنِهِمْ غُلِبُوا وَذُلُّوا وَإِمَّا بِكَوْنِهِمْ أُهْلِكُوا وَلِهَذَا ذَكَرَ قِصَّةَ إِلْيَاسَ دُونَ غَيْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ إِهْلَاكَ قومه بل قال: {فكذبوه فإنهم لمحضرون} .(3/30)
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ إِلْيَاسَ وَهَذَا يَقْتَضِي عَذَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ وَإِلْيَاسُ الْمَعْرُوفُ بَعْدَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعْدَ مُوسَى لَمْ يُهْلِكِ الْمُكَذِّبِينَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَبَعْدَ نُوحٍ لَمْ يُهْلِكْ جَمِيعَ النَّوْعِ وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ نَذِيرًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا وَفِي هَذَا ظُهُورُ بُرْهَانِهِ وَآيَاتِهِ حَيْثُ أَذَلَّهُمْ وَنَصَرَهُ {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فجعلناهم الأسفلين} وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ [الَّذِي يُعَرِّضُ عَدُوَّهُ وَالْقَصَصُ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي] قَتَلَ عَدُوَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يُقِمْ بَيْنَهُمْ بَلْ هَاجَرَ وَتَرَكَهُمْ وَأُولَئِكَ الرُّسُلُ لَمْ يَزَالُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى هَلَكُوا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَهُوَ إِقَامَتُهُ فِيهِمْ وَانْتِظَارُ الْعَذَابِ النَّازِلِ وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ لَمْ يُقِمْ فِيهِمْ بَلْ خَرَجَ عَنْهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرُّسُلِ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ يَتُوبُ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ كَمَا جَرَى لِقَوْمِ يُونُسَ فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السِّرُّ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ جِنْسِ وَاقِعَتِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ؟.
فَالْجَوَابُ: أَمَّا حَالَةُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَتْ إِلَى الرَّحْمَةِ أَمْيَلَ فَلَمْ يَسْعَ فِي هَلَاكِ قَوْمِهِ لَا بِالدُّعَاءِ وَلَا بِالْمَقَامِ وَدَوَامِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض من بعدهم} ،وَكَانَ كُلُّ قَوْمٍ يَطْلُبُونَ هَلَاكَ نَبِيِّهِمْ فَعُوقِبُوا وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ أَوْصَلُوهُ إِلَى الْعَذَابِ لَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا،.(3/31)
وَلَمْ يَفْعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ العذاب إذ الدنيا ليس دَارُ الْجَزَاءِ الْعَامِّ وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَنْ أَرَادُوا عَدَاوَةَ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُهْلِكُوهُ فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ صُورَةَ الْهَلَاكِ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ وَلَمْ يُهْلِكْ أَعْدَاءَهُ بَلْ أَخْزَاهُمْ وَنَصْرَهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَظْهَرَهُ حَتَّى صَارَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا ثُمَّ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا سَيِّدُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُهُ وَالْخَلِيلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْجَمِيعِ وَفِي طَرِيقِهِمَا مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَيْسَ فِي طَرِيقِ غَيْرِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ ذَنْبًا غَيْرَ الشِّرْكِ وَكَذَلِكَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَأَمَّا عَادٌ فَذَكَرَ عَنْهُمُ التَّجَبُّرَ وَعِمَارَةَ الدُّنْيَا وَقَوْمُ صَالِحٍ ذَكَرَ عَنْهُمُ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلُ مَدْيَنَ الظُّلْمَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ الشِّرْكِ وَقَوْمُ لُوطٍ اسْتِحْلَالَ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا بِالتَّوْحِيدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمُ اسْتِحْلَالُ الْفَاحِشَةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَشَدَّ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الرَّبِّ وَعُقُوبَتِهِ لِكُلِّ قَوْمٍ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ نُوحٍ خَيْرٌ يُرْجَى غَرِقَ الْجَمِيعُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ وَعَظِّمْ فَوَائِدَهُ وَتَدَبَّرْ حِكْمَتَهُ فَإِنَّهُ سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} ، فَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَنْهَارِ مَعَ كُلِّ صِنْفٍ، وَكَانَ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ، وَمِنْ لَبَنٍ، وَمَنْ خَمْرٍ، وَمِنْ.(3/32)
عَسَلٍ. لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَنْهَارُ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةً وَفِيمَا عَدَا الْمَاءِ مَجَازًا لِلتَّشْبِيهِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا مَعَ الْمَاءِ وَعَطَفَ الْبَاقِي عَلَيْهِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَفْرَدَ ذِكْرَ الْمَاءِ وَجَمَعَ الْبَاقِي صِيغَةً وَاحِدَةً؟ قِيلَ: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَجَمَعَ بَيْنَ مَحَامِلٍ مِنَ الْمَجَازِ مُخْتَلِفَةٍ فِي صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
فائدة في صنيعهم عند استثقال تكرار اللفظ.
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون لِمَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} فَإِنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ اللَّفْظُ غَيَّرَ فَعِّلْ إِلَى أَفْعِلْ فَلَمَّا ثَلَّثَ تَرَكَ اللَّفْظَ أَصْلًا، فَقَالَ: "رُوَيْدًا".
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} ثم قال: {إمرا} .
قَالَ الْكِسَائِيُّ:" مَعْنَاهُ شَيْئًا مُنْكَرًا كَثِيرَ الدَّهَاءِ مِنْ جِهَةِ الْإِنْكَارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا".
قَالَ الْفَارِسِيُّ:" وَأَنَا أَسْتَحْسِنُ قَوْلَهُ هذا ".
وقوله تعالى: {ارجعوا وراءكم} ، قال الفارسي:" {وراءكم} فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ تَأَخَّرُوا وَالْمَعْنَى ارْجِعُوا تَأَخَّرُوا فَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَيْسَتْ ظَرْفًا لِأَنَّ الظُّرُوفَ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا".
وَإِذَا تَكَرَّرَ اللَّفْظُ بِمُرَادِفَةٍ جَازَتِ الْإِضَافَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَذَابٌ مِنْ رجز(3/33)
أليم} وَالْقَصْدُ الْمُبَالَغَةُ أَيْ عَذَابٌ مُضَاعَفٌ وَبِالْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وقوله: {فاعفوا واصفحوا} .
الْقِسْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ: الزِّيَادَةُ فِي بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنٍ مِنَ الْأَوْزَانِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى وَزْنٍ آخَرَ أَعْلَى مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مِنَ الْمَعْنَى أَكْثَرَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ أَوَّلًا لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ أَدِلَّةٌ عَلَى الْمَعَانِي فَإِذَا زِيدَتْ فِي الْأَلْفَاظِ وَجَبَ زِيَادَةُ الْمَعَانِي ضَرُورَةً.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} ،فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ [قَادِرٍ] لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ مُتَمَكِّنُ الْقُدْرَةِ لَا يُرَدُّ شَيْءٌ عَنِ اقْتِضَاءِ قُدْرَتِهِ وَيُسَمَّى هَذَا قُوَّةُ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ المعنى.
وكقوله تعالى: {واصطبر} فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ مِنَ [اصْبِرْ] .
وَقَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ السَّيِّئَةُ ثَقِيلَةً وَفِيهَا تَكَلُّفٌ زِيدَ فِي لَفْظِ فِعْلِهَا.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يصطرخون فيها} ،فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ [يَتَصَارَخُونَ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُبْكِبُوا فيها} وَلَمْ يَقُلْ: [وَكُبُّوا] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبْكَبَةُ تَكْرِيرُ الْكَبِّ جَعَلَ التَّكْرِيرَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى التَّكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ(3/34)
فِي جَهَنَّمَ [يَنْكَبُّ] كَبَّةً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي قَعْرِهَا اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْهَا خَيْرَ مُسْتَجَارٍ!.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: صَرَّ الْجُنْدُبَ وَصَرْصَرَ الْبَازِيُّ كَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا فِي صَوْتِ الْجُنْدُبِ اسْتِطَالَةً فَقَالُوا: صَرَّ صَرِيرًا فَمَدُّوا وَتَوَهَّمُوا فِي صَوْتِ الْبَازِيِّ تَقْطِيعًا فَقَالُوا: صَرْصَرَ.
وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا، فَإِنَّ [سَتَّارًا] وَ [غَفَّارًا] أَبْلَغُ مِنْ [سَاتِرٍ] [وغافر] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كان غفارا} ،وَمِنْ هَذَا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى [الرَّحْمَنِ] عَلَى مَعْنَى [الرَّحِيمِ] لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْأَلِفُ وَالنُّونُ وَقَدْ سَبَقَ فِي السَّادِسِ.
وَيَقْرُبُ مِنْهُ التَّضْعِيفُ - وَيُقَالُ التَّكْثِيرُ - وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِالصِّيغَةِ دَالَّةً عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ قَبْلَ التَّضْعِيفِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُتَعَدِّيًا تَضْعِيفُهُ وَلِهَذَا رُدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} حَيْثُ جَعَلَ [نَزَّلْنَا] هُنَا لِلتَّضْعِيفِ.
وَقَدْ جَاءَ التَّضْعِيفُ دَالًّا عَلَى الْكَثْرَةِ فِي اللَّازِمِ قَلِيلًا نَحْوَ مَوَّتَ الْمَالُ.
وَجَاءَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّكْثِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عليه آية من ربه} . {لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} .
فإن قلت: {فأمتعه قليلا} مُشْكِلٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ [فَعَّلَ] لِلتَّكْثِيرِ، فَكَيْفَ جَاءَ [قَلِيلًا] نَعْتًا لِمَصْدَرِ [مَتَّعَ] وَهَذَا وَصْفُ كَثِيرٍ بِقَلِيلٍ وَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ.(3/35)
قلت: وصفت بِالْقِلَّةِ مِنْ حَيْثُ صَيْرُورَتِهِ إِلَى نَفَادٍ وَنَقْصٍ وَفَنَاءٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْقِسْمِ مُقَيَّدٌ بِنَقْلِ صِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِمَعْنًى فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ مِنْ نَقْلِ الثُّلَاثِيِّ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الصِّيغَةِ، فقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} ،لَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ صُدُورِ الْكَلَامِ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ ثُلَاثِيٍّ.
وَكَذَا قَوْلُهُ {ورتل القرآن ترتيلا} يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَى هَيْئَةِ التَّأَنِّي وَالتَّدَبُّرِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ،لَيْسَ النَّفْيُ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ نَفَى أَصْلَ الْفِعْلِ.
الْقِسْمُ السَّادِسَ عَشَرَ: التَّفْسِيرُ
وَتَفْعَلُهُ الْعَرَبُ فِي مَوَاضِعِ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوم} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى:" قَرَأْتُ فِي تَفْسِيرِ الْجُنَيْدِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَأْخُذُهُ سنة} ، تَفْسِيرٌ لِلْقَيُّومِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ منوعا} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم} فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ.(3/36)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَتَبْيِينٌ لَهُ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ فَلَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ مِنْهَا إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خلقه من تراب} خَلَقَهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العذاب يذبحون} ،في [يُذَبِّحُونَ] وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلسَّوْمِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي: وَمَتَى كَانْتِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لَمْ يَحْسُنِ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا لِأَنَّ تَفْسِيرَ الشَّيْءِ لَاحِقٌ بِهِ وَمُتَمِّمٌ لَهُ وَجَارٍ مَجْرَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ كَالصِّلَةِ مِنَ الْمَوْصُولِ وَالصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ وَقَدْ يَجِيءُ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون} ،وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ وَإِلَّا لَمَا حَزِنَ الرَّسُولُ وَإِنَّمَا يَجِيءُ بِهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ قَوْلُهُمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا} .
وَلَوْ جَاءَتِ الْآيَتَانِ عَلَى حَدِّ مَا جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم} ،لَكَانَتْ [أَنَّ] مَفْتُوحَةً، لَكِنَّهَا جَاءَتْ عَلَى حَدِّ قوله.....(3/37)
فَائِدَةُ.
قِيلَ: الْجُمْلَةُ التَّفْسِيرِيَّةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ، إِذَا كَانَ لِلْمُفَسَّرِ مَوْضِعٌ وَيَقْرُبُ مِنْهَا ذِكْرُهُ تَفْصِيلًا، كَمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ ليلة} .
ومثل: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} .
الْقِسْمُ السَّابِعَ عَشَرَ: خُرُوجُ اللَّفْظِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نسائكم} ،فَإِنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ بِقَيْدٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عليكم} وَلَمْ يَقُلْ: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَلَمْ يَكُنَّ فِي حُجُورِكُمْ] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ خَرَجَ مَخْرَجُ الْعَادَةِ.
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِذَا كَانَتْ بِالْمَجْمُوعِ فَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ وَالْمَجْمُوعُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ كَمَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْمَجْمُوعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَ أَحَدُ شَطْرَيِ الْعِلَّةِ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ ثَابِتًا فَيَعْمَلُ عَمَلَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا:.(3/38)
{وأحل لكم ما وراء ذلكم} عُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنْ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ إِذَا لَمْ يُدْخَلْ بِأُمِّهَا، فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فلا جناح عليكم} ؟ .
قِيلَ: فَائِدَتُهُ: أَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَيْدَ الدُّخُولِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ كَمَا فِي الْحِجْرِ الْمَفْهُومِ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا تَقْيِيدَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْعِرَاقِيِّ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ تَغْلِبْ لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً دَلَّتِ الْعَادَةُ عَلَيْهَا فَاسْتَغْنَى الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَادَةِ عَنْ ذِكْرِهَا فَلَمَّا ذَكَرَهَا مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْإِخْبَارَ بِوُقُوعِهَا لِلْحَقِيقَةِ بَلْ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا نَفْيُ الْحُكْمِ مِنَ الْمَسْكُوتِ أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ غَالِبَةً أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا لِيَعْرِفَ السَّامِعُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعْرِضُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أولادكم خشية إملاق} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فرهان مقبوضة} ، وَجَوَّزُوا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُخْتَصُّ بِالسَّفَرِ لَكِنْ ذُكِرَ لِأَنَّ فَقْدَ الْكَاتِبِ يَكُونُ فِيهِ غَالِبًا فَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ إِعْوَازِ الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ الْمَوْثُوقِ بِهِمَا أَمَرَ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ بِحِفْظِ مَالِ الْمُسَافِرِينَ بِأَخْذِ الْوَثِيقَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ الرَّهْنُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إن خفتم} ، وَالْقَصْرُ جَائِزٌ مَعَ أَمْنِ السَّفَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا الشَّرْطِ وَغَالِبُ أَسْفَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ تَخْلُ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْخَوْفَ هُنَا شَرْطًا إِنْ حُمِلَ الْقَصْرُ عَلَى تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالنُّزُولِ.(3/39)
عَنِ الدَّابَّةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَنَحْوِهِ لَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَكِنَّ ذَلِكَ شِدَّةُ خَوْفٍ لَا خَوْفٌ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُسَاعِدُهُ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إن علمتم فيهم خيرا}
الْقِسْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الْقَسَمُ
وَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ جُمْلَةٌ يُؤَكَّدُ بِهَا الْخَبَرُ، حَتَّى إِنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} قَسَمًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِخْبَارٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ سُمِّيَ قَسَمًا.
وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاسْمِ مُعَظَّمٍ كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأرض إنه لحق} .
وقوله: {قل إي وربي إنه لحق} .
وقوله: {قل بلى وربي لتبعثن} .
وقوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} .
وقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين} .
وقوله: {فلا وربك لا يؤمنون} .
وقوله: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} .
فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ أَقْسَمَ اللَّهُ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ.(3/40)
كقوله: {والتين والزيتون} .
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تعلمون عظيم} .
{فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس} .
وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْقَسَمِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِ فَالْمُؤْمِنُ يُصَدِّقُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْكَافِرِ فَلَا يُفِيدُهُ.
فَالْجَوَابُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْقَسَمَ لِكَمَالِ الْحُجَّةِ وَتَأْكِيدِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ يُفْصَلُ بِاثْنَيْنِ: إِمَّا بِالشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِالْقَسَمِ، فذكر تعالى النوعين حتى يبقى لهم حجة.
وقوله: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} وَعَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السماء والأرض إنه لحق} صَاحَ وَقَالَ: مَنِ الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَلَيْنَا أَلَّا نُقْسِمَ بِمَخْلُوقٍ؟ قِيلَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حُذِفَ مُضَافٌ أَيْ ورب الفجر ورب التِّينِ وَكَذَلِكَ الْبَاقِي.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَظِّمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَتُقْسِمُ بِهَا فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ.(3/41)
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْسَامَ إِنَّمَا تَجِبُ بِأَنْ يُقْسِمَ الرَّجُلُ بِمَا يُعَظِّمُهُ أَوْ بِمَنْ يُجِلُّهُ وَهُوَ فَوْقَهُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ فَأَقْسَمَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِمَصْنُوعَاتِهِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بارىء وَصَانِعٍ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ.
وَقَسَمُهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم في قوله: {لعمرك} لِيَعْرِفَ النَّاسُ عَظَمَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَكَانَتَهُ لَدَيْهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: فِي [كَنْزِ اليواقيت] : والقسم بالشيء لايخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنعفة، فَالْفَضِيلَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأمين} والمنفعة نحو: {والتين والزيتون} .
وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:.
أحداها: بذاته، كقوله تعالى: {فورب السماء والأرض} . {فوربك لنسألنهم أجمعين} .
وَالثَّانِي: بِفِعْلِهِ، نَحْوَ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وما طحاها. ونفس وما سواها} .
والثالث: مفعوله، نحو: {والنجم إذا هوى} . {والطور وكتاب. مسطور} .
وَهُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مُظْهَرٍ وَمُضْمَرٍ:
فالمظهر: كقوله تعالى: {فورب السماء والأرض} ونحوه(3/42)
وَالْمُضْمَرُ: عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَامُ القسم، كقوله: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم} وَقِسْمٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ منكم إلا واردها} تقديره: [والله] .
وقد أقسم تعالى بطوائف الْمَلَائِكَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّازِعَاتِ.
فَوَائِدٌ.
الْأُولَى: أَكْثَرُ الْأَقْسَامِ الْمَحْذُوفَةُ الْفِعْلِ فِي الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْوَاوِ فَإِذَا ذُكِرَتِ الْبَاءُ أُتِيَ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهد أيمانهم} {يحلفون بالله} . ولا تجيء الباء والفعل محذوف إلا قليلا وعليه حمل بعضهم قوله: {يا بني(3/43)
لا تشرك بالله} وَقَالَ: الْبَاءُ بَاءُ الْقَسَمِ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِـ[تُشْرِكْ] وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ} ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {بِاللَّهِ} لَا تُشْرِكْ وَحَذَفَ {لَا تُشْرِكْ} لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ادع لنا ربك بما عهد عندك} قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: [بِمَا عَهِدَ] قَسَمٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سُؤَالٌ لَا قَسَمٌ.
وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بحق إن كنت قلته} فتقف على [لي] وتبتدىء بِحَقٍّ فَتَجْعَلُهُ قَسَمًا.
هَذَا مَعَ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إن الواو فرع الباء، لَكِنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ الْفَرْعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَيَقِلُّ الْأَصْلُ.
الثَّانِيَةُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَسَمَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِتَوْكِيدِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَزِيدُونَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ وَتَارَةً يَحْذِفُونَ مِنْهُ لِلِاخْتِصَارِ وَلِلْعِلْمِ بِالْمَحْذُوفِ.
فَمَا زَادُوهُ لَفْظُ [إِي] بِمَعْنَى [نَعَمْ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِي وَرَبِّي}
وَمِمَّا يَحْذِفُونَهُ فِعْلُ الْقَسَمِ وَحَرْفُ الْجَرِّ وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَذْكُورًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسول الله} أي [والله] .
وقوله: {لأقطعن أيديكم} {لنسفعا بالناصية} {ليسجنن وليكونا من الصاغرين} .
وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَوَابَ وَيُبْقُونَ الْقَسَمَ لِلْعِلْمِ بِهِ كقوله تعالى: {ص والقرآن(3/44)
ذي الذكر} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْجَوَابَ حُذِفَ لِطُولِ الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ: "لَأُعَذِّبَنَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ".
وَقِيلَ: الْجَوَابُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ.
وَمِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمُقْسَمُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} أَيْ نَحْلِفُ إِنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بمعنى اليمين بدليل قوله: {أيمانهم جنة}
وأما قوله تعالى: {فالحق والحق أقول} ، فَالْأَوَّلُ قَسَمٌ بِمَنْزِلَةِ، [وَالْحَقِّ] وَجَوَابُهُ: [لَأَمْلَأَنَّ] ، وَقَوْلُهُ: {والحق أقول} تَوْكِيدٌ لِلْقَسَمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، ثم قال: {قتل أصحاب الأخدود} قَالُوا: وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَأَصْلُهُ: [لَقَدْ قُتِلَ] ثُمَّ حُذِفَ اللَّامُ وَقَدْ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي الْحُجَّةِ الْأَلْفَاظُ: الْجَارِيَةُ مَجْرَى الْقَسَمِ ضَرْبَانِ:.
أَحَدُهُمَا: مَا تَكُونُ جَارِيَةً كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقَسَمٍ فَلَا تُجَابُ بِجَوَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتيناكم بقوة} ، {فيحلفون له كما يحلفون لكم} ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَسَمًا وَأَنْ يَكُونَ حَالًا لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَوَابِ.
وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا(3/45)
الكتاب لتبيننه} {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} .
الرَّابِعَةُ: الْقَسَمُ وَالشَّرْطُ، يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَسَمُ وَدَخَلَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوَابِ كَانَ الْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَأَغْنَى عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ وَإِنْ عُكِسَ فَبِالْعَكْسِ وَأَيُّهُمَا تَصَدَّرَ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ لَهُ.
وَمِنْ تَقَدُّمِ الْقَسَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} ، تَقْدِيرُهُ: [وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ] فَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ على الشرط ليس بِلَامِ الْقَسَمِ وَلَكِنَّهَا زَائِدَةٌ وَتُسَمَّى الْمُوَطِّئَةَ لِلْقَسَمِ وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ مُنْتَظَرٌ أَيِ الشَّرْطُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا خَبَرًا.
وَلَيْسَ دُخُولُهَا عَلَى الشَّرْطِ بِوَاجِبٍ بِدَلِيلِ حَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ لِلْقَسَمِ لَا لِلشَّرْطِ دُخُولُ اللَّامِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْزُومٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وَلَوْ كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ لَكَانَ مَجْزُومًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تحشرون} ،فَاللَّامُ فِي [وَلَئِنْ] هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ وَاللَّامُ فِي {لَإِلَى اللَّهِ} هِيَ لَامُ الْقَسَمِ وَلَمْ تَدْخُلْ نُونُ التَّوْكِيدِ عَلَى الْفِعْلِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّامِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْأَصْلُ: [لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لِتُحْشَرُونِ إِلَى اللَّهِ] فَلَمَّا قُدِّمَ مَعْمُولُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ حُذِفَ مِنْهُ.(3/46)
الْقِسْمُ التَّاسِعَ عَشَرَ: إِبْرَازُ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ لِيَدُلَّ عَلَى بَقِيَّةِ جُمَلِهِ.
كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَا أُكَلِّمُكَ حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ وَحَتَّى يَشِيبَ الْغُرَابُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الخياط} ، يَعْنِي وَالْجَمَلُ لَا يَلِجُ فِي السَّمِّ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَدْخُلُونَ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ بِالْحَالِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَصْلًا وَلَيْسَ لِلْغَايَةِ هُنَا مَفْهُومٌ وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ كَدَعْوَى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ وُلُوجَ الْجَمَلِ فِي السَّمِّ غَايَةً لِنَفْيِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَتِلْكَ غَايَةٌ لَا تُوجَدُ فَلَا يَزَالُ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مُنْتَفِيًا.
وَغَالَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي وَصْفِ جِسْمِهِ بِالنُّحُولِ فَجَاءَ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْآيَةِ فَقَالَ وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوًى وَصَبَابَةٍ عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ خَالِدُ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الشُّعَرَاءِ فِي اعْتِبَارِ الْمُبَالَغَةِ وَإِلَّا فَمُعَارَضَاتُ الْقُرْآنِ لَا تَجُوزُ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سلف} فَإِنَّ الْمَعْنَى إِنْ كَانَ مَا سَلَفَ فِي الزَّمَنِ السَّالِفِ يُمْكِنُ رُجُوعُهُ فَحِلُّهُ ثَابِتٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُ أَبَدًا وَلَا يَثْبُتُ حِلُّهُ أَبَدًا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أول العابدين} ،أَيْ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا أَعْبُدُ سواه.(3/47)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سلاما} ، أَيْ إِنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْوًا فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إِلَّا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {لَا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} ،فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَشْكَلُوا وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ مُطْلَقًا وَمُقْتَضَى اسْتِثْنَائِهَا مِنَ النَّفْيِ أَنَّهُمْ يَذُوقُونَهَا فِي الْجَنَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَوَجَّهُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنَّهُ مِنَ التَّوْكِيدِ فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَوْتَةُ الْأُولَى لَا يَذُوقُونَهَا أَصْلًا إِذْ يَسْتَحِيلُ عَوْدُ مَا وَقَعَ فَلَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَصْلًا أَيْ إِنْ كَانُوا يَذُوقُونَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ إِيقَاعُ الْمَوْتَةِ الْأُولَى فِي الْجَنَّةِ مُسْتَحِيلًا فَعَرَّضَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِلَى اسْتِحَالَةِ الْمَوْتِ فِيهَا.
هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَالْمَعْنَى: [لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى قَدْ ذَاقُوهَا] .
وَيَحْتَمِلُ عَلَى الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهَا أَيْ فِي مُقَدِّمَاتِهَا لِأَنَّ الَّذِي يَرَى مَقَامَهُ فِي الْجَنَّةِ عند الْجَنَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ فِيهَا بِتَأْوِيلِ الذَّوْقِ عَلَى مَعْنَى الْمُسْتَحِيلِ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.
الْقِسْمُ الْمُوَفِّي الْعِشْرِينَ: الِاسْتِثْنَاءُ وَالِاسْتِدْرَاكُ
وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ أَنَّهُ ثَنَّى ذِكْرَهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي الْجُمْلَةِ وَمَرَّةً فِي التَّفْصِيلِ.(3/48)
فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَتِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ} ،فَإِنَّ فِيهِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا إِبْلِيسُ مِنْ كَوْنِهِ خَرَقَ إِجْمَاعَ الْمَلَائِكَةِ وَفَارَقَ جَمِيعَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِخُرُوجِهِ مِمَّا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ وَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِكَ أَمَرَ الْمَلِكُ بِكَذَا فَأَطَاعَ أَمْرَهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ وَوَزِيرٍ إِلَّا فُلَانًا فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ مَعْصِيَةِ الملك بهذا الصِّيغَةِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرَ الْمَلِكُ فَعَصَاهُ فُلَانٌ.
وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ وُصِفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ فِيمَا ضَرَبَهُ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَخَتَمَ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاما} فَإِنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَهْوِيلًا عَلَى السَّامِعِ لِيَشْهَدَ عُذْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ.
وَحِكْمَةُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ تَعْظِيمٌ لِلْمُدَّةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يُبَاشِرُ السَّمْعَ ذِكْرُ [الْأَلْفِ] وَاخْتِصَارُ اللَّفْظِ فَإِنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ أَخْصَرُ مِنْ [تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا] وَلِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ يُفِيدُ حَصْرَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَلَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا النَّقْصَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاء ربك} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ وَصْفَ الشَّقَاءِ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ وَالْكَافِرَ اسْتَثْنَى مَنْ حَكَمَ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ بِلَفْظٍ مُطْمِعٍ حَيْثُ أَثْبَتَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُطْلَقَ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، أَيْ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي إِخْرَاجِ أَهْلِ الشَّقَاءِ مِنَ النَّارِ. وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَكَّدَ خُلُودَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يَرْفَعُ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءَ حَيْثُ قَالَ {عَطَاءً غَيْرَ(3/49)
مجذوذ} أَيْ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، لِيُعْلَمَ أَنَّ عَطَاءَهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ وَهَذِهِ الْمَعَانِي زَائِدَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ اللُّغَوِيِّ.
وَقِيلَ: وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى مَنْزِلَةٍ أَعْلَى كَالرِّضْوَانِ وَالرُّؤْيَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ:.
*وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا*
وَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لِخُرُوجِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ أَوْ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ وَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ دَالًّا عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْعَذَابِ فَكَأَنَّهُ تَصَوَّرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى انْقِطَاعِ النَّعِيمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَطَاءً غير مجذوذ} فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ لَا يُحْمَلُ عَلَى انْقِطَاعِ عَذَابِ الْجَحِيمِ لِتَنَاسُبِ أَطْرَافِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ: مَعْنَى قوله: {إن ربك فعال لما يريد} عَقِبَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: {عَطَاءً غير مجذوذ} عَقِبَ الثَّانِي، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِأَهْلِ النَّارِ مَا يُرِيدُ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا يُعْطِي لِأَهْلِ الْجَنَّةِ عَطَاءَهُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ.
قِيلَ: وَمَا أَصْدَقَ فِي سِيَاقِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُ الْقَائِلِ:.
*حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ*
وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ عَنْ حُكْمِ مَا قَبْلَهُ وَلَا مُوجِبَ للعدول.(3/50)
عَنِ الظَّاهِرِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَحُمِلَ عَلَى النَّجَاةِ وَلَمَّا كَانَ إِنْجَاءُ الْمُسْتَحِقِّ الْعَذَابَ مَحَلَّ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لما يريد} ،أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضُ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويحكم ما يريد.
وأما الاستثناء الثاني فلم يَكُنْ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَانَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ المستحقين للثواب وقطع النعيم لا يناسب إنحاء أَهْلِ النَّارِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ، فَلِذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: {عطاء غير مجذوذ} بَيَانًا لِلْمَقْصُودِ.
وَرِعَايَةُ هَذَا الْبَابِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ الْبَابِ الَّذِي تَوَهَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ أَيْضًا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُنْصِفِ أَنَّهُ تَعَسُّفٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لهم طعام إلا من ضريع} فَالْمَعْنَى لَا طَعَامَ لَهُمْ أَصْلًا لِأَنَّ الضَّرِيعَ لَيْسَ بِطَعَامِ الْبَهَائِمِ فَضْلًا عَنِ الْإِنْسِ وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: لَيْسَ لِفُلَانٍ ظِلٌّ إِلَّا الشَّمْسَ تُرِيدُ ذلك نَفْيَ الظِّلِّ عَنْهُ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالضَّرِيعُ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ يُسَمَّى الشَّبْرَقَ فِي حَالِ خُضْرَتِهِ وَطَرَاوَتِهِ فَإِذَا يَبِسَ سُمِّيَ الضَّرِيعَ وَالْإِبِلُ تَرْعَاهُ طَرِيًّا لَا يَابِسًا.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ بِأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ صِفَةِ ذَمٍّ مَنْفِيَّةٍ عَنِ الشَّيْءِ صِفَةُ مَدْحٍ بِتَقْدِيرِ دُخُولِهَا فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} التَّأْكِيدُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: عَلَى الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالِانْقِطَاعِ.
الْقِسْمُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الْمُبَالَغَةُ.
وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ فَتَزِيدُ فِي التَّعْرِيفِ بِمِقْدَارِ شِدَّتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ فَيُدَّعَى.(3/51)
لَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ مَا يُسْتَبْعَدُ عِنْدَ السَّمَاعِ أَوْ يُحِيلُ عَقْلُهُ ثُبُوتَهُ.
وَمِنْ أَحْسَنِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، وَهِيَ ظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ فَوْقَهُ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ فَوْقَ الْمَوْجِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحناجر} ،أَيْ كَادَتْ تَبْلُغُ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ مَاتَ صَاحِبُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنَّ الْخَوْفَ وَالرَّوْعَ يُوجِبُ لِلْخَائِفِ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْهَضَ بِالْقَلْبِ نَحْوَ الْحَنْجَرَةِ. ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ.
أَوْ أَنَّهَا لَمَّا اتَّصَلَ وَجِيبُهَا وَاضْطِرَابُهَا بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ.
وَرَدَّ ابْنُ الانبارى تقديرا: [كَادَتْ] فَإِنَّ [كَادَ] لَا تُضْمَرُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولدا} .
وَمِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالت صفر} .(3/52)
وَقَدْ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَعْظَمِ الأكبر للبمالغة وَهُوَ مَجَازٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفا صفا} ،فَجَعَلَ مَجِيءَ جَلَائِلِ آيَاتِهِ مَجِيئًا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فوفاه حسابه} ، فَجَعَلَ نَقْلَهُ بِالْهَلَكَةِ مِنْ دَارِ الْعَمَلِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وُجْدَانًا لِلْمَجَازِيِّ.
وَمِنْهُ مَا جَرَى مَجْرَى الْحَقِيقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يذهب بالأبصار} ،فَإِنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ بِ يَكَادُ صَرْفُهَا إِلَى الْحَقِيقَةِ فَانْقَلَبَ مِنَ الِامْتِنَاعِ إِلَى الْإِمْكَانِ.
وَقَدْ تجيء المبالغة مدمج كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بالنهار} ، فَإِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُدْمَجَةٌ فِي الْمُقَابَلَةِ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ لَا إِلَى الْمُخَاطِبِ مَعْنَاهُ أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ عِنْدَكُمْ وَإِلَّا فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الْآيَةَ، فَقِيلَ: سَبَبُهَا أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ عَنَّفَنَا بِهَذَا الْقَوْلِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العلم إلا قليلا} ،وَنَحْنُ قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْكَامُهُ وَنُورٌ وَهُدًى! فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التَّوْرَاةُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ " وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.(3/53)
وَقِيلَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ من شجرة أقلام} .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِكَثْرَةِ كَلِمَاتِهِ وَهِيَ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَإِنَّمَا قَرَّبَ الْأَمْرَ عَلَى أَفْهَامِ الْبَشَرِ بِمَا يَتَنَاهَى لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَعْهَدُهُ الْبَشَرُ مِنَ الْكَثْرَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ مَا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَكُنْ لِتَنْفَدَ وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ أَنَّهَا تَنْفَدُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْلَامِ وَالْبُحُورِ وَكَمَا قَالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ حِينَ غَمَسَ مِنْقَارَهُ فِيهَا ".
وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا جَاءَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِغْضَاءِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالصَّفْحِ عَنِ الذُّنُوبِ وَالتَّغَافُلِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالسَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} الآية.(3/54)
تَنْبِيهٌ:.
تَحَصَّلَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَصْدَ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَلْزِمُ فِي الْحَالِ الْإِيجَازَ إِمَّا بِالْحَذْفِ وَإِمَّا بحجل الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ أَوْ يَتَكَرَّرُ لَفْظٌ يَتِمُّ بِتَكَرُّرِهِ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ وَيَقُومُ مَقَامَ أَوْصَافٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {الحاقة ما الْحَاقَّةِ} .
وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كِتَابِهِ لِافْتِرَاقِهَا فِي أحكام.
فائدة.
[في اختلاف الأقوال في تقدير المبالغة في الكلام] .
اخْتُلِفَ فِي الْمُبَالَغَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:.
أَحَدُهَا: إِنْكَارُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاسْتِحَالَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْغَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَأَعْذَبُ الْكَلَامِ مَا بُولِغَ فِيهِ وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَلَا يَنْحَصِرُ الْحُسْنُ فِيهَا فَإِنَّ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ لَا تُنْكَرُ وَلَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً لَمْ تَرِدْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهَا طَرِيقَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لُغَةً كَمَا فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ وَالثَّانِي: أَنْ يُشْفَعَ مَا يُفْهِمُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى عَلَى وجه يتقضى زِيَادَةً فَتَتَرَادَفُ الصِّفَاتُ.(3/55)
بقصد التهويل كما في قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحاب ظلمات بعضها فوق بعض} .
الْقِسْمُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الِاعْتِرَاضُ.
وَأَسْمَاهُ قُدَامَةُ [الْتِفَاتًا] ، وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ أَوْ كَلَامَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ مَعْنًى بِشَيْءٍ يَتِمُّ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ بِدُونِهِ وَلَا يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ فَيَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْكَلَامَيْنِ لِنُكْتَةٍ.
وَقِيلَ: هُوَ إِرَادَةُ وَصْفِ شَيْئَيْنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَصْدًا وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الِانْجِرَارِ وَلَهُ تَعْلِيقٌ بِالْأَوَّلِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْكِيدِ.
وَعِنْدَ النُّحَاةِ جُمْلَةٌ صُغْرَى تَتَخَلَّلُ جُمْلَةً كُبْرَى عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي أَمَالِيهِ: الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَارَةً تَكُونُ مُؤَكِّدَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُشَدِّدَةً لِأَنَّهَا إِمَّا أَلَّا تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ بَلْ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَقَطْ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَعْنَى زَائِدٍ فَهِيَ مُشَدِّدَةٌ. انْتَهَى.
وَذَكَرَ النُّحَاةُ مِمَّا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ عَنِ الْحَالِيَّةِ كَوْنَهَا طَلَبِيَّةً كَقَوْلِهِ تعالى:.(3/56)
{ومن يغفر الذنوب إلا الله} ،فإنه معترض بين: {فاستغفروا لذنوبهم} وبين: {ولم يصروا على ما فعلوا} .
وَلَهُ أَسْبَابٌ:.
مِنْهَا: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ أَحْسَنُ بِفُلَانِ - وَنِعْمَ مَا فَعَلَ. وَرَأَى مِنَ الرَّأْيِ كَذَا - وَكَانَ صَوَابًا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} لَقَدْ عَلِمْتُمْ اعْتِرَاضٌ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ مِنْ تُهْمَةِ السَّرِقَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ على محمد وهو الحق من ربهم} . {وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} واعترض بقوله: {وكذلك يفعلون} بين كلامها.
وقوله: {وأتوا به متشابها} .
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّنْزِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} فَاعْتِرَاضُ [سُبْحَانَهُ] لِغَرَضِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ وَفِيهِ الشَّنَاعَةُ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْبَنَاتَ لِلَّهِ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّبَرُّكِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين} .(3/57)
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} .
وَفِيهَا اعْتِرَاضَانِ، فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} بَيْنَ: الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ وَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ تَعْلَمُونَ} بَيْنَ: الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِ مَا أَقْسَمَ بِهِ مِنْ مَوَاقِعِ النُّجُومِ وَتَأْكِيدُ إِجْلَالِهِ فِي النُّفُوسِ لَا سِيَّمَا بِقَوْلِهِ: {لَوْ تَعْلَمُونَ} .
وقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. أُولَئِكَ لهم جنات عدن} [وأولئك] الخبر [وإنا لَا نُضِيعُ] اعْتِرَاضٌ.
وَمِنْهَا: كَوْنُ الثَّانِي بَيَانًا لِلْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحب المتطهرين} فإنه اعتراض وقع بين قوله: {فأتوهن} وبين قوله: {نساؤكم حرث لكم} وَهُمَا مُتَّصِلَانِ مَعْنًى لِأَنَّ الثَّانِيَ بَيَانٌ لِلْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْحَرْثُ وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ بِأَكْثَرِ مِنْ جُمْلَةٍ.
وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ عَلَى أَمْرٍ عُلِّقَ بِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} ، فَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وفصاله في عامين} بَيْنَ [وَوَصَّيْنَا] وَبَيْنَ الْمُوصَى بِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِذْكَارُ الْوَلَدِ بِمَا كَابَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَمْلِهِ وَفِصَالِهِ فَذِكْرُ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ يُفِيدُ زِيَادَةَ التَّوْصِيَةِ بِالْأُمِّ لِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي حَمْلِ الْوَلَدِ مَا لَا يَتَكَلَّفُهُ الْوَالِدُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ التَّوْصِيَةُ بِالْأُمِّ ثَلَاثًا وبالأب مرة.(3/58)
وَمِنْهَا: زِيَادَةُ الرَّدِّ عَلَى الْخَصْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} الآية. فقوله: {والله مخرج} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَفَائِدَتُهُ أَنْ يُقَرِّرَ فِي أَنْفُسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ تَدَارُؤَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَتْلِ تِلْكَ الْأَنْفُسِ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا لَهُمْ فِي إِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُظْهِرٌ لِذَلِكَ وَمُخْرِجُهُ وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ خَالِيًا مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ لَكَانَ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نفسا فادارأتم فيها} {فقلنا اضربوه ببعضها} .
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فَاعْتَرَضَ بَيْنَ [إِذْ] وَجَوَابِهَا بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما ينزل} فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ دَعْوَاهُمْ فَجَعَلَ الْجَوَابَ اعْتِرَاضًا.
قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} إِلَى قَوْلِهِ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعلمون} .
وقوله: {قل اللهم فاطر السماوات والأرض} إِلَى قَوْلِهِ: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا ذكر الله وحده اشمأزت} الْآيَةَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضر} سَبَبٌ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشمأزت} على معنى أنه يَشْمَئِزُّونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الْآلِهَةِ فَإِذَا مَسَّ أَحَدَهُمْ ضُرٌّ أَوْ أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ تَنَاقَضَ فِي دَعْوَاهُ فَدَعَا مَنِ اشْمَأَزَّ مِنْ ذِكْرِهِ وَانْقَبَضَ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ دُونَ الْآلِهَةِ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ فَقَيَّدَ الْقَوْلَ بِمَا فِيهِ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ثُمَّ عَقَّبَهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ أَشَدَّ التَّأْكِيدِ وأعظمه وأبلغه،.(3/59)
وَلِذَلِكَ كَانَ اتِّصَالُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضر دعا ربه} لِلسَّبَبِ الْوَاقِعِ فِيهَا وَخُلُوِّ الْأَوَّلِ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ اشْتِرَاكُ جُمْلَةٍ مَعَ جُمْلَةٍ وَمُنَاسَبَةٌ أَوْجَبَتِ العطف بالواو الموضوعة لمطلق بالجمع كَقَوْلِهِمْ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَتَسْبِيبُ السَّبَبِ مَعَ مَا فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ مِنَ اشْمِئْزَازِهِمْ لَيْسَ يَقْتَضِي الْتِجَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ التَّنَاقُضِ وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ زَيْدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ لَجَأَ إِلَيْهِ فَهَذَا سَبَبٌ ظَاهِرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اطِّرَادِ الْأَمْرِ وَتَقُولُ زَيْدٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ فَإِذَا مَسَّهُ ضُرٌّ لَجَأَ إِلَيْهِ فَتَجِيءُ بِالْفَاءِ هُنَا كَالْأَوَّلِ لِغَرَضِ الْتِزَامِ التَّنَاقُضِ أَوِ الْعَكْسِ حَيْثُ أَنْزَلَ الْكَافِرُ كُفْرَهُ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ فِي فَصْلِ سَبَبِ الِالْتِجَاءِ فَأَنْتَ تُلْزِمُهُ الْعَكْسَ بِأَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِنْكَارَ وَالتَّعَجُّبَ مِنْ فِعْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السوء ولا هم يحزنون} بِقَوْلِهِ اللَّهُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} اعْتِرَاضٌ وَاقِعٌ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ مُتَّصِلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وَهُوَ عَلَى مَهْيَعِ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الضد عقب الضد كَمَا قِيلَ:
*وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ*
وَمِنْهَا: الْإِدْلَاءُ بِالْحُجَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كنتم لا تعلمون. بالبينات والزبر} فَاعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: [فَاسْأَلُوا] بَيْنَ قَوْلِهِ: [نُوحِي إِلَيْهِمْ] وبين قوله: [بالبينات والزبر] إظهارا لقوة الحجة عليهم.(3/60)
وبهذه الآية ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ قَوْلَهُ إِنَّهُ لَا يُعْتَرَضُ بِأَكْثَرِ مِنْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
ورد بأن جملة الأمر دليل لِلْجَوَابِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَنَفْسُهُ عِنْدَ آخَرِينَ فَهُوَ مَعَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ نَعَمْ جَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا من إستبرق} أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان} فَلَزِمَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبْعِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّاتٍ إِنْ كَانَ: {ذواتا أفنان} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَإِلَّا فَيَكُونُ بِسِتِّ جُمَلٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كانوا يكسبون. أفأمن أهل القرى} الْآيَةَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَبْعُ جمل معترضة: جملة الشرط [واتقوا] [وفتحنا] [وكذبوا] [وأخذناهم] [وبما كانوا يكسبون] وزعم أن [أفأمن] معطوف على {فأخذناهم بغتة} وَكَذَا نَقْلَهُ ابْنُ مَالِكٍ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَتَبِعَهُ أَبُو حَيَّانَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَرَدَّ عَلَيْهِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجُمْلَةَ وَالْكَلَامَ مُتَرَادِفَانِ قَالَ وَإِنَّمَا اعْتُرِضَ بِأَرْبَعِ جُمَلٍ وَزَعَمَ أَنَّ مِنْ عِنْدَ {ولو أن} إلى {والأرض} جملة لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه.
وَفِي الْقَوْلَيْنِ نَظَرٌ أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا ثَمَانِ جُمَلٍ أحدها:.(3/61)
{وهم لا يشعرون} وَأَرْبَعَةٌ فِي حَيِّزِ [لَوْ] وَهِيَ [آمَنُوا] وَ [اتقوا] [وفتحنا] وَالْمُرَكَّبَةُ مَعَ أَنَّ وَصِلَتِهَا مَعَ ثَبَتَ مُقَدَّرًا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا فِعْلِيَّةٌ أَوِ اسْمِيَّةٌ والسادسة [ولكن كذبوا] والسابعة [فأخذناهم] والثامنة [بما كانوا يكسبون] .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعِدَّهَا ثَلَاثَ جُمَلٍ أَحَدُهَا [وَهُمْ لَا يشعرون] لِأَنَّهَا حَالٌ مُرْتَبِطَةٌ بِعَامِلِهَا وَلَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً بِرَأْسِهَا وَالثَّانِيَةُ [لَوْ] وَمَا فِي حَيِّزِهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فِعْلِيَّةٌ إِنْ قُدِّرَ: [وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا] أَوِ اسْمِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ إِنْ قُدِّرَ: إِيمَانَهُمْ، وَاتَّقَوْا ثَابِتَانِ، وَالثَّالِثَةُ {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} كُلُّهُ جُمْلَةٌ.
وَيَنْبَغِي عَلَى قَوَاعِدِ الْبَيَانِيِّينِ أَنْ يَعُدُّوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَعَلَى رَأْيِ النُّحَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ: {وَلَوْ أن أهل القرى آمنوا واتقوا} جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ لِارْتِبَاطِ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ لَفْظًا [وَلَكِنْ كذبوا] ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ [فَأَخَذْنَاهُمْ] ثَالِثَةٌ أَوْ رَابِعَةٌ و [بما كانوا يكسبون] متعلق أَخَذْنَاهُمْ فَلَا يُعَدُّ اعْتِرَاضًا.
وَقَوْلُهُ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وقضي الأمر واستوت على الجودي} ، فهذه ثلاث جمل معترضة بين {وقيل يا أرض ابلعي ماءك} وبين {وقيل بعدا} .
وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ فِي اعْتِرَاضٍ فَإِنَّ [وَقُضِيَ الْأَمْرُ] معترض بين [غيض الماء] وبين [واستوت] .
وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الِاعْتِرَاضِ فِي الِاعْتِرَاضِ كقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} .(3/62)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ذَاكِرًا عن إبراهيم قوله: {اعبدوا الله واتقوه} ثُمَّ اعْتَرَضَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البلاغ المبين} وَذَكَرَ آيَاتٍ إِلَى أَنْ قَالَ: {فَمَا كَانَ جواب قومه} يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ.
وَجَعَلَ الزمخشري قوله تعالى: {فاستفتهم} وفي آخر الصافات معطوفا على {فاستفتهم} فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: وَقَالَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ في: {نذيرا للبشر} إنه حال من فاعل [قم] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ هَذَا مِنْ بِدْعِ التَّفَاسِيرِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الصَّافَّاتِ مِنْهُ.
وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَى بَعْضِهِمْ كَسْرَ هَمْزَةِ [إِنَّ] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أهل النار} عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقُرْآنِ ذي الذكر} حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ خَبَرُ [إِنَّ] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لما جاءهم} قِيلَ: الْخَبَرُ: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} .(3/63)
فَوَائِدُ.
قَالَ ابْنُ عَمْرُونَ: لَا يَجُوزُ وُقُوعُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَجَازَهُ قَوْمٌ فِي [ثُمَّ] وَ [أَوْ] فَتَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ ثُمَّ وَاللَّهِ عَمْرٌو.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بهما} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مَعَ أَنَّ فِيهِ فَاءً وَالْجُمْلَةُ مُسْنَدَةٌ لِـ[يَكُنْ] .
قَالَ الطِّيبِيُّ: سُئِلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ ذكره} : أَهُوَ اعْتِرَاضٌ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ بِالْوَاوِ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا بِالْفَاءِ فَلَا.
وَفَهِمَ صَاحِبُ: [فَرَائِدِ الْقَلَائِدِ] مِنْ هَذَا اشْتِرَاطُ الْوَاوِ فَقَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ: {إِنَّهُ كان صديقا نبيا} هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَعْنِي [إِبْرَاهِيمَ] وَ [إِذْ] قَالَ: هَذَا مُعْتَرِضٌ لِأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بِدُونِ الْوَاوِ بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ وَعَنْ الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ يَأْتِي بِالْوَاوِ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَبِدُونِهَا كقوله سبحانه: {ولهم ما يشتهون} وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لقرآن كريم} .
القسم الثاني وَالْعِشْرُونَ: الِاحْتِرَاسُ.
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُحْتَمِلًا لِشَيْءٍ بَعِيدٍ فَيُؤْتَى بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ، كقوله.(3/64)
تَعَالَى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ من غير سوء} ، فَاحْتَرَسَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: [مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] عَنْ إِمْكَانِ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الْبَهَقُ وَالْبَرَصُ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالذِّلَّةِ وَهُوَ السُّهُولَةُ لَتُوُهِّمَ أَنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ فَلَمَّا قِيلَ: {أعزة على الكافرين} عُلِمَ أَنَّهَا مِنْهُمْ تَوَاضُعٌ وَلِهَذَا عُدِّيَ الذُّلُّ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعَطْفِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رحماء بينهم} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يشعرون} فقوله {وهم لا يشعرون} احْتِرَاسٌ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ عَدْلِ سُلَيْمَانَ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ جُنُودِهِ أَنَّهُمْ لَا يُحَطِّمُونَ نَمْلَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِأَلَّا يَشْعُرُوا بِهَا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ تَبَسُّمُ سُلَيْمَانَ سُرُورًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْهَا وَلِذَلِكَ أَكَّدَ التَّبَسُّمَ بِالضَّحِكِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ تَبَسَّمَ كَتَبَسُّمِ الْغَضْبَانِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَبَسُّمَهُ تَبَسُّمُ سُرُورٍ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ معرة بغير علم} الْتِفَاتٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ضَرَرَ مُسْلِمٍ.
وقوله تعالى: {وقيل بعدا للقوم الظالمين} ،فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ مَنْ هَلَكَ بِالطُّوفَانِ عَقَّبَهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ لِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ،.(3/65)
احْتِرَاسٌ مِنْ ضَعْفٍ يُوهِمُ أَنَّ الْهَلَاكَ بِعُمُومِهِ رُبَّمَا شَمِلَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فَلَمَّا دَعَا عَلَى الْهَالِكِينَ وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ عُلِمَ اسْتِحْقَاقُهُمْ لِمَا نَزَلْ بِهِمْ وَحَلَّ بِسَاحَتِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلًا: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
وَأَعْجَبُ احْتِرَاسٍ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} الْآيَةَ.
وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جانب الطور الأيمن} ،فَلَمَّا نَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ رَسُولِهِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَضَى لِمُوسَى فِيهِ الْأَمْرَ عَرَّفَ الْمَكَانَ بِالْغَرْبِيِّ وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [الْأَيْمَنَ] كَمَا قَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أَدَبًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ كَوْنُهُ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ يَسْلُبَ عَنْهُ لَفْظًا مُشْتَقًّا مِنَ الْيُمْنِ أَوْ مُشَارِكًا لِمَادَّتِهِ وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ تَشْرِيفًا لِمُوسَى فَرَاعَى فِي الْمَقَامَيْنِ حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَهُمَا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ.
وَقَوْلُهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} فَإِنَّهُ لَوِ اخْتَصَرَ لَتَرَكَ: [وَاللَّهُ يَعْلَمُ] لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِتَكْذِيبِهِمْ فِي دَعَاوَى الْإِخْلَاصِ فِي الشَّهَادَةِ لَكِنَّ حُسْنَ ذِكْرِهِ رَفَعَ تَوَهُّمَ أَنَّ التَّكْذِيبَ لِلْمَشْهُودِ بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إذ أخرجني من السجن} وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُبَّ مَعَ أَنَّ النِّعْمَةَ فِيهِ أعظم لوجهين:(3/66)
أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا يَسْتَحْيِي إِخْوَتُهُ وَالْكَرِيمُ يُغْضِي وَلَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصَّفَاءِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّ السِّجْنَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَعْظَمُ بِخِلَافِ الْجُبِّ.
وَقَوْلُهُ: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكُهُولَةَ مَعَ أَنَّهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَهْدِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَا يَتَمَادَى بِهِ الْعُمْرُ فَجُعِلَ الِاحْتِرَاسُ بِقَوْلِهِ: [وَكَهْلًا] .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، وَالسَّقْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فَوْقٍ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ السَّقْفَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَحْتٍ بِالنِّسْبَةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السُّقُوفِ يَكُونُ أَرْضًا لِقَوْمٍ وَسَقْفًا لِآخَرِينَ فَرَفَعَ تَعَالَى هَذَا الِاحْتِمَالَ بِشَيْئَيْنِ وَهُمَا وقوله: [عَلَيْهِمْ] وَلَفْظَةُ [خَرَّ] لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا هَبَطَ أَوْ سَقَطَ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى سُفْلٍ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا أَكَّدَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينَ تَحْتَهُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ فَجَاءَ بِقَوْلِهِ: [مِنْ فَوْقِهِمْ] لِيُخْرِجَ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي فِي كَلَامِهِمْ فَقَالَ: [من فوقهم] أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَعَ وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا وَمَا أفتلوا.
وقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَحْتَمِلُ مَعْنَى [كَيْفَ] وَ [أَيْنَ] احْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: [حَرْثَكُمْ] لِأَنَّ الْحَرْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْثُ تَنْبُتُ الْبُذُورُ وَيَنْبُتُ الزَّرْعُ وَهُوَ الْمَحَلُّ الْمَخْصُوصُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُصِيبَةِ يُخَفِّفُ مِنْهَا وَيُسَلِّي عَنْهَا فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذلك.(3/67)
فَائِدَةٌ.
عَابَ قُدَامَةُ عَلَى ذِي الرُّمَّةِ قَوْلَهُ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى البلى ... ولا زال منهلا بجرعاتك الْقَطْرُ
فَإِنَّهُ لَمْ يَحْتَرِسْ وَهَلَّا قَالَ كَمَا قال طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ...
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الدُّعَاءَ بِالسَّلَامَةِ لِلدَّارِ.
وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: [وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا] اتِّصَالَ الدَّوَامِ بِالسُّقْيَا مِنْ غَيْرِ إِقْلَاعٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا زَالَ فُلَانٌ يَزُورُنِي إِذَا كَانَ مُتَعَاهِدًا لَهُ بِالزِّيَارَةِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: التَّذْيِيلُ.
مَصْدَرُ [ذَيَّلَ] لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ لُغَةً جَعْلُ الشَّيْءِ ذَيْلًا لِلْآخَرِ. وَاصْطِلَاحًا أَنْ يُؤْتَى بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ تَحْقِيقًا لِدَلَالَةِ مَنْطُوقِ الْأَوَّلِ أَوْ مَفْهُومِهِ لِيَكُونَ مَعَهُ كَالدَّلِيلِ لِيَظْهَرَ الْمَعْنَى عِنْدَ مَنْ لَا يَفْهَمُ وَيَكْمُلَ عِنْدَ مَنْ فَهِمَهُ.
كَقَوْلِهِ تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا} ثُمَّ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَهَلْ.(3/68)
نجازي إلا الكفور} ،أَيْ هَلْ يُجَازَى ذَلِكَ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْكَفُورُ إِلَّا الْكُفُورَ فَإِنْ جَعَلْنَا الْجَزَاءَ عَامًّا كَانَ الثَّانِي مُفِيدًا فَائِدَةً زَائِدَةً.
وَقَوْلِهِ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقا} .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أفإن مت فهم الخالدون} .
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} .
فقوله: {ولا ينبئك مثل خبير} تَذْيِيلٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى..
وَقَوْلِهِ: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عالين} .
وقوله: {فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين} .
وَجَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِهِ [الْإِعْجَازُ] مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} .
وَقَوْلَهُ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّعْلِيلِ.
وَقَوْلَهُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مهتدون} ، قوله:.(3/69)
{وكذلك} ، تَذْيِيلٌ، أَيْ فَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ وَقَوْلُهُ: {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ من نذير} ، جَعَلَ التَّذْيِيلَ هُنَا مِنَ التَّفْسِيرِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: التَّتْمِيمُ.
وَهُوَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ فَيُلْحِقُ بِهِ مَا يُكْمِلُهُ إِمَّا مُبَالَغَةً أَوِ احْتِرَازًا أَوِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ فِي مَعْنًى فَيَذْكُرَهُ غَيْرَ مَشْرُوحٍ وَرُبَّمَا كَانَ السَّامِعُ لَا يَتَأَمَّلُهُ لِيَعُودَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَيْهِ شَارِحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيرا} ، فالتتميم في قوله: {على حبه} جَعَلَ الْهَاءَ كِنَايَةً عَنِ الطَّعَامِ مَعَ اشْتِهَائِهِ.
وكذلك قوله: {وآتى المال على حبه} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة} ،فقوله: {وهو مؤمن} تتميم في غاية الحسن.
القسم السادس العشرون: الزِّيَادَةُ.
وَالْأَكْثَرُونَ يُنْكِرُونَ إِطْلَاقَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَيُسَمُّونَهُ التَّأْكِيدَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ بِالصِّلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الْمُقْحَمَ.(3/70)
قَالَ ابْنُ جِنِّي: كُلُّ حَرْفٍ زِيدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى وَبَابُهَا الْحُرُوفُ وَالْأَفْعَالُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فبما نقضهم ميثاقهم} . {فبما رحمة من الله} .
وَقَوْلِهِ: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المهد صبيا} قِيلَ: [كَانَ] هَاهُنَا زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِعْجَازٌ لِأَنَّ الرِّجَالَ كُلُّهُمْ كَانُوا فِي الْمَهْدِ، وَانْتَصَبَ [صَبِيًّا] عَلَى الْحَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: هِيَ فِي كَلَامِهِمْ زِيدَتْ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَاضِي فِي [قَالُوا] .
وَمِنْهُ زِيَادَةُ [أَصْبَحَ] قَالَ حَازِمٌ: إِنْ كَانَ الأمر الذي ذكر أنه فيه أصبح يَكُنْ أَمْسَى فِيهِ فَلَيْسَتْ زَائِدَةً وَإِلَّا فَهِيَ زائدة كقوله: أَصْبَحَ الْعَسَلُ حُلْوًا.
وَأَجَابَ الرُّمَّانِيُّ عَنْ قَوْلِهِ: {فأصبحوا خاسرين} فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ بِهِ عِلَّةٌ تُزَادُ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ يَرْجُو الْفَرَجَ عِنْدَ الصَّبَاحِ فَاسْتَعْمَلَ [أَصْبَحَ] لِأَنَّ الْخُسْرَانَ جُعِلَ لَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرْجُونَ فِيهِ الْفَرَجَ فَلَيْسَتْ زَائِدَةً.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ إِنَّهَا تَأْتِي لِلدَّوَامِ وَاسْتِمْرَارِ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مساكنهم} ، {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كظيم} فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ لِظُهُورِ الصِّفَةِ نَهَارًا وَالْمُرَادُ الدَّوَامُ أَيْضًا أَيِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ الصِّفَةُ نَهَارَهُ.(3/71)
وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ وَاللَّغْوَ مِنْ عِبَارَةِ الْبَصْرِيِّينَ وَالصِّلَةَ وَالْحَشْوَ مِنْ عِبَارَةِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ سِيبَوَيْهِ عقب قوله تعالى: {فبما نقضهم} : إِنَّ [مَا] لَغْوٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُحْدِثْ شَيْئًا.
وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مُرَادَ النَّحْوِيِّينَ بِالزَّائِدِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} مَعْنَاهُ: [مَا لِنْتَ لَهُمْ إِلَّا رَحْمَةً] وَهَذَا قَدْ جَمَعَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ثُمَّ اخْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ وَجَمَعَ فِيهِ بَيْنَ لَفْظَيِ الْإِثْبَاتِ وَأَدَاةِ النَّفْيِ الَّتِي هِيَ [مَا] .
وَكَذَا قَوْلُهُ تعالى: {إنما الله إله واحد} فـ[إنما] ها هنا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَتَمْحِيقٍ إِنَّ هُنَا لِلتَّحْقِيقِ وَمَا لِلتَّمْحِيقِ فَاخْتَصَرَ وَالْأَصْلُ: [مَا اللَّهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ] .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُقُوعِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ الطرطوسي فِي [الْعُمْدَةِ] : زَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ أَلَّا صِلَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالدَّهْمَاءُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّلَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسَعُنَا إِنْكَارُهُ فَذُكِرَ كَثِيرًا.
وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ فِي التَّوْجِيهِ: وَعِنْدَ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ زَائِدٌ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَمَا جَاءَ مِنْهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوْكِيدِ.(3/72)
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَجَعَلَ وَجُودَهُ كَالْعَدَمِ وَهُوَ أَفْسَدُ الطُّرُقِ.
وَقَدْ رُدَّ عَلَى فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُهْمَلَ لَا يَقَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً لِلتَّعَجُّبِ وَالتَّقْدِيرُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ؟ فَجَعَلَ الزَّائِدَ مُهْمَلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّائِدَ مَا أُتِيَ بِهِ لِغَرَضِ التَّقْوِيَةِ وَالتَّوْكِيدِ وَالْمُهْمَلَ مَا لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ وَهُوَ ضِدُّ المستعمل وليس المراد من الزيادة حَيْثُ - ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ - إِهْمَالَ اللَّفْظِ وَلَا كَوْنُهُ لَغْوًا فَتَحْتَاجُ إِلَى التَّنَكُّبِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا [مَا] زَائِدَةً هُنَا لِجَوَازِ تَعَدِّي الْعَامِلِ قَبْلَهَا إِلَى مَا بَعْدَهَا لَا لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا مَعْنًى.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْآيَةِ: إِنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ فَقَدِ انْتُقِدَ عَلَيْهِ بِأَنْ قِيلَ: تَقْدِيرُهُ: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ [مَا] مُضَافَةً لِلرَّحْمَةِ وَأَسْمَاءُ الِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ لَا يُضَافُ مِنْهَا غَيْرُ [أَيْ] وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ كَانَ مَا بَعْدَهَا بَدَلًا مِنْهَا وَالْمُبْدَلُ مِنَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ يَجِبُ مَعَهُ ذِكْرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ مَذْكُورَةً فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الدَّعْوَى وَسَنُبَيِّنُ فِي فَصْلِ زِيَادَةِ الْحُرُوفِ الْفَائِدَةَ فِي إدخال [ما] ها هنا، فَانْظُرْ هُنَاكَ.
تَنْبِيهَاتٌ:.
الْأَوَّلُ: أَهْلُ الصِّنَاعَةِ يُطْلِقُونَ الزَّائِدَ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا مَا يُتَعَلَّقُ بِهِ هُنَا وَهُوَ مَا أُقْحِمَ تَأْكِيدًا نَحْوَ: {فَبِمَا رحمة من الله لنت لهم} {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بعوضة} {ليس كمثله شيء} .(3/73)
وَمَعْنَى كَوْنِهِ زَائِدًا أَنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدُونِهِ دُونَ التَّأْكِيدِ فَبِوُجُودِهِ حَصَلَ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَالْوَاضِعُ الْحَكِيمُ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إِلَّا لِفَائِدَةٍ.
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ بِالْحَرْفِ وَمَا مَعْنَاهُ إِذْ إِسْقَاطُ الْحَرْفِ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى؟ فَقَالَ: هَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الطِّبَاعِ إِذْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِوُجُودِ الْحَرْفِ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ لَا يَجِدُونَهُ بِإِسْقَاطِ الْحَرْفِ قَالَ وَمِثَالُ ذَلِكَ مِثَالُ الْعَارِفِ بِوَزْنِ الشِّعْرِ طَبْعًا فَإِذَا تَغَيَّرَ الْبَيْتُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَنْكَرَهُ وَقَالَ: أَجِدُ نَفْسِي عَلَى خِلَافِ مَا أَجِدُهُ بِإِقَامَةِ الْوَزْنِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَتَغَيَّرُ نَفْسُ الْمَطْبُوعِ عِنْدَ نُقْصَانِهَا وَيَجِدُ نَفْسَهُ بِزِيَادَتِهَا عَلَى مَعْنًى بِخِلَافِ مَا يجدها بنقضانه.
الثَّانِي: حَقُّ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَرْفِ وَفِي الْأَفْعَالِ كَمَا سَبَقَ وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَنَصَّ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُزَادُ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِالزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} : إِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ مُقْحَمٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ مُخَادَعَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ آخِرًا وَحَشْوًا وَأَمَّا وُقُوعُهَا أَوَّلًا فَلَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ إِذْ قَضِيَّةُ الزِّيَادَةِ إِمْكَانُ اطِّرَاحِهَا وَقَضِيَّةُ التَّصْدِيرِ الِاهْتِمَامُ وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ بِزِيَادَةِ لَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أقسم بيوم الْقِيَامَةِ} . وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ آخَرَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى [إلا] والظاهر أنها ردا لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {أُقْسِمُ بيوم الْقِيَامَةِ} ،وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى [لَا] وَفِيهِ بعد.(3/74)
فصل: في حروف الزيادة.
الزِّيَادَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَالْبَاءِ في خبر ليس وما أو للتأكيد الْإِيجَابِ كَاللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ.
وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ سَبْعَةٌ إِنْ وَأَنْ وَلَا وَمَا وَمِنْ وَالْبَاءُ وَاللَّامُ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَأْتِي فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ زَائِدَةً لَا أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلزِّيَادَةِ ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الزَّوَائِدِ فِيهَا فَقَدْ زَادُوا الْكَافَ وَغَيْرَهَا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الزِّيَادَةِ أن تكون بها.
زيادة "إن ".
فَأَمَّا إِنْ الْخَفِيفَةُ فَتَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا مَعَ مَا النافية كقول امرىء الْقَيْسِ:
حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا فَمَا إِنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِ
أَيْ فَمَا حَدِيثٌ. فَزَادَ [إِنْ] لِلتَّوْكِيدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنِ الْخَفِيفَةُ زَائِدَةٌ فَجَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا النَّافِيَةِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِهَا فَهُوَ عِنْدَ الْفَرَّاءِ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ مِنَ التَّأْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ.
وَقِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مكناهم فيما إن مكناكم فيه} :أَنَّهَا زَائِدَةٌ.
وَقِيلَ نَافِيَةٌ وَالْأَصْلُ: [فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ] بِدَلِيلِ: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لم نمكن لكم} وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ مَا لِئَلَّا تَتَكَرَّرُ فَيُثْقُلُ اللَّفْظُ.
وَوَهِمَ ابْنُ الْحَاجِبِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهَا تُزَادُ بَعْدَ [لَمَّا] الْإِيجَابِيَّةُ وَإِنَّمَا تِلْكَ في [أن] المفتوحة.(3/75)
زيادة "أن".
وَأَمَّا أَنِ الْمَفْتُوحَةُ فَتُزَادُ بَعْدَ لَمَّا الظَّرْفِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سيء بهم} ،وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِزِيَادَتِهَا لِأَنَّ [لَمَّا] ظَرْفُ زَمَانٍ وَمَعْنَاهَا وُجُودُ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ وَظُرُوفُ الزَّمَانِ غير المتمكنة لا تضاف إلى المفرد [وأن] الْمَفْتُوحَةُ تَجْعَلُ الْفِعْلَ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَلَمْ تَبْقَ [لَمَّا] مُضَافَةً إِلَى الْجُمَلِ فَلِذَلِكَ حُكِمَ بِزِيَادَتِهَا.
وَجَعَلَ الْأَخْفَشُ مِنْ زِيَادَتِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} ، {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْأَصْلُ: [وَمَا لَنَا فِي أَلَّا نَفْعَلَ كَذَا] ! فَلَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّهَا عملت النصب في المضارع.
زيادة ما.
وَأَمَّا [مَا] فَتُزَادُ بَعْدَ خَمْسِ كَلِمَاتٍ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ فَتُزَادُ بَعْدَ [مِنْ] وَ [عَنْ] غَيْرَ كَافَّةٍ لَهُمَا عَنِ الْعَمَلِ وَتُزَادُ بَعْدَ الْكَافِ وَرُبَّ وَالْبَاءِ كَافَّةً [تَارَةً] وَغَيْرَ كَافَّةٍ أخرى.
والكافة إِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَهِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِإِنَّ وَأَخَوَاتِهَا، نَحْوَ: {إِنَّمَا اللَّهُ إله واحد} {كأنما يساقون إلى الموت} وَجَعَلُوا مِنْهَا {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} ،وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى [الَّذِي] وَ [الْعُلَمَاءُ] خَبَرٌ وَالْعَائِدُ مُسْتَتِرٌ فِي [يَخْشَى] وَأُطْلِقَتْ [مَا] عَلَى جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ،.(3/76)
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} وَإِمَّا أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَقِيلَ: بَلْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ [كَالَّذِي هُوَ لَهُمْ آلِهَةٌ] .
وَغَيْرُ الْكَافَّةِ تَقَعُ بَعْدَ الْجَازِمِ نَحْوَ: {وإما ينزغنك} ، {أيا ما تدعوا} . {أينما تكونوا} .
وبعد الخافض حرفا كان: {فبما رحمة من الله} . {فبما نقضهم ميثاقهم} . {عما قليل} . {مما خطيئاتهم} أو اسما نحو: {أيما الأجلين قضيت} .
وَتُزَادُ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ جَازِمَةً، كَانَتْ نَحْوَ: {أينما تكونوا يدرككم الموت} . أَوْ غَيْرَ جَازِمَةٍ، نَحْوَ: {حَتَّى إِذَا مَا جاءوها شهد عليهم سمعهم} .
وَبَيْنَ الْمَتْبُوعِ وَتَابِعِهِ، نَحْوَ: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا حَرْفٌ زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ عِنْدَ جميع البصريين.
وَيُؤَيِّدُهُ سُقُوطُهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ [بعوضة] بدلا وَقِيلَ: [مَا] اسْمُ نَكِرَةٍ صِفَةٌ لِـ[مَثَلًا] أَوْ بَدَلٌ وَ [بَعُوضَةً] عَطْفُ بَيَانٍ.
وَقِيلَ: في قوله: {فقليلا ما يؤمنون} بِأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الْكَلَامِ، نَحْوَ:.(3/77)
{فبما رحمة} و [قليلا} فِي مَعْنَى النَّفْيِ أَوْ لِإِفَادَةِ التَّقْلِيلِ كَمَا فِي نَحْوِ: [أَكَلْتُ أَكْلًا مَا] ،وَعَلَى هَذَا فيكون: [فقليلا بعد قليل] .
زيادة "لا".
وَأَمَّا [لَا] فَتُزَادُ مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} ،لِأَنَّ [اسْتَوَى] مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَطْلُبُ اسْمَيْنِ أَيْ لَا تَلِيقُ بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ نَحْوَ [اخْتَصَمَ] فَعُلِمَ أَنَّ [لَا] زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ فِي السيئة لتحقق أنه لاتساوي الْحَسَنَةُ السَّيِّئَةَ وَلَا السَّيِّئَةُ الْحَسَنَةَ.
وَتُزَادُ بَعْدَ [أَنِ] الْمَصْدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،أَيْ لِيَعْلَمَ وَلَوْلَا تَقْدِيرُ الزِّيَادَةِ لَانْعَكَسَ الْمَعْنَى فَزِيدَتْ [لَا] لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ قَالَهُ ابْنُ جِنِّي.
وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ مَلْكُونَ، بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَفْيٌ حَتَّى تَكُونَ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ السكونى بِأَنَّ هُنَا مَا مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ قَوْلِهِ: {أَلَّا يَقْدِرُونَ على شيء} ،وَيَكُونُ هَذَا مِنْ وُقُوعِ النَّفْيِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمُرَادُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ: [مَا عَلِمْتُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدًا] فَأَبْدَلْتَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي [يَقُولُ] مَا بَعْدَ [إِلَّا] وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْيِ فَكَمَا كَانَ النَّفْيُ هُنَا وَاقِعًا عَلَى الْعِلْمِ وَحُكِمَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بحكمه كذلك يكون تأكيدا النفي أيضا على ما وقع علي العلم ويحكم للعلم بحكم النفي فيدخل عل الْعِلْمِ تَوْكِيدُ النَّفْيِ وَالْمُرَادُ تَأْكِيدُ نَفْيِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ.(3/78)
وَإِذَا كَانُوا قَدْ زَادُوا لَا فِي الْمُوجَبِ الْمَعْنَى لَمَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} ،الْمَعْنَى [أَنْ تَسْجُدَ] ، فَزَادَ [لَا] تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ [مَنَعَكَ] فَكَذَلِكَ تُزَادُ [لَا] فِي الْعِلْمِ الْمُوجَبِ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمُوَجَّهُ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّلُوبِينُ: وَأَمَّا زِيَادَةُ [لَا] في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} ،فَشَيْءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ [لَا] فِيهَا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَمَا بَعْدَهُ يَقْتَضِيهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ: {لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ [لِكَيْ يَعْلَمَ] وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَفْسِيرٌ لِزِيَادَتِهَا وَسَبَبُ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَّا وَكَفَرُوا مَعَ ذَلِكَ بِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} الآية.
ومنه: {ما منعك أن لا تسجد} ، بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ،وَلَيْسَ الْمَعْنَى مَا مَنَعَكَ مِنْ تَرْكِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ لِأَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الشَّيْءِ دَاعٍ إِلَى تَرْكِهِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْفِعْلِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا مَنَعَكَ مِنْ أَلَّا تَسْجُدَ.(3/79)
وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ فِيهِ إِبْقَاءُ الْمَنْعِ عَلَى أَصْلِهِ وَعَدَمُ زِيَادَتِهَا أَوْلَى لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ [أَنْ] كَثِيرٌ كَثْرَةً لَا تَصِلُ إِلَى الْمَجَازِ وَالزِّيَادَةِ فِي دَرَجَتِهِ.
قَالُوا: وَفَائِدَةُ زِيَادَتِهَا تَأْكِيدُ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ وَضْعَ [لَا] نَفْيُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُصُولَ الْحُكْمِ مَعَ الْمُعَارِضِ أَثْبَتُ مِمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَرِضْهُ الْمُعَارِضُ أَوْ أَسْقَطَ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْقُطَ.
وَمِنْهُ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا. ألا تتبعن} .
وَقِيلَ: وَقَدْ تُزَادُ قَبْلَ الْقَسَمِ نَحْوَ: {فَلَا أقسم برب المشارق والمغارب} .
{فلا أقسم بمواقع النجوم} . {لا أقسم بيوم الْقِيَامَةِ} ، أَيْ أُقْسِمُ بِثُبُوتِهَا.
وَضُعِّفَ فِي الْأَخِيرَةِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَدْرًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا بين الفا وَمَعْطُوفِهَا.
وَقِيلَ: زِيدَتْ تَوْطِئَةً لِنَفْيِ الْجَوَابِ، أَيْ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُتْرَكُونَ سُدًى. وَرَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} الْآيَاتِ. فَإِنَّ جَوَابَهُ مُثْبَتٌ وَهُوَ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الأنسان في كبد} .
وَقِيلَ: غَيْرُ زَائِدَةٍ.
وَقِيلَ: هِيَ رَدٌّ لِكَلَامٍ قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِادِّعَاءُ فِي سُورَةٍ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي أُخْرَى فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى [لَا] هَذِهِ.(3/80)
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ} .
فَقِيلَ: زَائِدَةٌ لِيَصِحَّ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الشِّرْكُ.
وَقِيلَ: نَافِيَةٌ أَوْ نَاهِيَةٌ.
وَقِيلَ: الْكَلَامُ تَمَّ عند قوله: {حرم ربكم} ،ثم ابتدأ: {عليكم ألا تشركوا به} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يؤمنون} ،فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ فَقِيلَ [لَا] زَائِدَةٌ وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ.
وَرَدَّهُ الزَّجَّاجُ: بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْكَسْرِ4 فَيَجِبُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ الْفَتْحِ.
وَقِيلَ: نَافِيَةٌ وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ أَيْ وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أنهم لا يرجعون} .
وَقِيلَ: [لَا] زَائِدَةٌ وَالْمَنْعُ: مُمْتَنِعٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَـ[حَرَامٌ] خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وُجُوبًا لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ أَنَّ [وَصِلَتُهَا] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثم.(3/81)
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا} عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ {يَأْمُرَكُمْ} عَطْفًا عَلَى {يُؤْتِيَهُ} فَـ[لَا] زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى النَّفْيِ السَّابِقِ.
وَقِيلَ: عُطِفَ عَلَى {يَقُولَ} ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُنَصِّبَهُ اللَّهُ لِلدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ الْأَنْدَادِ ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِأَنْ يَكُونُوا عِبَادًا لَهُ وَيَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا.
وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ عِبَادَةِ الملائكة وأهل الكتاب عن عبادة عزيز وَعِيسَى فَلَمَّا قَالُوا لَهُ: أَنَتَّخِذُكَ رَبًّا؟ قِيلَ لَهُمْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَيَنْهَاهُمْ عن عبادة الملائكة والأنبياء.
زيادة "من".
وَأَمَّا [مِنْ] فَإِنَّهَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ بَعْدَ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ، نَحْوَ: {وَمَا تَسْقُطُ من ورقة إلا يعلمها} . {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فارجع البصر هل ترى من فطور} . {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ معه من إله} .(3/82)
وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ زِيَادَتَهَا مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِنَحْوِ قَوْلِهِ تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} . {يغفر لكم من ذنوبكم} . {يحلون فيها من أساور من ذهب} . {ويكفر عنكم من سيئاتكم} .
وَأَمَّا [مَا] فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رحمة من الله لنت لهم} وقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} فَـ[مَا] فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ زَائِدَةٌ إِلَّا أَنَّ فِيهَا فَائِدَةً جَلِيلَةً وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَبِنَقْضِهِمْ لَعَنَّاهُمْ جَوَّزْنَا أَنَّ اللِّينَ وَاللَّعْنَ كَانَا لِلسَّبَبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَدْخَلَ [مَا] فِي الْمَوْضُوعَيْنِ قَطَعْنَا بِأَنَّ اللِّينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلرَّحْمَةِ وَأَنَّ اللَّعْنَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِأَجْلِ نقض الميثاق.
زيادة "الباء".
وَأَمَّا [الْبَاءُ] فَتُزَادُ فِي الْفَاعِلِ نَحْوَ: {كَفَى بِاللَّهِ} ،أَيْ كَفَى اللَّهُ وَنَحْوَ [أَحْسِنْ بِزَيْدٍ!] إِلَّا أَنَّهَا فِي التَّعَجُّبِ لَازِمَةٌ وَيَجُوزُ حَذْفُهَا في فاعل {كفى بالله شهيدا} ، {وكفى بنا حاسبين} وَإِنَّمَا هُوَ [كَفَى اللَّهُ] وَ [كَفَانَا] .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: دَخَلَتْ لِتَضَمُّنِ [كَفَى] مَعْنَى اكْتَفَى وَهُوَ حَسَنٌ.
وَفِي الْمَفْعُولِ، نَحْوَ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة} لِأَنَّ الْفِعْلَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَلْقَيْنَا فيها رواسي} ،ونحو: {وهزي إليك بجذع النخلة} . {ألم يعلم بأن الله يرى} . {فليمدد بسبب إلى السماء} .(3/83)
{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} . {فطفق مسحا بالسوق والأعناق} ،أَيْ يَمْسَحُ السُّوقَ مَسْحًا.
وَقِيلَ: فِي الْأَوَّلِ ضَمَّنَ [تُلْقُوا] مَعْنَى [تُفْضُوا] .
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبَبِ أَيْدِيكُمْ كَمَا يُقَالُ لَا تُفْسِدْ أَمْرَكَ بِرَأْيِكَ.
وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تنبت بالدهن} :إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ وَالْمُرَادُ: [تُنْبِتُ الدُّهْنَ] .
وَفِي المبتدأ، وهو قليل ومنه عند سيبويه: {بأيكم المفتون} .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: {بِأَيِّكُمْ} مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِقْرَارٍ مَحْذُوفٍ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِالْمَفْتُونِ ثُمَّ اخْتُلِفَ فَقِيلَ: [الْمَفْتُونُ] مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفِتْنَةِ وَقِيلَ: الْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ أَيْ فِي أَيِّكُمُ الْجُنُونُ.
وَفِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، نَحْوَ: {جزاء سيئة بمثلها} . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .
وَفِي خَبَرِ لَيْسَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . {أليس الله بكاف عبده} .
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي [الْمُقَرَّبِ] : وَتُزَادُ فِي نَادِرِ كَلَامٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بقادر على أن يحيي الموتى} . انتهى.(3/84)
وَمُرَادُهُ الْآيَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بخلقهن بقادر} وَلِذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَيَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ الْآيَةُ الَّتِي فِي [الْإِسْرَاءِ] : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لهم أجلا لا ريب فيه} .
وَزَعَمَ ابْنُ النَّحَّاسِ أَنَّهُ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُولَى، أَعْنِي قَوْلَهُ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ، فَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ فِي خَبَرِ لَيْسَ - لِأَنَّ [لَيْسَ] هُنَا بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَاهَا مِنَ النَّفْيِ فَصَارَ الْكَلَامُ تَقْرِيرًا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ فِي [نادر] في القياس لا في الاستعمال.
زيادة "اللام".
وَأَمَّا اللَّامُ، فَتُزَادُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ: كَقَوْلِهِ:
وَمَلَكْتَ مَا بَيْنَ الْعِرَاقِ وَيَثْرِبَ ... مُلْكًا أَجَارَ لِمُسْلِمٍ وَمُعَاهِدِ
وَجَعَلَ مِنْهُ الْمُبَرِّدُ قَوْلَهُ تعالى: {ردف لكم} ،وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ ضُمِّنَ [رَدِفَ] مَعْنَى: اقْتَرَبَ كقوله: {اقترب للناس حسابهم} .
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لكم ويهديكم} ،فَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: لِلتَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّبْيِينَ وَلِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ أَيْ فَيَجْمَعُ لَكُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.(3/85)
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أكون أول المسلمين} ،فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: لَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ مَزِيدَةً مِثْلَهَا فِي [أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ] وَلَا تُزَادُ إِلَّا مَعَ [أَنْ] خَاصَّةً دُونَ الِاسْمِ الصَّرِيحِ كَأَنَّهَا زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا أَتَتِ السِّينُ فِي [أَسْطَاعَ] يَعْنِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ [أَطُوعُ] وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَجِيئُهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأمرت أن أكون من المسلمين} . انْتَهَى.
وَزِيَادَتُهَا فِي [أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ] لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لَهَا فِي إعراب: {يريد الله ليبين لكم} .
وَتُزَادُ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ الضَّعِيفِ إِمَّا لِتَأَخُّرِهِ نَحْوَ: {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} ،ونحو: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} .
أَوْ لِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ، نَحْوَ: {مُصَدِّقًا لما معهم} ، {فعال لما يريد} ، {نزاعة للشوى} .
وَقِيلَ مِنْهُ: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} ،وَقِيلَ: بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقَرٍّ مَحْذُوفٍ صِفَةً لِعَدُوٍّ وَهِيَ لِلِاخْتِصَاصِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّأَخُّرُ وَالْفَرْعِيَّةُ، فِي نحو: {وكنا لحكمهم شاهدين} .(3/86)
وأما قوله تعالى: {نذيرا للبشر} ،فَإِنْ كَانَ [نَذِيرًا] بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، فَهُوَ مِثْلَ: {فعال لما يريد} ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ فَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي: [سُقْيًا لِزَيْدٍ] .
وَقَدْ تَجِيءُ اللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ النَّفْيِ وَتُسَمَّى لَامَ الْجُحُودِ وَتَقَعُ بَعْدَ [كَانَ] مثل: {وما كان الله ليعذبهم} ،اللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَالْبَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي خَبَرِ [لَيْسَ] ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: [إِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ] أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا كُنْتُ أَضْرِبُكَ. بِغَيْرِ لَامٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ كَوْنُهُ فَإِذَا قُلْتَ مَا كُنْتُ لِأَضْرِبَكَ فَاللَّامُ جَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَكُونُ أَصْلًا.
وَقَدْ تَأْتِي مُؤَكَّدَةً فِي مَوْضِعٍ وَتُحْذَفُ فِي آخَرَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تبعثون} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ الْعَكْسَ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ الْإِنْكَارُ لَكِنْ فِي النَّظْمِ وُجُوهٌ:.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَعْثَ لَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَيْهِ صَارَ الْمُنْكِرُ لَهُ كَالْمُنْكِرِ لِلْبَدَهِيَّاتِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مَا بَعْدَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُنَزَّلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكِرِ إِذَا كَانَ معه مالو تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ. وَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنَ التَّمَادِي فِي الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ العمل.(3/87)
لِمَا بَعْدَهُ وَالِانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ مِنْ أَمَارَاتِ إِنْكَارِ الْمَوْتِ فَلِهَذَا قَالَ: [مَيِّتُونَ] وَلَمْ يَقُلْ: تَمُوتُونَ وَإِنَّمَا أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا لِظُهُورِ أَدِلَّتِهِ الْمُزِيلَةِ لِلْإِنْكَارِ إِذَا تَأَمَّلُوا فِيهَا وَلِهَذَا قِيلَ: تُبْعَثُونَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ [تَمُوتُونَ] .
الثَّانِي: أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى مَيِّتُونَ أَحَقُّ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْبَعْثِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَكَّدَهُ وَكَذَّبَ مُنْكِرَهُ كَقَوْلِهِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} قَالَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْفِرْكَاحِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ اسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ اللَّامِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: [لَتُبْعَثُونَ] وَاسْتُغْنِيَ بِهَا فِي الثَّانِي لِذِكْرِهَا فِي الْأَوَّلِ.
الرَّابِعُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ الْمَوْتِ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَرَقُّبِهِ فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ وَلَمْ يُؤَكِّدْ جُمْلَةَ الْبَعْثِ إِلَّا بِـ[إِنَّ] لِأَنَّهُ أُبْرِزَ بِصُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا يَقْبَلُ إِنْكَارًا.
قُلْتُ: هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتُوجِبُ مَا جَاءَتِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَذْفُ اللَّامِ فِي [تُبْعَثُونَ] لِأَنَّ اللَّامَ تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ فَلَا يُجَاءُ بِهِ مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ وَلِأَنَّ تُبْعَثُونَ عَامِلٌ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ.(3/88)
وَنَظِيرُ هَذَا آيَةُ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون} . وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمَاءِ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أجاجا} بِغَيْرِ لَامٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:.
أَحَدُهَا: أَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَاءِ مِلْحًا أَسْهَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ جَعْلِ الْحَرْثِ حُطَامًا إِذِ الْمَاءُ الْعَذْبُ يَمُرُّ بِالْأَرْضِ السَّبْخَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا فَالتَّوَعُّدُ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَعَّدَ عَبْدَهُ بِالضَّرْبِ بِعَصَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْكِيدٍ وَإِذَا تَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ احْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّ جَعْلَ الْحَرْثِ حُطَامًا قَلْبٌ لِلْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَجَعْلَ الْمَاءِ أُجَاجًا قَلْبٌ لِلْكَيْفِيَّةِ فَقَطْ وَهُوَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ [لَوْ] لَمَّا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُعَلِّقَةً ثَانِيَتَهُمَا بِالْأُولَى تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ [بِالشَّرْطِ] أَتَى بِاللَّامِ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ حَذَفَ الثَّانِي للعلم بها لأن الشيء إذا علم [وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به] لم يبال بإسقاطه عن اللفظ [استغناء بمعرفة السامع] وَيُسَاوِي لِشُهْرَتِهِ حَذْفَهُ وَإِثْبَاتَهُ مَعَ مَا فِي حَذْفِهِ مِنْ خِفَّةِ اللَّفْظِ وَرَشَاقَتِهِ لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا - وَالْمَسَافَةُ قَصِيرَةٌ - يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا ثَانِيًا.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّامَ أُدْخِلَتْ فِي آيَةِ الْمَطْعُومِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى أَمْرِ الْمَشْرُوبِ وَأَنَّ الْوَعِيدَ بِفَقْدِهِ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ ولهذا قدمت آيَةِ الْمَطْعُومِ عَلَى آيَةِ الْمَشْرُوبِ ذَكَرَهَا وَالَّذِي قَبْلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَذْفُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لله.(3/89)
والرسول} وَإِثْبَاتُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّكَ إِذًا عَطَفْتَ عَلَى مَجْرُورٍ..
الْقِسْمُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: بَابُ الِاشْتِغَالِ.
فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا أُضْمِرَ ثُمَّ فُسِّرَ كَانَ أَفْخَمَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إِضْمَارٌ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَجِدُ اهْتِزَازًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أحد من المشركين استجارك فأجره} .
وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رحمة ربي} .
وَفِي قَوْلِهِ: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أعد لهم عذابا أليما} .
وَفِي قَوْلِهِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} - لا تجد مثله إذا قُلْتَ: وَإِنِ اسْتَجَارَكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَجِرْهُ. وَقَوْلُكَ: لَوْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي. وَقَوْلُكَ: {يدخل من يشاء في رحمته وأعد لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} وَقَوْلُكَ: هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا إِذِ الْفِعْلُ الْمُفَسَّرُ فِي تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ مَرَّتَيْنِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، {إذا السماء انفطرت} ،وَنَظَائِرُهُ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ بضميره.(3/90)
الْقِسْمُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: التَّعْلِيلُ.
بِأَنْ يَذَكُرَ الشَّيْءَ مُعَلَّلًا فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَا عِلَّةٍ لِوَجْهَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ قَاضِيَةٌ بِعُمُومِ الْمَعْلُولِ وَلِهَذَا اعْتَرَفَتِ الظَّاهِرِيَّةُ بِالْقِيَاسِ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ النُّفُوسَ تَنْبَعِثُ إِلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَغَالِبُ التَّعْلِيلِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِ سُؤَالٍ اقْتَضَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْعِلَّةِ.
وَمِنْهُ: {إن النفس لأمارة بالسوء} . {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} . {إن صلاتك سكن لهم} .
وَتَوْضِيحُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْفَاءَ السَّبَبِيَّةَ لَوْ وُضِعَتْ مَكَانَ [إِنَّ] لَحَسُنَ.
وَالطُّرُقُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعِلَّةِ أَنْوَاعٌ:.
الْأَوَّلُ: التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حكمة بالغة} .
وقال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} ،وَالْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.(3/91)
الثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا لِكَذَا أَوْ أَمَرَ بِكَذَا لِكَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض} .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا} .
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} .
{لئلا يعلم أهل الكتاب} .
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم} .
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} .
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قلوبكم به} وَهُوَ كَثِيرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: اللَّامُ فِيهِ لِلْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ،وقوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} ،وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ أَيْ لَا تَجِبُ وَلَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْحِكْمَةِ وَقَدْ أَجَابَ الْمَلَائِكَةَ عَنْ قَوْلِهِمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفسد فيها} بقوله: {قال إني أعلم ما لا تعلمون} .
وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ سُبْحَانَهُ مْجَرَّدًا عَنِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ لَمْ يَسْأَلِ الْمَلَائِكَةُ عَنْ حِكْمَتِهِ وَلَمْ يَصِحَّ الْجَوَابُ بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصَالِحِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ،.(3/92)
وَلِأَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَجْهَلُ الْعَاقِبَةَ كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا اللَّامُ الْوَارِدَةُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ لَامُ الْحِكْمَةِ وَالْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْحِكْمَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِالْتِقَاطِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَهُمْ فَإِنَّ التقاطهم لهم إِنَّمَا كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَذَكَرَ فِعْلَهُمْ دُونَ قَضَائِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي كَوْنِهِ حَزَنًا لَهُمْ وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ.
قَاعِدَةٌ تَفْسِيرِيَّةٌ:.
حَيْثُ دَخَلَتْ وَاوُ الْعَاطِفِ عَلَى لَامِ التَّعْلِيلِ فَلَهُ وَجْهَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُعَلِّلُهُ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} ، فَالْمَعْنَى وَلِلْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَ ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُضْمَرَةٍ لِيُظْهِرَ صِحَّةَ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السماوات والأرض بالحق ولتجزى} ، التَّقْدِيرُ: لِيَسْتَدِلَّ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَلِتُجْزَى. وَكَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ولنعلمه} ، التَّقْدِيرُ: لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلِنُعَلِّمَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَفِي الثَّانِي عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُهُمَا الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً فِعْلُنَا ذَلِكَ، وَعَلَى الثَّانِي: وَلِنُبَيِّنَ لِلنَّاسِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً وَيَطَّرِدُ الْوَجْهَانِ فِي نَظَائِرِهِ وَيُرَجَّحُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ الْمَقَامِ وَحَذْفُ الْمُعَلِّلِ هَاهُنَا أَرْجَحُ إِذْ لَوْ فَرَضَ عِلَّةً أُخْرَى لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُعَلِّلٍ مَحْذُوفٍ وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ له.(3/93)
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّرَ الْمُعَلِّلُ مُؤَخَّرًا؟.
قُلْتُ: فَائِدَةُ هَذَا الْأُسْلُوبِ هُوَ أَنْ يُجَاءَ بِالْعِلَّةِ بِالْوَاوِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عِلَّةً أُخْرَى لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ اخْتِصَاصُ ذِكْرِهَا لِكَوْنِهَا أَهَمُّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُعَلِّلٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا لِيُشْعِرَ تَقْدِيمُهُ بِالِاهْتِمَامِ.
الثَّالِثُ: الْإِتْيَانُ بِكَيْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ،فَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ الْفَيْءَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ كَيْلَا يَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ.
وَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إن ذلك على الله يسير. لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم} ،وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ الْأَنْفُسُ أَوِ الْمُصِيبَةُ أَوِ الْأَرْضُ أَوِ الْمَجْمُوعُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ هَيِّنٌ عَلَيْهِ وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ الَّتِي مِنْهَا أَلَّا يَحْزَنَ عِبَادُهُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ كَائِنَةٌ وَلَا بُدَّ قَدْ كُتِبَتْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ هَانَ عَلَيْهِمُ الْفَائِتُ فَلَمْ يَأْسُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْرَحُوا.
الرَّابِعُ: ذِكْرُ الْمَفْعُولِ لَهُ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ كَقَوْلِهِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} .(3/94)
وَنَصْبُ ذَلِكَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ للناس ما نزل إليهم} .
وقوله: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} .
وقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} ،أَيْ لِأَجْلِ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} .
وقوله: {فالملقيات ذكرا. عذرا أو نذرا} ،أَيْ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حذر الموت} ،فَـ[مِنَ الصَّوَاعِقِ] يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ [مِنْ] لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ خَوْفًا مِنَ الصَّوَاعِقِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَلِّلَةً بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أَيْ لِغَمٍّ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَـ[مِنَ الصَّوَاعِقِ] فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَالْعَامِلُ فِيهِ [يَجْعَلُونَ] . [وَحَذَرَ الْمَوْتِ] مَفْعُولٌ لَهُ أَيْضًا فَالْعَامِلُ فِيهِ [مِنَ الصَّوَاعِقِ] فَـ[مِنَ الصَّوَاعِقِ] عِلَّةٌ لِـ[يَجْعَلُونَ] . مَعْلُولٌ لِحَذَرَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ [مِنَ الصَّوَاعِقِ] يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِنَا: لِمَ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ؟ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ [حَذَرَ الْمَوْتِ] يَصْلُحُ جَوَابًا لِقَوْلِنَا: لِمَ يَخَافُونَ مِنَ الصَّوَاعِقِ؟ فَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: اللَّامُ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وَتَقُومُ مَقَامَهُ الْبَاءُ، نَحْوَ: {فبظلم من الذين هادوا} .(3/95)
ومن، نحو: {من أجل ذلك كتبنا} .
وَالْكَافُ، نَحْوَ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} ،وقال: {فاذكروني أذكركم} ،وقال: {فاذكروا الله كما علمكم} أَيْ لِإِرْسَالِنَا وَتَعْلِيمِنَا.
السَّادِسُ: الْإِتْيَانُ بِإِنَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} .
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} .
{فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} .
وَكَقَوْلِهِ: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يسرون وما يعلنون} ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ لَمَا حَزِنَ الرَّسُولُ وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْجُمْلَةِ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ قَوْلُهُمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إن العزة لله جميعا} وَالْوَقْفُ عَلَى الْقَوْلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالِابْتِدَاءُ بإن لازم.
وقد يكون علة كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا. إِنَّهَا سَاءَتْ مستقرا ومقاما} وَفِيهَا وَجْهَانِ لِأَهْلِ الْمَعَانِي.(3/96)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُؤَالَهُمْ لِصَرْفِ الْعَذَابِ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ غَرَامٌ أَيْ مُلَازِمٌ الْغَرِيمَ وَبِأَنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا.
الثَّانِي: أَنَّ [سَاءَتْ] . تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ غَرَامًا.
السَّابِعُ: أَنَّ وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الكتاب على طائفتين من قبلنا} .
وقوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} .
وَقَوْلِهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ألا يجدوا ما ينفقون} .
كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ؟ قِيلَ: لِلْحُزْنِ، فَقِيلَ: لِمَ حَزِنُوا؟ فَقِيلَ: لِئَلَّا يَجِدُوا.
وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} .
وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَفِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ:.
أَحَدُهُمَا: لِلْكُوفِيِّينَ، أَنَّ الْمَعْنَى لِئَلَّا يَقُولُوا وَلِئَلَّا تَقُولُ نَفْسٌ.
الثَّانِي: لِلْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا أَوْ حَذَارِ أَنْ يَقُولُوا فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الطَّرِيقَانِ فِي قَوْلُهُ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ؟ فَإِنَّكَ إِذَا قَدَّرْتَ: [لِئَلَّا تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ [فَتُذَكِّرَ] عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَّرْتَ: [حَذَارِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا] لَمْ يَسْتَقِمِ الْعَطْفُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الضَّلَالَةُ عِلَّةً لشهادتهما.(3/97)
قِيلَ: بِظُهُورِ الْمَعْنَى يَزُولُ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت نسيت، فَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ سَبَبًا لِلْإِذْكَارِ جُعِلَ مَوْضِعَ العلة، تَقُولُ: [أَعْدَدْتُ هَذِهِ الْخَشَبَةَ أَنْ تَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمُ بِهَا] ، فَإِنَّمَا أَعْدَدْتُهَا لِلدَّعْمِ لَا لِلْمَيْلِ، وَأَعْدَدْتُ هَذَا الدَّوَاءَ أَنْ أَمْرَضَ فَأُدَوَاى بِهِ وَنَحْوُهُ. هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: تَقْدِيرُهُ فِي: [تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] إِنْ ضَلَّتْ فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ اتَّصَلَ بِمَا قَبْلَهُ فَفُتِحَتْ أَنْ.
الثَّامِنُ: [مِنْ أَجْلِ] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنه من قتل نفسا بغير نفس} فَإِنَّهُ لِتَعْلِيلِ الْكَتْبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْوَقْفُ على: {من النادمين} وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: {مِنَ النَّادِمِينَ} ،أَيْ مِنْ أَجْلِ قَتْلِهِ لِأَخِيهِ وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ صِحَّةَ النَّظْمِ وَيُخِلُّ بِالْفَائِدَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ لِلْآخَرِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ عَلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ؟ وَإِذَا كَانَ عِلَّةً فَكَيْفَ كَانَ قَتْلُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ قَاتِلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ؟.
قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يَجْعَلُ أَقْضِيَتَهُ وَأَقْدَارَهُ عِلَلًا لِأَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمْرِهِ فَجَعَلَ حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ عِلَّةً لِحِكْمَةِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَ مِنْ أَعْلَى.(3/98)
أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَخَّمَ أَمَرَهُ وَعَظَّمَ شَأْنَهُ وجعل أنمة أَعْظَمَ مِنْ إِثْمِ غَيْرِهِ وَنَزَّلَ قَاتِلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مَنْزِلَةَ قَاتِلِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا فِي أَصْلِ العذاب لا في وصفه.
التاسع: التعليل بلعل، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ من قبلكم لعلكم تتقون} ، قِيلَ: هُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: [اعْبُدُوا] ، وَقِيلَ لِقَوْلِهِ: [خَلَقَكُمْ] .
وَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ من قبلكم لعلكم تتقون} حَيْثُ لُمِحَ فِيهَا مَعْنَى الرَّجَاءِ رَجَعَتْ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ.
الْعَاشِرُ: ذِكْرُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، فَتَارَةً يُذْكَرُ بِأَنَّ وَتَارَةً بِالْفَاءِ وَتَارَةً يُجَرَّدُ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فردا وأنت خير الوارثين} إلى قوله: {خاشعين} . وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ محسنين} .
والثاني: كقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جلدة} .
وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادخلوها بسلام} {إن الذين.(3/99)
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يحزنون} .
الْحَادِي عَشَرَ: تَعْلِيلُهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لبغوا في الأرض} .
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كذب بها الأولون} ، أَيْ آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ لَا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ الَّتِي تَأْتِي مِنْهُ سُبْحَانَهُ ابْتِدَاءً.
وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فصلت آياته} .
وقوله: {وقالوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لقضي الأمر} ،فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَمْنَعُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَيَانًا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ وَإِنَّ عِنَايَتَهُ وَحِكْمَتَهُ بِخَلْقِهِ اقضت مَنْعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَ ثُمَّ عَايَنُوهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ جعل الرَّسُولُ بَشَرًا لِيُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَلَوْ جَعَلَهُ مَلَكًا فَإِمَّا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ أَوْ يَجْعَلَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْبَشَرِ وَالْأَوَّلُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّلَقِّي عَنْهُ وَالثَّانِي لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إِذَا كَانُوا يَقُولُونَ: هُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ.
الثَّانِي عَشَرَ: إِخْبَارُهُ عَنِ الْحِكَمِ والغايات التني جَعَلَهَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، كَقَوْلِهِ:.(3/100)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وأنزل من السماء ماء} الآية.
وقوله: {ألم نجعل الأرض مهادا} الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} . الْآيَةَ.
وَكَمَا يَقْصِدُونَ الْبَسْطَ وَالِاسْتِيفَاءَ يَقْصِدُونَ الْإِجْمَالَ وَالْإِيجَازَ كَمَا قِيلَ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً
وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} .(3/101)
الْأُسْلُوبُ الثَّانِي: الْحَذْفُ.
وَهُوَ لُغَةً الْإِسْقَاطُ، وَمِنْهُ حَذَفْتُ الشِّعْرَ إِذَا أَخَذْتُ مِنْهُ.
وَاصْطِلَاحًا إِسْقَاطُ جُزْءِ الْكَلَامِ أَوْ كُلِّهِ لِدَلِيلٍ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ الْحَذْفُ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَيُسَمَّى اقْتِصَارًا، فَلَا تَحْرِيرَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلْتَبِسُ بِهِ الْإِضْمَارُ وَالْإِيجَازُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ شَرْطَ الْحَذْفِ وَالْإِيجَازِ أَنْ يَكُونَ [فِي الْحَذْفِ] ثَمَّ مُقَدَّرٌ، نَحْوَ: {وَاسْأَلِ القرية} بِخِلَافِ الْإِيجَازِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الجامع للمعاني الجمة بنفسه.
والفرق بينه وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ: أَنَّ شَرْطَ الْمُضْمَرِ بَقَاءُ أَثَرِ الْمُقَدَّرِ فِي اللَّفْظِ، نَحْوَ: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . {ويعذب المنافقين} . {انتهوا خيرا لكم} . أَيِ ائْتُوا أَمْرًا خَيْرًا لَكُمْ وَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَذْفِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِضْمَارِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُقَدَّرِ بَابُ الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّهُ مِنْ أَضْمَرْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ، قَالَ:
سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا(3/102)
وَأَمَّا الْحَذْفُ فَمِنْ حَذَفْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وَهُوَ يُشْعِرُ بِالطَّرْحِ بِخِلَافِ الْإِضْمَارِ وَلِهَذَا قَالُوا: [أَنْ] تَنْصُبُ ظَاهِرَةً وَمُضْمَرَةً.
وَرَدَّ ابْنُ مَيْمُونٍ قَوْلَ النُّحَاةِ: إِنَّ الْفَاعِلَ يُحْذَفُ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ وَقَالَ الصَّوَابُ: أَنْ يُقَالَ: يُضْمَرُ وَلَا يُحْذَفُ لِأَنَّهُ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي [خَاطِرِيَّاتِهِ] : مِنَ اتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ أَنَّكَ تُضْمِرُهُ فِي لَفْظٍ إِذَا عَرَفْتَهُ نَحْوَ قُمْ وَلَا تَحْذِفَهُ كَحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِسَائِيُّ فِي ضَرَبَنِي وضربت قومك.
فصل: في أن الحذف نوع من أنواع المجاز على المشهور.
الْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَذْفَ مَجَازٌ وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي [التَّلْخِيصِ] عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَذْفَ لَيْسَ بِمَجَازٍ إِذْ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْحَذْفُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ: وَحَذْفُ الْمُضَافِ هُوَ عَيْنُ الْمَجَازِ أَوْ مُعْظَمُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَلَيْسَ كُلُّ حَذْفٍ مجازا. انتهى.
وقال الزبخاني فِي [الْمِعْيَارِ] : إِنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا تَغَيَّرَ بسببه حكم،.(3/103)
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ حُكْمٌ كَقَوْلِكَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو بِحَذْفِ الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَالْمَحْذُوفُ لَيْسَ كذلك لعدم استعماله وإن أريد بالمجاز إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِهِ - وَهُوَ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ - فالحذف كذلك.
فصل: في أن الحذف خلاف الأصل.
وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي فَرْعَانِ:.
أَحَدُهُمَا: إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْحَذْفِ وَعَدَمِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى عَدَمِهِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ.
وَالثَّانِي: إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ قِلَّةِ الْمَحْذُوفِ وَكَثْرَتِهِ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى قِلَّتِهِ أَوْلَى.
أوجه الكلام على الحذف.
ويقع الكلام في الحذف من خَمْسَةِ أَوْجُهٍ فِي فَائِدَتِهِ وَفِي أَسْبَابِهِ ثُمَّ فِي أَدِلَّتِهِ ثُمَّ فِي شُرُوطِهِ ثُمَّ فِي أقسامه.
فوائد الحذف.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي فَوَائِدِهِ:.
فَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ لِذَهَابِ الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَتَشَوُّفِهِ إِلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَرْجِعُ قَاصِرًا عَنْ إِدْرَاكِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ شَأْنُهُ وَيَعْلُو فِي النَّفْسِ مَكَانُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ إِذَا ظَهَرَ فِي اللَّفْظِ زَالَ مَا كَانَ يَخْتَلِجُ فِي الْوَهْمِ مِنَ الْمُرَادِ وخلص للمذكور!.(3/104)
وَمِنْهَا: زِيَادَةُ لَذَّةٍ بِسَبَبِ اسْتِنْبَاطِ الذِّهْنِ لِلْمَحْذُوفِ وَكُلَّمَا كَانَ الشُّعُورُ بِالْمَحْذُوفِ أَعْسَرَ كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهِ أَشَدَّ وَأَحْسَنَ.
وَمِنْهَا: زِيَادَةُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقُولُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمَنْصُوصَةِ.
وَمِنْهَا: طَلَبُ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ.
وَمِنْهَا: التَّشْجِيعُ عَلَى الْكَلَامِ وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي: [شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ] .
وَمِنْهَا: مَوْقِعُهُ فِي النَّفْسِ فِي مَوْقِعِهِ عَلَى الذِّكْرِ وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الصِّنَاعَتَيْنِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: مَا مِنَ اسْمٍ حُذِفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَفَ فِيهَا إِلَّا وَحَذْفُهُ أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِهِ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحَةٍ وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحِ
أسباب الحذف
الثَّانِي: فِي أَسْبَابِهِ:.
فَمِنْهَا: مُجَرَّدُ الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَبَثِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ نَحْوَ الْهِلَالُ وَاللَّهِ أَيْ هَذَا فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِقَرِينَةِ شَهَادَةِ الْحَالِ إِذْ لَوْ ذَكَرَهُ مَعَ ذَلِكَ لَكَانَ عَبَثًا مِنَ الْقَوْلِ.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَاصَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَحْذُوفِ وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْمُهِمِّ وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ بَابِ التَّحْذِيرِ، نَحْوَ: إِيَّاكَ والشر والطريق الطريق الله اللَّهَ وَبَابُ الْإِغْرَاءِ هُوَ لُزُومُ أَمْرٍ يُحْمَدُ بِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} عَلَى التَّحْذِيرِ أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا وَ [سُقْيَاهَا] إِغْرَاءً بِتَقْدِيرِ الْزَمُوا نَاقَةَ اللَّهِ.
وَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ قَالَ حَازِمٌ فِي [مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ] : إِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ مَا لَمْ.(3/105)
شكل بِهِ الْمَعْنَى لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ فَيَحْذِفُ وَيَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى بِالْحَالِ عَنْ ذِكْرِهَا عَلَى الْحَالِ قَالَ: وَبِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ علىالنفوس وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {إذا جاءوها وفتحت أبوابها} فَحَذَفَ الْجَوَابَ، إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى فَجَعَلَ الْحَذْفَ دَلِيلًا عَلَى ضِيقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَأْنُهُ وَلَا يُبْلَغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهُ مَا هُنَالِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ".
قُلْتُ وَمِنْهُ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} مَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاخْتِصَارِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْمُتَحَمِّلَةِ مَعَ قِلَّتِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ.
وَمِنْهَا: التخفيف لكثرة دورانه في كلامهم كما حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي نَحْوِ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عن هذا} وَغَيْرُهُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ لَا أَدْرِ فَيَحْذِفُونَ الْيَاءَ وَالْوَجْهُ [لَا أَدْرِي] لِأَنَّهُ رَفْعٌ وَتَقُولُ: [لَمْ أُبَلْ] فَيَحْذِفُونَ الْأَلِفَ وَالْوَجْهُ لَمْ أُبَالِ وَيَقُولُونَ: [لَمْ يَكْ] فَيَحْذِفُونَ النُّونَ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُونَهُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ.
وَمِنْهَا: حَذْفُ نُونِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَأَثَرُهَا بَاقٍ نَحْوَ: الضاربا زيدا، والضاربو زيدا. وقراءة من قرأ: {والمقيمى الصلاة} كَأَنَّ النُّونَ ثَابِتَةٌ فَعَلُوا ذَلِكَ لِاسْتِطَالَةِ الْمَوْصُولِ.(3/106)
في الصلة، نحو: {والليل إذا يسر} حُذِفَتِ الْيَاءُ لِلتَّخْفِيفِ.
وَيُحْكَى عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ المؤرج السدوسي سأله: [عن ذلك] فَقَالَ: لَا أُجِيبُكَ حَتَّى تَنَامَ عَلَى بَابِي لَيْلَةً فَفَعَلَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ إِذَا عَدَلَتْ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ نَقَصَتْ حُرُوفَهُ وَاللَّيْلُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْرِي وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وما كانت أمك بغيا} الْأَصْلُ [بَغِيَّةٌ] فَلَمَّا حُوِّلَ وَنُقِلَ عَنْ فَاعِلٍ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ انْتَهَى.
وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ، نحو: {ما ودعك ربك وما قلى} . {والليل إذا يسر} وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: إِنَّمَا حُذِفَتِ الْيَاءُ فِي الْفَوَاصِلِ لِأَنَّهَا عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ وَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالْقَوَافِي الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ يَاءٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُحْذَفَ صِيَانَةً لَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين} إلى قوله: {إن كنتم تعقلون} حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ ذِكْرِ الرب، أي هو رب السموات. وَاللَّهُ رَبُّكُمْ. وَاللَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْظَمَ حَالَ فِرْعَوْنَ وَإِقْدَامُهُ عَلَى السُّؤَالِ تَهَيُّبًا وَتَفْخِيمًا فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ لِيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وَمِنْهَا: صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عمي} أي هم.(3/107)
وَمِنْهَا: كَوْنُهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {عالم الغيب والشهادة} {فعال لما يريد} .
وَمِنْهَا: شُهْرَتُهُ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً قال الزمخشري وهو نوع من دلالةالحال الَّتِي لِسَانُهَا أَنْطَقُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ كَقَوْلِ رؤبة خير جواب من قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قراءة حمزة: {تساءلون به} . لِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ شُهِرَ بِتَكْرِيرِ الْجَارِّ فَقَامَتِ الشهرة مقام الذكر.
وكذا قال الفارسي متلخصا مِنْ عَدَمِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ: إِنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْجَارِّ الْمُقَدَّرِ أَيْ وَ [بِالْأَرْحَامِ] وَإِنَّمَا حُذِفَتِ اسْتِغْنَاءً بِهِ فِي الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْمُقَدَّرُ يُحِيلُ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ عَطْفِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى مِثْلِهِ!.
