بسم الله الرحمن الرحيم
وجوه ترجيح أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث
للشيخ: حمد العثمان
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد صدر مؤخرًا كتاب (المحرر في مصطلح الحديث)، تأليف: حمد بن إبراهيم العثمان، وقد ضمّنه بحثين محكّمين، أحدهما بحث (وجوه ترجيح أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث)، فرأيتُ نسخه لإفادة الإخوة بما فيه، وجعلتُ هوامش البحث بين معقوفين بخط صغير، وصححت شيئًا يسيرًا في أصل البحث، وجعلته بين معقوفين، وما جعله الشيخ بالخط الأسود العريض في الكتاب؛ جعلته باللون الأحمر.
* * *
قال في مقدمة كتابه (ص7): (... وفيما يتعلق بعلم الحديث؛ استفدت كثيرًا من فضيلة الشيخ إبراهيم اللاحم -وفقه الله-، والذي قام بمراجعة وجوه ترجيح أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث من هذا الكتاب).
وبعد أن عقد باب المعلل، وذكر بعض أجناس العلل الخفية، ونبّه على فضل المتقدمين في نقد الأحاديث وبيان عللها= قال (ص308-348):
وجوه ترجيح أحكام المتقدمين:
لا بد هنا من بيان بعض أسباب قوة الحدس عند المتقدمين، لأن معرفة ذلك مما يوجب التشبث بأحكام المتقدمين، وأن تقع تصحيحاتهم في القلوب موقعها، بخلاف من يعظم في نفسه حكم المتأخر، وإذا ذُكر له حكم المتقدم أخّره، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فالأسباب كثيرة، ولكن أمهاتها ترجع إلى ما يلي:
الأول: التقدم:
فهذه اللفظة بمجردها تعني الكثير، فالمتأخرون خلف المتقدمين، والسلف أعلم وأحكم.
والمتقدمون أتقى لله ممن خَلَفهم، والتقوى سبب العلم، وما زال العلم في نقص.
قال الشاطبي -رحمه الله- (ت: 790هـ): «فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن» [الموافقات (1/97)].(1/1)
والحافظ السخاوي -رحمه الله- (ت: 902هـ) لما ذكر طبقات العلماء الذين تكلموا في الرجال بدأ بالصحابة حتى انتهى إلى طبقة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم قال: «وآخرون من كل عصر ممن عدَّل وجرَّح، ووهَّن وصحَّح.
والأقدمون أقرب إلى الاستقامة، وأبعد من الملامة ممن تأخر، وما خفي أكثر» [الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، بواسطة (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) عناية د. عبدالفتاح أبو غدة ص129].
ثانيًا: علو الإسناد:
خصوصية أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الإسناد معلومة، فكما أن هذه خصوصية لنا بين سائر الملل، فكذلك خصوصية علو الإسناد للمتقدمين بالنسبة لمن تأخر عنهم.
فنزول الإسناد يوعِّر الطريق على المتأخرين، وعلو الإسناد يقرِّب الطريق ويوضحه، وييسر الوقوف على مواطن الخلل منه.
قال ابن الملقن -رحمه الله- (ت: 804هـ): «كلما طال السند كثر البحث عن أحوال الرجال» [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/543)].
فالصحابي يُشافه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يُشافهه فإنه يأخذ عن صحابي آخر شافه النبي-صلى الله عليه وسلم- وعاين الواقعة وشهدها، ولذلك مرسل الصحابي حجة، لندرة أخذ الصحابة عن التابعين الضعفاء أو عدمه.
لذلك قال أبو عبدالله محمد بن عمر بن رُشيد الفهري -رحمه الله- (ت: 721هـ): «فإن اعترضت أيها الإمام بإمكان احتمال الإرسال عن تابعي إذ يحتمل أن يكون الصحابي رواه عن تابعي عن صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن أرسله، قلنا: نادر بعيد، فلا عبرة به.
وغاية ما قدر عليه الحفاظ المعتنون أن يُبرزوا من ذلك أمثلة نَزْرة تجري مجرى المُلَح في المذاكرات والنوادر في النوادي» [السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن ص120، 121،(1/2)
مجموع ما ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- من تلك الروايات في كتابه (نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين) ثمان وثلاثون، وقال في النكت (2/570): «وقد تتبعت روايات الصحابة -رضي الله عنهم- عن التابعين، وليس فيها من رواية صحابي عن تابعي ضعيف في الأحكام شيء يثبت، فهذا يدل على ندور أخذهم عمن يضعف من التابعين»].
والتابعي يُشافه الصحابة، وكبار التابعين رواياتهم أنقى، وإذا أرسل التابعي تُوُقِّف في مرسله حتى تظهر الواسطة، فما ظنك برواية تابع التابعي؟! فكيف إذا نزل الإسناد، فإن الحال حينئذ أصعب وأخفى.
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ): «فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد، بينه وبين الله واحد معصوم عن معصوم سيد البشر عن جبريل عن الله -عز وجل-، فطلبه مثل أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبي هريرة الحافظ، وابن عباس، وسادة الناس الذين طالت أعمارهم، وعلا سندهم، وانتصبوا للرواية الرفيعة، فحمل عنهم مثل مسروق، وابن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، وعروة، وأشباههم من أصحاب الحديث، وأرباب الرواية والدراية، والصدق والعبادة، والإتقان والزهادة، الذين من طلبتهم مثل الزهري، وقتادة، والأعمش، وابن جحادة، وأيوب، وابن عون.
وأولئك السادة الذين أخذ عنهم الأوزاعي، والثوري، ومعمر، والحمادان، وزائدة، ومالك، والليث، وخلق سواهم من أشياخ ابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي، ويحيى بن آدم، والشافعي، والقعنبي، وعدة من أعلام الحديث الذين خلفهم، مثل أحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن المديني، ويحيى بن معين، وأبي خثيمة، وابن نمير، وأبي كريب، وبندار، وما يليهم من مشيخة البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ومحمد بن نصر، وصالح جزرة، وابن خزيمة، وخلائق ممن كان في الزمن الواحد منهم ألوف من الحفاظ ونقلة العلم الشريف» [زغل العلم ص31، 32].(1/3)
ولأجل هذا اعترف المتأخرون بأنهم مقلدة للمتقدمين في علل الأحاديث بسبب التأخر والنزول، فقال أبو الفرج علي بن عبدالرحمن ابن الجوزي -رحمه الله- (ت: 597هـ): «وقد كان قدماء العلماء يعرفون صحيح المنقول من سقيمه، ومعلوله من سليمه، ثم يستخرجون حكمه ويستنبطون علمه، ثم طالت طرق البحث من بعدهم فقلدوهم فيما نقلوا» [مقدمة الموضوعات (1/31)].
ثالثًا: ضبط الاصطلاح:
المتأخرون عيال على المتقدمين في اصطلاحاتهم في علم الحديث خاصة، فغاية ما يفعله المتأخر هو البحث والكشف عما قاله المتقدم في رواة الحديث، ثم إعمال كليات وقواعد أولئك الأئمة المتقدمين في الحكم على المنقولات.
فأين منزلة من يلتمس معاني كلام غيره مع محاولة معرفة المحامل التي خرج عليها الكلام، من صاحب الكلام أصالة؟!
وانظر إلى ما عاناه المتأخرون من طلب حدود دقيقة لاصطلاحات المتقدمين، لتقف على حقيقة الفرق بين المتكلم أصالة، وبين المتلمس لمعاني غيره.
