nbil1.jpg
تقديم
الشيخ مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله-
الحمد لله وصلى الله على نبيا محمد وآله وصحبه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فقد اطلعت على مواضيع من كتاب أخينا في الله أبي الحسن مصطفى «إتحاف النبيل بأجوبة أسئلة علوم الحديث والعلل والجرح والتعديل» فوجدت الكتاب مفيداً ميسراً، لا أعلم له نظير في الأسئلة والأجوبة التي وضعت في المصطلح، فجزى الله أخانا أبا الحسن خيراً.
أما مؤلف الكتاب الأخ أبو الحسن؛ فإن الله – سبحانه – قد أعطاه بسطة في علم الحديث، وله بحوث مفيدة في غاية الجودة والإتقان، منها «شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل»، وقد قام بتحقيق وتخريج أحاديث المجلد الأول من «فتح الباري» أتى فيه – حفظه الله – بفوائد تُشدّ لها الرحال، يسر له – سبحانه – إتمام «فتح الباري» على تلك الطريقة المرضية.
ويعلم الله أنني كنت أتمنى أن يقوم طالب علم بذلك، فإن الحافظ -رحمه الله -، ربما تساهل في الحكم على بعض الأحاديث – كما هو معلوم للباحثين -.
وللأخ أبي الحسن تعقبات مفيدة على الحافظ في «تقريب التهذيب»؛ فإن الحافظ ربما يحكم على الرجل بأنه مقبول – أي: لا يحتج بحديثه إلا في الشواهد والمتابعات، ويكون قد وثقه معتبر! وهو على وشك التمام – يسر الله بذلك-.
وللأخ أبي الحسن - أيضاً – كتاب «كشف الغمة ببيان خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة» وقد أرسل للطبع.
والأخ أبو الحسن – حفظه الله قائم في مأرب بتعليم إخوانه، والدعوة إلى الله على بصيرة، وقد نفع الله – سبحانه وتعالى – به، في مأرب وغيرها.
نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يوفقه – لمواصلة السير في خدمة السنة النبوية إنه على كل شيء قدير
أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية للمؤلف
الحمد لله، وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد:(1/1)
فإني أحمد الله – الذي لا يحصي الحامد ثناءاً عليه وإن حاول – الذي يسّر لي كثيراً من أسباب الخير، وحبّب إلى قلبي علم الحديث، ونفع بما كتبته في ذلك – على قلة البضاعة -، فأسأله – سبحانه – أن يعينني على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل ذلك بلاغاً لمرضاته.
وبعد أن نفدت الطبعة الأولى من كتابي: «إتحاف النبيل» ولم أك راضياً عن طبيعة تلكم الطبعة؛ لأنها قد فُرغت من أشرطة، ولم يتسنّ ليّ توثيق كل قول بعزوه إلى مصدره وقائله.
وحرصاً مني على إفادة إخواني في هذا الباب، رأيت إخراج الكتاب على حالته تلك بما فيها مما قد يكدر الخاطر؛ إما لما سبق، وإما للأسلوب العربي في الصياغة.
وقد يسّر الله – عز وجلّ – لي النظر مرة أُخرى في الكتاب، فهذّبْت ما أمكن تهذيبه، وقوّى الله – عزّ وجلّ – بفضله وكرمه – همة أخينا أبي إسحاق إبراهيم بن مصطفى آل بحبح الدمياطي المصري ثم المأربي – حفظه الله ـ، فعزم على تحقيق المادة العلمية مما طُبع من الكتاب، وقد راجعت تحقيقه وتعليقه على ذلك، فألفيته عملاً نافعاً، وجهداً مباركاً، إن دلّ على شيء؛ فإنما يدل على صبر أخينا أبي إسحاق – حفظه الله – في البحث، وعلى تمكنه من هذا العلم – إلى حد كبير -، ولا يستطيع معرفة مقدار الجهد الذي بذله في ذلك إلاّ أهل العلم بهذا الشأن، وقد ألْبس هذا الكتاب – بتحقيقه له – ثوباً جميلاً، وأضفى عليه بهاءً حسناً، وأمده بالشذا الفياح، الذي به تتعطر المجالس، وبعلمه ينتفع المدرس والدارس، فجزاه الله – تعالى – خير الجزاء، ولا أزكيه على الله، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, وأسأل الله – عزّ وجلّ –أن يزيده توفيقاً وصدقاً، وأن يكفيه شر العوائق والعلائق التي تصد عن سبيل الله، إنَّه جواد كريم، برٌّ رحيم.(1/2)
وقد يسر الله – سبحانه وتعالى -، بفضله وعظيم كرمه – كتابة جزء آخر من هذه السلسلة المباركة، في نحو ثلاثين سؤالاً، وقد أطلت النفس في كثير من هذه الأسئلة؛ لكثرة الحاجة إليها، ولاشتباه أمرها على كثير من إخواننا، راجياً من العلي القدير أن يجعلني خيراً مما يظن بي المحبون، وأن يغفر لي ما لا يعلمون، وأن يحشرني في زمرة عباده وأوليائه، الذي ينعمون في الآخرة بالنظر إلى وجهه الكريم، وأن يغفر لوالديّ ولمن له حق عليَّ، وأن يصلح لي ذريتي ويجعلهم هداة مهتدين.
كما أسأله – عزّ وجلّ – أن يبارك في إخواننا في الله آل هادي بن وهيط الذين آووا ونصروا، وأن يملأ ديارهم في الدنيا بذكره، وأن يملأ قبور أمواتهم وسلفهم نوراً, ورحمة، وأن يثبت أقدامهم على الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، كما أسأله – وهو سبحانه يحب السائلين إياه – أن يوسع على إخواننا آل غَنَّام، وأن يجعلهم من أهل الغنيمة والعز في الدنيا والآخرة، جزاء توسعتهم على طلبة العلم، وحميّتهم العظيمة في الدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعن أهلها.
كما أسأله – سبحانه – أن يجزي أهل الوادي خيراً كثيراً، وأن يرزق الجميع النية الصالحة، فلولا الله ثمّ هم ما قامت لهذه الدعوة قائمة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وكتبه
أبو الحسن السليماني المأربي
من دار الحديث – بمأرب - وادي عبيدة – فليفل
4/ 4/1420هـ
مقدمة المحقق
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} «102» آل عمران(1/3)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. «1» النساء
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} «70 - 71» الأحزاب
أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فإنَّ علم الحديث علم جليل القدر، عظيم النفع، اختص الله – سبحانه وتعالى – به الأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم؛ من أجل الحفاظ على دينها من الانحراف والتغيير، وقد وفق الله أهل الحديث للقيام بهذا العلم الشريف؛ ينفون عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين، ورحم الله ابن المبارك يوم أن سئل عن الأحاديث الموضوعة فقال: تعيش لها الجهابذة، ثم تلا قوله – تعالى -: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكَر وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ} «9».
هؤلاء الجهابذة الذين بذلوا من – أجل الحديث وأسانيده – كلَّ ما في وسعهم، حتى قطعوا الفيافي والقفار طلباً لحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ عملاً بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
وبقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله به طريقاً إلى الجنة».(1/4)
فنبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، هجروا الأهل والأوطان، وفارقوا الأصحاب والخلان، فكان غداؤهم السماع، وسحرهم الكتابة، ولذتهم المذاكرة، لحافهم السماء، وفراشهم التراب، يواسون أنفسهم بقوله – تعالى -: «وَمَن يَخرُج مِن بَيتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللِّهِ وَرِسُولِهِ ثُمَّ يُدرِكهُ المَوتُ فَقَد وَقَعَ أَجرهُ عَلَى اللِّهِ».
ورحم الله الخطيب البغدادي الذي قال في وصفهم: «فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار؛ في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى، قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً، حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله – تعالى – يذب بأصحاب الحديث عنها! فهم الحفّاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأ، ها، إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون».
وما تزال – بحمد الله – بقايا الخير موجودة في هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك».
ومن هذه الطائفة شيخنا الفاضل أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل بن سيد أحمد السليماني المأربي – حفظه الله تعالى ورعاه، وأيده ونفع به الإسلام والمسلمين -، فقد سار على نهج الأوائل، وجدد ما لهم من مآثر، وها هو – حفظه الله – يقدم لطلبة العلم هذه المفخرةَ وتلك الجوهرةَ المتمثلة في هذا السفر الجليل، المسمى بـ: «إتحاف النبيل بأجوبة أسئلة علوم الحديث والعلل والجرح والتعديل».(1/5)
وهو عبارة عن أسئلة قدَّمت له – حفظه الله – من بعض طلبة العلم بدار الحديث بمأرب، فأجاب عليها – حفظه الله – بدون سابق إعداد لها، أو تحضير، كما في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد نفع الله بالطَّبعة الأولى منه نفعاً كثيراً مباركاً، مع ما فيها من أخطاء مطبعية، وأُخرى نبه عليها كما في مقدمته.
وعند تدريسه لهذا الكتاب بدار الحديث بمأرب تمنيت أن لو حُقِّقَتْ أقوالُه، وخُرجت آثاره، ووثقت نقوله؛ لرغبة طلاب علم الحديث في علو الإسناد، الأمر الذي لا تخفى فائدته عليهم، فاستأذنت في ذلك من شيخي المبارك فأذن، فقمت بهذا العمل الذي هو جهد المقل، والله المستعان، والله – الكريم -، أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه – سبحانه -، وأن ينفعني به في الدارين، وأن يغفر ليّ، ولوالدي وأن يبارك ليّ فيهما، وفي أهلي وذريتي، إنَّه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
أبو إسحاق الدمياطي
إبراهيم بن مصطفى آل بحبح
دار الحديث بمأرب – سلّمها الله –
مقدمة المؤلف
للطبعة الأولى
إنَّ الحمد لله؛ نحمَده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} «102» آل عمران
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. «1» النساء(1/6)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} «70 - 71» الأحزاب
أمّا بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرَّ الأُمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
وبعد:
فإنَّ خير ما قُضيت فيه الأعمال والأنفاسُ طلبُ العلم الشرعي، وبالعمل به نجاة العبد من الضلالة في الدنيا، والخزي والعذاب في الآخرة، لاسيّما علْمَ الحديث؛ الذي به: تستقيم عقيدة المسلم، ويسلم فقهه من الزلل، وحديثه من المناكير، وفهمه من الانحراف، كيف لا وهو يعيش مع حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع آثار السلف الصالح، ومع علماء الجرح والتعديل؛ ذوي الاعتدال في نقد الرجال، وذوي الإنصاف في الحكم مع الموافقة والاختلاف.
ومن عاش بقلبه – في هذا الزمان – علم مدى حاجة المسلم إلى العلم بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ على أنّ كثيراً من الناس يدعي التمسك بالكتاب والسنة؛ بل يدّعي ذلك الخرافيّون وأصحاب المقالات الشنيعة؛ ولذلك كان لا بد من تقييد ذلك بفهم السلف الصالح، فمن قال شيئاً في الدين طُلِب منه الدليلُ على قوله، فإن ذكر آية أو حديثاً ثابتاً نظرنا: هل فهم أحد من علماء هذه الأمّة هذا الفهم من هذه الآية أو ذلك الحديث؟.
أم أنّ قول القائل بات بعيداً عن الآثار المنقولة عن السلف؟! فهنا يقال له ما قال أحمد – رحمه الله – لابنه: «إيّاك أن تتكلّم في مسألة ليس لك فيها إمام».(1/7)
فإذا اجتمع الصحابة على فهمٍ لعموم آية أو حديث؛ فنحن ملزمون بفهمهم، وإن اختلفوا نظرنا: هل اتفق التابعون أو من بعدهم على أحد قولَيْ أو أقوال الصحابة؟ أم أن المسألة لا تزال خلافيّة؟ فإن كانت خلافيّة، رجحنا بين الأقوال حسب أدلتها وقواعد علمائنا، سواء أكان هذا الخلاف حديثيًّا أم فقهيّاً، فجزاهم الله عنّا وعن الإسلام خيراً.
ومن أجل ذلك كان طالب العلم لقمة غير سائغة لمضغ أرباب هذه الفرق والمقالات المخالفة لهذا المنهج، فإذا قيل له: افعل كذا، قال: ما الدليل؟ فإذا قيل له: قال رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم كذا، قال: هل هو صحيح أو ضعيف؟ فإذا قيل له: صحيح، قال: من الذي صححه؟ فإذا قيل له: فلان – وهو من أئمة الشأن – قال: من الذي فهم من هذا الحديث هذا الفهم؟ وهل دلالته على الدعوى قطعية أو صريحة أو ظاهرة أم لا؟ ... إلى غير ذلك من الأمور التي غرسها أصحاب ودعاة المنهج الصحيح؛ الذي على طريقة السلف الصالح في أتباعهم وطلابهم – ولا أقول: مقلديهم – على تفاصيل في ذلك – ومن أجل ذلك أيضاً ترى كثيراً من المخالفين لهذا المنهج يعقدون التحالف والمحبة والمجاملة لأهل البدع والخرافات، بل والأحزاب العلمانية والقومية، ولا يقومون بالقليل من ذلك مع أصحاب الدعوة إلى الله على أساس التوحيد والإتباع الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بحجة أنَّ دعوتهم تفرق الصفوف، وتحدث بلبلة فكرية، فإنَّا لله وإنّا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/8)
هل الدعوة إلى التوحيد وإحياء السنن ومحاربة الشرك والبدع تفرق الصفوف؟! إذاً فأي صفوف هذه إذا لم تقم على ذلك؟! على أي شيء اجتمعت هذه الصفوف؟ وماذا يُرجى من ورائها؟! وهل الدعوة إلى العلوم الشرعية، ومعرفة الصحيح من الضعيف، والتأكد من نسبة أي قول إلى قائله – لاسيما إذا كانت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، هل هذه الدعوة مضيْعَة للوقت واشتغال بالقشور، وترك اللباب، وتوجيه جهود الشباب إلى غير المعركة الحقيقية؟!!
إذاً فأية معركة يريدها هؤلاء القوم؟! وأي جنود هؤلاء؟ وأي سلاح يدخلون به المعركة؛ إذا كانوا بعيدين عن التسلح بالعقيدة والعلم؟!! وهل ننتصر على عدونا إلا بهما؟! وهل تسلط علينا عدونا إلا بتركهما وبالتمسك بغيرهما؟!
هل الدعوة إلى هجر الطرق العلمانية التي صدَّرها لنا أعداء الإسلام وعدم التورط في مكايدها ومصايدها، والصبر على التمسك بما عليه سلف الأمة – لاسيما وقد أثبت الواقع فشل هذه الطرق التي أسست على شفا جرفٍ هار – هل الدعوة إلى ذلك تعتبر نظرة قاصرة، وجهلاً بالواقع، وانزواءً في المساجد، واعتكافاً على الكتب وتركاً للجهاد، وهروباً من الواجب الذي يكاد يقرب من وجوب الصلاة – أو يزيد؛ زعموا -؟!!
سبحانك هذا بهتان عظيم! وإنني إذ أسطر ذلك ليشهدَ به التاريخ أمام جيلنا وأمام الأجيال القادمة؛ فأنا على ثقة بأن النصر مع الصبر، وبأن آخر هذه الأمّة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، وبأنَّ منهج النبوة سَيَسُود مهما أثيرت حوله وحول دعاته الشكوك {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ في الأَرضِ}.(1/9)
ثم إنني أحمد الله أن وفقني لدعوة أهل السنة والجماعة، التي لا تدعو إلى حزبية مقيتة، ولا عصبية نتنة، وتدعو إلى الإنصاف والاعتدال في الأحكام مع المخالف والموافق، وتعرف أدب الخلاف، فيخطئون المخالف ولا يكفرونه – ما لم يأت بكفر بواح لهم فيه من الله – عزّ وجلّ – برهان، ويفرقون بين الأحكام العامة والأحكام على المعيَّن، فلا بد عند تطبيقها على المعين من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وإن كان كثير من مخالفيهم قد رماهم بأقذع الأقوال وأقبح الفعال، وهم لا يردُّون عليه كلامه تأسّياً برسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم، الذي كان يقول: «اللهم اغفر لقومي؛ فإنَّهم لا يعلمون»، وقد قال ذلك مع المشركين، فكيف لا نقولها – نحن – مع المسلمين، الذين يجتهد كثير منهم لنصرة دين الله – عزّ وجلّ – بنياتهم؟! لكنهم لم يسلكوا أقرب سبيل لذلك، بل سلكوا طرقاً ملتوية تفرض عليهم التنازلات تلو التنازلات.
وإنّما كلفنا الله بالعمل على وفق شرعه، ولم يكلفنا بالنصر، فبعض الأنبياء – عليهم السلام – يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، وبعض آخر معه الرجل أو الرجلان، ولم يكن ذلك دليلاً على أنّهم لا يفقهون الواقع، أو أنَّ نظرتهم سطحيّة – حاشاهم من ذلك -.
ثم ما هذه البدعة العصريّة في تقسيم الدين إلى قشور ولُباب؟! هل لهذه الكلمة ذِكْرٌ عند سلفنا الصالح؟! ولو سلّمنا بذلك – جدلاً -: هل أطلقوها فيما تُطْلَق فيه اليوم على ترك واجبات تُوعِّد تاركها بالعقاب؟! ولو أطلقوها في ذلك، فمن من علماء السلفيين يدعو إلى ترك اللباب والاهتمام بالقشور؟!! إنّ دعاة المنهج السلفي يحاربون الشرك بجميع صوره: القديم منه والحديث، وهم ينكرون قولاً وعملاً بخلاف كثير من مخالفيهم، والواقع يدركه ذووا الألباب، ثم أليس من المسلّم به أنَّ اللباب لا تبقى إلا ببقاء القشور؟! ولولا القشرُ لفسد اللب!!(1/10)
والسلفيون لا يستجيزون أن يعبروا عن بعض دين الله بأنّه قشر – بمعنى: لا حاجة له -، بل يقولون: ليست الأوامر الشرعية والمناهي بمنزلة واحدة؛ فالتوحيد ليس كبقية الواجبات، والواجب ليس كالمستحب، كذا الشرك ليس كالبدعة، والبدعة أشد من الكبيرة – على تفاصيل في ذلك وشروط وضعها أهل العلم – فهم يعبرون بالمهم والأهم، وترك الواجب لما هو أوجب منه، وبذلك فهم أسعد الناس بالسلف الصالح اسماً، ورسماً، ولفظاً، ومعنى، فحيَّهلا بهم، وهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم.
وصدق أبوبكر بن دريد؛ إذ قال في مدح أهل الحديث:
أهلاً وسهلاً بالذين أحبهم ... وأودهم في الله ذي الآلاء
أهلاً بقوم صالحين ذوي تقى ... غر الوجوه وزيْن كل ملاء
ومداد ما تجري به أقلامهم ... أزكى وأفضل من دم الشهداء
يا طالبي علم النبي محمد ... ما أنتم وسواكمو بسواء
وإذا كان ذلك بعضاً من مزايا المنهج السلفي، فحُقَّ لنا أن نقول: نحن أهل سُنَّة بلا فخر، وسلفيون بلا خجل، ونحن نعتقد أنَّ السُّنِّة والسلفية ليستا حكراً علينا، بل كل من سلك السبيل، واعتقد المعتقد الذي عليه سلف الأمة – رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابتُه – رضي الله عنهم -، ومن تبع سبيلهم من العلماء؛ فهو سنِّي سلفي، لكن ليتفقد كل امرئ نفسه، فإنَّ الأمر دين، والسَّفَرَ طويل، والعقبة شديدة، والحساب عند الذي يعلم السرَّ وأخفى.
وليس المقام مقام رد على أدلة فئة أو أُخرى؛ فإنّ ذلك يطول، وإن شرح الله نفسي وترجح عندي أنَّ الكتابة في ذلك سيكون من ورائها النفع الكثير؛ فَعَلْتُ ذلك بتوسع، - إن شاء الله تعالى – وإلا فأسأل الله أن يجعلني عبداً صالحاً، وأن يستعمل قلبي، ولساني، وجوارحي، وقلمي فيما يحبه ويرضاه، ولما يرفع دينه ويعلي كلمته بين خلقه، إنّه نعم مسئول وخير مأمول.(1/11)
ثم أقول: يا قومنا! ندعو أنفسنا وإياكم إلى الإنصاف والاعتدال في الأمور كلها، فلن تقوم للمسلمين قائمة وهم يجورون في الأحكام، والظلم ظلمات في الدنيا وفي الآخرة.
وأنا أدين الله بأنَّ كثيراً من العاملين للإسلام نواياهم صالحة، ومقاصدهم حسنة – ولا أزكي على الله أحداً -، لكن كثيراً من هذه المناهج التي سلكوها هي التي تبطِّئ بالنصر، وتكلّفنا المزيد من التكاليف والتضحيات، ونتائجها مجهولة مظلمة، ودعاة المنهج السلفي؛ إذ ينكرون على غيرهم سُبُلَهم؛ يقصدون بذلك رجوعهم إلى ما فيه عز الأمة وقوتها، ولا يكون ذلك بوحدة وتحالفات مشبوهة مع المخالفين، بل باعتصام بحبل الله وحده ومنهج رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وإن كنّا قلّة؛ فنحن كثيرون بالسُّنَّة، وإن كنّا ضعفاء فنحن أقوياء بالله ثم بمتابعة سلفنا الصالح.
ونحن نوقن بأن لبعض مخالفينا جهوداً طيبة في الدعوة إلى الله، ولهم مواقف يُحمدون عليها، أسأل الله أن يجعلها لهم في ميزان حسناتهم، لكن ذلك لا يمنع من بيان الأخطاء المخالفة لمنهج الطائفة الناجية المنصورة، وهم أهل العلم، وأهل الحديث، ومن تابعهم، وشايعهم، واقتدى بهم، وعَبَد الله بعقيدتهم ومنهجهم في كل زمان ومكان.
وفرق كبير بين بيان الخطأ والنصح، وبين السبِّ والتعيير، ولا يخلط بينهما إلا عامِّي غافل عن تاريخ هذه الأمّة وتراثها، أو معاند متغافل، أسأل الله لي وله الهداية؛ فإن السب ذكرك الرجل بما بينه وبين الله، وهو معترف بخطئه متستر به، لا يدعو إليه، والنصيحة ذكرك الرجل بسبب خطأ أفتى به، أو كتبه في كتاب، أو رسمه منهجاً لبعض المسلمين، ويدعو إلى ذلك، فالسكوت عن ذلك غش للأمّة، وترك لنصرة المخطئ والمدعو، وهكذا كان سلفنا الصالح – رضي الله عنهم -.(1/12)
والذي يجب على هذه الأمّة التناصح فيما بينهم، والتحاكم لكتاب الله – عزّ وجلّ – فيما اختلفوا فيه، وأنصح دعاة التقريب بين هذه الفرق، أن يضعوا منهج السلف عقيدة ومنهجاً أمام أعينهم، فعليه تجتمع الفرق؛ لأنَّ كلا من الفرق يتشرف بالنسبة إلى علماء الأمّة، فهو المنهج المتفق عليه نظريّاً، ويجب أن يكون ذلك عمليَّاً، فيكونون بذلك، الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ومن حاول جمعهم على غير ذلك فهو يفرقهم وإن قصد الخير.
أسأل الله – عزّ وجلّ – أن يشرح صدر هذه الأمّة إلى إحياء ما اندرس – أو ما كاد يندرس – من آثار النبوة، وأن يعين الدعاة والعلماء على توجيه أتباعهم وطلابهم ومحبيهم إلى العلم الشرعي؛ كلاً بقدر استطاعته وحاجته؛ لأننا بالعلم الشرعي نفهم واقعنا ونفقه ظروفنا؛ لأن الله قد نبأنا من أخبار القوم، وبيَّن لنا سبيلهم، وبيَّن لنا عاقبة أهل الطاعة وأهل المعصية، وضرب لنا – سبحانه وتعالى – الأمثال لنعتبر، فبقدر تضلّعنا من العلوم الشرعية بقدر فقهنا لواقعنا فقهاً صحيحاً غير مشوّه؛ لأنَّ في كتاب الله خبر من قبلنا، ونبأ من بعدنا، وحكم ما بيننا.
ومن ظن أن من تعلّم الكتاب والسنة فقد جهل واقعه؛ فقد أساء الظن بالله، وكتابه، ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلماء الأمة جميعاً، ولا يمنع دعاة الحق أن يتفرغ جمع من أهل الفهم واليقظة لدراسة ومعرفة الواقع الذي نعيشه وما نتوقعه في المستقبل؛ دون أن يكون ذلك على حساب طلب العلم – على تفاصيل في ذلك قد بيّنتها في غير هذا الموضع -.
أسأل الله أن يجمع بين قلوب المؤمنين، وأن يلقي الهيبة والرعب في قلوب أعدائهم، وأن يوفقهم للتخصص المحمود لا للتحزّب الممقوت المردود.(1/13)
وهذه السلسلة المباركة عبارة عن أسئلة وأجوبه في علوم الحديث والعلل، والجرح والتعديل؛ سمّيتها: «إتحاف النبيل؛ بأجوبة أسئلة علوم الحديث والعلل والجرح والتعديل»، وقد كانت بدايتها عبارة عن أشرطة مسجّلة، ولغة الشريط تختلف عن لغة الكتاب، ولَمّا رأيت أنَّ الشريط يفنى سريعاً، عزمت على كتابتها في كتاب كي يكثر النفع بهذه الأجوبة وهذبت بعض ما في الأشرطة بقدر ما أمكن، وزدت عليها أسئلة وأجوبة أخرى.
وكثيرا ما أسرد الكلام دون إحالة إلى مواضع ذلك في الكتب؛ لأنَّ الكلام في الأشرطة له هيئة تختلف عن الكلام في الكتاب، ولأنَّ غالب هذه الأدلّة قد بَسَطت الكلام عليها في كتابي «شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل»، وقد صدر منه الجزء الأوّل، وأسأل الله أن ييسر إتمامه والنفع به في الدّارين.
هذا وأسأل الله أن يبارك في عملي كلّه ظاهره وباطنِه، وأن يجعله وقاية لي من سخطه وعذابه في الدنيا والآخرة، وأن يبارك لي في أهلي وذريّتي، وأن يغفر لوالديّ ورحمهما كما ربياني صغيراً، وجزى الله خيراً كلَّ من ساعدني في هذا الكتاب وغيره، ونفع الله به كاتبه وقارئه والناظر فيه، إنَّه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وكتبه: أبو الحسن
مصطفى بن إسماعيل بن سيد أحمد السليماني المصري المأربي
مصر – المنصورة – كفر عوض السنيطة
نزيل مأرب- وادي عبيدة – فليفل ديرة الهادي بن
وهيط – رحمه الله –
الاثنين 7 جمادى الأولى 1413هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أمّا بعد؛
قال السائل:
«الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلاته وسلامه الأتمَّان الأكملان على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين».
وبعد:
فهذه أسئلة في مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل أقدمها إلى فضيلة الشيخ أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل – حفظه الله تعالى -.(1/14)
س 1: كم عدد طرق الحديث المتواتر التي أتّفق عليها علماء هذا الشأن؟ وما هي شروط الحديث المتواتر؟ وهل يفيد العلم الضروري أو النظري؟
ج 1: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإنَّ الحديث باعتبار وصوله إلينا – أي: باعتبار عدد رواته ونقلته إلينا – ينقسم إلى متواتر وآحاد. (1)
والتواتر لغة: هو التتابع مع فترات فاصلة، وإلا فهو تواصل وتدارك، وقال السخاوى – رحمه الله – في «فتح المغيث» (3/ 37):
هو – لغة -: ترادف الأشياء المتعاقبة واحداً بعد واحدٍ بينهما فترة، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرسَلنَا رُسُلَنَا تَتراَ} أي: رسولاً بعد رسول بينهما فترة. (2)
__________
(1) انظر «الكفاية» للخطيب (ص:50).
(2) انظر «اللسان» (5/ 275)، و «ترتيب القاموس» (4/ 569) مادة وتر، وقال الجوهري في «الصحاح» (2/ 843): والمواترة: المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة وإلا فهي مداركة ومواصلة.
ومواترة الصوم: أن تصوم يوما وتفطر يوماً – أو يومين -، وتأتي به وتراً وتراً، ولا يراد به المواصلة؛ لأن أصله من الوتر، وكذلك واترت الكتب فتواترت؛ أي: جاءت بعضها في إثر بعض وتراً وتراً من غير أن تنقطع. اهـ.
قال الطوفي في «شرح مختصر الروضة» (2/ 73): والذي يظهر أنَّ التواتر: التتابع المتدارك بغير فصل، فأمّا فهم الفصل بين الرسل من قوله – تعالى -: (ثم أرسلنا رسلنا تتراً) – الآية -؛ أي: واحداً بعد واحد؛ فليس من اللفظ بل مما ثبت من الفترات بينهم والذي أجده يبادر إلى الذهن من التواتر أنّه التتابع المتدارك، والله – سبحانه وتعالى – أعلم.(1/15)
والمتواتر اصطلاحاً: هو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدّاً؛ يُعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أنّ اتفاق الكذب منهم محال، وأنَّ التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وأنّ ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقة، وأوجب وقوع العلم ضرورة. اهـ. من كلام الخطيب رحمه الله في «الكفاية» (ص: 50) وعرفه الحافظ في «النزهة» (ص:21): بأنه المفيد للعلم اليقيني الضروري – اهـ ملخصاً – وعرفه الشنقيطي – رحمه الله – في «المذكرة» (ص:100): بأنّه إخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة عن أمر محسوب. ا هـ.
والمتأمل في هذه التعريفات، يجد أنَّ بعض العلماء عندما عرفوا الخبر المتواتر؛ عرفوه بشروطه وبثمرته المستفادة منه، وللخبر المتواتر شروط؛ منها ما هو متّفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه:
أولاً: الشروط المتّفق عليها:
1 – أن يرويه عدد كثير بلا حصر عدد معين (1)؛ لأنَّ العدد المفيد للعلم الضروري يختلف باختلاف الخبر والمُخبرِ والمخْبَر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في «الفتاوى» (18/ 48 وما بعدها):
__________
(1) قوله: أن «يرويه عدد كثير»، قال الزركشي في «البحر المحيط» (4/ 331): ليحترز به عن خير قوم يستحيل كذبهم لسبب آخر خارج عن الكثرة. أهـ. وفصل الطوفي في «شرح مختصر الروضة» (2/ 74) فقال احترز من خير الواحد المعصوم كآحاد الملائكة والرسل فإنه خير قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب بل امتنع عليهم أصلاً لعدم الكثرة. أهـ.(1/16)
والصحيح ما عليه الأكثرون: أنَّ العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة – وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم -، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر، فيحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة ... إلى أن قال –رحمه الله: وأمّا عدد ما يحصل به التواتر؛ فمن الناس من جعل له عدداً محصوراً؛ فقيل: أكثر من أربعة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل غير ذلك، وكل هذه الأقوال باطلة لتكافئها في الدعوى.
والصحيح الذي عليه الجمهور: أن التواتر ليس له عدد محصور، والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشِّبَع عقيب الأكل، والريُّ عند الشرب، وليس لما يُشبع كل واحد ويرويه قدر معين، بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح أو غضب أو حزن أو نحو ذلك – إلى أن قال – رحمه الله -: وإذا عُرف أنَّ العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد؛ عُلم أنَّ من قيّد العلم بعدد معين وسوّى بين جميع الأخبار في ذلك؛ فقد غلط غلطاً عظيماً؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى عام وخاص، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السُّنَّة ما لم يتواتر عند العامّة: كسجود السهو ووجوب الشفعة وحمل العاقلة العقل، ورجم الزّاني المحصن، وأحاديث الرؤية، وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك ... إلخ ما قال – رحمه الله -.(1/17)
وذكر الصنعاني – رحمه الله – في «التوضيح» (2/ 411): أن التواتر قد يحصل لباحث دون باحث، لأنَّ المدار على كثرة الاطلاع، وليس الناس فيه سواء. (1)
وقال الشنقيطي – رحمه الله – وبطلان القول بالأربعة فما دونها واضح؛ لوجوب تزكية الأربعة في شهادتهم على الزنا ... ا هـ (ص:100) من «المذكرة». (2)
واختار السيوطي – تبعاً للإصطخري – أنَّ أقل عدد التواتر عشرة، وقال: لأنّه أوّل جموع الكثرة. ا هـ من «التدريب» (2/ 177). (3)
__________
(1) قال الصنعاني – رحمه الله – في «إجابة السائل شرح بغية الآمل» (ص:94 - 95): «إنَّما ضابطه حصول العلم، إلا أن إفادته العلم تختلف باختلاف المخبرين؛ في التدين والجزم، والتنزه عن الكذب، وتباعد الأقطار وارتفاع تهم الأغراض، والاطلاع من المخبرين على المخبر به عادة كدخاليل الملك؛ إذا أخبروا عن أحواله الباطنة، وتختلف باختلاف السامع، فكم من سامع يحصل له العلم بخبر جماعة لا يحصل لآخر بذلك الخبر؛ لاختلافهم في تفرس أخبار الصدق وانتفائها والإدراك والفطنة؟! وتختلف باختلاف المخبر عنه كأن يكون خبراً خفيّاً أو غريباً، أو ظاهراً، أو مبتدلاً، إذ لا يخفى على الذكي أن الاختلاف فيه موجب للاختلاف بخبر أقل أو أكثر وهذا حاصل ما في «العضد وحواشيه».
(2) جزم بهذا القول القاضي أبوبكر فقال: إنَّهم يحتاجون إلى التزكية إجماعاً، فلا يفيد خبرهم العلم، اهـ من «شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/ 59) وإليه ذهب الشوكاني في «الإرشاد» من (42).
(3) الإصطخري: هو الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد قاضي قم، سمع أحمد بن منصور الرمادي وعباس الدوري وغيرهما، وروى عنه الدّارقطني وبن شاهين وغيرهما، قال الخطيب في «تاريخه»: وكان الإصطخري أحد الأئمة المذكورين، ومن شيوخ الفقهاء الشافعيين، وكان ورعاً، زاهداً، متقللاً ... إلخ، اهـ من «تاريخ بغداد» (7/ 268 - 270).
وقال الزركشي في «البحر المحيط» (4/ 232): ونسب للإصطخري: والذي في القواطع لا يجوز أن يتواتر بأقلَّ من عشرة، وإن جاز أن يتواتر العشرة فما زاد؛ لأنَّ ما دونها جمع آحاد فاختص بأخبار الآحاد والعشرة، فما زاد من جمع الكثرة. أهـ وقد ضعّفه الشوكاني كما في «الإرشاد» (ص:42).(1/18)
واختار ابن حزم – رحمه الله – في «الأحكام» أن التواتر يثبت باثنين تحيل العادة تواطؤهما على الكذب. (1)
والذي تميل إليه نفسي – في الجملة – أنَّ من الأربعة فما دون لا يفيد العلم الضروري الذي يهجم على السامع ويضطرُّه للتصديق به، لما سبق عن الشنقيطي – رحمه الله -، وما فوق الأربعة فالخلاف فيه، وكون العدد غير محصور بعدد معين هو الصواب. والله أعلم. (2)
2 – أن يكون هذا العدد مستوياً في الطرفين والوسط، في عدد يقع العلم بخبره، كما قاله والد شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر «المسودة» (ص:235).
أو بتعبير آخر:
ألاّ يقلَّ العدد في جميع طبقات السند عن العدد الكثير؛ الذي هو بدون حصر عدد معين.
__________
(1) «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 120) تحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
قال أبو محمد – رحمه الله -: « ... ولكنّا نقول: إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك – وقد تيقنّا أنّهم لم يلتقيا ولا دسسا، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر – فحدّث كل واحد منهما مفترقاً عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله، أو ذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء «لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنَّها شاهدت» فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه ... إلخ، اهـ.
وفي «الملل والنحل» (1/ 7): فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعداً مفترقان قد أيقنا أنَّهما لم يجتمعان ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه بالضرورة يعلم أنَّه حق متيقن مقطوع به على غيبه ... إلخ.
(2) قال الشوكاني في «الإرشاد» من (42): «الشرط الثالث» أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يفيد ذلك بعدد معين، بل ضابطه حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك علمنا أنَّه متواتر، وإلا فلا، وهذا قول الجمهور. اهـ.(1/19)
والمقصود بالاستواء: ألا يقل العدد عن المعتبر في هذا الخبر بعينه؛ لا ألا يزيد، فإنَّ ذلك من باب أولى، كما قال الحافظ في «النزهة»: فإذا قلّ العدد في طبقة من طبقات السند عن العدد المشار إليه آنفاً لا يكون متواتراً. (1)
3 – أن تحيل العادة تواطؤ أو اتفاق هذا العدد على الكذب؛ فالتواطؤ ما كان عن مشورة وقصد، والاتفاق ما كان بدون قصد (2) وبهذه الشروط سقط تواتر اليهود في قولهم: «عزيز ابن الله»، وتواتر النصارى في قولهم: «المسيح ابن الله»، وتواتر المجوس على باطلهم، وتواتر الرافضة على قولهم بالوصيّة لعلي – رضي الله عنه -، وتواتر أهل البدع والأهواء على باطلهم؛ لأنَّ أصل هذا الباطل كلّه أنَّ عدداً يسيراً تكلّم به، ثم تلقاه عنهم مقلدوهم وأتباعهم، ثم كثر الناقلون لذلك فذاع واشتهر، وهو باطل من أساسه.
4 – أن يكون مستند هؤلاء النقلة أمراً محسوساً، كقولهم: سمعنا، ورأينا وشاهدنا ... إلخ.
__________
(1) «نزهة النظر» (ص:55) بتحقيق الحلبي، وانظر «إجابة السائل» (ص:95) للصنعاني، و «إرشاد الفحول» (ص:42) للشوكاني.
(2) فرق الحافظ ابن حجر – رحمه الله – بين التواطؤ والتوافق، فقال: إنَّ التواطؤ هو أن يتّفق قوم على اختراع معين بعد المشاورة والتقرير؛ بأن لا يقول أحد خلاف صاحبه، والتوافق حصول هذا الاختراع من غير مشاورة بينهم ولا اتفاق – يعني: سواء كان سهواً أو غلطاً -.
انظر حاشية الشيخ علي بن حسن الحلبي على «نزهة النظر» (ص:56) وقد أشار إلى ذلك الحافظ نفسُه في «النزهة» (ص:53)، وانظر «اللسان» (1/ 198 - 199) مادّة وطأ، و (10/ 382 - 383) مادة وافق.(1/20)
ولا يكون مستندهم الأمر الاجتهادي القائم على العقل، فمن الممكن أن يجتمع عدد كثير على باطل مستنده العقل، كما هو الحال في أهل الأهواء والمقالات الخبيثة. (1)
5 – أن يكون خبرهم عن علم ويقين لا عن ظن، ويمثلون لذلك بأن أهل قرية لو قالوا: رأينا طائراً نظن أنَّه غراب، دون أن يجزموا بكونه غراباً؛ لما كان خبرهم مفيداً للعلم بأن الطائر غراب. (2)
ثانياً: الشروط المختلف فيها:
منهم من شرط أن العدد الذي ينقل الخبر؛ لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، وهذا باطل، وقد ردّه ابن حزم – رحمه الله -، لأنَّ سكان العالم يمكن حصرهم، فكيف يقال: لا تواتر إلا بعدد غير محصور (3)؟!
__________
(1) قال الصنعاني في «إجابة السائل» (ص:95): وتُعُقِّبَ بأن الحس قد يقع الغلط فيه، وأجيب بأنّه يمتنع وقوعه عادة من الجمع المعتبر هنا. اهـ.
وقال الشوكاني في «الإرشاد» (ص:42): ومن تمام هذا الشرط أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس – كما في أخبار النصارى بصلب المسيح – عليه السلام – وأيضاً لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك؛ لم يوثَقْ بخبرهم، ولا يلتفت إليه. اهـ.
(2) وقيل: هذا الشرط داخل ضمن الشرط الذي قبله؛ أي: داخل ضمن قوله: «أن يكون مستند هؤلاء النقلة الحس» فالمحسوس هو المعلوم به – قطعاً -.
انظر «الإرشاد» للشوكاني (ص:41)، و «إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» (3/ 96 - 97).
(3) انظر «الإحكام» لابن حزم (1/ 119)، ورده كذلك ابن قدامة – رحمه الله – حيث قال في «روضة الناظر» (1/ 200): ولا يشترط أيضاً أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد؛ فإنَّ الحجيج إذا أخبروا بواقعة صدّتهم عن الحج، وأهل الجمعة إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت من الصلاة، علم صدقهم، مع دخولهم تحت الحصر، وقد حواهم مسجد فضلاً عن البلد. اهـ.(1/21)
فالصواب أنَّ العدد يكون غير محصور بعدد معين، لكن يمكن حصره لو أراد العادُّ أن يعدَّه، ومنهم من قال: يجب ألا يكونوا على دين واحد، وأن تختلف أنسابهم وأوطانهم (1)، ويًغني عن ذلك: اشتراط أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
وذهبت الشيعة إلى اشتراط أن يكون بينهم الإمام المعصوم، وتعقبه الرازي بأنَّه باطل، لأنَّ المفيد – حينئذٍ – للعلم هو قول المعصوم، لا خبر التواتر (2)، هذا ومن المعلوم أنَّ دعوى الإمام المعصوم من ضلالات الشيعة، واشترط اليهود أن يكون في المخبرين أصحاب ذلة وصغار ومسكنة، وإلا فلا يؤمن تواطؤهم على الكذب، وعدَّه إمام الحرمين ساقطاً (3)
__________
(1) قال الطوفي في «شرحه» (1/ 960): وإنَّما اشترط هذا الشرطَ اليهودُ – لعنهم الله -؛ ليقدحوا في أخبار النصارى بمعجزات المسيح وفي أخبار المسلمين بمعجزات محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنَّ كل واحدةٍ من الطائفتين منحصرة في دين؛ واحد.
أمّا اليهود، فقد أمنوا ذلك؛ لأنَّ الطائفتين الأخريين يوافقونهم على معجزات موسى – عليه السلام – ونبوّته ... إلخ، اهـ.
(2) وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأنَّه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار على الإخبار عن قتل سلطانهم أو حصول فتنة، فإنَّ العلم يحصل بخبرهم مع كونهم كفاراً، فضلاً عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم، ثم إنَّه لو كان هذا الشرط صحيحاً فإن العلم يحصل بخبر الإمام المعصوم بالنسبة لمن سمعه لا بخبر المتواتر كما نقل المؤلف عن الرازي. «وانظر إتحاف ذوي البصائر» للدكتور عبدالكريم النملة (3/ 116).
(3) انظر «البرهان» لإمام الحرمين (1/ 581 - 582).
هذا وقد ذكر الإمام الشوكاني هذه الشروط في «إرشاده» (ص:42) ثم قال: ولا وجه لشيء من هذه الشروط وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلا بدّ أن يكونوا عقلاء إذا يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له، والثاني أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر، والثالث أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة أو تقليد أو نحوه، اهـ.(1/22)
والأمر كما قال؛ لأن أهل الذلّة والمسكنة لا يؤمن عليهم الكذب رغبة أو رهبةً، والله أعلم.
(تنبيه):
التواتر يكون في الأخبار العامّة الدنيوية، ويكون في الأحاديث النبوية، فمطلق الخبر كموت ملك وقيام آخر، وكسقوط خلافة وقيام أخرى، ووجود مدن وهدم أخرى، وهكذا لا يشترط في هذه الأخبار أن يكون رواتها مسلمين، بخلاف الحديث النبوي على صاحبه – الصلاة والسلام -، فإنَّ الرواية شرف ولا تكون إلا لمسلم، انظر «التبصرة» للشيرازي (ص: 297) و «الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (18/ 51).
- ومن المفيد أن أشير إلى أقسام التواتر:
1 – فباعتبار شيوعه واشتهاره ينقسم إلى: عام وخاص، الأوّل يحصل للجميع والثاني لا يحصل إلا لعلماء الفن. (1)
2 – وباعتبار أسانيده: فمنه ما ينقله عدد كثير غير منحصر بلا عددٍ معين ومنه ما ينقله طبقة عن طبقة أو كافة عن كافة – كما هو الحال في نقل القرآن الكريم -.
__________
(1) انظر «مجموع الفتاوى» (18/ 51)، وقال ابن القيم – رحمه الله – في «مختصر الصواعق» (465، 466): فإنَّ ما تلقاه أهل الحديث بالقبول، والتصديق فهو مُحصِّل العلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإنَّ الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلّمين، والنحاة، والأطباء، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صحة الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله وهم علماء الحديث العالمون بأحوال نبيِّهم، الضابطون لأقواله وأفعاله» اهـ.
وعلى هذا فيشترط في المتواتر الخاص – كنقل القرآن والأحاديث النبوية – الإسلام والعدالة أمّا في عموم الأخبار فلا يشترط في الراوي الإسلام ولا العدالة، وكلام الأصوليين إنّما هو في الخبر المتواتر على وجه العموم والله أعلم، انظر «معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة» (ص:144) للجيزاني.(1/23)
3 – وباعتبار لفظه: فهو ينقسم إلى متواتر لفظاً ومعنى (1) مثل حديث: «من كذب عليّ متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار» فقد جمعت طرقه في تحقيقي لـ «فتح الباري) والمسمى: «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» فبلغ عدد رواته من الصحابة ثلاثة ومائة، انظر ك/ العلم برقم (64) من الكتاب المذكور – يسر الله إتمامه وطبعه والنفع به في الدّارين.
والقسم الثاني: التواتر المعنوي، ومثَّل له السيوطي – رحمه الله – بحديث رفع اليدين في الدّعاء، وذكر أنَّه قد جمع طرقه في جزء، فبلغت مائة حديث في وقائع مختلفة، لكن رفع اليدين في الدعاء هو القدر المشترك في هذه الأحاديث، انظر «التدريب» (2/ 180).
__________
(1) قال الصنعاني – رحمه الله – في «إجابة السائل» (96 - 98):
التواتر ينقسم إلى: لفظي: وهو اتفاق الرواة على لفظ واحد عمن يروونه عنه ...
وأمّا التواتر المعنوي – وهو اختلاف ألفاظ المخبرين عن خبر رووه واتفقت ألفاظهم على معناه -؛ فإنَّه كثير واسع وعليه مدار غالب التواتر، ويفيد تواتر القدر المشترك، ومثاله تواترُ شجاعة علي – عليه السلام -، فإن الأخبار تواترت عن وقائعه في حروبه من أنَّه فعل في بدر كذا وكذا، وفي أُحد كذا وهزم يوم خيبر كذا ونحو ذلك؛ فإنَّها تدل بالالتزام على تواتر شجاعته ... إلخ.(1/24)
4 – وهناك نوع ثالث: سمّاه الشاطبي – رحمه الله – في «الموافقات» (1/ 36) بالشّبيه بالمعنوي مثل اليقين بوجوب الصلاة، وبيَّن المحقق للكتاب الفرق بين المعنوي والشبيه بالمعنوي فارجع إليه. (1)
••وقد ورد في السؤال: ما هو العلم المستفاد من التواتر؟ هل هو ضروري أو نظري؟
__________
(1) ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبدالله دراز في حاشيته على «الموافقات» (1/ 36)، فقال: وليس تواتراً معنوياً لأنَّ ذاك يأتي كله على نسق واحد كالوقائع الكثيرة المختلفة التي تأتي جميعها دالّة على شجاعة علي – مثلاً – بطريق مباشر، أمّا هذا فيأتي بعضه دالاً مباشرة على وجوب الصلاة، وبعضه بطريق غير مباشر، لكن يستفاد منه الوجوب كمدح الفاعل لها، وذم التارك والتوعد الشديد على إضاعتها، وإلزام المكلف بإقامتها ولو على جنبه إن لم يقدر على القيام، وقتال من تركها ... إلخ، ولذلك عده شبيهاً بالمعنوي ولم يجعله معنوياً، اهـ.(1/25)
وقبل ذلك أريد أن أشير إلى أن أهل العلم متفقون على أنَّ التواتر يفيد العلم، وقد نقل هذا الاتفاق جمع من العلماء، وخالف في ذلك طائفتان: (البراهمة) و (السُّمَنية) (1) وقد تكلّم على الطائفتين غير واحد، انظر تحقيق «التبصرة» و «المذكرة» للشنقيطي (ص:98) وهما طائفتان كافرتان، الأولى نسبة إلى رجل منهم يقال له: (براهم) وهم يقولون بنفي النبوات وهم قوم من اليهود، والأخرى فرقة هندية من عبدة الأصنام، وهم دهريون يقولون بالتناسخ، وينكرون وقوع العلم بغير المحسوس، ويُنسبون لصنم اسمه (سُمَن) – وانظر المرجعين السابقين -.
__________
(1) قال الطوفي في «شرح مختصر الروضة» (2/ 75): وذلك؛ لأنَّهم حصروا مدارك العلم في الحواس الخمس فقالوا: لا سبيل إلى إدراك علم من العلوم إلا بإحدى هذه الحواس، وزيَّف الطوفي – رحمه الله – قولهم هذا فقال: إنَّ القطع حاصل بوجود البلدان والأقاليم النائية كمكة ومصر وبغداد والهند والصين وبوجود الأمم الخالية كأمة نوح وإبراهيم، وغير ذلك مما يكثر، وحصول العلم بذلك لا من جهة الحس ولا العقل إنّما هو بالتواتر فدل على أنّه يفيد العلم. وقال «محقق الروضة» (1/ 190): فإن قال قائل: لا فائدة في البحث مع هؤلاء؛ لأنَّهم قوم خارجون عن أهل الشرائع، وهذا البحث من مباحث أصول الفقه الإسلامي!! فنقول: نعم، نقول بقولك؛ لو كان هذا القول محصوراً بهم ولكنّنا نشاهد الكثير من قومنا وأهل زماننا ممن يشتغل بالفلسفة لا يصدق إلا بما يراه بإحدى حواسه الخمس وينكر كل ما غاب عن المشاهدة، ويجر ذلك إلى إنكار الجن والتباسه في الإنسان وإنكار الملائكة ... إلخ.
فالكلام مع هؤلاء كالكلام مع السمانية وإن خالفوهم في الاسم. اهـ «بتصرف يسير».(1/26)
واحتجّوا بأنَّ كل واحد من نقلة التواتر يجوز عليه بمفرده الخطأ والوهم، فكذلك يجوز عليه إذا كان في الجمع، وحيث إن الجمع عبارة عن مجموع الأفراد، فيجوز على الجمع الوهم، ورد ذلك الشيرازي بأن ذلك غير مسلَّم، ألا ترى أن كل واحد من الجماعة إذا انفرد يجوز أن يعجز عن حمل الشيء الثقيل، ثم لا يجوز أن يعجزوا عن ذلك عند الاجتماع.
- وبعد ذلك أعود للجواب على السؤال: فأقول:
إنَّ العلم المستفاد من التواتر، علم ضروري، فإنه يهجم على السامع، سواء كان عالماً أم عاميَّاً كبيراً أم صغيراً مميزاً، ويضطر السامع إلى التصديق بالخبر، وقيل: إنَّه يفيد العلم النظري، والصواب الأول (1)، والفرق بين العلم الضروري والنظري، قد ذكره الحافظ – رحمه الله – في «النزهة» (ص:21 - 22) وعد بينهما فرقين:
1 – أنَّ الضروري يضطر السامع للتصديق به، والنظري – أو الاستدلالي – لا يكون إلا عن نظر واستدلال، بمعنى: أنَّ السامع يقول: بما أن الخبر قد رواه عدد كثير، وبما أنَّ العادة تمنع تواطؤهم على الكذب، إذاً فالخبر يجب تصديقه.
2 – أن الضروري يحصل لكل أحد، فكل العقلاء الآن يؤمنون بوجود مكة، وإن لم يرها كثير منهم.
__________
(1) قال في «المسودة في أصول الفقه» (ص:233): والخبر المتواتر يفيد العلم القطعي وهو قول كافة أهل العلم، وانظر شرح «الكوكب المنير» (2/ 326 - 327).(1/27)
وأمّا النظري فلا يحصل إلا لمن له أهلية النظر والاستدلال، هذا ما ذكره الحافظ، لكنَّه ذكر أيضاً في «النزهة» (ص:26) ما يشير إلى فرق ثالث، ألا وهو أنَّ الضروري يفيد اليقين، وأنَّ النظري يفيد الظن، ومن تأمّل عبارة الحافظ استنبط منها هذا الفرق الثالث، والله أعلم. (1)
__________
(1) قال الحافظ في «النزهة» (ص:58 - 59): ( ... وقيل لا يفيدُ العلم إلا نظرياً! وليس بشيء لأنَّ العلم بالتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر – كالعامي – إذ النظر: ترتيب أمور معلومةٍ أو مظنونةٍ يتوصل بها إلى علوم أو ظنونٍ، وليس في العامي أهلية ذلك فلو كان نظرياً لما حصل لهم، ولاح بهذا التقرير الفرق بين العلم الضروري، والعلم النظري إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلالٍ، والنظري يفيده لكن مع الاستدلال على الإفادة، وأنَّ الضروري يحصل لكل سامعٍ، والنظري لا يحصل إلا لمن فيه أهلية النظر. اهـ.
وعبارة الحافظ – رحمه الله – تفيد أنَّ النظري ينقسم إلى: معلوم ومظنون، بحسب قوة مقدماته، وعندما راجعت ذلك مع المؤلف أفاد أنَّ عبارة الحافظ قسمت العلم النظري إلى يقيني وظنَّي وليس في عبارته ما يدل على أنَّ النظري مختص بالظن. والله أعلم.(1/28)
وبعد ظهور هذه الفروق بين الضروري والنظري، فالعلم المستفاد من المتواتر ضروري؛ لأنَّه يحصل لكل أحد: لمن له أهلية النظر وللصبي والعامي اللذين ليس لهما أهلية النظر (1)، وإذا كان الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري، ويقطع من وقف عليه بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علمنا أنَّه ليس من مباحث علوم الحديث، تلك العلوم التي يُعْرف بها أحوال الراوي والمروي من حيث القبول أو الرد، لأنَّ المتواتر صحيح بدون بحث فيه حسب قواعد هذا الشأن، إنَّما هذه القواعد تجري على أخبار الآحاد. (2)
__________
(1) وقد ذكر الطوفي – رحمه الله – الخلاف في ذلك تبعاً لابن قدامة فقال في «شرحه على الروضة» (1/ 80 - 81): العلم التواتري ضروري عند القاضي أبي يعلى ووافقه على ذلك الجمهور. ونظري؛ أي: يحصل بالنظر ويتوقف عليه عند أبي الخطاب ووافقه على ذلك إمام الحرمين والغزالي وغيرهم .. إلخ. وهذا الخلاف إذا تأملناه خلاف لفظي إذ الجميع متّفق على أنَّ المتواتر يفيد العلم واليقين، وإنّما اختلفوا في نوع هذا العلم، وقد رجّح ذلك الطوفي، فقال: «والخلاف لفظي، إذ مراد الأول بالضروري: ما اضطر العقل إلى تصديقه».والثاني: البديهي الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه، والضروري ينقسم إليهما، فدعوى كلِّ غير دعوى الآخر، والجزم حاصل على القولين. اهـ، وهذا القول هو ما أيده الشيخ زكريا الأنصاري وابن بدران والمحلي، انظر «حاشية شرح الكوكب المنير» (2/ 327).
(2) قال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (ص:60): وإنَّما أبهمت شروط التواتر في الأصل؛ لأنّه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد إذ علمُ الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال، وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل يجب العمل به من غير بحثٍ. اهـ.(1/29)
وتتمة للفائدة: ومن باب قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح وقد سئل عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود (83) والنسائي (59) وغيرهما، أتكلّم على خبر الواحد أو خبر الآحاد.
فخبر الآحاد هو ما عدا التواتر، أو هو ما لم يدخل في حد التواتر (1)، لأنَّ القسمة ثنائية عند الجمهور، خلافاً لمن جعل القسمة ثلاثية، فجعل المستفيض واسطة بين المتواتر والآحاد. ا هـ من «المذكرة» للشنقيطي (ص:102).
__________
(1) الخبر لغةً: النبأ، والجمع: أخبار، وهو مشتق من الخبار وهي الأرض الرخوة لأنَّ الخبر يشير الفائدة كما أنَّ الأرض الخبار تشير الغبار إذا قرعها الحافر.
والآحاد: جمع أحدٍ، كأبطالٍ جمع بطل، وهمزةُ أحدٍ مبدلة من الواو، وأصل آحادٍ أأحاد بهمزتين، أبدلت الثانية ألفاً كآدم، وإنَّما قيل للخبر آحاد؛ لأنَّه يرويه الآحاد، فهو من باب حذف المضاف أو من باب تسمية الأثر باسم المؤثر، ولأنَّ الرواية أثر الراوي انظر: «شرح الكوكب المنير» (2/ 345)، و «شرح مختصر الروضة» (2/ 68)، و «اللسان» (4/ 226)، و «القاموس المحيط» (1/ 283)، واصطلاحاً قال الخطيب في «الكفاية» (ص:50) وأمّا خبر الآحاد فهو ما قصر عن صفة التواتر، ولم يقطع به العلم وإن روته الجماعة.
وقال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (70 - 71): ما لم يجمع شروط المتواتر، وهناك تعريفات أخرى انظرها في «شرح الكوكب المنير» (2/ 345 - 347) وما ذكره الحافظ ابن حجر هو الأشهر والله أعلم.(1/30)
وخبر الواحد إنّما يفيد غلبة الظن – في الجملة -، ولا نستطيع أن نقطع بصحة نسبته إلى قائلة، إنما نرجح ذلك، وليس ذلك من باب العمل بالظن المذموم كما في حديث: «إيَّاكم والظن ... » الحديث أخرجه البخاري (5143، 6064)، ومسلم (563)، أو الشك، أو القول على الله – عزّ وجلّ – بغير علم كما في قوله تعالى: {وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمُ} (1).
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 36.(1/31)
ومن الأدلّة على أنَّ الأصل في خبر الواحد لا يفيد اليقين: حديث أم سلمة مرفوعاً في «الصحيحين»: «إنّكم تختصمون لدي، وإنَّما أنا بشر، ولعل أحدكم ألحن بالحجة من أخيه، فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من نار» وفي خبر المتلاعنين: «الله يعلم أنَّ أحدكما لكاذب، فهل فيكما من تائب» متّفق عليه (1)، واللفظ للبخاري، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى بما ظهر له من أدلة وبينات، ومع ذلك فلم يقطع بأنّه قد أعطى صاحب الحق حقه، وهذا دليل على وجوب العمل بالبينة أو خبر العدل دون قطع بصدق المخبر، لكن بغلبة الظن، كما نعمل بفتوى المفتي وبشهادة الشاهد مع احتمال أن يكون الأمر على خلاف ذلك، لكنّه احتمال مرجوح، لأنَّ الأصل صدق الثقة وعدالة الشاهد، والعمل بالظن الراجح ليس مذموماً، فإن الممارس لهذه العلوم الشرعية يعلم صدق ذلك، ألا ترى الناقد يصحح حديثاً اليوم، ثم يظهر له بعد ذلك أن فيه علة فيتراجع عن ذلك؟ فهل يقال: إنَّه قد تراجع عن اليقين الذي استمر عليه فترة من الزمن؟!! وهل يصحُّ أن يتراجع السامع عن أمر قد اعتقده يقيناً، كوجود مكة والمذاهب الأربعة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجد قبره الشريف بالمدينة، هل هذه القطعيات وما شاكلها تقبل التراجع عنها يومياً من الدهر؟!! كلا، إنَّما التراجع شأن الظنيات، فيترجح عندي اليوم قول، وأتراجع عنه بعد ذلك لدليل أرجح منه وقفت عليه بعده، والعلماء الذين يفرقون بين قول أحدهم: «صحيح الإسناد» و «حديث صحيح» يدل على أنَّهم لم يجزموا بصحة الحديث – فضلاً عن القطع بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بمجرد أنَّ السند الذي جاء به الحديث ظاهره الصحة، بل اشترطوا جمع طرق الحديث، لمعرفة هل هو سالم من الشذوذ والعلة أم لا؟
__________
(1) أخرجه البخاري (6967) ومسلم (1713).(1/32)
ومن المعلوم أنَّ الثقة قد يهم، كما أنَّ الكذوب قد يصدق كما في حديث: «صدقك وهو كذوب) أخرجه البخاري معلقاً والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (959) وهو صحيح. وهذا أمر نلمسه في حياتنا، فلا التفات إلى ما قاله أبو محمد بن حزم – رحمه الله تعالى – بأنَّ راوي الحديث معصوم عن الخطأ، لأنَّ الله قد حفظ لنا الدين إلى آخر ما قال رحمه الله. وللمخالف لابن حزم أن يقول: نعم، إنَّ الله قد حفظ الدين (1)، لكن ذلك ليس باعتبار أفراد المسلمين فرداً فرداً، إنما هو باعتبار الأمّة جميعاً، فالأمة جميعها لا يلتبس عليها باطل بحق، ولا يغيب عنها حق؛ لأنَّها لا تجتمع على ضلالة، كما في الحديث الصحيح وقد تكلمت عليه بتوسع في كتابي «كشف الغمة ببيان خصائص رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم والأمة». إنَّما يقع هذا لبعض أفرادها، فمن الممكن أن أقف على خبر الثقة، ويكون عند بقية أفراد الأمة ما يدل على خطأ هذا الثقة فيما نقله، فالقطع في حقي بصدق ما قاله الثقة، لا يتجه، لوجود ما يدل على خطئه عند غيري – وإن لم يبلغني – لكن الأمّة كلها لم يلتبس عليها هذا الخطأ، بدليل وجوده عند غيري، ولذلك فابن حزم – رحمه الله – لا يقول بالشذوذ إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منه؛ لأنه يرى أنَّ خبر العدل يفيد اليقين (2)، فكيف يترك يقيناً ليقين آخر؟! وإذا كان خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني فما معنى التفرقة بين التواتر والآحاد من حيث الفارق العملي؟ ومعنى كلام ابن حزم: أن الآحاد إذا عارض التواتر، ولم يمكن الجمع فلا ترجيح للمتواتر على الآحاد، وهذا مخالف للصواب.
__________
(1) انظر «الإحكام» (1/ 119 - 137)، و «النبذة في أصول الفقه الظاهري» (48 - 58).
(2) «الإحكام» (1/ 108) قال – رحمه الله -: «والقسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إن اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضاً».(1/33)
وإذا كان خبر الثقة الواحد – أعني به: ما دون التواتر – يفيد اليقين، فلماذا رجّح العلماء الأسانيد العالية على الأسانيد النازلة؟ فمن المعلوم أنَّهم رجّحوا السند العالي لقلة رجاله؛ لأنَّه كلما قلَّ عدد النقلة، كلما قل احتمال الوهم، وعكسه عكسه، فلو كان كل واحد يفيد خبره اليقين، فلا وجه لما قالوه – وإن نزل الإسناد – لا شك أن في الأسانيد العالية مزايا أخرى، فإنَّها تدل على الرحلة والاجتهاد في الطلب، لكن المقصود من الرحلة والاجتهاد تقليل احتمال الوهم والخطأ (1) وأيضاً: فأنا أسأل من يقول: بأنَّ خبر الواحد يفيد اليقين: هل سماعك الحديث الذي صح سنده المكون من خمسة رواة في «سنن أبي داود» – مثلاً – يستوي في اليقين مع سماع الصحابي لهذا الحديث من فِيّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ إن قلت: نعم، فقد كابرت، وإن قلت: لا، فقد رجعت عن قولك، لأنَّ الترجيح في باب الظنيّات لا القطعيّات، وأيضاً فمن المعلوم أنَّ التصحيح للحديث فرع التوثيق للرواة نقلة هذا الحديث، فأسأل: كيف يوثق علماء هذا الفن رواة الأحاديث؟.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (ص:156): وإنّما كان العلو مرغوباً فيه لكونه أقرب إلى الصحة، وقلّة الخطأ؛ لأنّه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلّما كثُرت الوسائط وطالَ السند كثرتْ مظانَّ التجويز وكلّما قلت؛ قلت. اهـ.(1/34)
الجواب: إمّا أن يكون المعدِّل معاصراً للمعدَّل، أو متأخراً عنه ولم يره، إنما اطّلع على حديثه، فإن كان معاصراً فإمّا أن يكون قد حضر له مجلساً، ورآه يحدِّث بأحاديث مستقيمة، فوثّقه، وقد يكون الأمر بخلاف ذلك – وإن كان خلاف الظاهر مرجوحاً -، وإمّا أن يكون قد اختبره في أحاديث – قلّت أو كثرت – فمرَّ فيها فوثقه، وقد يكون حديث عهد بما سئل عنه، ولو سأله عن غير هذه الأحاديث لاشتبهت عليه – وإن كان هذا الاحتمال مرجوحاً -، وإن كان المعدِّل متأخراً، فتوثيقه راجع إلى سبر روايات المحدّث ومقارنتها بحديث غيره، وقد يتوسع الناقد فيسبر كل حديث المحدّث، وقد لا يفعل، فالتوثيق اجتهادي لا قطعي، ونحن نرى كثيراً من التراجم قد اختلف فيها الأئمة بين معدِّل ومجرِّح، ثم نجتهد في الجمع بين هذه الأقوال، ونستخرج حكماً نهائياً في الرجل بالتعديل أو بالتجريح (1) فحُكمنا اجتهاد ظنّي مَبْنِيٌّ على اجتهاد ظنّي، فكيف يصير بعد ذلك يقينيَّاً قطعيّاً؟.
__________
(1) سيأتي الكلام على ذلك مفصلاً – إن شاء الله تعالى – في أثناء الكتاب.(1/35)
وكذلك استشهادنا بالأحاديث الضعيفة ضعفاً خفيفاً، وحكمنا لها بالقوة إذا تعددت طرقها – على تفاصيل في ذلك يعرفها أهل الشأن – هذا الصنيع من أهل العلم قديماً وحديثاً يدل على أنّ الحديث إذا حُكم عليه بالضعف، فمعنى ذلك أنَّ الراجح ضعفه، وإن كان هناك احتمال بصحته، فلما تعددت الطرق، كثرت احتمالات القوة، فاشتد الحديث وارتقى إلى الثبوت صحة أو حسناً، وقد اختلفت أقوال أهل العلم في هذا الباب، فقد تستشهد بطريق بناءً على قاعدة لا يراها غيرك فيرد الحديث. وهذا يدل على ما قلته في الحديث الذي تترجّح صحته، ولذلك فابن حزم – رحمه الله – نظراً لأنّه لا يقول بقول الجماهير في هذا الأمر، فلا تراه يقول بالحديث الحسن لغيره، ولا يعمل بالشواهد والمتابعات، فيكاد يكون الضعيف عنده مقطوعاً بعدم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيستوي عنده الضعف والموضوع والباطل، وهذا خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن، فالعجب من طلبة العلم الذين يرددون كلام ابن حزم – رحمه الله -، ولا يلتزمون به، فهم ظاهريون نظريّاً، وقائلون بقول جماهير الحديث والأصول والفقه عمليّاً – من حيث لا يشعرون -.(1/36)
أرجع فأقول: إنّ العمل بغلبة الظن – للأدلّة السابقة – ليس عملاً بالشك، فإنَّ الظن المذموم والشك يستوي فيهما جانب القبول والرد، أو يترجح جانب الرد، وهذا بخلاف ترجيح جانب القبول والعمل بالقطع، أو الظاهر عمل بالعلم، ومن تأمل في المسائل الفقهية المختلف فيها، أو في الأحاديث المختلف في صحتها وضعفها – وإن ترجح للباحث وجه من الوجوه – علم أنّ العمل بالراجح والظاهر وبما تطمئن إليه النفس أو تميل إليه، ليس من باب العمل بالشك، ولا من باب القول على الله بغير علم، لأنّ العلم منه قطعي وظاهر، بالعمل بهما أو بأحدهما عمل بالعلم (1)،
__________
(1) هذا وقد ذهب أبو محمد بن حزم – رحمه الله – إلى عدم العمل بالظن فقال في «المحلّى» (1/ 93): ولا يحل الحكم بالظن أصلاً لقول الله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) ولقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إيّاكم والظن فإنَّ الظن من أكذب الحديث» وبالله – تعالى – التوفيق. اهـ.
وقد حقق هذه لمسألة العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير كما في حاشية «المحلّى» (1/ 93 - 95) فقال معترضاً على ابن حزم:
أقول: هذا النفي في أنَّه لا يحل الحكم بالظن مشكل غاية الإشكال وقد آن أن نحقق البحث للناظرين دفعاً للاغترار بكلام هذا المحقق – رحمه الله – فنقول: «الظن» لفظ مشترك بين معان:
يطلق على الشك كما صرّح أئمة اللغة، ففي القاموس: الظن التردد، والراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم انتهى فهذان إطلاقان.
ويطلق على اليقين: كما في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه رجعون (46» مع قوله في «صفة المؤمنين»: (وهم بالآخرة هم يوقنون) لأنه لابد من اليقين في الإيمان بالآخرة.
ويطلق على التهمة كما في قوله – تعالى -: (وما هو على الغيب بضنين (24» فيمن قرأه بالظاء المشالة؛ أي: بمتهم كما قال أئمة التفسير.
وإذا عرفت هذا؛ عرفت أنّ المذموم من الظن هو ما كان بمعنى الشك وهو التردد بين طرفي الأمر فطرفاه مستويان لا راجح فيهما فهذا يحرم العمل به اتفاقاً وهو الذي هو «أكذب الحديث» وهو الذي «لا يغني من الحق شيئاً» وهو بعض الإثم الذي أراد – تعالى -: (إن بعض الظن إثم) وذلك لما تقرر في الفطرة وقررته الشريعة أن لا عمل إلا براجح يستفاد من علم أو ظن.
وأمّا الظن الذي بمعنى الطرف الراجح: فهو متعبد به قطعاً بل أكثر الأحكام الشرعية دائرة عليه وهو البعض الذي ليس فيه إثم، المفهوم من قوله – تعالى -: (إن بعض الظن إثم) ثم تكلّم – رحمه الله – على خبر الآحاد فقال: فإنّ خبر الآحاد معمول به في الأحكام، وهو لا يفيد بنفسه إلا الظن، والمصنف ابن حزم تقدم له في المسألة (103) أنَّ الجاهل يسأل العالم عن الحكم فيما يعرض له فإذا أفتاه وقال: هذا حكم الله ورسوله عمل به أبداً ومعلوم أنّ هذه رواية آحادية من العالم بالمعنى، ولا تفيد إلا الظن، وقد أوجب قبولها.
وكذلك في أمر الله بإشهاد «ذوي عدل» فإن شهدوا وجب على الحاكم الحكم بما شهدا به، وشهادتهما لا تفيد إلا الظن، بل كونهما ذوي عدل لا يكون إلا بالظن، بل قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنكم تختصمون إليّ» إلى قوله: «فإنّما أقطع له قطعة من نار» وهذا صريح أنّه صلى الله عليه وسلم حكم بالظن الحاصل عن البيّنة، إذ لو كان بالعلم لما كان المحكوم به قطعة من نار، لأنّه لا يجوز أنّ البيّنة التي حكم بها باطلة في نفس الأمر.
وفي حديث ابن مسعود في سجود السهو: «إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنّك على أربع» الحديث. فاعتبر الظن في أشرف العبادات.
وحديث الطبراني والحاكم: قال الله أي في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء».
وحديث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة فهذا كلّه عمل بالظن الراجح الصادر عن أمارة صحيحة.
وأما ما صدر لا عن أمارة صحيحة نحو ظن الكفار أنّه «لن ينقلب الرسول والمؤمنون» فهذا ظن باطل مستند إلى أنّ الله تعالى لا ينصر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمؤمنين، ومثل (ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون) الذي حكاه الله – تعالى – عنهم بقوله: (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أردتكم فأصبحتم من الخسرين (23» فظنهم هذا مستند إلى الجهل بعلم الله وإحاطته.
ومنه في قصة الأحزاب في ظن المنافقين: (وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) فإنهم ظنّوا غلبة الأحزاب للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا قالوا: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) وعكسهم أهل الإيمان فإنّهم قالوا: (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمنا وتسليما) فهذا البحث – بحمد الله تعالى – لا تجده في كتاب، وإنّما هو من فتح الكريم الوهاب وبه يزول الإشكال، والاضطراب، وتعلم أنّ المصنف أوجز في محل الإطناب فأخل بما يذكره وهو في هذا الكتاب، فإنّه لا يزال يستدل فيه بأخبار الآحاد وبعموم ألفاظها وألفاظ القرآن، والكل لا يخرج عن الأدلّة الظنيّة، فاعرف قدر هذه الفائدة السنيّة اهـ من إفادة خاتمة المحققين السيد محمد بن إسماعيل الأمير جزاء الله عن الإسلام خيراً. اهـ.
وهذا وقد بوب الإمام الخطيب – رحمه الله – في كتابه الكفاية (ص:65) لهذا المبحث بقوله: «ذكر شبهة من زعم أنّ خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها».
ونقل عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال: «وأمّا التعلق في أن خبر الواحد يوجب العلم، فإن الله – تعالى – لما أوجب العمل به، وجب العلم بصدقه وصحته، لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس ل كبه علم) وقوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فإنّه أيضاً بعيد لأنّه إنّما عنى تعالى بذلك ألا تقول في دين الله ما لا تعلمون إيجابه، والقول والحكم به عليكم، ولا تقولوا: سمعنا ورأينا وشهدنا وأنتم لم تسمعوا وتروا وتشاهدوا، وقد ثبت إيجابه – تعالى – علينا العمل بخبر الواحد، وتحريم القطع على أنّه صدق أو كذب، فالحكم به معلوم من أمر الدين، وشهادة بما يعلم ويقطع به، ولو كان ما تعلقوا به من ذلك دليلاً على صدق خبر الواحد لدلّ على صدق الشاهدين، أو صدق يمين الطالب للحق، وأوجب القطع بإيمان الإمام، والقاضي، والمفتي إذا لزمنا المصير إلى أحكامهم وفتواهم، لأنّه لا يجوز القول في الدين بغير علم، وهذا عجز ممن تعلق به فبطل ما قالوه. اهـ.
هذا وقد ذكر العلماء أدلة أخرى تثبت أنّ خبر الواحد المجرد لا يفيد العلم منها:
1 – لو كان خبر الواحد يفيد العلم لما جاز وصح أن يرد خبران متعارضان: أحدهما يثبت والآخر ينفي وذلك لأنّه يستحيل اجتماع الضدّين لكن رأينا وجود التعارض في أخبار الآحاد كثيراً، فدل هذا على أنّه لا تفيد العلم.
2 – لو كان خبر الواحد يفيد العلم ويحصل به، لكان لا يحتاج في الشهادات إلى عدد من الشهود – اثنين فأكثر – بل كان الشاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته، ولما كان الأمر بخلاف ذلك، حيث يحتاج إلى عدد من الشهود، أو يمين إذا عدم الشاهد ليقوي ذلك خبر هذا الواحد فإنّه يثبت أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم.
3 – والواجب على القاضي أن يصدق المدعي على غيره من غير بينة، لأنَّ العلم يقع بقوله، فلما ثبت أنّه لا يصدق إلا ببينة ثبت أن خبر الواحد لا يفيد العلم.
4 – ولكان العلم حاصلاً بخبر الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم من غير حاجة إلى إظهار المعجزات والأدلّة على صدقهم، فلما أخبروا عن نبوتهم، وأظهروا المعجزات الدالة على ذلك ثبت أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم.
انظر «روضة الناظر» (2/ 203 - 204) و «شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/ 105 - 107) و «التبصرة للشيرازي» (ص:299) و «إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» (3/ 123 - 135) وهذا القول وهو أن خبر الواحد المجرد لا يفيد العلم بل يفيد الظن وهو مذهب جمهور العلماء من فقهاء وأصوليين، انظر «المسودة» (ص:244) و «إجابة السائل» للصنعاني (ص:102 - 103) هذا وقد يقول قائل: إنكم بذلك وافقتم أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم في القول بأن خبر الواحد يفيد الظن والجواب على ذلك أن أهل السنة وافقوهم على هذه الجزئية لمّا دل الدليل على ذلك وخالفوهم في جزئيات كثيرة في خبر الآحاد منها:
أنّ أهل السنة يثبتون بخبر الواحد الصحيح صفات الرب – تعالى – والعقائد الأخرى دون نظر إلى قضية القطع والظن قال ابن القيم – رحمه الله – في «مختصر الصواعق المرسلة» (ص:509): المقام الخامس: أن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإنّ الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر ... إلخ.
وقد انتصر ابن القيم – رحمه الله – لمن قال بإفادته اليقين فليراجع في «مختصر الصواعق المرسلة» ومن الفوارق كذلك بين أهل السنة وأهل الكلام في هذه القضية أن أهل السنة يعملون بخبر الواحد في جميع المسائل دون النظر إلى قضية القطع والظن فخبر الآحاد الثابت حجة مطلقة يجب العمل بها دون قيد أو شرط.
وأن خبر الواحد عند أهل لسنة يحصل به العلم إذا احتفّت به القرائن كما سينبه عليه المؤلف – حفظه الله – اهـ بتصرف من كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (157 - 159)، والله أعلم.(1/37)
بقي أن يقال: وخبر الآحاد الذي تحفه قرينة (1)، هل يفيد اليقين؟ وقد مثّلوا لذلك بآحاد «الصحيحين» التي حفتها قرائن كثيرة: مثل علو قدر الشيخين، ورسوخ قدمهما في هذا الفن، وتلقي الأمة للكتابين بالقبول ... إلخ ما ذكره العلماء في ذلك، فمنهم من جزم بإفادتها العلم اليقيني النظري فقال: بما أنَّ الأمة تلقت الكتابين بالقبول، وبما أنَّ الأمة لا تجتمع على باطل، إذا فالكتابان بما فيهما من متواتر وآحاد قطعيّاً الثبوت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنهم من خالف ولم يسلم بالمقدمتين أو بإحداهما، وعلى إثر ذلك فلم يسلم بالنتيجة، وعندي أنَّ في الأمر تفصيلاً – بخلاف الأحرف المنتقدة عليهما – فمن أحاديث الشيخين – وإن كان آحاداً – ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنها ما لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك راجع إلى قرائن أخرى تَحُف بعض آحاد «الصحيحين» خلاف ما سبق ذكره من قرائن، فإنّ ما ذكروه من القرائن المشار إليها آنفاً، لا يلزم منه القطع بخبر الآحاد، وليس هناك ما يمنع من إفادة الخبر الواحدة اليقين إذا حفته قرائن (2)،
__________
(1) قال الزركشي في تعريف القرائن: أنَّ العلماء لم يتعرضوا لضابط القرائن ونقل عن المازري قوله: لا يمكن أن يشار إليها بعبارة تضبطها، قلت: والكلام للزركشي يمكن أن يقال هي ما لا يبقى معها احتمال وتسكن النفس عنده مثل سكونها إلى خبر المتواتر أو قريباً منها «البحر المحيط» (4/ 266) و «شرح الكوكب المنير» (2/ 349).
(2) قال الحافظ في «نزهته»: والخبر المحتف بالقرائن أنواع ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنّه احتفت به قرائن:
منها: جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أنَّ هذا يختص بما لم ينقُذْه أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلولية مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته، فإن قيل: إنَّما اتّفقوا على وجوب العمل به لا على صحته منعناه وسند المنع أنَّهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صحَّ ولو لم يخرجه الشيخان فلم يبق للصحيحين في هذا مزية والإجماع حاصل على أنّ لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة، ومما صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني ومن أئمة الحديث أبو عبدالله الحميدي، وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح.
ومنها: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة، والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي والأستاذ أبوبكر بن فورك وغيرهما.
ومنها: «المسلسل» بالأئمة الحفّاظ المتقنين حيث لا يكون غريباً كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنّه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال عن جمعه جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول مما يقول مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكاً مثلاً لو شافهه بخبر أنّه صادق فيه فإنه انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبَعُُدَ عمّا يخشى عليه من السهو وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث، المتبحر فيه، العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل، وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.
ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها:
أن الأول يختص بالصحيحين، والثاني بما له طرق متعددة، والثالث بما رواه الأئمة، ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد، فلا يبعد حينئذ القطع بصدقه والله أعلم «النزهة» (ص:74 - 76).
وانظر كذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – «في الفتاوى» (18/ 40 - 41) وفي (13/ 351) قال: ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطرائف على أن «خبر الواحد» إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنّه يوجب العلم وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه، من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك ... إلخ اهـ وانظر «مختصر الصواعق» (ص:477 - 483).(1/38)
ومثَّلوا لذلك بما لو أخبر رجل بموت رجل، ثم رأينا ابنه يجري في الطريق على هيئة غير عادته أشعث أغبر، وسمعنا صياحاً من بيت الذي ذُكر لنا أنّه قد مات، ورأينا بعض الناس يضع خشبة النعش أمام داره، ورأينا آخرين يحفرون قبرا، مع علمنا السابق بأن المذكور كان في حالة مرض شديدة، فلا شك أنَّ هذه القرائن تفيد اليقين، والله أعلم.(1/39)
ومما ينبغي التنبيه عليه: أنَّ أحاديث الآحاد وإن كانت – في الأصل – لا تفيد اليقين إلا أنَّه يجب العمل بها، ولم يخالف في ذلك إلا الروافض ومن جرى مجراهم، واستدلوا على عدم العمل بخبر آحاد، بأخبار آحاد، وهذا من تناقضهم، وقد ذكر ابن حزم – رحمه الله – فصلاً ممتعاً في أدلة العمل بخبر الآحاد في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» فراجعه (1/ 121 - 132) فقد أفاد فيه وأجاد، وذكر بعضه الشيرازي في «التبصرة» (ص301 - 311) (1) وكما أنَّه يجب العمل بخبر الآحاد وإن لم يتابع، خلافاً لأبي علي الجُبائي (2)،
__________
(1) وانظر كذلك بحثاً في ذلك للخطيب البغدادي – رحمه الله – في كتابه «الكفاية» (ص:66 - 72) وقال في آخره: «وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا اعتراض عليه، فثبت أنَّ من دين جميعهم وجوبّه إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه»، والله أعلم.
(2) أبو علي الجبائي محمد بن عبدالوهاب بن سلام بن زيد بن أبي السكن الجبائي، رأس المعتزلة وكبيرهم ومن انتهت إليه رياستهم، كذا قال الحافظ في «لسان الميزان» (5/ 271)، وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 183 - 184)، وانظر شرطه في الصحيح في «النزهة» (65 - 66) والله أعلم ..(1/40)
وكذا يجب العمل به وإن كان في أمر تعم به البلوى، وقد فرّق بعض الأصوليين بين الخبر الذي تعم به البلوى، فيقبل فيه خبر الواحد، وبين الخبر الذي تتوفر الدواعي على نقله (1)،
__________
(1) خبر الواحد فيما تعم به البلوى يراد به: الخبر الذي يتعلق بأمر من الأمور التي تقع كثير بين المسلمين ويحتاجون إلى الاستفسار عن حكمها أو يكون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم كثرة وقوعه فيهم ببيانها كنقض الوضوء من لمس الذكر وعدم الإفطار من الأكل ناسياً ونحو ذلك فإذا لم ينقل الأخبار المبينة لأحكام هذه الحوادث إلا آحاد لم يقبل عند بعض الحنفية لأنّ هذه الأشياء مما يبتلى بها الناس ولا يحل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يخص بتعليمها الآحاد، فلا أن يكون قد بين حكمها الكثير من الصحابة فتشتهر وتتوفر الدواعي على نقلها، فانفراد هذا الراوي بها دليل على خطئه، والصحيح – إن شاء الله تعالى – قبولها كما تقبل في سائر الأحكام فإنَّ هذه الأشياء وإن كانت تقع كثيراً لكن لا يلزم أن يحتاج كل فرد إلى معرفة حكمها قبل أن تحدث عليه وقد لا يجري عليه شيء منها طوال عمره، ومن عرف حكمها فقد لا يجد مناسبة للتحديث بها وقد يعتقد معرفة الناس لمثلها وقد يكتفي للتحديث بحكمها ... إلخ انتهى من رسالة الشيخ عبدالله بن جبرين «أخبار الآحاد في الحديث النبوي» (ص:137) وانظر كذلك «إجابة السائل شرح بغية الآمل» (ص:108 - 109).
هذا وقد نُسب هذا القول إلى أبي حنيفة وصاحبيه وكذب ذلك ابن القيم – رحمه الله – حيث قال في «مختصر الصواعق» (526) وطائفة عاشرة روته فيما تعم به البلوى وقبلته فيما عداه، وحكوه عن أبي حنيفة، وهو كذب عليه، وعلى أبي يوسف ومحمد فلم يقل ذلك أحد منهم البتة، وإنّما هذا قول متأخريهم، وأقدم من قال به عيسى بن أبان وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره. اهـ.(1/41)
كقتل خطيب على منبر أو ملك في سوق، فلا يقبل فيه خبر الواحد، هذا وخبر الآحاد ينقسم إلى مستفيض أو مشهور وعزيز وغريب (1)، هذا ما يسر الله به من الجوانب على هذا السؤال، وإن كنت قد استطردت في الجواب، وتكلّمت على مسائل لم ترد في السؤال، وما ذلك إلا لمسيس الحاجة إليها، ولكثرة الاختلاف بين بعض طلبة العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان.
س 2: ما هو التعريف الصحيح للحديث الشاذ؟ وما هو انتقاد أهل العلم لهذا التعريف القائل: «الشاذ: مخالفة الثقة للثقات»؟
ج2: الحديث الشاذ من جملة الحديث الضعيف، والقول المقبول فيه: «هو مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه»، ولكننا نجد في بعض كتب المصطلح قول بعضهم: «هو مخالفة الثقة للثقات» (2)، وهذا التعريف فيه خلل في موضعين:
أولاً: قولهم: «مخالفة الثقة» يرد على ذلك رجال الحديث الحسن الذين يقال في أحدهم: «صدوق، أو لا بأس به»، وهم ليسوا ممن يصح أن يطلق عليهم كلمة: «ثقة»، مع أنهم مقصودون في التعريف وكما قالوا: إنَّ التعريفات لا بد أن تكون جامعة مانعة، جامعة لجميع أوصاف الشيء المراد تعريفه، ومانعة من دخول أي وصف غريب مع هذه الأوصاف، وإلا فلا فائدة من التعريف.
__________
(1) انظر ذلك مفصلاً في «النزهة» للحافظ ابن حجر – رحمه الله – (62 - 70).
(2) قال القسطلاني: الشاذ ما خالف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات بزيادة أو نقص فيظن أنَّه وهم فيه، انظر معجم «مصطلحات توثيق الحديث» (ص:41 - 42) د – علي زوين – وفيه من الاعتراضات ما ذكره الشيخ – حفظه الله -.(1/42)
ثانياً: أنَّ قولهم «الثقات» جمع ثقة، وهم لا يشترطون عند المخالفة أن يخالف جمعاً من الثقات، بل إنَّه إذا خالف رجلاً واحداً أوثق منه، فإنّ الحفاظ يحكمون عليه بالشذوذ، على تفاصيل في ذلك، ولذلك كان هذا التعريف الذي سألتَ عنه مدخولاً من هاتين الجهتين، والتعريف الصحيح: هو «مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه» (1).
فكلمة: «مخالفة» تخرج من ذلك التفرد، والموافقة، و «المقبول» كل من يقبل للاحتجاج به، سواء كان من رجال الصحيح أو الحسن، وليس «المقبول» كل من يقبل للاحتجاج به، سواء كان من رجال الصحيح أو الحسن، وليس «المقبول» هنا على تعريف الحفاظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «التقريب» الذي هو مَنْ ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يُتْرك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بـ «مقبول»، حيث يتابع وإلا فليِّن الحديث، هذا تعريفه في مقدمة «التقريب» الطبقة السادسة، والمقبول الذي أعنيه بالحديث هنا: هو المقبول عند أ÷ل العلم خلاف المردود، سواء كان مردوداً ردّاً مؤقتاً أي: أنَّه يصلح في باب الشواهد والمتابعات، أو مردوداً رداً نهائياً، وهو من أهل الرد والترك فالمقبول إذن: هو الذي يُقبل في الاحتجاج به، فقولنا: «مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه» يدخل في ذلك إذا كان المخالف واحداً ولكنه أوثق من المخالَفِ، فالتعريف يكون جامعاً له، وهذا تعريف الحافظ – رحمه الله -، والله أعلم.
«تنبيه»:
__________
(1) في «النزهة»: «ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه، قال الحافظ: وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح» (ص:98).(1/43)
فهم كثير من طلبة العلم أن المراد بالمخالفة هنا: أن يروي الراوي رواية لا يمكن الجمع بينها وبين رواية من هو أوثق منه، وهذا ليس بسديد على طريقة الحذاق من أهل الحديث، والمتتبع لصنيعهم يجدهم يطلقون الشذوذ على أحاديث لا تكاد تحصى، مع إمكان الجمع على طريقة الفقهاء، فالمراد بالمخالفة أي زيادة في اللفظ تحمل زيادة في المعنى، فعند ذاك تُحكّم القواعد، لينظر المحفوظ من الشاذ، والله أعلم.
فائدة في أحوال الرواة:
الرواة لهم أربع حالات أو هم أربع أقسام:
1 – من الرواة من يُحتج به وإن خالفه غيره، أي: وإن كان المخالفون له ثقات، وهؤلاء هم الأئمة الحفاظ المشاهير كالإمام أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني – رحمهما الله تعالى -، ومن جرى مجراهما في الشهرة بالأمانة والضبط والتحري واليقظة، فهؤلاء الأئمة الكبار ليس من السهل أن يُرَدَّ عليهم حديثهم، فليس من الهين – مثلاً – أن يقال: «شذَّ أحمد، أو شذّ علي بن المديني» (1)
__________
(1) مثال ما جاء في «التتبع» في قصة المسيء صلاته، وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ارجع فصل فإنّك لم تصل» رواه يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به، قال الدّارقطني وخالف يحيى أصحاب عبيدالله كلهم فهم أبو أسامة وعبدالله بن نمير وعيسى بن يونس وغيرهم ورووه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة فلم يذكروا أباه ... قال يحيى ويشبه أن يكون عبيدالله حدّث به على الوجهين والله أعلم (ص:177) قال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله تعالى – في «المقترح» هاب الدّارقطني أن يقول إنَّ يحيى بن سعيد شاذ والله أعلم (ص:124).
وانظر «سنن الترمذي» (3/ 428).
والعلل للدارقطني (3/ 155 رقم 325) و «فتح الباري» لابن حجر (2/ 277 رقم 793).(1/44)
إلا أن يكون المخالفون لأحد الحفاظ أئمة حفّاظاً، فعند ذلك نقول: «وهِمَ فلان»، فمن الرواة من يُحتج به وإن خالف، وهذا على سبيل الأغلبية، وليس في كل الحالات.
2 – من الرواة من يُحتج به إذا تَفَرَّدَ، ولا يُحتج به إذا خالف، وهؤلاء غالب رواة الحديث الصحيح أو الحسن، فيحتج بهم عند التفرد، لكن إذا خالفوا من هو أوثق منهم يُرد عليهم (1).
3 – ومن الرواة من يحتج به إذا توبع، أمّا إذا انفرد – فضلاً عن المخالفة – فلا يحتج به، وهؤلاء أهل الشواهد والمتابعات.
4 – ومن الرواة من لا يحتج به وإن توبع، وهؤلاء أهل الترك، والرد، والتهمة، والكذب، والفسق، والعياذ بالله.
س 3: بعض العلماء يقولون: «إنّ مثال العلّة غير القادحة إبدال ثقة بثقة»، فما هو التعريف الصحيح للعلّة غير القادحة؟
__________
(1) مثاله ما ذكره الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه «النزهة (97 - 98).
وهو ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن عوسجة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، أنَّ رجلاً توفي في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يدع وارثاً إلا مولئ هو أعتقه ... الحديث.
وتابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره وخالفهم حمّاد بن زيد فرواه عن عمرو بن دينارٍ عن عوسجة ولم يذكر ابن عباسٍ.
قال أبو حاتم: «المحفوظ حديث ابن عيينة». اهـ كلامه.
فحمّاد بن زيد من أهل العدالة والضبط، ومع ذلك رجّح أبو حاتم رواية من هم أكثر عدداً منهُ وعرف من هذا التقرير أنَّ الشاذ ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح. اهـ.(1/45)
ج 3: أولاً في الجواب على هذا يجب أن نعرف أولاً العلّة القادحة، وما دونها يكون غير قادح، فالعلماء يعرفون الحديث المُعَلَّ: «بأنَّه الحديث الذي ظاهره الصحة، وفيه علة خفيّة تقدح في صحته، مع أنَّ الظاهر السلامة من ذلك» (1)، وهذا لا يكون إلا كما يقول علي بن المديني – رحمه الله تعالى -: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم تعرف علّته» (2) فهذا يكون بجمع طرق الحديث كلّها، فإذا جمعت الطرق كلها بان لك مَنِ الذي وهم؟ ومَنِ الذي حفظ؟ وأين الراوي الذي خالف؟ ومَنِ الراوي الذي يتحمل عهده هذه المخالفة أو هذه النكارة؟ ومَنِ الراوي الذي يفلت من هذه العهدة؟ إما لثقته، وإمّا لمتابعة غيره له، أو غير ذلك من الأمور التي تظهر لمن يمارس مسألة تحقيق الأحاديث، ولعل من أكبر الأمثلة على هذا حديث: «شيبتني هود وأخواتها»، كما في (العلل) للدارقطني – رحمه الله -، فالعلة القادحة كأن يُروى الحديث متصل الإسناد مع أنَّه جاء مرسلاً، والذين رووه مرسلاً أوثق من الذين رووه مسنداً، وبالمثل في مسألة الاتصال والانقطاع ومسألة الرفع والوقف، والزيادة والنقصان في السند أو في المتن.
هذه علل قادحة تقدح في صحة الحديث (3)،
__________
(1) انظر «مقدمة ابن الصلاح» (ص:81)، و «شرح الألفيّة» للعراقي (1/ 226)، و «تدريب الراوي» (1/ 252).
(2) في «مقدمة ابن الصلاح» (ص:195) قال الخطيب أبوبكر: السبيل إلى معرفة علّة الحديث أن يجمع طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، ثم ذكر – رحمه الله – عبارة ابن المديني.
وانظر «تدريب الراوي» (1/ 253) و «توضيح الأفكار» (2/ 29).
(3) ذكر الحاكم أبو عبدالله في كتابه (علوم الحديث) النوع السابع والعشرين (ص:112 - 116) عشرة أجناس للعلل، وأورد لكل جنس مثالاً مع بيان العلّة التي فيه.
فمنها الجنس الأوّل: أن يكون السند ظاهره الصحة ولكن فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه.
ومنها: أن يسند الحديث من وجهٍ ظاهره الصحة ولكن يكون مرسلاً من وجهٍ رواه الثقات الحفّاظ.
ومنها: أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته.
ومنها: أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي فيروى عن تابعي فيقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته عن غيره ممن لا يكون معروفاً من جهته.
ومنها: أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه راوٍ دلّ عليه طريق أخرى محفوظة.
ومنها: أن يختلف على رجل في الإسناد.
ومنها: أن يختلف على رجل في تسمية من روى عنه أو عدم تسميته.
ومنها: أن يكون الراوي عن شخصٍ قد أدركه وسمع منه، ولكنّه لم يسمع منه ذلك الحديث.
ومنها: أن يكون للحديث طريق معروف، فيروي أحد رجاله الحديث من غير ذلك الطريق فيقع الوهم.
ومنها: أن يروى الحديث مرفوعاً من وجه، وموقوفاً من وجه.
ثم قال – رحمه الله -: فقد ذكرنا علل الحديث على عشرة أجناس وبقيت أجناس لم نذكرها وإنّما جعلتها مثالاً لأحاديث كثيرة، ليهتدي إليها المتبحر في هذا العلم فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم. اهـ.
وانظر «توجيه النظر» لظاهر الجزائري (2/ 606 - 613).
قال المؤلف: وهذه الأجناس التي ذكرها الحاكم – رحمه الله – فيها تداخل ولم يقتصر فيها على العلل الخفية والله أعلم.(1/46)
أمّا مسألة العلل غير القادحة – مثل إبدال ثقة بثقة، كأن يختلف الرواة مثلاً على سفيان الثوري، أو على الزهري، فمرة يسمي أحدهم شيخاً، ومرة أخرى يسمي شيخاً آخر، والشيخان كلاهما ثقة، فهذه علّة غير قادحة، وإنّما سموها علّة لمجرد وجود الاختلال في الحديث والإسناد، وهي لا تقدح (1)؛
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/ 747):
1 – فمثال ما وقعت العلّة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً: ما يوجد مثلاً من حديث مدلس بالعنعنة فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أنَّ العلّة غير قادحة.
2 – وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أنَّ تلك العلّة غير قادحة.
3 – مثال ما وقعت العلّة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المنن ما مثل به المصنف من إبدال راوٍ ثقة براوٍ ثقة وهو بقسم المقلوب أليق فإن أبدل راوٍ ضعيف براوٍ ثقة وتبيّن الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة.
4 – ومثال ما وقعت العلّة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث «الصحيحن» إذا أمكن رد الجميع إلى معنى واحد فإن القدح ينتفي عنها ... إلخ. اهـ.(1/47)
لأننا نقول: «طالما أنَّ تلامذة الزهري الذين رووا الحديث عنه سواء، أو قريب من السواء من ناحية العدد أو الوصف، فنستطيع أن نقول: إن للزهري فيه شيخين، ولا سيّما أنَّ الزهري رجل حافظ وجامع للعلم، ورحّال، فمِنَ المحتمل أن يكون له في الحديث شيخان، أو أكثر، فهذه علّة غير قادحة، وكأن يختلف الرواة في اسم رجل ونسبته، والرجل ثقة، هذه أيضاً علّة غير قادحة، فمسألة العلة غير القادحة إن جئت إلى التعريف فليس لها تعريف بأكثر من هذه التعريف: إنَّها علّة بمعنى الاختلاف في رواة السند، ولكنَّها لا تقدح في صحة الحديث.
أمَّا إذا جئنا إلى التمثيل لها، فالذي ذكرته من جملة هذه الأمثلة، وتظهر للإنسان أكثر عند الممارسة، وعند البحث في الأحاديث.
المهم أنك لا تعرف هل هذه العلّة قادحة أو غير قادحة؟ إلا إذا جمعت طرق الحديث، فإذا جمعت طرق الحديث؛ بان لك هل هذه العلة تقدح في صحة الحديث أم لا (1)؟
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/ 710 - 711):
وإذا تقرر هذا فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلّة كما نقله المصنف عن الخطيب، أن يجمع طرقه فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلّة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف وسأوضحه في النوع الذي بعد هذا – إن شاء الله تعالى -، وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله – تعالى – فهماً غايصاً، واطّلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة ولهذا لم يتكلّم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذّاقهم، وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك ... إلخ.(1/48)
فإذا كان الإسناد يدور على ثقة فلا يضر؛ لأنّه سواء أكان هذا شيخه أو ذاك شيخه فهو ثقة ... لكن شرطه أن يكون الذي اختُلِف عليه ثقة، أمّا إذا اخْتُلِف على رجل صاحب أوهام، وروى الحديث على عدّة أوجه، فهذا لا يقبل منه، وهذا دليل على وهمه واضطرابه في الحديث، فالرجل الثقة الحافظ إذا روى الحديث على عدة أوجه، حُمِل هذا على أنَّه قد جمعه من مشايخ كثيرين، والرجل الذي فيه أوهام إذا روى الحديث من عدة أوجه، دلّ هذا على أنَّه وهم في هذا الحديث، إنّما تقبل الطرق المتعددة من الحفاظ، ولا تقبل من أصحاب الوهم، وسوء الحفظ، والله – تعالى – أعلم (1).
س 4: ما هي الفائدة من قول العلماء: «هذا السند أصح الأسانيد عن فلان»؟
__________
(1) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرحه على علل الترمذي» (1/ 424 - 425): فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد إن كان متهماً فإنّه ينسب به إلى الكذب وإن كان سيء الحفظ ينسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط، وإنّما يحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه، وقوى حفظه، كالزهري وشعبة، ونحوهما، وقد كان عكرمة يتهم في رواية الحديث عن رجل ثم يرويه عن آخر حتى ظهر لهم سعة علمه وكثرة حديثه ... إلخ.
أقول: ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه أبو داود، وغيره من حديث أبي بن كعب، مرفوعاً: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... » الحديث، ومداره على أبي إسحاق السبيعي واختلف عليه فقيل عنه، عن عبدالله بن أبي بصير، عن أبي بن كعب، وقيل: عنه، عن أبي بصير، عن أبي بن كعب، وقيل: عنه، عن عبدالله بن أبي بصير، عن أبيه، عن أبي بن كعب، وقيل: عنه، عن العيزار بن حريث، عن أبي بصير، عن أبي، قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 102 رقم 277): سألت أبي عنه، فقال: كان أبو إسحاق واسع الحديث يحتمل أن يكون سمع من أبي بصير، ومن ابن أبي بصير عن أبي بصير، وسمع من العيزار، عن أبي بصير، عن أبي، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(1/49)
ج 4: مسألة أصح الأسانيد كما قال بعضهم: «إنّه لا يمكن الحكم على إسناد بأنَّه أصح الأسانيد مطلقاً، وقد خاض في ذلك جماعة من أئمة الحديث، فاختلفت كلمتهم» (1)، والحكم بأصح الأحاديث مطلقاً كما يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: «ما تكلّم فيه أحد من علماء الحديث (2)؛ لأنَّ صحة الإسناد، وكون أن الإسناد من أصح الأسانيد، لا يلزم من ذلك أن يكون المتن من أصح المتون، لأنَّ المتن المخالف قد يكون له متابعات، أو خالياً من الاضطراب، أو خالياً من الاختلافات، أو غير ذلك.
__________
(1) انظر عبارة ابن الصلاح في «مقدمته» (ص:83).
(2) انظر «النكت» على ابن الصلاح (1/ 247 - 248) قلت: وممن جزم بذلك أيضاً الحافظ العلائي وقد خالف ذلك، حيث قال في حديث رواه أحمد عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: «أنّه أصح حديث في الدنيا»، نقل ذلك عنه السيوطي في «تدريبه» (1/ 77).(1/50)
فالشاهد: أنَّ الخلاف بين العلماء وقع في أصح الأسانيد، ولم يقع في أصح الأحاديث، ومع جزم بعض العلماء بعدم إطلاق أن السند الفلاني أصح الأسانيد، فما هي الفائدة التي نأخذها من هذه التراجم التي وصفت بأنها أصح الأسانيد؟ أجاب على هذا السؤال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – بأنَّ التراجم التي وصفت بأنَّها أصح الأسانيد، لا تخلوا من فائدة، وذلك بأنَّها تكون أقوى من معارضيها، إذا لم يكن معارضها من أصح الأسانيد، فتحتاج إليها عند الترجيح، فإذا عارضها إسناد ليس مذكوراً في هذه السلاسل، أو ترجمة ليست مذكورة في هذه التراجم، قدمنا ما ذكر في أصح الأسانيد، فمثلاً نرجح مالك عن نافع عن ابن عمر، ونستطيع أن نقول: إن أثبتَ تلامذة نافع هو مالك؛ لأنّه ذُكِرَ في أصح الأسانيد، فإذا خالف مالكاً رجلٌ آخر في نافع قدمنا مالكاً؛ لأنّه مذكور في أصح الأسانيد، وإن كان المخالف له ثقة (1).
س 5: ما هي أصح الأقوال في رواية أبي الزبير عن جابر؟
ج 5: أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس سواء كان عن جابر، أو عن غيره، هو مدلس، والمدلس لا تقبل عنعنته إلا إذا صرح بالسماع (2)، وهناك بعض الرواة لهم في ذلك استثناءات وتفاصيل تكون في موضعها، ويجاب عليها في محلها.
وأبو الزبير إذا كانت عنعنته في داخل «الصحيحين» أو أحدهما؛ فعنعنته محمولة على السماع (3)
__________
(1) جاء ذلك في «النكت» للحافظ ابن حجر (1/ 288) ونقله السيوطي عنه في «تدريبه» (1/ 76).
(2) قلت: وهذا هو الرأي الذي عليه جمهور أئمة الحديث.
قال العلائي – رحمه الله تعالى -: والصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث، والفقه، والأصول الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرح فيه بالسماع دون ما رواه بلفظ محتمل. اهـ.
ونسب هذا القول للأكثرين العراقي – رحمه الله تعالى -، انظر «جامع التحصيل» (ص:98) و «التبصرة والتذكرة» للعراقي (1/ 188).
(3) قلت: وهذا هو الحق الذي عليه جمهور العلماء.
قال النووي في «تقريبه»: وما كان في «الصحيحين»، وشبههما عن المدلسين بعن محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى «تدريب الراوي» (1/ 230)، وراجع أيضاً كلام شيخنا مقبل – رحمه الله تعالى - في رسالته «المقترح» السؤالين رقم (15) و (127).(1/51)
ما لم ينتقد أحد الحفاظ المتقدمين أو أحد الأئمة هذا الإسناد من أجل عنعنة أبي الزبير.
وأما إذا كانت خارج «الصحيحين»: فإذا روى عنه الليث بن سعد فتحمل عنعنته على السماع، وذلك لما هو معروف في ترجمته (1).
وأمّا روايته في غير «الصحيح» ومن طريق غير الليث بن سعد: فنقف في روايته سواء كانت عن جابر أو عن غيره، وهناك من الأئمة مثل شعبة من يضعِّف أبا الزبير (2)، والراجح أنّه صدوق من جهة الرواية، لكنّه مدلس، والله أعلم.
س 6: ما سبب ضعف هشيم بن بشير وسفيان بن حسين في الزهري؟
__________
(1) قال ابن عدي في «كامله» (6/ 2136): ثنا علي بن أحمد بن سليمان ثنا ابن أبي مريم: سمعت عمي – يعني: سعيد بن أبي مريم – يقول: سمعت الليث بن سعد يقول: أتيت أبا الزبير المكي، فدفع لي كتابين، قال: فلمّا صرت إلى منزلي، قلت: لا أكتبهما حتى أسأله، قال: فرجعت إليه، وقلت: هذا كلّه سمعته من جابر، قال: لا، قلت: فأعلم لي على ما سمعت، قال: فأعلم لي على هذا الذي كتبته عنه، اهـ. قلت: «إسنادها حسن» وعلي بن أحمد هو علان أبو الحسن المصري وثّقه ابن يونس ووصفه بكثرة الحديث، وترجمته في «السير» (14/ 496) وابن أبي مريم هو أحمد بن الحكم «صدوق» كما حكم عليه الحافظ في «تقريبه» وعمه مشهور بالتوثيق – والله أعلم -.
(2) هذا وقد قدح شعبة في أبي الزبير بما ليس بقادح حيث قال: «رأيته يزن ويسترجح في الميزان»، والاسترجاح في الميزان لا يلزم منه القدح في عدالة فاعله، وقد دافع عن أبي الزبير ابن حبان – رحمه الله – فقال في «الثقات» (5/ 352): «ولم ينصف من قدح فيه لأنَّ من استرجح في الوزن لنفسه لم يستحق الترك من أجله»، وانظر «تهذيب التهذيب» (9/ 440)، وفي «الميزان» (6/ 333) وقد تكلّم فيه شعبة لكونه استرجع في الميزان وجاء عن شعبة أنّه تركه لكونه يسيء صلاته، وقيل: لأنَّه رآه مرّة يخاصم ففجر، وقيل: كان يرى الشرط، والله أعلم.(1/52)
ج 6: كلام العلماء في مسألة هشيم أنَّه ذهب إلى الزهري، وأخذ منه بعض الأحاديث وكتبها في ورقة، وبينما هو راجح إذ لقيه صاحب له، وسأله من أين أتى؟ فأخبره أنَّه قادم من عند الزهري، وأنَّه أخذ منه بعض الأحاديث، فأخرج الورقة ليطلعه عليها، فكانت هناك ريح شديدة، فانتزعت الورقة منه وطارت عليه، فأصبح يحدث بما علق في حفظه من هذه الأحاديث، فمن هنا ضعف في الزهري؛ لأنّه لم يكن قد أتقن حفظها بعد (1)،
__________
(1) في «تاريخ بغداد» (4/ 87) قال الخطيب: أخبرنا ابن رزق أخبرنا إسماعيل بن علي الحطبي، ثنا الحسين بن فهم، أخبرني الهروي، أنَّ هشيم كتب عن الزهري نحواً من ثلاثمائة حديث، فكانت في صحيفة، وإنما سمع منه بمكة فكان ينظر في الصحيفة في المحمل، فجاءت الريح فرقت بالصحيفة فنزلوا فلم يجدوها، وحفظ هشيم منها تسعة أحاديث.
وفي إسنادها الحسين بن فهم، قال فيه الحاكم، ليس بالقوي، وقال الدّارقطني: ليس بالقوي وقال ابن كامل: كان يحسن المجلس مقنّناً في العلوم حافظاً للحديث والأخبار والأنساب والشعر عارفاً بالرجال، متوسطاً في الفقه، كذا في «لسان الميزان» (2/ 308 - 309) وعلى هذا فهو «لين الرواية» وبه يعل الإسناد.
هذا وقد جاءت من وجه آخر كما في «سير أعلام النبلاء» أبو بكر بن شاذان البغدادي: حدّنا علي بن محمد السوّاق، ثنا جعفر بن مكرم الدقّاق، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، قال: خرجت أنا وهشيم إلى مكة فلمّا قدمنا الكوفة، رآني هشيم مع أبي إسحاق، فقال: من هذا؟ قلت: شاعر السبيع، فلما خرجنا، جعلتُ أقول: ثنا أبو إسحاق قال: وأين رأيته. قلت: هو الذي قلت لك شاعر السبيع، فلمّا قدمنا مكّة مررت به وهو قاعد مع الزّهري، فقلت: أبا معاوية منْ هذا؟ قال: شرطي لبني أميّة فلما قفلنا، جعل يقول: حدّثنا الزهري، فقلت: وأين رأيته؟ قال: الذي رأيته معي، قلت: أرني الكتاب فأخرجه، فخرَّقته. اهـ «وهذا إسناد رجاله ثقات»، والله أعلم.