قُلْتُ: إِعَادَةُ الْجَارِّ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَطْفِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ.
أدلة الحذف.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي أَدِلَّتِهِ:.
وَلَمَّا كَانَ الْحَذْفُ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ دَلِيلِهِ.
وَالدَّلِيلُ تَارَةً يَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ مُطْلَقٍ وَتَارَةً عَلَى مَحْذُوفٍ مُعَيَّنٍ.
فَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ حَيْثُ تَسْتَحِيلُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَقْلًا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ،.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا تَكَلُّمُ الْأَمْكِنَةِ إِلَّا مُعْجِزَةً.
وَمِنْهَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ كَقَوْلِهِ تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة} .(3/108)
فَإِنَّ الذَّاتَ لَا تَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ شَرْعًا إِنَّمَا هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الذَّوَاتِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ التَّنَاوُلُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا حُذِفَ وَأُقِيمَتِ الْمَيْتَةُ مَقَامَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْفِعْلُ وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ أُنِّثَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَقَوْلُ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَحَلَّ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْعَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى الْحَذْفِ وَالتَّعْيِينِ كَقَوْلِهِ تعالى: {وجاء ربك} ،أَيْ أَمْرُهُ أَوْ عَذَابُهُ أَوْ مَلَائِكَتُهُ لِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ وَلِاسْتِحَالَةِ مَجِيءِ البارىء عَقْلًا لِأَنَّ الْمَجِيءَ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَدَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى التَّعْيِينِ وَهُوَ الْأَمْرُ وَنَحْوُهُ وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَمْثِيلٌ مَثَّلَتْ حَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} ،لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّوْحِيدِ فَعَدَمُ الْفَسَادِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ضَرُورَةً وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ بُلُوغًا لَهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ وَتَدُلَّ عَادَةُ النَّاسِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَلِكُنَّ الذي لمتنني فيه} فَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ ظَرْفًا لِلَوْمِهِنَّ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظرف حبه بدليل: {شغفها حبا} أو مراودته بدليل: {تراود فتاها} ،ولكن.(3/109)
الْعَقْلَ لَا يُعَيِّنُ وَاحِدًا مِنْهَا بَلِ الْعَادَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الثَّانِي فَإِنَّ الْحُبَّ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ يَقْهَرُهُ وَيَغْلِبُهُ وَإِنَّمَا اللَّوْمُ فِيمَا لِلنَّفْسِ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَهُوَ الْمُرَاوَدَةُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهَا.
وَمِنْهَا: أَنْ تَدُلَّ الْعَادَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لو نعلم قتالا} ، أَيْ مَكَانَ قِتَالٍ وَالْمُرَادُ مَكَانًا صَالِحًا لِلْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَخْبَرَ النَّاسِ بِالْقِتَالِ وَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يُرِيدُوا لَوْ نَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقِتَالِ فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مُجَاهِدٌ: [مَكَانَ قِتَالٍ] .
وَقِيلَ: إِنَّ تَعْيِينَ الْمَحْذُوفِ هُنَا مِنْ دَلَالَةِ السِّيَاقِ لَا الْعَادَةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْحَذْفِ وَالشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: {بِسْمِ الله} فَإِنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَدَلَّ الشُّرُوعُ عَلَى تَعْيِينِهِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ فِي مَبْدَئِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِ وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ فَفِي الْقِرَاءَةِ أَقْرَأُ وَفِي الْأَكْلِ: آكُلُ وَنَحْوَهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّرُ الْفِعْلُ أَوْ الِاسْمُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يُقَدَّرُ عَامٌّ كَالِابْتِدَاءِ أَوْ خَاصٌّ كَمَا ذَكَرْنَا؟.
وَمِنْهَا: اللُّغَةُ كَضَرَبْتُ فَإِنَّ اللُّغَةَ قَاضِيَةٌ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ نَعَمْ هِيَ تَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْحَدَثِ لَا تَعْيِينُهُ وَكَذَلِكَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ.
وَمِنْهَا: تَقَدُّمُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَمَا فِي سِيَاقِهِ كقوله: {وأبصر فسوف يبصرون} ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ نَحْوَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تسجد} وفي موضع:.(3/110)
{ألا تسجد} . وَكَقَوْلِهِ: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بلاغ} أَيْ هَذَا، بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فقال تعالى: {هذا بلاغ للناس} وَنَظَائِرِهِ.
وَمِنْهَا: اعْتِضَادُهُ بِسَبَبِ النُّزُولِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَيْ قُمْتُمْ مِنَ الْمَضَاجِعِ يَعْنِي النَّوْمَ وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا يَعْنِي إِذَا قُمْتُمْ مُحْدِثِينَ.
وَاحْتُجَّ لِزَيْدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ فِقْدَانِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِقْدَهَا فَأَخَّرُوا الرَّحِيلَ إِلَى أَنْ أَضَاءَ الصُّبْحُ فَطَلَبُوا الْمَاءَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنْ نَوْمِهِمْ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَبِمَا رُجِّحَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنَّ الْأَحْدَاثَ الْمَذْكُورَةَ بعد قوله: {إذا قمتم} الْأَوْلَى أَنْ يَحْمِلَ قَوْلُهُ: {إِذَا قُمْتُمْ} مَعْنًى غَيْرَ الْحَدَثِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلْحَدَثِ وَلِسَبَبِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ النوم ليس بحدث بل سبب للحدث.
شروط الحذف.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي شُرُوطِهِ.
فَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ فِي الْمَذْكُورِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ إِمَّا مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مِنْ سِيَاقِهِ وَإِلَّا لَمْ يُتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مُخِلًّا بِالْفَهْمِ وَلِئَلَّا يصير الكلام لغزا فيهج فِي الْفَصَاحَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا أُبْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُلْقِيَ.
وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ مَقَالِيَّةٌ وَحَالِيَّةٌ.
فَالْمَقَالِيَّةُ قَدْ تَحْصُلُ مِنْ إِعْرَابِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ مَنْصُوبًا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ.(3/111)
مِنْ نَاصِبٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا نَحْوَ: أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا أَيْ وُجِدْتَ أَهْلًا وَسَلَكْتَ سَهْلًا وَصَادَفْتَ رَحْبًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لله} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تساءلون به والأرحام} وَالتَّقْدِيرُ: احْمِدُوا الْحَمْدَ وَاحْفَظُوا الْأَرْحَامَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {ومن أحسن من الله صبغة} . {ملة أبيكم إبراهيم} .
وَالْحَالِيَّةُ قَدْ تَحْصُلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى والنظر وَالْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَحْذُوفٍ وَهَذَا يَكُونُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ النَّظْمِ الْأَوَّلِ لِزِيَادَةِ عمومه كما في قوله فُلَانٌ يَحُلُّ وَيَرْبِطُ أَيْ يَحُلُّ الْأُمُورَ وَيَرْبِطُهَا أَيْ ذُو تَصَرُّفٍ.
وَقَدْ تَدُلُّ الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ عَلَى التَّقْدِيرِ، كَقَوْلِهِمْ فِي: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} :إِنَّ التَّقْدِيرَ لَأَنَا أُقْسِمُ لِأَنَّ فِعْلَ الحال لا يقسم عليه. وقوله تعالى: {تفتأ تذكر يُوسُفَ} التَّقْدِيرُ لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ مُثْبَتًا لَدَخَلَتِ اللَّامُ وَالنُّونُ كَقَوْلِهِ: {بَلَى وربي لتبعثن} .
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ هُنَا أَدِلَّةٌ يَتَعَدَّدُ التَّقْدِيرُ بِحَسَبِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حسنا} فإنه يحتمل ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَالْمَعْنَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ.(3/112)
حسنا} مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا كَمَنْ لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ!! ثُمَّ كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: لَا، فَقِيلَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} ثَانِيهَا: تَقْدِيرُ: ذَهَبَتْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٌ فَحُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .
ثَالِثُهَا: تَقْدِيرُ: [كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ] ،فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يشاء} وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا نَحْوَ: {قَالُوا سلاما} أَيْ سَلَّمْنَا سَلَامًا أَوْ أَحَدَ رُكْنَيْهَا نَحْوَ: {قال سلام قوم منكرون} أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَحُذِفَ خبر الأولى ومتبدأ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفَ فَضْلَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لِحَذْفِهِ دَلِيلٌ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَكُونَ فِي حَذْفِهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى أَوِ اللَّفْظِ كَمَا فِي حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ وَنَحْوِهِ.
وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي حَذْفِ الْجَارِّ أَيْضًا أَمْنَ اللَّبْسِ ومنع الحذف في نحو: رغبت أَنْ تَفْعَلَ أَوْ عَنْ أَنْ تَفْعَلَ لِإِشْكَالِ المراد يعد الحذف.
وأورد عليه {وترغبون أن تنكحوهن} ،فَحَذَفَ الْحَرْفَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ النِّسَاءَ يَشْتَمِلْنَ عَلَى وَصْفَيْنِ وَصْفُ الرَّغْبَةِ فِيهِنَّ وَعَنْهُنَّ فَحُذِفَ لِلتَّعْمِيمِ.(3/113)
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الْمَحْذُوفِ. وَأُنْكِرَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بلى قادرين على أن نسوي بنانه} أَنَّ التَّقْدِيرَ: بَلَى حَسِبَنَا قَادِرِينَ وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورُ بِمَعْنَى الظَّنِّ وَالْمَحْذُوفُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ إِذِ التَّرَدُّدُ فِي الْإِعَادَةِ كُفْرٌ فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ الْحِسَابَ الْمُقَدَّرَ بِمَعْنَى الْجَزْمِ وَالِاعْتِقَادِ لَا بِمَعْنَى الظَّنِّ وَتَقْدِيرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ الْمَلْفُوظَ.
وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ذِكْرُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ:.
مِنْهَا: وَهُوَ أَقْوَاهَا، كَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ ربك} أَيْ أَمْرُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} .
وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض} ،أَيْ كَعَرْضِ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ.
وَفِيهِ إِيجَازٌ بَلِيغٌ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَرْضُ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِالطُّولِ! كَقَوْلِهِ: {بَطَائِنُهَا من إستبرق} .
وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ التَّعْظِيمَ وَالسِّعَةَ لِأَحَقِّيَّةِ الْعَرْضِ، كَقَوْلِهِ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ عَلَى الْخَائِفِ الْمَظْلُومِ كِفَّةُ حَابِلِ
وَمِنْهَا: أَلَّا يَكُونَ الْفِعْلُ طَالِبًا لَهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ امْتَنَعَ حَذْفُهُ كَالْفَاعِلِ وَمَفْعُولِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَاسْمِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يُحْذَفْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْغَرَضِ.(3/114)
وَمِنْهَا: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي وَمِنْ حَقِّ الْحَذْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَطْرَافِ لَا فِي الْوَسَطِ لِأَنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ أَضْعَفُ مِنْ قَلْبِهِ وَوَسَطِهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} وَقَالَ الطَّائِيُّ الْكَبِيرُ:
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَمْنُوعَ فَاسْتَلَبَتْ مَا حَوْلَهَا الْخَيْلُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
فكأن الطرفين سياج للوسط ومبذولان للعوراض دُونَهُ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْإِعْلَالَ عِنْدَ التَّصْرِيفِيِّينَ بِالْحَذْفِ مِنْهَا فَحَذَفُوا الْفَاءَ فِي الْمَصَادِرِ مِنْ بَابِ وَعَدَ نَحْوَ الْعِدَةِ وَالزِّنَةِ وَالْهِبَةِ وَاللَّامَ فِي نحواليد وَالدَّمِ وَالْفَمِ وَالْأَبِ وَالْأَخِ وَقَلَّمَا تَجِدُ الْحَذْفَ فِي الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِهَذَا يَظْهَرُ لُطْفُ هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
تَنْبِيهَاتٌ:.
الْأَوَّلُ: قَدْ تُوجِبُ صِنَاعَةُ النَّحْوِ التَّقْدِيرَ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَإِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَقَدَّرَهُ النُّحَاةُ: [مَوْجُودٌ] أَوْ [لَنَا] .
وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ وَتَقْدِيرُهُمْ فَاسِدٌ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِنْ نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً فَإِنَّهَا إِذَا انْتَفَتْ مُطْلَقَةً كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْقَيْدِ وَإِذَا انْتَفَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ.
وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْإِنْكَارِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ [فِي الْوُجُودِ] يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ كُلِّ إِلَهٍ غَيْرَ اللَّهِ قَطْعًا فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا كَلَامَ فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيٌ لِلْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرٍ لِاسْتِحَالَةِ مُبْتَدَأٍ بِلَا خَبَرٍ ظَاهِرًا أَوْ مُقَدَّرًا وَإِنَّمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ الْقَوَاعِدَ حَقَّهَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُومًا وَتَقْدِيرُهُمْ هُنَا أَوْ غَيْرُهُ لِيَرَوْا صُورَةَ التَّرْكِيبِ مِنْ حيث.(3/115)
اللَّفْظِ مِثَالًا، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَهُمْ تَقْدِيرَانِ إِعْرَابِيٌّ وَهُوَ الَّذِي خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ وَمَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ.
وَمِنَ الْمُنْكَرِ فِي هَذَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ الطِّرَاوَةِ: إِنَّ الْخَبَرَ فِي هَذَا [إِلَّا اللَّهُ] وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ نَكِرَةً وَالْخَبَرُ مَعْرِفَةً!.
الثَّانِي: اعْتَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي الْحَذْفِ التَّدْرِيجَ حَيْثُ أَمْكَنَ وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} إِنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: [يَوْمَ لَا تَجْزِي فِيهِ] فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَصَارَ [تَجْزِيهِ] ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرِ فَصَارَ [تَجْزِي] .
وَهَذَا مُلَاطَفَةٌ فِي الصِّنَاعَةِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حُذِفَ فِيهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي [الْمُحْتَسَبِ] : وَقَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ أَوَثَقُ فِي النَّفْسِ وَآنَسُ مِنْ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفَانِ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
الثَّالِثُ: المشهور في قوله تعالى: {فانفجرت منه} ،أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ التَّقْدِيرُ: [فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ] وَدَلَّ [انْفَجَرَتْ] عَلَى الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنَ الِانْفِجَارِ أَنَّهُ قَدْ ضُرِبَ.
وَكَذَا: {أَنِ اضرب بعصاك البحر فانفلق} ،إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَحْصُلَ الِانْفِجَارُ وَالِانْفِلَاقُ دُونَ ضَرْبٍ.
وَابْنُ عُصْفُورٍ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: إِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ الْمَذْكُورَ مَعَ الْمَعْطُوفِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ من المعطوف(3/116)
فَالْفَاءُ فِي [انْفَلَقَ] هُوَ فَاءُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ [ضَرْبٌ] فَذُكِرَتْ فَاؤُهُ وَحُذِفَ فِعْلُهَا وَذُكِرَ فِعْلُ [انْفَلَقَ] وَحُذِفَتْ فَاؤُهُ لِيَدُلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى المحذوف وهو تحيل غريب.
أقسام الحذف.
الْخَامِسُ: فِي أَقْسَامِهِ:.
الْأَوَّلُ: الِاقْتِطَاعُ، وَهُوَ ذِكْرُ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ وَإِسْقَاطُ الْبَاقِي، كَقَوْلِهِ:
*دَرَسَ الْمُنَا بِمَتَالِعٍ فَأَبَانِ*
أَيِ الْمَنَازِلُ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ [الْمَثَلِ السَّائِرِ] وُرُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَقَدْ جَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ فَوَاتِحَ السُّوَرِ لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ:" [الم] مَعْنَاهُ: [أَنَا الله أعلم وأرى] و [المص] أنا لله أَعْلَمُ وَأُفَصِّلُ وَكَذَا الْبَاقِي.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وامسحوا برؤوسكم} :إِنَّ الْبَاءَ هُنَا أَوَّلُ كَلِمَةِ [بَعْضَ] ثُمَّ حُذِفَ الْبَاقِي كَقَوْلِهِ:
*قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ*
أَيْ وَقَفْتُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " كَفَى بِالسَّيْفِ شَا " أَيْ شَاهِدًا.(3/117)
وقال الزمخشري في قوله: {من اللَّهُ} فِي الْقَسَمِ: إِنَّهَا [ايْمَنُ] الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ حُذِفَتْ نُونُهَا.
وَمِنْ هَذَا التَّرْخِيمُ ومنه قراءة بعضهم: [يا مال] عَلَى لُغَةِ مَنْ يَنْتَظِرُ وَلَمَّا سَمِعَهَا بَعْضُ السَّلَفِ قَالَ مَا أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ عَجَزُوا عَنْ إِتْمَامِ الْكَلِمَةِ.
الثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ وَهُوَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمَقَامُ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ وَارْتِبَاطٌ فَيُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَيُخَصُّ بِالِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ غَالِبًا فَإِنَّ الِارْتِبَاطَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ وُجُودِيٌّ وَلُزُومِيٌّ وَخَبَرِيٌّ وَجَوَابِيٌّ وَعَطْفِيٌّ.
ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ الِاكْتِفَاءَ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ اتُّفِقَ بَلْ لِأَنَّ فِيهِ نُكْتَةً تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي مِثَالِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} أَيْ وَالْبَرْدَ هَكَذَا قَدَّرُوهُ. وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ سُؤَالَ الْحِكْمَةِ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَرِّ بِالذِّكْرِ وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ وَالْوِقَايَةُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَرِّ أَهَمُّ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الْبَرْدِ عِنْدَهُمْ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ الْبَرْدَ ذُكِرَ الِامْتِنَانُ بِوِقَايَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} وقوله: {وجعل لكم من.(3/118)
الجبال أكنانا} وَقَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيها دفء} .
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْوِقَايَتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظلالا} ،فَإِنَّ هَذِهِ وِقَايَةُ الْحَرِّ، ثُمَّ قَالَ: {وَجَعَلَ لكم من الجبال أكنانا} ،فَهَذِهِ وِقَايَةُ الْبَرْدِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ؟.
قِيلَ: لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسَاكِنِ وَهَذِهِ إلى الملابس، وقوله: {وجعل لكم من الجبال أكنانا} لم يذكره السهيلي، وَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ.
وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنهار} .
فَإِنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ: [وَمَا تَحَرَّكَ] وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ السُّكُونِ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ الْحَالَيْنِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَلِأَنَّ السَّاكِنَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُتَحَرِّكِ أَوْ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ يَصِيرُ إِلَى السُّكُونِ وَلِأَنَّ السُّكُونَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْحَرَكَةُ طارئة.
وقوله: {بيدك الخير} تقدير: [وَالشَّرُّ] إِذْ مَصَادِرُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ مَطْلُوبُ الْعِبَادِ وَمَرْغُوبُهُمْ إِلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُجُودًا فِي الْعَالَمِ مِنَ الشَّرِّ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ فِي بَابِ الْأَدَبِ أَلَّا يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ".
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَرَدَ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ الرُّومِ وَفَارِسَ وَوَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْخَيْرِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ.(3/119)
وقوله: {الذين يؤمنون بالغيب} ،أَيْ وَالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ وآثر الغيب لأنه أبدع ولأنه يستلزمالإيمان بِالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.
وَمِثْلُهُ: {أَمْ يَجْعَلُ له ربي أمدا. عالم الغيب} ،أَيْ وَالشَّهَادَةُ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخر.
وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ،فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَطَوَى الْبَاقِي.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أَيْ وَالْبَرِّ، وَإِنَّمَا آثَرَ ذِكْرَ الْبَحْرِ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَشَدُّ.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} ،أَيْ وَالْمَغَارِبِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أَيْ وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ أَهْلِ الكتاب أمة قائمة} ،أَيْ وَأُخْرَى غَيْرُ قَائِمَةٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} ،أي والمؤمنين.
وقوله: {هدى للمتقين} ،أَيْ وَالْكَافِرِينَ. قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {هدى للناس} .(3/120)
وقوله: {ولا تكونوا أول كافر به} ،قِيلَ: الْمَعْنَى وَآخِرَ كَافِرٍ بِهِ فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ قُوَّةِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ الْكُفْرِ وَآخِرَهُ سَوَاءٌ وَخُصَّتِ الْأَوْلَوِيَّةُ بِالذِّكْرِ لِقُبْحِهَا بِالِابْتِدَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافات ويقبضن ما يمسكهن} ،أَيْ وَيَبْسُطْنَ قَالَهُ الْفَارِسِيُّ.
وَحَكَى فِي [التَّذْكِرَةِ] عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أكاد أخفيها لتجزى} أَنَّ الْمَعْنَى: [أَكَادُ أُظْهِرُهَا أُخْفِيهَا لِتُجْزَى] ، فَحَذَفَ [أُظْهِرُهَا] لِدَلَالَةِ [أُخْفِيهَا عَلَيْهِ] .
قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى: [أُزِيلُ خَفَاءَهَا] ،فَلَا حَذْفَ.
وَقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ،أَيْ بَيْنَ أَحَدٍ وَأَحَدٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ،أَيْ وَمَنْ أَنْفَقَ بَعْدَهُ وَقَاتَلَ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَطْلُبُ اثْنَيْنِ وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} .
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إليه جميعا} ،أَيْ وَمَنْ لَا يَسْتَنْكِفُ وَلَا يَسْتَكْبِرُ بِدَلِيلِ التقسيم بعده بقوله: {فأما الذين آمنوا} {وأما الذين استنكفوا} .(3/121)
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} ،فَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ عَنِ الْجِهَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومن خلفهم} ، الِاكْتِفَاءُ بِجِهَتَيْنِ عَنْ سَائِرِهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} ،أَيْ وَلَمْ تُعْبِدْنِي.
وَقَوْلُهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ليس له ولد} ،أَيْ وَلَا وَالِدَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ الْأَبِ فَإِنَّ الْأَبَ يُسْقِطُهَا.
وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ المفلحين} وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِسْمَ الْآخَرَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ [أَمَّا] إِذْ وَضْعُهَا لِتَفْصِيلِ كَلَامٍ مُجْمَلٍ وَأَقَلُّ أَقْسَامِهَا قِسْمَانِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُؤْمِنُ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. وَالثَّانِي فِي آلِ عِمْرَانَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى قوله: {إلا الله} هَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ.
وَقَوْلُهُ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لهم} ،أَيْ وَفِعْلًا غَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِشَيْئَيْنِ: بِأَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَبِأَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ فَبَدَّلُوا الْقَوْلَ فِي [حِنْطَةٍ] [حِطَّةٌ] وَبَدَّلُوا الْفِعْلَ بِأَنْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا سَاجِدِينَ وَالْمَعْنَى إِرَادَتُنَا حِطَّةٌ أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ.(3/122)
ولا الحرور} ،قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دُخُولُ [لَا] عَلَى نِيَّةِ التَّكْرَارِ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا النُّورُ وَالظُّلُمَاتُ وَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَوَائِلِ عَنِ الثَّوَانِي وَدَلَّ بِمَذْكُورِ الْكَلَامِ عَلَى مَتْرُوكِهِ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} .
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ لِلْفَجْرِ خَيْطٌ أَسْوَدُ إِنَّمَا الْأَسْوَدُ مِنَ اللَّيْلِ.
فَأُجِيبَ: إِنَّ {مِنَ الْفَجْرِ} متصل بقوله: {الخيط الأبيض} وَالْمَعْنَى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّيْلِ لَكِنْ حذف [من الليل] لدلالة الكلام ثم عليه ولوقوع الْفَجْرِ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ [مِنَ الْفَجْرِ] مُتَعَلِّقًا بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَوْ وَقَعَ [مِنَ الْفَجْرِ] فِي مَوْضِعِهِ مُتَّصِلًا بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ لَضَعُفَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَهُوَ [مِنَ اللَّيْلِ] فَحُذِفَ [مِنَ اللَّيْلِ] لِلِاخْتِصَارِ وَأُخِّرَ [مِنَ الْفَجْرَ] لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: مِنْ هَذَا قِسْمٌ يُسَمَّى الضَّمِيرُ وَالتَّمْثِيلُ، وَأَعْنِي بِالضَّمِيرِ أَنْ يُضْمِرَ من القول المجاور لِبَيَانِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ كَقَوْلِ الْفَقِيهِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ [وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ] .
وَيَكُونُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ، كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك} ،وقد شهد الحسن وَالْعِيَانُ أَنَّهُمْ مَا انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَهِيَ الْمُضْمَرَةُ وَانْتَفَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فظ غليط القلب.(3/123)
وقوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} ،الْمَعْنَى لَوْ أَفْهَمْتُهُمْ لَمَا أَجْدَى فِيهِمُ التَّفْهِيمُ فَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبُوا الْقُوَّةَ الْفَاهِمَةَ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ الْفَهْمِ أَحَقُّ بِفَقْدِ الْقَبُولِ وَالْهِدَايَةِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْفِعْلِ لِشَيْئَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَحَدِهِمَا فَيُضْمَرُ لِلْآخَرِ فِعْلٌ يُنَاسِبُهُ كقوله تعالى: {والذين تبوأوا الدار والإيمان} أَيْ وَاعْتَقَدُوا الْإِيمَانَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِعُوا لَهَا تغيظا وزفيرا} أَيْ وَشَمُّوا لَهَا زَفِيرًا.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} ، وَالصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَتُرِكَتْ صَلَوَاتٌ.
وَقَوْلِهِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} فَالْفَاكِهَةُ وَلَحْمُ الطَّيْرِ وَالْحُورُ الْعِينُ لَا تَطُوفُ وَإِنَّمَا يُطَافُ بِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ،فَنَقَلَ ابْنُ فَارِسٍ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى [مَعَ] أَيْ شُرَكَائِكُمْ كَمَا يُقَالُ: لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلُهَا لَرَضَعَهَا أَيْ مَعَ فَصِيلِهَا.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ لِلثَّانِي لِيَصِحَّ الْعِطْفُ هُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لِتَعَذُّرِ الْعَطْفِ. وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَتَضْمِينِ الْعَامِلِ مَعْنًى يَنْتَظِمُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَمِيعًا،.(3/124)
فَيُقَدَّرُ آثَرُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّهُ أَيُّهُمَا أَوْلَى تَرْجِيحُ الْإِضْمَارِ أَوِ التَّضْمِينِ؟.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ: إِنْ كَانَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي يَلِيهِ حَقِيقَةً كَانَ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنَ التَّضْمِينِ نَحْوَ: [يَجْدَعُ اللَّهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ] ،أَيْ وَيَفْقَأُ عَيْنَيْهِ فَنِسْبَةُ الْجَدْعِ إِلَى الْأَنْفِ حَقِيقَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ الْعَامِلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى مَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِضْمَارُ كَقَوْلِهِمْ:
*عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا*
وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَ أَمْرِ الْمُخَاطَبِ لَا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى: [اسْكُنْ أَنْتَ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ] لِأَنَّ شَرْطَ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِأَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا عَمِلَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ هُنَا لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: [اسْكُنْ زَوْجَكَ] .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تضار والدة بولدها ولا مولود} وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ [مَوْلُودٌ] مَعْطُوفًا عَلَى [وَالِدَةٌ] لِأَجْلِ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ أَوْ لِلْأَمْرِ فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُقَدِّرَ مَرْفُوعًا بِمُقَدَّرٍ مِنْ جِنْسِ الْمَذْكُورِ أَيْ وَلَا يُضَارُّ مَوْلُودٌ لَهُ.
وقوله تعالى: {والطير} ، قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ: [وَسَخَّرَنَا لَهُ الطَّيْرَ] عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {فَضْلًا} وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ، ومن رفعه فقيل: على المضمر في [آتى] ،.(3/125)
وَجَازَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: [مَعَهُ] ، وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ وَلِتُؤَوِّبَ مَعَهُ الطَّيْرُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَقْتَضِيَ الْكَلَامُ شَيْئَيْنِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {فمن ربكما يا موسى} وَلَمْ يَقُلْ: وَهَارُونَ لِأَنَّ مُوسَى الْمَقْصُودُ الْمُتَحَمِّلُ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَغَاصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْكَلَامَ فَيَقُولُ: [وَهَارُونَ] وَلَكِنَّهُ نَكَلَ عَنْ خِطَابِ هَارُونَ تَوَقِّيًا لِفَصَاحَتِهِ وَحِدَّةِ جَوَابِهِ وَوَقْعِ خِطَابِهِ إِذِ الْفَصَاحَةُ تُنَكِّلُ الْخَصْمَ عَنِ الْخَصْمِ لِلْجَدَلِ وَتُنَكِّبُهُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.
السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ ثُمَّ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ: إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ.
وَيَبْقَى عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ أُوْثِرَ ذِكْرُ التِّجَارَةِ؟ وَهَلَّا أُوثِرَ اللهو؟.
وجوابه ما قال الرَّاغِبُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ التِّجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ انْفِضَاضِ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا. وَلِأَنَّهُ قَدْ تُشْغِلُ التِّجَارَةُ عَنِ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُشْغِلُهُ اللَّهْوُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ،فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وأعاد الضمير.(3/126)
عَلَى الْفِضَّةِ وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَلِأَنَّ الفضة أكثر وجودا في أيديالناس وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ فَيَكُونُ كَنْزُهَا أَكْثَرَ وَقِيلَ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَكْنُوزَ دَنَانِيرٌ وَدَرَاهِمٌ وَأَمْوَالٌ.
وَنَظِيرُهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقتتلوا} ،لِأَنَّ الطَّائِفَةَ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرَتْ شَيْئَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمَعْنَى تَكْتَفِي بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهِ عَنِ الْآخَرِ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَقَوْلِ حَسَّانِ:
إن شرح الشباب والشعر الأسـ ود ما لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا
وَلَمْ يَقُلْ: [يَعَاصَا] .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لم تروها} وقد جعل ابن لأنباري فِي كِتَابِ [الْهَاءَاتِ] ضَمِيرَ {لَمْ تَرَوْهَا} رَاجِعًا إِلَى الْجُنُودِ.
وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا بِمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يرضوه إن كانوا مؤمنين} فَقِيلَ [أَحَقُّ] خَبَرٌ عَنْهُمَا وَسَهُلَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ بِعَدَمِ إِفْرَادِ [أَحَقُّ] وَأَنَّ إِرْضَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِرْضَاءٌ لِرَسُولِهِ.
وَقِيلَ: [أَحَقُّ] خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ يَقْصِدُونَ ذِكْرَ الشَّيْءِ.(3/127)
فَيَذْكُرُونَ قَبْلَهُ مَا هُوَ سَبَبٌ مِنْهُ ثُمَّ يَعْطِفُونَهُ عَلَيْهِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ سَرَّنِي زَيْدٌ وَحُسْنُ حاله والمواد حسن ماله وَفَائِدَةُ هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّةِ الِاخْتِصَاصِ بِذِكْرِ الْمَعْنَى وَرَسُولُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَيَدُلَّ عليه ما تقدمه من قوله: {والذين يؤذون رسول الله} ، وَلِهَذَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ وَلَمْ يُثَنِّ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عنه} .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ،فَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَقِيلَ أَعَادَهُ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ الْمَفْهُومَةُ مِنَ استعينوا.
وقيل: المعنى على التثنيةوحذف مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} ،وَهُوَ نَظِيرُ آيَةِ الْجُمُعَةِ كَمَا سَبَقَ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَطِيفَتَانِ: وَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا اقْتَضَى إِعَادَةَ الضَّمِيرِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَعَادَهُ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ وَمُؤَنَّثَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَجْذَبُ لِلْقُلُوبِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ اللَّهْوِ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالتِّجَارَةِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِاللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ اللَّهْوِ أَوْ لِأَنَّهَا كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لِقُدُومِهِ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ:" أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "،وَأَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يكسب خطيئة أو إثما} عَلَى الْإِثْمِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ الْقُرْبِ وَالتَّذْكِيرِ فَتَدَبَّرْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أَيْ بذلك القول.(3/128)
السَّابِعُ: الْحَذْفُ الْمُقَابَلِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الكلام متقابلان، فيحدف مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابَلَةً لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} ، الْأَصْلُ فَإِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ فَنِسْبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: [إِجْرَامِي] وَهُوَ الْأَوَّلُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ} - وَهُوَ الثَّالِثُ - كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ} - وَهُوَ الثَّانِي - إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ} - وَهُوَ الثَّالِثُ -كَنِسْبَةِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ بُرَآءٌ مِنْهُ} - وَهُوَ الثَّانِي - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأنا برىء مما تجرمون} ،وَهُوَ الرَّابِعُ، وَاكْتَفَى مِنْ كُلِّ مُتَنَاسِبَيْنِ بِأَحَدِهِمَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولون} ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أُرْسِلَ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فَأَتَوْا بِآيَةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إن شاء أو يتوب عليهم} ، تَقْدِيرُهُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:" وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ "، عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُطْلَقُ قَوْلِهِ: فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدًا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} ، فَتَقْدِيرُهُ: لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطَّهَّرْنَ فَإِذَا طَهُرْنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ كَنِسْبَةِ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعِ وَيُحْذَفُ مِنْ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ السِّيَاقِ قَاطِعَةٌ بِهَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يُعْتَضَدُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ إِلَّا بَعْدَ الطُّهْرِ وَالتَّطَهُّرِ جَمِيعًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.(3/129)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تخرج بيضاء من غير سوء} ، تَقْدِيرُهُ: [أَدْخِلْ يَدَكَ تَدْخُلُ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ] ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ تَنَاسُبٌ بِالطِّبَاقِ فَلِذَلِكَ بَقِيَ الْقَانُونُ فِيهِ الَّذِي هُوَ نِسْبَةُ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّالِثِ وَنِسْبَةُ الثَّانِي إِلَى الرابع علىحالة الْأَكْثَرِيَّةِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ مَوْضِعِهِ وَلَمْ يُجْعَلْ بِالنِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَبَيْنَ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَهِيَ نِسْبَةُ النَّظِيرِ كَقَوْلِهِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
أَيْ هِزَّةٌ بَعْدَ انْتِفَاضَةٍ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ ثُمَّ اهْتَزَّ. كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ.
وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّائِغِ، وَقَالَ: هَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلَوْ يَكُونُ لَكَانَ خُلْفًا وَإِنَّمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِدْخَالِهَا خُرُوجَهَا، وَ [يَخْرُجُ] مَجْزُومٌ عَلَى الْجَوَابِ فَاحْتَاجَ أَنْ تُقَدِّرَ جَوَابًا لَازِمًا وَشَرْطًا مَلْزُومًا حَذْفًا لِأَنَّهُمَا نَظِيرُ مَا ثَبَتَ لَكِنْ وَقَعَ فِي تَقْدِيرِ مَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنْ أَدْخَلَهَا تَدْخُلُ لَكِنَّهُ قَدْ يُقَدِّرُهُ تَقْدِيرًا بَعِيدًا وَهُوَ أَدْخِلْهَا تَدْخُلُ كَمَا هِيَ وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ بَيْضَاءَ وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ فَيُقَالُ لَهُ: لَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْفِعْلِ فإذا قيل: إن جاءني زيدا أَكْرَمْتُهُ فَهَذَا اللَّازِمُ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ وَالْإِكْرَامُ لَازِمٌ لِلْمَجِيءِ بَلْ لِوَضْعِ الْمُتَكَلِّمِ فَالْمَوْضُوعُ هُنَا أَنَّ الْإِدْخَالَ سَبَبٌ فِي خُرُوجِهَا بَيْضَاءَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِخْرَاجِهَا أَنْ تَخْرُجَ بَيْضَاءَ لُزُومًا ضَرُورِيًّا إِلَّا بِضَرُورَةِ صِدْقِ الْوَعْدِ فَإِنْ قَالَ: لَمْ أُرِدْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ إِلَّا حَتَّى تُخْرَجَ قِيلَ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا مَعْنَى لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وآخر سيئا} .(3/130)
أصل الكلام: خلطوا عملا صالحا بسيء وآخر سيئا بصالح لأن الخلط يستدعي مخلوط وَمَخْلُوطًا بِهِ أَيْ تَارَةً أَطَاعُوا وَخَلَطُوا الطَّاعَةَ بِكَبِيرَةٍ وَتَارَةً عَصَوْا وَتَدَارَكُوا الْمَعْصِيَةَ بِالتَّوْبَةِ.
وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} الْآيَةَ، فَإِنَّ مُقْتَضَى التَّقْسِيمِ اللَّفْظِيِّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَلَا خَوْفَ وَلَا حُزْنَ يَلْحَقُهُ وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ وَمَنْ كَذَبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْأُخْرَى.
قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بما لا يسمع إلا دعاء} ،قَالَ سِيبَوَيْهِ [فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى] : لَمْ يُشَبَّهُوا بِالنَّاعِقِ وَإِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى سِعَةِ الْكَلَامِ وَالْإِيجَازِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْنَى. انْتَهَى.
وَالَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،- وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّاعِقَ بِمَعْنَى الدَّاعِي وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ أَلَّا يُرَادَ بِهِ الدَّاعِي بَلِ النَّاعِقُ مِنَ الْحَيَوَانِ - شَبَّهَهُمْ في تألهم وَتَأَتِّيهِمْ بِمَا يَنْعِقُ مِنَ الْغَنَمِ بِصَاحِبِهِ مِنْ أنهم يدعون مالا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَفْهَمُ مَا يُرِيدُهُ فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفٌ.
وَقِيلَ: لَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِلَّا الِاكْتِفَاءَ مِنَ الْأَوَّلِ بِالثَّالِثِ لِنِسْبَةٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالَّذِي يَنْعِقُ -وَهُوَ الثَّالِثُ الْمُشَبَّهُ بِهِ - عَنِ الْمُشَبَّهِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُكَ وَهُوَ الْأَوَّلُ وَأَقْرَبُ إِلَى هَذَا التَّشْبِيهُ الْمُرَكَّبُ وَالْمُقَابَلَةُ وَهُوَ الَّذِي غَلِطَ مَنْ وَضَعَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الِاكْتِفَاءِ لِلِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ عَلَى مَا سَلَفَ.(3/131)
وَقَدْ قَالَ الصَّفَّارُ: هَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ - مِنْ أَنَّهُ حَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الثَّانِي الْمَعْطُوفَ - ضَعِيفٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ فيه حدفا كَثِيرًا مَعَ إِبْقَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْوَاوُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا مُسْتَأْنَفٌ وَالْأَصْلُ مَثَلُكَ وَمَثَلُهُمْ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْأَصْلَ وَمَثَلُكُ وَمَثَلُهُمْ ثُمَّ حَذَفَ [مَثَلُكَ] وَالْوَاوَ الَّتِي عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا وَبَقِيَتِ الْوَاوُ الْأَوْلَى وَيُزْعَمُ أَنَّ الْكَلَامَ رُبِطَ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِالْوَاوِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ وَفِيهِ مَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَجَّاجِ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الآية والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم لاصنام بِالَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ فَهُوَ تَمْثِيلُ دَاعٍ بِدَاعٍ مُحَقَّقٌ لَا حَذْفَ فِيهِ وَالْكُفَّارُ عَلَى هَذَا دَاعُونَ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ. مَدْعُوُّونَ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مستقيم} فَإِنَّ فِيهِ جُمْلَتَيْنِ حُذِفَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اكْتِفَاءً بِنِصْفِ الْأُخْرَى وَأَصْلُ الْكَلَامِ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا!.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ أَصْلَهُ هَكَذَا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا بُدَّ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
وَهَاهُنَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَلْ هَذَا أَهْدَى مِنْ ذَلِكَ أَمْ ذَاكَ أَهْدَى مِنْ هَذَا؟ فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا نِصْفُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ وَنِصْفُ الْأُخْرَى وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ هَذِهِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ وَالَّذِي حُذِفَ مِنْ تِلْكَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْفَصَاحَةِ ثُمَّ تُرِكَ أَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَهُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِهَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ وَأَيُّهُمَا هُوَ الْأَهْدَى لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْآيَةِ أَصْلًا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقُولُ الَّذِي يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى مِمَّنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ.(3/132)
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يخلق} وَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يعلمون} .
فَائِدَةٌ.
قَدْ يُحْذَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَقَدْ يُعْكَسُ وَقَدْ يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ الْأَمْرَيْنِ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النبي} فِي قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ [مَلَائِكَتَهُ] أَيْ إِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {يَمْحُوا الله ما يشاء ويثبت} ، أَيْ مَا يَشَاءُ.
وَقَوْلِهِ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ من المشركين ورسوله} ، أَيْ بَرِيءٌ أَيْضًا.
وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غير الأرض والسماوات} .
وقوله: {يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن لم يحضن} ، أَيْ كَذَلِكَ.
وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو الْفَتْحِ قَوْلَهُ تعالى: {أسمع بهم وأبصر} التَّقْدِيرُ: وَأَبْصِرْ بِهِمْ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ كَانَ بِلَفْظِ الْفَضْلَةِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي الْفَاعِلِ.
وَهَذَا التَّوْجِيهُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَإِنْ قُلْنَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ فَلَا.(3/133)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض ليقولن الله} ، وَالتَّقْدِيرُ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ فَحَذَفَ [خَلَقَهُنَّ] لِقَرِينَةٍ تَقَدَّمَتْ فِي السُّؤَالِ.
وَقَوْلِهِ: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نجزي المحسنين} وَلَمْ يَقُلْ: [إِنَّا كَذَلِكَ] اخْتِيَارًا وَاسْتِغْنَاءً عَنْهُ بقوله فيما سبق [إنا كذلك] .
والثالث: كقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} ،فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ [أَحَقُّ] خَبَرٌ عَنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} ، فَالْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَعْنِي [بِهَا] لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَ مِنَ الثَّانِي لَمْ يَحْصُلِ الرَّبْطُ لِوُجُوبِ الضَّمِيرِ فِيمَا وَقَعَ مَفْعُولًا ثَانِيًا أَوْ كَالْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ[سَمِعْتُمْ] ، وَلَوْ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِثْبَاتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُتَعَلِّقِ الثَّانِي..
الثَّامِنُ: الِاخْتِزَالُ، وَهُوَ الِافْتِعَالُ مِنْ خَزَلَهُ قَطَعَ وَسَطَهُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الِاصْطِلَاحِ إِلَى حَذْفِ كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَهِيَ إِمَّا اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ.(3/134)
الأول: الاسم.
" حذف المبتدأ ".
فمنه حذف المبتدأ، كقوله تعالى: [ثلاثة] و [خمسة] ،و [سبعة] ،أي هم ثلاثة وهم خمسةوهم سَبْعَةٌ.
وَقَوْلِهِ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فئتين التقتا فئة} ، أَيْ إِحْدَاهُمَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} .
وقوله: {بلاغ فهل يهلك} ، أَيْ هَذَا بَلَاغٌ.
وَقَوْلِهِ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ، أَيْ هُمْ عِبَادٌ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} ، أَيْ هِيَ النَّارُ.
وَقَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سوء العذاب. النار} ، أَيْ هُوَ النَّارُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ [النَّارُ] فِي الْآيَتَيْنِ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَيُمْكِنُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ تَكُونَ النَّارُ بَدَلًا مِنْ [سُوءِ الْعَذَابِ] .(3/135)
وقوله: {فقالوا ساحر كذاب} ،أي سَاحِرٌ.
وَقَوْلُهُ: {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . {وقالوا أساطير الأولين} .
{وقل الحق من ربكم} ،أَيْ هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيْسَ هَذَا كما يضلنه بَعْضُ الْجُهَّالِ أَيْ قُلِ الْقَوْلَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَنَصَبَ [الْحَقَّ] وَالْمُرَادُ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْ رَبِّكُمْ} ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا قَوْلَ حَقٍّ مُطْلَقٍ بَلْ هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} ، وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} .
وقوله: {سورة أنزلناها} ، أَيْ هَذِهِ سُورَةٌ.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ، أَيْ فَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ وَإِسَاءَتُهُ عَلَيْهَا.
وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ مسه الشر فيؤوس قنوط} ، أَيْ فَهُوَ يَئُوسٌ.
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كفروا في البلاد. متاع قليل} ، أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ أَوْ ذَاكَ مَتَاعٌ.
{وَمَا أدراك ما الحطمة. نار الله الموقدة} ، أَيْ وَالْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ.
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر} ، أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَالْقَصْرِ فَيَكُونُ مِنْ باب قول: {فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، أي كل واحدمنهم وَالْمُحْوِجُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّرَرُ كُلُّهُ كَقَصْرٍ وَاحِدٍ وَالْقَصْرُ هُوَ الْبَيْتُ مِنْ أَدَمٍ كَانَ يُضْرَبُ.(3/136)
على المال، ويؤيده قوله: {جمالت صفر} ، أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ شَبَّهَهُ بِالْجَمَاعَةِ أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّرَرِ كَالْجَمَلِ لِجَمَاعَاتِهِ فَجَمَاعَاتُهُ إِذَنْ مِثْلُ الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ شَرَرَةٌ مِنْهُ كَالْقَصْرِ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي.
وَأَمَّا قوله: {ولا تقولوا ثلاثة} ، فقيل: إن [ثلاثة] خير مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: [آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ] .
وَاعْتُرِضَ بِاسْتِلْزَامِهِ إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوِ الْخَبَرِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرِ لَا إِلَى مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ وَحِينَئِذٍ يَقْتَضِي نَفْيَ عِدَّةِ الْآلِهَةِ لَا نَفْيَ وَجُودِهِمْ.
قِيلَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِ آلِهَتِهِمْ ثَلَاثَةً يَصْدُقُ بِأَلَّا يَكُونَ لِلْآلِهَةِ الثَّلَاثَةِ وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنَ السَّالِبَةِ الْمُحَصِّلَةِ فَمَعْنَاهُ: لَيْسَ آلِهَتُكُمْ ثَلَاثَةً وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِأَلَّا يَكُونَ لَهُمْ آلِهَةٌ وَإِنَّمَا حُذِفَ إِيذَانًا بِالنَّهْيِ عَنْ مُطْلَقِ الْعَدَدِ الْمُفْهِمِ لِلْمُسَاوَاةِ بِوَجْهٍ مَا فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ صَرَّحَ بِالشَّرِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ واحد} فَأَفْهَمَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْإِلَهُ يَكُونُ غَيْرُهُ مَعَهُ خَطَأً لِإِفْهَامِهِ مُسَاوَاةً مَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الثَّلَاثَةِ لِامْتِنَاعِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ عَقْلًا وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ واحد} نَفْيُ الشَّرِكَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ تَخْصِيصَ النَّهْيِ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ الْفِعْلِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي اللَّهِ وَعِيسَى وَأُمِّهِ: ثَلَاثَةً.(3/137)
وَنَحْوُهُ فِي الْخُرُوجِ عَلَى السَّبَبِ: {لَا تَأْكُلُوا الربا أضعافا مضاعفة} .
وَقَالَ صَاحِبُ [إِسْفَارِ الصَّبَاحِ] : الْوَجْهُ تَقْدِيرُ كَوْنِ ثَلَاثَةٍ أَوْ فِي [الْوُجُودِ] ثُمَّ حُذِفَ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ [لَنَا] أَوْ فِي الْوُجُودِ الْحَذْفُ الْمُطَّرِدُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَوْحِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
ثُمَّ حُذِفَ الْمُبْتَدَأُ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ كَالْعَدَدِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا كَقَوْلِكَ: عِنْدِي ثَلَاثَةٌ أي دراهم وقد علم بقرينة قوله: {إنما الله إله واحد} .
وَقَدْ عُورِضَ هَذَا بِأَنَّ نَفْيَ وُجُودِ ثَلَاثَةٍ لَا يَنْفِي وُجُودَ إِلَهَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ [آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ] يُوجِبُ ثُبُوتَ الْآلِهَةِ وَتَقْدِيرُ [لَنَا آلِهَةٌ] لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ إِلَهَيْنِ.
فَعُورِضَ بِأَنَّهُ كَمَا لَا يُوجِبُهُ فَلَا يَنْفِيهِ.
فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْفِهِ فَقَدْ نَفَاهُ مَا بَعْدَهُ من قوله: {إنما الله إله واحد} .
فَعُورِضَ بِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِنْ نَفَى ثُبُوتَ إِلَهَيْنِ فَكَيْفَ ثُبُوتُ آلِهَةٍ!.
فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ وَلَكِنْ يُنَاقِضُهُ لِأَنَّ تَقْدِيرَ آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ يُثْبِتُ وُجُودَ إِلَهَيْنِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ بِخِلَافِ تَقْدِيرِ: [لَنَا آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ] ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ وُجُودَ إِلَهَيْنِ لِانْصِرَافِ النَّفْيِ إِلَى أَصْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْآلِهَةِ.
وَفِي أَجْوِبَةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ نَظَرٌ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ ابْنُ جِنِّي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} .(3/138)
حذف الخبر.
نحو: {أكلها دائم وظلها} ، أي دَائِمٌ.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ مَنِ اقْتَصَّ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ: {هَذَا ذكر} ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد. هذا} قَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَآلِ أَمْرِ الطَّاغِينَ وَمِنْهُ يُفْهَمُ الْخَبَرُ.
وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ أَهَذَا خَيْرٌ أَمَّنْ جَعَلَ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا وَقَسَا قَلْبُهُ فَحُذِفَ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} .
وقوله تعالى: {قالوا لا ضير} .
{ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} .
وقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا} قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيمَا أَتْلُوهُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وَجَاءَ [فَاقْطَعُوا] جُمْلَةٌ أُخْرَى. وَكَذَا قوله: {الزانية والزاني} فِيمَا نَقُصُّ لَكُمْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّارِقُ مُبْتَدَأٌ فَاقْطَعُوا خَبَرُهُ وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ.(3/139)
بِهِ سَارِقًا مَخْصُوصًا فَصَارَ كَأَسْمَاءِ الشَّرْطِ تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهَا لِعُمُومِهَا وَإِنَّمَا قَدَّرَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ لِجَعْلِ الْخَبَرِ أَمْرًا وَإِذَا ثَبَتَ الْإِضْمَارُ فَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ فِي مَوْضِعِهَا تَرْبُطُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْإِضْمَارِ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الِاخْتِيَارِيَّ فِيهِ النَّصْبُ قَالَ وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ بِالنَّصْبِ ارْتِكَانًا لِلْوَجْهِ الْقَوِيِّ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ. وَكَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} : مَثَلُ، هُنَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فِيمَا نقض عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ وَكَذَا قَالَ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {والذان يأتيانها منكم فآذوهما} : إِنَّهُ عَلَى الْإِضْمَارِ.
وَقَدْ رُدَّ بِأَنَّهُ أَيُّ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ هُنَا فَإِنَّهُ إِنَّمَا صِرْنَا إِلَيْهِ فِي السَّارِقِ وَنَحْوِهِ لِتَقْدِيرِهِ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ فَاحْتِيجَ لِلْإِضْمَارِ حَتَّى تَكُونَ الْفَاءُ عَلَى بَابِهَا فِي الرَّبْطِ وَأَمَّا هَذَا فَقَدَ وُصِلَ بِفِعْلٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَأْتِيكَ فَلَهُ دِرْهَمٌ.
وَأَجَابَ الصَّفَّارُ بِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ مَعَ الضَّرُورَةِ كَيْفَ كان لأنه إذا أضمر فقد تكلف وَإِنْ لَمْ يُضْمِرْ كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا وَبَعْدَهُ الْأَمْرُ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنَّظَرِ [إِلَى لِلَّذَينِ يَأْتِيَانِهَا] فَكَيْفَمَا عَمِلَ لَمْ يَخْلُ مِنْ قُبْحٍ.
وَإِنْ قُدِّرَ مَنْصُوبًا وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْأَلِفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ [الزَّيْدَانِ] فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقَعَ أَيْضًا فِي مَحْذُورٍ آخَرَ فَلِهَذَا قَدَّرَهُ هَذَا التَّقْدِيرَ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مَعَ الرَّفْعِ يَتَكَافَآنِ.
وَقَوْلُهُ: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ يُعَذِّبُونَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الخبر: {أولئك ينادون من مكان بعيد} .(3/140)
وقوله: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} ، فَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ حَاضِرُونَ وَهُوَ لَازِمُ الْحَذْفِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكتاب من قبلكم} ، أَيْ حِلٌّ لَكُمْ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وقالت اليهود عزير ابن الله} ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّنْوِينِ فَلَا حَذْفَ لِأَنَّهُ يجعله مبتدأ [وابن اللَّهِ] خَبَرٌ حِكَايَةً عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يُنَوِّنْ فَقِيلَ: إِنَّهُ صفة والخبر محذوف أي عزيز ابْنُ اللَّهِ إِلَهُنَا وَقِيلَ: بَلِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ أي إلهنا عزيز وَابْنُ صِفَةٌ.
وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يطابق: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ التَّكْذِيبُ لَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْبُنُوَّةِ فَكُذِّبَ لِأَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ رَاجِعٌ إِلَى نِسْبَةِ الْخَبَرِ لَا إلى الصف فَلَوْ قِيلَ زَيْدٌ الْقَائِمُ فَقِيهٌ فَكُذِّبَ انْصَرَفَ التَّكْذِيبُ لِإِسْنَادِ فِقْهِهِ لَا لِوَصْفِهِ بِالْقَائِمِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ إِنْشَاءً فَهِيَ خَبَرٌ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ تَامَّةِ الْإِفَادَةِ فَيَصِحُّ تَكْذِيبُهَا وَالْأَوْلَى تَقْوِيَتُهُ وَأَنْ يُقَالَ الصِّفَةُ وَالْإِضَافَةُ وَنَحْوُهُمَا فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَوَاحِقٌ بِصُورَةِ الْإِفْرَادِ أَيْ يُرِيدُ أَنْ يُصَوِّرَهُ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى كَذِبِهَا مَعَ أَنَّهَا تُصُوِّرَتْ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَذِبَ الصِّفَةِ بِإِسْنَادِ مُسْنَدِهَا إِلَى.(3/141)
مَعْدُومِ الثُّبُوتِ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفِقْهِ مَا لَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {عزير ابن الله} خَبَرُ الْجُمْلَةِ أَيْ حَكَى فِيهِ لَفْظَهُمْ أَيْ قَالُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْقَبِيحَةَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَدَّرُ خَبَرٌ وَلَا مُبْتَدَأٌ.
وَقِيلَ: [ابْنُ اللَّهِ] خَبَرٌ وَحُذِفَ التَّنْوِينُ مِنْ [عُزَيْرُ] لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ.
وَقِيلَ: حُذِفَ تَنْوِينُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَقِرَاءَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد. الله الصمد} على إراد التَّنْوِينِ بَلْ هُنَا أَوْضَحُ لِأَنَّهُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقِيلَ: [ابْنُ اللَّهِ] نَعْتٌ وَلَا مَحْذُوفَ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا اللفظ إنكارا عليهم إلا أن فيه نعتا لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ إِنْ قُلْتَ وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ لِتَحْكِيَ بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا لَا قَوْلًا وَأَيْضًا إِنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ: {وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله} وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْقَوْلَانِ مَنْقُولَانِ.
وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ بَلَغُوا فِي رُسُوخِ الِاعْتِقَادِ فِي هَذَا الشَّيْءِ إِلَى أَنْ يَذْكُرُونَ هَذَا النُّكْرَ كَمَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ تَغَالُوا فِي تَعْظِيمِ صَاحِبِهِمْ أَرَاهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَمْرًا عَظِيمًا ثَابِتًا يَقُولُونَ: زَيْدٌ الْأَمِيرُ!.
مَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ تعالى: {فصبر جميل} يَحْتَمِلُ حَذْفَ الْخَبَرِ أَيْ أَجْمَلُ أَوْ حَذْفَ الْمُبْتَدَأِ أَيْ فَأَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ وَهَذَا أَوْلَى لِوُجُودِ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ - هِيَ قِيَامُ الصَّبْرِ بِهِ - دالة على.(3/142)
الْمَحْذُوفِ وَعَدَمُ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الصَّبْرِ لَهُ وَاتِّصَافِهِ بِهِ وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ يُحَصِّلُ ذَلِكَ دُونَ حَذْفِ الْخَبَرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ أَجْمَلُ مِمَّنْ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ.
وَكَذَلِكَ يَقُولُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَهُ وَلِأَنَّ الصَّبْرَ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ فَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ خَبَرًا وَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ.
وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَيْ أَمْثَلُ أَوْ أَوْلَى لَكُمْ مِنْ هَذَا أَوْ أَمْرُكُمُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْكُمْ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {سورة أنزلناها} إِمَّا أَنْ يُقِدِّرَ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سُورَةٌ أَوْ هَذِهِ سُورَةٌ.
وَقَدْ يُحْذَفَانِ جُمْلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ.
حَذْفُ الْفَاعِلِ.
الْمَشْهُورُ امْتِنَاعُهُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:.
أَحَدُهَا: إِذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ.