فالحسن استعمله المتقدمون في معاني مختلفة، كالغريب والصحيح وما هو دونه، ويحدد ذلك سياق الكلام. واضطربت عبارات المتأخرين في حدِّه، حتى قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ): «لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك» [الموقظة ص28].
ومن اللطائف أن الترمذي هو أول من حدَّ الحسن وعرَّفه، ومع ذلك فإن تعريفه للحسن لم يرتضه العلماء، وليس عليه عمل من بعده.
والحال كذلك بالنسبة لحدود العلل التي تُضعف بها الأحاديث، والاختلاف الواقع في المتون.
قال الحافظ العلائي -رحمه الله- (ت: 763هـ): «ولم أجد إلى الآن أحدًا من الأئمة الماضين شفى النفس في هذا الموضع بكلام جامع يُرجع إليه، بل إنما يوجد عنهم كلمات متفرقة، وللبحث فيها مجال طويل» [نظم الفرائد ص112، وانظر المقترب في بيان المضطرب ص67].(1/4)
وليس معنى هذا أن المتقدمين لا يأتمون بشيء، وليس لهم قاعدة صلبة ينطلقون منها، كلا، فأحكامهم على الأحاديث قاضية بتوافقهم في قواعد التمييز بين المرويات.
وقد قال رجل لأبي زرعة الرازي: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة يعني محمد بن مسلم بن وارة وتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلام كل منا على ذلك الحديث، فإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، قال: ففعل الرجل، فاتفقت كلمتهم عليه، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام [رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص113 أخبرني أبو علي الحسين بن محمد بن عبدويه الوراق بالري قال ثنا محمد بن صالح الكيليني قال سمعت أبا زرعة وقال له رجل: فذكره].
فالشأن إذاً في قدرة المتأخر في الإفصاح عن تلك القواعد، وقل مثل ذلك في فهم ألفاظ أئمة الجرح والتعديل في الرواة، فألفاظ الجرح والتعديل تختلف أحيانًا من إمام لإمام، وأحيانًا يُغرب المتقدم في بعض العبارات التي يستعملها [انظر: (شرح ألفاظ التجريح النادرة أو قليلة الاستعمال للدكتور سعدي الهاشمي]، وأحيانًا تختلف عبارات الإمام الواحد في الراوي الواحد.
وأحيانًا يكون كلام إمام الجرح والتعديل في الراوي احتياطًا، فيأتي من لم يتلمح ذلك فينزل بالراوي عن درجته ويقع منه الزلل.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «وهم -يعني أئمة الجرح والتعديل- مع ذلك مختلفون في الاستدلال على أحوال الرواة، فمنهم المبالغ في التثبيت، ومنهم المتسامح، ومن لم يعرف مذهب الإمام منهم ومنزلته من التثبت لم يعرف ما تعطيه كلمته، وحينئذ: فإما أن يتوقف، وإما أن يحملها على أدنى الدرجات، ولعل ذلك ظلم لها، وإما أن يحملها على ما هو المشهور في كتب المصطلح، ولعل ذلك رفع لها عن درجتها» [الاستبصار في نقد الأخبار ص7].(1/5)
وأحيانًا يكون حكم الإمام في الراوي مقارنةً بأقرانه، أو جوابًا لسؤال، أو يتكلم في الراوي بما لا يتكلم في غيره لخصوصية في ذلك الراوي، قال أبو الوليد الباجي -رحمه الله- (ت: 474هـ): «إن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض، وقد يُحكم بالجرحة على الرجل بمعنى لو وُجد في غيره لم يُجرح به لما شُهر من فضله وعلمه، وأن حاله يحتمل مثل ذلك» [التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح (1/287)].
وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: «نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عُرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه ومقاصه بعباراته الكثيرة» [الموقظة ص82].
وكذلك حار الذهبي -رحمه الله- في فهم بعض اصطلاحات أئمة الجرح والتعديل في بعض الرواة، فقد نقل الذهبي -رحمه الله- عن أبي خيثمة أنه قال في أبي مصعب أحمد بن أبي بكر القاسم الزهري: «لا تكتب عن أبي مصعب، واكتب عمن شئت»، وعلق الذهبي بقوله: «ما أدري ما معنى قول أبي خيثمة» [ميزان الاعتدال (1/84)، لكنه علّل ذلك في سير أعلام النبلاء (11/437) بقوله: «أظنه نهاه عنه لدخوله في القضاء والمظالم»].
ووقع بسبب التباين في تعيين المراد بكلام المتقدم اختلاف كبير في الحكم على الرواة والأسانيد والأحاديث.
فالبخاري في ترجمة أوس بن عبدالله الربعي أبي الجوزاء البصري قال: قال لنا مسدد عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة، ليس من القرآن آية إلا سألتهم عنها.
قال البخاري: «في إسناده نظر» [التاريخ الكبير (2/16، 17-رقم 1540)].(1/6)
فقد تباين العلماء في مراد البخاري بقوله: «في إسناده نظر»، فقد قال ابن عدي: «ويقول البخاري في إسناده نظر، أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا لأنه ضعيف عنده» [الكامل في الضعفاء (1/402)]، ولأجل هذا ذهب البعض إلى تضعيف رواية أبي الجوزاء عن عائشة بالانقطاع.
بينما الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (ت: 852هـ) قال: «وقول البخاري (في إسناده نظر، ويختلفون فيه) إنما قاله عقب حديث رواه له في التاريخ من رواية عمرو بن مالك النكري، والنكري ضعيف عنده»، ومن أجل هذا صحح بعض أهل العلم رواية أبي الجوزاء عن عائشة -رضي الله عنها- [انظر غرر الفوائد المجموعة لرشيد الدين العطار ص338].
وكذلك الحال بالنسبة إلى حكيم بن معاوية النميري، فقد اختلف المتأخرون في صحبته، وسبب اختلافهم يدور على تفسير مراد البخاري «فيه نظر»، هل ترجع إلى الإسناد أو إلى صحبته.(1/7)
قال سبط ابن العجمي -رحمه الله- (ت: 841هـ): «اعترض مغلطاي على المزي في قوله: مختلف في صحبته، وقال: وسبقه في ذلك صاحب الكمال، وفيه نظر: لأن البخاري صرح بسماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-»، ثم ذكر عدة من ذكره في الصحابة، وقال: «... وأبو نعيم، وابن عبدالبر، وقال: من جمع في الصحابة ذكره فيهم، وذكر هو وأبو منصور البارودي أن البخاري قال: في صحبته نظر، وكأن هذا هو المُوْقع لعبد الغني الذي تبعه المزي، ثم إن قول ابن عبدالبر والبارودي: إن البخاري قال: في صحبته نظر، فيه نظر، لأن الذي قاله البخاري من خط ابن الأبار وأبي ذر: حكيم بن معاوية النميري، سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-، في إسنادهما نظر. وأما النسخة التي بخط ابن الباذش، فليس هذا فيها، إنما ذكر السماع من غير تعرض لشيء آخر، فحاصله: أن البخاري لم ينص على أن في صحبته نظر، إنما حكم على الإسناد بالنظر، وصدق، لأنه يدور على إسماعيل بن عياش، وهو عنده ضعيف، لا أنه حكم على الصحبة، لاحتمال ثبوتها عنده بالاستفاضة» [نهاية السول في رواة الستة الأصول (3/484)].