وقد علق الإمام الذهبي – رحمه الله – على ذلك بقوله (8/ 292) من «السير» قلت: قد ذكرنا في ترجمة شعبة أنّه اختطف صحيفة الزهري من يد هشيم فقطعها، لكونه أخفى شأن الزهري على شعبة لما رآه جالساً معه وسأله من ذا الشيخ؟ فقال: شرطي لبني أمية، فما عرفه شعبة ولا سمع منه وهذه هفوة كانت من الاثنين في حال الشبيبة، ثم إن هشيما كان يحفظ من تلك الصحيفة أربعة أحاديث فكان يرويها. اهـ.(1/53)
وأمّا سفيان بن حسين فإنّه سمع من الزهري بالموسم – موسم الحج – ولم يكن المقام كافياً للإملاء، ولا لإتقان التحمل عن الزهري، فمن هنا ضعف فيه، ويرى ابن حبان أنَّ صحيفة الزهري اختلطت عليه. انظر «تهذيب التهذيب» (4/ 108) والله أعلم (1).
وعلى كل حال فهذه الأسئلة التي حول التراجم وأسماء الرجال، من السهل جداً أن يرْجِع طالب العلم إلى موضعها من كتب الرجال، ويعرف خلاصة ونهاية كلام أهل العلم في ذلك، والله أعلم.
س 7: ما هو التعريف الصحيح لمجهول العين والحال، وهل يصلحان في الشواهد والمتابعات، أم لا؟
ج 7: العلماء يقسمون المجهول إلى مجهول عين، ومجهول حال، ومستور، والمجهول عامّة هو الذي ليس فيه كلام من جهة الجرح والتعديل، وأمّا الراوي إذا عُدِّل أو جُرِّح، فقد خرج من حيز الجهالة إلى حيز العلم بحاله سواء عُرف بالعدالة، والضبط والإتقان، أو عُرِف بالضعف، أو بالفسق، أو بالكذب، فالمجهول هو غير المعلوم، فلا يظن أحد أن المجهول مُجَرَّح، لأنّه لو كان مجرحاً لما كان مجهولاً، كذلك ليس بمعدّل،
••وهنا أسأل سؤالاً: ما هي الأسباب التي تجعل العلماء يحكمون على الراوي بأنّه مجهول؟
__________
(1) قال ابن حبان في «المجروحين» يروى عن الزهري المقلوبات، وإذا روى عن غيره أشبه حديثه حديث الأثبات، وذاك أن صحيفة الزهري اختلطت عليه، فكان يأتي بها على التوهم، فالإنصاف في أمره تنكب ما روى عن الزهري، والاحتجاج بما روى عن غيره. ثم ذكره في الثقات (6/ 404) فقال: «وأمّا روايته عن الزهري فإنّ فيها تخاليط يجب أن يجانب، وهو ثقة في غير حديث الزهري، مات في ولاية هارون يجب أن يمحى اسمه من كتاب المجروحين».(1/54)
الأسباب التي تجعل العلماء يحكمون على الراوي بأنَّه مجهول: إمّا أنَّه غير مشتغل بالرواية، أو أنه مُقِل في الرواية جداً، فما استطاعوا أن يميزوا حاله (1)؛
__________
(1) ومثال ذلك ما جاء في «لسان الميزان» (1/ 144) ترجمة أحمد بن جعفر النسائي أبي الفرج، قال الحافظ ابن حجر: .... قال الخطيب سألت البرقاني، عنه، فقال: كتبت عنه شيئاً يسيراً «ولا أعرف حاله» ومثاله أيضاً ما جاء في «الكامل» لابن عدي – رحمه الله – (3/ 1176) ترجمة مسلم العدوي قال ابن عدي، ومسلم العدوي قليل الحديث جداً، ولا أعلم له جميع ما يروي إلا دون خمسة أو فوقها، وبهذا المقدار لا يعتبر في حديثه أنّه صدوق أو ضعيف، ولا سيّما إذا لم يكن في مقدار ما يروي متن منكر، وفيه كذلك (2/ 845) ترجمة حاتم بن حريث الطائي، قال ابن عدي، ولعزة حديثه لم يعرفه يحيى ... إلخ. اهـ.
وفي «النكت» للحافظ ابن حجر (2/ 577) وقال ابن عدي في ترجمة زهير بن مرزوق في «الكامل» قال ابن معين: «لا أعرفه» قال: وإنّما قال ابن معين ذلك لأنّه ليس له إلا حديث واحد معضل ... إلخ.(1/55)
لأن الأئمة إذا أرادوا أن يحكموا على الراوي بالثقة أو الضعف، فإن كانوا من المعاصرين له، فيسهل عليهم أن يتكلّموا فيه، وهذا الكلام الناتج عن معاصرة للراوي أقوى من الكلام الناتج عن سبر ومقارنة الروايات؛ أمّا إذا كانوا متأخرين عنه، فلا يستطيعون أن يحكموا عليه مدحاً أو قدحاً إلا بأخذ روايته ومقارنتها بأحاديث الثقات الذين رووا هذه الأحاديث عن نفس شيوخه، فإذا كان هذا الراوي مكثراً في الرواية فيسهل جداً أن يحكموا عليه حسب الموافقة أو المخالفة كمّاً وكيفاً، فينظروا إلى عدد الأحاديث التي رواها، وإلى عدد الأحاديث التي أخطأ فيها، وينظروا هل الغالب عليه الغلط، أو الغالب عليه الضبط؟ وهل الأخطاء التي عنده أخطاء كثيرة أو قليلة؟ هذا من ناحية الكم ... وأمّا من ناحية الكيف فينظرون هل هذه الرواية فاحشة الخطأ، ولا يحتمل هذا الخطأ من مثله؟ أم أنّها رواية قد يهم فيها من هو مثله من الثقات، أو من هو أعلى منه من الثقات، كتغيير اسم رجل، أو الاختلاف في اسم رجل؟ أو الاختلاف في نسبته، أو الاختلاف في صنعته، أو في مهنته، أو في كنيته، أو الشيء الذي يعلم به، أو إبدال رجل برجل، هذا خطأ محتمل ... أمّا الخطأ الفاحش كأن يروي في الأسماء والصفات شيئاً لا يليق بمسلم أن يتكلّم به، أو يركّب إسناداً صحيحاً على متن باطل على سبيل الوهم، فهذا خطأ فاحش، فمثل هذا قد يسقط الحديثُ الفاحشُ رواياتِ الرجل كلَّها.(1/56)
فالشاهد من هذا: أنّ علماء الجرح والتعديل ينظرون إلى روايات هذا الراوي ويقارنونها بحديث غيره من الثقات، وينظرون إلى موافقته أو مخالفته كمّاً وكيفاً، ويحكمون عليه في النهاية بأنّه ثقة، أو ضعيف، أو متروك، لكن لا يتأتى لهم أ، يحكموا بمثل هذا الحكم، إلا إذا كانت الرواية عن هذا الرجل كثيرة، ولماذا لا يحكمون على المقل بالتوثيق أو بالضعف؟ لأنَّ الراوي إذا كلان مقلاًّ فقد يكون ثقة، وما روى إلا حديثاً واحداً، وأخطأ فيه، فيقولون: هو متروك؛ لأنَّ كل حديثه خطأ، والمتروك أغلب حديثه خطأ، فكيف إذا كان كل حديثه خطأ؟ مع العلم بأنّ الثقة قد يهم، عند هذا قالوا: ما نستطيع أن نحكم عليه بأنّه متروك لخطئه في حديثه الذي رواه؛ لأنّ الثقة قد يهم، ولو فرضنا أنّه روى حديثاً صحيحاً، وقارنوه برواية غيره من الثقات، فرأوا هذا الحديث موافقاً، لماذا لا يوثّقونه؟ محتمل أن يكون كذّباً وتزين بهذا الحديث أمام أئمة الجرح والتعديل، من أجل أو يوثّقوه أو أنّه سرقه، ففي الحقيقية أنَّ الراوي إذا كان مقلا لا يتأتى لناقد أو لإمام من الأئمة أن يحكم عليه بتوثيق أو بتضعيف ... ، وكما يقول ابن عدي – رحمه الله تعالى -: «وفلان في مقدار ما يرويه لم يتبين ليّ صدقه من كذبه».
والذي يطالع في كتاب «الكامل» لابن عدي – رحمه الله تعالى – يجده يستخدم هذه العبارة في المقلّين، فأعود وأقول: أسباب الحكم بالجهالة على الراوي هي:-
السبب الأول: إمّا أن يكون غير مشتغل بالحديث (1)،
السبب الثاني: أو أن يكون مقلا فلا يتأتى لهم الحكم عليه بالثقة إذا كانت أحاديثه صحيحة، ولا يتأتى لهم الحكم عليه بالترك إذا كانت أحاديثه ضعيفة؛ لأنّه ربّما وهم فيها وهو ثقة، فحين ذلك يقولون: هو مجهول.
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك في السؤال رقم (64) وقولهم: «فلان مشهور بالطلب».(1/57)
السبب الثالث: إذا كان المدلّسون قد غيّروا اسمه، أو كنيته، أو ما يُعرف به، وتصرفوا في ذلك، فيأتي الناظر في الأحاديث، فيظن هذه الأسماء رجالاً كثيرين، فيكون هذا الراوي ما روى عنه إلا واحد، والثاني ما روى عنه إلا واحد، والثالث ما روى عنه إلا واحد، والثاني ما روى عنه إلا واحد، والثالث ما روى عنه إلا واحد، فيكون مجهولاً، مع أنّه لو عرف أنّ هذا الراوي هو الذي روي عنه هؤلاء جميعاً، لارتفع من جهالة العين إلى جهالة الحال على ما سيأتي إن شاء الله (1).
فالشاهد من هذا: أنَّ تصرف المدلّسين، وتعميتهم لحال الراوي وتعتيمهم للأمر، هو الذي يجعل أئمة الجرح والتعديل يحكمون على الراوي بأنّه مجهول، فنحن قد عرفنا المجهول بأنّه الذي لم يُجرّج ولم يُعَدّل، وتكلّمنا عن الأسباب التي تجعل الأئمة يحكمون على الراوي بأنّه مجهول، وحينئذٍ أعود إلى سؤال الأخ: ما هو تعريف مجهول العين، ومجهول الحال؟
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «النزهة» (ص132 - 133) ثم الجهالة وسببها أنَّ الراوي قد تكثر نعوته من اسم أو كنية، أو لقب أو صفةٍ أو حرقةٍ، أو نسب، فيشتهر بشيء منها، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض، فيظن أنَّه آخر فيحصل الجهل بحاله، ثم مثل له الحافظ، فقال: ومن أمثلته محمد بن السائب بن بشر الكلبي، نسبه بعضهم إلى جده، فقال: محمد بن بشر، وسمّاه بعضهم: حمّاد بن السائب، وكنّاه بعضهم أبا النضر، وبعضهم أبا سعيد وبعضهم أبا هشام، فصار يظن أنّه جماعة، وهو واحدٌ ومن لا يعرف حقيقة الأمرِ فيه لا يعرف شيئاً من ذلك. اهـ.(1/58)
فأقول: إنّ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله تعالى – ذكر في كتابه «شرح علل الترمذي»: أنّ المتقدمين قبل محمد بن يحيى الذهلي ما كانوا يقولون: بأنّ الجهالة ترتفع برواية اثنين من الرواة، بل كانوا يدورون مع القرائن، فقد يروي عن رجل جماعة ولا ترتفع جهالته، وقد يروي عن رجل واحد وترتفع جهالته، وأول من قال: «إنّ المجهول ترتفع جهالته برواية اثنين» هو محمد بن يحيى الذهلي (1).
والتعريف المشهور لمجهول العين: هو من روى عنه واحد ولم يوثق (2).
ومجهول الحال: «من روى عنه اثنان، ومن لم يوثقه معتبر» (3)،
__________
(1) انظر «شرح علل الترمذي» (1/ 378)، وقد أخرجه الخطيب في الكفاية (ص:150)، والذهبي في «السير» (12/ 281) من طريق محمد بن نعيم الحاكم ثنا إبراهيم بن إسماعيل القارئ ثنا يحيى بن محمد بن يحيى سمعت أبي يقول: «إذا روى عن المحدّث رجلان ارتفع اسم الجهالة عنه»، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم القارئ ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وفيات (331 - 350) ولم يذكر في ترجمته جرحاً ولا تعديلاً ولم يذكر راوياً عنه غير الحاكم. والله أعلم. اهـ.
(2) انظر «نزهة النظر» لابن حجر (ص:135): وقد سألت المؤلف – حفظه الله تعالى – عن هذا التعريف ومدى صحّته فقال: إنّه غير مطرد وقد يروي عن الراوي ابنه، ولم يوثقه أحد وترتفع بذلك جهالة عينه وكثيراً ما يترجم الحافظ ابن حجر بذلك في «التقريب» «مقبول».
وقد يروي عنه واحد وليس ابناً له، ولا قريباً له، لكن عرفت البلد التي توفي فيها الراوي أو تاريخ وفاته أو علم بأنّه كان غازياً أو قاضياً أو غير ذلك مما تعرف به عين الرجل مع أنّه ما روى عنه إلا واحد ولم يوثق، فمن أجل هذا جعلت العهدة على غيري في التعريف، فقلت: فالتعريف المشهور للمجهول، كذا وكذا، اهـ.
أقول: وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في (ص:63 - 64) فليراجع.
(3) انظر «النزهة» للحافظ ابن حجر – رحمه الله – (ص:135).
وقول الشيخ: «ولم يوثقه معتبر» احترازاً من توثيق غير المعتبرين أمثال ابن حبّان – رحمه الله تعالى -، وذلك لما عرف عنه من توثيق المجاهيل. وانظر في ذلك كلام الشيخ الألباني – رحمه الله – تعالى في تمام المنّة (ص:20).(1/59)
ويدخل في ذلك المستور مع تفاصيل في الفرق بين المجهول الحال، والمستور.
لكني أريد أن أقول: إنّ جهالة العين ترتفع بأمورٍ، منها:
رواية اثنين، ويشترط في هذين الراويين أن لا يكون أحدهما في حيز الرد أ, الترك، بل على الأقل يكونان ممن يستشهد بهما.
فمجهول العين الذي قد يشك في وجوده ترتفع جهالة عينه برواية اثنين عنه أو رواية واحد ممن يشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة ... وهم جمع كثير من العلماء قد جمعت منهم عدداً لا بأس به، سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني من هذا الكتاب (1)، وقد يسأل سائل ويقول:
••إذا انفرد بالرواية رجل – يشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة – عن أحد الرواة، هل يعتبر هذا توثيقاً له أم لا؟
والجواب:
بعض العلماء يطلق التوثيق على هذه الحالة، وفي هذا القول نظر، فإطلاق أ، هذا الإمام من الأئمة إذا انفرد بالرواية عن رجل يكون توثيقاً لأنه اشترط أن لا يروي إلا عن ثقة، يرد عليه ما يلي:
أولاً: متى اشترط هذا الإمام أن لا يروي إلا عن ثقة؟ هل اشترط هذا من أول تحديثه؟ أو اشترط هذا بعدما كبر وعلا شأنه في علم الحديث الروايات، فأصبح ينتقي عند التحديث؟.
__________
(1) وسيأتي ذلك مفصلاً في الجزء الثاني السؤال رقم (224).(1/60)
الجواب: لم يعلم لنا متى اشترط هذا الإمام هذا الشرط، فلعلّه اشترطه مؤخراً، وكان قبل اشتراطه لهذا الشرط يحدث بأحاديث المجهولين والضعفاء، كما حدث من ابن مهدي في روايته عن الجعفي (1)، والدليل على ذلك أنّه ما من محدّث وصفوه بذلك، إلا وقد وجد في جملة رواياته الرواية عن بعض الضعفاء، فمالك بن أنس – رحمه الله – وصفوه بأنّه من هؤلاء، وهو الذي يروي عن عبدالكريم بن أبي المخارق، الذي يقول فيه الجوزجاني: «رحم الله مالكاً، غاص فوقع على خزفة منكسرة، لعله اغتر بكسائه» (2)، مع أن الإمام مالك بن أنس مثبت في الرواية.
والإمام أحمد – رحمه الله – وُصِف بأنّه لا يروي إلا عن ثقة، ومع ذلك يقول فيه ابن معين: «جْنَّ أحمد يروي عن عامر بن صالح» (3).
وشعبة وهو الذي اشترط أنّه لا يروي إلا عن ثقة، وقد وجد في روايته رواية عن ضعفاء.
ومِنَ العلماء من اشترط هذا الشرط، وصرّح بأنَّه لا يترك حديث الرجل إلا إذا أجمع الناس على تركه. (4)
__________
(1) قال أحمد – رحمه الله -: كان عبدالرحمن بن مهدي أولاً يتساهل في الرواية عن غير واحد ثم تشدد بعد وكان يروي عن جابر ثم تركه، انظر «الكفاية» للخطيب البغدادي (ص:154) و «شرح العلل لابن رجب» (1/ 377).
(2) كما في «أحوال الرجال» للجوزجاني (ص:97) وفي «سير أعلام النبلاء» (6/ 83) قال ابن عبدالبر: اغتر مالك ببكائه في المسجد، وروى عنه في الفضائل. اهـ.
(3) انظر «تهذيب التهذيب» (5/ 65) ترجمة عامر بن صالح بن عبدالله بن عروة بن الزبير بن العوام الزبيري أبي الحارث المدني، سكن بغداد.
قال أبو داود: وقيل لابن معين: إن أحمد حدّث عن عامر، فقال: ما له جُن؟ قال أبو داود: وحدَّث عنه أحمد بثلاثة أحاديث. اهـ.
(4) النسائي – رحمه الله – ممن اشتهر بذلك، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النزهة» (ص:191): «ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديثُ الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه». اهـ.
وانظر «النكت» له على ابن الصلاح (1/ 482) وفي موضع آخر بين الحافظ أن هذا إجماع مقيد والله أعلم.(1/61)
والذي يقرأ في تراجم العلماء وفي كتب الحديث والتراجم يظهر له ما قررته سابقاً؛ لأنّك لو تصوّرت نفسك الآن وأنت طالب علم في البداية، هل تستطيع أن تميز بين الثقة والضعيف، كتمييزك بعد أن تكون إماماً من الجهابذة؟
تمييزك في بداية الطلب ليس كتمييزك بعد أن تكون راسخاً في طلب العلم، فكم من رجل تضعفه اليوم وتوثقه غداً، وكم من رجل توثقه اليوم وتضعفه غداً، فالملاحظ من جهة الواقع العملي أن الطالب في بداية الطلب يريد أن يروي كل الأحاديث، ويثبت للمحدثين أن له مشايخ كثيرين، وأنّه صاحب رحلة لهؤلاء المشايخ جميعاً، وبعد أن يرسخ قدمه، ويعلو شأنه في هذا الأمر ينتقي، ويكون انتقاؤه في الرواية تعديلاً لمن روى عنه، وتركه الرواية تجريحاً لمن ترك الرواية عنه، وهو لا يكون معدِّلاً مجرِّحاً إلا بعد أن يرسخ قدمه، ويترجح لنا بذلك أن الذين وصفت تراجمهم أنهم لا يروون إلا عن ثقة، أنّهم ما التزموا هذا إلا مؤخراً.
غير أني أستثني من ذلك عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل – رحمهما الله – كما استثناه بعض العلماء؛ لأنَّهم قالوا: إنّه كان لا يكتب الحديث عن أحد المشايخ إلا بإذنٍ من أبيه (1)، وأبوه في ذلك الوقت كان له شأن بمعرفة الثقات والضعفاء، لكن قد يسأل سائل، ويقول: هل كل مشايخ عبدالله بن أحمد جميعاً ثقات؟
__________
(1) قال ابن عدي – رحمه الله تعالى – كما في «التهذيب» (5/ 143): «نبل بأبيه له في نفسه محل في العلم ولم يكتب عن أحد إلا من أمره أبوه أن يكتب عنه».
وفي «تعجيل المنفعة» للحافظ ابن حجر، قال: «كان عبدالله بن أحمد لا يكتب إلا عن من أذن له أبوه في الكتابة عنه وكان لا يأذن له أن يكتب إلا عن أهل السنة حتى كان يمنعه أن يكتب عن من أجاب في المحنة ولذلك فاته علي بن الجعد ونظراؤه من المسند ... إلخ» انتهى من (ص:15، 19).(1/62)
نستطيع أن نقول: إنّهم على الأقل ثقات عنده بمعنى أنّهم غير ضعفاء، ويدخل في ذلك الثقة والصدوق ومن فيه كلام يسير، وأنّهم عنده، وعند أبيه أحمد – رحمهما الله – كذلك إلا ما ظهر لنا خلاف ذلك فيعمل به والله أعلم (1).
ثانيا: وربّما أن الإمام منهم ذهل عن شرطه، وقد كان شعبة – رحمه الله تعالى – يحدث ببعض الأحاديث عن رواة ضعفاء، فقيل له: ما لك تحدث عن هؤلاء الضعفاء، وأنت لا تروي إلا عن ثقة، فتحدث عن جابر الجعفي؟ قال: «روى أشياء لا نقدر عليها أو لا نصبر عليها» (2).
فلما تردد الأمر بين أن يكون شيخ من ينتقي متروكاً؛ لأنّه ما روى عنه إلا واحد قبل الاشتراط بالانتقاء أو ذهل عن شرطه، وبين كونه ثقة، فالأمر متردد بين هذا وهذا.
__________
(1) قال العلامة المعلمي – رحمه الله – في «التنكيل» (ص:659)، وفي «فتح المغيث» (ص:134): «تتمة ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر الإمام أحمد وبقي بن مخلد ... ».
وقوله: «إلا في النادر» لا يضرنا إنّما احترز بها؛ لأن بعض أولئك المحتاطين قد يخطئ في التوثيق فيروي عمن يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يضطر إلى حكاية شيء عمن ليس بثقة فيحكيه ويبين أنّه ليس بثقة والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين أن يبحث عنه فإن وجد أن الذي روى عنه قد جرحه تبين أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية فلا تكون توثيقاً، وإن وجد أن غيره قد جرحه جرحاً أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجح الجرح، وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق. اهـ. أقول: والأخير ليس صريحاً في التوثيق كذلك والله أعلم.
(2) قال ابن حبان – رحمه الله -: ثنا أحمد بن منصور: ثنا نعيم بن حماد قال: سمعت وكيعاً يقول: قلت لشعبة: ما لك تركت فلاناً وفلاناً رويت عن جابر الجعفري، قال: روى أشياء لم نصبر عليها. اهـ «المجروحين» (1/ 209) و «الكامل» لابن عدي (2/ 542) وإسناده يدور على نعيم بن حماد الخزاعي، «وهو ممن لا يحتج به» والله أعلم.(1/63)
فمن قال: ترتفع جهالة العين، ولكن لا يثبت التعديل، قول قريب من الصواب.
ومن تتبع صنيع الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «التقريب» علم أنّ كثيراً من التراجم التي ينفرد بالرواية فيها عن المترجم واحد ممن ينتقي وليس هناك جرح أو تعديل، فإنّه يترجم له بقوله: مقبول (1)، وأحياناً بقول: صدوق (2)، وأحياناً يقول: مجهول (3).
__________
(1) ومثال ذلك ما جاء في ترجمة حمّاد بن حميد الخراساني؛ فقد انفرد بالرواية عنه البخاري وروى عنه في الصحيح وترجم له الحافظ بقوله: «مقبول» وقد يكون ذلك لوجود قرينة إخراجه البخاري له في «الصحيح».
ثم أفادنا شيخنا أبو الحسن – حفظه الله تعالى – بفائدة صريحة في ذلك فقال، وقد صرّح الحافظ بنحو ذلك في ترجمة أحمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحرّاني أحد شيوخ النسائي وقد وثقه، فنقل الحافظ قول الذهبي في «الطبقات» أحمد بن يحيى بن محمد «لا يعرف» قال الحافظ معقباً عليه.
قلت: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه وفي التعريف بحالة توثق له. اهـ «تهذيب التهذيب» (1/ 89).
(2) جاء ذلك في ترجمة إسماعيل بن مسعدة التنوخي الحلبي، روى عنه أبو داود وقال الذهبي: لا يدرى من هو وترجم الحافظ له بقوله: «صدوق»، «التقريب» (ص:108)، وكذا إسحاق بن عمر القرشي المؤدب لم يوثقه أحد، لكن روى عنه أبو زرعة واثنان آخران وترجم له الحافظ بقوله: «صدوق».
(3) جاء ذلك في ترجمة بكار بن يحيى روى عنه ابن معين ومع ذلك ترجم له الحافظ بقوله: «مجهول» انظر «التقريب» (ص:126) قلت: والعجيب أنّ الحافظ – رحمه الله تعالى -، قد يترجم لمثل هؤلاء بقوله: «ثقة» كما في ترجمة حبان بن زيد الشرعبي انفرد بالرواية عنه حريز بن عثمان وهو ممن ينتقي نص على ذلك أبو داود، قال شيوخ حريز كلهم ثقات، ثم ترجم له الحافظ بقوله: «ثقة» وهو منازع في هذا لأنَّه لا يلزم من قول أبي داود أن يكون بمنزلة ثقة، والله أعلم.(1/64)
ومما يرفع جهالة العين معرفة الراوي بأي شيء غير الرواية، فقد يروي عنه واحد ولكنه يقول: مات في حروب الروم – مثلاً -، ونحوه أو كصنيع الإمام الطبراني – رحمه الله – حيث يقول: حدّثني فلان بالمكان الفلاني، وفي سنة كذا ويسمي البلد التي حدّثه فيها، وهذا يقوي رفع جهالة العين؛ لأنّه من المؤكد أنّه لقي هذا الشيخ، ومما يُستدل به على رفع جهالة العين كثرة رواية الراوي الواحد عن شيخه، كما صرّح بذلك شيخنا الألباني – رحمه الله -.
وكأن يقول الراوي مثلاً: حدّثنا فلان وكان قاضياً، أو كان غزّاء، أو كان قارئاً، مع أنّه ما روى عنه غيره، فأي معلومات مع رواية هذا الرجل ترفع أيضاً جهالة عينه، ويبقى مجهول الحال (1).
وأمّا مجهول الحال: فهو الرجل الذي نعرف عينه، لكن لا نعرف حاله الظاهرة ولا الباطنة (2).
وما هو المقصود بالحالة الظاهرة؟ المقصود بذلك مثل وجوده في الصلاة يصلي مع المسلمين، وعند الحج يحج مع المسلمين، فلو كنّا نعلم شخصاً مجهول الحال، لكن ما رأيناه يصلي معنا، ولا رأيناه يحج معنا، فحاله الظاهر مجهول، والحالة الباطنة ما عرفناها، وهل الحالة الباطنة هي ادعاء علم الغيب، كما استنكر ذلك الإمام الصنعاني – رحمه الله تعالى – في كتابه «توضيح الأفكار» (3)؟!.
__________
(1) قلت: وقد يعرف الرجل بشيء من هذه الأشياء التي ذكرها الشيخ – حفظه الله تعالى – ويترجم له الحافظ بقوله: «مجهول» كما في ترجمة ثابت بن سعيد روى عنه أبو سعيد المؤدب، وقال: لقيته بالري وذكره ابن حبان في «الثقات» وترجم له الحافظ بقوله: «مجهول» ولكن الصواب في ذلك أن كل ما يفيد معرفة عين الرجل فهو رافع لجهالة العين وهو صنيع الحافظ نفسه في تراجم كثيرة – والله أعلم -.
(2) قال الزركشي في «البحر المحيط» (4/ 280): مجهول الحال هو مجهول العدالة ظاهراً أو باطناً مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه. اهـ.
(3) «توضيح الأفكار» (2/ 192).(1/65)
وقال: إنّ الحالة الباطنة علم غيبي لا يعلمه إلا الله؟ الجواب: لا، فالحالة الباطنة المقصود بها التعامل مع الرجل، كما ثبت عن عمر – رضي الله عنه – وهذا الأثر قد صححه شيخنا الألباني – رحمه الله – في «إرواء الغليل»، فيما معناه أنَّ رجلاً شهد عند عمر بشهادة، فقال: من يزكي هذا الرجل؟ فقام رجل فقال: أنا، قال: هل أنت جاره تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل تعاملت معه في الدنيا أي: رأيته يماطل في الديون أم لا؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه لتعرف أخلاقه؟ أم لا؟ قال: لا، قال: اجلس فلا أراك تعرفه» الأثر ذكره شيخنا الألباني – رحمه الله – في «الإرواء» (1).
فالشاهد من هذا أنّ هذه عدالته الباطنة، فالعدالة عدالة ظاهرة، وعدالة باطنة، وكل هذا في باب العدالة لا يدخل الضبط في ذلك، وعلى هذا فما هو الفرق بين مجهول الحال والمستور؟
__________
(1) انظر (8/ 260) قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال له عمر: إنّي لست أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك فائتني بمن يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، قال: بأي شيء تعرفه؟ فقال: بالعدالة، قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدرهم والدينار الذي يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك. اهـ.(1/66)
الجواب: أنَّ المستور من عُلِمَت‘ عدالته الظاهرة، أي: رأينا يصلي، أو رأيناه يحج، لكن العدالة الباطنة لم تظهر لنا؛ لأننا ما تعاملنا معه (1).
وأما مجهول الحال: ما علمنا عدالته لا ظاهراً، ولا باطناً، هذا هو الفرق بينهما، والكلام كله في حيز العدالة والأمانة، أمّا باب الضبط فأمر مجهول عند المستور وعند مجهول الحال، ومجهول الحال والمستور يستشهد بهما، وقد حدث خطأ، أو سبق قلم من الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى – حين ذكر أنّ المجهول والمستور، والضعيف لا يستشهد بهم كما في «الباعث الحثيث» (ص:101) وهذا خطأ؛ لأنّ الواضح من صنيع الشيخ – رحمه الله – أنّه يستشهد بهؤلاء، بل وبأقل من هؤلاء.
__________
(1) قال الزركشي: «المستور» هو: المجهول باطناً وهو عدل في الظاهر، ونقل ذلك عن البغوي والرافعي وإمام الحرمين في «النهاية» وذكر عن إمام الحرمين أنَّ العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها القضاة إلى قول المزكين .. وكلام الأصوليين ومنهم القاضي في «التقريب» صريح في أن المراد بالعدالة الباطنة الاستقامة بلزوم أداء أوامر الله وتجنب مناهيه وما يعلم مروءته أي: سواء ثبت عند الحاكم أم لا ... إلخ. اهـ (4/ 280 - 282) «البحر المحيط».(1/67)
فالمقصود أنَّ مجهول الحال يصلح في الشواهد والمتابعات، وكذا المستور، أمّا مجهول العين فلا يصلح في الشواهد والمتابعات، إلا إذا كثرت الطرق كثرة ترجح لدى الباحث صحة الحديث وثبوته، فمجهول ومجهول لا يستشهد بهما، وإن كان شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – في بعض المواضع يستشهد بهما (1)،
__________
(1) مثاله ما جاء في «الصحيحة» له – حفظه الله تعالى – (3/رقم 1168) حديث: «نهى عن نفرة الغراب ... إلخ» قال: وتميم بن محمد أورده الذهبي نفسه في «الميزان» وقال: «قال البخاري فيه نظر» وذكره العقيلي والدولابي، وابن الجارود، في «الضعفاء» وأمّا ابن حبان فوثّقه على قاعدته، في توثيق غير المشهورين بالرواية، فإنّ تميماً هذا لم يذكروا راوياً عنه غير جعفر هذا، ... قال الشيخ الألباني – رحمه الله – وأقول، لكن يتقوى بأنّ له شاهداً ... ورجاله ثقات غير عبدالحميد بن سلمة فهو مجهول كما في «التقريب»، فالحديث عندي حسن بمجموع الطريقين ... والله أعلم. اهـ فانظر كيف استشهد الشيخ بمجهول مع آخر أحسن أحواله أنّه مجهول إن لم نأخذ بقول البخاري، والله أعلم ..(1/68)
مع أنني قد سألته – حفظه الله – في المدينة – مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على نفس هذه المسألة، فقال: إنَّ المنقطع لا يتقوى بالمنقطع، ومجهول العين لا يتقوى بمجهول العين، إلا إذا كثرت الطرق كثرة تطمئن النفس على ثبوت الحديث بها (1).
قلت: ويدل على ما قلته: أن بعض العلماء يقول في الأسانيد التي فيها: حدّثني جماعة، أو حدّثني جماعة من الحيّ، أو حدّثني قوم بكذا، فيقول: هؤلاء جمع وتنجبر جهالتهم، وفي «صحيح البخاري» حديث من هذا القبيل في قصة وقعت لعروة البارقي (2).
(استدراك): قد بيَّنْت في غير هذا الموضع – كما سيأتي إن شاء الله تعالى – أن مجهول العين يستشهد به كمجهول الحال، ما لم تظهر نكارة في السند أو المتن، والله أعلم.
••بقي أن يقال: ما الفرق بين المجهول والمبهم والمهمل.
__________
(1) وقد صرّح الدارقطني – رحمه الله تعالى – في «سننه» (3/ 174) بالاستشهاد بمجهول العين، قال أهل العلم بالحديث لا يحتجّون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنّما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان رواية عدلاً مشهوراً أو رجلاً قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة وصار حينئذ معروفاً، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، انفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره، قلت: والشاهد في كلامه الأخير «فأمّا من لم يرو عنه إلا رجل واحد ... إلخ» وفيه والذي قبله شيء من التسامح والذي قرره الشيخ – حفظه الله تعالى – تميل إليه النفس والله أعلم، وإلى هذا ذهب شيخنا مقبل – رحمه الله تعالى – كما في «المقترح» (سؤال رقم (27) (ص:35).
(2) انظر «فتح الباري» (6/ 731) رقم (3642).
وانظر «إرواء الغليل» (5/ 128) وسيأتي بحث ذلك – إن شاء الله تعالى – في السؤال رقم (117).(1/69)
المبهم: كأن يقول الراوي: حدثني شيخ أو حدثني رجل فهذا مبهم (1)
وأما المجهول فكأن يقول المحدّث: حدَّثني فلان بن فلان؛ ويرجع إلى تفاصيل جهالته! جهالة عين أو حال، وهو من لم يتكلّم فيه بمدح أو قدح.
وأمّا المهمل: فكأن يقول المحدّث: حدّثني محمد، والمحمدون كثير، لا ندري من يعني من المحمدين؟ وقد يقول: حدّثني محمد بن عبدالله، ومن يقال له: محمد بن عبدالله كثيرون، لا يتأتّى لنا أن نعرف هذا من هذا، فحينئذ يكون مهملاً، فيجب أن نميز بين الأنواع كي لا تتداخل، وهذا كلّه قد بيّنه أهل العلم فجزاهم الله عنّا خيراً.
س 8: نريد مثالاً لبعض المتساهلين في الجرح والتعديل، إذا انفردوا لا يعتد بتوثيقهم، وكذلك لبعض المتشددين إذا انفردوا لا يؤخذ بتضعيفهم؟
ج 8: كلام أئمة الجرح والتعديل (2) في الرواة يقبل بشروط منها:
أن يكون المتكلّم معتدلاً، ليس متشدداً، ولا متساهلاً، فالمتشدد مُتَوَّقف في نقده، لا سيّما إذا عارضه معتدل، والمتساهل متوقِّف أيضاً في نقده، لا سيّما إذا عارضه معتدل، والأئمة في هذا الباب على مراتب متفاوتة، فمنهم المتشدد، ومنهم المتساهل، ومنهم المعتدل، ولا شك أن الذي يقبل كلامه من هؤلاء جميعاً هو المعتدل كما سبق بيانه.
__________
(1) المبهم: هو أن لا يسمي الراوي شيخه، كقوله: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان، انظر «النزهة» (134).
(2) الجرح في اللغة: بالفتح التأثير في الجسم بالسلاح.
والتعديل في اللغة: التسوية وتقويم الشيء وموازنته بغيره، انظر «لسان العرب» (2/ 422) مادّة جرح (11/ 432) مادّة عدل وفي الاصطلاح قال ابن الأثير في «جامعه»: الجرح وصف متى التحق بالراوي، والشاهد سقط الاعتبار بقوله وبطل العمل به.
قلت: وكلام ابن الأثير محمول على من اشتد جرحهم.
قال: والتعدريل وصف متى التحق بهما اعتبر قولهما وأخذ به. اهـ.
وهذا أيضاً عنه محمول على رجحان جانب التعديل. انظر «جامع الأصول» (1/ 126).(1/70)
وكل طبقة من طبقات الأئمة فيها المتشدد، وفيها المعتدل، وقد يكون أيضاً فيها المتساهل (1)، فمثلاً من المتشددين ابن حبان – رحمه الله – أعني أنّه المتشددين في الجرح، والعجب أنّه أيضاً من المتساهلين في التوثيق، فجمع بين الأمرين، جمع بين التشدد في الجرح، وبين التساهل في التوثيق، أعني: توثيق المجاهيل، وإلا فإنّ توثيقه على مراتب قد بيّنها الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني – رحمه الله تعالى – في كتابه «التنكيل» (2)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (1/ 482): وذلك أن كل طبقة من نفاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط:
فمن الأولى: شعبة وسفيان الثوري، وشعبة أشد منه.
ومن الثانية: يحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبدالرحمن.
ومن الثالثة: يحيى بن معين، وأحمد، ويحيى أشد من أحمد.
ومن الرابعة: أبو حاتم والبخاري، وأبو حاتم أشد من البخاري. اهـ.
(2) قال العلامة المعلمي – رحمه الله تعالى – في أثناء ردّه على أباطيل الكوثري: «هذا وقد أكثر الأستاذ من رد توثيق ابن حبّان والتحقيق أنَّ توثيقه على درجات:
الأولى: أن يصرح به كأن يقول: «كان متقناً» أو «مستقيماً) أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخيرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أنَّ ابن حبان وقف على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنّه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى: لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلّها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل، والله أعلم.
قلت: ثم تكلّم الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – في الحاشية وأثنى على صنيع المؤلف، ثم قال: غير أنّه قد ثبت لدينا بالممارسة أنَّ من كان منهم من الدرجة الخامسة فهو على الغالب مجهول لا يعرف، يشهد بذلك صنيع الحفّاظ كالذهبي، والعسقلاني، وغيرهما من المحققين. اهـ.(1/71)
وسأتكلّم عليها في موضعها – بإذن الله عزّ وجلّ -. (1)
المهم أنَّ ابن حبان – رحمه الله – يسرف في الجرح، فقد يكون الرجل قد وهم في بعض الروايات، فيتكلّم عليه بعبارات شديدة الجرح، فيقول: يأتي عن الثقات بالمعضلات، ولا يشبه حديثه حديث الإثبات، فيستحق الترك، ولذا يقول الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى -: «إنّ ابن حبان صاحب تهاويل» (2).
__________
(1) انظر السؤال رقم (201).
(2) ذكر نحو ذلك الحافظ الذهبي في «ميزانه» (4/ 8) ترجمة محمد بن الفضل السدوسي عارم، قال الدّارقطني: تغيّر بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر وهو ثقة، فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان: الخساف المشهور في عارم، فقال: اختلط في آخر عمره وتغيّر، حتى كان لا يدري، ما يحدث به ومثله في ترجمة أفلح بن سعيد المدني: «فلهذه الشدة توقف العلماء عن قبول جرح ابن حبان، إذا عارضه توثيق غيره من الأئمة، وقال – رحمه الله تعالى – في ترجمة العلاء بن زهير الأزدي: «وثّقه يحيى بن معين» وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الثقات، قلت: العبرة بتوثيق يحيى «الميزان» (3/ 101).(1/72)
أيضاً: من المتشددين أبو حاتم الرازي – رحمه الله تعالى – فإنّه يتعنت ويحكم على بعض الناس الذين أخطئوا خطأً محتملاً بالضعف (1)، ولك أن تعرف مدى تشدده حيث حكم على مسلم بن الحجّاج النيسابوري – رحمه الله تعالى – بأنّه صدوق ومسلم إمام من الأئمة، أعلى من هذه الكلمة بكثير (2).
__________
(1) قلت: وممن وصفه بالتعنت الحافظ ابن حجر في مواضع من كتابه «هدي الساري» وكذلك الذهبي قال في «السير»: «إذا وثّق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله فإنّه لا يوثّق إلا رجلاً صحيح الحديث، وإذا ليَّن رجلاً، أو قال فيه: لا يحتج به فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه، فإن وثّقه أحد فلا تبني على تجريح أبي حاتم فإنّه متعنَّت في الرجال، قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس بحجة، ليس بقوي، أو نحو ذلك، «السير» (13/ 260) وقال المعلمي في «تنكيله» (ص:547) أبو حاتم معروف بالتشدد قلّما وجدته يقول في رجل: صدوق، إلا وقد وثّقه غيره. اهـ.
(2) قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/ 82 - 83): مسلم بن الحجاج ... وكان ثقة من الحفاظ له معرفة بالحديث سئل عنه أبي فقال: «صدوق».(1/73)
وذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – أنَّ الجوزجاني – أبا إسحاق السعدي – متشدد أيضاً، لا سيّما على الشيعة – شيعة الكوفة (1)؛ لأنّه كان متّهماً برأي النواصب وهم يتكلمون في شيعة علي – رضي الله عنه فكان كلامه شديد اللهجة على المتشيعة، فتراه إذا ترجم لرجل شيعي قال: «زائغ، أو مائل عن الحق، أو جائر» إلى غير ذلك من العبارات. لكن لّمّا نظرتُ في كتابه «أحوال الرجال» لم أجد أنّه متشدد، بمعنى أنّه يرد رواية الثقة لتشيعه، فالشيعة الثقات وثّقهم من جهة الرواية، وضعّفهم من جهة العدالة، وهذا أمر لا يُطعن عليه فيه، لأنّه يتكلّم في الرجل من جهة العدالة أنّه صاحب بدعة، وبدعته كذا، لكن من جهة الضبط والإتقان، فإنّه ضابط لحديثه، متقن له، فالجوزجاني صاحب «أحوال الرجال» قد شاع عند كثير من العلماء، وكثير من طلبة العلم أنّه متشدد، فأنا أقول: «إن كان تشدده بمعنى أنّه شديد النفس على المتشيِّعة من جهة العدالة، لا من جهة الرواية فنعم، أمّا إن كان بمعنى أنّه يرد رواية الثقة، فأين هذا في كتابه «أحوال الرجال» وترجمة واحدة أو نحوها لا تدل على هذا، لأنّه ما من إمام إلا وقد خولف، فأحمد بن حنبل – رحمه الله – وهو من المعتدلين قد يضعّف رجلاً ويوثقه غيره، وأبو رزعة – رحمه الله – وهو من المعتدلين قد يضعف رجلاً ويوثقه غيره، وابن عديّ – رحمه الله – وهو يُعّدُّ من المعتدلين أيضاً – وإن كان فيه تساهل في بعض المواضع – قد يضعف رجلاً ويوثقه غيره.
__________
(1) قال الحافظ في «هدي الساري»: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعاً ولا ينبغي أن يُسمع قول مبتدع في مبتدع (390) وفي (446) الجوزجاني قلنا غير مرة: أنْ جرحه لا يقبل في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونصبه. اهـ.(1/74)
ففي الحقيقية لم يظهر لي تشدد الجوزجاني، بمعنى أنّه يرد رواية الثقة الضابط لأنّه شيعي، نعم يتكلّم على الشيعة بكلام شديد، لبدعتهم: والمقام يحتاج إلى مزيد بحث وتحرير والله أعلم (1).
__________
(1) قلت: ويؤيد هذا المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» حيث قال:
وقد تتبعت كثيراً من كلام الجوزجاني في المتشيعين فلم أجده متجاوز الحد وإنّما الرجل لما فيه من النصب يرى التشيع مذهباً سيئاً وبدعة ضلالة وزيغاً عن الحق وخذلاناً ... وقال في موضع آخر، وأمّا حط الجوزجاني على الشيعة واتضح أنّه لا يجاوز الحد وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل ... إلخ «التنكيل» (ص:245، 246، 296) وانظر كذلك كلام المؤلف – حفظه الله – في السؤال رقم (68).
وقال الذهبي – رحمه الله – في «ميزان الاعتدال» (1/ 76) ترجمة أبي إسحاق الجوزجاني قال: وقال ابن عدي في ترجمة إسماعيل بن أبان الورّاق، كما قال فيه الجوزجاني: «كان مائلاً عن الحق ولم يكن يكذب ... » قال الذهبي فقوله في إسماعيل: مائلاً عن الحق يريد به ما عليه الكوفيون من التشيع. اهـ.(1/75)
أيضاً فقد ذكروا من المتشددين ابن الجوزي – رحمه الله – فابن الجوزي يذكر في كتابه «الموضوعات» أحاديث بعضها في «صحيح مسلم»، وبعضها في «مسند الإمام أحمد»، وبعضها صحيح، وكثيراً ما يحكم على الحديث الضعيف بأنّه موضوع (1).
__________
(1) قلت: وممن نص على ذلك أبو عمرو بن الصلاح – رحمه الله تعالى – قال في «مقدمته»: «لقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلّدين فأودع فيهما كثيراً مما لا يدل دليل على وضعه، وإنّما حقه أن يذكر في مطلق الأحاديث «الضعيفة». اهـ (109) وممن أشار إلى شدته في الرجال الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – في «ميزان الاعتدال» في ترجمة أبان بن يزيد العطّار، قال: قد أورده العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في «الضعفاء» ولم يذكر فيه أقوال من وثّقه وهذا من عيوب كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق وقال العلامة المعلمي – رحمه الله تعالى -: إننا عرفنا من ابن الجوزي تسرعه في الحكم بالوضع والبطلان وترى إنكار أهل العلم عليه في كتب المصطلح في بحث الموضوع.
قال: ومن جملة ما أورده في الموضوعات وحدها أكثر من ثلاثين حديثاً رواها الإمام أحمد في «مسنده» ولعله أورد في (الواهيات» أضعاف ذلك ... إلخ «التنكيل» (ص:343) وكذا في (ص:430) ففيها عدّ الشيخ – رحمه الله تعالى – جملة من أوهامه فلتراجع وانظر «السير» (11/ 26) و «تدريب الراوي» للسيوطي (1/ 278 - 279).(1/76)
ومنهم من عدّ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – متشدداً في بعض تصانيفه، فيذكر بعض الرواة، ويتكلّم عليهم بشدة، وهم في الحقيقة ليسوا كما يقول، فلعله كتب هذا من حفظه، وما استحضر كل الكلام في الرواة (1)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان»: طالعت الرد المذكور أي: «منهاج السنة، فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات لكنه ردّ في ردِّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حاله التصنيف مظانها لأنّه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره والإنسان عامد للنسيان. اهـ (6/ 319).
وهناك من ينفي تشدد شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – كما تراه في كتاب «شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه» لمؤلفه عبدالرحمن بن عبدالجبار الفريوائي وقد ذهب إلى القول بتوسطه – رحمه الله – ونفى عنه التشدد، فليراجع (1/ 63 - 70) وانظر «الدرر الكامنة» (2/ 71) والله أعلم.(1/77)
ومنهم النسائي – رحمه الله – فقد يكون له بعض المواضع يتعنت فيها (1)، وليس في كل المواضع بل ذكره الشيخ المعلمي – رحمه الله – في «التنكيل»، وضمّ إليه ابن معين – رحمه الله -، وجعلهما ممن يوثق المجاهيل، وذكر بعض الأمثلة في كتاب «التنكيل» فلتراجع (2).
__________
(1) صرّح بذلك الحافظ – رحمه الله تعالى – في «لسان الميزان» ترجمة أحمد بن عيسى التستري قال: «قد احتج به النسائي مع تعنته» (1/ 387) وكذا في كتاب «موافقة الخبر الخبر» (ص:522) مجلس (128).
(2) قال المعلمي في «التنكيل» (ص:255 - 256): « ... فابن حبان قد يذكر في «الثقات» من يجد البخاري سماه في «تاريخه» من القدماء، وإن لم يعرف ما روى وعمّن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربّما تعنّت فيمن وجد في روايته ما استنكره وإن كان الرجل معروفاً مكثراً؟ والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء وكذلك ابن سعد وابن معين والنسائي، وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد ... إلخ. اهـ.
هذا وقد قرن الذهبي – رحمه الله تعالى – في «موقظته» (ص:79) بين النسائي وابن حبان في الاحتجاج برواية المجهول، فقال: «مجهول لا يلزم منه جهالة عينه فإن جهل عينه وحاله فأولى أن لا يحتجّ به وإن كان منفرداً عنه من كبار الأثبات فأقوى حاله ويحتج لمثله جماعة كالنسائي وابن حبان. اهـ.(1/78)
ومن المتشددين أيضاً شعبة (1)، وابن معين – رحمهما الله – فابن معين له كلام شديد في الرواة (2) وكذا يحيى بن سعيد القطان (3) فهذه أمثلة للمتشددين أو للذين عندهم تعنت في بعض المواضع وأمّا المتساهلون فمنهم ابن حبان – رحمه الله -، وهنا يبرز سؤال:
••كيف يكون الراوي متشدداً، متساهلاً؟.
والحقيقة أنّ التشدد والتساهل ليسا في محل واحد، حتى نقول: إنّه قد جمع بين النقيضين؛ فالتشدد جاء في جهة، والتساهل جاء في جهة أخرى، فتساهل ابن حبان – رحمه الله – ناتج عن كونه التزم قاعدة الفقهاء والأصوليين في توثيق الرواة، فعنده أن الراوي إذا لم يُجَرَّح فهو عدل، وأيضاً سلك هذا السبيل الحاكم (4)
__________
(1) صرح بذلك السّخاوي – رحمه الله – في «فتح المغيث» (1/ 293): ومن الأمثلة على تشدده ما ذكره الخطيب في «الكفاية» (ص:182 - 185)، وانظر «الميزان» (4/ 192) ترجمة المنهال بن عمرو الأسدي.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في «مجموع الفتاوى» (24/ 349): وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية. اهـ.
(3) قال الذهبي – رحمه الله – في «السير» (9/ 183): «كان يحيى بن سعيد متعنتاً في نقد الرجال فإذا رأيته قد وثق شيخاً فاعتمد عليه، أمّا إذا لين أحداً فتأنى في أمره حتى ترى قول غيره فيه ... إلخ.
وقال الحافظ ابن حجر في «هدي الساري» (ص:424) ترجمة عثمان بن فارس، ونقل البخاري عن علي بن المديني أنّ يحيى بن سعيد احتج به، ويحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال لا سيّما من كان من أقرانه. اهـ.
(4) أقول: والدليل على ذلك ما قاله – رحمه الله – في «مستدركه» (1/ 216، 274) تعليقاً على حديث أبي هريرة مرفوعاً: «من أدرك الركوع أدرك الصلاة» صحيح الإسناد، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصريين، وهو شيخ من أهل المدينة سكن مصر، ولم يذكر يجرح.
قال الشيخ الألباني – رحمه الله – في «الإرواء» (4/ 260) معلقاً على ذلك: لو سلم له ذلك فهل يلزم منه أنّه ثقة في حديثه؟ كلا، لكن مثل هذا القول من الحاكم يشعر اللبيب أنّ مذهبه في التوثيق كمذهب ابن حبان.
وقال الشيخ في «الضعيفة» (1/ 32 - 33): «أن ابن حبان متساهل في التوثيق فإنّه كثيراً ما يوثق المجهولين حتى الذين يصرح هو نفسه أنّه لا يدري من هو ولا من أبوه؟ كما نقل ذلك ابن عبدالهادي في «الصارم المنكي» ومثله في التساهل الحاكم كما لا يخفى على المتضلِّع بعلم التراجم والرجال فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن ... إلخ.
أقول: وانظر من الأمثلة كذلك على تساهله – رحمه الله – ما وقع في «مستدركه» (1/ 119) قال في هذا حديث صحيح فإن كثيراً كوفي سكن البصرة، روى عنه يحيى بن سعيد وعيسى بن يونس، ولم يذكر بجرح، وكذا في (ص: 220، 222).
(تنبيه):
ذكر الشيخ المعلمي – رحمه الله – في «تنكيله» (ص:693): أن ذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بـ «المستدرك» دون كتبه في «الجرح والتعديل» اهـ.
قلت: وصنيع بعض العلماء يدل على إطلاق تساهل الحاكم – رحمه الله – كما مر معنا من كلام الشيخ الألباني – رحمه الله إلا أنّ المعلمي – رحمه الله – قد عرف بالاستقراء والنقد التّام فالأمر يحتاج آلى مزيد بحث وتوسع، والله أعلم.(1/79)
– رحمه الله – فعندهما أن الراوي إذا لم يجرح فهو عدلٌ؛ لأنّ عندهما أنّه إذا انتفى النقص ثبت الكمال، وفي هذا نظر، والعلماء لم يروا أن الراوي يكون ثقة بذلك، ولكن قالوا: يشترط أن يكون عدلاً ضابطاً، وتكلّموا في العدالة، ومنها أ، يكون سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، ومنهم من قال: أن لا يكون مصرّاً على صغيرة، ولا مجاهراً بكبيرة.
ففي الحقيقة أنّ العلماء لم يكتفوا بمجرد سلامة الرجل من الجرح، ويكون بذلك ثقة عندهم، ولكن اشترطوا أن يكون ضابطاً، وأن تكون عدالته قد عُلِمت عند الأئمة أو بعضهم حتى يثبت التوثيق له.
فابن حبان مذهبه أن الراوي إذا روى عنه ثقة، وروى هو عن ثقة ولم يُجّرَّح، وكذا أيضاً، أن لا يكون روى منكراً، فيحصل بمجموع هذا توثيق الراوي عند ابن حبان – رحمه الله – وهذه القاعدة كنت قد أمليت على بعض إخواني وجهة النظر والخلل فيها، فقلت: وفي هذه الأمور .. تأمُّل.
فالشرط الأول: كون شيخة ثقة، لا يؤخذ منه مدح للراوي؛ لأنّ المشايخ الثقات لا يعترضون غالباً على التلاميذ وإن كانوا متروكين، لكن ينفعه حقاً رواية الكبار عنه، أمّا كون أنّه يروي عن ثقة فماذا نستفيد من ذلك؟(1/80)
والشرط الثاني: كون تلميذه ثقة، أو أنّه روى عنه الثقة، ينظر هل الثقة هنا بتعريف ابن حبان – رحمه الله – وعلى نظرته هو، أم أنّه بتعريف الأئمة الآخرين؟ وأيضاً ما يكفي رواية ثقة واحد بل ينفعه إن كثر عددهم (1).
والشرط الثالث: كون الراوي لم يرو منكراً، لم ينفعه هذا إذا كان مقلاً، وقد سبق بيانه في الكلام على الجهالة، بل لا بد أن يكون مكثراً، وهو لم يشترط الكثرة، فكونه يروي حديثاً واحداً ليس منكراً لا يعتبر هذا في توثيقه؛ لأنّه كما سبق بيانه في بداية الكلام على أ، الراوي المقل لا يتأتى للأئمة الحكم عليه بالثقة أو الضعف، أمّا كونه يقول: إن الراوي لا يكون مجرحاً، فلا يلزم منه التوثيق إلا على قاعدة الفقهاء، أمّا المحدثون فيشترطون ثبوت العدالة في الدين، وذلك بالتزكية، أو بالشهرة.
فعلى هذا تكون الشروط التي ذكرها في اعتبار الراوي الثقة أو الصدوق ليست بكافية، فالمقصود أن ابن حبان – رحمه الله – متساهل (2)،
__________
(1) قال الخطيب – رحمه الله – في «الكفاية» (150): احتج من زعم أنّ رواية العدل عن غيره تعديل له بأن العدل لو كان يعلم فيه جرحاً لذكره، وهذا باطل؛ لأنّه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلاً ولا خبراً عن صدقه، بل يروى عنه لأغراض يقصدها، كيف وقد وجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنّها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب فمن ذلك ... ثم ذكر – رحمه الله – أمثلة على ذلك، والله أعلم.
(2) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في مقدمة «لسان لميزان» (1/ 107):
قال ابن حبان: من كان منكر الحديث على قلّته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر، ولو كان ممن يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار لكان عدلاً مقبول الرواية؛ إذ الناس في أقوالهم على الصلاح والعدالة، حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، هذا حكم المشاهير من الرواة، فأمّا المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء، فهم متروكون على الأحوال كلها.
قلت – الحافظ -: وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة، إلى أن يتبين جرحه، مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب «الثقات» الذي ألفه فإنّه يذكر خلقاً ممن ينص عليهم أبو حاتم وغيره على أنّهم مجهولون، وكأن عند ابن حبان جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره، وقد أفصح ابن حبان بقاعدته فقال:
العدل من لم يعرف فيه الجرح، إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه، إذ لم يكلف الناس ما غاب عنهم.
وقال في ضابط الحديث الذي يحتج به: إذا تعَرَّى راويه من أن يكون مجروحاً أو فوقه مجروح أو دونه مجروح، أو كان سنده مرسلاً أو منقطعاً، أو كان المتن منكراً هكذا نقله الحافظ شمس الدين ابن عبدالهادي في «الصارم المنكي» من تصنيفه، وقد تصرف في عبارة ابن حبان لكنه أتى بمقصده. اهـ وسيأتي الكلام حول ابن حبان ومنزلته في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل في الجزء الثاني السؤال الأول، والله أعلم.(1/81)
والحاكم أيضاً متساهل، وكذا الإمام الترمذي – رحمه الله – يتساهل كثيراً، وقد نصَّ الذهبيّ – رحمه الله - على هذا بأنَّ الأئمة ردوا تحسينه لما حسن حديث: «الصلح جائز بين المسلمين» (1)،
__________
(1) روى الترمذي في «جامعه»: قال: «ثنا الحسن بن علي الخلال، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحلّ حراماً ... » الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. اهـ «جامع الترمذي» (ص:253) باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلح بين الناس، قال الذهبي في «الميزان» وكثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف بن زيد المزني المدني، عن أبيه، عن جده، وعن محمد بن كعب ونافع ... قال ابن معين: ليس بشيء، قال الشافعي، وأبو داود: ركن من أركان الكذب وضرب أحمد على حديثه، وقال الدّارقطني وغيره متروك، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مطرف بن عبدالله المدني: رأيته وكان كثير الخصومة، لم يكن أحد من أصحابنا يأخذ عنه، وقال ابن عمران القاضي: يا كثير! أنت رجل بطّال، تخاصم فيما لا تعرف وتدّعي ما ليس لك، وما لك بيِّنة فلا تقربني إلا أن تراني تفرغت لأهل البطالة، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وأمّا الترمذي فروى من حديثه: «الصلح جائز بين المسلمين» وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي. اهـ (2/ 354 - 355) قلت: وقد ذكره كذلك في جملة المتساهلين في رسالته «ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل» لأبي غدة (ص:172) ..(1/82)
بل ذكر حديثاً، وبيّن أنّه منقطع ثم قال: حسن غريب،) (1) ومن المتساهلين – أيضاً – ابن سعد؛ فإنّه يوثق كثيراً ممن لم يوثقه غيره من الأئمة (2).
__________
(1) مثال ذلك ما جاء في باب (ما جاء في الوقت الأول من الفضل) حدّثنا قتيبة، ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال، عن إسحاق بن عمر، عن عائشة قالت: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة لوقتها آخر مرتين حتى قبضه الله، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب وليس إسناده بمتّصل. اهـ (1/ 328) رقم (174) لكن سيأتي – إن شاء الله – تفصيل ذلك في السؤال (224) والله أعلم.
(2) قال المعلمي في «تنكيله» (ص:255): والعجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجاهيل من القدماء وكذلك ابن سعد وابن معين والنسائي وآخرون وغيرهما يوثقون من كان من التابعين، أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابعة أو شاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد ... اهـ.
قلت: ويستدل على تساهله أيضاً بما جاء في ترجمة إبراهيم بن سالم بن أبي أمية، وثّقه ابن سعد وابن حبان، وقال الحافظ في «التقريب»: «صدوق» وصنيعه هذا يدل على تساهلهما، ومع ذلك فتضعيف ابن سعد فيه نظر لاعتماده على الواقدي.
قال المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» (ص:290): فليس ابن سعد في معرفة الحديث ونقده ومعرفة درجات رجاله في حد أن يقبل منه تليين من ثبته غيره على أنّه في أكثر كلامه إنّما يتابع شيخه الواقدي والواقدي تالف، وفي «مقدمة الفتح» في ترجمة عبدالرحمن بن شريح: «شذ ابن سعد، فقال منكر الحديث، ولم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا فإن مادته من الواقدي في الغالب، والواقدي ليس بمعتمد، وفي ترجمة محارب بن دثار قال ابن سعد: لا يحتجون به، قلت: بل احتج به الأئمة كلهم ... ولكن ابن سعد يقلد الواقدي، وكذا في ترجمة نافع بن عمر الجمحي، والله أعلم.(1/83)
وكذا العجلي صاحب كتاب «الثقات» (1).
وكذا ابن شاهين أيضاً فيه تساهل (2).
هذا ما أستحضره الآن، وقد يسأل سائل فيقول: فلان هل هو متشدد أو متساهل؟ وأنا أجيب عليه، فابن معين: متشدد، والدّارقطني: أظن أنه معتدل لكنّه يصحح ويحسن في (السنن) ما لا يثبت، وكتابه (السنن) فيه غرائب كثيرة (3)،
__________
(1) قال المعلمي – رحمه الله تعالى – في «الأنوار الكاشفة»: وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع. اهـ (ص:82) وللمؤلف تفصيل في ذلك وسيأتي – إن شاء الله – في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(2) قلت: ومما يستدل على ذلك توثيق لمحمد بن قاسم الأسدي، والرجل لا يسلم من «الضعف الشديد» وترجم له الحافظ بقوله: «كذّبوه» كما في «تقريبه» وكذا فقد وثق محمد بن أبي حميد، وقال: ثقة لا شك فيه، حسن الحديث روى عنه أهل المدينة، قلت: «والرجل أيضاً شديد الضعف لا يحتج به» وهناك غير ذلك من التراجم التي تدل على وجود شيء من التساهل فيه – رحمه الله تعالى – ولكن فيما ذكرته كفاية إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(3) قال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 356): «سنن الدارقطني مجمع الأحاديث المعلولة، ومنبع الأحاديث الغريبة، وقال في موضع آخر: والدارقطني في موضع آخر ملأ كتابه من الأحاديث الغريبة والشاذّة والمعلة وكم من حديث لا يوجد في غيره (1/ 360).
قلت: ومما يعتبر نوع تساهل من الدارقطني مذهبه في قبول مجهول الحال مطلقاً وقد صرح بذلك – رحمه الله تعالى – في «سننه» (3/ 174) قال: وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف وإنّما يثبت عندهم العلم بالخبر إذا كان راويه مشهوراً أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً فإذا كان هذه صفته ارتفع اسم الجهالة عنه وصار حينئذ معروفاً، وقلت: ولذلك عده الذهبي في «الموقظة» من المتساهلين وقد قيد ذلك فقال: ولكن في بعض الأوقات (ص:83).(1/84)
ويحيى بن سعيد القطان: متشدد، وعبدالرحمن بن مهدي: معتدل (1)، وشعبة: متشدد، والثوري: معتدل (2)، وأبو حاتم: متشدد، وأبو زرعة: معتدل (3)، وابن عيينة: ليس له كلام كثير في الرواة، وعلى بن المديني: الظاهر أنّه معتدل (4)
__________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «المتوسطين» انظر «النكت» (1/ 482).
(2) انظر المصدر السابق.
(3) انظر «الموقظة» للذهبي (ص:13).
(4) أقول: وكنت أميل من قبل إلى القول بتشدده وذلك لقول ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» في ترجمة فضيل بن سليمان النمري سئل أبو زرعة عن فضيل بن سليمان فقال: «لين الحديث» روى عنه علي بن المديني، وكان من المتشددين (7/ 72) ثم أفادني الشيخ – حفظه الله تعالى – أن المراد من التشدد في هذه الترجمة ليس في باب الجرح والتعديل وإنّما يعني بذلك عدم الرواية عن الضعفاء وقد يشهد لكلام الشيخ ما جاء في ترجمة محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو عبدالله، ويقال أبو الحسن المدني، قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو أو التشدد؟ قلت: لا بل أشد، قال: ليس هو ممن تريد. اهـ. فهذا يشهد لما ذكره من أن التشدد المذكور هنا هو عدم الرواية عن الضعفاء والله أعلم ..(1/85)
أيضاً، والذهبي: ما له كثير نقد مستقل بل هو ناقد مجتهد في كلام الأئمة، وله مواضع يكون لسانه شديداً على بعض العلماء ككلامه في وكيع في «النبلاء» وكلامه في العقيلي، وابن القطان، ومع ذلك فهو قد يتساهل في الحكم على الرواة وتلخيصه لكلام الأئمة في الراوي (1)، وأما الخطيب فهو إلى التساهل أقرب، ومنهم من يعتمد كلامه ولا يعترض عليه، أمّا أنا فأجد كثيراً من المواضع التي يوثق الخطيب فيها الرجل، فيترجم له الحافظ بقوله: «صدوق» (2)،
__________
(1) ومثاله ما ذكره الذهبي في «الميزان» ترجمة سليمان بن عبيدالله أبي أيوب الرقي وذكر قول ابن معين: سليمان بن عبدالله الرقي ليس بشيء، وذكر قبله بتراجم سليمان بن عبدالله أبو الوليد الرقي قال ابن معين: ليس بشيء تعقبه ابن حجر في «اللسان» في هذا فقال: ما أعلم أنَّ هذا غير أبي أيوب أم لا؟ بل لعله هو فقد ذكر المؤلف في ترجمته قول ابن معين هذا، قال المعلمي – رحمه الله تعالى -: في «تنكيله» وابن حجر واسع الاطلاع وقد استدرك على الذهبي عدة أوهام. اهـ ثم اعتذر له بقوله: ويظهر أن الذهبي كان إذا ظفر باسم في مطالعاته قيّده في مذكراته ليلحقه في موضعه في «الميزان» فقد يقع التصحيف والوهم إما من المأخذ الذي نقل عنه الذهبي وإمّا من سرعة كتابة الذهبي في مذكراته وسيأتي تفصيل ذلك في السؤال رقم (102) – إن شاء الله تعالى – فليراجع. وانظر «التكيل» (479 - 480).
(2) مثال ذلك ما جاء في ترجمة جعفر بن محمد الواسطي قال فيه الخطيب: ثقة، ولم يعتمد الحافظ على قوله، وقال: «صدوق» وكذا في أحمد بن حسين بن خراش وكذا في حمدان بن عمارة البغدادي وغيرهم كثير – والله أعلم - ..(1/86)
وابن حجر – رحمه الله -: مجتهد أيضاً في نصوص الأئمة، ومن جهة تصحيح الأحاديث والكلام عليها، فهو إلى التساهل أقرب، وقد بان هذا ليّ جليّاً عند تحقيقي «للفتح» فكم من حديث يضعف صاحبه في «التقريب»، ومع ذلك يحكم على سند الحديث وهو من طريقه بأنّه حسن، أو صحيح، أذكر الآن حديث: «من استجمر فليوتر» متّفق عليه، وقد تكلّمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» الوضوء برقم: (30، 31) المؤلف. ذكر أنَّ أبا داود زاد زيادة: «ومن لا فلا حرج» قال: وإسنادها حسن، مع أنّه ترجم في «التقريب) لرجلين من إسناد هذه الزيادة بأن كلاً منهما مجهول جهالة العين، ويكون أيضاً الحديث شديد الضعف، فيأتي له بعبارة خفيفة الضعف، كقوله في حديث: «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من فضل طينة أبيكم آدم» قال: «وهو لم يثبت»، مع أنَّ الحديث شديد الضعف ...(1/87)
وكلمة: «لم يثبت» إنّما تقال في حديث الرجل الضعيف، ما تقال في حديث الرجل الواهي الساقط، والحافظ ابن حجر – رحمه الله – على سعة اطلاعه، وكثرة استفادة طلبه العلم منه ومن كتبه، يتساهل، وقد يحكم على الرجل في «التقريب» – مثلاً – بأنّه صدوق، ويحكم عليه في «التلخيص الحبير» بأنّه ضعيف جداً، أو ضعيف، أو غير ذلك، فلو جمعنا بين كلامه في «التلخيص» وفي «الدراية»، وفي «الفتح»، وجدناه يخالف كلامه في «التقريب» في مواضع كثيرة، وعند الاختلاف في الكلام على الرواة، فيقدم من كلام الحافظ ما في «التقريب» لأنه حكم عام، بخلاف كتبه الأخرى، فإن الحكم قد يكون مقيداً بحال الراوي في الحديث، وهناك مواضع لا نجد بُدَّا من متابعة الحافظ على قوله، والله أعلم (1).
بعد معرفة المعتدل والمتشدد والمتساهل لابد أن يعلم أنّ كلام المتشدد والمتساهل لا يُهدر بالمرة إذا انفرد بالكلام على الراوي، والمتأمل في صنيع الحافظ الذهبي وابن حجر يجد اعتمادهما كلام المتشدد أكثر من المتساهل، إنما يُرد كلام المتشدد أو المتساهل إذا عارضه معتدل ولم يظهر للمتشدد دليل (2).
بقي الكلام في الرواة، وهذا إن شاء الله يكون في موضعه من «شفاء العليل» حول الراوي الذي يقبل قوله، والذي لا يقبل قوله في الرواة، ومن ذلك معرفة سنة ميلاد ووفاة كل من المتكلَّم والمتكلَّم فيه لنعرف هل إمام الجرح والتعديل هذا عاصر الراوي الذي تكلّم فيه، أم أنّه تأخر عنه؟ لأنّه عند التعارض يقدم كلام المعاصر على كلام المتأخر.
__________
(1) قال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله تعالى – في «مقترحه» (ص:38) السؤال رقم (32): والذي تحصل لي أن «التقريب» يحتاج إلى نظر ونحن لا نرجع إلى «التقريب» إلا إذا رأينا للعلماء المتقدمين عبارات مختلفة لا نستطيع التوفيق بين عباراتهم، نرجع إلى «التقريب» ونأخذ عبارة صاحب «التقريب» والله أعلم.
(2) وانظر ذلك في السؤال رقم (50).(1/88)
وأيضاً فلا بد أن نعرف البلد، هل هو بلديُّ الراوي المترجم له، أو أنّه غريب عنه؟ فإن كلام البلديِّ مقدّم على كلام الغريب، فلعل الغريب قد رأى حديثاً صحيحاً من الرجل فوثقه، أو لعل الغريب رأى حديثاً ضعيفاً من الرجل فأنكره، وضعّفه، أمّا بلديّ الرجل فأعرف به، ولذلك ترجح لديَّ في محمد بن حميد الرازي كلام أهل بلده، فهناك من الأئمة من وثّقه، وهناك من الأئمة من ضعّفه، وأمّا أهل بلده كأبي حاتم، وابنه، وأبي زرعة، ومحمد بن مسلم بن وارة وهؤلاء الرازيون فقد اتهموه، وشدوا النكير عليه، وكلام أهل بلده مقدم على كلام غيرهم (1)، وكلام المعاصر مقدم على كلام البلدي المتأخر، وكل هذا يستثنى منه كلام الأقران في بعضهم، وكذلك يُقدم كلام الغريب إذا كان أعلم بهذا الفن وبالراوي من بلديه.
أيضاً لا بد من معرفة المذهب الاعتقادي للإمام المتكلِّم في الرواة، والراوي المتكلَّم فيه؛ لأنّ الشيعي يتكلّم في الناصبي والعكس.
فالشاهد أنّ الكلام في الرواة يُنظر فيه من جهات كثيرة، ليس فقط من باب التساهل، والتشدّد، والاعتدال، ولكن من باب البلد، والمعاصرة، والمذهب.
••ويرد على ذلك سؤال وهو: إذا كنت تقول: إنَّ بلديِّ الرجل أعرف، وإن المعاصر أعرف من المتأخر، فلماذا يردون كلام الأقران في بعضهم، كما تكلّم مثلا مطيِّن في محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وتكلّم محمد بن عثمان بن أبي شيبة فيه، والنسائي في أحمد بن صالح المصري، وهكذا كلام الأقران في بعضهم؟
__________
(1) انظر السؤال رقم (134) فهو خاص بمحمد بن حميد الرازي والكلام عن حاله، والله أعلم فليراجع.
وانظر «الكفاية» (ص/175) قال حماد بن سلمة بلدي الرجل أعرف بالرجل. اهـ.(1/89)
والجواب: أنّه إذا ظهر لنا من الترجمة أنّ بينهما تنافساً، وأنّهما قد جاءتهما حظوظ البشرية، وحظوظ النفس، التي لا يسلم منها إلا من عافاه الله، فحين ذاك نحن نقف في كلام كل منهما في الآخر وعند ذلك نقول: كلام الأقران يُطوى ولا يُروى، والله أعلم (1).
س 9: ما هو القول الراجح في تعريف المرسل؟
ج 9: الحديث المرسل (2) وهو من جملة الأحاديث الضعيفة، عرفه جماعة من أهل العلم كما هو معروف في «الباعث الحثيث» وغيره بأنّه: قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يذكر الصحابي (3).
__________
(1) قال الذهبي – رحمه الله – في «ميزان الاعتدال» (1/ 111): كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لا سيّما إذا لاح لك أنّه لعداوة، أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصم الله وما علمت عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت في ذلك كراريس اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. اهـ.
(2) قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص:23 - 24): أمّا المرسل فأصله من قولهم أرسلت كذا إذا أطلقته ولم تمنعه كما في قوله – تعالى -: (ألم تر أنا أرسلنا الشيطين على الكفرين) فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف وقد أشار الإمام المازري إلى هذا ... إلخ. وانظر «النكت على ابن الصلاح» (2/ 542).
(3) «الباعث الحثيث» (ص21) تحت الكلام على النوع الأول «الصحيح» قال الشيخ أحمد محمد شاكر – رحمه الله – المرسل: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدون ذكر الصحابي. اهـ.
وفي «التعريفات» للجرجاني (ص:268) قال فيه: هو ما أسنده التابعي أو تبعُ التابعي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غير أن يذكر الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكذا عرفه صاحب «البيقونية» كما في «التقريرات السنيَّة» (ص:51) في قوله: ومرسل منه الصحابي سقط ... إلخ ويعترض على هذه التعارف بما سيذكره المؤلف إن شاء الله تعالى.(1/90)
وعندي في هذا التعريف وقفة، فقوله: «ولم يذكر الصحابي» خطأ، ولكن الصواب أن يقول: هو ما أضاف التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر الواسطة أو دون ذكر من حدّثه بذلك لأنّه لو قال دون ذكر الصحابي، كأنّه يقول إنّ الساقط هو الصحابي فقط، ونحن إذا تأكدنا أنّ الساقط هو الصحابي فقط، فلا شك أنّ الحديث مقبول، لأنّ الصحابة كلهم عدول، فما يضرنا أن يسقط، وما يضرنا أن يُبهم، الصحابي ولا يُذكر اسمه، لأنّه قد ثبتت عدالة الصحابة جميعاً (1)
__________
(1) قال الفتوحي في «شرح الكوكب المنير» (2/ 473): قال الشيخ تقي الدين وغيره: «الذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أنّ الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين – عدول بتعديل الله – تعالى – لهم».
وقال ابن الصلاح وغيره: «الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ولا يعتد بخلاف من خالفهم» وحكاه ابن عبد البر في مقدمة «الاستيعاب» إجماع أهل السنة والجماعة.
وحكى فيه إمام الحرمين الإجماع. اهـ.
وقال الشوكاني – رحمه الله – في «إرشاد الفحول» (ص:62): «وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنّه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمع كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم». اهـ.(1/91)
فحينذاك نحن لا نقول إن الساقط في الحديث المرسل صحابي فقط، ولكن نحن نخاف أن يكون مع الصحابي تابعي آخر، والتابعي يحتاج إلى نظر في حاله هل هو ثقة، أم ضعيف؟ ... فلمّا لم نعرف هذا وقفنا في الحديث المرسل (1) وهو عند جمهور أهل العلم يُعَدُّ من الأحاديث الضعيفة (2)،
__________
(1) وإنما قلت: هو ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليدخل في ذلك القول والفعل والتقرير. المؤلف.
(2) قال الإمام النووي – رحمه الله – في مقدمة «شرح المهذب» (1/ 100): الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء، وجماهير أصحاب الأصول والنظر، وحكاه الحاكم أبو عبدالله بن البيع، عن سعيد بن المسيب، ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز ... إلخ.
وقال ابن الصلاح في «علوم الحديث» (ص:58): «وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه: هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم».
وانظر «التقييد والإيضاح» (ص:73) و «شرح الألفية» (1/ 128) كلاهما للعراقي.
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النزهة» (ص:110): وإنّما ذُكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنّه يحتمل أن يكون صحابياً، ويحتمل أن يكون تابعيّاً، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ويحتمل أن يكون حمل عن تابعيِّ آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد إمّا بالتجويز العقلي، فإلى ما لا نهاية له، وإمّا بالاستقراء، فإلى سنةٍ أو سعةٍ، وهو أكثر ما وُجدَ من رواية بعضِ التابعين عن بعضٍ. اهـ.(1/92)
وأمّا الذين يحتجون به ففي الحقيقة أنَّ حجّتهم غير قويّة، لكنّه يستشهد به، وأمّا إذا كان من مراسيل التابعين الذين قد شهروا بأنّهم يروون عن كل أحدٍ، وأن مراسيلهم ساقطة، فردها بعض العلماء ولم يستشهد بها، وفيه تفصيل (1)، وأمّا مراسيل الذين لم يلقوا الصحابة وعدهم الحافظ في الطبقة السادسة في «التقريب» فهذا يحتاج إلى بحث وفي النفس شيء من الاستشهاد بها لأنّ روايتهم معضلةً. (2)
وقد قسم الحافظ ابن حجر – رحمه الله – الطبقات في مقدمة «التقريب» فذكر الطبقة الأولى الصحابة، والطبقة الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة من التابعين، والسابعة، والثامنة، والتاسعة أتباعهم، والعاشرة والحادية عشرة، والثانية عشرة، أتباع أتباعهم.
__________
(1) سيأتي تفصيل ذلك – إن شاء الله – في «الجزء الثاني» من هذا الكتاب السؤال رقم (223).
(2) قال الذهبي في «الموقظة»: نعم، وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة كمراسيل مجاهد وإبراهيم والشعبي فهو مرسل جيد لا بأس به يقبله قوم ويرده آخرون ومن أوهى المراسيل عندهم مراسيل الحسن وأوهى من ذلك مراسيل الزهري وقتادة وحميد الطويل من صغار التابعين وغالب المحققين يعدّون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات فإن غالب رواية هؤلاء عن تابعي كبير عن صحابي فالظن بمراسيله أنه أسقط من إسناده اثنين (ص:39 - 40).(1/93)
فالخامسة في النفس شيء من الاستشهاد بمرسل أهلها، والأمر يحتاج إلى مزيد تحرير، أمّا السادسة فلا يستشهد بمراسيلهم، لأنها معضلة؛ ومع ذلك فلا تهدر بالكلية، والله أعلم (1).
__________
(1) قلت: وأمَّا الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – فقد قسّم المرسل في كتابه «فتح المغيث» إلى ست مراتب، قال: خاتمة المرسل مراتب أعلاها ما أرسله صحابي ثبت سماعه ثم صحابي له رواية فقط، ولم يثبت سماعه، ثم المخضرم ثم المتقن كسعيد بن المسيب ويليها: من كان يتحرى في شيوخه كالشعبي ومجاهد ودونها مراسيل، من كان يأخذ عن كل أحد كالحسن وأمّا مراسيل صغار التابعين كقتادة والزهري وحميد؛ فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين. اهـ (1/ 172 - 173).
فالذي يظهر من كلام السخاوي – رحمه الله تعالى – أنّه لا يحكم بضعف مراسيل الصحابة وذلك لما تقدم بيانه وأمّا بقية المراسيل فكلها ضعيفة وضعفها يتفاوت، والله أعلم.
وأمّا عن الاستشهاد بهذه المراسيل التي حكم عليها بالضعف فقد استشهد بها جماعة من العلماء المحققين وأذكر منهم على سبيل المثال الحافظ البيهقي فقد قوى مراسيل جماعة ممن جعلهم السخاوي، في أدنى المراتب وهم من كان يأخذ عن كل أحدٍ كالحسن – رحمه الله تعالى -.
قال ابن التركماني: وقد ساق إسناد عبدالرزاق إلى الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر ... » الحديث قال: وقد ذكر البيهقي: أنَّ هذا الحديث أرسل من جهة الحسن وقد عضده قول أبي هريرة، وعضده أيضاً حديث علي. اهـ (1/ 178) وكذلك استشهد – رحمه الله تعالى – بمرسل عطاء وهو كالحسن كما قال الإمام أحمد بن حنبل وليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنّهما كانا يأخذان عن كل أحد «جامع التحصيل» (ص:90)، ذكر البيهقي أثر عائشة ووصية أبي بكر بأن تغسله أسماء بنت عميس بعد موته، قال: وهذا الحديث الموصل وإن كان راويه محمد بن عمر الواقدي صاحب التاريخ والمغازي فليس بالقوي وله شواهد مراسيل عن ابن أبي مليكة وعن عطاء بن أبي رباح اهـ «السنن» (3/ 397) وشاهدي في ذلك ذكر الاستشهاد بمرسل عطاء وإن كنت لا أرى الاستشهاد بمحمد بن عمر الواقدي وذلك لشدة ضعفه – رحمه الله تعالى – والله أعلم.
وفي (4/ 9) من كتابه «السنن» ذكر مرسلاً لعطاء في صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على إبراهيم وأخرجه أيضاً مرسلاً وموصولاً لغيره ثم قال: «فهذه الآثار وإن كانت مراسيل فهي تشد الموصول ... وبعضها يشد بعضاً ... إلخ» اهـ.
كذا الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – حيث استشهد في «فتحه» بمراسيل جماعة من هؤلاء فهم على سبيل المثال أبو العالية الرياحي، وقد ذكر ابن سيرين ضعف مراسيل أبي العالية وقال: كان يصدق كل من حدّثه، رواه عنه ابن عون «جامع التحصيل» (ص90) ومع هذا فقد استشهد الحافظ بمرسله كما في «فتح الباري» (8/ 439) وذلك في كلامه على قصة الغرانيق، قال – رحمه الله تعالى -: «مع أنَّ لها طريقين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، والثاني ... عن أبي العالية، ثم قال: وهي مراسيل يحتجّ بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. اهـ.
وإن كنت لا أرى صحة هذه القصة لاضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فبعضهم يقول فيها: قرأها في الصلاة، وبعضهم وهو في نادي قومه، وآخر يقول: قرأها وقد أصابته سنة، وأخر أن الشيطان قالها على لسان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى غير ذلك وليس هذا بمحل تفصيل الكلام حول هذه القصة الباطلة وإن شئت أخي القارئ فارجع إلى رسالة «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» للشيخ العلامة ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى -، ورسالة «دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق» للشيخ علي حسن بن عبدالحميد – حفظه الله تعالى -، وشاهدي من كلام الحافظ – رحمه الله تعالى -، هو معرفة طريقته من حيث الاستشهاد بمرسل هؤلاء أو عدمه.
وكذلك قوى بعض المحدّثين مراسيل جماعة من الحفاظ أمثال الزهري وقتادة، وكان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ويقول: هو بمنزلة الريح ويقول: هؤلاء قوم حفّاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علّقوه «جامع التحصيل» (ص:90 - 19) ومع ذلك فقد قوى الحافظ ابن حجر مرسل قتادة ومجاهد بن جبر وذلك في «الفتح» (8/ 335) في باب قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ... ) الآية، قال في تعليقه على قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «قد خيّرني ربّي فوالله لأزيدن على السبعين»، أخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة، قال: لما نزلت (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ... الحديث وأخرج الطبراني من طريق مجاهد ... إلخ قال: وهذه طريق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضاً. اهـ.
قلت: وكذلك الحافظ الزيلعي في «نصب الراية» قوي مرسل ابن شهاب الزهري قال – رحمه الله – في (2/ 197): قال ابن شهاب: وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر ... إلخ، قال: وفي هذا المرسل وفي الحديث قبله جلوسه – عليه السلام – على المنبر قبل الخطبة وليس ذلك في غيرهما وكل منهما يقوي الآخر. اهـ.
قلت: وكذلك استشهد الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – بمرسل الطبقة الوسطى من التابعين كما في «المقاصد الحسنة» (ص:33، 253) يقوي مرسل الشعبي وكذلك مرسل طاوس وقال في الأخير: هذا مرسل حسن يشهد لكون هذه اللفظة شائعة فيما بين التابعين. اهـ.
قلت: وبهذه الأمثلة يتّضح لك أخي القارئ صنيع هؤلاء الأئمة في تقوية المرسل وعدم التفرقة بين مراسيل كبار التابعين ومراسيل صغار التابعين، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، ومن حيث الاستشهاد تراهم يُقوون مراسيل من حكم عليهم العلماء بأن مراسيلهم من أضعف المراسيل كأبي العالية الرياحي والزهري وغيرهما والله أعلم.(1/94)
وقد ذكر الحافظ أن أهل الخامسة ما رووا إلا عن الواحد أو الاثنين من الصحابة، وأما السادسة فهم الذين عاصروا من روى عن الواحد أو الاثنين من الصحابة، وأما هم فلم يثبت لهم رواية عن الصحابة، فالمرسل يستشهد به بشروط مفصلة في كتب علوم الحديث (1)، وقد ذكرت طرفاً من ذلك وسيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى – في الجزء الثاني من هذا الكتاب -، وقد يقول قائل: لماذا نستشهد بالمرسل مع أننا لا نستشهد بالمنقطع، والمرسل عبارة عن انقطاع؟.
فالجواب: أنّ الساقط في المرسل في طبقة أحسن من التي بعدها، ويحتمل أن يكون صحابيّاً، أمّا المنقطع فبخلاف ذلك، ومع ذلك ففيه تفصيل سيأتي – إن شاء الله – في السؤال رقم (223) (2).
__________
(1) انظر شروط الشافعي – رحمه الله تعالى – في «رسالته» (ص:161 - 162) وسيأتي – إن شاء الله تعالى – تفصيل الكلام عليها في «الجزء الثاني» من هذا الكتاب السؤال رقم (223).
(2) وقد استشهد جماعة من أهل العلم بالمنقطع فمنهم على سبيل المثال الإمام الترمذي – رحمه الله تعالى – وعرف ذلك في اصطلاحه للحديث الحسن حيث قال في «جامعه» (2/ 340) وما ذكرنا في هذا الكتاب (حديث حسن) فإنّما أردنا به حسن إسناده، عندنا كل حديث يروى لا يكون في إسناده منّهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن. اهـ.
قلت: على هذا التعريف يدخل الحديث المنقطع وذلك ظاهر حيث لم يشترط الترمذي الاتصال فيه وإنّما اشترط نفي الشذوذ مع تعدد الطرق مع خفة الضعف كما هو مقصود كلامه – رحمه الله تعالى -، ومثال ذلك قول الترمذي في باب ما يقول عند دخول المسجد (1/ 212)، وقد ساق إسناده إلى فاطمة بنت الحسين، عن جدّتها فاطمة الكبرى، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلم، وقال: «اللهم اغفر لي ذنوبي ... » فذكر الحديث.
ثم قال: وفي الباب عن أبي حميد وأبي هريرة قال أبو عيسى: حديث فاطمة حديث حسن وليس إسناده بمتّصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى إنّما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشهراً: قال المباركفوري في «تحفته» فإن قلت: قد اعترف الترمذي بعدم اتصال إسناد حديث فاطمة؛ فكيف قال: حديث فاطمة حديث حسن؟.
قلت: الظاهر أنّه حسّنه لشواهده ... وهذا الحديث أخرجه أحمد وابن ماجة أيضاً فإن قلت لما أورد الترمذي في هذا الباب حديث فاطمة وليس إسناده متصلاً ولم يورد فيه حديث أبي أسيد وهو صحيح بل أشار إليه؟ قلت: ليبين ما فيه من الانقطاع ويستشهد بحديث أبي أسيد وغيره. اهـ «تحفة الأحوذي» (1/ 262) وممن صرّح بالاستشهاد كذلك بالمنقطع الحافظ ابن حجر وذلك في عدة مواضع الموضع الأول في «هدي الساري» (347) في سياق الأحاديث التي انتقدها النقاد على صاحب الصحيح والجواب عليها، قال – رحمه الله -: فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد «وكان الانقطاع فيه ظاهراً فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنّه إنّما أخرج مثل ذلك في باب من له متابع وعاضد أو ما حفته قرينة في الجملة تقويه من حيث المجموع». اهـ.
والشاهد من كلام الحافظ هو ما جعلته بين الأقواس وهو بين واضح فيما نحن بصدده، والموضع الثاني ما ذكره الحافظ – رحمه الله – في «نكته» (1/ 402) في معرض الكلام حول شرط الترمذي للحديث الحسن قال – رحمه الله تعالى -: فأما ما حررنا عن الترمذي أنّه يطلق عليه اسم الحسن من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد فلا يتجه الاتفاق على الاحتجاج به جميعه، ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طريق ... قال وقد صرّح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه «الوهم والإيهام» بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن. اهـ.
وهذا حسن قوي رايق ما أظن منصفاً يأباه والله الموفق. اهـ، من «النكت».
وهناك موضع ثالث للاستشهاد بالمنقطع «هدي الساري» (ص:19) فليراجع، وممن استشهد بل صرّح بالاستشهاد بالمنقطع الحافظ ابن القيم – رحمه الله تعالى – في «زاد المعاد» (1/ 379): «في الكلام على نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس»، قال: وحديث أبي قتادة هذا، قال أبو داود: هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة والمرسل إذا اتصل به عمل وعضده قياس أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته عمل به، وأيضاً فقد عضده شواهد أخرى ... إلخ.
قلت: وهذا من ابن القيم – رحمه الله تعالى – ظاهر باستشهاده بالمنقطع وإن أطلق عليه المرسل كعادة جماعة من العلماء وانظر كذلك صنيع الإمام البيهقي وتصريحه بالاستشهاد المنقطع وذلك في عدّة مواضع أيضاً منها ما جاء في «معرفة السنن والآثار» (2/ 278) برقم (1329)، وهو كالمثال المتقدم عن ابن القيم – رحمه الله تعالى -.
ومن هذه الأمثلة يتضح للقارئ صنيع هؤلاء الحفاظ في الاستشهاد بالمنقطع وقد يظن البعض من قول الشيخ: (مع أننا لا نستشهد بالمنقطع) أنّ مذهبه هو عدم الاستشهاد به، وهذا غير صحيح فالشيخ – حفظه الله – يرى الاستشهاد بالمنقطع، إذا كان الانقطاع في طبقة التابعين أو تابع التابعين وذلك لأنّ الانقطاع كلما نزل عن طبقة القرون الفاضلة قويت الريبة في الساقط لانتشار الكذب، وظهور الفسق في هذه القرون بعكس القرون الفاضلة، وعلى ذلك صنيع أهل العلم كما سيوضح ذلك المؤلف في الجزء الثاني من هذا الكتاب في السؤال رقم (225)، والله أعلم.(1/95)
فالخلاصة أنَّ تعريف المرسل: هو ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر الواسطة، فكلمة الواسطة تعم، وتشمل الصحابة فمن دونهم، والله أعلم (1).
__________
(1) هذا وقد عرفه الغزالي بقوله: «وصورة المرسل أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من لم يعاصره».
قال الحافظ في «النكت» (2/ 544 - 546): وهذا أخص قليلاً من الذي قبله – يعني: قول ابن الحاجب في المرسل، هو قول غير الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنّه يدخل فيه من سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حال الكفر ثم استمر كافراً فلم يسلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإنّ هذا لا تصحُّ له صحبة وهو على تعريف الغزالي لا يكون حديثه مرسلاً ...
وقال: فإن قيل ما احترز به الغزالي – رحمه الله تعالى – كما قدمته قد ينقدح منه قدح في صحة التعريف الذي أخبرت أنّه قول الجمهور، وذلك لأنّ قولهم ما سمعه بعض الناس في حال كفره من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم أسلم بعده، وحدّث عنه بما سمعه منه؛ فإنّ هذا والحالة هذه تابعي قطعاً وسماعه منه صحيح متّصل وهو داخل في حد المرسل الذي ذكرته.
قلت: وهذا عندي نقض صحيح واعتراض وارد لا محيد عنه ولا انفصال منه إلا أن يزاد في الحد ما يخرجه، وهو: أن يقول المرسل: ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما سمعه من غيره. اهـ.
وقد ذهب إلى هذا الاحتراز أيضاً الإمام الصنعاني – رحمه الله – كما في «التوضيح» (ص:258) حيث قال: واعلم أنّه يرد على هذا الرسم ما سمعه بعض الناس حال كفره من رسول الله ثم أسلم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحدّث عنه بما سمعه منه؛ فإنّ هذا والحال هذه تابعي قطعاً وسماعه منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم متّصل وقد دخل في حد المرسل، وحينئذ فلا بدَّ من زيادة قيد بأن يقال: ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما سمعه من غيره. اهـ.
أقول: وما ذكره الإمامان ابن حجر، والصنعاني من سماع بعض الناس حال كفرهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم إسلامهم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحديثهم عنه بما سمعوه منه؛ أمر نادر جداً، وكأن الأئمة أعرضوا عن هذا القيد لندرته، وإذا كان كذلك فلا حاجة إليه في التعريف، وقد صرّح بذلك الحافظ السخاوي – رحمه الله – كما في «فتح المغيث» (1/ 156 - 157) فقال: وكذا قيده شيخنا بما سمعه التابعي من غير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليخرج من لقبه كافراً فسمع منه ثم أسلم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحدّث بما سمعه منه كالتنوخي رسول هرقل؛ فإنّه مع كونه تابعياً محكوم لما سمعه بالاتصال لا الإرسال وهو متعين وكأنّهم أعرضوا عنه لندوره. اهـ.
أقول: وقصة التنوخي هذه أخرجها الإمام أحمد – رحمه الله – في «مسنده» من طريق سعيد بن أبي راشد قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحمص وكان جار لي شيخاً كبيراً قد بلغ العقد أو قرب، فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورسالة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هرقل؟ قال: بلى، قدم رسول الله تبوك فبعث دحيّة الكلبي إلى هرقل ... الحديث.
والقصة «ضعيفة» لجهالة سعيد بن أبي راشد، وعليه مدار الإسناد وقد ترجم له الحافظ في التقريب بقوله: «مقبول» وقد حكم عليها شيخنا أبو الحسن – حفظه الله – بالضعف كما في تحقيقه للمجلد الأول من «فتح الباري» للحافظ ابن حجر.
وعلى هذا فلا يصح التمثيل بذلك لضعف القصة ويضاف إلى ذلك أيضاً عدم تأكدنا من إسلام التنوخي فقد قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «التهذيب» ترجمة سعيد بن أبي راشد: روى عن التنوخي النصراني رسول قيصر – ويقال: رسول هرقل - ... إلخ فلم يجزم الحافظ بإسلامه, والله أعلم.(1/96)
س 10: رجل سمع من محدِّث ذُكر بأنَّه اختلط، كيف نعرف أنّ هذا الرجل سمع قبل الاختلاط أو بعده؟
ج 10: معرفة هذا تكون بنصوص الأئمة، وبالأقوال الثابتة عنهم، والحمد لله – عزّ وجلّ – فقد صنِّفت كتب في هذا الباب، وبينت الرواة الذين اختلطوا، أو الرواة الذين تغيروا، والتلامذة الذين رووا عنهم في زمن الاستقامة، والتلامذة الذين رووا عنهم بعد اختلاطهم، والتلامذة الذين رووا عنهم في الحالتين، فيرجع في كل ترجمة إلى موضعها من هذه الكتب وهي والحمد لله موجودة ومتداولة (1).
والعلماء يعرفون استقامة الرواية أيضاً أو اختلاطها بالتاريخ، كأن يكون التلميذ لقي شيخه، وأخذ عنه في سنة كذا، ثم مات التلميذ، أو أنّ الشيخ ما تغير إلا بعد موت هذا التلميذ، وقد ينظرون في روايته فيجدونها صحيحة مستقيمة عنه، فيدل هذا على أنّه حدّث بها أيّام استقامته، وقد يكون المختلط هذا في زمن اختلاطه جاءه أحد الأئمة وقال له: لا أسمع منك إلا من أصولك، فاخرِج ليّ أصولك، أو أخرج ليّ كتبك، والرجل الذي تغير أو اختلط، أو ساء حفظه، أو يقبل التلقين، إنّما يضره أو يضر حديثه إذا حدَّث من حفظه، أمّا إذا حدث من كتابه أو من أصوله، فلا يضر حديثه (2)، كما سيأتي في رواية العبادلة عن ابن لهيعة وغير العبادلة الذين رووا عنه من أصوله (3).
__________
(1) قلت: ومن الكتب التي صنفت في هذا الباب كتاب «الاغتباط بمن رمي بالاختلاط» للحافظ سبط بن العجمي، وكتاب «الكواكب النيِّرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات» لأبي البركات محمد بن أحمد المعروف بابن الكيال – رحمه الله -.
(2) قال الشيخ زكريا الأنصاري – رحمه الله – في حاشية «التبصرة والتذكرة» للعراقي (2/ 264): فما روى لمختلط في اختلاطه أو اشتبه فلم يدر أحدّث بالحديث قبل اختلاطه أو بعده سقط ما رواه مما اعتمد فيه على حفظه بخلاف ما اعتمد فيه على كتابه. اهـ.
(3) انظر ذلك مفصّلاً في السؤال رقم (40).(1/97)
- بقي أن يقال: هل هناك فرق بين قولهم: «فلان مختلط» و «فلان تغيّر»؟
نعم هناك فرق، فالتغير أخف من الاختلاط، وقد صرّح بذلك الحافظ الذهبي – رحمه الله – عندما ردّ على ابن القطان في كلامه على هشام بن عروة (1)،
__________
(1) قال الإمام الذهبي – رحمه لله تعالى – في «السير» (6/ 35 - 36) ترجمة هشام بن عروة: «قلت: الرجل حجة مطلقاً ولا عبرة بما قاله الحافظ أبو الحسن القطّان من أنّه هو وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيّرا، فإنّ الحافظ قد يتغيّر حفظه إذا كبر وتنقص حدَّة ذهنه فليس هو في شيخوخته، كهو في شيبته، وما ثمّ بمعصوم من السهو والنسيان وما هذا التغير بضارٍ أصلاً؛ وإنّما الذي يضر الاختلاط، وهشام فلم يختلط قط، هذا أمر مقطوع به، وحديثه محتجٌّ به في «الموطأ» و «الصحاح»، و «السنن» فقول ابن القطّان: «أنه اختلط» قول مردود، مرذول، فأرِني إماماً من الكبار سلم من الخطأ والوهم فهذا شعبة وهو من الذروة له أوهام، وكذلك معمّر، والأوزاعي، ومالك – رحمة الله عليهم – اهـ وله في «الميزان» (7/ 85 - 86) قال:
هشام بن عروة أحد الأعلام – حجة إمام لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبداً، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن القطّان من أنّه وسهيل بن أبي صالح اختلطا، وتغيّرا؟! نعم، الرجل تغيّر قليلاً، ولم يبقَ حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا؟! أهو معصوم من النسيان؟!
ولما قدم العراق في آخر عمره حدّث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجوّدها، ومثل هذا يقع لمالك، ولشعبة، ولوكيع، ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط وذرْ خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين، فهشام شيخ الإسلام ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطّان ... إلخ. اهـ.
وانظر الفرق بين الاختلاط والتغيير بتوسع أكبر في «شفاء العليل» (ص:440 - 442)، وكذلك «المقترح» لشيخنا مقبل بن هادي – رحمه الله – في السؤالين (61، 166) والله أعلم.(1/98)
وبيَّن ذلك أيضاً في رواية معمر بالبصرة، والاختلاط كأن يقلب الإسناد، وأمّا التغير فالراوي يهم في اسم الشيخ فيقلب اسم الأب أو يؤخره عن الجد (1).
س 11: لماذا عيب على حماد بن سلمة جمعه للروايات؟
ج 11: مسألة جمع الروايات عبارة عن قول الراوي: حدّثني فلان، وفلان، وفلان، وهذا لا يقبل من الراوي إلا إذا كان ثقة حافظاً، فإذا كان من الحفّاظ الأثبات قُبِلَ منه جمعه للروايات، أمّا إذا كان صاحب أوهام، فقد يكون هذا من أوهامه، وحمّاد بن سلمة على إمامته، وشهرته في الفضل والثقة، إلا أنّه قد تكلّم فيه بعض الأئمة من قبل حفظه، وهذا يدل على أنّهم لا يقبلون منه، إذا قال: حدّثني فلان، وفلان، أي إذا جمع؛ أمّا إذا قال: حدّثني فلان فقط، فهذا يدل على تثبّته (2)،
__________
(1) الاختلاط لغةً: قال في «اللسان» (7.294 - 295): اختلط فلان؛ أي: فسد عقله، ورجل خلط بين الخلاطة أحمق مخالط العقل، ويقال: خولط الرجل فهو مخالط، واختلط عقله فهو مختلط إذا تغير عقله.
واصطلاحاً: قال السخاوي في «فتح المغيث» (3/ 366): وحقيقته: فساد العقل وعدم انتظام الأقوال والأفعال، إمّا بخرف أو ضرر أو مرض من موت ابنٍ وسرقة مال كالمسعودي، أو ذهاب كتب كابن لهيعة، أو احتراقها كابن الملقن. اهـ.
(2) قال أبو يعلى الخليلي في كتابه «الإرشاد» (1/ 417 - 418): ذاكرت بعض الحفاظ، قلت: لِمَ لم يدخل البخاري حمّاد بن سلمة في الصحيح؟ قال: لأنّه يجمع بين جماعة من أصحاب أنس، يقول: ثنا قتادة، وثابت، وعبدالعزيز بن صهيب، عن أنس وربّما يخالف في ذلك، فقلت: (أليس) ابن وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد، فيقول: حدّثنا مالك وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، والأوزاعي بأحاديث ويجمع بين جماعة غيرهم؟! فقال ابن وهب: أتقن لما يرويه وأحفظ له اهـ. قال ابن رجب في «شرح العلل» (2/ 816).
ومعنى هذا: أنّ الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر أنّ لفظهم لم يتّفق، فلا يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه، يعرف اتّفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره ... إلخ.
وهذا وقد أخرج البخاري لحماد بن سلمة في «الشواهد» قال الحافظ ابن حجر في «هدي الساري» (ص:419): حماد بن سلمة بن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات، إلا أنّه ساء حفظه في الآخر، استشهد به البخاري تعليقاً ولم يخرج له احتجاجاً، ولا مقروناً، ولا متابعة إلا في موضع واحد ... إلخ.(1/99)
والحفّاظ لا يضرهم الجمع في الروايات – كما سبق -.
ألا ترى أن الإمام مسلم بن الحجاج – رحمه الله تعالى – في «صحيحه» قد يقول: حدّثني فلان، وفلان، وفلان، وقد يعد خمسة من المشايخ، ويقول: قال فلان: حدّثنا، وقال الآخرون: أخبرنا، فهذا من تمام الثقة والضبط والإتقان، فإنه يحفظ الحديث عن عدّة مشايخ، ثم يفصل عبارات التحمل وهي قول المحدث: «حدّثنا»، و «أجبرنا»، فيفصل ألفاظ كل راوٍ عن الآخر (1).
والعلّة في الجمع أنَّ صاحب الأوهام قد يجمع الشيخ مع بعض المشايخ، ويقول: حدّثني فلان، وفلان، وفلان، وهذا الجمع فيهم الثقة، وفيهم الضعيف، ثم يسوق حديثهم سياقة واحدة، وقد يكون أحد الضعفاء الذين أخذ الحديث عنهم قد تفرد بلفظه ينبني عليها حكم، فحين ساق الحديث سياقه واحدة عن عدة مشايخ فيهم الثقة وفيهم الضعيف، أصبحنا في ريبة من أمره، وما ندري هل هذا اللفظ من رواية الثقة، أو من رواية الضعيف؟ وأيضاً قد يكون صاحب الأوهام لم يتأكد من ذا الذي حدّثه بهذا الحديث؟ فيتوهم أنّه فلان، ثم يتوهّم أنَّه آخر، فيجمع بين المشايخ، فحين ذاك لا يقبل هذا إلا من الإمام المتقن؛ لأنه مميز لرواية فلان عن غيره، ويميز رواية الثقة عن غيره.
وليس حماد بن سلمة وحده هو الذي يتكلّم فيه الأئمة من قبل هذا الشيء، فقد تكلّموا في كثير من رواة الأحاديث بذلك، والله أعلم (2).
س 12: بقيّة بن الوليد يدلّس عن سعيد بن عبدالجبّار الزبيدي، وزرعة بن عمر الزبيدي، موهماً أنّه محمد بن الوليد صاحب الزهري، ويقول: حدّثني الزبيدي، وسعيد بن عبدالجبار وزرعة كلاهما ضعيف، فكيف نعرف الثقة من الضعيف؟
__________
(1) انظر بعض الأمثلة على ذلك في «شفاء العليل» الباب الثالث (ص:353 - 354).
(2) ذكر بعضهم ابن رجب – رحمه الله تعالى – في شرحه لـ «علل الترمذي» (2/ 816 - 817).(1/100)
ج 12: هذا من تدليس الشيوخ: أن يأتي الشيخ المدلّس إلى شيخه ويعمي أمره على الناظر فيه، فيذكره بغير ما اشُتهِرَ به، وقد يكون للمدلّس شيخان باسم واحد، ويشتركان أيضاً في اسم الأب، ويفترقان في اسم الجد، وهذه مسألة كنت ألقيتها على الأخوة كسؤال، فقلت لهم: مدلّس روى الحديث عن شيخه بصيغة السماع، قال: حدّثني فلان، عن فلان، ومع ذلك لا يزال العلماء يقولون: إنّه مدلس، مع أنّه قد صرّح بالسماع، وهذا شيخه معروف بالرواية عنه، كيف يعد مدلّساً وقد صرّح بالسماع؟(1/101)
الجواب على ذلك: أنّ المدلّس له شيخان يشتركان في الاسم، واسم الأب، ويختلفان في اسم الجد، وأحد الشيخين ثقة، والآخر ضعيف، فيأتي المدلس هذا ويقول: حدّثني فلان بن فلان، ولا يقول الفلاني، أو ابن فلان فلا يذكر اسم الجد، ولا البلد التي يتميّز بها الثقة من الضعيف، فلا يزال مدلساً مع أنّه قد صرّح بالسماع، فمِنْ هذا فِعْلُ بقية المسؤول عنه، وقد تكلّم على ذلك الشيخ المعلمي – رحمه الله تعالى – في تحقيقه «الفوائد المجموعة» للشوكاني – رحمه الله – فلتراجع – والعلم عند الله تعالى – (1).
__________
(1) قال الشيخ المعلمي – رحمه الله تعالى – تعليقاً على حديث: «من حدّث حديثاً فعطس عنده فهو حق»، قال: وهو منكر جداً سنداً ومتناً، ولبقية شيخان، أحدهما: معاوية بن يحيى الصدفي، «هالك»، والآخر: معاوية بن يحيى الأطرابلسي ذهب الأكثر إلى أنّه أحسن حالاً من الصدفي ووثّقه بعضهم، وعكس الدّارقطني وذكر أنَّ مناكيره أكثر من مناكير الصدفي، وأيهما الواقع في السند؟ ذهب جماعة إلى أنّه الأطرابلسي لأنّه قد عرف له الرواية عن أبي الزناد وذهب آخرون إلى أنّه الصدفي لأنّ هذا الخبر أليق به، ولأنّه كان يشتري الصحف فيحدّث بما فيها غير مبال أسَمِعَ أم لم يسمع، ويقوي هذا؛ أنّ بقية مدلس، ولا يجهل أن الأطرابلسي عند الناس أحسن حالاً من الصدفي، فلو كان شيخه في هذا الخبر هو الأطرابلسي لصرح به. اهـ «الفوائد المجموعة» (ص:224 - 225).
ويتلخص لنا من كلام المعلمي السابق أننا نستطيع التفرقة بين شيخي المدلس بأمور. منها:
أولاً: بالنظر في ترجمة الشيخين المختلف عليهما فأيهما أدرك شيخه أو سمع منه فهو المقدم.
ثانياً: النظر في صفة تحمل المدلس فإن عنعن فالظاهر أنّه ما عنعن إلا عن الضعيف، إذ لو كان الثقة لصرّح به وأظهر أمره.
ثالثاً: ينظر في حال الخبر فإن كان في الخبر نكارة فالظاهر أنّها ما أتت إلا من قبل الضعيف، وقد عقد الخطيب البغدادي – رحمه الله – باباً في ذلك فقال في «الكفاية» (ص:528 - 529) باب (0القول في الرجلين يشتركان في الاسم والنسب، فتجيء الرواية عن أحدهما من غير بيان وأحدهما عدل والآخر فاسق» ثم قال: مثال ما ذكرناه: إسماعيل بن أبان الغنوي شيخ كان بالكوفة «غير ثقة» وإسماعيل بن أبان الوراق كان بها أيضاً «ثابت العدالة» وقد ذكرهما يحيى بن معين ... وكان يعقوب بن شيبة بن الصلت قد كتب عنهما جميعاً، فلو ورد حديث ليعقوب عن إسماعيل بن أبان لم يبين في الرواية، أي الرجلين هو، ولا عرف السامع ما تمييز ذلك من جهة العلم بشيوخهما، والاستدلال بروايتهما، وجب التوقف فيه، وترك العمل به، لأنّه لا يؤمنَ أن يكون رواية الغنوي الذي ثبت جرحه. ثم ذكر – رحمه الله – أمثلة أخرى. اهـ.(1/102)
وبالنسبة لما ورد في السؤال فالطريق إلى التمييز يكون بالرجوع للمطوّلات من كتب الجرح والتعديل، فإن ظهر لنا شيء عملنا به، وإلا فنقف من أجل صنيع المدلس الذي وعّر علينا الطريق، والله أعلم.