ثَانِيهَا: فِي الْمَصْدَرِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْفَاعِلُ مُظْهَرًا يَكُونُ مَحْذُوفًا وَلَا يَكُونُ مُضْمَرًا نحو: {أو إطعام} .(3/143)
ثَالِثُهَا: إِذَا لَاقَى الْفَاعِلُ سَاكِنًا مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِكَ لِلْجَمَاعَةِ: اضْرِبُ الْقَوْمَ، وَلِلْمُخَاطَبَةِ: اضْرِبِ الْقَوْمَ.
وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ حَذْفَهُ مُطْلَقًا إِذَا مَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إذا بلغت التراقي} أَيْ بَلَغَتِ الرُّوحُ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس.
{فإذا نزل بساحتهم} يعني العذاب، لقوله قبله: {أفبعذابنا يستعجلون} .
{فلما جاء سليمان} تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ سُلَيْمَانَ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ فِي الْمَذْكُورَاتِ مُضْمَرٌ لَا مَحْذُوفٌ وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا حَذْفُهُ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ مَعَ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَلَهُ أَسْبَابٌ:.
مِنْهَا: الْعِلْمُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عجل} . {وخلق الإنسان ضعيفا} وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ إِنَّمَا هُوَ الْإِعْلَامُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ وَلَا غَرَضَ فِي إِبَانَةِ الْفَاعِلِ مَنْ هُوَ.
وَمِنْهَا: تَعْظِيمُهُ كَقَوْلِهِ: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} إِذْ كَانَ الَّذِي قَضَاهُ عَظِيمُ الْقَدْرِ.
وَقَوْلِهِ: {وغيض الماء وقضي الأمر} .(3/144)
وقوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ: هَذَا أَدَلُّ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمُنَزَّلِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ [أَنْزَلَ] مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ كَمَا تَقُولُ الْمَلِكُ أَمَرَ بِكَذَا وَرَسَمَ بِكَذَا وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ كقوله: {وقضي الأمر} قَالَ: كَأَنَّ طَيَّ ذِكْرِ الْفَاعِلِ كَالْوَاجِبِ لِأَمْرَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ الْفَاعِلُ وَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَانَ ذِكْرُهُ فَضْلًا وَلَغْوًا.
وَالثَّانِي: الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ مِنْهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ وَلَا مُدَافِعٍ عَنِ الِاسْتِئْثَارِ بِهِ وَالتَّفَرُّدِ بِإِيجَادِهِ وَأَيْضًا فَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصِيرِ أَنَّ اسْمَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُصَانَ وَيُرْتَفَعُ بِهِ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ وَعَنِ الْحَسَنِ لَوْلَا أَنِّي مَأْذُونٌ لِي فِي ذِكْرِ اسْمِهِ لَرَبَأْتُ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ الْفَوَاصِلِ، نَحْوَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نعمة تجزى} وَلَمْ يَقُلْ يَجْزِيهَا.
وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَهُ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يفقهون} ، لأن قبلها: {وإذا أنزلت سورة} عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَجَاءَ قَوْلُهُ: {وَطُبِعَ} لِيُنَاسِبَ بِالْخِتَامِ الْمَطْلَعَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدَهَا: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي الْبِنَاءَ فَجَاءَتْ عَلَى الْأَصْلِ.(3/145)
حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
وَهُوَ كَثِيرٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَفِي الْقُرْآنِ مِنْهُ زُهَاءَ أَلْفِ مَوْضِعٍ وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ فَلَا يَقِيسُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِكَثْرَةِ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَجَازٌ. انْتَهَى.
وَشَرَطَ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ [مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ] لِجَوَازِهِ وُجُودَ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ نَحْوَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، أَيْ أَهْلَهَا قَالَ: وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ نَقُولَ: جَاءَ زَيْدٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَ زَيْدٍ لِأَنَّ المجيء يكون له ولا دليل [في مثل هذا] عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ الْقَدِيمِ: لَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُضَافِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ وفي غير ملبس كقوله: {واسأل القرية} .
وَضُعِّفَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ فِي قَوْلِهِ: {وهو خادعهم} أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَمَا لا يجوز مجيئه لايجوز خِدَاعُهُ فَحِينَ جَرَّكَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ امْتِنَاعُ مَجِيئِهِ فَهَلَّا جَرَّكَ إِلَى مِثْلِهِ امْتِنَاعُ خِدَاعِهِ!.
قُلْتُ: يَجُوزُ فِي اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ تَصَوُّرُ خِدَاعِهِ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مُلْبِسًا فَلَا يُقَدَّرُ. انْتَهَى.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} أي رحمته ويخاف عذابه.(3/146)
{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} أَيْ: سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أَيْ: شَعْرُ الرَّأْسِ.
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تخافت بها} أَيْ بِقِرَاءَةِ صَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِقِرَاءَتِهَا.
{وَلَكِنَّ البر من آمن بالله} أَيْ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نودي} أَيْ نَاحِيَتَهَا وَالْجِهَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا.
{هَلْ يسمعونكم إذ تدعون} أَيْ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى {قال هل يسمعونكم إذ تدعون} .
{على خوف من فرعون وملأهم} ، أَيْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وضعف الممات} أَيْ ضَعَّفَ عَذَابَهُمَا.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي ينعق} أَيْ وَمَثَلُ وَاعِظِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَنَاعِقِ الْأَنْعَامِ.
{وأزواجه أمهاتهم} أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَيْ شُكْرَ رِزْقِكُمْ. وَقِيلَ: تَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك.
وقوله: {أماناتكم} أَيْ ذَوِي أَمَانَاتِكُمْ كَالْمُودَعِ وَالْمُعِيرِ وَالْمُوَكَّلِ.(3/147)
وَالشَّرِيكِ وَمَنْ يَدُكَ فِي مَالِهِ أَمَانَةً لَا يَدَ ضَمَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ لَا حَذْفَ فِيهِ لِأَنَّ [خُنْتَ] مِنْ بَابِ [أَعْطَيْتَ] فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيُقْتَصَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أخاهم شعيبا} ، أَيْ أَهْلُ مَدْيَنَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ ثاويا في أهل مدين} .
{واسأل القرية التي كنا فيها} أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ.
وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الجماعة، والثاني: أن المراد الْأَبْنِيَةِ نَفْسِهَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ نَبِيٌّ صَاحِبُ مُعْجِزَةٍ.
{الحج أشهر معلومات} وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ.
{وجاء ربك والملك} أَيْ أَمْرُ رَبِّكَ.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بكفرهم} أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ فِي ذِكْرِ الْعِجْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِمْ صَارَ صُورَةُ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ لَا تَمَّحِي.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فعل ربك بعاد إرم} فَإِرَمُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ إلا أنه منع الصرف للعملية وَالتَّأْنِيثِ أَمَّا لِلْعَلَمِيَّةِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِقَوْلِهِ: {ذات العماد} .
وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أصبحوا بها كافرين} أي بسؤالها فحذف المضاف وَلَمْ يَكْفُرُوا بِالسُّؤَالِ إِنَّمَا كَفَرُوا بِرَبِّهِمُ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ فِيمَا سَأَلُوا عَنْهُ نُسِبَ الْكُفْرُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ.(3/148)
وقيل: الهاء الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ لِقُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ بِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ كِنَايَةٌ عَمَّا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى وَقَوْمُ عِيسَى مِنَ الْآيَاتِ ثم كفروا فمعنى السؤال الأول والثان الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَى الثَّالِثِ طَلَبُ الشَّيْءِ.
وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عليكم الميتة} ، أَيْ تَنَاوُلُهَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَجْرَامِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ الْأَفْعَالِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ تَنَاوُلِهَا فَلَا حَذْفَ وَلَوْ كَانَ ثَمَّ حَذْفٌ لَمْ يُؤَنِّثِ الْفِعْلَ وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَ إِنَّمَا يُحْذَفُ إِذَا كَانَ لِلْكَلَامِ دَلَالَةٌ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْإِفْرَادِيَّةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ التَّنَاوُلُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ وَالْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ مَحَالِّ الْحَذْفِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصالحين} ، فَهَاهُنَا إِضْمَارٌ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا جَعَلْتُهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ] لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي زُمْرَةِ الصالحين.
وقوله: {تجعلونه قراطيس} أَيْ ذَا قَرَاطِيسَ أَوْ مَكْتُوبًا فِي قَرَاطِيسَ {تُبْدُونَهَا} أَيْ تُبْدُونَ مَكْتُوبَهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} لَيْسَ الْمَعْنَى تُخْفُونَهَا إِخْفَاءً كَثِيرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ: تُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْ إِنْكَارِ ذِي الْقَرَاطِيسِ أَيْ يَكْتُمُونَهُ فَلَا يُظْهِرُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي.(3/149)
الكتاب} . وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} .
وقوله: {فسالت أودية بقدرها} ، أَيْ بِقَدْرِ مِيَاهِهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهم بها} ، أَيْ هَمَّ بِدَفْعِهَا أَيْ عَنْ نَفْسِهِ فِي هذا التأويل بتنزيله يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي الوقف على قوله: {لقد همت به} .
تنبيه.
في جواز حذف المضاف مع الالتفات إليه.
اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَافَ إِذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ من عود الضمير عليه وَمَعَ اطِّرَاحِهِ يَصِيرُ الْحُكْمُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ للقائم مقامه.
فمثال استهلاكه حكمه وتناسي أمره قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج} : فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي [يَغْشَاهُ] عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ بِتَقْدِيرِ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ.
وَقَوْلِهِ: {أَوْ كصيب} أَيْ كَمِثْلِ ذَوِي صَيِّبٍ وَلِهَذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إليه مجموعا في قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وَلَوْ لَمْ يُرَاعَ لَأَفْرَدَهُ أَيْضًا.(3/150)
وقوله: {كذبت قوم نوح} وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْقَوْمَ مُذَكَّرٌ ومنه قول حسان:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
بِالْيَاءِ أَيْ مَاءٌ بَرَدَى وَلَوْ رَاعَى الْمَذْكُورَ لَأَتَى بِالتَّاءِ.
قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مُرَاعَاةُ التَّأْنِيثِ وَالْمَحْذُوفِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا أو هم قائلون} أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي [أَهْلَكْنَاهَا] وَ [فَجَاءَهَا] لِإِعَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْيَةِ الْمُؤَنَّثَةِ وَهِيَ الثَّابِتَةُ ثُمَّ قَالَ: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ حَمْلًا عَلَى [أَهْلِهَا] الْمَحْذُوفِ.
وَفِي تَأْوِيلِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ صَارَتِ الْمُعَامَلَةُ مَعَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِي الثَّانِي حَذْفُ الْمُضَافِ كَمَا قُدِّرَ فِي الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْتَ: سَأَلْتُ الْقَرْيَةَ وَضَرَبْتُهَا فَمَعْنَاهُ وَضَرَبْتُ أَهْلَهَا فَحُذِفَ الْمُضَافُ كَمَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ إِذْ وَجْهُ الْجَوَازِ قَائِمٌ.
وَقِيلَ: هُنَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ وَالْمَعْنَى أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا وَبَيَاتًا حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ مُبَيِّتِينَ وَ {أَوْ هم قائلون} جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ.
وَأَنْكَرَ الشَّلُوبِينُ مُرَاعَاةَ الْمَحْذُوفِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى وَنَقَلَهُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمَاعَةٌ وَلِهَذَا يُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْجَمْعِ نَحْوَ هِيَ الرِّجَالُ وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عِنْدَهُمْ مُؤَنَّثٌ وَأَسْمَاءُ الْجُمُوعِ تَجْرِي مَجْرَاهَا وَعَلَى هَذَا جَاءَ التَّأْنِيثُ لَا عَلَى الْحَذْفِ وَكَذَا الْقَوْلُ في البيت.(3/151)
وفي قراءة بعضهم: {والله يريد الآخرة} قَدَّرُوهُ عَرَضَ الْآخِرَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى بِخِلَافِ الثَّوَابِ.
حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَهُوَ أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا كَقَوْلِهِ: {كل في فلك يسبحون} .
وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وَكَذَا كُلُّ مَا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ مِمَّا وَجَبَتْ إِضَافَتُهُ مَعْنًى لَا لَفْظًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} ، أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ.
حَذْفُ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
قَدْ يُضَافُ الْمُضَافُ إِلَى مُضَافٍ فَيُحْذَفُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَبْقَى الثَّالِثُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وتجعلون رزقكم} أَيْ بَدَلَ شُكْرِ رِزْقِكُمْ.
وَقَوْلِهِ: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عليه من الموت.} أَيْ كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: الرِّزْقُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرٍ وَكَذَلِكَ قُدِّرَتِ الثَّانِيَةُ [كَالَّذِي] حَالًا مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي [أَعْيُنِهِمْ] لِأَنَّ الْمُضَافَ بَعْضٌ فَلَا تَقْدِيرَ.(3/152)
وقوله: {فما أصبرهم على النار} وَقَدَّرَهُ أَبُو الْفَتْحِ فِي الْمُحْتَسَبِ عَلَى أَفْعَالِ أهل النار.
وأما قوله: {من الموت} فَالتَّقْدِيرُ مِنْ مُدَانَاةِ الْمَوْتِ أَوْ مُقَارَبَتِهِ وَلَا ينكر عسره على الإنسان ولكن إذا دفع إلى أمر هابه.
وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه من الموت} .
وقوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} ، أَيْ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ.
وَقَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} ، أَيْ مِنْ أَمْوَالِ كُفَّارِ أَهْلِ الْقُرَى.
وَقَوْلُهُ: {فإنها من تقوى القلوب} أَيْ مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ وَقَوْلُهُ: {أو كصيب من السماء} الْآيَةَ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمَّا حَذْفُ الْمُضَافِ فَلِقَرِينَةِ عطفه على {كمثل الذي استوقد نارا} وأما المضاف إليه فلدلالة: {جعلون أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عَلَيْهِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ مَجْمُوعًا وَإِنَّمَا صُيِّرَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بَيْنَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَصِفَةِ ذَوِي الصَّيِّبِ لا بين صف الْمُنَافِقِينَ وَذَوِي الصَّيِّبِ.
حَذْفُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
كَقَوْلِهِ: {خلطوا عملا صالحا} أي بسيء {وآخر سيئا} أي بصالح.(3/153)
وَكَذَا بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ الله أكبر} أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى} أَيْ مِنَ السِّرِّ وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْمُفَصَّلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِمَّا قُطِعَ3 فِيهِ عَنْ مُتَعَلِّقَهِ قَصْدًا لِنَفْيِ الزِّيَادَةِ نَحْوَ فُلَانٌ يُعْطِي لِيَكُونَ كالفعل المتعدي إذا جعل قاصر لِلْمُبَالَغَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مِنَ الْحَذْفِ فَإِنَّهُ قَالَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ وَهُمْ فِيهَا شُرَكَاءٌ وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ مُطْلَقًا لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهَا إِطْلَاقًا ثُمَّ يُضَافُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ لَكِنْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ كَمَا يُضَافُ مَا لَا تَفْضِيلَ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِكَ النَّاقِصُ وَالْأَشَجُّ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ كَأَنَّكَ قُلْتَ: عَادِلًا. انْتَهَى.
حَذْفُ الْمَوْصُوفِ.
يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرَانِ:.
أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الصِّفَةِ خَاصَّةً بِالْمَوْصُوفِ حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْمَوْصُوفِ فَمَتَى كَانْتِ الصِّفَةُ عَامَّةً امْتَنَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي آخِرِ بَابِ تَرْجَمَةِ [هَذَا بَابُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ] وَكَذَلِكَ نَصَّ عليه أرسطاطا ليس فِي كِتَابِهِ الْخَطَابَةُ.
الثَّانِي: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ السياق كقوله تعالى: {والله عليم بالمتقين} . {والله عليم بالظالمين} فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي سِيَاقِ الْقَوْلِ عَلَى مُجَرَّدِ الصِّفَةِ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ الْقَوْلِ مِنَ الْمَدْحِ أَوِ الذم بها.(3/154)
كقوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف عين} أَيْ حُورٌ قَاصِرَاتٌ.
وَقَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} أَيْ وَجَنَّةٌ دَانِيَةٌ.
وَقَوْلِهِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكور} أي العبد الشكور.
وقوله: {هدى للمتقين} أَيْ الْقَوْمِ الْمُتَّقِينَ.
وَقَوْلِهِ: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ ألواح ودسر} أَيْ سَفِينَةٌ ذَاتُ أَلْوَاحٍ.
وَقَوْلِهِ: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أَيِ الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ.
وَقَوْلِهِ: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا سابغات.
وقوله: {يا أيها الساحر} أَيْ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ السَّاحِرُ.
وَقَوْلِهِ: {أَيُّهَا المؤمنون} أي القوم المؤمنون.
وقوله: {وعمل صالحا} أَيْ عَمَلًا صَالِحًا.
حَذْفُ الصِّفَةِ.
وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ فِي النَّكِرَاتِ وَكَأَنَّ التَّنْكِيرَ حِينَئِذٍ عَلَمٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا نُقِيمُ لهم يوم القيامة وزنا} أَيْ وَزْنًا نَافِعًا.
وَقَوْلِهِ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جوع وآمنهم من خوف} أَيْ مِنْ جُوعٍ شَدِيدٍ وَخَوْفٍ عَظِيمٍ.
وَقَوْلِهِ: {يا أهل الكتاب لستم على شيء} أَيْ شَيْءٍ نَافِعٍ.(3/155)
وقوله: {ما تذر من شيء} أَيْ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} أَيْ جَامِعًا لِأُكَمِّلَ كُلَّ صِفَاتِ الرُّسُلِ.
وَقَوْلِهِ: {يأخذ كل سفينة غصبا} أَيْ صَالِحَةٍ وَقِيلَ إِنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْإِضْمَارَ بَلْ هُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ.
وَقَوْلِهِ: {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وشراب} أَيْ كَثِيرٍ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَيَجِيءُ فِي العرف.
كقوله تعالى: {الآن جئت بالحق} أَيِ الْمُبِينِ.
وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قد جمعوا لكم} أَيِ النَّاسُ الَّذِينَ يُعَادُونَكُمْ.
وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ مِنْ أهلك} أي الناجين.
وقوله: {وكذب به قومك} أَيْ قَوْمُكَ الْمُعَانِدُونَ.
وَمِنْهُ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أَيْ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ، {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} أَيْ مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ.
قاله ابن مالك وغيره وبهذا التقدير يزل إشكال التكرار من الآية.
وقوله تعالى: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} أَيْ لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ شَيْئًا فَحُذِفَتِ الصِّفَةُ أَوِ الْحَالُ قِيلَ وَالْعُمْرُ هُنَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
حَذْفُ الْمَعْطُوفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} ، {أفلم يسيروا} ، {أثم إذا ما وقع} التَّقْدِيرُ أَعَمُوا! أَمَكَثُوا!! أَكَفَرْتُمْ!!.(3/156)
وقوله: {ما شهدنا مهلك أهله} ، أَيْ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكِهِ بِدَلِيلِ قوله: {لنبيتنه وأهله} ، أَيْ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَمَهْلِكِهِ بِدَلِيلِ قوله لنبيتنه وأهله وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَهْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} كذب في الإخبار وأوهموا قومهم أنهم قَتَلُوهُ وَأَهْلَهُ سِرًّا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ أَحَدٌ وَقَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ وَهُمْ كَاذِبُونَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَيْ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَهُ وَمَهْلِكَ أَهْلِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَصْلُهُ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِكَ بِالْخِطَابِ ثُمَّ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ فَلَا حَذْفَ.
وَقَدْ يُحْذَفُ الْمَعْطُوفُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ من قبل الفتح وقاتل} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} أَيْ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَخَالَفُوا الْأَمْرَ فَفَسَقُوا وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنَ الْآيَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْفِسْقُ مَأْمُورًا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {أَمَرْنَا مترفيها} صِفَةٌ لِلْقَرْيَةِ لَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا} التَّقْدِيرُ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنَّ نُهْلِكَ قَرْيَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّا أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا وَيَكُونُ إذا على هذا لم يأت لها جوابا ظَاهِرٌ اسْتِغْنَاءً بِالسِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إذا جاءوها فتحت أبوابها} .
حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
{فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} أي لو ملكا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ.(3/157)
ويجوز حذفه مع حرف العطف كقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعدة من أيام أخر} أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ.
وَقَوْلِهِ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر} فانفلق التَّقْدِيرُ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ ضرب وحرف العطف وهو الفاء المتصلة انْفَلَقَ فَصَارَ: [فَانْفَلَقَ] فَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى انْفَلَقَ هِيَ الْفَاءُ الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِـ[ضَرَبَ] وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ بِـ[انْفَلَقَ] فَمَحْذُوفَةٌ.
كَذَا زَعْمُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَالْأَبَّذِيِّ قَالُوا وَالَّذِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ إِنَّمَا نُوِيَ بِهِ مُشَارَكَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي فَإِذَا حُذِفَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي لَفْظَ الْمَعْطُوفِ أَوِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَلَّا يُؤْتَى بِهِ لِيَزُولَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَجْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْحَذْفِ بَلْ مِنْ إِقَامَةِ الْمَعْطُوفِ مَقَامَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَيُقَامُ السَّبَبُ كَثِيرًا مَقَامَ مُسَبِّبِهِ وَلَيْسَ مَا بَعْدَهَا مَعْطُوفًا عَلَى الْجَوَابِ بَلْ صَارَ هُوَ الْجَوَابُ بِدَلِيلِ: {فَانْبَجَسَتْ} هُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ.
حَذْفُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ.
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} .
حَذْفُ الْمَوْصُولِ.
قَوْلُهُ: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وأنزل إليكم} أَيْ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ لِأَنَّ [الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا] لَيْسَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا وَلِذَلِكَ أُعِيدَتْ [مَا] بَعْدَ [مَا] .(3/158)
فِي قَوْلِهِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ من قبل} .
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أَيْ مَنْ لَهُ.
وَشَرَطَ ابْنُ مَالِكٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ لِجَوَابِ الْحَذْفِ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْصُولٍ آخَرَ وَيُؤَيِّدُهُ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: وَلَا يُحْذَفُ مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ إِلَّا [أَنْ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ومن آياته يريكم البرق} .
حَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي بَابِ نِعْمَ إِذَا عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} التَّقْدِيرُ نِعْمَ الْعَبْدُ أَيُّوبُ أَوْ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِي ذِكْرِ أَيُّوبَ فَإِنْ قَدَّرْتَ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ لَمْ يَكُنْ هُوَ عَائِدًا عَلَى الْعَبْدِ بَلْ عَلَى أَيُّوبَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نعم العبد} فَسُلَيْمَانُ هُوَ الْمَخْصُوصُ الْمَمْدُوحُ وَإِنَّمَا لَمْ يُكَرَّرْ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَنْصُوبًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدَرْنَا فنعم القادرون} أَيْ نَحْنُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أَيِ الْجَنَّةُ أَوْ دَارُهُمْ.
{فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي عقباهم.(3/159)
{ونعم أجر العاملين} أَيْ أَجْرُهُمْ.
وَقَالَ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أَيْ مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ وَقَالَ تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} أَيْ إِيمَانُكُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ وَكُفْرُكُمْ بِمَا وَرَاءَهُ.
وَقَدْ يُحْذَفُ الْفَاعِلُ وَالْمَخْصُوصُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَبِهَا وَنِعْمَتْ " أَيْ نِعْمَتِ الرُّخْصَةُ.
حَذْفُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ.
يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ:.
أَحَدُهَا: الصلة، كقوله تعالى: {هذا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا:} .
الثَّانِي: الصِّفَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نفس شيئا،} أَيْ فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فيه إلى الله} وَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْأُولَى لِأَنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُهَا، فَالتَّقْدِيرُ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ ينصرون} فِيهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْأَخْفَشُ: حُذِفَتْ عَلَى التَّدْرِيجِ أَيْ حُذِفَ الْعَطْفُ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ فَحُذِفَ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ حُذِفَا مَعًا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ.(3/160)
وَقِيلَ: عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ.
وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} ، أَيْ مِنْهُ وَقَوْلَهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ من حميم ولا شفيع يطاع} أَيْ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْهُ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ [يُغْنِي] جُمْلَةٌ قَدْ أُضِيفَ إِلَيْهَا اسْمُ الزَّمَانِ وَلَيْسَتْ صِفَةً.
وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ عَوْدَ ضَمِيرٍ إِلَى الْمُضَافِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ غَيْرُ جَائِزٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِنْ قُلْتَ أَعْجَبَنِي يَوْمٌ قُمْتُ فِيهِ امْتَنَعَتِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ وَلَا يُضَافُ مَوْصُوفٌ إِلَى صِفَتِهِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ {مَا للظالمين من حميم} صِفَةٌ لِيَوْمٍ الْمُضَافُ إِلَيْهَا الْأَزْمِنَةُ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَقَعُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْهُ ثُمَّ حُذِفَ الْعَائِدُ المجرور [في] كما يحذف من الصفة.
الثالث: الخبر، كقوله تعالى: {وكل وعد الله الحسنى} في قراءة ابن عامر.
الرابع: الحال.
تنبيه.
[عن ابن الشجري في تفاوت أنواع الحذف] .
قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: أَقْوَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْحَذْفِ الصِّلَةُ لِطُولِ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهُ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ نَحْوَ: جَاءَ الَّذِي ضَرَبْتُ وَهُوَ الْمَوْصُولُ وَالْفِعْلُ وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ ثُمَّ الصِّفَةُ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَتَى بِالصِّفَةِ لِلتَّوْضِيحِ ثُمَّ الْخَبَرِ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عليه.(3/161)
وَوَجْهُ التَّفَاوُتِ أَنَّ الصِّفَةَ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَصِلَتَهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا وَالصِّفَةُ دُونَهَا فِي ذلك ولهذا يكثر حذف الموصوف وإقامة الصفةمقامه وَالْخَبَرُ دُونَ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَذْفُ آكَدَ فِي الصِّلَةِ مِنَ الصِّفَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ شَيْئَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى الْحَذْفِ الصِّفَةُ تَسْتَدْعِي مَوْصُوفًا وَالْعَامِلُ يَسْتَدْعِيهِ أَيْضًا.
وَيَسْتَحْسِنُ ابْنُ مَالِكٍ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى الْحَالِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الصِّفَةِ.
حَذْفُ الْمَفْعُولِ.
وَهُوَ ضَرْبَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مَعَ الْحَذْفِ فَيُنْوَى لِدَلِيلٍ وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ موضع ما يليق ب، كقوله تعالى: {فعال لما يريد} أي يريده.
{فغشاها ما غشى} أَيْ غَشَّاهَا إِيَّاهُ.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يشاء ويقدر} .
{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا من رحم} .
{وسلام على عباده الذين اصطفى} .
{أين شركائي الذين كنتم تزعمون} .
وَكُلُّ هَذَا عَلَى حَذْفِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُرَادٌ حُذِفَ تَخْفِيفًا لِطُولِ الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ وَلَوْلَا إِرَادَةُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ لَخَلَتِ الصِّلَةُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.(3/162)
وَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ لَهُ وَاقْتِضَاءُ الصِّلَةِ إِذَا كَانَ الْعَائِدَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عملت أيديهم} في قراءة حمزة والكسائي بغير هاء أَيْ مَا عَمِلَتْهُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ فَـ "مَا" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِلْعَطْفِ عَلَى [ثَمَرِهِ] .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ [مَا] نَافِيَةً وَالْمَعْنَى لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ فَيَكُونُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ الْهَاءُ مُرَادَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُولَةٍ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويشرب مما تشربون} وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ [شَرِبَ] يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.
وَالْغَرَضُ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ أُمُورٌ:.
مِنْهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ وَالْقَرَائِنُ إِمَّا حَالِيَّةٌ كَمَا فِي قوله تعالى: {أرني أنظر إليك} ، لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ أَرِنِي ذَاتَكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَابَ الْمُوَاجَهَةَ بِذَلِكَ ثُمَّ بَرَاهُ الشَّوْقُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ لِيَأْتِيَ بِهِ مَعَ الْأَصْرَحِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ هَذَا الْمَطْلُوبُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ إِجْلَالًا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى أَنْ تأجرني} الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ حُذِفَ مَفْعُولُهُ أَيْ تَأْجُرُنِي نَفْسَكَ.
وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يصدر.(3/163)
الرعاء} فَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ {يُصْدِرَ} فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عرفات} أَيْ أَنْفُسُكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يومكم هذا} أَيْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذريتي} أَيْ نَاسًا أَوْ فَرِيقًا.
وَقَوْلُهُ: {فَادْعُ لَنَا ربك يخرج لنا} أَيْ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات} أي غير السموات.
وَقَوْلُهُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَيْ سَمُّوهُ اللَّهَ أَوْ سَمُّوهُ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تُسَمُّوهُ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ لَزِمَ الشِّرْكُ إِنْ كَانَ مُسَمَّى اللَّهِ غَيْرَ مُسَمَّى الرَّحْمَنِ وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ كَانَ عَيْنُهُ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} أَيِ الْكُفَّارَ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يؤمنون} وكذا {ما كانوا مؤمنين} وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِي الْحَذْفَ فِي رُءُوسِ الْآيِ نحو: {لو كانوا يعلمون} و {لقوم يشكرون} .(3/164)
{أفلا تسمعون} .
{أفلا تبصرون} .
{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون} .
{إنما نحن مستهزئون} .
{فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} .
وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الْغَرَضُ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِفَاعِلٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِغَيْرِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دار السلام} أَيْ كُلُّ أَحَدٍ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ عَامَّةٌ وَالْهِدَايَةَ خَاصَّةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وزنوهم يخسرون} فَكَالَ وَوَزَنَ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِاللَّامِ وَالتَّقْدِيرُ: كَالُوا وَوَزَنُوا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ [هُمْ] مَنْصُوبًا فِي الْمَوْضِعِ بَعْدَ اللَّامِ هُوَ الظَّاهِرُ وَقَرَّرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ، قَالَ: وَأَخْطَأَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ [هُمْ] ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ أُكِّدَتْ بِهِ الْوَاوُ كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِكَ خَرَجُوا هُمْ فَ هُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَفِّفِينَ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا القول أمران:.(3/165)
أحدهما: عدم ثبوت الألف فِي [كَالُوهُمْ] وَ [وَزَنُوهُمْ] وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَأَثْبَتُوهَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ كَمَا أَثْبَتُوهَا في قوله تعالى: {خرجوا من ديارهم} {قالوا لنبي لهم} وَنَحْوِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فَالْمَعْنَى: {إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} وَإِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ يُخْسِرُونَ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَيْ فِي الْمِصْرِ وَعِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الشَّهْرَ ظَرْفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ.
وَمِنْهَا: تَقَدُّمُ مِثْلِهِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أَيْ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ.
فَلَمَّا كَانَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي بِلَفْظِ الْأَوَّلِ فِي عُمُومِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الصِّلَةِ جَازَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أعلم} .
وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} أي غير السموات.
وقوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} ، أَيْ وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ بِدَلِيلِ ما بعده.
وقوله: {وأبصر فسوف يبصرون} أي أبصرهم، بدليل قوله: {وأبصرهم} .
وَسَبَقَ عَنِ ابْنِ ظَفَرٍ السِّرُّ فِي ذِكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الْأَوَّلِ وَحَذْفُهُ فِي الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ.(3/166)
أَنَّ الْأُولَى اقْتَضَتْ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمَّا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ قِيلَ: [أَبْصِرْهُمْ] .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ وَاقْتَرَنَ بِهَا مَعَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ تَأْمِينُهُمْ وَالدُّعَاءُ إِلَى إِيمَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلتَّشَفِّي بَلْ لِلْبُرُوزِ فَقِيلَ لَهُ: [أَبْصِرْ] وَالْمَعْنَى: فَسَيُبْصِرُونَ مِنْكَ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلِهِ: {فهل وجدتم ما وعد ربكم} ، أَيْ وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وما وعدنا ربنا} قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَدْ يُقَالُ: أَطْلَقَ ذَلِكَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَسَائِرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ أَجْمَعَ وَلِأَنَّ الْمَوْعُودَ كُلَّهُ مِمَّا سَاءَهُمْ وَمَا نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا عَذَابٌ لَهُمْ فَأَطْلَقَ لِذَلِكَ لِيَكُونَ مِنَ الضَّرْبِ الْآتِي.
وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية} .
وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ، نَحْوَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى} أَيْ مَا قَلَاكَ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ فَوَاصِلَ الْآيِ عَلَى الْأَلِفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَهُ أَيْ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ كَمَنْ أَقْسَى قَلْبَهُ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ {فَوَيْلٌ للقاسية} .
وَمِنْهَا: الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَذْكُرُونَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} .
{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} .(3/167)
{ولو شاء لهداكم أجمعين} .
{فإن يشأ الله يختم على قلبك} .
{من يشأ الله يضلله} .
{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} .
التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَفَعَلَ.
وَشَرَطَ ابْنُ النَّحْوِيَّةِ فِي حَذْفِهِ دُخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} .
{ولو نشاء لقلنا مثل هذا} .
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مستقيم} .
وَالْحِكْمَةُ فِي كَثْرَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَضْمُونِ الْجَوَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مَثِيلَةَ الْجَوَابِ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْإِرَادَةُ كَالْمَشِيئَةِ فِي جَوَازِ اطِّرَادِ حَذْفِ مَفْعُولِهَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ وَالتَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نور الله بأفواههم} وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مَا يدل على أنهم أمروا لكذب وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ إِطْفَاءُ نُورِ اللَّهِ فَلَوْ ذُكِرَ أيضا لكان(3/168)
كَالْمُتَكَرِّرِ فَحُذِفَ وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بأفواههم} وَكَانَ فِي الْحَذْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْغَرِيبِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَهَّلَ فِي تَقْدِيرِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ التَّقْدِيرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كل نفس هداها} فَإِنَّ التَّقْدِيرَ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: وَلَوْ شِئْنَا أَنْ نُؤْتِيَ كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا لَآتَيْنَاهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ هَذَا الْمَفْعُولَ أَدَّى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ وَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ [لَوْ] أَنْ يَكُونَ الْإِثْبَاتُ بَعْدَهَا نَفْيًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَوْ جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجِيءٌ وَلَا إِعْطَاءٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شئنا لرفعناه بها} فَقَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ: فَلَمْ نَشَأْ فَلَمْ نَرْفَعْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: [فَلَمْ نَرْفَعْهُ فَلَمْ نَشَأْ] لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يُوجِبُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ فَوُجُودُ الْمَلْزُومِ يُوجِبُ وُجُودَ اللَّازِمِ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ وُجُودُ الرَّفْعِ وَمَنْ نَفَى الرَّفْعَ نَفَى الْمَشِيئَةَ وَأَمَّا نَفْيُ الْمَلْزُومِ فَلَا يُوجِبُ نَفْيَ اللَّازِمِ وَلَا وُجُودُ اللَّازِمِ وُجُودَ الْمَلْزُومِ. انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لفسدتا} فَإِنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاءُ وُجُودِ الْآلِهَةِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ الْفَسَادُ.
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوَّلَ شَرْطًا لِلثَّانِي لِأَنَّهُمْ عَدُّوا [لَوْ] مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ وَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ مُسَاوِيًا لِلْمَشْرُوطِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ تَعْلِيلُ عَدَمِ الرَّفْعِ بِعَدَمِ الْمَشِيئَةِ لَا الْعَكْسُ.(3/169)
وَأَوْضَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يكسبون} جَعَلَ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ لِأَنَّ كَذَّبُوا مَلْزُومُ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَأَخَذَهُمْ بِذَلِكَ مَلْزُومُ عَدَمِ فَتْحِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهِمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ} لِلسَّبَبِيَّةِ وَجَعَلَ التَّكْذِيبَ سَبَبًا لِأَخْذِهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَادِّ وَوُقُوعِ الْأَفْرَادِ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ وَأَمَّا مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِهِ فَذَلِكَ مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً مَعَ أَنَّهَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ نَاطِقٌ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مُبْطِلًا للقاعدة.
تنبيهان.
التنبيه الأول: متى يذكر مفعول المشيئة والإرادة؟.
يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:.
أَحَدُهَا: مَا إِذَا كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا فَإِنَّهُ لَا يُحْذَفُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} الْآيَةَ. أَرَادَ رَدَّ قَوْلِ الْكُفَّارِ: [اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا] بِمَا يُطَابِقُهُ فِي اللَّفْظِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الرَّدِّ لِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ فَقَالَ: [لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاصْطَفَى] لَمْ يَظْهَرِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لَأَنَّ الِاصْطِفَاءَ قَدْ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى التَّبَنِّي وَلَوْ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَاتَّخَذَ وَلَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ. مَا فِي إِظْهَارِهِ مِنْ تَعْظِيمِ جُرْمِ قَائِلِهِ.
ومثله صَاحِبُ كِتَابِ [الْقَوْلِ الْوَجِيزِ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتَابِ.(3/170)
الْعَزِيزِ] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} . وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . وَ {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يجعله على صراط مستقيم} وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ.
قُلْتُ: يَجِيءُ الذِّكْرُ فِي مفعول الإرادة أيضا إذ كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لهوا} .
الثَّانِي: إِذَا احْتِيجَ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ كَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ} فَإِنَّهُ لَوْ حُذِفَ لَمْ يَبْقَ لِلضَّمِيرِ مَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ يُقَالُ: الضَّمِيرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَادَ عَلَى مَعْمُولِ مَعْمُولِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْكِرًا لِذَلِكَ أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَيَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ [أراد] و [شاء] لَا يُذْكَرُ إِلَّا لِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.
التَّنْبِيهُ الثاني: في إنكار أبي حيان للقاعدة السابقة.
أَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانِ فِي بَابِ عَوَامِلِ الْجَزْمِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَقَالَ غَلِطَ الْبَيَانِيُّونَ فِي دَعْوَاهُمْ لُزُومَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ إِلَّا فِيمَا إِذَا كَانَ مُسْتَغْرَبًا وَفِي القرآن: {لمن شاء منكم أن يستقيم} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمَفْعُولَ هَاهُنَا عَظِيمٌ فَلِهَذَا صُرِّحَ بِهِ فَلَا غَلَطَ.(3/171)
عَلَى الْقَوْمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أراد الله بهذا مثلا} فَإِذَا جَعَلْتَ [مَاذَا] بِمَعْنَى [الَّذِي] فَمَفْعُولُ [أَرَادَ] مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ وَإِنْ جَعَلْتَ [ذَا] وَحْدَهُ بِمَعْنَى [الَّذِي] فَيَكُونُ مَفْعُولُ [أَرَادَ] مَحْذُوفًا وَهُوَ ضَمِيرُ [ذَا] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [مَثَلًا] مَفْعُولَ [أَرَادَ] لِأَنَّهُ أَحَدُ مَعْمُولَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَالٌ.
فَصْلٌ.
وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ أَشْيَاءَ غَيْرُ مَا سَبَقَ مِنْهَا الصَّبْرُ، نَحْوَ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تصبروا} {اصبروا وصابروا} .
وَقَدْ يُذْكَرُ نَحْوَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يدعون ربهم} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: قَوْلُهُمْ: صَبَرَ عَنْ كَذَا مَحْذُوفٌ مِنْهُ الْمَفْعُولُ وَهُوَ النَّفْسُ.
وَمِنْهَا: مَفْعُولُ [رَأَى] كَقَوْلِهِ: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الغيب فهو يرى} .
قَالَ الْفَارِسِيُّ: الْوَجْهُ أَنَّ يَرَى هُنَا لِلتَّعْدِيَةِ لِمَفْعُولَيْنِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْغَائِبِ لَا تَكُونُ إِلَّا علما والمعنى عيه قوله: {عالم الغيب} وَذِكْرُهُ الْعِلْمَ، قَالَ: وَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ يَرَى الْغَائِبَ حَاضِرًا أَوْ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمون} ، أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ إِيَّاهُمْ.(3/172)
وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: هُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لِدَلِيلٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى دَالٌّ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ أَيْ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَيَعْتَقِدُهُ حَقًّا وَصَوَابًا وَلَا فَائِدَةَ فِي الْآيَةِ مَعَ الِاقْتِصَارِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَلَ عَنِ الصَّوَابِ.
وَمِنْهَا: وَعَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُ قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} ، فَـ[جَانِبَ] مَفْعُولٌ ثَانٍ وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاعَدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ مُكْثًا فِيهِ.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة} .
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثاني: وأنها لَكُمْ بَدَلٌ مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ ثَبَاتَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ مِلْكَهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنهم في الأرض} ، فلم يعد الفعل فيها إلا إلى واحد {وليستخلفنهم} تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَبْيِينٌ لِلْوَصِيَّةِ لَا مَفْعُولٌ ثَانٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} {إن الله وعدكم وعد الحق} فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ انْتِصَابَ الْوَعْدِ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَعْدًا.
وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فَمِمَّا تَعَدَّى فِيهِ [وَعَدَ] .(3/173)
إِلَى اثْنَيْنِ لِأَنَّ [الْأَرْبَعِينَ [لَوْ كَانَ ظَرْفًا لَكَانَ الْوَعْدُ فِي جَمِيعِهِ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَعْدُودٌ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَظْرُوفِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ وَلَيْسَ الْوَعْدُ وَاقِعًا فِي الْأَرْبَعِينَ بَلْ وَلَا فِي بَعْضِهَا.
ثُمَّ قَدَّرَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ مَحْذُوفًا مُضَافًا إِلَى [الْأَرْبَعِينَ] وَجَعَلُوهُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي فَقَالُوا التَّقْدِيرُ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى انقضاء اربعين أَوْ تَمَامَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ عُدُولِهِمْ عَنْ كَوْنِ [أَرْبَعِينَ] هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ نَفْسُ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا تُوعَدُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى تَعْلِيقِ الْوَعْدِ بابتدائها وتمامها ليترتب على الِانْتِهَاءِ شَيْءٌ.
قُلْتُ: وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَيْسَ أَرْبَعِينَ ظَرْفًا إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَعَدَهُ فِي أَرْبَعِينَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْوَعْدُ فِي كُلٍّ مِنْ أَجْزَائِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ.
وَمِنْهَا: اتَّخَذَ تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ أَوْ لِاثْنَيْنِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدنا} . {واتخذوا من دونه آلهة} . {أم اتخذ مما يخلق بنات} . {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} . ومن الثاني: {اتخذوا أيمانهم جنة} . {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} . {فاتخذتموهم سخريا} وَالثَّانِي مِنَ الْمَفْعُولَيْنِ هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى.(3/174)
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العجل من بعده} وقوله: {باتخاذكم العجل} {اتخذوه وكانوا ظالمين} {إن الذين اتخذوا العجل} ، فَالتَّقْدِيرُ: فِي هَذَا كُلِّهِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا فَحُذِفَ المفعول الثاني.
والدليل على ذلك أنه لوكان عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مَنْ صَاغَ عِجْلًا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ عَمَلَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَعْمَالِ اسْتَحَقَّ الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ ربهم} .
وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ أُولَئِكَ عَبَدُوهُ فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا فِي الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ أَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ اتَّخَذَ فِيهَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى وَاحِدٍ قَالَ وَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُهُ: [وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا] وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي:.
أَلَّا يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَقْصُودًا أَصْلًا وَيُنَزَّلُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ وَذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ وُقُوعِ نَفْسِ الْفِعْلِ فَقَطْ وَجَعْلُ الْمَحْذُوفِ نَسْيًا مَنْسِيًّا كَمَا يُنْسَى الْفَاعِلُ عِنْدَ بناء لفعل فَلَا يُذْكَرُ الْمَفْعُولُ وَلَا يُقَدَّرُ غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمُ الثُّبُوتِ عَقْلًا لِمَوْضُوعِ كُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُدْرَى تَعْيِينُهُ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ مَوْضُوعِ الْكَلَامِ مُقَدَّرًا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا} .(3/175)
وقوله: {كلوا واشربوا} لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَكْلَ مِنْ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ وُقُوعَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ.
وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَسْتَوِي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وَيُسَمَّى الْمَفْعُولُ حِينَئِذٍ مَمَاتًا.
وَلَمَّا كَانَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ هَذَا مِنَ الْمَحْذُوفِ فَإِنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ تَبِعْنَاهُمْ فِي الْعِبَارَةِ نَحْوَ فُلَانٌ يُعْطِي قَاصِدًا أَنَّهُ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ وَتُوجَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ إِيهَامًا لِلْمُبَالَغَةِ بِخِلَافِ مَا يُقْصَدُ فِيهِ تَعْمِيمُ الْفِعْلِ نَحْوَ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَإِنَّهُ أَعَمُّ تَنَاوُلًا مِنْ قَوْلِكَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَيَمْنَعُهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يبصرون} ، وَالْآخَرُ فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لقوم يعقلون} .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُحْيِي ويميت} وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أمة من الناس} إِلَخْ الْآيَةَ حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُولُ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَهُوَ قَوْلُهُ [يَسْقُونَ] وَقَوْلُهُ [تذودان] وقوله: {لا نسقي حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ} مَوَاشِيَهُمْ [فَسَقَى لَهُمَا] غَنَمَهُمَا وقوله: {لنخرجنك يا شعيب} قِيلَ: لَوْ ذُكِرَ الْمَفْعُولُ فِيهَا نَقَصَ الْمَعْنَى والمراد(3/176)
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَأَنَّ إِلَهَهُمْ لَيْسَ لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَدَ قَوْمًا يُعَانُونَ السَّقْيَ وَامْرَأَتَيْنِ تُعَانِيَانِ الذَّوْدَ وَأَخْبَرَتَاهُ أَنَّا لَا نَسْتَطِيعُ السَّقْيَ فَوَجَدَا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا السَّقْيَ وَوَجَدَ مِنْ أَبِيهِمَا مُكَافَأَةً عَلَى السَّقْيِ وَهَذَا مِمَّا حُذِفَ لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَأَنَّ الْقَصْدَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ سَقْيٌ وَمِنَ الْمَرْأَتَيْنِ ذَوْدٌ وَأَنَّهُمَا قَالَتَا لَا يَكُونُ مِنَّا سَقْيٌ حَتَّى يَصْدُرَ الرِّعَاءُ وَأَنَّ مُوسَى سَقَى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا أَنَّ الْمَسْقِيَّ غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ غَيْرُهُ فَخَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: يَذُودَانِ غَنَمَهُمَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ لَمْ يَتَوَجَّهْ مِنْ موسى عَلَى الذَّوْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ ذَوْدُ غَنَمٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَوْدُ إِبِلٍ لَمْ يُنْكِرْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا جَعَلْنَا هَذَا مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي مُوَافَقَةً لِلزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ تُرِكَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنمارحمهما لِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى الذِّيَادِ وَهُمْ عَلَى السَّقْيِ ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيم إِبِلٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمَا: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرعاء} الْمَقْصُودُ مِنْهُ السَّقْيُ لَا الْمَسْقِيُّ.
وَجَعَلَهُ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي مِمَّا حُذِفَ فِيهِ لِلِاخْتِصَارِ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالْأَقْرَبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَرَجَّحَ الجزري قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ فَإِنَّ الْغَنَمَ لَيْسَتْ سَاقِطَةً عَنِ الِاعْتِبَارِ بِالْأَصَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا ضَعْفًا عَنِ الْمُزَاحَمَةِ وَالْمَرْأَتَانِ فِيهِمَا ضَعْفٌ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ضَعْفِ الْمَسْقِيِّ ضَعْفُ السَّاقِي كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلرَّحْمَةِ وَالْإِعَانَةِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} .
وقوله: {وأنه هو أغنى وأقنى} .(3/177)
وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأحيا} .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين} لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الزَّوْجَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْلُقُ كُلَّ ذَكَرٍ وَكُلَّ أُنْثَى وَكَانَ ذِكْرُهُ هُنَا أَبْلَغَ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ ثُبُوتِ الْخَلْقِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ.
وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْلِحْ لِي في ذريتي} لِوُجُودِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ لَفْظًا أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي ذُرِّيَّتِي وَمَعْنَى الدُّعَاءِ بِهِ قَصْرُ الْإِصْلَاحِ لَهُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إِشْعَارًا بِعِنَايَتِهِ بِهِمْ.
وَقَوْلِهِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ عَاقِبَةُ أَمْرِكُمْ لِأَنَّ سِيَاقَ الْقَوْلِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشْيَاءُ:.
مِنْهَا: الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، نَحْوَ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ أَيْ بِالْقِيَامِ وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِمْ وَإِقْدَارِهِمْ.
وَمِنْهَا: الْمُبَالَغَةُ بِتَرْكِ التَّقْيِيدِ، نَحْوَ: {هُوَ يحيي ويميت} وقوله: {فهم لا يبصرون} وَنَفْيُ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ مُتَعَلَّقًا بِهِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْأَوَّلِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَفِي الثَّانِي مُتَعَلَّقُهُ.(3/178)
تَنْبِيهٌ.
قَدْ يُلْحَظُ الْأَمْرَانِ فَيَجُوزُ الِاعْتِبَارَانِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله} أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ مِنْهُ الْوَجْهَيْنِ.
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ: {وجاهدوا في الله} .
حَذْفُ الْحَالِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ من كل باب. سلام عليكم} أَيْ قَائِلِينَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَحْذِفُ الْحَالَ إِذَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ لِدَلَالَةِ مَصْدَرِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فَتَقُولُ قَتَلْتُهُ صَبْرًا وَأَتَيْتُهُ رَكْضًا، قَالَ تَعَالَى: {تزرعون سبع سنين دأبا} فَدَأَبًا يُقَدَّرُ بِالْفِعْلِ تَقْدِيرُهُ [تَدْأَبُونَ] فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ فِي الْحَالِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي الْمَصْدَرُ مَنْصُوبٌ بِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ فَسِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى السَّمَاعِ وَلَا يَقِيسُ وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ يَقِيسَانِ.(3/179)
حذف المنادى.
قوله تعالى: {ألا ياسجدوا} عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ بِتَخْفِيفِ [أَلَا] عَلَى أَنَّهَا تَنْبِيهٌ وَ [يَا] نِدَاءٌ وَالتَّقْدِيرُ أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا لِلَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [يَا] تَنْبِيهًا وَلَا مُنَادَى هُنَاكَ وَجَمَعَ بَيْنَهُنَّ تَأْكِيدًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْطَافِ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْعَاءِ إِقْبَالِهِ عَلَى الْآمِرِ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ فَعَلَى أَنَّ أَنْ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا لَا النَّافِيَةُ وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا منصوب وحذفت النون علامة النصب فالفعل هنامعرب وفي تلك القراءة مبني فاعرفه.
فائدة.
[في حَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ المتكلم] .
كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ نَحْوَ يَا رَبِّ يَا قَوْمِ وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّدَاءَ بَابُ حَذْفٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْذَفُ مِنْهُ التَّنْوِينُ وَبَعْضُ الِاسْمِ لِلتَّرْخِيمِ وَجَاءَ فِيهِ إِثْبَاتُهَا سَاكِنَةً كقراءة من قرأ {يا عبادي فاتقون} ، ومحركة بالفتح كقراءة من قرأ {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} ، وَمُنْقَلِبَةً عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تقول نفس يا حسرتى} .
حَذْفُ الشَّرْطِ.
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصلاة} أَيْ إِنْ قُلْتَ لَهُمْ أَقِيمُوا يُقِيمُوا.(3/180)
وجعل منه الزمخشري: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} .
وَجَعَلَ أَبُو حَيَّانَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قبل إن كنتم مؤمنين} ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ فلم تقتلون؟ وجواب [إِنْ كُنْتُمْ] مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ فَلِمَ فَعَلْتُمْ وَكُرِّرَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مَرَّتَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الشَّرْطُ مِنَ الْأَوَّلِ وَبَقِيَ جَوَابُهُ وَحُذِفَ الْجَوَابُ مِنَ الثَّانِي وَبَقِيَ شَرْطُهُ انْتَهَى.
وَهُوَ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَنْكَرَ قَوْلَهُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ في: {فتاب عليكم} وفي {فانفجرت} ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ لَا يُحْذَفُ فِي غَيْرِ الْأَجْوِبَةِ وَالْآنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُنْكِرِينَ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ إِنْكَارِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم} بِمَعْنَى إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ فَعَدَلَ عَنِ الِافْتِخَارِ بِقَتْلِهِمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْفَاعِلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: {فالله هو الولي} ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَادُوا أَوْلِيَاءً فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ بِالْحَقِّ لَا وَلِيَّ سِوَاهُ.
حَذْفُ جَوَابِ الشَّرْطِ.
قَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ(3/181)
على مثله فآمن واستكبرتم} ، أَيْ أَفْلَسْتُمْ ظَالِمِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقَبَهُ: {إِنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين} وَقَدَّرَهُ الْبَغْوِيُّ: مَنِ الْمُحِقُّ مِنَّا وَمَنِ الْمُبْطِلُ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَمِنْ حَذْفِ جَوَابِ الْفِعْلِ: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فدمرناهم} ، تَقْدِيرُهُ: [فَذَهَبَا إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ] ، وَالْفَاءُ الْعَاطِفَةُ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِالْفَاءِ الْفَصِيحَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ: وَانْظُرْ إِلَى الْفَاءِ الْفَصِيحَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فتاب عليكم} كَيْفَ أَفَادَتْ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: {اضْرِبُوهُ ببعضها} ، تَقْدِيرُهُ: فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي فضلنا على كثير} ، تَقْدِيرُهُ: فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ وَعَرِفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا وَعَمَّا قَالَاهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ تَعْرِيضًا لِاسْتِثَارَةِ الْحَمْدِ عَلَى إِيتَاءِ الْعِلْمِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ مِثْلُهُ [قُمْ يَدْعُوكَ] بَدَلُ [قُمْ فَإِنَّهُ يَدْعُوكَ] .(3/182)
حَذْفُ الْأَجْوِبَةِ.
وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي جَوَابِ لَوْ، وَلَوْلَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا على النار} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ ربهم} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملائكة يضربون وجوههم} .
وقوله: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الموت} ، تَقْدِيرُهُ: فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ [لَرَأَيْتَ عَجَبًا] أَوْ [أمرا عظيما] أو [لرأيت سُوءَ مُنْقَلَبِهِمْ] أَوْ [لَرَأَيْتَ سُوءَ حَالِهِمْ] .
وَالسِّرُّ فِي حَذْفِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهَا لَمَّا رُبِطَتْ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى حَتَّى صَارَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهَا فَضْلًا وَطُولًا فَخُفِّفَ بِالْحَذْفِ خُصُوصًا مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ.
قَالُوا: وَحَذْفُ الْجَوَابِ يَقَعُ فِي مَوَاقِعِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ وَإِنَّمَا يُحْذَفُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ السَّامِعَ مَعَ أَقْصَى تَخَيُّلِهِ يَذْهَبُ مِنْهُ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ وَلَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَابِ لَوَقَفَ الذِّهْنُ عِنْدَ الْمُصَرَّحِ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْعُ وَمِنْ ثَمَّ لَا يَحْسُنُ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ مَخْصُوصًا إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالسِّيَاقِ كَمَا قَدَّرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} الْآيَةَ، فَقَالَ: تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ.(3/183)
وَحَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ فِي الْيَاقُوتَةِ عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْآيَةَ مَا سِيقَتْ لِتَفْضِيلِ الْقُرْآنِ بَلْ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذم الكفار بدليل قوله قبلها: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} ، وبعدها: {أفلم ييأس الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى الناس جميعا} فَلَوْ قُدِّرَ الْخَبَرُ [لَمَا آمَنُوا بِهِ] لَكَانَ أَشَدَّ.
وَنَقَلَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ [رُءُوسِ الْمَسَائِلِ] كَوْنَ الْجَوَابِ [كَانَ هَذَا الْقُرْآنَ] عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَفِيهِ مَا ذَكَرْتُ.
وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: لَوْ قَضَيْتُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ الْقُرْآنُ عَلَى الْجِبَالِ إِلَّا سَارَتْ وَرَأَوْا ذَلِكَ لَمَا آمَنُوا.
وَقِيلَ: جَوَابُ [لَوْ] مُقَدَّمٌ مَعْنَاهُ: يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} ، مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَنَفِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ [مَا نَفِدَتْ] هو الجواب مبالغة في نفي النفاد لأنه إذا كان نفي النقاد لَازِمًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا وَالْبَحْرُ مَدَادًا لَكَانَ لُزُومُهَا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أن يضلوك} .(3/184)
فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: ظَاهِرُهُ نَفْيُ وُجُودِ الْهَمِّ مِنْهُمْ بِإِضْلَالِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ فَإِنَّهُمْ هَمُّوا وَرَدُّوا الْقَوْلَ.
وَقِيلَ: قَوْلُهُ: {لَهَمَّتْ} لَيْسَ جَوَابَ [لَوْ] بَلْ هُوَ كَلَامٌ تَقَدَّمَ عَلَى [لَوْ] وَجَوَابُهَا مَقُولٌ عَلَى طَرِيقِ الْقَسَمِ وَجَوَابُ [لَوْ] مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ لَأَضَلُّوكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى برهان ربه} ، أَيْ هَمَّتْ بِمُخَالَطَتِهِ وَجَوَابُ [لَوْلَا] مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَخَالَطَهَا.