رابعًا: الاطلاع على أصول الرواة:
أصول الراوي من أعظم الكواشف عن درجة ضبط الراوي فيما يُحدِّث من حفظه، وهي المرجع في التحقق من خطأ الراوي أو صدقه.
فإذا شك محدث في خطأ الراوي نظر في أصول مروياته، قال سليمان بن حرب: «كان يحيى بن معين يقول: في الحديث هذا خطأ، فأقول: (كيف صوابه؟) فلا يدري، فأنظر في الأصل فأجده كما قال!» [شرح علل الترمذي (1/219)].
وسأل البرذعي أبا زرعة الرازي عن سويد بن سعيد وقال في سؤاله: ايش حاله؟ قال: «أما كتبه فصحاح، وكنت أتتبع أصوله، وأكتب منها، فأما إذا حدث من حفظه فلا» [أجوبة أبي زرعة الرازي على أسئلة البرذعي (2/409)].(1/8)
وكان الراوي يأتي إلى الواحد من أئمة الجرح والتعديل، ويُطلعه على أصوله لينتقي ما صح من مروياته، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل -يعني ابن أبي أويس- أخرج له -يعني البخاري- أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأن يُعلِّم له على ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه» [هدي الساري ص391].
وكان الراوي إذا انتقد عليه أئمة الجرح والتعديل شيئًا من حديثه أخرج أصول مروياته ليدفع ما أُنكر عليه. قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي نا حجاج بن محمد الترمذي عن ابن جريج قال أخبرني أبو جعفر محمد بن علي «أن إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مات حمل إلى قبره على منسج الفرس».
قال عبد الله: قال أبي: كان يحيى وعبد الرحمن أنكراه عليه، فأخرج إلينا كتابه الأصل قرطاس، فقال: ها أخبرني محمد بن علي [رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/38-رقم 1114) أنا علي بن محمد بن عبد الله المعدّل نا محمد بن أحمد بن الحسن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل به].
وأصول الرواة فُقدت، وضاع على المتأخرين باب كبير من أبواب التحقق من مرويات الراوي، ولذا تجد كثيرًا من الأحاديث أعلها المتقدمون وبرهانهم في ذلك أصل الراوي، وهو أعظم البراهين قوةً.
وهذا البخاري لما علل أحد الأحاديث معتمدًا على أصل الراوي قال: «فهذا أصح لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم، لأن الرجل يحدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب» [جزء رفع اليدين ص115 - بتخريج العلامة بديع الدين الراشدي -رحمه الله-].(1/9)
وبعد ضياع الأصول فلا تكاد تقف على حديث أعله المتأخرون واستندوا فيه إلى أصول الرواة. ولذا أقر المتأخرون بصعوبة نقد الحديث عليهم مقارنة بالمتقدمين، قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ): «وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد، وفُقدت العبارات المتيقنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَلُ على الحاكم في تصرفه في (المستدرك)» [الموقظة ص46].
وقال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «واعلم أن المتقدمين كانوا يعتمدون على الحفظ، فكان النقاد يعتمدون في النقد عدالة الراوي، واستقامة حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان حديث مستقيمًا وثقوه، ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع، فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوي طالبوه بالأصل، ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقيد السماع، فشدد النقاد، فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوق به، المقيد سماعه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصل لم يعتمدوا عليه، وربما صرح بعضهم بتضعيفه» [التنكيل (1/200-201)].
خامسًا: اتساع أسباب الحكم على الراوي عند المتقدمين، وضيقها عند المتأخرين:
المتأخرون عيال على المتقدمين في الحكم على الراوي، فغاية ما يفعله [المتأخر] هو الاعتزاء إلى ما قاله المتقدمون في الراوي، فعنهم يأخذ وبحكمهم يحكم.
قال أبو بكر الحازمي -رحمه الله- (ت: 584هـ) في شأن عبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان -رحمهما الله-: «وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل، ومن عندهما يُتلقى معظم شأن الحديث» [شروط الأئمة الخمسة ص72].(1/10)
وإن كان بعض المتأخرين رام استقراء مرويات الراوي، فيخلص إلى ما يوافق أحكام أئمة الجرح والتعديل أو يخالف بعضهم كما فعل الإمام الجهبذ أبو أحمد ابن عدي -رحمه الله-، بيد أن هذا الاستقراء دون استقراء المتقدمين، فهو استقراء ناقص، يستند فقط إلى مرويات الراوي في ضوء الثابت من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومثل هذا الاستقراء قاصر، لأنه لا يُقابل بأصول مرويات الراوي، لاستحالة ذلك بسبب الضياع الذين أصابها.
ومن اللطائف أن أبا الحسن ابن القطان -رحمه الله- (ت: 628هـ) وهو متأخر جدًا يعيب مثل ذلك على من تقدمه كثيرًا، فهذا موسى بن هلال البصري -رحمه الله- قال فيه ابن عدي -رحمه الله-: «أرجو أنه لا بأس به» [الكامل في الضعفاء (6/2350)].
فتعقبه ابن القطان بقوله: «وهذا من أبي أحمد قول صدر عن تصفح روايات هذا الرجل، لا عن مباشرة لأحواله، فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته» [الوهم والإيهام (4/324). ويبقى ابن عدي إمامًا جهبذًا -رحمه الله-، قال فيه العلائي: «ابن عدي الحكم فيما اختُلف فيه من ذلك -يعني الحكم على الراوي-» نظم الفرائد ص260].
ثم هذا الاستقراء يقف صاحبه دون الجزم بصحة أفراد الراوي التي هي غاية ما يبغيه الناظر في مرويات الراوي، وهذه هي التي تُظهر النحرير من المحدثين ممن هو دونهم أو ممن هو عيال عليهم.
وبعض المتأخرين وكثير من المعاصرين يحار في الحكم على الأفراد، والمتقدمون لقوة حدسهم يزنون الراوي بأفراده.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- (ت: 795هـ): «وأما أكثر الحفاظ المتقنين، فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه (إنه لا يتابع عليه)، ويجعلون ذلك علة فيه» [شرح علل الترمذي (1/352)].
والمتقدمون أيضًا يُذاكرون الراوي في حديثه، ويشافهونه فيتبين لهم حاله، وهذا ما يُعرف بالمذاكرة.(1/11)
وربما امتحنوا الراوي في أحاديثه مرة أخرى أو مرات، امتحانًا لجودة حفظ الراوي، ومذاكرة لتلك الأحاديث نفسها.
وكانوا أيضًا يعرضون حديث الراوي على أحاديث الثقات، لينظروا هل أحاديثه موافقة لأحاديثهم أو مخالفة لهم، ويحصل لهم بسبب ذلك العلم بمقدار ما أصاب فيه أو أخطأ من الأحاديث، ويُحصون ذلك إحصاءً، فترى أحدهم يذكر مذاكرته للراوي، وعدد الأحاديث التي ذاكره فيها، وعدد ما أخطأ فيه وأصاب.
فهذا المعيار والميزان لا يعرفه إلا أولئك، فلا أحد من المتأخرين يمكنه أن يزن راويًا بذلك الميزان، وذلك لأن المتقدم أدرك الراوة، والمتأخر إنما يأخذ بما آل إليه الميزان، فالخبر ليس كالمعاينة، فحساسية من قام بالوزن ليست كمن أُخبر بالوزن، فتأمل ذلك.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (ت: 852هـ): «أولئك إنما أثنوا بما شاهدوا ووصفوا ما علموا بخلاف من بعدهم، فإن ثناءهم ووصفهم مبني على الاعتماد على ما نُقل إليهم، وبين المقامين فرق ظاهر، وليس العيان كالخبر» [هدي الساري ص485].