س 13: لو ذكروا أنَّ للثقة الحافظ أحاديث غلط فيها؛ فما العمل؟
ج 13: الثقة الحافظ، أو الثقة فقط، الأصل في حديثه الاحتجاج، والأصل في حديثه أنّه صحيح حتى يثبت أنّ هذا الحديث من أوهامه، فنحن لا بدّ أن نعلم أنّه ما من واحد من الأئمة إلا وله أغلاط، لكنَّها قليلة، وتنغمر في سعة ما روى من الأحاديث الصحيحة الثابتة القوية (1).
فنحن في مثل هذا إذا رأينا في ترجمة الرجل: «ثقة حافظ غلط في أحاديث»، أو «غلط في حديث» فنحن نحتجّ بحديثه، ما لم ينص الأئمة أو أحدهم على أنّ هذا الحديث من أغلاطه، أو ما لم يظهر لنا عند جمع الطرق أن هذا من أوهامه.
__________
(1) قال الإمام مسلم – رحمه الله – في كتابه «التمييز» (ص:132): «ليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا – وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقياً وإتقاناً لما يحفظ وينقل – إلا والغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله».
وفي «الكفاية» (ص:227 - 228): عن سفيان الثوري: قال: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط وإن كان الغالب عليه الغلط ترك.
وقد سبق في ذلك أيضاً كلام الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى – في ترجمة هشام بن عروة من «السير» (6/ 35 - 36) و «الميزان» (7/ 85 - 86) فليراجع، والله أعلم.(1/103)
وأيضاً الصدوق الذي يقولون فيه: «ربِّما وهم»، الأصل في حديثه الحُسنُ، حتى يثبت أنَّ هذا من أوهامه، إمّا بنص واحد من العلماء، فيذكر هذا الحديث من مناكيره، أو في ترجمته وأن العهدة عليه، أو إذا جمعنا طرق الحديث فوجدنا الراوي قد خالف من هو أوثق منه، فكل هذا يسوغ لنا الحكم بضعف الحديث – وأمّا: «صدوق له أوهام» و «صدوق يخطئ»، و «صدوق يهم» فعندي أنَّ هذه الألفاظ من ألفاظ الاستشهاد، وليست من ألفظ الاحتجاج، وهذه مسألة إن شاء الله سأبينها بشيء من التفصيل في الجزء الثاني من الكتاب، وأذكر الأدلّة التي وقفت عليها من كلام أهل العلم.
س 14: عنعنة المدلّسين في «الصحيحين» محمولة على ماذا؟
ج 14: عنعنة المدلّسين في «الصحيحين» محمولة على السماع، بل نحن نجد في رواة الأحاديث في «الصحيحين» رجالاً قد تكلّم فيهم من قبل الحفظ، فضلاً عن التدليس، ومع ذلك نجد صاحبي «الصحيح» لم يتأخرا في التخريج عن هؤلاء الرجال.
فإمّا أن تكون هذه العنعنة قد ثبت تصريح المدلّس فيها بالسماع في موضع آخر، فتكون – والحمد لله – قد زالت العلّة (1)، ولو فرضنا؛ أننا قد بحثنا في كلّ الطرق، فوجدناها بالعنعنة.
__________
(1) قال السخاوي – رحمه الله – في «فتح المغيث» (1/ 355): وقال القطب الحلبي: «وأكثر العلماء أ، المعنعنات التي في «الصحيحين» منزَّلة منزلة السماع».
وقال الحاكم أبو عبدالله في «المعرفة» (ص:109) -: «ومنهم – يعني: من المدلِّسين – جماعة من المحدثين المتقدّمين والمتأخرين مخرَّج حديثهم في الصحيح إلا َّ أنَّ المتبحِّر في هذا العلم يُمَيِّز بين ما سمعوه وبين ما دلسوه» وانظر «تدريب الراوي» (1/ 230)، والله أعلم.(1/104)
فنحن نقول أيضاً: إنَّ إخراج البخاري أو مسلم – رحمهما الله تعالى – لهذا الرجل وتلقي الحفّاظ لـ «الصحيح» بالقبول كافٍ؛ لأن ما وسع الحفاظ يسعنا، ولا نريد أن نزعزع ثقة المسلمين في «الصحيحين»، فنفتح المجال للناس في ذلك، وقد سمعنا أنّ هناك من يحقق «صحيح البخاري» أو «صحيح مسلم» (1)، والله المستعان.
الشاهد من هذا أن قول من يقول: لماذا نضعف أحاديث المدلسين خارج «الصحيحين» ولا نضعِّفهما داخل «الصحيح»؟
وقال: نحن بهذا نكون متشبهين ببني إسرائيل الذين إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
أقول: فرق واسع، وبون شاسع بين هذا وذاك، فإننا نتكلّم على الأحاديث من جهة الصحة والضعف بكلام علمائنا، فإذا سبقنا علماؤنا وصحَّحوا الحديث وأجمعوا على صحته، مَنْ مِنّا يتجرأ على تضعيفه؟! وإذا أجمعوا على ضعفه فَمن يتجرأ على تصحيحه؟!
فحقيقة الأمر، أنَّ الفرق واسع جداً بين هذه وتلك، وما ينبغي أن يكون هناك مقارنة، أو وجه شبه في ذلك.
__________
(1) قلت: وقد جاء في أسئلة الإمام تقي الدين السبكي للحافظ أبي الحجّاج المزي: «وسألته عمّا وقع في «الصحيحين» من حديث المدلس معنعناً هل نقول أنّهما اطلعا على اتصالها؟ فقال: كذا يقولون وما فيه إلا تحسين الظن بهما وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلّسين ما توجد من غير تلك الطريق في الصحيح. اهـ، من «النكت» (2/ 636).
قال المؤلف: غير أن هذا الكلام ليس على إطلاقه لأنَّ صاحبي «الصحيح» لو عارضهما أحد الحفّاظ الأوائل وأعل الحديث بعنعنة المدلس لما استمر حسن الظن هذا ولكن أقوى ما نستدل به هو تلقي الحفاظ للكتابين بالقبول إلا الأحرف اليسيرة، وعدم الاعتراض على هذه العنعنة من قبل الحفّاظ أقوى في النفس من تصريح بالسماع من طريق أخرى قد يعتريه تصحيف، أو تحريف، أو وهم من أحد الرواة، والله أعلم. اهـ.(1/105)
لأنِّي أقول لقائل هذه المقالة: من أين عرفت أنَّ عنعنة المدلسين لا تُقْبل إلا إذا صرّحوا بالسماع؟ أبآية من القرآن؟! أم بحديث نبوي؟! أم بأقوال العلماء – أعني: علماءَ الحديث؟!.
فلا شك؛ أننا أخذناها عن علماء الحديث، ونحن نقول – كما قال الإمام أبو حاتم الرازي – رحمه الله -: «أهل الحديث إذا اتفقوا على شيء كان اتفاقهم حجة».
وقد اتّفق أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل العلم، والأمّة على تسمية كتابّي البخاري، ومسلم بـ «الصحيحين» إلا الأحرف اليسيرة التي انتقدت، فّمن نحن حتى نأتي فنزعزع الثقة في «الصحيحين» ونقول: هذا صحيح، وهذا ضعيف؛ لأنَّ فيه فلاناً، وهو مدلس، أو لأن فلاناً له أوهام، أو لأنَّ فلانا قد اختلط أو تغيَّر؟! مَنْ نحن حتى نفعل هذه الأشياء؟!.
وكما نحن قد عرفنا من قواعد الأئمة أنَّ عنعنة المدلس لا تقبل، والمختلط إذا روى حديثاً فلا بدّ من تمييز هذه الرواية: هل هي في زمن الاستقامة، أو في زمن الاختلاط؟ وعرفنا أيضاً من قواعد الأئمة أنَّ كلام الحفّاظ إذا أجمعوا على شيء كان الأمر كما قالوا، وقد ذكر هذا أبو حاتم الرازي كما في كتاب «المراسيل» لابنه، (ص:192) برقم (703) ترجمة محمد بن شهاب الزهري. المؤلف.
فيا من تأخذ بالقواعد! هذا أيضاً من القواعد! فلماذا تأخذ ببعضها، وتترك بعضها؟!.
الأمر الآخر أننا نعلم أنَّ السند قد يكون ضعيفاً، ولكن الحديث صحيح بالمتابعات، ونحن نعرف أنَّ صاحبي «الصحيح» أخرجا من أحاديث أصحاب الضعف والأوهام، إما من أصول كتبهم، وإما أخرجا لهم ما توبعوا عليه، أو ما كان له أصل، أو ما ليس فيه نكارة، ثم الحفّاظ بعد ذلك يسلمون لهما، ولا يردون عليهما قولهما أو إدخالهما ذلك الحديث في الكتاب الموسوم بالصحة.(1/106)
فمن نحن حتى نناقش حفّاظ الأمّة الذين أجمعوا على ضعف حديث، أو صحته؟!! ثم إنِّي أسأل المخالف في ذلك: لو أنَّك وقفت على سند رجاله كلهم ثقات، ورأيت ثلاثة من حفاظ الحديث كأحمد وابن مهدي ووابن المديني قالوا: هذا الحديث لا يشبه حديث فلان – أحد رجال السند – إنّما هو يشبه حديث فلان – ذاك الضعيف – وفي الجهة الأخرى: لو وقفت على سند فيه ضعيف، ورأيت هؤلاء الثلاثة مع تضعيفهم للراوي يصححون الحديث، وأنت لم تقف على هذه الشواهد، هل تسلم لهم في الأمرين أم لا؟ فإن سلمت لرسوخ قدمهم في هذا الباب، رجعت إلى قولنا، مع أنَّ قولنا يؤيده الإجماع لا مجرد ثلاثة فقط من الحفّاظ، وإن خالفتهم فأنت أهل لأّن تُخَالَف، وليس هذا من التقليد، بل هذا من إتباع خبر العدل، كما قبلنا قولهم في الراوي: فلان ثقة أو ضعيف، فنحن نقبل كل حديث في «الصحيحين» إلا الأحاديث التي انتقدت، فالانتقاد يفتح لنا باب الاجتهاد في تحكيم القواعد، والحكم عليها بما تستحق، أمّا أن نرد كلام هؤلاء الحفّاظ إذا أجمعوا فلا.
منْ منّا مثل الحافظ الذهبي – رحمه الله – في علمه وحفظه ونباهته؟! ومع ذلك لمّا ذكر حديث: «منْ عادى ليّ وليّاً، فقد آذنته بالحرب» وذكر أنَّه من غرائب خالد بن مخلد القطواني، وأنَّ خالداً خالف فيه جماعة، وعدّد أسباباً لضعفه، ومع ذلك قال: ولولا هيبة «الجامع الصحيح» لعُدَّ هذا من مناكيره أو غرائبه، انظر ترجمة خالد في «الميزان» (1).
__________
(1) في «الميزان» (2/ 425 - 427) خالد بن مخلد القطواني أبو الهيثم: قال الذهبي بعد إيراده للحديث السابق في ترجمته، فهذا حديث غريب جداً لولا هيبة الجامع الصحيح لعدُّوه في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه؛ ولأنّه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرّجه مَنْ عداَ البخاري، ولا أظنّه في مسند أحمد ... إلخ.(1/107)
«فالجامع الصحيح» له هيبة؛ قد هابه الحافظ الذهبي؛ الذي قال في العقيلي: «أفما لك عقل يا عقيليُّ؟!» (1)،
__________
(1) في «الميزان» (5/ 165 - 170) قال الذهبي – رحمه الله – في ترجمة علي بن عبدالله بن المديني: وأخبار ابن المديني مستقصاة في «تاريخ بغداد»:
وقد بدت منه هفوة ثم تاب منها وهذا أبو عبدالله البخاري – وناهيك به – قد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني، وقال: ما استصغرتُ نفسي بين يدي أحدٍ إلا بين يدي علي بن المديني، ولو تركت حديث علي، وصاحبه محمد، وشيخه عبدالرزّاق، وعثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفّان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان، وبهز بن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبدالحميد، لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب ولماتت السُّنن، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجَّال، أفما لك عقل يا عقيلي أتدري فيمن تتكلّم، وإنّما تبعناك في ذكر هذا النمط، لنذبّ عنهم ولنزيف ما قيل فيهم كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدِّث، وأنا أشتهي أ، تعرفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه، لأشياء ما عرفوها، اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك فانظر أول الشيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكبار والصغار، ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسُنَّة، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه، وكذلك التابعون، كلُّ واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم، وما الغرض هذا؟! فإنَّ هذا مقرر على ما ينبغي في علم الحديث ... إلخ اهـ ..(1/108)
والذي قال في ابن القطّان: «ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطّانّ» (1) والذي قال في وكيع: «أما كان لك عقل حين حدّثت بهذا الحديث المنكر» الذي رواه في وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والذي كادت أن تذهب نفسه بسببه (2)،
__________
(1) جاء في «السير» (6/ 35 - 36)، و «الميزان» (7/ 85 - 86) ترجمة هشام بن عروة، وقد سبق ذكر نص كلامه – رحمه الله – من الموضعين كما في حاشية السؤال رقم (10).
(2) جاء في «السير» (9/ 159 - 165) قال الذهبي: قال علي بن خشرم: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبدالله البهي: أنَّ أبا بكر الصدِّيق جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد وفاته فأكبّ عليه فقبَّله، وقال: «بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك»، ثم قال البهي: «وكان ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، وانثنتْ خِنصراهُ»، قال الذهبي: فهذه زلة عالِم، فما لوكيع ولرواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد! كادت نفسه أن تذهب غلطاً ... قال ابن خشرم: فلمّا حدث وكيع بهذا بمكة اجتمعت قريش وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبةً لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم: الله الله! هذا فقيهُ أهل العراق، وابنُ فقيهه، وهذا حديث معروف قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أنِّي أردت تخليص وكيع ... ثم قال الذهبي في وكيع ... أفما لك عقل وورع، أما سمعت قول الإمام عليَّ: حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ... إلخ.
جاء في «السير» (9/ 159 - 165) قال الذهبي: قال علي بن خشرم: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبدالله البهي: أنَّ أبا بكر الصدِّيق جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد وفاته فأكبّ عليه فقبَّله، وقال: «بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك»، ثم قال البهي: «وكان ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، وانثنتْ خِنصراهُ»، قال الذهبي: فهذه زلة عالِم، فما لوكيع ولرواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد! كادت نفسه أن تذهب غلطاً ... قال ابن خشرم: فلمّا حدث وكيع بهذا بمكة اجتمعت قريش وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبةً لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم: الله الله! هذا فقيهُ أهل العراق، وابنُ فقيهه، وهذا حديث معروف قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أنِّي أردت تخليص وكيع ... ثم قال الذهبي في وكيع ... أفما لك عقل وورع، أما سمعت قول الإمام عليَّ: حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ... إلخ.(1/109)
الشاهد من هذا أنّه – رحمه الله – مع شدّة لسانه، وجرأته على العلماء، رأيناه ضعيفاً مستضعفاً أمام «الجامع الصحيح».
وكنت قد تكلّمت مع شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – في مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في موسم الحج سنة 1410هـ في هذه المسألة، وكان مناصراً لقول من يجيز النظر في أسانيد «الصحيحين» أو أحدهما، وإن لم يُسبق من العلماء السابقين، واستدل بأنَّ عدم عِلْمِنا بأن هذا الحديث منتقد هو جهل منّا بذلك، وأن عِلْمَنا بأن أبا حاتم – رحمه الله – مثلاً قد ضعف أحد رواة السند، هو علم منّا، فيقدم العِلْمُ على الجهل، ويضعف الحديث وإن كان في «الصحيحين»، أو أحدهما.
والجواب على ذلك: وقد ذكرته لفضيلته آنذاك: أنَّ هناك فرقاً بين تضعيف الراوي، وتضعيف المتن، فلا يلزم من تضعيف إمام من الأئمة لأحد رواة السند، أن يضعف الحديث، وقد سبق ذكر بعض الأسباب التي بوجودها يخرج صاحب «الصحيح» لمن تُكُلِّم فيه، ولا شك أن تضعيف أبي حاتم – مثلاً – قد أطّلع عليه الحفّاظ؛ لأنّه لا يفوت الحفّاظ كلهم، نعم قد يفوت بعضهم أمّا كلُّهم؛ فلا، ومع ذلك لم يضعفوا هذا الحديث بعينه، فما وسعهم يسعنا.
••فإن قيل: ما هو الحد الزمني الذي يُقبل قبله قول الناقد وبعده لا يقبل؟(1/110)
فالجواب: أنَّ ذلك ليس له حدٌّ محدود، إنّما هو راجع إلى زمن وقوع التلقي للكتابين بالقبول، فمنذ ذاك الزمن وبعد اشتهار الكتابين، ووسمهما بالصحة، وعدم اعتراض الحفّاظ على ذلك إلا في أحرف يسيرة، ثم يأتي جيل وراء آخر مع توفر الدواعي للكلام وللنقل أيضاً، ولو وقع كلام لنقل لنا خلال مئات السنين الخالية بعد الحفّاظ المنتقدين على الكتابين، ولو طُلِب من المخالف أن يأتي بحافظ تكلّم في الكتابين أو أحدهما والمتكلّم من أهل الشأن في الكلام على العلل منذ سبعمائة سنة فيما أذكره الآن لما ظفر بذلك فيما أعلم والله أعلم، أفبعد هذه المئات من السنين، نرى من يأتي لما لم يسبق إليه وينفرد بالكلام على أحاديث في «الصحيحين» أو أحدهما؟! فتلقي الأمة بالقبول أقوى في النفس من متابعة سيء الحفظ أو نحوه.
فأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن ينفعنا بكتب السنة، وأن يجعلنا من الذين يدافعون عنها، ومن الذين يحافظون عليها.
س 15: بعض أهل العلم يقولون: إنَّ عنعنة المدلِّس لا تضر إذا كان من الطبقة الأولى والثانية، أمّا إذا كان من الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، فتضر نرجو توضيح ذلك؟
ج 15: المقصود بهذا التقسيم الذي في «طبقات المدلِّسين» للحافظ ابن حجر – رحمه الله – وقوله: إنَّ أهل الطبقة الأولى ما دلّسوا إلا قليلاً جداً. (1)
والثانية: لأنَّ تدليسهم ينغمر في سعة ما رووا، (2)
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في «تعريف أهل التقديس» (ص:62):
وهم على خمس مراتب:
الأول: من لا يوصف بذلك إلا نادراً جداً، كيحيى بن سعيد الأنصاري، وبنحوه في «النكت» (2/ 636 - 637) وزاد فقال وغالب رواياتهم مصرحة بالسماع والغالب إطلاق من أطلق ذلك عليهم فيه تجوز من الإرسال إلى التدليس ومنهم من يطلق ذلك بناء على الظن ويكون التحقيق بخلافه ... إلخ. اهـ.
(2) قال الحافظ ابن حجر:
الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في «الصحيح» وذلك لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري، أو كان لا يدلِّس إلا عن ثقة كابن عيينة. اهـ، من «تعريف أهل التقديس» (ص:62) وبنحوه في «النكت» (2/ 638)، وكذا في «جامع التحصيل» للعلائي (ص:133).(1/111)
هذا اجتهاد من الحافظ ابن حجر.
والثالثة، والرابعة لا يحتجّ بعنعنة أهلهما إلا إذا صرّحوا بالسماع (1).
والخامسة: أهل الضعف والتدليس، فإن صرّحوا بالسماع بقيت علّة الضعف، وذكر فيهم ابن لهيعة (2).
وهذا التقسيم هو اجتهاد من الحافظ ابن حجر – رحمه الله -، وأنا أعمل به، ولكن قد يكون هناك بعض الرواة أدخلهم في الثانية، ويستحقون الثالثة، وبالعكس (3)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر:
الثالثة: من أكثر من التدليس، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرّحوا فيه بالسماع ومنهم من ردّ حديثهم مطلقاً ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي. اهـ، من «تعريف أهل التقديس» (ص:63) وبنحوه في «النكت» (2/ 640).
أمّا العلائي فقد قال في «جامع التحصيل» (ص:113):
وثالثها: من توقف فيهم جماعة فلم يحتجّوا بهم إلا بما صرّحوا فيه بالسماع، وقبلهم آخرون مطلقاً كالطبقة التي قبلها لأحد الأسباب المتقدمة كالحسن وقتادة ... إلخ.
والرابعة: قال الحافظ في «تعريف أهل التقديس» (ص:63) من أتّفق على أنّه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرّحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقيّة بن الوليد اهـ وبنحوه قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص:113).
(2) الخامسة: قال الحافظ: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، ولو صرّحوا بالسماع إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيراً، كابن لهيعة اهـ من «تعريف أهل التقديس» (ص:63) وفي «جامع التحصيل» للعلائي (ص:113) وخامسها من قد ضُعِّف بأمر آخر غير التدليس، فرَدُّ حديثهم به (يعني: التدليس) لا وجه له، إذ لو صرّح بالتحديث لم يكن محتجّاً به كأبي جناب الكلبي وأبي سعد البقّال، ونحوهما فليُعلم ذلك. اهـ.
(3) ومن الأمثلة على ذلك: حبيب بن أبي ثابت الكوفي ذكره الحافظ في طبقات المدلسين في الطبقة الثانية، وفي «النكت» جعله من أهل الثالثة، وكذا حميد الطويل.
بل قد يذكر الحافظ الرجل في الطبقات ويجعله في «الطبقة» الأولى ويكون في «النكْت» من أهل الطبقة الرابعة كما في محمد بن يزيد بن خنيس العابد، وكذا في سلمة بن تمام الشقري، وشبال الضي، وقد تكرر منه ذلك – رحمه الله – في غالب الطبقات وقد يُستغرب هذا التصرف من الحافظ – رحمه الله – وذلك لأنّ القواعد التي وضعها لترتيب وتصنيف هؤلاء المدلسين واحدة ومتفقة بين الكتابين، وقد يعتذر عن الحافظ بما اعتذر به الشيخ العلامة ربيع بن هادي – حفظه الله تعالى – من أن الحافظ لما رتب المدلسين في كتابه «النكت» اعتمد على حفظه فوهم بوضع بعض الأشخاص في غير موضعهم، والله أعلم، انظر حاشية «النكت» رقم (2/ 644).(1/112)
والأمر سهل، ولهذا الأمر مزيد تفصيل سيأتي – إن شاء الله تعالى – (1).
س 16: ما هو التعريف الصحيح الشامل للاضطراب؟
ج 16: الاضطراب: هو الاختلاف (2) والحديث المضطرب: هو الحديث الذي يختلف فيه الرواة اختلافات متساوية، أو متقاربة، أو متعارضة، أو متقاومة، أو متكافئة، ويتعذّر الجمع بين هذه الوجوه، أو بين هذين الوجهين (3).
فالاضطراب الموجب للإطراح، هو اختلاف متكافئ، مع تعذر الجمع، وكلمة متكافئ هنا، معناها أن الاختلاف متقارب، ومتقاوم أن المختلفين في رتبة واحدة في الجملة، لا تستطيع أن ترجح أحدهما على الآخر، ويتعذر الجمع كأن يكون أحد شيخي المختلف عليه ثقة، والآخر ضعيفاً، أمّا إذا كان المختلَف عليه مكثراً رحّالاً، فيحمل على الوجهين (4).
__________
(1) ارجع إليه في السؤال رقم (84).
(2) المضطرِب: بكسر الراء اسم فاعل من الاضطراب، وهو اختلال الأمر وفساد نظامه وأصله اضطرب الموج لكثرة حركته وضرب بعضه بعضاًن انظر حاشية «توضيح الأفكار» (2/ 34).
(3) المضطرب «اصطلاحاً» هو: الحديث الذي يروي على أوجه مختلفة متساوية ولا مرجُح بينها ولا يمكن الجمع، انظر «علوم الحديث» (ص:93 - 94) و «التبصرة والتذكرة» (1/ 113).
(4) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/ 782 - 783).
وأمّا النوع الرابع: وهو الاختلاف في السند فلا يخلو إمّا أن يكون الرجلان ثقتين أم لا، فإن كانا ثقتين، فلا يضر الاختلاف عند الأكثر لقيام الحجة بكل منهما، فكيفما دار الإسناد كان عن ثقة وربّما احتمل أن يكون الراوي سمعه منهما جميعاً، وقد وجد ذلك في كثير من الحديث، لكن ذلك يقوي حيث يكون الراوي ممن له اعتناء بالطلب وتكثير الطرق.
ومن أمثلة ذلك: حديث أبي هريرة في المهجر إلى الجمعة (رواه يونس ومعمر، وابن أبي ذئب، عن الزهري عن الأغر).
ورواه ابن عيينة عن الزهري عن سعيد.
ورواه يزيد بن الهاد عن الزهري، عن الأغر، وأبي سلمة، وسعيد، كلّهم عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
فتبين صحة كل الأقوال فإن الزهري كان ينشط تارة، فيذكر جميع شيوخه وتارة يقتصر على بعضهم، ثم ذكر الحافظ – رحمه الله – مثالاً آخر.
أقول: ومن الأمثلة – أيضاً – على ذلك ما سبق في التعليق على السؤال رقم (2)، والله أعلم.(1/113)
وبعض العلماء يسمي أي اختلاف اضطراباً، حتى قال بعضهم: حديث صحيح مضطرب، بمعنى: حديث صحيح فيه اختلاف لا يضر (1)، والاضطراب أغمض وأدق من الشذوذ.
فيسهل على الطالب أن يحكم على الحديث بالشذوذ، ويصعب عليه أن يحكم على الحديث بالاضطراب؛ لأنَّ الحكم بالتكافؤ وتعذر الجمع فيه غموض، ولا يقدر عليه إلا الحفاظ أهل العلم الراسخون في هذا الشأن، والله أعلم.
س 17: ما هو تعريف الحديث الصحيح؟
__________
(1) أقول: وقد عرف هذا عن الإمام الترمذي – رحمه الله تعالى – فقد يطلق الاضطراب، فيقول: «هذا حديث مضطرب» للحديث الذي اختلف رواته مع وجود المرجّح بين الروايات، أو إمكان الجمع فيحكم على الحديث بالاضطراب، ثم يبين رجحان بعض وجوهه، وانظر بعض الأمثلة على ذلك في كتاب الموازنة لنور الدين عتر (ص:186 - 187)، وهذا النوع لا يأخذ حكم الاضطراب الموجب للاطراح فقد قال ابن الصلاح – رحمه الله – في «مقدمته» (ص:94): أمّا إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى بأن يكون راويها أحفظ وأكثر صحبة للمروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيحات المعتمدة، فالحكم للراجحة ولا يطلق عليه – حينئذ – وصف المضطرب، ولا له حكمه». اهـ.
وسيأتي ذلك – أيضاً – في السؤال رقم (127) – إن شاء الله تعالى -.(1/114)
ج 17: التعريف الشائع في الحديث الصحيح، كما يقول ابن الصلاح: «هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معلاً» (1)، فكلمة: «المسند» تعتبر حشواً، ولا حاجة لها؛ لأنه إذا كان يعني بالمسند أي المتّصل، فقد ذكر الاتّصال في قوله: هو الحديث المسند الذي يتّصل إسناده ... إلخ، وإذا كان يعني بالمسند المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فينقضه قوله: «إلى منتهاه» لأنَّ معناه: حيث ينتهي السند، سواء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو إلى من دونه، والتعريف الذي يُرتضى هو: الحديث الذي يتّصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، أو عن مثله، إلى منتهاه، ولا يكون معللا، أما زيادة «الشذوذ»، فإن قيل: إنَّ الشذوذ من جملة العلل الخفية، فلا حاجة إلى إفراده بالتعريف بقيد مستقل، وإلا لزمنا أن نقول ولا يكون مضطرباً ولا مدرجاً، ولا كذا، ولا كذا، فالاضطراب، والإدراج، والشذوذ من جملة العلل القادحة، فلماذا خصّوا نوع الشذوذ من جملة الأحاديث المعلة، وذكروه في تعريف الحديث الصحيح؟ فالجواب أن هذه مسألة تحتاج إلى بحث، ثم ظهر لي بتوفيق الله عزّ وجلّ صحّة ثبوت نفي الشذوذ في التعريف، خلافاً للفقهاء، والأصوليين، الذين لا يعدّون مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه علّة قادحة، والقدح بذلك مذهب المحدّثين، وسيأتي تفصيل لذلك فيما بعد – إن شاء الله تعالى -، وقد حررت ذلك تفقهاً مني، ثم وقفت بعد على كلام الحافظ، فالحمد لله رب العالمين (2).
__________
(1) انظر «مقدمة ابن الصلاح» (ص:82).
(2) قال الحافظ ابن حجر: - رحمه الله تعالى – في «النكت» (2/ 654): ويمكن أن يجاب عنه بأنَّ اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحة إنّما يقوله المحدّثون، وهم القاتلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك .... إلخ وفي «فتح المغيث» (1/ 13) قال السخاوي – رحمه الله – ومن المسائل المختلف فيها بين المحدثين والفقهاء ما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئاً فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عدداً، أو أكثر ملازمة منه فإنَّ الفقيه والأصولي يقولان: المثبت مقدم على النافي فيقبل، والمحدثون يسمونه شاذاً؛ لأنَّهم فسّروا الشذوذ المشترط نفيه هنا بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين. اهـ.(1/115)
فعلى هذا: فتعريف الحديث الصحيح هو: «الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، أو عن مثله إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً» (1).
وبعضهم يقول: لماذا نقول: بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، والعدل الضابط وهو الثقة.
لماذا لا تقول: هو الحديث الذي يتّصل إسناده بنقل الثقة عن الثقة، أو عن مثله (2)؟.
__________
(1) انظر اصطلاح الحافظ ابن حجر للصحيح في «النزهة» (ص:82).
(2) قال السيوطي في «التدريب» (1/ 61):
قيل: كان الأفضل أن يقول بنقل الثقة؛ لأنَّه من جمع العدالة والضبط، والتعاريف تصان عن الإسهاب اهـ وعليه من الاعتراضات ما سيذكره المؤلف – حفظه الله تعالى -.(1/116)
فأقول: إنَّ كلمة «العدل الضابط» لا بدّ منها؛ لأنَّ تعريف الثقة عند العلماء، يختلف فيه، فقد علمنا تعريف الثقة عند ابن حبّان (1) – رحمه الله تعالى – فلا بد أن يُنَصَّ على أنّه ضابط أيضاً، وكما ذكر الحافظ الذهبي أنَّ المتأخرين قد توسعوا في كلمة: «ثقة» وأصبحوا يطلقون كلمة «ثقة» على من صح سماعه من شيخه، وإن كان سيء الحفظ، أو كان مغفلاً، أو كان لا يفهم شيئاً من علم الحديث، فإذا صحّ سماعه من شيخه، وأنّه لا يكذب ولا يقول: حدّثني فلان، وهو لم يحدّثه، أصبحوا يطلقون عليه كلمة: «ثقة» فتراهم يقولون: «فلان ثقة لا يدري ما الحديث» أي: ثقة في دينه (2)
__________
(1) انظر «الثقات» لابن حبان (1/ 13) و «لسان الميزان» (1/ 14) وقد سبق تفصيل ذلك والله أعلم.
(2) في «سير أعلام النبلاء» ترجمة ابن خلاد الشيخ الصدوق المحدّث أحمد بن يوسف بن خلاد النصيبي: «قال الخطيب: كان لا يعرف شيئاً من العلم غير أن سماعه صحيح، وقال أبو نعيم: كان ثقة وكذا وثّقه أبو الفتح بن أبي الفوارس وقال: لم يكن يعرف من الحديث شيئاً، قال الذهبي – رحمه الله – قلت: فمِن هذا الوقت بل وقبله صار الحفّاظ يطلقون هذه اللفظة على الشيخ الذي سماعه صحيح بقراءة متقن وإثبات عدل وترخصوا في تسميته بالثقة، وإنّما الثقة في عرف أئمة النقد كانت تقع على العدل في نفسه المتقن لما حمله، الضابط لما نقل، وله فهم ومعرفة بالفن فتوسع المتأخرون. اهـ (16/ 70).
هذا ومما يدل على قول الذهبي – رحمه الله – ما قاله العلامة المعلمي اليماني في كتابه «التنكيل» (ص:259) قال: فأمَّا استعمال كلمة «ثقة» على ما هو دون معناها المشهور فيدل عليه مع ما تقدم أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف، قال أبو زرعة في عمر بن عطاء بن وراز «ثقة لين» وقال ابن سعد في جعفر بن سليمان الضبعي «ثقة وبه ضعف»، وقال يعقوب بن شيبة في الربيع بن صبيح: «صالح صدوق ثقة ضعيف جداً» إلى آخر ما ذكره – رحمه الله – فليراجع. وانظر كذلك ما ذكره المؤلف – حفظه الله تعالى – في (شفاء العليل» (338 - 339) والله أعلم.(1/117)
وفي سماعه، ولَمّا كانت كلمة: «الثقة» تطلق على الثقة في الدين والعدالة، كان لا بد من التنصيص على العدالة والضبط في التعريف، والله أعلم.
س 18: ما الفرق بين الشذوذ وزيادة الثقة؟
ج 18: الشذوذ: «مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه» (1) وأمّا زيادة الثقة، فإذا كان الذي روى الزيادة مساوياً، أو مقارباً، أو أعلى من الذي لم يروها في الوصف من ناحية الحفظ والضبط، وفي العدد من ناحية الكثرة والقلّة، كانت الزيادة مقبولة، فإذا اختلف على الزهري: اثنان من تلامذته رويا الحديث عنه بزيادة، واثنان رويا الحديث بدون هذه الزيادة، وكلا الفريقين سواء في العدد والوصف، ففي هذه الحالة نقول: زيادة ثقة، وهي كالحديث المستقل، لأنَّك لا تستطيع أن توهِّم أحدهما من أجل أنّ مثله روى بخلافه؟ أما إذا كان راوي الناقصة أعلى منه أو أكثر عدداً فتكون الزيادة شاذّة، (2)
__________
(1) سبق ذلك في السؤال رقم (2).
(2) قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/ 690): وقال ابن خزيمة في «صحيحه»: لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفّاظ، ولكنّا نقول: إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان فروى حافظ عالم بالأخبار زيادة في خبر ققبلت زيادته فإذا تواردت الأخبار فزاد وليس مثلهم في الحفظ زيادة لم تكن تلك الزيادة مقبولة.
وقال الترمذي في أواخر «الجامع»: وإنّما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه.
وفي سؤالات السهمي للدّارقطني: سئل عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات؟.
قال: ينظر ما اجتمع عليه ثقتان فيحكم بصحّته، أو ما جاء بلفظة زائدة، فتقبل تلك الزيادة من متقن، ويحكم لأكثرهم حفظاً وثبتاً على من دونه، وقال ابن عبدالبر في (التمهيد»: «وإنّما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبت عنه وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ؛ لأنّه كأنّه حديث آخر مستأنف، وأمّا إذا كانت الزيادة من غير حافظ، ولا متقن، فإنّها لا يلتفت إليها، فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة، إنّما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عدداً منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان في الأصل صدوقاً فإن زيادته لا تقبل.
وهذا مغاير لقول من قال: زيادة الثقة مقبولة وأطلق والله أعلم. اهـ.(1/118)
هذا من حيث التقعيد في الجملة.
وابن حزم – رحمه الله – لا يقول بالحديث الشاذ، ويقول: رواية العدل لا بدّ من قبولها، وقد قامت الأدلة بقبول خبر الواحد (1)،
__________
(1) قال أبو محمد بن حزم – رحمه الله – في «الإحكام» (1/ 108): والقسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إن اتّصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضاً. اهـ.
فائدة:
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/ 690 - 693): واحتجّ من قبل الزيادة من الثقة مطلقاً بأن الراوي إذا كان ثقة وانفرد باحاديث من أصله كان مقبولاً فكذلك انفراده بالزيادة، وهو احتجاج مردود؛ لأنّه ليس كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولاً ... ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر لأنَّ تفرده بالحديث لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات إذا لا مخالفة في روايته لهم بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أتقن منه حفظاً وأكثر عدداً فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته ومبنى هذا الأمر على غلبة الظن، هذا وقد أطال الحافظ في عرض أدلة من أطلق قبول الزيادة وأجاب على ذلك فليراجع، والله أعلم.(1/119)
ولكن أهل العلم يستدلون على صحة قولهم بقصة ذي اليدين، وذلك لما سها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صلاته فخرج من الصلاة، والنّاس قد سكتوا جميعاً، وقالوا: لعلّها قصرت الصلاة، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشرع لنا، وربَّما أنّه نزل عليه تشريع جديد بأن الصلاة تكون قصيرة، فقام رجل يقال له ذو اليدين، فقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: «لَم تقصر ولم أنس» قال: إنَّك ما صلّيت إلا ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأصحابه: «أحق ما يقول ذو اليدين؟»، قالوا: نعم، فقام وصلّى بهم ركعتين، وسجد للسهو (1).
الشاهد من هذا أنَّ خبر ذي اليدين لم يقبله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَمّا كان منفرداً به، والجماعة لم يذكروه، - فحين ذاك – سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أحق ما يقول ذو اليدين؟» فهذا الذي نقوله، فنأتي للجماعة ونقول: هل الذي قاله فلان حق؟.
وتخطئة الراوي أولى من تخطئتهم (2).
فإن قيل: إنَّ بعض طلبة العلم يقول: الزيادة تقبل إلا أن تكون منافية لأصل الحديث، فإذا كانت منافية لأصل ما سيقت له، فحين ذاك لا تقبل، أمّا إذا أمكن الجمع بينهما على طريقة التخصيص مع العموم، أو التقييد مع المطلق فتقبل.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم: (482) ومسلم برقم: (573) المؤلف.
(2) قال ابن رجب – رحمه الله – في «فتح الباري» (9/ 424) في الكلام على فوائد حديث ذي اليدين:
ومنها: أنّ انفراد الواحد من بين الجماعة بشيء لا يمكن في مثله أن ينفردَ بعلمه عنهم يتوقف في قوله حتى يتابعه عليه غيره، وهذا أصل لقول جهابذة الحفّاظ: إنَّ القول قول الجماعة دون المنفرد عنهم بزيادة، ونحوها، لا سيّما إن كانوا يقولون إنَّ زيادة الثقة مقبولة مطلقاً وليس ذلك بشيء فإذا توبع على قوله اعتمد عليه ... إلخ اهـ. وانظر كلام الصنعاني – رحمه الله – في «بغية الآمل» (ص:106).(1/120)
قلت: وهذا قول للحافظ ابن حجر (1)، وله قول آخر يردها لمجرد التفرد (2).
والذي ينظر في كتب العلل، والكتب التي اعتنت بهذا الشأن، يجد أنَّ العلماء يعلون اللفظة الزائدة في الحديث، وإن كان معناها لا ينافي الأصل الذي سيقت له، فمثلاً حديث: «صدقة الفطر صاع من بُرِّ، وصاع من تمر ... » إلى آخر الحديث، وفيه: «على كل نفس حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين» أخرجه البخاري (1503)، ومسلم (984). فزيادة: «من المسلمين» تفرد بها مالك – رحمه الله تعالى – والعلماء أنكروا على مالك هذه الزيادة، مع أنَّ هذه الزيادة لا تنافي الأصل الذي سيقت له.
والعلماء الذين دافعوا عن مالك، ما قالوا: إنَّ هذه الزيادة لا تنافي الأصل، وإنَّما قالوا: إنَّ مالكاً توبع عليها، فأثبتوا بالمتابعة هذه الزيادة (3).
__________
(1) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النزهة» (ص:95) فقال: وزيادة راويهما أي: الصحيح والحسن؛ مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة.
لأنَّ الزيادة إمّا أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقاً؛ لأنَّها في حكم الحديث المُستقل الذي ينفردُ به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره.
وإما أن تكون منافية بحيث يلزمُ من قبولها ردُّ الرواية الأخرى، فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها، فيقبل الراجح ويُردُ المرجوح ... إلخ. اهـ وانظر «النكت» (687 - 702) والله أعلم.
(2) انظر «النكت» (688 - 692).
(3) انظر كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «فتح الباري» (3/ 369 - 370) رقم (1504)، باب «صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين»، وكذا «النكت» (2/ 696 - 700).(1/121)
وأوضح من ذلك، الحديث الذي في «صحيح مسلم» في كيفية الصلاة، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «إذا قرأ فأنصتوا»، (1) أعلَّ الحفّاظ هذه الكلمة بالرغم أنّها تناسب وتلائم الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ولا تنافي الأصل الذي سيقت فيه، وهناك من ينفي شذوذها أصلاً، (3) وأيضاً زيادة أخرى في حديث أخرجه مسلم – رحمه الله – في ولوغ الكلب أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أُولاهن، أو إحداهن، أو الثامنة بالتراب» (4).
__________
(1) مسلم (1/ 304) ترقيم عبدالباقي.
(2) سورة الأعراف، الآية: 204.
(3) قال النووي – رحمه الله – في «شرحه على صحيح مسلم» (4/ 122): واعلم أنَّ هذه الزيادة وهي قوله: «وإذا قرأ فأنصتوا» مما اختلف الحفاظ في صحّته فروى البيهقي في «السنن الكبرى» عن أبي داود السجستاني أنَّ هذه اللفظة ليست محفوظة، وكذلك عن يحيى بن معين وأبي حاتم الرازي والدّارقطني والحافظ أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم أبي عبدالله.
قال البيهقي: قال أبو علي الحافظ: هذه اللفظة غير محفوظة، قد خالف سليمان التيمي جميع أصحاب قتادة، واجتماع هؤلاء الحفاظ على تضعيفها مقدم على تصحيح مسلم لا سيّما ولم يروها مسندة في صحيحه والله أعلم. اهـ.
وانظر تعليق شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله – على ذلك في «التتبع» (ص:171).
(4) أصل الحديث متّفق عليه، وقد تكلّمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» كتاب العلم برقم (64) المؤلف.(1/122)
وفي بعض الروايات زيادة في مسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليرقه»، والعلماء ضعّفوا كلمة «فليرقه» هذه مع أنَّه لا يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب إلا بإراقة ما فيه (1).
__________
(1) في «فتح الباري» للحافظ ابن حجر – رحمه الله – (1/ 330 - 331): قال النسائي: لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على زيادة فليرقه. وقال حمزة الكناني: أنّها غير محفوظة، وقال ابن عبدالبر لم يذكرها الحفّاظ من أصحاب الأعمش كأبي معاوية وشعبة، وقال ابن مندة: لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإسناد ... إلخ اهـ.(1/123)
والذي يقرأ في كتب العلل، ويتتبّع هذه المسألة يجد أنَّ العلماء يضعِّفون الزيادة لمجرد مخالفة راويها من هو أوثق منه، سواء في العدد، أو في الوصف، والمنزلة، (1) وبهذا يكون قد ظهر الفرق بين الشذوذ وزيادة الثقة، فزيادة الثقة مقبولة إذا كان رواتها ورواة الأصل سواء، أو قريباً من السواء، أو هم أوثق ممن لم يروها، وعكسه فهو الشاذ، فالمقبول محفوظ، والمردود شاذ.
__________
(1) في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (2/ 93) نقل عن النيموي في «آثار السنن» بعد ذكره لحديث هلب الطائي رواه أحمد بإسناد حسن، قال لكن قوله: «على صدره» غير محفوظ، يعني: أنّه شاذ، وبيَّن وجه كونه شاذاً غير محفوظ أن يحيى بن سعيد القطان خالف في زيادة قوله: «على صدره» غير واحد من أصحاب سفيان وسماك فإنّهم لم يذكروا هذه الزيادات، وعرف الشاذ بأنه ما رواه الثقة مخالفاً في نوع من الصفات لما رواه جماعة من الثقات، أو من هو أوثق منه وأحفظ وأعم من أن تكون المخالفة منافية للرواية الأخرى أم لا ... ثم ذكر أنّه مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وابن معين والبخاري وغيرهم من المحدّثين المتقدّمين واستدل عليه بأنَّ هذا يفهم من صنيعهم في زيادة (ثم لا يعود» في حديث ابن مسعود، و «فصاعداً» في حديث عبادة، و «إذا قرأ فأنصتوا» في حديث أبي موسى وأبي هريرة، وكذلك في كثير من المواضع حيث جعلوا الزيادات شاذة مع أنَّ هذه الزيادات غير منافية لأصل الحديث اهـ بتصرف وقد نصر المباركفوري – رحمه الله – مذهب الفقهاء والأصوليين في اشتراط المنافة وقد أجاب عليه وعلى أصحاب هذا القول المؤلف – حفظه الله تعالى – في الجزء الثاني من هذا الكتاب فجزاه الله خيراً والحمد لله على إنعامه.(1/124)
وأمّا إذا كان المخالف فيه ضعف، فيكون حديثه منكراً، والرواية الأخرى تكون معروفة. (1)
••بقي سؤال: هل الشاذ يستشهد به؟
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النزهة» (ص:99): وإن وقعت المخالفة له مع الضعف فالراجح يقال له: المعروف، ومقابله يقال له: المنكر مثاله ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن حبيب وهو أخو حمزة بن حبيب الزيات المقري عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «من أقام الصلاة وآتى الزكاة وحجّ البيت وصام وقرى الضيف دخل الجنّة».
قال أبو حاتم: «هو منكر» لأنَّ غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفاً وهو المعروف وعرف بهذا أنّ بين الشاذ والمنكر عموماً وخصوصاً من وجه لأنَّ بينهما اجتماعاً في اشتراط المخالفة، وفتراقاً في أنِّ الشاذ رواية ثقة أو صدوق والمنكر رواية ضعيف وقد غفل من سوى بينهما، والله أعلم.(1/125)
الجواب: لا يستشهد بالشاذ، لأنَّك لا تحكم على الحديث بأنَّه شاذ إلا إذا جمعت الطرق، وبان لك أنَّ الرجل هذا قد خالف من هو أوثق منه، فإذا جاء من طريق أخرى شاذة أيضاً، فهذا الشاذ لا يستشهد به؛ لأنّهما خالفا من هو أوثق منهما عدداً، أو وصفاً من باب أولى، والله أعلم. (1)
__________
(1) ومما يدل على ذلك ما قاله الترمذي – رحمه الله – في «سننه» (5/ 758) كتاب العلل: «وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنّما أردنا به حسن إسناده عندنا» كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجهٍ نحو ذاك» وفي ذلك دلالة على عدم الاستشهاد بالشاذ لاحتراز الترمذي – رحمه الله تعالى -، وممن ذهب إلى ذلك – أيضاً – ابن الصلاح حيث قال: « ... وجواب ذلك أنّه ليس كل ضعفٍ في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ناشئاً من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنّه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه له وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب أو كون الحديث شاذاً وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة، والبحث فاعلم ذلك فإنّه من النفائس العزيزة والله أعلم اهـ من «التقييد والإيضاح» (ص:50).
هذا وقد نقل ابن الوزير – رحمه الله – عبارة ابن الصلاح في قوله: (أو كون الحديث شاذاً) وشرح ذلك الصنعاني كما في «التوضيح» (1/ 174 - 175) فقال: أي: أن الجابر يتقاعد عن زلل الضعف عن حديث نشأ ضعفه من اتهام رواته بالكذب أو من كونه حديثاً شاذاً ... إلخ اهـ.
أقول: فإن قيل ما هو الشاذ عند ابن الصلاح فالجواب: ذكر ذلك الصنعاني – رحمه الله – فقال: ذكر ابن الصلاح كلام الأئمة في الشاذ وتعقبه ثم قال فنقول إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان ما انفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط – كان ما انفرد به شاذاً مردوداً وإن كان لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره وإنّما هذا أمر رواه هو ولم يروه غيره – فينظر في هذا الراوي المنفرد: فإن كان عدلاً حافظاً مؤثوقاً بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد به. انتهى.
قال الصنعاني – رحمه الله -: فمراده هنا بالشاذ الذي لا ينجبر هو القسم الأول. اهـ والله أعلم.(1/126)
س 19: هل هناك فرق بين قولهم: «هذا حديث منكر» وبين قولهم في أحد الرواة: «منكر الحديث»؟
ج 19: نعم، هناك فرق بين قولهم: «هذا حديث منكر»، وبين قولهم: «فلان منكر الحديث»، فإنَّ الحديث المنكر لا يستشهد به، (1)
__________
(1) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح علل الترمذي» (ص:85): في رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ وقد سأله – أي: سأل أحمد – ترى أن نكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبداً منكر، قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليهم في وقت كأنه لم يرَ بالكتابة عنهم بأساً. اهـ.
فانظر إلى عبارة الإمام أحمد – رحمه الله -: المنكر أبداً منكر، مع إذنه بالكتابة عن الضعفاء مما بيّن عدم الاعتبار بالمنكرات، وعدم دخولها في باب الشواهد والمتابعات بخلاف رواية الضعفاء الذين خفّ ضعفهم، والله أعلم.(1/127)
لكن الرجل الذي يقولون هذه العبارة، ويقصدون حديثاً واحداً من أحاديثه، وقد يطلقها بعضهم، ويقصد بذلك أنه ينفرد عن غيره من الثقات بأحاديث، وإن كان محتجّاً به في هذه الأحاديث، كما يطلقها أحياناً الإمام أحمد – رحمه الله – (1) ويحيى بن سعيد القطان والبرديجي، وغيرهم، وهذه مسألة قد بيَّنت الكلام عليها في «شفاء العليل» في باب المصطلحات الخاصة للأئمة (2)، لكن الذي نحن بصدد الكلام عنه الآن، أن قولهم: «فلان منكر الحديث» ليس معناه أن كل ما يرويه منكر، أو أنّه متروك الحديث، بل يكون ذلك لوجود بعض المناكير في روايته، فيحكم على حديثه بالنكارة، وليس معناه أ، كل الذي رواه ينطبق عليه هذا الحكم، بخلاف قولهم: «الحديث الفلاني منكر» فهذا لا يستشهد به.
والصواب أو الأصح من أقوال أهل العلم، أن قولهم في الراوي: «منكر الحديث» يصلح في الشواهد، والمتابعات، وقد أشار بل صرّح بذلك العراقي في منظومته، (3) ونجد العلماء كثيراً ما يقولن: «منكر الحديث لا يحتج به إذا انفرد». (4)
__________
(1) ومن ذلك ما جاء في «الميزان» ترجمة محمد بن إبراهيم التيمي المدني (6/ 33) قال أحمد بن حنبل: في حديثه شيء يروى مناكير، أو قال: أحاديث مناكير، قال الذهبي وثّقه الناس، واحتجّ به الشيخان وقفز القنطرة. اهـ.
(2) انظر «الشفاء» (310 - 311) وانظر كذلك «شرح العلل» لابن رجب – رحمه الله – (ص:252 - 255) والله أعلم.
(3) قال العراقي – رحمه الله -:
ليس بشيء لا يساوي شيئاً ... ثم ضعيف وكذا إن جيئا
بمنكر الحديث أو مضطربه ... واهٍ وضعّفوه لا يحتج به
وقال – رحمه الله – في شرحه للألفية المسمى بـ «التبصرة والتذكرة» (2/ 10 - 12): وكل من ذكر من بعد شيئاً أي: من بعد قولي: (لا يساوي شيئاً) فإنّه يخرج حديثه للاعتبار وهم المذكورون في المرتبة الرابعة والخامسة ... إلخ.
(4) ومن التراجم التي تدل على ذلك، ما جاء في «تهذيب التهذيب» (4/ 289) ترجمة سلامة بن روح الأموي.
قال فيه أبو زرعة: «ضعيف منكر الحديث يكتب حديثه على الاعتبار».(1/128)
وأزيد المسألة إيضاحاً فأقول: معلوم أَنَّ الإمام البخاري – رحمه الله – لطيف العبارة في التجريح، ومعنى أنَّه لطيف العبارة في التجريح: أنَّه يستخدم عبارات خفيفة الجرح، ويقصد بها الجرح الشديد (1)، ورأيناه يقول: كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه، (2) وهذا مع ما فهمنا من أنَّه لطيف العبارة في التجريح، يدل على أن هذه الكلمة خفيفة الجرح، وأطلقها البخاري في الجرح الشديد.
فنحن نجد بعض طلبة العلم، بل وبعض الأفاضل، يقول: إنَّ من قيل فيه: «منكر الحديث» فلا يستشهد به، فأقول: إنَّ هذا القول بعيد عن الصواب، والذي يقرأ في كتب التراجم وكتب أهل الجرح والتعديل يجدهم أيضاً يصرحون بأنَّ من قيل فيه: «منكر الحديث» يكتب حديثه، ولا يحتج به، ولذلك أدخلتها في «شفاء العليل» في المرتبة الثالثة من مراتب التجريح، تلك المرتبة التي يستشهد بأهلها، وهي آخر مراتب الشواهد، نعم هناك في بعض التراجم ما يخالف هذا لكنّه نادر، وقد فصلته في موضعه.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «هدي الساري» (ص:480): وللبخاري في كلامه على الرجال توقٍ زائد وتحرٍّ بليغ يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل فإن أ: ثر ما يقول: سكتوا عنه، فيه نظر تركوه، ونحو هذا وقلّ أن يقول كذب أو وضّاع، وإنَّما يقول كذبه فلان رماه فلان، يعني: الكذب ... إلخ.
وقال الحافظ ابن كثير كما في «اختصار علوم الحديث» (ص:106): ... والبخاري إذا قال في الرجل «سكتوا عنه» أو «فيه نظر» فإنّه يكون من أدنى المنازل وأردئها عنده ولكنّه لطيف في التجريح اهـ والله أعلم.
(2) جاء في «الميزان» ترجمة أبان بن جبلة الكوفي، قال البخاري: «منكر الحديث» قال الذهبي: ونقل ابن القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه: «منكر الحديث» فلا تحل الرواية عنه (1/ 6).(1/129)
بقي أن يقال: هناك من يطلق: «فلان منكر الحديث» على مجرد التفرد كما ذكرت آنفاً، وهناك من يطلق قولهم، «حديث منكر» على الحديث الموضوع الباطل الذي فيه نكارة في معناه وفي متنه، (1) لكن هذه مواضع يستطيع طالب العلم اليقظ أن يتنبه لها في موضعها، فيستطيع بفضل الله عزّ وجلّ أن يميز بينها والله أعلم.
س 20: ما الفرق بين الإدراج والوضع؟
__________
(1) قلت: ومن الأمثلة على إطلاق المنكر على الموضوع أو الباطل ما ذكره الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – في «السلسلة الضعيفة» (1/رقم 170) (ص:206 - 207) في حديث «إنَّ آدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أهبطه الله – تعالى – إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب! (أتجعل فيها من يفسد فيها ... ) الآية ... إلخ.
قال الشيخ – حفظه الله تعالى -: «باطل مرفوعاً» وذكر ضمن بحثه فيه قول ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 69 - 70) «سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر» وفي نفس المصدر (ص:181 - 182) حديث ثلاث لا يعاد صاحبهن ... الحديث برقم (150) قال الشيخ موضوع ... وذكره الحافظ في «التهذيب» من منكرات الخشني، وقال أبو حاتم: هذا باطل منكر، قال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة: ولفظ: «منكر» كثيراً ما يطلقونه على (الموضوع) يشيرون بذلك إلى نكارة معناه مع ضعف إسناده وبطلان ثبوته كما تراه شائعاً منتشراً في كتب «الموضوعات» وكتب الرجال المجروحين، مثل كتاب «ميزان الاعتدال» للحافظ الذهبي وكتاب «تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة» لابن عراق، وغير هذين الكتابين ... إلخ.(1/130)
ج 20: الحديث المدرج: هو قول غير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث النبوي ويسوقه مساق الحديث المرفوع، ويكون هذا القول غالباً من رواة الحديث، الصحابي فمن دونه، إمّا أن يكون تفسيراً لكلمة، وهو الغالب، وإما أن يكون تكميلاً لكلام ذكره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، (1) كما جاء في قول ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمة، وأنا قلت أخرى (2)، وقد جاءت عنه رواية مدرجة بالكلمتين دون تمييز.
__________
(1) الإدراج: لف الشيء في الشيء وأدرجت المرأة صبيها في معاوزها، والدرج لف الشيء، يقال: دَرَجْتُه وأدْرجتُه، ودَرْجته، والرباعي أفصحها، ودرج الشيء في الشيء يدرجُه وأدْرَجُه، طواه وأدخله ويقال لما طويته، أدرجته؛ لأنّه ينطوي على وجهه «اللسان» (2/ 269) قال الذهبي في اصطلاحه: هي ألفاظ تقع من بعض الرواة متّصلة بالمتن لا يبين للسامع إلا أنّها من صلب الحديث ويدل دليل على أنّها من لفظ راوٍ بأن يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة تفصل هذا من هذا «الموقظة» (ص:53 - 54)، وقال الحافظ في «نزهته» (ص:48): أن يدخل في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئاً من كلام بعض الرواة فيتوهم من سمع الحديث أ، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(2) حديث عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من مات يشرك بالله شيئاً دخل النّار» وقلت: «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة» متّفق عليه. انظر: «اللؤلؤ والمرجان» (ص:17 رقم 58).(1/131)
والفرق بين الموضوع، وبين المدرج: أن الذي ذكر المدرج ما قصد الفرية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بخلاف الموضوع فإنَّ واضعه قد افترى واختلق على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لم يقله (1)، وإن تأول بعضهم في ذلك أنَّه يخدم الدين، فالذي أدخل اللفظة المدرجة أدخلها وقد يبيّنها، كما جاء عن ابن مسعود في الأثر السابق، وإن لم يبيِّنها فقد يكون قصده خدمة الشريعة، وغالباً ما يكون مصيباً، والمدرج يعرف بجمع الطرق، فإذا جمعت الطرق تبين لك هذا القول هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو من كلام أحد الرواة؟ (2)
وفرق آخر: أنَّ الذي يدخل اللفظة المدرجة هو في الغالب من الثقات، أو من الأئمة الذين يتصدون للتفسير والبيان.
__________
(1) هكذا عرّفه ابن الصلاح – رحمه الله تعالى – في «مقدمته» والموضوع وهو المختلق المصنوع (ص:98) قال الحافظ في «نكته» هذا تفسير بحسب الاصطلاح أمّا من حيث اللغة فقد قال أبو الخطاب ابن دحية الموضوع الملصق وضع فلان على فلان كذا أي ألصقه به، وهو أيضاً الحط والإسقاط والأول أليق بهذه الحيثية، والله أعلم (2/ 838).
(2) قال الحافظ: والطريق إلى معرفة ذلك من وجوه:
1 – أن يستحيل إضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
2 – أن يصرّح الصحابي بأنّه لم يسمع تلك الجملة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
3 – أن يصرح بعض الرواة بتفصيل المدرج فيه عن المتن المرفوع فيه بأن يضيف الكلام إلى قائله، المصدر السابق (2/ 812).
(تنبيه):
ولا يصح الحكم على لفظة بالإدراج إلا بعد توفر هذه الشروط أو أن يحكم عليها النقاد بذلك، وقد نبّه على ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «الفتح» (2/ 229) ... قال: وأمّا رد الطّحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة فجوابه أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه ولا سيّما إذا روي من وجهين. اهـ.(1/132)
بخلاف الموضوع، فالذي يضعه رجل كذاب مفتر، على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله المستعان.
س 21: ما الفرق بين قولهم: «فلان يسرق الحديث»، و «فلان كذَّاب»، و «فلان وضَّاع»؟
ج 21: هذه الألفاظ الثلاثة بينها فروق، فلا بد من تبيينها:
فالوضَّاع: هو كذّاب وزيادة؛ لأنّه افترى واختلق على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مما عملته يداه، ولم يكن ناقلاً عن غيره. (1)
وأمّا الكذّاب: فهو الذي يدعي سماع ما لم يسمع، ولقاء من لم يلق، مع أنَّ هذه الأحاديث التي يرويها الكذّاب قد تكون مشهورة عند أئمة الحديث، أو رواته من غير طريق هذا الكذاب. (2)
__________
(1) انظر «مقدمة ابن الصلاح» (ص:98).
(2) انظر «شفاء العليل» الباب الخامس (ص:459 - 460) ويتجه الاتهام بالكذب إلى الراوي في حالتين كما ذكر ذلك الحافظ – رحمه الله تعالى -:
الأولى: أن ينفرد الراوي برواية ما يخالف أصول الدين وقواعده العامة إذا لم يكن في الإسناد من يتهم بذلك غيره.
الثانية: أن يعرف عنه الكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي، وحديث من هذا حاله يسمّى متروك، انظر «نزهة النظر» (44 - 45).
قلت: وقد يروي الراوي الأحاديث الكاذبة التي لم يسمعها ويكون بلاءه الغفلة لا الكذب، كما جاء في ترجمة عبّاد بن كثير البصري الثقفي، كان متعبداً. قال أحمد: «روى أحاديث كاذبة لم يسمعها وكان من أهل مكة وكان صالحاً، قال أبو طالب: قلت: فكيف كان يروي ما لم يسمع؟ قال: البلاء الغفلة» (6/ 85).(1/133)
وأمّا السَّارق: فهو كذَّاب لكن من نوع خاص من الكذب، وذلك أنَّه يسرق الأحاديث الغريبة، أعني الأحاديث التي تفرد بها أحد الرواة، سواء كان ثقة أو ضعيفاً، ورأى أنَّ المحدثين يرحلون فأخذته الغيرة المذمومة، فادعاه لنفسه، لأنَّ المحدثين يرحلون من أجل الحديث الغريب أو الحديث العالي، وإن كان في هذا الحديث ضعف، فإنَّهم يرحلون من أجله، وينشطون له، فيأتي السارق، ويجد الرواة والمحدثين يجتهدون، ويرحلون لهذا الراوي، فتغار نفسه، ويدخلها والعياذ بالله من حظوظ الشيطان، وحظوظ النفس الأمّارة بالسوء، فيقفز أو يثب على هذا الحديث، ويدَّعيه لنفسه، ويدَّعي أنَّه لقي شيخ هذا الرجل، وأنَّه وهذا الشيخ الذي يروي هذا الحديث سواء في المنزلة، أو في الطبقة، بل قد يعلو في الإسناد من أجل أن يثير في الناس رغبة الرحلة إليه.(1/134)
فالسّارق: كذّاب، لكن من نوع خاص، وهو أنَّه يسرق الأحاديث الغريبة. (1)
__________
(1) ذكر العلامة المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» (ص:601): ذكر في ترجمة فهد بن عوف أبي ربيعة، وهو ممن رمي بالسرقة: ذكر عنه قصّة يرويها أبو زرعة – قال المعلمي -: حاصلها أنَّ أبا إسحاق الطالقاني ورد البصرة فحدّث من حديث ابن المبارك بحديثين غريبين، أحدهما عن وهيب بسنده، والآخر عن حمّاد بن سلمة بسنده، فبعد مدّة يسيرة حدّث فيها – أي: فهد بن عوف – بالحديث الأول، عن وهيب بن خالد بذاك السند، والثاني عن حماد بن سلمة بسنده فرموا فهداً بسرقة الحديثين، وأنّه إنّما سمعهما من الطالقاني عن ابن المبارك عن وهيب وعن حمّاد فحدّث بها عن وهيب وعن حماد، وغلط مع ذلك فروى الأول عن وهيب بن خالد، وإنّما وهيب شيخ ابن المبارك وهيب بن الورد، والحجة في رميه بسرقة الحديث الثاني؛ أنّه حديث غريب لم يكن في كتب حماد بن سلمة، ولا رواه عن غير ابن المبارك، حتى حدث به الطالقاني، عن ابن المبارك فوثب عليه فهد ... إلخ، وقد ذكر – رحمه الله – في (ص:486) أن من أسباب السرقة الغرام بدعوى العلو. اهـ.
وانظر في ذلك أيضاً صنيع وتصريح الحافظ ابن عدي – رحمه الله تعالى – في «كامله» (2/ 576 - 577) ترجمة جعفر بن عبدالواحد الهاشمي، (5/ 1722) ترجمة عمرو بن إسماعيل بن مجالد الكوفي، (7/ 2493) ترجمة النضر بن طاهر، وفيها وفي غيرها من التراجم التي لم أذكرها دلالة إلى ما ذهب إليه الشيخ – حفظه الله تعالى – من أنَّ السارق هو الذي يسرق الأحاديث الغريبة التي تفرّد بها أحد الثقات عن شيخه فيرويها عن ذلك الشيخ ويدّعيها لنفسه، هذا وقد تطلق السرقة كذلك على من ركب الأسانيد على المتون.
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (11/ 504): قال أبو أحمد العسال: سمعت فضلك، يقول: دخلت على ابن حميد وهو يركب الأسانيد على المتون، قال الذهبي: قلت: آفته هذا الفعل، وإلا فما اعتقد فيه أنّه يضع متناً، وهذا معنى قولهم «فلان سرق الحديث». اهـ.
وفي «التدريب» (1/ 291) المقلوب هو قسمان:
الأول: أ، يكون الحديث مشهوراً براوٍ فيجعل مكانه آخر في طبقته نحو حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع ليرغب فيه لغرابته، أو عن مالك جعل عن عبيدالله بن عمر وممن كان يفعل ذلك من الوضّاعين حمّاد بن عمرو النصيبي، وأبو إسماعيل إبراهيم بن أبي دحيّة اليسع، وبهلول بن عبيد الكندي، قال ابن دقيق العبد: وهذا هو الذي يطلق على راويه أنّه يسرق الحديث. اهـ وانظر «الموقظة للذهبي» (ص:60).(1/135)
وأمّا الكذّاب: فإنّه لا يبالي أحدّث بأحاديث سواء سمعها، أو لم يسمعها، سواء كانت مشهورة، أو غريبة فلا يبالي.
وأمّا الوضَّاع: فهو الذي يفتري على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما لم يقل، عياذاً بالله من الخذلان، والله المستعان.
س 22: ما الفرق بين الإرسال الخفي والجلي والتدليس؟
ج 22: الإرسال الجلي: رواية الراوي عن من لم يلقه، والتعبير بهذه العبارة «عن من لم يلقه» أدق لشموله حال الراوي سواء أدرك شيخه، أو لم يدركه، عاصره أو لم يعاصره، أمّا قوله: «روايته عن مَنْ لم يُعاصره» كلام غير دقيق؛ لأنَّه قد يعاصره، ولا يلقاه، فلا زال الإرسال موجوداً. (1)
فالصواب أن نقول: رواية الراوي عن من لم يلقه، سواء عاصره، أو أدركه، وسواء لم يعاصره، أو لم يدركه.
وأمّا الإرسال الخفي: فهو رواية الراوي عن الشيخ الذي لقيه، ولكنه لم يسمع منه شيئاً (2)،
__________
(1) قلت: ومثال ذلك رواية المخضرمين عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم فهما وإن عاصروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فروايتهما عنه مرسلة إرسالاً جليّاً وذلك لعدم تحقق اللقاء والله أعلم.
(2) هكذا عرفه الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «طبقات المدلسين» (ص:2) قال: وإذا روى عمن عاصره ولم يثبت لقياه له شيئاً بصيغة محتملة فهو الإرسال الخفي، ومنهم من ألحقه بالتدليس والأولى التفرقة لتتميز الأنواع.
وقلت: وإذا روى من هذه حالته عن شيخه مباشرة بصيغة محتملة فإنّا نحكم على حديثه بالإرسال وذلك لأمرين:
الأول: عدم ثبوت سماعه منه.
الثاني: عدم تحقق إيهام السماع لمن يسمعه، وقد قطع هذا الإيهام جزم الحافظ باشتراط عدم السماع في قوله: «ولم يثبت لقياه له شيئاً».
ويخرج من ذلك من رأى الشيخ وأمكن لقاءه له ولم ينقل ما ينفي سماعه منه فروايته عنه متّصلة (في قول) وذلك من الثقة غير المدلس.
ويخرج كذلك من لقي الشيخ وسمع منه، وروى عنه ما لم يسمع موهماً السماع منه فروايته مدلسة لتحقق الإيهام بالسماع والله أعلم.
وانظر «النكت» للحافظ ابن حجر (2/ 614 - 615).(1/136)
فمن الممكن أن يلقي الراوي شيخه، لكن شيخه ليس مستعداً لتحديثه، أو به شُغل يحول دون عقدِه لمجلس من مجالس الحديث كالإملاء أو العرض، أو غير ذلك، فهذا اللقاء لا يفيد شيئاً، وهذا الإرسال مع اللقاء يكون خفيّاً (1)، واعلم أن من العلماء من يعبر باللقاء على السماع فيقولون: «فلان لقي فلاناً» أي: سمعه (2).
وإذا قرأت في كتاب «تهذيب التهذيب» – مثلاً – فإنَّه يأتي للمترجَم له، ويقول: روى عن فلان، وفلان، وروى عنه فلان وفلان، ويذكر تلامذته وشيوخه، والأصل في ذلك أنّه إذا لم ينص الحافظ ابن حجر – رحمه الله – أو أحد الأئمة على أنَّ الراوي المترجم له لم يسمع من الشيخ الفلاني، أو تلميذه الفلاني لم يسمع منه. فالأصل في الرواية اللقاء، والسماع، والاتّصال.
الشاهد من هذا: أنَّ الإرسال الخفي هو رواية الراوي عن الشيخ الذي لقيه ولكنّه لم يسمع منه شيئاً.
__________
(1) مثال ذلك ما جاء في «جامع التحصيل» ترجمة سليمان بن مهران الأعمش، وقد روى عن أنس وابن أبي أوفى وقال علي بن المديني لم يسمع من أنس إنّما رآه رؤيا بمكة يصلي خلف المقام فإنما طرق الأعمش عن أنس فإنّما يرويها عن يزيد الرقاشي عن أنس، وقال ابن معين كل ما روى الأعمش عن أنس فهو مرسل ... إلخ «جامع التحصيل» (188 رقم 258).
ومثله ما جاء في «العلل» لابن رجب، قال: قول أبو حاتم الرازي الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر رآه ولم يسمع منه ورأى عبدالله بن جعفر ولم يسمع منه، وأثبت أيضاً دخول مكحول على واثلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه، وقال: لم يصح له منه سماع وجعل رواياته عنه مرسلة «العلل لابن رجب» (ص:215).
(2) انظر المصدر السابق (ص:216 - 217).(1/137)
وبهذا نأتي إلى تعريف التدليس: وهو رواية الراوي عمن سمع منه بعض الأحاديث سماعاً صحيحاً، لكنّه سمع بعض الأحاديث الأخرى عنه بواسطة، وروى الحديث مسِقطاً للواسطة بصيغة توهم السماع (1)، ولذلك نجد كثيراً من العلماء قد عابوا التدليس، ولم يعيبوا الإرسال، فبينما نجد شعبة يقول: «لأن أزني أحبُّ إليَّ من أن أدلس» (2).
ونجد عبدالرزّاق يأتي عند أستار الكعبة، لما وجد أن المحدثين لا يأتون إليه، ثم يتضرّع إلى الله – عزّ وجلّ – فيقول: يارب! لماذا هذا؟ هل أنا مُدَلِّس، هل أنا كذا، هل أنا كذا؟ (3).
__________
(1) قال أبوبكر البزار: هو أن يرويه عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه من غير أ، يذكر أنّه سمعه منه، انظر «التقييد والإضاح» (ص:97) وبمثله عرفه أبو الحسن أبن القطان. انظر «النكت» (2/ 614).
(2) انظر «الكفاية» (508) والسؤال رقم (28) من هذا الكتاب.
(3) القصة في «تاريخ ابن معين» (ص:363) عباس: ثنا يحيى، قال بشر بن السَّري: قال عبدالرزاق: قدمت مكة مرة فأتاني أصحاب الحديث يومين، ثم انقطوا عني يومين أو ثلاثة، فقلت: يا رب! ما شأني؟ أكذّب أنا؟ أي شيء أنا؟ قال: فجاءوني بعد ذلك. اهـ، وانظرها أيضاً في «السير» (9/ 567) والقصة في الموضعين بدون الشاهد.
وفي «الكفاية» للخطيب (ص:510) بإسناده إلى الدوري، قال: حدّثني بعض أصحابنا، قال: قال عبدالرزاق: قدمت مكة فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فمضيت وطفت وتعلقت بأستار الكعبة، وقلت: يا رب! ما لي أكذّابٌ أنا؟ ... أمدلّسٌ أنا؟ ... قال فرجعت إلى البيت فجاءوني. اهـ.
وفيها الشاهد على ذم التدليس فإما أن يحمل المبهم في هذه الرواية على المصرح باسمه في الرواية السابقة، وإلا فيأخذ بالرواية التي ليس فيها إبهام ويكون الشاهد ليس ثابتاً، والله أعلم.(1/138)
ووكيع الذي روى حديثاً فقيل له: من الذي حدّثك به؟ قال: يا هذا إنّا لا نستجيز التدليس في الثوب، فكيف نستجيزه في الدين؟ (1) وغير ذلك من النصوص التي جاءت عن علماء الحديث في التشنيع على المدلسين، فوجدناهم يشنعون على المدلسين، ولم نجدهم يشنعون على الذين أرسلوا، بل يقولون: فلان عن فلان روايته مرسلة، وفلان مراسيله من مراسيل الصحابة، إلى غير ذلك.
فما وجدناهم يذمون الذين يرسلون، نعم، لأنَّ الذين يدلسون يُلبِّسون على غيرهم، والتدليس ضرْبٌ من الإيهام، أي فيه إيهام للسامع، فلمّا كان المستمع يعلم أنَّ هذا الشيخ قد لقي الذي يروي عنه، وسمع منه، فإنّه يحمل هذه العنعنة أو ما في معناها على السماع، أمَّا التلميذ إذا كان يعلم أنَّ هذا الشيخ لم يدرك أو لم يلق الشيخ الذي يروي عنه؛ فلا إيهام ولا تضليل عليه.
فمن قال الآن: قال ابن عباس – رضي الله عنهما – قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كذا وكذا، هل يدخل في خاطر أحد أنه يدلس عن ابن عباس؟! فمن المؤكد أنه لم يلق ابن عباس، ولا سمع، فالإيهام والتضليل والغش منفي هنا، فلا يستحق في هذه الحالة الذم، أمّا إذا أتي إلى شيخ قد عُلِم سماعه منه، ورحلته إليه، ثم يقول: قال الشيخ كذا، وكذا، فيستنكر أحد من الجالسين، ويقول: هل أنت سمعت منه؟ ونظراً للعدالة والأمانة، فإنه يقول: لا، لكن حدّثني فلان، فمن هنا يبدأ الطالب، فيخاف من الكلمة التي فيها إيهام، وليس فيها تصريح بالسماع.
__________
(1) ذكر الخطيب بسنده قال: كان وكيع ربّما قال في الحديث: حدّثنا وربَّما لم يقل، قال: فقلنا لجارٍ لنا يقال له: أبو الوفاء: كان لا يحسن شيئاً، سله لما يقول في بعض حدّثنا ولا يقول في بعض؟ قال: فتقدم إليه فسأله، قال: فقال له وكيع أما وجد القوم خطيباً غيرك، نحن لا نستحل التدليس في الثياب، فكيف في الحديث اهـ (ص:509).(1/139)
فحري بأن يُذم المدلسون، وأن لا يُعامل الذي أرسل بما يُعَامل به المدلسون، والله أعلم.
س 23: ما هي الأسباب التي تجعل الرواة يدلسون، أو ما هي الأسباب التي تحمل المدلسين على التدليس؟
ج 23: قد رأينا بعض العلماء المشاهير والأئمة الجهابذة قد وصِمُوا بهذه التهمة، تهمة التدليس، مثل سفيان الثوري، وقتادة، وابن جريح والحسن البصري والأعمش، ومثل هؤلاء الذين تدور عليهم أحاديث سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالعلماء لهم اعتذارات عن الأئمة، وهذا الأمر الذي أريد أن أوصي به إخواني جميعا، أننا إذا رأينا أحد الأئمة قد أخطأ في مسألة، فلا نتسرع في توهيمه وتخطئته؛ بل الواجب علينا أن نلتمس له ما استطعنا من الأعذار والمخارج، وليس معنى ذلك أن نتكلّف تكلُّفاً يخرج عن حد العقل والإنصاف، لا، ولكن قبل أن نُوهِّم هذا الإمام ينبغي علينا أن نبحث عن سبب، وفي «العلل» للإمام الدّارقطني، مسألة تؤيد هذا الكلام في الاعتذار عن الأئمة، فالإمام الدّارقطني في (ج5) من «العلل» ذكر حديثاً، وقد تكلّم بسبب هذا الحديث في الإمام سفيان الثوري، فهذا الحديث رواه الثوري، عن الأعمش، وخالف جمهور الأصحاب من أصحاب الأعمش، فقد رووه عن رجل، ورواه هو عن رجل آخر، فقال يحيى بن سعيد القطان: وقع في نفسي على الثوري.
انظروا، فليس من السهل تخطئة الأئمة، والتهجّم على العلماء الكبار، وليس من السهل أن أقول: أخطأ الثوري، أخطأ أحمد بن حنبل، أخطأ علي بن المديني.
ينبغي التريث في إطلاق هذه الكلمة، قال: فوقع في نفسي أنّ الثوري قد وهم إلى أن جاء مؤمل بن إسماعيل، وهو صدوق سيء الحفظ، وحدّثني أنَّ الثوري رواه عن الأعمش(1/140)
بوجه آخر يوافق فيه جمهور أصحاب الأعمش، قال فسُرَّ يحيى بذلك (1)، أي: لمّا وجد المخرج للإمام الثوري، ووجد العُذر الذي يدافع به عنه.
فالشاهد من هذا: أنَّه ليس من الهيِّن أن نقول: الإمام الفلاني أخطأ، وإنَّما ينبغي بقدر الإمكان أن يبحث الطالب، وأن يلتمس المخارج، وأن يجمع الطرق، وأن ينظر مَن مِن العلماء قد تجرأ بتخطئة هذا الإمام الكبير؟
فليس من المقبول أن يكون طالب العلم في حالة ابتداء الطلب، وعدم الأهلية الكاملة، وتراه يطلق لسانه على الأئمة الكبار، فيحيى بن سعيد القطان قد ذُكر أنّه من المتشددين في الجرح، ومع ذلك قال: وقع في نفسي على الثوري، فلما علم الطريق الأخرى التي تبرئ الثوري قيل: فسُرَّ يحيى بذلك، مع أن هناك مواضع وهموا فيها بعض الأئمة.
أرجع إلى الكلام عن الأسباب التي تحمل الرواة على التدليس، فمن ناحية الأئمة الكبار مثل سفيان الثوري، وغيره من الأئمة، ذكروا: أنّه كان يرى نشر الأخبار في الأمصار، وقد يدلس لسبب من الأسباب الآتية بعد، وهو مع ذلك مُقِلّ في التدليس.
__________
(1) جاء ذلك في السؤال رقم (825) (ص:210 - 211): سئل الدّارقطني فيه عن حديث ابن مسعود قال: «أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك ثم إنَّ الله – عزّ وجلّ – قدر أ، بلغنا من الأمر ما ترون ... » الحديث.
فقال: يرويه الأعمش واختلف عنه فرواه أبو معاوية، وحفص بن غياث وأصحاب الأعمش عن الأعمش عن عمارة عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله.
وخالفهم الثوري فرواه عن الأعمش، عن عمارة، عن حريث بن ظهير، عن عبدالله، قال يحيى القطان: كنّا نرى أن سفيان وهم فيه ورواية أخرى عنه فكنّا نظن أنَّ الثوري وهم فيه لكثرة من خالفه ثم قال يحيى: سمعت مؤملاً يحدّث في هذا بشيء لست أحفظه، قال عباس – أي: ابن يزيد – فقلت: ثنا مؤمل: عن سفيان، عن الأعمش، عن عمارة، عن حريث بن ظهير وعبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله فسر بذلك يحيى. اهـ.(1/141)
ومثل الحسن البصري: قد يكون عنده الحديث مثلاً عن رجل من أهل البيت في زمن بني أمية، فيخاف أن يحدث به؛ لأنَّه عن رجل من أهل البيت، أو عن رجل يحاربه السلطان في ذلك الزمان، فيخاف أن يصرح باسمه، فيُؤذي بسبب ذلك، أو تُردَّ الرواية، فيُسقطه، فلو أننا التمسنا مثل هذه الأشياء للأئمة الكبار لكان مخرجاً حسناً (1)، وليس معنى ذلك أن نحتجّ بما دلّسوه، بل نقف في تدليسهم، أو فيما ظهر لنا أنّهم دلّسوه – على تفاصيل في ذلك -.
__________
(1) قال ابن الوزير في «تنقيحه» إذا كان يعتقد أن ضعف من دلّسه ضعف يسير يحتمل وعرفه بالصدق والأمانة، واعتقد وجوب العمل بخبره لما له من التوابع والشواهد وخالف من إظهار الرواية عنه وقوع فتنة من غال مقبول عند الناس (ينهى عن حديث هذا المدلس، ويترتب على ذلك سقوط جملة من السنن النبوية، فلة أن يفعل مثل هذا، ولا حرج عليه)؛ لأنّه إنّما قصد بتدليسه نصح المسلمين في الحقيقة وإيثار المصلحة على المفسدة (وقد دلَّس عن الضعفاء إمام أهل الرواية والدراية ومن لا يتهم في نصحه للأئمة، سفيان بن سعيد الثوري فمن مثل سفيان في منقبة واحدة من مناقبه، أو من يبلغ من الرواة إلى أدنى) مرتبة من (مراتبه؟ ولولا هذا العذر ونحوه من) الأعذار الضروريّات، ما دلّس الحديث أكابر الثقات من أهل الديانة والأمانة، والنصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولجميع أهل الإسلام، وقد روي أنَّ رواة الحديث وأهل العلم في بعض أيّام بني أمية، وهي أيام عبدالملك وولاته الحجّاج (وبعض بلدانهم كانوا لا يقدرون على إظهار الرواية عن علي – عليه السلام -) لشدة عداوتهم له، ولمن ذكره. اهـ.
قلت: وكلام ابن الوزير – رحمه الله – هو المشار إليه بالأقواس، وما خرج من الأقواس من كلام الصنعاني – رحمه الله – انظر التوضيح (1/ 368 - 369).(1/142)
وأيضاً من الأسباب التي تحمل الأئمة أو العلماء على ذلك: ضعف الشيخ، فإذا كان الشيخ ضعيفاً أسقطه المدلس، ويروي الحديث عن الشيخ الثقة؛ من أجل ألا يُرَدَّ الحديث؛ لأنَّه يعلم أن المتن جاء من طرق أخرى صحيحة، وقد يفعله بعضهم، وإن لم يعلم صحة المتن من طرق أخرى (1).
وأيضاً قد يكون الشيخ صغيراً، والراوي عنه كبير، فالراوي إذا كان كبيراً لكن شيخه صغير، فهو يستحيي ويستنكف أن يقول: حدّثني فلان، فيكون هذا الكبير تلميذاً لهذا الشاب الصغير، فهذا معناه أنّه لم يرحل، ويقال: ما الذي جعلك وأنت كبير، لا ترحل حتى تلقى الشيخ الذي حدّث عنه هذا الشاب، ما الذي جعلك تجلس ولا ترحل إليه (2)؟.
__________
(1) انظر «الكفاية» (511) «التوضيح» (1/ 369).
(2) قال الخطيب – رحمه الله تعالى – في «كفايته»: وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة من التواضع في طلب العلم، وترك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه، والمرسل المبين بريء من جميع ذلك. اهـ (ص:511).
وكما قال الخطيب – رحمه الله تعالى -: فإن ذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة، وفي «النبلاء» (9/ 159) قال علي بن خشرم: سمعت وكيعاً يقول: «لا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه» والله أعلم.(1/143)
أيضاً قد يكون الراوي مكثرا عن هذا الشيخ، وكلما تكلّم يقول: «حدّثني فلان، حدّثني فلان، حدّثني فلان» فيقع في نفسه أنّه لا يريد أن يصرح باسمه كثيراً أمام المحدّثين، كي لا يقولوا في أنفسهم: إنّ هذا الشيخ ليس له إلا شيخ واحد، أو ليس له من المشايخ إلا القليل فحينئذٍ يسقطه (1).
__________
(1) قال ابن الوزير – رحمه الله -: (وهذا مفصلاً يلوح على صاحبه بمحبته الثناء وشوب الإخلاص) إذ إيهام كثرة الشيوخ دال على محبته لمدحه بكثرة ملاقاة من أخذ عنه وهمته، ورغبته (مع أنَّ له محملاً صالحاً إذا تؤمل، وهو أن يكون كثير الشيوخ أجل قدراً مع من لا يميز وهم الأكثرون فيكون ذلك داعياً لهم إلى الأخذ عن الراوي وذلك) أي: الإيهام بكثرة الشيوخ ليأخذ عنه الناس: (يشمل على قربة عظيمة، وهي إشاعة الأخبار النبوية). اهـ «التوضيح» (ص:369).
قلت: وهذه قرية عظيمة إذا لم يترتب عليها من المفاسد ما هو أعظم: فمن مفسدته كما ذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: أن يوافق ما يدلس به شهرة راوٍ ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح، وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره، فينتقل عن رتبه من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه؛ فإن صادف شهرة راوٍ ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد، كما وقع لعطية العوفي – تكنيته: محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد -، فكان إذا حدّث عنه يقول: حدّثني أبو سعيد فيوهم أنّه أبو سعيد الخدري الصحابي – رضي الله عنه؛ لأنَّ عطية كان لقيه وروى عنه، وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ اهـ (2/ 628) وسيأتي في الجزء الثاني الكلام عن هذه القصة – إن شاء الله تعالى – والله أعلم.(1/144)
فلا تظن أنَّ كل من دلَّس فلا يدلَّس إلا إذا كان شيخه ضعيفاً، لا، هناك أسباب كثيرة تحمل المدلسين على التدليس غير ضعف الشيخ، فقد يكون التدليس لضعف الشيخ، وقد يكون لصِغَره، وقد يكون لكثرة الرواية عن هذا الشيخ، وقد يكون هذا الشيخ لو صرَّح به لأوذي بسببه، وقصْدُ العلماء الكبار نَشرُ الأخبار في الأمصار وانتشار الروايات عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يصرِّح باسم هذا الرجل من أجل أن لا يُرَدَّ الحديث (1)، هذا أحسن ما نعتذر به عنهم، ولذلك تجد كثيراً من الأئمة الكبار الذين دلسوا إذا جمعنا الطرق؛ بان لنا كثيراً أنَّهم دلّسوا عن رجل ثقة، وأنت عند جمعك لطرق الحديث تستطيع أن تعرف الرجل المدلس، إذا روى حديثاً بالعنعنة، وجاء من طرق أخرى، فصرّح بالسماع، وأظهر شيخاً آخر بينه وبين شيخه الأول، فنحن نتأكد أو على الأقل نرجح أنّه دلَّس في الأول، لا سيَّما إذا كان مَنْ أظهره ضعيفاً.
__________
(1) قلت: ويلحق بهذه الأسباب أيضاً ما إذا دلّس الراوي اسم الشيخ تفنناً في الرواية.
ومن ذلك فعل الخطيب – رحمه الله تعالى – في بعض شيوخه كما صرّح بذلك ابن الصلاح في «مقدمته» (ص:172) وقد اعتذر له الصنعاني – رحمه الله -: «بأنّه إنّما يفعل ذلك تفنناً في العبارة»، قال في «توضيحه» (1/ 369) ولم يكن الخطيب يفعل ذلك إيهاماً للكثرة؛ فإنَّه مكثر من الشيوخ والمرويات، والناس بعده عيال عليه، وإنّما يفعل ذلك تفنناً في العبارة. اهـ.
ويلحق بها أيضاً تدليس اسم الراوي بقصد امتحان أذهان الطلاب في استخراج التدليسات، قال الحافظ في «نكته» (2/ 627) وقد بلغنا أن كثيراً من الأئمة الحفّاظ امتحنوا طلبتهم المهرة بمثل ذلك فشهد لهم بالحفظ لما يسرعوا بالجواب عن ذلك. اهـ.
قلت: ومثال ذلك سؤال ابن دقيق العيد للذهبي من أبو محمد الهلالي؟ فقال سفيان بن عيينة فأعجبه استحضاره «طبقات المدلسين» (ص:65).(1/145)
الشاهد من هذا: بيان الفرق بين الإرسال الجلي، والإرسال الخفي، وبين التدليس، ومعرفة الأسباب التي تحمل بعض العلماء، أو بعض الرواة على التدليس، وكتاب الحافظ ابن حجر – رحمه الله – «طبقات المدلسين»، كتاب حافل بالمعلومات الوافية في هذا الباب، وفيه الجواب على بعض هذه الأسئلة، وأنصح بمطالعته، وبالاطلاع على «جامع التحصيل» للعلائي، ففيه قسط وافر عن مسألة التدليس، وفيه فوائد في الفرق بين الإرسال الجلي، والإرسال الخفي.
ومقدمة «طبقات المدلسين» فيها التفرقة الواضحة بين الإرسال الخفي، والتدليس، وذكر الحافظ ابن حجر الفروق التي ذكرتها، وبيَّن أنَّ هذا لا بدّ منه، من أجل أن لا تتداخل الأنواع، أو من أجل تمييزها (1).
فعرَّف الإرسال الخفي: برواية الراوي عن مَنْ لقيه، ولم يسمع منه شيئاً وعرف التدليس: برواية الراوي عن منْ لقيه، وسمع منه بعض الأحاديث، لكن البعض الآخر سمعه بواسطة، ولم يظهرها، وأتى بصيغة محتملة.
__________
(1) في «تعريف أهل التقديس» (ص:69): قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وإذا روى عمن عاصره، ولم يثبت لقيه له شيئاً بصيغة محتملة، فهو كالإرسال الخفي، ومنهم من ألحقه بالتدليس، والأولى التفرقة، لتتميز الأنواع. اهـ.(1/146)
وينبغي أن يراعي أيضاً؛ أنَّ من العلماء مَنْ استثنى سفيان بن عيينة، وقالوا: إنَّه لا يدلِّس إلا عن ثقة (1)، وأمّا غيره فالمدلِّسون غالباً لا ينتقون في الرواية بل يروون عن كل أحد.
س 24: هل التدليس جرح؟
ج 24: التدليس إذا كان الراوي ثقة في نفسه، فلا يعدّ التدليس فيه جرحاً، إنَّما يكون ريبة منه تجعلنا نتوقف في حديثه إذا لم يصرح بالسماع، لكن الراوي الذي أكَثَرُ رواياتِه مدلَّسة، ولا يصرِّح بالسماع (2)
__________
(1) قال ابن حبان في «صحيحه» (1/ 161): وأمّا المدلسون الذين هم ثقات وعدول، فإنّا لا نحتجُّ بأخبارهم إلا ما بيَّنوا السماع فيما رووا مثل الثوري والأعمش، وأبي إسحاق، وأضرابهم من الأئمة المتقِّين وأهل الورع في الدين، لأنا متى قبلنا خبر مدلّس لم يبيّن السماع فيه، وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل كلّها؛ لأنَّه لا يدرى لعل هذا المدلس دلَّس هذا الخبر عن ضعيف يهي الخبر بذكره إذا عرف، اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنّه ما دلّس قط إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبيَّن السماع، وهذا ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يدلّس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكار يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلَّس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بيَّن سماعه عن ثقة مثل نفسه، والحكم في قبول روايته لهذه العلّة، وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس إذا روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لم يسمع منه. اهـ.
(2) قال أبو الحسن بن القطان: «إذا صرح المدلس قُبل بلا خلاف وإذا لم يصرِّح فقد قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنّه لم يسمعه، وردّ آخرون ما لم يتبيّن أنّه سمعه، «النكت» (2/ 625) قال العلائي: «والصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرّح فيه بالسماع دون ما رواه بلفظ محتمل» «جامع التحصيل» (ص:98).
قلت: وعلى هذا فإذا صرّح المدلس بالاتصال قبل منه وإلا فلا، وهذا هو القول الصحيح كما ذكر الخطيب البغدادي – رحمه الله – في «كفايته» (ص:515)، وأمّا قول أبي الحسن بن القطان ونفيه للخلاف في هذه المسألة فمعترض عليه وذلك لوجود المخالف والصواب أنّه قول الأ: ثرين كما سبق بيانه والله أعلم.
وقد ذكر العلامة المعلمي – رحمه الله تعالى – في مواضع كثيرة من «تنكيله» أنَّ التدليس ليس بجرح في الراوي فمن ذلك ما جاء في (ص:311) قال – رحمه الله – وقد علمنا أنّ قول من صحب أنساً: «قال أنس ... » موهم بل مفهم إفهاماً تقوم به الحجة أنّه سمع ذلك من أنس إلا أن يكون مدلساً معروفاً بالتدليس فإذا كان معروفاً بالتدليس لم يكن ظاهر حاله أن لا يقول: «قال أنس ... » إلا فيما سمعه من أنس وبذلك زال الإفهام والإبهام فزال الكذب، فهكذا ... إلخ اهـ وفي (ص:602) قال – رحمه الله – والمدلس إنّما يسلم من الجرح بالتدليس إذا كان قد عرف عنه أنّه يدلس فإنّ ذلك يكون قرينة تخلصه من أن يكون تدليسه كذباً ... إلخ اهـ.
وانظر كذلك كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» على ابن الصلاح (2/ 632 - 634)، والنزهة (ص:113) والله أعلم.(1/147)
عن مشايخه، فلم يظهر للعلماء مَنْ هذا الضعيف، حتى يلصقوا به عهدة النكارة؟ فلما لم يتيسر هذا، وكثر هذا في حديثه، ألصقوا العهدة به، وحملوه نكارة هذه الأحاديث، وضعَّفُوه كما في أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، فقد قال الحافظ ابن حجر: ضعفوه لكثرة تدليسه (1)، وهناك من أطلق فيه الجرح، ولهذا محل آخر.
وهناك رجل آخر لا أذكره الآن أيضاً ضُعِّف بكثرة روايته الأحاديث المدلسة (2)،
__________
(1) كذا في «التقريب» للحافظ ابن حجر (ص:589) وفي «التهذيب» له قال: قال فيه أبو زرعة صدوق غير أ، ّه كان يدلس، وقال ابن معين: ليس به بأس إلا أنّه كان يدلّس، وقال ابن نمير: صدوق كان صاحب تدليس أفسد حديثه بالتدليس، كان يحدث بما لم يسمع، وقال النسائي: ليس بالثقة يدلس ... إلخ (11/ 202) كل هذا يدل على أنّ أبا جناب لم يكن به بأس، إلا أنّه كان يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء، فالتزقت به المناكير التي يرويها عن المشاهير، فوهّاه يحيى بن سعيد القطّان، وحمل عليه أحمد حملاً شديداً، كما نصّ على ذلك ابن حبان – رحمه الله – في «المجروحين» (3/ 111).
(2) وممن ضعف – أيضاً – لكثرة تدليسه عطية بن سعد بن جنادة العوفي قال فيه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «نتائج الأفكار» (1/ 271): ضعف عطيّة إنّما جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس وهو في نفسه صدوق ... إلخ.
وكذا أبو سعد البقال، قال فيه الحافظ في «المصدر السابق» (2/ 352): نعم ضعّفه الجمهور لأنّه كان يدلّس وتغير بآخره. اهـ.(1/148)
أمّا الرجل الثقة إذا كان يصرح بالسماع عن مشايخه، ويروي أحاديث قوية مستقيمة، ثم بعد ذلك يعنعن عن مشايخه، ويروي أحاديث فيها ضعف، علمنا أنَّه أتي من قبل التدليس، كما صرّح بذلك ابن حبّان في ترجمة بقية في كتاب «المجروحين» لما اعتبر حديثه، وقارنه بالروايات الأخرى للثقات، وكما قال الإمام أحمد أيضاً في بقية، والله أعلم (1).
س 25: المدلِّس الذي يدلِّس تدليس التسوية ما حكم روايته؟
__________
(1) جاء في «المجروحين» لابن حبان (1/ 200 - 201)، قال أحمد بن حنبل: توهّمت أنَّ بقية لا يحدّث المناكير إلا عن المجاهيل، فإذا هو يحدث المناكير عن المشاهير، فعلمت من أين أتي، قال ابن حبان معقِباً على ذلك: لم يَسَبْره أبو عبدالله؛ وإنّما نظر إلى أحاديث موضوعة رويت عنه عن أقوام ثقات فأنكرها، ولعمري إنّه موضع الإنكار، وفي دون هذا ما يُسقط عدالة الإنسان في الحديث، ولقد دخلت حمص وأكثر همي شأن بقية فتتبّعت حديثه، وكتبت النسخ على الوجه، وتتبّعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً، ولكنّه كان مدلّساً سمع من عُبيدالله بن عمر وشعبة، ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة ثم سمع عن أقوام كذابين ضعفاء متروكين عن عبيدالله بن عمر، وشعبة ومالك مثل المجاشع بن عمرو والسري بن عبدالحميد وعمر بن موسى المثيمي، وأشباههم وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء وكان يقول: قال عبيدالله بن عمر عن نافع، وقال مالك عن نافع – كذا – فحملوا عن بقية عن عبيدالله وبقية عن مالك وأسقط الواهي بينهما، فالتزق الموضوع ببقية وتخلص الواضع من الوسط، وإنّما امتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فالتزق. اهـ.(1/149)
ج 25: تدليس التسوية أن يأتي الراوي المدلِّس إلى الأدنياء الضعفاء في السند أو الصغار فيسقطهم، ويظهر السند متصلاً بالأجواد الرفعاء (1).
والظاهر أنَّ الذي يفعل هذا لا يقبل منه التصريح بالسماع في روايته عن شيخه فقط، بل لا بدّ أن يقول: حدّثني فلان، قال: حدّثني فلان: قال: حدّثني فلان ... ، إلى أن يصل به إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو الصحابي.
لأننا لا نخاف منه فيما بينه وبين شيخه، إنّما نخاف منه أيضاً فيمن فوق شيخه، فإنّه يسقط كل ضعيف أو صغير في السند حتى يظهر السند قوياً متماسكاً، ولا بدّ أن نعلم أيضاً أنَّ قولنا: «إنّ فلاناً يدلس تدليس التسوية»، معناه أنّه ثابت السماع عن شيخِه، وشيخُ شيخِه ثابت السماع عن شيخه، وهكذا، فإذا جاء في طبقة من الطبقات، وأسقط الرجل الضعيف، أو الصغير، الذي بين الثقتين، أو المقبولين والتلميذ قد ثبت سماعه من شيخه من قبل، حتى يصحّ أن يقال: إنّه تدليس تسوية، لأننا كما نظهر من التفرقة بين التدليس والإرسال – قبل قليل -.
ولذلك فلا بد أن يفرق طالب العلم بين قولهم: «فلان يسوي في السند»، و «فلان يدلس تدليس التسوية»، فرق بين التسوية، وبين تدليس التسوية (2).
__________
(1) قال الخطيب البغدادي – رحمه الله – في «الكفاية» (ص:518): وربّما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدّثه لكنّه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلاً ضعيفاً في الرواية أو صغير السن ويحسن الحديث بذلك. اهـ.
(2) فرّق الحافظ – رحمه الله تعالى – بينهما، فقال – رحمه الله -:
إنّ التسوية أعم من التدليس فقد يوصف الراوي بالتسوية ولا يوصف بالتدليس ومثاله ما ذكره ابن عبدالبر وغيره أن مالكاً سمع من ثور بن يزيد أحاديث عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، ثم حدّث بها عن ثور، عن ابن عباس، وحذف عكرمة؛ لأنّه كان لا يرى الاحتجاج بحديثه، فهذا مالك قد سوّى الإسناد بإبقاء من هو عنده ثقة وحذف من ليس عنده بثقة فالتسوية قد تكون بلا تدليس، وقد تكون بالإرسال فهذا تحرير القول فيها «النكت» (2/ 617 - 618).
ونقل السيوطي في «تدريبه» (1/ 226): أنّه متى قيل تدليس التسوية لا بد أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث وإن قيل «تسوية» بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه كما فعل مالك فإنّه لم يقع في التدليس أصلاً، ووقع في هذا ... إلخ.
ثم عرف الحافظ التسوية مستنبطاً من تعريفها فرقاً بينها وبين التدليس، فقال:
أن تعريف التسوية: أن يجيء الراوي ليشمل المدلس وغيره إلى حديث قد سمعه من شيخ وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر فيسقط الواسطة بصيغة محتملة فيصير الإسناد عالياً وهو في الحقيقة نازل «النكت» (2/ 621).(1/150)
فالتسوية: هي إسقاط الضعفاء غالباً بين ثقات أو مقبولين لم يسمع بعضهم من بعض إلا بواسطة هذا الضعيف أو الصغير، أمّا إذا كان تدليس تسوية فلا بدّ أن يكون كل ثقة قد سمع من شيخه في الجملة بدون هذه الواسطة، ليصح أن يقال: إنّه تدليس أو نوع من الإيهام، ناتج عن شهرة رواية هذا التلميذ عن هذا الشيخ؛ فبهذا يصح أن يكون مدلساً، والله أعلم.
(استدراك): وقد تراجعت عن اشتراط التصريح بالسماع في جميع الطبقات، وإنّما يجزئ من ذلك تصريح المدلس بينه وبين شيخه، وبين شيخه وشيخ شيخه، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى مفصّلاً في الجزء الثاني، فليتأمل. كما سيأتي إن شاء الله تعالى في السؤال (167) نحو هذا، فيصحّح هناك أيضاً، والله أعلم.
س 26: ما معنى قول بعض العلماء: «مراسيل فلان أضعف المراسيل»؟
ج 26: معناه أنّ حديثه الذي أرسله ما سمعه إلا عن مجروح ضعيف، فمثلاً الزهري، منهم من يقول: إنّه يروي عن كل أحد، ومنهم من يقول: إنَّه حافظ يستطيع أن يسمي الذي حدّثه بهذا لو شاء، فما يسكت عن تسميته إلا لعلة، فيكون مرسله من أضعف المراسيل (1)؛
__________
(1) قال الذهبي – رحمه الله تعالى – في «سيره» (5/ 338 - 339): قال يحيى بن سعيد القطان: مرسل الزهري شر من مرسل غيره لأنّه حافظ وكل ما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يحب أن يسميه.
قلت – أي الذهبي -: مراسيل الزهري كالمعضل لأنّه يكون قد سقط منه اثنان، ولا يسوغ أن نظن به أنّه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه ولما عجز عن وصله، ولو أنَّه يقول عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ومن عدّ مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، ونحوهما فإنّه لم يدرِ ما يقول نعم مرسله كمرسل قتادة ونحوه. اهـ.(1/151)
ومعنى هذا القول أيضاً: أنَّه لا ينتقي في مشايخه، بل يروي عن كل أحد، ولا يبالي عمّن أخذ، ومن العلماء من قال: لا يستشهد بمرسلهم، وفيه تفصيل سيأتي – إن شاء الله تعالى – في الجزء الثاني، (1) والله أعلم.
س 27: لماذا يرسل الأئمة في حديثهم؟
ج 27: قد ينشط الراوي فيسند، وقد يكسل الراوي فيرسل، وقد يكون المقام مقام تذكير ووعظ وإرشاد، ليس مقام إسناد وإملاء، أو يكون الراوي في مقام احتجاج على خصم في مسألة من المسائل، وليس في حاجة إلى أ، يسوق الإسناد كاملاً، كما يحدث في المناظرات، وعند المذاكرة بين أهل العلم، فالعلماء يتساهلون – عند ذلك – في مسألة الإسناد، فلا يذكرون الحديث بكامل سنده (2)،
__________
(1) وانظره كذلك في السؤال رقم (9).
(2) ذكر العلائي – رحمه الله – كلاماً طيباً حول أسباب الإرسال كما في «جامع التحصيل» (ص:87 - 88)، فقد قال – رحمه الله -: إرسال الحديث من الثقة وعدوله عن تسمية شيخه وهو مشهور بالثقة؟
قلنا لأسباب منها:
أن يكون سمع ذلك الحديث من جماعة ثقات وصحّ عنده ووقر في نفسه مرسله علماً بصحته كما تقدم في إبراهيم النخعي إذا قال: قال ابن مسعود فإنّه يكون سمع ذلك من جماعة من أصحابه عنه كما ثبت عنه ذلك.
ومنها: أن يكون المرسل للحديث نسي من حدّثه به وعرف المتن جيداً فذكره مرسلاً لأنّ طريقته أنّه لا يأخذ إلا عن ثقة كمالك وشعبة فلا يضره الإرسال.
ومنها: أن يكون روايته الحديث مذاكرة فربّما ثقل معها ذكر الإسناد وخفّ الإرسال إمّا لمعرفة المخاطبين بذلك الحديث واشتهاره عندهم أو للإشارة إلى مخرجه الأعلى لأنه المقصود حينئذ دون ذكر شيخه أو غير ذلك.
وهذا كلّه في حق من لا يرسل إلا عن ثقة وأمّا من يرسل عن كل ضرب فربّما كان الباعث له على الإرسال ضعف شيخه ولا يصير المرسل بذلك مجروحاً لأنّه لم يخرج ذلك على وجه قيام الحجة به. اهـ.(1/152)
والإرسال قد وقع من كثير من العلماء؛ وما عيب عليهم ذلك، إمّا لهذا، وإمّا لأنّه ليس فيه إيهام وتلبيس على السامع، والله أعلم.
س 28: هل صحّ عن شعبة أن قال: لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس؟
ج 28: نعم، هذا القول مشهور عنه، ولا أعلم فيه طعناً (1)، وجاء في بعض الروايات لأن أربي بالراء المهملة، والباء الموحدة، أي: لأن أقع في الربا أحب إليّ من أن أدلس، والظاهر أنّه تصحيف، فإن ذاك هو القول المشهور عنه، ولعلّ البعض يسأل ويقول: كيف يقول هذه المقالة والزنا كبيرة من الكبائر، والتدليس ما وصل إلى هذا الحد؟
والجواب: أنَّ الظاهر أنَّه خرج مخرج الذم والتنفير وإظهار مدى عيب التدليس، والكلمة ليست مقصودة في حقيقتها، ولكن المقصود منها: التنفير وبيان قبح التدليس في نظر السامعين (2)،
__________
(1) جاء في «الكفاية» للخطيب – رحمه الله – (ص:508) «باب الكلام في التدليس وأحكامه»: أخبرنا أبوبكر البرقاني قال أنا محمد بن عبدالله بن حمرويه الهروي، قال: أنا الحسين بن إدريس، قال: ثنا ابن عمار، قال: سمعت المعافى يقول: سمعت شعبة يقول: «لأن أزني أحب إليّ من أن أدلس، فقلت له: يا أبا مسعر! ما تقول أنت في التدليس؟ قال: أدنى ما فيه التزين. اهـ وإسناده: صحيح.
وجاء في «المجروحين» لابن حبان (1/ 92): أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: سمعت محمد بن منصور قال: سمعت عفان يقول: سأل رجل شعبة عن حديث فقال: لأن أخر من السماء أحبُّ إليّ من أن أدلس. اهـ وإسناده صحيح.
وانظر «سير أعلام النبلاء» (7/ 210) والله أعلم.
(2) قال ابن الصلاح – رحمه الله تعالى – في «مقدمته» (ص:170): وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير، وتعقبه البلقيني فقال: والذي قاله شعبة ظاهر فإنَّ آفة التدليس لها ضرر كبير في الدين وهي أضر من أكل الربا، وقد جاءت أحاديث محتج بها تدل على أنَّ أكل درهم ربا أشر من الزنا على وجوه مروية ... إلخ.
أقول: والصواب ما قاله ابن الصلاح – رحمه الله – لأنَّ التدليس قد فعله أئمة كبار وأكثروا منه ولم يزحزحهم ذلك عن مكانتهم فضلاً عن تجريحهم أو تفسيقهم، إلا أن يحمل كلام البلقيني على نوع خاص من التدليس من بعض الرواة المجروحين أصلاً أو يحمل على تصرف بعض المدلسين الذين يعرفون ضعف مشايخهم ومع ذلك يسقطونهم ليروجوا روايتهم الضعيفة والساقطة والله أعلم.(1/153)
والله أعلم. (1)
__________
(1) هذا ومع ذم شعبة الشديد للتدليس إلا أنّه لم يسلم من التهمة بذلك وقد دافع عنه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – حيث قال في «النكت» (2/ 628 - 630):
قال القاضي أبو الفرج المعافي النهرواني في «كتاب الجليس والأنيس» – له – في المجلس الثالث والخمسين منه: كان شعبة ينكر التدليس ويقول فيه ما يتجاوز الحد مع كثرة روايته عن المدلسين ومشاهدته من كان مدلّساً من الأعلام، كالأعمش والثوري وغيرهما إلى أن قال: ومع ذلك فقد وجدنا لشعبة مع قوله في التدليس تدليساً في عدة أحاديث رواها وجمعنا ذلك في موضع آخر. اهـ.
قال الحافظ: وما زلت متعجبِّباً من هذه الحكاية شديد التلفت إلى الوقوف على ذلك ولا أزداد إلا استغراباً لها واستبعاداً إلى أن رأيت في فوائد أبي عمرو بن أبي عبيد بن مندة وذلك فيما قرأت على أم الحسن بنت المنجا – ثم ساق السند – إلى شعبة قال: سألت عمرو بن دينار عن رفع الأيدي عند رؤية البيت فقال: أبو قزعة حدّثني مهاجر المكي أنّه سأل جابر بن عبدالله – الحديث.