وَقِيلَ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، والوقف على هذا {ولقد همت به} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَهِمَّ بِهَا.
ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَالْأَوَّلُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ.
وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ جَوَابِ [لَوْ] عَلَيْهَا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ وَلِلشَّرْطِ صَدْرُ الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لمهتدون} جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِنَّا لَمُهْتَدُونَ} أَيْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهْتَدَيْنَا.
وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّرْطُ هُنَا بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ دَلِيلُ الْجَوَابِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الشَّرْطِ وَالَّذِي حَسَّنَ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ عَلَيْهِ الِاهْتِمَامُ بِتَعْلِيقِ الْهِدَايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يكفون عن وجوههم النار} تَقْدِيرُهُ: لَمَا اسْتَعْجَلُوا فَقَالُوا مَتَى هَذَا الْوَعْدُ.(3/185)
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ [لَعَلِمُوا صِدْقَ الْوَعْدِ] لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ وَجَعَلَ اللَّهُ السَّاعَةَ موعدهم فقال تعالى: {بل تأتيهم بغتة} .
وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: [لَمَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَلَنَدِمُوا أو تابوا] .
وقوله فِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تَقْدِيرُهُ لَمَا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} .
وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: لَشَغَلَكُمْ ذَلِكَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ.
وَقِيلَ: لَرَجَعْتُمْ عَنْ كُفْرِكُمْ أَوْ لَتَحَقَّقْتُمْ مِصْدَاقَ مَا تُحَذَّرُونَهُ.
وَقَوْلُهُ: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا} أي لا يتبعونهم.
وقوله: {قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تعلمون} ، تَقْدِيرُهُ: [لَآمَنْتُمْ] أَوْ [لَمَا كَفَرْتُمْ] أَوْ [لَزَهِدْتُمْ فِي الدُّنْيَا] أَوْ [لَتَأَهَّبْتُمْ لِلِقَائِنَا] .
وَنَحْوُهُ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} ، أَيْ يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا لَمَا رَأَوُا الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ لَمَا اتَّبَعُوهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى ركن شديد} ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَعْنَاهُ لَوْ أَنَّ لِي قُوَّةً لَحُلْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} أَيْ رَأَيْتَ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ عِبْرَةً عَظِيمَةً.(3/186)
وقوله عَقِبَ آيَةَ اللِّعَانِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تواب حكيم} ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمَعْنَى وَكُلُّ مَا عُلِمَ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَكْتَفِي بِتَرْكِ جَوَابِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَشْتُمُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ الْمَشْتُومُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَبُوكَ.. فَيُعْلَمُ أَنَّكَ تُرِيدُ: لَشَتَمْتُكَ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: لَهَلَكْتُمْ أَوْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَاقِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَصْلُحْ أَمْرُكُمْ وَنَحْوُهُ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُوجِعِ فَحُذِفَ لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَنَالَ الْكَاذِبَ مِنْكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَهَذَا أَجْوَدُ مِمَّا قَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ.
وَكَذَلِكَ [لَوْلَا] الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رحيم} ، جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْأُولَى لَافْتَضَحَ فَاعِلُ ذَلِكَ وَفِي الثَّانِيَةِ: لَعَجَّلَ عَذَابَ فَاعِلِ ذَلِكَ وَسَوَّغَ الْحَذْفَ طُولُ الْكَلَامِ بِالْمَعْطُوفِ وَالطُّولُ دَاعٍ لِلْحَذْفِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلينا رسولا فنتبع آياتك} جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْلَا احْتِجَاجُهُمْ بِتَرْكِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَقْدِيرُهُ: لَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَمُوَاتَرَةِ الِاحْتِجَاجِ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي به لولا أن ربطنا على قلبها} أي لأبدت.(3/187)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رحمة ربي} ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ تُمَلَّكُونَ، [تَمْلِكُونَ] فَأَضْمَرَ [تُمَلَّكُ] الْأُولَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَأُبْدِلَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ الَّذِي هُوَ [الْوَاوُ] ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ وَهُوَ [أَنْتُمْ] لِسُقُوطِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَـ[أنتم] فاعل الفعل المضمر [وتملكون] تَفْسِيرُهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ فَأَمَّا مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ الْبَيَانِ فَهُوَ أَنَّ [أَنْتُمْ] تَمْلِكُونَ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالشُّحِّ الْمُتَتَابِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا سَقَطَ لِأَجْلِ الْمُفَسَّرِ بَرَزَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ.
وَمِنْ حَذْفِ الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، أَيْ أَعْرَضُوا؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {إِلَّا كَانُوا عنها معرضين} وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْحِجْرِ: {فَقَالُوا سلاما قال إنا منكم وجلون} وفي غيرها من السور: {قالوا سلاما} {قال سلام} قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْأُولَى فَاكْتَفَى بِمَا فِي هَذِهِ وَلَوْ ثَبَتَ تَعَدُّدُ الْوَقَائِعِ لَنَزَلَتْ عَلَى وَاقِعَتَيْنِ.(3/188)
وكقوله تعالى: {إذا السماء انشقت} قال الزمخشري حَذْفِ الْجَوَابِ وَتَقْدِيرُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي سُورَتَيِ التكوير والانفطار وهو قوله: {علمت نفس} .
وقال في: {والسماء ذات الْبُرُوجِ} : الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ يَدُلُّ عليه قوله: {قتل أصحاب الأخدود} .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أَيْ [حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا] والواو واو وحال وَفِي هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالَوَيْهِ فِي مَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فَسُئِلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جاءوها وفتحت أبوابها} ، فِي النَّارِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي الْجَنَّةِ بِالْوَاوِ! فَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: هَذِهِ الْوَاوُ تُسَمَّى وَاوَ الثَّمَانِيَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْطِفُ الثَّمَانِيَةَ إِلَّا بِالْوَاوِ قَالَ: فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ وَقَالَ أَحَقٌّ هَذَا فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا أَقُولُ كَمَا قَالَ إِنَّمَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا مُغْلَقَةٌ وَكَانَ مَجِيئُهُمْ شَرْطًا فِي فَتْحِهَا فَقَوْلُهُ: {فُتِحَتْ} فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفُتِحَتْ} فِي الْجَنَّةِ فَهَذِهِ وَاوُ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ جَاءُوهَا وَهِيَ مُفَتَّحَةُ الْأَبْوَابِ أَوْ هَذِهِ حَالُهَا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ هُوَ الصَّوَابُ وَيَشْهَدُ لَهُ أَمْرَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ مُطَّرِدَةٌ شَاهِدَةٌ فِي إِهَانَةِ الْمُعَذَّبِينَ بِالسُّجُونِ مِنْ إِغْلَاقِهَا حَتَّى يَرِدُوا عَلَيْهَا وَإِكْرَامُ الْمُنَعَّمِينَ بِإِعْدَادِ فَتْحِ الْأَبْوَابِ لَهُمْ مُبَادَرَةً وَاهْتِمَامًا.(3/189)
وَالثَّانِي: النَّظِيرُ فِي قَوْلِهِ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لهم الأبواب} .
وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ: [فُتِحَتْ] وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْوَاوَ مَعَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: [وَفُتِحَتْ] كَأَنَّهُ قَالَ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا [جَاءُوهَا] وَفُتِحَتْ} قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: وَفِي هَذَا حَذْفُ الْمَعْطُوفِ وَإِبْقَاءُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ آخِرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْفَرَاغِ استقروا أو خلدوا أواستووا مِمَّا يَقْتَضِهِ الْمَقَامُ وَلَيْسَ فِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِذَا جَاءُوهَا أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا الْمَجِيءُ لَيْسَ سَبَبًا مُبَاشِرًا لِلْفَتْحِ بَلِ الْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ، أَيْ رَحِمَهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَحْسَنُ مِنَ الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ [ثُمَّ] .
وَحَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِبْقَاءُ الْمَعْطُوفِ سَائِغٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فدمرناهم تدميرا} ، التَّقْدِيرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَذَهَبَا فَبَلَّغَا فَكُذِّبَا فَدَمَّرْنَاهُمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ.
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عليكم} ، أَيْ فَامْتَثَلْتُمْ أَوْ فَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ.(3/190)
وقوله: {فلما أسلما وتله للجبين} أَيْ رُحِمَا وَسَعِدَا وَتَلَّهُ وَابْنُ عَطِيَّةَ يَجْعَلُ التَّقْدِيرَ فَلَمَّا أَسْلَمَا أُسْلِمَا وَهُوَ مُشْكِلٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كفروا يا ويلنا} ، الْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا كَانَ ذَلِكَ نَدِمَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ لِأَنَّهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَشْرَاطِ.
وَقَدْ يَجِيءُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ وَيُحْذَفُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا اكْتِفَاءً بِالْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فِي الِاعْتِرَاضِ بِهِ مَجْرَى الظَّرْفِ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ جَرَى مَجْرَى الْجُزْءِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ جُمْلَةً لَمَا جَازَ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ [أَمَّا] وَجَوَابِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ جَوَابٌ لَهُمَا.
وَنَظِيرُهُ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أن تطأوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الذين كفروا منهم} فقوله: [لعذبنا] جواب للولا ولو جَمِيعًا.
وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الجواب [لأما] وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ جَوَابِ [إِنَّ] لِأَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَوَالِيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أن يغويكم} وَنَظَائِرِهِ.
فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ الشَّرْطَيْنِ [أَمَّا [كَانَتْ أَحَقَّ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَوَابَهَا إِذَا انْفَرَدَتْ لَا يُحْذَفُ أَصْلًا وَجَوَابُ غَيْرِهَا إِذَا انْفَرَدَ يُحْذَفُ كَثِيرًا لِدَلِيلٍ وَحَذْفُ مَا عُهِدَ حَذْفُهُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ مَا لَمْ يُعْهَدْ.(3/191)
وَالثَّانِي: أَنَّ أَمَّا قَدِ الْتُزِمَ مَعَهَا حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَقَامَتْ هِيَ مَقَامَهُ فَلَوْ حُذِفَ جوابها لكان ذلك إجحافا وإن ليس كَذَلِكَ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِي الآية الكريمة وإما الشَّرْطُ الثَّانِي وَجَوَابُهُ جَوَابُ الْأَوَّلِ وَالْمَحْذُوفُ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ الْفَاءَيْنِ.
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {قل اللهم مالك الملك} الْآيَةَ. إِنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ أَعِزَّنَا وَلَا تُذِلَّنَا.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مصيبة بما قدمت أيديهم} ، تَقْدِيرُهُ: [فَكَيْفَ تَجِدُونَهُمْ مَسْرُورِينَ أَوْ مَحْزُونِينَ] فَـ "كَيْفَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ وَهَذَا الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ قَدْ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ إِذَا.
حَذْفُ جَوَابِ الْقَسَمِ.
لِعِلْمِ السَّامِعِ الْمُرَادَ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ ترجف الراجفة} ، تَقْدِيرُهُ: لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحَاسَبُنَّ بِدَلِيلِ إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ فِي قولهم: {أإنا لمردودون في الحافرة} .
وَقِيلَ: الْقَسَمُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذلك لعبرة لمن يخشى} .
وكقوله تعالى: {لن نؤثرك} وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ.(3/192)
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فِي: {ص وَالْقُرْآنِ ذي الذكر} فَقَالَ الزَّجَّاجُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ تَأَخَّرَ كَثِيرًا وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا قِصَصٌ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ في العربية.
وقيل: {كم أهلكنا} وَمَعْنَاهُ: لَكَمْ أَهْلَكْنَا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَحُذِفَتِ اللَّامُ لِطُولِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: {إِنْ كُلٌّ إلا كذب الرسل} وَالْمُعْتَرِضُ بَيْنَهُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَعَنْ قَتَادَةَ: {بَلِ الذين كفروا في عزة وشقاق} ، مثل: {ق والقرآن المجيد بل عجبوا} .
وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي هَذَا الْقَوْلِ: مَعْنَى "بَلْ" تَوْكِيدُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ فَصَارَ مِثْلَ أَنَّ الشَّدِيدَةِ تُثْبِتُ مَا بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنًى آخَرَ فِي نَفْيِ خَبَرٍ مُتَقَدِّمٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ: إِنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: إِنَّ "بَلْ" تَقَعُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ كَمَا تَقَعُ "إِنَّ" لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَوْكِيدُ الْخَبَرِ وذلك في {ص والقرآن} الآية. وفي: {ق والقرآن} الْآيَةَ. وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى "إِنَّ" لِأَنَّهُ سَائِغٌ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَكُونَ "بَلْ" جَوَابًا لِلْقَسَمِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً رَفْعَ خَبَرٍ وَإِتْيَانَ خَبَرٍ بَعْدَهُ كَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ سَائِرِ التَّوْكِيدَاتِ فَحَسُنَ وَضْعُهَا موضع "إن".(3/193)
وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ أَوِ الْحَقُّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انشقت} جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَيَوْمَئِذٍ يُلَاقِي حِسَابَهُ.
وَعَنْ قتادة أن جوابه: {وأذنت لربها وحقت} يَعْنِي أَنَّ الْوَاوَ فِيهَا بِمَعْنَى السُّقُوطِ كَقَوْلِهِ تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه} ، أَيْ نَادَيْنَاهُ.
حَذْفُ الْجُمْلَةِ.
هِيَ أَقْسَامٌ: قِسْمٌ هِيَ مُسَبَّبَةٌ عَنِ الْمَذْكُورِ وَقِسْمٌ هِيَ سَبَبٌ لَهُ وَقِسْمٌ خَارِجٌ عَنْهَا، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ليحق الحق ويبطل الباطل} فَإِنَّ اللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ يَكُونُ سَبَبًا عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ فِي الظَّاهِرِ وَجَبَ تَقْدِيرُهُ ضَرُورَةً فَيُقَدَّرُ: فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْفَجَرَتْ منه اثنتا عشرة عينا} ، فَإِنَّ الْفَاءَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مُسَبَّبٍ عَنْ شَيْءٍ وَلَا مُسَبَّبَ إِلَّا لَهُ سَبَبٌ فَإِذَا وُجِدَ الْمُسَبَّبُ - وَلَا سَبَبَ لَهُ ظَاهِرًا - أَوْجَبَ أَنْ يُقَدَّرَ ضَرُورَةً فَيُقَدَّرَ: فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَ.
والثالث: كقوله تعالى: {فنعم الماهدون} أَيْ نَحْنُ هُمْ أَوْ هُمْ نَحْنُ.
وَقَدْ يكون المحذوف أكثر من جملةكقوله تعالى: {فأرسلون يُوسُفَ} الْآيَةَ. فَإِنَّ التَّقْدِيرَ:" فَأَرْسِلُونِ إِلَى يُوسُفَ لِأَسْتَعْبِرَهُ الرُّؤْيَا فَأَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ فَجَاءَ فَقَالَ له:.(3/194)
يَا يُوسُفُ" وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْكُلَّ محذوف لأن قوله: {أرسلون} يَدُلُّ لَا مَحَالَةَ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ "إِلَى يُوسُفَ" مَحْذُوفٌ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْإِرْسَالَ إِلَى يُوسُفَ عِنْدَ الْعَجْزِ الْحَاصِلِ لِلْمُعَبِّرِينَ عَنْ تَعْبِيرِ رُؤْيَا الْمَلِكِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ اسْتِعْبَارُهُ الرُّؤْيَا الَّتِي عَجَزُوا عَنْ تَعْبِيرِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} الآية، فأعقب بقوله حكاية عنها: {قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم} ، تَقْدِيرُهُ: فَأَخَذَ الْكِتَابَ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ فَرَأَتْهُ بِلْقِيسُ وقرأته و {قالت يا أيها الملأ} .
وقوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} حَذْفٌ يَطُولُ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى وَنَشَأَ وَتَرَعْرَعَ قُلْنَا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مُوسَى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى قال يا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أفعصيت أمري} .
وقوله: {فلما رآه مستقرا عنده} إلى قوله: {نكروا لها عرشها} .
وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} أَيْ كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ تُرِكَ عَلَى ظُلْمِهِ وَكُفْرِهِ وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} .
وَمِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} قِيلَ: الْمَعْنَى جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ وَبَاقِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وقوله: {يحب أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} ، قال(3/195)
الْفَارِسِيُّ: الْمَعْنَى فَكَمَا كَرِهْتُمُوهُ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ:" وَاتَّقُوا الله" عطف على قوله:" فاكرهوا" إن لَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فانفجرت" أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ فَقَوْلُهُ:" كَرِهْتُمُوهُ" كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ معنى الجواب لأن قوله:" أيحب أحدكم" كَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَابِهِ لَا، فَقَالَ: فَكَرِهْتُمُوهُ أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمُوهُ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ.
قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَهَذَا التَّقْدِيرُ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ مَوْصُولًا وَهُوَ "مَا" الْمَصْدَرِيَّةُ وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ فَهَذَا كَرِهْتُمُوهُ وَالْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ الْمَحْذُوفَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا أَمْرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى فَهَذَا كَرِهْتُمُوهُ وَالْغِيبَةُ مِثْلُهُ وَإِنَّمَا قَدَّرَهَا أَمْرِيَّةً لِيَعْطِفَ عَلَيْهَا الْجُمْلَةَ الْأَمْرِيَّةَ فِي قَوْلِهِ:" وَاتَّقُوا اللَّهَ".
حَذْفُ الْقَوْلِ.
قَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَتَّى إِنَّهُ فِي الْإِضْمَارِ بِمَنْزِلَةِ الْإِظْهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، أَيْ يَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِلْقُرْبَةِ.
وَمِنْهُ: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا} أي وقلنا كلوا أو قائلين.
وقوله: {علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا} أَيْ قُلْنَا.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خذوا} أَيْ وَقُلْنَا خُذُوا.(3/196)
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا من مقام إبراهيم مصلى} أَيْ وَقُلْنَا: اتَّخِذُوا.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد من البيت وإسماعيل ربنا} أَيْ يَقُولَانِ: رَبَّنَا وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ.
{فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ لِأَنَّ أَمَّا لَا بُدَّ لَهَا فِي الْخَبَرِ مِنْ فَاءٍ فَلَمَّا أُضْمِرَ الْقَوْلُ أُضْمِرَ الْفَاءُ.
وَقَوْلُهُ: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أتراب هذا ما توعدون} يُقَالُ لَهُمْ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ من كل باب سلام عليكم} أي يقولون سلام.
وقوله: {تتلقاهم الملائكة} أي يقولون لهم ذلك.
وقوله: {الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم} أَيْ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إنا لمغرمون} أَيْ يَقُولُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أَيْ مُعَذَّبُونَ وَتَفَكَّهُونَ: تَنْدَمُونَ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا} أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا(3/197)
وقوله: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} أَيْ قَالُوا قَالَ الْحَقَّ.
حَذْفُ الْفِعْلِ.
وَيَنْقَسِمُ إلى عام وخاص:.
الخاص
فَالْخَاصُّ نَحْوُ: أَعْنِي مُضْمَرًا وَيَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ بِهِ فِي الْمَدْحِ نَحْوُ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ، وقوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} أَيْ أَمْدَحُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَنْعُوتُ متعينا لم يجز تقديره ناصب نعته بأعنى نَحْوُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ بَلِ الْمُقَدَّرُ فِيهِ وَفِي نَحْوِهِ أَذْكُرُ أَوْ أَمْدَحُ فَاعْرِفْ ذَلِكَ وَالذَّمُّ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَالْأَخْفَشُ يَنْصِبُ فِي الْمَدْحِ بأمدح وفي الذم بأذم.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الْمَادِحِ إِبَانَةُ الْمَمْدُوحِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِبَانَةِ إِعْرَابِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِيَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَمْدَحُ وَالرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى "هُوَ" وَلَا يَظْهَرَانِ لِئَلَّا يَصِيرَا بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ.
وَالَّذِي لَا مَدْحَ فِيهِ فَاخْتِزَالُ الْعَامِلِ فِيهِ وَاجِبٌ كَاخْتِزَالِهِ فِي وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ إِذْ لَوْ قِيلَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَكَانَ عِدَةً لَا قَسَمًا.(3/198)
العام.
وَالْعَامُّ كُلُّ مَنْصُوبٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى أَوْ تَقْدِيرًا وَيُحْذَفُ لِأَسْبَابٍ:.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انشقت} ، {وإياي فارهبون} .
ومنه: {أبشرا منا واحدا نتبعه} {والسماء رفعها} {إذا الشمس كورت} {وإن أحد من المشركين استجارك} {وإن طائفتان} فإنه ارتفع "باقتتل" مُقَدَّرًا.
قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفِعْلِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الْعَامِلَةِ سِوَى "إِنْ" لِأَنَّهَا الْأَصْلُ.
وَجَعَلَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ هَذَا مِمَّا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَذْفِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمُفَسِّرَ كَالْمُتَسَلِّطِ عَلَى الْمَذْكُورِ وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ إِبْهَامٍ وَلَقَدْ يَزِيدُهُ الْإِضْمَارُ إِبْهَامًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُضْمَرُ مِنْ جِنْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ نَحْوَ: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَرْفُ جَرٍّ نحو: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنه يفيد.(3/199)
أَنَّ الْمُرَادَ: بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَيُّ فِعْلٍ كَانَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النُّحَاةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ بَعْضُ جُمْلَةٍ وَاخْتَلَفُوا.
فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةٌ أَيِ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةٌ وَتَابَعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ فِعْلِيَّةً وَلَكِنْ خَالَفَهُمْ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْفِعْلَ مُقَدَّمًا وَهُوَ يُقَدِّرُهُ مُؤَخَّرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَهُ فِعْلَ الْبِدَايَةِ وَهُوَ يُقَدِّرُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسْبِهِ فَإِذَا قَالَ الذَّابِحُ: بِسْمِ اللَّهِ كَانَ التَّقْدِيرُ: بِسْمِ اللَّهِ أَذْبَحُ وَإِذَا قَالَ القارىء: بِسْمِ اللَّهِ فَالتَّقْدِيرُ: بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ.
وَمَا قَالَ أَجْوَدُ مِمَّا قَالُوا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُنَاسَبَةِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهَا وَلِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ أَهَمُّ مِنَ الْفِعْلِ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ "، جَنْبِي فَقَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ على الفعل المتعلق ثم الْجَارُّ وَهُوَ "وَضَعْتُ".
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ وَقَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا ليقولن الله} وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قل بل ملة إبراهيم} أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ.(3/200)
أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَقِرَاءَةِ: {يُسَبِّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال رجال} ببناء الفعل للمفعول فإن التقدير: يسبحه رِجَالٌ.
وَفِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: الْإِخْبَارُ بِالْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ. وَمِنْهَا جَعْلُ الْفَضْلَةِ عُمْدَةً.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَاعِلَ فُسِّرَ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُ كَضَالَّةٍ وَجَدَهَا بَعْدَ اليأس، ويصح أن يكون "يسبح" بدل مِنْ "يُذْكَرُ"عَلَى طَرِيقَةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَ"لَهُ فِيهَا" خَبَرُ مُبْتَدَأٍ هُوَ "رِجَالٌ".
مِثْلُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الْمَعْنَى زَيَّنَهُ شُرَكَاؤُهُمْ فَيُرْفَعُ الشُّرَكَاءُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ "زُيِّنَ".
وَمِثْلُهُ قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ "لِلَّهِ شُرَكَاءَ" مَفْعُولَيْ "جَعَلُوا" لأن لله في موضع الخبر المنسوخ وشركاء نَصْبٌ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ وَعَلَى هَذَا فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ سُؤَالٌ مُقَدَّرٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قِيلَ جَعَلُوا الْجِنَّ فَيُفِيدُ الْكَلَامُ إِنْكَارَ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا فَدَخَلَ اعْتِقَادُ الشَّرِيكِ مِنْ غَيْرِ الْجِنِّ فِي إِنْكَارِ دُخُولِ اتِّخَاذِهِ مِنَ الْجِنِّ.
وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْجِنَّ بَدَلٌ مِنْ "شُرَكَاءَ" فَيُفِيدُ إِنْكَارَ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ وَإِنْ جُعِلَ "لِلَّهِ" صِلَةً كَانَ "شُرَكَاءَ الْجِنَّ" مَفْعُولَيْنِ قُدِّمَ ثَانِيهِمَا عَلَى أَوَّلِهِمَا وَعَلَى هَذَا فَلَا حَذْفَ.
فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فقيل: {وجعلوا لله شركاء الجن} وَلَمْ يَقُلْ: "وَجَعَلُوا.(3/201)
الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ" تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ شَأْنَ اللَّهِ أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ فَإِذَا قُدِّمَ "لِلَّهِ" وَالْكَلَامُ فِيهِ يَسْتَدْعِي طَلَبَ الْمَجْعُولِ لَهُ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: شُرَكَاءُ وَقَعَ فِي غَايَةِ التَّشْنِيعِ لِأَنَّ النَّفْسَ مُنْتَظِرَةٌ لِهَذَا الْمُهِمِّ الْمُعَلَّقِ بِهَذَا الْمُعَظَّمِ نِهَايَةَ التَّعْظِيمِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ عُلِّقَ بِهِ هَذَا الْمُسْتَبْشَعُ فِي النِّهَايَةِ كَانَ أَعْظَمَ مَوْقِعًا مِنَ الْعَكْسِ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: وَجَعَلُوا شُرَكَاءَ لَمْ يُعْطِهِ تَشَوُّفَ النُّفُوسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ: جَعَلُوا شُرَكَاءَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَصَدَقَاتِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْجَعْلَ غَالِبًا لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَيُخْبَرُ بِهِ إِلَّا وَهُوَ جَعْلٌ مُسْتَقْبَحٌ كَاذِبٌ إِذْ لَا يُسْتَعْمَلُ جَعَلَ اللَّهُ رَحْمَةً وَمَشِيئَةً وَعِلْمًا وَنَحْوَهُ لَا سِيَّمَا بِالِاسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِيِّ كَـ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} {ويجعلون لله ما يكرهون} إلى غير ذلك.
الرابع: أن أصل الجعل وإن جاز وإسناده إِلَى اللَّهِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَائِقًا فَإِنَّ بَابَهُ مَهُولٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَنَا عَظِيمَ خَطَرِهِ وَأَلَّا نَقُولَ فِيهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَدَبُ عَقْلًا وَكَانَ نَفْسُ الْجَعْلِ مُسْتَنْكَرًا إِنْ لَمْ يُتْبَعْ بِمَجْعُولٍ لَائِقٍ فَإِذَا أُتْبِعَ بِمَجْعُولٍ غَيْرِ لَائِقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ فُسِّرَ بِخَاصٍّ مُسْتَنْكَرٍ صار قوله: {وجعلوا لله شركاء الجن} فِي قُوَّةِ إِنْكَارِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْأَوَّلُ جَسَارَتُهُمْ فِي أَصْلِ الْجَعْلِ الثَّانِي فِي كَوْنِ الْمَجْعُولِ شُرَكَاءَ الثَّالِثُ فِي أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ جِنٍّ.
الْخَامِسُ: أَنَّ فِي تَقْدِيمِ "لِلَّهِ" إِفَادَةَ تَخْصِيصِهِمْ إِيَّاهُ بِالشَّرِكَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ دُونَ جَمِيعِ مَا يَعْبُدُونَ لِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ جِيءَ بِكَلِمَةِ "جَعَلُوا" لَا "اعْتَقَدُوا" وَلَا "قَالُوا" لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُعْتَقَدِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَلْقِ وَالْإِبْدَاعِ.(3/202)
السَّابِعُ: كَلِمَةُ "شُرَكَاءَ" وَلَمْ يَقُلْ: شَرِيكًا، وِفَاقًا لِمَزِيدِ مَا فَتَحُوا مِنِ اعْتِقَادِهِمْ.
الثَّامِنُ: لَمْ يَقُلْ "جِنًّا" وَإِنَّمَا قَالَ: الْجِنَّ، دَلَالَةً عَلَى أنهم اتخذوا الجن كلها جعلوه مِنْ حَيْثُ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَهُوَ أَقْبَحُ مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي وَضَعَهُ لِلْمُفْرَدَاتِ الْمَعْدُولَةِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {انتهوا خيرا لكم} أَيْ وَائْتُوا أَمْرًا خَيْرًا لَكُمْ فَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ "خَيْرًا" انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ ائْتِ لِأَنَّهُ لَمَّا نهاء عَلِمَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ:" وَائْتُوا خَيْرًا" لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَلِأَنَّ النَّهْيَ تَكْلِيفٌ وَتَكْلِيفُ الْعَدَمِ مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْدُورًا فَثَبَتَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ التَّكْلِيفِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُنَافِي الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ الضِّدُّ.
وَحَمَلَهُ الْكِسَائِيُّ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ يَكُنِ الِانْتِهَاءُ خَيْرًا لَكُمْ وَيَمْنَعُهُ إِضْمَارُ كَانَ وَلَا تُضْمَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِذْ مَنْ تَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ وَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ "خَيْرًا".
وَحَمَلَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيِ انْتَهُوا انْتِهَاءً خَيْرًا لَكُمْ وَقَالَ إِنَّ هَذَا الْحَذْفَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا فِيمَا كَانَ أَفْعَلَ نَحْوَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَفْعَلُ.
وَرُدَّ مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا} لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا قَالَا لَا يَكُونُ خَيْرًا لَأَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ التَّثْلِيثِ وَكَانَ مُعَطِّلًا لَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُ. وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: وأنت خَيْرًا يَكُونُ أَمْرًا بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَلِلَّهِ دَرُّ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ مَا أَطْلَعَهُمَا عَلَى المعاني!.(3/203)
وقوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} إِنْ لَمْ يَجْعَلْ مَفْعُولًا مَعَهُ أَيْ وَادْعُوا شركاءكم وبإظهار "ادعوا" قرأ وَكَذَلِكَ هُوَ مُثْبَتٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وقوله تعالى: {فراغ عليهم ضربا باليمين} ، قال ابن الشجري: معناه مال عليهم بضربهم ضَرْبًا. وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ نَحْوَ أَتَيْتُهُ مَشْيًا أَيْ مَاشِيًا.
{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} أَيْ سَاعِيَاتٍ. وَقَوْلُهُ: "بِالْيَمِينِ" إِمَّا الْيَدُ أَوِ الْقُوَّةُ.
وَجَوَّزَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ إِرَادَةَ الْقَسَمِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِلْيَمِينِ الَّتِي حَلَفَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تعالى: {لأكيدن أصنامكم} .
وَزَعَمَ النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا تقسموا طاعة معروفة} ، أَنَّ التَّقْدِيرَ لِيَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ.
وَقَوْلِهِ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر. ففتحنا} قَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ فَنَصَرْنَاهُ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ.
وَقَوْلِهِ: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحر} أَيْ يُكْتَبُ بِذَلِكَ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَا نَفِدَتْ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ.
وَقَوْلِهِ: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ موتوا ثم أحياهم} .
فَقَوْلُهُ:" ثُمَّ أَحْيَاهُمْ "مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَلَا يَصِحُّ.(3/204)
عَطْفُ قَوْلِهِ:" ثُمَّ أَحْيَاهُمْ " عَلَى قَوْلِهِ:" مُوتُوا " لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَاضِي.
وَقَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} أي فاختلفوا فبعث وحذف لدلالة قوله: {ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ.
وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً كُفَّارًا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فَاخْتَلَفُوا وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ.
وَقَوْلِهِ: {أَوَعَجِبْتُمْ أن جاءكم ذكر من ربكم} فَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ.
وَقَوْلِهِ: {قَالَ نعم وإنكم لمن المقربين} ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ سَدَّ مَسَدَّهُ حَرْفُ الإيجاب كأنه قال إيجابا لقولهم: {ن لنا لأجرا} ، نَعَمْ إِنَّ لَكُمْ أَجْرًا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ على سفر} ، أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الْفِطْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَخْذًا مِنَ الظَّاهِرِ.
وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى من رأسه ففدية} ، أَيْ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ.
وَقَوْلِهِ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّقْدِيرُ فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ.(3/205)
فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الموتى} .
وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّيٍّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشهيد} أَنَّ التَّقْدِيرَ فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا جِئْنَا.
السَّادِسُ: أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كقوله: {وإذ قتلتم نفسا} ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ بِإِضْمَارِ "اذْكُرْ" وَلِهَذَا لَمْ يأت لإذ بِجَوَابٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} وَلَيْسَ شَيْءٌ قَبْلَهُ تَرَاهُ نَاصِبًا لِـ"صَالِحًا"، بَلْ عُلِمَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ أَنَّ فيه إضمار" أرسلنا ".
وقوله: {ولسليمان الريح} أَيْ وَسَخَّرْنَا.
وَمِثْلُهُ: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قبل} {وذا النون} .
وَكَذَا: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} ، أَيْ وَاذْكُرْ.
قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى "اذْكُرْ" فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قليل مستضعفون في الأرض} {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} .
وما قاله ظاهر، إلا أن مَفْعُولَ "اذْكُرْ" يَكُونُ مَحْذُوفًا أَيْضًا تَقْدِيرُهُ:" وَاذْكُرُوا أخالكم "وَنَحْوَهُ إِذَا كَانَ كَذَا وَذَلِكَ لِيَكُونَ "إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ وَلَوْ لَمْ يفد ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ لَزِمَ وُقُوعُ "إِذْ" مَفْعُولًا بِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُفَارِقُ الظَّرْفِيَّةَ.(3/206)
السَّابِعُ: الْمُشَاكَلَةُ كَحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي" بِسْمِ اللَّهِ "لِأَنَّهُ مَوْطِنٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهِ سِوَى ذِكْرُ اللَّهِ فَلَوْ ذُكِرَ الْفِعْلُ وَهُوَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ فَاعِلِهِ كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْمَقْصُودِ وَكَانَ فِي حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى لِيَكُونَ الْمَبْدُوءُ بِهِ اسْمَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَمَعْنَاهُ:" مِنْ كُلِّ شَيْءٍ "وَلَكِنْ لَا تَقُولُ هَذَا الْمُقَدَّرَ لِيَكُونَ اللَّفْظُ فِي اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَقْصُودِ الْجَنَانِ وَهُوَ أن يكون في القلب ذكر الله وَحْدَهُ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْحَذْفَ أَعَمُّ مِنَ الذِّكْرِ فَإِنَّ أَيَّ فِعْلٍ ذَكَرْتَهُ كَانَ الْمَحْذُوفُ أَعَمَّ مِنْهُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْرَعُ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَصْدَرِهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فضرب الرقاب} وقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} أَيْ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَصْبِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما} وَفِي الذَّارِيَاتِ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما} وَفِي نَصْبِهَا وَجْهَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْقَوْلِ أَيْ يَذْكُرُونَ قَوْلًا سَلَامًا فَيَكُونَ مِنْ قُلْتُ حَقًّا وَصِدْقًا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَقَالُوا سَلَّمْنَا سَلَامًا أَيْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا فَيَكُونَ قَدْ حَكَى الْجُمْلَةَ بَعْدَ الْقَوْلِ ثُمَّ حَذَفَهَا وَاكْتَفَى بِبَعْضِهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ هل هو منصوب بالقول أو بكونه مصدر لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؟.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} .(3/207)
منصوب "بقالوا" كَقَوْلِكَ فَقُلْتُ حَقًّا أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ قَالُوا: أَنْزَلَ خَيْرًا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ وَتَبْقِيَةِ بَعْضِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أساطير الأولين} فَمَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَصْبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ قَالُوا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا ذَلِكَ وَلَا هُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ قُلْتُ حَقًّا وَصِدْقًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا رَفْعُهُ.
تَنْبِيهٌ:.
قَدْ يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِي أَمْرِ الْمَحْذُوفِ وَعَدَمِهِ لِعَدَمِ تَحْصِيلِ مَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فَإِنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى النِّدَاءِ فَلَا يُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ إِنْ كَانَا مُتَفَاوِتَيْنِ أَوْ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ أَيْ سموه الله أو الرحمن.
قد يَشْتَبِهُ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ لِقِيَامِ قَرِينَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تعالى: {بلى قادرين} قدره سيبويه بـ"بلى نجمعها قادرين"، فقادرين حال وحذف الفعل لدلالة: {ألن نجمع} عَلَيْهِ.
وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ " نَحْسَبُ " لِدَلَالَةِ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} أَيْ بَلَى نَحْسَبُنَا قَادِرِينَ.(3/208)
وَتَقْدِيرُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَنَّ بَلَى لَيْسَ جَوَابًا لـ"يحسب" إنما هو جواب لـ"ألن نَجْمَعَ" وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: بَلَى نَقْدِرُ قَادِرِينَ.
وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْفِعْلِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَوَاصِبِ الِاسْمِ وُقُوعُهُ مَوْقِعَ الْفِعْلِ.
تَنْبِيهٌ آخَرُ:.
إِنَّ الْحَذْفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلَّا يُقَامَ شَيْءٌ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ كَمَا سَبَقَ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَامَ مَقَامُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أرسلت به إليكم} ، لَيْسَ الْإِبْلَاغُ هُوَ الْجَوَابَ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَلَا مَلَامَ عَلَيَّ لِأَنِّي قد أَبْلَغْتُكُمْ.
وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ من قبلك} فَلَا تَحْزَنْ وَاصْبِرْ.
وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مضت سنت الأولين} أَيْ يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ.
حَذْفُ الْحَرْفِ.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي" الْمُحْتَسِبِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ: حَذْفُ الْحَرْفِ لَيْسَ يُقَاسُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْفَ نائب عن الفعل بفاعله ألاتراك إِذَا قُلْتَ: مَا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ نَابَتْ مَا عَنْ أَنْفِي كَمَا نَابَتْ إِلَّا عَنْ أَسْتَثْنِي وَكَمَا نَابَتِ الْهَمْزَةُ وَهَلْ عَنْ أَسْتَفْهِمُ وَكَمَا نَابَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ عَنْ أَعْطِفُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَلَوْ ذَهَبْتَ.(3/209)
تَحْذِفُ الْحَرْفَ لَكَانَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا وَاخْتِصَارُ الْمُخْتَصَرِ إجحاف به إلا إِذَا صَحَّ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَقَدْ جَازَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ حَذْفُهُ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
فَمِنْهُ الْوَاوُ تُحْذَفُ لِقَصْدِ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّ فِي إِثْبَاتِهَا مَا يَقْتَضِي تَغَايُرَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فَإِذَا حُذِفَتْ أشعر بأن الكل كالواحد: كقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكبر} تَقْدِيرُهُ: وَلَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يومئذ ناعمة} أَيْ وَوُجُوهٌ.
وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْفَارِسِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} الْآيَةَ. وَقَالَ: تَقْدِيرُهُ: "وَقُلْتَ لَا أَجِدُ" فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "أَتَوْكَ" لِأَنَّ جَوَابَ "إِذَا" قَوْلُهُ: "تَوَلَّوْا".
وَمَنَعَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ وَعَلَى هَذَا فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي" أتوك "، "وقد" قَبْلَهُ مُضْمَرَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حصرت صدورهم} أَيْ إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ تَوَلَّوْا وَعَلَى هَذَا فَلَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ حَالٌ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ: لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَالُوا لِأَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْقَوْمِ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِالْبُكَاءِ عِنْدَ التَّوَلِّي وإنما شرطه عدم الجدة ونزلت في السبعة الذين سمى أبو إِسْحَاقَ وَلَوْ كَانَ جَوَابُ "إِذَا أَتَوْكَ" فِي قوله: {تولوا وأعينهم تفيض} لَكَانَ مَنْ لَمْ تُفِضْ عَيْنَاهُ مِنَ الدَّمْعِ هُوَ الَّذِي حَرِجَ وَأَثِمَ وَمَا رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْهُمْ إِلَّا لِأَنَّ الرَّسُولَ.(3/210)
لَمْ يَجِدْ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ وَإِذَا عَطَفْتَ "قُلْتَ لَا أَجِدُ" عَلَى "أَتَوْكَ" كَانَ الْحَرَجُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُقَالَ: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} فَجَوَابُ إِذَا فِي قَوْلِهِ لَا أَجِدُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ خَبَرٌ وَنَبَأٌ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَفَضِيلَةُ الْبُكَاءِ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ وَرَفْعُ الْحَرَجِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْجِدَةِ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ في قوله تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدا} : آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي مَصَاحِفِ الشَّامِ بِغَيْرِ وَاوٍ - يَعْنِي قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ - لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُلَابِسَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} لِأَنَّ الْقَائِلِينَ:" اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ فَيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْوَاوِ لِالْتِبَاسِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا فِي نحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فيها خالدون} ، وَلَوْ كَانَ وَهُمْ كَانَ حَسَنًا إِلَّا أَنَّ الْتِبَاسَ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى وَارْتِبَاطَهَا بِهَا أَغْنَى عن الواو.
ومثله: {سيقولون ثلاثة رابعهم} وَلَمْ يَقُلْ: وَرَابِعُهُمْ كَمَا قَالَ: {وَثَامِنُهُمْ} وَلَوْ حُذِفَ الْوَاوُ مِنْهَا كَمَا حُذِفَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ بِالْمُلَابَسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا كَانَ حَسَنًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْوَاوِ لِاسْتِئْنَافِ الْجُمْلَةِ وَلَا يُعْطَفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. انْتَهَى.
وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ عِنْدَ حَذْفِ الْوَاوِ يَجُوزُ أَنْ يُلَاحَظَ مَعْنَى الْعَطْفِ وَيُكْتَفَى لِلرَّبْطِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا بِالْمُلَابَسَةِ كَمَا ذَكَرَ. وَيَجُوزُ أَلَّا يُلَاحَظَ ذَلِكَ فَتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً.
قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ: وَحَذْفُ الْوَاوِ فِي الْجُمَلِ أَسْهَلُ مِنْهُ فِي الْمُفْرَدِ وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُهَا فِي الْجُمَلِ.(3/211)
فِي الْكَلَامِ الْمَحْمُولِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب} كُلُّهُ مَحْمُولٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَالْوَاوُ مَزِيدَةٌ حُذِفَتْ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمَلِ بِأَنْفُسِهَا بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ وَلِأَنَّهُ فِي الْمُفْرَدِ رُبَّمَا أَوْقَعَ لَبْسًا فِي نَحْوِ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَرَجُلًا عَاقِلًا.، وَلَوْ جَازَ حَذْفُ الْوَاوِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا بَدَلًا بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ} أَيْ وَقَالَ.
وَمِنْهُ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيٍ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} أَيْ فَالْوَصِيَّةُ.
وَالْفَاءُ فِي الْعَطْفِ كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ من الجاهلين} ، تَقْدِيرُهُ: " فَقَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ "ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هودا قال يا قوم اعبدوا الله} حُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ مِنْ قَوْلِهِ:" قَالَ" وَلَمْ يَقُلْ: "فَقَالَ" كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ قَالَ: مَا قَالَ لَهُمْ هُودٌ؟ فَقِيلَ: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله واتقوه.(3/212)
وَمِنْهُ حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} أَيْ أَهَذَا رَبِّي؟.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكَ من سيئة فمن نفسك} أَيْ أَفَمِنْ نَفْسِكَ!.
وَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا علي} أي أو تلك نعمة!.
وقوله: {إنك لأنت يُوسُفَ} عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ.
وَمِنْهُ حَذْفُ أَلِفِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنبياء الله} {فيم أنت من ذكراها} {عم يتساءلون} و {مم خلق} .
وَمِنْهُ حَذْفُ الْيَاءِ فِي: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} لِلتَّخْفِيفِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وَمِنْهُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ، كقوله: {ها أنتم هؤلاء} أي يا هؤلاء.
وقوله: {يُوسُفَ} أَيْ يَا يُوسُفُ.
وَقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي وهن العظم مني واشتعل الرأس} أَيْ يَا رَبِّ.
وَيَكْثُرُ فِي الْمُضَافِ نَحْوِ: {فاطر السماوات} {ربنا أنزل علينا مائدة} .
وكثر ذلك في نداء الرب سبحانه وَحِكْمَةُ ذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ لِأَنَّ النداء يتشرب معنى الأمر لأن إِذَا قُلْتَ يَا زَيْدُ فَمَعْنَاهُ أَدْعُوكَ يَا زَيْدُ فَحُذِفَتْ يَا مِنْ نِدَاءِ الرَّبِّ لِيَزُولَ معنى الأمر ويتمحص التعظيم والإجلال.(3/213)
وَقَالَ الصَّفَّارُ: يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنَ الْمُنَادَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُنَادَى نَكِرَةً مُقْبَلًا عَلَيْهَا إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِلَّا إِذَا كَانَ اسْمَ إِشَارَةٍ.
وَمِنْهُ حَذْفُ "لَوْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بعض} تَقْدِيرُهُ: لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذا لارتاب المبطلون} مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.
وَمِنْهُ حَذْفُ "قَدْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} أَيْ وَقَدِ اتَّبَعَكَ لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْحَالِ إِلَّا وَ"قَدْ" مَعَهُ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً.
وَمِثْلُهَا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أمواتا} أَيْ وَقَدْ كُنْتُمْ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صدورهم} قِيلَ مَعْنَاهُ:" قَدْ حَصِرَتْ " بِدَلَالَةِ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ "حَصِرَةً صُدُورُهُمْ". وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْحَالُ مَحْذُوفَةٌ، وَ"حُصِرَتْ صُدُورُهُمْ" صِفَتُهَا أَيْ جَاءُوكُمْ يَوْمًا حُصِرَتْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُحْصَرَ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ لقومهم طريقته قَاتَلَهُمُ اللَّهُ. وَرَدَّهُ أَبُو عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ أَيْ قَاتَلُوا قَوْمَهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُحْصَرَ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ لَكِنْ بِقَوْلِ اللَّهُمَّ أَلْقِ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.
وَمِنْهُ حَذْفُ " أَنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خوفا وطمعا} ، الْمَعْنَى أَنْ يُرِيَكُمْ.(3/214)
وَحَذْفُ "لَا" فِي قَوْلِهِ: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ} أَيْ لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلنَّفْيِ وَمَعْنَاهَا لَا تَبْرَحُ.
قَوْلُهُ: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أن تميد بكم} ، أَيْ لَا تَمِيدُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تبوء بإثمي وإثمك} أي لا تبوء.
وبهذا يَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنَ الْآيَةِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فدية} ، أي لا يطيقونه على قول.
فائدة.
[في حَذْفُ الْجَارِّ ثُمَّ إِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ] .
كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ الْجَارِّ ثُمَّ إِيصَالُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ موسى قومه} أي من قومه.
{ورفع بعضهم درجات} {ولا تعزموا عقدة النكاح} أَيْ عَلَى عُقْدَةِ.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، أَيْ يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَلَا تخافوهم} .
{ويبغونها عوجا} أي يبغون لها.(3/215)
{والقمر قدرناه} أي قدرنا له.
{سنعيدها سيرتها} أي على سيرتها.
فصل.
[فيما حذف في آية وأثبت في أخرى] .
مِنَ الْأَنْوَاعِ مَا حُذِفَ فِي آيَةٍ وَأُثْبِتَ فِي أُخْرَى وَهُوَ قِسْمَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ما حذف منه محمولا على المذكور كالمطلق في الرقبة في كفارة لظهار مُقَيَّدًا بِالْمُؤْمِنَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض} ، قُيِّدَتْ بِالتَّشْبِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ والملائكة} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فَإِنَّ هَذِهِ تَقْتَضِي أَنَّ الْأُولَى عَلَى حَذْفِ مضاف.(3/216)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مُرَادًا. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كثيرة ومنها تأكلون} وَفِي الزُّخْرُفِ: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تأكلون} .
وقوله في الْبَقَرَةِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضل أولئك هم الغافلون} .
وَحِكْمَتُهُ: أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَاطِفُ بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْأَعْرَافِ فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ لِأَنَّ التَّسْجِيلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ وَتَشْبِيهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ وَاحِدٌ فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ مُقَرِّرَةً مَا فِي الْأُولَى فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ كفروا سواء عليهم} وَقَالَ فِي يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لم تنذرهم} مَعَ الْعَاطِفِ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ مَا فِي يس وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى فَاحْتَاجَتْ إِلَى الْعَاطِفِ وَالْجُمْلَةُ هُنَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً فَهِيَ مِنَ الْعَطْفِ بِمَعْزِلٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} فَأَثْبَتَ الْوَاوَ فِي الْأَعْرَافِ وَحَذَفَهَا فِي الْكَهْفِ فقال: {وإن تدعهم إلى الهدى} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي الْأَعْرَافِ خِطَابٌ لجمع وأصله تدعونهم حذفت لِلْجَزْمِ وَالَّتِي فِي الْكَهْفِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ وَعَلَامَةُ الْجَزْمِ فِيهِ سُقُوطُ الْوَاوِ.
وَمِنْهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ المنير} وفي فاطر:.(3/217)
{جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} والفرق أن الأولى حذفت الباء ففيها للاختصار استغناء بالتي قبلها وخرجت عَنِ الْأَصْلِ لِلتَّوْكِيدِ وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَ وَبِأَخِيكَ وَبِأَبِيكَ إِذَا اخْتَصَرْتَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ: {مَا أَنْتَ إِلَّا بشر مثلنا} وفي قصة شعيب: {وما أنت} بِالْوَاوِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأُولَى جَرَى عَلَى انْقِطَاعِ الكلام عند النحويين واستئناف {وما أنت} فَاسْتَغْنَى عَنِ الْوَاوِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَفِي الثَّانِيَةِ جَرَى فِي الْعَطْفِ وَأَنْ يَكُونَ قوله: {وما أنت} معطوفا على {إنما أنت} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يمكرون} وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ: {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْقِصَّةَ لَمَّا طَالَتْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ نَاسَبَ التَّخْفِيفُ بِحَذْفِ النُّونِ بِخِلَافِهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فَإِنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا.
وَقَوْلُهُ فِي البقرة: {فلا تكونن من الممترين} وَفِي آلِ عِمْرَانَ: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْبَقَرَةِ لِلْيَهُودِ وَهُمْ أشد جدالا.
ومنه قوله في الأعراف: {لست بربكم قالوا بلى شهدنا} وفي الأنعام: {يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شهدنا على أنفسنا} .(3/218)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَيَقْتُلُونَ النبيين بغير الحق} 1 وفي سورة آل عمران {بغير حق} وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَهُوَ عَامٌّ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ حَتَّى يَكُونَ عَامًّا وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ جَاءَ عَنْ أُنَاسٍ مَعْهُودِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ يُسْتَبَاحُ بِهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ عِنْدَهُمْ كَانَ مَعْرُوفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} فَالْحَقُّ هُنَا الَّذِي تُقْتَلُ بِهِ الْأَنْفُسُ مَعْهُودٌ مَعْرُوفٌ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
ومنه قوله تعالى في هُودٍ حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون} وَأَمَرَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِقُرَيْشٍ {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تعلمون}
ويمكن أن يقال لما كررت مراجعته لقوم نَاسَبَ اخْتِصَاصَ قِصَّتِهِ بِالِاسْتِئْنَافِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ مُدَّةُ إِنْذَارِهِ لِقَوْمِهِ قَصِيرَةً فَعَقَّبَ عَمَلَهُمْ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى قُرْبِ نُزُولِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِخِلَافِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي قَوْمِهِ فَاسْتَأْنَفَ لَهُمْ ذِكْرَ الْوَعِيدِ
وَلَعَلَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ سَأَلُوهُ السُّؤَالَ الْمُتَقَدِّمَ فَأَجَابَهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ وَالْفَاءُ لَا تَحْسُنُ فِيهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ وَلَا يَحْسُنُ مَعَهُ الْحَذْفُ
وَمِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليم}(3/219)
عذاب أليم} ، إلى أن قال: {يغفر لكم ذنوبكم} ، وَقَالَ فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ من ذنوبكم} ، {يا قومنا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ من ذنوبكم} .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: مَا عَلِمْتُهُ جَاءَ الْخِطَابُ هَكَذَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي خِطَابِ الْكَافِرِينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ وَلِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمِيعَادِ.
وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بِأَنَّ هَذَا التَّبْعِيضَ إِنْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا الجواب وإن لم يحصل كان هذاالكلام فَاسِدًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ: وَيُقَالُ: مَا فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي الْخِطَابِ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ؟ إِذِ الْكَافِرُ إِذَا آمَنَ وَالْمُؤْمِنُ إِذَا تَابَ مُشْتَرِكَانِ فِي الْغُفْرَانِ وَمَا تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب منالكافر إِذَا هُوَ آمَنَ مَوْجُودٌ فِي الْمُؤْمِنِ إِذَا تَابَ.
وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي آخر الكتاب.
الْإِيجَازُ.
وَهُوَ قِسْمٌ مِنَ الْحَذْفِ وَيُسَمَّى إِيجَازَ الْقَصْرِ فَإِنَّ الْإِيجَازَ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ وَجِيزٌ بِلَفْظٍ ووجيز بحذف.(3/220)
فَالْوَجِيزُ بِاللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المعنى أقل من القدرالمعهود عَادَةً وَسَبَبُ حُسْنِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:" أوتيت جوامع الكلم ".و.
اللفظ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ وَهُوَ الْمَقْصُورُ.
أَمَّا الْمُقَدَّرُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية.
وقوله: {قتل الإنسان ما أكفره} وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الْمَقْصُورُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ لَفْظِهِ عَنْ مَعْنَاهُ لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَعَانٍ كثيرة أولا.
الْأَوَّلُ: كَاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَهُ مَجَازَانِ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إِذَا أُرِيدَ مَعَانِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ مُغَايِرَةٌ لِلصَّلَاةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الِاعْتِنَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ. فَإِنَّ السُّجُودَ فِي الْكُلِّ يَجْمَعُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الِانْقِيَادُ.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
وقوله: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} .(3/221)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إِذْ مَعْنَاهُ كَبِيرٌ وَلَفْظُهُ يَسِيرٌ.
وَقَدْ نُظِرَ لِقَوْلِ الْعَرَبِ:" الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ "وَهُوَ بِنُونٍ ثُمَّ فَاءٍ وَيُرْوَى بِتَاءٍ ثُمَّ قَافٍ وَيُرْوَى " أَوْقَى " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ حُكْمُهُ خَافَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَقَدْ حَكَاهُ الْحَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ علي بن أبي طالب وَقَالَ: قَوْلُ عَلِيٍّ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَأَبْلَغُ مِنْهُ قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وقد تكلموا في وجه الأبلغية. انتهى.
وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ "الْمَثَلِ السَّائِرِ" إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا نِسْبَةَ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَقْدَحُونَ أَذْهَانَهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ وَكَيْفَ يُقَابَلُ الْمُعْجِزُ بِغَيْرِهِ مُفَاضَلَةً وَهُوَ مِنْهُ فِي مَرْتَبَةِ الْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِهِ:
وَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُونَ إِذَا بَدَا جَمَالُ خِطَابٍ فَاتَ فَهْمَ الْخَلَائِقِ
وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ وُجُوهٌ:.
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أَوْجَزُ فَإِنَّ حُرُوفَهُ عَشْرَةٌ وَحُرُوفُ "الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ" أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَالتَّاءُ وَأَلِفُ الْوَصْلِ سَاقِطَانِ لَفْظًا وَكَذَا التَّنْوِينُ لِتَمَامِ الْكَلَامِ الْمُقْتَضِي لِلْوَقْفِ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ كُلْفَةٌ بِتَكْرِيرِ الْقَتْلِ وَلَا تَكْرِيرَ فِي الْآيَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ فِيهِ حُرُوفٌ مُتَلَائِمَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى الصَّادِ إِذِ الْقَافُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالصَّادُ مِنْ حُرُوفِ الاستعلاء والإطباق،.(3/222)
بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى التَّاءِ الَّتِي هي حرف منخفض فهو غير ملائم وَكَذَا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَحْسَنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ لِبُعْدِ مادون طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَقْصَى الْحَلْقِ.
الرَّابِعُ: فِي النُّطْقِ بِالصَّادِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ حُسْنُ الصَّوْتِ وَلَا كَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَافِ وَالْفَاءِ.
الْخَامِسُ: تَكْرِيرُ ذَلِكَ فِي كَلِمَتَيْنِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ بَعْدَ فَصْلٍ طَوِيلٍ وَهُوَ ثِقَلٌ فِي الْحُرُوفِ أَوِ الْكَلِمَاتِ.
السَّادِسُ: الْإِثْبَاتُ أَوَّلٌ وَالنَّفْيُ ثَانٍ عَنْهُ وَالْإِثْبَاتُ أَشْرَفُ.
السَّابِعُ: أَنَّ الْقِصَاصَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ أَوْزَنُ فِي الْمُعَادَلَةِ مِنْ مُطْلَقِ الْقَتْلِ وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ بِخِلَافِ الْآيَةِ.
الثَّامِنُ: الطِّبَاعُ أَقْبَلُ لِلَفْظِ الْحَيَاةِ مِنْ كَلِمَةِ الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِصَارِ وَعَدَمِ تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ وَعَدَمِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ وَعَدَمِ تَكْرَارِ الْحَرْفَيْنِ وَقَبُولِ الطَّبْعِ لِلَفْظِ "الْحَيَاةِ" وَصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ وَالْآيَةُ نَاصَّةٌ عَلَى ثُبُوتِهَا الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ.
الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الحياة وقوله في القصاص حياة مَفْهُومٌ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ خَطَأٌ فَإِنَّ الْقَتْلَ كُلَّهُ لَيْسَ نَافِيًا لِلْقَتْلِ فَإِنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانِيَّ لَا يَنْفِي الْقَتْلَ وَكَذَا الْقَتْلُ فِي الرِّدَّةِ وَالزِّنَا لَا يَنْفِيهِ وَإِنَّمَا ينفيه قتل خاص.(3/223)
وهو قتل القصاص الذي فِي الْآيَةِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمَقْصُودِ وَالَّذِي فِي الْمَثَلِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى رَبْطِ الْمَقَادِيرِ بِالْأَسْبَابِ وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ أَيْضًا بِالْمَقَادِيرِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ يَتَضَمَّنُهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى رَبْطِ الْأَجَلِ فِي الْحَيَاةِ بِالسَّبَبِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ نَفْيِ الْقَتْلِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي تَنْكِيرِ "حَيَاةٌ" نَوْعُ تَعْظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً مُتَطَاوِلَةً كَقَوْلِهِ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَلِهَذَا فَسَّرُوا الْحَيَاةَ فِيهَا بِالْبَقَاءِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: فيه بناء أفعل التفضيل من مُتَعَدٍّ وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ أَفْعَلَ فِي الْغَالِبِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فَيَكُونُ تَرْكُ الْقِصَاصِ نَافِيًا الْقَتْلَ وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَكْثَرُ نَفْيًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْ هَذَا.
السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّفْظَ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِذَا تَوَالَتْ حَرَكَاتُهُ تَمَكَّنَ اللِّسَانُ مِنَ النُّطْقِ وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ بِخِلَافِهِ إِذَا تَعَقَّبَ كُلَّ حَرَكَةٍ سُكُونٌ وَالْحَرَكَاتُ تَنْقَطِعُ بِالسَّكَنَاتِ نَظِيرُهُ إِذَا تَحَرَّكَتِ الدَّابَّةُ أَدْنَى حَرَكَةٍ فَخَنِسَتْ ثُمَّ تَحَرَّكَتْ فَخَنِسَتْ لَا يُتَبَيَّنُ انْطِلَاقُهَا وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا تَخْتَارُهُ وَهِيَ كَالْمُقَيَّدَةِ وَقَوْلُهُمْ: "الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ" حَرَكَاتُهُ مُتَعَاقِبَةٌ بِالسُّكُونِ بِخِلَافِ الْآيَةِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى فَنٍّ بَدِيعٍ وَهُوَ جَعْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ مَحَلًّا وَمَكَانًا لِضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ وَاسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْتِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ ذَكَرَهُ فِي الكشاف.(3/224)
الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ فِي الْآيَةِ طِبَاقًا لِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِضِدِّ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ الْمَثَلِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: الْقِصَاصُ فِي الْأَعْضَاءِ وَالنُّفُوسِ وَقَدْ جُعِلَ في الكل حياة فيكون جمعا بين حياةالنفس وَالْأَطْرَافِ وَإِنْ فُرِضَ قِصَاصٌ بِمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَالسِّنِّ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْحَيَاةِ تَنْقُصُ بِذَهَابِهِ وَيَصِيرُ كَنَوْعٍ آخَرَ وَهَذِهِ اللَّطِيفَةُ لَا يَتَضَمَّنُهَا المثل.
العشرون: أنها أكثر فائدة لتضمنه الْقِصَاصَ فِي الْأَعْضَاءِ وَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى حَيَاةِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهٍ بِهِ الْقِصَاصُ صَرِيحًا وَمِنْ وَجْهِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرْفِ لِأَنَّ أَحَدَ أَحْوَالِهَا أَنْ يَسْرِيَ إِلَى النَّفْسِ فَيُزِيلَهَا وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ.
وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ {لَكُمْ} فَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ بَيَانُ الْعِنَايَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ حَيَاتُهُمْ لَا غَيْرُهُمْ لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْمَعْنَى مَعَ وُجُودِهِ فِيمَنْ سِوَاهُمْ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْبَيَانِ الْمُوجَزِ الَّذِي لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَيْءٌ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ.} الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نِهَايَةُ التَّنْزِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كريم} ، وهذا بينا عَجِيبٌ يُوجِبُ التَّحْذِيرَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْإِمْهَالِ.
وَقَوْلُهُ: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} وقوله: {إن المتقين في مقام أمين} ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.(3/225)
وقوله: {فاصدع بما تؤمر} فَهَذِهِ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الرِّسَالَةِ.
وَقَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، فَهَذِهِ جَمَعَتْ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ كُلَّهَا لِأَنَّ فِي {خُذِ الْعَفْوَ} صِلَةَ الْقَاطِعِينَ وَالصَّفْحَ عَنِ الظَّالِمِينَ وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ تَقْوَى اللَّهِ وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ وَصَرْفَ اللِّسَانِ عَنِ الْكَذِبِ وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ وَتَنْزِيهَ النَّفْسِ عَنْ مُمَارَاةِ السفيه.
قوله: {مدهامتان} معناه مسودتاه مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكتسبت} .
وقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} فدل بأمرين على ججميع مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ وَالْحَبِّ وَالتَّمْرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّارِ وَالْمِلْحِ لِأَنَّ النَّارَ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْمِلْحَ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ، فَدَلَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلُطْفِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَدَى للحجة عل مَنْ ضَلَّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ظُهُورُ الثَّمَرَةِ بِالْمَاءِ وَالتُّرْبَةِ لَوَجَبَ فِي الْقِيَاسِ أَلَّا تَخْتَلِفَ الطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ وَلَا يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِذَا نَبَتَ فِي مَغْرِسٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ صُنْعُ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يُصَدَّعُونَ عنها ولا ينزفون} ، كيف نفى بهذين جميع عيوب الخمر وجمع بقوله: {ولا يُنْزِفُونَ} عَدَمَ الْعَقْلِ وَذَهَابَ الْمَالِ وَنَفَادَ الشَّرَابِ.(3/226)
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يبصرون} فدل على فضل السمع والبصر حيث جعل مع الصم فُقْدَانَ الْعَقْلِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَعَ الْعَمَى إِلَّا فقدان البصر وحده.
وقوله: {وقيل يا أرض ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا للقوم الظالمين} كَيْفَ أَمَرَ وَنَهَى وَأَخْبَرَ وَنَادَى وَنَعَتَ وَسَمَّى وَأَهْلَكَ وَأَبْقَى وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى قَصَّ مِنَ الْأَنْبَاءِ مالو شُرِحَ مَا انْدَرَجَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ بَدِيعِ اللَّفْظِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ لَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ وانحسرت الأيدي.
وقوله تعالى عن النملة: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} فَجَمَعَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدَ عَشَرَ جِنْسًا مِنَ الْكَلَامِ نَادَتْ وَكَنَّتْ وَنَبَّهَتْ وَسَمَّعَتْ وَأَمَرَتْ وقضت وَحَذَّرَتْ وَخَصَّتْ وَعَمَّتْ وَأَشَارَتْ وَغَدَرَتْ فَالنِّدَاءُ "يَا" وَالْكِنَايَةُ " أَيُّ " وَالتَّنْبِيهُ "هَا" وَالتَّسْمِيَةُ النَّمْلُ وَالْأَمْرُ "ادْخُلُوا" وَالْقَصَصُ "مَسَاكِنَكُمْ" وَالتَّحْذِيرُ "لَا يَحْطِمَنَّكُمْ" وَالتَّخْصِيصُ سليمان والتعميم جنوده والإشارة "وهم" والغدر لَا يَشْعُرُونَ. فَأَدَّتْ خَمْسَ حُقُوقٍ حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ رَسُولِهِ وَحَقَّهَا وَحَقَّ رَعِيَّتِهَا وَحَقَّ جُنُودِ سُلَيْمَانَ فَحَقُّ اللَّهِ أَنَّهَا اسْتُرْعِيَتْ عَلَى النَّمْلِ فَقَامَتْ بِحَقِّهِمْ وَحَقُّ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا نَبَّهَتْهُ عَلَى النمل وحقها إسقاطها حق الله عن الجنود في نصحهم4 وحق الجنود بِنُصْحِهَا لَهُمْ لِيَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ وَحَقُّ الْجُنُودِ إِعْلَامُهَا إياهم وجميع الخلق أن من.(3/227)
استرعاه رَعِيَّةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا وَالذَّبُّ عَنْهَا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ".
وَيُقَالُ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَضْحَكْ فِي عُمْرِهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَأُخْرَى حِينَ أَشْرَفَ عَلَى وَادِي النَّمْلِ فَرَآهَا عَلَى كِبَرِ الثَّعَالِبِ لَهَا خَرَاطِيمُ وَأَنْيَابٌ فَقَالَ رَئِيسُهُمُ: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ فَخَرَجَ كَبِيرُ النَّمْلِ فِي عِظَمِ الْجَوَامِيسِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ هَالَهُ فَأَرَاهُ الْخَاتَمَ فَخَضَعَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: أهذه كلها نمل؟ فقال: إن النمل لكبيرة إِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ فِي الْجِبَالِ وَصِنْفٌ في القرى وصنف في المدن. فقال سلميان عَلَيْهِ السَّلَامُ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ: قِفْ. فَبَقِيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِسْعِينَ يَوْمًا وَاقِفًا يَمُرُّ عَلَيْهِ النَّمْلُ، فَقَالَ: هَلِ انْقَطَعَتْ عَسَاكِرُكُمْ، فَقَالَ مَلِكُ النَّمْلِ: لَوْ وَقَفْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا انْقَطَعَتْ. فَذَكَرَ الْجُنَيْدُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِعَظِيمِ النَّمْلِ: لِمَ قُلْتَ لِلنَّمْلِ: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ؟ أَخِفْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ ظُلْمِنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ خِفْتُ أَنْ يُفْتَتَنُوا بِمَا رَأَوْا مِنْ مُلْكِكَ فَيَشْغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ الله.
وَقَوْلُهُ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أنشأها أول مرة} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْحِجَاجِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مشتركون} وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّحْسِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الْخَلَّةِ إِلَّا عَلَى التَّقْوَى.(3/228)
وقوله: {أن تقول نفس يا حسرتى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ.
وقوله: {أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّبْعِيدِ.
وَقَوْلُهُ: {اعملوا ما شئتم} ، فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّخْيِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غطاءك فبصرك اليوم حديد} ، وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّذْكِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا به بل هم قوم طاغون} ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ فِي التَّقْرِيعِ عَلَى التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.
وَقَوْلُهُ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن} ، وهذا أشد ما يكون من التقريع.
{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وَهَذَا غَايَةُ التَّرْهِيبِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون} ، وَهَذِهِ غَايَةُ التَّرْغِيبِ.(3/229)
وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وَقَوْلُهُ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحِجَاجِ وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أُثْبِتَتْ دَلَالَةُ التَّمَانُعِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْوَصْفِ بِكُلِّ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْقَلِيلَ جِدًّا حَوَى مَعَانِيَ كَثِيرَةً لَا تَنْحَصِرُ عَدَدًا.
وَقَوْلُهُ: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو} وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ.
وَقَوْلُهُ: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} .
وقوله: {إنما بغيكم} .
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وأخذوا من مكان قريب} .
وقوله: {هدى للمتقين} .
وقوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} .
وقوله: {فانبذ إليهم على سواء} مَعْنَاهُ قَابِلْهُمْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مَعَكَ وَعَامِلْهُمْ مِثْلَ مُعَامَلَتِهِمْ لَكَ سَوَاءً مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٍ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وقضي الأمر} فَإِنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى انْقِطَاعِ مُدَّةِ الْمَاءِ النازل.(3/230)
مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ: {وَقُضِيَ الأمر} أَيْ هَلَكَ مَنْ قُضِيَ هَلَاكُهُ وَنَجَا مَنْ قُدِّرَتْ نَجَاتُهُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهِ إِلَى لَفْظِ التَّمْثِيلِ لِأَمْرَيْنِ اخْتِصَارِ اللَّفْظِ وَكَوْنِ الْهَلَاكِ وَالنَّجَاةِ كَانَا بِأَمْرٍ مُطَاعٍ إِذِ الْأَمْرُ يَسْتَدْعِي آمِرًا وَمُطَاعًا وَقَضَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ.
وَمِنْ أَقْسَامِ الْإِيجَازِ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لِلشَّيْءِ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَخَافُ الشُّجْعَانَ وَالْمُرَادُ لَا يَخَافُ أَحَدًا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَسَخَتِ النِّكَاحَ أَيْضًا تَتَرَبَّصُ لِأَنَّ السَّبَبَ الْغَالِبَ لِلْفِرَاقِ الطَّلَاقُ.
وَقَوْلُهُ: {أو جاء أحد منكم من الغائط} وَلَمْ يَذْكُرِ النَّوْمَ وَغَيْرَهُ لِأَنَّ السَّبَبَ الضَّرُورِيَّ النقاض خُرُوجُ الْخَارِجِ فَإِنَّ النَّوْمَ النَّاقِضَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَذَكَرَ السَّبَبَ الظَّاهِرَ وَعُلِمَ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي الباقي.
ومنه قوله: {يعلم السر وأخفى} أي وهو مالم يَقَعْ فِي وَهْمِ الضَّمِيرِ مِنَ الْهَوَاجِسِ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ مُخَيِّلَاتِ الْوَسَاوِسِ.
وَمِنْهُ: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وَنَظَائِرُهُ.
وَكَذَلِكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَائِمٌ خَبَرٌ عَنْ أَحَدِهِمَا وَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ خَبَرِ الْآخَرِ.
وَمِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ مَقَامَ الْخَبَرِ نَحْوُ أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ فَإِنَّ قَائِمٌ مُبْتَدَأٌ لَا خَبَرَ لَهُ.(3/231)
وَمِنْهَا بَابُ "عَلِمْتُ أَنَّكَ قَائِمٌ" إِذَا جَعَلْنَا الْجُمْلَةَ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ مَحِلَّةٌ لِاسْمٍ وَاحِدٍ سَدَّ مَسَدَّ اسْمَيْنِ مَفْعُولَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ.
وَمِنْهُ بَابُ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي ضُرِبَ زَيْدٌ فَ زَيْدٌ دَلَّ عَلَى الْفَاعِلِ بِإِعْطَائِهِ حُكْمَهُ وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِوَضْعِهِ.
وَمِنْهَا جَمِيعُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ فَإِنَّ " كَمْ مَالَكَ "؟ يغني عن عشرين أو ثلاثين ومن يقم أكرمه يغني عن زيد وعمرو قال ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "الْجَامِعِ".
وَمِنْهُ الْأَلْفَاظُ اللَّازِمَةُ لِلْعُمُومِ مِثْلَ أَحَدٍ وَدَيَّارٍ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ أَيْضًا.
وَمِنْهُ لَفْظُ الْجَمْعِ فَإِنَّ الزَّيْدِينَ يُغْنِي عَنْ زَيْدٍ وَزَيْدٍ وَزَيْدٍ وَكَذَا التَّثْنِيَةُ أَصْلُهَا رَجُلٌ وَرَجُلٌ فَحَذَفُوا الْعَطْفَ وَالْمَعْطُوفَ وَأَقَامُوا حَرْفَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ مَقَامَهُمَا اخْتِصَارًا وَصَحَّ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الذَّاتَيْنِ فِي التَّسْمِيَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الِاسْمَيْنِ رَجَعُوا إِلَى التَّكْرَارِ بِالْعَطْفِ نَحْوِ مررت بزيد وبكر.
منه بَابُ الضَّمَائِرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَاعِدَةِ الضَّمِيرِ.
وَمِنْهُ لَفْظُ "فَعَلَ" فَإِنَّهُ يَجِيءُ كَثِيرًا كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَالَ تَعَالَى: {لبئس ما كانوا يفعلون} {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} .
{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} أَيْ فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.(3/232)
الْقَوْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
هُوَ أَحَدُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ دَلَالَةً عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَمَلَكَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ وَانْقِيَادِهِ لَهُمْ وَلَهُ فِي الْقُلُوبِ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ وَأَعْذَبُ مَذَاقٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدِّهِ مِنَ الْمَجَازِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ تَقْدِيمُ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ كَالْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُ مَا رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ كَالْفَاعِلِ نُقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ رُتْبَتِهِ وَحَقِّهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَجَازَ نَقْلُ مَا وُضِعَ لَهُ إِلَى مَا لَمْ يُوضَعْ.
وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصُولٍ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: في أسباب التقديم والتأخير.
الْأَوَّلُ: فِي أَسْبَابِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ:.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلَهُ التَّقْدِيمُ وَلَا مُقْتَضًى لِلْعُدُولِ عَنْهُ كَتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ وَصَاحِبِ الْحَالِ عَلَيْهَا نَحْوَ جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِبَيَانِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يكتم إيمانه} ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ قَوْلَهُ: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فَلَا يُفْهَمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَابِ كَوْنَ التَّأْخِيرِ مَانِعًا مِثْلَ الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ،.(3/233)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا} بتقديم الحال أعني {من قومه} على الوصف أعني {الذين كفروا} وَلَوْ تَأَخَّرَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا هَاهُنَا اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدُّنُوِّ وَلَيْسَتِ اسْمًا وَالدُّنُوُّ يَتَعَدَّى بِـ"مِنْ" وَحِينَئِذٍ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَنَّهُمْ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا فَقَدَّمَ لِاشْتِمَالِ التَّأْخِيرِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَائِلِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَحِينَ أُمِنَ هَذَا الْإِخْلَالُ بِالتَّأْخِيرِ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إلا بشر مثلكم} بِتَأْخِيرِ الْمَجْرُورِ عَنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِالتَّنَاسُبِ فَيُقَدَّمَ لِمُشَاكَلَةِ الْكَلَامِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ كَقَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} ، بِتَقْدِيمِ "إِيَّاهُ" عَلَى "تَعْبُدُونَ" لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ وكقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} فإنه لو أخر {في نفسه} عن {موسى} فَاتَ تَنَاسُبُ الْفَوَاصِلِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ من سحرهم أنها تسعى} وبعده،: {إنك أنت الأعلى} .
وكقوله: {وتغشى وجوههم النار} فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْفَاعِلِ عَنِ الْمَفْعُولِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِمَا بعده.
وكقوله: {إن الله سريع الحساب} ، وَهُوَ أَشْكَلُ بِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {مُقَرَّنِينَ في الأصفاد} .(3/234)
وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} بتقديم "هارون" مع أن "موسى" أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.
الرَّابِعُ: لِعِظَمِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ إِذَا أَخْبَرَتْ عَنْ مُخْبَرٍ مَا - وَأَنَاطَتْ بِهِ حُكْمًا - وَقَدْ يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ فِيمَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ وَقَدْ عَطَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ - فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَبْدَءُونَ بِالْأَهَمِّ وَالْأَوْلَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي شَأْنُهُ أَهَمُّ لَهُمْ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يُهِمَّانِهِمْ وَيَعْنِيَانِهِمْ. انْتَهَى.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول} .
وقال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، فَقَدَّمَ الْعِبَادَةَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا.
وَمِنْهُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ فِي بِسْمِ اللَّهِ مُؤَخَّرًا.
وَأَوْرَدُوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ ربك} ، وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ الْفِعْلِ هُنَاكَ أَهَمُّ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ.
وَالثَّانِي: أَنْ باسم ربك مُتَعَلِّقٌ بِ اقْرَأِ الثَّانِي وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ وَالْقَصْدُ التَّعْمِيمُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْخَاطِرُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهِ وَالْهِمَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى:.(3/235)
{وجعلوا لله شركاء} ، بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجَعْلِ لِلَّهِ لَا إِلَى مُطْلَقِ الْجَعْلِ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِإِرَادَةِ التَّبْكِيتِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمَذْكُورِ كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شركاء الجن} ، وَالْأَصْلُ" الْجِنَّ شُرَكَاءَ "، وَقُدِّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّوْبِيخُ وَتَقْدِيمُ الشُّرَكَاءِ أَبْلَغُ فِي حُصُولِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وَسَنَذْكُرُهُ.
السَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَالْخَبَرِ والظرف والجار والمجرور ونحوها على الفعل كقوله تعالى: {إياك نعبد} ، أَيْ نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ.
وَقَوْلِهِ: {إن كنتم إياه تعبدون} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: {قال أراغب أنت عن آلهتي} ، وَقَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، وكذلك: {له الملك وله الحمد} ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى: وقوله: {لإلى الله تحشرون} .(3/236)
أي لا إلى غيره وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} أُخِّرَتْ صِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي الْأَوَّلِ وَقُدِّمَتْ فِي الثَّانِي لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ وَفِي اخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عليهم.
وقوله: {وأرسلناك للناس رسولا} أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ يُفِيدُ تَفْضِيلَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هم عنها ينزفون} ، أَيْ لَيْسَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ مَا فِي خَمْرَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْغَوْلِ وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ النَّفْيَ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا ريب فيه} فكذلك إذا قلنا لاعيب فِي الدَّارِ كَانَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعَيْبِ فِي الدَّارِ وَإِذَا قُلْنَا لَا فِي الدَّارِ عَيْبٌ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهَا بِعَدَمِ الْعَيْبِ.
تَنْبِيهٌ:.
مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ فَهِمَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قبل} وقوله: {أفي الله شك} إِنْ جَعَلْنَا مَا بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً.
وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ "الْفَلَكِ الدَّائِرِ" الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَخَالَفُوا الْبَيَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ وَأَنْتَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ.(3/237)
ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ قَيْدَ الْغَلَبَةِ سَهُلَ الْأَمْرُ. نَعَمْ لَهُ شَرْطَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا بِالْوَضْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَقْدِيمًا حَقِيقَةً كَاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ.
وَالثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التركيب مثل: {وأما ثمود فهديناهم} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ في آية واحدة وهي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إياه تدعون فيكشف} ، التَّقْدِيمُ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ بِخِلَافِ الثَّانِي.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِهِ.
وَهِيَ إِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوْ يُقَدَّمَ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ أَوْ بِالْعَكْسِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا قُدِّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ.
وَمُقْتَضَيَاتُهُ كَثِيرَةٌ قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِنْهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبْدُونٍ فِي قَوْلِهِ:
سَقَاكَ الْحَيَا مِنْ معان سِفَاحِ فَكَمْ لِي بِهَا مِنْ مَعَانٍ فِصَاحِ(3/238)
أَحَدُهَا: السَّبْقُ.
وَهُوَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا السَّبْقُ بِالزَّمَانِ وَالْإِيجَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذين اتبعوه وهذا النبي} قال ابن عطية: المراد بالذين اتَّبَعُوهُ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَصْطَفِي من الملائكة رسلا ومن الناس} فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَفْضِيلُ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا قدم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك} فَإِنَّ الْأَزْوَاجَ أَسْبَقُ بِالزَّمَانِ لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ بَضْعَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قرة أعين} .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وآل عِمْرَانَ} .
وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} .
{صحف إبراهيم وموسى} .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} فَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ مُوسَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِالتَّرْكِ وَكَانَتْ صُحُفُ مُوسَى مُنْتَشِرَةً أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ. وَثَانِيهِمَا: مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ.(3/239)
وَقَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ التَّحْقِيرُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، تَقَدَّمَ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْبَقَ مِنَ النَّصَارَى وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاوَرَةِ.
وَقَدْ لَا يُلْحَظُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وقد تبين لكم من مساكنهم} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أبقى} .
وَمِنَ التَّقْدِيمِ بِالْإِيجَادِ تَقْدِيمُ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ في قوله: {تأخذه سنة ولا نوم} لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ السِّنَةُ قَبْلَ النَّوْمِ فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ الْعَادَةِ.
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَذَكَرَ مَعَهُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدىء بِالْأَفْضَلِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحَالَتْ عَلَيْهِ السِّنَةُ فَأَحْرَى أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ النَّوْمُ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الظُّلْمَةِ عَلَى النُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنور} فَإِنَّ الظُّلُمَاتِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ فِي الْإِحْسَاسِ وَكَذَلِكَ الظُّلْمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ الْمَعْنَوِيِّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ والأفئدة} فَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ ظُلْمَةٌ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى نُورِ الْإِدْرَاكَاتِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} {بل مكر الليل والنهار} {حين تمسون وحين.(3/240)
تصبحون} وَلِذَلِكَ اخْتَارَتِ الْعَرَبُ التَّارِيخَ بِاللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَتِ اللَّيَالِي مُؤَنَّثَةً وَالْأَيَّامُ مُذَكَّرَةً وَقَاعِدَتُهُمْ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ إِلَّا فِي التَّارِيخِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النهار} .
قُلْتُ: اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السلام في قواعده بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَبْقِ اللَّيْلَةِ عَلَى الْيَوْمِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: تُدْرِكُ الْقَمَرَ فِي سُلْطَانِهِ وَهُوَ اللَّيْلُ أَيْ لَا تَجِيءُ الشَّمْسُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكل في فلك يسبحون} أي لا يأتي فِي بَعْضِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَهُوَ النَّهَارُ وَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُقَابَلَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مُشْكِلٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّ الْإِيلَاجَ إِدْخَالُ الشَّيْءِ في وَهَذَا الْبَحْثُ يُنَافِيهِ.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِقْدَارًا مِنَ النَّهَارِ وَمِنَ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ مِقْدَارًا مِنَ اللَّيْلِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُولِجُ بَعْضَ مِقْدَارِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَبَعْضَ مِقْدَارِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ وَعَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُ اللَّيْلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَيَجْعَلُ النَّهَارَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّيْلُ وَالتَّقْدِيرُ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي مَكَانِ النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي مَكَانِ اللَّيْلِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وجعل الظلمات.(3/241)
والنور} أَيِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فلك يسبحون} .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا أَعْنِي سَبْقَ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ إِذْ كَانَا إِنَّمَا هُمَا أَسْمَاءٌ لِسَاعَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ قَطْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ "دَرَجَ الْفَلَكِ" وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَأَنَّهُ لَا شَمْسَ وَلَا قَمَرَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - صَرِيحٌ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ: " وَخَلَقَ [اللَّهُ] النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ " قَالَ: وَيَعْنِي بِهِ الشَّمْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأَخُّرَ خَلْقِ الْأَيَّامِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ لَازِمٌ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْحَدِيثُ كَالْمُصَرِّحِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ حِينَ خَلَقَ الْبَرِّيَّةَ وَهِيَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَيَّامِ كُلِّهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: قَدْ نَبَّهَ الطَّبَرِيُّ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ قَبْلَ خَلْقِ التُّرْبَةِ وَخَلَقَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا ثُمَّ قَدَّرَ كُلَّ يَوْمٍ مِقْدَارًا فَخَلَقَ التُّرْبَةَ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ السَّبْتِ قَبْلَ خَلْقِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَكَذَا الْبَاقِي.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَكِنْ أَوْجَبَهُ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تأخير الْأَيَّامِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّمَانَ قِسْمَانِ تَحْقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ التَّقْدِيرِيُّ.(3/242)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، {مشارق الأرض ومغاربها} ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتَغْنَى عَنْ أَحَدِهِمَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ فقد فقال: {ورب المشارق} {إنا زينا السماء الدنيا} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقوله: {وأنه هو أمات وأحيا} {وكنتم أمواتا فأحياكم} .
وَيُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ:.
مِنْهَا: أَنَّ فِيهِ قَهْرًا لِلْخَلْقِ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ حَيَاةَ الإنسان كلاحياة وَمَآلُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَوْتَ تَقَدَّمَ فِي الْوُجُودِ إِذِ الْإِنْسَانُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَانَ مَيِّتًا لِعَدَمِ الرُّوحِ.
وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِالْمَوْتِ عدم الوجود بدليل {وكنتم أمواتا فأحياكم} وإن أريد به بعد الوجود فالناس منتازعون فِي الْمَوْتِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَالْحَيَاةِ أولا؟.
وَقِيلَ بِالْوَقْفِ، فَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُضَادُّ الْحَيَاةَ مُحْتَجِّينَ بقوله: {الذي خلق الموت والحياة} وَالْحَدِيثُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ وَذَبْحِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْخَلْقَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمُقَدَّرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِبَيَانِ انْقِطَاعِ الْمَوْتِ وَثُبُوتِ الْخُلُودِ.
فَإِنْ قُلْنَا: عَدَمِيٌّ، فَالتَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَعَلَى الصَّحِيحِ تَقَابُلُ التَّضَادِّ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وُجُودِيٌّ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيمُ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ،.(3/243)
لِكَوْنِهِ سَابِقًا أَوْ مَعْدُومَ الْحَيَاةِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ الغاية التي يساق إليها فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ بِعَدَمِ تحقيقها لتحقق فَخَصَّ الْعِلَّةَ الْعَامَّةَ كَمَا وَقَعَ تَأْكِيدُهُ فِي قوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} أَوْ تَزْهِيدًا فِي الدَّارِ الْفَانِيَةِ وَتَرْغِيبًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ "الحياة" في قوله: {فيها تحيون وفيها تموتون} وقوله: {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} ؟.
قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فَلِأَنَّ حَيَاتَهُمَا فِي الدُّنْيَا سَبَقَتِ الْمَوْتَ وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْقِ بِالْخِطَابِ لِمَنْ هُوَ حَيٌّ يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ فَمَا التَّقْدِيمُ بِالتَّرْتِيبِ وَكَذَا الْآيَةُ بَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ في الحكاية عن منكر البعث: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا} ؟.
قُلْتُ: لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ فِي قوله: {إني متوفيك ورافعك إلي} مَعَ أَنَّ الرَّفْعَ سَابِقٌ؟.
قِيلَ: فِيهِ جَوَابَانِ:.
أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: {يتوفاكم بالليل} .
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ التَّاءَ فِي "مُتَوَفِّيكَ" زَائِدَةٌ أَيْ موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وأنزل الفرقان} . وَقَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} .(3/244)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إليهم} فَإِنَّمَا قَدَّمَ الْقُرْآنَ مُنَبِّهًا لَهُ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا سَبْقُ وُجُوبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اركعوا واسجدوا} وقوله: {تراهم ركعا سجدا} .
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين} .
قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمُ السُّجُودُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِـ"ارْكَعِي" اشْكُرِي.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِـ"اسْجُدِي" صَلِّي وَحْدَكِ. وَبِـ"ارْكَعِي" صَلِّي فِي جَمَاعَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {مَعَ الراكعين} .
وَمِنْهَا سَبْقُ تَنْزِيهٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه} فَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: {كُلٌّ آمن بالله وملائكته} فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الشَّرْعِ ثُمَّ قَالَ:" وَمَلَائِكَتِهِ " مُرَاعَاةً لِإِيمَانِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَكِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْكِتَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ ثُمَّ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ. وَإِنَّمَا عَرَفَ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه فَتَرَتَّبَ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ فَقَالَ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وكتبه ورسله} لِأَنَّ الْمَلَكَ هُوَ النَّازِلُ بِالْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ أَقْدَمَ مِنَ الْمَلَكِ وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَلَكِ كَانَتْ قَبْلَ سَمَاعِهِ الْكِتَابَ وَأَمَّا إِيمَانُنَا نَحْنُ بِالْعَقْلِ آمَنَّا بالله أي.(3/245)
بِوُجُودِهِ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم عرفنا اسمه وجوب النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَآمَنَّا بِالرَّسُولِ ثُمَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَبِالْمَلَكِ النَّازِلِ بِهِ فَلَوْ تَرَتَّبَ اللَّفْظُ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِنَا لَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْكِتَابِ وَلَكِنْ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ إِمَامُ الْمُؤْمِنِينَ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ لَطِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّورَ وَالْكَمَالَ وَالرَّحْمَةَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَسَائِطُ فِي ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُقَابِلُ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ أَصْلٍ وَثَانِيًا مِنْ وَسَائِطَ وَثَالِثًا مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَرَابِعًا مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْمُقَابِلِ لَهَا وَالْأَصْلُ الْمُقْتَضِي لِلْخَيْرَاتِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ اللَّهُ وَمِنْ أَعْظَمِ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ إِنْزَالُ كُتُبِهِ إِلَيْهِمْ وَالْمُوَصِّلُ لَهَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُقَابِلُ لَهَا الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ فَجَاءَ التَّرْتِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ.
الثَّانِي: بِالذَّاتِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وثلاث ورباع} . وَنَحْوِهِ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْدَادِ كُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا فَوْقَهَا بِالذَّاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم} فَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَثْنَى أَنَّ الْمَعْنَى حَثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَتَرْكِ الْهَوَى مُجْتَمِعِينَ مُتَسَاوِيِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ مُتَفَكِّرِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَهَمَّ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ فَبَدَأَ بِهَا.(3/246)
الثَّالِثُ: بِالْعِلَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ.
كَتَقْدِيمِ "الْعَزِيزِ" عَلَى "الْحَكِيمِ" لِأَنَّهُ عَزَّ فَحَكَمَ وَتَقْدِيمِ "الْعَلِيمِ" عَلَى "الْحَكِيمِ" لأن الإتقان ناشىء عَنِ الْعِلْمِ وَكَذَا أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ وَصْفِ الْعِلْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنك أنت العليم الحكيم} .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُدِّمَ وَصْفُ الْعِلْمِ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ {لَا عِلْمَ لَنَا} وَفِي غَيْرِهِ مِنْ نَظَائِرِهِ لِأَنَّهُ صِفَاتُ ذَاتٍ فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ قَبْلَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين} قُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُصُولِ الْإِعَانَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} فَإِنَّ التَّوْبَةَ سَبَبُ الطَّهَارَةِ.
وَكَذَا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أفاك أثيم} لِأَنَّ الْإِفْكَ سَبَبُ الْإِثْمِ.
وَكَذَا: {وَمَا يُكَذِّبُ به إلا كل معتد أثيم} .
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وأناسي كثيرا} قَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ إِحْيَاءِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ وَقَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْيَا بِهِ النَّاسُ بِأَكْلِ لُحُومِهَا وَشُرْبِ أَلْبَانِهَا.(3/247)
وَكَذَا كُلُّ عِلَّةٍ مَعَ مَعْلُولِهَا كَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} ، قِيلَ: قُدِّمَ الْأَمْوَالُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ النِّكَاحُ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مؤونته فَهُوَ سَبَبٌ وَالتَّزْوِيجُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ وَلِأَنَّ الْمَالَ سَبَبٌ لِلتَّنْعِيمِ بِالْوَلَدِ وَفَقْدَهُ سَبَبٌ لِشَقَائِهِ.
وَكَذَا تقديم البنات عَلَى الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ من الذهب والفضة} وَأَخَّرَ ذِكْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَنِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ مِنَ الْمَالِ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَحُثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فَيَحْصُلُ النِّكَاحُ وَالنِّسَاءُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَوْلَادِ فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالْبَنُونَ أَقْعَدُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّهَبُ أَقْعَدُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذْ هِيَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ النِّعَمِ فَلَمَّا صُدِّرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِ الْحُبِّ وَكَانَ الْمَحْبُوبُ مُخْتَلِفَ الْمَرَاتِبِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ فِي رُتْبَةِ الْمَحْبُوبَاتِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إن شكرتم وآمنتم} قُدِّمَ الشُّكْرُ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ "إِلَى" مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي خَلْقِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَنَافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا فَإِذَا انْتَهَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُتَّصِلًا فَكَانَ الشُّكْرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِيمَانِ وَكَأَنَّهُ أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَدَارُهُ. انْتَهَى.
وَجَعَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الشُّكْرِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لشرفه.(3/248)
الرَّابِعُ: بِالرُّتْبَةِ.
كَتَقْدِيمِ "سَمِيعٍ" عَلَى "عَلِيمٍ" فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْوِيفَ وَالتَّهْدِيدَ فَبَدَأَ بِالسَّمِيعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَصْوَاتِ وَإِنَّ مَنْ سَمِعَ حِسَّكَ فَقَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ فِي الْعَادَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ علم الله تعلق بِمَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ.
وَكَقَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ سَلَامَةٌ وَالرَّحْمَةَ غَنِيمَةٌ وَالسَّلَامَةُ مَطْلُوبَةٌ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ فِي آيَةِ سَبَأٍ في قوله: {الرحيم الغفور} لِأَنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِ تَعْدَادِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغفور} فَالرَّحْمَةُ شَمِلَتْهُمْ جَمِيعًا وَالْمَغْفِرَةُ تَخُصُّ بَعْضًا وَالْعُمُومُ قَبْلَ الْخُصُوصِ بِالرُّتْبَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} فَإِنَّ الْهَمَّازَ هُوَ الْمُغْتَابُ وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلى شيء بخلاف النميمة.
وقوله: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَالَّذِينَ يَأْتُونَ عَلَى الضَّامِرِ مِنَ الْبَعِيدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي الْمَشْيِ مُضَاعَفٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} مَعَ أَنَّ الرَّاكِبَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاشِي فَجَبْرًا لَهُ فِي بَابِ الرُّخْصَةِ.(3/249)
ومنه قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} فَقَدَّمَ الطَّائِفِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَيْتِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْقَائِمِينَ وَهُمُ الْعَاكِفُونَ لِأَنَّهُمْ يَخُصُّونَ مَوْضِعًا بِالْعُكُوفِ وَالطَّوَافُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَالْأَعَمُّ قَبْلَ الأخص ثُمَّ ثَلَّثَ بِالرُّكُوعِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ.
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ:.
الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَمَعَ الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ جَمْعَ سَلَامَةٍ وَالرُّكَّعَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ أَقْرَبُ إِلَى لفظ الفعل فطائفون بِمَنْزِلَةِ يَطُوفُونَ فَفِي لَفْظِهِ إِشْعَارٌ بِصِلَةِ التَّطْهِيرِ وَهُوَ حُدُوثُ الطَّوَافِ وَتَجَدُّدُهُ وَلَوْ قَالَ: بِالطُّوَّافِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ يُخْفِي ذَلِكَ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَائِمَيْنِ وَأَمَّا الرَّاكِعُونَ فَلِمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنَهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ سَلَامَةٍ إِذْ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْفِعْلِ الْبَاعِثِ عَلَى التَّطْهِيرِ كَمَا احْتِيجَ فِيمَا قَبْلَهُ.
الثَّانِي: كَيْفَ وَصَفَ الرُّكَّعِ بِالسُّجُودِ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ؟.
وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الرُّكَّعَ هُمُ السُّجُودُ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ السُّجُودَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ فَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ إِرَادَةَ الْمَصْدَرِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الرَّاكِعَ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَيْسَ بِرَاكِعٍ شَرْعًا وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
الثَّالِثُ: هَلَّا قِيلَ السُّجَّدُ كَمَا قِيلَ الرُّكَّعُ وَكَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ وَعَلَى الْخُشُوعِ فَلَوْ قال: المسجد لَمْ يَتَنَاوَلْ إِلَّا الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَمِنْهُ: {تَرَاهُمْ.(3/250)
ركعا سجدا} وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَرُؤْيَةُ الْعَيْنِ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالظَّاهِرِ فَقُصِدَ بِذَلِكَ الرَّمْزُ إِلَى السُّجُودِ الْمَعْنَوِيِّ وَالصُّورِيِّ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَعْمَالِ الظَّاهِرِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْبَيْتُ كَمَا فِي الطَّوَافِ وَالْقِيَامِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَجُعِلَ السُّجُودُ وَصْفًا لِلرُّكُوعِ وَتَتْمِيمًا لَهُ لِأَنَّ الْخُشُوعَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَسِرُّهَا الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ.
الْخَامِسُ: بِالدَّاعِيَةِ.
كَتَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ عَلَى حِفْظِ الْفُرُوجِ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويحفظوا فروجهم} لِأَنَّ الْبَصَرَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ".
السَّادِسُ: التَّعْظِيمُ.
كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يطع الله والرسول} .
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} .
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولو العلم} .
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} .(3/251)
السَّابِعُ: الشَّرَفُ وَهُوَ أَنْوَاعٌ.
مِنْهَا: شَرَفُ الرِّسَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نبي} فَإِنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي} {وكان رسولا نبيا} .
وَمِنْهَا: شَرَفُ الذُّكُورَةِ:.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات} .
وقوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} .
وقوله: {رجالا كثيرا ونساء} .
وأما تقديم الإناث في قول تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا} فَلِجَبْرِهِنَّ إِذْ هُنَّ مَوْضِعُ الِانْكِسَارِ وَلِهَذَا جَبَرَ الذُّكُورَ بِالتَّعْرِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ التَّقْدِيمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَقْدِيمَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الْعِبَادِ.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بالعبد} وَمِنَ الْغَرِيبِ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْحُرَّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَبْدِ أَمْ لَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ.(3/252)
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعَقْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ من في السماوات والأرض والطير صافات} .
وقوله: {متاعا لكم ولأنعامكم} .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَنْعَامِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {تَأْكُلُ منه أنعامهم وأنفسهم} فَمِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ وَقَدْ سَبَقَ.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يؤمنوا} وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ موضع والطائع على العاصي وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} .
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْحَيَاةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ من الميت ويخرج الميت من الحي} .
وقوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خلق الموت والحياة} فَمِنْ تَقَدُّمِ السَّبْقِ بِالْوُجُودِ وَقَدْ سَبَقَ.
وَمِنْهَا: شرف المعلوم، نحو: {عالم الغيب والشهادة} فَإِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِيَّاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ.
وَمِنْهُ: {يعلم سركم وجهركم} . {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} .(3/253)
وأما قوله: {فإنه يعلم السر وأخفى} ، أَيْ مِنَ السِّرِّ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: " السِّرُّ: مَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ مِمَّا يَكُونُ في عد عِلْمُ اللَّهِ فِيهِمَا سَوَاءٌ " وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآتِيَ أَبَلَغُ وَفِيهِ وَجْهَانِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَسْتَدْعِي مُفَضَّلًا عَلَيْهِ عُلِمَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ السِّرِّ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.
وَثَانِيهِمَا: مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ.
وَمِنْهَا شَرَفُ الْإِدْرَاكِ، كَتَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ وَالسَّمِيعِ عَلَى الْبَصِيرِ لِأَنَّ السَّمْعَ أَشْرَفُ عَلَى أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَقُدِّمَ الْقَلْبُ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم غشاوة} لِأَنَّ الْحَوَاسَّ خَدَمَةُ الْقَلْبِ وَمُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فَأُخِّرَ الْقَلْبُ فِيهَا لِأَنَّ الْعِنَايَةَ هُنَاكَ بِذَمِّ الْمُتَصَامِّينَ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ فِي آذَانِهِمْ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا وَلِهَذَا صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها} .
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْمُجَازَاةِ، كَقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة} .
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْعَامَّ أَشْرَفُ مِنَ الْخَاصِّ كَتَقْدِيمِ الْعَفُوِّ عَلَى الْغَفُورِ أَيْ عَفُوٌّ عَمَّا لَمْ يُؤَاخِذْنَا بِهِ مِمَّا نَسْتَحِقُّهُ بِذُنُوبِنَا غَفُورٌ لِمَا وَاخَذَنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبِلْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَتَقَدَّمَ الْعَفُوُّ عَلَى الْغَفُورِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَأُخِّرَتِ الْمَغْفِرَةُ لِأَنَّهَا أَخَصُّ.(3/254)
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْإِبَاحَةِ لِلْإِذْنِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حلال وهذا حرام} ، وإنما تقديم الْحَرَامُ فِي قَوْلِهِ: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} فَلِلزِّيَادَةِ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِأَجْلِ السِّيَاقِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طيبا} . ثم {إنما حرم عليكم الميتة} .
وَمِنْهَا: الشَّرَفُ بِالْفَضِيلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين} وقوله: {ومنك ومن نوح} وَقَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون} وقوله: {رب موسى وهارون} فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ فَإِنَّ مُوسَى اسْتَأْثَرَ بِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى لَهُ بِتَكْلِيمِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَ هَارُونَ وَمُوسَى فِي سُورَةِ طه بِتَقْدِيمِ هَارُونَ قُلْنَا لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ وَمِنْهُ تَقْدِيمُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال} لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَمِيكَائِيلَ.(3/255)
صَاحِبُ الْأَرْزَاقِ وَالْخَيْرَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} .
وقوله: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْهِجْرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ" وَبِالْآيَةِ احْتَجَّ الصِّدِّيقُ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ وَتَعْيِينِ الْإِمَامَةِ فِيهِمْ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما} فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ وَقَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قُدِّمَ الْقَرِيبُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} .
وَتَقْدِيمُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، فِي نَحْوِ: {جَنَّتَانِ عن يمين وشمال} {عن اليمين وعن الشمال} .
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم} . وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَوَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْجِهَادَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ إِنْفَاقِ الأمولا فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّبْقِ بِالسَّبَبِيَّةِ.
وَمِنْهُ: {مُحَلِّقِينَ رؤوسكم ومقصرين} فَإِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ.(3/256)
ومنه تقديم السموات عَلَى الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بالحق} وهو كثير وكذلك كثير ما يقع السموات بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْأَرْضُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً.
وأما تأخيرها عنها في قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ في الأرض ولا في السماء} فَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إذ تفيضون فيه} وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَلُهُمْ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سَبَأٍ فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِيَاقِ عِلْمِ الْغَيْبِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض ولا في السماء} .
وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه} فَلِأَنَّ الْآيَةَ فِي سِيَاقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنَّمَا هو لأهل الأرض.
وكذا قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} .
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان} وَقَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ والجن على الله كذبا} .(3/257)
وَقَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الجان من مارج من نار} .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {يا معشر الجن والإنس} فَلِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ فِي الْخَلْقِ فَيَكُونُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ - أَعْنِي التَّقْدِيمَ بِالزَّمَانِ - وَلِهَذَا لَمَّا أَخَّرَ في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الْإِنْسَانِ ثُمَّ قَالَ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْثِلَةِ السَّالِفَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَعْجَبِ لِأَنَّ خَلْقَهَا أَغْرَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على أربع} .
أَوْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى أَجْسَامًا وَأَعْظَمُ أَقْدَامًا وَلِهَذَا قدموا في: {يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقطار السماوات والأرض} وَفِي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ والطير} .
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ السُّجَّدِ عَلَى الرَّاكِعِينَ فِي قَوْلِهِ: {واسجدي واركعي مع الراكعين} وَسَبَقَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْبِغَالِ عَلَى الْحَمِيرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} .
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ فِي قَوْلِهِ: {والذين يكنزون الذهب والفضة} .(3/258)
فإن قلت: فهل يجوز أَنْ يَكُونَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ؟.
قلت: هيهات الذهب أيضا مؤنت وَلِهَذَا يُصَغَّرُ عَلَى ذُهَيْبَةٍ كَـ"قَدَمٍ".
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الصُّوفِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وأشعارها} وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى اخْتِيَارِ لُبْسِ الصُّوفِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَابِسِ وَأَنَّهُ شعار الملائكة في قوله: {مسومين} قيل: سيماهم يؤمئذ الصُّوفُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: الصُّوفُ الْأَبْيَضُ رَوَاهُ أَبُو نعيم في مَدْحِ الصُّوفِ وَقَالَ: إِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابن مسعود: " كانت الأنبياء قَبْلَكُمْ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ " وَفِي الصَّحِيحِ فِي مُوسَى عليه السلام: " عليه عباءة ".
منه تَقْدِيمُ الشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {والشمس والقمر} وقوله: {وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نورا} ، وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا مُفْرَدًا بِالْحُسْنِ وَالشَّكْلِ مَنْ دَلَّ عَيْنَيْكَ عَلَى قَتْلِي
الْبَدْرُ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى نُورُهُ وَالشَّمْسُ مِنْ نُورِكَ تَسْتَمْلِي
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مُنَاسَبَةَ رُءُوسِ الْآيِ أَوْ أَنَّ انتفاع أهل السموات بِهِ أَكْثَرُ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يُقَالُ إِنَّ القمر وجهه يضيء لأهل الشمس.(3/259)
وَظَهْرُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِنَّ} لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ نُورِهِ يُضِيءُ إِلَى أَهْلِ السماء.
الثامن: الغلبة والكثرة.
كقوله تعالى: {منهم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بإذن الله} قَدَّمَ الظَّالِمَ لِكَثْرَتِهِ ثُمَّ الْمُقْتَصِدَ ثُمَّ السَّابِقَ.
وقوله: {فمنهم شقي وسعيد} {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخرة} .
{الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين} .
وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} يعني بدليل قوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وَحَدِيثِ بَعْثِ النَّارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ كفروا فأعذبهم عذابا شديدا} قُدِّمَ ذِكْرُ الْعَذَابِ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ الذين كفروا بعيسى وراموا قتله.
وَجُعِلَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ والسارقة} لِأَنَّ السَّرِقَةَ فِي الذُّكُورِ أَكْثَرُ.
وَقَدَّمَ فِي الزنى المرأة في قوله: {الزانية والزاني} لأن الزنى فِيهِنَّ أَكْثَرُ وَأَمَّا قَوْلُهُ:.(3/260)
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} .
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سِيقَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا لِعُقُوبَتِهِمَا عَلَى مَا جَنَيَا وَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمَادَّةُ الَّتِي نشأت منها الخيانة لأنها لو لم تطمع الرجل [ولم تومض له] وَتُمَكِّنْهُ لَمْ يَطْمَعْ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ فَلَمَّا كَانَتْ أَصْلًا وَأَوَّلًا فِي ذَلِكَ بَدَأَ بِذِكْرِهَا وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكَاحِ وَالرَّجُلُ أَصْلٌ [فِيهِ] لأنه هو الراغب والخاطب يَبْدَأُ الطَّلَبُ.
وَمِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويحفظوا فروجهم} ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّمَ غَضَّ الْبَصَرِ لِأَنَّ النَّظَرَ يريد الزنى وَرَائِدُ الْفُجُورِ وَالْبَلْوَى بِهِ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ وَلَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَاسِ مِنْهُ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلَى الْعَذَابِ، حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ وَلِهَذَا وَرَدَ: " إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ".
وَأَمَّا تَقْدِيمُ التَّعْذِيبِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ فللسياق.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لكم} قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: إِنَّمَا قُدِّمَ الْأَزْوَاجُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ أَنَّ فِيهِمْ أَعْدَاءً وَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي الْأَزْوَاجِ أَقْعَدُ مِنْهُ فِي الْأَوْلَادِ فَكَانَ أَقْعَدَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَقُدِّمَ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وأولادكم فتنة} لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تَكَادُ تُفَارِقُهَا الْفِتْنَةُ: {إِنَّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} {مرنا مترفيها ففسقوا فيها} ، وَلَيْسَتِ الْأَوْلَادُ فِي اسْتِلْزَامِ الْفِتْنَةِ مِثْلَهَا وَكَانَ تقدمها أولى.(3/261)
التَّاسِعُ: سَبْقُ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ.
وَهُوَ دَلَالَةُ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تريحون وحين تسرحون} لَمَّا كَانَ إِسْرَاحُهَا وَهِيَ خِمَاصٌ وَإِرَاحَتُهَا وَهِيَ بِطَانٌ قَدَّمَ الْإِرَاحَةَ لِأَنَّ الْجَمَالَ بِهَا حِينَئِذٍ أفخر.
وقوله: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ: {والتي أحصنت فرجها} وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الِابْنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} وَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَإِنَّهُ قَدَّمَ الْحُكْمَ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِهِ لِلْحُكْمِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السِّيَاقُ فِي الْحُكْمِ قَدَّمَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} ، ويحتمل أن الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحِكْمَةَ وَبِهَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتيناه حكما وعلما} وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْحَكِيمِ عَلَى الْعَلِيمِ فِي سُورَةِ الانعامفلأنه مَقَامُ تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَمَّا فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ فَقَدَّمَ الْعَلِيمَ عَلَى الْحَكِيمِ لِقَوْلِهِ فِي آخرها: {وعلمتني من تأويل الأحاديث} .(3/262)
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَحْوِ عَلَى الْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِهِ: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} فإن قبله: {لكل أجل كتاب} وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَحْوُ أَقَلُّ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا سِيَّمَا على قراءة تشديد يُثَبِّتُ فَإِنَّهَا نَاصَّةٌ عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْرَارُ لَا الِاسْتِئْنَافُ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ويحق الحق بكلماته} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قبلك وجعلنا لهم أزواجا} ، قَدَّمَ "رُسُلًا" هُنَا عَلَى "مِنْ قَبْلِكَ" وَفِي غَيْرِ هَذِهِ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي الرُّسُلِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قَدَّمَ الْقَبْضَ لِأَنَّ قَبْلَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كثيرة وَكَانَ هَذَا بَسْطًا فَلَا يُنَاسِبُ تِلَاوَةَ الْبَسْطِ فَقَدَّمَ الْقَبْضَ لِهَذَا وَلِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْهُ سَبَبُهُ خَوْفُ الْقِلَّةِ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْجِيهِ فَإِنَّ الْقَبْضَ مُقَدَّرٌ وَلَا بد.
العاشر: مراعاة اشتقاق اللفظ.
كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .
{علمت نفس ما قدمت وأخرت} .
{ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} .(3/263)
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يوم معلوم} .
{ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} .
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعة ولا يستقدمون} فَقُدِّمَ نَفْيُ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ وإنما ذكر التقدم مع عدم إمكان التقدم نَفْيًا لِأَطْرَافِ الْكَلَامِ كُلِّهِ.
وَكَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ هُوَ يبدئ ويعيد} .
وقوله: {كما بدأكم تعودون} .
{لله الأمر من قبل ومن بعد} .
{له الحمد في الأولى والآخرة} .
وقوله: {هو الأول والآخر} .
{في الدنيا والآخرة} .
فَإِنْ قُلْتَ قَدْ جَاءَ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخرة والأولى} . {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} .
قُلْتُ: لِمُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ.(3/264)
ومثله: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين} وَلِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ فَقُدِّمُوا.
الْحَادِيَ عَشَرَ: لِلْحَثِّ عَلَيْهِ خِيفَةً مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ.
كَتَقْدِيمِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بعد وصية يوصي بها أو دين} فَإِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ سَابِقٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ لَكِنْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَاهَلُونَ بِتَأْخِيرِهَا بِخِلَافِ الدين.
ونظيره: {يهب لمن يشاء إناثا} قدم الإناث حثا على الإحسان إليهم.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي [النَّتَائِجِ] : إِنَّمَا قُدِّمَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَجْهَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بخلاف الدين الذي تعوذ الرسل منه فبدىء بِهَا لِلْفَضْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ وَالدَّيْنَ لِغَيْرِهِ وَنَفْسُكَ قَبْلَ نَفْسِ غَيْرِكَ تَقُولُ هَذَا لِي وَهَذَا لِغَيْرِي وَلَا تَقُولُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ هَذَا لِغَيْرِي وَهَذَا لِي.
الثَّانِيَ عَشَرَ: لِتَحَقُّقِ مَا بَعْدَهُ وَاسْتِغْنَائِهِ هُوَ عَنْهُ فِي تَصَوُّرِهِ.
كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .(3/265)
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وعمل صالحا} .
وقوله: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا} .
الثَّالِثَ عَشَرَ: الِاهْتِمَامُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ.
كَقَوْلِهِ: {فَحَيُّوا بأحسن منها أو ردوها} .
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَهُ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْهُ ".
وَقَوْلِهِ: {ولذي القربى واليتامى والمساكين} لِفَضْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَ مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} .
وقوله: {ودية مسلمة إلى أهله} فَقَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ وَعَكَسَ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ حَيْثُ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وتحرير رقبة مؤمنة} .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي [الْحَاوِي] : وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَافِرَ يَرَى تَقْدِيمَ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " إِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهُمَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لِئَلَّا يُلْحَقَ بِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي دار الحرب في قوله: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة} فَضَمَّ إِلَيْهِ الدِّيَةَ إِلْحَاقًا بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ "، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.(3/266)
وَقَالَ الْفَقِيهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الرِّفْعَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يُهْدِرُ الدِّمَاءَ وَهُوَ مَوْجُودٌ كَانَ الْغَايَةَ بِبَذْلِ الدَّمِ عِنْدَ الْعِصْمَةِ لِأَجْلِ الْمِيثَاقِ أَتَمَّ لِأَنَّهُ يُغْمِضُ حكمته فَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الدِّيَةُ فِيهِ وَأُخِّرَتِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ حُكْمَهَا قَدْ سَبَقَ. وَلَمَّا كَانَتْ عِصْمَةُ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةً وَقِيَاسُ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ خُصُوصًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنِ الْخَطَأِ كَانَتِ الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ أَتَمَّ لِأَنَّهَا الَّتِي تُغْمِضُ فَقُدِّمَتْ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} قِيلَ: لِمَاذَا بَدَأَ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ الْمَشْرِقِ وَكَانَ مَسْكَنُ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ؟ قِيلَ: لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ إِمَّا لِتَمَرُّدِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ طُغْيَانِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْنَا عِلْمُهُ.