وبسبب هذا المعيار الدقيق فإن المتقدم يعرف ما أخطأ فيه الثقة، ولولا ما حصل من مذاكرة المتقدم، وما يترتب عليها من كشف ما أخطأ فيه الثقة، لجاء المتأخر وحكم بقبول كل مروياته لأنه ثقة.
قال الإما مسلم -رحمه الله- (ت: 261هـ): «وقد يكون من ثقات المحدثين من يضعف روايته عن بعض رجاله الذين حمل عنهم» [التمييز ص217. انظر لزامًا (الثقات الذين ضُعفوا في بعض شيوخهم) للدكتور صالح بن حامد الرفاعي].
وكذلك الضعيف عرف المتقدمون ما حفظه ووافق فيه الثقات، ولولا ذلك لجاء المتأخر، وحكم بضعف كل مروياته لأنه ضعيف.
ولذلك روى البخاري في صحيحه لبعض من تُكلم فيه ممن تميز صحيح حديثه من سقيمه، ومن لم تتميز أحاديثه تركه.(1/12)
قال البخاري -رحمه الله- (ت: 256هـ): «ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه شيئًا، لأنه لا يُدرى صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا» [جامع الترمذي (2/199)].
وبهذا تعرف جناية البعض على أحاديث الصحيحين أو أحدهما، في رد الحديث المروي من طريق المتكلم فيه.
ومما ينبغي أن يعلم أن رواية البخاري ومسلم للراوي تعديل له، وهو تعديل فوق تعديل الراوي بمجرد توثيق الأئمة له، فهو توثيق وزيادة، والزيادة هي إجماع الأمة على قبول ذلك العمل، فتنبه.
قال الحافظ ابن دقيق العيد -رحمه الله- (ت: 702هـ): «ولمعرفة كون الراوي ثقة طرق منها: إيراد أصحاب التواريخ ألفاظ المزكين في الكتب التي صنفت على أسماء الرجال، ككتاب التاريخ، وابن أبي حاتم، وغيرهما.
ومنها تخريج الشيخين أو أحدهما في الصحيح (للراوي)، محتجين به. وهذه درجة عالية، لما فيها من الزيادة على الأول، وهو إطباق جمهور الأمة أو كلهم على تسمية الكتابين بالصحيحين، والرجوع إلى حكم الشيخين بالصحة.
وهذا معنى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الأمة أو أكثرهم على تعديل من ذكر فيها» [الاقتراح في بيان الاصطلاح ص282-283].
ومن المعلوم المقرر أن بلدي الراوي أعلم به من غيره، فالحجازي أعلم برجال المدينة، والعراقي أعلم برجال البصرة والكوفة، والمصري أعلم بأهل مصر، والشامي أعلم برجال الشام، وهكذا.
فهذا الحافظ عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي الملقب بدحيم (ت: 245هـ) له اختصاص بالرواة الشاميين ما ليس لغيره من أئمة الجرح والتعديل الحجازيين أو العراقيين، قال عنه الحافظ أبو يعلى الخليلي -رحمه الله- (ت: 446هـ): «ويُعتمد عليه في تعديل شيوخ الشام وجرحهم» [الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/450)].
وكان الواحد من أئمة الجرح والتعديل يحيل على من هو أعلم منه من أقرانه إذا سئل عن بعض الرواة.(1/13)
فإذا كان بلدي الراوي مقدمًا على غيره من أهل طبقته، فكذلك من عاصر الرواة، أولى وأحرى بالتقديم ممن جاء بعدهم؟!
قال ابن محرز: وسمعت يحيى وسئل عن (داود بن عمرو الضبي) فقال: لا أعرفه، من أين هذا؟ قلت: ينزل المدينة. قال: مدينتنا هذه أو مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: مدينة أبي جعفر. قال: عمن يُحدث؟ قلت: عن منصور بن الأسود، وصالح بن عُمر، ونافع بن عمر، فقال: هذا شيخ كبير، من أين هو؟ قلت: من آل المسيب. فقال: قد كان لهؤلاء نَفْسين متقشفين، أحدهما يتصدق والآخر يبيع القَصَب، لا أعرفه، أما لهذا أحد يعرفه؟ قلت: بلى، بلغني عن سَعْدويه أنه سئل عنه فقال: ذاك المشؤوم ما حَدّث بعد، وعرفه فقال: (سَعْدويه) أعرف بمن كان يطلب الحديث معه منا. ثم بلغني عن يحيى بن معين بعد، أو سمعته وسئل عنه فقال: لا بأس به، وبلغني أن أن يحيى سأل سعدوية عنه فحمده [معرفة الرجال ليحيى بن معين رواية ابن محرز (1/74-رقم 193)].
وبهذا تعرف الخلل الذي دخل على المتأخرين ممن التفت عن أحكام أئمة الجرح والتعديل في معاصريهم من الرواة، وعوّل على كلام من لم يدركهم من أمثال أبي محمد ابن حزم، أو أبي عمر ابن عبدالبر.
فهذا أبو محمد عبدالحق الإشبيلي -رحمه الله- (ت: 582هـ) لما ساق حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف».
قال بعده: «عمارة بن غزية وثقه أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وقال فيه أبو حاتم ويحيى بن معين: صدوق صالح، وقد ضعفه بعض المتأخرين» [الأحكام الوسطى (2/187)].
وهذا عمل غير سديد، لذلك تتبعه أبو الحسن ابن القطان الفاسي -رحمه الله- (ت: 628هـ) بقوله: «وهو تعسف على عمارة بن غزية، فإنه ثقة عندهم، مخرج حديثه في الصحيح، وممن وثقه أيضا الكوفي، وقال النسائي: ليس به بأس .(1/14)
ولا أعلم أحدًا ضعفه إلا ابن حزم، قال فيه في كتاب الإيصال: ضعيف. ذكره في الزكاة في غير هذا الحديث .
وأراه مَعْنيَّ أبي محمد ببعض المتأخرين، وإن هذا لعجب أن يترك فيه أقوال معاصريه أو من هو أقرب إلى عصره، ويحكي فيه عمن لم يشاهده، ولا قارب ذلك ما لا تقوم له عليه حجة» [الوهم والإيهام (5/569)].
وبهذا يظهر لك الخلل الذي لحق بعض المحققين في زماننا من التعويل على كتب المتأخرين والاستغناء بمجرد ذلك عن كتب المتقدمين في الحكم على الرواة، فضلاً عن عدم تلمح بعض أولئك لبعض التصرفات التي وقعت من المتأخرين في نقل عبارات المتقدمين.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «أصحاب الكتب كثيرًا ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره، وربما يُخل ذلك بالمعنى فينبغي أن يراجع عدة كتب، فإذا وجد اختلافًا بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها» [التنكيل (1/67)].
وإذا كنت ممن مارس قراءة كتب المتأخرين في الرجال، فإنك تجد بعضهم يستدرك على بعض في منقولاته عن المتقدمين، ويبين وجه التصرف في عبارات القوم.