قال الأصفر: ألقيته على أحمد بن حنبل فاستعادني فأعدته عليه، فقال: ما كنت أظن أن شعبة يدلس.
ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي قزعة بأربعة أحاديث هذا أحدها يعني ليس فيه عمرو بن دينار، قال الحافظ قلت: هذا الذي قاله أحمد على سبيل الظن وإلا فلا يلزم من مجرد هذا أن يكون شعبة دلس في هذا الحديث لجواز أن يكون سمعه من أبي قزعة بعد أن حدّثه عمرو عنه، ثم وجدته في «السنن» لأبي داود عن يحيى بن معين عن غندر عن شعبة، قال: سمعت أبا قزعة: ... فذكره فثبت أنَّه ما دلّسه، والظاهر الذي زعم المعافي أنّه جمعه كله من هذا القبيل وفي «طبقات المدلّسين» وكيف يظن بشعبة التدليس وهو القائل: لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أقول: عن فلان ولم أسمعه منه، وهو القائل: لأن أزني أحب إليّ من أن أدلّس. اهـ (ص:185).(1/154)
س 29: ما الفرق بين: «حدّثنا»، و «حدّثني»، و «سمعت»، و «أخبرنا»؟
ج 29: هذه من صيغ التحمل، وبعض علماء الجرح والتعديل يسميها الألفاظ، وتجد الواحد منهم يمدح الراوي من الرواة ويقول: فلان يفرق بين الألفاظ، وكثير من الطلبة حين يسمعون هذه الكلمة، فأول ما يتبادر إليهم: مسألة المتن، والألفاظ في المتن والزيادات، مع أنَّ الحقيقة أنّهم يقصدون بذلك أنّه يفرق بين «حدّثنا»، و «حدّثني»، و «أخبرنا»، و «أخبرني»، وبعضهم يمدح الراوي، فيقول: فلان يفرق بين الواو والفاء، وفلان يفرق بين الواو وثم، فهذا يدل على مدى تحري الراوي في ألفاظ المتون، وفي ألفاظ التحمل (1)، وعما ورد في السؤال: فالراوي إذا حدّثه الشيخ في وسط مجموعة – كما هو ظاهر – يقول: حدّثنا، وإذا حدّثه وحده قال: حدّثني (2).
__________
(1) انظر «شفاء العليل» للمؤلف (1/ 33).
(2) قال ابن الأثير في «جامع الأصول»: ولأئمة الحديث فرق بين «حدثنا»، و «أخبرنا»، و «أنبأنا»، قال عبدالله بن وهب: ما قلت: حدّثنا فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت: «حدثني» فهو ما سمعت وحدي، وما قلت: «أخبرنا» فهو ما قرئ على العالم وأنا أشاهد، وما قلت: «أخبرني» فهو ما قرأت على العالم وكذلك قال الحاكم أبو عبدالله النيسابوري.
وقال يحيى بن سعيد: «أخبرنا وحدّثنا» واحد وهو الصحيح من حيث اللغة، وأمّا أنبأنا: فإنّ أصحاب الحديث يطلقونها على الإجازة والمناولة دون القراءة، والسماع اصطلاحاً، وإلا فلا فرق بين الإنباء والإخبار لأنّهما بمعنى واحد، وقال الحاكم: «أنبأنا» إنّما يكون فيما يجيزه المحدث للراوي شفاهاً دون المكاتبة اهـ (1/ 78 - 79).
وفي «فتح الباري» للحافظ ابن حجر – رحمه الله – (1/ 145) باب قول المحدث «حدّثنا»، أو «أخبرنا»، أو «أنبأنا».
قال: فدلَّ ذلك على أنّ التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل اللغة: (عند إرادة الإعلام بالشيء).
ومن أصرح الأدلة فيه قوله – تعالى -: (يومئذ تحدث أخبارها (4» (فهي بمعنى: تخبر أخبارها).
وقوله – تعالى -: (ولا ينبئك مثل خبير) (فهو بمعنى: ولا يخبرك مثل خبير).
وأمّا بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجّحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنّه مذهب الأئمة الأربعة.
ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان، وابن مندة، وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل: فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج، والأوزاعي، والشافعي، وابن وهب، وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: «حدثني» ومن سمع من غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد، فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جمع.
وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنّما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أنّ ذلك على سبيل الوجوب، فتكلّفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته، نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط؛ لأنّه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين اهـ، وما بين الأقواس زيادات للحافظ من «انتقاض الاعتراض» (1/ 114).(1/155)
وجاء عن الحسن البصري أنّه قال: حدّثنا أبو هريرة، ويعني بذلك: أنّه حدّث قومه أهل البصرة، فينبغي أن يتنبّه لهذا (1)، وكما جاء عن فطر بن خليفة، أنّه يقول: حدّثنا ويسكت، ويدلس تدليس السكوت، أو تدليس الحذف أو القطع، ولذلك قال بعض العلماء: فإذا قال: «سمعت» يقبل منه، وإذا قال: «حدّثني» أو «أخبرني»، أو غير ذلك، فلا يقبل منه؛ لأنّه يدلس في صيغ التحمل إلا في كلمة «سمعت»، فإذا قال: سمعت؛ فكأنّه مدلس صرّح بالسماع، أمّا إذا قال: حدّثنا، وأخبرنا، وحدّثني، وأخبرني؛ فما زال مدلساً (2)، وعمر بن علي المقدمي يدلس تدليس السكوت أيضاً (3).
__________
(1) قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدّثنا، وخطبنا، يعني: قومه الذين حدّثوا وخطبوا بالبصرة. «التهذيب» (2/ 269).
وقال العراقي في «التقييد» (ص:166): وروى عن الحسن أنّه كان يقول: حدّثنا أبو هريرة ويتأوّل أنّه حدّث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها، إلا أنّه لم يسمع منه شيئاً اهـ.
(2) انظر «فتح المغيث» (1/ 345).
(3) قال ابن سعد في «الطبقات» (7/ 291): وكان ثقة وكان يدلس تدليساً شديداً وكان يقول: سمعت وحدّثنا، ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش ..... اهـ قال الحافظ في «طبقاته» للمدلسين:
وهذا ينبغي أن يسمّى تدليس القطع (130 - 131).(1/156)
فقولهم: «أخبرنا» و «أخبرني» يطلقه كثير من أهل العلم على العرض، والعرض أن يقرأ الطالب والشيخ يسمع، بخلاف الإملاء والتحديث الذي من الشيخ، فالشيخ يقرأ الحديث أو يُمليه، والطالب يسمع، فإذا كان التحمل عن طريق العرض، فإنّهم يعبرون عنه بـ «أخبرنا» إذا كان في مجموعة، وبعضهم يدقق في العبارة ويقول: «أخبرنا فلان بقراءة فلان عليه» أو قرأ فلان على الشيخ الفلاني وأنا أسمع، وأبو نعيم الأصبهاني قد عرف عنه أنّه يدلس بعبارة «أخبرنا» ويقصد بها الإجازة، فيوهم أنّه عرض على شيخه؛ مع أنَّ الحديث جاءه من طريق الإجازة، وقد دافع عنه الذهبي وعده قليلاً منه، فراجع «النبلاء» (1).
وأمّا قولهم: «سمعت»، فهو سماع الطالب من شيخه، وهنا يظهر سؤال: ما الفرق بين قول الراوي: «سمعت فلاناً»، و «حدّثني فلان»؟
__________
(1) قال الخطيب البغدادي: قد رأيت لابي نعم أشياء يتساهل فيها، منها أن يقول في الإجازة: «أخبرنا» من غير أن يبين.
قال الذهبي معقباً عليه: «هذا شيء قلّ أن يفعله أبو نعيم وكثيراً ما يقول: كتب إلى الخلدي ... ويقول كتب إلى أبو العباس الأصم وأخبرنا عبدالله بن جعفر بن فارس الذي سمع منه كثيراً وهو أكبر شيخ له: أخبرنا عبدالله بن جعفر فيما قرئ عليه فيوهم أنّه سمعه ويكون مما هو له بالإجازة، ثم إطلاق الأخبار على ما هو بالإجازة مذهب معروف قد غلب استعماله على محدثي الأندلس وتوسعوا فيه وإذا أطلق ذلك أبو نعيم في مثل الأصم وأبي الميمون البجلي والشيوخ الذين قد علم أنّه ما سمع منهم بل له منهم إجازة، كان له سائغاً والأحوط تجنبه، «السير» (17/ 460 - 461).
قال المعلمي – رحمه الله تعالى -: والحق أن أبا نعيم وضع من نفسه ومن كتبه فجزاؤه أن لا يعتد بشيء من مروياته إلا ما صرّح فيه بالسماع الواضح ... إلخ «التنكيل» (ص:314).(1/157)
والجواب: أنَّ كلمة «سمعت» عند أهل العلم أقل من كلمة: «حدّثني»؛ لأن الراوي قد يسمع من الشيخ وليس مقصوداً بالتحديث، بخلاف قوله: «حدّثني»، فقد قصده الشيخ بالحديث، وكان بعض الرواة الذين يطردهم الأئمة من مجالسهم، وهم لا يصبرون على حديث ذاك الشيخ، فكان أحدهم يتخفى في حضور المجلس، فقد يجلس وراء الشيخ، وقد يجلس في مكان لا يراه الشيخ، فمثل هذا يتجه في حقه أن يقول: «سمعت»؛ لأنَّ الشيخ ما قصده بالتحديث، فمن هنا نستطيع أن نقول: إنّ كلمة «حدثني» أعلى من كلمة «سمعت»، والله أعلم (1).
س 30: ما معنى قولهم في حديث ما: ظاهره الإرسال؟
__________
(1) قلت: وقد حدث مثل هذا لأبي بكر البرقاني – رحمه الله تعالى – ذكر السيوطي في «تدريبه» (2/ 10) أنَّ الخطيب سأل شيخه الحافظ أبا بكر البرقاني عن السر في كونه يقول لهم فيما رواه عن أبي القاسم الأبدوني: سمعت، ولا يقول: حدّثنا ولا أخبرنا، فذكر له أنّ أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسراً في الرواية فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشيخ الداخل، فلذلك يقول سمعت، ولا يقول: حدّثنا ولا أخبرنا، لأنّ قصده كان الرواية.(1/158)
ج 30: هذا يكون موجوداً في بعض الأحاديث، فيقول واحد من العلماء: هذا حديث ظاهرة الإرسال، كأن يروي – مثلاً – عروة بن الزبير قصة وقعت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعائشة – رضي الله عنها -، فمن المعلوم أنَّ عروة لم يدرك زمان هذه القصة، فإنّه ما أدرك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا أدرك كلامه مع عائشة،، ولا كلام عائشة معه، فإذا جمعنا الروايات؛ ووجدنا أنَّ عروة – في رواية أخرى – أسند الحديث، وحدث بالحديث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنقول – حينئذ – في الرواية الأولى: وهذا الحديث ظاهره الإرسال، أي: لكن حقيقته الاتصال لمجيئه من طريق أخرى متّصلة (1)،
__________
(1) مثاله: ما أخرجه البخاري (5/ 200 رقم 2538 فتح): ثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، أخبرني أبي: أنَّ حكيم بن حزام – رضي الله عنه – أعتق في الجاهليّة مائة رقبة، وحمل على مائة بعير، فلمّا أسلم حمل على مائة بعير وأعتق مائة رقبة، قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... الحديث.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: (قوله أنَّ حكيم بن حزام أعتق)، ظاهر سياقه الإرسال لأنَّ عروة لم يدرك زمن ذلك لكن بقية الحديث أوضحت الوصل وهو قوله: قال: فسألت، فقائل قال: هو حكيم، فكأن عروة، قال: قال حكيم، فيكون بمنزلة قوله عن حكيم، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام فقال: عن أبيه عن حكيم» اهـ.(1/159)
وبعضهم يحتمل – وإن لم يأت من طريق أخرى مسندة – أن عروة أخذه عن عائشة، فإن مثل هذا الشيء الذي يقع بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزوجته في داخل الغرفة، لم يطلع عليهما أحد من البشر، فإنّه ما يعقل أنّ عروة يتكلّم عن شيء ما رآه، وهو مكثر عن عائشة، وعائشة خالته فما الذي يمنع أنّها قد أخبرته بمثل هذا الحديث (1)؟
__________
(1) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح العلل» (222 - 224): فأمّا قول الراوي: أنَّ فلاناً قال، فهل يحمل على الاتّصال أم لا؟ فهذا على قسمين:
فذكر القسم الأول ثم قال:
القسم الثاني: أن يكون ذلك القول المحكي عن المروي عنه، أو الفعل مما لا يمكن أن يكون قد شهده الراوي مثل أن لا يكون قد أدرك زمانه كقول عروة: أنّ عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كذا وكذا، فهل هو مرسل لعدم الإتيان بما يبين أنّه رواه عن عائشة أم هو متّصل لأنّ عروة قد عرف بالرواية عن عائشة، فالظاهر أنّه سمع ذلك منها، هذا فيه خلاف.
قال أبو داود سمعت أحمد قيل له: أنّ رجلاً قال: عن عروة قالت عائشة: يا رسول الله! وعن عروة عن عائشة سواء، قال: كيف هذا سواء، ليس هذا بسواء.
قال ابن رجب: الحفاظ كثيراً ما يذكرون مثل هذا ويعدونه اختلافاً في إرسال الحديث واتصاله وهو موجود كثيراً في كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والدارقطني وغيرهم من الأئمة، ومن الناس من يقول هما سواء كما ذكر ذلك لأحمد، وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكي قصته كعروة مع عائشة، أمّا من لم يعرف له سماع منه فلا ينبغي أن يحمل على الاتصال ولا عند من يكتفي بإمكان اللقي، وانظر «التنكيل» للمعلمي (ص:274).
وفي «النكت» للحافظ ابن حجر – رحمه الله – في (2/ 590 - 591) قول ابن الصلاح: «فروينا عن مالك أنّه كان يرى «عن فلان» وأ، فلاناً سواء وعن أحمد بن حنبل أنّهما ليسا سواء، قال الحافظ.
قلت: ليس كلام كل منهما على إطلاقه، وذلك يتبين من نص سؤال كل منهما عن ذلك، أمّا مالك، فإنّه سئل عن قول الراوي «عن فلان أنّه قال: كذا وأن فلاناً قال: كذا، فقال هما سواء وهذا واضح وأمّا أحمد فإنّه قيل له: إنّ رجلاً قال عن عروة عن عائشة وعن عروة أنّ عائشة – رضي الله عنها – سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هل هما سواء؟ فقال: كيف يكونان سواء؟ ليسا سواء فقد ظهر الفرق بين مراد مالك وأحمد.
وحاصله:
أنّ الراوي إذا قال: عن فلان، فلا فرق أن يضيف إليه القول أن الفعل في اتصال ذلك عند الجمهور بشرطه السابق، وإذا قال: إنّ فلاناً، ففيه فرق، وذلك أن ينظر، فإن كان خبرها قولاً لم يتعد لمن يدركه التحقت بحكم «عن» بلا خلاف كأن يقول التابعي: إنّ أبا هررة – رضي الله عنه – قال: سمعت كذا، فهو نظير ما لو قال عن أبي هريرة أنّه قال: سمعت كذا، وإن كان خبرها فعلاً نظر إن كان الراوي أدرك ذلك التحقت بحكم عن وإن كان لم يدركه لم تلتحق بحكمها.
فكون يعقوب بن شيبة قال في رواية عطاء عن ابن الحنفية، أن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا مرسل.
إنما هو من جهة كونه أضاف إلى الصيغة الفعل الذي لم يدركه ابن الحنفية وهو مرور عمار إذ لا فرق أن يقول ابن الحنفية: أن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مر بعمار فكلاهما سواء في ظهور الإرسال، ولو كان أضاف إليها القول كأن يقول: عن ابن الحنفية أنّ عماراً قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكان ظاهر الاتصال.
وقد نبه شيخنا على هذا الموضع فأردت زيادة إيضاحه، ثم إنّه نقل عن ابن المواق تحرير ذلك واتفاق المحدثين على الحكم بانقطاع ما هذا سبيله، وهو كما قال، لكن في نقل الاتفاق نظر ... إلخ اهـ.(1/160)
وقد ذكرت رواية عروة عن عائشة مثالاً للراوي المكثر عمن يروى، لا أن هذا الحكم مختص بهذه الترجمة، والله أعلم.
س 31: ما قولكم في قول من قال: إنّ حديث الصحابي الموقوف الذي ليس من قبيل الرأي أنّه يقبل؟
ج 31: الصحابة – رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم جميعاً – هم أخوف الناس من القول على الله بغير علم، وهم أول الناس التزاماً بمثل هذه الآية: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) وقوله تعالى {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (2) فالصحابي إذا روى خبراً في أمور الآخرة، فقال مثلاً: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال له: كذا، فيقول: كذا، فيقال له كذا؟ هل يليق بنا أن نقول: إن هذا الصحابي يتهجم على الغيب، ويذكر هذه المسألة، دون أن يكون معه من نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذن بهذا؟ هذا أمر مستبعد، ولذلك فكثير من أهل العلم يقولون: إنّ هذا ليس من قبيل الرأي، أو ليس من قبيل الاجتهاد، أو ليس للاجتهاد فيه مسرح أو مدخل، فمن هنا يرجحون أن يكون له حكم الرفع، وأن يكون موقوفاً لفظاً مرفوعاً حكماً، واشترطوا مع هذا الأمر أن لا يكون هذا الصحابي من المعروفين برواية الإسرائيليات، مثل: عبدالله بن عمرو بن العاص صاحب الزاملتين (3)
__________
(1) سورة الإسراء الآية: 36.
(2) سورة الأعراف الآية: 33.
(3) عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعّيْد – بالتصغير – السهمي: أبو محمد، وقيل: أبو عبدالرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/ 533): فإنّه حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان بعض أصحابه ربّما قال له: حدّثنا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا تحدثنا عن الصحيفة، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور التي قدمنا ذكرها الرفع لقوة الاحتمال، والله أعلم.(1/161)
ومثل أبي هريرة الذي كان يأخذ عن كعب الأحبار (1)،
__________
(1) كعب الأحبار هو: كعب بن مانع الحميري اليماني، العلامة الحبر، الذي كان يهوديّاً فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قدم المدينة من اليمن في أيام عمر – رضي الله عنه -، فجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان يحدّثهم من الكتب الإسرائيلية، ويحفظ العجائب ويأخذ السنن عن الصحابة وكان حسن الإسلام متين الديانة، من نبلاء العلماء. اهـ «السير» للذهبي (3/ 489 - 490).
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى – في «تفسيره» (3/ 378 - 379) (سورة النمل آية: 44) بعد ذكره لبعض القصص الإسرائيلية قال: «والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأ/ة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان، وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ ... إلخ.
هذا وقد نسب إلى أبي هريرة، رواية الإسرائيليات بسبب روايته عن كعب الأحبار.
قال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (8/ 138): وقال مسلم بن الحجاج: ثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي: ثنا مروان الدمشقي: عن الليث بن سعد حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويحدث عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كعب وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث.
وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس – أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يميِّز هذا من هذا، ذكره ابن عساكر ... إلخ اهـ.
هذا وقد دافع الحافظ ابن حجر – رحمه الله – كما في «فتح الباري» (6/ 353) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – فقال: وفيه أنّ أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب، وأنّ الصحابي الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال لرأي والاجتهاد فيه يكون للحديث حكم الرفع. اهـ والأول أصح وهو مشهور عن أبي هريرة والله المستعان.(1/162)
ومثل: ابن عباس (1) – على بحث في ذلك -، وعبدالله بن سلام – رضي الله عنهم -، فلا يقبل منهم الكلام في الأمور الغيبية؛ لأنّهم ربما أخذوه عن بني إسرائيل، أمّا إذا كان الراوي لا يحدث عن بني إسرائيل، ويتكلّم في المسائل الغيبية، فلا نقول: إنّه من اليقيني أنّه قد سمعه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن نقول إنّه من الراجح أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وغلبة الظن يُعمل بها، وبهذا يترجح لدينا أن يكون من قبيل المرفوع حكماً، وأن يحتج بمثل هذا، والله أعلم (2).
س 32: ما معنى قول بعض المحدّثين: هذا حديث غريب؟
__________
(1) انظر مقدمة الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في «تفسير القرآن العظيم» (1/ 13) بتحقيق شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله تعالى -.
(2) قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: ومثال المرفوع من القول حكماً لا تصريحاً أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات – ما لا مجال للاجتهاد فيه ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب كالأخبار عن الأمور الماضية، وبدء الخلق، وأخبار الأنبياء، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الأخبار عمّا يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص. انتهى من «نزهة النظر» (ص:141) وانظر كذلك «توضيح الأفكار» (1/ 281).(1/163)
ج 32: الشيخ الألباني – رحمه الله – كثيراً ما يفسر قول الترمذي: حديث غريب، وكذلك قول الزيلعي في «نصب الراية» حديث غريب، بأنّه ضعيف، وأحياناً يقول: لا أصل له، وكثيراً ما يقول: يعني أنّه ضعيف (1) والحديث الغريب: هو رواية الراوي عن شيخه عن شيخه، وليس له طرق أخرى تخرجه من حيز الغريب إلى حيز العزيز أو غيره، فهو رواية الواحد عن الواحد عن الواحد، وقد يكون في بعض الطبقات أو أ: ثرها ليس غريباً، لكن يصدق عليه التعريف بوجوده من طريق واحد فقط، ولو في طبقة واحدة، (2)
__________
(1) قال الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – في «الضعيفة» تعليقاً على حديث: «من صلّى خلف عالم تقيّ؛ فكأنما صلّى خلف نبي»، قال: لا أصل له، وقد أشار لذلك الحافظ الزيلعي، بقوله في «نصب الراية» (2/ 26) «غريب» وهذه عادته في الأحاديث التي تقع في «الهداية» ولا أصل لها فيما كان من هذا النوع «غريب» فاحفظ هذا فإنّه اصطلاح خاص به اهـ (2/ 44 رقم 573) وفي «الإرواء» (3/ 359) قال الترمذي في حديث: «غريب»، فقال الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – معلقاً عليه: يعني ضعيف وكذا في (4/ 150) والله تعالى أعلم.
(2) قال القسطلاني: الغريب ما انفرد راوٍ بروايته زيادة، فيه عمن يجمع حديثه، كالزهري أحد الحفاظ في المتن، أو السند، ويقسم إلى غريب صحيح كالأفراد المخرجة في «الصحيحين» وإلى غريب ضعيف وهو الغالب وإلى غريب حسن، «نقلاً من معجم مصطلحات توثيق الحديث» (ص:56).
وقال الجرجاني في «التعريفات»: الغريب من الحديث ما يكون إسناده متّصلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن يرويه واحد إمّا من التابعين أو من أتباع التابعين أو من أتباع أتباع التابعين (ص:208)، وقال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (70) الغريب: وهو ما يتفرّد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند على ما سيقسَم إليه الغريب المطلق والغريب النسبيّ، اهـ. وهو الأصح والله أعلم.(1/164)
ولا يلزم من كونه غريباً أن يكون ضعيفاً، فقد يكون غريباً وصحيحاً، كما في حديث: «إنّما الأعمال بالنيّات» فإنّه غريب الأصل، جاء من جهة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فسمعه عمر، وعمر حدّث به، فرواه عنه علقمة، وعلقمة حدّث به، فرواه عنه محمد بن إبراهيم التيمي، والتيمي حدّث به، فرواه عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وبعد يحيى بن سعيد الأنصاري انتشرت الطرق، وكثرت، حتى ذكر بعض العلماء أنّه من بعد يحيى بن سعيد الأنصاري رواه سبعمائة نفس، لكن الحافظ ابن حجر ردّ هذا القول، فذكر أنّه تتبع السنن، والمسانيد، والأجزاء، والروايات بقدر استطاعته فلم يبلغ المائة (1).
على كل حال فالحديث الغريب، قد يكون صحيحاً أو حسناً، وقد يكون ضعيفاً، ولكن الترمذي يكثر من إطلاقه بمعنى الضعيف، والله أعلم.
__________
(1) قال الحافظ – رحمه الله تعالى – في «فتح الباري» (1/ 11): «وعرف بهذا التقدير غالط من زعم أنّ حديث عمر متواتر؛ إلا إن حمل على (التواتر المعنوي) فيحتمل نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد فحكى محمد بن سعيد النقاش الحافظ: أنّ رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفساً، وسرد أسماءهم أبو القاسم ابن مندة فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسى المديني، عن بعض مشايخه مذاكرة، عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.
قلت: وأنا أستبعد صحة هذا فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة ... إلخ اهـ.
وقال – رحمه الله – في «التلخيص الحبير» (1/ 97) في الوضوء: «تتبعته من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقاً». اهـ.
وانظر كذلك «مقدمة تهذيب التهذيب» (1/ 4 - 5) والله أعلم.(1/165)
س 33: لماذا ترتفع جهالة العين برواية اثنين، وإن كان في كل منهما ضعف، ولا ترتفع برواية الثقة الذي حديثه صحيح مع أنّ حديثيهما حسن لغيره
ج 33: هذا إشكال يرد في النفوس، والجواب على هذا: أن هذا من الشهادة، فكأنه قد شهد كل منهما أنّه قد لقي هذا الرجل، وسمع منه، شيئاً قول الاثنين على قول الواحد؛ لأنّ هذا من باب الشهادة لا من باب الرواية، هذا ما ظهر ليّ من تفرقة أهل العلم بينهما، والله أعلم (1).
س 34: ما هو الحكم على سند فيه راوٍ قد خالف، ولم نجد له ترجمة؟
ج 34: بالنسبة لسندين أحدهما رواه ثقة، والآخر لم يُجَرَّح، ولم يُعّدَّل، أو لم نعرف ترجمته أصلاً، أو لم يوقف عليه، فهو في هذه الحالة في عداد المجهولين.
__________
(1) ذكر هذه العلّة الإمام الزركشي – رحمه الله تعالى – في تعقبه على أبي الوليد الباجي، قال أبو الوليد: ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أنّ الراوي إذا روى عنه واحد فقط فهو مجهول، وإذا روى عنه اثنان فصاعداً فهو معلوم انتفت عنه الجهالة، قال: وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنّه قد يروي الجماعة عن الرجل لا يعرفون حاله، ولا يخبرون شيئاً من أمره، ويحدّثون بما رووا عنه، ولا تخرجه روايتهم عنه عن الجهالة، إذا لم يعرفوا عدالته.
قال الزركشي: قلت: مراد المحدثين ارتفاع جهالة العين لا الحال، وعمدتهم أنَّ رواية الاثنين بمنزلة الترجمة في الشهادة، والله أعلم «البحر المحيط» (4/ 283).(1/166)
وفي هذه الحالة فالمجهول إذا خالف الثقة، فهو منكر؛ لأنَّ الجهالة وإن لم تكن جرحاً، فهي في عداد موجبات الضعف للحديث (1).
س 35: بعض أهل العلم حسَّن سنداً فيه رجل، ثم ساق ترجمته كالآتي: قال: عبدالله بن مسلمة: ضعيف من قبل حفظه، لكنّه هنا يروي أمراً شاهده بنفسه، فالغالب في مثل هذا أنّه لا ينساه الراوي، وإن كان فيه ضعف فالسؤال هنا: لماذا لا يجعل السند صحيحاً؟
ج 35: الجواب من مسألتين، وإن لم يتعرض السؤال صراحة لإحدى المسألتين:
__________
(1) قلت: وكذلك إذا لم يخالف فإذا انفرد الراوي الذي لم يذكر فيه جرح ولا تعديل، فروايته منكرة عند بعض أهل العلم، وقد ذكر العلامة ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى – نحواً من ذلك في بحثه في حديث روي عن أنس بن مالك: أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَما حضر شهر رمضان قال: «سبحان الله، ماذا تستقبلون؟ وماذا يستقبل بكم؟ ... » إلخ.
قال الشيخ: ورواه ابن خزيمة في «صحيحه» والبيهقي، وقال ابن خزيمة: إن صح الخبر، فإني لا أعرف خلفاً أبا الربيع بعدالة ولا جرح، ولا عمرو بن حمزة القيسي الذي دونه، قال المنذري: قد ذكرهما ابن أبي حاتم ولم يذكر فيهما جارحاً.
قلت: «والكلام للشيخ» فكان ماذا؟! فإنّه لم يذكر فيه توثيقاً أيضاً، فمثل هذا أقرب إلى أن يكون مجهولاً عند ابن أبي حاتم عن أن يكون ثقة عنده وإلا لما جاز له أ، يسكت عنه، ويؤيد هذا قوله في مقدمة الجزء الأول من (ص:38): «على أنّا ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم، رجاء وجود الجرح والتعديل إلا لعدم علمه بذلك فلا يجوز أن يتخذ سكوته عن الرجل توثيقاً منه له كما يفعل ذلك بعض أفاضل عصرنا من المحدّثين وجملة القول: أنّ هذا الحديث عندي منكر لتفرد هذين المجهولين به مع احتمال أن يكون قوله منكر هنا بمعنى أن السند مظلم اهـ «الضعيفة» (1/رقم 298 ص:312 - 313).(1/167)
الأولى: هل هذا الكلام مقبول في النقد العلمي، أو غير مقبول؟ لو أنّ رجلاً عُرِفَ بالضعف من قبل حفظه، وحكى شيئاً قد وقع له، وليس مجرد ناقل لهذا الخبر عن غيره، هل في هذه الحالة يُقبل كلامه، أم لا؟
الظاهر من بعض المواضع التي وقفت عليها للحافظ ابن حجر، وصنيع الشيخ الألباني – رحمه الله – في بعض كتبه أنّه في مثل هذه الحالة يُقبل، وقد وجدت أيضاً كلاماً للحافظ ابن حجر في «هدي الساري) في كلامه على الأحاديث التي انتقدت على صاحب «الصحيح»، ذكر أيضاً لو أنَّ الرجل الضعيف روى حديثاً فيه قصة دلّ على أنّه حفظها، ونقله عن أحمد، انظر «التتبع» الحديث رقم (39) (ص:239) (1).
المسألة الثانية: وهي هل يكون حسناً، أو صحيحاً؟ فالأمر في ذلك سهل.
فمن سماه حسناً فهو في هذه الحالة يعني – إن شاء الله -: أنّه موافق لتعريف الحسن الذي في راويه كلام، أو اختلاف، أو أنّه دون رجال الصحيح.
ومن قال: إنّه صحيح يقصد أنّه ضبط ما جرى له، فالأمر سهل.
__________
(1) قال الحافظ في «هدي الساري» (ص:363) ح رقم (42): قال الدّارقطني وأخرج البخاري حديث العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» وهذا لم يسنده غير العوّام وخالفه مسعر فقال عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة قوله، لم يذكر أبا موسى ولا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قلت: مسعر أحفظ من العوام – بلا شك – إلا أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة تدل على أن العوّام حفظة؛ فإن فيه اصطحب يزيد بن أبي كبشة، وأبو بردة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة: أفطر؛ فإني سمعت أبا موسى مراراً يقول: فذكره، «وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة دلّ على أن راويه حفظه» والله أعلم.(1/168)
س 36: ما هو الراجح في قول التابعي: «من السنة كذا»؟
ج 36: الذي ترجح في كتب علوم الحديث أنّه في حكم الموقوف، كما أنّ قول الصحابي: «من السنة كذا» له حكم الرفع، فقول التابعي: «من السنة كذا» له حكم الوقف (1).
__________
(1) قول الصحابي: من السنة كذا، مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور، وقد روى البخاري في «صحيحه» في حديث ابن شهاب عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة، قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال: وهل يعنون بذلك إلا سنته. اهـ.
قال السيوطي: فنقل سالم وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدنية، وأحد الحفّاظ من التابعين عن الصحابة، أنّهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون إلا سنّة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اهـ من «التدريب» (1/ 209).
وقد حكى الزركشي الخلاف في المسألة وذكر فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنّه في حكم الموقوف، قال: ونقله ابن الصلاح والنووي عن الإمام أبي بكر الإسماعيلي.
الثاني: أنّه ليس بحجة وذهب إليه الكرخي والرازي والصيرفي، قال: لأنّ المتلقى من القياس قد يقال له سنة لإسناده إلى الشرع، قال: والذي عليه الأكثرون أنّه يفهم من سنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيكون حجة، وقال ابن السمعاني: أ، ّه مذهب الشافعي، وقال النووي في مقدمة «شرح المهذب» أنه المذهب الصحيح المشهور، وجرى عليه الآمدي والإمام والمتأخرون، وشرط الحاكم وأبو نعيم في علومهما كون الصحابي معروفاً بالصحبة وفيه إشعار أن من قصرت صحبته لا يكون كذلك (4/ 376 - 378) «البحر المحيط» قال ابن الوزير: (وأما التابعي إذا قال ذلك) أي: من السنّة كذا (فقيل: موقوف متّصل؛ لأنّهم قد يعنون بذلك سنة الخلفاء)، فلا يجزم بأنّهم أرادوا سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنّه جزم مع الاحتمال «توضيح الأفكار» (1/ 269).
قال النووي – رحمه الله -: ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بعده صرّع به الغزالي وآخرون اهـ. مقدمة «شرح المهذب» (ص:59).(1/169)
قلت: وسيأتي – إن شاء الله تعالى – خلاف لهذا في الجزء الثاني من الكتاب، فارجع إليه (1).
س 37: إذا تعارض حديثان صحيحان، أحدهما في «صحيح مسلم» وفيه عنعنة أبي الزبير، والآخر في السنن، فماذا يُقّدَّم؟ مع أن بعض أهل العلم يُقدِّم الآخر على الحديث الذي في «صحيح مسلم»؟
__________
(1) هذا وقد رجّح المؤلف – حفظه الله – في «الجزء الثاني» من هذا الكتاب قول من أطلق الإرسال، على قول التابعي «من السنة كذا» فليراجع.
ولكنَّ النفس تميل إلى ما دوّنه المؤلف في هذا السؤال، وقد ذهب إلى ذلك الإمام النووي – رحمه الله – وعزاه إلى جمهور أهل العلم، حيث قال في مقدمة «شرح المهذب» (1/ 60).
وأما إذا قال التابعي: من السنة كذا، ففيه وجهان، حكاهما القاضي الطبري:
الصحيح منهما والمشهور أنّه موقوف على بعض الصحابة.
والثاني: أنّه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنّه مرفوع مرسل. اهـ، وانظر كذلك «البحر المحيط» للزركشي (4/ 478).
وممن نصره كذلك الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – حيث قال في «الإرواء» (3/ 41) رقم (582)، وقول التابعي: من السنة كذا، في حكم الموقوف لا المرفوع، بخلاف قول الصحابي ذلك؛ فإنّه في حكم المرفوع ... إلخ اهـ.(1/170)
ج 37: ننظر أولاً هل هذا الحديث مما انتقد على الإمام مسلم، أو مما سُلم للإمام مسلم بإدخاله في كتابه الموسوم بالصحّة؟ فإذا كان منتقداً فلا إشكال، وتقدم الرواية الصحيحة، سواء كانت في السنن، أو في غيرها من الكتب، أمّا إذا كان غير منتقد، فهنا يكون الإشكال، ويكون لهذا السؤال وجه، والأمر راجع إلى الترجيح، والترجيح له قرائن كثيرة مثل: حفظ الرواة، وشهرة الرجال، وشهرة المتن، وعدم مخالفته لأصول أخرى، وينظرون في كيفية إخراج صاحب «الصحيح» لهذا الحديث؟ هل انتقاه من حديث الراوي، أو أخذه من كتبه وأصوله؟ فالجواب من هذا المقام مجمل، وهو أني أدلك على القرائن التي بها يترجح الراجح، لكن بقي الإشكال في نقطة ضيقة، قد لا نحتاج إليها، وهي ما إذا انتفت كل القرائن التي نرجح بها، فما هو الذي يقدم؟ الحديث الذي في «صحيح مسلم» على ما فيه من الكلام، أو الحديث الذي في «سنن أبي داود»، أو في «مسند الإمام أحمد» مثلاً، وهو سالم من العلّة؟
لهذا وجه في الترجيح، ولذاك وجه في الترجيح، فالذي في «صحيح مسلم»، وجهه أن يقال: اتفق الحفّاظ على صحّته، والآخر لم ينل هذه المنزلة، ولم يقع عليه اتفاق كما وقع على الذي في «صحيح مسلم»، وصحة السند قد لا يلزم منها صحة المتن، وللآخر أن يقول: هذا الحديث سالم من العلة، وظاهره السلامة من العلة، وذاك فيه علة و «صحيح مسلم» مقدم على ما في «السنن» أو «المسانيد) مثلاً في الجملة، لا في كل حديث بمفرده، ففي الحقيقة الأمر اجتهادي، وأنا إلى ترجيح ما في «صحيح مسلم» أميل، وأسأل الله أن يشرح صدورنا للحق، والله أعلم.
س 38: إذا وقع خلاف في سماع راوٍ من راوٍ آخر، وجاءت رواية بالتصريح بالسماع في «مسند أحمد» مثلاً، فهل يكتفي بهذا التصريح في حل هذا الخلاف؟(1/171)
ج 38: مسألة سماع الراوي من شيخه عند أهل العلم تعرف بعدة أمور: فإما أن يكون تاريخ وفاة التلميذ وتاريخ وفاة الشيخ ليس بينهما فترة واسعة، مع كبر سن التلميذ، مما يدل على أنّه أدركه إدراكاً بيننا، وأن اللقاء ممكن ليس هناك ما يمنع من ذلك (1).
__________
(1) أقول: وهذا هو مذهب الإمام مسلم – رحمه الله تعالى – الذي نصره في مقدمة «صحيحه» وادعى الإجماع عليه وأنكر على من قال باشتراط اللقاء، والسماع مرة فصاعداً إنكاراً شديداً، وخلاصة ما يراه الإمام مسلم هو اشتراط المعاصرة مع إمكان اللقاء أو السماع دون التحقق من وقوعه إلا أن يأتي ما يعارض مثل أن يعلم أنّه لم يسمع منه أو لم يلق المنقول عنه ولا شاهده أو تكون سنه لا تحتمل ذلك ... إلخ، وارجع إلى كلامه في «مقدمة الصحيح» (1/ 29 - 30).
وقد خالف في ذلك قوم اشترطوا ثبوت السماع أو اللقاء في الجملة لا في كل حديث وهو رأي كثير من المحدثين، منهم الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني وغيرهما، رحم الله الجميع.
والذي عليه العمل في هذا العصر هو: أنَّ رواية الراوي عمن أدركه وعاصره وأمكن لقاؤه له متصلة صحيحة والحجة بها لازمة والباحث يرجح في مثل ذلك إلى كتب الرجال فإن ذكروا أن فلاناً روى عن فلان ولم يذكروا أنّه يرسل عنه أو أنّه لم يسمع منه الحديث الفلاني فتحمل عنعنته على الاتصال ما لم يكن مدلساً وإن ذكروا ذلك عنه لم نحتج بروايته عن شيخه هذا إما مطلقاً أو في حديث بعينه، والله أعلم.
وقد استفدت هذا الترجيح من دروس شيخي أبي الحسن – حفظه الله – وتعليقاته فجزاه الله خيراً.(1/172)
وإمّا أن يكون بتصريح الأئمة بهذا، وقد يكون بتصريح الرواة بأن فلاناً سمع من فلان، وهذه النقطة التي سيق السؤال لها، وهي مسألة تصريح الرواة: فربّما أننا لو جمعنا طرق الحديث، وجدنا أن هذا التصريح من هذا الراوي بالسماع من ذلك الشيخ، جاء من طريق راوٍ، ونجد بقية الرواة يروونه بدون تصريح، كما سبق أن ذكرنا أن باب زيادة الثقة، والشذوذ يتطرق إلى مسألة السماع.
فإذا كان كثير من الرواة قد رووا الحديث بدون تصريح بالسماع، وتفرد أحد الرواة بالتصريح، فهنا يكون الترجيح بينه وبينهم: وصفاً أو عدداً، فإذا كانوا هم أكثر منه، أو أوثق قُبِل كلامهم، لا سيّما إذا كانت رواية هذا الراوي عن شيخه معروفة بإدخال واسطة بينهما (1).
ونحن في كثير من كتب العلل، أو الكتب التي تعتني بهذا الشأن نراهم يقولون: فلان صرّح بسماع فلان من فلان، ولم يصنع شيئاً، يعنون أن تصريحه بالسماع لا يفيد إثبات السماع (2)،
__________
(1) إذا روى الثقة عمن عاصره ولم يثبت لقائه به ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة يستدل به الأئمة على عدم سماع الراوي من شيخه اهـ من «شرح العلل» لابن رجب (2/ 593).
قال المؤلف: وكذلك إذا كان الراوي لم يأت عنه قط تصريح بسماع عن شيخه وإذا روى عنه أدخل واسطة فإنّهم يستدلون بذلك على عدم سماعه من ذلك الشيخ، والله أعلم.
(2) قال ابن رجب: وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ يعني: ذكر السماع، قال في رواية هدبة، عن حماد عن قتادة، ثنا خلاد الجهني: هو خطأ خلاد قديم، ما رأى قتادة خلاداً.
وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن مالك، سمعت عائشة فقال: هو خطأ وأنكره، وقال عراك: من أين سمع من عائشة، إنّما يروي عن عروة عن عائشة، «شرح العلل» لابن رجب (2/ 593 - 594).(1/173)
فمثل هذا إذا صرّح بالسماع يحتاج إلى جمع الطرق، لمعرفة الرواة الذين صرّحوا، والذين لم يصرِّحوا، والترجيح بينهم بالقرائن المعروفة عند أهل الحديث في ذلك.
فقد يكون مجرد التصريح بالسماع كافياً، إذا كان هذا الرجل قد انفرد بهذه الرواية، ولم يكن هناك وهْمٌ من تلامذته (1)، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء بهذا الشأن، وقد لا يكون تصديق بالسماع كافياً، إذا انفرد به مخالفاً لجمع أوثق منه، أو أعرف بهذا الشيخ منه، أو كان السماع الذي في السند مخالفاً لتصريح العلماء بعدم السماع.
فهذه مسألة لا تقبل بسهولة إلا إذا علم أنّه لم يهم هو أو أحد تلامذته عليه، والمسألة كما قلت: تدور مع القرائن فيُقبل هذا التصريح في بعض المواضع، ولا يقبل في المواضع الأخرى.
(تنبيه): واعلم أن الأصل في ذلك: أن نفي العلماء للسماع مقدم على مجرد وجود التصريح بالسماع في بعض طرق الحديث، لاحتمال التصحيف أو التحريف في بعض النسخ، أو وهم أحد التلامذة، فيكون السند عنده بالعنعنة، فيرويه مصرحاً بالسماع، دون معرفة لما يترتب على ذلك، فإذا انضم إلى هذا أن الراوي معروف بالرواية عن ذلك الشيخ، بواسطة راو أو أكثر، كان ذلك دليلاً قوياً على عدم اعتماد التصريح الذي في السند، والله أعلم.
س 39: لماذا لا نقول هنا بقاعدة المثبت مقدم على النافي؟
__________
(1) قلت: قد يهم التلامذة على شيخهم فيصرِّحون بسماعه من شيخه وهو لم يسمع منه كما ذكر أبو حاتم الرازي أنَّ بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمع، فيظن أصحابه أنّه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه ولا يضبطون. انظر المصدر السابق (2/ 594).(1/174)
ج 39: إذا اتفق أهل الحديث على شيء، فالقول قولهم (1)، بل وإن كان بعضهم يصرح بعدم السماع، فأنا لا تطمئن نفسي إلى مجرد تصريح راوٍ في «مسند الإمام أحمد» مثلاً بأنّه قد سمع؛ لأن هناك فرقاً بين تصريح راوٍ بالسماع، وبين نقد إمام من الأئمة، فتصريح الراوي هذا محتمل أن يكون قد تصحف، ومحتمل أن يكون من وهم التلامذة، ومحتمل أن يكون من رواية التلامذة بالمعنى، فظنّوا أنَّ العنعنة لا تضر؛ لأنّ الرجل غير مدلس، فحملوها على السماع، فصرَّحوا بالسماع بينه وبين شيخه، أو لكونهم لا يعرفون طبقات الرواة وسماعاتهم، فوقع ما وقع منهم دون تنبه لذلك.
وهذا يختلف عن تصريح إمام من الأئمة بالسماع، فحين ذاك يتنزل قولهم: المثبت مقدم على النافي.
أمّا تصريح راوٍ مع مخالفة أئمة النقد الذين أفنوا أعمارهم في معرفة هذا الشأن، ويأتي راوٍ في «مسند الإمام أحمد»، أو في «السنن»، أو في «مصنف ابن أبي شيبة» أ, في غيره من الكتب، ويقول: حدّثني فلان، فهذا لا تنزل عليه قاعدة: المثبت مقدم على النافي، لأننا نقول: إنّ النافي أعلم بهذا الشأن من المثبت، والأمر الثاني: أن احتمال التصحيف والرواية بالمعنى كل هذا يضعف جانب الإثبات.
ولو نظرنا في «شرح علل الترمذي» للحافظ ابن رجب (2) – رحمه الله – لوجدناه قد نقل نصوصاً كثيرة للعلماء، في رد تصريحات كثيرة من الرواة بالسماع في بعض الأسانيد، والله أعلم.
__________
(1) قال أبو حاتم: الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً، لأنّه لم يدركه وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أنَّ أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة. اهـ «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص:192) رقم (703).
(2) انظر «شرح الععل لابن رجب» (2/ 590 - 596) وقد سبق نصه قبل تعليقتين.(1/175)
س 40: ابن لهيعة إذا عنعن، وروى عنه أحد العبادلة فما الحكم؟
ج 40: قد ألف جماعة من طلاب العلم في ذلك عدة رسائل، واطّلعت على بعضها، فرأيت فيها جهداً مشكوراً، ووجدت مؤلفها قد جمع نصوصاً عن أهل العلم من كتب الحديث المعتبرة، ومن كتب الرجال المشهورة، وبيَّن أنَّ رواية العبادلة عن ابن لهيعة تعتبر صحيحة لأنَّهم اختلفوا في سبب ضعف ابن لهيعة، فمنهم من قال: كان متقناً قبل أن تحترق كتبه، ومنهم من قال: إنّه لا يزال مخلطاً، يعني: أنّه من أول أمره وهو سيء الحفظ، ورأينا كلام المصريّين – وهم أهل بلده – مثل أحمد بن صالح المصري، وعبدالله بن وهب المصري أيضاً، ورأينا كلام كثير من أهل الشأن قد زكوا بعض الرواة عنه مثل ابن المبارك، وابن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ، وذكروا أنّهم أخذوا عنه من أصوله (1).
__________
(1) أقول: وعندي أنَّ أمر ابن لهيعة يحتاج إلى مزيد بحث وتوسعٍ في ترجمته، وقد ترجمه له الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «التقريب» بقوله: «صدوق خلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه، أعدل من غيرهما» ... إلخ.
ومع ذلك قال في «نتائج الأفكار» (2/ 33): وابن لهيعة هو في الأصل «صدوق» لكن احترقت كتبه، فحدّث من حفظه فخلط، وضعفه بعضهم مطلقاً ومنهم من فصل فقبل منه ما حدّث به عند القدماء ومنهم من خص ذلك بالعبادلة من أصحابه وهم عبدالله بن المبارك وعبدالله بن وهب وعبدالله بن يزيد المقرئ ... قال: والإنصاف في أمره؛ أن متى اعتضد كان حديثه حسنا، ومتى خالف كان حديثه ضعيفاً، ومتى انفرد توقف فيه اهـ، والله أعلم.(1/176)
فإن كان الرجل لا يزال مخلطاً، أو سيئ الحفظ، وأخذ عنه بعض التلاميذ من كتبه، فحديثه في هذه الحالة يكون مقبولاً؛ لأنَّ علَّة سيئ الحفظ، إذا كان يحدث من حفظه، أمّا إذا كان يحدث من كتابه، أو أخرج كتابه لأحد الأئمة، أو أطلع أحد الأئمة على كتابه، وطلب منه أن يختار الصحيح منه، كما حدث من ابن أبي أويس إسماعيل بن عبدالله مع البخاري (1) – رحمه الله – وكما حدث من أبي الزبير مع الليث عندما أخرج له كتابه، وبيّن له الأحاديث التي سمعها من جابر والتي لم يسمعها منه (2).
ففي هذه الحالة نحن نقبل رواية سيئ الحفظ أو المختلط، إذا كان تحديثه من كتبه، فسواء قلنا: إن ابن لهيعة كان سيئ الحفظ، فقد أخذ عنه هؤلاء الأئمة من أصوله، فروايتهم عنه معتمدة، وإن قلنا: إنّه اختلط لما حرقت كتبه، قلنا: إنَّ هؤلاء أخذوا عنه من أصوله، فمن المؤكد أنّهم أخذوا عنه قبل أن تحترق؛ لأنّه بعد الاحتراق ما بقيت له أصول، فعلى كل فإنَّ الأخذ من الكتاب يجبر ضعف ابن لهيعة، بل الأمر لا يقف عند العبادلة فقط، فقد تعدى إلى جماعة من أهل العلم غير العبادلة، وبعضهم قد يتوسع في ذلك، وبعضهم قد يضيِّق، وسيأتي إن شاء الله – تعالى – في الجزء الثاني الطرق التي يُعرف بها صحة رواية سيئ الحفظ ومن كان في معناه، والله أعلم.
وأمّا عنعنة ابن لهيعة فأمر آخر، فلو روى عنه العبادلة مع أنّه قد عنعن، نحن أيضاً لا نقبل حديثه؛ لأنّه قد وُصف بالتدليس، فإذا روى عنه العبادلة، أو أحدهم، أو من كان في معناهم، ففي هذه الحالة بقيت العلّة الأخرى، وهي علّة التدليس؛ لأنَّ الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ذكره في الطبقة الخامسة من «طبقات المدلسين» التي أهلها مدلسون وجُرِّحُوا بأمر آخر.
__________
(1) انظر «هدي الساري» (ص:391).
(2) سبق تخريج ذلك قبل، والقصة في «الكامل لابن عدي».(1/177)
وقد سألت شيخنا – محدث العصر – الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله – عن قبوله رواية العبادلة عن ابن لهيعة وإن عنعن؟ فأجاب بقوله: لأني وجدت الحافظ ابن حجر نفسه – مع إدخاله إياه في الطبقة الخامسة – وجدته يحتج به في مثل هذه الحالة، وإن عنعن، فالله تعالى أعلم بالصواب في ذلك (1).
فإذا أمنا برواية العادلة، أو من سبق الكلام عليهم من جهة سوء حفظه، أو من جهة اختلاطه وتخبطه في الرواية بقيت مسألة التدليس – وفيها البحث السابق – إلا إذا كانت التهمة بالتدليس لم تثبت، فنظر.
لكن بقي أن يقال: المدلس إذا أُخِذَ عنه من كتبه، هل يزيل ذلك علة التدليس؟ أو بمعنى آخر: هل المدلس لا يسقط شيخه إلا إذا حدّث بالحديث من حفظه، مع كونه قد أثبت اسم شيخه في كتابه، فمن أخذ من كتابه علم بشيخه أم لا؟ هذا محل بحث واستفسار، والراجح عندي أنَّ الرواية من الكتاب لا تزيل علّة التدليس، كما حدث من أبي الزبير المكي لليث بن سعد، فقد ناوله كتابه، وأشار لليث على ما سمعه من جابر مباشرة دون ما سمعه منه بواسطة، والله أعلم.
س 41: ما حال راوٍ روى عنه ثقتان، ووثقه ابن حبان، مع العلم أنّ بعض أهل العلم يحسن لمن هذا حاله؟
ج 41: راوٍ روى عنه ثقتان، وأدخله ابن حبان في كتابه «الثقات»، فهذا هو المقصود بكلمة «وثقه ابن حبان» هنا، يعني: أدخله في كتابه «الثقات» لأنّ له كلاماً في الرواة في كتابه «الثقات»، فأحياناً يقول: متقن، وأحياناً يقول: مستقيم الحديث، ففي كل حالة من هذه الحالات يختلف الحكم.
__________
(1) في «تعريف أهل التقديس» (ص:177) قال الحافظ ابن حجر: عبدالله بن لهيعة الحضرمي قاضي مصر اختلط في آخر عمره وكثر عنه المناكير في رواياته.
وقال ابن حبان: كان صالحاً؛ ولكنه كان يدلس عن الضعفاء. اهـ.(1/178)
فإذا قال: متقن، أو من الحفاظ أو غير ذلك، فكلامه مقبول في هذا، ويكون الرجل مقبول الحديث وثقة (1)، وقد جمعت التراجم التي تكلّم عليها في كتابه «الثقات» بقوله: حافظ، أو ضابط، أو متقن، أو من الأئمة، أو من المتقنين، وقارنت كلامه بكلام غيره، فرأيتهم يوافقونه كثيراً، فدل ذلك على عدم تساهله في ذلك، كذلك إذا قال: مستقيم الحديث، فهو متردد بين «ثقة» و «صدوق» وأكثر ما توبع على ذلك كما في «التقريب» يقول الحافظ «صدوق» وسيأتي هذا – إن شاء الله – بتوسع في الجزء الثاني (2)،
__________
(1) سبق معنا قبل قول المعلمي – رحمه الله -: أنّ توثيق ابن حبان – رحمه الله – على درجات:
الأولى منها: أن يصرح به كأن يقول: كان متقناً، أو «مستقيم الحديث، أو نحو ذلك، ثم قال – رحمه الله – بعد عرضه لتلك الدرجات: فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم. اهـ من «التنكيل» (ص:669).
(2) قلت: ومن هؤلاء الذين حكم عليهم ابن حبان بالاستقامة وقد روى عنهم اثنان أو أكثر ولم يوثقهم أحد من الأئمة ولم يجرحهم أحد؛ ومع ذلك أطلق عليهم الحافظ قوله: «صدوق» فمنهم على سبيل التمثيل: أحمد بن مصرف اليماني، روى عنه اثنان، وقال فيه ابن حبان: مستقيم الحديث، فقال فيه الحافظ ابن حجر «صدوق».
وكذا أحمد بن ثابت الجحدري: روى عنه جماعة وقال فيه ابن حبان: كان مستقيم الأمر في الحديث، قال فيه في التقريب: «صدوق»، وأمّا من حكم عليهم الحافظ بالتوثيق فمنهم طليق بن محمد بن السكي روى عنه جماعة، قال فيه ابن حبان في «الثقات»: «مستقيم الحديث كالأثبات» فقال الحافظ في تقريبه: «ثقة».
أقول: وقد يوجد فيمن أطلق عليهم الاستقامة المجروح والمضعف والمجهول ولكنهم قليل والله أعلم.(1/179)
ففرق بين هذا وبين ذكره فقط للراوي في «الثقات»، فإذا كان ابن حبان قد اكتفى بإدخاله الراوي في «الثقات» فقط، والرجل لم يرو عنه إلا راويان، فهو في عداد المجهولين، جهالة الحال على تفاصيل مراجعة لحال تلامذته (1)،
__________
(1) قال عداب الحمش في رسالة «رواة الحديث»:
الصنف الثاني: الرواة الذين سكت عليهم ابن حبان ويزيد عددهم على عشرة آلاف راوٍ فهؤلاء على طبقات متباينة، ولا يمكن إعطاء حكم دقيق ولا تقريبي عنهم ففيهم الثقة الحافظ، وفيهم الصدوق وفيهم المستور والمجهول، والمجهول الحال، وفيهم الضعيف، ومنكر الحديث إلخ اهـ (ص:71).
قلت: ومن نظر في صنيع الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في حكمه على من أدخله ابن حبان في كتابه (الثقات) وسكت عنه وقد روى عنه راويان، يحد الحافظ يحكم عليهم بالجهالة، أو جهالة الحال أو يقول فيه: مقبول.
وقد يترجم الحافظ – رحمه الله تعالى – لمن هذا حاله بقوله: صدوق، فمن هؤلاء خالد بن سارة، روى عنه اثنان وذكره ابن حبان في «الثقات» فقال فيه الحافظ في «تقريبه»: «صدوق» وكذا الحسن بن منصور الرقي، قال فيه: «صدوق» والصواب في كل منهما أن يقال: «مجهول» حال أو مستور كما رجّحه المؤلف، والله أعلم.(1/180)
وشيخنا الألباني – رحمه الله – أراه في بعض كتبه، أو في كثير من المواضع من «السلسلة الصحيحة» يصرح بأن الرجل إذا روى عنه جماعة أو اثنان فأكثر، فإنّه يحسِّن حديثه، ويقبله، إذا ذكره ابن حبان في «الثقات» (1) وتتبعت هذه المواضع فرأيته يفعل ذلك إذا كان من التابعين، لكن الذي تطمئن إليه النفس – في الجملة – أن الراوي لا يخرج عن كونه مجهول حال، لأنّ ابن حبان مشهور بتساهله في توثيق المجاهل، فانفراده بإدخال الرجل في «الثقات» أمر مريب، ويجعل طالب العلم يتوقف في هذا التوثيق، ولا يعتمد عليه، وفي «الضعيفة» رأيت صنيع شيخنا الألباني – رحمه الله – قد يخالف هذا في بعض المواضع، وهذا من الشيخ – عافاه الله من كل سوء – ليس معناه الاضطراب كما يظن بعض أهل الأهواء، بل لعله قد ظهرت له قرائن، ولم تظهر للناظر في كتبه، والله أعلم.
س 42: ثقة في حفظه شيءً، أو «صدوق في حفظه شيءً» في أي المراتب هما من سُلَّم الجرح والتعديل؟
__________
(1) ذكر ذلك الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – مفصلاً في كتابه «تمام المنة» في (ص:205 - 206) ومن صنيعه في «الصحيحة» ما قاله – حفظه الله تعالى – تعليقاً على حديث: «عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر ... »، قال: وإسناد رجاله كلهم ثقات معروفون غير عون هذا فأورده ابن حبان في «الثقات» (2/ 128)، وقال: يروي عن أبيه، عن جده، روى عنه عبدالملك بن أبي عياش، قلت: - والكلام له حفظه الله – فقد روى عنه يونس بن راشد أيضاًوزاد في «الجرح والتعديل» (3/ 1/386): محمد بن موسى فالسند حسن، كما قال المنذري في «الترغيب» (3/ 115).(1/181)
ج 42: بين العبارتين فرق واضح، فقولهم: «ثقة في حفظه شيء» أقل أحواله أن يكون حسن الحديث، ويحتمل أن يكون صحيح الحديث، حتى يثبت أن هذا الحديث من أوهامه (1)، ما لم تظهر قرينة تدل على أن ثقة في دينه، ليَّن في حفظه، فذاك أمر آخر.
وأمّا قولهم: «صدوق في حفظه شيء» فهو عبارة عن قولهم: صدوق في حفظه لين، فلا يرتقي للحسن، ويكون من ألفاظ الشواهد والمتابعات (2).
فالعبارة الأولى تتردد بين الدرجة الثانية والثالثة، من سلَّم الجرح والتعديل، مرتبة «ثقة» أو مرتبة «صدوق»، إلا أن تظهر قرينة تدل على أنّه ثقة في دينه، أمّا في ضبطه ففي حفظه شيء، فلا فرق بينهما حينئذٍ، والله أعلم.
س 43: «فلان يرفع الموقوفات» هل إذا كثر ذلك منه يُعتبر دليلاً على اختلاطه؟
__________
(1) قال الشيخ المعلمي – رحمه الله تعالى – في ترجمة مسلم بن أبي مسلم المجرمي: وقد قدمنا في ترجمة ابن حبان أن توثيقه لمن قد عرفه من أثبت التوثيق، وقوله: «ربّما أخطأ» لا ينافي التوثيق وإنّما يظهر أثر ذلك إذا خالف من هو أثبت منه. اهـ «التنكيل» (ص/712 رقم 244).
قلت: وقد نبه على ذلك ابن حبان – رحمه الله تعالى – في «ثقاته»، فقال في ترجمة أبي بكر بن عياش: « ... كان يخطئ ولم يغلب خطؤه على صوابه ... »، ثم قال: والصواب في أمره مجانبة ما عُلِم أنّه أخطأ فيه والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنّه داخل في جملة أهل العدالة ومن صحت عدالته لم يستحق القدح ولا الجرح، إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح، وهكذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته وتبين خطؤه. اهـ (7/ 669 - 670).
(2) انظر ما قاله الشيخ – حفظه الله تعالى – في «الجزء الثاني».(1/182)
ج 43: لا يلزم من ذلك الاختلاط، إنّما يدل على ضعف في حفظه، ورفع الموقوفات معناه: أن غيره من الثقات يروي الحديث موقوفاً، أمّا هو فيرفعه، وذلك بسبب سوء الحفظ أو الاختلاط، أو قبوله للتلقين، أو التهمة بالكذب، وقد يكون كذاباً يرفع الموقوفات، أي: يرفعها عمداً لا عن وهم أو اشتباه، فيكون في هذه الحالة كذاباً، وقد يكون عن سوء حفظ، أو للاختلاط الذي طرأ عليه، وتطلق هذه العبارة ونحوها كقولهم: «فلان من الرفّاعين» غالباً على من في حفظه كلام، ويهم لا عن عمد، وإذا أرادوا أن يقولوها في الكذاب، قالوا: يزيد في الأسانيد، والله أعلم (1).
س 44: هل المختلط يختلق في الحديث؟
__________
(1) انظر كلام الشيخ – حفظه الله تعالى – في «شفاء العليل» عند قولهم: «فلان يوصل الحديث» (ج1، ص:164)، وعند قولهم: فلان كان رفّاعاً، أو «كان من الرفّاعين» (ج1، ص:178) وعند قولهم: «كان فلان يرفع أشياء لا ترفع»، (ج1 ص:204).
فائدة:
قال الذهبي – رحمه الله – في «سير أعلام النبلاء» (13/ 513) ترجمة الحسن بن علي بن شبيب البغدادي المعمري: قال أبو أحمد بن عدي: كان المعمري كثير الحديث صاحب حديث بحقه، كما قال عبدان: إنّه لم يرَ مثله، وما ذكر عنه أنّه رفع أحاديث وزاد في متون، قال: هذا شيء موجود في البغداديين خاصة وفي حديث ثقاتهم، وأنّهم يرفعون الموقوف، ويصلون المرسل، ويزيدون في الإسناد، قال الذهبي: بئْست الخصال هذه، وبمثلها ينحط الثقة عن رتبة الاحتجاج به، فلو وقف المحدث المرفوع، أو أرسل المتصل لساغ له كما قيل أنقص من الحديث ولا تزيد فيه. اهـ، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في السؤال رقم (118).(1/183)
ج 44: المختلط إذا كان من أهل الشواهد والمتابعات فهو لا يختلق، لكن إذا فَحش اختلاطه، وأصبح من مراتب الرد والترك، فمن المحتمل أن يختلق هذه الأحاديث لا عن قصد، ولكن عن وهم، وعدم شعور، بأنّه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والرجل إذا بلغ هذه المنزلة من الضعف، يأتيه الكذّابون، ويلقنونه هذه الأحاديث، لا سيما إذا كان ذاك الرجل شيعياً، أو صاحب بدعة أو مقالة من مقالات أهل الأهواء، وكان عاميّاً، فيأتيه دعاة البدعة، ويلقنونه هذه الأحاديث، والله المستعان (1).
س 45: إذا قال إمام في راوٍ: مجهول، وقال آخر: ثقة، فهل يعتبر جواباً على تجهيله؟
__________
(1) ومثال ذلك: ما روي أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سمع صوت غناء فقال انظروا ما هذا؟ قال أبو برزة: فصعدت فنظرت فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «اللهم اركسهما في الفتنة ركساً ودعهما إلى النار دعاً»، قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة» ذكره ابن الجوزي، وقال: لا يصح، يزيد بن أبي زياد كان يتلقن، قال في «اللآلئ»: هذا لا يقتضي الوضع اهـ.
قلت: وعلق عليه المعلمي – رحمه الله – فقال: لكنّه مظنة رواية الموضوع فإن معنى قبول التلقين؛ أنّه قد يقال له: أحدثك فلان عن فلان، بكيت، وكيت؟ فيقول: نعم، حدثني فلان بن فلان بكيت وكيت، مع أنّه ليس لذلك أصل وإنّما تلقنه وتوهم أنّه من حديثه، وبهذا يتمكن الوضّاعون أن يضعوا ما شاءوا، ويأتوا إلى هذا المسكين فيلقنونه فيتلقن ويروي ما وضعوه ... ولا أرى البلاء إلا من يزيد فإنّه من أئمة الشيعة الكبار والراوي عنه لهذا الخبر شيعي وله عنه خبر باطل، وإذا كان من أئمة الشيعة فلا (بدع) أن يستحوذ عليه بعض دجاجلتهم فيلقنه الموضوعات ... اهـ «تحقيق الفوائد المجموعة» (ص:408 رقم 58).(1/184)
ج 45: لا شك أنَّه إذا كان الموثِّق ليس من المتساهلين في توثيق المجاهيل، فالمثبِت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم، ومع المثبت زيادة علم ليست مع النافي، هذا كله إذا لم يكن الموثق معروفاً بالتساهل، لكن الرجوع إلى القرائن أمر مهم جداً، فقول إمام من الأئمة على أحد الرواة: «مجهول»، وهو من قبيلته، ومن أهل بلده، ومن طبقته، كقول أحمد أو ابن معين في رجل بغدادي أو شيباني: بأنَّه مجهول، ثم نقف على توثيق الحاكم أو الترمذي أو ابن حبان له، فإننا نزداد تأكيداً بأن قول من جهَّله أولى من قول من وثّقه (1).
وهذا بخلاف قول أحمد في راوٍ مصري: مجهول، ثم نقف على كلام إمام مثل أبي سعيد بن يونس، الذي ألّف «تاريخ مصر» والذي بلغ المنتهى في رجال الغرب مصر وإفريقيا، فيوثق الرجل، فهنا نقول: من علم حجة على من لم يعلم، فالرجوع للقرائن أمر مهم، والقول في هذه الحالة قول ابن يونس كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر (2)،
__________
(1) جاء في «الميزان» (2/ 27) ترجمة دغفل بن حنظلة النسابة ...
قال فيه أحمد: «ما أعرفه» قال الحافظ الذهبي – رحمه الله -: يكفي في جهالته كون أحمد ما عرفه وهو ذهلي شيباني.
قلت: وساق بعده قول ابن سيرين: كان دغفل رجلاً عالماً، ولكن اغتلبه النسب، ومع هذا حكم عليه الذهبي – رحمه الله – بالجهالة معتداً بقول أحمد، والله أعلم.
(2) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «التهذيب» (6/ 218) ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي وابن يونس إليه المرجع في «معرفة أهل مصر والمغرب». اهـ.
فائدة:
وقد يوثق الإمام أحمد المجهولين لاشتباه اسمه باسم أحد الرواة المشهورين، مثاله ما جاء في «الميزان» (2/ 343) ترجمة الحكم بن عتيْبة بن نهاس كوفي.
قال الذهبي: ذكره ابن أبي حاتم وبيض له: «مجهول»، وقال ابن الجوزي: إنّما قال أبو حاتم: هو مجهول لأنّه ليس يروي الحديث وإنّما كان قاضياً بالكوفة وقد جعل البخاري هذا والحكم بن عتيبة الإمام المشهور واحداً فعُدَّ من أوهام البخاري. اهـ.(1/185)
والمسألة ترجع إلى بلديَِّ الرجل، ورسوخه في النقد، وهل هو في زمانه أم لا، وهل هو متساهل، أو متشدد؟
هذه كلها أشياء يحتاج إليها طلبة العلم عند الترجيح بين كلام الأئمة، الذي ظاهره التعارض في تراجم الرواة، والله أعلم.
س 46: الراوي إذا كان ضعيفاً في حديث أهل بلد، وروى عن غير أهل هذه البلد، فما حال حديثه؟
ج 46: يكون حديثه قوياً في غير أهل هذه البلدة، وإذا نصوا على أنَّ الراوي قوي في أهل بلده، دل على أنّه ضعيف في غير أهل تلك البلدة، لكن إذا ذكروا أنَّ الراوي حدّث ببلدة كذا بأحاديث، ووهم فيها، مثلما قالوا في معمر، وذكروا أنّه حدث بالبصرة أحاديث فوهم فيها (1)،
__________
(1) في رواية الأثرم، قال أحمد: حديث عبدالرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر – يعني باليمن – وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة، وقال يعقوب بن شيبة سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب؛ لأنّ كتبه لم تكن معه. اهـ.
من «شرح العلل لابن رجب» (2/ 767).
هذا وقد ذهب الحافظ ابن حجر – رحمه الله – كما في «التلخيص الحبير» (3/ 192 - 193) إلى تضعيف حديث معمر الذي حدث به في غير اليمن على الإطلاق، فقال: «وحكى الحاكم عن مسلم أنّ هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة، قال فإن رواه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة، وقد أخذ ابن حبان والحاكم، والبيهقي بظاهر هذا الحكم فأخرجوه من طريق معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان، وأهل اليمامة عنه، قال الحافظ: قلت: ولا يفيد ذلك شيئاً فإن هؤلاء كلهم إنّما سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب لأنّه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأمّا إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها اتفق على ذلك أهل العلم كابن المديني والبخاري وأبي حاتم ويعقوب بن أبي شيبة وغيرهم. اهـ.(1/186)
فليست كل رواية فيها تلميذ بصري عن معمر تكون مضعفة – وإن كان ذلك هو الأصل – لاحتمال أنّ هذا البصري أخذ من معمر خارج البصرة، لكن إذا لم تقم قرينة تدل على ذلك، ضُعِّفت رواية هذا البصري عن معمر، لا سيما إذا كان فيها مخالفة من معمر لرواية الثقات، والله أعلم (1).
س 47: ابن حبان يدخل الراوي في كتابه «الثقات» ويقول: «يغرب»، فهل هذا تضعيف منه؟ فإن كان كذلك؛ فما وجه إدخاله في كتاب «الثقات» دون «المجروحين»؟
ج 47: قول ابن حبان في «الثقات» في الراوي: يخطئ، أو يغرب، أو ربّما أغرب، أو ربّما أخطأ، هذه الكلمات ليست تضعيفاً صريحاً منه حتى نقول: إذا كان كذلك، فلماذا لا يدخله في «المجروحين».
__________
(1) أقول: وقد يرد سؤال آخر وهو:
ما حال رواية الراوي المضعف في روايته عن أهل بلد معين إذا روى عنهم؟
والجواب: أنَّ روايته صالحة في الشواهد والمتابعات إلا أن يكون جرحه شديداً في أهل هذه البلد.
ومثال من يستشهد بروايته إسماعيل بن عياش في روايته عن المدنيين والمصريين كلام، فإذا روى عنهم، فروايته صالحة للاستشهاد، وقد أجاب بمثل ذلك شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله – في كتابه «المقترح» (السؤال رقم 28) والله أعلم.(1/187)
ولكن يُنظر ما عدد أحاديث هذا الراوي؟ فإذا كان مكثراً، فلا تضره الغرائب، وإذا كان مقلاً، وليس معه إلا حديث واحد مثلاً، وأغرب فيه، فيكون متروكاً، وقد رد بهذا أو نحوه الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – على ابن حبان، في ترجمة بعض الرواة، الذي قال فيه ابن حبان هذه المقالة، مع إدخاله إياه في «الثقات»، وليس له إلا حديث واحد، وعلى كل حال فهذه الكلمة ليست جرحاً صريحاً من ابن حبان، حتى نقول: يلزمه أن ينقل هذه الترجمة من كتاب «الثقات» إلى كتاب «المجروحين» (1)، فإن كتاب «المجروحين» لمن كان الجرح فيهم ظاهراً، والعكس في كتاب «الثقات»، وإن كان ابن حبان قد يخرج عن ذلك في بعض التراجم، ولذلك عده بعضهم بأنه صاحب تهاويل.
وكما أن هذه العبارات ليست جرحاً صريحاً من ابن حبان، فكذلك ليست جرحاً صريحاً من غيره، وليست كقولهم: «ضعيف»، وإن كان فيها تليين للراوي، وكذا قوله: «فلان صدوق يغرب»، أو «صدوق يهم» ليس كقولهم: «فلان ضعيف»، فإن القول الأخير أظهر في الضعف من القول الأول، والله أعلم.
س 48: رجل قيل فيه: «مصري مشهور»، وقال ابن القطان: «لا يُعرف»، وروى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، فما حاله؟
ج 48: أولاً الشهرة لا يلزم منها التوثيق، فقد يكون مشهوراً بالكذب، وقد يكون مشهوراً بالغزو، وقد يكون مشهوراً بالعبادة، وقد يكون مشهوراً في غير الحديث، كما أنّه قد يكون مشهوراً في الحديث، فقولهم: «مشهور» ليس فيه إثبات تعديل بمجرده.
__________
(1) قال المعلمي – رحمه الله تعالى – في «التنكيل» (ص:540) ترجمة عبدالرحمن بن الحكم بن بشير بن سلمان: وأمّا الغرائب فمن كثر حديثه كثرت غرائبه، وليس ذلك بقدح ما لم تكن مناكير، الحمل فيها عليه. اهـ.(1/188)
وأمّا ابن القطان الفاسي فقد شهر عنه أنّه يطلق الجهالة وعدم المعرفة على أناس مشهورين، وقد صرح بذلك الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – في كتابه «الميزان» (1) وغيره، فإنه كثيراً ما يقول: «مجهول العدالة» أو «مجهول الحال» أو «لا نعرف حاله» على من قد ثبتت عدالته، وقد فصَّلْت ذبك بشواهده في «شفاء العليل»، فارجع إليه (2).
س 49: كيف يعرف أنّ فلاناً متساهل، أو متشدد في الجرح والتعديل؟
ج 49: الناقد من النقاد يُعرف هل هو متشدد أو متساهل أو معتدل إما بنص العلماء الحفاظ المتأخرين عنه، أو المعاصرين له، بأنّه متشدد، أو متساهل، أو معتدل، وإما بالاستقراء، والاستقراء: عبارة عن جمع أقوال هذا الإمام في الرواة، وتقارن هذه الأقوال بأقوال غيره من الأئمة الذين ثبتت شهرتهم وعدالتهم في هذا الشأن، وثبت اعتدالهم في الأحكام، ويُنظر هل يوافقهم، أو يخالفهم، فإما أن تكثر منه الموافقة، وإما أن تكثر منه المخالفة.
__________
(1) قال الذهبي – رحمه الله -: وابن القطان يتكلّم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل، أو أخذ عمن عاصره مما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير، ففي «الصحيحين» من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل «الميزان» (1/ 556).
(2) «الشفاء» (294 - 295): وبالنسبة إلى ما ورد في السؤال فقول ابن القطان في الرجل: لا يعرف، مقدم على ذكر ابن حبان له في «الثقات» ويكون الراوي مجهول حال في الحديث، والله أعلم.
وقد نبه على ذلك الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي – رحمه الله – في «الأنوار الكاشفة».
فليراجع في (ص:269).(1/189)
فإذا كان يكثر من الموافقة للحفّاظ المعتدلين، حكموا فيما انفرد به بأنّه معتدل فيه، وإن كان يكثر من المخالفة، سواء كانت المخالفة بالتساهل، أو بالتشدد، حكموا على ما انفرد فيه بأنه متشدد، أو بأنه متساهل، حسب نوع المخالفة، وأيضاً يُعرف هذا من تصريح الإمام منهم بالتزامه قاعدة معينة، فإذا نظرنا في القاعدة بميزان النقد العلمي، علمنا أنّ فيها تساهلاً، كقاعدة ابن حبان في التوثيق، أو علمنا أنّ فيها تشدداً، كتصريح الإمام مالك – رحمه الله – بأن العلم لا يؤخذ الإ عمن اشتهر بطلب الحديث، وطال اشتغاله به، وقد رد ذلك الحافظ في «لسان الميزان» , ونسب القائلين بهذه القاعدة إلى التعنت (1)، على أن هذه الطرق قد كفيناها بكلام الحفّاظ في الرواة، بقولهم: فلان معتدل، أو متساهل، أو متشدد، إلا أنّه لا يمنع أيضاً أن يكون هناك اجتهاد في هذه المسألة، حول الأئمة الذين لم نقف على كلام فيهم، أو عند اختلاف الأئمة فيهم.
وقد يكون للإمام نفسه في الراوي الواحد عدة أقوال، فلا بد من معرفة ما السبب في ذلك؟ هل هو تغيير اجتهاد، أم هو تغيير في كيفية السؤال؟ فقد يُسأل بهيئة، فيجيب بجواب، ويسأل بهيئة أخرى، فيجيب بجوابٍ آخر، والراوي المسؤول عنه واحد.
__________
(1) قال الحافظ في «لسانه» (1/ 86) ترجمة إبراهيم بن عمر القصار: حدث عن ابن أبي نصر قال الكتاني لم يكن الحديث من صنعته، وقال أبوبكر بن موسى الحداد ثقة. انتهى.
قال الحافظ: والقدح بهذا إنّما يجيء على مذهب أهل التشديد ممن يشترط فيمن يقبل حديثه أن يكون من أهل الفن وقد جاء ذلك عن الإمام مالك وعن قليل ولم يشترط ذلك الجمهور فإن كان الراوي ضابطاً لما سمعه، ولا سيما إن كان قديماً لم يقدح ذلك في مرويه، ثم إن تعاطى ما لا يعرفه في الكلام على الحديث لم يقبل منه، وبالله التوفيق اهـ.
وانظر في ذلك أيضاً «تدريب الراوي» (ج1/ 69 - 70).(1/190)
فأحيانا يسأله السائل، ويقول: ماذا تقول في فلان وفلان؟ ويقرنه برجل ثقة، فيقول: هذا ضعيف أي: بالنسبة إلى ذلك الثقة، فإنّه يعتبر ضعيفاً، فيسأله عنه مرة ثانية، ويقرنه برجل ضعيف، فيقول: ماذا تقول في فلان وفلان؟ فيقول: هذا ثقة، أي: هو أحسن حالاً من هذا الضعيف، فالتوثيق أو التجريح هنا أمر نسبي في تلك الحالتين، فهذا لا يكون كافياً في الحكم على الرجل كحكم عام، فلا بد من معرفة كيفية السؤال الذي وجه إلى المسؤول، ومعرفة جوابه على من سئل عنه، هل أجاب عليه جواباً واحداً، أو اختلفت أقواله، وما السبب في تغير أقواله، هل هو تغير الاجتهاد، وهل كان يضعفه، ثم بان له أنّه ثقة، أم العكس؟ أم أنّ الرجل سئل سؤالاً محتفاً بقرائن معينة، ولما سئل بموضع آخر خالٍ من هذه القرائن خالف حكمه الأول؟(1/191)
كما بيّن ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في مقدمة «لسان الميزان» فقد ذكر طرفاً من ذلك (1)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر: وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها فقد يقول العدل فلان ثقة ولا يريد به أنّه ممن يحتج بحديثه وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجه السؤال له فقد يسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان وفلان، فيقول: فلان ثقة، يريد: أنّه ليس من نمط من قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بين حاله في التوسط فمن ذلك أن الدوري قال عن ابن معين: أنّه سئل عن محمد بن إسحاق، فقال: ثقة، فحكى غيره عن ابن معين أنّه سئل عن ابن إسحاق، وموسى بن عبيدة الربذي، إيُّهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق وليس بحجة، ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيّهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضيله على يونس، وسئل عن عُقيل، وزمعة بن صالح، فقال: عقيل ثقة متقن، وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر، وقد يحكمون على الرجل الكبير في الجرح، يعني لو وجد فيمن هو دونه لم يجرح به، فيتعين لهذا حكاية أقوال أهل الجرح والتعديل بنصها ليتبين منها، فالعلّة تخفى على كثير من الناس إذا عرض على ما أصلناه، والله الموفق. اهـ (1/ 17) ..(1/192)
وقد ذكر الشيخ المعلمي – رحمه الله – شيئاً من ذلك، والشاهد من ذكر ما قاله الحافظ والمعلمي: أن الاجتهاد المطلق لأحد الأئمة هو المعتبر عنه، وهو الذي يعرف به كون قائله متساهلاً أو متشدداً أو معتدلاً، بخلاف الاجتهاد المقيّد بحديث معين، أو مقيد بحال الراوي بالنسبة لمن هو دونه أو فوقه، والله أعلم (1).
__________
(1) قال – رحمه الله – في «التنكيل» (ص:254 - 255): ومما يدخل في هذا أنّهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه، وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك، فإسماعيل بن عياش ضعفوهم فيما روى عن غير الشاميين، وزهير بن محمد ضعفوه فيما رواه عنه الشاميون، وجماعة آخرون ضعفوهم في بعض شيوخهم أو فيما رووه بعد الاختلاط ثم قد يُحكى التضعيف مطلقاً فيتوهم أنّهم ضعفوا ذلك الرجل في كل شيء، ويقع نحو هذا في لتوثيق راجع ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة بن عبدالله بن مسعود، قال أحمد: مرة ثقة، وكذا قال ابن معين، ثم بين كل منهما مرة أنّه اختلط، وزاد ابن معين فبين أنّه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه غير صحيح الحديث عنهم.
ومن ذلك أنَّ المحدث قد يسأل عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله ثم قد يسمع له حديثاً فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث، ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في هذا لاحديث الثاني، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف، وقع مثل هذا للدّارقطني في «سننه» وغيرها وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم، وقد ينقل الحكم الثاني أو الثالث وحده فيتوهم أنّه حكم مطلق.
أقول: وفي قسم لتراجم (ص:588 - 589) قال – رحمه الله -: ينبغي أ، تعلم أن كلام المحدث في الراوي يكون على وجهين:
الأول: أن يسأل عنه فيحيل فكره في حاله في نفسه وروايته ثم يستخلص من مجموع ذلك معنى بحكم فيه.
الثاني: أن يستقر في نفسه هذا المعنى ثم يتكلّم في ذاك الراوي في صدد النظر في حديث خاص من روايته، فالأول هو الحكم المطلق الذي لا يخالفه حكم آخر مثله إلا لتغير الاجتهاد، وأما الثاني فإنّه كثيراً ما ينحى به نحو حال الراوي في ذاك الحديث؛ فإذا كان المحدث يرى أنَّ الحكم المطلق في الراوي أنّه صدوق كثير الوهم ثم تكلّم فيه في صدد حديث من روايته ثم في صدد حديث آخر وهكذا، فإنّه كثيراً ما يتراءى اختلاف ما بين كلماته فمن هذا: أنَّ الحجاج بن أرطأة عند الدارقطني صدوق يخطئ فلا يحتج بما ينفرد به واختلفت كلماته فيه في «السنن» فذكره (ص35) في صدد حديث وافق فيه جماعة من الثقات فعده الدارقطني في جملة «الحفاظ الثقات» كما مر، وذكره (ص:531) في صدد حديث أخطأ فيه، وخالف مسعراً وشريكاً، فقال الدارقطني: «حجاج ضعيف» وذكره في مواضع أخرى فأكثر ما يقول: «لا يحتج به» وعلى هذا ينزل كلامه في ابن أبي ليلى فإنّه عنده صدوق سيء الحفظ ففي (ص:46) ذكر حديثاً رواه إسحاق الأزرق عن شريك عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً في طهارة المني، وذكر أنَّ وكيعاً رواه عن ابن أبي ليلى عن عطاء، عن ابن عباس، من قوله، وقد رواه الشافعي عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، وابن جريج كلاهما عن عطاء، عن ابن عباس من قوله، فالحديث صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد رواه وكيع وهو من الثقات الأثبات عن ابن أبي ليلى كذلك، ورواه شريك عن ابن أبي ليلى فرفعه، فحال ابن أبي ليلى في هذا الحديث جيدة؛ لأنّه في أثبت الراويتين عنه وافق الأثبات، وفي رواية الأزرق عن شريك عنه رفعه وقد يحتمل أن يكون الخطأ من الأزرق، أو من شريك فإن الأزرق ربّما غلط وشريكاً كثير الخطأ – أيضاً -، وقد رواه وكيع، عن ابن أبي ليلى على الصواب، فلهذا اقتصر الدارقطني على قوله: «لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك، محمد بن عبدالرحمن هو ابن أبي ليلى ثقة في حفظه شيء ... إلخ».
وانظر كذلك (ص:586 - 587) من «التنكيل» والله أعلم.(1/193)
س 50: إذا لم نجد للراوي في ترجمته: إلاّ تجريح متشددٍ أو توثيق متساهلٍ، فما الحكم؟
ج 50: إذا نظر الطالب في الترجمة فلم يجد – مثلاً – إلا قول القطان بأن الراوي ضعيف، ووجد توثيق ابن حبان للراوي، أو توثيق الحاكم، فيقدم كلام القطان؛ لأنّنا لو فرضنا أن ابن حبان أو الحاكم قد تفرد أحدهما بهذا القول، ولم يكن له معارض، فنحن لا نعتمد كلامه كاملاً، وهذا ما لمسته من صنيع الحافظ في «التقريب» عند تعليقي على أحكامه في «التقريب»، فتراه يترجم لمن انفرد بتوثيقه أحد المتساهلين مرة بالجهالة، ومرة بقوله: «مقبول» ونادراً ما يقول: «صدوق» – وتفصيل ذلك له موضع آخر-.
هذا إذا انفرد المتساهل، فكيف إذا قوبل بالمخالف له من المتشددين، لا سيما إذا فسّر جرحه، بكون الراوي سيئ الحفظ، مع العلم بأن سوء الحفظ لا ينافي العدالة، فنم الممكن أن يُحمل توثيق منْ وثق مِنَ المتساهلين على العدالة في الدين، وبهذا فلا تكون هناك معارضة، ولا يقال: إنَّ الرجل إذا ثبتت له منزلة الثقة، فلا يزحزح عنها إلا بأمر جليِّ مفسر؛ لأنّنا نقول: بأن مرتبة الثقة لم تثبت بَعْدُ بقول المتساهل، وقولهم: الراوي إذا ثبتت له منزلة الثقة، فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي، محله إذا ثبتت منزلة الثقة له بالشهرة، أو بقول أهل الاعتدال، أو بقول جمهور الأئمة، لا ما إذا اختلف إمامان فيه بين موثّق ومضعِّف (1)، أمَّا إذا انفرد متشدد بالجرح، ولم يخالف، فالظاهر اعتماده، بخلاف انفراد المتساهل، والله أعلم.
س 51: قاعدة: «الجرح المفسر مقدم على التعديل»، فلو جاء جرح غير مفسر، وجاء تعديل، هل تقلب القاعدة، ويقال: التعديل مقدم على التجريح؟
__________
(1) سيأتي – إن شاء الله تعالى – الكلام على هذه القاعدة مفصلاً في السؤال رقم (113).(1/194)
ج 51: إن كان المراد بذلك أن يأتي في الترجمة قولان، أحدهما لابن معين، يقول: «ثقة»، والآخر لأحمد، يقول: «ضعيف»، فالحافظ في هذا يجمع بين القولين ويقول: «صدوق»، ولا يهمل الجرح، وإذا قال أحدهم: متروك، وقال الآخر: ثقة.
فالبعض يميل إلى قول من قال: «متروك»؛ لأنَّه وقف على جرح شديد، وإن لم يفسره، فهو عالم ومدرك لما يقول، و «متروك» جرح شديد، ولا تطمئن النفس إلى التوثيق، مع قول أحدهم: «متروك»، إلا أن يُحمل على التوثيق في الدين، وقد يقال في مثل ذلك: ضعيف (1).
__________
(1) قال المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» (ص:263): وقد يكون الجرح متعلقاً بالعدالة مثل «هو فاسق» فالتعديل مطلق والمعدل غير خبير بحال الراوي إنّما اعتمد على سبر ما بلغه من أحاديثه، وذلك كما لو قال مالك في مدني: «هو فاسق»، ثم جاء ابن معين فقال: هو ثقة، وقد يكون المعدل إنَّما اجتمع بالراوي مدة يسيرة فعدّله بناء على أنه رأى أحاديثه مستقيمة والجارح من أهل بلد الراوي، وذلك كما لو حج رازي فاجتمع به ابن معين ببغداد فسمع منه مجلساً فوثّقه، ويكون أبو رزعة وأبو حاتم الرازيان قد قالا فيه: «ليس بثقة ولا مأمون» ففي هذه الأمثلة لا يخفى أنَّ الجرح أولى أن يؤخذ به.
فالتحقيق أنّ كلاً من التعديل والجرح الذي لم يبين سببه يحتمل وقوع الخلل فيه والذي ينبغي أن يؤخذ منهما هو ما كان احتمال الخلل فيه أبعد من احتماله في الآخر، وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع والناظر في زماننا لا يكاد يتبين له الفصل في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة، كما إذا وجدنا البخاري ومسلماً قد احتجا أو أحدهما براوٍ سبق ممن قبلهما فيه جرح غير مفسر، فإنّه يظهر لنا رجحان التعديل غالباً وقس على ذلك، وهذا تفصيل ما تقدم في القاعدة الخامسة عن ابن الصلاح وغيره، لكن ينبغي النظر في كيفية رواية الشيخين عن الرجل فقد يحتجان أو أحدهما بالراوي في شيء دون شيء وقد لا يحتجان به، وإنّما يخرجان له ما توبع عليه، ومن تتبع ذلك وأنعم فيه النظر علم أنّهما في الغالب لا يهملان الجرح البتة بل يحملانه على أمر خاص، أو على لين في الراوي لا يحطه عن الصلاحية به فيما ليس مظنه الخطأ أو فيما توبع عليه ونحو ذلك، راجع الفصل التاسع من «مقدمة فتح الباري» اهـ.(1/195)
••لكن بقي السؤال: هل هذه المسألة موجودة، أم أنّها مسألة نظرية؟
الظاهر أنّها مسألة نادرة؛ لأنَّ الغالب أن أقوال الأئمة متقاربة من بعضها البعض؛ لأنَّهم ما يتكلمون بهوى، إنّما يتكلمون بقواعد، والقواعد قريبة من بعضها البعض، والله أعلم.
س 52: قول أحدهم في راوٍ: «مشهور بالطلب»، هل هو مدح، أو قدح؟ وإذا لم نجد في الترجمة إلاّ هذه العبارة، فما حال صاحب الترجمة؟
ج 52: نص كثير من علماء الحديث على أن من قيل، فيه: مشهور بالطلب، فالأصل في حديثه الصحة؛ لأنَّ الكلام في الرواة جرحاً، أو تعديلاً، ناتج عن كون الأئمة تتبعوا الرواة، وحكموا عليهم حسب ما بلغهم من العلم بأحوالهم، والرجل المشهور بالطلب؛ معروف بسبب شهرته ورحلته، فلماذا لم يتكلّموا فيه بالجرح؟ فإذا رأينا المحدثين لم يجرِّحُوه، مع شهرته، دلَّ ذلك على توثيقه، وكثير من العلماء أو من الرواة عُدِّلوا من قبيل الشهرة، وكثرة الثناء عليهم، وإن كانت الشهرة وحدها ليست كاجتماع الشهرة مع الثناء، والمشهور بالطلب يحمل حديثه على الصحة حتى يثبت خلاف ذلك.
ذكر ذلك ابن الصلاح والحفاظ الذهبي والمزي، وابن حجر، والسخاوى – رحمهم الله – وممكن أن تراجع هذه المسألة في «فتح المغيث» للسخاوي (1).
__________
(1) قال الخطيب – رحمه الله تعالى -: حدثني محمد بن عبيدالله المالكي أنّه قرأ على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب قال: «والشاهد والمخبر إنّما يحتاجان إلى التزكية» متى لم يكونا مشهوري العدالة والرضا، وكان أمرهما مشكلاً ملتبساً، ومجوزاً فيه العدالة وغيرها.
قال الخطيب: والدليل على ذلك أن العلم بظهور سترهما، واشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة في تعديله وأغراض داعية لهما إلى وصفه بغير صفته وبالرجوع إلى النفوس يعلم أن ظهور ذلك من حالة أقوى في النفس من تزكية المعدل لهما فصح بذلك ما قلناه، ويدل على ذلك أيضا أنّ نهاية حال تزكية المعدّل أن يبلغ طهور ستره، وهي لا تبلغ ذلك أبداً، فإذا ظهر ذلك فما الحاجة إلى التعديل، أخبرنا عبدالرحمن بن عثمان الدمشقي في كتابه إلينا قال أنا أبو الميمون البجلي قال: ثنا أبو زرعة عبدالرحمن بن عمرو، قال: أخبرني عبدالرحمن بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم، قال ابن جابر: لا يؤخذ العلم إلا عمن شهد له بالطلب، قال أبو زرعة: فسمعت أبا مسهر يقول: إلا جليس العالم، فإن ذلك طلبه.
قال الخطيب: أراد أبو مسهر بهذا القول: أن من عرفت مجالسته للعلماء وأخذه عنهم أغنى ظهور ذلك من أمره أن يسأل عن حاله – والله أعلم – «الكفاية» (ص:148 - 149).
هذا وقد يحمل كلام الخطيب – رحمه الله – على من استفاضت عدالته والله أعلم.
وقال السخاوي – رحمه الله – في «فتح المغيث» (1/ 322 - 328): وقال الذهبي – رحمه الله -: أنَّه حق ولا يدخل في ذلك المستور فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم فكل من اشتهر بين الحفاظ بأنّه من أصحاب الحديث وأنّه معروف بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تبيناً، ولا اتفق لهم علمٌ بأن أحداً وثقه فهذا الذي عناه الحافظ، وأنّه يكون مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جرح ... إلخ اهـ.
وانظر في ذلك أيضًا السؤال رقم (143).(1/196)
واعلم أن الاشتهار بالطلب، أو كثرة الاشتغال بجمع الحديث، يؤدي ذلك بدوره إلى الضبط والإتقان، فمن هنا عُدِّل من كان هذا حاله، لكن يخشى أن تكون هذه مسألة نظرية، ليس لها واقع عملي، فينظر هل هناك مشهور بالطلب، ولم يوثق، ولم يجرح؟ وإن وجد فهو نادر، وهم الذين يقال فيهم: «رحال أو محدث» ونحو ذلك، والله أعلم.
س 53: هل يستخدم أهل الحديث العلة في غير معناها الاصطلاحي؟
ج 53: بعض أهل الحديث يستخدمها في غير المعنى الاصطلاحي، كالإمام الترمذي يقول في بعض الأحاديث: فيه علّة، والعلة عنده النسخ، أي: أنّها علّة تمنع من العمل به، والالتزام بما فيه من أحكام (1).
__________
(1) في «سنن الترمذي» كتاب العلل (5/ 736): قال أبو عيسى: جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به وقد أخذ به بعض أهل الحديث ما خلا حديثين: حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة ... الحديث، وحديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: «إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه»، وقد بينا علة الحديثين جميعاً في الكتاب. اهـ.
قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح العلل» (ص:36).
كأن مراد الترمذي – رحمه الله – لغير أحاديث الأحكام، وقد سبق الكلام على هذين الحديثين اللذين أشار إليهما ههنا في موضعهما من الكتاب، وذكرنا مسالك العلماء فيهما من النسخ وغيره، وذكرنا أيضاً عن بعضهم العمل بكل واحد منهما، وقوله قد بيّنا علة الحديثين جميعاً في الكتاب فإنَّما بين ما قد يستدل به للنسخ لا أنّه بين ضعف إسنادهما. اهـ.
وفي «التدريب» (1/ 358) قال السيوطي – رحمه الله – وسمى الترمذي النسخ علة، قال العراقي: فإن أراد به علة في العمل بالحديث فصحيح، أو في صحته فلا لأنّ في «الصحيح» أحاديث كثيرة، منسوخة. اهـ وانظر «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 235) والله أعلم.(1/197)
وغيره يقول: هذا حديث فيه علّة، فيه فلان كذاب، أو فيه انقطاع (1).
وأما المعنى الاصطلاحي للعلة، فهي سبب خفي يقدح في صحة الحديث، مع أنَّ الظاهر السلامة منه (2)، وميدان العلل هو أحاديث الثقات، فإنَّ العلماء يبحثون في أحاديث الثقات التي تبدو للناظر بأنَّها صحيحة، ويظهرون فيها علّة (3).
__________
(1) في «مقدمة) ابن الصلاح» (ص:73) قال – رحمه الله -، ثم أعلم أنّه قد يطلق اسم العلّة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادمة، في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلّة في الأصل، ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح ... إلخ اهـ.
وانظر «التقييد والإيضاح» (ص:122) و «تدريب الراوي» (1/ 257) و «توضيح الأفكار» (2/ 33).
(2) انظر «معرفة علوم الحديث» (112 - 113)، و «مقدمة علوم الحديث» (ص:81) و «التقييد والإيضاح» (ص:116) و «فتح المغيث» (1/ 210)، و «تدريب الراوي» (1/ 252) و «توضيح الأفكار» (2/ 26) و «الباعث الحثيث» (ص:65).
(3) كذا قال أبو عبدالله الحاكم – رحمه الله تعالى – في كتابه «المعرفة» حيث قال: وإنَّما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإن حديث المجروح ساقط واه وعلّة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فتخفى عليهم علته فيصير الحديث معلولاً والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير (ص:113).
وقد قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/ 710): بعد نقله لكلام الحاكم – رحمه الله – فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلاً معلولاً ولا الحديث الذي راويه مجهول، أو مضعف معلولاً؛ وإنّما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك، مع كونه ظاهر السلامة من ذلك، وفي هذا رد على من زعم أنَّ المعلول يشمل كل مردود. اهـ.(1/198)
أمّا العلل الظاهرة كالانقطاع، والإعضال، وتهمة الراوي، وجهالة حاله، أو جهالة عينه، والطعن في حفظه، أو عدالته، أو غير ذلك من العلل الظاهرة، فليست من العلل الخفية التي صنف أهل العلم من أجلها.
إنَّما صنف أهل العلم كتب العلل حول أحاديث الثقات التي يظهر أنَّها صحيحة، ثم مع جمع الطرق، وتتبع مخارج هذا الحديث، عُلِمَ أنَّ فيه علّة.
وكما قال الإمام علي بن المديني – رحمه الله -: «الباب الذي لم تُجمع طرقه لم تعرف علته، أو لم يتبين خطؤه» فمعرفة العلة تكون بجمع الطرق، ترى الحديث ظاهره الاتصال، فتجمع طرقه، فيظهر لك أنَّ أكثر الرواة، أو أنَّ الحفاظ رووا الحديث مرسلاً، فلولا جمعك الطرق (1)، لحكمت على الحديث بالصحة، وقد سبق أن قررت: أنَّ هذه المسألة مسألة الشذوذ، تنافي باب الشواهد والمتابعات التي يرتقي بها الحديث إلى الصحة، أو الحُسن، فيكون الحديث ضعيفاً، فإذا جمعنا طرقه ارتقى من الضعف إلى الحُسن، لكن هنا فالحديث يكون ظاهره الصحة أو الحسن، فإذا جمعنا طرقه، نزل من الصحة أو الحسن إلى الضعف، فالذي أنصح به طلبة العلم في هذا المقام: أن يفرقوا بين باب الشواهد والمتابعات اللذين بهما يرتقي الحديث من درجة الضعف إلى درحة الحُسْن، أو الصحة، وبين جمع الطرق الذي به ينزل الحديث من درجة الصحة أو الحسن إلى درجة الضعف.
__________
(1) قال النووي: والطريق إلى معرفته جمع الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، قال السيوطي: قال ابن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه «تدريب الراوي» (1/ 253) وقال الخطيب: «السبيل إلى معرفة علة الحديث أن تجمتع طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلته في الإتقان» «مقدمة ابن الصلاح» (ص:195).(1/199)
لأننا بعض طلبة العلم بل بعض المشاهير يذكرون الحديث، ويكون فيه مخالفة، ويقولون: هذا شاهد لهذا، مع أنَّ الجميع يدور على رجل واحد، أو مخرجه واحد، وفيه زيادة أو نقص في السند، أو في المتن، فتراه إذا جمع الطرق قال: وهذا يشهد لهذا، والصواب أنَّ هذا يُعِلُّ ذالك, والله أعلم (1).
س 54: الاختلاف في مسألة السماع، هل هو من العلل الخفية، أم من العلل الظاهرة؟
ج 54: إذا كان المختلِفون في درجة واحدة من الفهم والإتقان لهذا الشأن، فالمثبِت مقدم على النافي، وعند ذاك فلا تبقى العلة، لكن قد يكون الذي أثبت السماع ليس بتلك المنزلة، ويتبادر للناس أنَّ هذا أثبت السماع، ومع جمع الطرق أقوال العلماء، يظهر لنا بدليل قوي أنَّ هذا الرجل ما سمع، وأن التصريح بالسماع لا يثبت، كما سبق (2)، فهنا يكون من العلل الخفية التي لولا جمع الطرق وجمع أقوال العلماء ما وقفنا عليها.
س 55: ذكرت أن ميدان علماء العلل أحاديث الثقات، وأمّا أحاديث الضعفاء والمتروكين والمجهولين والمتهمين، فعلتها واضحة بعرفها غير العلماء، وأن الذي في كتب العلل الشذوذ والاضطراب، والإدراج، وزيادة الثقة، وفلان انفرد بكذا، وفلان خالف فلاناً، فلماذا نرى أحاديث علتها ظاهرة في كتب العلل؟
__________
(1) ومن أمثلة هذه المتابعات الصورية: ما ذكره الإمام ابن رجب – رحمه الله – في «فتح الباري» (9/ 464 - 465): «قال: وخرجه الإمام أحمد أيضاً من رواية إسماعيل بن مسلم عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن عبدالرحمن بن عوف، عن النبي صلى لاله عليه وعلى آله وسلم وإسماعيل هو المكي ضعيف جداً، وقد قيل: إنَّه توبع عليه ولا يصحُّ؛ وإنَّما مرجعه إلى إسماعيل، ذكره الدارقطني. اهـ.
(2) انظر كلام المؤلف على ذلك في السؤال رقم (38).(1/200)
ج 55: على سبيل المثال قد يذكرون حديث إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي شيخ الإمام الشافعي، وحديث عبدالكريم بن أبي المخارق وهو شيخ الإمام مالك بن أنس، وقد يذكرون حديث عامر بن صالح وهو شيخ الإمام أحمد، وقد يذكرون أيضاً من مشايخ شعبة الضعفاء، أو من مشايخ عبدالرحمن بن مهدي كما في روايته عن جابر الجعفي، وكان يروي عنه فترة من الزمن، ثم تراجع عن ذلك (1).
فلو تأملت: لماذا يذكرون حديث هؤلاء المشهورين بالضعف في كتب العلل؟ لوجدت أنّ ذلك يرجع أيضاً إلى حديث الثقات؛ لأنَّ رواية هؤلاء الأئمة المشاهير عن أولئك، قد يتبادر منها للمبتدئين من الطلبة، أن لدى غير المحققين لهذا الشأن، أنّ رواية هؤلاء الأئمة عنهم تنفعهم، وترفع من حالهم، وتحسن من أمرهم، فمن أجل أن لا يقع هذا اللبس، أدخلوا حديث هؤلاء الضعفاء المشهورين في كتب العلل، وقد يكون هذا الثقة قد روى عنه اغتراراً بحاله، كما قال الجوزجاني في كتابه «أحوال الرجال» بخصوص رواية مالك عن ابن أبي المخارق قال: «رحم الله مالكاً غاص فوقع على خزفة منكسرة» (2).
ومنهم من يقول: مثلاً إنّه اغتر بهيئته، أو بلبسه، أو سَمْته، فممكن من هذا الباب أن الثقة نفسه يلبس عليه حال الرجل، ويغتر بحاله.
فكلام أهل المعرفة بالعلل في مثل هذه المسألة كأنهم يقولون: احذروا من حديث فلان عن فلان، ولا تظنوا أنَّ رواية فلان ترفع من حال فلان، فإنّه قد اغتر به، ولربّما روى عنه من باب البيان فاحذروا؛ لأنّ من المعلوم أن رواية الحديث تكون على ثلاثة أحوال كما يقول سفيان الثوري – رحمه الله -: إني لأكتب الحديث على ثلاثة أحوال:
__________
(1) قال أحمد: كان عبدالرحمن بن مهدي أولاً يتساهل في الرواية عن غير واحد ثم تشدد بعد وكان يروي عن جابر ثم تركه – انظر «شرح علل الترمذي» لابن رجب (1/ص:377).
(2) انظر «أحوال الرجال» للجوزجاني (ص:97).(1/201)
حديث أدين الله به، وهو الصحيح أو الحسن، وحديث أعتبر به، أي: أنظر هل له شواهد، أم لا؟ وحديث أكتبه للمعرفة (1)، وكان الأئمة الحفاظ يكتبون أحاديث الضعفاء، أو يكتبون النسخ الموضوعة المكذوبة على الوجه، من أجل التنبيه والتحذير، كما كان ابن معين يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، وهي صحيفة مكذوبة بسبب أبان، وكتبها على الوجه أي: ما ترك منها شيئاً، فقال له أحمد: تكتبها على الوجه، وأنت تعرف حال أبان؟!! قال أكتبها كي لا يأتي رجل فيضع مكان أبان ثابتاً، فيكون: معمر عن ثابت عن أنس (2)،
__________
(1) ذكره العقيلي في «الضعفاء» (1/ 15) وساق سنده إلى الثوري أنّه قال:
«إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه:
حديث أكتبه أريد أن أتّخذه ديناً، وحديث رجل أكتبه فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به».
وكذا في «جامع بيان العلم وفضله» (ص:76) وإسناد العقيلي وابن عبدالبر يدوران على نعيم بن حماد الخزاعي والراجح فيه والله أعلم عدم الاحتجاج بروايته.
قلت: ويغني عنه في الاستدلال إذْ لم أقف على شاهد له ما ذكره ابن رجب – رحمه الله – عن الإمام أحمد في رواية القاسم عنه قال: وابن لهيعة ما كان حديثه بذلك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال؛ إنّما أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشدّه لا أنه حجة إذا انفرد. انظر «شرح العلل» لابن رجب (1/ 91).
(2) في «تهذيب التهذيب» (1/ 91) ترجمة أبان بن أبي عياش.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: وحكى الخليلي في «الإرشاد» بسند صحيح: أنّ أحمد قال ليحيى بن معين – وهو يكتب عن عبدالرزاق عن معمر عن أبان نسخة تكتب هذه وأنت تعلم أن أبان كذاب؟
فقال: يرحمك الله يا أبا عبدالله! أكتبها وأحفظها حتى إذا جاء كذاب يرويها عن معمر عن ثابت عن أنس أقول له: كذبت، إنَّما هو أبان. اهـ.
وفي «العلل» لابن رجب (ص:84): خرج العقيلي من طريق أبي غسان قال: جاءني علي بن المديني فكتب عني عن عبدالسلام بن حرب أحاديث إسحاق بن أبي فروة فقلت: أي شيء تصنع بها؟ قال: أعرفها حتى لا تقلب.
قال ابن رجب: فرق بين كتابة حديث الضعيف وبين روايته، فإن الأئمة كتبوا أحاديث الضعفاء لمعرفتها، ولم يرووها كما قال يحيى، سجرنا بها التنور ... إلخ.
وكلامه هذا محمول على أهل الجرح الشديد، والله أعلم.(1/202)
وكان الواحد من العلماء إذا سمع الحديث قال: هذا يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، هذا ما ظهر لي من الجواب ومن الممكن أن يقال: حديث هؤلاء المجروحين وإن وجد في كتب العلل، فهو نادر ولا التفات إلى النادر، وقد يضاف في الجواب أن الإمام من الأئمة قد يوجه له سؤال عن حديث الضعيف، فيجيب عليه، أو قد يكون الضعيف عندنا، ليس ضعيفاً عند السائل أو المسؤول، وقد يكون إدخاله في كتب العلل لمجرد الاختلاف عليه – وإن كان ضعيفاً – ليُبَيِّن أن الاضطراب في الحديث من جهة ضعف راويه، وقد يكون ذلك لبيان أن الحديث وإن جاء من طريق الضعيف، فله طريق أخرى تشهد له، أو لبيان أن هذا الضعيف قد انفرد بهذا الحديث مع الاخّتلاف عليه، مما يزيده ضعفاً، والله أعلم.
س 56: كيف يُعلم اتفاق أهل الحديث على تضعيف حديث أو تصحيحه؟(1/203)
ج 56: يعلم ذلك بالرجوع إلى كتب أهل العلم في هذا الشأن، فنرجع إلى الكتب التي اهتمت بالتخريج مثل كتاب «نصب الراية» للزيلعي وهو كتاب عظيم، وكتاب «التلخيص الحبير» للحافظ ابن حجر (1)، ونحن في جمعنا لطرق الحديث، لو رجعنا إلى تراجم الرواة لكان أفضل، ففي كتب التراجم كثيراً ما نجدهم قد كفونا مؤنة البحث في هذا الحديث، فنراهم يحكمون على الحديث بالنكارة، أو اتفاق الحفّاظ على ضعفه، أو أن الحفّاظ يقولون فيه كذا، فمن المهم جداً الرجوع إلى كتب التراجم والرجال، فإن فيها الخير الكثير، وفيها – بفضل الله تعالى – ما يجعل الإنسان خبيراً بهذه الأمور.