وَمِنْ هَذَا أَنَّ تأخر المقصود بالمدح والذم أولىمن تَقَدُّمِهِ كَقَوْلِهِ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَهُمْ فِي هَذَا بِذِكْرِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَهَمُّ.
فَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إنه أواب} فَإِنَّ الْمَمْدُوحَ هُنَا بِـ"نِعْمَ الْعَبْدُ" هُوَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ فِي الْآيَتَيْنِ ضَمِيرُ سُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَتَقْدِيرُهُ نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ لَا مُقَيَّدٌ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لله شركاء الجن} ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ "اللَّهَ" فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ"جَعَلَ" وَ"شُرَكَاءَ" مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَيَكُونُ "الْجِنَّ" فِي كَلَامٍ ثَانٍ مُقَدَّرٍ،.(3/267)
كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَنْ جَعَلُوا شُرَكَاءَ؟ قِيلَ: الْجِنُّ وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْإِنْكَارِ عَلَى جَعْلِهِمْ "لِلَّهِ شُرَكَاءَ" عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَدْخُلُ مُشْرِكَةُ غَيْرِ الْجِنِّ وَلَوْ أَخَّرَ فَقِيلَ: وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كان الجن مفعولا أولا وشركاء ثَانِيًا فَتَكُونُ الشَّرِكَةُ مُقَيِّدَةً غَيْرَ مُطْلَقَةٍ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى الْجِنِّ فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ تَوَجَّهَ لِجَعْلِ الْمُشَارَكَةِ لِلْجِنِّ خَاصَّةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ سَبَقَتْ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مُرَتَّبٌ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} قَدَّمَ الْجِبَاهَ ثُمَّ الْجُنُوبَ لِأَنَّ مَانِعَ الصَّدَقَةِ فِي الدُّنْيَا كَانَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ أَوَّلًا عَنِ السائل ثم ينوه بِجَانِبِهِ ثُمَّ يَتَوَلَّى بِظَهْرِهِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: التَّنَقُّلُ.
وَهُوَ أَنْوَاعٌ: إِمَّا مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ، كقوله: {يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فراشا والسماء بناء} قَدَّمَ ذِكْرَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ وَقَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا في السماء} ، لقصد الترقي.(3/268)
وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العرش العظيم} .
وَإِمَّا بِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْجَاثِيَةِ: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وما يبث من دابة} .
وَإِمَّا مِنَ الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إلا هو} .
وَقَوْلِهِ: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ} .
وإما من الأدنى كقوله: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة} .
وَقَوْلِهِ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة} .
وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} .
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا اكْتَفَى بِنَفْيِ الْأَدْنَى لِيُعْلَمَ مِنْهُ نَفْيُ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؟ قُلْتُ: جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالزَّمَانِ.
وَكَقَوْلِهِ: {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} الْآيَةَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المسيح أن يكون عبدا لله} فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ سِيَاقَهَا يَقْتَضِي التَّرَقِّيَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَسْتَنْكِفُ فُلَانٌ عَنْ خِدْمَتِكَ وَلَا مَنْ دُونَهُ بَلْ وَلَا مَنْ فَوْقَهُ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ الْوَلَدِيَّةَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَوَارِقِ.(3/269)
وَالْمُعْجِزَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وغيره ولكونه خلق من غير تراب وَالتَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا وَغَالِبِ هَذِهِ الْأُمُورِ هِيَ لِلْمَلَائِكَةِ أَتَمُّ وَهُمْ فِيهَا أَقْوَى فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ أَوْجَبَتْ عِبَادَتَهُ فَهُوَ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بَلْ وَلَا مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ لِلتَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فِي الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ الشَّرَفُ الْمُطْلَقُ وَالْفَضِيلَةُ على المسيح.
السابع عشر: الترقي.
كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يبطشون بها} الْآيَةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَدَأَ مِنْهَا بِالْأَدْنَى لِغَرَضِ الترقي لأن منفعة الرَّابِعِ أَهَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَمَنْفَعَةَ الثَّالِثِ أَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّانِي وَمَنْفَعَةَ الثَّانِي أَعَمُّ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ.
وَقَدْ قُرِنَ السَّمْعُ بِالْعَقْلِ وَلَمْ يُقْرَنْ بِهِ الْبَصَرُ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} وَمَا قُرِنَ بِالْأَشْرَفِ كَانَ أَشْرَفَ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرَّبْعِيِّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ:.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ الْوَصْفُ الْأَعْلَى ثُمَّ مَا دُونَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَضْعَفِهَا لِأَنَّهُ إِذَا بدأ بسلب الوصف الأعلى ثم بسلب مادونه كَانَ ذَلِكَ أَبْلِغَ فِي الذَّمِّ.(3/270)
لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَلْبِ الْأَعْلَى سَلْبُ مَا دُونَهُ كَمَا تَقُولُ لَيْسَ زَيْدٌ بِسُلْطَانٍ وَلَا وَزِيرٍ وَلَا أَمِيرٍ وَلَا وَالٍ وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ.
قُلْتُ: مَا ذَكَرْتَهُ طَرِيقٌ حَسَنَةٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي تَعْبُدُهَا الْكُفَّارُ أَمْثَالُ الْكُفَّارِ فِي أَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مَرْبُوبَةٌ ثُمَّ حَطَّهَا عَنْ دَرَجَةِ الْمِثْلِيَّةِ بِنَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْكُفَّارِ عَنْهَا. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الذَّوَاتِ الْمُتَنَائِيَةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهَا إِذْ هِيَ أَسْبَابٌ فِي ثُبُوتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا وَتَقْوَى الْمُمَاثَلَةُ بِقُوَّةِ أَسْبَابِهَا وَتَضْعُفُ بِضَعْفِهَا فَإِذَا سُلِبَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِإِحْدَى الذَّاتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى انْتَفَى وَجْهٌ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إِذَا سُلِبَ وَصْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ انْتَفَى وَجْهٌ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْلُبُ أَسْبَابَ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَاهَا فَأَقْوَاهَا حَتَّى تَنْتَفِيَ الْمُمَاثَلَةُ كُلُّهَا بِهَذَا التَّدْرِيجِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَلْطَفُ مِنْ سَلْبِ أَسْبَابِ الْمُمَاثَلَةِ أَقْوَاهَا ثُمَّ أَضْعَفِهَا فَأَضْعَفِهَا.
الثَّامِنَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ الْإِفْرَادِ.
فَإِنَّ الْمُفْرَدَ سَابِقٌ عَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ والبنون} ، وقوله: {من مال وبنين} وَلِهَذَا لَمَّا عُبِّرَ عَنِ الْمَالِ بِالْجَمْعِ أُخِّرَ عَنِ الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهب والفضة} .(3/271)
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه} وقوله: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} .
التَّاسِعَ عَشَرَ: التَّحْذِيرُ مِنْهُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مشركة} ، قَرَنَ الزِّنَى بِالشِّرْكِ وَقَدَّمَهُ.
وَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} قَدَّمَهُنَّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْمِحْنَةَ بِهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الْمِحْنَةِ بِالْأَوْلَادِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي [فِي النَّاسِ] فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ". وَمِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ بدأ بذكر النساء في الدنيا وختم [الْحَرْثِ] وَهُمَا طَرَفَانِ مُتَشَابِهَانِ وَفِيهِمَا الشَّهْوَةُ وَالْمَعَاشُ الدُّنْيَوِيُّ وَلَمَّا ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ أَخَّرَ ذِكْرَ الْأَزْوَاجِ كَمَا يَجِبُ فِي التَّرْتِيبِ الْأُخْرَوِيِّ وَخَتَمَ بِالرِّضْوَانِ. وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَجَبِ إِذَا حَضَرَ لَهُ الذِّهْنُ وَفَرَغَ لَهُ الْفَهْمُ!.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ نَفْيِ الولد على نفي الوالد في قوله: {لم يلد ولم يولد} فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْأَوَّلِ مُنَازَعَةُ الْكَفَرَةِ وَتَقَوُّلُهُمُ اقْتَضَتِ الرُّتْبَةُ بِالطَّبْعِ تَقْدِيمَهُ فِي الذِّكْرِ اعْتِنَاءً بِهِ قَبْلَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْوَالِدِ الَّذِي لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ.
الْعِشْرُونَ: التَّخْوِيفُ مِنْهُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وَنَظَائِرِهِ السَّابِقَةِ فِي الثَّامِنِ.(3/272)
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدَّمَ الْجِبَالَ عَلَى الطَّيْرِ لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا لَهُ وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
قَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: وَلَيْسَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بناطق مَا يُرَادُ بِهِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ.
الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ: كَوْنُهُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أربع} .
وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: قَصْدُ التَّرْتِيبِ.
كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَسْحِ بَيْنَ الْغَسْلَيْنِ وَقَطْعَ النَّظَرِ عَنِ النَّظِيرِ مَعَ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي لِسَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّرْتِيبِ.(3/273)
وَكَذَلِكَ الْبَدَاءَةُ فِي الصَّفَا بِالسَّعْيِ وَمِثْلُهُ الْكَفَّارَةُ الْمُرَتَّبَةُ فِي الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.
وَهُنَا قَاعِدَةٌ ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا وَهِيَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُرَتَّبَةَ بَدَأَ اللَّهُ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ وَالْمُخَيَّرَةَ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلِهَذَا حَمَلُوا آيَةَ الْمُحَارَبَةِ فِي قَوْلُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} ، الْآيَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: خِفَّةُ اللَّفْظِ.
كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: رَبِيعَةُ وَمُضَرُ مَعَ أَنَّ مُضَرَ أَشْرَفُ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مُضَرَ لَتَوَالَى حَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ وَذَلِكَ يَثْقُلُ فَإِذَا قَدَّمُوا رَبِيعَةَ وَوَقَفُوا عَلَى مُضَرَ بِسُكُونِ الرَّاءِ نَقُصَ الثِّقَلُ لِقِلَّةِ الْحَرَكَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ مِنْ ذَلِكَ فَالْإِنْسُ أَخَفُّ لِمَكَانِ النُّونِ وَالسِّينِ الْمَهْمُوسَةِ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ.
كتأخير الغفور في قوله: {عفو غفور} وقوله: {وكان رسولا نبيا} .(3/274)
وَإِنْ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ تَأْخِيرَ مَا هُوَ الْأَبْلَغُ فَإِنَّهُ يُقَالُ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ وَسَبَقَ لَهُ نَظَائِرُ.
وَكَقَوْلِهِ: {خُذُوهُ فغلوه ثم الجحيم صلوه} ، وَلَوْ قَالَ: صَلُّوهُ الْجَحِيمَ لَأَفَادَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ يَفُوتُ الْجَمْعُ.
وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ الِاخْتِصَاصُ.
وَقَوْلِهِ: {إِنْ كنتم إياه تعبدون} فَقَدَّمَ [إِيَّاهُ] عَلَى [تَعْبُدُونَ] لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ.
تَنْبِيهٌ:.
قَدْ يَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ سَبَبَانِ فَأَكْثَرُ لِلتَّقْدِيمِ فَإِمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ إِعَادَةُ الْكُلِّ أَوْ يُرَجَّحَ بَعْضُهَا لِكَوْنِهِ أَهَمَّ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى أَهَمَّ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْأَسْبَابُ رُوعِيَ أَقْوَاهَا فَإِنْ تَسَاوَتْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ فِي تَقْدِيمِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِمَّا قُدِّمَ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ.
فَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْإِعْرَابُ كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَخْشَى الله من عباده العلماء} ، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} ، {وإذ ابتلى.(3/275)
إبراهيم ربه} .
وَنَحْوِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْحَصْرِ.
كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ. كَقَوْلِهِ: {قل أفغير الله تأمروني} {قل الله أعبد} .
وَكَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} وَلَوْ قَالَ:" وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ " لَمَا أَشْعَرَ بِزِيَادَةِ وُثُوقِهِمْ بِمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ.
وَكَذَا: {أَرَاغِبٌ أنت عن آلهتي} وَلَوْ قَالَ:" أَأَنْتَ رَاغِبٌ عَنْهَا "؟ مَا أَفَادَتْ زِيَادَةَ الْإِنْكَارِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَكَذَلِكَ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَلَمْ يَقُلْ: فَإِذَا أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ وَكَانَ يُسْتَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالشُّخُوصِ.
وَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نفسا فادارأتم فيها} ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا أَوَّلُ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي التِّلَاوَةِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَاتِلِ قَبْلَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَإِنَّمَا أُخِّرَ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: {إِنَّ الله يأمركم} الْآيَةَ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ الْبَقَرَةَ لَا تُذْبَحُ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَاتِلٍ خَفِيَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِلْمُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ أُتْبِعَ بقوله: {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لَا أَنَّهُ عَرَّفَهُمُ الِاخْتِلَافَ فِي الْقَاتِلِ بَعْدَ أَنْ دَلَّهُمْ عَلَى ذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي يُرَادُ به التقدم،.(3/276)
وَتَأْوِيلُهُ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فَسَأَلْتُمْ مُوسَى فَقَالَ لَكُمْ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تذبحوا بقرة} .
وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيرَادَهَا إِنَّمَا كَانَ يَتَأَتَّى عَلَى الْوَجْهِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ لِمَعْنًى حَسَنٍ لَطِيفٍ اسْتَخْرَجَهُ وَأَبْدَاهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هواه} وَأَصْلُ الْكَلَامِ هَوَاهُ إِلَهَهُ كَمَا تَقُولُ اتَّخَذَ الصَّنَمَ مَعْبُودًا لَكِنْ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِلْعِنَايَةِ كَمَا تَقُولُ عَلِمْتُ مُنْطَلِقًا زَيْدًا لِفَضْلِ عِنَايَتِكَ بِانْطِلَاقِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الْآيَةَ، أَيْ أَنْزَلَهُ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَالَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ.
وَرَدَّهُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْ له عوجا قيما} مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَامِلٌ فِي ذَاتِهِ وَأَنَّ " قَيِّمًا " مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِغَيْرِهِ وَكَوْنُهُ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ سَابِقٌ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ " قَيِّمًا " أَنَّهُ قَائِمٌ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ. قَالَ: فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ. انْتَهَى.
وَهَذَا فَهْمٌ عَجِيبٌ مِنَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا يَقُولُ بِأَنَّ كَوْنَهُ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ كَوْنِهِ قَيِّمًا فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ اللَّفْظِ لِأَجْلِ الْإِعْرَابِ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ ثَابِتًا قَبْلَ الْآخَرِ وَيُذْكَرُ بَعْدَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَفْسِيرِ الْقَيِّمِ بِالْمُسْتَقِيمِ فَأَمَّا إِذَا فُسِّرَ بِالْقِيَامِ عَلَى غَيْرِهِ فلا نسلم أن القائل يقول بالتقديم والتأخير.
وهاهنا أمران أمران:.(3/277)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَظْهَرَ جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَعْنِي قوله: {ولم يجعل له عوجا قيما} مِنْ جُمْلَةِ صِلَةِ "الَّذِي" وَتَمَامِهَا وَعَلَى هَذَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْحَالِ وَعَامِلِهَا وَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَهَا النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْكِتَابَ وَالْعَامِلُ فِيهَا " أَنْزَلَ ".
قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: [قَيِّمًا] فَيَجُوزُ فِي نَصْبِهِ وُجُوهٌ:.
أَحَدُهَا:- وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ - أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ [الْكِتَابَ] وَالْعَامِلُ فِيهِ [أَنْزَلَ] وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا] فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا اعْتِرَاضًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ وَتَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا فَيَكُونُ مَفْعُولًا لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يجعل له عوجا} وَتَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَكُونَ [قَيِّمًا] مَفْعُولًا لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا عِنْدَهُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ وَ [قَيِّمًا] مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَإِذَا كَانَ حَالًا يَكُونُ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ بَعْضِ الصِّلَةِ وَتَمَامِهَا فَكَانَ الْأَحْسَنُ جَعْلَهُ مَعْمُولًا لِمُقَدَّرٍ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي تَفْسِيرِ البحر بعد نقله كلام الزمخشري: وعجيب من كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلِ الْفَاصِلَ الْمَذْكُورَ حَالًا أَيْضًا وَلَا فَصَلَ بَلْ هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ غَيْرَ مُعْوَجٍّ.(3/278)
وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ جَعْلُ الْجُمْلَةِ حَالًا - قَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ قَبْلَ ابْنِ الْمُنَيِّرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يَرْتَضِ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ جَعْلَ الجملة حالا يفيده لا مَا يُفِيدُ الْعَطْفُ مِنْ نَفْيِ الْعِوَجِ عَنِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْإِنْزَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَالْفَائِدَةُ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ كَيْفَ وَالْقَوْلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ رُبَّمَا لَاحَظَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ غَيْرِ مَا قَالَ لَكِنْ مَا قَالَ هُوَ الْأَحْسَنُ.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْمُنَيِّرِ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ الْجُمْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً فَهِيَ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلْعَطْفِ فَلَمْ يَقَعْ فَصْلٌ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ: [عِوَجًا] وَيَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ " قَيِّمًا " بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ رِوَايَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ الْفَصْلِ وَانْقِطَاعِ الْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ وَتَحْتَمِلُ السَّكْتَةُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَيِّمًا نَعْتًا لِلْعِوَجِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَدْعِي النَّعْتَ غَالِبًا وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ إِيلَاءُ النكرة الجامدة نعتها كقوله: {صراطا مستقيما} ، و {قرآنا عربيا} فَإِذَا وَلِيَ النَّكِرَةَ الْجَامِدَةَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ نَكِرَةٌ ظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى الْوَصْفِ فَرُبَّمَا خِيفَ اللَّبْسُ في جعل [قيما] نعتا لـ[عوج] فوقع اللَّبْسُ بِهَذِهِ السَّكْتَةِ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا وَلَا يَصْلُحُ قَيِّمًا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ عِوَجٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يُوصَفُ بِضِدِّهِ لِأَنَّ الْعِوَجَ لَا يَكُونُ قَيِّمًا وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا(3/279)
الثَّانِي: نَقَلَ الْإِمَامُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ قَيِّمًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ عِوَجًا وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ همت به وهم بها} قِيلَ: التَّقْدِيرُ: لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَهَمَّ بِهَا وَهَذَا أَحْسَنُ لَكِنْ فِي تَأْوِيلِهِ قَلَقٌ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّغَائِرَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَضَحِكَتْ فبشرناها بإسحاق} قِيلَ: أَصْلُهُ: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ. وَقِيلَ: ضَحِكَتْ أَيْ حَاضَتْ بَعْدَ الْكِبَرِ عِنْدَ الْبُشْرَى فَعَادَتْ إِلَى عَادَاتِ النِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ.
وقوله: {فأردت أن أعيبها} ، قدم علىما بَعْدَهُ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلتَّوَافُقِ.
وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أَيْ أَحَوَى غُثَاءً أَيْ أَخْضَرَ يَمِيلُ إِلَى السواد والموجب لتأخير أحوى رِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دينا} قَالَ ابْنُ بُرْهَانَ النَّحْوِيُّ: أَصْلُهُ: وَمَنْ يَبْتَغِ دينا غير الإسلام.
وقوله: {وغرابيب سود} قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغِرْبِيبُ: الشَّدِيدُ السَّوَادِ فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَقَالَ صَاحِبُ [الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ] : قَالَ ابْنُ عِيسَى:.(3/280)
الْغِرْبِيبُ: الَّذِي لَوْنُهُ لَوْنُ الْغُرَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ غُرَابٌ. قَالَ: وَالْغُرَابُ يَكُونُ أَسْوَدَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الذِّكْرَ هُنَا الْقُرْآنُ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} .
وقوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر} .
وقوله: {فكذبوه فعقروها} أَيْ فَعَقَرُوهَا ثُمَّ كَذَّبُوهُ فِي عَقْرِهَا وَفِي إِجَابَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عنده} تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى أَيْ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ.
وَقَوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوثان} أي الْأَوْثَانَ مِنَ الرِّجْسِ.
{هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لربهم يرهبون} أَيْ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أَيِ الَّذِينَ هُمْ حَافِظُونَ لِفُرُوجِهِمْ.
{فَلَا تَحْسَبَنَّ الله مخلف وعده رسله} أَيْ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ.
{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نفسه بصيرة} أَيْ بَلِ الْإِنْسَانُ بَصِيرٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُهُودِ جَوَارِحِهِ عَلَيْهِ.
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ.
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وأجل مسمى} أي ولولا.(3/281)
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لَازِمًا لَهُمْ.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أَيْ كَيْفَ مَدَّهُ رَبُّكَ.
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لشديد} أَيْ لَشَدِيدٌ لِحُبِّ الْخَيْرِ.
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم.} أَيْ زَيَّنَ لِلْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يُحَسِّنُونَ لَهُمْ قَتْلَ بَنَاتِهِمْ خَشْيَةَ الْعَارِ.
وَقَوْلُهُ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فضل الله عليكم ورحمته} .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} أَيْ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعمالهم كرماد اشتدت به الريح} تقديره: مثل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ.
وقوله: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} أَيْ فَأَنَا عَدُوُّ آلِهَتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ وَكُلِّ مَعْبُودٍ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا} أَيْ فَزِعُوا وَأُخِذُوا فَلَا فَوْتَ لِأَنَّ الْفَوْتَ يَكُونُ بَعْدَ الْأَخْذِ.
وَقَوْلُهُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} ، يعني القيامة. {وجوه يومئذ خاشعة} .(3/282)
وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} وَالنَّصَبَ وَالْعَمَلُ يَكُونَانِ فِي الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُ عَلَى التقديم والتأخير معناه وجوه عاملة ناصبة وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يومئذ ناعمة} .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فتكفرون} ، تَقْدِيرُهُ: لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا حِينَ دعيتم إلا الْإِيمَانِ فَكَفَرْتُمْ وَمَقْتُهُ إِيَّاكُمُ الْيَوْمَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ دُعِيتُمْ إِلَى النَّارِ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسود من الفجر} ، لِأَنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ لَهُ سَوَادٌ وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ الصُّبْحِ مِنْ بَقِيَّةِ سَوَادِ اللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لم تكن بينكم وبينه مودة} .
وقوله: {كأن لم تكن} منظوم بقوله: {قد أنعم الله علي} لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الشَّمَاتَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تتخذوا إلهين اثنين} ، أي اثنين إلهين لأن اتخاذاثنين يقع على ما يجوز وما لايجوز وَ"إِلَهَيْنِ" لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَ إِلَهَيْنِ أَخَصُّ فَكَانَ جَعْلُهُ صفة أولى.(3/283)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا قُدِّمَ فِي آيَةٍ وَأُخِّرَ فِي أُخْرَى.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي فَاتِحَةِ الفاتحة: {الحمد لله} وفي خاتمة الجاثية: {فلله الحمد} فَتَقْدِيمُ "الْحَمْدِ" فِي الْأَوَّلِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرِ لِمَنِ الْحَمْدُ وَمَنْ أَهْلُهُ فَجَاءَ الْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ نَظِيرُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم قال: {لله الواحد القهار} .
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمَرْفُوعِ لِاشْتِمَالِ مَا قَبْلَهُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الرُّسُلَ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَكَانَ مَظِنَّةُ التَّتَابُعِ عَلَى مَجْرَى الْعِبَارَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةَ وَيَبْقَى مُخَيَّلًا فِي فِكْرِهِ أكانت كلها كذلك أم كان فيها.. عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قبل} ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قبل} ، فإن ما قبل الأولى {أإذا كنا ترابا وآباؤنا} وما قبل الثانية {أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما} ، فَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَاكَ كَوْنُ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ تُرَابًا وَالْجِهَةُ الْمَنْظُورُ فِيهَا هُنَا كَوْنُهُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْأُولَى أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي تَبْعِيدِ الْبَعْثِ.(3/284)
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَقَالَ الْمَلَأُ من قومه الذين كفروا} ، فَقُدِّمِ الْمَجْرُورُ عَلَى الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ - وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ تَمَامَ الْوَصْفِ بِتَمَامِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَتَمَامُهُ {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا} - لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سورة طه: {آمنا برب هارون وموسى} .
بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {رَبِّ مُوسَى وهارون} .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نحن نرزقكم وإياهم} ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} قَدَّمَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْأُولَى فِي الْفُقَرَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {من إملاق} فَكَانَ رِزْقُهُمْ عِنْدَهُمْ أَهَمَّ مِنْ رِزْقِ أَوْلَادِهِمْ فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ والخطاب في الثانية للأغيناء بدليل: {خشية إملاق} فَإِنَّ الْخَشْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فَكَانَ رِزْقُ أَوْلَادِهِمْ هُوَ الْمَطْلُوبَ دُونَ رِزْقِهِمْ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ فَكَانَ أَهَمَّ فَقَدَّمَ الْوَعْدَ بِرِزْقِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى الْوَعْدِ بِرِزْقِهِمْ.
وَمِنْهَا ذِكْرُ اللَّهِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غيب السماوات والأرض} فقدم ذكر السموات لِأَنَّ مَعْلُومَاتِهَا أَكْثَرُ فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَدَلَّ عَلَى صِفَةِ الْعَالِمِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} فَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي.(3/285)
سِيَاقِ تَعْجِيزِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْخَلْقِ وَالْمُشَارَكَةِ وَأَمْرُ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِكَثِيرٍ فَبَدَأَ بِالْأَرْضِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ عَجْزِهِمْ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ عَنْ أَعْظَمِهِمَا أَعْجَزَ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ، فقدم السموات تنبيها على عظم قدرته سبحانه لأنه خَلْقَهَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا صُرِّحَ به في سور الْمُؤْمِنِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَعْظَمِ كَانَ عَلَى إِمْسَاكِ الْأَصْغَرِ أَقْدَرَ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا اكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ!.
قُلْتُ: أَرَادَ ذِكْرَهَا مُطَابَقَةً لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ وَمَا أُودِعَهُ مِنَ الْبَيَانِ وَالتِّبْيَانِ تَحْمَدْ عَاقِبَةَ النَّظَرِ وَتَنْتَظِرْ خَيْرَ مُنْتَظَرٍ!.
وَمِنْ أَنْوَاعِهِ أَنْ يُقَدَّمَ اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ وَيَتَأَخَّرَ فِيهَا لِقَصْدِ أَنْ يَقَعَ الْبَدَاءَةُ وَالْخَتْمُ بِهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فأما الذين اسودت وجوههم} .
وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ من اللهو ومن التجارة} .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا أَسْلَفْنَاهُ لَقِيلَ مَا تَكْتُمُونَ وَتَبْدُونَ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِعِلْمِهِ.(3/286)
أمدح كما قيل: {يعلم سركم وجهركم} و {عالم الغيب والشهادة} {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} .
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى} .
قُلْتُ لِأَجْلِ تَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَقَعَ التَّقْدِيمُ فِي مَوْضِعٍ وَالتَّأْخِيرُ فِي آخَرَ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، لِلتَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى عِدَّةِ أَسَالِيبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} .
وَقَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وقوله: {وختم على سمعه وقلبه} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ كِلَا الطَّرِيقَيْنِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالتَّثْنِيَةِ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَإِنَّهُ حَسَنٌ مُؤَدٍّ إِلَى الْغَرَضِ. وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَمْ يُجْعَلْ لِلرَّجُلِ مَنْزِلَةً بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ بِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجَائِي كَأَنَّكَ قُلْتَ: مَرَرْتُ بِهِمَا يَعْنِي فِي قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَجَاءَنِي إِلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ تَقْدِيمُ الْأَفْضَلِ فَالْقَلْبُ رَئِيسُ الْأَعْضَاءِ وَالْمُضْغَةُ لَهَا الشَّأْنُ ثُمَّ السَّمْعُ طَرِيقُ إدرك وَحْيِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ كُلُّهَا.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ كُلِّ مَوْضِعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ.(3/287)
الْقَلْبُ:.
وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ خِلَافٌ فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حَازِمٌ فِي كِتَابِ: "مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ" وَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَبِقَصْدِ الْعَبَثِ أَوِ التَّهَكُّمِ أَوِ الْمُحَاكَاةِ أَوْ حَالِ اضْطِرَارٍ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذلك.
وقبله جماعة مطلقة بِشَرْطِ عَدَمِ اللَّبْسِ كَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ: "مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ".
وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَتَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا فَبَلِيغٌ وَإِلَّا فَلَا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: يَجُوزُ الْقَلْبُ عَلَى التَّأْوِيلِ ثُمَّ قَدْ يَقْرُبُ التَّأْوِيلُ فَيَصِحُّ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ وَقَدْ يَبْعُدُ فَيَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ.
وَهُوَ أَنْوَاعٌ:.
أَحَدُهَا: قَلْبُ الْإِسْنَادِ.
وَهُوَ أَنْ يَشْمَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى شَيْءٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} إِنْ لَمْ تَجْعَلِ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمَفَاتِحَ تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعُصْبَةَ تَنُوءُ بِالْمَفَاتِحِ لِثِقَلِهَا فَأَسْنَدَ " لَتَنُوءُ " إِلَى "الْمَفَاتِحِ" وَالْمُرَادُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْعُصْبَةِ.(3/288)
لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ وَالْعُصْبَةَ مُسْتَصْحِبَةُ الْمَفَاتِحِ لَا تستصحبها المفاتيح وفائدته المبالغة يجعل الْمَفَاتِحِ كَأَنَّهَا مُسْتَتْبِعَةٌ لِلْعُصْبَةِ الْقَوِيَّةِ بِثِقَلِهَا.
وَقِيلَ: لَا قَلْبَ فِيهِ وَالْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من نقلها وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا بِالنَّقْلِ وَلَا قَلْبَ وَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ لِأَنَّ [نَاءَ] غَيْرُ مُتَعَدٍّ يُقَالُ: نَاءَ النَّجْمُ أَيْ نَهَضَ وَيُقَالُ: نَاءَ أَيْ مَالَ لِلسُّقُوطِ فَإِذَا نَقَلْتَ الْفِعْلَ بِالْبَاءِ قُلْتَ: نُؤْتُ بِهِ أَيْ أَنْهَضْتُهُ وَأَمَلْتُهُ لِلسُّقُوطِ فَقَوْلُهُ: {لتنوء بالعصبة} أَيْ تُمِيلُهَا الْمَفَاتِحُ لِلسُّقُوطِ لِثِقَلِهَا.
قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبُ الْفَارِسِيِّ أَصَحَّ لِأَنَّ نَقْلَ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِالْبَاءِ مَقِيسٌ وَالْقَلْبَ غَيْرُ مَقِيسٍ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ مَقِيسٌ أَوْلَى.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أَيْ خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَابْنُ السِّكِّيتِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: {وكان الإنسان عجولا} .
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: خلق الإنسان من العجلة لِكَثْرَةِ فِعْلِهِ إِيَّاهُ وَاعْتِمَادِهِ لَهُ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى مِنَ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدِ اطَّرَدَ وَاتَّسَعَ فَحَمْلُهُ عَلَى الْقَلْبِ يَبْعُدُ فِي الصَّنْعَةِ وَيُضْعِفُ الْمَعْنَى.
وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ إِنَّ الْعَجَلَ هَاهُنَا الطِّينُ قَالَ: وَلَعَمْرِي إِنَّهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرَ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا إِلَّا نَفْسُ الْعَجَلِ أَلَا ترى إلى قوله عقبه: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} ، ونظيره قوله: {وكان الإنسان عجولا} {وخلق الإنسان.(3/289)
ضعيفا} لِأَنَّ الْعَجَلَةَ ضَرْبٌ مِنَ الضَّعْفِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَالْحَاجَةُ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ سكرة الموت بالحق} أي إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَأَنَّهُ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ} وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ.
مِثْلُهُ: {لكل أجل كتاب} ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ أَجَلٌ مُؤَجَّلٌ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ يُرِدْكَ بخير} : هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ يُرِيدُ بِكَ الْخَيْرَ وَيُقَالُ: أَرَادَهُ بِالْخَيْرِ وَأَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ.
وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كلمات} ، قَالَ: فَآدَمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ حَقِيقَةً وَيَقْرُبُ أَنْ يُنْسَبَ التَّلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّى شَيْئًا أَوْ طَلَبَ أَنْ يَتَلَقَّاهُ فَلَقِيَهُ كَانَ الْآخَرُ أَيْضًا قَدْ طَلَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ قَالَ: ولقرب هذا المعنى قرىء بِالْقَلْبِ.
وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَعُمِّيَتْ عليكم} أَيْ فَعَمِيتُمْ عَلَيْهَا.
وَقَوْلَهُ: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض} .
وقوله: {وقد بلغت من الكبر عتيا} ، {وقد بلغني الكبر} أَيْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ.
وَقَوْلَهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هواه} وقوله: {فإنهم عدو لي.(3/290)
إلا رب العالمين} ، فَإِنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُعَادِي وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَوْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَاوَزْتَهُ وَخَلَّفْتَهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَنْ له إرادة وأما عاديته فمفاعة لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ بعضهم: {وإنه لحب الخير لشديد} أَيْ إِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ.
وَقِيلَ لَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ وَالشِّدَّةُ الْبُخْلُ أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لِلْمَالِ يَبْخَلُ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار} كقوله: عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ لِأَنَّ الْمَعْرُوضَ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ لِلْمَعْرُوضِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ وَيُرِيدُ وَعَلَى هَذَا فَلَا قَلْبَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَقْهُورُونَ فَكَأَنَّهُمْ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ وَالنَّارُ مُتَصَرِّفَةٌ فِيهِمْ وَهُوَ كَالْمَتَاعِ الَّذِي يُقَرَّبُ مِنْهُ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا: عُرِضَتِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْبَيْعِ.
وَقَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عليه المراضع من قبل} وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الملكف فَالْمَعْنَى وَحَرَّمْنَا عَلَى الْمَرَاضِعِ أَنْ تُرْضِعَهُ وَوَجْهُ تَحْرِيمِ إِرْضَاعِهِ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يَقْبَلَ إِرْضَاعَهُنَّ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى أُمِّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسهم} ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ وَمَا تَخْدَعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ هِيَ الْمُخَادِعَةُ وَالْمُسَوِّلَةُ، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ سولت لكم أنفسكم} .
ورد بأن الفاعل في مثل هذا هوالمفعول في المعنى وأن التغاير في اللفظ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَلْبِ.(3/291)
الثاني: قلب المعطوف.
إما بأن تجعل الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعْطُوفًا وَالْمَعْطُوفُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يرجعون} ، حَقِيقَتُهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ لأنه نَظَرَهُ مَا يَرْجِعُونَ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ مَعَ تَوَلِّيهِ عَنْهُمْ. وَمَا يُفَسَّرُ بِهِ التَّوَلِّي مِنْ أَنَّهُ يَتَوَارَى فِي الْكُوَّةِ الَّتِي أَلْقَى مِنْهَا الْكِتَابَ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ رَاجِحَةٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلِهِ: {ثم دنا فتدلى} أَيْ تَدَلَّى فَدَنَا لِأَنَّهُ بِالتَّدَلِّي نَالَ الدُّنُوَّ وَالْقُرْبَ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ وَإِلَى الْمَكَانَةِ لَا إِلَى الْمَكَانِ.
وَقِيلَ: لَا قَلْبَ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَرَادَ الدُّنُوَّ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: " {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ} الْمَعْنَى فَإِذَا اسْتَعَذْتَ فَأَقْرَأْ ".
وَقَوْلِهِ: {وَكَمْ مِنْ قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} ، وَقَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ: لَا قَلْبَ فِيهِ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهِ اعْتِبَارًا لَطِيفًا.
وَرُدَّ بِتَضَمُّنِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي شِدَّةِ سَوْرَةِ الْبَأْسِ يَعْنِي هَلَكَتْ بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهِ الناس إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَهَا.
الثَّالِثُ: الْعَكْسُ.
الْعَكْسُ، وَهُوَ أمر لفظي كقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا من حسابك عليهم من شيء} .(3/292)
وَقَوْلِهِ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} .
{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لهن} .
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل} .
الرَّابِعُ: الْمُسْتَوِي.
وَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ أَوِ الْكَلِمَاتِ تُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَمِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا لَا يَخْتَلِفُ لَفْظُهَا وَلَا مَعْنَاهَا كقوله: {وربك فكبر} .
{كل في فلك} .
الْخَامِسُ: مَقْلُوبُ الْبَعْضِ.
وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْأُولَى مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فرقت بين بني إسرائيل} فَـ"بَنِي" مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ "بَيْنَ" وَهُوَ مُفَرَّقٌ إِلَّا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْضُهَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ وهو أولها.(3/293)
الْمُدْرَجُ.
هَذَا النَّوْعُ سَمَّيْتُهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ بِنَظِيرِ الْمُدْرَجِ مِنَ الْحَدِيثِ وَحَقِيقَتُهُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ أَنْ تَجِيءَ الْكَلِمَةُ إِلَى جَنْبِ أُخْرَى كَأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ مَعَهَا وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ بِلْقِيسَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أعزة أهلها أذلة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لَا مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لمن الصادقين} .
انْتَهَى قَوْلُ الْمَرْأَةِ ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ.
وَمِنْهُ: {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} تَمَّ الْكَلَامُ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وصدق المرسلون} .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فهذه صفة لأتقياء المؤمنين ثم قال: {يمدونهم في الغي} فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ تَمُدُّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي الْغَيِّ.(3/294)
وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ مُتَّصِلًا: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
وَقَوْلُهُ: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بهم إنهم صالو النار} فالظاهر أن الكلام كله من كلام الزبانيةوالأمر لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سليم} مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى وَقَالَ: {إِلَّا مَنْ أَتَى الله بقلب سليم} .(3/295)
التَّرَقِّي.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نوم} ، {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة} .
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَرَدَ: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا ولا هضما} والغالب أن يقدم في الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ مَنْعٌ لِلْحَقِّ مِنْ أَصْلِهِ وَالْهَضْمَ مَنْعٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ كَالتَّطْفِيفِ فَكَانَ يُنَاسِبُهُ تَقْدِيمُ الْهَضْمِ.
قُلْتُ: لِأَجْلِ فَوَاصِلِ الْآيِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ: {وَقَدْ خاب من حمل ظلما} فَعَدَلَ عَنْهُ فِي الثَّانِي كَيْلَا يَكُونَ أَبْطَأَ وَقَدْ سِيقَتْ أَمْثِلَةُ التَّرَقِّي فِي أَسْبَابِ التَّقْدِيمِ.(3/296)
الِاقْتِصَاصُ.
ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ فِي سُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي السُّورَةِ نَفْسِهَا وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} ، وَالْآخِرَةُ دَارُ ثَوَابٍ لَا عَمَلَ فِيهَا فَهَذَا مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ من المحضرين} مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ محضرون} .
وقوله: {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} .
فأما قوله تعالى: {ويوم يقوم الأشهاد} فَيُقَالُ: إِنَّهَا مُقْتَصَّةٌ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ لِأَنَّ الْأَشْهَادَ أَرْبَعَةٌ:.
الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} .
وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيدا} .
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناس} .(3/297)
وَالْأَعْضَاءُ لِقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وأرجلهم بما كانوا يعملون} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} وَقُرِئَتْ مُخَفَّفَةً وَمُثَقَّلَةً فَمَنْ شَدَّدَ فَهُوَ مِنْ [نَدَّ] إِذَا نَفَرَ وَهُوَ مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ: {يوم يفر المرء من أخيه} الْآيَةَ. وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النِّدَاءِ مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أصحاب النار} .(3/298)
الْأَلْغَازُ.
وَاللُّغْزُ الطَّرِيقُ الْمُنْحَرِفُ سُمِّيَ بِهِ لِانْحِرَافِهِ عَنْ نَمَطِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ وَيُسَمَّى أَيْضًا أُحْجِيَّةً لأن الحجى هُوَ الْعَقْلُ وَهَذَا النَّوْعُ يُقَوِّي الْعَقْلَ عِنْدَ التمرن والارتماض بِحَلِّهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَجَعَلَ مِنْهُ مَا جَاءَ في أوائل السور من الحروف المفردة والمركبةالتي جُهِلَ مَعْنَاهَا وَحَارَتِ الْعُقُولُ فِي مُنْتَهَاهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ فَعَلْتَهُ فقال: {بل فعله كبيرهم هذا} قَابَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَيُوَضِّحَ لهم المحجة.
وكذلك قول نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أَتَى بِاثْنَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وأرسل الآخرة فَإِنَّ هَذِهِ مُغَالَطَةٌ.(3/299)
الِاسْتِطْرَادُ.
وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِعَيْبِ إِنْسَانٍ بِذِكْرِ عَيْبِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} .
وَكَقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صاعقة عاد وثمود} وَقَوْلِهِ: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} .(3/300)
الترويد.
وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظَةً مِنَ الْكَلَامِ ثُمَّ يَرُدَّهَا بِعَيْنِهَا وَيُعَلِّقَهَا بِمَعْنًى آخَرَ كَقَوْلِهِ: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الله أعلم} الْآيَةَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَالثَّانِيَ مُبْتَدَأٌ.
وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهرا من الحياة الدنيا} .
وَقَوْلِهِ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} .
وقد يحذف أحدها ويضمر أولا يُلَاحَظُ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا ريب فيه هدى للمتقين} .(3/301)
التَّغْلِيبُ.
وَحَقِيقَتُهُ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حُكْمَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَغْلُوبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ إِطْلَاقُ لَفْظَةٍ عَلَيْهِمَا إِجْرَاءً لِلْمُخْتَلِفَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّفِقَيْنِ.
وَهُوَ أَنْوَاعٌ:.
الْأَوَّلُ: تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ لِأَنَّ الْوَاوَ جَامِعَةٌ لِأَنَّ لَفْظَ الفعل مقتص وَلَوْ أَرَدْتَ الْعَطْفَ امْتَنَعَ.
وَقَوْلِهِ: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} .
وقوله: {إلا امرأته كانت من الغابرين} وَالْأَصْلُ:" مِنَ الْقَانِتَاتِ وَالْغَابِرَاتِ " فَعُدَّتِ الْأُنْثَى مِنَ الْمُذَكَّرِ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ.
هَكَذَا قَالُوا، وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ نَحْنُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ لَا تُرِيدُ إِلَّا مُوَالَاتَهُمْ وَالتَّصْوِيبَ لِطَرِيقَتِهِمْ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ: " هُمْ مِنِّي وَأَنَا منهم " فقوله سبحانه: {من القانتين} وَلَمْ يَقُلْ: مِنَ "الْقَانِتَاتِ" إِيذَانًا بِأَنَّ وَضْعَهَا فِي الْعِبَادِ جِدًّا وَاجْتِهَادًا وَعِلْمًا وَتَبَصُّرًا وَرِفْعَةً مِنَ اللَّهِ لِدَرَجَاتِهَا فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ الْقَانِتِينَ وَطَرِيقِهِمْ.
وَنَظِيرُهُ وَلَكِنْ بِالْعَكْسِ قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ لَمَّا أَجْمَعَ القعود.(3/302)
عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ لِأَنَّهُ كَانَ شَيْخًا فَجَاءَ بِمِجْمَرَةٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَجْمِرْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ ما جئت به ثم تجهز.
ونازعهم بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: يحتمل ألا يكون [مِنْ] لِلتَّبْعِيضِ بَلْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ كَانَتْ نَاشِئَةً مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْقَابِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الثَّانِي: تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ.
فَيُقَالُ: أَنَا وَزَيْدٌ فَعَلْنَا وَأَنْتَ وَزَيْدٌ تَفْعَلَانِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {بل أنتم قوم تجهلون} بِتَاءِ الْخِطَابِ غَلَّبَ جَانِبَ [أَنْتُمْ] عَلَى جَانِبِ [قوم] والقياس أن يجيء بالياء لأنه وصف القوم وقوم اسْمُ غَيْبَةٍ وَلَكِنْ حَسُنَ آخِرُ الْخِطَابِ وَصْفًا لِ قَوْمٌ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. قال ابن الشجري.
ولو قيل: إنه حالل لـ {فتلك بيوتهم خاوية} لن في الضمير الْخِطَابِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ لِمُلَازَمَتِهِ لَهَا أَوْ لِمَعْنَاهَا لَكَانَ مُتَّجِهًا وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ الصِّنَاعَةُ لَكِنْ يُبْعِدُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُهُمْ بِجَهْلٍ مُسْتَمِرٍّ لَا مَخْصُوصٍ بِحَالِ الْخِطَابِ وَلَمْ يَقُلْ: [جَاهِلُونَ] إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ يَتَجَدَّدُونَ عِنْدَ كُلِّ مُصِيبَةٍ لِطَلَبِ آيَاتِ جَهْلِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَلَوْ قيل: إنما قال: [تجهلون] بِالتَّاءِ – لِأَنَّ [قَوْمٌ] هُوَ [أَنْتُمْ] فِي الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ، قَالَ: [تَجْهَلُونَ] حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى - لَكَانَ حَسَنًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
*أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حيدره*(3/303)
بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى [أَنَا] لِأَنَّ الَّذِي هُوَ [أَنَا] فِي الْمَعْنَى.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كما أمرت ومن تاب معك} غُلِّبَ فِيهِ جَانِبُ [أَنْتَ] عَلَى جَانِبِ [مَنْ] فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَقِيمُوا فَغُلِّبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فَصَلَ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ الْفِعْلُ فَصَارَ كَمَا تَرَى. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلْيَسْتَقِمْ كَذَلِكَ مَنْ تَابَ مَعَكَ.
وَمَا قُلْنَا أَقَلُّ تَقْدِيرًا مِنْ هَذَا فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ.
وقوله تعالى: {قال اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} فَأَعَادَ الضَّمِيرَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ [مَنْ تَبِعَكَ] يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ تَغْلِيبًا لِلْمُخَاطَبِ وَجُعِلَ الْغَائِبُ تَبَعًا لَهُ كَمَا كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَحَسُنَ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بالمعنى.
وكقوله تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قبلكم لعلكم تتقون} فإن الخطاب في [لعلكم] متعلق بقوله [خلقكم] لا بقوله [اعبدوا] حَتَّى يُخْتَصَّ بِالنَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ [اعْبُدُوا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وما ربك بغافل عما تعملون} فِيمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ[مَا تَعْمَلُونَ] الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ سَامِعٍ أَبَدًا فَيَكُونُ تَغْلِيبًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ خِطَابُ مَنْ سِوَاهُ بِدُونِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّغْلِيبِ لامتنان أَنْ يُخَاطَبَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ أَوْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:.......(3/304)
الثَّالِثُ: تَغْلِيبُ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ.
بِأَنْ يَتَقَدَّمَ لَفْظٌ يَعُمُّ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِالْعَاقِلِ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقُولُ: "خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَرَزَقَهُمْ"، فَإِنَّ لَفْظَ [هُمْ] مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والله خلق كل دابة من ماء} لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ الدَّابَّةِ وَالْمُرَادُ بِهَا عُمُومُ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ غُلِّبَ مَنْ يعقل فقال: {فمنهم من يمشي} .
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا صَحِيحٌ فِي {فَمِنْهُمْ] لِأَنَّهُ لِمَنْ يَعْقِلُ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَمِيعِ فَلِمَ قَالَ: [مَنْ] وَهُوَ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَامِّ بَلْ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ؟.
قُلْتُ: [مَنْ] هُنَا بَعْضُ [هُمْ] وَهُوَ ضَمِيرُ مَنْ يَعْقِلُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَقَعُ عَلَى بَعْضِهِ لَفْظُ مَا لَا يَعْقِلُ؟.
قُلْتُ: مَنْ هُنَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِنَّهُ تَغْلِيبٌ مِنْ غَيْرِ عُمُومِ لَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ رَأَيْتُ ثَلَاثَةً زَيْدًا وعمرا وحمارا.
وقال ابن الصائغ: [هُمْ] لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ فَلَمَّا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ غَلَّبَ من يعقل فقال: [هم] ومن بَعْضُ هَذَا الضَّمِيرِ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ فَلَزِمَ أَنْ يقول [من] فلما قال: بوقوع التَّغْلِيبِ فِي الضَّمِيرِ صَارَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَاقِلِينَ فَتَمَّمَ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْقَعَ [مَنْ] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: {قالتا أتينا طائعين} ، إِنَّمَا جَمَعَهُمَا جَمْعَ.(3/305)
السَّلَامَةِ، وَلَمْ يَقُلْ [طَائِعِينَ] وَلَا [طَائِعَاتٍ] لِأَنَّهُ أراد: ائنيا بِمَنْ فِيكُمْ مِنَ الْخَلَائِقِ طَائِعِينَ فَخَرَجَتِ الْحَالُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الذُّكُورِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ كَمَا يَقُولُ الْآدَمِيُّونَ أَشْبَهَتَا الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَإِنَّمَا قَالَ: [طَائِعِينَ] وَلَمْ يقل: [مطيعين] لنه مِنْ طِعْنَا أَيِ انْقَدْنَا وَلَيْسَ مِنْ أَطَعْنَا يُقَالُ طَاعَتِ النَّاقَةُ تَطُوعُ طَوْعًا إِذَا انْقَادَتْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كل له قانتون} ، قِيلَ: أَوْقَعَ [مَا] لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى أَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ ومالا يعقل فغلب مالا يَعْقِلُ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَيُنَاقِضُهُ {كُلٌّ لَهُ قانتون} .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَاءَ بِـ[مَا] تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ وَتَصْغِيرًا قَالَ: [لَهُ قَانِتُونَ] تَعْظِيمٌ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الضَّائِعِ بِصِحَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: وَهَذَا غَايَةُ الْخَطَأِ، وَقَوْلُهُ فِي دعاء الأصنام: {هل يسمعونكم إذ تدعون} .
وقوله: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} وأما قوله: {فظلت أعناقهم لها خاضعين} وقوله: {في فلك يسبحون} {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} .
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهم لي ساجدين} .
{لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} . {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} .(3/306)
لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهَا بِأَخْبَارِ الْآدَمِيِّينَ جَرَى ضَمِيرُهَا عَلَى حَدِّ مَنْ يَعْقِلُ وَكَذَا الْبَوَاقِي.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ غُلِّبَ غَيْرُ الْعَاقِلِ عَلَى الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض من دابة} فَإِنَّهُ لَوْ غُلِّبَ الْعَاقِلُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ لَأَتَى بِـ[مَنْ] .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غُلِّبَ فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ وَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِ مَا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى أَجْنَاسِ مَنْ يعقل خاصة كهذه الآية.
قوله: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن} وَلَمْ يَقُلْ [وَمَنْ فِيهِنَّ] قِيلَ: لِأَنَّ كَلِمَةَ [مَا] تَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا تَنَاوُلًا عَامًّا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَ [مَنْ] لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ [مَا] هُنَا أَوْلَى.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يذرأكم فيه} ، أَيْ خَلَقَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جِنْسِكُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ أَيْضًا مِنْ أَنْفُسِهَا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَذْرَؤُكُمْ أَيْ يُنْبِتُكُمْ وَيُكَثِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَالْجَعْلِ فَهُوَ خطاب للجميع للناس المخاطبين وللأنعام المذكور بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذِكْرُ الْجَمِيعِ - أَعَنَى النَّاسَ والأنعام - بطريق الخطاب لأن الأنعام غيب [وفيه] تغليب الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ [كُمْ] الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ فَفِي لَفْظِ [كُمْ] تَغْلِيبَانِ وَلَوْلَا التَّغْلِيبُ لَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: يَذْرَؤُكُمْ وَإِيَّاهَا هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ.
وَنُوزِعَا فِيهِ بِأَنَّ جَعْلَ الْخِطَابِ شَامِلًا لِلْأَنْعَامِ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَبَيَانُ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ النَّاسِ فَالْخِطَابُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَالْمَعْنَى: يُكَثِّرُكُمْ.(3/307)
أَيُّهَا النَّاسُ فِي التَّدْبِيرِ حَيْثُ مَكَّنَكُمْ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَهَيَّأَ لَكُمْ مِنْ مَصَالِحِكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَاشِ وَتَدْبِيرِ التَّوَالُدِ وَجَعَلَهَا أَزْوَاجًا تَبْقَى بِبَقَائِكُمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا وَهَذَا أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَرَّرُوهُ وَهُوَ جَعْلُ الأنعام أنفسها أزواجا.
وقوله: {يذرأكم فيه} أَيْ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ، كَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ [بِهِ] كَمَا قَالَ: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِإِظْهَارِ الِاقْتِدَارِ مَعَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَأَسْقَطَ السَّبَبِيَّةِ وَأَثْبَتَ [فِي] الظَّرْفِيَّةَ وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ إِعْجَازِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لِأَنَّ الْحَيَاةَ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَاخْتِيرَتْ [فِي] عَلَى الْبَاءِ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ التَّرْغِيبِ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ وَالْقِصَاصُ مَسُوقٌ لِلتَّجْوِيزِ وَحُسْنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتقوى} .
الرَّابِعُ: تَغْلِيبُ الْمُتَّصِفِ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا} قيل: غلب غير المرتابين علىالمرتابين وَاعْتُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادقين} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فَقَطْ قَطْعًا فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا بِذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا التَّغْلِيبُ ثُمَّ هِيَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَهُمْ يَخُصُّ.(3/308)
الجاحدين بقوله: {إن كنتم صادقين} وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ إِلَّا فِيهِمْ فَتَغْلِيبُ حَالِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ لَا عهد به في مخاطبات العرب.
الْخَامِسُ: تَغْلِيبُ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ.
بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْجَمِيعِ وَصْفٌ يَخْتَصُّ بِالْأَكْثَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا} أُدْخِلَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {لَتَعُودُنَّ} بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {إِنْ عدنا في ملتكم} ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ عَادَ بِمَعْنَى صَارَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَأَنْشَدُوا:
فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْأَيَّامِ فَاعِلُ عَادَتْ وَإِنَّمَا الشَّاهِدُ فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
وَيَحْتَمِلُ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لِشُعَيْبٍ ذَلِكَ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ لَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَكُونُ لنا أن نعود فيها} كِنَايَةٌ عَنْ أَتْبَاعِهِ لِمُجَرَّدِ فَائِدَتِهِمْ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ نفسه وأتباعه فقد استثنى والمعلق بالمشيئة لايلزم إِمْكَانُهُ شَرْعًا تَقْدِيرًا وَالِاعْتِرَافُ بِالْقُدْرَةِ وَالرُّجُوعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ عَلِمَ الْعَبْدُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ أَدَبًا مع ربه لاشكا.(3/309)
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُجَرَّدُ الْمُسَاكَنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ منها} . ونظيره: {ومطهرك من الذين كفروا} وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْهِجْرَةِ عَنْهُمْ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ لَهُمْ لَا جَوَابًا لَهُمْ. وَفِيهِ بُعْدٌ.
السَّادِسُ: تَغْلِيبُ الْجِنْسِ الْكَثِيرِ الْأَفْرَادِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ مَغْمُوزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُطْلَقَ اسْمُ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمِيعِ.
كَقَوْلِهِ: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وَأَنَّهُ عُدَّ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ حَمْلَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ هُوَ الْأَصْلُ. وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَالْجِنُّ مِنَ النَّارِ ".
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَلَكًا فَسُلِبَ الْمَلَكِيَّةَ وَأُجِيبَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ بِأَنَّهُ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ فَحِينَئِذٍ عَمَّتْهُ الدَّعْوَةُ بِالْخُلْطَةِ لَا بِالْجِنْسِ فَيَكُونُ مِنْ تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ.
هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا وَلَمْ يُجْعَلْ [إِلَّا] بِمَعْنَى [لَكِنْ] .
وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي [الْقَدِّ] : قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذ قال الله يا عيسى.(3/310)
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين من دون الله} وإنما المتخذ عِيسَى دُونَ أُمِّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ:
*لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ*
السَّابِعُ: تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِ عَلَى ما لم يوجد.
كقوله: {بما أنزل إليك} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّ الْمُرَادَ: الْمُنَزَّلُ كُلُّهُ وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مُتَرَقَّبًا تَغْلِيبًا لِلْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ.
الثَّامِنُ: تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} قاله الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتِ لِلسُّفْلِ فَاسْتُعْمِلَ الدَّرَجَاتُ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا.
التَّاسِعُ: تَغْلِيبُ مَا وَقَعَ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا وَقَعَ بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيديكم} ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال.(3/311)
نزاول بِهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بِالْوَاقِعِ بِالْأَيْدِي تَغْلِيبًا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ.
وَيُشَاكِلُهُ ما أنشده الغزنوي في "العامريات" لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ
بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ
الْعَاشِرُ: تَغْلِيبُ الأشهر.
كقوله تعالى: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} أَرَادَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ فَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْجِهَتَيْنِ قَالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ وَسَيَأْتِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ.
فَائِدَتَانِ:.
إِحْدَاهُمَا: جَمِيعُ بَابِ التَّغْلِيبِ مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَانِتِينَ مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا جَمِيعَ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.