فعلاء الدين مغلطاي -رحمه الله- (ت: 762هـ) في ترجمته لإبراهيم بن أبي عبلة العقيلي قال: «ذكر المزي أن النسائي قال فيه: ثقة، والذي رأيت في كتاب (التمييز): ليس به بأس. وفي نسخة أخرى: لا بأس به.
وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه: رأى ابن عمر. وكذا قاله البستي. قال الرازي: وروى عن واثلة بن الأسقع، وهو صدوق ثقة.
والذي نقله عنه المزي: صدوق، غير جيد لثبوته كما ذكرته في عامة النسخ، وكأن الشيخ تبع ابن عساكر، فإنه كذلك ذكره عن أبي حاتم» [إكمال تهذيب الكمال (1/249)].
ولست بصدد المحاكمة بين المزي ومغلطاي، ولكن المقصود هو التنبيه إلى ما حصل من الاختلاف عند المتأخرين في حكاية عبارات المتقدمين في الجرح والتعديل.(1/15)
وأعجب من هذا من يكون معوله مختصرات المتأخرين فقط، فتراه إذا أراد الكشف عن حال الراوي عمد إلى كاشف الذهبي أو تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، فالتزم ما فيهما أو أحدهما دون النظر في كتب التراجم للمتقدمين.
وهذا قد يكون سائغًا في الراوي المتفق على حاله قولاً واحدًا إما توثيقًا أو تضعيفًا، أما الراوي المختلف فيه، فتلك المختصرات تعجز عن الإفصاح عن حقيقة حال الراوي، وما فيها من عبارات إنما هي تذكرة وإشارات ورموز لمن يعرف حال الراوي تفصيلاً، فبالإشارة يتجدد الذهن في معرفة حال الراوي تفصيلاً، فضلاً عن أن تطبيقات الحافظين في أحكامهم العملية تختلف من حديث لآخر، لأن لكل حديث قرائن تختص به.
وأعجب من هذا أن ينتقد متأخر على متأخر نقله عن متقدم في الحكم على الراوي، ثم يأتي متأخر ثالث فيرد ما حصل من الإنكار.
فهذا عبدالحق الإشبيلي (ت: 582هـ) قال في عبدالملك بن سعيد: «ذكره أبو محمد بن أبي حاتم، ولم يذكر أحدًا روى عنه إلا ربيعة بن أبي عبدالرحمن» [الأحكام الوسطى (1/104)].
فتعقبه أبو الحسن ابن القطان الفاسي (ت: 628هـ) فقال: «فهو إذن قد اعتقد في عبدالملك بن سعيد هذا أنه مجهول الحال، وأول ما اعتراه فيه سوء النقل، وذلك بقلة التثبت، فإنه لو نظر، رأى في كتاب ابن أبي حاتم خلاف ما ذكر .
وذلك أن ابن أبي حاتم قد ذكر عن أبيه أنه روى عنه بكير بن عبدالله بن الأشج، فزاد هو من عنده أن ربيعة بن أبي عبدالرحمن روى عنه، فوقع بصر أبي محمد على قول ابن أبي حاتم: روى عنه ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فقال ما ذكر: من أنه لم يرو عنه غير ربيعة بن أبي عبد الرحمن» [الوهم والإيهام (5/310)].(1/16)
ثم جاء بعد من يُنكر على ابن القطان، فقال أبو زرعة أحمد ابن الحافظ عبدالرحيم العراقي (ت: 826هـ): «واعترض عليه والدي، بأن هذا النقل عن عبدالحق ليس بصحيح، وإنما نقل عبدالحق عن ابن أبي حاتم أنه لم يذكر أحدًا روى عنه إلا بكير بن الأشج وربيعة» [البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح ومُسَّ بضرب من التجريح ص146].
ومن التصرف الواقع من المتأخرين في كلام المتقدمين في الرواة، أن بعضهم أحيانًا يحكي قولاً واحدًا للمتقدم في الراوي، مع أن المتقدم له أكثر من قول في الراوي، وأقواله غير متفقة في الراوي.
فهذا سبط ابن العجمي (ت: 841هـ) ذكر أن العقيلي، وابن عدي، وابن الجوزي جميعًا تواردوا على أن ابن معين ضعف إبراهيم بن سليمان البغدادي، فتعقبهم جميعًا بقوله: «وثقه ابن معين فيما رواه عنه أربعة حفاظ» [نهاية السول في رواة الستة الأصول (1/282)].
وقد وقع الخطأ أحيانًا فيما يُنسب للمتقدمين من الكلام في الرواة، فهذا الحسن بن موسى الأشيب روى أبو حاتم الرازي عن علي بن المديني أنه ثقة [الجرح والتعديل (3/38)]، وروى عبدالله بن علي بن المديني عن أبيه قال: كان ببغداد، وكأنه ضعفه [تاريخ بغداد (7/428)].
فعلق الذهبي (ت: 728هـ) بقوله: «الأول أثبت» [ميزان الاعتدال (1/524)]، ثم علق سبط ابن العجمي بقوله: «ولا شك أنه أثبت، وأين أبو حاتم وابن علي بن المديني» [نهاية السول في رواة الستة الأصول (3/294)].
وكتاب الضعفاء للحافظ ابن عدي من أمثل المصنفات في الضعفاء، ومع هذا فقد عيب عليه انفراده في بعض الأمور، وحكايته لبعض المرويات.(1/17)
فعلى سبيل المثال انفرد بذكر أشعث بن عبدالملك الحمراني في الضعفاء، وتعقبه الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ) فقال: «إنما أوردته لذكر ابن عدي له في كامله، ثم إنه ما ذكر في حقه شيئًا يدل على تليينه بوجه، وما ذكره أحد في كتب الضعفاء أبدًا. نعم ما أخرجا له في الصحيحين، فكان ماذا؟» [ميزان الاعتدال (1/267)].
أما غيره من الكتب فالخلل فيها أكثر، فهذا ابن حبان تعنته وجرحه للرواة شديد جدًا، حتى وصفه الذهبي بقوله: «الخساف المتهور» [ميزان الاعتدال (4/8)]، أما ما هو مشهور عند البعض من وصفه (بالمتساهل) فهذا إن أريد به أنه متساهل في إطلاق عبارات الجرح والتعديل من غير تبين فهذا حق، وإن أريد بتساهله معنى خاص كتوثيق المجاهيل فلا بأس، أما أن يراد به التساهل في التصحيح والتعديل مطلقًا أو غالبًا فلا.
وانظر إلى كثرة الرواة الذين ذكرهم في الضعفاء وهم مذكورون في الثقات [انظر كتاب (الرواة الذين ترجم لهم ابن حبان في المجروحين وأعادهم في الثقات) للأخ د. مبارك الهاجري]، وإن كان هو قد اعتذر عن ذلك بقوله في أحد أولئك: «له مدخل في الثقات ومدخل في الضعفاء سنذكره إن شاء الله في كتاب الفصل بين النقلة» [الثقات (6/27)].
وأما ضعفاء ابن الجوزي، فقد وصفه الذهبي بقوله: «من عيوب كتابه يسرد الجرح، ويسكت عن التوثيق» [ميزان الاعتدال (1/16)].
والذي لا مرية فيه أن طالب علم الحديث لا يستغني عن أي كتاب في تراجم الرجال، ومن مارس هذا الفن علم حقيقة ذلك.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «والعالم محتاج إلى جميع كتب الرجال، لأنه يجد في كل منها ما لا يجده في غيره، وإن لم يكن عنده إلا بعضها، فكثيرًا ما يقع في الخطأ» [علم الرجال وأهميته ص49].