__________
(1) ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في «التلخيص الحبير» (1/ 27) في الكلام على حديث: «أن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب ... إلخ»، قال الشافعي: لا يثبت أهل الحديث مثله، وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، وفي (1/ 44) حديث حذيفة: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ... » الحديث، متّفق عليه بهذا اللفظ وزيادة: «فإنَّها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» قال ابن منده مجمع على صحتها. اهـ.(1/204)
فأنصح الباحث أن لا يستقل ببحثه حتى يجول في بطون الكتب، فربّما أنّه يبحث البحث، ويكون هزيلاً قاصراً، وخلف ظهره كتاب فيه بحث شامل كامل لهذه المسألة، فيتهم بالقصور، وكلّما كان الإنسان متأنياً في بحثه، وكان طويل اليد والباع في البحوث، وتقليب صفحات الكتب، وعارفاً بمظان الحديث، أي: فإن كان الحديث يتصل بالعقائد، رجع إلى كتب العقائد، وإن كان الحديث يتصل بالفقه، رجع إلى أبواب الفقه من كتب السنن، وإن كان الحديث يتصل باللغة مثلاً، رجع إلى غريب الحديث، وغريب اللغة، فإنّه سيقف على أشياء كثيرة – بإذن الله تعالى – ويقرأ تراجم الرواة في الكتب المطولة والمختصرة، ولا يكتفي بـ «تقريب التهذيب» فإن «التقريب» هو على اسمه «تقريب»، وليس دقيقاً في كل أحكامه، فنسأل الله سبحانه أن ييسر لي إتمام تحقيقه والكلام عليه (1)، فكلما كان البحث على هذا النحو، كان أقرب للكمال والله – تعالى – أعلم.
س 57: في حديث: «مَنْ عادَى لي ولياً ... » ذكر الذهبي – رحمه الله تعالى – بخصوص هذا الحديث في ترجمة خالد بن مخلد القطواني أنّه لولا هيبة «الجامع الصحيح» لعُدَّ هذا من مناكير خالد، فهل قوله هذا يعتبر اعتراضاً على تصحيحه، أم يعتبر متابعة للبخاري على تصحيحه؟
__________
(1) انظر السؤال رقم (8).(1/205)
ج 57: كلمة (لولا) حرف امتناع لوجود، فقد امتنع الذهبي – رحمه الله – من تضعيف الحديث، لهيبته من «الجامع الصحيح»، فهذا يدل على تصحيحه، وموافقته للبخاري على إدخال الحديث في «صحيحه»، على أنَّ كلام الذهبي عليه مؤاخذات، وهذا يجرنا إلى مسألة قد سبق الحديث عليها (1)، وهي مسألة الأحاديث التي في «الصحيحين» أو أحدهما، ولم يتكلّم فيها الحفاظ بقدح، فما وسع الحفاظَ يسعنا، وما قبله الأئمة نقبله؛ لأنَّهم قبلوا إدخال هذا الحديث في «الصحيح» وهو موسوم بالصحة، فقد اشترط صاحبه الصحة، ولما لم ينتقدوا عليه، دل على أنّه قد وفّى بشرطه في الأحاديث التي لم ينتقدوها، فما وسعهم يسعنا، وفي الحقيقة ما ينبغي زعزعة الثقة في «الصحيحين»، والأمر ينبغي أن يكون وسطاً في ذلك فما أعلَّه الحفاظ نُعِلَّه، وما قَبله الحفاظ نقبله، ونحن بهذا نُحَكِّم القواعد؛ لأنَّ من جملة القواعد: أنَّ ما اتّفق عليه الحفاظ نقبله، سواء كان تصحيحاً أو تضعيفاً أو تعديلاً أو تجريحاً.
س 58: هل اتفاق الحفاظ على تصحيح الحديث أو تضعيفه يكون حجة؟ وهل هم داخلون تحت حديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»؟
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في السؤال رقم (14).(1/206)
ج 58: لا شك أنَّ اجتماعهم على شيء يكون حجة، كما صرح بذلك أبو حاتم الرازي، ونقله عنه ابنه في «المراسيل» (1)، وإذا اتّفق الحفّاظ على ذلك فهم داخلون في هذا الحديث؛ لأنّ معنى الحديث أن لا يجتمع أهل الشأن من أهل العلم على ضلالة، فلو جئنا مثلاً إلى علم الحديث: فلسنا في حاجة إلى تضعيف أو تصحيح واحد ما يعرف علوم الحديث، ولسنا أيضاً في حاجة إلى اجتماع العامة، فالعامة في هذا هم تبٌ للعلماء، والمتخصصون في هذا الشأن إجماعهم حجة على غيرهم، وليس إجماعهم كإجماع الأمّة كلّها فقهائها، ومحدِّثيها، وعوامها، وعلمائها، ليس هذا الإجماع في النفس كإجماع الآخرين، إلا أن المتخصصين في الشأن حجة على غيرهم، فإذا اتّفق أهل الحديث على إعلال حديثٍ ما، وجاء الفقهاء أ, الأصوليون بخلاف ذلك، ما قُبل كلام الفقهاء والأصوليين، والقول قول أهل الشأن، وكذلك إذا كان القراء قد اتفقوا على قبول قراءة معيّنة أو حرف معين، أو على الحكم بشذوذ حرف معين، فلا نسمع كلام رواة الأحاديث الذين هم ليسوا من أهل الشأن؛ لأنَّه كم من حامل للعلم وهو غير فقيه، «ورب حامل فقه غير فقيه» (2)،
__________
(1) سبق تخريجه في السؤال رقم (14).
(2) متفق عليه، وقد تكلّمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» كتاب العلم برقم: (62) المؤلف ..(1/207)
وكم من محدث ناقل فقط، لا يعرف ماذا في المتن الذي يحمله، فهناك علوم رواية، وعلوم دراية، وعلوم الدراية للعلماء والنقاد، ونحن طلاب العلم نرجع في كل علم إلى أهله، فاتفاقهم على شيء نقبله، دون أن نفتح باب الزعزعة في اتفاقهم، لكن إن اختلفوا رجعنا إلى القواعد، وعملنا بالقاعدة الراجحة في موضعها، مع العلم بأنَّهم لا يتفقون على تضعيف الحديث عن هوى!! فكيف اتفقوا وكل واحد منهم في بلد، هذا في مصر وذلك في خراسان، وذلك في الشام، وذاك في اليمن وذاك في الحجاز، وهؤلاء في عصر، وأولئك في عصر آخر، وجميعاً تتواتر كلمتهم، فكثير منهم ما تقابلت وجوههم، ومع ذلك تتفق كلمتهم، فدلّ على أنَّ هذا الكلام ما جاء عن هوى، ولا خرج عن استحسان، وإلا فلو استحسنوا لاختلفوا، ولكن نظروا في الحديث على أساس قواعد محكمة متقنة، فاتّفقت كلمتهم على اختلاف أعصارهم وأمصارهم وبلدانهم ومذاهبهم، والله أعلم (1).
__________
(1) قال ابن أبي حاتم في أول كتاب «الجرح والتعديل» (1/ 349 - 350): سمعت أبي يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي، من أهل الفهم منهم ومعه دفتر، فعرضه عليّ، فقلت في بعضه: هذا حديث خطأ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وهذا باطل، وهذا منكر، وسائر ذلك صحاح، فقال: من أين علمت أنَّ ذاك خطأ وذاك باطل، وذلك كذب؟ أأخبرك راوي هذا الكتاب بأنّي غلطتُ، أو بأني كذبت في حديث كذا؟
قلت: لا، ما أدري هذا الجزء من راويه، غير أنّي أعلم أن هذا الحديث خطأ وأنّ هذا الحديث كذب، فقال: تدّعي الغيب؟ قلت: ما هذا ادِّعاء غيب، قال: فما الدليل على ما قلت؟ قلت: سَلْ عمَّا قلت: من يحسن مثلَ ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنّا لم نجازف، ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي محسن مثل ما تُحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة كقولك؟ قلت: نعم، قال: هذا عجبُ قال: فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلّم به أبو زرعة في تلك الأحاديث فقال: ما قلت أنّه كذب، قال أبو زرعة: هو باطل، قلت: الكذب والباطل واحد، قال: وما قلت: إنَّه منكر، قال: هو منكر، كما قلت وما قلت إنّه صحيح، قال: هو صحيح، ثم قال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأةٍ فيما بينكما، قلتُ: فعند ذلك علمت أنا لم نجازف، وأنّا قلنا بعلم ومعرفة قد أوتيناه والدليل على صحة ما نقوله: أنّ ديناراً بهرجاً يحمل إلى الناقد، فيقول: هذا بُهرج فإن قيل له: من أين قلت: إن هذا بهرج؟ هل كنت حاضراً حين بُهرج هذا الدينار؟ قال: لا، وإن قيل: أخبرك الذي بهرجَه؟ قال: لا قيل فمن أين قلت؟ قال: عِلماً رزقنا معرفة ذلك وكذلك إذا حُمل إلى جوهري فصّ ياقوتٍ وفصّ زجاج، يعرف ذا من ذا، ويقول كذلك وكذلك صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون كلام النبوة، ونعرف سقمه، وإنكاره بتفرد من لم تصلح عدالته. اهـ.(1/208)
س 59: الذهبي – رحمه الله – أحياناً يعترض على ابن حبان في بعض التراجم ويقول: «إنّه لا يدري ما يخرج من رأسه»، فهل هذا جرح في ابن حبان؟
ج 59: لا شك أنّها كلمة جرح، إذا قيلت في رجل: «إنَّه لا يدري ما يخرج من رأسه» (1)، وسبب ذلك أن ابن حبان مسرف في العبارة التي يجرَّح بها، ويتكلّم بعبارة شديدة الجرح، مع أنَّ السبب لهذا الجرح لا يستحق كل هذه العبارة، فقد يخطئ الرجل خطأً محتملاً عند الآخرين، فيقول ابن حبان مثلا: وهذا الرجل يروي عن الثقات ما يخالف حديث الأثبات، فاستحق الترك، هذه كلمة فيها غلو وإسراف، فالرجل قد يكون خطؤه محتملاً، فيصلح في الشواهد والمتابعات، وقد لا يضر حديثَه إذا كان مكثراً، ففي هذه الحالة: قد يقول فيه ابن حبان: يروي عن الثقات ما يخالف حديث الأثبات، ولما كثر هذا في حديثه استحق الترك، أو استحق مجانبة حديثه، أو لا يجوز الاحتجاج به، أو إنما أذكر حديثه للاعتبار أو للاتعاظ والزجر عنه أو للتعريف بحاله وشأن، وغير ذلك من هذه الكلمات، فقد يكون هذا عذر الذهبي، وهذه العبارة تطلق على بعض الرواة الذين يقبلون التلقين، ولا يعرف أحدهم ما يخرج من رأسه، فيكون المعني حينئذٍ: أنّهم قد ساء حفظهم، واشتدّ ذلك فيهم، حتى أصبحوا لا يعرفون ما يخرج من رؤوسهم.
س 60: ذكروا أن ابن حبان متشدد في التجريح، ومتساهل في التوثيق، فكيف يجمع بين التشدد في هذا والتساهل في ذلك، مع أنّ ظاهره الجمع بين النقيضين؟
__________
(1) مثاله ما جاء في «الميزان» (1/ 441) ترجمة أفلح بن سعيد المدني، قال فيه ابن حبان يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه بحال، قال الذهبي: ابن حبان ربّما قصب الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه.(1/209)
ج 60: هذا راجع إلى قاعدة التزمها ابن حبان في التوثيق، وصلت به إلى هذا، حين قال: إنّ الرجل يكون ثقة أو صدوقاً، إذا روى عنه ثقة، وروى هو عن ثقة، ولم يرو منكراً، هذا تعريفه للثقة، وقد بينت قبل أن هذا غير صحيح (1) فذكرت أنّ رواية الراوي عن الثقة لا تنفعه، إنّما ينفعه إذا كان تلميذه ثقة، وكونه أيضاً يقول: «روى عنه ثقة» هذا أيضاً ينفعه، إلا إذا روى عنه ثقات، فالثقة الواحد يروي عن رجل، ومع ذلك لا يرفع جهالة عينه، إذا انفرد بذلك، فهذه النقطة الثانية، وقوله: «لم يرو منكراً» لا يُفيد التوثيق، لأنّه قد يكون مقلا، وليس معه إلا هذا الحديث، وقد يكون كذَّاباً سارقاً، ومعه حديث صحيح، ومن المعلوم أنَّ الكذاب أو السارق، قد يسرق أحاديث صحيحة، أو يكذب في أحاديث صحيحة، ومتونها مشهورة، فكون هذا الرجل لم يرو منكرا، ما أفادنا شيئاً يُذْكَر، إلا إذا كان مكثراً، فتعريف ابن حبان للثقة تعريف فيه تساهل، ولو كان الأصل في المسلمين العدالة في باب الرواية، ما احتاج العلماء أن يقولوا في تعريف الحديث الصحيح: «الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله»، وما احتاجوا إلى قولهم: «يتصل إسناده» لأنّه ما أخذه إلا عن مسلم ولا بد، وإن كان معضلاً، وما أخذه عن يهودي أ, عن نصراني، وهذا أيضاً مذهب ابن خزيمة ومذهب الحاكم (2)،
__________
(1) انظر السؤال رقم (8) والكلام على شرط ابن حبان.
(2) نص على تساهل ابن خزيمة الحافظ ابن حجر – رحمه الله – كما في مقدمة «اللسان» (ص:14) وأمّا عن الحاكم فقد سبق النص على تساهله في السؤال رقم (8) فليراجع ..(1/210)
ومن هنا دخل التساهل عليهم حين عرفوا الثقة: «بأنّه من لم يُجرح» وانتفاء التجريح لا يلزم منه ثبوت التعديل، ولكن أهل الحديث قالوا: لا بد أن نتأكد من أنّه عُدِّل، ولا نكتفي بأنه لم يجرح، على تفاصيل أهل العلم في ذلك – وفي الجهة الأخرى عُرف بالاستقراء، ومن صنيع ابن حبان؛ أنّ الراوي إذا أخطأ خطأً يسيراً محتملاً، تكلّم هو فيه بشدة، فيكون الخطأ قليلاً، وعبارة التجريح شديدة، فمن هنا قيل عنه: إنَّه متشدد في التجريح، فجمعه الآن بين التساهل في التوثيق، والتشدّد في التجريح لم يتواردا على محل واحد، حتى نقول: إنَّ هذا جمع بين المتناقضين، ولكنَّ المحلَّيْن مختلفان، فبينما نراه يعرف الثقة تعريفاً فيه تساهل، نراه خدش في الثقة لوجود الخطأ في حديثه، فهناك كان يحمل حديثه في الصحة؛ لأنّه ما رأى فيه منكراً، لكن لما رأى الخطأ هنا جرَّحه بعبارة شديدة، والله أعلم.
س 61: علمنا أنَّ الراوي يمكن معرفة ضبطه وإتقانه بطريقة سبر رواياته ومقارنتها برواية الثقات، فكيف بطريقة السبر أيضاً يُعلم أنّه عدل في دينه؛ لأنَّ الرواية لا تقبل إلاّ من عدل ضابط؟(1/211)
ج 61: يمكن أ، يعرفوا ضبطه عند جمع حديثه مع حديث غيره، فيوافق أو يخالف، وممكن معرفة هل قد اختلط أم لا؟ بأن يجمعوا حديثه، فيجدوا الأولين القدماء والمشايخ الكبار يروون عنه أحاديث مستقيمة، والذين هم من الطبقة النازلة أي: الأحداث الصغار يروون عنه أحاديث مضطربة، فيعرفون بذلك أنّه قد اختلط، فيصنفون تلامذته إلى أقسام وطبقات، فأصحاب الطبقة العالية يروون عنه أحاديث مستقيمة، والطبقات النازلة يروون عنه أحاديث فيها اضطراب (1)، فهذا يدل على أن الرجل قد اختلط أو تغيَّر، ويعرفون أيضاً الراوي هل هو مدلس أو غير مدلس من خلال النظر في حديثه، فإذا روى عن الثقات وصرح بالسماع، روى أحاديث مستقيمة، وإذا عنعن روى أحاديث فيها نكارة، فيعرفون بذلك أنّه مدلس (2)،
__________
(1) جاء في ترجمة سعيد بن أبي عروبة قول العجلي – رحمه الله – روى عن ابن أبي عروبة في الاختلاط يزيد بن هارون وابن المبارك وابن عدي كلما روى عنه مثل هؤلاء الصغار فهو مختلط، إنّما الصحيح حديث حماد بن سلمة وابن علية، وعبدالأعلى عنه والثوري وشعبة صحيح «شرح العلل» لابن رجب (2/ 745).
(2) ومثال ذلك: ما قاله ابن حبان – رحمه الله – في شأن بقية بن الوليد، قال – رحمه الله -: لقد دخلت حمص وأكثر همي شأن بقية فتتبعت حديثه وكتبت: النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً ولكنه كان مدلساً سمع من عبيدالله بن عمر، وشعبة، ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة ثم سمع عن أقوام كذابين ضعفاء متروكين عن عبيدالله بن عمر وشعبة ومالك مثل المجاشع بن عمرو، والسري بن عبدالحميد، وعمر بن موسى المثيمي، وأشباههم، وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى فروي عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء وكان يقول: قال عبيدالله بن عمر، عن نافع، وقال مالك، عن نافع ... «المجروحين» (1/ 200 - 201).
قلت: ويعرف بالتدليس أيضاً أنّه في حالة تحديثه عن المعروفين يحدث بأحاديث مستقيمة، وإذا حدث عن المجهولين أو كنى الرجل ولم يسميه باسمه، كان حديثه لا يساوي شيئاً، ومثال ذلك ما قاله أبوبكر بن أبي خيثمة، قال – رحمه الله -: سئل يحيى بن معين عن بقية، فقال: إذا حدث عن الثقات مثل صفوان بن عمرو، وغيره (فاقبلوه)، وأمّا إذا حدث عن أولئك المجهولين فلا، وإذا كنى الرجل ولم يسمِّ الرجل فليس يساوي شيئاً. «تهذيب الكمال» (4/ 197).(1/212)
ويعرفون أيضاً من خلال النظر في حديثه: هل الضعف منه أو من تلامذته؟، فإذا روى عنه الثقات كانت أحاديثه مستقيمة، وإذا روى عنه الضعفاء كانت أحاديثه مضطربة علموا أن ذلك ممن دونه لا منه، هذا كله في باب الضبط، أما باب العدالة: فالعلماء ينظرون في حديث الراوي، مثال ذلك: محمد بن إسحاق صاحب «السيرة والمغازي» فقد ذكر ابن المديني وابن حبان أنَّ روايته عن رجل، وعن رجل عنه، وعن رجل عنه وعن رجل عن رجل عنه، كل هذا يدل على صدقه وعدالته، انظر «الثقات» لابن حبان (7/ 384) (1)،
__________
(1) قال ابن حبان – رحمه الله -: سمعت محمد بن أحمد المسندي يقول: سمعت محمد بن نصر الفراء يقول: قلت لعلي بن المديني ما تقول في محمد بن إسحاق؟ فقال: ثقة قد أدرك نافعاً وروى عنه وروى عن رجل، عنه وعن رجل، عن رجل عنه، هل يدل هذا إلا على الصدق، قال أبو حاتم – رضي الله عنه -: كان محمد بن إسحاق يكتب عمن فوقه ومثله ودونه لرغبته في العلم وحرصه عليه، وربّما يروي عن رجل عن رجل قد رآه، ويروي عن آخر عنه في موضع آخر، ويروي عن رجل عن رجل عنه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، بل كان يحدث عمن رآه ويقتصر عليه، فهذا مما يدل على صدقه وشهرة عدالته في الروايات ... اهـ «الثقات» (7/ 384) ..(1/213)
فاستُدل على عدالة ابن إسحاق دينه وورعه؛ بأنّه كان يروي عن شيخه بواسطة، ويروي عن شيخه بغير واسطة، فقالوا: لو كان هذا الرجل غير عدل، وهو معروف بالرواية عن شيخه، فما الدافع له على أن ينزل في إسناد بعض الروايات عنه، ويروي عن شيخه بواسطة؟ وذكروا نحو هذا أيضاً عن ابن أبي شيبة في روايته عن أبيه، مما يدل على أنّه ورع يخاف الله، وإلا فلو كان مجازفاً، لحمل كل الروايات عن أبيه بالسماع، ولا وجه للإنكار عليه في ذلك فإنّه أبوه (1)، ومن ذلك أيضاً تحري الراوي في كتابه، فإذا نظر إمام في كتابه يراه يقول: كذا أو كذا، ويقول: أحسب كذا، ويضرب على بعض الأحاديث إذا شك فيها، كل هذا يدل على أمانته وورعه وعكسه عكسه، والله أعلم (2).
__________
(1) قال محمد بن عمر بن العلاء الجرجاني: سألت ابن معين عن سماع أبي بكر من شريك؟ فقال: أبوبكر عندما صدوق ولو ادّعى السماع من أجل من شريك لكان مصدقاً فيه وما يحمله على أنّه يقول وجدت في كتاب أبي بخطه ... إلخ «تهذيب التهذيب» (6/ 3).
(2) مثال ذلك: قول شعبة في ترجمة عمر بن قيس المكي: «لأن أكتب عن ابن عون «أحسب» «أحسب» أحب إليّ من أن أكتب من سندل وهو لقب عمر: «أشهد»، «أشهد» وكان سندل يقول: أشهد على عطاء أشهد على ابن عباس – تذكرة الحفاظ (1/ 156) ونحوه ما جاء عن أحمد أنّه حدث بحديث عن سفيان فقال حسين بن منصور «خالفك يحيى بن يحيى» فقال: كيف قال يحيى؟ قال: فأخبرته فضرب على حديثه، وقال: لا خير فيما خالف فيه يحيى بن يحيى (10/ 515) «النبلاء».
وهذا يدل على مزيد احتياط وتحفظ أمّا غير العدل فإنه مجازف ومتساهل، والله أعلم، وانظر كلاماً حول هذا البحث في «شفاء العليل» للمؤلف – حفظه الله تعالى – (1/ 380)، وسيأتي كذلك – إن شاء الله – الكلام على جماعة من أهل العلم ممن عرفوا بوقف المرفوع وإرسال المتصل عند الشك، وأن ذلك من باب الاحتياط والورع، كما قيل في ابن سيرين، ومالك، وحماد بن زيد، انظر تفاصيل ذلك في السؤال رقم (118) والله أعلم.(1/214)
س 62: رجل تُرجم له، ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل، فهل من الممكن أن أنظر في رواياته وأحكم عليه بجرح أو تعديل؟
ج 62: ذكر الشيخ المعلمي – رحمه الله تعالى – أنَّ هذا ليس بوسعنا؛ لأنَّ الحفّاظ الأولين كانوا يعرفون الراوي وما روى، أي: كانوا يعرفون حديث شيوخه وزملائه وتلامذته، فيسهل عليهم أن يقارنوا حديثه بحديث زملائه، فإن توبع أفلت من العهدة، وارتفعت العهدة إلى شيخه أو من فوقه، أو إلى أحد تلامذته أو من دونه، وذكر – رحمه الله تعالى – أن الذي بوسعنا أن نرد على أحد الحفّاظ، إذا حكم على الحديث بالنكارة لتفرد أحد رواته به، وقد وقفنا نحن على متابعات له كثرت أو قلّت، فنقول: ليس منكراً؛ لأنَّ فلاناً تابعه كما في كتاب كذا، وهذا كلام قوي (1)،
__________
(1) نص كلام العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي – رحمه الله تعالى – قال في «تنكيلة» (ص:222 - 223): إن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحمل فيه على هذا الراوي، فما يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمد الكذب أم غلط؟ فإذا تدبر وأمعن النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزماً، وقد يميل ظنه إلى أحدهما إلا أنّه لا يبلغ أن يجزم به، فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه متهم بالكذب أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى.
ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحد من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين اللهم إلا أن يتهم بعض المتقدمين رجلاً في حديث يزعم أنّه تفرد به فيجد له بعض أهل العصر متابعات صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح، فأما من وثقه إمام من المتقدمين أو أكثر ولم يتهمه أحد من الأئمة فيحاول بعض أهل العصر أن يكذبه أو يتهمه فهذا مردود لأنّه إن تهيأ له إثبات بطلان الخبر وأنّه ثابت عن ذلك الراوي ثبوتاً لا ريب فيه فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرد به ولا أنّ شيخه لم يروه قط ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به ... إلخ.(1/215)
ثم كيف تنقرض العصور السابقة على كون هذا الرجل مجهولاً، ثم في زماننا يكون ثقة أو ضعيفاً؟!! نعم، لنا أن نجتهد في نصوص الأئمة، ونجمع بينها حسب قواعد هذا العلم الشريف، لا أن نأتي بنصوص من عند أنفسنا، فمن وثقوه فهو ثقة، ومن جهَّلوه ولم يعرفوا عينه أو حاله فهو كذلك، ومن جرَّحوه فهو مجروح، والله المستعان.
س 63: ما الفرق بين قولهم: «فلان ثقة» و «فلان كان ثقة»؟
ج 63: كلمة: «كان» في كثير من المواضع، ليس معناها أنّه كان ثقة والآن قد أصبح غير ثقة، كثيراً ما تأتي بمعنى أنّه ثقة، ولا فرق بين هذه وتلك، إلا إذا ظهرت قرينة تدل على أنَّ الرجل قد انتقل من التوثيق إلى التضعيف، والله أعلم.
س 64: إذا قال بعض أئمة الجرح والتعديل في راوٍ: «غير مشهور بالطلب» فهل يكون مجهولاً؟
ج 64: يُرْجَع في ذلك إلى عدد الرواة عنه، فإذا كان الرواة عنه جمعاً، فينتقل من جهالة العين إلى جهالة الحال، وإذا كان الراوي عنه واحداً، فهو في هذه الحالة يكون مجهول عين (1)، - على تفاصيل في ذلك سبق شرحها – إلا أنني ألفت النظر إلى أنّهم قد يقولون في الراوي: «ليس مشهوراً بالطلب» أي: كشهرة غيره من المشاهير، وليس اهتمامه بالعلم، كاهتمام يحيى بن معين، وأحمد وابن المديني، والثوري، وفلان وفلان (2)،
__________
(1) قلت: ومثال ذلك ما جاء في «الكامل» لابن عدي ترجمة بشير بن زياد الخراساني قال ابن عدي – رحمه الله – «غير مشهور» ليس بالمعروف لم أرَ أحداً روى عنه غير إسماعيل بن عبدالله بن زرارة (2/ 455) وفي «تهذيب التهذيب» ترجمة الضحاك بن عثمان العرزبي لم يذكر الحافظ عنه راوياً إلا محمد بن حماد وقال المزي: «غير مشهور» وترجم له الحافظ في «التقريب» بقوله: «غير مشهور».
(2) قال المؤلف – حفظه الله تعالى – في كتابه «شفاء العليل»:
يطلق ذلك ويراد أنّه ليس بمشهور كالمشاهير الكبار مثل يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأحمد ويحيى بن معين وغيره، وكثيراً ما يقف الباحث على هذا اللفظ في «الكامل» وفي «تاريخ بغداد» وكتب الذهبي، وقد يكون بمعنى ليس بالمشهور كأقرانه كما في «تعجيل المنفعة» ترجمة محمد بن أيوب بن ميسرة. قال أبو حاتم: «صالح لا بأس به ليس بمشهور» قال الحافظ: «قلت واورده النباتي في «الضعفاء» في ذيل «الكامل»، قال الذهبي في «الميزان»: وما فيه «مغمز» انتهى.
قال الحافظ: «ولعل مستند النباتي قول أبي حاتم: ليس بمشهور ففهم من ذلك أنّه عند أبي حاتم مجهول وليس كذلك بل مراد أبي حاتم أنّه لم يشتهر في العلم اشتهار غيره من أقرانه مثل سعيد بن عبدالعزيز وأنظاره». اهـ (ص:359).
قال المؤلف: ويؤيد كلام الحافظ أنَّ أبا حاتم قرن قوله هذا بقوله صالح لا بأس به، والله أعلم. «شفاء العليل» (ص:427).(1/216)
ومعلوم أنَّ هناك طبقة من الثقات، كثيرٌ عددهم، لم يصلوا إلى منزلة هؤلاء الأفذاذ والكبار المشهورين، مع كونهم ثقات، فالكلمة في ذاتها إذا لم تكن هناك قرينة تدل على نفي الكمال، أو أن الراوي ثقة – وإن كان مقلاً في باب الرواية – فهي تدل على أنَّه في حيز الجهالة، جهالة عين أو حال، على حسب عدد الرواة، ولكن مسألة عدد الرواة هذه، ليست قاعدة مطردة، إنّما هي تقريبية، فقد يروي واحد عن الرجل، ويرفع جهالة عينه (1)، وقد يروي جماعة عن الرجل، ولا يرفعون جهالة عينه، فالعبرة مع العدد بحال الرواة، فقد يروي عنه جماعة متروكون وكذّابون، وقد يروي عنه إمام ينتقي كالإمام أحمد، وشعبة، وابن مهدي، وابن المديني، وهم ينتقون غالباً، وإلا فقد ثبت أنّهم رووا عن ضعفاء، بل وعن قوم هلكى (2)، الشاهد من هذا كله أنّه لا بد من الرجوع إلى عدد الرواة وحالهم، إلا أن يكون في الترجمة مع هذا القول أن أ؛ د الأئمة يقول: هو ثقة، لا سيّما إن كان قائل هذه الكلمة المسؤول عنها هنا، هو الذي يقول: إنّه ثقة، فإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن تحمل هذه الكلمة على أنّه ليس مشهوراً كشهرة غيره من المشاهير، وإن كان ثقة في نفسه, والله أعلم.
س 65: اختلف في جواز الرواية بالمعنى فما الصواب في ذلك؟
__________
(1) قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: متى يكون الرجل معروفاً؟ إذا روى عنه كم؟ إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي وهؤلاء أهل العلم فهو غير مجهول.
قلت: فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق، قال: هؤلاء يروون عن مجهولين. اهـ.
قال ابن رجب – رحمه الله تعالى – في «شرحه لعلل الترمذي»: وهذا تفصيل حسن وهو يخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي، الذي تبعه عليه المتأخرون أنَّه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعداً عنه «شرح العلل لابن رجب» (1/ 378).
(2) سبق تفصيل ذلك في السؤال السابع، والتعليق عليه كما تراه في رقم (64 - 67)، والله أعلم.(1/217)
ج 65: من العلماء من أجاز ذلك، ومنهم الإمام البخاري (1)،
__________
(1) انظر «النكت» للحافظ ابن حجر (1/ 282) في رواية البخاري بالمعنى.
وقال الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى - في «فتح المغيث» وممن كان يروي بالمعنى من التابعين: الحسن، والشعبي، والنخعي، بل قال ابن الصلاح: إنَّ الذي شهد به أحوال الصحابة، والسلف الأولين فكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمرٍ واحد بألفاظ مختلفة، وما ذا إلا لأنَّ معولهم كان على المعنى دون اللفظ. اهـ.
ولانتشاره أجاب مالك من سأله لمَ لم تكتب عن الناس، وقد أدركتهم متوافرين؟ بقوله: لا أكتب إلا عن رجل يعرف ما يخرج من رأسه وكذا تخصيصه ترك الأخذ عمن له فضل وصلاح، إذا كان لا يعرف ما يحدث به بكونه كان قبل أن تدون الكتب والحديث في الصدور؛ لأنّه يخشى أن يخلط فيما يحدث به، فيه إشارة كما – قال شيخنا – إلى أنَّهم كانوا يحدثون على المعاني، وإلا فلو حفظه لفظاً لما أنكره، ومن ثم اشترط الشافعي، ومن تبعه فيمن لم يتقيد بلفظ المحدث كونه عاقلاً لما يحيل معناه ... إلخ (2/ 242 - 243).(1/218)
ومنهم من منع ذلك (1)، واستدلوا بأدلة على قولهم، منها حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من قال أو تقول عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار» (2)، وحديث «نضر الله امراً سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها» (3) وعندما قال البراء في الدعاء الذي عند النوم: «ورسولك الذي أرسلت» قال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا، ونبيِّك الذي أرسلت» (4) وأجاب الأوّلون عن ذلك، بأنَّ من أدى الحديث بمعناه دون زيادة ولا نقص، فلم يقل على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما لم يقله، والحديث الثاني نفسه ورد بألفاظ مختلفة ومعناها واحد (5)،
__________
(1) قاله طائفة من المحدثين والفقهاء والأصوليين من الشافعية وغيرهم: قال القرطبي: وهو الصحيح من مذهب مالك حتى إن بعض من ذهب لهذا شدد فيه أكثر التشديد فلم يجز تقديم كلمة على كلمة، ولا حرف على آخر ولا إبدال حرف بآخر، ولا زيادة حرف ولا حذفه، فضلاً عن أكثر ولا تخفيف ثقيل ولا تثقيل خفيف, ولا رفع منصوب ولا نصب مجرور أو مرفوع، ولو لم يتغير المعنى في ذلك كله بل اقتصر بعضهم على اللفظ، ولو خالف اللغة الفصيحة. اهـ من المصدر السابق (2/ 243).
(2) متّفق عليه وقد تكلمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» كتاب العلم برقم: (63) المؤلف.
(3) صحيح، وقد تكلّمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» كتاب العلم برقم: (47) المؤلف.
(4) أخرجه البخاري (247) ومسلم (2710) المؤلف.
(5) قال السخاوي – رحمه الله -: وحديث: «نضر الله ... » ربّما يتمسك به للجواز لكونه مع ما قيل إنّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحدث به سوى مرة واحدة، وروى بألفاظ مختلفة: كرحم الله، ومن سمع، ومقالتي، وبلغه، وافقه، ولا فقه له، مكان نضر الله، وأمروا ومنا حديثاً، وأداه وادعى وليس بفقيه ..(1/219)
والحديث الثالث في الأذكار التي لها حكم التوقيف، ويُتَعَبَّدُ الله بألفاظها ومعانيها (1)، لكن إذا كان الراوي يعرف ما يحيل المعاني عن وجهها الصحيح، فلا مانع من روايته بالمعنى، فالأمة تلقت «صحيح البخاري» بالقبول، إلا أحرفاً يسيرة، مع الرواية فيه بالمعنى، وفي الحقيقة أن بحث هذه المسألة اليوم ليس له كبير فائدة؛ لأنّ الروايات قد دُوِّنت، وقضي الأمر، ولا سبيل إلى رد بعضها لروايتها بالمعنى بعد قبول العلماء لها، نعم الرواية باللفظ أولى وأحوط، لكن لا يلزم من ذلك رد الرواية بالمعنى، إذا كانت مستوفاة للشروط التي ذكرها أهل العلم، والله أعلم (2).
__________
(1) أما حديث: «ونبيك» ففي الاستدلال به نظر؛ لأنَّه وإن تحقق بالقطع أن المعنى في اللفظين متحد لأنّ الذات المحدث عنها واحدة، فالمراد يفهم بأي صفة وصف بها الموصوف فيحتمل أنَّ المنع لكون «ألفاظ الأذكار»، كما سيأتي في الفصل الثاني عشر توقيفية، ولها خصائص، وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به وبالجملة فيستحب له أن يورد الأحاديث بألفاظها كما قاله الحسن وغيره، لأنَّ ذلك أسلم وأفضل كما قاله ابن سيرين اهـ من «فتح المغيث» (2/ 247 - 248).
(2) شروط جواز نقل الحديث بالمعنى:
أحدها: أن يكون الراوي عارفاً بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، فإن كان جاهلاً بمواقع الكلام امتنع بالإجماع: قاله القاضي في «التقريب».
ثانيها: أن يبدل اللفظ بما يرادفه كالجلوس بالقعود والاستطاعة بالقدرة، والعلم بالمعرفة، وجعل الأبياري هذا محل وفاق في الجواز.
ثالثها: أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء، فيبدل اللفظ بمثله في الاحتمال وعدمه، ولا يبدل الأجلى بالجلي وعكسه، ولا العام بالخاص: ولا المطلق بالمقيد، ولا الأمر بالخبر، ولا العكس، لأنَّ الخطاب تارة يقع بالمحكم وتارة يقع بالمتشابه، لحكم وأسرار لا يعلمها إلا الله ورسوله، فلا يجوز تغييرها عن موضوعها.
رابعها: أن لا يكون مما تعبد بلفظه، فأما ما تعبدنا به، فلا بد من نقله باللفظ قطعاً، كألفاظ التشهد ولا يجوز نقله بالمعنى بالاتفاق.
خامسها: أن لا يكون من جوامع الكلم فإن كان كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الخراج بالضمان» و «البينة على المدعي» و «العجماء جبار» و «لا ضرر ولا ضرار»، ونحوه لم يجز؛ لأنَّ لا يمكن درك جميع معاني جوامع الكلم، حكاه بعض الحنفية.
سادسها: أن لا يكون من باب المتشابه، وكذلك المشترك لا ينقله أحد بالمعنى لتعذر نقله بلفظ آخر وكذلك المجمل راجع «البحر المحيط» للزركشي – رحمه الله تعالى – (4/ 356 - 357) وانظر كذلك «المحدث الفاصل» للرامهرمزي (ص: 529 - 540) و «الكفاية للخطيب (ص:300 - 306) كذلك «شرح العلل» لابن رجب – رحمه الله – (1/ص:425 - 430) و «تدريب الراوي» (2/ 311)، «إرشاد الفحول» (ص:57)، «مذكرة الشنقيطي» – رحمه الله – (ص:137).
والذي يظهر أنَّ في بعض هذه الشروط تداخل، والله أعلم.(1/220)
«تنبيه»:
بعض أهل العلم يرجح الحديث الذي ورد بلفظه على الآخر الذي ورد بمعناه عند التعارض (1)، وهذا صحيح، لكن كيف نعرف أنَّ هذا الحديث ورد بلفظه دون الاكتفاء بالمعنى؟ فإن قيل: لأنَّ في سنده فلاناً، وهو لا يستجيز الرواية بالمعنى، قلنا: وهل من فوقه أو من دونه يرون رأيه في ذلك، أم أنّهم يروون بالمعنى؟ قلنا: وهل من فوقه أو من دونه يرون رأيه في ذلك، أم أنّهم يروون بالمعنى؟ فلعله التزم باللفظ الذي ورد إليه، مع أنَّ الحديث ما وصل إليه إلا بالمعنى، أو لعل من دونه رواه عنه بالمعنى، والله أعلم.
س 66: هل كلام الأقران في بعضهم البعض يُرد مطلقاً؟
ج 66: لا يُرد مطلقاً ولا يُقْبَل مطلقاً، ولكن فيه تفصيل: فإذا علم أنَّ الذي تكلّم في أخيه بنفَس وغضب وانتصار لنفسه، ففي هذه الحالة لا يقبل قوله، ولكن كيف نعرف هذا؟ إذا رأينا الأئمة المعتدلين قد وثّقوه، وظهرت قرائن تدل على شيء من ذلك، علمنا أن ذلك مما للنفس فيه نصيب، مثال ذلك كلام ابن إسحاق، لما قال: هاتوا لي علم مالك فأنا بيطاره، فقال الإمام مالك: دجال من الدجاجلة (2)،
__________
(1) انظر «تدريب الراوي» (2/ 200) باب التعارض وكلام السيوطي عليه.
(2) انظر «الثقات» لابن حبان (7/ 380 - 381) و «ميزان الاعتدال» (3/ 469) و «سير أعلام النبلاء» (7/ 40 - 41) ونص ابن حبان قال – رحمه الله -: « ... لم يكن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الناس وأيامهم من محمد بن إسحاق وكان يزعم أنَّ مالكاً موالي ذي أصبح وكان مالك يزعم أنّه من أنفسهم، فوقع بينهما لهذا مفاوضة فلما صنف مالك الموطأ قال ابن إسحاق: ائتوني به فإني بيطاره فنقل ذلك إلى مالك فقال: هذا دجال من الدجاجلة يروي عن اليهود وكان بينهم ما يكون بين الناس حتى عزم محمد بن إسحاق على الخروج إلى العراق فتصالحا حينئذ فأعطاه مالك عند الوداع خمسين ديناراً، نصف ثمرته تلك السنة ... إلخ. اهـ.
قلت: وكلام مالك – رحمه الله – في ابن إسحاق لا يقصد به الحكم إنَّما خرج منه فلتة لسان عند سورة غضب كما نبه على ذلك الشيخ المعلمي – رحمه الله – في «تنكيله» (ص:254) والله أعلم.(1/221)
هذه كلمة ما تقال إلا في الكذابين أهل الافتراء والاختلاق والوضع، فقالها في رجل صدوق عالم مشهور، وإن لم يكن في الحديث بتلك المنزلة التي هي كمنزلة غيره من الكبار، ففي هذه الحالة لم يأخذ النقاد بكلام مالك، كذلك مُطَيِّن وهو محمد بن عبدالله الحضرمي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، كل منهما قد تكلّم في الآخر، حتى قال فيه مطين: عصا موسى تلقف ما يأفكون، وتكلّم فيه بشدة (1)،
__________
(1) قال الذهبي – رحمه الله – في «ميزان الاعتدال» (3/ 607) ترجمة محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي: الحافظ مطين محدث الكوفة حط عليه محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وحط هو على ابن أبي شيبة، وآل أمرهما إلى القطيعة ولا يعتد بحمد الله بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعض، وفي ترجمة محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال الذهبي، وقال مطين: هو عصا موسى تلقف ما يأفكون. اهـ.
قال الذهبي: وذكر أبو نعيم الجرجاني فصلاً طويلاً إلى أن قال: فظهر إليّ أن الصواب الإمساك عن القبول من كل واحد منهما في صاحبه، قال: مطين وثّقه الناس وما أصغوا إلى ابن أبي شيبة. اهـ وانظر «تذكرة الحفاظ» (2/ 662) وللمؤلف – حفظه الله تعالى – تفصيل طيب في قولهم: فلان عصا موسى تلقف ما يأفكون، فانظره في «شفاء العليل» (ص:256).(1/222)
فالعلماء في هذه الحالة لا يقبلون كلام الأقران في بعضهم إذا لاحت لوائح الغضب والانتصار للنفس، التي قد لا يسلم منها أحد، لكن إذا لم يكن هناك قرينة لهذا، قُبل كلام القرين في قرينه، فإن من أقوى وجوه الكلام في الرواة، كلام المعاصر في المعاصر له، وكلام البلديِّ في بلديِّه فنحن نقدم كلام أبي حاتم الرازي وكلام أبي زرعة الرازي وكلام محمد بن مسلم بن وارة الرازي، في محمد بن حميد الرازي على كلام غيرهم، لأنهم ثلاثة علماء رازيون من كبار علماء تلك الجهات يحكمون عليه بأنّه كذاب، فقدمنا كلام هؤلاء على كلام فلان وفلان، الذين حسَّنوا من حاله، والذين مشَّوْه؛ لأنَّ بلديَّ الرجل أعرف بصاحبه (1)، ولو أطلقنا قاعدة كلام الأقران وكلام المتعاصرين وكلام المتقاربين لا يقبل كلامهم في بعضهم، أسقطنا كثيراً من هذه المواضع، والعلم عند الله – تعالى -.
س 67: إذا جرح مبتدع مبتدعاً آخر، فهل يقبل منه أم لا؟
__________
(1) أقول: والراوي الذي يطعن فيه أهل بلده قد لا يزيده ثناء الغرباء عليه إلا وهناً لأنَّ ذلك يشعر بأنّه كان يتعمد التخليط فتزين لبعض الغرباء واستقبله بأحاديث مستقيمة فظن أن ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه، وعرف أهل بلده حقيقة حاله وجرحوه لذلك، وقد نبه على ذلك العلامة المعلمي – رحمه الله – في «تنكيله» (ص:763).(1/223)
ج 67: إذا كانت البدعتان متنافرتين، كالنصب والرفض – مثلاً -، فلا يُقبل إلا بشروط (1)، منها رسوخ المتكلّم في هذا العلم، ولا يكون كلامه في مخالفه من أجل بدعته، وعلى كل حال فالحمد لله أنّ أكثر المتكلمين في الرواة هم أهل السنة وهم أهل علم وفضل، وأهل عبادة وفهم، فلا نحتاج كثيراً ولله الحمد إلى أقوال أهل البدع.
س 68: الجوزجاني صاحب «أحوال الرجال» (2) هل صحّ الكلام فيه بأنّه يتحامل في الكلام على الشيعة؟
__________
(1) قلت: يتوقف في قبول الجرح إذا خشي أن يكون باعثه الاختلاف في الاعتقاد، وقد نصّ على ذلك الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» (1/ 16) وذكر فيه عدداً من الأئمة جرحوا أناساً بسبب الاختلاف العقائدي ومنهم على سبيل المثال: عبدالرحمن بن خراش المحدث الحافظ، فإنّه من غلاة الشيعة بل نسب إلى الرفض فيتأنّى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد، والله أعلم.
(2) هو الإمام الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السَّعديُّ الجوزجاني أحدُ الأئمة في الجرح والتعديل نسبته إلى جوزجان (بضم الجيم الأول وزاي وجيم).
قال السمعاني: هذه النسبة إلى مدينة بخرسان مما يلي بلخ، يقال لها: الجوزجانان، والنسبة إليها جوزجاني.
قال أبوبكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال: إبراهيم بن يعقوب جليل جداً كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراماً شديداً و ... إلخ.
وقال ابن حبان: كان صلباً في السنة، حافظاً للحديث، إلا أنّه من صلابته ربّما كان يتعدى طوره، وقال ابن عدي في ترجمة إسماعيل بن أبان الوراق: سكن دمشق، فكان يحدث على المنبر ويكاتبه أحمد بن حنبل، فيتقوى بذلك، ويقرأ كتابه على المنبر وقال ابن عدي: وأما الصدق فهو صدوق في الرواية. اهـ.
وتراجع ترجمته في «تهذيب الكمال» (2/ 244 - 249) وانظر كذلك مقدمة «أحوال الرجال» للشيخ صبحي البدري السامرائي.(1/224)
ج 68: قد تتبعت هذا في «أحوال الرجال» وما رأيته ضعف شيعياً في الحديث، قد وثقه الأئمة بسبب تشيعه، نعم هو يصفه من جهة البدعة أنّه «زائغ» و «مائل» و «جائر»، ويصفُه بهذه الأوصاف الشديدة، إلا أنّه يوثقه في الرواية (1) فيُحمل كلام العلماء على الجوزجاني في كلامه في أهل الكوفة والمتشيعة على أنّه يتكلّم فيهم بشدة من جهة البدعة، وقد يكون محقاً في بعض المواضع، وقد لا نسلِّم له بكلامه الشديد على العلماء المشاهير، فإنَّه يتكلّم في الأعمش وفي أبي إسحاق السبيعي لمجرد وجود شيء من التشيع، لكن كلامه في بعض المتشيعة المتعصبة المقلدة الذين يقولون مقالات شنيعة، كلامه فيهم وطحنه لهم من جهة البدعة، ما أرى عليه غباراً، ثم إنّه ينصفهم في الرواية والحديث، فلا يقال: «إنّه متشدد، ولا يقبل كلامه في الشيعة» بإطلاق، والله أعلم (2).
س 69: الإمام أحمد والبرديجي وغيرهما يطلقون كلمة: «منكر الحديث» على الحديث الفرد، فلو أطلق الإمام أحمد أو البرديجي على راوٍ بأنَّه «منكر الحديث» فهل يُعدّ جرحاً؟
__________
(1) قد تقدم معنا في السؤال رقم (8) لتنظر في حط الجوزجاني على الشيعة واتضح أنَّه لا يجاوز الحد وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل، وقد نقلت للقارئ الكريم كلام علامة اليمن الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي – رحمه الله – فليراجع، والله أعلم.
(2) أقول: وممن ذكر ذلك عن الجوزجان – رحمه الله -: الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «لسان الميزان» قال: إنَّ الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى أنّه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيدالله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية ... إلخ (1/ 16).(1/225)
ج 69: الإمام أحمد وأبوبكر البرديجي ويحيى بن سعيد القطان وأبوداود والنسائي ودحيم كما سبق أن ذكرت في «شفاء العليل» قد يذكرون النكارة بمعنى التفرد (1)، وليسوا دائماً يذكرونها بمعنى التفرد، خلافاً للتهانوي – رحمه الله – الذي أطلق، وقال: إن المتقدمين كثيراً ما يقولون: «منكر»، ويعنون به: أن الراوي تفرد بالرواية (2).
__________
(1) انظر في «الشفاء» باب ذكر المصطلحات الخاصة (ج1/ 310 - 311).
(2) عبارة التهانوي في «قواعد في علوم الحديث» (ص:259) قال: فرق بين قول المتأخرين: هذا حديث منكر وبين قول المتقدمين ذلك فإنَّ المتأخرين يطلقونه على رواية راوٍ ضعيف خالف الثقات، والقدماء كثيراً ما يطلقونه على مجرد ما تفرد راويه، وإن كان من الثقات فيكون حديثه صحيحاً غريباً ... إلخ اهـ.(1/226)
هذا كلام غير صحيح، ولك أن تنظر في كتاب «العلل ومعرفة الرجال» للإمام أحمد – رحمه الله – فإنّك تجد كثيراً من إطلاقه النكارة على الضعف في الرواة (1)، والإمام البخاري يطلقها على الجرح الشديد (2)، وأبو حاتم يقولها على سبيل الجرح (3)، بل منهم من يطلقها على الحديث الموضوع (4)، فعلى كل حال إذا ظهر أنَّ المقصود بالنكارة التفرد عُمِل به، وإلا فالأصل في إطلاق النكارة الجرح، والله أعلم.
س 70: هل تقبل مراسيل الصحابة الذين مات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم قبل التمييز؟
__________
(1) جاء في «العلل» و «معرفة الرجال» (1/رقم 815) سمعت أبي يقول: مغيرة بن زياد مضطرب الأحاديث منكرة وكذا في «الكامل» ترجمة أبان بن أبي عياش، قال أبو طالب: سمعت أحمد يقول: لا يكتب عن أبان، قلت: أبان كان له هوى؟ قال: «منكر الحديث» (1/ 373).
(2) جاء في «ميزان الاعتدال» ترجمة أبان بن جبلة الكوفي: قال البخاري: منكر الحديث، قال الذهبي: ونقل ابن القطان أنَّ البخاري قال: كل من قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه (1/ 6).
(3) من أمثلة ذلك ما جاء في «الجرح والتعديل» ترجمة مروان بن سالم الغفار قال فيه: «منكر الحديث جداً ضعيف الحديث ليس له حديث قائم، فقال عبدالرحمن قلت: يترك حديثه؟ قال: لا بل يكتب حديثه» (5/ 23) وانظر أيضاً في (7.228) (8/ 23، 26، 395) من المصدر نفسه، والله أعلم.
(4) قلت: وقد ذكر ذلك الشيخ عبدالفتاح أبو غدة في حاشية «الرفع والتكميل» (211) قال: ويطلقون: (حديث منكر) على الحديث الموضوع الكذب المفترى يشيرون بذلك إلى نكارة معناه مع ضعف إسناده وبطلان ثبوته، وقد ذكرت بعض أمثلته وشواهده، وأشرت إلى أكثر من ثلاثين نصاً جاء فيها ذلك في (ص:20) من مقدمتي لكتاب «المصنوع في معرفة الحديث الموضوع» للعلامة علي القاري في طبعته الثانية فارجع إليها ... إلخ اهـ.(1/227)
ج 70: من المعلوم أنَّ من شروط صحة الرواية، أن يثبت أنَّ التلميذ قد أخذ عن شيخه، وأدركه إدراكاً بيِّناً، وتحمّل عنه، وأمَّا الذين ولدوا في عهده صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد تكلّم عنهم الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في أوائل كتاب «الإصابة» في (ص:5 - 6) في القسم الثاني، فيمن ذُكِرَ من الصحابة: الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبعض الصحابة من الرجال والنساء، ممن مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم دون سن التمييز، - وبيَّن رحمه الله – أَنَّ ذِكْرَهُم في الصحابة، إنما هو على سبيل الإلحاق؛ لغلبة الظن على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رآهم، لتوفر دواعي أصحابه على إحضار أولادهم عنده عند ولادتهم، إلى غير ذلك، وفي النهاية قال الحافظ: لكن أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم بالحديث، قال: ولذلك أفردتهم عن أهل القسم الأول، فالذين أدركوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو رآهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سن لا يستطيعون التحمل فيه، فأحاديثهم من قبيل المرسل، وإن ذُكِروا في الصحابة؛ فمن باب شرف الرؤية؛ لا أن روايتهم متصلة، والله أعلم (1).
__________
(1) كمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه له رؤية، وقد حكم العلماء على روايته بالإرسال، لأن أكثر رواية هذا وشبهه عن التابعي بخلاف الصحابي الذي أدرك وسمع. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «فتح الباري» (7/ 6) كتاب فضائل الصحابة حديث رقم (3651) ...
فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت في الصحيح أن أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفرايني ومن وافقه في رد المراسيل حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا مما يلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة. اهـ.(1/228)
س 71: إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا نقبل مراسيل الصحابة؟
ج 71: مرسل الصحابي الذي ثبت أخذه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أخذاً واضحاً، غالباً أنه أخذه عن صحابي آخر، ولو علمنا أنه أخذه عن تابعي، لوقفنا فيه، لكن إنما قبل العلماء مراسيل الصحابة؛ لأن جُلَّ روايتهم عن الصحابة، وبعضهم لم يروِ إلا عن الصحابة، وإن كنا نعلم أ، من الأكابر من يروي عن الأصاغر، لكن هذا نادر جداً، فمثل هؤلاء لا يقال فيهم: إنهم أخذوه عن التابعين، إما لأنهم لم يرووا عنهم أصلاً، وإما لندرة هذا النوع، والصحابة كلهم عدول (1).
س 72: ما الفرق بين قولهم: «فلان خولف» و «فلان يخالف في حديثه»؟
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/ 570): (قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظاهر في أنّه سمعه منه أو من صحابي آخر، فالاحتمال أن يكون سمعه من تابعي ضعيف نادر جداً لا يؤثر في الظاهر، بل حيث رووا عن من هذا سبيله بيَّنوه وأوضحوه.
وقد تتبعت روايات الصحابة – رضي الله عنهم – عن التابعين وليس فيها من رواية صحابي عن تابعي ضعيف في الأحكام شيء يثبت فهذا يدل على ندور أخذهم عن من يضعف من التابعين، وفي (2/ 548):
فيتلخص من هذا أنَّ الأستاذ أبا إسحاق لم ينفرد برد مراسيل الصحابة – رضي الله عنهم – وأن مأخذه في ذلك احتمال كون الصحابي – رضي الله عنه – أخذه عن تابعي.
وجوابه: أنَّ الظاهر فيما رووه أنّهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو من صحابي سمعه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأمّا روايتهم عن التابعين فقليلة نادرة، فقد تتبعت وجمعت لقلتها، قلت: وقد سردها شيخنا – رحمه الله – في «النكت» فأفاد وأجاد. اهـ.
وانظر «فتح الباري» (1/ 144) و «تدريب الراوي» (1/ 207)، و «المقنع» (1/ 138)(1/229)
ج 72: كلا اللفظين يدل على أنَّ الراوي في حفظه ضعف، وأنّه يروي أحاديث يخالف فيها أحاديث الثقات، ولا يأتي بها على الوجه الذي يأتي به الثقات الأثبات، وأيضاً كلا اللفظين من ألفاظ التليين والشواهد والمتابعات (1)، والفرق بينهما أن قولهم: «يخالف» أشد جرحاً من قولهم: «خولف»؛ لأنَّ صيغة المضارعة تقتضي الاستمرار، والله أعلم.
س 73: كيف نعرف أنَّ هذه اللفظة جرح مجمل وتلك اللفظة جرح مفسَّر؟
__________
(1) انظر «شفاء العليل» للمؤلف – حفظه الله تعالى – (1/ 153) المرتبة الأولى من مراتب التجريح.(1/230)
ج 73: شاع عند كثير من طلبة العلم، أنَّ الكلمة إذا كانت شديدة الجرح فهي جرح مفسر، وإذا كانت خفيفة الجرح فهي جرح مجمل، والأمر ليس كذلك، كما بينته في «شفاء العليل» (1)، ففي كل من القسمين عبارات مفسرة وأخرى مجملة، وسر ذلك أن تعلم أنَّ الراوي المجرَّح، يتكلّم فيه من جهتين، أو إحداهما: جهة العدالة وجهة الضبط، فإذا علمت من الكلمة أن الطعن موجه إلى الراوي في إحدى الجهتين أو كلتيهما، فإنَّه جرح مفسر وإلا فمجمل، فقولهم في أحد الرواة: ضعيف، أو ليس بشيء، أو متروك، أو ساقط ... إلخ، ما كان من هذا السبيل، هذه العبارات لو سألنا أنفسنا: هل المقصود بها الجرح في العدالة أم في الضبط؟ لما ظهر لنا شيء، ولذلك فهي جرح مجمل لكن لو رأينا قولهم في أحد الرواة: «سيء الحفظ» أو «له أوهام» أو «فاحش الغلط» أو «فاسق» أو «كذّاب» ... إلخ، ما كان من هذا السبيل، وسألنا أنفسنا السؤال السابق، لوجدنا للسؤال جواباً في كل لفظة، فمن هنا قلنا: إنَّه جرح مفسّر، وقد سأل بعضهم عن لفظة: «فلان منكر الحديث»، فمن طلبة العلم من قال: هي مجملة؛ لأنَّ «منكر الحديث»: هو ضعيف وقد خالف، ولفظه «ضعيف» مجملة، فما بُني عليها يكون له حكمها، وقال بعضهم: - وهو الصواب – هي مفسرة، لأنَّ المخالفة تدل على قلة في الضبط، فتعين سبب الجرح، إلا أنَّ قول البخاري: «فلان منكر الحديث» مجمل؛ لأنَّ عنده بمعنى أنَّ الراوي لا تحل الرواية عنه، وهذا مجمل لعدم معرفة سبب هذا الترك، وإن كان البعض بعدها مفسرة، فالعمدة على ما قررته، والله أعلم.
س 74: الراوي إذا روى عنه جماعة، فهل يعتبر هذا توثيقاً له أم لا؟
__________
(1) المصدر السابق (1/ 253) وما بعدها من الباب الحادي عشر ذكر ألفاظ الجرح المجمل والمفسر.(1/231)
ج 74: في هذا الأمر تفصيل راجع إلى صفة هؤلاء التلاميذ، فإن كانوا من مشاهير الثقات، وممن عُلم تحرِّيهم في الرواية وانتقاؤهم للمشايخ، فهذا يُعّدِّل المرويّ عنه، ولعل في كلام أبي رزعة حين سأله ابن أبي حاتم – رحمهما الله – ما يشير إلى هذا، حين سأله عن رواية الثقات عن الرجل هل تنفعه؟ فقال: نعم، وسأله عن روايته عن الثقات هل تنفعه؟ فقال: لا (1) والأمر كذلك؛ لأنَّ الكذاب قد يدّعي لقاء المشاهير والسماع من الأئمة (2)،
__________
(1) الذي وقفت عليه في «الجرح والتعديل» هو: سؤال ابن أبي حاتم، عن رواية الثقات عن الراوي هل تنفعه أو لا؟ أمّا رواية الراوي عن الثقات فلم أقف على سؤاله في ذلك، وإليك نص كلامه – رحمه الله – قال: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال: إن كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايتهم عنه، وإذا كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه.
قال: وسألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه؟ قال: أي لعمري.
قلت: الكلبي روى عنه الثوري، قال: إنَّما ذلك إذا لم يتكلّم فيه العلماء، وكان الكلبي يتكلّم فيه.
قلت: «والكلام لعبدالرحمن»: فما معنى رواية الثوري عنه، وهو غير ثقة عنده؟ قال: كان الثوري يذكر الرواية عن الرجل على الإنكار والتعجب فيعلقون عنه روايته عنه ولم تكن روايته عن الكلبي قبوله. اهـ (2/ 36).
(2) وانظر في ذلك السؤال رقم (96).
وممن ذهب إلى هذا الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي – رحمه الله تعالى – في رده على أباطيل الكوثري، قال – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» وقد حاول الأستاذ أن يجعل ابن أبي العوام من الثقات الأثبات؛ لأنّه روى عن النسائي مع أنَّ الرواية عن مثل النسائي أو من هو خير منه لا تدل على إسلام الراوي فكيف عدالته؟ فكيف أن يكون من الثقات الأثبات؟ ... إلخ (ص:532).(1/232)
أمَّا رواية المشاهير والأئمة عن الرجل فهي التي تنفعه حقاً، والظاهر من النفع في كلام أبي زرعة التعديل؛ لأنَّ رواية الضعيفين عن الراوي ترفعه من جهالة العين إلى جهالة الحال، فلا يصح مساواة رواية الحفّاظ برواية هذين، فيقال: «إنَّ رواية جماعة من المشاهير الذين ينتقون في الرواية، لا ترفع جهالة الحال»!! على أنَّ هذا ليس عاماً في كل الثقات، فمِنَ الثقات من يروي عن كل أحد، فهؤلاء لا يُفْرح بروايتهم عن الراوي، وشيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – كثيراً ما يحسّن لمن روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في «الثقات» كما يراه الناظر في (الإرواء»، و «الصحيحة» (1) بخلاف «الضعيفة» في كثير من المواضع، وكتب الشيخ – حفظه الله – حافلة بالفوائد التي لا يزهد فيها إلا محروم جائر، ولا يطعن في علمه إلا زائع خاسر، وكم نفع الله العلماء وطلاب العلم والمسلمين بهذا الشيخ وبمؤلفاته – وإن حاول كثير من المبتدعة وتجار الكتب والساعين للشهرة، أن ينالوا من علمه وشخصه -، فأسأل الله أن يبقيه مُعافى مباركاً، ويبارك له فيما بقي من عمره، إنّه جواد كريم.
س 75: إذا قال إمام في راوٍ: له نسخة موضوعة، ولم نجد له ترجمة إلاّ تلك المقالة، فما حال ذلك الراوي؟
ج 75: ظاهر هذه العبارة إذا ذكرت في ترجمته، أنَّها مما عملت يداه، ويكون شديد الضعف، والله أعلم.
س 76: هناك عبارات نريد أن نعرف هل هي جرح مجمل أو مفسر، مثل قولهم: «فلان يتكلمون فيه»؟
__________
(1) سبق الكلام عن نحو من ذلك في السؤال رقم (41) فليراجع والله أعلم، وقيده المؤلف هناك بالتابعين فليراجع.(1/233)
ج 76: هذا جرح مجمل، لأننا ما نعلم هل يتكلمون فيه من قبل العدالة، أم من قبل الحفظ؟ وهي عبارة جرح خفيفة، من عبارات الشواهد والمتابعات (1)، لكن يطلقها الإمام البخاري – رحمه الله – خاصة على الجرح الشديد، كما ذكرته في المصطلحات الخاصة من «شفاء العليل» (2).
وقولهم: «لم يكن بالقوي في حديثه»؟ جرح مجمل لعدم معرفة سبب نفي القوة.
__________
(1) قال المعلمي – رحمه الله تعالى -: فكلمة: «تكلّموا فيه» ليست بجرح إذ لا يدري من المتكلّم وما الكلام؟ «التنكيل» (ص:406)، والظاهر أنّها عبارة جرح خفيف كما نص على ذلك المؤلف.
(2) «شفاء العليل» (ص:316): ومن التراجم التي استشهد بها المؤلف – حفظه الله تعالى – ترجمة نفيع بن الحارث، أبي داود الأعمى الهمداني، قاضي يتكلمون فيه «التاريخ الكبير» (8/ 112) والكلام فيه شديد جداً بالجرح حتى ترجم له الحافظ في «تقريبه» بقوله: «متروك» وقد كذبه ابن معين. وفي ترجمة يحيى بن عبدالحميد الحماني الكوفي قال فيه البخاري: «كان أحمد ويحيى يتكلمان فيه» اهـ قال المؤلف – حفظه الله تعالى – وقول أحمد فيه ظاهر جداً حتى إنّه قال فيه: «كان يكذب جهاراً» انظر «الميزان» (4/ 392).(1/234)
وقولهم: «قليل الحديث»؟ لا يلزم منه الجرح أصلاً، حتى نحتاج أن نعرف هل هو جرح مجمل أو مفسر؟ فالراوي قد يكون قليل الحديث، ومع ذلك يكون ثبتاً، وقد يكون قليل الحديث، وهو ضعيف، لكن أهل القلة غالباً يكونون ضعفاء، وأعني بالضعف هنا أنَّ حديثهم لا يُقبل؛ لأنَّ هذا يدل على أنَّهم ليسوا من أهل هذا الشأن، ولا يشتغلون بطلب الحديث، ولو اشتغلوا بطلب الحديث لكثر حديثهم، فأمثال هؤلاء غالباً يُحكم عليهم بالجهالة، وقد سبق أن ذكرت قول ابن عدي – رحمه الله – في «الكامل»: «فلان في مقدار ما يرويه لم يتبين لي صدقه من كذبه»، فيكون بهذا في عداد المجهولين (1)، والجهالة أيضاً ليست جرحاً، إنَّما هي وقفة في عين أو حال الراوي، ولو كان مُجَرَّحاً لما كان مجهولاً.
وقولهم: «يُستضعف»؟ جرح مجمل، وهو أخف ضعفاً من قولهم: «ضعيف».
وقولهم: «ليس بذاك»؟ - أيضاً – جرح مجمل.
وقولهم: «متروك» جرح مجمل كذلك.
(تنبيه): ذكرت فصلاً كاملاً في «شفاء العليل» للجرح المجمل والمفسر فارجع إليه (2).
س 77: العبارات التي ذكرْتَ أنها ليست جرحاً مفسراً، إذا تعارضت مع تعديل، فما العمل؟
__________
(1) سبق ذلك في السؤال رقم (7).
(2) «شفاء العليل» (1/ 523) باب «ذكر ألفاظ الجرح المجمل والمفسر».(1/235)
ج 77: إذا تعارض جرح مجمل مع تعديل، فيُرْجع إلى المجرِّح والمعدِّل، وما هي منزلة كل منهما علماً وإتقاناً ورسوخاً في هذا الشأن، وما حال كل واحد منهما من ناحية القرب من الراوي أو البُعْد، هل هو من بلدته أم لا، وهل هو معاصر له أم بعده؟ وغير ذلك من هذه الأمور، لكن لو فرضنا أن الأمر سواء من كل ناحية، وأن المعدّل والمجرِّح سواء، فلا نستطيع أن نرجح واحداً عن الآخر، فمنهم من يجمع بين اللفظين، فيجمع بين قولهم: «فلان ثقة» و «فلان ضعيف» فيقول: «صدوق» أي: يأتي به في الوسط، وهذا صنيع الحافظ – رحمه الله – في «التقريب» وقد سبق هذا من قبل في الجواب على السؤال رقم (51)، وهو قول تطمئن إليه النفس، وسيأتي تفصيل لذلك – إن شاء الله تعالى -.
س 78: هل هناك فرق بين قول أحدهم: «قال فلان» و «قال لنا فلان»؟(1/236)
ج 78: قول أحدهم: «قال فلان» و «قال لنا فلان» بينهما فرق؛ إذا كان القائل لهذه الكلمة مدلساً؛ لأنَّ «قال فلان» صيغة محتملة من المدلس، محتملة للسماع، ومحتملة لعدم السماع، أمّا «قال لنا» فجزمٌ وتصريح بالسماع، وأمّا غير المدلس؛ فليس بينهما فرق ينبني عليه قبول أو رد للرواية، لكن لا شك أن «قال لنا» أقوى من: «قال»؛ لأنَّهم يقولون: العنعنة محمولة على السماع من غير المدلس، فالذي يصرح بالسماع، قد خرج من هذا الخلاف، والإمام البخاري – رحمه الله – يكثر من كلمة «قال لنا فلان» لا سيما في «التاريخ الكبير» له، وذلك عن مشايخه، وهو ليس مدلساً في ذلك، وقد ذكر الحافظ – رحمه الله – في «الفتح» في ك/ العلم أنَّه يستعمل هذه الصيغة للتفريق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ شرطه، انظر «الفتح» ك/ العلم ب/ ما يذكر في المناولة، ومقدمة «تغليق التعليق»، المؤلف والله أعلم (1).
__________
(1) قال الحافظ في «النكت» (2/ 601) قلت: لم يصب هذا المغربي في التسوية بين قوله: قال فلان، وبين قوله: قال لي فلان، فإن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى دليل فإن قال لي مثل التصريح في السماع، وقال: المجردة ليست صريحة أصلاً.
وأمَّا ما حكاه عن أبي جعفر ابن حمدان وأقره أن البخاري إنَّما يقول: قال لي في العرض والمناولة ففيه نظر، فقد رأيت في الصحيح عدة أحاديث قال فيها: قال لنا فلان، وأوردها في تصانيفه خارج الجامع بلفظ حدثنا، ووجدت في الصحيح عكس ذلك.
وفيه دليل على أنّهما مترادفان والذي تبين لي بالاستقراء من صنيعه أنّه لا يعير في الصحيح بذلك إلا في الأحاديث الموقوفة أو المستشهد بها فيخرج ذلك حيث يحتاج إليه عن أصل مساق الكتاب، ومن تأمل ذلك في كتابه وجده كذلك والله الموفق.
قال: وقوله أي: العراقي والبخاري ليس مدلساً.
أقول: لا يلزم من كونه يفرق في مسموعاته بين صيغ الأداء من أجل مقاصد تصنيفه أن يكون مدلساً، ومن هذا الذي صرح أن استعمال «قال» إذا عبر بها المحدث عما رواه أحد مشايخه مستعملاً لها فيما لم يسمعه منه يكون تدليساً لم نرهم صرحوا بذلك إلا في العنعنة، وكأن ابن الصلاح أخذ ذلك عن عموم قولهم: إن حكم عن وأن وقال وذكر واحد، وهذا على تقدير تسليمه لا يستلزم التسوية بينهما من كل جهة كيف وقد نقل ابن الصلاح عن الخطيب أنَّ كثيراً من أهل الحديث لا يسوون بين قال وعن في الحكم فمن أين يلزم أن يكون حكمهما عند البخاري واحد، وقد بينا الأسباب الحاملة للبخاري على التعاليق فإذا تقرر ذلك لم يستلزم التدليس لما وصفنا، وأما قول ابن مندة: «أخرج البخاري» قال: «وهو تدليس» فإنّما يعني به: أنَّ حكم، ذلك عنده هو حكم التدليس ولا يلزم أن يكون كذلك حكمه عند البخاري. اهـ.(1/237)
س 79: هل هناك فرق بين الحديث الحسن والحديث الجيد؟
ج 79: نعم، بينهما فرق، فالجيد والقوي أعلى من الحسن، ودون الصحيح (1)، ومن المعلوم أنَّ العلماء اختلفوا في تحديد الحديث الحسن، بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى – في مختصره لعلوم الحديث (2)، فما ظنكم برتبة أخرى بين الحسن والصحيح!! وعلى كل حال فهذا لا يخفى على المشتغلين بهذا الفن، والله أعلم.
س 80: هل التدليس جرح في الراوي؟
__________
(1) قال السيوطي – رحمه الله تعالى – في «تدريبه» (1/ 177 - 178): ومن الألفاظ المستعملة عند أهل الحديث في المقبول: الجيد، والقوي، الصالح، والمعروف والمحفوظ، والمجود والثابت، فأما الجيد فقال شيخ الإسلام في الكلام على أصح الأسانيد لما حكى ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل أنَّ أصحَّها الزهري عن سالم عن أبيه، عبارة أحمد أجود الأسانيد كذا أخرجه الحاكم، قال: هذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح، ولذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك من ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وفي «جامع الترمذي» في «الطب»: هذا حديث «جيد حسن» وكذا قال غيره لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح وكذا القوي ... اهـ.
(2) انظر «الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث» (ص: 35).(1/238)
ج 80: التدليس ليس جرحاً مستقراً، لكنّه، يورث الوقفة في رواية الراوي إذا عنعن، أو أتى بلفظ فيه احتمال، وليس فيه تصريح، فالتدليس ليس جرحاً، بدليل أنّه قد وقع من الأئمة، ولم يجرَّحوا بذلك، ولم يُنْزِل من رتبتهم المنيفة، لكن إذا كثر التدليس في رواية الراوي، ضُعِّف بسبب ذلك، كما قال الحافظ في أبي جناب الكلبي، ولو رجعت إلى جوابي على السؤال رقم (24) لرأيت الكلام فيه مفصّلاً، والله أعلم.
س 81: لو قال قائل: التدليس ليس جرحاً، بدليل أنَّ المدلس لو صرّح بالسماع قبل منه، فما صحة ذلك؟
ج 81: الذي يظهر ليّ أنَّ هذا الجواب ليس متيناً؛ لأنَّ سيء الحفظ لو حدّث من كتابه قُبِلَ منه، ومع ذلك فسوء الحفظ جرح، وإن كان خفيفاً، فكون الراوي يقبل منه بشروط، ولا يقبل منه عند عدمها، هذا لا ينفي أنَّ به نوع جرح، والله أعلم.
س 82: ما الفرق بين تدليس التسوية وتدليس الإسناد؟
ج 82: التدليس عامة: هو إيهام وتعمية وتغطية من المدلِّس على السامع (1)، والعلماء قسَّموه إلى أقسام، منها القسمان اللذان ذكرتهما في السؤال: تدليس الإسناد، وتدليس التسوية.
__________
(1) قال الحافظ: هو مشتق من الدلس وهو الظلام.
قال ابن السيد وكأنه أظلم أمره على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه، انظر «النكت» للحافظ ابن حجر (2/ 614) و «توضيح الأفكار» (1/ 346 - 347).(1/239)
فتدليس الإسناد: أن يأتي الراوي المدلس بعبارة توهم أنَّه سمع من شيخه، وليست صريحة بالسماع، كأن يقول: «قال، أو عن، أو ذكر فلان»، ولا يقول: «قال لنا»، ولا «ذكر لنا»، أو «سمعت» أو «حدّثني»، فهذا يعتبر إيهاماً منه وتغطية، فيؤدي هذا إلى توقفنا في روايته، حتى نتأكد هل سمع أم لم يسمع؟ وهذا النوع اشتهر عند علماء الحديث بتدليس الإسناد (1).
__________
(1) وممّن نص على ذلك الخطيب – رحمه الله – في «الكفاية» حيث قال: تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنّه سمعه منه، ويعدل عن البيان لذلك ولو بيَّن أنَّه لم يسمعه من الشيخ الذي دلّسه عنه فكشف ذلك لصار بيانه مرسلاً للحديث غير مدلس. اهـ من (ص510).(1/240)
وأريد أن أذكر هنا نكتة لطيفة في هذا الأمر، فلطالما قال كثير من طلبة العلم: العلماء يقسمون التدليس إلى قسمين: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس الشيوخ واقع في الإسناد، فلماذا خصوا الأول باسم الإسناد؟ مع أن المتبادر لفهم السامع أنَّ تدليس الإسناد يدخل فيه الشيوخ والرجال جميعاً، والآخر يكون في المتن؟ والصواب: أنَّ تدليس الإسناد هنا معناه تدليس السماع، وبعضهم يعبر عنه بتدليس الصيغة، أي: صيغة التحمل، وألفاظ التحمل، ولذلك تجدهم في كتب الجرح والتعديل يقولون: «فلان عن فلان إسناد)، و «فلان عن فلان مرسل»، أي: فلان عن فلان سماع صحيح، وفلان عن فلان مرسل لم يسمع منه، أو لم يدركه، أو لم يلقه، فتدليس الإسناد هنا أي: تدليس السماع، وتدليس التسوية، هو إسقاط ضعيف أو صغير بين ثقتين أو مقبولين من السند، وقد ثبت سماع التلميذ فيه من شيخه في الجملة، فإذا جاء مدلس، كالوليد بن مسلم، وصرّح بالسماع من الأوزاعي مثلاً، ولكن بين الأوزاعي ونم فوقه كالزهري عنعنة، فلا زال الحديث فيه تدليس، ولا نقبله، إلا إذا كان التصريح بالسماع بين الأوزاعي والزهري مثلاً، فإذا كان أحد الثقتين أو المقبولين الذي سقط بينهما الضعيف أو الصغير، لم يسمع من شيخه، فهنا لا يقال: تدليس تسوية، إنّما يكون تسوية، وبذلك يتضح لنا الفرق بين تدليس التسوية والتسوية.
«فتدليس التسوية»: إسقاط ضعيف أو صغير بين مقبولين ثبت سماع الراوي من شيخه.
والتسوية: إسقاط ضعيف أو صغير بين مقبولين لم يثبت سماع الراوي من شيخه، ومن هنا عاب الأئمة التدليس، ولم يعيبوا الإرسال؛ لأنّه إذا أرسل علم السامعون أن الإسناد فيه انقطاع، وأن الإسناد ليس بمتصل، ولكن عابوا التدليس؛ لأنّه يقول: «قال فلان»، وفلان هذا؛ هو شيخه في غير هذا الحديث، فيوهم السامعين أنّه سمع هذا الحديث منه، ولم يسمعه في واقع الأمر، والله أعلم.(1/241)
س 83: هل هناك فرق بين قولهم: «سوّاه فلان» و «جوّده فلان»؟
ج 83: نعم، هناك فرق بينهما، وذلك أنَّ قولهم: «سوّاه فلان» لا يكون إلا ذماً، وأمّا قولهم: «جوَّده فلان» فيأتي على وجهين:
أحدهما بالذم كقولهم: «سوّاه فلان» (1)، وذلك إذا أسقط الضعيف أو الصغير من السند ليظهره مستوياً بالثقات، أو يروي الحديث سالماً من العلة، مع أنَّ الصواب من رواية الثقات، أن الحديث به علّة، ومن رواه سالماً منها، فقد وهم، فمعنى: «جوَّده» هنا أي: رواه جيداً سالماً من العلة، ولكن بجمع الطرق يتضح أن الصواب وجود العلة وإعلال الحديث بها، وزوال العلّة كأن يصرح الراوي بسماع مدلس، أو تسمية مبهم، أو ثبوت واسطة بها يتصل السند، أو يقرن بين ضعيفين كل منهما يتابع الآخر، أو غير ذلك، فإن كان المجوِّد واهماً في ذلك قالوا: «جوده فلان» على سبيل القدح فيه.
__________
(1) قال الحافظ – رحمه الله -: والتحقيق أن يقال: متى قيل: تدليس التسوية فلا بدّ أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل: تسوية بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه كما فعل مالك فإنّه لم يقع في التدليس أصلاً ووقع في هذا؛ فإنّه يروي عن ثور، عن ابن عباس، وثور لم يلقه، وإنّما روى عن عكرمة عنه فأسقط عكرمة لأنّه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع بأن شرط الساقط هنا أن يكون ضعيفاً فهو منقطع خاص ذكره السيوطي في «تدريب الراوي» (1/ 226)، وقال الحافظ في «نكته» على ابن الصلاح: فهذا مالك قد سوى الإسناد (بإبقاء) من هو عنده ثقة وحذف من ليس عنده بثقة، فالتسوية قد تكون بلا تدليس، وقد تكون بالإرسال فهذا تحرير القول فيها. (2/ 618) من «النكت».
قلت: وقد سبق هذا مفصّلاً في السؤال رقم (25)، والله أعلم.(1/242)
والوجه الثاني لهذا اللفظ: أنَّه يأتي على سبيل المدح والقبول من الراوي، وذلك إذا روى الحديث سالماً من العلّة بخلاف غيره، لكن مع من جوّد قرينة تجعلنا نقبل منه، كأن يكون ملازماً للشيخ المُختلَف عليه، أو كون التلميذ من الحفّاظ الذين يوثق بروايتهم، أو غير ذلك (1)، فالتسوية لا تكون إلا بنقص في السند، لكن التجويد أحياناً يكون بنقص في السند وأحياناً بزيادة في السند، سواء كان مدحاً أو ذمّاً، والله أعلم.
س 84: معلوم أنَّ المدلس لا يقبل منه إذا عنعن، فلماذا قسّم الحافظ ابن حجر المدلسين في «طبقات المدلسين» إلى طبقات، وذكر أنَّ أهل الأولى والثانية تقبل عنعنتهم؟
__________
(1) كثيراً ما يأتي هذا اللّفظ على سبيل المدح، انظر بعض الأمثلة على ذلك في «علل الدّارقطني» (ج3 ص: 101 سؤال 303) حيث قال في رواية حجّاج بن محمد: «فجود إسناده ووصله وضبطه» اهـ وكذا في (ج3 ص105 سؤال رقم 307) وفي «علل الحديث للرازي» (ج1 ص329 برقم 980)، (2/ 131 رقم 1885) وكذا في رقم (2655).(1/243)
ج 84: أعلم أنَّ من وُصِفوا بالتدليس ليسوا سواءً، فمنهم المقل من التدليس، والمكثر من الروايات، ومنهم المقل في التدليس والروايات، ومنهم المكثر من التدليس، وإن كان مكثراً في الروايات، ومنهم من لا يروي إلا عن ثقة، ولما فتش ما دلسه عُلم أنّه لا يدلس إلا عن ثقة، ومنهم الذي هو مضعَّف، ومع ذلك يدلس، فجَمْعُ هؤلاء جميعاً في حكم واحد ليس من الإنصاف، ومخالف للاعتدال الذي قامت عليه قواعد هذا العلم المبارك، فليس من الإنصاف أن نقف في حديث الثوري، أو ابن عيينة، أو يحيى بن سعيد الأنصاري، من أجل بعض المواضع النادرة التي تنغمر في سعة ما رووا، والحافظ ابن حجر – رحمه الله – من أهل الاستقراء التّام والباع الطويل في هذا الفن، نعم من الممكن إذا ظهرت نكارة في بعض روايات أهل الطبقة الأولى والثانية، أُعلَّت هذه الروايات حسب ما ظهر منها بتدليس الراوي، والأمر أولاً وأخيراً اجتهاد من الحافظ – رحمه الله -، ولما كان أهلاً لهذا الاجتهاد قبلناه منه، ما لم يظهر أقوى منه فيعمل به، وقد يُخالَف في بعض مَنْ ذَكَره، والله أعلم (1).
س 85: في بعض الأسانيد نرى بعض الرواة يقول: «حدثني فلان، وثبَّتني فيه فلان» فما حكم هذه الرواية؟
__________
(1) وانظر ذلك مفصلاً في السؤال رقم (15).(1/244)
ج 85: بعض الرواة – وإن كان ثقة – قد يطرأ عليه شك في الرواية، فيسأل زميله عن الحديث فيُثَبِّته فيه، فالحكم في ذلك أن ينظر في المثبِّت والمثَّبت، فإن كان كل منهما يحتج به، قُبِلَ الحديث، كما ذكر الحافظ العلائي في «جامع التحصيل» في ترجمة حميد الطويل، وأنّه ما سمع من أنس إلا بعض الأحاديث، لكن البقية ثبَّته فيها ثابت، قال: فلما علمنا ثقة الواسطة قبلنا حديثه (1)، اهـ بمعناه، لكن إذا كان المثبِّت ضعيفاً فلا يحتَّج به، إلا إذا تذكر الراوي الرواية بعدما ثبته زميله، وجزم بالرواية، فعند ذلك يحكم عليه بما يستحق، والله أعلم.
س 86: هل كل من خرَّج له البخاري أو مسلم في الأصول، يكون معدلاً في الرواية؟ وكيف لو رأينا غيرهما يتكلّم فيه؟
__________
(1) قال العلائي – رحمه الله تعالى -: حميد بن أبي حميد الطويل تقدم أنَّه كان يدلس، وقال: مؤمل بن إسماعيل عامة ما يرويه حميد عن أنس سمعه من ثابت، يعني: البناني عنه، وقال: أبو عبيدة الحداد عن شعبة لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثاً والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها ثابت.
قلت: أي «العلائي» فعلى تقدير أن يكون مراسيل قد تبين الواسطة فيها وهو ثقة محتج به، اهـ. «جامع التحصيل» (ص:168 رقم 144).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 593 رقم 393): «ورواية معاذ لا دليل فيها على أنَّ حميد لم يسمعه من أنس؛ لأنَّه لا مانع أن يسمعه من أنس ثم يستثبت فيه من ميمون – لعلمه بأنّه كان السائل من ذلك فكان حقيقاً بضبطه فكان حميد تارة يحدِّث به عن أنس لأجل العلو، وتارة عن ميمون لكونه ثبته فيه وقد جرت عادة حميد بهذا، بقول: «حدّثني أنس، وثبتني فيه ثابت» وكذا وقع لغير حميد. اهـ.(1/245)
ج 86: ليس كل من خرج له البخاري أو مسلم في الأصول يكون معدلاً في الرواية مطلقاً، فمثلاً إسماعيل بن عبدالله بن أويس؛ أخرج له البخاري احتجاجاً في داخل «الصحيح» (1)، وفليح بن سليمان العدوي؛ أخرج له البخاري ومسلم – رحمهما الله – احتجاجاً، وكلاهما لا يحتج به خارج «الصحيح»، لكن كيف أخرج صاحب «الصحيح» في الأصول لرجل لا يحتج به؟ الجواب: أنَّ صاحب «الصحيح» أخرج له انتقاء من حديثه، أو أنّه أخرج من حديثه ما علم أنَّ له أصلاً، أو ما توبع عليه، أو أنَّه أخرج مثلاً الحديث الذي من كتابه، وإن كان سيئ الحفظ، هذه أشياء يعتذر بها لصاحب «الصحيح» (2).
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «هدي الساري» (ص:391): وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أنَّ إسماعيل أخرج له أصوله وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم له على ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو صحيح الحديث، لأنَّه كتب من أصوله وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في «الصحيح» من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا أن يشاركه فيه غيره فيعتبر به. اهـ.
(2) جاء في التوضيح أنَّ النووي ذكر فصلاً مستقلاً فيما انتقد على مسلم فقال: عاب عائبون مسلماً بروايته في «صحيحه» عن جماعة من الضعفاء، المتوسطين، الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شروط الصحيح، ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها ابن الصلاح:
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، بل نقل عن الخطيب وغيره أنه قال ما احتجّ به البخاري ومسلم وأبو داود من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنّه لم يثبت المؤثر مفسراً.
قلت – أي الصنعاني -: وهذا هو الذي أشار المصنف آنفاً.
الثاني: أن يكون واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول.
الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه باختلاطه وذلك غير قادح فيما رواه من قبل في زمن الاستقامة.
الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهذا القدر قد رويناه تنصيصاً. اهـ.
قال الصنعاني: ولا يخفى على الناقد ما في هذه الوجوه. اهـ (ص:132 - 133).
وفي التدريب: ذكر أمثلة لبعض هذه الأعذار فمثلاً عند الكلاوم على الرواية قبل الاختلاط قال كأحمد بن عبدالرحمن بن أخي عبدالله بن وهب اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر وعن عذر العلو قال – أي: ابن الصلاح -: فقد روينا أنّ أبا زرعة أنكر عليه روايته عن أسباط بن نصر وقطن وأحمد بن عيسى المصري، فقال: إنّما أدخلت من حديثهم ما رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنّه ربّما وقع إليّ عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول فاقتصر على ذلك ولامه أيضاً على التخريج عن سويد، فقال: من أين كنت آتي بنسخة حفص عن ميسرة بعلو. اهـ (ص:97 - 98).(1/246)
أمّا أن يقال: إن كل من أخرج له البخاري أو مسلم احتجاجاً يكون ثقة مطلقاً، فلا (1)،
__________
(1) ارجع إلى كلام المؤلف – حفظه الله تعالى – في كتابه «شفاء العليل» (1/ 366 - 367):
(تنبيه):
الرواة الذين احتج بهم صاحبا «الصحيحين»، أ, أحدهما يكتسبون التوثيق الضمني بذلك وإن لم ينص أحدهم على توثيقهم وينفعهم ذلك في رفع الجهالة عنهم، ويوضح ذلك قول الحافظ الذهبي بعد نقله لقول ابن القطان في حفص بن بغيْل: لا يعرف له حال.
قال ابن القطان: يتكلّم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته وهذا شيء كثير، ففي «الصحيحين» من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل «ميزان الاعتدال» (1/ 556).
وكذا قوله في نفس المصدر: بعد نقله لقول ابن القطان في مالك بن الخير: هو ممن لم تثبت عدالته يريد أنّه ما نصّ أحد على أنّه ثقة، وفي رواة «الصحيحين» عدد كثير ما علمنا أنَّ أحداً نص على توثيقهم (3/ 426).
والناظر في الكلام السابق يجد الحافظ الذهبي يحتج على ابن القطان الذي يحكم بالجهالة على كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، احتج عليه برجال ينطبق عليهم وصف ابن القطان ومع ذلك ليسوا بمجاهيل، وذلك لاكتسابهم التوثيق الضمني وهو إخراج الشيخين لهما في «صحيحيهما» وقد صرح الذهبي بذلك في «موقظته» (ص:78) حيث قال: الثقة من وثقه كثير ولم يضعف ودونه من لم يوثق ولا ضُعِّف فإن خُرِّج حديث هذا في «الصحيحين» فهو موثق بذلك. اهـ والله أعلم.(1/247)
وفي المقابل أنَّهما لم يخرجا عن كل الثقات، وإذا كنَّا نجمع بين قول البخاري في الراوي: «ثقة» وبين قول غيره إذا ضَعَّف نفس الراوي، فكيف لا نلتفت إلى كلام من جرح لإخراج البخاري أو مسلم عن الراوي، مع أنَّ الإخراج ليس توثيقاً صريحاً، فقد يكون توثيقا للراوي في شيخ معين، وهو الذي أخرج له صاحب «الصحيح» في روايته عنه، وقد يكون في حديث معين أو أحاديث، أما القول بأنه ثقة، فهو أصرح وأشمل في التعديل من مجرد إخراج حديث الراوي، والله أعلم.
س 87: الحديث إذا كان على شرط البخاري أو مسلم هل يكون صحيحاً؟
ج 87: هذا يذكرني بحال بعض المحققين في هذا العصر، فتراهم إذا ذكروا الحديث يقولون: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، أو على شرط البخاري ومسلم، أو رجاله رجال الصحيح، وتعريفهم لشرط البخاري بأنّه رجال البخاري، هذه مسألة فيها توسع غير مرضي، وفيها ذهول عن النقد العلمي الصحيح، فالبخاري يخرج أحاديث الثقات، ويخرج أحاديث أهل المرتبة الوسطى من التوثيق الذي هم «لا بأس بهم» وفي مرتبة «صدوق»، والذين هم أحاديثهم حسنة، ويخرج أحاديث الضعفاء الذين فيهم كلام، وإن كانت هذه نسبة قليلة في «الصحيح» كما صرّح بذلك الحافظ – رحمه الله – في «هدي الساري» إلا أنَّها موجودة، إذاً فالذي يقول: هذا حديث صحيح لأنَّ رجاله رجال البخاري، لا يخلو عن توسع غير مرضي.(1/248)
وذلك لأنَّ المطلوب منه أن يثبت أنَّ هذا السند أخرج به البخاري حديثاً في كتابه بهذا النسق، وبهذا السياق: «فلان عن فلان عن فلان» إلى منتهاه، فإن لم يكن إلا مجرد الرجال، فلا، ومن هنا دخل الوهم كما بينوا في كتب علوم الحديث على الحاكم النيسابوري – رحمه الله – أنَّه كان يلفق بين الأسانيد، كما في هشيم عن الزهري فهشيم والزهري لهما روايات عند البخاري وعند مسلم، فيقول الحاكم: «على شرط الشيخين» بالرغم من أنَّ البخاري ومسلماً لم يخرج أحدهما حديثاً من طريق هشيم عن الزهري، فمجرد وجود الرجل في «الصحيح» لا يكفي، بل لابد أن يكون على نسق كامل من أول السند إلى آخره في أحد «الصحيحين» أو في كتاب من يعزو إلى شرطه (1)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: ووراء ذلك كله أن يروى إسناد ملفق ممن رجالهما كسماك عن عكرمة عن ابن عباس، فسماك على شرط مسلم فقط، وعكرمة انفرد به البخاري، والحق أنّ هذا ليس على شرط واحد منهما.
وأدق من هذا أن يرويا عن أناسٍ ثقات ضعفوا في أناس مخصوصين من غير حديث الذين ضعفوا فيهم، فيجيء عنهم حديث من طريق من ضعفوا فيه، برجال كلهم في الكتابين وأحدهما فنسبته أنَّ على شرط من خرج له غلط، كأن يقال في هشيم عن الزهري: وكل من هشيم والزهري أخرجا له، فهو على شرطهما، فيقال: بل ليس على شرط واحد منهما؛ لأنّهما إنّما أخرجا لهشيم من غير حديث الزهري، فإنّه ضعف فيه؛ لأنّه كان دخل إليه فأخذ منه عشرين حديثاً فلقيه صاحب له وهو راجع فسأله روايته وكان ثم ريح شديدة فذهبت بالأوراق من الرجل فصار هشيم يحدث بما علق منها بذهنه، ولم يكن أتقن حفظها فوهم في أشياء منها، ضعف في الزهري بسببها، وكذا همام ضعيف في ابن جريج مع أنَّ كلاً منهما أخرجا له، لكن لم يخرجا له عن ابن جريج شيئاً، فعلى من يعزو إلى شرطهما أو شرط واحد منهما أن يسوق ذلك السند بنسق رواية من نسب إلى شرطه، ولو في موضع من كتابه وكذا قال ابن الصلاح في شرح مسلم: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في «صحيحه» بأنّه من شرط الصحيح فقد غفل وأخطأ بل ذلك متوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه، وعلى أي وجه اعتمد عليه ... اهـ، من نقل السيوطي عنه، كما في «التدريب» (1/ 129).
وفي «النكت» (1/ 314 - 315) قال الحافظ – رحمه الله -، وقد قسم «المستدرك» إلى أقسام:
أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجاً برواته في «الصحيحين» أو أحدهما على صورة الاجتماع سالماً من العلل، واحترزنا بقولنا على صورة الاجتماع عما احتجا برواته على صورة الانفراد كسفيان بن حسين عن الزهري، فإنّهما احتجا بكل منهما على الانفراد، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري، لأنّ سماعه من الزهري ضعيف دون بقية مشايخه.
فإذا وجد حديث من روايته عن الزهري لا يقال على شرط الشيخين لأنّهما احتجا بكل منهما بل لا يكون على شرطهما إلا إذا احتجا بكل منهما على صورة الاجتماع، وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج بآخر منه كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلاً عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – فإنَّ مسلماً احتج بحديث سماك، إذا كان من رواية الثقات عنه ولم يحتج بعكرمة واحتج البخاري بعكرمة دون سماك، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما حتى يجتمع فيه صورة اللاجتماع، وقد صرَّح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري وغيره. اهـ.(1/249)
ومع ذلك فمع وجود هذا النسق التام، لا يلزم من ذلك الصحة، لأنّنا بعد ذلك نريد أن نعرف: كيف أخرج له البخاري مثلاً: احتجاجاً أو استشهاداً؟ ولو فرضنا أنَّه أخرج له احتجاجاً، فمع ذلك لا يلزم من ذلك الصحة، لماذا؟ لأنَّ البخاري قد ينتقي بعض أحاديث هذا الراوي، وهذا أمر موجود في النسخ التي أخرجها البخاري وأخرجها مسلم، فيتفق هو ومسلم في إخراج بعض أحاديثها، وينفرد هو بأحاديث، ومسلم بأحاديث أخرن، ثم تبقى أحاديث أخرى لا يخرجها أحدهما (1).
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (1/ 315 - 316): (واحترزت بقولي أن يكون سالماً من العلل بما إذا احتجا بجميع رواته على صورة الاجتماع إلا أنَّ فيهم من وصف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره فإنّا نعلم في الجملة أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحققا أنّه مسموع لهم من جهة أخرى، وكذا لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحققا أنّه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه؛ بأنّه على شرطهما وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالسماع وصح أن الراوي سمع من شيخه قبل اختلاطه فهذا القسم يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما.
الثاني – أي من الأقسام في «المستدرك»: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقروناً بغيره، ويلتحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنبا ما تفرد به أو ما خالف فيه كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – ما لم يتفرد به.
فلا يحسن أن يقال: إنَّ باقي النسخة على شرط مسلم؛ لأنَّه ما خرج بعضها إلا بعد أن تبين أنَّ ذلك مما لم ينفرد به، فما كان بهذه المثابة لا يلتحق إفراده بشرطهما. اهـ.(1/250)
نعم، هناك تفسيرات من العلماء لذلك، لكن نفهم من ذلك أنَّ صنيع صاحبي «الصحيح» ليس مجرد الوقوف على رجال السند، بل يكون بالنظر إلى المتن وشهرته، وعدم مخالفته للأصول، مع قرائن أخرى لا تخفى على العاملين في هذا الميدان، ولذلك كان علماء الحديث يحكمون على الحديث بالضعف، وإن كان سنده ظاهره الصحة، لما يرونه في المتن مما يوجب ضعفه، فالمقصود أن صاحب «الصحيح» قد يخرج عن الرجل احتجاجاً، ويخرج بعض أحاديثه، لا كل أحاديثه، فلا يلزم من وجود هذا الإسناد بكامله في «صحيح البخاري» مثلاً، في باب الاحتجاج والأصول لا في الشواهد والمتابعات أن يحتج برواته مطلقاً، كما سبق من أنَّ البخاري قد ينتقي من حديثه ما يعلم أنَّ له أصلاً، أو أنَّه توبع عليه، أو روى عنه من أصل كتابه، أو غير ذلك من القرائن، وقد تكون هذه القرائن غير متوفرة في الحديث الذي هو خارج «الصحيح»، فعلى هذا أقول: إنَّ صنيع بعض المحققين في هذا العصر، لا سيما الذين هم ليسوا متخصصين في هذا الشأن، لا تطمئن له النفس غالباً، وعلى هذا فمن يصحح الحديث لمجرد أنَّه على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرط الشيخين، دون مراعاة لهذه الضوابط، فقد خالف أسلوب النقد العلمي، فإخراج البخاري – رحمه الله – لرجل في «صحيحه» ليس كقوله إذا سئل عنه فقال: «ثقة» (1)،
__________
(1) سبق عن ابن الصلاح – رحمه الله – قوله في «شرح مسلم»: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في «صحيحه» بأنّه من شرط الصحيح فقد غفل وأخطأ بل ذلك يتوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه وعلى أي وجه اعتمد عليه اهـ من «التدريب» (1/ 129)، وفي «نصب الراية» للزيلعي (1/ 341 - 342) قال رحمه الله إن صاحبي «الصحيح» قد يخرجان لرجل عن شيخ معين؛ لضبطه حديثه، وخصوصيته به. ولم يخرجا حديثه عن غيره؛ لضعفه فيه، أو لعدم ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه، أو لغير ذلك .. كما أخرجا حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال، وغيره ولم يخرجا له عن عبدالله بن المثنى؛ لكونه غير معروف بالرواية عنه. إلخ. اهـ.(1/251)
أمَّا الحديث الذي أخرجه له، فلا شك أنَّه يحتج به في ذلك الموضع، إلا أنَّ إخراجه في «الصحيح» رافع للجهالة، فإذا لم يكن في الرجل جرح، وهو في رجال الصحيح قُبِلَ حديثه في «الصحيح»، ومن نظر في «التقريب» علم أنَّ الحافظ – رحمه الله – أحياناً يترجم بقوله: «مقبول» لمن أخرج له مسلم – رحمه الله – وأحياناً يزيد على ذلك.
س 88: الحافظ ابن حجر يقول: إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك أن للحديث أصل، فهل هذه العبارة على إطلاقها حتى لو كانت الطرق كلها لا تسلم من كذاب أو ساقط أو متروك أو نحو ذلك ممن أشتد ضعفهم (1)؟
__________
(1) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «الفتح» (8/ 429) تفسير سورة الحج.(1/252)
س 88: لا شك؛ أننا نحمل كلام الحافظ – رحمه الله – على ما إذا كانت الطرق ليست شديدة الضعف، لأنّها لو كانت شديدة الضعف، فلا يمكن أن يقال: إنَّ كثرة الطرق تدل على أنَّ للحديث أصلا، ويحتج به، بل قد يقال: إذا انفرد الكذابون والمتروكون بحديث، أو تداوله الكذابون، هذا يرجح عندنا أنّه موضوع (1)؛
__________
(1) قال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 359 - 360): وأحاديث الجهر بالبسملة وإن كثرت رواتها لكنها ضعيفة، وكم من حديث كثرت رواته، وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف كحديث «الطير»، وحديث «الحاجم والمحجوم»، وحديث: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً. اهـ. وانظر نحو هذا الكلام في «الباعث الحثيث» (ص:38) للشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى - ..(1/253)
لأنَّه قد يقال: لماذا لم يروه أحد من الثقات، إنّما هو مشهور بين الكذابين فقط؟ هذا مما يؤكد لنا أنّه موضوع ومفترى على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعلى هذا يُحمل كلام الحافظ – رحمه الله -، لكن هنا مسألة لا بدّ أن نتنبه لها: فمن المحتمل؛ أنّنا نحكم على الرجل بأنّه «متروك»، لكن الحافظ – رحمه الله – لا يرى أنّه «متروك»، فيرى أنَّ كثرة الطرق حينئذٍ تنفع؛ لأنَّه يرى أنَّ الرجل ضعيف، وكذلك الاختلاف في مسألة الاستشهاد بالمنقطع، والمعضل، والمرسل، ومجهول العين له أثر في ذلك، فقد يكون المخالف ممن يقول: «لا يستشهد بمثل هذه الأشياء»، ولكن الحافظ يستشهد بها إذا كثرت الطرق وتباينت مخارجها، فينبغي أن تقيد هذه الكلمة المسؤول عنها بالحديث الذي كان الحافظ بصدده، ويجب أن ننظر هل سلّم الحافظ بأنّ مفردات هذه الأسانيد شديدة الجرح؟ إن كان كذلك – ولا أراه يكون – ففي هذه الحالة لنا أن ننتقد أو نعترض على الحافظ (1)،
__________
(1) ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكره الحافظ – رحمه الله تعالى – في «الفتح» (8/ 429) تفسير سورة الحج في الكلام على قصة الغرانيق، فقد ذكر – رحمه الله – طرق هذه القصة.
ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إمّا ضعيف أو منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أنَّ للقصة أصلاً مع أنَّ لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه والثاني ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، وقد تجرأ أبوبكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة، باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول عياض هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية.
ثم قال الحافظ: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد فإنَّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أنَّ لها أصلاً، وقد ذكرت أنَّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، ثم ذهب – رحمه الله – إلى تأويل هذه القصة.
وكما قال المؤلف – حفظه الله تعالى -: فإن الحافظ لم يسلم بأن مفردات هذه الأسانيد شديدة الجرح كما صرح – رحمه الله -.
(تنبيه):
قال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – في تعليقه على «سنن الترمذي» (2/ 464 - 465) منبهاً على ضعف قصة الغرانيق – وهي قصة باطلة مردودة، كما قال القاضي عياض، والنووي – رحمهما الله – وقد جاءت بأسانيد باطلة ضعيفة أو مرسلة، ليس لها إسناد متصل صحيح، وقد أشار الحافظ في الفتح إلى أسانيدها ولكنّه حاول أن يدّعي أنَّ للقصة أصلاً لتعدد طرقها، وإن كانت مرسلة أو واهية!! وقد أخطأ في ذلك خطأ لا نرضاه له، ولكل عالم زلّة – عفا الله عنه -.
أقول: وقد ألف فضيلة الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى – رسالة موجزة جامعة في إبطال هذه القصة وسماها «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» وألف كذلك الشيخ علي بن حسن الحلبي رسالة أخرى اسمها «دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق رواية ودراية» والله أعلم.(1/254)
أمَّا أنا فأحسن الظن بالحافظ ابن حجر – رحمه الله – كيف لا؟ وهو إمام وفارس هذا الشأن، ومنه استفادت المكتبة الإسلامية والعلماء وطلاب العلم في هذا العصر وقبله، فمثل هذا لا يفوته ولا يغيب على ذهنه أنَّ الطرق شديدة الضعف لا تنجبر بكثرتها، بل وهو ممن يصرح بذلك (1).
س 89: الاستشهاد بطرق مختلفة، وفي كل طريق مجهول، ألا يحتمل أن يكون هذا المجهول متروكاً أو كذّاباً؟
__________
(1) في «التدريب» (1/ 177) قال السيوطي: وأما الضعيف لفسق الراوي أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره له إذا كان الآخر مثله، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر، نعم يرتقي بمجموع طرقه عن كونه منكراً أو لا أصل له، صرّح به شيخ الإسلام – أي الحافظ ابن حجر – قال بل ربّما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور السيء الحفظ، بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن. اهـ.
وفي «النزهة» (ص:68) ذكر الحافظ – رحمه الله – حديث عمر بن الخطاب: «إنّما الأعمال بالنيات ... » الحديث، فقال: تفرد به علقمة عن عمر، ثم تفرد به محمد بن إبراهيم، به عن علقمة، ثم تفرد يحيى بن سعيد به عن محمد، على ما هو الصحيح المعروف عند المحدثين، وقد وردت لهم متابعات لا يعتبر بها لضعفها. اهـ.(1/255)
ج 89: لو كان متروكاً أو كذّاباً لما غاب على الأئمة حاله، ولو طردنا ذلك لقلنا في مجهول الحال الذي يستشهد به اتفاقاً: ألا يحتمل أن يكون متروكاً أو كذاباً؟ بل ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون مجهول العين ثقة، وكلها احتمالات مردودة، فلو جاء الحديث من طرق كثيرة تدل على أنَّ للحديث أصلاً فعند ذاك تطمئن النفس إلى الاحتجاج به وارتقائه إلى درجة الحسن لغيره، وقد يقول قائل: كم عدد هذه الطرق؟ والجواب: أنّه أمر اجتهادي، ففي حديث قد أقبله إذا جاء من طرق في إسناد كل واحد منها مجهول عين أو أقل من ذلك، وقد لا أقبله من طرق أكثر، لأنّني أرى فيه نكارة، وليس مجهول العين الذي يروي عنه رجل ثقة مشهور، كمجهول العين الذي يروي عنه ضعيف، فهذا مجهول عين، وذاك مجهول عين، لكن الذي يروي عنه ضعيف متوغل في الجهالة، ومجهول العين الذي يروي عنه ثقة – لا يعرف بتدليس – ليس كمجهول العين الذي ينفرد بالرواية عنه رجل مدلس، فإنَّ انفراد المدلس هذا بالرواية عنه أمر يثير الريبة والخوف من شيخه أكثر وأكثر، فالحقيقة أنَّ المسألة تحتاج إلى إلمام بكل القرائن، والله أعلم.
س 90: بعض الناس إذا ذكرت له حديثاً صحيحاً، يرده قائلاً: يحتمل أنَّ فيه ضعفاً، يحتمل كذا، يحتمل كذا، فما هو الجواب على ذلك؟(1/256)
ج 90: لو فُتِح باب الاحتمال الذي لا ينبني على الأدلة العلمية الصحيحة، لبطلت كثير من الأمور الصحيحة، فعلى سبيل المثال ننظر إلى تعريف العلماء للحديث الصحيح: قالوا: الحديث الصحيح: «الذي يتصل إسناده» وفي مسألة الاتصال خلاف كثير: الاتصال على شرط البخاري أو شرط مسلم؟ وفلان أدرك فلاناً، لكنَّه لم يسمع منه، أو أدركه إدراكاً بيناً فيحتمل السماع منه، أو فلان يثبت السماع، ولكن فلاناً نفاه، ففي داخل شرط الاتصال خلافات كما رأيت، ثم قولهم: «بنقل العدل» من هو العدل؟ اختلفوا في تعريف العدل، وكل من طالع كتب علوم الحديث، علم الكلام في ذلك، وهل المعدِّل أو الموثق متشدد، أو متساهل أو معتدل؟ وقولهم في تعريف الصحيح: «الضابط» ما معنى الضابط؟ فمنهم من يحكم عليه لمعاصرته إياه، أو لسبر روايته، ومنهم من يتوسع في سبر روايته، ومنهم من يحكم عليه لمجرد حديث واحد أو مجلس واحد، هذه كلها مسائل احتمالية خلافية، فلو فتح باب الاحتمال، فمن الممكن أو لا يصح حديثٌ في الدنيا، ولكن العبرة بالقواعد، ما لم يكن هناك ما يناقضها، أو يَرْجح عليها من القواعد الأخرى، فحينذاك يوضع كل أمر في موضعه، وتركك القاعدة لقاعدة أخرى، عملٌ بالقواعد، وأخذٌ بكلام أهل الحديث، المهم أن تكون موفقاً في استخدام كل قاعدة في موضعها، وأن تكون مخلصاً في عملك، لا تكن كبعض المتعصبين، فإنَّه إذا كان الأمر له، أتى بالقواعد محررة أحسن تحرير، وإذا كان الأمر عليه حاول أن يفلت، وأن يحرِّف كلمات الجرح والتعديل، وأن يطعن في الإمام منهم، إذا لم يستطع أن يحرف كلمته، فالله المستعان.
س 91: المحدث إذا عمد إلى مشهور بكثرة الحديث فيأتي عنه بما ليس عند كبار تلامذته، فهل هذا دليل على نكارة الحديث؟ وخاصة أنَّ مسلماً جعله من علامات النكارة؟(1/257)
ج 91: كلام مسلم هذا في «مقدمة الصحيح» (1)،
__________
(1) قال – رحمه الله تعالى – في «مقدمة صحيحه» (1/ 56 - 58): « ... وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله، ولا مستعْمله.
فمن هذا الضرب من المحدثين عبدالله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال، أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبدالله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به لأنَّ حكم أهل العلم والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته فأمَّا من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابُهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم.(1/258)
وخلاصة الأمر الذي سألت عنه: أنَّ المحدِّث إذا روى عن إمام من الأئمة، بما لا يُعْرف عنه ضُعِّف وتُكُلّم فيه، وقولنا: «بما لا يعرف عنه» ما وصلنا إلى الحكم بهذا إلا بعد أن مررنا بمرحلة، رأينا فيها أنَّ الثقات وكبار تلامذته، أو أصحاب الطبقة الأولى من تلامذته، ما رووا هذه الجملة، أو ما رووا هذا الحديث أصلاً، إنَّما انفرد به من لا يستحق أن يُقْبل تفرده، فلذلك قلنا: أتى عنه بما لا يُعرف عنه، ومن هنا قسم العلماء الرواة عن الأئمة إلى طبقات، والطبقات هنا ليس المقصود بها السن، وإنَّما المقصود بها الملازمة والتثبت، ومعرفة حديث هذا الشيخ، كما ترى في كتاب «العلل» لابن المديني – رحمه الله – أشياء كثيرة من هذا (1)،
__________
(1) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح العلل» (ص:231): « ... أصحاب الزهري خمس طبقات:
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري والعلم بحديثه، والضبط كمالك وابن عيينة ... وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري.
الطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان لكن لم تطل صحبتهم للزهري؛ وإنّما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه وهم في إتقانه دون الطبقة الأولى كالأوزاعي، والليث ... وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري.
الطبقة الثالثة: لازموا الزهري وصحبوه ورووا عنه، ولكن تكلّم في حفظهم، كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق ... ، وهؤلاء يخرج لهم أبو داود، والترمذي، والنسائي، وقد يخرج لهم مسلم لبعضهم متابعة.
الطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة، ومع ذلك تكلّم فيهم مثل، إسحاق بن يحيى الكلبي ... وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم.
الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي وعبدالقدوس بن حبيب ... ونحوهم فلم يخرج لهم الترمذي ولا أبو داود، ولا النسائي ويخرج لبعضهم ابن ماجة ومن هنا نزلت درجة كتابه عن بقية الكتب، ولم يعدُّه من الكتب المعتبرة سوى طائفة من المتأخرين. اهـ.(1/259)
فالراوي إذا كان كذلك، أي: يروي عن الثقات بما لا يُعرف عنهم ضُعِّف بسبب ذلك، فإن كثر هذا في حديثه وفحش، تُرِك، واعلم أن الراوي وإن كان ممن يُحتج به، فقد يردون بعض حديثه عن أحد الشيوخ، بحجة أنه ليس موجوداً عند كبار تلامذته، لكن محل ذلك إذا كانت هناك نكارة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وأما رد كل رواية بسبب عدم وجودها عند تلامذة فلان، فقول عارٍ عن التحقيق، ولا يسلم من إسراف وغلو، والله أعلم.
س 92: هناك من يقول: إنَّ الشذوذ عبارة عن تفرد الراوي عن شيخه بالرواية؛ لأنَّ الشيخ إذا كان له تلامذة كثيرون، وانفرد بالرواية عنه أحدهم، ولم يرو بقية تلامذته هذا الحديث أصلاً، دلَّ هذا على شذوذه فما صحة ذلك؟
ج 92: لا، الشذوذ يكون إذا اشتركوا جميعاً في أصل الحديث، وانفرد هو بالزيادة، أمَّا إذا انفرد هو بالحديث تاماً، فلا؛ لأنَّه في هذه الحالة يكون قد روى حديثاً مستقلاً، وليس الشذوذ أن يروي المقبول ما لا يرويه غيره، إنّما الشذوذ أن يخالف المقبول من هو أوثق منه، كما ذكر الشافعي – رحمه الله – قريباً من ذلك (1)،
__________
(1) قال ابن أبي حاتم في «أدب الشافعي ومناقبه» ثنا يونس نفسه، قال: سمعت الشافعي يقول: «ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره إنّما الشاذ من الحديث، أن يروي فيشذ عنهم واحد فيخالفهم».
وفي لفظ آخر: «إنّما الشاذ: أن يروي الثقات حديثاً على وجه ثم يرويه ثقة: خلافاً لروايتهم، فهذا الذي يقال: شذّ عنهم» اهـ (ص:233 - 234).(1/260)
وإذا كان مراد السائل، أن الراوي المنفرد بحديث مستقل يكون شاذاً، فعلى قوله لا يصح حديث في الدنيا لا متواتر ولا آحاد، كلها تكون شاذة بناءً على هذا القول الفاسد؛ لأنّنا لو فرضنا أنَّ شيخاً له مائة تلميذ، فروى هذا الحديث عنه واحد، إذاً فالواحد خالف تسعة وتسعين؛ لأنَّ القائل يرى أنَّ مجرد التفرد مخالفة، ويعتبر شذوذاً، فلو رواه عنه عشرون نفساً – لكانوا حسب هذا القول – مخالفين لثمانين، فهو شاذ أيضاً، فانظر إلى قول يصل بطلانه إلى هذا الحد!! فلو سلَّمنا بقول القائل هذا، للزمنا أن نهدم السنة تماماً، ولا يصح فيها حديث، وما أدى إلى باطل فهو باطل، لكن الصواب في ذلك: أن يُقْبل حديث العدل، ما لم تقم قرينة تدل على وهمه، والله أعلم.
س 93: يكثر الحافظ ابن حجر من عبارة: «إنَّ الزيادة من الثقة المتقن مقبولة» فهل يقصد بذلك أنَّها مقبولة مطلقاً؟(1/261)
ج 93: يراعى في مثل هذا أنَّ العلماء قد تكون لهم عبارات مطلقة ومجملة في موضع، وتفسر في مواضع أخرى، فالحافظ ابن حجر – رحمه الله – نفسه من جملة القائلين: «بأنَّ الشذوذ علة تقدح في صحة الحديث» وعرف الشاذ: «بأنّه مخالفة المقبول لمن هو أولى، أو أوثق منه»، وكلمة «المقبول» (1) يدخل فيها الثقة والصدوق، وهذا التعريف هو أدق التعاريف التي وقفت عليها، فالذي يقول: «هو مخالفة الثقة للثقات» غير صحيح؛ لأنَّ كلمة «الثقة» خاصّةٌ، وهم يرون أيضاً أنَّ «الصدوق» إذا خالف من هو أوثق منه يكون شاذاً، وقولهم: «صدوق» لا يدخل في تعريف الثقة، إلا على تفاصيل أخرى، قد سبق الكلام عليها، كذلك أيضاً قولهم: «مخالفة الثقة للثقات» معترض عليه؛ لأنَّه قد يخالف الثقةُ أو الصدوقُ ثقةً واحداً ومع ذلك يكون شاذاً، لأنَّ المخالَف أحفظ وأثبت وأعلم بالشيخ من هذا المخالِف له، والتعاريف ينبغي أن تكون جامعة مانعة، والحافظ – رحمه الله – نفسه نقل عن النقاد من العلماء، أنَّهم يرون: «أنَّ الشذوذ علة تقدح في صحة الحديث» (2)،
__________
(1) ارجع إلى ذلك مفصلاً في السؤال رقم (18).
(2) قال الحافظ في «شرح النخبة»: «واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبدالرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة، مع أنَّ نص الشافعي يدل على غير ذلك.
فإنّه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه، ويكون إذا أشرك أحداً من الحفاظ لم يخالفه؛ فإن خالفه فوجد حديثه أنقص كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر ذلك بحديثه، انتهى كلامه.
ومقتضاه أنّه إذا خالف فوجد حديثه أزيد أضر ذلك بحديثه فدل على زيادة العدل عنده لا يلزم قبولها مطلقاً، وإنّما تقبل من الحافظ، فإنّه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه من الحفاظ وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلاً على صحته؛ لأنّه يدل على تحريه وجعل ما عدا ذلك مضراً بحديثه فدخلت فيه الزيادة فلو كانت عنده مقبولة مطلقاً، لم تكن مضرة بحديث صاحبها. والله أعلم (ص:96 - 97). بتحقيق علي بن حسن.(1/262)
فإذا أطلق هذا القول في موضع، فالذي ينبغي أن يُنظر إلى الموضع الذي قال فيها هذه الكلمة، فإذا وجدنا أنّ ثقة خالف آخر مثله، فالزيادة من الثقة مقبولة – حينئذ -، ومن باب أولى لو أنَّ ثقة خالف ثقة حافظاً في نفس الحديث، فالزيادة من الثقة الحافظ مقبولة، فلا بد من تأمل المواضع التي أطلق فيها الأئمة ذلك؛ لأنَّ رد بعض روايات العدول، لمخالفة من هم أوثق منهم موجود وثابت عن أئمة الحديث، والقول بأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة مطلقاً، مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء وبعض المحدثين، وفيه توسع غير مرضي (1)،
__________
(1) قال الصنعاني في «توضيحه» (1/ 339 - 340): قال البقاعي: إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدِّثين في هذه المسألة نظراً لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنّهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنّما يديرون ذلك على القرائن ... انتهى.
ويأتي ما يفيد هذا في كلام الحافظ ابن حجر، وعنه أخذه البقاعي فإنّه شيخه؛ إلا أن عبارته دلّت أنَّ هذا لبعض حذاق المحدثين لا لكلّهم كما أفاده أول كلامه.
قال الحافظ: الذي صححه الخطيب شرطه أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً، وأمَّا الفقهاء والأصوليون فقبول ذلك مطلقاً، وبين الأمرين فرق كبير، قال: وههنا شيء يتعين التنبيه عليه، وهو: أنَّهم شرطوا في الصحيح ألا يكون شاذاً وفسروا الشاذ بأنّه ما رواه الثقة مخالفاً فيه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً.
ثم قالوا: تقبل زيادة الثقة مطلقاً، فلو اتّفق أن يكون من أرسل أكثر عدداً أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل أيقبلونه أم لا؟ وهل يسمونه شاذاً أم لا أو لا بد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض؟ والحق في هذا أن زيادة الثقة لا تقبل دائماً ومن أطلق ذلك من الفقهاء والأصوليين لم يصب ... إلخ.(1/263)
فلا بد أن ندور مع القرائن والترجيحات، وهو مذهب أئمة نقاد الحديث، ولشيخنا مقبل – رحمه الله – بحث مفيد في ذلك، فأرجع إليه في مقدمة تحقيقه «الإلزامات والتتبع».
س 94: قد يقول قائل: نحن نسلم بأن القول: الزيادة من الثقة مقبولة، ليس على الإطلاق، لكن إذا خالف من هو أوثق منه مخالفة يتعذر فيها الجمع بين روايته ورواية الجماعة، أو بين روايته ورواية الأوثق منه، على هيئة الجمع بين المطلق والمقيد، والعموم والخصوص، لأننا إذا أخذنا روايته ترتب على ذلك أن نترك رواية الجماعة، وإن أخذنا رواية الجماعة، لزمنا أن نترك روايته، فحينذاك يكون شاذاً، أمَّا إذا أمكننا الجمع، فلا نقول بالشذوذ، فما الصواب؟(1/264)
ج 94: هذه مسألة يقول بها بعض من طلبة العلم، وللحافظ ابن حجر – رحمه الله – عبارة قريبة من هذا (1)، ولكن هذا الكلام غير صحيح، والصواب في مثل هذا: أنَّ المخالِف إذا كان دون غيره في العدد، أو في الوصف، وكان الفارق واسعاً بينهما، فيحكم عليه بالشذوذ، لمجرد انفراده بهذه الزيادة، فمجرد الانفراد بهذه الزيادة، يسمى مخالفة، وليأتنا قائل المقالة التي أشرت إليها آنفاً، بحديث واحد يتعذر الجمع فيه بين الزيادة وبين الأصل (2)!! فإن كان الخلاف عندنا في الإسناد بين الوصل والإرسال مثلاً، فنقول إن الراوي نشط فأسند، أوْ كَسَل فأرسل، وكذا القول في الوقف والرفع، وهذا غير صحيح لأنَّ العلماء يستخدمون هذه العبارة: «نشط فأسند أو كسل فأرسل» إذا كان تلامذة الراوي المختلفون عليه قريبين من بعضهم عدداً أو وصفاً، أمَّا رجل «صدوق» يخالف أوثق الناس، أو يخالف ثقة حافظاً، ففي هذه الحالة يقال: نشط فأسند أو كسل فأرسل؟! هذا غير صحيح، بل يحكم على «الصدوق» بالشذوذ أو بالنكارة، على تفاصيل في ذلك هذا من جهة الإسناد.
__________
(1) انظر عبارة الحافظ في التعليق رقم (164).
(2) وهذا في حالة الزيادة والمزيد عليه والأمر كذلك غالباً في الحديثين المستقلين فقد قال الزركشي – رحمه الله – في «البحر المحيط»: وأمَّا التعارض في نفس الأمر بين حديثين صحيحين؛ فغير صحيح. قال ابن خزيمة: لا أعرف أنّه روى عن الرسول حديثان بإسنادين صحيحين متضادين ومن كان عنده فليأت به حتى أولف بينهما، وقال الشافعي في «الرسالة»: ولم نجد حديثين مختلفين، إلا ولهما مخرج أو على أحدهما دلالة إمّا موافقة كتاب الله أو غيره من السنن، أو بعض الدلائل. انتهى.(1/265)
وأمَّا من جهة المتن؛ فإننا قد وجدنا العلماء في كتب العلل يعلون أحاديث كثيرة، ويعلُّون اللفظ الواحد في الحديث، مع أنَّه لا منافاة بينه وبين الأصل، كما في زيادة «إذا قرأ الإمام فأنصتوا» (1) في «صحيح مسلم» فقد أعلَّها الحفاظ (2) – وإن كان هناك من يقويها، أو يجد لها شواهد – لكن لم يقوها من قواها بقوله: لا منافاة بينها وبين الأصل، إنَّما يقويها بطرق أخرى سالمة من الكلام، مع أني لم أبحث أدلة من قواها، وكذا حديث «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، أولاهن، أو أخراهن بالتراب، أو عفروه الثامنة بالتراب» (3) وفي رواية «فليرقه» مع أنَّ الإراقة هي من لوازم الغسل، لأنَّك لا تستطيع أن تغسل الإناء إلاَّ إذا أ÷رقت ما فيه ومع ذلك أعلَّ الحفاظ كلمة (فليرقه» وانتقدوا على الإمام مسلم تخريجها، وعلى كل حال: فإلى وقتي هذا لم أجد زيادة تتنافى مع الأصل تنافياً يلزم رد الأصل، أو من أخذ الأصل ردها، وما أثبته من الأدلة وغيرها، كثيراً لمن نظر في كتب العلل، وهنا مذهب العلماء الكبار (4)، وهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، فالزم غرزهم، والله المستعان.
__________
(1) أخرجه مسلم (1/ 304) بترقيم عبدالباقي المؤلف.
(2) قال النووي في زيادة: «وإذا قرأ فأنصتوا» (ج4 ص:123): وقد انتقدها الدارقطني: فقال النووي بعد ذكره من ضعفها واجتماع هؤلاء الحفاظ على تضعيفها مقدم على تصحيح مسلم، لا سيّما ولم يروها مسندة في صحيحه والله أعلم. اهـ وقد سبق الكلام على هذا الحديث وحديث أبي هريرة «في زيادة فليرقه» في السؤال رقم (18) فليراجع.
(3) أصل الحديث متَّفق عليه، وقد تكلمت على طرقه بتوسع في «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري»، كتاب الوضوء برقم (48) المؤلف.
(4) وسيأتي ذلك مفصلاً – بإذن الله تعالى – في الجزء الثاني من «إتحاف النبيل» رقم (217) جزى الله مؤلفه خير الجزاء.(1/266)
س 95: هل هناك فرق بين قولهم في تعريف الحديث الصحيح: «من غير شذوذ ولا علَّة»، وقولهم: «ولا يكون شاذاً ولا معللاً»؟
ج 95: لا شك أنَّ قولهم: «ولا يكون معللاً» أدق من قولهم: «ولا علة»؛ لأنَّ العلة كلمة عامة يدخل فيها القادح وغير القادح، فعلى هذا احتاج من يقول بالقول الأول، إلى قوله: «ولا علّة قادحة»، ولم يحتج لذلك من قال بالقول الثاني، لأنَّ الحديث لا يكون معلَّلا، إلا لوجود علة قادحة فيه، ولو لم تكن قادحة لما صح تسميته بالمعلل، والله أعلم (1).
س 96: قال ابن عدي: «إنَّ الثقات إذا رووا عن أحد فهو مستقيم الحديث» هل كلمة: «مستقيم الحديث» توثيق للراوي أم لا؟
__________
(1) قلت: وقد اصطلح على هذا جماعة من أهل العلم منهم ابن الصلاح – رحمه الله – في «مقدمته» حيث عرف الصحيح: بأنَّه الحديث المسند الذي يتصل بإسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معللاً اهـ.
واحترز بقوله: ولا معللاً عمّا فيه علة قادحة. «المقدمة له» (83) وقد تابعه على ذلك الحافظ ابن حجر في «نكته عليه» قال: فلمّا اشترط انتفاء المعلل دلَّ على أنَّ اشترط انتفاء ما فيه علّة خفيّة قادحة، فلهذا قال: «فيه احتراز عمّا فيه علة قادحة» (1/ 236).(1/267)
ج 96: لا شك أنَّ كلمة «مستقيم الحديث» توثيق للراوي، لكن هل ما قاله ابن عدي مستقيم؟ سبق الكلام عليه بتوسع عندما سأل ابن أبي حاتم أبا زرعة: عن الرجل يروي عنه الثقات، هل ينفعه ذلك أم لا؟ فقال: هي – أي: رواية الثقات – عنه تنفعه (1)، ولم يصرح بكونها تنفعه أنه يكون بمنزلة من يقال فيه: ثقة، لكن ذلك يرفع جهالة عينه، وقد يكون إذا كثر عدد من روى عنه من الثقات، حسن الحديث، وكلمة ابن عدي مقيدة بعدد الثقات الذين رووا عنه، فلا بد أن يكونوا كثرة، أو ممن ينتقون، وأن الراوي لم يجرَّح، فإذا كان مجرحاً، فلا تنفعه رواية الثقات، (2)
__________
(1) سبق ذلك في السؤال رقم (74).
(2) ومثال ذلك ما قاله أبو عيسى الترمذي – رحمه الله تعالى – في أبان بن أبي عياش، قال – رحمه الله -: وقد روى عن أبان ابن أبي عياش غير واحد من الأئمة، وإن كان فيه من الضعف والغفلة ما وصفه (به) أبو عوانة وغيره، فلا تغتروا برواية الثقات عن الناس؛ لأنَّه يروي عن ابن سيرين أنّه قال إنَّ الرجل ليحدثني فما أتهمه ولكن أتهم من فوقه. «شرح العلل» لابن رجب (1/ 374).
قال ابن رجب في شرحه: ما ذكره الترمذي – رحمه الله – يتضمن مسائل من علم الحديث، أحدها أنَّ رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه فإن كثيراً من الثقات رووا عن الضعفاء كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما، وكان شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن نفر يسير، وقال يحيى القطان: إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة أو نحو ذلك وقد سبق ذلك في السؤال رقم (74).(1/268)
وأمَّا كلمة: «مستقيم الحديث» فهي تتردد بين «ثقة»، و «صدوق»، فإذا رفعنا من حاله فهو «ثقة» وإن شددنا عليه، فهو لا ينزل عن «صدوق»، أو «لا بأس به»، والله أعلم (1).
س 97: ما حكم حديث الراوي المختلَف في توثيقه، مع العلم بأن الحافظ يقول: إنَّ غايته أن يكون حديثه حسناً؟
ج 97: عبارة الحافظ – رحمه الله – معناها: أنَّه ينزل إلى الضعف، إلا إذا تسامحنا فيه، فيُحَسّن حديثه، وقد ذكر شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى، وجزاه عن السُّنة خير الجزاء – في «السلسلة الصحيحة» موسى بن وردان، وقال: نقل العراقي أنَّه مختلف فيه، قال: «والمختلف فيه هو حسن الحديث، لأنَّ رواة الحسن مختلف فيهم (2)».
__________
(1) انظر قولهم «مستقيم الحديث» أو «مستقيم الأمر بالحديث» أو «الرواية» في «شفاء العليل» (ص:124 - 125) وقد نص مؤلفه – حفظه الله – أن الأصل فيهما أنَّ الراوي بمنزلة الثقة، والله أعلم.
(2) كلام الشيخ – حفظه الله تعالى – في «الصحيحة» (1/برقم 468) (ص:214 - 215) قال ونص قول العراقي في ابن وردان: «مختلف فيه» ليس نصاً في تضعيفه، بل هو إلى تقويته أقرب منه إلى تضعيفه لأنَّ المعهود في استعمالهم لهذه العبارة «مختلف فيه» أنَّهم لا يريدون التضعيف، بل يشيرون ذلك إلى أنَّ حديثه حسن، أو على الأقل قريب من الحسن، ولا يريدون تضعيفه مطلقاً، لأنَّ من طبيعة الحديث الحسن أن يكون في راويه اختلاف، وإلا كان صحيحاً.(1/269)
وفي هذا بحث: فما معنى كلمة: «مختلف فيه»؟ هل معناها؛ أننا قد نظرنا في ترجمة الرجل، فلم نَر إلا كلمة واحدة من أحد الأئمة، وهي قوله: «مختلف فيه»، أو «فيه اختلاف»؟ أم أنَّ معناها؛ أننا نظرنا في ترجمة الراوي، فرأينا أئمة وثَّقوه، وأئمة ضعَّفوه؟ لا شك أنَّه إذا كان المقصود بهذه كلمة الأمر الثاني؛ فتحسين من هذا حاله مطلقاً غير صحيح، بل لابد في مثل هذا من أن ننظر في الموثِّق والمجرِّح من جهة التشدد، والتساهل، والاعتدال، ومن بلدي الرجل المتكلَّم فيه، ومَنْ هو الغريب عنه؟ وهل هو معاصر له، أو غير معاصر؟ كل هذه القرائن ننظر فيها، ثم ننظر: هل الجرح مجمل أم مفسر، وهل مَنْ عدَّله عدَّله في جانب، ومن جرَّحه جرّحه من جانب آخر؟ أم أنَّ الاثنين تواردا على موضع واحد؟ كل هذه الأمور لا بدّ من دراستها والنظر فيها (1)،
__________
(1) قلت: والنظر إلى القرائن في هذه الحالة هو صنيع الأئمة المتقدمين، فهذا ابن المديني – رحمه الله تعالى – يقول: «إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبدالرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبدالرحمن بن مهدي لأنَّه أقصدهما وكان في يحيى تشدد» اهـ، «تهذيب التهذيب» (6/ 280).
الشاهد هو نظر ابن المديني إلى القرائن والترجيح بين قولي الإمامين، ولم يقل أنَّ من اختلفا فيه فهو حسن على الإطلاق، وقد أجاب بنحو جواب الشيخ – حفظه الله – شيخنا مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله تعالى – في كتابه «المقترح» السؤال رقم (165).
وانظر ما قاله المعلمي عند تعقبه على الكوثري في قوله: «أحمد بن صالح مختلف فيه» «التنكيل» (ص:309) ترجمة أحمد بن صالح وراجع في ذلك «شفاء العليل» المرتبة الأولى من مراتب التجريح (ج1 ص:152 - 153).(1/270)
وفي النهاية نحكم على الرجل بما يستحق، فقد يترجح التوثيق، فنقول: «ثقة»، وقد يترجّح التضعيف، فنقول: «ضعيف»، وقد يترجَّح أنَّه كذّاب، فنقول: «كذّاب»، هذا معنى الاختلاف في هذه الحالة، وكثير من التراجم على هذه الحالة، فلو قلنا: «كل مختلف فيه – بهذا المعنى – حسن الحديث»، فأكثر الرواة المترجم لهم هم في منزلة الحسن، وهذا غير صحيح، أمّا إذا لم نرَ فيه إلا كلمة: «فيه اختلاف»، أو «مختلف فيه»، فهي من عبارات التجريح التي هي في الشواهد والمتابعات، وهي عبارة جرح خفيف، فلا يكون صاحبها «حسن الحديث»، وقد ذهب إلى ما قررته العراقي وغيره من الذين ذكروا ألفاظ الجرح والتعديل، فقد ذكروا لفظة: «فيه اختلاف»، و «فيه خلف»، و «مختلف فيه»، من عبارات الشواهد والمتابعات، أو من عبارات التجريح الخفيفة (1)، فلا يكون حديثه حسناً إلا بشروط، ليس هذا موضع بسطها، والله أعلم.
س 98: كيف دوّن العلماء الذين صنّفوا في تراجم الرواة نصوص الأئمة في الرواة جرحاً وتعديلاً؟
ج 98: من أئمة الجرح والتعديل من له تلامذة يسألونه ويدونون إجاباته في كتبهم، وقد وصلت إلينا هذه الكتب – ولله الحمد والمنّة – مثل أسئلة تلامذة ابن معين، وتلامذة أحمد له، وأسئلة ابن أبي حاتم لأبيه ولأبي زرعة، وأسئلة تلامذة الدارقطني له، وغيرهم.
وهناك أئمة صنَّفوا كتباً للرواة، وتكلّموا عليهم وعلى أحاديثهم فيها، مثل «تواريخ البخاري»، وهناك من له إسناد إلى هؤلاء الأئمة، فيسوق نصوصهم، بالإسناد إليهم، كابن عدي في «كامله»، والعقيلي في «ضعفائه»، - على فساد في مطبوعة الكتابين – وابن أبي حاتم كثيراً ما يسوق إسناده إلى من روى عنه جرحاً أو تعديلاً، كأحمد ويحيى وابن مهدي وغيرهم، وكذلك يفعل البستي في «المجروحين».
__________
(1) انظر «فتح المغيث» للحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – (1/ 372 - 373) وشرحه لقول العراقي في ألفيته:
ما هو فيه خُلْف طعنوا ... فيه كذا سيء حفظ لين(1/271)
وبالنسبة للمتأخرين مثل المزي، والعسقلاني في «التهذيب»، و «تهذيبه»، والذهبي في «الميزان»، والعسقلاني في «اللسان»، وغير ذلك (1)، فإنهم يتتبعون كلام الأئمة في بطون الكتب، سواء كانت كتب رجال مصنّفة ومبوبة على حروف المعجم، أو البلدان، أو الطبقات، أو غير ذلك، أو كتب حديث وأسانيد، أو كتب علل يتكلّم فيها مصنفوها على الرجال بين مُقِلِّ ومكثرٍ في ذلك، وهذا القسم هو الذي يحتاج إلى مزيد تحر وتثبت عند نقله إلى الكتب التي صنّفها هؤلاء المتأخرون – رحمهم الله – في الرجال؛ لأنّه من المحتمل أن يكون أحد الأئمة ضعَّف أحد الرواة في حديث بعينه، لا في كل حديثه، فمن الخطأ أن يقال: «ضعفه فلان» بدون تقييد هذا الضعف بحديث بعينه، أو في شيخ بعينه، أو في بلد دون أخرى، أو في مجلس دون آخر، وهكذا، وقد تكلَّمت على ذلك بتوسع في «شفاء العليل» عند كلامي على أساليب الأئمة في الكلام على الرواة، فليراجع (2)،
__________
(1) وقد يقف الباحث على كثير من ألفاظ الجرح والتعديل في كتب الأئمة المبوبة على الأبواب الفقهية مثل كتب السنن، ومنها على سبيل المثال: سنن الإمام الترمذي، والنسائي، والدارقطني والبيهقي وغيرها وكذلك الكتب المرتبة على المسانيد كمسند البزار وغيره، وهناك الشيء الكثير في «مستدرك» الحاكم – رحمه الله تعالى -. اهـ.
(2) انظره في (ص:531 - 548) ..(1/272)
ونحن من باب حسن الظن بعلمائنا والثقة في فهمهم وإتقانهم لهذه الأمور، ومن باب العمل بخبر العدل، نأخذ بنقلهم لكلام الأوّلين، حتى يظهر لنا ما يوجب الوقف في ذلك، إذا تمكّنا من الرجوع للأصول، وقد وقفت أثناء تحقيقي لـ «التقريب» على تصرف بعض من ذكرت في العبارات، بما يحيلها عن وجهها الذي قِيلَتْ فيه، لكن من المحتمل أنَّ هؤلاء الحفّاظ قد وقفوا على نسخة أخرى فيها ما ذكروه، كما أنَّه من المحتمل أن يكونوا قد ذكروا هذا النص المتصرَّف فيه من حفظهم، والحفظ قد يخون، فعلى كل حال إن استطاع طالب العلم أن يرجع للأصول التي نقل منها الحفّاظ المتأخرون لكان أفضل، وإلا فالأخذ بخبر هؤلاء العدول قامت عليه الأدلّة الثابتة والعلم عند الله – تعالى -.
س 99: يقول بعض أئمة الحديث في بعض الرواة: إنَّه أدرك فلاناً، هل يعني بذلك أنَّه سمع منه؟ أو هل الإدراك يلزم منه السماع؟(1/273)
ج 99: الأصل في مثل هذا أنَّ الراوي يكون قد سمع من شيخه، فإذا رأينا في الترجمة أنَّ صاحب الترجمة أدرك فلاناً، وفلاناً، فهذا محمول على السماع، إلا أن يأتي قول لأحد الأئمة، يصرح بقوله: «إنَّه أدركه ولم يسمع منه»، فحينئذٍ يُعْمل بهذا، لأنَّ هذا معه زيادة علم، فهو يعلم أنه قد أدركه حقاً، ولكن لم يثبت السماع مع هذا الإدراك، فمن الممكن أنَّه يدرك الرجل، بل ويلقى الرجل، ولا يسمع منه، كما في الإرسال الخفي، يلقى الراوي شيخه، لكنّه لم يسمع منه شيئاً (1)، ومع ذلك فالرواية ليست متّصلة، أمَّا أن نقف في هذه الكلمة، ونقول: نعم قد أدركه، لكنهم لم يصرحوا بالسماع، أو لا يلزم من الإدراك السماع، كما أنَّه لا يلزم من اللقاء السماع، أو كما أنَّه لا يلزم من الرواية السماع!! هذا كله احتمال، لكنّه في هذه الحالة ليس راجحاً (2).
__________
(1) انظر أمثلة على ذلك في السؤال رقم (22).
(2) الإدراك قد يطلقه العلماء ويعنون به اللقاء أو السماع، وإليك بعض الأمثلة على ذلك فمنها ما جاء في «العلل الكبير» للترمذي فقد حكى – رحمه الله – في (ص129 برقم 220) عن الإمام البخاري أنّه قال لم يدرك محمد بن علي أمَّ سملة يعني أنّه لم يلقها أو لم يسمع منها وإلا فإنَّه قد أدركها بالسن وقد صرّح أبو حاتم بذلك فقال: «لمن يلق أم سلمة»، وقال أبو طالب: سألت أحمد عن محمد بن علي: سمع من أم سلمة شيئاً: قال لا يصح أنّه سمع. «تهذيب التهذيب» (9/ 301 - 302) وفي العلل أيضاً في (ص:241 رقم 437) باب ما قطع من الحي فهو ميت قال الترمذي: سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقلت له: أترى هذا الحديث محفوظاً؟ قال: نعم، قلت: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه عطاء بن يسار قديم. اهـ.(1/274)
ففي «تهذيب التهذيب» أو أصله – مثلاً – نجد الحافظ ابن حجر أو المزي – رحمهما الله – يذكر الراوي، ويقول: روى عن فلان وفلان، وروى عنه فلان وفلان، فكلمة «روى» في ذاتها لا تدل على السماع، لكن الأصل فيها هنا السماع، إلا أن يأتي في الترجمة أنَّ سماعه من فلان مرسل، ولذلك نراه يقول: روى عن فلان وفلان، وروى عن فلان بواسطة فلان، أو مرسلاً، فهذا يدل على سماعه من الأول مباشرة، ومن الآخر بواسطة، نعم؛ وإن كان الأمر فيه احتمال، ولكن الاحتمال الراجح لصنيعهم يُعمل به، والله أعلم.
س 100: الراوي إذا وثّقه جماعة وأخرج له البخاري في المتابعات فما حاله؟(1/275)
ج 100: العبرة بمن وثّقه، فإن كان الذين وثّقوه أئمة نقاداً، من أهل هذا الشأن، غير متساهلين، فلا يلزم من إخراج البخاري له في المتابعات، أن لا يكون الرجل حجة عند البخاري نفسه، فضلاً عن غيره، فمثلاً حماد بن سلمة: أخرج له البخاري في غير الاحتجاج، وهو ثقة مشهور – على كلام فيه – فإخراج البخاري للرجل في المتابعات ونحوها له أسباب، فقد يخرج للرجل الثقة في المتابعات لأدنى كلام في الرجل، وإن كان هذا الكلام لا يقدح فيه، كما حدث لحماد بن سلمة، ولذا عاب ابن حبان على البخاري أنَّه أخرج له في غير الاحتجاج، وأخرج لغيره من المتكلَّم فيهم في الاحتجاج (1)،
__________
(1) قال ابن حبان – رحمه الله – في كتابه «الثقات» (6/ 216 - 217) ترجمة حماد بن سلمة بن دينار الخزاز: « ... ولم ينصف من جانب حديثه، واحتجّ بأبي بكر بن عياش في كتابه، وبابن أخي الزهري، وبعبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، فإن كان تركه إيّاه لما كان يخطئ فغيره من أقرانه مثل الثوري وشعبة، ودونهما وكانوا يخطئون، فإن زعم أنَّ خطأه قد كثر من تغير حفظه فقد كان ذلك في أبي بكر بن أبي عياش موجوداً وأنى يبلغ أبوبكر حماد بن سلمة، ولم يكن من أقران حماد مثله بالبصرة في الفضل والدين، والعلم، والنسك، والجمع، والكتبة، والصلابة في السنة والقمع لأهل البدعة، ولم يكن يثلبه في أيامه إلا قدري أو مبتدع جهمي لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة وأنى يبلغ أبوبكر بن عياش حماد بن سلمة في إتقانه، أو في جمعه، أو في علمه أم في ضبطه وأنّا نشيع الكلام في هذا الفصل في كتاب الفصل «بين النقلة» عند ذكرنا إياه – إن شاء الله تعالى -، وانظر تفاصيل عدم إخراج البخاري لحماد في السؤال الحادي عشر ..(1/276)
وقد يخرج البخاري حديث الثقة في الشواهد لنزوله في الإسناد، فعلى كل حال: فقد يخرج البخاري للثقة في المتابعات، وقد يخرج للضعيف في الأصول، فينبغي على طالب العلم أن يكون مدركاً للقرائن من كل ناحية، فالعبرة بحال الذين وثقوا المترجم له، فلو وثّقه واحد متثبت – فضلاً عن جماعة – كان ثقة بهذا التوثيق، ولا نقول: إنَّ البخاري حين أخرج له في المتابعات أن هذا ينزل من قدره، فالبخاري له أعذار في إخراج حديث الرجل في المتابعات كما سبق، والله أعلم (1).
س 101: هل الأصل في الحديث عدم العلّة حتى تثبت العلة، أم أنَّه لا بد أن نتأكد من عدم وجود العلة؟
ج 101: الأمر الثاني هو الصواب، وهو الذي رجّحه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (1/ 474) (2)،
__________
(1) انظر ذلك في السؤال رقم (86).
(2) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – وقد علق على قول ابن الصلاح في مقدمته (ص:113) ... غير أنَّ المصنف المعتمد منهم (أي: من أهل الحديث) إن اقتصر على قوله: إنَّه صحيح الإسناد ولم يذكر له علّة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنّه صحيح في نفسه؛ لأنَّ عدم العلّة والقادح هو الأصل والظاهر – والله أعلم -.
قال الحافظ: قلت: لا نسلم أنَّ عدم العلّة هو الأصل إذ لو كان هو الأصل ما اشترط عدمه في شرط الصحيح فإذا كان قولهم: صحيح الإسناد يحتمل أن يكون مع وجود العلّة لم يتحقق عدم العلّة فكيف يحكم له بالصحة.
وقوله: وإن المصنف المعتمد إذا اقتصر ... إلخ يوهم أنَّ التفرقة التي فرقها أولاً مختصة بغير المعتمد وهو كلام ينبو عنه السمع لأنَّ المعتمد هو قول المعتمد، وغير المعتمد لا يعتمد، والذي يظهر لي أنَّ الصواب التفرقة بين من يفرق في وصفه الحديث بالصحة بين التقييد والإطلاق وبين من لا يفرق فمن عرف عن حاله بالاستقراء التفرقة بحكم له بمقتضى ذلك، ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معاً وتقييده على الإسناد فقط ومن عرف من حاله أنّه لا يصف الحديث دائماً وغالباً إلا بالتقييد، فيحتمل أن يقال في حقه ما قال المصنف آخراً – والله أعلم – اهـ من «النكت» (1/ 474).
قال الإمام الصنعاني – رحمه الله – في «التوضيح» (1/ 235) بعد نقله لكلام الحافظ: ومراده بالإطلاق عدم ذكر السلامة بعد وصفه بالصحة وبالتقييد ذكرها وهو كلام متجه، والله أعلم.(1/277)
والسخاوى – رحمه الله – في «فتح المغيث» (1)، فلا بد أن نتأكد من عدم وجود العلّة حتى نحكم على الحديث بأنّه صحيح، ولذلك فرَّق بعض أهل العلم بين قول أحدهم: «إسناد صحيح» و «حديث صحيح» (2).
فالقول الأول باعتبار توفر الاتصال والعدالة والضبط في رجال السند، والقول الثاني باعتبار وجود الشروط المذكورة، مع زيادة نفى الشذوذ وأي علّة تقدح في صحّة الحديث، لكن لو أنَّ إماماً من الأئمة صحح الحديث، وقد وُجِد في كلام بعض المتقدّمين أنّهم لا يفرقون بين قولهم: «إسناد صحيح» و «حديث صحيح» فيطلقون قولهم: «إسناده صحيح» ويقصدون به أنَّ الحديث صحيح، فإن كان كذلك فنحن نقبل تصحيح الإمام من الأئمة، أو العالم من علماء هذا الشأن.
__________
(1) «فتح المغيث» (1/ 18 - 19) قال – رحمه الله -: «وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة صحيحاً ثم إن ظهر شذوذ أو علة ردّه فشاذ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص عن تتبع طرقه التي يُعلم بها الشذوذ والعلّة نفياً وإثباتاً، فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربّما احتيج إليها في ذلك، وربّما تطرق إلى التصحيح متمسكاً بذلك من لا يحسن فالأحسن سد هذا الباب، وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش حيث قال: لأنَّ عدم العلّة والقادح هو الأصل الظاهر فتصريحه بالاشتراط يدفعه، مع أنَّ قصر الحكم على الإسناد وإن كان أخف لا يسلم من انتقاد ... إلخ.
(2) سيأتي تفصيل ذلك – إن شاء الله تعالى – في السؤال رقم (142).(1/278)
ونقول: الأصل أنّه قد نظر في الحديث وصححه بعد أن علم أنَّه سالم من العلّة، فنحن نعمل به حتى يثبت لنا أنَّ فيه علة، هذا أمر بخلاف قول من قال: الأصل في الحديث الذي يتصل رواة إسناده بالسماع، ويكونون عدولاً ضابطين، أن هذا الحديث صحيح حتى تظهر فيه علة؛ لأنَّنا لا نحكم عليه بالصحة، حتى يثبت أنّه لم يكن فيه علّة، فالأمر الثاني هو الراجح، والأئمة قد اشترطوا في تعريف الحديث الصحيح شروطاً إيجابياً وسلبية، فالشروط الإيجابية: ثبوت الاتصال، والعدالة، والضبط، وأمّا الشرطان السلبيات: فنفي الشذوذ، والسلامة من العلة، ففي هذه الحالة لا نستطيع أن نقول لوجود الشروط الإيجابية فقط: قد صح الحديث.
لكن لنا أن نقول: صح الإسناد، والعلماء لم يعرفوا السند الصحيح فقط، إنَّما عرفوا الحديث الصحيح، فإذا كان الرجل قد بحث الحديث من جميع طرقه، وتوسع في ذلك، ونظره في مظانه من كتب أهل العلم، وترجح له في النهاية أنَّ هذا الحديث صحيح، فله أن يجزم، ويقول: «هذا حديث صحيح» وأمَّا إذا لم يبحث، ولم يعط الأمر هذا حقه، فاحتياطاً وتحرزاً ينبغي أن يقول: «إسناده صحيح»، والله أعلم.
س 102: بعض أهل العلم يعتمد على قول الذهبي في التوثيق، فهل الذهبي – رحمه الله – يعتمد عليه في التوثيق؟ وهل هو متشدد أو متساهل أو متوسط؟(1/279)
ج 102: الذهبي – رحمه الله – ليس من الأئمة الذين يتكلمون في الرواة، كيحيى بن معين، وابن المديني وغيرهما، إنّما هو مجتهد في أقوال الأئمة في الرواة، كطريقة ابن حجر – رحمه الله – في «التقريب» والمجتهد قد يصيب، وقد يخطئ، وقد يسلم لَه، وقد يرد عليه، أو يُقبل منه، وقد يُنازَع في بعض أقواله، فالإمام الذهبي مجتهد في أقوال الأئمة في الراوي، لا أنه مجتهد في الراوي نفسه، فلو مات العلماء والراوي من الرواة ليس فيه توثيق ولا تجريح، وجاء الحافظ الذهبي فوثَّقه، فالنفس لا تطمئن إلى هذا، ونقول: ما دليله على التوثيق؟ كذلك لو أنَّ الإمام أحمد – رحمه الله – وثَّقه، وجاء الذهبي وجرَّحه، ما قبلنا هذا منه، ونقول: ما دليله على أنَّه مجروح؟ على أنّه قد يظهر قرائن تقوي في النفس قبول قول الحافظ الذهبي في بعض التراجم، ومع هذا فإِنّني أرى كثيراً من أحكام الحافظ الذهبي فيها تساهل، وهناك كثير من المواضع اضطَّرُّ إلى الأخذ باجتهاد الحافظ الذهبي أو الحافظ ابن حجر – رحمهما الله -؛ لعجزي عن الجمع بين أقوال الأئمة، ولدقة نظرهما في النقد، وسعة اطلاعهما، والله أعلم.
س 103: قولهم في الراوي: «فلان أخطأ في أحاديث، ولم يتراجع» هل هذه العبارة من عبارات الجرح أو التعديل؟ ومتى تكون جرحاً ومتى تكون تعديلاً؟(1/280)
ج 103: هذه العبارة من عبارات الجرح بلا شك، فقولهم: «أخطأ في أحاديث» معناه أنَّ الثقات رووا الحديث على غير الوجه الذي رواه هذا الراوي به، ويعبرون عن ذلك أحياناً، بقولهم: «فلان أخطأ ويُصِرُّ»، أو «يُصِرُّ على الخطأ»، وقد جعل شعبة وابن مهدي وغيرهما الإصرار على الخطأ من أسباب ترك الرجل، وترك روايته، لكن المسألة هنا فيها تفصيل ذكرته في «شفاء العليل» (1)، فالإمام من الأئمة قد يصر، ولا يضره شيئاً، كرواية مالك بن أنس في حديث: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (2) (3) أمَّا إذا لم يكن المصر من هؤلاء الأئمة الكبار، ويخطئ خطأ فاحشاً، والعلماء يراجعونه فيه ولم يرجع، كأن يقلب الثقةَ بضعيف، أو الضعيفَ بثقة، أو يأتي في المتن بزيادة منكرة مخالفة لأصول الشريعة، ففي هذه الحالة يُضَعَّف الراوي ويُجرَّح (4).
__________
(1) «شفاء العليل» (1 ص:348 - 350).
(2) أخرجه البخاري (1588، 4283)، ومسلم (1614) اهـ المؤلف.
(3) أصر الإمام مالك – رحمه الله – على قوله في هذا الحديث عن عمر بن عثمان بضم العين المهملة، والصواب عمرو بن عثمان بفتح العين المهملة.
(4) في «التنكيل» (ص:34) ترجمة الهيثم بن خلف الدوري، قال المعلمي – رحمه الله -: الخطأ الذي يضر الراوي الإصرار عليه هو ما يخشى أن تترتب عليه مفسدة، ويكون الخطأ من المصر نفسه وذلك كمن يسمع حديثاً بسند صحيح فيخلط فيركب على ذلك السند متناً موضوعاً فينبه أهل العلم فلا يرجع ... إلخ اهـ.
وفي «الكفاية» (ص:228) ساق الخطيب إسناده إلى الحسين بن منصور قال: سئل أحمد بن حنبل: عمن يكتب العلم؟ فقال: عن الناس كلهم، إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو إليه، أو كذاب فإنّه لا يكتب عنه قليل ولا كثير أو عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل وفيه كذلك عن الحميدي أنّه قال:
فإن قال قائل: فما الحجة في الذي يغلط فيكثر غلطه؟ قلت: مثل الحجة على الرجل الذي يشهد على من أدركه ثم يدرك عليه في شهادته أنّه ليس كما شهد به ثم يثبت على تلك الشهادة، فلا يرجع عنها، ولأنّه إذا كثر ذلك منه لم يطمأن إلى حديثه وإن رجع عنه لما يخاف أن يكون مما يثبت عليه من الحديث مثل ما رجع عنه وليس هكذا الرجل يغلط في الشيء فيقال له فيه فيرجع ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط.
وفي (ص: 232) قال الخطيب: قال السهمي: سألت أبا الحسن الدارقطني عمن يكون كثير الخطأ؟ قال: إن نبهوه عليه، ورجع عنه فلا يسقط، وإن لم يرجع سقط. اهـ.(1/281)
فعُلِم أنَّ المصر على هذه الهيئة لا يقبل، بل يترتب على ذلك ترك روايته، كما صرَّح بذلك شعبة – رحمه الله – حين سئل: من نقبل روايته، ومن نرد روايته؟ فقال: تقبل رواية ... إلا مبتدعاً، فصرَّح بأن لا تقبل رواية المبتدع الذي يدعو إلى بدعته، أو من يصر على خطئه أو يكذب في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى غير ذلك (1)، ولكن المهم التفرقة بين من هو إمام من الأئمة، حصلت له ثقته بحفظه وبكتابه، وبَيْن آخر يُحْكَم عليه بأنّه من المتوسطين، وينبغي أن ينظر أيضاً في نوع الخطأ، هل هو خطأ فاحش خفيف؟ كل هذا ينبغي أن يراعي عند الحكم على الراوي، حتى يحكم عليه بالعدل الذي ليس فيه بخس ولا شطط.
س 104: الراوي إذا قال فيه أبو حاتم: «يعد في الرازيين»، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهل هذه العبارة تفيده شيئاً؟
ج 104: لا تفيد رفع الجهالة، إلا بعد النظر في عدد الرواة عنه ونوعية هؤلاء الرواة.
__________
(1) بوب الخطيب – رحمه الله – في «الكفاية» (ص:229) باب: «فيمن رجع عن حديث غلط فيه وكان الغالب على روايته الصحة أن ذلك لا يضره» ثم قال:
قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا، عن عبدالله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وعبدالله بن الزبير الحميدي الحكم في من غلط في رواية حديث، وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأقام على رواية ذلك الحديث أنّه لا يكتب عنه، وإن هو رجع قبل منه وجازت روايته، وهذا القول مذهب شعبة بن الحجاج أيضاً.
ثم ساق سنده إلى نعيم بن حماد قال: حدثني عبدالرحمن بن مهدي قال: كنّا عند شعبة فسئل: يا أبا بسطام! حديث من يترك؟ قال: من يكذب في الحديث، ومن يكثر الغلط، ومن يخطئ في حديث مجتمع عليه فيقيم على غلطه فلا يرجع، ومن روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون اهـ وفي سنده نعيم بن حماد الخزاعي «ضعيف» إلا أن ذلك من الأقوال المشهورة عن شعبة وعن غيره كما سبق، والله أعلم.(1/282)
س 105: كيف قُبِلَت رواية المبتدعة، مع أن هذا ينافي العدالة التي هي شرط في صحة الحديث؟
ج 105: العلماء قد اشترطوا في قبول الرواية، أن يكون الراوي عدلاً، والمتأمل في كلامهم وفي صنيعهم في قبول رواية أهل البدع والأهواء على تفاصيل في ذلك – المتأمل في هذا كله يرى أنَّ العدالة عندهم أن يكون الرجل مسلماً لا يجاهر بكبيرة من جهة الشهوات، ولا يصر على صغيرة (1)؛ لأنَّ المعاصي قسمان: معاص من جهة الشهوة، ومعاص من جهة الشبهة، مثل المقالات التي اعتنقها أهل الأهواء المخالفون لأهل السنة والجماعة، وهؤلاء ما تعمدوا المعصية، إنّما هم فساق التأويل، فلو رُدَّ حديث أهل البدع لرددنا حديث كثير من الرواة (2)
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النزهة» (ص:83): والمراد بالعدل، من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. وانظر الكفاية (ص:136) باب «الكلام في العدالة وأحكامَها». اهـ.
(2) يدل على ذلك قول الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – في «الميزان» (1/ 118) ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال فيه الذهبي: شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته، وقد وثّقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي، وقال السعدي، زائغ مجاهر، فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟.
وجوابه: أنَّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، ولا تحرف فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيِّنة.
ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر، وعمر – رضي الله عنهما – والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم فكيف يُقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلّم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب علياً – رضي الله عنه -، وتعرّض لسبهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً فهذا ضال مغتر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً بل قد يعتقد علياً أفضل منهما. اهـ.(1/283)
وقد سبق إلى هذا الاعتراض الصنعاني – رحمه الله – في «توضيح الأفكار» وقال: إما أن يتنازلوا عن شرط العدالة لقبولهم رواية المبتدعة (1)، وإمَّا أن يردوا رواية المبتدعة، ولكن الحقيقة أن المتأمل في صنيع العلماء وكلامهم يستطيع أن يقول: العدل هنا هو الذي لا يجاهر بكبيرة من جهة الشهوة لا من جهة الشبهة، ولا يصر على صغيرة، وتجد أن هذا التقسيم له وجه: فالراوي إذا كان عنده بدعة وهذه البدعة ناتجة عن تأويل، ويظن أنَّ هذا هو الأتقى لله عزّ وجلّ، وأنه الأقرب إليه سبحانه، وأنّه يتعبد بهذه المقالة، أو بهذه العقيدة، وقد يكون من جملة بدعته؛ أنَّ الذي يكذب يكون كافراً، كالخوارج مثلاً، فمثل هؤلاء نأمن من تعمدهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي نفس الوقت فهم أهل ضبط، فَرَدُّ روايات هؤلاء في الحقيقة، يكون رداً لبعض السنة، وإن رددنا روايات المبتدعة، رددنا كثيراً من السنة، لكن لا نغفل عن أنَّ بعض أهل البدع يستجيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونصرة لباطلهم، أو لأسباب أخرى، فهؤلاء لا يقبل حديثهم ولا كرامة، وللعلماء تفصيل في رواية المبتدعة فيرجع إليه (2)،
__________
(1) انظر «توضيح الأفكار» (2/ 233 - 234).
(2) في «شرح علل الترمذي» للحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى – (ص:64) قال:
وهذه المسألة قد اختلف فيها قديماً وحديثاً وهي الرواية عن أهل الأهواء والبدع، فمنعت طائفة من الرواية عنهم، كما ذكره ابن سيرين، وحكى نحوه عن مالك وابن عيينة والحميدي، ويونس بن إسحاق، وعلي بن حرب، ورخصت طائفة في الرواية عنهم إذا لم يتهموا بالكذب منهم أبو حنيفة والشافعي ويحيى بن سعيد، وعلي بن المديني.
وفرقت طائفة أخرى بين الدّاعية وغيره فمنعوا الرواية عن الدّاعية إلى البدعة دون غيره، منهم ابن المبارك، وابن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وروى أيضاً عن مالك ... إلخ، وهناك أقوال أخرى.
وقد رجح المؤلف – حفظه الله -: من ذلك قول من قال بجواز الرواية عن المبتدع إذا كان ممن لا يستجيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن داعية إليها على تفاصيل في ذلك، وهناك أدلة كثيرة تدل على ذلك منها:
قول الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – في «الميزان» (1/ 5) ترجمة أبان بن تغلب الكوفي: شيعي جلد لكنّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته، وقد وثّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم وأورده ابن عدي، وقال: كان غالباً في التشيع، وقال السعدي: زائغ مجاهر، فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟.
وجوابه: أنَّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيِّنة. اهـ، وقد سبق ذلك بكامله.
وقد دلَّ على ذلك أيضاً كلام كثير من السلف ففي «السير» (5/ 278)، (6/ 387)، قال علي بن المديني: قلت ليحيى القطان: أنَّ عبدالرحمن قال: أنا أترك من أهل الحديث كل رأسٍ في بدعة فضحك يحيى وقال: كيف تصنع بقتادة؟ كيف تصنع بعمر بن ذرّ؟ كيف تصنع بابن أبي رواد؟! وعد يحيى قوماً أمسكت عن ذكرهم ثم قال يحيى: إن ترك هذا الضرب ترك حديثاً كثيراً».
وفي المصدر نفسه (4/ 186) قال الجوزجاني:
كان قوم يتكلمون في القدر، احتمل الناس حديثهم لما عرفوا من اجتهادهم في الدين والصدق، والأمانة، ولم يتوهم عليهم الكذب، وإن بلوا بسوء رأيهم، منهم معبد الجهني، وقتادة، ومعبد رأسهم.
وفي «الكفاية» (ص:206 - 209) قال ابن المديني: لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة، لذلك الرأي، يعني: التشيع، خربت الكتب.
قال الخطيب قوله: خربت الكتب، يعني: لذهب الحديث، وفيها كذلك عن الحسين بن إدريس قال: سألت محمد بن عبدالله الموصلي عن علي بن غراب، فقال: كان صاحب حديث بصيراً به، قلت: أليس هو ضعيف؟!! قال: إنّه كان يتشيع، ولست أنا بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث ويبصر الحديث بعد ألا يكون كذوباً للتشيع، أو القدر ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح، يعني: الموصل، وذكره كذلك ابن رجب في «شرح العلل» (ص:206).
وفي «الكفاية» عن يحيى بن معين قيل له: إن أحمد بن حنبل قال: إنَّ عبيدالله بن موسى يرد حديثه للتشيع، قال: كان والله الذي لا إله إلا هو عبدالرزاق أغلى في ذلك منه مائة ضعف، ولقد سمعت من عبدالرزاق أضعاف أضعاف ما سمعت من عبيدالله ... إلخ ما أورد الخطيب – رحمه الله -.
وأمَّا مذهب من ردها على الإطلاق فقد رده كثير من المحققين، قال ابن الصلاح – رحمه الله – والقول بالمنع مطلقاً بعيد، مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة، ففي «الصحيحين» من حديثهم في الشواهد والأصول كثير والله أعلم.
وما ذهب إليه – رحمه الله – في التفرقة بين الداعية وغير الداعية معترض عليه كذلك فقد تعقبه الحافظ ابن كثير كما في «علوم الحديث» (ص:75) فقال:
قلت: وقد قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنّهم يرون الشهادة، بالزور لموافقيهم.
فلم يفرق الشافعي في هذا النص بين الداعية وغيره، ثم ما الفرق في المعنى بينهما؟ وهذا البخاري قد خرج لعمران بن حطان الخارجي مادح عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي، وهذا من الدعاة إلى البدعة، والله أعلم.
وقد علق على ذلك العلامة أحمد شاكر في الحاشية بتعليق ماتع ثم قال: والعبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ثم نقل – رحمه الله – كلام الذهبي في أبان بن تغلب وقد سبق ذكره.
أقول: وقول العلامة أحمد شاكر: «وإن رووا ما يوافق رأيهم» يرد به على قول من فرق بين رواية المبتدع فيما وافق المذهب – أي في الظاهر – أو لم يوافقه.
وقد فصل العلامة محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في هذه المسألة بتفصيل طيب فقال: «ما دام أن الراوي ثقة فروايته صحيحة سواء كان فيما يؤيد مذهبه أو لا لأنَّ مذهبه ينقسم إلى قسمين: مذهب قد لا ينافي مذهب أهل السنة، ومذهب قد ينافي مذهب أهل السنة في الحالة الأولى ينبغي أن نأخذ روايته على القيد المشهور فيما إذا ما روى شيئاً لا يخالف مذهب أهل السنة كالمثال الذي ذكرته في حبيب بن أبي ثابت، يأتي الإشكال بالنسبة للذين يشترطون ألا يروى ما يؤيد مذهبه؛ لأنّه في هذا المثال لا يخالف ما عليه أهل السنة، وفضائل عليّ كثيرة وكثيرة جداً، فيما إذا افترضنا أنَّ هذا الثقة روى حديثاً يؤيد فيه مذهبه الذي يخالف ما عليه أهل السنة حينذاك فمجال الغمز في هذه الرواية لا ينحصر فقط في كونه مبتدعاً هناك باب النكارة، والشذوذ. اهـ.
من أسئلة شيخنا أبي الحسن – حفظه الله – للشيخ الألباني. اهـ.
والمثال الذي عناه الشيخ في كلامه هو ما ذكره في حاشية «التنكيل» (ص237) وهو ما رواه مسلم من طريق الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر قال: قال علي: «والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليَّ أنَّه لا يحبّني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق»، عدي، قال فيه ابن معين: شيعي مفرط، وقال أبو حاتم: صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم وعن الإمام أحمد: «ثقة إلا أنّه كان بتشيع» وعن الدارقطني ثقة إلا أنّه كان غالباً في التشيع، وثّقه آخرون، ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص، عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جهاراً غير سر يقول: «ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما وليي الله وصالح المؤمنين إن لهم رحماً سأبلها ببلاها» ورواه غندر عن شعبة، بلفظ: «إن آل أبي ... » ترك بياضاً، وهكذا أخرجه الشيخان وقيس ناصبي منحرف عن علي – رضي الله عنه – اهـ.
هذا وقد سبق أنَّ هذا القول هو قول الإمام الشافعي – رحمه الله – كما عزاه الخطيب إليه وحكاه كذلك عن ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وأبي حنيفة.
بل حكاه الحاكم في «المدخل» عن أكثر أئمة الحديث، وقال الفخر الرازي في «المحصول» إنّه الحق ورجَّحه ابن دقيق العيد، انظر «توضيح الأفكار» للصنعاني (ص:145).
وغالب ما ذكرته من أدلة في هذه المسألة هو مما استفدته من شيخي الفاضل أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني – حفظه الله تعالى – ورعاه وأمدَّ في عمره ونفع به الإسلام والمسلمين وجزاه الله عني وعن طلبة العلم خير الجزاء -.
وانظر في هذا المبحث «مقدمة صحيح مسلم» و «الكفاية» (194 - 210) و «شرح العلل» لابن رجب (1/ 356 - 358) و «الموقظة» للذهبي (ص:85 - 87)، و «الميزان» (1/ 5)، و «السير» المواضع السابقة، و «النزهة»، للحافظ ابن حجر (ص:136 - 138)، و «هدي الساري» (ص:385) و «تدريب الراوي» (1/ 324 - 329) و «البحر المحيط» للزركشي (4/ 269 - 272) و «توضيح الأفكار» (2/ 233 - 235) و «التنكيل» للمعلمي (ص:228 - 229)، والله أعلم.(1/284)
ومن تعريف العلماء للعدالة أن يكون سالماً من اسباب الفسق، وخوارم المروءة (1)، وقد بان لنا أنَّ المقصود بالفسق الراجع للشهوة وكذا خوارم المروءة التي يكون مآلها إلى الاستهانة بالرواية، واستجازة الكذب في الرواية، لأي سبب من الأسباب، أمَّا إذا كنّا في بلد نعد شيئاً ما خارماً للمروءة، وهذا عند أهل بلد أخرى ليس كذلك، فلا تخرم مروءة ذاك الآخر، بفعل ذلك الشيء، والمتأمل في هذا يجد أنَّ العلماء يدورون مع وجود الثقة والاطمئنان وغلبة الظن؛ على أنَّ الراوي لم يستهن بالرواية، ولم يتعمد القول على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما لم يقل، فإن جمع مع ذلك الضبط، فالنفس تطمئن إلى روايته، والله أعلم.
س 106: الشيعي الثقة إذا روى حديثاً في فضل علي بن أبي طالب هل يُقبل منه؟
__________
(1) قال الصنعاني – رحمه الله – في «توضيحه» (2/ 118): المروءة ضبطها ملا علي قاري في حاشيته بقوله: والمروءة بضم الميم والراء بعدها واو ساكنة ثم همزة، وقد تبدل وتدغم وهو كمال الإنسان من صدق اللسان واحتمال عثرات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الجيران.
وقيل: المروءة: التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه، في لبسه ومشيه، وحركاته وسكناته وسائر صفاته.
وفي المفاتيح: خوارم المروءة كالدباغة والحياكة والحجامة ممن لا يليق به من غير ضرورة، وكالبول في الطريق وصحبة الأرذال، واللعب بالحمام، ونحو ذلك ومجملها الاحتراز عما يذم به عرفاً. اهـ.
وفي «الكفاية» للخطيب (182) وقد قال كثير من الناس، يجب أن يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو: التبذل، والجلوس للتنزه في الطرقات والأكل في الأسواق، وصحبة العامة الأرذال، والبول في قوارع الطرقات، والبول قائماً، والانبساط إلى الخرقة في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتفق على أنّه ناقص القدر والمروءة ورأوا أنَّ فعل هذه الأمور يسقط العدالة، ويجب رد الشهادة ... إلخ اهـ(1/285)
ج 106: هذه مسألة تتعلق بقولهم: إذا روى المبتدع حديثاً يشد بدعته؛ لم يُقْبل منه، وقد تكلّم الشيخ المعلمي – رحمه الله تعالى – في كتابه «التنكيل» على ذلك، وذكر أنَّهم قبلوا بعض الأحاديث التي ظاهرها أنّها تقوي قول أهل البدع (1)،
__________
(1) «التنكيل» (ص:237 - 238) قال المعلمي – رحمه الله تعالى -: « ... هذا وقد وثق أئمة الحديث جماعة من المتبدعة واحتجوا بأحاديثهم وأخرجوها في الصحاح، وممن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيراً مما يوافق ظاهره بدعهم وأهل العلم يتأولون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها، ولا في راويها بروايته لها، بل في رواية جماعة منهم أحاديث ظاهرة جداً في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إلا أن لها عللاً أخرى ... إلخ.
وقد مثل لذلك الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – في الحاشية بما سبق نقله عنه في (ص:239).(1/286)
لكن هناك فرق بين قولهم: «فلان الشيعي روى ما يشد بدعته»، وبين قولهم: «فلان الشيعي روى حديثاً في فضل علي»؛ لأنَّ فضل علي رضي الله عنه ثابت عند أهل السنة والجماعة، بالأحاديث الثابتة الصحيحة، لكن الأحاديث التي رواها أهل السنة في فضل علي، ليس فيها ما ينقص من الشيخين، وليس فيها علو في فضل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وليس فيها ركة في الألفاظ، ولا ضعف في المعاني، أمَّا أحاديث الشيعة في فضل علي: فهي في الغالب تدل على الغلو في فضله مع التنقص من كثير من الصحابة، وقد تكون ركيكة الألفاظ، ضعيفة المعاني، فالمتشيعة الذين رووا أحاديث صحيحة في فضل علي، قبلها أهل السنة منهم؛ لأنّها موافقة للقواعد التي عليها أهل السنة، وذلك أنَّ لعلي فضلاً عظيماً، دون أي تنقص من غيره، فإذا جاء المتشيعة والروافض، وأتوا بخلاف هذا، قلنا: «إنهم رووا ما يشد بدعتهم»، أمَّا إذا جاءوا لنا بما يوافق هذا الأصل مع الشروط الأخرى للرواية، قبلنا حديثهم، ولا نقول في هذه الحالة: إنَّهم رووا ما يؤيد بدعتهم؛ لأنَّ اعتقاد فضائل علي – رضي الله عنه – ليس ببدعة، والله أعلم (1).
س 107: هل هناك فرق بين المردود والمتروك؟
ج 107: كلاهما من ألفاظ الجرح الشديد، ولا يستشهد بأهلهما، لكن المردود أخف في الجرح من المتروك. (2)
س 108: إذا تعارض حديثان صحيحان؛ هل نجعل صيغ الأداء من المرجحات، كأن يكون الأول بصيغة: «سمعت» والثاني «بالعنعنة»؟
__________
(1) سبق هذا التفصيل عن الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – كما في (ص:239).
(2) ذكر ابن الوزير – رحمه الله تعالى – كما في «توضيح الأفكار» (2/ 273): أنّه لا فرق بينهما في اللغة، ولكن أهل العرف من المحدثين جعلوا بينهما فرقاً فالمتروك يطلق على من ترك لجرح في دينه أو تهمة بالكذب، والمردود يطلق على من لم يتعمد ذلك ولا يتهم به ولكن كثر خطؤه حتى لم يقبل حديثه ولا يعتبر به. اهـ.(1/287)
ج 108: لا شك أنّه إذا انتفت كل معاني الترجيح، وأصبحت كل المرجحات ومعاني القوة في الرواية سواءً في النصين، والنصان متعارضان لا يجتمعان، وأحدهما بالعنعنة – وإن كان رواته غير مدلسين – والآخر بالتصريح بالسماع، ففي مثل هذه الحالة تطمئن النفس إلى ما صُرِّح فيه بالسماع، لكن ذلك بالشروط بالسابقة، وأن يكون التعارض بينهما؛ بمعنى أن الأخذ بأحدهما يترتب عليه ترك الآخر، أمَّا إن أمكن الجمع؛ فهو أولى، والله أعلم.
س 109: الذهبي – رحمه الله تعالى – يقول في بعض التراجم: «فلان وإن كان قد وثِّق ففيه جهالة» فما معنى هذا؟
ج 109: الظاهر أنَّه يقصد بذلك توثيق ابن حبان، لكنّه يرى أنَّ الراوي في حيز الجهالة – وإن وثقه ابن حبان – وذلك لما عُرِف به ابن حبان من التساهل في توثيق المجاهيل، والله أعلم (1).
س 110: قولهم: «فلان لا يُعرف»، هل هو دليل على جهالة من قيل فيه؟
ج 110: إذا قال هذه المقالة أحد الأئمة النقاد، دلَّ ذلك على جهالة الراوي؛ لأنَّ قول أحدهم: «لا يعرف» أشد في الجهالة من كلمة: «لا أعرفه»، ويدل على التثبت في الحكم بالجهالة، ومثله قولهم: «ولا يُدرى من هو» (2)،
__________
(1) وكذا إذا قال الذهبي: «وثق» فقط فالظاهر أنّه اعتمد على قول ابن حبان أو توثيق العجلي ذكر ذلك شيخنا مقبل بن هادي – رحمه الله تعالى – في «المقترح» (ص:37 رقم31).
قال المؤلف: وكثيراً ما ينبه شيخنا الألباني – رحمه الله – على ذلك في مواضع من كتبه.
(2) وذلك لأنَّ كلمة لا أعرفه غير صرحية في تجهيل من قيلت فيه وقد نبه على ذلك العلامة المعلمي اليماني – رحمه الله – في «التنكيل» (ص:317).
قال: «ولا يلزم من عدم معرفته له أن يجزم بأنّه مجهول فإن المتحري مثل الخطيب لا يطلق كلمة مجهول إلا فيمن يئس من أن يعرفه هو أو غيره من أهل العلم في عصره، وإذا لم ييأس فإنّما يقول: «لا أعرفه» ... إلخ اهـ.
وأمَّا قولهم: «فلان لا يدرى من هو» فانظر تفصيله في «شفاء العليل» (ص:490).(1/288)
إلا أن تقوم قرينة تدل على أنَّ هذا الإمام لا يعرفه كمعرفة غيره من الثقات المشاهير الأثبات، الذين قد اشتهروا بالاجتهاد في هذا الشأن، وأنَّهم قضوا أعمارهم في هذا الفن، ففي مثل هذه الحالة، لا يحكم عليه بأنَّه «مجهول» إنَّما يحكم عليه بما يستحق، فكم من راو لم يصل إلى منزلة ابن معين وابن المديني والقطان وأضرابهم، ولكنه ثقة، إلا أن هذا لا يعتمد عليه إلا عند ظهور قرينة لذلك، والله أعلم.
س 111: هل هناك فرق بين قولهم في الراوي: «حجة» وبين قولهم «يحتج به»؟
ج 111: سبق الجواب على هذا السؤال، وانظره في «شفاء العليل» (1)، وخلاصته أنَّ قولهم: «حجة» من ألفاظ التعديل الرفيعة، أي: أنَّ الرجل حجة في روايته وفي حديثه، وفي هديه وفي سلوكه، ويكون فيه أسوة لغيره، وأمَّا كلمة: «يحتج به» فممكن أن تكون بمعنى (ثقة»، وممكن أن تكون بمعنى «صدوق) أي: المرتبة الثانية أو الثالثة من مراتب التعديل (2)، وقد بيَّن ذلك الذهبي في «النبلاء» (3)، وكذلك المعلمي – رحمهما الله تعالى -.
س 112: ابن عدي – رحمه الله تعالى – يقول في بعض الرواة: «فلان ليس حديثه بالكثير» هل يقصد به توهين الراوي؟
__________
(1) «شفاء العليل» (1/ 31، 477).
(2) فبهذا يتبين لنا أنَّ قولهم في الراوي: «ثقة» أعلى من قولهم: «يحتج به»؛ لأنّه يحتج بمن هو دون الثقة كمن قيل فيه: «صدوق» أو «لا بأس به» وعلى ذلك فيكون قولهم حجة أعلى من قولهم يحتج به من باب أولى وقد بين ذلك الإمام السخاوي – رحمه الله – في «فتح المغيث» (1/ 337 - 338) وجعل المنذري ذلك خاصاً بيحيى بن معين كما في رسالة «الجرح والتعديل» (ص:31) والله أعلم.
(3) انظر «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 979) ترجمة المفيد أبي بكر محمد بن أحمد بن يعقوب.(1/289)
ج 112: قول أحد النقاد في الراوي: «إنَّه قليل الحديث»، أو «ليس بكثير الحديث» كل هذا يدل على أنَّ الراوي ليس من المشتغلين بهذا العلم كاشتغال غيره من الثقات، والراوي إذا لم يكن في ترجمته أي تعديل ولا تجريح إلا مثل هذه الكلمة؛ فإنَّها تدل على أنَّه لين، وقد سبق أن ذكرت أنَّ من أسباب الحكم بالجهالة على الراوي؛ قلة روايته، فإذا كان كذلك، فحينئذٍ يُحكم عليه بالجهالة إذا لم يُوثَّق ولم يُجرَّح، وقد سبق أيضاً قول ابن عدي في «الكامل»: «فلان في مقدار ما يرويه لم يتبين لي صدقه من كذبه» (1)،
__________
(1) ومما يدل على ما سبق أيضاً ما جاء في «الميزان» (2/ 343) ترجمة الحكم بن عتبة بن نهاس، قال الذهبي: وقال ابن الجوزي: إنّما قال أبو حاتم: هو مجهول؛ لأنّه ليس يروي الحديث وإنّما كان قاضياً بـ «الكوفة» ... إلخ اهـ.
فانظر كيف كان عدم الاشتغال بالحديث سبباً في جهالة الراوي عند المحدثين وإن كان مشهوراً من جهة أخرى، والله أعلم.
وانظر ذلك موسعاً في السؤال رقم (7).(1/290)
أي: أنَّ حديثه قليل، ولا أستطيع أن أحكم عليه بأنَّه ثقة أو ضعيف، لأنِّي لو قارنت حديثه بحديث غيره من الثقات، فربّما يكون كذاباً سرق هذا الحديث، فوافق حديث الثقات، فأوثقه، وليس الأمر كذلك، وربّما أن يكون ثقة ووهم في هذا الحديث، فأضعفه، أي وليس الأمر كذلك، المهم أنَّ الراوي إذا كان مقلاً في الرواية، فلا يتأتى للناقد أن يحكم عليه بما يستحق – غالباً – فلذا يحكم عليه بالجهالة، وقلة الرواية قد تكون سبباً في الحكم بالجهالة على الراوي، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، وذكر أيضاً أن تصرف المدلسين في اسم الرجل، وكنيته، ولقبه، أو ما يعرف به قد يؤدي هذا كله في النهاية إلى تعمية أمر الرجل، فيظن الظانُّ أو الواقف على رواية هذا الرجل، أنَّهم عدة رجال، فيحكم على كل رجل بعينه بأنَّه مجهول (1)،
__________
(1) بل قد يشعر هذا التصرف بضعف الراوي فقد ذكر المعلمي – رحمه الله – في «تنكيله» (ص:432) ترجمة الحارث بن عمير، قال: وساق الخطيب في «الموضح» فصلاً في ابن زنبور فذكر أنَّ الرواة عنه غيروا اسمه على سبعة أوجه، وهذا يشعر بأن الناس كانوا يستضعفونه لذلك كان الرواة عنه يدلسونه. اهـ ..(1/291)
ولو تنبه وعلم أنَّ هذه أسماء وكني وألقاب لرجل واحد، لجمع عدد الرواة الذين رووا عنه، ولرفعه من جهالة العين على الأقل إلى جهالة الحال، أو عرف عين الرجل وحاله من مواضع أخرى، فالحكم على الرجل بأنَّه قليل الحديث يدل على تليينه أو جهالته، ما لم يكن قد وثّقه أحد، والحكم بقلة الحديث أو الرواية، دليل على قلة اشتغال الراوي بهذا العلم، وقلة الاشتغال بهذا العلم، دليل على قلة الضبط والإتقان لهذا الأمر، لكن المهم أن النظر في الترجمة من جميع جوانبها، والنظر في المراد من قولهم: «ليس بمكثر» هل المراد بذلك القلة؟ أم أنَّه ليس بمكثر بالنسبة لغيره من المكثرين، أو ليس بكثير الرواية كابن المديني وابن معين وفلان وفلان، أمَّا إذا كان ذكر القلة هنا أمراً نسبياً، أي: بالنسبة إلى غيره من الأئمة، فقد يكون ثقة، بل قد يكون ثقة ثبتاً، لكنَّه مقل بالنسبة لغيره من هؤلاء، والله أعلم.
س 113: إذا تعارض جرح مفسر مع تعديل، فقد قالوا: الجرح مقدم على التعديل، فهل إذا كان الجرح مجملاً يقدم التوثيق؟
ج 113: هناك من يقول: إنَّ الرجل إذا ثبتت له منزلة الثقة فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي (1)،
__________
(1) عرفت هذه القاعدة عن جماعة من الأئمة، منهم الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -؛ فقد نقل عنه الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «التهذيب» (7/ 273) ترجمة عكرمة البربري، مولى ابن عباس؛ أنّه قال: «وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه»، ونقله كذلك الحاظ السخاوي عن محمد بن نصر المروزي كما في «فتح المغيث» (1/ 308).
قال السخاوي: وترجم به البيهقي باب لا يقبل الجرح فيمن ثبتت عدالته إلا بأن نقف على ما يجرح به، وكذا قال ابن عبدالبر من صحة عدالته، وثبت في العلم إمامته وبانت همته فيه وعنايته لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي الجارح في جرحه ببينة عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات والعمل بما فيها من المشاهدة، لذلك بما يوجب قبوله. اهـ
وليس المراد إقامة بينه على جرحه، بل المعنى أنّه يستند في جرحه لما يستند إليه الشاهد في شهادته وهو المشاهدة ونحوها وأوضح منه في المراد ما سبقه به محمد بن نصر المروزي فإنّه قال: وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد، حتى يبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحه. اهـ من كلام السخاوي.
وانظر كلام الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي – رحمه الله – حول هذه القاعدة، في «التنكيل» (ص:265 - 268).(1/292)
وهو تفسير الجرح، وهذا يحمل على من اشتهر توثيقه، فمن تكلّم فيه بعد ذلك، فلا يسلم له إلا بأمر جلي واضح، أمَّا من اختُلِف في توثيقه وتضعيفه، كان يقول ابن معين: ثقة، ويقول أحمد: ضعيف، فلا تتنزل عليه هذه القاعدة، وكون العلماء يقدمون الجرح على التعيل، إذا كان مفسراً، لِمَا مع الجارح من زيادة علم، فلا يلزم من ذلك أن يقدموا التعديل، ويهدروا الجرح؛ لأنَّه مجمل (1)،
__________
(1) أقول: وهذا هو صنيع العلماء، فإنّه لا مناص من أخذ تلك الجروح المبهمة بالاعتبار لئلا يتعطل النقد، وقد ذهب إلى ذلك القاضي أبوبكر الباقلاني ونقله عن الجمهور، وذلك فيما نقله الخطيب البغدادي – رحمه الله – في «الكفاية» (ص:178) قال: حدّثني محمد بن عبيدالله المالكي قال: قرأت على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب قال الجمهور من أهل العلم: إذا جرح من لا يعرف الجرح، يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن.
والذي يقوى عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالماً والدليل عليه نفس ما دللنا به على أنّه لا يجب استفسار العدل عما به صار عنده المزكى عدلاً؛ لأنّنا متى استفسرنا الجارح لغيره فإنّما يجب علينا بسوء الظن والاتهام له بالجهل بما يصير به المجروح مجروحاً، وذلك ينقض جملة ما بنينا عليه أمره من الرضا به والرجوع إليه ... فأمّا إذا كان الجارح عامياً وجب لا محالة استفساره.
قال السخاوي في «فتح المغيث» (1/ 307) وهو المعروف عن القاضي كما رواه الخطيب عنه في «الكفاية» بإسناده الصحيح واختاره الخطيب أيضاً، وذلك أنّه بعد تقرير القول الأول الذي صوبه، قال: على إنّا نقول أيضاً: إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله، عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابهما عالماً باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك قبل قوله، فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه. اهـ.
وفي «طبقات الشافعية» (2/ 21 - 22) قال السبكي: « ... إنا لا نطلب التفسير من كل أحد، بل إنَّما نطلبه حيث يحتمل المجال شكاً، إما لاختلاف في الاجتهاد أو لتهمة يسيرة في الجارح أو نحو ذلك مما لا يوجب سقوط قول الجارح ولا ينتهي إلى الاعتبار به على الإطلاق، بل يكون بين النقاد فلا نتلعثم عن جرحه، ولا نحوج الجارح إلى تفسير ... إلخ اهـ.(1/293)
والظاهر من صنيع الحافظ في «التقريب» أنّه يجمع بين هذين القولين السابقين، بقوله: «صدوق»، وبين قول أحدهم: ثقة، والآخر يقول: متروك، بقوله: ضعيف، وانظر جوابي على السؤال رقم (77).
س 114: قد يقول قائل: وجدنا بعض العلماء يجرِّح، فإذا سئل عن سبب تجريحه، يبين أموراً ليست مجرِّحة، فإذا كان الأمر كذلك، وتعارض جرح مجمل وتعديل، فيجب أن نقدم التعديل، ونهدر الجرح تماماً، فما صحة ذلك؟
ج 114: هذا كلام غير صحيح: من جهة النظر ومن جهة الاستعمال، فقد سبق أن أشرت إلى صنيع الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -.
وأما من جهة النظر، فيقال لقائل هذا القول: الراوي إذا اختلف فيه إمامان أحدهما قال: «ثقة» والآخر قال: «ضعيف) فإهمالك الجرح تماماً وقولك في الراوي: «ثقة» غير صحيح؛ لأنَّك سويت بين الترجمة التي اختُلِف فيها على هذا الوصف، وبين التي يُخْتَلَف فيها أصلاً، وليس فيها إلا قول أحدهم: «ثقة»!! وفوق ذلك كله، فما ذكرتَهُ فيه نظر من وجوه:
1 – أن ما ذكرته عن تجريح بعضهم بما لا يجرح، نادر جداً، والنادر لا يُقعَّدُ عليه (1).
__________
(1) ومن لك ما ذكره الخطيب البغدادي – رحمه الله – في «كفايته» (ص:183) بإسناده قال: قيل لشعبة: لمَ تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، ونحوه قول وهب بن جرير عن شعبة: أنّه أتى منزل المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور فرجع، قال وهب: فهلا سألت؟ عسى ألا يعلم هو.
ومنها أنَّ شعبة قال: قلت للحكم بن عتيبة: لمَ لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام ومنها قول جرير بن عبدالحميد: أتيت سماك بن حرب فرأيته يبول قائماً فلم أسأله عن حرف، قلت: قد خرف ... إلخ ما ذكره الخطيب وغيره في هذا الباب.
أقول: ويجاب على ذلك أيضاً بما ذكره المؤلف – حفظه الله – أن مثل ذلك نادر والنادر لا يقعد عليه ويقال أيضاً أنَّ ما ذكره الخطيب وغيره في هذا الباب يحتاج إلى نظر في إسناده، وإن سُلم بصحة أسانيده فلا يسلم من التأويل، فقد أجاب على ذلك الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – كما في «فتح المغيث» (1/ 302 - 304)، فقال على أثر شعبة الأول: فماذا يلزم من ركضه اللهم إلا أن يكون في موضع أو على وجه لا يليق ولا ضرورة تدعو لذلك.
وأجاب على الثاني: وقد حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن السماع يكره ممن يقرأ بالألحان ونص الإمام مالك في المدونة على أنَّ القراءة في الصلاة بالألحان الموضوعة والترجيع ترد به الشهادة ... إلخ.
وأجاب عن الثالث: وهو الكلام في زاذان قال السخاوي: وممن تكلّم في زاذان الحاكم أبو أحمد فقال: إنّه ليس بالمتين عندهم، وقال ابن حبان كان يخطئ كثيراً ... إلخ وأجاب كذلك عن قصة جرير بن عبدالحميد بقوله: ولعله كان بحيث يرى الناس عورته، والله أعلم.(1/294)
2 – أن الأصل في الأئمة الذين يتكلمون في الرواة، أنَّهم أهل علم بأسباب الجرح والطعن في الرواة، وإعمال قولهم – إذا لم يكن هناك ما يدفعه – أولى من إهماله (1).
3 – أن ما عبته على بعضهم في جانب التجريح، موجود عند بعضهم في جانب التوثيق (2)،
__________
(1) في «الكفاية» للخطيب – رحمه الله – (ص:178) قال: وقد ذكر أنَّ الشافعي إنّما أوجب الكشف عن ذلك؛ لأنّه بلغه أنَّ إنساناً جرح رجلاً فسئل: عما جرحه به؟ فقال: رأيته يبول قائماً، فقيل له: وما في ذلك ما يوجب جرحه؟ فقال: لأنّه يقع الرشش عليه وعلى ثوبه، ثم يصلي، فقيل له: رأيته يصلي كذلك؟ فقال: لا، قال الخطيب: فهذا ونحوه جرح بالتأويل، والعالم لا يجرح أحداً بهذا وأمثاله، فوجب بذلك ما قلناه. اهـ.
أي: قبول الجرح مجملاً إذا صدر من العالم بهذا الشأن وقد سبق نقل ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني في (ص:246) وانظر كذلك «فتح المغيث» للسخاوي – رحمه الله – (1/ 307 - 308)، والله أعلم.
(2) وذلك بأن يغتر المعدل بحال الراوي فيسارع إلى الثناء عليه اغتراراً بظاهر الحال، ومن الأمثلة على ذلك ما ساقه الخطيب في «الكفاية» (ص:165) بسنده عن يعقوب الفسوي أنّه قال في «تاريخه»: سمعت إنساناً يقول لأحمد بن يونس: عبدالله العمري ضعيف؟ قال: إنّما يضعفه رافضي مبغض لآبائه، ولو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنّه ثقة.
قال الخطيب: ما احتج أحمد بن يونس على أنَّ عبدالله العمري ثقة بما ليس بحجة؛ لأنّه حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل المجروح. اهـ.
وفي «فتح المغيث» قال السخاوي: وهذا الإمام مالك مع شدة نقله وتحريه قيل له في الرواية عن عبدالكريم بن أبي المخارق فقال: غرني بكثرة جلوسه في المسجد، يعني لما ورد من كونه بيت كل تقي. اهـ (1/ 304).(1/295)
بل هو أكثر وأشهر، وما «ثقات ابن حبان» و «ثقات ابن شاهين» وأقوال الحاكم وغيرهم عنا ببعيدة، فلو قَلَب عليك مخالفُك قولَكَ لكان أولى من قولك، لكن يرد على ذلك: أنَّ التعديل لا يكون إلا مجملاً، ويشق تفسيره.
4 – ونظراً لعلمنا بهذه الاحتمالات، قلنا: يمزج الحكم بالتعديل والتجريح، وإلا فلو كان التجريح خالياً من هذه الاحتمالات، لقدمناه على التعديل – وإن كان مجملاً – والعلم عند الله تعالى.
س 115: متى تشترط العدالة للراوي: هل في أثناء التحمل أو في الأداء؟
ج 115: يشترط في راوي الحديث الصحيح أو الحسن أن يكون عدلاً سالماً عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، لكن ذلك إنَّما يكون حال الأداء؛ لأنَّه قد يكون حال التحمل كافراً كتابياً أو وثنياً، مثل أبي سفيان حين كان بأرض الروم، وجاء كتاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هرقل عظيم الروم، فأرسل إليه هرقل، وسأله أسئلة يعرف بها صدق هذا النبي (1)، كان ذلك حال كفره، وحدث بها حال إسلامه، فقبلت، ولو أنَّ رجلاً كان مسلماً وسمع أشياء ثم ارتدَّ – والعياذ بالله – وحدّث بها لا تقبل منه، إنَّما يشترط العدالة في حال الأداء، لا في خال التحمل؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ الرجل وإن كان كافراً فاجراً قبْل إسلامه، لكن دينه وأمانته وورعه، كل هذا يمنعه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن يحكي شيئاً ما رآه ولا سمعه، والأمر كذلك، والله أعلم (2).
__________
(1) القصة في «صحيح البخاري»، «فتح الباري» (1/ 31 رقم 7).
(2) ذكر الخطيب في «كفايته» (134): أنَّ مذهب مالك وابن أبي ذئب رد شهادة النصراني حتى يسلم وأن الشهادة لا تقبل منه ما دام كافراً حتى يسلم.
قال الخطيب وإذا كان هذا جائزاً في الشهادة فهو في الرواية أولى، لأنَّ الرواية أوسع في الحكم من الشهادة مع أنّه قد ثبتت روايات كثيرة لغير واحد من الصحابة كانوا حفظوها قبل إسلامهم، وأدوها بعده. اهـ.
أقول: ومن هذه الروايات ما أخرجه البخاري (2/ 247 رقم 765) عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قرأ في المغرب بالطور»، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» زاد الإسماعيلي: «وهو يومئذ مشرك» والمصنف في المغازي من طريق معمر أيضاً: «وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي».
قال الحافظ واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفاسق إذا أداه في حاله العدالة. اهـ وقال ابن الملقن في «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» (3/ 202) وهذا النوع من الأحاديث قليل ولا خلاف فيه. اهـ.(1/296)
س 116: إذا قيل: «فلان هو في عداد ابن أبي شيبة» وما ذكروه بجرح ولا تعديل فما حاله؟
ج 116: قولهم فلان في عداد فلان أو في مسلاخ (1) فلان، أو من بابة فلان، أو يُنَظَّر بفلان، أو يُشبَّه بفلان، كل هذا يدل على أنَّه في منزلة المشبَّه به (2)، فهذا الرجل الذي قيل عنه، إنَّه في عداد ابن أبي شيبة، فمعنى ذلك أنَّه في منزلة ابن أبي شيبة في هذا الشأن.
__________
(1) المسلاخ هو الجلد وكذلك يطلق على الهدي والطريقة كما في «اللسان» (3/ 25).
(2) وقد ذكر المؤلف في «شفائه»: (1/ 46) ألفاظاً أخرى تدل على هذا المعنى كقول أحدهم: كان فلان في قياس شعبة مثلاً أو نزاحم به شعبة أو نظير شعبة أو إذا ذكرت شعبة فاذكره أولاً يتأخر عن شعبة أو ليس بدون شعبة أو يقوم مقام أحمد أو كاف عن أحمد كما قال أبو داود في عبدالملك بن سليمان: «كاف عن أحمد» (6/ 397) «تهذيب التهذيب» أو قول أحدهم: «فلان في منوال شعبة، والقوم إذا استوت أخلاقهم قيل هم على منوال واحد» انظر «اللسان» (11/ 684).(1/297)
فإذا مثلوا الراوي أو شبهوه برجل مشهور بالعبادة، فيكون حاله كحال المشبَّه به في العبادة، ولا يلزم من علو الشأن في العبادة، علوُّ الشأن في الحديث، بل أكثر العباد – إن لم يكونوا من الأئمة المتقنين المعروفين بالخير، كالإمام أحمد، والإمام البخاري، والإمام علي بن المديني، وابن عيينة، والثوري وغيرهم -؛ فأكثر العباد مطعون في حديثهم، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث، وقال آخر: إذا رأيت في إسناد حديثك رجلاً من العُبَّاد، فاغسل يديك منه، والله المستعان (1).
(تنبيه):
يُنظر ما ورد في السؤال: هل هناك ترجمة تدل على وجوده أم أنَّه أمر نظري فقط؟ والله أعلم.
س 117: هل تنجبر الجهالة بالجمع؟
__________
(1) روى مسلم في مقدمة كتابه من طريق محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال: لن نرى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، قال مسلم: يجري الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدون الكذب (ص:17) وفي «شرح العلل» لابن رجب قال: ويروي عن أبي عبدالله بن منده قال: إذا رأيت في حديث: حدّثنا فلان الزاهد؛ فاغسل يدك منه، (1/ 387 - 389).(1/298)
ج 117: في أسانيد كثيرة تجد – أو ترى – بعض الرواة يقول: حدّثني أصحاب فلان، أو حدثني جماعة عن فلان، ونحن نعلم أنَّ الجهالة والإبهام علة في صحة الإسناد؛ لأنَّه يشترط في الحديث أن يكون راويه معروفاً بالعدالة، وعدمُ العلم بالجرح؛ لا يدل على إثبات العدالة، فالجهالة تنافي إثبات العدالة، لكن لو جاء عن جمع كثيرين، لا سيَّما إن كان هذا الرجل ممن يتحرى في الرواية وينتقي، ولا يروي عن كل أحد؛ فلا بأس؛ لأنَّ من الرواة من يروي عن كل أحد، فيروي عمَّن دب ودرج، ويروي عن هذا وعن ذاك، وفي مثلهم يقول العلماء: فلان يبيع اللحوم مع العظام، فالذي ينتقي ويروي عن جماعة وهم مجهولون؛ فالظاهر أنَّ جمعهم يجبر الجهالة، بل الذي يظهر لي أنَّه إذا كان ثقة غير معروف بالرواية الكثيرة عن الهلكى، وروى عن جماعة مجهولين، فالجميع يَجْبر الجهالة، وهذا صنيع بعض العلماء قديماً وحديثاً، بل قد أخرج البخاري في «صحيحه» حديثاً من هذا القبيل، انظر الكلام عليه في (الإرواء» (5/ 128)، وسيأتي – إن شاء الله تعالى – تفصيل القول في ذلك في السؤال رقم (226)، وما فصلته هناك هو المعتمد، والله أعلم.
س 118: نرى في بعض التراجم قولهم: «فلان يصل المرسل» و «فلان يرسل المتّصل» فما معنى ذلك؟ وهل بينهما فرق أم لا؟
ج 118: الراوي الذي يوصف بأنَّه يصل المراسيل، يكون مضعفاً؛ لأنَّ هذا معناه: أنَّ الثقات يروون الحديث مرسلاً، أمّا هو فلضعف في حفظه، يروي الحديث مسنداً، ومن كثر هذا في حديثه، ضعفه العلماء بلا شك، بل وقد يترك (1).
__________
(1) في «سير أعلام النبلاء» (6/ 129 - 130) ترجمة يزيد بن أبي زياد قال فيه شعبة: كان رفاعاً، قال: الذهبي يعني: الآثار التي هي من أقوال الصحابة؛ يرفعها.
أقول: ويقال فيمن يسند «المراسيل» و «يرفع الموقوفات»: فلان «يوصل الحديث» أو فلان: «كان رفّاعاً» أو: «كان من الرفاعين» وهذه الألفاظ تطلق على الرجل إذا كان «وصل المرسلات» و «رفع الموقوفات» منه على سبيل الوهم ويكون محلها في الشواهد إلا إذا غلب ذلك أو فحش في حديثه.
أمّا إذا كانت على سبيل العمد؛ فلا، انظر ذلك في ترجمة يعقوب بن حميد بن كاسب (11/ 383) «تهذيب التهذيب» وانظر الألفاظ السابقة في «شفاء العليل» (ج1/ 164، 178، 204) وقد سبق شيء من ذلك أيضاً في السؤال رقم (43).
(تنبيه):
قد يقع مثل هذا من بعض الحفاظ الكبار ويكون سببه كثرة الحفظ فمثل هذا لا يضر بحاله، مثاله: ما جاء في ترجمة سليمان بن داود الطيالسي – كما في «تهذيب التهذيب» (4/ 184) – قال عمرو بن علي: «ثقة» وإذا جاورت في أصحاب شعبة معاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث ويحيى القطان وغندر؛ فأبو داود خامسهم وله أحاديث يرفعها، وليس يعجب من يحدث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يخطئ في أحاديث منها يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنَّما أتى ذلك من حفظه وما أبو داود – عندي وعند غيري – إلا متيقظاً ثبتاً. اهـ.(1/299)
وأمَّا قولهم: «فلان يرسل المتصل» فالظاهر من التراجم والمواضع التي يُذْكر فيها هذا اللفظ أو ما في معناه: أنَّ الراوي ورع وعنده خوف من الله، فإذا شك في الحديث: هل هو متصل أو مرسل؛ فإنَّه يرسله احتياطاً، وممن شهر بذلك ابن سيرين ومالك وحماد بن زيد (1)، ويضاف إليهم: مسعر وعفان بن مسلم الصفار، ويضاف إليهم أيضاً كل من وُصف بأنَّه شكاك في الرواية، وقد تكلمت على ذلك في «شفاء العليل»؛ فليرجع إليه (2).
__________
(1) قلت: وقد نص الدارقطني – رحمه الله تعالى – في «علله» أنَّ من عادة ابن سيرين التوقف عن رفع الحديث توقياً، انظره في (9/ 160 برقم169)، و (10/ 17 برقم 1820) وفيه (ص:25 رقم 1827) وكذا (ص:27/ برقم 1829).
ونص كذلك على أنَّ من عادة الإمام مالك، إرسال الأحاديث وإسقاط رجل، المصدر السابق (6/برقم 980) أمّا عن حماد بن زيد فقد صرَّح الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «تهذيبه» (3/ 11) قال: وقال يعقوب بن شيبة: حماد بن زيد أثبت من ابن سلمة وكل ثقة غير أن ابن زيد معروف بأنّه يقصر الأسانيد ويوقف المرفوع كثير الشك بتوقيه، وكان جليلاً لم يكن له كتاب يرجع إليه فكان أحياناً يذكر فيرفع الحديث وأحياناً يهاب الحديث ولا يرفعه ... إلخ. اهـ.
(2) انظر «شفاء العليل» (1/ 379 - 380).
وهذا وقد زاد الحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى – مجاهداً في شرحه لـ «علل الترمذي» (1/ 430) وقد ذكر الحاكم نحو ذلك عن يحيى بن يحيى جاء ذلك في «النبلاء» (10/ 515) قال الحاكم: سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت مشايخنا يقولون: لو عاش يحيى بن يحيى سنتين لذهب حديثه فإنَّه إذا سئل في حديثه أرسله، هذا في بدء الأمر ثم صار إذا شك في حديث تركه ثم صار يضرب عليه من كتابه. اهـ.
ومن هؤلاء أيضاً أبو هلال الراسي كما جاء في «العلل» للدارقطني (8/ 116).
قال الدارقطني: كان أبو هلال كثيراً ما يتوقى رفع الحديث. اهـ.
وكذا جاء عن محمد بن النوشجان السويدي كما في «تاريخ بغداد» (3/ 326) قال فيه أبو داود: ثقة حدثنا عنه أحمد كان صاحب شكوك رجع الناس من عند عبدالرزاق بثلاثين ألفاً ورجع بأربعة آلاف، وكذلك ما جاء في ترجمة علي بن الحسن بن شقيق من متقدّمي أصحاب أبي حمزة كما في «تهذيب التهذيب» (7/ 299) قال: أبو عمار الحسين بن حريث، قلت له – أي: لعلي بن الحسين -: هل سمعت كتاب الصلاة من أبي حمزة السكري؟ فقال: نعم، سمعت، ولكن نهق حمار يوماً فاشتبه علي حديث فلا أدري أيَّ حديث هو؟ فتركت الكتاب كله اهـ. ونقل عن ابن عون كذلك أنه كثير التوقي كما ذكر ذلك أبوبكر البزار في «التهذيب» (5/ 348) وفيه قول شعبة: لأن أسمع من ابن عون حديثاً يقول فيه أظن أني سمعته أحب إلي أن أسمع غيره يقول: قد سمعت، ويضم شعبة إليهم كذلك. ففي «تاريخ بغداد» (9/ 265). قال سفيان الثوري ما رأيت أحداً أورع في الحديث من شعبة، يشك في الحديث الجيد فيتركه. اهـ. والله أعلم.(1/300)
ونحن نستفيد فائدة من ذلك، وهي: أنَّ من وصف بالقول الثاني، وروى حديثاً مرسلاً، وخالفه ثقة آخر – وإن لم يكن في منزلته الرفيعة – فمن الممكن أن نقبل الزيادة في الإسناد من ذلك الثقة؛ لما علم من حال هذا الإمام، وليس هذا على إطلاقه، والله أعلم.
س 119: الراوي إذا قيل فيه: تكثر في أحاديثه المراسيل، فهل هي عبارة مدح أو قدح؟
ج 119: معناها أنَّ الراوي لم يعتنِ بالأحاديث المسندة، وإنَّما يروي حكايات ومقطوعات ومراسيل، وهذا حال غالب العبّاد والقصَّاص أصحاب المواعظ، وأهل الرأي الذين لم يشتغلوا بالمسند من الأحاديث؛ فتكثر في أحاديثهم المراسيل، فهذا يدل على أنَّه لا حاجة لما معه من المقطوعات، ويدل هذا القول على ضعفه إذا أسند، لا سيما إذا خالف، والله أعلم.
س 120: هل يأتي المرسل بمعنى المنقطع؟
ج 120: نعم، هذا تراه كثيراً في كتب العلل، يقولون: أخرجه فلان مرسلاً، ويعنون بذلك: أنَّه منقطع بين الراوي وشيخه، وليس مرسلاً بمعنى أنَّه ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (1).
__________
(1) قال العلائي – رحمه الله تعالى – في «جامعه» (ص:96): تقدم الفرق بين المرسل والمنقطع والمعضل وأنّه اصطلاح حديثي واسم الإرسال شامل لكل ذلك عند أئمة الأصول وكذلك بعضُ أهل الحديث ... إلخ.
وذكر ذلك أيضاً الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في مواضع من كتبه؛ ففي «النزهة» (ص:81 - 82): وقريب من هذا: اختلافهم في المنقطع والمرسل: هل هما متغايران أو لا؟.
فأكثر المحدثين على التغاير لكنّه عند إطلاق الاسم وأما عند استعمال الفعل المشتق فيستعملون الإرسال فقط.
فيقولون: أرسله فلان سواء كان ذلك مرسلاً أو منقطعاً ومن ثم أطلق غير واحد ممن لم يلاحظ مواضع استعماله على كثير من المحدثين أنّهم لا يغايرون بين المرسل والمنقطع وليس كذلك؛ لما حررناه، وقلَّ من نبَّه على النكتة في ذلك، والله أعلم. اهـ، وانظر كذلك «النكت» (2/ 543، 573) و «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 137 - 138).(1/301)
وهنا أريد أن أنبه على أن تعريف المرسل المذكور في بعض كتب المصطلح، وأنَّه «قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر الصحابي» غير دقيق؛ لأننا لو علمنا أنَّ الساقط هو الصحابي فقط، لكان الحديث مقبولاً (1)، لأنَّ إبهام الصحابة لا يضر، ولكنَّنا نخاف أن يكون بين التابعي وبين الصحابي تابعي آخر، يحتاج إلى نظر في حاله، فالعبارة ليست دقيقة، ولكن ينبغي أن نقول: المرسل: «هو ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون ذكر الواسطة أو دون ذكر من حدّثه»، فيشمل ذلك الصحابيَّ وغيرَه، ويدخل فيه: القول والفعل والتقرير والتعريفات أو الحدود أو الرسوم – كما يسميها بعض أهل الأصول – يجب أن تكون جامعة مانعة: جامعة لأوصاف الشيء المعرف، ومانعة من دخول أي أمر غريب غيرِ مقصود في التعريف، والله أعلم.
س 121: ما الفرق بين قولهم: «فلان عدل» و «فلان عدَّله أصحاب الحديث»؟
ج 121: للخطابي – رحمه الله – كلام حول هذا؛ كما نقله عنه السيوطي – رحمه الله – في أول كتاب «تدريب الراوي»، وهو أنَّ قولهم: «عدَّله أصحاب الحديث» يدل على أنَّهم عدّلوه في دينه وفي ضبطه.
أما قولهم، «عدل» – فقط -: فالمتبادر منه أنَّه عدل في دينه، دون التعرض لضبطه وحفظه (2)،
__________
(1) وانظر في ذلك كلام ابن رجب – رحمه الله – في شرحه لـ «علل الترمذي» (1/ 557) وقد سبق الكلام عليه في السؤال رقم (9).
(2) نقل السيوطي عن الخطابي أنّه حدّ الصحيح بأنّه: ما أتَّصل سنده وعدّلت نقلَته.
قال العراقي: فلم يشترط ضبط الراوي، والسلامة من الشذوذ، والعلّة.
قال: ولا شك أنَّ ضبطه لا بدّ منه؛ لأنَّ من كثر الخطأ في حديثه، وفحش استحق الترك.
قال السيوطي: والذي يظهر ليّ أنَّ ذلك داخل في عبارته، أنَّ بين قولنا: «العدل» و «عدّلوه» فرقاً؛ لأنَّ المغفل المستحق للترك لا يصح أن يقال في حقه عدّله أصحاب الحديث، وإن كان عدلاً في دينه فتأمل. اهـ «تدريب الراوي» (1/ 64).
(تنبيه):
وفي أثناء مراجعتي مع المؤلّف – حفظه الله تعالى – استدرك فقال: إن ظاهر ما كتبت يدل على أنَّ التفرقة بين عدل وعدَّلوه من كلام الخطابي والواقع أنَّه من دفاع السيوطي عن الخطابي متعقباً للعراقي في تعقبه على الخطابي. اهـ.(1/302)
مع أنَّهم قد يطلقون كلمة: «عدل» على من هو عدل في دينه وفي حفظه، بل قد يقولون كلمة: «عدل» على الإمام المشهور الكبير الذي له باع في هذا الفن، لكن – على كل حال – عند تجرد الأمر من القرائن؛ فقولهم: «عدّلوه» أو «عدّله أصحاب الحديث» أعلى من قولهم: «عدل» لأنَّ اللفظ الأول يدل على أنَّهم عدّلوه ديناً وضبطاً وحفظاً، إذ أن أصحاب الحديث لا يعدِّلون في الرواية من هو ضعيف في حفظه، واللفظ الثاني يدل على أنَّهم عدّلوه في دينه فقط.
س 122: الحديث إذا ضعفه أو صححه إمام متقدِّم، وخالفه عالم متأخر أو عصري؛ فبعض أهل العلم يقول: إنّنا نقدم كلام المتقدِّم، وإن كان مع المتأخِّر أدلة؛ فما الصواب في ذلك؟
ج 122: هذه مسألة؛ كما علم في غيرها من المسائل؛ أنَّ العبرة بالدليل، والعبرة بالقواعد التي قعدها أهل العلم، فإذا اتفق أ÷ل العلم على تصحيح حديث، فنحن نأخذ به – وإن كان ظاهره الضعف -، وإذا اتفق أهل العلم على ضعف حديث، فنحن نأخذ بكلامهم – وإن كان ظاهره الصحة -، ولكن إذا انفرد بالتصحيح أو التضعيف واحد من أهل العلم، مخالفة غيره، فنحن في هذه الحالة إذا لم يظهر لنا خلاف ما يقول أحدهم، فنحن نصحح أو نضعف الحديث، ثم نستشهد بمن سبقنا من الأئمة الذين ذهبوا إلى نفس الحكم الذي وصلنا إليه، لكن لو نظرنا إلى حديث صححه الدارقطني ورأينا فيه علة ظاهرة، وذلك أن الدارقطني قد يحكم في «سننه» على حديث بالصحة؛ لأنَّه يوثق رجال هذا السند، وغير الدارقطني يتكلّم في رجل من رجال هذا السند بالضعف، فإذا جمعنا أقوال الأئمة في رجل من رجال السند، من «تهذيب التهذيب» – مثلاً – ووجدنا الدارقطني يوثقه، وبناءً على ذلك صحح حديثه – لأنَّ التصحيح فرع عن التوثيق -؛ ففي هذه الحالة لو رأينا لابن معين أو لابن المديني أو لأحمد بن حنبل جرحاً مفسراً في الرجل، هل نستطيع أن نقول: إن الرجل قد صحح له الدارقطني، فالحديث صحيح؟ هذا غير صحيح.(1/303)
وأيضاً لو أنَّ أحداً من المتقدمين ضعف الحديث، لوجود ضعيف في سنده، ثم وقف أحد المعاصرين على طريق أخرى سالمة من العلّة، تشهد للطريق الأولى، أو فيها ضعف خفيف؛ فلا يليق أن نقول – أو يقال -: نحن نأخذ بقول المتقدم؛ لأنَّ هذا يدخلنا في باب التقليد، وهو قبول قول الغير بدون حجة، مع ترك الدليل الجلي الذي وقف عليه المتأخر!!
ثم يقال لمن قال ذلك: ما هو الحد الذي يقبل منه قول الإمام المتقدم، ولا يقبل قول من بعده؟ فإن سمى إماماً ذكرنا له تلميذه أو من بعده، فإن ألحقه في قوله، ذكرنا من بعده، وهكذا، إلى أن يرجع عن قوله أو يحد حداً ليس عليه دليل، والله أعلم.
قلت: وقد فصلت ذلك في السؤال رقم (204) فارجع إليه؛ فالمعتمد ما حررته هناك، والله أعلم.
س 123: أهل العدالة والضبط يقبل حديثهم، لكنَّه أحياناً يردّهُ العلماء، نريد توضيح هذا؟
ج 123: الأصل أنَّ خبر العدل مقبول، إلا إذا قام الدليل على أنَّه قد وهم في خبره، فيرد، مثل الحديث الشاذ الذي راويه مقبول وخالف من هو أوثق منه، وكذلك في الحديث المضطرب الذي يختلف فيه الحفّاظ على أحد الرواة الثقات، بوجوه متكافئة، ويتعذر الجمع بينها، وأحياناً يردون حديث أحد الحفّاظ، ويقولون: ليس هذا من حديثه، بل هو حديث فلان، وإنَّما دخل عليه أثناء مذاكرة فلان له، فعلق في ذهنه، وظنه من حديثه، وليس كذلك، كما بيّن ذلك الحافظ ابن رجب – رحمه الله – في شرحه لـ «علل الترمذي» (1).
__________
(1) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح العلل» (1/ 534 - 535): وقد أنكر مرة يحيى بن معين على عاصم حديثاً قال: ليس هو من حديثك، إنَّما ذوكرت به فوقع في قلبك فظننت أنّك سمعته، ولم تسمعه وليس هو من حديثك.
وقال الحسين بن الحسن المروزي: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: كنت عند أبي عوانة فحدّث بحديث عن الأعمش، فقلت: ليس هذا من حديثك، قال: بلى، قلت: لا، قال: يا سلامة! هات الدرج فأخرجت فنظرت فيه، فإذا ليس الحديث فيه، فقال: صدقت يا أبا سعيد، فمن أين أتيت؟ قلت: ذوكرت به وأنت شاب فظننت أنّك سمعته. اهـ.(1/304)
وإذا أرسل أحد الحفاظ حديثاً، ولم يذكر اسم شيخه، فيخاف منه الأئمة، ويقولون: هو حافظ، ولو أراد أن يُسَمِّي لَسمَّى، فلماذا لا يُسَمِّي؟ إذاً فشيخه مجروح (1)، مع أنَّ في ذلك نظراً؛ لاحتمال أنَّه أرسل الحديث في مجلس وعظ أو في مناظرة واحتجاج على خصم له، أو غير ذلك من الأمور التي اعْتذِر بها على إرسال من أرسل من الثقات، والله أعلم (2).
س 124: بعض أهل العلم يقبل عنعنة المدلسين، إذا لم ينصَّ أحد من المتقدمين على نكارة ذلك الحديث بعينه، فما الصواب في ذلك؟
__________
(1) قال الذهبي – رحمه الله تعالى – في «السير» (5/ 338 - 339): قال يحيى القطان: مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنّه حافظ، وكل ما قدر أن يسمي سمى، وإنَّما ترك من لا يحب أن يسميه.
قلت – أي الذهبي -: مراسيل الزهري كالمعضل؛ لأنَّه يكون قد سقط منه اثنان ولا يسوغ أن نظن به أنَّه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه ولما عجز عن وصله، ولو أنَّه يقول عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن عدّ مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ونحوهما؛ فإنّه لم يدر ما يقول، نعم، مرسله كمرسل قتادة، ونحوه. اهـ.
(2) انظر تفصيل ذلك في السؤال رقم (27).(1/305)
ج 124: التدليس علّة تقدح في صحة الحديث أو الإسناد؛ لأنَّها تطعن في العلم بالاتصال، والمدلسون لهم في ذلك دوافع كثيرة قد سبق الكلام عليها في سؤال سابق (1)، فإذا كان العلماء قد نصوا على أنَّ المدلس الذي كثر تدليسه، فلا تقبل عنعنته، أو ما جرى مجراها، وإذا كان العلماء والمحققون من النقاد يدافعون عن عنعنة المدلسين في «الصحيحين»، بأنَّها محمولة على الاتصال أو على السماع، لدقة نظر صاحبي «الصحيح» في باب العلل والجرح والتعديل (2)، فقد دلَّ ذلك على أنَّ هناك وقفة في تدليس المدلسين، وإن – لم يرووا منكراً، ولو رووا منكراً لتأكدنا من روايته عن مجروح أو مجهول قد دلَّسه، لكن عند عدم التيقن من تدليسه، فنحن نقف في روايته للشبهة، والله أعلم.
س 125: ذكرتَ أيضاً أنَّ بعض المدلسين قد تردَّ روايتهم، وإن صرَّح بالتحديث، فكيف توضيح ذلك؟
ج 125: تفسير هذا أنَّ التصريح قد يكون من أوهام بعض تلامذة المدلس، كما ذكروا ذلك في تلامذة بقية بن الوليد (3)،
__________
(1) انظره في السؤال رقم (23).