الثَّانِيَةُ: الْغَالِبُ مِنَ التَّغْلِيبِ أَنْ يُرَاعَى الْأَشْرَفُ كَمَا سَبَقَ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَثْنِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ: أَبَوَانِ وَفِي تثنية المشرق والمغرب: المشرقان لِأَنَّ الشَّرْقَ دَالٌّ عَلَى الْوُجُودِ وَالْغَرْبَ دَالٌّ عَلَى الْعَدَمِ وَالْوُجُودُ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ، قَالَ:
*لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ*
أَرَادَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَغَلَّبَ الْقَمَرَ لِشَرَفِ التَّذْكِيرِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، يُرِيدُونَ.(3/312)
أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي "الْمُحْكَمِ": إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ إِيثَارًا لِلْخِفَّةِ أَيْ غُلِّبَ الْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ لِأَنَّ لَفْظَ [عُمَرَ] مُفْرَدٌ وَلَفْظَ أَبِي بَكْرٍ مُرَكَّبٌ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ وَطُولِ الْمُدَّةِ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَلَى هَذَا فَلَا تَغْلِيبَ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِالْعُمَرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالُوا يَوْمَ الْجَمَلِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب: سنة العمرين.(3/313)
الالتفات.
وفيه مباحث:.
الأول: في حقيقة.
وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ تَطْرِيَةً وَاسْتِدْرَارًا لِلسَّامِعِ وَتَجْدِيدًا لِنَشَاطِهِ وَصِيَانَةً لِخَاطِرِهِ مِنَ الْمَلَالِ وَالضَّجَرِ بِدَوَامِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عَلَى سَمْعِهِ كَمَا قِيلَ:
لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إِنْ كَانَتْ مُصَرَّفَةً ... إِلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ
قَالَ حَازِمٌ فِي "مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ": وَهُمْ يَسْأَمُونَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ فَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَلَاعَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِضَمِيرِهِ فَتَارَةً يَجْعَلُهُ تاء عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَارَةً يَجْعَلُهُ كافا فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مُخَاطَبًا وَتَارَةً يَجْعَلُهُ هَاءً فَيُقِيمُ نَفْسَهُ مَقَامَ الْغَائِبِ. فَلِذَلِكَ كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَوَالِي فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ لَا يُسْتَطَابُ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ نَقْلٌ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُتَنَقَّلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الأمر إلى الملتف عَنْهُ لِيَخْرُجَ نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ فَضَمِيرُ أَنْتَ الَّذِي هُوَ فِي أَكْرِمْ غَيْرُ الضمير في إليه.
واعلم أن للمتكلم وَالْخَطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَقَامَاتٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِالْتِفَاتَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهَا إِلَى الْآخَرِ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بالأول.(3/314)
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: إِمَّا ذَلِكَ وَإِمَّا التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا حَقُّهُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِهِ.
وَهِيَ كَثِيرَةٌ:.
الْأَوَّلُ: الِالْتِفَاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ.
وَوَجْهُهُ حَثُّ السَّامِعِ وَبَعْثُهُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ حَيْثُ أَقْبَلَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ فضل عنايةوتخصيص بِالْمُوَاجَهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون} ، الْأَصْلُ: "وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ" فَالْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مُنَاصَحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَ قَوْمِهِ تَلَطُّفًا وإعلاما أنه يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فِي مَقَامِ تَخْوِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ بِحَسْبِ حَالِهِمْ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ فَاطِرَهُ وَمُبْدِعَهُ ثم حذرهم بقوله: {وإليه ترجعون} .
لِذَا جَعَلُوهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ ترجعون} الخاطبين وَلَمْ يُرِدْ نَفْسَهُ وَيُؤَيِّدْهُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وَلَوْ أراد نفسه لقال: [نرجع] .(3/315)
وَأَيْضًا فَشَرْطُ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ و [فطرني] [وإليه تُرْجَعُونَ] كَلَامٌ وَاحِدٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ المراد بقوله: [ترجعون] ظَاهِرَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ، لِأَنَّ رُجُوعَ العبد إلى مولاه ليس بمعنى أن يعبده غَيْرَ ذَلِكَ الرَّاجِعِ فَالْمَعْنَى: كَيْفَ أَعْبُدُ مَنْ إِلَيْهِ رُجُوعِي وَإِنَّمَا تُرِكَ [وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ] إِلَى [وإليه ترجعون] لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمْ.
وَمَعَ ذَلِكَ أَفَادَ فَائِدَةً حَسَنَةً وَهِيَ أَنَّهُ نَبَّهَهُمْ أَنَّهُمْ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ عِبَادَةِ مَنْ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ فَعَلَى هَذَا الْوَاوُ لِلْحَالِ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَاوُ الْعَطْفِ.
وَمِنْهُ قوله: {رحمة من ربك} عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {رَحْمَةً مِنَّا} إِلَى قَوْلِهِ: {رحمة من ربك} لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي رَحْمَتَهُ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعَبْدِهِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ رزق ربكم} .
وقوله: {ادعوا ربكم} {واعبدوا ربكم} وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مبينا ليغفر لك الله} وَلَمْ يَقُلْ: [لِنَغْفِرَ لَكَ] تَعْلِيقًا لِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ بِاسْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِسَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلِهَذَا عَلَّقَ بِهِ النَّصْرَ فَقَالَ: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عزيزا} .
الثَّانِي: مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنْ يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا نَمَطُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ مِنَ السَّامِعِ حَضَرَ أَوْ غَابَ،.(3/316)
وَأَنَّهُ فِي كَلَامِهِ لَيْسَ مِمَّنْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَوَجَّهُ فَيَكُونُ فِي الْمُضْمَرِ وَنَحْوِهِ ذَا لَوْنَيْنِ وَأَرَادَ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْغَيْبَةِ الْإِبْقَاءَ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ قَرْعِهِ فِي الْوَجْهِ بِسِهَامِ الْهَجْرِ فَالْغِيبَةُ أَرْوَحُ لَهُ وَأَبْقَى عَلَى مَاءِ وَجْهِهِ أَنْ يَفُوتَ كقوله: {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك} حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: [لَنَا] تَحْرِيضًا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليم} .
وقوله: {يا أيها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} إِلَى قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} ولم يقل: [بي] .و.
له فَائِدَتَانِ:.
إِحْدَاهُمَا: دَفْعُ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَصَبِيَّةِ لَهَا، وَالثَّانِي: تَنْبِيهُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الِاتِّبَاعَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الِاتِّبَاعَ لِذَاتِهِ بَلْ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ.
الثَّالِثُ: مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
كَقَوْلِهِ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا} ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِالْتِفَاتِ وَاحِدًا فَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ.(3/317)
الرَّابِعُ: مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فقد التفت عن {كنتم} إلى {جرين بهم} وَفَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى حِكَايَةِ حَالِهِمْ لِغَيْرِهِمْ لِتَعَجُّبِهِ مِنْ فِعْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ إِذْ لَوِ استمر علىخطابهم لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلًا كَانَ مَعَ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} فَلَوْ قَالَ: [وَجَرَيْنَ بِكُمْ] لَلَزِمَ الذَّمُّ لِلْجَمِيعِ فَالْتَفَتَ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الذَّمِّ الْخَاصِّ بِبَعْضِهِمْ وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عنهم.
وقيل: لأنهم وقت الركوب حصروا لِأَنَّهُمْ خَافُوا الْهَلَاكَ وَتَقَلُّبَ الرِّيَاحِ فَنَادَاهُمْ نِدَاءَ الْحَاضِرِينَ ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ لَمَّا جَرَتْ بِمَا تَشْتَهِي النُّفُوسُ وَأَمِنَتِ الْهَلَاكَ لَمْ يَبْقَ حُضُورُهُمْ كَمَا كَانَ عَلَى مَا هِيَ عَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا أَمِنَ غَابَ فَلَمَّا غَابُوا عِنْدَ جريه بريح طيبة فكرهم الله بصيغة الغيبة فقال: {وجرين بهم} .
وقوله: {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} ثُمَّ قَالَ: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} فَانْتَقَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَلَوْ رُبِطَ بِمَا قَبْلَهُ لَقَالَ:" يُطَافُ عَلَيْكُمْ" لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَا مُخْبَرٌ ثُمَّ التفت فقال: {وأنتم فيها خالدون} فَكَرَّرَ الِالْتِفَاتَ.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} .(3/318)
وَقَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الراشدون} .
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم} وَالْأَصْلُ [فَقَطَّعْتُمْ] عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَكِنْ عَدَلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقِيلَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَعَى عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ في دين الله لم!.
وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى} وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ فَلَا الْتِفَاتَ.
الْخَامِسُ: مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
كَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} .
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدنيا} .
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدا} .
وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فسقناه} وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ.(3/319)
سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ إِحْيَاءً لِلْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ وَأَفْخَمُ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الآية منها ما أخبر به سبحانه بسببه وهو سوق السحاب فإنه يسوق الرِّيَاحِ فَتَسُوقُهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِهِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِهِ وَسَائِرُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ. وَعَادَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا بِنُونِ التَّعْظِيمِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ جُنْدًا وَخَلْقًا قَدْ سَخَّرَهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ إِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا جِبْرِيلُ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} .
وأما إرسال السحاب فهو سحاب يَأْذَنُ فِي إِرْسَالِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَبَبًا بِخِلَافِ سَوْقِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ فَإِنَّهُ قَدْ ذكر أسبابه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مختلفا ألوانها} {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} .
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ: فِي سُورَةِ طه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا من نبات شتى} : وَزَعَمَ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْتِفَاتًا وجعل قوله: {وأنزل من السماء ماء} آخِرَ كَلَامِ مُوسَى ثُمَّ ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَوْصَافِهِ لِمُعَالَجَتِهَا.
وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّنْبِيهُ عَلَى.(3/320)
التَّخْصِيصِ بِالْقُدْرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ واحد وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى حِكَايَةِ الْحَالِ وَاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ. وَكَذَا يَفْعَلُونَ لِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَخُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ أَوْ تُهِمُّ المخاطب وإنما قال: {فتصبح الأرض مخضرة} لِإِفَادَةِ بَقَاءِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ.
وَمِثْلُهُ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي [قَضَاهُنَّ] وَ [سَوَّاهُنَّ] إلى التكلم في قوله: {وزينا} ، فَقِيلَ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكَوْكَبَ زِينَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَحِفْظًا تَكْذِيبًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: وَجْهُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ خَلْقُ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعْلُ الرَّوَاسِي مِنْ فَوْقِهَا وَإِلْقَاءُ الْبَرَكَةِ فِيهَا وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ فِي تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَأَنَّهُ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ فَأَتَى فِي هَذَا النَّوْعِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ عَطْفًا عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أإنكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رواسي} إلى قوله: {فقضاهن سبع سماوات} الْآيَةَ.
وَالثَّانِي: قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُدَّةِ خَلْقِهِ وَهُوَ تَزْيِينُ سَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعْلُهَا حِفْظًا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بَيَانَ مُدَّةِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ نَوْعَ الْأَوَّلِ يَتَضَمَّنُ إِيجَادًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ قُدْرَتِهِ. وَأَمَّا تَزْيِينُ.(3/321)
السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْمَصَابِيحِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ مُدَّةِ خَلْقِ النُّجُومِ فَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إلى التكلم فقال: {زينا} .
فائدة في تكرار الالتفات في موضع واحد
وَقَدْ تَكَرَّرَ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ من آياتنا إنه هو السميع البصير} فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، فَانْتَقَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} ، إلى التكلم في قوله: {باركنا حوله} ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {ليريه} بِالْيَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ ثُمَّ عَنِ الْغَيْبَةِ إلى التكلم في قوله: {آياتنا} ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: {إنه هو السميع البصير} .
وَكَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قوله: {مالك يوم الدين} أُسْلُوبُ غَيْبَةٍ ثُمَّ الْتَفَتَ بِقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين} إِلَى أُسْلُوبِ خِطَابٍ فِي قَوْلِهِ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم} وَلَمْ يَقُلِ [الَّذِينَ غَضِبْتَ] كَمَا قَالَ: {أَنْعَمْتَ عليهم} .
السَّادِسُ: مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
كَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ولم يقل:.(3/322)
[لَقَدْ جَاءُوا] لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا علهي مُنْكَرًا عَلَيْهِ قَوْلُهُ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ بِهِ قَوْمًا حَاضِرِينَ.
وَقَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمر} ثم قال: {وإن منكم إلا واردها} .
وَقَوْلِهِ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كان لكم جزاء} .
وقوله: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} .
وَقَوْلِهِ: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا ما كنزتم} .
وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} .
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} .
وَقَوْلِهِ: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ من دون المؤمنين} .
وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نمكن لكم} .
وقوله حكاية عن الخليل: {وإبراهيم إذ قال لقومه اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كنتم.(3/323)
تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وتخلقون إفكا} إلى قوله: {فما كان جواب قومه} .
وَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جميعا} .
وَقَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ منها} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عليه يلهث أو تتركه يلهث} .
وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح..} الآية.
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} ، وهو عجيب لأن [الذين] موصول لفظه للغيبة وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَائِدٍ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي [آمِنُوا] فَكَيْفَ يَعُودُ ضَمِيرُ مُخَاطَبٍ عَلَى غَائِبٍ! فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ.
وَقَوْلَهُ: {مَالِكِ يوم الدين إياك نعبد} ، فقد التفت عن الغيبة وهو [مالك] إلى الخطاب وهو [إياك نعبد] .
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَفِيهِ الْتِفَاتَانِ - أَعْنِي فِي الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ:.
أَحَدُهُمَا: فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاضِرٌ فَأَصْلُهُ الْحَمْدُ لَكَ.
وَالثَّانِي: [إياك] لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْأُسْلُوبِ السَّابِقِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ: [قُولُوا] كَانَ فِي [الْحَمْدُ لِلَّهِ] الْتِفَاتٌ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَمَدَ نَفْسَهُ وَلَا يَكُونُ فِي {إِيَّاكَ(3/324)
نعبد} الْتِفَاتٌ لِأَنَّ [قُولُوا] مُقَدَّرَةٌ مَعَهَا قَطْعًا فَإِمَّا أن يكون في الآية التفات أَوْ لَا الْتِفَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ.
السَّابِعُ: بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ.
فَيَكُونُ الْتِفَاتًا عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بعد {أنعمت} فَإِنَّ الْمَعْنَى: غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ فِي "الْأَقْصَى الْقَرِيبِ" وَالْخَفَاجِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ تَجِيءُ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ التقديري.
وزعم صحاب "ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ" أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهَا إِلَّا وَضْعُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَوْضِعَ التَّكَلُّمِ وَوَضْعُ التَّكَلُّمِ مَوْضِعَ الْخِطَابِ وَمَثَّلَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا لِيَ لا أعبد الذي فطرني} ، مَكَانَ [وَمَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ] .
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بعهدهم} ثم قال: {والصابرين في البأساء والضراء} ، وقوله: {المقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} .
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي أَسْبَابِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ لِلِالْتِفَاتِ فَوَائِدُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَمِنَ الْعَامَّةِ التَّفَنُّنُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ.(3/325)
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْشِيطِ السَّامِعِ وَاسْتِجْلَابِ صفائه واتساع مجاري الكلام وتسهيل لوزن وَالْقَافِيَةِ.
وَقَالَ الْبَيَانِيُّونَ: إِنَّ الْكَلَامَ إِذَا جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَطَالَ حَسُنَ تَغْيِيرُ الطَّرِيقَةِ.
ونازعهم القاضي شمس الدين بن الجوزي وَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّا رَأَيْنَا كَلَامًا أَطْوَلَ فِي هَذَا وَالْأُسْلُوبُ مَحْفُوظٌ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات..} إِلَى أَنْ ذَكَرَ عَشَرَةَ أَصْنَافٍ وَخَتَمَ بِـ {الذاكرين الله كثيرا والذاكرات} ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْأُسْلُوبَ وَإِنَّمَا الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ وَقَلْبُهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرحمن ويقلبه كَيْفَ يَشَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَائِبًا فَيَحْضُرُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَآخَرُ يَكُونُ حَاضِرًا فَيَغِيبُ فَاللَّهُ تَعَالَى لما قال: {الحمد لله رب العالمين} تَنَبَّهَ السَّامِعُ وَحَضَرَ قَلْبُهُ فَقَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإياك نستعين} .
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهِ وَمَوَاقِعِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ.
فَمِنْهَا: قَصْدُ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا فِي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين} ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا افْتَتَحَ حَمْدَ مَوْلَاهُ بِقَوْلِهِ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] الدَّالِّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحَمْدِ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ التَّحَرُّكَ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَإِذَا انتقل إلى قوله: {رب العالمين} الدَّالِّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِجَمِيعِهِمْ قَوِيَ تَحَرُّكُهُ فَإِذَا قال: {الرحمن الرحيم} الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْعِمٌ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا تَزَايَدَ التَّحَرُّكُ عِنْدَهُ فَإِذَا وَصَلَ لِـ {مالك يوم الدين} وهو خاتمة الصافات الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَيَتَأَهَّبُ قُرْبَهُ وَتَيَقَّنَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ بِتَخْصِيصِهِ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ.(3/326)
وَقِيلَ: إِنَّمَا اخْتِيرَ لِلْحَمْدِ لَفْظُ الْغَيْبَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الْخِطَابُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْدَ دُونَ الْعِبَادَةِ فِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّكَ تَحْمَدُ نَظِيرَكَ وَلَا تَعْبُدُهُ إِذِ الْإِنْسَانُ يَحْمَدُ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَعْبُدُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اسْتُعْمِلْ لَفْظُ الْحَمْدِ لِتَوَسُّطِهِ مَعَ الْغَيْبَةِ فِي الْخَبَرِ فَقَالَ: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] وَلَمْ يَقُلْ: [الْحَمْدُ لَكَ] وَلَفْظُ الْعِبَادَةِ مَعَ الْخِطَابِ فَقَالَ: {إِيَّاكَ نعبد} لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة على مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَدُّبِ. وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ آخِرُ السورة فقال: {الذين أنعمت عليهم} مُصَرِّحًا بِذِكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِسْنَادِ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ لَفْظًا ولم يقل: [صراط المنعم علهيم] فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ رَوَى عَنْهُ لَفْظَ الْغَضَبِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَفْظًا وَجَاءَ بِاللَّفْظِ مُتَحَرِّفًا عَنْ ذِكْرِ الْغَاضِبِ فَلَمْ يَقُلْ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ تَفَادِيًا عَنْ نِسْبَةِ الْغَضَبِ فِي اللَّفْظِ حَالَ الْمُوَاجَهَةِ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، فَإِنَّ التَّأَدُّبَ فِي الْغَيْبَةِ دُونَ الْخِطَابِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَقِيقَ بِالْحَمْدِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ بالصفات الْعَظِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَانًا وَرَحِيمًا وَمَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ حَقِيقٍ بِأَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا دُونَ غَيْرِهِ مُسْتَعَانًا بِهِ فَخُوطِبَ بِذَلِكَ لِتَمَيُّزِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ كُلِّهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَخُصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لا غيرك.
قيل: ومن لطائف التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مُبْتَدَأَ الْخَلْقِ الْغَيْبَةُ مِنْهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَقُصُورُهُمْ عَنْ مُحَاضَرَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ وَقِيَامُ حِجَابِ الْعَظَمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَرَفُوهُ بِمَا هُوَ لَهُ وَتَوَسَّلُوا لِلْقُرْبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَأَقَرُّوا بِالْمَحَامِدِ لَهُ وَتَعَبَّدُوا لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ تَأَهَّلُوا لِمُخَاطَبَاتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ فَقَالُوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .(3/327)
وَفِيهِ أَنَّهُمْ يُبْدُونَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ دُعَاءٍ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاةٍ لَهُ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ لِمُخَاطَبَتِهِ عَلَى الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ لَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالْإِغْفَالِ ولا عن اللعب والاستخفاف كما يَدْعُو بِلَا نِيَّةٍ أَوْ عَلَى تَلَعُّبٍ وَغَفْلَةٍ وَهُمْ كَثِيرٌ.
وَمِنْهُ أَنَّ مُنَاجَاتَهُ لَا تَصْعَدُ إلا إذا تطهر مِنْ أَدْنَاسِ الْجَهَالَةِ بِهِ كَمَا لَا تَسْجُدُ الْأَعْضَاءُ إِلَّا بَعْدَ التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثِ الْأَجْسَامِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الِاسْتِعَاذَةُ عَلَى الْقُرْآنِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرسول} ولم يقل:" واستغفرت لهم " [وعدل عنه إلى طريق الالتفات] لِأَنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ بَيَانَ تَعْظِيمِ اسْتِغْفَارِهِ وَأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ بِمَكَانٍ.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَا حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون} ، أَصْلُ الْكَلَامِ: [وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ] وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُرِيَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لَمَّا انْقَضَى غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ قال: {وإليه ترجعون} لِيَدُلَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ وَمُقْتَضِيًا لَهُ ثُمَّ سَاقَهُ هَذَا الْمَسَاقَ إِلَى أن قال: {إني آمنت بربكم فاسمعون} .
ومنها: أن يكون الغرض به التَّتْمِيمَ لِمَعْنًى مَقْصُودٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِهِ مُحَافَظَةً على تتميم.(3/328)
مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ لَهُ، كَقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ ربك إنه هو السميع العليم} ، أصل الكلام: [إنا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنَّا] وَلَكِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لِلْمَرْبُوبِينَ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الرَّبِّ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ تَتْمِيمِ الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} كأنه يذكرلغيرهم حَالَهُمْ لِيَتَعَجَّبَ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا إِشَارَةً مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ مَا يَعْتَمِدُونَهُ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِمَّا يُنْكَرُ وَيُقَبِّحُ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بلد ميت فأحيينا به} فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه: [سُقْنَا] وَ [أَحْيَيْنَا] .(3/329)
وَمِنْهَا: قَصْدُ الِاهْتِمَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} فَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي [قَضَاهُنَّ] وَ [أَوْحَى] إِلَى التَّكَلُّمِ فِي [وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا] لِلِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَوَاكِبَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِلزِّينَةِ وَالْحِفْظِ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً اعْتَقَدَتْ فِي النُّجُومِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حِفْظًا وَلَا رُجُومًا فَعَدَلَ إِلَى التَّكَلُّمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُهِمًّا مِنْ مُهِمَّاتِ الِاعْتِقَادِ وَلِتَكْذِيبِ الْفِرْقَةِ الْمُعْتَقِدَةِ بُطْلَانَهُ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ، عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوَبَّخًا وَمُنْكَرًا عَلَيْهِ وَلَمَّا أَرَادَ تَوْبِيخَهُمْ عَلَى هَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْحُضُورِ، فَقَالَ: {لَقَدْ جِئْتُمْ} لِأَنَّ تَوْبِيخَ الْحَاضِرِ أَبْلَغُ فِي الْإِهَانَةِ لَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} ، قال: {تقطعوا أمرهم بينهم} دُونَ [تَقَطَّعْتُمْ أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ] ، كَأَنَّهُ يَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُمْ مَا فَعَلُوهُ وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ فَجَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ به قطعا تمثيلا لأخلاقهم في الدين.(3/330)
فَائِدَةٌ.
اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يخلف الميعاد} بَعْدَ {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا ريب فيه} .
فَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {لَا ريب فيه} وهذا الذي بعده من مقولا لله تَصْدِيقًا لَهُمْ.
وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمُ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إلى الغيبة كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} .
فإن قلت: قد قال فِي آخِرِ السُّورَةِ: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنك لا تخلف الميعاد} ، فَلِمَ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ هُنَا قُلْتُ إِنَّمَا جَاءَ الِالْتِفَاتُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخر السورة: {إنك لا تخلف الميعاد} ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ مَقَامُ الطَّلَبِ لِلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ الْمُسْتَمِرِّ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي شَرْطِهِ.
تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ أَيْ كَلَامَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ حَتَّى يَمْتَنِعَ بين الشرط وجوابه.(3/331)
وفي هذا الشرط نظره فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَوَاضِعُ الِالْتِفَاتُ فِيهَا وَقَعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} .
وَقَوْلِهِ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، بعد قوله: {إنا أحللنا لك} التَّقْدِيرُ إِنْ وَهَبَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنَّا أحللنا لك وَجُمْلَتَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ.
وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ} .
وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بالله ورسوله} وَفِيهِ الْتِفَاتَانِ: أَحَدُهُمَا بَيْنَ [أَرْسَلْنَا] وَالْجَلَالَةِ، وَالثَّانِي بين الكاف في [أرسلناك] [ورسوله] وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلِهِ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بالله} .
وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جزاء موفورا} ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ [جَزَاؤُكُمْ] يَعُودُ عَلَى [التَّابِعِينَ] عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ.
وَقَوْلِهِ: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} ، عَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ.(3/332)
وقوله: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا} ، قَالَ التَّنُوخِيُّ فِي" الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ": الْوَاوُ لِلْحَالِ.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون} .
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَإِنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا ابْتُلِيَ الْعَاقِلُ بِخَصْمٍ جَاهِلٍ مُتَعَصِّبٍ فَيَجِبُ أَنْ يَقْطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ خَوْضُهُ مَعَهُ أَكْثَرَ كَانَ بُعْدُهُ عَنِ الْقَبُولِ أَشَدَّ فَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقْطَعَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يُؤْخَذَ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ وَيُطْنَبَ فِيهِ بِحَيْثُ يَنْسَى الْأَوَّلُ فَإِذَا اشْتَغَلَ خَاطِرُهُ بِهِ أَدْرَجَ لَهُ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ مُقَدَّمَةً تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَطْلَبَ الْأَوَّلَ لِيَتَمَكَّنَ مِنِ انْقِيَادِهِ.
وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ فِي كِتَابِ" دُرَّةِ التَّنْزِيلِ"، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يقولون واذكر عبدنا داود} ، قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: [وَاذْكُرْ] لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ بَلْ نَقْلًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَالْمُقَدَّمَةُ الْمُدْرَجَةُ قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وما بينهما باطلا} إِلَى قَوْلِهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته وليتذكر أولو الألباب} .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الِاتِّصَالِ مَعَ أَنَّ فِي الِاتِّصَالِ وُجُوهًا مَذْكُورَةً فِي موضعها.(3/333)
وَأَلْحَقَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا..} الْآيَةَ، فَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ وَاسْتِبْعَادٌ نَحْوُ الْوَارِدِ فِي سُورَةِ ص، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يُشْبِهُ الِالْتِفَاتَ بِقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فوقهم كيف بنيناها..} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} ، فَبَعْدَ الْعُدُولِ عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {ذَلِكَ رجع بعيد} وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمُ الْمُسَبَّبِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أمر مريج} ، صَرَفَ تَعَالَى الْكَلَامَ إِلَى نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا..} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا} وَذَلِكَ حِكْمَةٌ تُدْرَكُ مُشَاهَدَةً لَا يُمْكِنُهُمُ التَّوَقُّفُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا حُفِظَ عَنْهُمْ إِنْكَارُهُ فَعِنْدَ تَكَرُّرِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ أَيْضًا الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ إِلَى خِطَابٍ آخَرَ وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ كَمَا سَبَقَ تَقْسِيمُ الِالْتِفَاتِ:.
أَحَدُهَا: الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ لِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ، كقوله تعالى: {جئتنا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء في الأرض} .
الثاني: من خطاب الواحد إلىخطاب الجمع: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} .(3/334)
الثَّالِثُ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ ربكما يا موسى} ، {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} .
الرَّابِعُ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصلاة وبشر المؤمنين} ، وَفِيهِ انْتِقَالٌ آخَرُ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ ثَنَّى ثُمَّ جَمَعَ ثُمَّ وَحَّدَ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ.
وَحِكْمَةُ التَّثْنِيَةِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ هُمَا اللَّذَانِ يُقَرِّرَانِ قَوَاعِدَ النُّبُوَّةِ وَيَحْكُمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ فَخَصَّهُمَا بِذَلِكَ ثُمَّ خَاطَبَ الْجَمِيعَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ قِبْلَةً لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَأْمُورُونَ بِهَا ثم قال لموسى وحده: {وبشر المؤمنين} لِأَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي إِلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَالْإِنْذَارُ.
الْخَامِسُ: مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} وَقَدْ سَبَقَ حِكْمَتُهُ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} ثم قال: {إما يأتينكم مني هدى} ، وَلَمْ يَقُلْ [مِنَّا] مَعَ أَنَّهُ لِلْجَمْعِ أَوْ لِلْوَاحِدِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ وَحِكْمَتُهُ الْمُنَاسَبَةُ لِلْوَاقِعِ فَالْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ فَنَاسَبَ الْخَاصَّ لِلْخَاصِّ.
السَّادِسُ: مِنَ الْجَمْعِ إِلَى التَّثْنِيَةِ، كَقَوْلِهِ: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} إلى قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} .
السَّابِعُ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ تَعْقِيبَ الْكَلَامِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُلَاقِيَةٍ لَهُ فِي الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {وَزَهَقَ الباطل إن الباطل كان زهوقا} والثاني كقوله: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} .(3/335)
الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كل مسجد وادعوه} وَقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزور} التَّاسِعُ: مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْأَمْرِ، تَعْظِيمًا لِحَالِ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَقْبَلُ. وَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {يا هود ما جئتنا ببينة} إلى قوله: {بريء مما تشركون} فإنه إنما قال: {أشهد الله} ،و {اشهدوا} وَلَمْ يَقُلْ [وَأُشْهِدُكُمْ] لِيَكُونَ مُوَازِنًا لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ صَحِيحٌ فِي مَعْنًى يُثْبِتُ التَّوْحِيدَ بِخِلَافِ إِشْهَادِهِمْ فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَاوُنٌ بِدِينِهِمْ وَدَلَالَةٌ عَلَى قلة المبالاة به فلذلك عدل عن لفظ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ مُنْكِرًا اشْهَدْ عَلَيَّ أَنِّي أُحِبُّكَ.
الْعَاشِرُ: مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْوَ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ} ، {فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير} ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا حَصَلَ أَنْ يَسْتَمِرَّ حُكْمُهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِيُفِيدَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ نافيا أَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ وَلَا كَذَلِكَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ إِنَّمَا ثَبَتَ حَالَ حُصُولِهِ مَعَ أَنَّ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ إِشْعَارًا بِالتَّكْثِيرِ،.(3/336)
فَيُشْعِرُ قَوْلُهُ: {وَيَصُدُّونَ} أَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِصَدَدِ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ وَصَدُّوا لَأَشْعَرَ بِانْقِطَاعِ صدهم.
الحادي عشر: عكسه، كقوله: {يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} ، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} .
قَالُوا: وَالْفَائِدَةُ فِي الْفِعْلِ الْمَاضِي إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ أَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَعْظَمُ مَوْقِعًا لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ وَالْفَائِدَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمَاضِي لِتَتَبَيَّنَ هَيْئَةُ الْفِعْلِ بِاسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ لِيَكُونَ السَّامِعُ كَأَنَّهُ شَاهِدٌ وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْبِيخِ بالماضي بعد قوله: [ينفخ] لِلْإِشْعَارِ بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ وَثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا محالة كقوله: {وبرزوا لله جميعا} والمعنى: يبرزون، وإنما قال: [وحشرناهم] بعد [نسير] [وترى] وَهُمَا مُسْتَقْبَلَانِ لِذَلِكَ.(3/337)
التَّضْمِينُ.
وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ وَفِي الْأَفْعَالِ وَفِي الْحُرُوفِ فَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ فَهُوَ أَنْ تُضَمِّنَ اسْمًا مَعْنَى اسْمٍ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْمَيْنِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ضُمِّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَحْقُوقٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ وَحَرِيصٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَأَنْ تُضَمِّنَ فِعْلًا مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ وَيَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِحَرْفٍ فَيَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ آخَرَ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّعَدِّي بِهِ فَيُحْتَاجُ إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِهِ أَوْ تَأْوِيلِ الْفِعْلِ لِيَصِحَّ تَعَدِّيهِ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَوْلَى فَذَهَبَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْحَرْفِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْفِعْلِ وَتَعْدِيَتَهُ بِمَا لَا يَتَعَدَّى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحَرْفِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْأَفْعَالِ أَكْثَرُ.
مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بها عباد الله} فَضَمَّنَ [يَشْرَبُ] مَعْنَى [يَرْوِي] لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ وَإِلَّا فَـ[يَشْرَبُ] يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَأُرِيدَ بِاللَّفْظِ الشُّرْبُ وَالرَّيُّ مَعًا فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ التَّجَوُّزُ فِي الْحَرْفِ وَهُوَ الْبَاءُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى [مِنْ] .
وَقِيلَ لَا مَجَازَ أَصْلًا بَلِ العين هاهنا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ،.(3/338)
لَا إِلَى الْمَاءِ نَفْسِهِ نَحْوَ نَزَلْتُ بِعَيْنٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: مَكَانًا يُشْرَبُ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} ، قَالَهُ الرَّاغِبُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّ فِيهِ الْعُدُولَ عَنْ مُسَمَّاهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ كقوله: {جدارا يريد أن ينقض} ، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ [أَرَادَ] فِي مَعْنَى مُقَارَبَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِرَادَةِ وَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شيئا فقد قارب فعلهولم يُرِدْ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ الْإِرَادَةُ أَلْبَتَّةَ. وَالتَّضْمِينُ أَيْضًا مَجَازٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَجَازٌ خَاصٌّ يُسَمُّونَهُ بِالتَّضْمِينِ تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ.
وَمِنَ التَّضْمِينِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: رَفَثْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ سَاغَ ذَلِكَ.
وَهَكَذَا قوله: {هل لك إلى أن تزكى} وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الذي يقبل التوبة عن عباده} ، فجاء بـ[من] لِأَنَّهُ ضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
وَقَوْلُهُ: {إذا خلوا إلى شياطينهم} ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ لَكِنْ ضَمَّنَ [خَلَوْا] مَعْنَى [ذَهَبُوا] [وَانْصَرَفُوا] وَهُوَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ لَقُوا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ [إِلَى] هُنَا بِمَعْنَى [الْبَاءِ] أَوْ بِمَعْنَى [مَعَ] .
وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّمَا لَمْ تَأْتِ الْبَاءُ لِأَنَّهُ يُقَالُ خَلَوْتُ بِهِ إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ فَأَتَى بِـ[إِلَى] لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ.(3/339)
وقوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} ، قِيلَ: الصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ لألزمن لك صراطك أو لأملكنه لَهُمْ وَ [أَقْعُدُ] وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْدُ عيناك عنهم} ، ضمن [تعد] معنى [تنصرف] فعدى بـ[من] قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ " لَا تَعْدُ عَيْنَيْكَ عَنْهُمْ " بِالنَّصْبِ لِأَنَّ تَعْدُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ عَدَوْتَ وجاوزت بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: جَاوَزَ فُلَانٌ عَيْنَهُ عَنْ فُلَانٍ وَلَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بِنَصْبِ العين لكان اللفظ يتضمنها مَحْمُولًا أَيْضًا عَلَى لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ وإذا كَذَلِكَ فَالَّذِي وَرَدَتْ بِهِ التِّلَاوَةُ مِنْ رَفْعِ الْعَيْنِ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى النَّصْبِ فِيهَا إِذْ كان [لا تَعْدُ عَيْنَاكَ] بِمَنْزِلَةِ [لَا تَنْصَرِفْ] وَمَعْنَاهُ لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْعَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ: {وَلَا تُعْجِبْكَ أموالهم} أَسْنَدَ الْإِعْجَابَ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى لَا تُعْجَبْ بأموالهم.
وقوله: {أو لتعودن في ملتنا} ، ضمن معنى [لتدخلن] أو [لتصيرن] أما قَوْلُ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فيها} فَلَيْسَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ بَلْ مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَتَأْوِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسْبَةِ فِعْلِ الْبَعْضِ إِلَى الْجَمَاعَةِ أو قال عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِكَلَامِهِمْ وَهَذَا أَحْسَنُ.
وَقَوْلُهُ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} ضُمِّنَ [لَا تُشْرِكْ] مَعْنَى [لَا تَعْدِلْ] وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ أَيْ لا تسوى به شيئا.(3/340)
وقوله: {وأخبتوا إلى ربهم} ضُمِّنَ مَعْنَى [أَنَابُوا] فَعُدِّيَ بِحَرْفِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قلبها} ضمن {لتبدي به} مَعْنَى [تُخْبِرُ بِهِ] أَوْ [لِتُعْلِمَ] لِيُفِيدَ الْإِظْهَارُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَقَعُ سِرًّا غَيْرَ ظَاهِرٍ.
وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاما محمودا} جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَصْبَ {مَقَامًا} عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَضْمِينِ {يَبْعَثُكَ} مَعْنَى يُقِيمُكَ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشركاءكم} ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ {فَأَجْمِعُوا} بِالْقَطْعِ أَرَادَ فأجمعوا أمركم وشركاءكم كَقَوْلِهِ:
*مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا*
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فزع عن قلوبهم} ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ[مَنْ] لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى كَشْفِ الْفَزَعِ.
وَقَوْلُهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أعزة على الكافرين} ، فَإِنَّهُ يُقَالُ ذَلَّ لَهُ لَا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ هُنَا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّعَطُّفِ وَالتَّحَنُّنِ.
وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ يؤلون من نسائهم} ضمن {يؤلون} معنى [يمتعنون] مِنْ وَطْئِهِنَّ بِالْأَلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الملأ الأعلى} أَيْ لَا يُصْغُونَ.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أي أنزل.
{فيما فرض الله له} أَيْ أَحَلَّ لَهُ.(3/341)
{ومطهرك من الذين كفروا} أَيْ مُمَيِّزُكَ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي لا يرضى.
{استقيموا إليه} أَيْ أَنِيبُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أَيْ زَالَ.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فَإِنَّهُ يُقَالُ: خَالَفْتُ زَيْدًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِتَعَدِّيهِ بِالْجَارِّ وَإِنَّمَا جَاءَ مَحْمُولًا عَلَى [يَنْحَرِفُونَ] أَوْ [يَزِيغُونَ] .
وَمِثْلُهُ تَعْدِيَةُ [رَحِيمٍ] بِالْبَاءِ فِي نحو: {وكان بالمؤمنين رحيما} حملا على [رءوف] في نحو: {رؤوف رحيم} أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: رَأَفْتُ بِهِ وَلَا تَقُولُ رَحِمْتُ بِهِ وَلَكِنْ لَمَّا وَافَقَهُ فِي الْمَعْنَى تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ فِي التَّعْدِيَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ضُمِّنَ مَعْنَى سَائِلٍ.
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى الناس} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضُمِّنَ مَعْنَى [تَحَامَلُوا] فَعَدَّاهُ بِـ[عَلَى] وَالْأَصْلُ فِيهِ مِنْ.
تَنْبِيهَانِ:.
الْأَوَّلُ: الْأَكْثَرُ أَنْ يُرَاعَى فِي التَّعْدِيَةِ مَا ضُمِّنَ مِنْهُ وَهُوَ الْمَحْذُوفُ لَا الْمَذْكُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّفَثُ إلى نسائكم} أَيِ الْإِفْضَاءُ.
وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أَيْ يُرْوَى بِهَا وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ.(3/342)
وَلَمْ أَجِدْ مُرَاعَاةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} عَلَى قَوْلِ ابْنِ الضَّائِعِ أَنَّهُ ضُمِّنَ [يُقَالُ] مَعْنَى [يُنَادَى] وَ [إِبْرَاهِيمُ] نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ كَيْفَ عُدِّيَ بِاللَّامِ وَالنِّدَاءُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: قُلْتُ لَهُ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْمُرْضِعِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ضُمِّنَ [حَرَّمَ] الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الْمَنْعُ. فَاعْتُرِضَ كَيْفَ عُدِّيَ بِـ[عَلَى] وَالْمَنْعُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ صُورَةُ اللَّفْظِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّضْمِينَ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ مَا سَبَقَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ:" إِعْجَازِ الْقُرْآنِ" هُوَ حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ من غير ذكره لَهُ بِاسْمٍ [أَوْ صِفَةٍ] هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ ثُمَّ قَسَّمَهُ إِلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يُفْهَمُ مِنَ الْبِنْيَةِ كَقَوْلِكَ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ.
وَالثَّانِي مِنْ مَعْنَى العبارة [من حيث لا يصح إلا به] كَالصِّفَةِ فَضَارِبٌ يَدُلُّ عَلَى مَضْرُوبٍ.
قَالَ: وَالتَّضْمِينُ كُلُّهُ إِيجَازٌ، قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ في كتاب:" المعاني المتبدعة " أن التضمين واقع في القرآن خلافا لماأجمع عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيَانِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأولين لكنا عباد الله المخلصين} .
وَيُطْلَقُ التَّضْمِينُ أَيْضًا عَلَى إِدْرَاجِ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى،.(3/343)
أَوْ لِتَرْتِيبِ النَّظْمِ وَيُسَمَّى الْإِبْدَاعَ كَإِبْدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا من يفسد فيها ويسفك الدماء} .
وَمِثْلُ مَا حَكَاهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {قَالُوا إِنَّمَا نحن مصلحون} .
وقوله: {أنؤمن كما آمن السفهاء} .
{وقالت اليهود} .
{وقالت النصارى} . وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَكَذَلِكَ مَا أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ.
وَيَقْرُبُ مِنَ التَّضْمِينِ فِي إِيقَاعِ فِعْلٍ مَوْقِعَ آخَرَ إِيقَاعُ الظَّنِّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} .
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فئة قليلة} .
{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} .
{وظن داود أنما فتناه} .
{وظنوا ما لهم من محيص} .
وَشَرَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ حِسِّيًّا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ يَرَى حَاضِرًا: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ بَعْدُ كالآيات السابقة.(3/344)
قَالَ الرَّاغِبُ فِي "الذَّرِيعَةِ": الظَّنُّ إِصَابَةُ الْمَطْلُوبِ بِضَرْبٍ مِنَ الْإِمَارَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ يَقِينٍ وَشَكٍّ فَيَقْرُبُ تَارَةً مِنْ طَرَفِ الْيَقِينِ وَتَارَةً مِنْ طَرَفِ الشَّكِّ فَصَارَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَهُ بِهِمَا فَمَتَى رُئِيَ إِلَى طَرَفِ الْيَقِينِ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ أَنَّ الْمُثَقَّلَةُ وَالْمُخَفَّفَةُ فِيهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الذين يظنون أنهم ملاقو الله} {وظنوا أنه واقع بهم} .
وَمَتَى رُئِيَ إِلَى الشَّكِّ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ أَنْ الَّتِي لِلْمَعْدُومِينَ مِنَ الْفِعْلِ نَحْوَ ظَنَنْتُ أَنْ يَخْرُجَ.
قَالَ: وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو ربهم} لِأَمْرَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَالظَّنِّ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فِي الدُّنْيَا لَا يَكَادُ يَحْصُلُ إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} وَالظَّنُّ مَتَى كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ قَوِيَّةٍ فَإِنَّهُ يُمْدَحُ بِهِ وَمَتَى كَانَ عَنْ تَخْمِينٍ لَمْ يُمْدَحْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظن إثم} .
وَجَوَّزَ أَبُو الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا يَظُنُّ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْيَقِينُ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى أَيْ فَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمُ فَكَيْفَ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فَهَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِهِ: " يَكْفِيكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ " أَيْ لَوْ تَوَهَّمَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَمَا هُنَاكَ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّتِهِ لَاجْتَنَبَ الْمَعَاصِيَ فَكَيْفَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ! وَهَذَا أَبْلَغُ.
وَقِيلَ: آيَتَا الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالْبَاقِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ بِخِلَافِ الْيَقِينِ وَإِنِ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي وُجُوبِ الجزم بهما.(3/345)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} .
وَقَدْ جَاءَ عَكْسُهُ وَهُوَ التَّجَوُّزُ عَنِ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا علمنا} ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا بَلِ اعْتِقَادًا ظَنِّيًّا.
وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَكَانَ يَحْكُمُ بِالظَّنِّ وَبِالظَّاهِرِ.
وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالِامْتِحَانِ فِي الْحُكْمِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنَّ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الرُّجْحَانُ فَتَجُوزُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ.(3/346)
وضع الخبر موضع الطلب فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادهن} .
{والمطلقات يتربصن} .
{سلام عليكم} .
{اليوم يغفر الله لكم} .
وقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الْآيَةَ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَاجِبِ.
{فلا رفث ولا فسوق} على قراءة نافع أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا.
{وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابتغاء وجه الله} ، قَالُوا: هُوَ خَبَرٌ وَتَأْوِيلُهُ نَهْيٌ أَيْ لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {لَا يمسه إلا المطهرون} وكقوله: {لا تضار والدة بولدها} عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَقِيلَ إِنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ أعني – قوله: {لا يمسه} - وَلَكِنْ ضُمَّتْ إِتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ ".
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لا تعبدون إلا الله} ضُمِّنَ {لَا تَعْبُدُونَ} مَعْنَى: لَا تَعْبُدُوا، بِدَلِيلِ قوله بعده: {وقولوا للناس حسنا} وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الخبر لكن إن كان حسنا معمولا لأحسنوا فعطف.(3/347)
[قُولُوا] عَلَيْهِ أَوْلَى لِاتِّفَاقِهِمَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: [وَيُحْسِنُونَ] فَهُوَ الَّذِي قَبْلَهُ وَالْعَطْفُ على القريب أولى. وقيل: {لَا تَعْبُدُونَ} أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ يُسَارِعُ إِلَى الانتهاء فهومخبر عَنْهُ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تسفكون دماءكم} فِي مَوْضِعِ [لَا تَسْفِكُوا] .
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الصف: {وبشر المؤمنين} عطفا على قوله: {تؤمنون بالله ورسوله} وَلِهَذَا جُزِمَ الْجَوَابُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم في شغل فاكهون} إلى قوله: {وامتازوا اليوم} فَإِنَّ الْمَقَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَضْمِينِ [إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم] مَعْنَى الطَّلَبِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ: {فَالْيَوْمَ لَا تظلم نفس شيئا} فإنه كلام وقت الحشر لوروده ومعطوفا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} وَعَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {لَا تُظْلَمُ نفس شيئا} وَإِنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تعملون} خِطَابٌ عَامٌّ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {إِنَّ أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} إلى قوله: {أيها المجرمون} مُقَيَّدًا بِهَذَا الْخِطَابِ لِكَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ: {ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} وَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَحْشَرِ ثُمَّ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شغل فاكهون} يُقَالُ لَهُمْ حِينَ يُسَاقُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِتَنْزِيلِ مَا هُوَ لِلتَّكْوِينِ مَنْزِلَةَ الْكَائِنِ أَيْ أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤول حالهم.(3/348)
إلى أسعد حال والتقدير حينئذ: فامتازوا عَنْكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي"الْمِفْتَاحِ".
قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ طَلَبِيَّةً وَمَعْنَاهَا أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالذَّهَابِ إِلَى الْجَنَّةِ فَلْيَكُنِ الْخِطَابُ مَعَهُمْ لَا مَعَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَضْمِينَ أَصْحَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلطَّلَبِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ نَفْسَهَا طَلَبِيَّةٌ بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ يُقَدَّرَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ بَعْدَهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ جَاءَ الْجَزْمُ فِي جَوَابِ الْخَبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ جَازَ ذَلِكَ إِذِ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجَاهِدُوا.
وقال ابن جني: لا يكون [يغفر] جوابا لـ[هل أدلكم] وإن كان أبو العباس قد قاله لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلاة. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ الدَّلَالَةُ: سَبَبُ السَّبَبِ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِيءُ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ الْحَاصِلِ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَلَا بُدَّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَفِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى نُقِلَتْ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ حَقِيقَةً غَيْرُ مَصْرُوفٍ عَنْ جِهَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ لَيْسَ خَبَرًا عَنِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِشْكَالِ وَهُوَ احْتِمَالُ عَدَمِ وُقُوعِ مُخْبَرِهِ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ الْخَبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ أَمَّا الْخَبَرُ عَنِ الْحُكْمِ فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ خِلَافُهُ أصلا.(3/349)
وَضْعُ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مدا} .
وقوله: {قل أنفقوا طوعا أو كرها} .
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} .
وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العالمين يا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ} فَقَوْلُهُ: {وَأَلْقِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {أَنْ بُورِكَ} فَـ[أَلْقِ] وَإِنْ كَانَ إِنْشَاءً لَفْظًا لَكِنَّهُ خَبَرٌ مَعْنًى. وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَهَا قِيلَ: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَقِيلَ: أَلْقِ.
وَالْمُوجِبُ لِهَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ إِنَّ أَنْ هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لَا تأتي إلا بعد فعل في معنىالقول وَإِذَا قِيلَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَنِ ارْجِعْ وَنَادَانِي أن قم كله بمنزلة: قلت له وَقَالَ لِي قُمْ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ بُورِكَ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَهُوَ إِنْشَاءٌ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّقْدِيرَ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ فتكون مثل {لا تعبدون إلا الله} .
وقوله: {يا ليتنا نرد ولا نكذب} إلى قوله: {وإنهم لكاذبون} فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ وَرَدَ التَّمَنِّي عَلَى التَّكْذِيبِ وهو إنشاء؟.(3/350)
وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْعِدَةِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى مِنَ الشَّرْطِ والخبر كأنه قيل: إن زددنا لَمْ نُكَذِّبْ وَآمَنَّا وَالشَّرْطُ خَبَرٌ فَصَحَّ وُرُودُ التَّكْذِيبِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أَيْ وَنَحْنُ حَامِلُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُ: {أَسْمِعْ بهم وأبصر} تَقْدِيرُهُ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ! لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا ظُهُورُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْأَوَّلِ وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُبْرَزُ فَاعِلُهُ أَبَدًا.
وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْأَمْرَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ دَاعِيَةً لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَذَلِكَ فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْخَبَرِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالدَّاعِيَةِ فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ وَصِدْقُهُ أَقْرَبَ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِكَلَامِ الْعَرَبِ لَا لِكَلَامِ اللَّهِ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ الدَّاعِيَةُ لِلْفِعْلِ.
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَبْلَغُ؟ هَذَا الْقِسْمُ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ؟.
قَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مدا} الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ نَحْوُ إِنْ زُرْتِنَا فَلْنُكْرِمْكَ يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْبُدُونَ إلا الله} وُرُودُ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَأَنَّهُ سُورِعَ فِيهِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ.(3/351)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ "مُسْلِمٍ" فِي بَابِ تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ "، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ولا يسوم بالواو ولا يَخْطُبُ بِالرَّفْعِ وَكِلَاهُمَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ لِأَنَّ خَبَرَ الشَّارِعِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ خِلَافِهِ وَالنَّهْيُ قَدْ يَقَعُ مُخَالَفَتُهُ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى عَامِلُوا هَذَا النَّهْيَ مُعَامَلَةَ خَبَرِ الْحَتْمِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا " يَجُوزُ فِي تَسْأَلُ الرَّفْعُ وَالْكَسْرُ وَالْأَوَّلُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: " لَا يَخْطُبُ وَلَا يَسُومُ " وَالثَّانِي عَلَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ. انْتَهَى.(3/352)
وضع النداء موضع التعجب
كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد} قال الفراء: معناه: فيالها مِنْ حَسْرَةٍ وَالْحَسْرَةُ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ النَّدَمِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَبْقَى حَسِيرًا.
وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ:" الْمُبْتَدَأِ " عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَصْعَبِ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ لَا تُنَادَى وَإِنَّمَا تُنَادَى الْأَشْخَاصُ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّنْبِيهُ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ كقوله: يا عجبا لم فعلت! {يا حسرتى على ما فرطت} وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: الْعَجَبُ. قِيلَ: فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ يَا عَجَبًا احْضُرْ يَا حَسْرَةً احْضُرِي!.
وقرأ الحسن {يا حسرة العباد} .
ومنهم قَالَ: الْأَصْلُ [يَا حَسْرَتَاهُ] ثُمَّ أَسْقَطُوا الْهَاءَ تَخْفِيفًا وَلِهَذَا قَرَأَ عَاصِمٌ {يَا أَسَفَاهُ عَلَى يُوسُفَ} .
وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِ:" الْفَسْرِ ": مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نِدَاؤُهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا بشرى} ، فَقَالُوا: مَعْنَى النِّدَاءِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَوْكِيدُ الْقِصَّةِ فَإِذَا قُلْتَ يَا عَجَبًا! فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: اعْجَبُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا قَوْمُ أَبْشِرُوا.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي:" الْخَاطِرِيَّاتِ": وَقَدْ توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع.(3/353)
لمفعول به، كقوله تعالى: {ولكم فيها منافع} بعد قوله: {لذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها} الْمَعْنَى: وَلِتَنْتَفِعُوا بِهَا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {لِتَرْكَبُوا منها} وَعَلَى هَذَا قَالَ: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صدوركم} . وكذلك قوله: {ومنها تأكلون} أَيْ وَلِتَأْكُلُوا مِنْهَا وَلِذَلِكَ أَتَى وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تحملون فَعَطَفَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة واحدة وأنا ربكم} أَيْ وَلِأَنِّي رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَوَضَعَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ لَهُ.
وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَعَلُّقُ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المشركين ورسوله} وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ تَقْدِيرِ وَأَذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ وَبِأَنَّ رسوله كذلك.(3/354)
وَضْعُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ.
لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِلْقِلَّةِ وَغُرَفُ الْجَنَّةِ لَا تُحْصَى.
وَقَوْلِهِ: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} وَرُتَبُ النَّاسِ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَشْرَةِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} .
وقوله: {واستيقنتها أنفسهم} وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْثِيرًا لَهَا وَكَانَ دُخُولُهَا عَلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِهَا عَلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ إِشَارَةً إِلَى قِلَّةِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ!.
وَقَدْ نص سبحانه على قتلهم بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فَيَكُونُ التَّكْثِيرُ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِي الغرفات} لَا مِنْ جِهَةِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا اقْتَضَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمُوعَ التَّكْثِيرِ الْأَرْبَعَةَ وَجَمْعَيِ التَّصْحِيحِ - أَعْنِي جَمْعَ التَّأْنِيثِ وَجَمْعَ التَّذْكِيرِ - كُلُّ ذَلِكَ لِلْقِلَّةِ أَمَّا جُمُوعُ التَّكْسِيرِ فَبِالْوَضْعِ وَأَمَّا جَمْعَا التَّصْحِيحِ، فَلِأَنَّهُمَا.(3/355)
أَقْرَبُ إِلَى التَّثْنِيَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمُشَابِهُ لَهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْقِلَّةِ وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْجُمُوعِ فَيَرِدُ تَارَةً لِلْقِلَّةِ وَتَارَةً لِلْكَثْرَةِ بِحَسْبِ الْقَرَائِنِ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضالين} . {هدى للمتقين} . {وأولئك هم المفلحون} ، {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} . {إنما نحن مستهزئون} {وما كانوا مهتدين} {وكنتم أمواتا} {وعلم آدم الأسماء كلها} {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بسمعهم وأبصارهم} {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} {إذا طلقتم النساء} {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات بل أحياء} {وبينات من الهدى} {واتقون يا أولي الألباب} {باللغو في أيمانكم} {أن ينكحن أزواجهن} {حافظوا على الصلوات} فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ هَذَا مِنْهُ بَلْ هِيَ لِلْقِلَّةِ لِأَنَّهَا خَمْسٌ.
قُلْتُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النساء} .(3/356)
{فيما عرضتم به من خطبة النساء} فَالْمُرَادُ مِنْهَا وَاحِدٌ وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَدِهِمَا الْجَوَابُ عَنِ الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} {إن تبدوا الصدقات} {الصابرين والصادقين} الآية. {والمؤمنين والمؤمنات} الْآيَةَ. وَلَا تُحْصَى كَثْرَةً.
وَمِنْ شَوَاهِدِ مَجِيءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وَحُكِيَ أَنَّ النَّابِغَةَ قَالَ لَهُ:
قَدْ قَلَّلْتَ جفتاك وَأَسْيَافَكَ ...
وَطَعَنَ الْفَارِسِيُّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِوُجُودِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ فِيمَا لَهُ جمع كثرة وفيما لا جمع له كثرة فِي كَلَامِهِمْ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ قَالَ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِحَسَّانَ تَجَنُّبُ اللَّفْظِ الَّذِي أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِلَّةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي اللِّسَانِ وَضْعُهُ لِقَرِينَةٍ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ مَدْحٍ أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقِلَّةُ لِمَعْنَى الْكَثْرَةِ لَكِنْ لَيْسَ فِي كُلِّ مَقَامٍ.
وَمِنَ الْمُشْكِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كثيرة} فَإِنَّ أَضْعَافًا جَمْعُ قِلَّةٍ فَكَيْفَ جَاءَ بَعْدَ كَثْرَةٍ!.
وَالْجَوَابُ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ وَهَذَا مِنْهُ.
تَنْبِيهَانِ:.
الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ لَهُ جمع كثرة فإن لم يكن فلا.(3/357)