وليس معنى هذا أن من تكلم في الرواة إنما هم معاصروهم فقط، وأن المتأخرين مجرد نقلة؟
كلا، فقد تكلم بعض الأئمة فيمن لم يدركه، وربما أحيانًا خالف حكمهم حكم من تقدمهم.(1/18)
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «فإن ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدمين غالبًا من كلام من لم يدركهم، بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدارقطني المولود سنة 306 يتكلم في التابعين فيوثق ويضعف، قد يتوهم من لا خبرة له أن كلام المحدث فيمن لم يدركه إنما يعتمد النقل عمن أدركه، فالمتأخر ناقل فقط أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل، وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل فإن المتأخر يذكره، فإن لم يذكره مرة ذكره أخرى، أو ذكره غيره، والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم (ثقة) أو (ضعيف) أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقل يوافق ذاك الحكم أم لا، وكثيرًا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم» [الاستبصار في نقد الأخبار ص54].
وكذلك من الطرق في الحكم على الراوي عند المتقدمين هي الشهرة، فيكتفي الإمام بما هو مشتهر عند أترابه وأقرانه من أئمة الجرح والتعديل من حال الراوي تعديلاً أو تجريحًا عن مذاكرته، وطلب أسباب الحكم عليه.
وهذا يدل على توافق أئمة الجرح والتعديل في قواعدهم في الحكم على الرواة، إلا أن يظهر لأحدهم تعسفًا في إعمال القواعد، أو أخذًا بالاحتياط، فيُظهر أقرانهم وأترابهم على أي وجه خرج كلام إخوانهم من أئمة الجرح والتعديل.
فالشهرة من جملة الطرق المستعملة في الحكم على الرواة، قال ابن الملقن -رحمه الله- (ت: 804هـ): «فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل، أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليهم بها، كفى فيها، وهذا هو الصحيح» [المقنع في علوم الحديث (1/245)].
وتأمل القيد الذي ذكره ابن الملقن في قوله: «بين أهل النقل».
فالمرجع إلى [ما] اشتهر عند المتقدمين، وكذلك الحال بالنسبة للأحاديث، فما لم يعرفه المتقدمون فليس بحديث، وإن أخرجوه لك من بطون الأجزاء والمفاريد.(1/19)
قال إسحاق بن راهويه: «كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل» [شرح علل الترمذي (1/222)].
ولذا حذر الأئمة من الكتب التي هي مظان الغرائب، وأوصوا بلزوم المشهور، قال الحافظ ابن رجب: «ونجد كثيرًا ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، أو أفراد الدارقطني، وهي مجمع الغرائب والمناكير» [شرح علل الترمذي (1/409)].
والركون إلى مثل هذه الغرائب هي التي أوجبت لهم الشذوذ في أحكامهم وآرائهم، وجعلتهم ينتحلون الآراء المهجورة والمذاهب المطروحة، فأحيوها بعد أن هجرها الجماعة.
قال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي (ت: 280هـ): «إن الذي يريد الشذوذ عن الحق يتبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤمّ الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم، وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يُستدل بهما على اتباع الرجل وابتداعه» [الرد على الجهمية ص68].
فشأن الصحيحين عظيم، وكم من متأخر جاء فاستخرج أو استدرك على الشيخين زيادات أعرض عنها الشيخان لعلل خفية [انظر على سبيل المثال فتح الباري لابن حجر (12/143)]، فخفيت على من بعهم لقصورهم عن الشيخين في هذا الشأن، فتوسعوا في حشد الطرق الضعيفة، أو الزيادات التي لا تقبل من أمثال من تفرد بها دون الثقات والحفاظ الكبار، فصححوا كثيرًا مما لا يصح، وتوسعوا وتساهلوا لأجل ذلك في التصحيح.
ثم من هؤلاء الذين توسعوا في قبول تلك الزيادات تراه يتعنت أحيانًا في إعلال الأحاديث الصحيحة، وربما تعنت في إعلال ما خرجه أصحاب الصحيح.(1/20)
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- (ت: 795هـ) منتقدًا الخطيب وابن عبدالبر: «فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ أو من هو ضعيف لا يحتج به، أو مرسلات وصلها من لا يحتج به، مثل ما وصل بعضهم مرسل الزهري في هذا فجعله عنه، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، ووصله باطل قطعًا.
والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة في (الصحيح) بعلل لا تساوي شيئًا، إنما هي تعنت محض، ثم يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها»[فتح الباري (6/406-407)].
وقال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «ومنهم من يحكي عن بعض المتأخرين، كالسبكي، وابن حجر، وابن الهمام، والسيوطي، ونحوهم، أنهم صححوا ذلك الحديث أو الأثر، أو حسنوه، ويكون جهابذة العلم من السلف قد ضعفوا ذلك الحديث أو حكموا بوضعه، وهم أجل وأكمل من المتأخرين، وإن كان بعض المتأخرين أولي علم وفضل وتبحر، ولكننا رأيناهم يتساهلون في التصحيح والتحسين، ويراعون فيه بعض أصول الفن، ويغفلون عما يعارضها من الأصول الأخرى، وفوق ذلك أن السلف كانوا أبعد عن الهوى، ومن هنا قال ابن الصلاح: (إن باب التصحيح والتحسين قد انسد، ولم يبق فيهما إلا النقل عن السلف).
وهذا القول خطأ، ولكنه يعين على ما نريده، وهو وجوب الاحتياط فيما يصححه المتأخرون أو يحسنونه» [العبادة (ق53ب-ق54أ)].
سادسًا: ضعف العلم بالقرائن المعدول بسببها عن القواعد الكلية:
من المعلوم أن لكل حديث قرائن تحتف به، يجد المحدث معها ضرورة في الأخذ بها، وإن اضطر معها إلى إهمال ما يستعمله عادةً من القواعد.(1/21)
وهذه القرائن عند المتقدمين بمنزلة القواعد والبيّنات، وهي عند المتأخرين خفية وغامضة [قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «قرائن الأحوال في الغالب لا يمكن نقلها» شرح العمدة كتاب الصيام (1/97)]، تعكّر عليهم قواعدهم المرعية، ويبقى بعضهم تنازعه نفسه في تقديمها على المعهود من القواعد، فيلزم تلك القواعد، أو يقضي بما قضى به الأولون تحسينًا للظن بهم، أو هيبةً لهم، لكن لن يصل المتأخر بحال إلى درجة القناعة التي وصل إليها المتقدم.
والمتأخر ينظر للحديث بعين القواعد المرعية، فإذا لم يجد أو لم يقع على إفصاح لمتقدم عن المرجحات المحتفة بذلك الحديث أمضى تلك القواعد، ولو قرع سمعه حكم المتقدمين، ويغفل عن هذا الصارف الذي لا يعلمه، فيجعله بمنزلة المعدوم لعدم الإفصاح به من متقدم أو عدم الوقوف عليه، ولا يُقدِّر لرجله الخطوة، فلا تراه يُحجم عن مخالفة المتقدم.
قال علامة اليمن ومحدثها مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- (ت: 1422هـ): «وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، فمتى وجدنا حديثًا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك، نتبعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه» [مقدمة أحاديث معلة ظاهرها الصحة ص17].