(2) سبق ذلك مفصلاً في السؤال رقم (14).
(3) قال ابن رجب – رحمه الله – في «شرح العلل» (ص:218): ذكر أبو حاتم الرازي أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمع فيظن أصحابه أنَّه سمعه فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه ولا يضبطون ذلك، وحينئذ ينبغي التفطن لهذه الأمور ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أنَّ شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الأخبار عن شيوخه ويكون منقطعاً.
فائدة:
في «فتح الباري» للحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى – (3/ 54):
ذكر البخاري أثراً معلقاً فقال: وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب: ثنا حميد: ثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال ابن رجب: ومقصود البخاري بهذا تصحيح رواية حميد عن أنس المرفوعة، وقد نازعه في ذلك الإسماعيلي، وقال: إنَّما سمعه حميد من ميمون بن سياه عن أنس قال: ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله: ثنا حميد: ثنا أنس؛ «فإن عادة الشاميين والمصريين جرت على ذكر الخبر فما يروونه لا يطوونه طي أهل العراق، يشير إلى أنَّ الشاميين والمصريين يصرحون بالتحديث في رواياتهم، ولا يكون الإسناد متَّصلاً بالسماع وقد ذكر أبو حاتم الرازي عن أصحاب بقية بن الوليد أنَّهم يصنعون ذلك كثيراً». اهـ.
وانظره كذلك في «الفتح» (ص:95، 106)، (4/ 398).
هذا وقد سألت شيخنا أبا الحسن – حفظه الله – عن مدى صحة كلام الإسماعيلي – رحمه الله – فقال: في ذلك نظر، ولو عملنا بهذا الإطلاق ما قبلنا رواية مدلس شامي صرَّح فيها بالسماع أضف إلى ذلك أنَّ يحيى بن أيوب الغافقي له بعض الأوهام فلعل تصريحه بالسماع في الموضع الذي ذكره الإسماعيلي على أسوأ تقدير أنّه من أوهامه فكيف لو نوزع الإسماعيلي دعواه عدم السماع من الأصل؟! اهـ.
أقول: وقد كان في نفسي شيء من هذا الجواب، لإقرار ابن رجب – رحمه الله – كلام الإسماعيلي حتى وفقني الله – عزّ وجلّ – بالوقوف على نحو جواب شيخي من كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وذلك في «الفتح» (1/ 593 رقم393).
قال الحافظ: قال الإسماعيلي: وحديث يحيى بن أيوب لا يحتج به – يعني: التصريح بالتحديث -، قال: لأنَّ عادة الشاميين والمصريين ذكر الخبر فيما يروونه، قلت – أي: الحافظ -: هذا التعليل مردود، ولو فتح هذا الباب لم يوثق برواية مدلس أصلاً ولو صرَّح بالسماع، والعمل على خلافه ... إلخ.
فذهب ما كان في نفسي والحمدلله على توفيقه.(1/306)
أو أنَّه يدلس تدليس التسوية، فمثلاً: الوليد بن مسلم يقول: حدّثنا الأوزاعي، وفوق الأوزاعي عنعنة بين الأوزاعي وشيخه، فبعض الطلبة يغتر ويقول: الوليد بن مسلم مدلس، وقد صرَّح بالسماع، فزالت العلة، مع أنَّ العلة موجودة فيما بين الأوزاعي وشيخه وأيضاً الذي يدلس تدليس السكوت، أو الحذف، أو القطع، مثل عمر بن علي المقدمي يقول: حدّثنا، ويسكت، ويقول: فلان؛ فلا يحتج به – وإن صرح بالسماع – أي: نحن نعتبره مدلساً وإن صرَّح بالسماع (1)، وكذلك تدليس فطر بن خليفة، في غير قوله: «سمعت» والله أعلم (2).
__________
(1) قال ابن سعد في عمر بن علي المقدمي: كان ثقة، وكان يدلس تدليساً شديداً، وكان يقول: سمعت وحدّثنا ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة، أنَّ الأعمش، «الطبقات» (1/ 29).
قال الحافظ في «طبقات المدلسين»: وهذا ينبغي أن يسمى تدليس القطع. اهـ.
هذا وقد ذكره – رحمه الله – كذلك في «مقدمة الفتح» (ص:452) عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري، أثنى عليه أحمد، وابن معين، وغيرهما، وعابوه بكثرة التدليس، وأما أبو حاتم فقال: لا يحتجّ به وأورده ابن عدي في «الكامل» ولم أرَ له في الصحيح إلا ما توبع عليه واحتجَّ به الباقون» وقد نقل هذه العبارة الشيخ الألباني – رحمه الله – في «تمام المنة» (ص:70)، ثم قال: ولم يوثقه في «التقريب»؛ فإنَّه اقتصر على قوله فيه: وكان يدلس تدليساً شديداً» اهـ.
فمثله لا يحتجُّ به ولو صرَّح بالتحديث إلا إذا توبع فكيف إذا خولف؟! اهـ.
(2) في «سير أعلام النبلاء» (7/ 32) ترجمة فطر بن خليفة.
العقيلي: ثنا محمد بن عيسى: ثنا عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدّثنا فطر، عن عطاء، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... ؛ الحديث، فقلت ليحيى بن سعيد: أقال: حدّثنا عطاء؟ قال: وما ينتفع، بقول: حدّثنا عطاء ولم يسمع منه! سمعته يقول: ثنا: أبو خالد الوالبي، قال الفلاس، ثم قدم علينا يزيد بن هارون فحدّثنا عن فطر عن أبي خالد الوالبي نفسه، ثم قال العقيلي ثنا محمد: ثنا صالح: ثنا علي، قال: قلت: ليحيى في حديث فطر خرَجَ علي وهم قيام فقال يحيى: إنَّما هو، فقال ليّ: ثنا أبو خالد الوالبي، قلت ليحيى: إنَّهم يدخلون بينهما زائدة، وابن نشيط، قال يحيى، فإنَّه أيضا قد قال لي: ثنا أبو الطفيل في حصى الجمار، ثم أدخل بعد ذلك بينهما رجلاً فيما بلغني، قلت ليحيى: فتعتمد على قوله: حدّثنا فلان ...
قال: ثنا فلان موصول؟ قال: لا، قلت: كانت منه سجيَّة؟ قال: نعم. اهـ.
وفي «فتح المغيث» قال ابن عمار: كان فطر صاحب ذي سمعت: سمعت – يعني: أنّه يدلَّس فيما عداها – اهـ (1/ 182 - 183).(1/307)
س 126: هل قول التابعي: «حدثني رجل من الأنصار» يلزم منه أن يكون ذلك الرجل صحابياً؟
ج 126: لا يلزم من ذلك أن يكون صحابياً، فقد يكون أنصارياً، وهو تابعي، وقد يكون أنصارياً بالولاء، وقد وقفت على رجل هذا حاله، في تحقيقي لـ «فتح الباري» في «سنن الدارقطني» قال التابعي فيه: ثني رجل من الأنصار، ولم يكن هذا الرجل صحابياً، وكذا في كتاب «العلل» للدارقطني، انظر السؤال السابع، فلا يلزم من ذلك الصحبة؛ لأنّنا لو جعلناه صحابياً لقلنا: إنَّ الحديث صحيح؛ لأنَّ إبهام الصحابي لا يضرُّ، والله أعلم.
س 127: متى يُضَعّف الحديث بالاضطراب، ومتى لا يُضَعَّف؟
ج 127: الاضطراب منه ما هو قادح، ومنه ما هو غير قادح، فغير القادح: مطلق الاختلاف بين الرواة، ولكي يكون قادحاً، فلا بد من توفر شرطين:
1 – تكافؤ الطرق، وهذا معناه: أن يكون المختلفون على أحد الرواة بمنزلة واحدة، فلا تستطيع أن ترجح أحد الجانبين على الآخر.
2 – تعذر الجمع بين أقوال المختلفين، وذلك يكون إذا روى أحد الجانبين الحديث سالماً من العلّة، بخلاف الآخر، أمّا إذا كان كل منهما قد سمى شيخاً ثقة؛ فيقال في مثل ذلك: حيثما دار الإسناد دار على ثقة (1).
__________
(1) في «النكت» لابن حجر (2/ 773): لأنَّ الاضطراب هو الاختلاف الذي يؤثر قدحاً.
واختلاف الرواة في اسم رجل لا يؤثر، ذلك لأنَّه إن كان ذلك الرجل ثقة فلا ضير، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه لا من قبل اختلاف الثقات في اسمه فتأمل ذلك.
هذا وقد ذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – شروط الاضطراب فقال في «هدي الساري» (ص:367): ... وإذا تقرر ذلك كانت دعوى الاضطراب في هذا الحديث منتفية؛ لأنَّ الاختلاف على الحفاظ لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين:
أحدهما: استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قدم ولا يعل الصحيح بالمرجوح.
ثانيهما: مع الاستواء أن يتعذَّر الجمع على قواعد المحدثين ويغلب على الظن أنَّ ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث ... إلخ اهـ.
وانظر «تدريب الراوي» (1/ 267) و «تمام المنة» (ص:17).(1/308)
ويمكن الجمع أيضاً إذا كان الاختلاف على شيخ مشهور بالرحلة وكثرة الحديث والمشايخ، فيقال في الاختلاف على مثل هذا: له شيخان، أو رواه على الوجهين، أو كسل فأرسل أو وقف، ونشط فأسند أو رفع، وهكذا (1).
وأمَّا الاختلاف على سيِّئ الحفظ؛ فالعهدة عليه، وينبغي ألا يُمَثل بذلك في هذا الباب؛ لأنَّ الحديث لو سلم من الاضطراب لم يصح بسبب سوء حفظ راويه، والمقصود التمثيل بحديث لولا علة الاضطراب لكان صحيحاً، والله أعلم (2).
س 128: ماذا تحكم على حديث عائشة في الذي يخرج من الخلاء ويقول: «غفرانك»؟
__________
(1) انظر ما أثبتناه في تعليقنا على السؤال رقم (16).
وانظر كذلك ما قاله الحافظ في «هدي الساري» (348) والله أعلم.
(2) انظر بعض الأمثلة على ذلك في صفحات «النكت» على ابن الصلاح للحافظ ابن حجر (2/ 773، 779، 785، 810).(1/309)
ج 128: الحديث كل طرقه تدور على يوسف بن أبي بردة حسب علمي، ويوسف بن أبي بردة لم يوثقه معتبر، إنَّما وثقه ابن حبان والعجلي (1)، وهما متساهلان، وروى عنه جماعة فالذين يضعفونه يقولون: روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق من معتبر، أي: ولم يوثقه إلا متساهل، فهذا توثيق لا يُعْتَدُّ به، ويكون مستوراً، والذين يرون أنَّه صحيح على اختلاف وجهات نظرهم في هذا: فمن قائل: الرجل إذا روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في «الثقات»، فبهذا يكون صدوقاً، أو حسن الحديث، والذي أراه في هذا الأمر: أنَّ حال يوسف بن أبي بردة لا يحتج به، لكن وقد صحح هذا الحديث جماعة من العلماء، ذكرهم شيخنا الألباني – رحمه الله – في «إرواء الغليل» (2)، ولم أعلم أحداً من أهل العلم ضعف هذا الحديث، فالنفس تطمئن إلى قبول هذا الحديث، لأن تصحيح الإمام من الأئمة لحديث ما، يكون تقوية منه لحال رواته في الجملة؟ فلماذا لا يقال: إن هؤلاء الأئمة الذين صححوا هذا الحديث، قد حسنوا من حال يوسف بن أبي بردة في هذا الحديث؟ لا سيما وأن الحديث يدور عليه؟ ومن قال: لعلَّهم صححوه لمتابعات له، قلنا: هذا أقوى، فإن وقف الأئمة على متابعات له، ونحن لم نقف عليها، وصححوا الحديث، أخذنا بقولهم، والله أعلم.
س 129: ما معنى قولهم في حديث: «لا أصل له»؟
ج 129: أحياناً يقولون في بعض الأحاديث: «لا أصل له» بمعنى: أنَّه لا إسناد له يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد يكون موقوفاً أو مقطوعاً أو حكاية، وقد يكون بمعنى لا إسناد له أصلاً (3)،
__________
(1) انظر «تهذيب التهذيب» (11/ 357).
(2) برقم (52) فقد عزا تصحيحه إلى أبي حاتم الرازي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والنووي والذهبي، وعزا غيره تصحيحه للسخاوي المؤلف.
(3) مثال ذلك قولهم: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش».
قال الشيخ الألباني في «الضعيفة» (1/ 18 رقم4): «لا أصل له» أورده الغزالي في «الإحياء» (1/ 136)، فقال: مخرجه الحافظ العراقي: لم أقف له على أصل، وقال عبدالوهاب بن تقي الدين السبكي في «طبقات الشافعية» (145 - 147): لم أجد له إسناداً.(1/310)
إنّما عرف في الكتب، واشتهر على ألسنة الأطباء، أو ألسنة القصاصين، أو على ألسنة العباد والوعَّاظ (1)، وقد يكون بمعنى لا أصل له – أي: ليس له سند صحيح -، وإن كان له أسانيد ضعيفة، لكن لا تتقوى، والذي يقرأ في الكتب التي اعتنت بالأحاديث الضعيفة، يجد هذا بكثرة، على أنَّه يجب أن يعلم أنَّهم يطلقون قولهم: «لا يصح» بمعنى: أنَّ الحديث موضوع (2)، وليراجع في ذلك «الموضوعات» لابن الجوزي و «الضعيفة» لشيخنا الألباني – رحمه الله-.
س 130: هل الاختلاف في اسم الراوي يشعر بأن الراوي غير معروف؟
__________
(1) مثال ذلك حديث: «البطنة أصل الداء، والحمية أصل الدواء ... » إلخ، قال الشيخ الألباني – رحمه الله – في «الضعيفة» رقم (252): لا أصل له، وقد أورده الغزالي في «الأحياء» مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال الحافظ العراقي في تخريجه: لم أجد له أصلاً، وأقره الحافظ السخاوي في «المقاصد الحسنة» (1035)، وقال ابن القيم في «زاد المعاد» (3/ 97): «وأمّا الحديث الدائر على السنة كثير من الناس: «الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء ... » إلخ فهذا الحديث إنَّما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قاله غير واحد من أئمة الحديث ... إلخ اهـ.
الحمية: اتّخاذ نظام معين في الغذاء أوقاتاً، وأنواعاً ومقادير، كما هو مبسوط في كتب الطب النبوي، والله أعلم.
(2) نقل ذلك الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – عن الشيخ ملا علي القاري، انظر «الضعيفة» (1/ص:139 رقم 104) وانظر مثالاً على ذلك في نفس المصدر برقم (78).(1/311)
ج 130: قد يكون الاختلاف في اسم الراوي من وهم التلميذ الذي روى عنه، بل وقد يكون الراوي عنه ثقة ضابطاً، ويخالف في اسمه، كما عُلِم ذلك عن شعبة – رحمه الله تعالى – مع كونه إماماً حافظاً، بل وهو أمير المؤمنين في الحديث، إلا أنَّه كان يهم في الأسماء (1)، وقد يكون أيضاً لقلة روايته، ولعدم اشتهاره، أو لأنَّه لم يرو عنه تلامذة أثبات، فوهموا واختلفوا، وقد يكون ذلك لكونه غير معروف (2).
س 131: ما الفرق بين رجل صدوق ساء حفظه بآخره، وبين رجل مختلط؟
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «التهذيب»:
قيل لأبي داود وقد سئل عن شعبة: هو أحسن حديثاً من سفيان، قال ليس في الدنيا أحسن حديثاً من شعبة، ومالك على قلَّته، والزهري أحسن الناس حديثاً، وشعبة يخطئ فيما لا يضره ولا يعاب عليه، يعني: في الأسماء، (4/ 345)، وفي «سير أعلام النبلاء» قال أحمد بن حنبل: كان غلط شعبة في الأسماء، اهـ من (7/ 215)، وانظر «شرح العلل» لابن رجب – رحمه الله تعالى – (ص:122 - 124).
(2) وقد سبق أنَّ هذا قد يكون لضعف الراوي فيتصرّف الرواة في اسمه حتى لا يعرف ومثاله ما قاله الخطيب في كتابه «الموضح» وقد ساق فصلاً في ابن زنبور فذكر أنَّ الرواة عنه غيّروا اسمه على سبعة أوجه، قال المعلمي – رحمه الله – في «تنكيله» (ص:432)، وهذا يشعر بأنَّ الناس كانوا يستضعفونه، لذلك كان الرواة عنه يدلسونه اهـ، والله أعلم.(1/312)
ج 131: الاختلاط يكون بعد استقامة، وكذلك التغير يكون بعد استقامة، فإذا كان كذلك فالذي تغير بآخره، والذي اختلط في آخر عمره وساء حفظه بآخره، كلها كلمات مترادفة، بمعنى: أنَّ الرجل حديثه بآخره لا يحتج به، لكن هناك فرق بين التغير والاختلاط، فالتغير أخف من الاختلاط، فالتغير كأن يهم في رجل واسم أبيه، وأمَّا الاختلاط فربّما أنَّه يذكر إسناداً مكان إسناد آخر، أو يذكر متناً مكان آخر عن وهم أو عن غفلة (1)، وعلى كل حال: فهذه الألفاظ كلها لا يحتج بأهلها، وكل هذا يدل على أنَّ حديث هؤلاء لا يحتج به في هذه الفترة، ويحتج به فيما قبل هذه الفترة – على تفاصيل في ذلك -، لكن قولهم: «فلان سيِّئ الحفظ» يدل على أنَّه من أول أمره هكذا، فحديثه كله لا يحتج به إذا انفرد، إلا أن يروي من كتبه، أو ينتقي من حديثه إمام، ونحو ذلك، والله أعلم (2).
س 132: قول أحد الأئمة: «فلان وسط» و «فلان حسن الحديث» و «فلان جيد الحديث» و «فلان صالح الحديث» فبعض أهل العلم يحسن لمن قيل فيه ذلك، فما هو الصواب؟
__________
(1) ذكر المعلّمي – رحمه الله – في «تنكيله» (ص:435، 689) أنَّ التغيّر أعم من الاختلاط وقد سبق معنا في السؤال رقم (10).
(2) قال الخطيب في «الكفاية» (332): الأصل في سيء الحفظ الضعف إلا إذا حدَّث من كتابه المتقن أو عن شيخ مُدح فيه بالحفظ فقد قال يزيد بن زريع وقد سئل عن همام؟ فقال: كتابه صالح وحفظه لا يسوى شيئاً.
هذا وقد فرّق الحافظ ابن حجر في «النزهة» (ص:138 - 139) فقال: ثم سوء الحفظ وهو السبب العاشر من أسباب الطعن، والمراد به: من لم يرجح جانب إصابته على جانب خطئه وعلى على قسمين:
- ... إن كان لازماً للراوي في جميع حالاته، فهو الشاذ على رأي بعض أهل الحديث.
- ... أو كان سوء الحفظ طارئاً على الراوي إما لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه أو عدمها، بأن كان يعتمدها، فرجع إلى حفظه فساء فهو المختلط ... إلخ.(1/313)
ج 132: قولهم: «فلان وسط» معناه: أنَّه وسط في سلم الجرح والتعديل، بمعنى: أنَّه ليس من أهل الاحتجاج، ولا من أهل الرد والترك، فيكون من أهل الشواهد؛ لأنَّك لو نظرت إلى سلم الجرح والتعديل، لرأيته ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وفي كل قسم تفاصيل (1).
القسم الأول: درجة الاحتجاج، والاحتجاج في داخل هذا القسم على نوعين: احتجاج من أعلى الدرجات، واحتجاج دونه؛ فالأول هو الصحيح، والثاني هو الحسن.
القسم الثاني: درجة الاستشهاد، وهي مرتبتان في أواخر التعديل، وثلاث مراتب في أوائل التجريح، ويستشهد بأهل هذه المراتب، ولا يحتج بهم.
القسم الثالث: درجة الرد والترك، وينقسم إلى قسمين: قسم الرد، والثاني قسم الترك، هذا سلم الجرح والتعديل بإيجاز، فإذا قالوا: «فلان وسط» فبعض أهل العلم يتبادر له أنَّه «وسط» بمعنى: أنَّه ليس بصحيح ولا بضعيف، فهو حسن، وهذا كلام خطأ؛ لأنَّهم لا يقصدون أنَّه «وسط» بين الصحيح والضعيف، إنَّما يقصدون أنَّه «وسط» بين الاحتجاج وبين الرد، فلا هو بالذي يُحتج به، ولا بالذي تُرد روايته وتُترك، فعلى هذا، فإذا قالوا: «فلان وسط»، فهو من ألفاظ الشواهد والمتابعات (2)، ويُكثر من استعمال هذا اللفظ الإمام أبو الحسن علي بن المديني – رحمه الله تعالى -.
وأما الكلمة الثانية: «جيد الحديث» و «حسن الحديث» ففرق بين قول إمام من الأئمة: «فلان حسن الحديث» وبين قوله: «هذا الحديث حسن»، فإذا حكم على حديث ما بأنَّه حسن، فهي المرتبة التي بين الصحيح والضعيف، وهي من مراتب الاحتجاج عند جمهور أهل العلم، خلافاً لأبي حاتم في بعض المواضع، ولمن نحا نحوه في ذلك (3)،
__________
(1) انظر «شفاء العليل» (ص:382).
(2) المصدر السابق (ص:141).
(3) قال السيوطي في «تدريبه» (1/ 154) كما روى عن ابن أبي حاتم أنَّه قال: سألت أبي عن حديث، فقال: إسناده حسن، فقلت: يحتج به؟ فقال: لا. اهـ.
هذا وفي «العلل» له مواضع ذكر فيها بعض الأحاديث على وجه الاعتماد ووصفها بالحسن، مما يدل على أنَّ الحسن عندهم له اعتبارات أخرى والله أعلم.(1/314)
وأما قولهم: «فلان حسن الحديث» فإنّهم يعنون بذلك أنَّ حديثه يُشْتَهَى، وأن حديثه مرغوب فيه، وذلك إما لعلو إسناده، أو لغرابته وأنَّه ليس موجوداً عند غيره، ولا يلزم من ذلك أن يكون الحديث حسناً، في منزلة الحُسْن التي بين الصحة والضعف، ولكن حُسن الحديث – هنا -؛ أي: علو الإسناد، وقد يكون عالي الإسناد، وهو ضعيف، وقد يكون حديث الراوي مرغوباً فيه؛ لأنَّ فيه فوائد وغرائب ليست عند المحدثين، وهو ضعيف (1)، وهذا يعتبر من جهل بعض المحدثين الذين يرغبون في الأسانيد – العالية وإن كانت ضعيفة – فالعبرة بما صح وثبت.
__________
(1) أطلق جماعة من المحدثين على بعض الأحاديث «الحسن» وأرادوا به الحسن اللغوي دون الاصطلاحي.
قال السيوطي في «التدريب» (1/ 162 - 163): كما وقع لابن عبدالبر، حيث روى في كتاب العلم حديث معاذ بن جبل مرفوعاً: «تعلموا العلم؛ فإنَّ تعلمه لله خشية وطلبه عبادة» الحديث بطوله، وقال هذا حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي فأراد بالحسن حسن اللفظ؛ لأنَّه من رواية موسى البلقاوي وهو كذاب نسب إلى الوضع عن عبدالرحيم العمي وهو متروك.
وروينا عن أمية بن خالد قال: قلت لشعبة تحدث عن محمد بن عبيدالله العرزمي وتدع عبدالملك بن سليمان وقد كان حسن الحديث فقال: من حسنها فررت، يعني: أنَّها منكرة.
وقال النخعي: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن ما عنده، قال السمعاني عني بالأحسن الغريب. اهـ.
أقول: وفي «بحر الدم» (ص:185 رقم 390): وقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن ابني بريدة، فقال: سليمان أحلا في القلب وكان أصحهما حديثاً وعبدالله له أشياء إنا ننكرها من حسنها وهو جائز الحديث. اهـ.(1/315)
فالمحدثون قد يطلقون حُسْن الحديث على الحديث الضعيف، كما قال أبو زرعة الرازي؛ وقد سئل عن عبدالله بن صالح الجهني كاتب الليث: «لم يكن ممن يتعمد الكذب، ولكنَّه كان يغلط، وهو عندي حسن الحديث»، انظر «النكت» (1/ 392) فتأمل كيف وصفه بالغلط، وأن الأخطاء تجري على لسانه بدون تعمد، ولكن على سبيل الوهم، ومع ذلك وصفه بحسن الحديث، مما يؤيد ما ذكرته.
وقد ذكر ابن رجب في «شرح علل الترمذي» مقالة نقلها عن الإمام أحمد – رحمه الله – قال – رحمه الله -: إذا رأيت المحدثين يقولون في حديث: لا شيء، فاعلم أنَّه صحيح، وإذا رأيتهم يقولون: هو فوائد، فاعلم أنَّه ضعيف. اهـ بمعناه (1).
__________
(1) في «شرح العلل» لابن رجب (ص:235): « ... ونقل محمد بن سهل بن عكسر عن أحمد، قال: إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريب أو فائدة، فاعلم أنّه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو ليس له إسناد وإن كان قد روى شعبة وسفيان، وإذا سمعتهم يقولون: هذا لا شيء فاعلم أنّه حديث صحيح. اهـ.(1/316)
تفسير ذلك أن المحدث يُؤْتَى بحديث مذكور بالأسانيد النازلة، وهو مشهور عند المحدثين، بل قد يكون في الصحاح، فيقول: هذا لا شيء، ليس بمعنى أنَّه ضعيف، ولكن بمعنى أنَّه موجود، وقد سبق له حفظ هذا الحديث أو كتابته، أو أن هذا الحديث عند أهل بلده مشهور، فيقول: إذا رحلتُ الآن، ورجعت إليهم بنفس الحديث الذي عنهم، أيش يجعلهم يرغبون في حديثي؟ فمن هنا يقول: لا شيء، وإذا رأيته يرغب في حديث ويمدحه، ويقول: فوائد أو فائدة فاعلم أنَّه ضعيف؛ لأنَّ بعض جهلة المحدثين يسعى إلى الأسانيد التي فيها أشياء وألفاظ غريبة، من أجل أن يقف عند المذاكرة، ويقول: عندي ما ليس عندك، ماذا عندك في الباب الفلاني؟ فيقال له: عندي كذا وكذا فيقول: وأنا عندي أحاديث ليست عندك، فخذها عني بعلو، ثم يسوقها (1)،
__________
(1) قال الخطيب البغدادي في «الكفاية» (ص:224): وأكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجووحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنباً، والثابت مصروفاً عنه مطرحاً، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة، ومحلهم، ونقصان علمهم، بالتمييز وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين، وفي «سير أعلام النبلاء» (2/ 601) ترجمة الصحابي الجليل أبي هريرة – رضي الله عنه – ذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان أنَّ أبا هريرة كان يقول إني لأحدث أحاديث لو تكلّمت بها في زمن عمر لشج رأسي، قال الذهبي: هكذا هو كان عمر – رضي الله عنه – يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث وهذا مذهب لعمر وغيره.
فبالله عليك؛ إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد بل هو غض لم يشب فما ظنّك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد وكثرة الوهم والغلط فبالحري أن نزجر القوم عنه، فيا ليتهم يقصرون على رواية الغريب والضعيف بل يروون والله الموضوعات والأباطيل والمستحيل في الأصول والفروع والملاحم والزهد، نسأل الله العافية، فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغرّ المؤمنين فهذا ظالم لنفسه جانٍ على السنن والآثار، يستتاب من ذلك فإن أناب وأقصر وإلا فهو فاسق كفى به إثماً أن يحدث بكل ما سمع وإن هو لم يعلم فليتورع وليستعن بمن يعينه على تنقية مروياته، نسأل الله العافية فلقد عمّ البلاء وشملت الغفلة ودخل الداخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون فلا عتبى على الفقهاء وأهل الكلام.
أقول: كيف لو شاهد الإمامان ما حل في عصرنا مما عمَّ وطمَّ، ورحم الله أبا نعيم الأصبهاني يوم أن قال: كنت أتعجب من قول عائشة: ...
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
لكنّي أقول:
ذهب الناس فاستقلوا وصرنا خلفاً ... في أراذل الناس النسناس
في أناسٍ نعدهم من عديد ... فإذا فتشوا فليسوا بناس
ولكن نعزي أنفسنا ببقايا الخير في هذا الزمان من علمائنا الكبار الذين نفع الله بهم البلاد والعباد فهم مصابيح الهدى وأنوار الدجا، نسأل الله أن يزيدهم رفعة وعلواً في الدارين وأن يجعلنا من أتباعهم ومن المجددين لآثارهم إنّه ولي ذلك والقادر عليه.(1/317)
ففرق بين قولهم: «فلان حسن الحديث»، وبين قولهم في حديث ما،: «هذا حديث حسن» بنحو هذا فُرِّق بين قولهم: «فلان منكر الحديث»، وبين قولهم في حديث ما: «إنَّه حديث منكر»، «ففلان منكر الحديث» أي: أنّه يقع في حديثه مناكير، أ, يروي أحاديث مناكير، وهو الذي يتحمل عهدتها، لأنَّ الخطأ منه، لكن هذا لم يكثر في حديثه، ولذلك كان الراجح أنَّ قولهم: «فلان منكر الحديث» من ألفاظ الجرح الخفيفة، وليست من ألفاظ الجرح الشديدة، إلا في بعض المواضع التي جاءت عن أبي حاتم، كما نقله عنه ابنه في «الجرح والتعديل» فأحياناً يقول: «منكر الحديث، يترك حديثه» بالرغم من أنَّه أحياناً يقول: «منكر الحديث جداً، يكتب حديثه ولا يترك»، فعلى كل حال إنَّ قولهم: «منكر الحديث» الراجح فيه أنَّه من ألفاظ الشواهد والمتابعات (1)، إلا أن تظهر قرينة تدل على خلاف ذلك، فيعمل بها في موضعها، ويدلك على هذا – أيضاً – أنَّ العلماء لما تكلّموا عن قول البخاري: «فلان منكر الحديث» قالوا: معناه عند البخاري: أنَّه لا تحل الرواية عن هذا الرجل، ولكن البخاري لطيف العبارة في التجريح، وهذه الكلمة عنده من الجرح شديد.
__________
(1) سبق ذلك مفصلاً في السؤال رقم (19) فليراجع.(1/318)
وهنا وقفة؛ ما معنى قولهم: إنَّ البخاري لطيف العبارة في التجريح، ولكن هذا اللفظ عنده جرح شديد؟ هذا يدل على أنّه أتى بهذا اللفظ الذي غيره يستعمله في الجرح الخفيف، وتكلّم به في الجرح الشديد، ولو كانت لفظة «منكر الحديث» عند غيره بمعنى: لا تحل الرواية عنه، فما معنى قولهم: إنَّ البخاري لطيف العبارة في التجريح؟ لكن قول العالم: «هذا الحديث منكر» لا يقوله إلا إذا جمع الطرق، ورأى أن أحد رواته الذي لا يُقْبل تفرده، روى الحديث على وجه يخالف الثقات، أو يخالف من هو أوثق منه، وحكمه عليه بأنَّه حديث منكر؛ معناه: أنَّه لا يستشهد به بعد ذلك، وقد تطلق النكارة على غير هذا، فالرجل الذي يقال فيه: «منكر الحديث» – بالمعنى السابق – يستشهد به، والحديث الذي يقال فيه: «حديث منكر» لا يصلح في الشواهد والمتابعات (1)، وما قيل في «حسن الحديث» يقال في «جيد الحديث» (2)،
__________
(1) نصَّ على ذلك الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – كما في مسائل ابن هانئ (2/ 197 رقم 1925)؛ فقد سأله إسحاق بن إبراهيم، ترى أن نكتب الحديث المنكر، قال: المنكر أبداً منكر، قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليهم في وقت كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً، وانظر «شرح علل الترمذي» (1/ 385).
(2) قال المؤلف في كتابه «الشفاء» (1/ 141): «فلان جيد الحديث» إن كان بمعنى: أنّه ينتقي، وحديثه سالم من العلل فمكانه في الثانية من مراتب التعديل وإن كان بمعنى أنَّ سماعه صحيح من مشايخه، فليس فيه إشارة إلى قوة أو ضعف من حيث الرواية، وإن كان بمعنى: أنَّ عالي الإسناد ورجاله قد اشتهروا ومتونهم مشهورة، وغير ذلك من أسباب جودة الحديث ومن الأمور التي يتنافس فيها المحدثون فهذا ليس فيه تقوية لحاله في الرواية، أو توهين ونحو ذلك قولهم: «فلان حسن الحديث». إلخ اهـ ..(1/319)
وقولهم: «صالح» من ألفاظ الشواهد أيضاً، كما صرح بذلك بعض العلماء الذين صنفوا في علوم الحديث، والله أعلم (1).
س 133: ذُكِرَ عن الترمذي في تعريفه للحديث الحسن لغيره، أنَّه قال فيه: «أ، لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ... إلخ»، فكيف هذا الشرط؟ (2)
ج 133: اشترط ألا يكون راويه متهماً بالكذب، فيه توسع غير مقصود، وذلك أنَّ بعض الرواة لم يصلوا إلى منزلة التهمة بالكذب، ومع ذلك لا يستشهد بهم، مثل أهل المرتبة الرابعة من مراتب الجرح، كقولهم: «ليس بشيء» و «ارم به» وغير ذلك، فلا بد من التقييد في ذلك بمن ضعفهم ينجبر بالشواهد والمتابعات، والله أعلم. (3)
س 134: ما حال محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري؟
__________
(1) انظر «التقييد والإيضاح» (ص:161 - 162) و «فتح المغيث» (1/ 365) وقد ذكر السخاوي أنَّ قولهم: «صدوق»، وقولهم: «صالح الحديث» عند ابن مهدي بمعنى، لكن اعترض عليه الصنعاني بأن ابن مهدي جعل القول الثاني منحطاً عن رتبة ليس به بأس، قال ابن الصلاح: وقد جاء عن أبي جعفر محمد بن سنان أنّه قال: كان عبدالرحمن بن مهدي ربّما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث. اهـ وانظر «الكفاية» للخطيب (60).
(2) قال الإمام محمد بن عيسى في كتاب «العلل من جامعه» (5/ 758): وما ذكرنا في هذا الكتاب: «حديث حسن» فإنَّما أردنا به حسن إسناده، عندنا كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً، أو يروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن.
(3) قال السخاوي – رحمه الله تعالى – في «فتح المغيث»: ما اتّهم بكذب، فيشمل ما كان بعض رواته سيء الحفظ ممن وصف بالغلط، أو الخطأ، أو مستور لم ينقل فيه جرح ولا تعديل، وكذا إذا نقلا ولم يترجح أحدهما على الآخر أو مدلساً بالعنعنة أو مختلط بشرطه لعدم منافاتها اشتراط نفي الاتهام بالكذب (1/ 80).(1/320)
ج 134: محمد بن حميد الرازي اختلف فيه أهل العلم: فأصحاب بلده اتهموه وكذبوه، وهم أبو حاتم وأبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة، تكلّموا فيه بجرح شديد، وغيرهم وثقوه، ومعلوم أنَّ هل بلد الرجل أعلم به، وأنا أميل إلى أنَّه مجروح جرحاً شديداً، ولا يستشهد بحديثه؛ لأنَّ بلدي الرجل أعلم به، وإن قيل: إنَّ أبا حاتم متشدد، فأبو زرعة معتدل، لكن إذا كان الراوي قد اختلف أهل بلده فيه، ووثقه أو ضعفه الغرباء، ففي هذه الحالة نرجع إلى قاعدة الجرح مقدم على التعديل إذا كان مفسراً، أما وأهل بلده يضعفونه ويتهمونه، ويقولون فيه هذه المقالات الشنيعة، ومع ذلك نأخذ كلام الغرباء؟! كلا، فلعله تزين للغرباء بأحاديث صحيحة، مما جعلهم يحسنون الظن به، أما أهل بلده الذين يعرفونه، وليس بينه وبينهم عداوة، فهم أعلم به، والله أعلم (1).
__________
(1) محمد بن حميد بن حيان التميمي الحافظ أبو عبدالله الرازي.
قال أبو نعيم بن عدي: سمعت أبا حاتم الرازي في منزله وعنده ابن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم فذكروا ابن حميد فأجمعوا على أنّه ضعيف في الحديث جداً، وأنّه يحدث بما لم يسمعه، وأنّه يأخذ أحاديث أهل البصرة والكوفة فيحدث بها عن الرازيين، ونقل عمرو البرذعي عن أبي حاتم أنَّه قال فيه: هذا كذّاب لا يحسن أن يكذب.
وقال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومى بإصبعه إلى فمه، فقلت له: كان يكذب، فقال برأسه: نعم، فقلت له: كان قد شاخ لعله كان يعمل عليه ويدلس عليه، فقال: لا بني، كان يتعمّد، وقال ابن وارة: كذاب، وقال فضلك الرازي – وهو الفضل بن عباس الرازي – الإمام الحافظ صاحب «التصانيف»: عندي عن أبن حميد خمسون ألف لا أحدث عنه بحرف ...
قلت: وهذا كلام الرازيين فيه وأمّا الغرباء فمنهم من ضعّفه، ومنهم من وثّقه فمن الذين ضعفوه الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – فقد قال فيه: «في حديثه نظر»، وهذا اللفظ يدل على الغفلة الشديدة.
وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة، وقال صالح بن محمد الأسدي: كان كلّما بلغه عن سفيان يحيله على مهران وما بلغه عن منصور يحيله على عمرو بن أبي قيس ثم قال: كل شيء كان يحدّثنا ابن حميد كنّا نتّهمه فيه، وقال في موضع آخر كانت أحاديثه تزيد وما رأيت أحدا أجرأ على الله منه كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه على بعض، وقال: ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد كان يحفظ حديثه كله، وقال ابن خراش: ثنا ابن حميد، وكان والله يكذب، وروى غنجار في «تاريخه» أن أبا زرعة سئل عنه فقال: تركه محمد بن إسماعيل فلما بلغ ذلك البخاري، قال: بره لنا قديم، وقال البيهقي: كان إمام الأئمة يعني: ابن خزيمة لا يروي عنه، وقال النسائي: ابن حميد كذاب ... إلخ ما قاله المجرحون.
أمّا عن أقوال من وثّقه:
فقد قال ابن خيثمة: سئل ابن معين فقال: ثقة لا بأس به رازي كيس، وجاء عنه أنَّ هذه الأحاديث التي يحدث بها ليس هو من قبله إنَّما هو من قبل الشيوخ الذين يحدث عنهم، وقال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: ابن حميد ثقة كتب عنه يحيى ويروى عنه ... ، وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: لا يزال بالري علم ما دام محمد بن حميد حياً، وقال الخليلي: كان حافظاً عالماً بهذا الشأن رضيه أحمد ويحيى.
أقول: ومن نظر في هذه الأقوال تبين له شدة ضعف ابن حميد، وذلك لوجوه:
أولاً: تكذيب أهل بلده له، وكما قال المؤلف – حفظه الله تعالى – أنَّ أهل بلد الرجل أعلم به من غيره.
الأمر الثاني: أنَّ هذا التجريح لم يكن كله بالتجريح المبهم، حتى يقال: التعديل يقدم على الجرح المبهم، بل جاء مفسراً في أكثر المواضع كما نقل عن أبي حاتم وأبي رزعة وغيرهم من الأئمة ولا شك أنَّ الجرح المفسر مقدم على التعديل.
الأمر الثالث: أنَّ قول المجرحين من أهل بلده ومن الغرباء لا يعارض بقول المعدلين وذلك لما تقدّم من أنَّ الجرح المفسّر مقدّم على التعديل، وأنَّ الذين جرحوه هم جمع غفير من الأئمة يفوق أضعاف عدد المعدّلين بكثير فترجح كفتهم على كفة من عدّله.
الأمر الرابع: أنَّ من نظر في كلام المعدلين ومنهم على سبيل المثال الإمام أحمد يجد كلامه ليس بصريح في التعديل بل يشعر أنَّ أحمد لم يعرفه المعرفة التامة التي تؤهله إلى الحكم عليه وقد صرّح بذلك ابن خزيمة – رحمه الله تعالى – فقد قال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة: لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه فقال: إنّه لم يعرفه ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً، وهذا صريح فيما أردناه والله المستعان، وأمّا عن توثيق ابن معين له، فقد شهر عن ابن معين – رحمه الله تعالى – توثيق بعض من لم يعتد بهم كابن حميد هذا، فقد ذكر ابن الجنيد أنّه سأل ابن معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال: «ما كان به بأس» فحكى له عنه أحاديث نستنكر، فقال ابن معين: «فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو كذاب، وإلا فإنّي رأيت حديث الشيخ مستقيماً، قال المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» (ص:256): وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً، أو ورد بغداد شيخ فسمع منه مجلسًا فرأى تلك الأحاديث مستقيمة ثم سئل عن الشيخ؟ وثقه وقد يتّفق أن يكون الشيخ دجالاً استقبل ابن معين بأحاديث صحيحة ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك اهـ.
قلت: وكلام ابن معين معتبر عندنا إلا في مثل هذه الحالة فإنّه يحتمل فيه ما نقلنا عن المعلمي – رحمه الله تعالى -.
وخلاصة الأمر: ما قاله علامة القطر اليماني المعلمي – رحمه الله تعالى -: أنَّ الراوي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعناً شديداً لا يزيده ثناء الغرباء عليه إلا وهناً، لأنَّ ذلك يشعر بأنّه كان يتعمد التخليط فتزين لبعض الغرباء واستقبله بأحاديث مستقيمة فظن أنَّ ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه وعرف أهل بلده حقيقة حاله.
قلت: وهذه حال ابن حميد هذا فكيف وقد عضد قولهم بقول غيرهم ممن ليس من محدثي بلدهم، والله أعلم.
وراجع ترجمة ابن حميد في المصادر الآتية: «الجرح والتعديل» (7/ 232) «الضعفاء» للعقيلي (4/رقم 733)، «الكامل» (6/ 2277 - 2278)، «المجروحين» لابن حبان (2/ 303 - 304)، «تاريخ بغداد» (2/ 256 - 294)، «تهذيب الكمال» (25/ 97 - 108)، «ميزان الاعتدال» (3/ 530)، «سير أعلام النبلاء» (11/ 503 - 506)، «تاريخ الإسلام» «وفيات سنة ثمان وأربعين ومائتين»، «تهذيب التهذيب» (9/ 127 - 131). اهـ.(1/321)
س 135: هل يجوز العمل بالحديث الضعيف؟
ج 135: إن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نعبده بما شرع لنا، وبما أرسل به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والأحاديث الضعيفة لا يُتَعبَّد بها.
فالعلم قال الله قال رسوله إن صح والإجماع فاجتهد فيه
فالأحاديث الضعيفة – لا سيما في هذا الزمان – ضررها شديد؛ فإننا نرى كثيراً من الخطباء والوعاظ وأصحاب المنابر، يتكلمون بالأحاديث الضعيفة والمنكرة والباطلة، محتجين بأن بعض أهل العلم رخص في العمل بالأحاديث الضعيفة، في فضائل الأعمال، وفي الحقيقة مع أنَّ هذا القول غير راجح، إلا أنَّهم لم يلتزموا بالشروط التي ذكرها أهل هذا القول في رواية الأحاديث الضعيفة؛ فإنَّهم اشترطوا أن لا يكون الحديث ضعيفاً ضعفاً شديداً، واشترطوا أيضاً أن يكون له أصل، أو قاعدة كلية يندرج تحتها، وزاد الحافظ ابن حجر؛ أنَّه لا يُشْهرَ ذلك كي لا يُعْتَقَد أنَّه سُنة، كما في «تبيين العجب»، ولا يكون في العقيدة والأحكام، وأن يُعتقد عند العمل به ضعفه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – المقصود باندراج هذا الضعيف تحت أصل عام، وذلك بأن يكون الحكم الذي تضمنه هذا الحديث الضعيف، بعينه ثابتاً من وجه آخر صحيح أو حسن، وانفرد الحديث الضعيف بذكر ثواب أو عقاب لهذا الفعل، فذكر هذا يُشَوِّق النفس للعمل أو يرهبها، وبيّن – رحمه الله -، أنَّ الحديث الضعيف لا يثبت به حكم الاستحباب بمفرده؛ لأنَّه قول على الله بغير علم، ولا تثبت به عبادة بهيئة معينة – وإن كان في فضائل الأعمال -، إلى آخر ما بينه – رحمه الله – من قيود لهذه القاعدة، انظر «الفتاوى» (18/ 65 - 66) ومقدمة «صحيح الترغيب والترهيب» و «تمام المنة» و «صحيح الجامع» لشيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – ومتع به.(1/322)
فبعض الناس يفهم خطأُ، كبعض الصوفية الذين يخترعون بعض الأذكار أو الأوراد، ويتعبدون الله – سبحانه وتعالى – بأذكار ما أذن الله بها، ولا أذن بها رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا نهيتهم قالوا: إنَّ هذا يندرج تحت آية عامة، فإن الله قد مدح الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والأمر ليس كذلك، فلا بد وأن يكون لهذا الأمر بعينه أصل في السنة، وإلا فمن الممكن أن أي إنسان يبتدع بدعة في الدين، ويدخلها تحت قاعدة عامة، فمثل هذه الاستحسانات المجردة عن الدليل، تجدها عند الخطباء الذين يدندنون بأحاديث لا أصل لها ولا خُطُم ولا أزِمّة، وهذا من شؤم الأحاديث الضعيفة، ومن شؤم هذه القاعدة التي أخذوا بها، وتركوا الأحاديث الصحيحة، وذهبوا إلى الأحاديث الضعيفة والقصص والمنكرات، وقصدهم في ذلك جمع العامة حولهم بالقصص والمنكرات، فأنا أنصح طالب العلم ألا يُشْغِل نفسه بحديث ضعيف، لكن لا يتسرع في الحكم عليه بأنَّه حديث ضعيف، فعليه أن يتثبت، ويرجع إلى الكتب والمراجع التي هي مظنّة هذا الحديث، فإذا تبين له أنَّ هذا الحديث ضعيف، فإنَّه ينبذه نبذ النواة، فلا يقبله ولا يعمل به، ويحذِّر من العمل به، ويبيَّنه للناس، ونجد بعض الناس يقول: أنا ذكرته عند العامة بصيغة التمريض، كقوله: «رُوي أو ذُكر أو قيل» والعامة مساكين لا يعرفون التمريض ولا الجزم، فهذا من التلبيس على الناس والتدليس – والعياذ بالله -؛ لأن فاعل ذلك يقصد شيئاً، والناس يفهمون شيئاً آخر، فالواجب على طالب العلم من باب النصح لله ولرسوله وللمؤمنين أئمتهم وعامتهم: أن يبين أنَّ هذا حديث ضعيف، والعامة – بل – وكثير من الخاصة أصبحت هممهم قاصرة تُجاه الأحاديث الثابتة، وعندهم رغبة في الأحاديث الضعيفة، ويجتمع الجموع من الناس فيسمعون هذه القصص الساقطة، ويهزون رؤوسهم، بل ويبكون، وهذا كله من كيد الشيطان، والمشتغل بذلك ما معه شيء، وعلمه مثل السراب، يحسبه الظمآن ماءً، حتى(1/323)
إذا جاءه لم يجده شيئاً، فهو يظن أنَّ معه علماً كثيراً، ويغتر بالتفاف العامة حوله، فإذا به عند الحاجة إليه، وعند طلب الدليل منه على كيفية عبادته، أو على فتواه، فلا تجد معه إلا القصص والمرسلات والمقطوعات والحكايات التي لا يقوم لها أصل، ولا يُرفع بها رأس.
ووراء ذلك أمر آخر وهو: هل نحن انتهينا من العمل بالأحاديث الصحيحة؟! هل نحن استوعبنا الأحاديث الصحيحة، وعملنا بكل ما فيها، وأتقنّاها، وما بقي إلا أن نذكر الأحاديث الضعيفة في باب الفضائل وباب المناقب، وغير ذلك (1)؟! ومن أودية الأحاديث الضعيفة المغازي والسير، والمناقب والملاحم والفتن، كما قال الإمام أحمد (2) – رحمه الله -، ومسألة التفرقة بين الأحكام والفضائل: فيها نظر، فالأحكام المعروفة عند أهل الأصول خمسة: الواجب والحرام والمكروه والمستحب والمباح.
__________
(1) قال الخطيب في «الكفاية» (ص:212): وبسنده إلى عبدالرحمن بن مهدي: لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة أحاديث الضعفاء فإن أقل ما فيه أن يفوته بقدر ما يكتب من حديث أهل الضعف يفوته من حديث الثقات. اهـ.
قلت: وإذا كان هذا في الكتابة فمن باب أولى في الرواية، والله أعلم.
قال المؤلف: ولا يلزم من ذلك أن يكون كلام ابن مهدي منزلاً على أهل الضعف الخفيف. اهـ.
(2) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «لسان الميزان» (1/ 13): وقال الإمام أحمد ثلاثة كتب ليس لها أصول وهي: المغازي والتفسير والملاحم، قال الحافظ: قلت: ينبغي أن يضاف إليها الفضائل فهذا أودية الأحاديث الضعيفة، والموضوعة إذا كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي «الملاحم» على الإسرائيليات، وأمَّا الفضائل فلا تحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية وبفضائل الشيخين وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنها. اهـ.(1/324)
وما من حديث ضعيف، إلا وفيه حكم من هذه الأحكام، فأين الأحاديث التي لا تتصل بباب الأحكام؟ وإن كانوا يقصدون بباب الأحكام باب الصلاة والزكاة والبيوع والنكاح والطلاق ونحو ذلك، فيقال لهم: والأبواب الأخرى فيها أحكام أيضاً.
وقد دخل البلاء على أهل البدع بسبب العمل بالأحاديث الضعيفة، وتوسعهم في ذلك، فأنصح كل طالب علم أن يُقبل على العلم النافع، وأن يشمر عن ساعديه في حفظ الأحاديث الصحيحة، وفي البحث عنها، وفي القراءة فيها، فإنَّها كنوز في بطون هذه الكتب، وبعد ذلك إذا ملأ جَعْبَته من الأحاديث الصحيحة؛ فإنَّه إن شاء الله سينفر بطبعه وسجيَّته من الأحاديث الضعيفة، ولا يُقبل عليها، أقول ذلك وأدري: أنَّ من أهل العلم من رخص في رواية الضعيف بتلك الشروط، بل من كبار أهل العلم مثل الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وغيره من رخَّصوا في ذلك (1)، لكن كما قلت من قبل: إنَّ المسائل الخلافية، نُحَكِّم فيها القواعد، وننظر فيها إلى المصالح والمفاسد، وأيضاً فالذين يحتجون بهذه القاعدة ما وقفوا عند ضوابطها، مما أدى إلى فساد عظيم، والعلم عند الله تعالى.
س 136: إذا سكت أبو حاتم على الراوي في كتاب «الجرح والتعديل» هل يكون مجهول الحال؟
__________
(1) انظر «الكفاية» (ص:212 - 213).(1/325)
ج 136: أولاً كتاب «الجرح والتعديل» هو لابن أبي حاتم، وهو في هذا الكتاب يسأل أباه وأبا زرعة، وتأتيه أقوال عن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما بواسطة عبدالله بن أحمد وغيره، فإذا ذكر الرجل، وذكر تلامذته وشيوخه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فقد بيّض له؛ عسى أن يقف على كلام فيه، فيلحقه به، كما نص على ذلك في المقدمة (1)، وقد فهم بعض المشايخ المعاصرين أن سكوت ابن أبي حاتم عليه، يكون توثيقاً (2)، ولكن ردَّ عليه بعضهم، وبيّن أن المسكوت عليه عند أبي حاتم، أو في كتاب الجرح والتعديل، ليس معناه أنَّه ثقة عنده، والسبب في ضعف هذه القواعد راجح إلى عدم الاستقراء التام.
__________
(1) قال ابن أبي حاتم في بيان منهجه في كتابه «الجرح والتعديل»: « ... على أنّا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم فنحن ملحقوها بهم بعد – إن شاء الله تعالى – اهـ. (2/ 38).
ولذلك قال الحافظ ابن كثير في ذكره لموسى بن جبير الأنصاري السلمي – مولاهم -: « ... وذكره ابن أبي حاتم في كتاب «الجرح والتعديل» ولم يحك فيه شيئاً من هذا ولا هذا «فهو مستور الحال» «تفسير القرآن العظيم» (1/ 138) وفي «ذيل ميزان الاعتدال» للعراقي ترجمة مهدي بن عيسى أبي الحسن الواسطي.
قال ابن القطان: مهدي هذا لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً، فهو عنده مجهول الحال، وفي «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 390 رقم 1130).
قال ... ذكر هذا الخلاف فيه البخاري ولم يعرِّف هو ولا ابن أبي حاتم من حاله بشيء فهي عندهما مجهولة. اهـ.
(2) ممن يذهب إلى تلك القاعدة من المعاصرين، الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كما في تحقيقه على «الرفع والتكميل» الطبعة الثالثة (230 - 248).(1/326)
فأنا أنصح كل من أراد أن يدعي قولاً، أو يقعد قاعدة: أن يبذل الوسع في مطالعة كلام الأئمة، لأنَّ القواعد كما يقول أهل العلم: يُسْتَدل لها، ثم يُستدل بها.
فالصواب أن نقول فيمن كان هذا حاله: أورده ابن أبي حاتم في كتاب «الجرح والتعديل»، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ثم ننظر إلى عدد الرواة عنه، فإن كانوا عدداً ترتفع بهم الجهالة، رفعنا جهالة العين إلى جهالة الحال، وإلا بقي على جهالة العين، وإن ارتفع عن جهالة العين، فلا يلزم منه توثيق، ويبقى على جهالة الحال، حتى يُذكر فيه توثيق أو تجريح، والله أعلم (1).
س 137: إذا جاء الحديث موصولاً، وفيه ضعف ينجبر، وجاء مرسلاً صحيحاً، فما درجته؟
__________
(1) ممن ذهب إلى ذلك ونصره علامة عصرنا ومجدد قرننا الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى – في «الضعيفة» (1/ 312 - 313).
فقد ذكر كلام ابن خزيمة في عمرو بن حمزة القيسي، وقوله فيه: «لا أعرفه بعدالة ولا جرح وتعقب ابن المنذر له بقوله: قد ذكرهما ابن أبي حاتم ولم يذكر فيهما جرحاً، قال الشيخ: فكان ماذا؟ فإنَّ لم يذكر فيه توثيقاً أيضاً، فمثل هذا أقرب إلى أن يكون مجهولاً عند ابن أبي حاتم من أن يكون ثقة عنده وإلا لما جاز له أن يسكت عنه ويؤيد هذا قوله في المقدمة: على أنّا ... إلخ ثم قال: فهذا نص منه على أنّه لا يهمل الجرح والتعديل إلا لعدم علمه بذلك، فلا يجوز أن يتخذ سكوته عن الرجل توثيقاً منه له، كما يفعل ذلك بعض أفاضل عصرنا من المحدثين اهـ.
قال عداب الحمش في كتابه «رواة الحديث» (124) ويقصد ببعض أفاضل العصر الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى – فإنّه يذهب هذا المذهب أحياناً. اهـ.(1/327)
ج 137: إذا كان موصولا فيه ضعف، وجاء مرسلاً صحيحاً، فالحديث يحسن بذلك، لكن لا بد من معرفة مخرج الحديثين، هل هو مخرج واحد، أم مختلف؟ فيُنظر إلى الطريق التي نعدّها متابعة للطريق الأخرى، فهل هي من نفس المخرج؟ أم أنَّها من طريقين مختلفين؟ فإن كانتا من جهتين مختلفتين: فهذه تقوي تلك (1)، أمّا إذا كان المخرج واحداً؛ فيُحكم للراجح، كما سبق ذلك، فقد يُحكم على ذلك بعلة الحديث، ولا تكون هذه الطرق نافعة بل تضر (2)، لذا فأنصح بالتنبه لذلك، فإني قد رأيت بعض المشتغلين بالتحقيق، من لا يفرق بين الطريق التي تكون متابعة ومقوية للطريق الأخرى الضعيفة، وبين الطريق التي تعلها وتزيدها ضعفاً، والله المستعان.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في رسالته: القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، قال – رحمه الله – معلقاً على الأحاديث: في رواية هذا الحديث من لا يعرف حاله إلا أنَّ كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة، والله أعلم اهـ. من (ص:89)، ومن كلام الحافظ – رحمه الله تعالى – يظهر أنَّ الحديث الضعيف لا يكون حسناً إلا إذا كثرت الطرق واختلفت المخارج، وليس هذا على إطلاقه، وذلك لأنَّ الضعف يتفاوت فمنه ما لا يزول بالمتابعات كرواية الكذابين أو المتروكين ونحوهم، والشاهد من نقل كلام الحافظ – رحمه الله تعالى – هو اشتراط اختلاف المخارج كما نبه على ذلك المؤلف – حفظه الله تعالى – والله أعلم.
(2) قال ابن دقيق العبد – رحمه الله تعالى -: المعروف عندهم أن الطريق إذا كان واحداً، ورواه الثقات مرسلاً، وانفرد ضعيف برفعه؛ أن يعللوا المسند بالمرسل، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف. فإذا كان ذلك موجباً لضعيف المسند، فكيف يكون تقوية له. اهـ من «نصب الراية» (3/ 8).
وفيه كذلك (1/ 98) قال «الزيلعي» وتقديم إرسال الأحفظ على إسناد من دونه مشهور في الأصول. اهـ.(1/328)
س 138: هل سكوت الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – على حديث في «الفتح» أو «التلخيص الحبير» يدل على صحة الحديث أو حسنه عنده؟
ج 138: أما من ناحية «الفتح» فقد صرح الحافظ – رحمه الله – في المقدمة بأنَّه سيشرح «الصحيح» ويذكر الزيادات التي أخرجها أصحاب كتب السنة، فالذي يتكلّم عليه فذاك حكمه، وما سكت عنه فهو شريطة الصحة أو الحسن، هكذا صرح الحافظ في بداية «هدي الساري» (1)،
__________
(1) أقول: شرط الحافظ – رحمه الله تعالى – مقيد فيما كان زيادة في بعض طرق الحديث الذي أصله في الصحيح وليس المقصود بذلك كل ما يورده من أحاديث مستدلاً بها لأهل المذاهب الفقهية وغيرها.
ويظهر ذلك من شرطه – رحمه الله تعالى – مقيد فيما كان زيادة في بعض طرق الحديث الذي أصله في الصحيح وليس المقصود بذلك كل ما يورده من أحاديث مستدلاً بها لأهل المذاهب الفقهية وغيرها.
ويظهر ذلك من شرطه – رحمه الله تعالى – في «هدي الساري» (ص:4): «في قوله: فإذا تحررت هذه الفصول وتقررت هذه الأصول فتحت شرح الكتاب مستعيناً بالفتّاح الوهاب فأسوق – إن شاء الله – الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم أستخرج ثانياً ما يتعلّق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع، من شيخ اختلط قبل ذلك: منتزعاً كل ذلك من أمَّهات المسانيد والجوامع والمستخرجات، والأجزاء والفوائد بشرط الصحة، أو الحسن. فيما أورده من ذلك ... إلخ.
ومع التأمل يتَّضح أنَّ شرط الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ليس في كل ما يورده في «الفتح»؛ إنّما هو خاص بالفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات على أصل الحديث الذي في الصحيح وقد أخذت واستفدت هذه الفائدة في أثناء دراستي مع شيخنا الفاضل أبي الحسن – حفظه الله تعالى – وقال – حفظه الله – أيضاً في أثناء تدريسه لنا: ومع هذا التقييد لما فهمناه من قبل، أي: الإطلاق الوارد في جوابه على سؤال السائل، لم يوف الحافظ – رحمه الله تعالى – بشرط أيضاً ففي حديث: «من استجمر ليوتر»، قال وزاد أبو داود: «ومن لا فلا حرج» وهي زيادة حسنة الإسناد، مع أنّه – رحمه الله – قد ترجم لاثنين من رواته بالجهالة اهـ.
أقول: وكما نبّه الشيخ – حفظه الله تعالى – فقد ذكر الحافظ هذه الزيادة في «التلخيص الحبير» (1/ 113) قال ومداره على أبي سعد الحيراني الحمصي وفيه اختلاف وقيل: أنَّه صحابي ولا يصح.
قلت: وفي «التقريب» ترجم له بمجهول، قال الحافظ: والراوي عنه حصين الحيراني، وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ وذكره ابن حبان في «الثقات»، قلت: وكذلك حكم عليه كشيخه بالجهالة في «التقريب» والله أعلم. اهـ.
أقول: هذا وقد نقل المباركفوري – رحمه الله – في «تحفة الأحوذي» (2/ 90) كلام الحافظ السابق ثم قال فقوله: «بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك يدل على أنَّ حديث وائل وكذا حديث هلب الطائي عنده صحيح أو حسن فتفكر!.
أقول: ويفيد كلام المباركفوري بالتقييد السابق الذي ذكره شيخنا – حفظه الله تعالى – والله أعلم، وممن ذهب إلى ذلك أيضاً، التهانوي كما في «قواعد في علوم الحديث» (ص:89)، قال: ما ذكره الحافظ من الأحاديث الزائدة في «فتح الباري» وسكت عنه فهو صحيح أو حسن عنده كما صرّح به في «مقدمته» اهـ.(1/329)
وهذا مقيد بما يذكره من تتمات إسنادية ومتنية لحديث الباب، وليس المقصود بذلك كل ما يورده من أحاديث يُستدل بها للمذاهب الفقهية وغيرها، لكن الحقيقة، أنَّه – رحمه الله – ما وَفَّى بذلك، وأكبر شاهد على ذلك ما بان لي في عملي في المجلد الأول من «الفتح»، فقد بان لي أحاديث كثيرة سكت عنها، وهي ضعيفة، بل أحاديث صرَّح بحسنها، وهي ضعيفة، وأحاديث صرح بأنَّها على شرط مسلم، مع هذا فهي شاذة، كما في زيادة التسمية عند دخول الخلاء في حديث أنس، فزيادة التسمية هنا ضعيفة شاذة، وقد جمعت طرقها وتكلَّمت عليها في تحقيقي للفتح «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» وشيخنا الألباني – رحمه الله – حكم عليها أيضاً بالشذوذ، إلا أنَّ شيخنا الألباني – رحمه الله – اعتبر لها شاهداً من حديث آخر: «ستر ما بين عورة بني آدم وأعين الجن؛ إذا دخلوا الخلاء أن يقولوا: بسم الله» هذا ما قوي به الحديث السابق شيخنا الألباني – رحمه الله – في «إرواء الغليل» وفي «تمام المنة» لكن الحديث لا يرتقي للقوة، فبقيتُ على أنَّ البسملة في دخول الخلاء شاذة، فهذا دليل من الأدلة التي فيها تصريح الحافظ ابن حجر بالصحة أو الحسن، ولم يسلم له بذلك، وكثير الأحاديث التي سكت عنها لم يُسَلَّم له بذلك، وأمّا عن «التلخيص» فلم أقف على شرط له فيه، وفيه أحكام على أحاديث ورجال، ينازع فيها (1)،
__________
(1) قال الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – في «رسالة مناسك الحج والعمرة» (ص:34): « ... وقد قواه ابن القيم في «التهذيب» والحافظ ابن حجر في «التلخيص» بسكوته عليه ... إلخ اهـ.
وقال التهانوي في «قواعد في علوم الحديث» (ص:89) وكذا سكوت الحافظ عن حديث في «التلخيص الحبير» دليل على صحته أو حسنه فإن الشوكاني – رحمه الله – ربّما يحتج بسكوته في «التلخيص» أيضاً كما يحتج بسكوته في «الفتح» يظهر ذلك بمراجعة «نيل الأوطار» وقد ذكر أبو غدة أمثلة على ذلك مجمل هذه الأمثلة أنَّ الشوكاني يورد الحديث ثم يقول سكت عليه الحافظ وليس في ذلك دلالة على ما ذهبا إليه والله أعلم.(1/330)
والله أعلم.
س 139: ذكر بعض العلماء كما في «تدريب الراوي» في آخر الكلام على الحديث المقلوب، أنَّ الحديث المرسل أحسن من الحديث المدلّس، فما وجه ذلك؟
ج 139: لو نظرنا إلى الفرق بينهما من جهة الاتصال وعدمه، فالمدلَّس أحسن حالاً من المرسل (1)، لأنَّ التدليس انقطاع خفيف، بل هو مظنّة انقطاع، ونحن حين نقف في عنعنة المدلس؛ لا لجزم بأنَّه لم يسمع هذا الحديث بعينه من شيخه، بل لريبة في أنفسنا من عنعنته، أو من الصيغة المحتملة التي أتى بها المدلِّس، أما المرسل فهو ما أضافه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر من حدّثه بذلك؛ لأنَّه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطعاً، فهو انقطاع جلي، لكن لو نظرنا إلى هذا الأمر المسؤول عنه من جهة أخرى، وهي الأسباب التي تحمل المدلسين على التدليس، والأسباب التي تحمل المرسِلين على الإرسال، لعلمنا صحة ما قاله هؤلاء العلماء (2)، فالمدلسون غالباً لا يدلسون إلا لجرح في مشايخهم، وأمّا المرسِلون فقد يرسلون؛ لأنَّهم في مجلس وعظ أو مناظرة أو غير ذلك، وقد ذم الأئمة التدليس ولم يذموا الإرسال، لما سبق ذكره من الإيهام الحاصل في التدليس، بخلاف الإرسال، والله أعلم.
س 140: ألا يصح أن يقال جواباً على السؤال السابق: إن المرسل في طبقة القرون المفضلة ولذلك قدِّم على المدلس؟
__________
(1) ذكر ذلك الحافظ السيوطي في «تدريبه» بعد نقله لكلام الزركشي فيما ضعف لا لعدم اتصاله وهو سبعة أصناف شرها الموضوع، ثم المدرج، ثم المقلوب، ثم المنكر، ثم الشاذ، ثم المضطرب، ثم قال السيوطي: وهذا ترتيب حسن، وينبغي جعل المتروك قبل المدرج، وأن يقال فيما ضعّفه لعدم اتصاله: شره المعضل ثم المنقطع، ثم المدلس ثم المرسل: وهذا واضح «تدريب الراوي» (1/ 295).
(2) انظر أسباب الإرسال في السؤال رقم (23)، وأسباب التدليس في السؤال رقم (24).(1/331)
ج 140: هذا الجواب ليس مطرداً، فقد وقع التدليس من جماعة من مشاهير التابعين وأتباعهم، وهم من أهل القرون المفضلة بلا شك، وهذا الجواب الذي ذكرته سابق مطرد، ولا يرد عليه ما ورد على هذا الجواب والعلم عند الله – تعالى -.
س 141: ما الفرق بين قولهم: «هذا إسناد رجاله ثقات» وقولهم: «هذا إسناد رجاله رجال الصحيح»؟
ج 141: القول الأول أعلى وأرفع من القول الثاني؛ لأنَّ من رجال «الصحيح» من لا يصل إلى درجة من يقال فيه: «ثقة»، فمنهم من يقال فيه: «صدوق» أو «لا بأس به»، بل منهم من يقال فيه: «صدوق سيئ الحفظ»، أو «ضعيف»؛ وإنَّما أخرج له صاحب «الصحيح» بعد الانتقاء من روايته ما علم أنَّ له أصلاً، أو ما توبع عليه، أو من أصوله وكتبه، ولم يأخذ عنه من حفظه، هذا مع أنَّ كلا القولين لا يلزم منه صحة السند – فضلاً عن صحة الحديث – لأنَّه قد يكون أحد الثقتين لم يسمع ممن فوقه في السند، أو قد يكون في سماع أحد الثقتين من الآخر كلام، وإنَّما تقبل رواية كل منهما إذا لم يجتمعا في سند واحد، أو قد يكون في السند شذوذ، وذلك بعد جمع الطرق، الله أعلم (1).
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «النكت» (1/ 274 - 275): ولا يلزم من كون رجال الإسناد من رجال الصحيح أن يكون الحديث الوارد به صحيحاً، لاحتمال أن يكون فيه شذوذ أو علّة، وقال في موضع آخر، وليس فيه حكم على الحديث بالصحة لما قدمناه من أنّه لا يلزم من كون الإسناد محتجاً برواته في «الصحيح» أن يكون الحديث الذي يروى به صحيحاً لما يطرأ عليه من العلل، وقد صرّح ابن الصلاح بهذا في مقدمة شرح مسلم فقال: «من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنّه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل وأخطأ بل ذلك يتوقف على النظر في أنّه كيف روى عنه وعلى أي وجه روى عنه». اهـ.
وممن صرّح بذلك – أيضاً – الحافظ الزيلعي – رحمه الله – كما في «نصب الراية» (1/ 347).
قال: وصحة الإسناد يتوقف على ثقة الرجال، ولو فرض ثقة الرجال لم يلزم منه صحة الحديث، حتى ينتفي منه الشذوذ والعلّة. اهـ.
بل قال ابن الجوزي – رحمه الله -: وقد يكون الإسناد كله ثقات، ويكون الحديث موضوعاً أو مقلوباً أو قد جرى فيه تدليس، وهذا من أصعب الأمور، ولا يعرف ذلك إلا النقاد. اهـ من «الموضوعات» (1/ 99 - 100).(1/332)
س 142: هل يلزم من صحة السند أو ضعفه، صحة المتن أو ضعفه؟
ج 142: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ السند قد يكون ضعيفاً، لكن المتن ورد من طرق أخرى صحيحة، أو حسنة، أو ضعيفة ضعفاً ينجبر، فيتقوى بها الحديث.
وأمّا قولهم: «صحة السند لا يلزم منها صحة الحديث أو المتن» فالمقصود منه صحة السند في الظاهر، أي: وبعد جمع الطرق اتضح لنا في السند شذوذ، فلو قُيدت هذه العبارة بالظاهر لكان أولى، ويكون الصواب في هذه العبارة: «لا يلزم من صحة السند في الظاهر صحة المتن أو الحديث» لأنَّ السند الذي فيه شذوذ ووهم ليس صحيحاً في الحقيقة، والشذوذ علَّة تقدح في الصحة، والشاذ من جملة الضعيف، والله أعلم (1).
س 143: أحياناً نرى أئمة الجرح والتعديل يصفون الراوي بأنَّه حافظ، أو متقن، أو بصير بعلل الحديث، فهل يُقبل حديث هؤلاء، مع أنَّهم لم يصرحوا بعدالتهم في الدين؟
__________
(1) وممن نصّ على ذلك الإمام ابن الصلاح – رحمه الله – كما في «مقدمته» (ص:113)، ونقل الصنعاني في «التوضيح» (1/ 195 - 196) من فهرست الحافظ ابن حجر – رحمه الله – أنّه قال: فائدة عزيزة النقل كثيرة الجدوى والنفع، وهي: من المقرر عندهم أنَّه لا تلازم بين الإسناد والمتن لشذوذ أو علة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق أخرى، فلا تنافي بين قولهم: هذا حديث صحيح لأنَّ مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر، لا قطعاً لعدم استلزام الصحة لكل فرد من أسانيد ذلك الحديث، فعلم أنَّ التقييد بصحة السند ليس تصريحاً في صحة المتن ولا ضعفه، بل هو على الاحتمال فهو دون الحكم بالصحة أو الحسن للمتن إذ لا احتمال حينئذ. اهـ.
وانظر كلام العراقي في «التبصرة» (ص:136)، و «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 310).(1/333)
ج 143: سبق أن ذكرتُ أنَّ الراوي إذا كان مشهوراً بالطلب، ولم يُتَكلَّم فيه بجرح، فهو محمول على الاستقامة في حديثه (1)، كما نصّ على ذلك جمع من العلماء كابن القطان والمزي والذهبي وابن حجر؛ لأنَّه لو كان مطعوناً عليه في دينه، لتكلّموا فيه بالجرح، ولصاحوا بعيبه، فكونه مشتغلاً بالحديث، فهذا يؤدي إلى إتقانه له واطلاعه على خباياه، ثم سكوت المجرِّحين عنه، والدواعي متوفرة لذكر الجرح لو كان موجوداً، إما غَيْرة على الدين، أو لاختلاف المذاهب والعقائد، فكونه مشهوراً بالرحلة وكثرة الحديث والمشايخ، وسَلِمَ مع ذلك من الجرح، فهذا يدل على عدالته في الحديث (2)،
__________
(1) سبق في السؤال رقم (52).
(2) قال السخاوي في «فتح المغيث» (1/ 322 - 328): ومما تثبت به العدالة – أيضاً – وهو الاستفاضة (إستغناء ذي الشهرة) ونباهة الذكر بالاستقامة والصدق، مع البصيرة، والفهم وهو الاستفاضة (عن تزكية) صريحة كـ (مالك) هو ابن أنس (نجم السنن)، كما وصفه به إمامنا الشافعي – رحمهما الله – وكشعبة، ووكيع، وأحمد، وابن معين ومن جرى مجراهم فهؤلاء وأمثالهم كما قال الخطيب وقد عقد باباً لذلك في كفايته فيمن لا يسأل عن عدالتهم وإنّما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين أو كلام خفي أمره على الطالبين ...
قال: ومن هنا لما شهد أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي عند القاضي بكار بن قتيبة – رحمهم الله – وقيل له: إنّه أبو إبراهيم ولم يكن يعرفه قبلها فقال: تقام البينة عندي بذلك فقط.
وقال الذهبي – رحمه الله -: إنّه حق ولا يدخل في ذلك المستور فإنّه غير مشهور بالعناية بالعلم فكل من اشتهر بين الحفّاظ بأنّه من أصحاب الحديث وأنّه معروف بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره، فما وجدوا فيه تبيناً، ولا أتّفق لهم علم بأن أحداً وثّقه، فهذا الذي عناه الحافظ وأنّه يكون مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جرح ... إلخ. اهـ.
وانظر ما سبق في السؤال رقم (52) والله أعلم.(1/334)
والحال هنا من باب أولى؛ لأنَّ المدح بالحفظ والإتقان ومعرفة العلل درجة أعلى من مجرد الشهرة بالطلب، والرجل لا يكون حافظاً بصيراً بالعلل إلا إذا طال اشتغاله بهذا الفن، وجمع فيه العالي والنازل، والمشهور والغريب، وعرف مخارج الأحاديث، وعرف الراوي وروايته، حتى يتهيأ للحُكْم على الحديث بالصحة أو الضعف، ولم ينبغ في باب العلل إلا القليل النادر، فلو كان هذا البارع في هذا الشأن مجروح العدالة، لصاحوا به، والله أعلم.
س 144: فماذا لو قيل: وكذلك المجهول لو كان مجروحاً لصاحوا به، فيجب أن يحمل على أنَّه ثقة، أو على الأقل أنَّه يحتج بروايته؟
ج 144: ليس هذا الإلزام بصحيح، لوجود الفارق بين هذه الحالة والحال الأولى التي في السؤال السابق، فالراوي في الحالة الأولى مشهور، ومعروف بالاشتغال بالحديث، ومثل هذا المشهور يلتقي به النقاد المعاصرون له، ويرى حديثه النقاد المتأخرون عنه، فسكوت هؤلاء جميعاً عن الكلام فيه دليل على ثقته؛ لأنَّ الدواعي متوفرة للطعن فيه، إذا كان ثَمَّ سبب لذلك، فلمّا لم يُقل علمنا أنَّه ثقة أضف إلى ذلك أنَّ الاشتغال بالعلم سبب إتقانه، وهذا بخلاف الرجل المجهول، الذي قد لا يسمع به النقاد، وقد لا يقع حديثه لهم، من أجل أن يحكموا عليه بمدح أو قدح، أو قد يكون حديثه قليلاً، فلا يتمكن الناقد من الكلام عليه، كما سبق في غير هذا الموضع.
فكيف يقال: هما سواء؟! فما بينهما وجه للتماثل أ, التشابه، والله أعلم (1).
س 145: ما معنى وصفهم للراوي بأنَّه حافظ أو من الحفّاظ؟
__________
(1) ويشهد لذلك ما مر من نقل السخاوي عن الذهبي – رحمهما الله -.(1/335)
ج 145: الأصل في ذلك أنَّ الراوي يتقن حديثه ويحفظه حفظ صدر، فيؤدي الحديث متى ما طلب منه على وجه واحد، ويكون مع هذا من المكثرين؛ لأنَّ الراوي إذا كان مقلاً، ويتقن هذا القليل، فلا يسمى حافظاً، إنَّما يوصف بذلك من جمع بين الإتقان وسعة الحصيلة، وهؤلاء هم الأئمة المشاهير في الرواية، وقد يجمع بعضهم مع ذلك الخبرة في علل الأحاديث، وهؤلاء هم الأئمة النقاد الذين يًؤخذ بقولهم في حديثهم وحديث غيرهم، مع أنَّه لا يلزم من ذلك نفي الخطأ اليسير الذي قد يقع في السند أو في المتن، كما حدث لمالك وشعبة وغيرهما، إلا أنَّ هذا اليسير ينغمر في سعة علمهم ومعرفتهم، هذا هو المشهور من إطلاق لفظ «الحافظ» على أحد الرواة (1)، إلا أننا أحياناً نرى هذا اللفظ على غير ذلك، فقد يطلقه أحد الأئمة على من كثر علمه، واتسعت حصيلته في الحديث – وإن كان سيئ الحفظ – ومن طالع «تذكرة الحفاظ» للذهبي رأى عدداً ليس بالقليل من هذا الصنف، وأحياناً يطلقونه ويقصدونه بذلك ضبط الكتاب، لا ضبط الفؤاد، وقد بيَّنت ذلك كلّه في «شفاء العليل» (2)،
__________
(1) قلت: وقد اشترط الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «النكت» (1/ 268) شروطاً للتسمية بالحافظ منها:
1 – الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف.
2 – المعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم.
3 – المعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر ما لا يستحضره استحضاراً لكثير من المتون.
قال الحافظ: فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً.
(2) في «شفاء العليل» (1/ 334، 465 - 466): ومن الأمثلة التي ذكرها المؤلف – حفظه الله – على ذلك ما جاء في «النبلاء» (10/ 624) ترجمة عبدالله بن عمرو بن أبي الحجاج المقعد الإمام الحافظ المجود.
قال أبو زرعة: ثقة حافظ، قال الذهبي: ويعني أنّه كان متقناً محرراً لكتبه. اهـ.
هذا وقد يطلق الحافظ على غير ذلك، ففي «النبلاء» (19/ 101) ترجمة النَّعالي الشيخ المعمر، مسند العراق، أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي البغدادي الحمَّامي (الحافظ) يعني يحفظ ثياب الحمّام وغلته. اهـ.
وفي «لسان الميزان» (2/ 268) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: وكان يعرف بالحافظ؛ لأنّه كان يحفظ ثياب الناس في الحمام. اهـ.(1/336)
فيجب على الطالب والناظر في تراجم الرواة التيقظ للقرائن التي تنقل اللفظ إلى غير ما اشتهر فيه، والله أعلم.
س 146: ما هي الأسباب التي تؤدي إلى قلب الحديث سنداً أو متناً؟
ج 146: هذا راجع إلى حال الرواة: فإن وقع من رجل سيء الحفظ: علمنا أنَّ ذلك راجع إلى سوء حفظه، وأنَّه لم يتعمد ذلك، بل وقع منه على سبيل الوهم (1)، وإن وقع هذا من كذاب سارق: علمنا أنَّ ذلك وقع منه عمداً، وقصد بذلك الإغراب، وادعى ما لم يسمع، ليرحل المحدثون إليه (2)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/ 874): ومن أمثلته في الإسناد ما رواه ابن حبان في «صحيحه» من طريق مصعب بن المقدام عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر – رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يمس الرجل ذكره بيمينه».
قال أبو حاتم في «العلل»: وهذا وهم فيه مصعب، وإنما حدث به الثوري عم معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه.
هذا وقد سرد الحافظ – رحمه الله- جملة من الأمثلة على المقلوب في الإسناد والمتن (2/ 874 - 886) فليراجعها من شاء والله أعلم.
(2) قال الحافظ ابن حجر في «النكت» (2/ 864 - 866): فممن كان يفعل ذلك عمداً لقصد الإغراب على سبيل الكذب: حماد بن عمرو النصيبي وهو من المذكورين بالوضع.
من ذلك روايته عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤوهم بالسلام ... » الحديث.
فإنَّ هذا الحديث قال العقيلي: لا يعرف من حديث الأعمش وإنَّما يعرف من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
قلت: كذلك أخرجه مسلم وغيره.
فجعل حماد بن عمرو الأعمش موضع سهيل ليغرب به، هذا في الإسناد.
وأما في المتن، فكمن يعمد إلى نسخة مشهورة، بإسناد واحد فيزيد فيها متناً أو متوناً ليست فيها، كنسخة معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – وقد زاد فيها وكنسخة مالك عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما – زاد فيها جماعة عدة أحاديث ليس منها، منها القوي والسقيم وقد ذكر جلّها الدارقطني في غرائب مالك. اهـ.
وانظر «توضيح الأفكار» (2/ 102)، الله أعلم.(1/337)
وإذا وقع هذا من أحد الأئمة النقاد: علمنا أنَّه قصد اختبار ضبط الراوي، وهل هو ممن يتقن الحديث، أو يقبل التلقين، أو غير ذلك؟ لكن في جواز هذه الحالة خلاف، واشترطوا لجوازها أن يبين الناقد أن الحديث مقلوب، كي لا يتحمله الجالسون وهو مقلوب (1)،
__________
(1) قال الحافظ بان حجر – رحمه الله – في «النكت» (2/ 866): وممن كان يفعل ذلك لقصد الامتحان كان شعبة يفعله كثيراً لقصد اختبار حفظ الراوي، فإنّّ أطاعه على القلب عرف أنَّه غير حافظ، وإن خالفه عرف أنَّ ضابط وقد أنكر بعضهم على شعبة ذلك لما يترتب عليه من تغليط من يمتحنه فقد يستمر على روايته لظنه أنَّه صواب، وقد يسمعه من لا خبرة له فيرويه ظنّاً منه أنّه صواب لكن مصلحته أكثر من مفسدته. اهـ.
وفي «النزهة» (ص:127) قال: وشرطه أن لا يستمر عليه، بل ينتهي بانتهاء الحاجة. اهـ.
وممن فعل ذلك يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين بحضرة أحمد بن حنبل، وروى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الرمادي، قال: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى عبدالرزاق، فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: أريد أن أمتحن أبا نعيم فنهاه أحمد فلم ينته، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم وجعل على رأس كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم أتينا أبا نعيم، فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه، وأقعد أحمد عن يمينه، ويحيى عن يساره، وجلست أسفل، فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت، ثم الحادي عشر، فقال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشرة الثانية وقرأ الحديث الثاني فقال أيضاً: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشرة الثالثة، وقرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم ثم قبض على ذراع أحمد فقال: أما هذا فورعه يمنعه عن هذا، وأما هذا وأومأ إلي فأصغر من أن يعمل هذا، ولكن هذا من عملك، يا فاعل، ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين وقلبه عن الدكان وقام فدخل داره، فقال له أحمد: ألم أنهك؟ وأقل لك: إنّه ثبت؟ فقال له يحيى: هذه الرفسة أحب إليّ من سفري. انتهى من «النكت» (2/ 866 - 867).
وفي «سير أعلام النبلاء» ترجمة الحسن بن سفيان (14/ 158 - 159):
قال الحاكم: سمعت محمد بن داود بنِ سليمان يقول: كنّا عندّ الحسن بن سفيان، فدخل ابن خزيمة، وأبو عمرو الحيري، وأحمد بنَ علي الرازي، وهم متوجهونَ إلى فرواة، فقال الرازي: كتبت هذا الطبق من حديثك، قال: هاتِ، فقرأ عليه، ثم أدخل إسناداً في إسناد، فردَّه الحسن، ثم بعد قليل فعل ذلك فردَّه الحسن، فلمّا كان في الثالثة، قال له الحسن: ما هذا؟! قد احتملتك مرتين وأنا ابن تسعين سنة، فاتَّقِ الله في المشايخ، فربّما استجيبت فيك دعوة، فقال له ابن خزيمة: مه! لا تؤذِ الشيخ، قال: إنَّما أردت أن تعلم أنَّ أبا العباس يعرف حديثه.
وانظر في هذا الباب حكايات أخرى في «السير» (15/ 237)، و «النكت» لابن حجر (2/ 868 - 873)، وفي «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 301 - 302) والله أعلم.(1/338)
والله أعلم.
س 147: هل من الممكن أن الراوي الثقة يروي الأحاديث المنكرة؟
ج 147: الأصل في الراوي الثقة أنَّ حديثه مستقيم سنداً، مشهور متناً، لكن قد يروي الأحاديث المنكرة، وذلك إذا كان ممن يروي عن كل أحد، ولا ينتقي في مشايخه، والمشايخ الضعفاء والمجهولون يروون المناكير، فتقع المناكير في حديثه، لكن العهدة على غير هذا الثقة (1)،
__________
(1) نبة على ذلك المعلمي – رحمه الله – كما في «التنكيل» (ص:44) من الطليعة.
فقال: قولهم: يروي المناكير، يقال في الذي يروي ما سمعه مما فيه نكارة، ولا ذنب له في النكارة، بل الحمل فيها على من فوقه، فالمعنى: أنَّه ليس من المبالغين في التقي والتوقي الذين لا يحدثون مما سمعوا إلا بما لا نكارة فيه، ومعلوم أنَّ هذا ليس بجرح ... إلخ اهـ.
أقول: ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في سؤالات الحاكم للدارقطني رقم (339).
قال الدارقطني وقد سئل عن سليمان بن بنت شرحبيل؟ فقال: ثقة، قال الحاكم: قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدث بها عن قوم ضعفاء، فأما هو فثقة. اهـ.
وفي «فتح المغيث» (1/ 373) وقال ابن دقيق العيد في «شرح الإلمام» قولهم: روى مناكير، لا تقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: منكر الحديث ... إلخ اهـ.(1/339)
وقد يكون مدلساً، فإن صرح بالسماع عن الضعفاء، وإلا لزقت العهدة به، وتُكُلّم فيه بسبب ذلك، وقد يهم الثقة فيغلط في الرواية، لكن ذلك نادر وغير فاحش، وإلا اهتزت الثقة به، والله أعلم (1).
س 148: إذا قالوا في الراوي: «يروي المناكير» أو «يحدث عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات» هل يكون بذلك مجروحاً؟
ج 148: في ذلك تفصيل:
فقد يكون ثقة مدلساً، أو ممن يروي عن كل أحد، كما سبق في الجواب على السؤال السابق.
وقد يكون سيء الحفظ، ووقع هذا منه عن وهم لا عن عمد، وقد يكون كذاباً، يقع هذا منه عن عمد للإغراب.
وقد يكون متروكاً شديد التخليط والاضطراب، وإن كان في أمانته وورعه ودينه لا يُبارَى، كما هو حال كثير من العباد والصالحين الذين فحش تخبطهم وتخليطهم.
فلا بد من النظر في سبب ذلك، لكن إذا لم يظهر لنا السبب في ذلك؛ فالقول الأول من عبارات الجرح الخفيفة التي يستشهد بأهلها، إلا إذا ظهر أنَّه ثقة، فأمر آخر، والله أعلم (2).
__________
(1) قال ابن حبان في «الثقات» (6/ 278 - 279) ترجمة داود بن أبي هند: كان داود من خيار أهل البصرة، من المتقنين في الروايات إلا أنّه كان يهم إذا حدّث من حفظه، ولا يستحق الإنسان الترك بالخطأ اليسير، يخطئ والوهم القليل يهم حتى يفحش ذلك منه؛ لأنَّ هذا مما لا ينفك منه البشر، ولو ما كنّا سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك جماعة من الثقات الأئمة؛ لأنّهم لم يكونوا معصومين من الخطأ بل الصواب في هذا ترك من فحش ذلك منه، والاحتجاج بمن كان منه ما لا ينفك منه البشر. اهـ.
(2) أمّا عن اللفظ الثاني: وهو قولهم: فلان يحدث عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات. فقد فصل فيه المؤلف – حفظه الله تعالى – كما في كتابه «الشفاء» (ص:390).
قال: الذي يكثر من استعمال هذا اللفظ هو أبو حاتم ابن حبان البستي – رحمه الله – في كتابه «المجروحين» ومعنى ذلك: أنَّ الراوي سواء كان ثقة أو ضعيفاً يروي عن الثقات أحاديث لم يتابع عليها، فغيره من الثقات يروي أحاديث عنهم بخلاف روايته، ولكن هذا اللفظ إذا قيل في الثقة الذي ثبتت عدالته في الرواية فمعنى ذلك: أنّه يدلس عن المجهولين، والمتروكين، والكذّابين، فيسقطهم ويروي عن الثقات، بصيغة محتملة للسماع، كالعنعنة فتكثر المناكير في روايته عنهم وإن قيل هذا في رجل ضعيف، فإما أن يكون سيء الحفظ مغفلاً وإما أن يكون كذّاباً فإن كان سبب ذلك سوء الحفظ فينظر في هذه المناكير كمّاً وكيفاً ويحكم على الراوي بما يستحق وإن كان سبب ذلك التعمد فهو كذاب متروك ولا كرامة ففي هاتين الحالتين يكون حديث الراوي متردداً بين النكارة والبطلان، وكثيراً ما يقف الناظر في «كامل ابن عدي» – رحمه الله – على قوله: فلان يحدث عن الثقات بالمناكير.
ومع ذلك يصفه بسرقة الحديث أو بأنَّه فاحش الخطأ بيِّن الضعف كما في ترجمة مصعب بن سعيد أبي خيثمة المكفوف (6/ 2363)، وكما في ترجمة مصعب بن إبراهيم (6/ 2364). اهـ.(1/340)
س 149: ما الفرق بين قولهم في الراوي: «فلان روى مناكير»، و «يروي المناكير»، و «في حديثه مناكير»، و «له أوهام أو أخطاء أو أغلاط»، و «له مناكير»، و «سيء الحفظ أو رديء الحفظ»، و «يخطئ كثيراً أو كثير الخطأ»، و «منكر الحديث»؟
ج 149: قد ذكرت الفرق بين هذه الألفاظ بشيء من التفصيل في «شفاء العليل» (1/ 455) وخلاصة ذلك: أنَّ هذه الألفاظ حسب هذا الترتيب تتدرج في الجرح من الأخف إلى الأشد، وهي كلها ألفاظ يصلح أهلها في الشواهد والمتابعات، فالأول أخف من الثاني؛ لأنَّ صيغة المضارعة تقتضي الكثرة والاستمرار، وكلاهما ليس فيه أنَّ عهدة ذلك عليه، بل تكون غالباً من غيره، وأما «في حديثه مناكير» فالغالب أنَّها منه، وأن العهدة عليه، وأما «له أوهام» فهي منه جزماً، والأوهام أخف من المناكير، وسوء الحفظ أشد من ذلك، مع كونه يدل على الغلط القليل لا الكثير، كما صرح بذلك الحافظ في «هدي الساري» (1)، و «منكر الحديث» أشد خطأ من «كثير الغلط» مع أنَّ في هذا اللفظ تفصيلاً كما سبق (2)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «هدي الساري» (ص:384): وأمّا الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مروياً عنده أو عندّ غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط علم أنَّ المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في «الصحيح» بحمد الله من ذلك شيء وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال في سيء الحفظ، أوله أوهام، أو له مناكير، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك ... إلخ اهـ.
(2) سبق ذلك في السؤال رقم (69) ..(1/341)
وإذا نظرنا إلى هذه الفروق بين هذه الألفاظ؛ علمنا مدى دقة علمائنا – رحمهم الله – في الألفاظ، وعلمنا ورعهم وعدم مجازفتهم، فجزاهم الله عنّا خيراً.
س 150: أحياناً نجد اختلافاً فيما يُعرف به الراوي، فيكون في السند للراوي اسم، لكن مخرَّج الحديث يقول: هو فلان، ويخالف ما في صلب السند، فما العمل؟
ج 150: إن أمكن الجمع بين هذا وذاك فحسَنٌ، لا سيَّما إذا كان الراوي قد تُرْجِم له في الكتب المختصة بذلك، وجمع العلماء في ترجمته بين القولين، لكن إذا تعذر ذلك، فقد أجاب على ذلك شيخنا الألباني – رحمه الله – في «السلسلة الضعيفة» (2/ 240) برقم (843) فقال:
الأخذ بما جاء في صلب الرواية أولى من الأخذ بتفسير مخرَّج الحديث؛ لأنَّ هذا كالنص مع القياس في الفقه، ومن المعلوم أنَّه لا قياس ولا اجتهاد في مورد النص. اهـ.
قلت: هذا إذا لم تظهر قرينة تدل على أن ما في صلب الرواية قد اعتراه تصحيف أو تحريف من الناسخ أو الطابع، والله أعلم.
س 151: في بعض التراجم نجد أئمة الجرح والتعديل يقولون: «فلان مظلم» أو «مظلم الأمر» فما معنى ذلك؟
ج 151: قد وقفت عل وجهين لهذا اللفظ، فأحياناً يكون بمعنى أنَّ الراوي مجهول، وأن أمره مظلم لا يُعرف (1)،
__________
(1) مثال ذلك ما ذكره ابن عدي في «كامله» (4/ 1568) ترجمة عبدالله بن واقد أبي رجاء الخرساني، قال فيه ابن عدي: ولعبدالله بن واقد هذا غير ما ذكرت وليس بالكثير وهو مظلم الحديث، ولم أرَ للمتقدمين فيه كلام فأذكره.
فتأمل قول ابن عدي – رحمه الله -: وهو مظلم الحديث، ثم قوله: ولم أرَ للمتقدمين فيه كلام فأذكره، مما يدل على جهالته عنده، وإن كان عبدالله بن واقد قد وثّقه غير ابن عدي، وترجمته في «التهذيب»، وترجم له الحافظ – رحمه الله – في «تقريبه» بقوله: «ثقة موصوف بخصال الخير» والله أعلم.(1/342)
وفي هذه الحالة ننظر عدد الرواة عنه، ويُحكم عليه بما يستحق من جهالة العين أو الحال – على تفاصيل في ذلك قد سبق شرحها – وأحياناً يكون هذا اللفظ بمعنى أنَّ الراوي منكر الحديث (1)، وأنَّ هذه المناكير أظلمت بحديثه، فسلبته النور والضوء الذي يكون على حديث الثقات، وفي هذه الحالة يُنظر إلى بقية كلام الأئمة، ليُعرف كمُّ ونوعُ هذه المناكير، فإن كانت محتملة وخفيفة؛ صلح في الشواهد والمتابعات، وإلا ترك، والله المستعان.
س 152: هل هناك فرق بين قول الحافظ ابن حجر في أحد الرواة: «وثقه فلان» وبين قوله: «ثقة»؟
ج 152: لا شك أنَّ بينهما فرقاً، وذلك أنَّ القول الأول فيه هروب من العهدة، ونسبة التوثيق إلى الغير، ليس فيها جزم من الحافظ بأنَّه ثقة عنده، بخلاف القول الثاني (2)، ولذلك تجده كثيراً يقول القول الأول في التراجم التي انفرد ابن حبان أو العجلي فيها بالتوثيق، وهما متساهلان في توثيق المجاهيل، أو في التراجم التي فيها نزاع، والتوثيق ليس واضحاً فيها، وهذا يظهر لمن نظر في «التهذيب» و «التقريب»، وأسأل الله أن ييسر ليّ إتمام التعليق على «التقريب»، وأن يجعله خالصاً لوجهه، ومقرِّباً لنا إلى رضوانه، ومُبعِداً لنا عن سخطه.
__________
(1) ومثاله ما جاء في «الكامل» لابن عدي (1/ 269) ترجمة إبراهيم بن فهد بن حكيم.
قال ابن عدي: وسائر أحاديث إبراهيم بن فهد مناكير وهو مظلم الأمر. اهـ.
وقد ذكر المؤلف – حفظه الله – هذه الألفاظ في المرتبة الرابعة من مراتب التجريح في «كتابه شفاء العليل»، فلتراجع (1/ص:197).
هذا وممن نصَّ كذلك على أنَّ «مظلم الأمر»، تكون بمعنى: النكارة، شيخنا أبو عبدالرحمن مقبل الوادعي، - رحمه الله – كما في «المقترح» السؤال رقم (28)، والله أعلم.
(2) وإلى هذا ذهب شيخنا علامة اليمن الشيخ مقبل بن هادي – رحمه الله – كما في «المقترح» السؤال رقم (56) (ص:48)، والله أعلم.(1/343)
س 153: الراوي إذا قيل فيه: «سيء الحفظ لكن كتابه صحيح»، فما حال روايته؟
ج 153: الأمر لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يذكروا في ترجمته أنَّه روى الحديث الفلاني من كتابه، أو أخذه عنه فلان من كتابه، أو أنَّ فلاناً ما روى عنه إلا من أُصوله، أو يقول تلميذه: حدثني فلان من كتابه، أو ناولني كتابه، أو غير ذلك، وإما أنَّهم لم يذكروا شيئاً من ذلك، فإن ذكروا الأول فلا إشكال؛ لأنَّ العيب فيه إذا حدث من حفظه، أما إذا حدث من كتابه، فكتابه صحيح، والظاهر أنَّ الحديث يكون حسناً أو صحيحاً (1)،
__________
(1) قال الخطيب البغدادي – رحمه الله – في «الكفاية» (ص:332): باب في أنَّ سيء الحفظ لا يعتد من حديثه إلا بما رواه من أصل كتابه.
ثم ساق سنده إلى أبي داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل قال: قال عفان، ثنا همام يوماً بحديث، فقيل له فيه، فدخل فنظر في كتابه، فقال: ألا أراني أخطئ وأنا لا أرى فكان بعد يتعاهد كتابه.
وبسنده، عن يحيى بن سعيد، قال: إذا حدَّثكم المعتمر بن سليمان بشيء فاعرضوه، فإنّه سيء الحفظ.
وبسنده أيضاً، عن ابن عمار أنَّه قال: «شريك كتبه صحاح، فمن سمع منه من كتبه فهو صحيح، قال: ولم يسمع من شريك من كتابه إلا إسحاق الأزرق. اهـ.
هذا ومن شرط الرواية من الكتاب: أن يكون سماع الراوي ثابتاً وكتابه متقناً.
قال الخطيب أبوبكر في «الكفاية» (ص:339): ونرى العلّة التي لأجلها منعوا صحة السماع من الضرير والبصير الأمي، هي جواز الإدخال عليهما ما ليس من سماعهما، وهي العلّة التي ذكرها مالك فيمن له كتب، وسماعه صحيح، فيها غير أنّه لا يحفظ ما تضمنت فمن احتاط في حفظه كتابه ولم يقرأ إلا منه وسلم من أن يدخل عليه غير سماعه، جازت روايته.
وفي (ص:344) ساق سنده إلى عبدالرحمن بن مهدي، أنّه قال: ... لولا أنَّها بخطي ما حدّثت بها، قال: ومن شروط صحة الرواية من الكتاب: أن يكون سماع الراوي ثابتاً وكتابه متقناً. اهـ والله أعلم.(1/344)
أما إذا لم يذكروا شيئاً من ذلك، فنحن نقف في روايته، ولا نحتج بها؛ لأنّنا لم نتأكد من ضبطه لهذا الحديث، وعدم علمنا بأنَّه حدث من حفظه بهذا الحديث، ليس معناه أنّنا علمنا أنَّه رواه من أصله، فعدم العلم لا يلزم منه العلم بالعدم، ولا بد في صحة الرواية من تحقيق الضبط، ولا يكفي عدم العلم بالجرح؛ لأنَّ عدم العلم بالجرح، لا يلزم منه ثبوت الضبط، والله أعلم.
س 154: قول ابن معين في الراوي: «لا بأس به» هل هو كقوله: «ثقة»؟
ج 154: قال ابن أبي خيثمة لابن معين: إنَّك تقول: «فلان ليس به بأس»، و «فلان ضعيف»، قال: إذا قلت لك: «ليس به بأس» فهو ثقة، وإذا قلت: «هو ضعيف» فليس هو بثقة، ولا يكتب حديثه (1).
لكن من نظر في عدة تراجم؛ وجد أنَّ ابن معين يقول: لا بأس به، على من هم أهل التعديل المتوسط، بل وعلى من هو ليس بمرضي عند ابن معين نفسه، كما قال في مندل بن علي العنزي، انظر «الكامل» لابن عدي (6/ 2447) (2)، مع أنَّ ابن معين كثيراً ما يقرن بين القولين فيقول: «فلان لا بأس به ثقة» فهذا اللفظ يطلقه كثيرا على من يراه ثقة، لكن ليس مطرداً، فإذا وثق الرجل غيره، حملناه على أنَّ الرجل ثقة، ولكن إذا قال غيره: «لا بأس به»، فيترجم له بـ «لا بأس به»، وقد ذكرت ذلك مفصلاً في «شفاء العليل» فارجع إليه في الباب الثاني (3).
س 155: إذا وجدتُ في ترجمة راو، قول أحدهم: «تركه القطان» – مثلاً – هل يكون متروكاً؟
ج 155: لا بد من النظر والتأمل في عدة أمور منها:
__________
(1) «الكفاية» (ص:60)، مقدمة «لسان الميزان» (1/ 13).
(2) قال في مندل بن علي: «ليس به بأس»، فقال عثمان بن سعيد.
قلت: فأخوه حبان؟ فقال: صدوق، فقلت: أيهما أعجب إليك، قال: كلاهما وتمرّ – أي: تشكك – كأنّه يضعفهما. اهـ «الكامل» (6/ 2447).
(3) «شفاء العليل» (جـ1/ 283 - 285).(1/345)
- هل هناك أقوال أخرى في الترجمة أم لا؟ فإن كان هناك كلام لغير القطان؛ جمعنا بين كلام هؤلاء الأئمة، وحكمنا على صاحب الترجمة بما يستحق، وإلا فالراجح أن يقال: تركه القطان أو متروك.
- وننظر إذا كان التارك متشدداً، ووثق الراوي غيره، قدمنا كلام من وثق – على تفاصيل في ذلك (1) -.
- وننظر هل هناك لفظ صريح من القطان في الترك، أم أنَّ هذا فقط من فهم واجتهاد الناقل؟ لأنَّ الأول لا شك في أنَّه أصرح وأقوى – وإن كان الثاني مقبولاً عند عدم المعارض – ولأنَّه قد جُرِّب أن بعضهم يقول: «تركه فلان»، ويعني: أنَّه بطّل الكتابة عنه، إما لاختلاطه، أو لأنَّ التلميذ قد اكتفى بما عند الشيخ، وليس عند الشيخ ما يجعل التلميذ يرغب وينشط في الكتابة عنه، فتَركَ الكتابة عنه لذلك، وقد صرح بذلك الحافظ الذهبي في ترجمة عطاء بن أبي رباح في «الميزان» و «النبلاء» (2)، وكما في ترجمة ابن جوصاء في «تذكر الحفاظ» (3) وترجمة إسحاق بن أبي إسرائيل في «النبلاء» (4).
__________
(1) مرَّ ذلك معنا من كلام المؤلف – حفظه الله تعالى – في السؤال رقم (50) فليراجع والله أعلم.
(2) جاء في «ميزان الاعتدال» ترجمة عطاء بن أبي رباح، قال علي بن المديني كان عطاء (بآخره) تركه ابن جريج وقيس بن سعد.
قال الذهبي: قلت: لم يعن الترك الاصطلاحي بل عني أنّهما بطلا الكتابة عنه وإلا فعطاء ثبت رضي» (3/ 70) وفي «النبلاء» قال الذهبي قلت: «لم يعن علي بقوله»، «تركه هذان» الترك العرفي ولكنّه كبر وضعفت حواسه، وكانا قد تكفيا منه وتفقَّها وأكثرا عنه فبَطَّلا، فهذا مراده بقوله: «تركاه» (5/ 87).
(3) «تذكره الحفاظ» (3/ 797).
(4) انظر «السير» (11/ 477).(1/346)
وقد يكون سبب الترك وجود من هو أشهر من هذا الراوي، أو أعلى إسناداً منه، أو لخلاف بينهما، كما حدث من امتناع مسلم من الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي، وغير ذلك (1)، فكل هذا يدل على أنَّ الترك ليس منحصراً في اعتقاد التارك ضعف المتروك، فلا بد من النظر في القرائن، والتوسع في الترجمة، لكن إذا لم نجد شيئاً من ذلك، ولم يكن هناك من وثق الراوي، فهو إلى الترك أقرب منه إلى القبول، بل هو متروك، والله أعلم.
س 156: إذا رأينا في ترجمة أنَّ البخاري يقول: «فلان منكر الحديث»، فهل نترك حديث الراوي؟
ج 156: لا بد من النظر في بقية أقوال أهل العلم، والبخاري إذا قال هذه الكلمة، فمعنى ذلك أنَّ الراوي لا تحل الرواية عنه عند البخاري (2)، وليس عند كل النقاد!! وقد لاحظت كثيراً من طلبة العلم، إذا كان غير البخاري من المعتدلين قد قال: «ثقة»، وقال البخاري هذه الكلمة، وجدتهم يقولون: الرجل لا تحل الرواية عنه؛ لأنَّ البخاري قال فيه كذا، وإن كان أحمد وابن مهدي وغيرهما قد وثقوا الراوي، فمما لا شك فيه أنَّ هذا تهور وجور في الحكم، والصواب في ذلك أن نجمع بين كلامهم، وننظر كلامهم جميعاً، فإن بان لنا سبب للجرح قدمنا الجرح، وإلا مزجنا كلامهم جميعاً في الحكم، وحكمنا على الراوي بما يستحق، وقد وجدت بعض الحفاظ يجمع بين ما هذا سبيله بقوله: «ضعيف»، والله أعلم.
__________
(1) ذكر نحوه الشيخ المعلمي – رحمه الله تعالى – في «تنكيله» (925) وانظر تفصيل القول في قولهم: «تركه فلان» في «الشفاء» للمؤلف (جـ1/ 330 - 331)، والفرق بينه وبين قولهم: «لم يرو عنه فلان» (1/ 484 - 485).
(2) جاء في «ميزان الاعتدال» ترجمة أبان بن جبلة الكوفي، قال البخاري: «منكر الحديث» قال الذهبي: «ونقل ابن القطان أنَّ البخاري قال: كل من قلت فيه: «منكر الحديث» فلا تحل الرواية عنه. اهـ (1/ 6).(1/347)
س 157: في بعض التراجم نجد أهل الجرح والتعديل يقولون: «فلان طويل اللحية» فما المقصود بذلك؟
ج 157: من المعلوم أنَّ أهل الجرح والتعديل قد يستعملون ألفاظاً اشتهرت في عرفهم وزمانهم بمعاني مدح أو قدح، فقد نقلوا الكلام من العرف العام، إلى الكلام في الرواة، كقولهم: «فلان كخبز الشعير»، أو «حية الوادي»، أو غير ذلك، ومن ذلك قولهم: «فلان طويل اللحية» وهذه الكلمة معناها عندهم: أنَّ الراوي فيه طيش وخفة وقلة عقل، وأنَّه مغفل في الحديث (1)، وهذا اللفظ من ألفاظ الرد، لكنَّهم قد يذكرون هذا من باب الوصف الخِلْقي للراوي، ولا يقصدون جرحه بذلك (2)، وهذا ليس بالمتبادر من اللفظ عند المحدثين، وسامح الله الذين جعلوا هذا الوصف ذماً للرواة، فقد فتحوا باب شر على المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع أنَّه قد ثبت أنَّ قوماً طالت لحاهم مع وفور عقل، وقوة دين، وحُسن سيرة، والله أعلم (3).
__________
(1) قلت: وعلى هذا المعنى عدة أمثلة سردها المؤلف – حفظه الله تعالى – في «شفائه» (1/ 208 - 209) من ذلك ما جاء في ترجمة مجالد بن سعيد الهمداني، قال أحمد: يرفع كثيراً ما لا يرفعه الناس، ليس بشيء، وقيل لخالد الطحان: دخلت الكوفة فلمَ لم تكتب عن مجالد؟ فقال: لأنّه كان طويل اللحية، «الميزان» (3/ 438).
(2) انظر «الشفاء» (1/ 209).
(3) من ذلك ما جاء في «النبلاء» (10/ 518) قال أحمد بن سيار المروزي: يحيى بن يحيى يعني: ابن بكير، عالم خراسان من موالي – منقر – كان ثقة حسن الوجه طويل اللحية خيّراً فاضلاً صائناً لنفسه. اهـ.
وفيه كذلك (5/ 36 - 37) ترجمة أبي صالح السمان ذكره الإمام أحمد فقال: ثقة ثقة من أجل الناس وأوثقهم، وقيل كان عظيم اللحية، وقال أبو الحسن الميموني: سمعت أبا عبدالله يقول: كانت لأبي صالح لحية طويلة، فإذا ذكر عثمان بكى فارتجت لحيته، وقال: هاه هاه، وذكر أبو عبدالله من فضله. اهـ.(1/348)
س 158: ما معنى قولهم: «فلان لا يُسأل عنه» و «فلان شيطان» و (فلان لص» و «فلان منكر»؟
ج 158: القول الأول: يطلق كثيراً في مدح الأئمة المشاهير الذين ثبتت عدالتهم في الرواية، فمثلهم لا يحتاج إلى سؤال عنهم (1)، إلا أن هذا اللفظ أحياناً يُذْكر في أهل الفضل والتقوى والشرف والمروءة، دون النظر لأمر الرواية، وأحياناً يُذْكر في الجرح الشديد، بمعنى أنَّ الراوي قد شاع كذبه، فلا يحتاج إلى سؤال عنه، فأمره لا يخفى على العميان، أو على الصبيان الذين هم في بداية الطلب، فضلاً عن الأئمة النقاد، كما قال ابن معين في أبي مسعود الجرار واسمه عبدالأعلى (2)، وكما في «الجرح والتعديل» ترجمة عقيل الجعدي (3).
وأحياناً يكون بمعنى الجهالة بحال الراوي، كما في ترجمة أحمد بن محمد بن أيوب في «تاريخ بغداد» (4)، فالأصل في اللفظ المعنى الأول إلا لقرينة صارفة.
__________
(1) مثال ذلك ما رواه الخطيب بإسناده إلى حنبل بن إسحاق بن خيل، قال: سمعت أبا عبدالله وهو أحمد بن حنبل وسئل عن إسحاق بن راهويه، فقال: مثل إسحاق يسأل عنه؟ إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، «الكفاية» (ص:148)، وتاريخ «بغداد» (6/ 350)، وتاريخ «ابن عساكر» (8/ 129).
ولما سئل أبو حاتم عن يزيد بن هارون الواسطي قال: «ثقة إمام صدوق في الحديث لا يسأل عن مثله»، «الجرح والتعديل» (9/ 295).
(2) سئل ابن معين عن أبي مسعود الجرار فقال: «كذّاب قد تخلى الله عنه – أي: تبرأ – لا يسأل عن مثل هذا، ليس بثقة اسمه عبدالأعلى الجرار»، «معرفة الرجال» لابن معين رواية أبي العباس بن محرز (1/ 57).
(3) (6/ 219) وفيه قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو منكر الحديث ذاهب ويشبه أن يكون أعرابياً إذا روى عن الحسن البصري، قال: دخلت على سلمان الفارسي فلا يحتاج أن يسأل عنه. اهـ.
(4) سئل عنه علي بن المديني وأحمد فلم يعرفاه، وقال: لا يسأل عنه فإن كان لا بأس به حمل عنه. (4/ 364).(1/349)
القول الثاني: الأصل فيه الجرح الشديد، ولذا فهم يطلقونه في الكذابين والزنادقة وأهل المقالات الخبيثة والعقائد الفاسدة (1)، لكن قد يطلقونه على أهل الرأي، انظر «الكامل» (7/ 2475) (2) وقد يُطلق على سبيل المدح الرفيع بمعنى أنَّ الراوي حافظ عجيب، كما قال الثوري في القطان، انظر «النبلاء» ترجمة يحيى بن سعير القطان (3).
__________
(1) وذلك كما قال ابن المبارك – رحمه الله تعالى – في جهم بن صفوان، قال الذهبي في «النبلاء»: قال العلاء بن الأسود: ذكر جهم عند ابن المبارك فقال:
عجبت لشيطان أتى الناس داعياً ... إلى النار وانشق اسمه من جهنم
(8/ 411) وفي «تاريخ بغداد» ترجمة ميسر أبي سعد الصاغاني قال أبو زكريا: «قد رأيت أبا سعد الأعمى الصاغاني ابن أبي رواد ليس هو بشيء» وقال في موضع آخر: «كان مكفوفاً وكان جهمياً وليس هو بشيء، كان شيطاناً من الشياطين» (3/ 282).
(2) قال ابن عدي: ثنا عبدالله بن عبدالحميد الواسطي، ثنا ابن أبي بردة: قال: سمعت المؤمل يقول: سمعت حماد بن سلمة يقول: كان أبو حنيفة شيطاناً استقبل آثار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يردها برأيه. اهـ.
انظر «الكامل» لابن عدي (7/ 2475).
(3) قال ابن مهدي: لما قدم الثوري البصرة قال: يا عبدالرحمن جئني بإنسان أذاكره فأتيته بيحيى بن سعيد فذاكره، فلما خرج قال: قلت لك: جئني بإنسان جئتني بشيطان، يعني بهره حفظه (9/ 177).
قلت: قد يأتي هذا اللفظ على سبيل المدح لحديث الراوي وذلك لحسنه وجودته كما جاء في «تهذيب التهذيب» ترجمة «أوس بن ضمعج» قال: شبابه حدّثنا شعبة وذكر عنده أوس بن ضمعج، فقال: والله ما أراه إلا كان شيطاناً، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – يعني: لجودة حديثه. اهـ.(1/350)
والقول الثالث: يظهر منه أنَّه جرح شديد، بمعنى أنَّ الراوي يسرق الحديث، إلا أني قد رأيتهم يطلقونه في المدح الرفيع، كما في «الجرح والتعديل» ترجمة إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. (1)
والقول الرابع: الظاهر منه الجرح، لكنّه يطلق أحياناً على الحفاظ الذين لهم شأن في الحفظ والتثبت، وعندهم يقظة وانتباه، ويكون بمعنى أنَّه لا مثيل له في ذلك.
انظر ترجمة خالد بن حيان الرقي في «تاريخ بغداد» (2)،
__________
(1) وفيه قال ابن مهدي: «كان إسرائيل في الحديث لصاً يتلقف العلم تلقفاً»، (2/ 230) وقوله: يتلقف العلم تلقفاً يدل على سرعة حفظه وفهمه لما يلقى عليه من المشايخ، وانظر تفصيل ذلك في «شفاء العليل» (1/ 372 - 375).
أقول: وقد يأتي هذا اللفظ على معناه الحقيقي، وهو أخذ ما يتملكه الغير بغير وجه حق، وقد ساق الخطيب في «الكفاية» سنده إلى أبي غسان يعني – زنيجا – قال: نا جرير، عن أبي فهر، قال: صليت خلف الزهري شهراً، وكان يقرأ في صلاة الفجر [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ]، و [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ] فقلت لجرير: من أبو فهر هذا؟ فقال: لص بشنست يعني بعض قرى الري، فقيل له تروي عن اللصوص، قال: نعم، كان مع بعض السلاطين (153).
وبسنده أيضاً إلى أبي داود الطيالسي، قال: قال شعبة: لا تحملوا عن سفيان الثوري إلا عمن تعرفون، فإنَّه كان لا يبالي عمن حمل، إنّه يحدثكم عن مثل أبي شعيب المجنون فقال رجل لشعبة، ثنا سفيان الثوري عن رجل فسألت عنه في قبيلته، فإذا هو لص ينقب البيوت. اهـ والله أعلم المصدر السابق.
(2) قال فيه علي بن ميمون: «كان منكراً، وكان صاحب حديث» قال الخطيب.
قلت: قوله: كان منكراً يعني: في الضبط والتحفظ وشدة التوقي والتحرز (8/ 296 - 297) وقد جاء في «لسان العرب»، «النكر والنكراء: الدهاء والفطنة ورجل نِكر، ونكرُ ونُكرٌ، ومنكر من قوم مناكير: ذاه فطن حكاه سيبوبه» (5/ 232).(1/351)
والقاسم بن الفضل الحدّاني في «تهذيب التهذيب» والله أعلم (1).
س 159: إذا وثق أحد المحدثين شيخه، هل يقبل منه أم لا؟
ج 159: يُنْظَر أوّلاً في منزلة هذا المحدِّث، هل هو من أهل المعرفة بهذا الشأن أم لا؟ فإن لم يكن نفسه مُوَثَّقاً، أو كان غير عارف بذلك، أو كان متساهلاً، فلا يقبل هذا منه على إطلاقه. (2)
لكن إذا كان عارفاً بهذا الشأن، كالإمام النسائي وأبي داود أو غيرهما: فمن أهل العلم من يقول: لعله جامله أو حاباه فوثقه، وقد يكون ثقة عنده، وليس كذلك عند غيره، والصواب أن ذلك يُقبل منه، ولو فُتح هذا الباب لقيل في أمور كثيرة: لعل ... ولعل ... ولعل ... ، ولكن طالما أنَّ هذا الراوي لم يوثقه إلا تلميذه، وهو أحد الأئمة، فالأصل أخذ كلام العدل، حتى يظهر من كلام العدول ما يدفعه (3)،
__________
(1) «تهذيب التهذيب» (5/ 232) وارجع إلى «شفاء العليل» (1/ 382).
(2) وقد ذهب إلى ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – حيث قال في «نزهته» فإن سمي الراوي وانفرد راو واحد بالرواية فهو مجهول العين فلا يقبل حديثه، إلا أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح، وكذا من ينفرد عنه، إذا كان متأهلاً لذلك (ص: 135)، وشاهدنا من كلامه – رحمه الله – هو قوله: «وكذا من ينفرد عنه إذا كان متأهلاً لذلك ففيه قبول تعديل التلميذ لشيخه إذا كان أهلاً للكلام في الرواة» والله أعلم.
(3) جاء في ترجمة إبراهيم بن هارون البلخي روى عنه الترمذي في «الشمائل»، والنسائي، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، قال النسائي: ثقة.
قلت – الحافظ ابن حجر -: وقال في موضع آخر: لا بأس به، «التهذيب» (1/ 176).
قلت: واعتمد الحافظ توثيق النسائي له وقد تفرد بهذا وهو من تلامذته، فقال في «التقريب»: صدوق.(1/352)
نعم من المحتمل أن نقول: لعل ... لعل ... ، إذا خالف هذا التلميذ غيره من الأئمة، كما تركنا كلام مالك في عبدالكريم بن أبي المخارق (1) وتركنا اعتماد الشافعي على ابن أبي يحيى الأسلمي، لما رأينا الجرح فيهما مفسراً من كلام الأئمة (2)؛
__________
(1) قال الجوزجاني: عبدالكريم بن أبي المخارق أبو أمية – غير ثقة، فرحم الله مالكاً، هناك في المثل فوقع على خزفة منكسرة أظنه اغتر بكسائه – «أحوال الرجال» (ص97).
وقال ابن عبدالبر في مقدمة «التمهيد» (1/ 60): «وإنما روى مالك عن عبدالكريم بن أبي المخارق وهو مجتمع على ضعفه وتركه لأنه لم يعرفه، إذ لم يكن من أهل بلده وكان حسن السمت والصلاة، فغره ذلك، ولم يدخل في كتابه عنده حكماً أفرده به. اهـ.
(2) إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى اسمه سمعان الأسلمي مولاهم أبو إسحاق المدني، وخلاصة القول فيه كما قاله الحافظ في التقريب «متروك» وقال في التلخيص الحبير: وأكثر أهل الحديث على تضعيفه، لكن الشافعي كان يقول هو «صدوق» وإن كان مبتدعاً (1/ 33).
وقد اعتذر ابن حبان رحمه الله للشافعي فقال: وأمّا الشافعي فإنه كان يجالسه في حداثته، ويحفظ عنه حفظ الصبي والحفظ في الصغر كالنقش في الحجر. فلما دخل مصر في آخر عمره فأخذ يصنف الكتب المبسوطة احتاج إلى الأخبار ولم تكن معه كتبه فأكثر ما أودع الكتب من حفظه فمن أجله ما روى عنه، وربما كنى عنه ولا يسميه في كتبه المجروحين لابن حبان (1/ 107) قلت: وفيه نظر فالشافعي رحمه الله أجل من ذلك ولكنه لم يظهر له كذبه فقد قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: كان إبراهيم بن أبي يحيى قدرياً، قيل للربيع: فما حمل الشافعي على أن روى عنه؟ قال: كان يقول: لأن يخر إبراهيم من بُعد أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث. اهـ من تهذيب التهذيب (1/ 159).(1/353)
ولولا ذلك لأخذنا باجتهاد من وثقهما؛ لأن إعمال خبر العدل أولى من إهماله، والتوسل بأن تلميذه يحتمل أنه قد جامله، قول بعيد، لأن العدالة تمنع من ذلك، والله أعلم.
س 160: إذا قال المحدث: «حدثني الثقة»، هل يكون أعلى من رواية من اشترط أن لا يروي إلا عن ثقة؟
ج 160: رجح الحافظ العراقي القول الأول، وبيّن سبب ذلك السخاوى – رحمه الله تعالى – بأنه في الصورة الثانية محتمل أنه ما التزم هذا إلا مؤخراً، ولم يتميز لنا من روى عنه من المشايخ قبل الشرط، ممن روى عنه من المشايخ بعد الشرط، ومحتمل أيضاً أن من اشترط هذا الشرط أن يذهل عن شرطه وينساه، فيروي عمن لا يرتضيهم (1).
__________
(1) قال السخاوي – رحمه الله تعالى – في «فتح المغيث» (1/ 311 - 312): إذا قال حدثني الثقة يحتمل أن يروي عن ضعيف يعني عند غيره إذا قال: (جميع أشياخي ثقات) علم أنه لا يروي إلا عن ثقة فهي أرفع بهذا الاعتبار وفيه نظر إذ احتمال الضعف عند غيره يطرقها، بل تمتاز الصورة الثانية باحتمال الذهول عن قاعدته أو كونه لم يسلك هذا إلا في آخر أمره كما روي عن ابن مهدي كان يتساهل أولاً في الرواية عن غير واحد بحيث كان يروي عن جابر الجعفي ثم تشدد ... إلخ.(1/354)
وقد يكون الثقة بالمعنى الواسع، فيدخل فيه غير المردود، ويضاف إلى ذلك أن بعض العلماء قد يسمع حديثاً عن ضعيف، والحديث شديد النكارة فيضطر إلى كتابة هذا الحديث للتحذير منه، مع أنه عن شيخ لا يرضاه، كما روى شعبة عن الجعفي، فكُلِّم في ذلك، فقال: روى أشياء لم نصبر عليها (1) وهذا الأمر الثاني الوارد في السؤال على ما فيه؛ فهو أعلى من قول أبي داود – مثلاً – «مشايخ حريز بن عثمان كلهم ثقات» (2)؛ لأنه يرد عليه ما في الأمر الثاني، ثم يزاد على ذلك أن أبا داود قد لا يستحضر كل مشايخه عند إطلاق هذا القول، والله أعلم. (3)
__________
(1) قال ابن حبان: ثنا أحمد بن منصور ثنا نعيم بن حماد قال: سمعت وكيعاً يقول: قلت لشعبة: ما لك تركت فلاناً وفلاناً ورويت عن جابر الجعفي؟ قال: روى أشياء لم نصبر عنها. المجروحين (1/ 209) وقد سبق بيان ضعف هذا الإسناد وعلته ضعف نعيم بن حماد الخزاعي – والله أعلم -.
(2) نقل ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيبه (2/ 172) ترجمة «حبان بن زيد» الشرعبي، قال الحافظ: روى عنه حريز بن عثمان وذكره ابن حبان في الثقات، وقد تقدم أن أبا داود قال: شيوخ حريز كلهم ثقات. اهـ.
(3) قلت: وقد نبه على ذلك العلامة المعلمي رحمه الله تعالى في تنكيله حيث قال: إن قول المحدث «شيوخي كلهم ثقات» أو شيوخ فلان كلهم ثقات فلا يلزم من هذا أن كل واحد منهم بحيث يستحق أن يقال له بمفرده على الإطلاق «هو ثقة» وإنما ذكروا الرجل في جملة من أطلقوا عليهم ثقات فاللازم أنه ثقة في الجملة أي له حظ من الثقة وقد تقدم في القواعد أنهم ربما يتجوزون في كلمة «ثقة» فيطلقونها على من هو صالح في دينه وإن كان ضعيف الحديث أو نحو ذلك وهكذا قد يذكرون الرجل في جملة من أطلقوا أنهم ضعفاء، وإنما اللازم أن له حظاً ما من الضعف كما نجدهم يذكرون في كتب الضعفاء وكثيراً من الثقات الذين تكلم فيهم أيسر كلام اهـ (ص587).(1/355)
س 161: هل هناك فرق بين قول المحدث: «حدثني الثقة» وقوله: «حدثني من لا أتهم»؟
ج 161: القول الأول أرفع؛ لأن نفي التهمة لا يلزم منه ثبوت الثقة، (1) فكم من راوٍ ليس بمتهم، وفي نفس الوقت ليس بمنزلة من يقال فيه: «ثقة»، فقد يكون غير متهم، وهو ضعيف بل ومتروك، ولو فرضنا أنه محمول على عدم التهمة في الرواية، فلا شك أن التصريح بالتوثيق أعلى؛ لأن نفي النقص لا يلزم منه ثبوت الكمال، إلا إذا ظهرت قرينة تدل على خلاف هذا، والله أعلم.
__________
(1) صرح بذلك الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى – في السير (8/ 450 - 451) ترجمة إبراهيم بن أبي يحيى، قال: قد كان الشافعي مع حسن رأيه فيه إذا روى عنه ربما دلسه يقول: أخبرني من لا أتهم، فتجد الشافعي لا يوثقه وإنما هو عنده ليس بمتهم بالكذب ... اهـ.(1/356)
تنبيه: قول المحدث: «حدثني الثقة» أو ما في معناه، لا يقبل منه، وإن كان إماماً، بل لا بد من التصريح باسمه ليُنْظَر: هل هو ثقة عنده وعند غيره، أم لا؟ فقد يكون ثقة عند القائل، ولو صرح باسمه لوجدنا فيه تجريحاً من غير القائل، فتوثيق المبهم لا يعتمد عليه (1)،
__________
(1) قال الزركشي في «البحر المحيط» فلو قال: «لا أتهم» فلا يقبل في التعليم قاله الماوردي والروياني، وكذا قال أبوبكر الصيرفي في «كتاب الإعلام» إذا قال المحدث: حدثني الثقة عندي أو حدثنا من لا اتهمه. لا يكون حجة لأن الثقة عنده قد لا يكون ثقة عندي فأحتاج إلى علمه اهـ (4/ 293) وانظر الكفاية (ص154 - 155) ومقدمة ابن الصلاح (224) والباعث الحثيث (1/ 290) وإرشاد الفحول (ص67) وهناك قول ثان ذكره ابن الصباغ في العدة عن أبي حنيفة: «أن ذلك يكفي توثيقاً للراوي» قال السخاوي في فتح المغيث (1/ 37) وهو ماشي على قول من يحتج بالمرسل من أجل أن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف لما حذفه فكأنه عدله بل هو في مسألتنا أولى بالقبول لتصريحه فيها بالتعديل، ولكن الصحيح الأول، لأنه لا يلزم من تعديله أن يكون عند غيره كذلك فلعله إذا سماه يعرف بخلافه وربما يكون قد انفرد بتوثيقه كما وقع للشافعي في إبراهيم بن إبي يحيى فقد قال النووي أنه لم يوثقه غيره وهو ضعيف باتفاق المحدثين بل إضراب المحدث عن تسميته ريبة توقع تردداً في القلب ... اهـ.
وقال الذهبي – رحمه الله تعالى – في نبلائه (8/ 71 - 72) قال بشر بن عمر الزهراني: سألت مالكاً عن رجل فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا. قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي.
قال الذهبي: فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات ثم لا يلزم عما قال أن كل من روى عنه وهو عنده ثقة أن يكون عند باقي الحفاظ فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره إلا أنه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال رحمه الله. اهـ.
قلت: وإليه ذهب الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «تخريج أحاديث المختصر – المجلس الرابع بعد المئة. فليراجع.(1/357)
وهل يصلح في الشواهد والمتابعات؟
صرح شيخنا أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي – رحمه الله تعالى – بجواز ذلك كما في «المقترح» عند جوابه على السؤال (82)، لكن في الأمر تفصيل، فقد صرح غير واحد بأن الشافعي قد يكني عن الأسلمي بقوله: «حدثني من لا أتهم، والأسلمي متروك وقيل: إنه يقصد غيره من الثقات (1)، فينظر في قائل ذلك، فإن كان مشهوراً بالرواية عن متروك أو متهم، ففي النفس شيء من الاستشهاد بحديث من هذا سبيله. والله تعالى أعلم.
س 162: ما هو القول الراجح في معلقات «الصحيح»، هل يحتج بها أم لا؟
__________
(1) مر ذلك معنا من كلام الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى – في «سيره» (8/ 450 - 451): وحكى الزركشي في «البحر المحيط» عن الربيع أنه قال: إذا قال الشافعي أخبرنا الثقة، يريد يحيى بن حسان، وإذا قال: من لا أتهم فإبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال بعض الناس يريد أهل العراق، وإذا قال: بعض أصحابنا يريد أهل الحجاز ... اهـ.
انظر بقية الأقوال في المصدر المذكور (4/ 292 - 293) وكذا فتح المغيث (1/ 312 - 313) – تدريب الراوي (1/ 313 - 314) وقد رجح السيكي عبارة «حدثني من لا أتهم» إذا صدرت من قبل الشافعي في مقام الاحتجاج على عبارة «حدثني الثقة» وإن كان لا تساويها من حيث الدلالة اللغوية «المصدر السابق».(1/358)
ج 162: فرَّق جمع من العلماء بين ما كان بصيغة الجزم، وما كان بصيغة التمريض (1)، فقالوا: يُحتج بما أخرجه صاحب «الصحيح» معلقاً بصيغة الجزم (2)، ويُستأنس بما أخرجه معلقاً بصيغة التمريض، وعندي أنه ليس كل ما كان بصيغة الجزم يحتج به، وليس كل ما كان بصيغة التمريض فلا يحتج به، فمن الوارد بصيغة الجزم وهو مما لا يحتج به: ما جاء في كتاب العلم من «صحيح البخاري» وهو قول أبي ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه – يعني: رقبته ... إلخ الأثر، فقد أورده بصيغة الجزم، مع أنه لا يحتج به، وقد بينت ذلك في تحقيقي لـ «الفتح» والمسمى بـ «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» أسأل الله أن ييسر إتمامه والنفع به في الدارين (3)،
__________
(1) قال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى – في «الباعث الحثيث» (1/ 122) صيغة الجزم: قال، روى، جاءَ، عن، وصيغة التمريض نحو قيل، ورُوي عن، ويُذكر ونحوها.
(2) أي: وينظر فيمن أبرزه من السند. اهـ المؤلف.
(3) علق البخاري إسناده إلى أبي ذر أنه قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى قفاه – ثم ظننت أني أنفِذُ. اهـ بصيغة الجزم. من «فتح الباري» (1/ 160) باب رقم (10) قال شيخنا حفظه الله في تحقيقه الفتح المسمى «تحفة القاري» فيه مرثد بن عبدالله الزماني روى عنه ابنه مالك وذكره ابن حبان في الثقات ووثقه العجلي وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ... وقد ترجم له الحافظ بقوله «مقبول». فالأثر لين والله أعلم ..(1/359)
وقد بيّن الحافظ في مقدمة «تغليق التعليق» الحالات التي وردت بها المعلقات بصيغة التمريض، وبيّن أن فيها ما يحتج به، وما ليس كذلك وذكر في «الفتح» (2/ 205) كلاماً عاماً، وليس المقصود به معلقات «الصحيح» فقال: إن صيغة التمريض قد تستخدم في الصحيح بخلاف صيغة الجزم، فهي مختصة به لا تستخدم في غيره، واعترض بعض أهل العلم على من قبل المعلقات التي بصيغة الجزم، واحتج بأن أهل العلم لا يحتجون بتوثيق المبهم، فمن قال: «حدثني الثقة»، لم يُقبل منه حتى يصرح باسمه ليعرف: هل هو ثقة حقاً، أم فيه جرح من غير هذا الموثق؟ قال: وغاية جزم البخاري في المعلق أن يكون كتوثيق المبهم، فلا يُقبل (1)،
__________
(1) أقول: ويلزم من احتج بالمعلق دون بحث وتفتيش عن رجال الإسناد والحكم عليه بما يستحق أن يحتج بالمرسل كذلك وبهذا استدل المناوي – رحمه الله تعالى – حيث قال في «اليواقيت والدرر» ويقال على التعليل أنه يلزم منه صحة الحديث، أي المعلق بصيغة الجزم المرسل عند من أرسله فإن ابن المسيب لا يستجيز أن يجزم بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال كذا إلا وقد صح عنه، وتصحيح سعيد مثلاً أولى من تصحيح البخاري بأنه عارف حال من روى عنه بطريق الخبر والبخاري بطريق الخُبر، وما كان عن اجتهادنا فاجتهاد ابن المسيب أولى بالاتباع من اجتهاد البخاري وظن أن البخاري ينفرد عن أحوال الرجال دون من تقدم حيث كانوا يأخذون كل ضرب ظن فاسد مخالف لصريح النقل عنه، روى البيهقي في المعرفة عن الإمام الشافعي رضي الله عنه عن يحيى بن سعيد قال: سألت ابناً لعبدالله بن عمر عن مسألة فلم يقل فيها شيئاً فقيل له، إنا نعظم أن يكون مثلك يسأل عن أمر ليس عنده فيه علم فقال: أعظم والله من ذلك عند الله وعند من عرف الله وعند من عقل أن أقول ما ليس لي به علم أو أخبر عن غير ثقة .... وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «كان ابن مسعود وغير واحد من التابعين يذهب هذا المذهب في أن لا تقبل إلا ممن عرف» قال: وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل العلم بالحديث مخالف هذا المذهب. وروى ابن أبي خيثمة في التاريخ عن موسى بن إسماعيل ثنا حماد وقال: «قال ابن زيد ربّما حدث الحسن الحديث فأقول: يا أبا سعيد ممن سمعت هذا؟ فيقول: أخذته عن ثقة» فتبين أن المرسل إنما يرسل ما ثبت عنده كما أن البخاري إنما يجزم في تعليقه بما ثبت عنده، وإن تقليد التابعين العارفين بأحوال من أخذوا عنه بالخبر أولى. اهـ «اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر» (1/ 339 - 340).
- ... وأما عن «صيغة التمريض» فقد قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في الفتح (1/ 111) كتاب الإيمان ذكر لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ – أي العراقي – رحمه الله – قاعدة وهي: إن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضاً، لما علم من الخلاف في ذلك. اهـ.(1/360)
والأمر الذي تطمئن إليه النفس: أنه لا بد من البحث والتفتيش عن السند، ويُحكم عليه بما يستحق، نعم، ما كان بصيغة الجزم فالثابت منه أكثر مما كان بصيغة التمريض. المؤلف. والله تعالى أعلم.
س 163: إذا اختلف تلامذة ابن معين – مثلاً – عنه في أحد الرواة، فبعضهم نقل توثيقه، وبعضهم نقل تضعيفه، فبكلام من نأخذ؟(1/361)
ج 163: في مثل هذا، وقبل الترجيح بين تلامذة ابن معين، ننظر: لماذا اختلف قول ابن معين في الراوي؟ فلربما أننا لو دققنا النظر؛ لعلمنا أنه لم يختلف ابن معين في هذا الرجل، فقد سبق أن ذكرت كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – بأن صيغة السؤال لها أثر في جواب المسئول، فقد يُسأل عنه مقروناً بغيره من مشاهير الثقات، فيضعفه، أي: بالنسبة لنم قُرِن معه، وقد يُسأل عنه مقروناً بأحد الضعفاء، فيوثقه، أي: بالنسبة لمن قُرن معه، ولو سئل عنه منفرداً، فقد يعدِّله تعديلاً متوسطاً، كما أنه قد يُسأل عنه في حديث وهم فيه، فيضعفه (1)، وقد يُسأل عنه في حديث حفظه مع جمع آخرين فيقول: هؤلاء جماعة ثقات حفاظ، كما قال ذلك الدارقطني – رحمه الله – في كتابه «العلل»، انظر السؤالين برقم (1، 47) وقد نبه على ذلك الشيخ المعلِّمي – رحمه الله تعالى (2)
__________
(1) الكلام على هذه المسألة في السؤال رقم «49» فليراجع.
(2) قال المعلمي – رحمه الله تعالى -: إن قول المحدث «رواه جماعة ثقات حفاظ» ثم يعدهم لا يقتضي أن يكون كل من ذكره بحيث لو سئل عنه ذاك المحدث وحده لقال «ثقة حافظ» هذا ابن حبان قصد أن يجمع الثقات في كتابه ثم قد يذكر فيهم من يلينه هو نفسه في الكتاب نفسه وهذا الدارقطني نفسه ذكر في السنن (ص35) حديثاً فيه مسح الرأس ثلاثاً وهو موافق لقول أصحاب الشافعية ثم قال: «خالفهُ جماعة من الحفاظ الثقات ... » فعدهم وذكر فيهم شريكاً القاضي وأبا الأشهب جعفر بن الحارث والحجاج بن أرطاة وجعفر الأحمر مع أنه قال في ص (132) وشريك ليس بالقوي فيما ينفرد به، وجعفر بن الحارث لم أرَ له كلاماً فيه ولكن تكلم فيه غيره من الأئمة كابن معين والنسائي، وحجاج بن أرطاة .. قال الدارقطني نفسه في مواضع من «السنن»: «لا يحتج به» وفي بعض المواضع «ضعيف» وجعفر الأحمر اختلفوا فيه وقال الدارقطني كما في التهذيب «يعتبر به» وهذا تليين كما لا يخفى – التنكيل (586 - 587) وقد فصل الكلام – رحمه الله تعالى – في ص (254 - 255) فليراجع.(1/362)
– فإذا نظرنا في هذه الأمور وما شابهها، فلعلنا نستطيع أن نجمع بين قولي أو أقوال ابن معين، ولا نحتاج إلى الترجيح بين تلامذته (1)، وإن علمنا أن ابن معين قد تغير اجتهاده في الراوي، أخذنا بالقول المتأخر، لكن لو فرضنا أن جميع وجوه الترجيح قد تعذرت، فقد صرح بعضهم بأننا نأخذ بكلام التلامذة البغداديين؛ لأنهم لازموه، وهم به أعرف، وهذا وإن كان له وجه، إلا أنه لا يطّرِد، والعبرة بالقرائن، والله تعالى أعلم. (2)
س 164: كلام العلماء في الشذوذ وزيادة الثقة، هل هو خاص بزيادة الوصل أو الرفع، أم أنه عام في كل زيادة؟
__________
(1) أقول: وقبل: الجمع بين القولين ننظر في نسبة القولين إلى الإمام إن أمكن ذلك فأيهما صحت نسبته إليه قدم. مثال ذلك ما جاء في «الميزان» (1/ 200) ترجمة إبراهيم بن هدبة. قال الذهبي ولا يفرح عاقل بما جاء بإسناد مظلم عن يحيى بن بدر قال. قال يحيى بن معين: أبو هدبة لا بأس به ثقة. فهذا القول باطل، فقد قال إبراهيم بن عبدالله بن الجنيد: سمعتُ يحيى بن معين، وسئل عن أبي هدبة فقال: قدم علينا هاهنا، وكتبنا عنه عن أنس ثم تبيَّن لنا أنه كذاب خبيث.
(2) قلت: من القرائن على سبيل المثال:
1 – تقديم رواية التلميذ الملازم للشيخ كتقديم رواية عباس الدوري عن ابن معين لطول ملازمته له.
2 – كثرة الناقلين لأحد قولي الإمام، فتقدم رواية الأكثر والأحفظ.
3 – كون أحد القولين موافقاً لقول الأئمة، فيقدم القول الموافق. والله أعلم.
ولا يلزم من ذلك اضطراد هذه القرائن في كل موضع(1/363)
ج 164: سبق الكلام حول قولهم: «الزيادة من الثقة مقبولة» وبينت أن ذلك من الثقة الحافظ المتقن، وبينت أيضاً أن طريقة النقاد أنهم يدورون مع القرائن، وليس عندهم حكم عام في هذا الأمر (1)، ونظراً لكثرة كلامهم في هذا الأمر عند الوصل أو الرفع، ظن كثير من طلاب العلم أن ذلك خاص بالوصل والرفع، مع أن صنيعهم واستعمالهم يدل على أنهم يطردون القول بالشذوذ أو زيادة الثقة في أبواب أخرى، مثل تصريح المدلس بالسماع، فإذا كان الأحفظ والأكثر من تلامذته، رووا الحديث عن المدلس بالعنعنة، وخالفهم من ليس من أهل التثبت في ذلك، وصرح بالسماع بين المدلس وشيخه، فإنهم يردون ذلك، وأيضاً في باب تسمية المبهم، فلو سماه من ليس بأهل لقبول قوله، لم يُقبل منه، وكذلك أي علة تعلُّ الحديث، فإن روى الحفاظ الحديث وفيه علة، ورواه غيرهم ومن ليس في درجتهم سالماً من العلة، لم يُقبل هذا منه، وسبق شرح شيء من ذلك في الكلام على التسوية والتجويد. والله أعلم (2).
س 165: هل هناك فرق بين قول أحد العلماء في حديث ما: «مرسل صحيح» وقوله: «صحيح مرسلاً»؟
ج 165: الذي يظهر لي أن القول الأول يقال في الحديث المرسل وسنده إلى التابعي صحيح، والمرسل من جملة الضعيف في قول جمهور أهل العلم.
لكن القول الثاني يشير إلى أن الحديث اختلف فيه، فرواه بعض الرواة مسنداً، ورواه آخرون مرسلاً، والمرسِلون أكثر أو أحفظ من الذين أسندوه، فيقال: «صحيح مرسلاً» أي: صحيح حال كونه مرسلاً، ومن أسنده فقد وهم، هذا ما ظهر لي، ولا أذكر موضعاً الآن فيه تصريح بذلك. والله أعلم. (3)
__________
(1) سبق ذلك في الكلام على السؤال رقم (93).
(2) انظر ذلك أيضاً في السؤال رقم (83).
(3) ومثال قولهم صحيح مرسلاً ما جاء في حديث «كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بالحمدلله فهو أقطع».
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في «الإرواء» (1/ 30 - 32). رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبدالعزيز عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلاً. والصحيح عن الزهري مرسلاً وهو الذي جزم به الدارقطني كما نقله السبكي وهو الصواب، لأن هؤلاء الذين أرسلوه أكثر وأوثق من قرة وهو ابن عبدالرحمن المعافري المصري.
بل إن هذا فيه ضعف من قبل حفظه ولذلك لم يحتج به مسلم وإنما أخرج له في الشواهد ... إلى أن قال – جملة القول أن الحديث ضعيف لاضطراب الرواة فيه على الزهري وكل من رواه عنه موصولاً ضعيف. أو السند إليه ضعيف والصحيح عنه مرسلاً كما تقدم عن الدارقطني وغيره والله أعلم. اهـ.(1/364)
س 166: الأحاديث التي ذكرها الدارقطني – رحمه الله – في «التتبع» كلها غير صحيحة؟
ج 166: ليس كل ما في «التتبع» منتقداً عند الدارقطني نفسه فضلاً من غيره.
فقد ذكر شيخنا مقبل – رحمه الله – في مقدمة «الإلزامات والتتبع» (ص9) أنه ليس كل ما في «التتبع» يراه الدارقطني معلاً بعلة قادحة، بل قد ينبّه – رحمه الله تعالى – على بعض الأحاديث أنه ليس في الدرجة العليا من الصحة، ثم يعترف بصحته، وهذا دليل على بعده – رحمه الله – عن الهوى. اهـ.
وأما ما انتقده الدارقطني: فمنه ما سُلِّم له به، وهو قليل، ومنه ما رُدَّ عليه (1)، فإذا قيل: هذا الحديث ذكره الدارقطني في «التتبع»، فيسأل: هل انتقده الدارقطني أم وافق صاحبي «الصحيح» أو أحدهما على صحته؟ فإن كان الأول: فهل هو مسلَّم له، أم لا؟ ويُحكم على الحديث بما يستحق بعد الإطلاع على ذلك. والعلم عنه الله تعالى.
س 167: لماذا كان تدليس التسوية شر أنواع التدليس؟
ج 167: سبق أن تدليس التسوية هو إسقاط ضعيف وأحياناً يكون إسقاط صغير بين ثقتين أو مقبولين قد سمع الثقة أو الصدوق من شيخه، من أجل أن يظهر الإسناد مستوياً بالثقات، ويترتب على هذا الصنيع أمران قبيحان:
__________
(1) قلت وقد سلم الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – للنقاد في موضعين. الأول: ما جاء في «هدى الساري» ص (376) في قول ابن عباس رضي الله عنه: كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك. قال الحافظ بعد عرضه لأقوال النقاد – ثُم أجاب عليها – قال: «فهذا جواب إقناعي وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولا بد للجواد من كبوة. والله المستعان ا. هـ.
الموضع الثاني: ما جاء في حديث «الذبح بالمروة» قال الحافظ وعلته ظاهرة والجواب عنه في تكلف وتعسف. اهـ من المصدر السابق.(1/365)
الأول: الحكم للإسناد بالصحة، وتصحيح المتن والعمل بحديث الضعفاء والمجهولين.
الثاني: أن الثقة الذي أخذ من الضعيف المُسْقَط، يُحمَّل عهدة هذه المناكير، كما قيل للوليد بن مسلم حين سئل عن هذا الصنيع: فقال: أجلُّ الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء، فقيل له: إنك إن فعلت ذلك ضُعَّف الأوزاعي (1)، أي أن من نظر في روايته رأى فيها المناكير، ورأى أن شيوخه توبعوا عليها، فتلزق العهدة بالأوزاعي، وهو منها بريء، وهكذا يتعدى ضرر المدلسين في هذا النوع إلى غيرهم (2)، فمن هنا كان شر أنواع التدليس، والله المستعان.
س 168: إذا أسقط أحد من الرواة رجلاً من السند هل يكون مدلساً؟
__________
(1) في «الميزان» (4/ 348) قال صالح جزرة: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدت حديث الأوزاعي قال: وكيف؟ قلت: تروي عنه عن نافع وعنه عن الزهري وعنه عن يحيى وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبدالله بن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري قرَّة. فما يحملك على هذا؟ قال أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء. قلت فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء ... وهم ضعفاء ومناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الأثبات ضعف الأوزاعي، فلم يلتفت إلى قولي. اهـ.
(2) أقول: ولهذا قال العلاني رحمه الله في «جامع التحصيل» (ص103) و «بالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقاً وشرها. لكنه قليل بالنسبة إلى ما يوجد عن المدلسين» ا. هـ وانظر كلام الإمام العراقي رحمه الله في «التقييد والإيضاح» (ص96 - 97).(1/366)
ج 168: من المحتمل أن يكون ذلك تدليساً أو تسوية أو تجويداً، وقد سبق شرح هذا (1)، ومن المحتمل أن يكون تضعيفاً من الراوي لهذا المُسْقَط، أو شكاً في وجوده في السند، كما كان مالك يفعل ذلك بعكرمة، فظن بعضهم أنه يدلس، وليس ذلك تدليساً، ومن المحتمل أنه أسقط الراوي وهماً منه وغفلة، ولكل من هذه الاحتمالات حكم. والله المستعان.
س 169: إذا نص أحد العلماء على أن الحديث الفلاني، لم يروه عن فلان إلا فلان، وكان هذا التلميذ ضعيفاً، هل أحكم على الحديث بالضعف أم لا؟
ج 169: ينظر أولاً في قائل هذه المقالة، هل هو من أهل التتبع والاستقراء لطرق الحديث، أم أنه يطلق ذلك والأمر على خلافه؟ فإني قد رأيت جماعة من العلماء يطلقون ذلك، وليس الأمر على ما قالوا، مثل العقيلي في «الضعفاء الكبير» وابن عدي في «الكامل» والبزار في «مسنده» والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» و «أبي نعيم» في «الحلية» و «معرفة الصحابة»، فإنهم يكثرون من إطلاق تفرد الراوي عن شيخه، ويكون هناك متابع له، وقد يكون لهم مقاصد أخرى، فلا يُتنبه لها، ويحكم على الحديث بالضعف، ثم إن هذه الكلمة في ذاتها لا تدل على ضعف الحديث مطلقاً، فقد يكون الحديث ضعيفاً من هذه الطريق، ولكنه ثابت من جهة أخرى، فضعفه من رواية فلان؛ لا يلزم منه أن يكون ضعيفًا من كل الطرق، فقد يُضَعف الإسناد، ولا يُضعف المتن، إذا كان له طرق أخرى، وقد يكون قصد من ادعى التفرد أي بالسياق الفلاني، أو يعني أنه لم يروه من الثقات إلا فلان، وقد نبّه الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا (2)،
__________
(1) انظر ذلك في السؤال رقم (83).
(2) قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في «النكت» (2/ 708 - 709):
ومن مظان الأحاديث الأفراد مسند أبي بكر البزار، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه، وتبعه أبو القاسم الطبراني في «المعجم الأ, سط» ثم الدارقطني في «كتاب الأفراد» وهو ينبئ على اطلاع بالغ ويقع عليهم التعقب فيه كثيراً بحسب اتساع الباع وضيفه أو الاستحضار وعدمه. وأعجب من ذلك أن يكون المتابع عند ذلك الحافظ نفسه فقد تتبع العلامة مغلطاي على الطبراني ذلك في جزء مفرد.
وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق أو حيث يكون المتابع ممن يعتبر به لاحتمال أن يريدوا شيئاً من ذلك بإطلاقهم والذي يرد على الطبراني ثم الدارقطني من ذلك أقوى مما يرد على البزار لأن البزار حيث يحكم بالتفرد إنما ينفي علمه فيقول: «لا نعلمه يروي عن فلان إلا من حديث فلان».
وأما غيره، فيعبر بقوله «لم يروه عن فلان إلا فلان» وهو إن كان يلحق بعبارة البزار على تأويل فالظاهر من الإطلاق خلافه – والله أعلم. اهـ.(1/367)
لكن لو افترضنا عدم وجود هذه القرائن، فالنفس تطمئن إلى الحكم بضعف ما هذا سبيله، والله أعلم.
س 170: إذ قالوا عن راوٍ: «متفق على تضعيفه»، هل يكون متروكاً شديد الضعف؟
ج 170: قد يكون متروكاً، وقد يكون ضعيفاً فقط، وإنما المقصود بذلك أن الراوي لم يوثقه أحد، بل تتابعت كلمات النقاد فيه بالجرح، لكن ما هو نوع هذا الجرح؟ هل هو جرح شديد، أم جرح خفيف؟ هذا كله لا يظهر لنا إلا إذا رجعنا إلى الكتب التي ترجمت لهذا الراوي، فحينذاك سنقف على قول أهل النقد فيه، ويظهر لنا حال الراوي. ومما يدل على ما ذكرت أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قال في «النكت» (1/ 392): وعبيدة – يعني ابن معتِّب الضبي – قد اتفق أئمة النقل على تضعيفه، إلا أنهم لم يتهموه بالكذب اهـ. وترجم له في «التقريب» بقوله: ضعيف واختلط بأخره، وذكر نحو ذلك في إسماعيل بن مسلم المكي، انظر «النكت» (1/ 391). والله تعالى أعلم.
س 171: في كتب العلل يذكرون أن رواية فلان أرجح من رواية فلا، فما معنى ذلك؟
ج 171: لا يلزم من كون الرواية مرجوحة أن تكون ضعيفة شاذة، فقد وجدتهم يطلقون ذلك على الصحيح والأصح، فالمرجوحة صحيحة والراجحة أصح منها، ومن تتبع ذلك بتأمل في كتب العلل والتخريجات ظهر هذا له، نعم يطلقون ذلك كثيراً في الأحاديث المقبولة التي مقابلها المردودة، لكن إذا ظهرت قرينة للأمر الأول عُمل بها. انظر كلام الحافظ في «التتبع» بتحقيق شيخنا مقبل بن هادي – رحمه الله – ص383 الحديث رقم (66)، وأيضاً فقد يرجحون أحد الوجوه على أحد الشيوخ، لكن هناك علة فرق الشيخ المختلف عليه، فيكون الوجه هذا مع كونه راجحاً، إلا أنه ضعيف للعلة الأخرى، والله أعلم.
س 172: الحافظ الذهبي في «تلخيص مستدرك الحاكم»، يذكر كلام الحاكم دون اعتراض عليه غالباً، فهل هذا يعتبر موافقة منه للحاكم على تصحيح الحديث؟(1/368)
ج 172: يرى شيخنا الألباني – رحمه الله – أن ذلك يُعتبر موافقة من الذهبي للحاكم، وهو واضح لمن نظر في كتب شيخنا – سلمه الله – ولذلك ترى شيخنا الألباني – رحمه الله – يتعقب الحافظ الذهبي – رحمه الله -، ويقول: في السند فلان، وقد ضعفه الذهبي نفسه في «الميزان» فقال ... كذا.
والذي ترجح ليّ أن الذهبي قصد تلخيص الكتاب، ولم يتصد لتحقيقه كله، بل تعرض لبعض المواضع، وسكت عن الأكثر، مع علمه بأن الكتاب يحتاج إلى عمل، كما صرح بذلك في «النبلاء» ترجمة أبي عبدالله الحاكم النيسابوري صاحب «المستدرك»، وليس من المعقول أن يسكت الحافظ الذهبي على أحاديث فيها علل ظاهرة لا تخفى على طالب علم – فضلاً الحافظ الذهبي – ولا يتكلم عليها، وقد قسم الحافظ الذهبي في «النبلاء» أيضاً أحاديث «المستدرك» إلى أقسام: منها الصحيح، ومنها الحسن والصالح، وذكر أن نحو الربع من الكتاب ضعيف أو منكر، وذكر أن فيه أحاديث يشهد القلب ببطلانها وعبارته في «النبلاء» (17/ 175 - 176): في «المستدرك» شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة، يشهد القلب ببطلانها، كنت قد أفردت منها جزءاً، وحديث الطير بالنسبة إليها سماء، وبكل حال فهو كتاب مفيد اختصرته، ويعوز عملاً وتحريراً اهـ، ولو جمعنا المواضع التي له نقد واعتراض على الحاكم فيها، ما وصلت ربع أحاديث الكتاب، مما يدل على أن الرجل قصد التلخيص لا التحقيق، وإن كان لا يصبر في بعض المواضع، ويتكلم على بعض الأحاديث، فتلك سجية أي محدث وناقد. ومع ذلك فالأمر يحتاج إلى مزيد بحث. والله أعلم.(1/369)
س 173: إذا روى الثقة حديثاً من حفظه، وخالفه ثقة روى الحديث من كتابه الذي مدحه الأئمة، فمن نقدم؟
ج 173: إذا تعذرت وجوه الجمع، وتجرد الأمر من قرائن أخرى: نقدم قول صاحب الكتاب الذي ضبطه صاحبه؛ لأن الحفظ قد يخون، وقد جُرِّب على الحفاظ الوهم – وإن كان قليلاً (1) – ولذلك كان أمير المؤمنين في الحديث وهو الإمام أحمد – رحمه الله – يؤكد على النظر في الأصل حال التحديث أو الإملاء (2)، وكان العلماء يشددون في النكير على من لم يكتب، لعلمهم أن الحفظ خوّان، حتى قال ابن معين: إذا رأيت المحدث لا يحمل قرطاساً ولا قلماً، فاعلم أنه قد عزم على الكذب (3)،
__________
(1) في «تاريخ بغداد» (9/ 26) ترجمة سليمان بن الجارود، أبو داود الطيالسي. قال أبو مسعود: كتبوا إليّ من أصبهان أن أبا داود أخطأ في تسعمائة أو قالوا ألف فذكرت ذلك لأحمد فقال: يحتمل لأبي داود. قال الخطيب: كان أبو داود يحدث من حفظة والحفظ خوان فكان يغلط مع أن غلطه يسير في جنب ما روى على الصحة والسلامة. اهـ.
(2) في «سير أعلام النبلاء» (12/ 289) ترجمة يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي.
ثنا محمدُ بن صالح بن هانئ: ثنا يحيى بنُ محمد، سمعتُ علي بن المديني يقول: عهدي بأصحابنا وأحفظهُم أحمدُ بن حنبل فلما احتاج أن يحدث لا يكاد يحدِّث إلا من كتاب.
قال الذهبي: لأن ذلك أقرب إلى التحري والوَرَع وأبعدُ عن العُجْبِ. وفي (11/ 200) وعن علي بن المديني، قال: أمرني سَيِّدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب. وعن الحسين بن الحسن أبو معين الرازي: سمعتُ ابن المديني، يقولُ: ليس في أصحابنا أحفظُ من أحمد، وبلغني أنه لا يُحدِّثُ إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة. اهـ من «السير».
(3) قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (16/ 181) ترجمة حمزة بن محمد:
وقد ساق سنده إلى عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا رأيتَ الرجلَ يخرجُ من منزلة بلا محبرة ولا قلم يطلبُ الحديث، فقد عَزَمَ على الكِذبة. اهـ وفي «تذكرة الحفاظ» (3/ 934) فقد عزم على الكذب. والله أعلم.(1/370)
أي: أن الأوهام ستقع في حديثه إذا لم يكن معه أصل يرجع إليه عند الشك أو الريبة.
لكن بقي للسؤال بقية، وهي: ماذا نفعل إذا عارض الثقةَ الذي روى من حفظه رجلٌ صدوق روى من أصله الذي أتقنه؟ الظاهر أيضاً تقديم الكتاب، وهل ذلك أيضاً إذا روى سيئ الحفظ من كتابه؟ محل بحث. والله أعلم.
س 174: ما هو الفرق بين عمل صاحب «المستخرج»، وعمل صاحب «المستدرك»؟
ج 174: صاحب المستخرج يعمد إلى متون الكتاب المستخرّج عليه، ويأتي لها بأسانيد من غير طريق صاحب الكتاب المخرَّج عليه، وسواء التقى معه في شيخه أو فيمن فوقه، وقد يزيد زيادات في المتن أو في السند، مثل تصريح مدلس بالسماع، أو رواية متقدِّم عن مختلط، أو غير ذلك، وقد يسقط بعض المتون لعدم الوقوف على إسناد له من غير طريق صاحب الكتاب، وقد يرويها من طريق صاحب الكتاب، كما قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – (1) فصاحب «المستخرج» همه الإسناد، وقد يزيد أحاديث ليست في الأصل المخرّج عليه، على سبيل المثال، حديث: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» فقد أخرجه أبو عواند في «مستخرجه»، وعن ابن معين أنه قال: منكر، ومسلم رحمه الله لم يخرجه، واستنكر ذلك السخاوى في «الفتاوى الحديثية» السؤال السادس، أما صاحب «المستدرك» فهمه المتن، فهو يأتي لرجال أخرج لهم صاحب الكتاب المستدرك عليه بعض المتون، ويُلْزِمه أن يخرج هذه المتون؛ لأنها عن نفس الرجال، أو عن رجال في درجتهم.
__________
(1) انظر «النكت على ابن الصلاح» (1/ 321 - 323)، و «تدريب الراوي» للسيوطي (1/ 112).(1/371)
لكن لو نظرنا إلى الحاكم – رحمه الله – في «مستدركه» وجدناه يلزم الشيخين بأحاديث بعضها قد أخرجاها أو أحدهما، وبعضها لا يلزمهما إخراجها؛ لأنهما لم يلتزما إخراج كل الصحيح، بل التزما إخراج الصحيح، ولم يشترطا الاستيعاب (1)، وبعضها يكون مخطئاً في تصحيحها، فضلا عن كونها من أعلى درجات الصحة، وقد تكلم الحافظ ابن حجر على ذلك (2)، وانظر «الباعث الحثيث» ص: (24)، والله أعلم.
س 175: معلوم أن سيئ الحفظ يُستشهد به، وكذا المدلس إذا عنعن، فهل يستشهد برواية سيئ الحفظ إذا تابعه مدلس على نفس الحديث؟
__________
(1) قال الإمام البخاري – رحمه الله تعالى -: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح مخافة الطول. وقال الإمام مسلم: كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه يريد ما وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليها. وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم قاله ابن الصلاح ... إلخ. قال النووي في «شرح مسلم».
وقد ألزمهما الدارقطني وغيره إخراج أحاديث على شرطهما لم يخرجها وليس بلازم لهما. لعدم التزامهما ذلك. انظر «تدريب الراوي» (1/ 98) والله أعلم.
(2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النكت» (1/ 418): «ومن أعجب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبدالرحمن بن أسلم وقال بعد روايته: هذا صحيح الإسناد ... مع أنه قال في كتابه الذي جمعه في الضعفاء عبدالرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن المحمل فيها عليه. وقال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين ذكرتهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا أستحله تقليداً. اهـ.(1/372)
ج 175: فرْق بين كون الحديث روي من طريقين مختلفين، في أحدهما رجل سيء الحفظ، وفي الآخر عنعنة مدلس، وبين كون الضعيف هذا والمدلس روياه عن شيخ واحد، ففي الحالة الأولى يُحسن الحديث، بخلاف الحالة الثانية؛ لأننا نخاف من المدلس، فلربما أنه أخذه عن هذا الضعيف، ثم أسقط الضعيف، ودلسه، فتكون الروايتان من طريق هذا الضعيف، فلا يحسن الحديث إلا إذا علمنا إن هذا المدلس لم يروِ قط عن هذا الضعيف، فحينذاك نستشهد به، وقد صرح بذلك شيخنا الألباني – رحمه الله – كما في «تمام المنة» ص (72) و «الضعيفة» (3/ 145)، ولم أستفد هذه الفائدة النفيسة إلا عنه – يحفظه الله تعالى-.
س 176: ما الفرق بين الحديث الموصول والحديث المرفوع والحديث المسند؟
ج 176: الذي ترجح ليّ بعد النظر في كلام الأئمة – تمييزاً للأنواع وفراراً من تداخلها-.
أن الموصول أو المتصل: هو ما اتصل سنده إلى منتهاه، سواء وصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو إلى من دونه (1).
والمرفوع: هو ما رفع إلى النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، سواء اتصل سنده أم لم يتصل.
والمسند: هو ما رفعه الصحابي إلى النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) حال كونه متصلاً، فهو عبارة عن موصول مرفوع.
__________
(1) أما إذا اتصل الإسناد إلى أحد التابعين فلا يطلق عليه الاتصال، وإنما يقيد اتصاله إلى ذلك التابعين كأن يقال «متصل الإسناد إلى الزهري مثلاً».
قال العراقي في «شرحه الألفية» (1/ 58) وأما أقوال التابعين إذا اتصلت الأسانيد إليهم فلا يسمونها متصلة في حالة الإطلاق أما مع التقييد فجائز وواقع في كلامهم. كقولهم هذا متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري. أو إلى مالك ونحو ذلك قيل: والنكتة في ذلك أنها تسمى مقاطيع. فإطلاق المتصل عليها. كالوصف لشيء واحد بمتضادين لغة. اهـ وانظر «مقدمة ابن الصلاح» (ص40)، و «تدريب الراوي» (1/ 183)، و «توضيح الأفكار» (1/ 260).(1/373)
وعبارة الحافظ في «النكت» أدق، وعليها المعتمد، حيث قال: والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم، أو «المسند» عندهم: ما أضافه من سمع النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بسند ظاهره الاتصال أهـ. فيدخل فيه ما فيه عنعنة مدلس، أو مرسل خفي، كما نبه على ذلك الحافظ في موضع آخر، وقال: ومن تأمل مصنفات الأئمة في «المسانيد» لم يرها تخرج عن اعتبار هذه الأمور، وعبارته في «النزهة» (ص57)، بعد ذكر نحو هذا: لإطباق الأئمة الذي خرجوا المسانيد على ذلك أهـ. ثم قال في «النكت»: وبهذا يتبين الفرق بين الأنواع، وتحصل السلامة من تداخلها واتحادها، إذ الأصل عدم الترادف أهـ (1/ 507، 508).
ولا يشترط في جميعها ثقة الرواة؛ لأن ذلك من شروط الصحة، لا شرط الإسناد أو الوصل أو الرفع. والله أعلم.
س 177: إذا كان كذلك، فهل هناك فرق بين قول أحدهم في حديث ما: «أرسله فلان، ورفعه فلان» وبين قول أحدهم: «أرسله فلان وأسنده فلان»؟
ج 177: لا شك أن العبارة الثانية أدق – وإن كانت العبارة الأولى موجودة في نصوص بعض العلماء – لأن المرسل من جملة المرفوع، لأنه منسوب إلى النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، ولا يشترط فيه اتصال السند، لكن العبارة الثانية تضمنت مع الرفع الاتصال. والله أعلم.
س 178: ذكر الحافظ الذهبي والشيخ المعلَّمي – رحمهما الله تعالى – أن الراوي المدلس تقبل عنعنته إذا روى عن شيخ قد أكثر عنه، أو طالت ملازمته له – فهل هذا على إطلاقه؟ (1)
__________
(1) قال الحافظ الذهبي رحمه الله في «ميزان الاعتدال» (2/ 224) ترجمة سليمان بن مهران الكوفي الأعمش قال: قلت وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدرى به فمتى قال ثنا فلا كلام، ومتى قال «عن» تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم. كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال. اهـ.
وفي «التنكيل» للمعلمي ص (865) قال رحمه الله:
كان ابن جريج يدلس عن غير عطاء، فأما عن عطاء فلا. قال: إذا قلت قال عطاء فأنا سمعته منه، وإن لم أقل سمعت، وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء، فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء، وهذا كما قال أبو إسحاق قال أبو صالح وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج ليس أحد يحدث عن أبي هريرة إلا علمنا أصادق أم كاذب، يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علما أنه كذب لإحاطتهما بحديث أبي هريرة. اهـ.(1/374)
ج 178: في التسليم بما قالاه بحث. ووجه كلامهما أن الراوي المدلس، بما أنه مكثر عن شيخه، وملازم له، فقد عرف حديثه من حديث غيره، فإذا سمع حديثاً منه،، وصرح بسماعه فلا إشكال، وإذا سمع حديثاً وعنعن عنه، فيحتمل بأنه سمعه منه، ولا إشكال في ذلك، ويحتمل أنه سمعه بواسطة عنه، والفرض أنه يعلم حديثه من حديث غيره، والفرض أيضاً أنه ثقة في دينه، فلو كان يعلم أن هذا الحديث الذي سمعه بواسطة، ليس من حديث شيخه، لما استجاز لنفسه أن يجزم بنسبته إلى شيخه، وحيث قد جزم، فقد ظهر له أنه من حديث شيخه، سواء سمعه مباشرة أو بواسطة، هذا وجه كلامهما رحمهما الله. وفي التسليم به بحث، ولو سلمنا بذلك لكان هذا مقيداً بمن هو مثل الأعمش والثوري في النباهة واليقظة، وترك الشره في الرواية، لا في كل مدلس، وهذا الذي تميل إليه النفس، وهو قبول عنعنة الأعمش وابن جريج وأمثالهما بالقيد السابق والله أعلم، أرجع إلى السؤال فأقول: ليس كل مكثر عن مدلس يزيل إكثاره عنه علة تدليسه؛ لأ، المدلس قد يكون ممن يدلس تدليس التسوية، وعلته حينئذ ليست منحصرة فيما بينه وبين شيخه، بل نحن نرتاب منه فيما فوق ذلك؛ لأنه يسقط الأدنياء الضعفاء، ويظهر الأجواد الرفعاء، ليستوي الإسناد بالثقات، فيصححه من نظر فيه. والله المستعان.
س 179: أيهما أفضل: السند الذي فيه مبهم، كقول ثقة: حدثني رجل قال: حدثني فلان، ويسمي ثقة آخر، أم السند الذي فيه انقطاع؟ وهل الذي فيه مبهم من جملة المتصل، أم المنقطع؟(1/375)
ج 179: يظهر ليّ أن السند الذي فيه مبهم، أخف ضرراً من السند الذي فيه انقطاع؛ لأن الثاني من المحتمل أن يكون معضلاً، وإن كان بين الثقتين اللذين بينهما انقطاع طبقة واحدة؛ لأن الرواة قد يروون عن أقرانهم، بل قد ينزلون ويروون عن أصغر منهم، فبذلك تتعدد الوسائط بين الثقتين الظاهرين، وإن كان هذا نادراً، لكنه منتف في القول الأول، ويظهر لي أيضاً أن السند الذي فيه مبهم من جملة المتصل، وإن سماه البعض منقطعاً. والله أعلم. (1)
س 180: كيف عرف الأئمة أن الراوي الفلاني مدلس؟
ج 180: يعرف ذلك بأمور:
__________
(1) ومن هؤلاء الإمام الخطابي – رحمه الله تعالى – فقد أعل حديث «عروة البارقي» في قصة شرائه الشاة. بعدم الاتصال. وذلك لإبهام الحي الذي يروون عنه. اهـ انظر «نصب الراية» (4/ 90 - 91) وكذلك الإمام البيهقي رحمه الله. فقد أعل الحديث السابق وقال: ليس بثابت وذلك لما في إسناده من الإرسال لأن شبيب بن غرقدة لم يسمعه من عروة البارقي إنما سمعه من الحي يخبرونه. اهـ من «السنن للبيهقي» (6/ 113). وقال الرافعي في «التذنيب» هو مرسل كما في «التلخيص الحبير» (3/ 5).
هذا وقد أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله على إطلاقهم الانقطاع أو الإرسال على إبهام الحي فقال: وأما قول الخطابي والبيهقي وغيرهما أنه غير متصل لأن الحي لم يسم أحد فيهم فهو على طريقة بعض أهل الحديث يسمون ما في إسناده مبهم «مرسلاً» أو منقطعاً. والتحقيق إذا وقع التصريح بالسماع أنه متصل في إسناده بهم إذ لا فرق فيما يتعلق بالاتصال والانقطاع بين رواية المجهول والمعروف والمبهم نظير المجهول في ذلك، ومع ذلك فلا يقال في إسنادٍ صرح كل من فيه بالسماع من شيخه أنه منقطع وإن كانوا أو بعضهم غير معروف .. إلخ اهـ.
وانظر «فتح الباري» (6/ 634)، و «التلخيص الحبير» (3/ 5).(1/376)
1 – أن يروي الراوي عن شيخه بصيغة محتملة، فيُسأل: هل سمعت هذا منه؟ فيُظهر واسطة أو أكثر، كما وقع من ابن عيينة في روايته عن الزهري (1).
2 – أن تكون أحاديثه التي صرح فيها بالسماع مستقيمة، والتي رواها بصيغة محتملة فيها المناكير، كما عَرَف ابنُ حبان تدليس بقية بن الوليد بهذا السبيل (2).
__________
(1) قال الحاكم أبو عبدالله رحمه الله في «المعرفة» وقوم يدلسون الحديث فيقولون: قال فلان فإذا وقع إليهم من ينقر عن سماعاتهم ويلح ويراجعهم ذكروا فيه سماعاتهم انتهى من (ص104) اهـ مثال ذلك. ما جاء في «الكفاية» للخطيب (ص512) عن علي بن خشرم قال: كنا عند سفيان بن عيينة في مجلسه، فقال الزهري فقيل له: حدثكم الزهري؟ .. فسكت، ثم قال الزهري فقيل له: سمعته من الزهري؟ .. فقال: لا، لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبدالرزاق عن معمر عن الزهري.
وفي التمهيد (1/ 31).
عن ابن معين قال: كان ابن عيينة يدلس فيقول: عن الزهري فإذا قيل له: من دون الزهري؟ فيقول لهم: أليس لكم في الزهري مقنع؟ فيقال: بلى فإذا استُقصِي عليه يقول: معمر. اكتبوا لا بارك الله لكم. اهـ.
(2) انظر المجروحين (1/ 200 - 201) وقد تقدم سياق القصة كاملاً في السؤال رقم (125).(1/377)
3 – أن يروي الحديث عن شيخه مباشرة بصيغة محتملة كـ: «عن، وقال، وذكر ... » ثم يأتي فيروي عنه بواسطة – لا سيما إن كانت الواسطة ضعيفة أو صغيرة، ما لم تظهر قرينة تدل على أنه سمعه نازلاً (1) وعالياً.
4 – أن يسقط الواسطة الضعيفة في الإسناد، ويسويه، كما عُلِم عن الوليد بن مسلم في حديث الأوزاعي.
5 – أن يروي المناكير عن الثقات، كما قال أحمد: كنت أظن أن بقية يحدث بالمناكير عن المجاهيل، فرأيته يحدث بالمناكير عن الثقات فعلمت من أين أُتي – يعني التدليس (2)
__________
(1) قال ابن القطان رحمه الله: فإذا روي المدلس حديثاً بصيغة محتملة ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع. اهـ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهذا بخلاف غير المدلس فإن غير المدلس يحمل غالب ما يقع منه من ذلك على أنه سمعه من الشيخ الأعلى وثبته فيه الواسطة. لكن في إطلاق ابن القطان نظر لأنه قد يدلس الصيغة فيرتكب المجاز. كما يقول – مثلاً – ثنا وينوي حدث قومنا أو أهل قريتنا ونحو ذلك اهـ. ثم سرد رحمه الله أمثلة تدل على ذلك فلتراجع انظر «النكت» (2/ 625 - 626).
(2) انظر «ميزان الاعتدال» (4/ 348) وقد سبق ذلك في السؤال رقم (167).
ومثاله ما ذكره أبو محمد بن أبي حاتم في «كتاب العلل» قال: سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهوية عن بقية قال: حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً «لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه» فقال أبي أن هذا الحديث له أمر قلَّ من يفهمه روى هذا الحديث عبيدالله بن عمرو بن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وعبيدالله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي فكناه بقية ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن له حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدي له، قال كان بقية من أفعل الناس لهذا. اهـ من «التقيد والإيضاح» (97).(1/378)
– والله أعلم. (1)
س 181: الباحث في الحديث إذا رأى أن متنه يعارض حديثاً آخر، هل يضعف الحديث الذي بين يديه؟
ج 181: هذا الكلام غير صحيح، وهذه طريقة الجوزقاني في كتابه: «الأباطيل»، إلا أنه لا بد من الحكم على الحديث حسب قواعد هذا العلم الشريف، نعم العلماء عند الكلام على الحديث ينظرون إليه سنداً ومتناً، لكن ليس أي تعارض يلزم منه نكارة المتن التي يهتم العلماء بالبحث عنها عند الكلام على علل الأحاديث، فإذا صح السند ولم يكن هناك نكارة في المتن، فتعارض الحديث مع غيره لا يضر ولا يقدح في الصحة، لأنه من الممكن الجمع بين الحديثين على سبيل العام والخاص، أو المطلق والمقيد، أما إذا تعذر الجمع، وعلمنا تأخر التاريخ، حكمنا بالنسخ، وإلا لجأنا إلى الترجيح، ولو أخذنا بهذا القول لرددنا كثيراً من السنة، والعلماء لهم في ذلك فهم ثاقب، ونظر سديد، فتراهم يجمعون بين الأحاديث جمعاً مستقيماً، ومن هؤلاء ابن خزيمة وتلميذه ابن حبان في «صحيحيهما» (2)
__________
(1) انظر «الميزان» (1/ 332)، «التهذيب» (1/ 476).
أقول: ومن الأمور التي يعرف بها تدليس الراوي كذلك.
إخباره عن نفسه بذلك، كما وقع لهشيم بن بشير عندما سأل طلابه. هل دلست لكم شيئاً قالوا لا. قال: بلى. كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي، ولم أسمع من مغيرة من ذلك شيئاً. اهـ «معروفة علوم الحديث» (105).
(2) قال ابن حبان رحمه الله في «المجروحين» (1/ 93) لم أرَ على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن ويحفظ الصحاح بألفاظها ويقوم بزيادة كل لفظة تزاد في الخبر ثقةً حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط.
هذا وفي «البحر المحيط» للزركشي قال ابن خزيمة «لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين ومن كان عنده فليأت به أؤلف بينهما» اهـ. وهذا دليل على فقه ومعرفته الواسعة كما وصفه بذلك تلميذه رحمهما الله جميعاً.(1/379)
والطحاوي في «مشكل الآثار» وانظر ما كتبه شيخنا الألباني – رحمه الله – رداً على القول الذي ورد في السؤال كما في "الإرواء" (5/ 464) والله أعلم.
س 182: إذا قال أحد الأئمة في رجل: «حديثه يشبه حديث الصالحين» فهل يكون ثقة؟
ج 182: قد يتبادر لمن وقف على هذا اللفظ أنَّه لفظ تعديل، وليس الأمر كذلك، وسر المسألة أن تعلم أنَّ الصالحين – غير الأئمة الأثبات – اشتغلوا بالعبادة، وغفلوا عن ضبط الحديث، ومراجعته، وحضور مجالسه، حتى كثرت الأوهام بل الأكاذيب في حديثهم، بسبب غفلتهم وعدم اشتغالهم بهذا العلم، بل منهم من كان يحرق كتبه أو يغسلها أو يدفنها، ظاناً أنّ هذا يزكي نفسه، ويبعده عن الرياء وحظوظ النفس، وقد يحتاج إليه فيُسأل عن حديث، فيحدث به على التوهم، وليس معه أصول (1) (2)، فشاع عند العلماء أنَّ العُبّاد أصحاب غفلة في الحديث، وإن كانوا أهل أمانة وتقوى.
وقد قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث (3)، أي: أنَّ الكذب يجري على ألسنتهم، وهم لا يميزون، فإذا كان الراوي مغفلاً، وتكثر المناكير في حديثه، قالوا: «حديثه يشبه حديث الصالحين» وانظر «الكامل» لابن عدي (6/ 2104) والله أعلم.
س 183: ما معنى قول أحد النقاد في راوٍ: «روى عن فلان كأنَّه فلان آخر»؟
__________
(1) انظر «تاريخ بغداد» (7/ 67).
(2) في «سير أعلام النبلاء» (9/ 171) ترجمة يوسف بن أسباط.
قال البخاري: دفن كتبه، فكان حديثه لا يجيء كما ينبغي.
(3) رواه مسلم في مقدمة «صحيحه» (ص:17 وما بعدها) من طريق محمد بن سعيد القطان عن أبيه قال: لن نرى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، قال: مسلم.
يجري الكذب على ألسنتهم، ولا يتعمدون الكذب. اهـ وكذا رواه ابن حبان في «المجروحين» بسنده إلى يحيى بن سعيد (1/ 67) وانظر «شرح علل الترمذي» (1/ 387 - 389) وانظر «شفاء العليل» للمؤلف (1/ 119 - 120، 144 - 145، 389)، والله أعلم.(1/380)
ج 183: لا نستطيع أن نعرف معنى هذا القول: إلا إذا عرفنا حال الشيخ المروي عنه، فإن كان ثقة، فهذا القول بعد تجريحاً للراوي عنه، ويكون معناه أنَّ الشيخ معروف باستقامة حديثه، فإذا روى عنه هذا الرواي؛ أتى عنه بالمناكير التي لا تعرف في حديثه، ومن نظرفي حديث هذا الشيخ من رواية هذا الراوي عنه؛ ظن أنَّ هذا الشيخ شيخ آخر، وأنَّه ليس ذاك الثقة المعروف (1)، وإن كان الشيخ المروي عنه ضعيفاً، فهذا القول يعدُّ تعديلاً للراوي عنه، أي: أنَّه روى عنه أحاديث جيدة مستقيمة سالمة من العلّة، وذلك ناتج عن انتقاء لبعض أحاديث الشيخ، أو ملازمة التلميذ له، ومعرفته بحديثه (2)، وممن يكثر من استعمال هذا اللفظ ابن حبان – رحمه الله تعالى – والله أعلم.
س 184: ما حُكْم الراوي الذي يقال فيه: «روى الحديث على أوجه»؟
ج 184: رواية الحديث على أوجه لها عدة أسباب:
__________
(1) ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المؤلف – حفظه الله تعالى – في كتابه «الشفاء» (1/ 393)، قال: جاء في «الميزان» (1/ 23) ترجمة إبراهيم بن بشار الرمادي صاحب ابن عيينة: «ليس بمتقن له مناكير» قال أحمد: كان سفيان الذي يروي عنه إبراهيم بن بشار ليس بسفيان بن عيينة – يعني: مما يغرب عنه – وكان مكثراً عنه. اهـ.
وجاء في «تهذيب التهذيب» ترجمة شعبة بن دينار الهاشمي مولى ابن عباس قال ابن حبان: روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنَّه ابن عباس آخر (4/ 347).
قلت: وانظره في «المجروحين» (1/ 361).
(2) ومثاله أيضاً: ما جاء في «الميزان» (2/ 262) ترجمة شبيب بن سعيد بن حبيب الحبطي البصري، قال ابن عدي: «كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه وأرجو أنه لا يتعمده، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس؛ فكأنه شبيب آخر – يعني: يجود -. اهـ.
انظر تفاصيل ذلك في «الشفاء» (1/ 393 - 394)، والله أعلم.(1/381)
فقد يكون سبب ذلك سوء الحفظ، فيضطرب الراوي، ويروي الحديث على أوجه (1).
وقد يكون سبب ذلك كثرة الرحلة والاشتغال بهذا الفن، كما كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول: الحديث إذا لم يكن عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم (2)، والحفّاظ قد شُهر عنهم رواية الحديث على وجهين فأكثر، ولذلك تراهم في كتب العلل إذا اختلف الثقات على أحد الحفاظ أهل الرحلة والاجتهاد في الطلب يقولون: والحديث محمول على الوجهين.
وقد يكون السبب في ذلك أنَّه يروي الحديث بالمعنى لا يلتزم لفظاً واحداً، كما في «تاريخ بغداد» (9/ 36) مع أنَّ الراوي ثقة. (3)
وقد يكون ذلك؛ لأنَّ الراوي يكذب في الحديث، فيتزيَّن في كل مجلس بما يليق به، فإذا كان بحضرة أحد النقاد، فإنَّه يروي الحديث بوجه مقبول، وإذا كان أمام أضرابه فإنه يروي الحديث بوجه آخر.
وقد يكون في بلد بوجه، وفي أخرى بوجه آخر، والله المستعان (4).
__________
(1) مثال ذلك ما ذكره المؤلف في «الشفاء» (ص:400) عن العقيلي في «الضعفاء» (1/ 92)، قال: ثنا محمد، ثنا صالح، ثنا علي، قال: سمعت يحيى وسئل عن إسماعيل بن مسلم المكي قيل له: كيف كان في أول أمره؟ قال: لم يزل مختلطاً كان يحدّثنا بحديث الواحد على ثلاثة دروب».
(2) انظر «تهذيب التهذيب» (1/ 124).
(3) في «تاريخ بغداد» (9/ 36) قال أبو داود: كان سليمان بن حرب يحدث بحديث ثم يحدث به كأنه ليس بذاك، قال الخطيب: قلت: كان سليمان يروي الحديث على المعنى فتتغير ألفاظه في روايته. اهـ.
(4) قال ابن رجب في «شرح العلل» (1/ 424 - 425): فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد إن كان متهماً فإنّه ينسب به إلى الاضطراب، وإنّما يحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه وقوي حفظه كالزهري وشعبة، ونحوهما، وقد كان عكرمة يتهم في رواية الحديث عن رجل ثم يرويه عن آخر حتى ظهر لهم سعة علمه وكثرة حديثه ... إلخ. اهـ.(1/382)
وقد يكون سبب ذلك التدليس: تعمية للأمر وتوعيراً للطريق أمام الباحث، وكل حالة من هذه الحالات لها حكم خاص، ويتّضح لك هذا أو ذاك بالقرائن، والله أعلم. (1)
س 185: ثبت أنَّ مِنَ الرواة من يدفن كتبه، فما هي الأسباب التي تحملهم على ذلك؟ أليس ذلك من باب كتمان العلم وإضاعته؟
ج 185: سبق قبل قليل أنَّ العباد فعلوا ذلك خوفاً على أنفسهم من الشهرة (2)، وقد يفعل ذلك بعض الأئمة خوفاً من أن تقع في يد إنسان واهٍ، فيزيد فيها أو يغيرها، كما ذكر الذهبي في «النبلاء» (7/ 213) ترجمة شعبة (3)، وقد فعله غير واحد من الأئمة ولعلهم لا يرون صحة التحمل بالوجادة، كما ذكر الذهبي في ترجمة ابن راهوية في «النبلاء) (11/ 317) (4)،
__________
(1) انظر ذلك بتوسع في «شفاء العليل» (ص:400).
(2) انظر ذلك في السؤال رقم (182).
(3) قال سعد بن شعبة: «أوصى أبي إذا مات أن أغسل كتبه فغسلتها».
قال الذهبي – رحمه الله – قلت: «وهذا قد فعله غير واحد بالغسل، أو الحرق أو بالدفن، خوفاً من أن تقع في يد إنسان واهٍ فيزيد فيها أو يغيرها». اهـ.
(4) قال أبو عبدالله الحاكم: «إسحاق وابن المبارك ومحمد بن يحيى وهؤلاء دفنوا كتبهم» قال الذهبي – رحمه الله -.
«قلت: هذا فعله عدة من الأئمة وهو دال على أنَّهم لا يرون نقل العلم وجادة فإن الخط قد يتصحف على الناقل وقد يمكن أن يزاد في الخط حرف فيغير المعنى ونحو ذلك، وأمّا اليوم فقد اتّسع الخرق وقلّ تحصيل العلم من أفواه الرجال بل ومن الكتب غير المغلوطة، وبعض النقلة للمسائل قد لا يحسن أن يتهجى». اهـ، وانظر «شفاء العليل» (1/ 404 - 405).
أقول: ومن الأسباب كذلك وجود المنقطعات والواهيات في كتابه الذي روى منه بالانتخاب فيخشى المحدث أن يأتي من بعده من يقف على ذلك فيحدث بها فيقوم بحرقها أو دفنها لذلك.
ومثاله ما جاء في «السير» (11/ 396) ترجمة أبي كريب محمد بن علاء.
قال مطيَّن: أوصى أبو كريب بكتبه أن تدفن فدفنت.
قال الذهبي: فعل هذا بكتبه من الدفن والغسل والإحراق عِدَّة من الحفاظ خوفاً من أن يظفر بها محدث قليل الدين، فيغير فيها ويزيد فيها فينسب ذلك إلى الحافظ، أو أن أصوله كان فيها مقاطيع وواهيات ما حدَّث بها أبداً وإنّما انتخب من أصوله ما رواه، وما بقي فرغب عنه، وما وجدوا لذلك سوى الإعلام، فلهذا ونحوه دفن – رحمه الله – كتبه. اهـ.(1/383)
وقد يظن بعضهم أنَّ في الكتب شيئاً ليس من حديثه، ولم يستطع تمييزه، وهذا كله موجود بتوسع في «شفاء العليل»، والعلماء حين فعلوا ذلك يرون أنَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد اشتهر عند غيرهم وأنَّهم إن حرقوا هذه الأوراق أو دفنوها أو غسلوها؛ فإن ذلك لا يضر لوجود ذلك عن غيرهم من الثقات، وعلى ذلك فليس كتماناً للعلم، لكن لا شك أنه لو بقي إلينا لكان أولى ومن المؤكد أننا نزداد حسرة؛ إذا علمنا أنَّ ممن فعل ذلك الثوري وشعبة وابن المبارك وابن راهويه ومحمد بن يحيى الذهلي، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
س 186: لماذا يروي بعض الأئمة الحديث بنزول عن بعض الرواة، مع إمكان الأخذ عن شيخه الذي به يكون الإسناد عالياً؟
ج 186: لا شك أنَّ علو الإسناد أمر مرغوب فيه لدى المحدثين، ولكن قد ينزل الراوي إذا كان ممن اشترطوا أنَّهم لا يروون إلا عن ثقة، ورأى الحديث بعلو من طريق الضعيف، وبنزول من طريق الثقة، فأراد أن يوفِّى بشرطه فينزل، كما فعل ذلك مالك بن أنس – رحمه الله - (1).
وقد يكون الشيخ المروي عنه ثقة فاضلاً، فيتتبع الرواة حديثه عالياً ونازلاً (2)، وقد يكون التلميذ من العارفين بحديث شيخه وعلله، ولذلك فقد كان بعض الأئمة يأخذ الحديث عن التلميذ البصير بعلل حديث شيخه؛ لأنَّه يضمن له سلامة الحديث من العلل، ويكون هذا شفاءً لما في صدره (3)،
__________
(1) في «سير أعلام النبلاء» (5/ 167)، سئل أبو عبدالله أحمد بن حنبل عن عمرو بن شعيب فقال: «ربّما احتجبنا به وربّما وجس في القلب عنه ومالك يروي عن رجل عنه». اهـ.
(2) ومن ذلك قول أبي داود في إبراهيم بن سليمان بن رزيق: «ثقة ورأيت أحمد يكتب حديثه بنزول» (6/ 88) تاريخ بغداد.
(3) في «تهذيب التهذيب» (11/ 218) قال ابن مهدي: «لو كنت لقيت ابن أبي خالد لكتبت عن يحيى القطان عنه الأعراف صحيحها من سقيمها» اهـ.
وقد تكلّم المؤلف – حفظه الله – عن ذلك بتوسع في كتابه «الشفاء» (1/ 412 - 414) فليراجع، والله أعلم.(1/384)
فعلى كل حال: فالنزول قد يكون توثيقاً للتلميذ الذي هو الشيخ المباشر للراوي، وقد يكون تجريحاً للشيخ الأعلى, وقد يكون توثيقاً للشيخ الأعلى، والله أعلم.
س 187: متى تضر الراويَ روايتُه للغرائب؟
ج 187: يُنظر إلى راويها: فإن كان من الثقات المشهورين بالرحلة فلا تضره؛ لأنَّه من المعلوم أنَّ من رحل فسيقف على ما لم يقف عليه غيره، إمّا لحب المشايخ إياه، وإما لسماعه من مشايخ لم يسمع منهم غيره.
هذا مع أنَّ العلماء كرهوا تتبع الغرائب؛ لأنَّ الرجل يتهم بسببها، وتُساء به الظنون، ويَفتح الباب للنقاد أو لأقرانه أن يتكلّموا فيه، فقبح الله الشره، وما يفرح بالغرائب إلا من لم يعرف حقيقة هذا العلم (1).
__________
(1) قال عمرو بن خالد: سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى بن يونس: ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مائتي ركعة ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث.
وذكر مسلم في «مقدمة كتابه» من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل: لزمت عمراً؟ قال: نعم، إنّه يجيئنا باشياً غرائب، قال: يقول له أيوب: إنّما نفرّ أو نفرق من تلك الغرائب، وقال أحمد: شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها. اهـ من «شرح العلل» (ص:234 - 235).(1/385)
ورحم الله ابن المبارك حيث قال: العلم ما جاء من هنا وههنا وههنا، أي: ما كان مشهوراً ينقله الثقات والمعروفون (1)، ولذلك فإنَّ الغرائب تضر الراوي بشروط ذكرها ذهبي هذا العصر الشيخ المعلمي اليماني – رحمه الله تعالى – وخلاصة ما ذكر: أنَّ الراوي إذا روى منكراً، وكثر ذلك في حديثه، أو فحش، ولم يكن معروفاً بالرحلة، فيتهم، ويقال: أنت لم ترحل، فنم أين جاءتك الغرائب التي ليست عند محدثي بلدك؟!! ويتهم بسرقتها، وأنَّه قد وثب عليها من حديث غيره، وادعاها لنفسه، والله المستعان (2).
ولذلك قيل في أحدهم: كان أقلَّنا طلباً وأكثرنا غرائب، وتُكُلِّم في خليفة بن خياط وقيل: في دار خليفة شجر ينبت الحديث، وإن كان خليفة أعلى وأجل من ذلك (3)، لكن هكذا يجر الشره وتشبع الرجل بما لم يعط، على صاحبه شراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
س 188: الراوي إذا قيل فيه: «صحيح الإسناد أو جيد الإسناد» ففي أي المراتب يكون؟
__________
(1) خرجه البيهقي – رحمه الله – من طريق الترمذي عن أحمد بن عبده، عن ابن وهب، عنه، قال: ليس من العلم ما لا يعرف إنَّما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن، من «المصدر السابق».
(2) انظر «التنكيل» (ص:293 - 294) فقد قال – رحمه الله -: وكثرة الغرائب إنَّما تضر الراوي في أحد حالين:
الأولى: أن تكون مع غرابتها منكرة عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة.
الثانية: أن يكون مع كثرة غرائبه غير معروف بكثرة الطلب.
ففي الحالة الأولى تكون تبعة النكارة على الروي نفسه لظهور براءة من فوقه منها، وفي الحالة الثانية يقال: من أين له هذه الغرائب الكثيرة مع قلة طلبه! فيتهم بسرقة الحديث كما قال ابن نمير في أبي هشام الرافعي: كان أضعفنا طلباً وأكثرنا غرائب. اهـ.
(3) في «تهذيب التهذيب» (3/ 935) ترجمة خليفة بن خياط: «المقلب بشبابه» قال فيه ابن المديني في دار عبدالرحمن بن عمرو بن جبلة وشباب بن خياط شجر يحمل الحديث. اهـ.(1/386)
ج 188: قد يتبادر للناظر في ذلك أنَّ الراوي ثقة أو صدوق، لكن لو عرفنا سبب هذا القول، لعلمنا حكمه، وذلك أنَّه قد يقال فيمن ينتقي في الرواية، ولا يروي عن كل أحد، كما قيل في حريز بن عثمان: «جيد الإسناد صحيح الحديث» انظر «تهذيب التهذيب» (1)، وقد يقال لكون الراوي قد ثبت سماعه من مشايخه، ولم يُتَّهم في صحة سماعه، فيكون معنى قولهم: «صحيح الإسناد» أي: «صحيح السماع»، ولا يلزم من كونه صحيح السماع، أن يكون ضابطاً بل قد يكون عدلاً (2)، ففي الحالة الأولى يكون هذا القول توثيقاً، وفي الحالة الثانية يكون فيه تفصيل حسبما يظهر من ترجمته، لكن إذا لم يظهر أي قرينة لذلك: فالأصل أن القول الأول في مرتبة الصحيح، والقول الثاني في مرتبة الحسن، وقد يرتقي لمرتبة الصحيح، والله أعلم.
س 189: إذا وجدت في ترجمة راوٍ أنَّه «صحيح الحديث» فهل يكون ثقة؟
ج 189: قد يقال هذا في الثقات المشاهير، وقد يقال فيمن حديثهم يتردد بين الصحة والحسن، كما بينه الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى (3)
__________
(1) «تهذيب التهذيب» (2/ 238) ترجمة حريز بن عثمان.
قال دحيم: جيد الإسناد صحيح الحديث، وحريز وصفه أبو داود بأنَّ شيوخه ثقات كما في «التهذيب» (2/ 172) ترجمة حبان بن يزيد الشرعبي.
(2) جاء في «الذيل على طبقات الحنابلة» (1/ 187) ترجمة ثابت بن منصور بن المبارك الكيلي، قال أبو الفرج: وكان ديناً ثقة صحيح الإسناد، وقال ابن ناصر: صحيح السماع ما كان يعرف شيئاً، قال المؤلف – حفظه الله – في «الشفاء» (1/ 422) بعد ذكره لهذا المثال فالظاهر أنَّ قول ابن ناصر يفسر قول أبي الفرج ... إلخ، والله أعلم.
(3) انظر «سير أعلام النبلاء» (7/ 383) فقد قال في ترجمة إبراهيم بن طهمان.
قال أحمد بن حنبل: هو صحيح الحديث مقارب.
قال الذهبي: له ما ينفرد به، ولا ينحط حديثه عن درجة الحسن.(1/387)
-، وقد يكون معناه، أنَّ الراوي يروي أحاديث مشهورة، لكن حاله لا يصل إلى درجة ثقة، ويكون معنى هذا القول حينئذ أنَّ حديثه نظيف من المناكير والشواذ، وقد سئل أبو حاتم عن سفيان بن زياد الحضرمي، فقال: «صحيح الحديث»، فقال ابنه: ما حاله؟ قال: «شيخ» انظر «الجرح والتعديل» (4/ 118) فتأمل، وقد يكون لصحة سماعه، وإن كان متروكاً أو كاذباً، انظر «المغني» للذهبي (2/ 86). (1)
س 190: قد يذكر بعض الأئمة في بعض الرواة أنَّه لا يعتبر بحديثه،، فما سبب ذلك؟
ج 190: هذا اللفظ يقال كثيراً في المتروكين أهل التخليط الفاحش والاضطراب الشديد، ولا يجوز أن يستشهد بحديثهم، لكن قد يقال على غير ذلك، فمن ذلك أنَّ الراوي إذا كان مقلاً، فلا يمكن أن يعتبر بحديثه، أي: لا يمكن أن نعرف حاله ونحكم عليه بما يستحق، بسبب قلة حديثه؛ لأنَّ الراوي إذا كان مقلاً، فلا يتمكن الناقد من تبحر حديثه وسبره ومقارنته بغيره، فقد يكون ثقة، لكنه وهم في هذا القدر القليل من الحديث، فيُحكم عليه بالترك، وقد يكون سارقاً لكنّه سرق أحاديث مشهورة، فيُوثَّق، وكلا الأمرين فيه تأمل، ولذلك تجد ابن عدي في «الكامل» يقول: «وفلان في مقدار ما يرويه لم يتبين لي صدقه من كذبه» (2)، وانظر «الجرح والتعديل» (5/ 222 - 223).
__________
(1) ترجمة عيسى بن عبدالعزيز بن عيسى الإسكندراني المقري في «المغني» (2/ 86) قال فيه الذهبي: «صحيح الحديث» كذاب في «القراءات».
قال محقق الكتاب في الحاشية: صحيح الحديث، أي: سماعاته صحيحة لا أنّه ثقة. اهـ.
وقد ذكر المؤلف هذه الألفاظ في «الشفاء» (1/ 57 - 58)، (129 - 130، 423 - 424) فليراجع، والله أعلم.
(2) سبق الكلام على ذلك في السؤالين رقم (7)، (112)، والله أعلم.(1/388)
وقد يكون السبب في هذا القول أنَّ الراوي انفرد بالرواية عنه ضعيف، وقد يكون شيخه أيضاً ضعيفاً، أو يكون أحد الأمرين، فحينذاك من أراد أن يحكم عليه، ورأى نكارة في السند أو المتن، وأراد أن يعرف سببها، فإنَّه لا يظهر له ذلك؛ لأنَّ النكارة قد تكون من هذا المجهول، وقد تكون من تلميذه أو شيخه اللذين ثبت ضعفهما من قبل، وانظر «الجرح والتعديل» (3/ 437 - 438) وممن يكثر من ذلك ابن حبان – رحمه الله – في كتاب «المجروحين».
وقد يقال هذا في المدلسين الذين لا يعتبر بحديثهم في الحكم على مشايخهم وتلامذتهم؛ لأنَّه من المحتمل أن يكون السبب في النكارة من أسقطه المدلس، والله أعلم. (1)
س 191: هل هناك فرق بين قول البخاري في ترجمة أحد الرواة: «فيه نظر» وبين قوله: «في إسناده نظر»؟
ج 191: نعم، هناك فرق كبير، فالقول الأول يُطلقه غالباً في المتهمين والمتروكين (2)، وأمّا القول الثاني، فيطلقه ولا يقصد به تضعيف المترجم له، بل قد يضعف السند إليه، فيكون الجرح فيمن دونه لا فيه نفسه، انظر «المغني» ترجمة حُبشي بن جنادة السلولي (1/ 146) في نسخة (1/ 219). (3)
__________
(1) انظر «الشفاء» (1/ 434).
(2) قال المعلمي – رحمه الله – في «التنكيل» (ص:412): « ... ذكروا أنَّ البخاري يقول: فيه نظر، أو سكتوا عنه»، فيمن هو عنده ضعيف جداً.
قال السخاوي في «فتح المغيث» (ص:161): «كثيراً ما يعبر البخاري بهاتين ... فيمن تركوا حديثه بل قال ابن كثير: إنَّهما أدنى المنازل عنده وأردؤها» ... إلخ اهـ.
(3) ترجمة حبش بن جنادة السلولي قال الذهبي – رحمه الله -: «تناكد ابن عدي وذكره في «الكامل» وشبهته في ذلك قول البخاري في حديثه «إسناده فيه نظر»، قال الذهبي: وذلك عائد إلى الرواة إلى حبش لا إليه اهـ من «المغني».(1/389)
وقد يقصد أنَّ الراوي المترجم له: لم يصح سماعه من شيخه، كما سبق مراراً أنَّ الإسناد قد يطلق عندهم بمعنى السماع، أي في سماعه من شيخه نظر، وإن كان الراوي ثقة أو صدوقاً، انظر «تهذيب التهذيب» (1/ 384) وأعلم (1).
س 192: وماذا لو قال البخاري: «في حديثه نظر» هل يستشهد به؟ وكذا لو قال: «لم يصح حديثه»؟
ج 192: القول الأول: يفيد أنَّ الراوي صالح في نفسه، لكن حديثه في حيز المطروح فلا يستشهد به، كما قال المعلمي – رحمه الله – في رده على الكوثري، انظر «التنكيل» (ص411 - 412). (2)
والفرق بينه وبين قوله: «فيه نظر» أنَّ هذا القول اتهام لصدق الراوي، وأمّا قوله: «في حديثه نظر» فهو اتهام لضبط الراوي، وأنَّه «شديد الضعف»، أو أنَّه خالف من هو أوثق منه.
__________
(1) ترجمة أوس بن عبدالله الربعي قال الحافظ في «التهذيب» (1/ 384)، وقول البخاري في «إسناده نظر، يريد أنّه لم يسمع من مثل ابن مسعود، وعائشة وغيرهما، لا أنّه ضعيف عنده وأحاديثه مستقيمة، اهـ. وانظر «الشفاء» (442 - 443) والله أعلم.
(2) قال المعلمي – رحمه الله تعالى -: « ... ولم يقل البخاري في الحنيني: «فيه نظر» إنّما قال: «في حديثه نظر» وبينهما فرق فقوله: «فيه نظر» تقتضي الطعن في صدقه، وقوله: في حديثه نظر، تشعر بأنّه صالح في نفسه، وإنّما الخلل في حديثه لغفلة أو سوء حفظ ... إلخ اهـ.(1/390)
وأما القول الثاني: فلا يلزم منه ضعف الراوي مطلقاً، فقد يقصد حديثاً بعينه، وقد يقصد أنَّ السند لم يصح إليه، كما في «لسان الميزان» ترجمة عبدالرحمن بن صفوان (1)، وقد يقصد البخاري جمع كل من يسمى باسم معين، أو يبتدئ اسمه بحرف معين في مكان واحد، وإن كان بعضم لم يرو إلا المقطوع، فيقصد جمع هذه الأسماء سواء رووا كثيراً أم قليلاً، ولا يقصد بذلك أنَّ الراوي ضعيف أو غير ضعيف، كما صرح بذلك ابن عدي، انظر مواضع ذلك في «شفاء العليل» (1/ 443 - 444).
س 193: هل هناك فرق بين قولهم في راوٍ: «ليته حدث بما سمع» وبين قولهم: «ليته اكتفى بما سمع»؟
ج 193: نعم بينهما فرق، وهو:
أنَّ القول الأول يدل على أنَّ الراوي سماعه صحيح من مشايخه، ولكنّه عسر في الرواية، ولا يحدث بما عنده، فإذا جاء رجل وظن به سوءاً وقال: إنَّه يسرق أ, يدلس، أو غير ذلك، أجيب عليه بذلك: «ليته حدث بما سمع» (2)، أي: هذا الذي لم يحدث بصحيح حديثه، هل يروي حديث غيره الذي لم يسمعه؟!!
كلا، فليس لهذه التهمة وجه، لأنَّ السارق أو المدلس يحمله الشره على رواية الحديث والاستكثار منه، وإن كان لكل منهما سبيل وحكم يختلف عن الآخر، أمّا العسر في الرواية فعكس ذلك تماماً. (3)
__________
(1) انظر «اللسان» (3/ 419)، قال الحافظ: وهذا إن كان مراده عبدالرحمن بن صفوان بن أمية فقد قيل أنَّ له صحبة فما كان ينبغي للمؤلف أن يذكره لأنَّ البخاري إذا ذكر مثل هذا إنَّما يريد التنبيه على أنَّ الحديث لم يصح إليه، وكذا هو فإن في حديثه اضطراباً كثيراً. اهـ.
(2) مثاله ما جاء في ترجمة سعيد بن سليمان بن سعدويه البزار في «تاريخ بغداد» (9/ 86) قال صالح بن محمد: سمعت سعيد بن سليمان، وقيل له: لمَ لا تقول حدّثنا؟ فقال: كل شيء حدثتكم به فقد سمعته ما دلست حديثاً قط ليتني أحدث بما قد سمعت. اهـ.
(3) قال المعلمي – رحمه الله – في «التنكيل» (ص:445).
والتعسر في الرواية هو الذي يمتنع من تحديث الناس إلا بعد الجهد وهذه الصفة تنافي التزيد ودعوى سماع ما لم يسمع، إنّما يدعي سماع ما لم يسمع من له شهوة شديدة في ازدحام الناس عليه وتكاثرهم حوله، ومن كان هكذا كان من شأنه أن يتعرض للناس بدعوهم إلى السماع منه ويرغبهم في ذلك، فأما من يأبى التحديث بما سمع إلا بعد جهد فأي داعٍ له إلى التزيد؟ اهـ.(1/391)
وأما القول الثاني فإنهّ يدل على أنَّ الراوي كان له سماع صحيح في بداية أمره، لكنّه لم يصبر على ما رزقه الله، فوثب على حديث غيره، وكذب وسرق، وادعى سماع ما لم يسمع، ولقاء من لم يلق (1)، وفي مثل هؤلاء يقول ابن حبان متهكماً: «فلان أخرجت له الأرض أفلاذ أكبادها» فالله المستعان. (2)
س 194: ما هو الفرق بين قولهم: «فلان ضابط» و «فلان حافظ» و «فلان متقن» و «فلان ثبت»؟
ج 194: هذه الأقوال تتدرج في زيادة المدح حسب هذا الترتيب، فالإتقان يشعر بمزيد الضبط، كما قال السخاوى في «فتح المغيث» (1/ 363) والحفظ يطلق على الضبط، أي: ضبط الفؤاد، ويطلق على ضبط الكتاب، ويطلق على كثرة العلم وسعة الحصيلة، وإن لم يكن الراوي ضابطاً (3)، فلهذا نزل الحفظ عن درجة الإتقان (4)،
__________
(1) انظر «الشفاء» (ص:462).
(2) مثال ذلك ما جاء في «المجروحين» (2/ 264) ترجمة محمد بن عبدالرحمن البيلماني، قال ابن حبان: «كان ممن أخرجت له الأرض أفلاذ كبدها، حدث عن أبيه بنسخة شبيهة بمائتي حديث كلها موضوعة لا يجوز الاحتجاج بها ولا ذكره في الكتب إلا على جهة التعجب». اهـ.
وانظر ذلك بتوسع في «الشفاء» (ص:276)، والله أعلم.
(3) سبق ذلك بتوسع في السؤال رقم (145).
(4) في «النبلاء» (9/ 370) ترجمة يزيد بن هارون.
قال أبو زرعة: سمعت أبا بكر بن شيبة، يقول: ما رأيت أتقن حفظاً من يزيد بن هارون، قال أبو زرعة: والإتقان أكبر من حفظ السرد.(1/392)
وهو أعلى من الضبط، لكن لو كان الراوي واسع الحصيلة، مع ضبطٍ لروايته؛ فهو أعلى من مجرد الإتقان لمن هو دونه في العلوم، وأما «الثبت» فهو الذي تطمئن النفس إلى روايته، كما قال السخاوى – رحمه الله – وهذه الألفاظ لا يلزم منها ثبوت العدالة، اللهم إلا «الثبت» فإنَّ النفس لا تطمئن إلا لرواية العدل الضابط، لكن عند عدم ظهور قرينة تدل على عدم العدالة، حملنا رواية هؤلاء على الصحة والاستقامة، والله أعلم. (1)
س 195: إذا رأينا في ترجمة رجل أنَّ أحمد قال: «ثقة»، ومرة أخرى قال: «ضعيف»، فما حكمه؟
ج 195: ننظر أي القولين كان متأخراً عملنا به، أو أمكن حمل التعديل على جهة، والتجريح على أخرى، عملنا بذلك (2)، لكن إذا لم نعرف شيئاً من ذلك، فالذي أجده من تصرف شيخنا الألباني – رحمه الله – أنَّه يعتبر التجريح، معلِّلاً ذلك بأن الناقد قد اطلع على جرح فيه، ويكون التوثيق مرجوحاً، أو مرجوعاً عنه، كما في عدة مواضع منها (3/ 111) من «الضعيفة»، لكن هذا القول ليست دلالته صريحة على ذلك، والله أعلم. (3)
__________
(1) انظر «الشفاء» (ص:465 - 466).
(2) قال السخاوي – رحمه الله – في «فتح المغيث» (1/ 310): « ... كما يتّفق لابن معين وغيره من أئمة النقد فهذا قد لا يكون تناقضاً بل نسبياً في أحدهما أو ناشئاً عن تغير اجتهاده، وحينئذٍ فلا ينضبط بأمر كلي وإن قال بعض المتأخرين إن الظاهر أن المعمول به المتأخر منهما إنَّ علم وإلا وجب التوقف ... إلخ.
(3) قال الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – في «الضعيفة»: لقد رأينا اسم ابن معين وابن حبان قد ذُكر في كل من القائمتين، الموثقين والمضعِّفين، وما ذلك إلا لاختلاف اجتهاد الناقد في الراوي، فقد يوثقه، ثم يتبين جرحه به فيجرحه، وهذا الموقف هو الواجب بالنسبة لكل ناقد عارف ناصح، وحينئذ فهل يقدم قول الإمام الموثق أم قوله الجارح؟.
لاشك أنَّ الثاني هو المقدم بالنسبة إليه؛ لأنّه بالضرورة هو لا يجرح إلا وقد تبيَّن له أنَّ في الراوي ما يستحق الجرح به فهو بالنسبة إليه جرح مفسر، فهو إذن مقدم على التوثيق، وعليه يعتبر توثيقه قولاً مرجوحاً مرجوعاً عنه. اهـ.
أقول: إذا لم يعرف المتقدم من المتأخر فإنَّه يرجح بقرائن أخرى قبل القول بتقديم التجريح على التعديل.
ومن هذه القرائن كأن يكون بعض تلاميذ الإمام أكثر ملازمة له من بعض فتقدَّم راويه الملازم عى رواية غيره كما هو الحال في تقديم رواية عباس الدوري عن ابن معين لطول ملازمته له.
ومنها كذلك كثرة الناقلين لأحد القولين عن الإمام، ومنها كون أحد القولين أصح إسناداً إلى ذلك الإمام من القول الآخر.
فإذا لم توجد قرينة خاصة يرجّح بها فيؤخذ بأقرب القولين إلى أقوال أهل النقد وبالأخص أقوال الأئمة المعتدلين.
وهذا الترجيح لا يكون إلا بعد الجمع بين القولين إن أمكن كان يكون التوثيق، أو التضعيف نسبياً لا مطلقاً، وقد مرّ ذلك مفرقاً في هذا الكتاب والحمدلله، وانظر في ذلك ضوابط «الجرح والتعديل» (46 - 47) والله أعلم.(1/393)
س 196: هل هناك فرق بين قول أحد العلماء: «هذا حديث ضعيف جداً» وقوله: «هذا حديث باطل»؟
ج 196: من تتبع صنيع العلماء الذين يتكلمون على الأحاديث؛ علم أنَّهم كثيراً ما يطلقون البطلان في مخالفة المتن لما هو ثابت من أصول الشرع، ويكون راويه شديد الضعف، أما إذا كان في السند رجل شديد الضعف، ولم يصل إلى التهمة بالوضع، وروى حديثًا مشهور المتن، أو ليس فيه مخالفة ظاهرة لما هو مقرر في شرعيتنا، فإنَّهم يقولون: ضعيف جداً أو ساقط أو متروك أو غير ذلك، وكذلك المنكر يطلقونه في مخالفة الصحيح، لكن البواطيل أشد من المناكير، وغالب رواة البواطيل متروكون أو أُجْمِع على ضعفهم كما صرّح بذلك شيخنا الألباني – رحمه الله – في «الصحيحة» (2/ 364).
وأما المناكير فيطلقونها كثيراً على رواية الضعفاء عند المخالفة، أو إذا تفرد بها متروك، أو مجهول، أو نحو ذلك، والثقة قد يحكم على بعض حديثه بالبطلان، إذا أُدْخِل عليه، كما تكلّموا في بعض روايات معمر، لإدخال ابن أخيه ذاك الرافضي في كتبه، التي كان يمكنه منها، فيدخل فيها بواطيل، وقد حَمَّل بعضهم عهدة ذلك على عبدالرزاق تلميذ معمر. (1)
__________
(1) في «سير أعلام النبلاء» (12/ 367) ترجمة أحمد بن الأزهر، قال الإمام الذهبي – رحمه الله – وسمعت أبا أحمد الحافظ يقول: سمعتُ أبا حامد بن الشرقي، وسُئل عن حديث ابن الأزهر عن عبدالرزاق في فضل عليِّ، فقال: هذا حديث باطل.
ثم قال: والسبب فيه أنَّ معمراً كان له ابنُ أخٍ رافضيٌّ، وكان معمر يمكنَّنه من كُتبه فأدخل هذا عليه، وكان معمرُ رجلاً مهيباً لا يقدر عليه أحدٌ في السؤال والمراجعة فسمعه عبدُالرزاق في كتاب ابن أخي معمر.
قلت: - أي الذهبي – ولتشَيُّع عبدالرزاق سُرَّ بالحديث، وكتبه، وما راجع معْمَراً فيه ولكنَّه ما جَسرَ أن يحدِّث به لمثل أحمد وابن معين وعلي، بل ولا خرَّجه في تصانيفه وحدَّث به، وهو خائفٌ يترقَّب. اهـ.(1/394)
س 197: هل يقبل قول الهيثمي في قوله: «رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح»؟
ج 197: الهيثمي على كل حال متساهل، ولا يعتمد على قوله هذا في تصحيح الحديث، ثم إن هذا القول لا يدل على صحة الحديث – وإن قاله معتدل – فمن رجال «الصحيح» من هو في مرتبة الصحيح أو في مرتبة الحسن، بل وقد يكون أخرج له صاحب «الصحيح» على تفاصيل سبق بيانها (1)، وقد سبق أيضاً بيان أنَّ هذا القول لا يلزم منه الصحة إلا بشروط (2)، أضف إلى ذلك أنَّ الهيثمي يطلق هذا القول مع أنَّ شيخ الطبراني بلا شك أنه ليس من رجال «الصحيح»، لتأخره عن صاحب «الصحيح»، ويشترط على من يقول ذلك أن يكون هؤلاء الرجال ليسوا من رجال المعلقات أو مقدمة مسلم.
كما نبه على ذلك مراراً إمام أهل زماننا في الحديث شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى -.
س 198: كثير من المحققين عند ذكرهم من خرج الحديث، يقولون: أخرجه فلان وفلان وفلان، كلهم من طريق فلان عن فلان ... إلخ السند دون ذكر مَنْ دُون الراوي الذي يدور عليه السند، فهل هذا التصرف صحيح، أم يلزم ذكر الأسانيد بكاملها؟
ج 198: لا أرى بأساً بهذا التصرف، بشرط أن يكون من حذفهم من الرواة، الذين هم دون الراوي الذي يدور عليه الإسناد: ممن يحتج بهم، أما إذا كان الإسنادان أو الأسانيد لا يحتج بها إلى من أبرز من السند، فهذا تصرف غير صحيح، ولعل في هذا الاختصار فائدة – إن كان بالشرط السابق – ومنهم من يرى أنَّ ذكر الأسانيد أولى.
__________
(1) انظر ذلك في السؤال رقم (86).
(2) انظر ذلك أيضاً في السؤال رقم (87) وانظر «تمام المنة» للشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – (ص:26 - 27).
وبعد فهذا ما وفقني الله إليه وأعانني عليه من جميع هذه النقول وختاماً أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن ينفع بها إنّه سميع مجيب.(1/395)
وأنا عن نفسي أختصر بذاك الشرط، لكن إذا كان الكتاب غريباً، وليس متداولاً، فإني أرغب في ذكر السند كاملاً، لحفظه وتدوينه، فلعل القارئ لا يقف على الكتاب المنقول عنه، وهذه الرغبة عندما يكون مخرج الحديث عزيزاً، وليس مشهوراً، وقد عزا الاختصار بذلك الشرط شيخنا الألباني – رحمه الله – إلى المحققين، انظر (2/ 49) من «الصحيحة». ومن نظر في «العلل» للدارقطني وغيره، وكذا في كتب من خرج الحديث، وتكلم عليه من الحفاظ، علم صحة ما قاله شيخنا عافاه الله من كل مكروه، والله أعلم.
س 199: سبق أن ذكرتَ أن من دلس تدليس التسوية، واشتُهر بذلك، فلا بد من تصريحه بالسماع في جميع طبقات السند، فهل الأمر كذلك إذا روى صحيفة؟
ج 199: هناك صحف عرفت مثل: صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وغيره ذلك.
فلو فرضنا أنَّ من وصف بتدليس التسوية، روى عن رجل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فالذي وقفت عليه من صنيع شيخنا الألباني – رحمه الله – أنَّه يشترط التصريح بالسماع إلى عمر بن شعيب فقط، كما في «الصحيحة» (2/ 228) ولهذا الكلام وجه؛ لأنَّ إدخال واسطة بين عمرو وأبيه نادر، والنادر لا يُقَعَّد عليه، والله أعلم.
أما اشتراطي السماع في جميع طبقات السند، فقد سبق الإشارة إلى التراجع عنه، والله أعلم.
س 200: هل يتوقف في عنعنة الحسن البصري كلها، أم في البعض دون الآخر؟(1/396)
ج 200: الذي صرح به شيخنا الألباني – رحمه الله – التفصيل بين عنعنته عن الصحابة، فيتوقف فيها، وأما عنعنته عن التابعين، فتقبل، فقال – حفظه الله -: الظاهر أنَّ المراد من تدليس الحسن: إنَّما هو ما كان من روايته عن الصحابة دون غيرهم؛ لأنَّ الحافظ في «التهذيب» أكثر من ذِكْر النقول عن العلماء في روايته عمن لم يلقهم، وكلهم من الصحابة، فلم يذكروا ولا رجلاً واحداً من التابعين، روى عنه الحسن البصري، ولم يلقه، ويشهد لذلك إطباق العلماء جميعاً على الاحتجاج برواية الحسن عن غيره من التابعين، بحيث إني لا أذكر أنَّ أحداً أعلَّ حديثاً ما من روايته عن تابعي لم يصرح بسماعه منه، هذا ما ظهر لي في هذا المقام – والله سبحانه أعلم – (2/ 511) من «الصحيحة»، وصدر هذا الكلام في الإرسال لا التدليس، وبقيته يحتاج إلى مزيد اطمئنان بتتبع واستقراء، والله أعلم.
انتهى الجزء الأول
ويليه إن شاء الله – تعالى – الجزء الثاني، وأول السؤال (201).(1/397)