وقد بين العلماء كيف يعدل الأئمة عن الكليات لتلك القرائن حتى ينتبه المتأخر، وتنتفي عنه الحيرة، ويعلم أن القوم عن علم عدلوا إلى تلك القرائن.
قال أبو عبدالله محمد بن رُشيد الفهري (ت: 721هـ): «والحكم على الكليات بحكم الجزئيات لا يطرد، فقد يكون لكل حديث حكم يخصه، فيطلع فيه على ما يُفهم اللقاء أو السماع، ويثير ظنًا خاصًا في صحة ذلك الحديث، فيصحح اعتمادًا على ذلك لا من مجرد العنعنة» [السنن الأبين ص136، 137].(1/22)
وبهذا يتبين لك كيف يعلل جماعة من المتقدمين بعض الأحاديث دون أن يذكروا لها علة، وربما سُئلوا عن العلة، فكان جوابهم أنهم لا يعرفون لها علة [هم يعرفون أنه معلول، لكن تعيين العلة يحتاج إلى أمور أخرى، كالاطلاع على أصول الرواة، ولا بد هنا من التنبيه إلى أن أولئك المتقدمين يعللون أحيانًا بعلل غير قادحة، قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله-: «ابن المديني، والبخاري، وأبو حاتم، وغيرهم، فإن لهم عللاً ليس كل منها قادحة حيث وقعت، ولكنها تقدح إذا وقعت في خبر تحقق أنه منكر، وهذا من أسرار هذا الفن» الأنوار الكاشفة ص297].
فهذا الحدس الذي عند المتقدمين لا يكاد يشاركهم فيه أحد، فإنه يعزّ أن تجد مثل هذا الإعلال عند المتأخرين.
وأما سكوت بعض المتأخرين عن إظهار علل بعض الأحاديث التي أعلوها، فإنما هو اختصارًا، أو لأن العلة أظهر من أن يُنبه عليها.
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن حديث رواه بقية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن يرى بالقز والحرير للنساء بأسًا.
فقال أبو زرعة: «هذا حديث منكر». قلت: تعرف له علة؟ قال: «لا» [العلل لابن أبي حاتم (1/488- رقم 1462)].
وكذلك تجد المتقدمين يذكرون الصواب في الحديث، ثم من أي الرواة وقع الخلل، فهذه وسيلة، والغاية قد حصلت.
قال المروذي: ذكرت له -يعني: الإمام أحمد- حديث الحسين الجعفي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر: أسلم سالمها الله, فأنكره إنكارًا شديدًا، وقال: «هذا عبد الله بن دينار عن ابن عمر. انظر الوهم مِن قِبَل مَن هو؟» [العلل ومعرفة الرجال عن الإمام أحمد بن حنبل رواية المروذي (ص148-148- رقم 264)].(1/23)
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي -رحمه الله- يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح.
فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يًحسن مئل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم.
قال: من هو الذي يُحسن مثل ما تُحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم، قال: هذا عجب، فأخذ، فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث، فما قلت: إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما، فقلت: فقد دلّك أنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بأن دينارًا مبهرجًا يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار مبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت إن هذا مبهرج؟ هل كنت حاضرًا حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت إن هذا نبهرج؟ قال: علمًا رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك [تقدمة الجرح والتعديل (ص349-350)].(1/24)
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: «فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود، جيدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلاً لغيره، وآية ذلك أنه يُعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة» [جامع العلوم والحكم (2/105-106)].
وحدس المتقدمين فارط جدًا، لتضلعهم في معرفة السنن، وأصبحت حساسيتهم في تمييز قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قول غيره شديدة، وملكتهم في ذلك عظيمة، فإذا قرع سمعهم حديث الراوي، علموا صوابه من خطئه.
والمتأخرون في الغالب إنما ينظرون في كلام الأئمة المتقدمين في الراوي، فيقبلون الحديث أو يردونه بناءً على حكم المتقدمين، فأين الفرع من الأصل؟!
فرعاية المعنى في مرويات الرواة هي الركن الأكبر في الحكم على الراوي، قال العلامة عبدالرحمن المعلمي (ت: 1386هـ): «رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي» [الأنوار الكاشفة ص9].
قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني هشام قال حدثنا الهيثم بن عمران قال سمعت الأوزاعي وسأله منيب فقال: أكل ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نقبله؟ فقال: «نقبل منه ما صدقه كتاب الله -عز وجل-، فهو منه، وما خالفه فليس منه».
قال له منيب: إن الثقات جاؤوا به. قال: «فإن كان الثقات حملوه عن غير الثقات؟» [تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/271)].(1/25)
ولأجل هذا قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- في أولئك: «وأكثرهم ليس عندهم من التبحر في العلم، وممارسة الفن ما يؤهلهم للترجيح ومعرفة العلل، وأعظم ما عند أحدهم أن يتمسك بظاهر قاعدة من قواعد الفن» [العبادة (ق55/أ)]، ثم قال: «وهذه القواعد منها ما هو ضعيف، ومنها ما ليس بكلي، ومنها المختلف فيه، والعالم المتبحر الممارس للفن هو الذي يصلح أن يحكم في ذلك بشرط براءته عن الهوى، والتجائه إلى الله -تعالى- دائمًا أن يوفقه لإصابة الحق» [العبادة (ق55/ب-ق56/أ].
وثم فرق ظاهر بين المتقدمين من أهل الصنعة، وبين من تعلم الصنعة، فالمتقدمون صنعتهم الحكم على الحديث، وبيان علل الأحاديث وسائل، وكيفما استعملوا الوسائل فالحكم واحد، فتجدهم تارة لا يفصحون عن علة الحديث، أو يتباينون في أسباب إعلال الحديث.
أما من تعلم الصنعة، فتجده يقدس الوسائل، فيحار في وجوه اختلاف المتقدمين في رد الحديث وإعلاله، وربما تعقبهم.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «إذا استنكر الأئمة المتحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر».
ثم قال: «وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث، مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر» [مقدمة تحقيق الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص8-9، وانظر الأمثلة التي ساقها].
سابعًا: الشيوخ غير الشيوخ، والمذاكرة غير المذاكرة، والرحلة غير الرحلة:
استفاد كثير من طلبة العلم معرفة علل الأحاديث من خلال إدمان القراءة في كتب العلل، وما كُتب من كتب المصطلح والتخريج لتقريب هذا العلم وتسهيل فهمه.(1/26)
وكان الناس فيما مضى يرحلون لطلب هذا العلم، ويذاكرون أئمة الشأن، ومهما اجتهد المتأخر في طلب هذه الأسباب كلها لتحصيل هذا العلم، فلن يبلغ شأو المتقدمين.
فشتان بين من يأخذ عن صاحب الصنعة، وبين من يأخذ عمن أخذ عنهم، وشتان بين من يأخذ عن صاحب الصنعة، وبين من اجتهد في تعلم الصنعة من خلال قراءة كتاب يرشد إلى الصنعة.
فإذا قارنت بين المتقدمين والمتأخرين فلا تغفل عن هذا، فالشيوخ غير الشيوخ، والمذاكرة غير المذاكرة، والرحلة غير الرحلة.
وهذا العلامة عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي أخذ علم الحديث مذ عقل، وفطمه والده بلبن الجرح والتعديل، وجرى علم العلل منه مجرى الدم، ثم مع هذا ذاكر أبا زرعة الرازي، ولم يكتف بذلك حتى رحل وأدرك المشايخ الكبار، فمن يتهيأ له مثل ما تهيأ لعبدالرحمن؟!
قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني: أخبرنا علي بن إبراهيم، قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبدالله البغدادي بمكة يقول: كان من منّة الله على عبدالرحمن أنه ولد بين قماطر العلم والروايات، وتربى بالمذاكرات بين أبيه وأبي زرعة، فكانا يزقانه كما يزق الفرخ الصغير، ويعنيان به، فاجتمع له مع جوهر نفسه كثرة عنايتهما، ثم تمت النعمة برحلته مع أبيه، فأدرك الإسناد وثقات الشيوخ بالحجاز والعراق والشام والثغور، وسمع بأنبجانة حتى عرف الصحيح من السقيم، وترعرع في ذلك، ثم كانت رحلته الثانية بنفسه بعد تمكن معرفته، يُعرف له ذلك، ويُقدّم لحسن فهمه وديانته وقديم سلفه» [سير السلف الصالحين (4/1233)].
فكان الرجل منهم مع إمامته في العلم، لا ينفرد في الحكم على الحديث دون مشاورة واستئناس برأي الأكابر من فرسان علم العلل.(1/27)
قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا الوليد بن مسلم يقول: [سمعت الأوزاعي يقول:] «كنا نسمع الحديث، فنعرضه على أصحابنا، كما يُعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا تركنا» [تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/265- رقم 377)].
وإنما قصدت إلى ذكر تلك الوجوه التي قصر بها المتأخرون عن إدراك درجة المتقدمين في الإمامة في علم الحديث، حتى يؤم القوم أعلمهم بسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
قال الإمام مسلم -رحمه الله- (ت: 261هـ): «واعلم رحمك الله أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم.
إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقل الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح.
وإنما اقتصصنا هذا الكلام، لكي نثبته ممن جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو سقطوا من أسقطوا منهم» [التمييز ص218-219].
ولذلك تجد العارف بأحوال الفريقين إذا وجد المتأخرين على غير وفاق مع المتقدمين في الحكم على الراوي أو الحديث، قدّم قول المتقدمين، وربما اكتفى بالإشارة إلى أن المتقدمين أعلم، ليوقظ النائم، وينبه الغافل، ويزجر الجاهل.(1/28)
فهذا العلامة ابن عبدالهادي -رحمه الله- (ت: 744هـ) لما ذكر حديث حمنة بنت جحش -رضي الله عنه- في استحاضتها، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: «تحيضي ستة أو سبعة أيام في علم الله»؛ ذكر حكم المتقدمين، وأن البخاري قال: هو حديث حسن، وأن أحمد بن حنبل قال: هو حديث حسن صحيح.
ثم ذكر إعلال الخطابي والبيهقي للحديث، ومبالغة ابن منده في تضعيفه، وختم ابن عبدالهادي المناقشة بين الفريقين بقوله: «ومن صحح هذا الحديث أو حسنه من الأئمة أعلم ممن تكلم فيه» [شرح علل ابن أبي حاتم ص55].
وسُئل الدارمي عن حديث، وقيل له: إن البخاري صححه، فقال: «محمد بن إسماعيل أبصر مني» [هدي الساري ص484].
وإن شئت أن تقف على حقيقة ما بين علوم المتقدمين والمتأخرين من الفرق والتفاوت، فإليك قاعدة كلية عند المتقدمين والمتأخرين، لكن شتان بين الفريقين في إعمالها.
فمن جملة ما هو معلوم أن المحدث لكثرة استقرائه وممارسته للحديث النبوي يميز بينه وبين كلام غيره بحيث لا يمكن أن يشتبه هذا بهذا عليه، وربما حكم المحدث على الحديث بمجرد النظر في متنه دون النظر في سنده، فقال ابن أبي حاتم: «يقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويُعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته» [تقدمة الجرح والتعديل ص351].
ومن أجل هذا أورد ابن القيم -رحمه الله- (ت: 751هـ) سؤالاً، وهو: «هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنظر في سنده؟»، ثم أجاب بقوله: «فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، وخلطت بدمه ولحمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه كان مخالطًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- كواحد من أصحابه» [المنار المنيف ص35].(1/29)
فإذا قارنت بين المتقدمين والمتأخرين في نقد المتون أو الحكم على الأحاديث بمخالفتها للمتون الصحيحة، فإنك تجد بعض المتأخرين قد جازف في بعض أحكامه، تدرك مِن ذلك مَن الذي تضلع من معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه حق الاختلاط؟!
فانظر مثلاً إلى ما انتقده العلماء على ابن حبان، وابن الجوزي، والجوزقاني من المجازفات في رد بعض الأحاديث لتوهم مخالفتها للسنة الصحيحة.
قال الحافظ العلائي -رحمه الله- (ت: 761هـ): «ولهذا انتقد العلماء على أبي الفرج ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) وتوسّعه في الحكم بذلك على كثير من الأحاديث التي ليست بهذه المثابة» [الفوائد الموضوعة في الأحاديث المرفوعة ص63-64].
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (ت: 852هـ): «فقد أخطأ من حكم بالوضع بمجرد مخالفة السنة مطلقًا، وأكثر من ذلك الجوزقاني في كتاب (الأباطيل) له» [النكت على كتاب ابن الصلاح (2/846)].
وقال أيضًا: «وكما زعم ابن حبان في (صحيحه) أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إني لست كأحدكم، إني أطعم وأسقى) دال على أن الأخبار التي فيها أنه كان يضع الحجر على بطنه من الجوع باطلة.
وقد رد عليه ذلك الحافظ ضياء الدين فشفى وكفى» [النكت على كتاب ابن الصلاح (2/846-849)].
* * *
بعد هذا العرض لجملة من الأمور التي تبين وتوضح حقيقة الفرق بين علوم المتقدمين وعلوم المتأخرين في علل الأخبار ونقد الرجال والروايات، فإنه لا يرتاب عاقل أن المتقدمين أقعد بالعلم من المتأخرين.
كذلك لا يرتاب عاقل في أن حدس المتقدمين في نقد الأخبار والتمييز بين المرويات فارط جدًا، وأن حكمهم على الأحاديث لقرائن احتفت بها عدلوا بسببها عن اطراد الكليات إنما هو لغلبة ظن ثبتت عندهم، وأن تعقبهم بإعمال القواعد وإهمال القرائن دائمًا غير سديد.(1/30)
وإذا كان أبو حاتم الرازي يتهيب مخالفة الإمام أحمد، والحافظ الذهبي يتهيب نقد صحيح البخاري، والدارمي يقدم البخاري على قوله ويعلل بأنه أعلم، وابن عبدالهادي يرجح بحكم المتقدمين، فنحن أحق بهيبة وترجيح المتقدمين.
وليست هذه دعوة لإهدار تصحيحات المتأخرين، كلا، بل هي دعوة لتقديم من كان أكثر صوابًا وأقوم قيلاً ممن هو دونه تنزيلاً وتفضيلاً [شرح الأصفهانية ص105]، وهي دعوة لتأمل تصحيحات المتأخرين في ضوء كلام المتقدمين.
وممارسة قراءة كتب العلل توقفك على كثير مما سبقت الإشارة إليه، وتوجب لك تقدير الكبار ومعرفة أقدارهم وقيمة أحكامهم.
انتهى.
نشر هذا البحث في ملتقى أهل الحديث:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=151872(1/31)